نويسنده : جعفر مرتضي العاملي
ناشر :نشر الهادي
محل نشر :قم
تاريخ نشر :1415ه_
نوبت ويرايش :اول
الحديث عن العظماء و العباقره، و الشخصيات المميزه، صعب مستصعب، و ذلك لعظمه ما يحملون من القيم الانسانيه و الأهداف الساميه.
و لأجل أن نستكشف بعض مزايا هذا العظيم أو ذاك، نحتاج الي و قفات من التفكر و التدبر قبل الغور في سبر تلك الشخصيه و أني لنا ذلك؟ «فصفات ضوء الشمس يذهب باطلا».
هذا اذا عرفنا ان الحديث عن الأنبياء و المرسلين و أوصيائهم هو من ذلك المنط، باعتبار ان هذه الشخصيات تمثل القمه في الأخلاق و المثل العليا في الانسانيه، و لهم من الشرف الذي منحه سبحانه و تعالي اياهم مما جعلهم متميزون عن سائر البشر في الخلق و السلوك و القيم الانسانيه.
فالنبي الأكرم محمد بن عبدالله (صلي الله عليه و آله و سلم) اذا ما تخطينا سلسله الأنبياء و المرسلين منذ أن خلق الله سبحانه و تعالي آدم (عليه السلام) و أدوع فيه ذلك النور، و أمر ملائكته و سكان سماواته أن يسجدوا لآدم تكريما لذلك النور، فسجد من سجد و كفر من كفر.
و لقد تدرجت هذه الأنوار و انتقلت من صلب شامخ الي رحم طاهر، كابرا عن كابر،مرورا بالمرسلين و الأنبياء، فنوح، و ابراهيم، و موسي (عليهم السلام)، و ما بينهم من الأنبياء و الحنفاء و الموحدين و الصالحين، حتي استقر ذلك النور في صلب الحنيفي الموحد عبدالمطلب بن هاشم، و كل حلقه من سلسله هذا النسب الشريف موحدون حنفاء لله، و هذا ما أكده العقل و الفطره السليمه، و الأحاديث النبويه الشريفه التي وردت عن المبلغ الأمين لوحي السماء (صلي الله عليه و آله) كما نقله
جل العلماء في أسانيدهم و صحاحهم،
[ صفحه 8]
و يشهد علي ذلك التاريخ السليم.
و كذا نجد هذه الصفوه المختاره من الله سبحانه ليكونوا مصداقا لخلفاء الله في الأرض، في تبليغ و تحقيق أهداف السماء علي الأرض، و هم الذين يحلمون تلك الأنوار الآلهيه الساطعه التي أودعها سبحانه و تعالي في صلب آدم (عليه السلام).
و ببركه ذلك النور، جعل نار نمرود بردا و سلاما علي خليله ابراهيم، و بذلك النور، نجي الله سبحانه رسوله نوح و سفينته من الغرق، و من ذلك النور، فلق الله سبحانه البحر لموسي بن عمران، و نجاه و أصحابه من الغرق و من طغيان فرعون و بالآيات التسع، و لأجل ذلك النور، أعطي الله سبحانه و تعالي المعاجز و الآيات لرسله و أنبيائه، و خلصهم من طواغيت زمانهم و فراعنتها.
حتي استقر ذلك النور المبارك في صلب الحنيفي الموحد عبدالمطلب بن هاشم، ثم انشطر الي قسمين أودع في صلب عبدالله، و القسم الثاني أودع في صلب عبد مناف «أبوطلب» ابني عبدالمطلب.
و هكذا شاءت حكمه الباري جلت قدرته في تقسيم هذا النور، و تنظيم هذا الأمر، و لا دخل فيه للانسان أو الصدف قطعا و لا القضاء و القدر، بل هي مشيئه ربانيه و ارداه وحده الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال و الجمال و الجلال اقتضت ذلك جلت قدرته.
ثم انبثق النور الأول في سيد الكائنات، و أشرف المخلوقات محمد بن عبدالله المصطفي (صلي الله عليه و آله) لينتقل و يستقر هذا النور و يكون تلك النسمه الطاهره فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و ينبثق القسم الثاني من النور و يستقر في مولي الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
[ صفحه 9]
و لم يكن انشطار هذا النور من صلب عبدالمطلب بن هاشم الي نورين، الا لأجل أن يلتقيا ثانيه، و يتحدا في علي و فاطمه (عليهماالسلام) و هنا يكمن السر، لينجلي الحال.
«من معالم التربيه»
تربط شخصه الفرد ارتباطا و ثيقا بمجتمعه، و بيئته، و شخصيه أبويه الخلقيه، و تربيتهما، فالأبوان يصبان الطفل في القالب الروحي و الأخلاقي، و يحددان ركائز شخصيته، ليقوم في المجتمع مقام الأثير البارز، و يمكن القول الولد مرآه عاكسه لشخصيه الأبوين و تربيتهما.
و لا غرو فان الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) أبا الزهراء، هو سيد الأولين و الآخرين، الذي بلغ القمه في الأخلاق، و الصبر و التسامح، و الهمه العاليه، و الشجاعه و كل مكارم الأخلاق التي امتاز بها.
و هو الذي سن الأخلاق و التربيه للعالم كما شهد الله له بذلك و انك لعلي خلق عظيم، فكيف به في تربيه ابنته و فلذه كبده، فاطمه الزهراء (عليهاالسلام).
أضف الي ذلك خصائص السيده الطاهره «أم الزهراء» خديجه بنت خويلد التي ورثت الأمجاد كابرا عن كابر، و شخصيتها الفذه، و أخلاقها الفاضله، و ايمانها العميق، و جهادها المتواصل في الدفاع عن بيضه الاسلام، و عن سيد المرسلين. حتي بشرها رب العالمين بأن بني لها قصرا في الجنه من قصب [1] لا صخب فيه و لا نصب، و جعلها من سيدات نساء أهل الجنه.
و لو أردنا أن نخوض البحث في أخلاق البتول فاطمه و أخلاق أبيها
[ صفحه 10]
و بعلها و بنيها، لطال بنا المقام و ابتهدنا عن الغرض [2] .
اقتران النورين:
حينما يأتي الأمر الرباني، و النداء
الآلهي، «يا محمد اقرن النور بالنور»، و في روايه «زوج النور من النور» قال ممن يارب؟ قال: «زوج عليا من فاطمه فقد زوجتهما في السماء، و أشهدت ملائكتي و سكان سمواتي علي ذلك». و يقترن النواران ليشكلا الدوحه المحمديه، و الشجره العلويه التي أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي اكلها كل حين باذن ربها.
مرج البحرين يلتقيان و بينهما برزخ لا يبغيان.. يخرج منهما الؤلؤ و المرجان.. و هما الامامان الحسن و الحسين (عليهماالسلام).
اذن فهذه هي فاطمه الزهراء الطهر (عليهاالسلام) حلقه الوصل التي اجتمع فيها النور الآلهي، و كان حصيله ذلك منهما أئمه الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين،و هم حجج الله علي خلقه، و خلفأؤه في أرضه و من لم يكن له نصيب من هذا النور، فقد ضل ضلالا بعيدا و خسر خسرانا مبينا. و من هذا النور المبارك يسعي النور بين أيدي المؤمنين القيامه، حسب منطوق الآيه.
فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و ما أدراك ما فاطمه، ان نطفتها تكونت من ثمار الجنه، و هي الحوراء الانسيه، و حسبها شرفا و فخرا أنها بعضه الرسول المصطفي (صلي الله عليه و آله) و روحه التي بين جنبيه، و هي أم ابيها كما نعتها أبوها بذلك، و أني لنا ادراك كنه عظمتها، أو استكشاف سر من أسرارها؟
كثيرا ما كتب فطاحل العلماء و الكتب و المؤرخين عن الزهرا فاطمه (عليهم السلام) فملؤوا بمناقبها و فضائلها الموسوعات و الكتب، و ما بلغوا مقدار عشر معشار عظمتها أو اكتشاف بعض مناقبها، أو السر المكنون فيها.
[ صفحه 11]
و ما عساني أن أكتب عن أسرارها، و أنا العاجز، و ما تراني أستطيع وصف خلق الرساله، و
شمائل النبوه، و صنيعه الوحي، و من أكون لا عرف بالروح القدسيه، و نور الملكوت الأعلي و أنا الجاهل القاصر «و فاقد الشي ء لا يعطيه». بيد أني قصدت تأليف هذا الكتاب، و عرض بعض فضائل السيده الطاهره فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و مناقبها و أنا ادلي بدلوي بين الدلاء، و اقدم هذا الجهد اليسير و كلي رجاء أن أحظي من لدنها بالقول و الرضا، لأنال بذلك شفاعتها، و شفاعه أبيها و بعلها و بنيها، فهو حسبي.
و أخيرا و ليس آخرا، فاني و ان كنت لم آت بجديد في هذا المضمار، فقد جمعت ما تفرق، و ألفت ما تناثر في بطون الكتب و متون التاريخ، من أحاديث و روايات و مسموعات، حتي أخرجته بهذه الحله القشيبه التي هي بين يديك و لا أخاله قد جانب الخطأ و النسيان، أو استقصاء كل شارده وارده، و النقص حليف الانسان فيما يكتب أو يقول:
فاستميح القراء الأعزاء عذارا عما يجداوا من خطأ أو سهو غير مقصود، فالكمال لله وحده و لكتابه المجيد.
و آخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين.
دار الهجره، عش آل محمد يوم الغدير الأغر عام 1413 هجري.
المؤلف
حسين الشاكري
[ صفحه 12]
تفضل سماحه العلامه المحقق حجه الاسلام و المسلمين السيد جعفر مرتضي العاملي، مشكورا بتقديمه كتاب جدته الطاهره «فاطمه الزهراء» صلوات الله عليها و علي أبيها و بعلها و بينها.
فله من الله سبحانه الأجر و مني جزيل الشكر.
حسين الشاكري
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمدلله، و الصلاه و السلام علي محمد و آله الطاهرين.
و بعد:
فغير خاف علي أحد: أن جهاد أهل بيت النبوه، و معدن الرساله في سبيل
الله سبحانه، و من أجل دين الله قد كان السبب في حفظ الاسلام و فك أساره من أيدي الفجار و الأشرار.
و لا أحد يجهل فضلهم عليهم الصلاه و السلام علي هذه الامه، أفرادا و جماعات،و عظيم احسانهم اليها، و جسيم أياديهم عندها.
و رغم وضوح حقيقه: أن ذلك كله لا يمكن مكافأته بأي عمل أو جهد، مهما كان عظيما و خطيرا؛ فان مقوله: ما لا يدرك كله، لا يتدرك كله، قد قطعت الطريق علي تخيل أن عدم القدره هذا لابد أن يسقط الواجب الالهي و الانساني، و يبرو الانسحاب من الساحه. فقد أتضح: أن ذلك ما هو الا قول باطل، و خيال زائل، بل لابد من العمل، و بذل الجهد ليسهم ذلك في احقاق الحق، و ازهاق الباطل، و نصر الدين، و هدايه العباد.
و لكن بالاضافه الي أن العمل يحتاج الي توفر القدرات و الطاقات، و الوسائل الماسبه؛ فانه بحابه أيضا الي التوفيق و التسديد، و الي نفحات
[ صفحه 13]
و بركات، عنايات الهيه و ألطاف ربانيه.
و من أولي بذلك من عبادالله الصالحين، و أوليائه المقربين، الذين يشعرون بالواجب، و يحسون بالمسؤوليه، فيبادرون لبذل الجهد، و يقفون علي أهبه الاستعداد في مواقع العمل، يسجلون مواقف الجهاد، لا يأبهون للمصاعب و المتاعب، و لا لما يعترض طريقهم من عقبات كأداء.
و قد كان من هؤلاء الصفوه المجاهدين و العاملين، الأخ الوفي، و الفاضل الألمعي، الحاج حسين الشاكري (حفظه الله و رعاه)، الذي عرفنا فيه الرجل الطيب الخالص الولاء، و الوفي الصادق الوفاء لأهل البيت (عليهم السلام) و لكل قضاياهم التي جاهدوا من أجلها، و بذلوا في سبيلها كل غال و
نفيس.
فقد قدم لقرائه كتابا عن حياه السيده المظلومه الزهراء (عليها آلاف التحيه و السلام)، يضيفه الي كتب اخري عن حياه النبي (صلي الله عليه و آله) و الأئمه الطاهرين.
و قد جاء كتابه هذا- و هو الذي بين يدي القاري ء الكريم- الحافل بالنصوص المختاره ليترجم هذا لخلوص، و يجسد ذلك الولاء و الوفاء.
و قد رسم فيه صوره متاربه الملامح تقريبا لحياه الصديقه الطاهره، و لكل معاناتها صلوات الله و سلامه عليها.
فشكر الله سعيه، و جزاه خير جزاء العالمين، و حشره مع أوليائه الطيبين الطاهرين.
و الحمدلله، و الصلاه و السلام علي عباده الذين الصطفي، محمد و آله.
الجمعه 3 جمادي الأولي 1414 ه
جعفر مرتضي العاملي
[ صفحه 16]
كانت خديجه بنت خويلد- ام الزهراء (عليهاالسلام)- من أسره أصيله، لها مكانه و شرف في قريش، عرفت بالعلم و المعرفه، و التضحيه و الفداء، و حمايه الكعبه و «حينما جاء تبع- ملك اليمن- ليأخذ الحجر الأسود من المسجد الحرام الي اليمن، هب خويلد لحمايته و منعه عن ذلك» [7] .
و أسيد بن عبدالعزي- جد خديجه- كان من المبرزين في حلف الفضول الذي تداعت له قبائل من قريش، فتعاقدوا و تعاهدوا علي أن لا يجدوا بمكه مظلوما من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس، الا قاموا معه و كانوا علي من ظلمه حتي ترد مظلمته.
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب لي به حمر النعم، و لو أدعي به في الاسلام لأجبت» [6] .
و كان ورقه بن نوفل- ابن عم خديجه- أحد الأربعه الذين رفضوا
عباده الأوثان، و بحثوا عن الدين الحق.
قال ابن اسحاق: و اجمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه و ينحرون له و يعكفون عنده و يديرون به، و كان ذلك عيدا لهم في كل سنه يوما، فلخص منهم أربعه نفر نجيا، ثم قال بعضهم لبعض: تصاقوا وليكتم بعضكم علي بعض.
قالوا: أجل- و هم ورقه بن نوفل و ثلاثه آخرون-.
فقال بعضهم لبعض: تعلموا- و الله- ما قومكم علي شي ء، لقد أخطأوا
[ صفحه 17]
دين أبيهم ابراهيم؛ ما حجر نطيف به لا يسمع و لا يبصر، و لا يضر و لا ينفع؟!فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفيه، دين ابراهيم [7] .
و حينما نزل الوحي علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) انطلقت خديجه (عليهاالسلام) الي ورقه بن نوفل- هذا الرجل العالم- فأخبرته بما أخبرها به رسول الله (صلي الله عليه و آله) أنه رأي و سمع، فقال ورقه بن نوفل: قدوس، قدوس.. انه لنبي هذه الامه، فقولي له: فليثبت فرجعت خديجه الي رسول الله (صلي الله عليه و آله). فأخبرته بما قال ورقه.
فليقه ورقه بن نوفل و هو يطوف فقال: يا ابن أخي، أخبرني بما رأيت و سمعت، فأخبره رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فقال له ورقه:
و الذي نفسي بيده انك لنبي هذه الامه، و لقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسي، و لتكذبنه، و لتؤذينه، و لتخرجنه، و لتقاتلنه [6] ، و لئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرون الله نصرا يعلمه. ثم أدني رأسه منه فقبل يافوخه، ثم أنصرف رسول الله (صلي الله عليه و آله) الي منزله [7] ...
يفهم من هذه الروايات و
أمثالها أن خديجه كانت من الاسر كانت من الاسر العريقه المعروفه بالعلم و العلماء و كان ذووها علي الحنيفه دين ابراهيم، ينتظرون دين الحق.
[ صفحه 18]
مع أن التاريخ لم يتعرض للجزئيات المتعلقه بحياه السيده خديجه، الا أن ما وصل الينا يمكن أن يرسم بعض معالم شخصيتها المتميزه و البارزه.
ت زوجت خديجه في أول شبابها (عتيق بن عائذ) الا أنه لم يعش طويلا، و سرعان ما رحل عنها و ترك لها ثروه طائله و مالا كثيرا. فتزوجت بعد فتره بتاجر من بني تميم اسمه (هند بن بناس)، و لم يعش- أيضا- حيث ودع الدنيا في ربيع عمره،و خلف وراءه خديجه مع أموال و ثروه طائله.
و هنا ينبغي الالتفات الي نكته مهمه تكشف عن روح هذه المرأه الشريفه الكبيره، و همتها العاليه، و حريتها و استقلالها.
و هي: ان خديجه التي ورثت اموالا طائله، و ثروه هائله من زوجيها، لم تترك هذه الأموال راكده، و لم تراب بها في زمن كان الربا رائجا، و انما استثمرت هذه الأموال في التجاره، و استخدمت رجالا صالحين لهذا الغرض، و استطاعت أن تكسب عن طريق التجاره ثروه ضخمه حتي قيل:
«ان لها أزيد من ثمانين الف جمل متفرقه في كل مكان، و كان لها في كل ناحيه تجاره، و في كل بلد مال، مثل مصر و الحبشه و غيرها» [8] .
«و كانت خديجه بنت خويلد امراه ذات شرف و مال، تستأجر الرجال في مالها و تضاربهم» [9] .
و لابد أن نقول: ان اداره قافله تجاريه كبيره من هذا القبيل في ذلك العصر في الجزيره العربيه كان أمرا عسيرا، و لا
سيما اذا كان المدير امرأه، في زمن كانت امرأه محرومه من جميع حقوقها الاجتماعيه، و كثيرا ما كان الرجال
[ صفحه 19]
القساه يئدون بناتهم دون ذنب.
اذن، لا بد لهذه المرأه العظيمه من نبوغ متفوق، و شخصيه الرسول و خيره بشؤون الحياه كافيه تؤهلها لا داره تلك التجاره الواسعه [10] .
و من نبوغها وحده ذكائها و نظرتها البعيده أدركت عظمه شخصيته الرسول الأكرام (صلي الله عليه و آله) و سمو أخلاقه و مستقبله الزاهر قبل تكليفه برساله السماء، فأختارته زوجا لها من دون الرجال و الشخصيات المرموقه الذين تقدموا لخطبتها، بل و هي التي تقدمت و عرضت نفسها و رغبت في الاقتران به، علي رغم البون الشامع بين حياتها الماديه و حياته البسيطه، علي رغم كونها امرأه، و من صفات المرأه الحرص علي تملك، لا سيما اذا كانت أرمله و ليس لها كفيل و لا حام يحميها.
و مع ذلك كله فقد عشقت شخصيته و مكارم أخلاقه و بذلت له نفسها و ما تلك، قبل البعثه و بعدها و مكنته من التصرف و بذل مالها في سبيل الله و الاسلام. و كان لأموال السيده الطاهره خديجه بنت خويلد (رضوان الله عليها) الأثر البالغ، و الركيزه الاولي، و المنعطف الخطير في تثبيت دعائم الاسلام يومذاك و تقويته، اذ كان الدين الاسلامي و بر عما، و في خطواته الأولي و في دور التكوين، و كان بأمس الحاجه الي المال لتبليغ رساله السماء و بلوغ هدفه، فيفيض الله سبحانه لخدمه الاسلام السيده خديجه و أموالها، و بفضله تحقق الهدف الأول المنشود، فكان ركنا من أركان الاسلام، و قد أشار سبحانه و تعالي بهذه
الآيه (و وجدك عائلا فأغني) أغناك بمال خديجه، قال (صلي الله عليه و آله): «ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجه».
[ صفحه 20]
بلغ محمد بن عبدالله (صلي الله عليه و آله) ريعان الشباب مفعما بالفضائل، و الاستقامه، و الخلق القويم، و الانقطاع الي عباده ربه الواحد الأحد، متبتلا الي الله سبحانه و تعالي، يحمل بين جنابته روح الانسانيه، و التفاني في اسعاد الآخرين، و يقطر ايمانا و حبا و خلقا جسد مكارم الأخلاق بكمالها و تمامها.
و مثل هذا الشخص العظيم لابد أن يفكر بالاقتران بامرأه تشاطر هذه الصفات، و ترتفع الي مستوي حياته، و تعاضده في بلوغ أهدافه المقدسه، و تتفهمه و تصمد أمام الهزات و الصدمات التي تتنظره في المستقبل، و تبذل كل غال و نفيس في سبيل نيل الأهداف الساميه.
و لم يكن في سماء تفكير محمد (صلي الله عليه و آله) ثمه امرأه تفهمه، و تتبحسس مشاعره و احاسيسه، و تصلح لتحمل هذه المهمه الصعبه، و تكون جديره بمشاركته، غير أن الله قيض له السيده الطاهره خديجه الكبري (عليهاالسلام)، المرأه العاقله، اللبيبه، الفاضله، الحنون، الثريه، سيده مكه الأولي.
و لم يخطر علي بال رسول الله (صلي الله عليه و آله) أن يتزوج من امرأه ثريه، و لم يشغل المال باله لحظه واحده من حياته المباركه، الا أن السيده خديجه بنت خويلد (عليهاالسلام) هي التي غرضت نفسها عليه، و اختارته لنفسها بعلا، و يا لها من سعاده!!
و لم يكن زواج رسول الله (صلي الله عليه و آله) و اقرانه بالسيده خديجه الكبري يشبه الزواج المتعارف بين الناس، و لا بين الخاصه من عليه القوم، بل
يعتبر هذا الزوج الوحيد من نوعه في الجزيره العربيه، و خاصه بين قريش، اذ كان ذلك القران الميمون المبارك نتيجه حب و تعلق، و تحديق في أعماق الروح
[ صفحه 21]
و المستقبل و الذوات المقدسه، دونما التفات الي أي دافع مادي أو سياسي أو ما يشبه ذلك مما يحدث بين العظماء و الرؤساء في العالم.
و لم يكن هناك تناسب بين طريقه حياه محمد (صلي الله عليه و آله) الموصوفه بالبساطه و الزهد، حيث كان يغيش في حمايه و كفاله عمه أبي طالب، شيخ البطحاء بعد وفاه جده عبدالمطلب، سيد قريش و عظيمهم، و كانت حياتهم العفيفه البسيطه أقرب ما تكون الي الكفاف و الزهد علي الرغم من علو قدرهم و مقامهم الشامخ في مكه، و بين قريش بصوره خاصه، و في الجزيره العربيه، و في أوساط القبائل بصوره عامه. و بين حياه و معشيه سيده مكه الاولي «خديجه بنت خويلد» القرشيه،التي كانت تعتبر أثري قرشيه و أغني امرأه في مكه، حيث كانت أموالها و تجارتها سائره في رحلاتها صيفا و شتاء، بين مكه و الشام، و بين مكه و اليمن،سيده ببركتها كان يعيش العشرات بل المئات من الناس بفضل خدمتها في تجارتها.
و كانت (عليهاالسلام) لا زالت تحتفط بانوثتها و جاذبيتها علي الرغم من انجابها و بلوغها الأربعين عاما من عمرها.
و قصه زواج خديجه من رسول الله (صلي الله عليه و آله) تعد منعطفا مهما و من النقاط اللامعه النورانيه في حياتها. فلما توفي زوجها عنها ظهرت عليها روح الاستقلال، و الاعتماد علي النفس، و الحريه بشكل واضح، و كانت تمارس التجاره كأفضل الرجال عقلا و رشدا. و رفضت- باصرار- الزواج
من الملوك و الأشراف و الاثرياء الذين تقدموا اليها- لما عرفت به من الشرف و النسب الرفيع و الثروه- و بذلوا لها الكثير من الأموال مهرا، و رضيت باندفاع للزواج من محمد (صلي الله عليه و آله) الفقير اليتيم؛ لم ترفض أولئك و ترضي بمحمد (صلي الله عليه و آله) فحسب، بل تقدمت بشوق و اندفاع لتقترح علي محمد (صلي الله عليه و آله) الزواج منها علي أن يكون المهر من أموالها.
فأصبح هذا الأمر سببا لسخريه نساء قريش و نقدهن اللاذع. و قد
[ صفحه 22]
اشتهر أن النساء يعشقن الثروه و الكماليات في الحياه، و غايه مطامحهن أن يتزوجن من ثري شريف يعشن في بيته بهدوء، و يشتغلن بالتجمل و الأنس، و خديجه لم تبحث عن الرجل الغني، لأن أفكارها أجل و أرفع من هذا، و انما هي تنتظر الزوج العظيم، و الرجل القوي، و الشخصيه اللامعه، و الروحانيه الشفافه التي تنجي العالم من وحل الجاهليه، و مستنقع التخلف و التعاسه.
و التاريخ يروي لنا أن خديجه سمعت من العلماء و الأحبار أن محمدا (صلي الله عليه و آله) نبي آخر الزمان فتعلق قلبها به، فأرسلت اليه تسأله الخروج الي الشام في قافله مع مولاها ميسره- ليراقب تحركاته و سلوكه عن كثب، و لعل هذا العمل كان اختبارا لما سمعته من العلماء و الأحبار- فسافر النبي بعيرها الي الشام، فرأي ميسره منه في الطريق العجائب، و حينما عادوا من السفر حكي لها ما شاهده، فبعثت الي رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فقالت له: يا ابن العم، قد رغبت فيك لقرابتك مني، و شرفك في قومك و وسطك فيهم، و
أمانتك عندهم، و حسن خلقك، و صدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها [21] .
فلما أراد رسول الله (صلي الله عليه و آله) أن يتزوج خديجه بنت خويلد أقبل أبوطالب في أهل بيته و معه نفر من قريش حتي دخل علي عم خديجه، فابتدأ أبوطالب بالكلام قائلا:
«الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع ابراهيم و ذريه اسماعيل، و أنزلنا حرما آمنا، و جعلنا الحكام علي الناس، و بارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم ان ابن اخي هذا- يعني محمدا (صلي الله عليه و آله)- ممن لا يوزن برجل من قريش الا رجح به، و لا يقاس به رجل الا عظم عنه، و لا عدل له في الخلق، و ان كان مقلا في المال فان المال رفد جار و ظل زائل، و له في خديجه
[ صفحه 23]
رغبه، و قد جئناك لنخطبها اليك برضاها و أمرها، و المهر علي في مالي الذي سألتموه عاجلا و آجله، و له و رب هذا البيت حظ عظيم، و دين شائع، و رأي كامل».
ثم سكت أبوطالب، فتكلم عمها و تلجلج و قصر عن جواب أبي طالب و أدركه القطع و البهر، و كان رجلا عالما، فقالت خديجه مبتدئه: يا عماه انك و ان كنت أولي بنفسي مني في الشهود فلست أولي بي من نفسي. قد زوجتك يا محمد نفسي و المهر علي في مالي، فأمر عمك فلينحر ناقه فليولم بها [22] .
و يروي ان خديجه و كلت ابن عمها ورقه في أمرها، فلما عاد ورقه الي منزل خديجه بالبشري، و هو فرح مسرور نظرت اليه فقالت: مرحبا و أهلا بك يا ابن
عم،لعلك قضيت الحاجه.
قال: نعم يا خديجه يهنئك، و قد رجعت أحكامك الي و أنا وكيلك و في غداه غد ازوجك ان شاءالله تعالي بمحمد (صلي الله عليه و آله).
فلما سمعت خديجه كلامه فرحت و خلعت عليه خلعه قد اشتراها عبدها نيسره من الشام بخمسمائه دينار [13] .
و لما خطب أبوطالب (عليه السلام) الخطبه المعروفه، و عقد النكاح، قام محمد (صلي الله عليه و آله) ليذهب مع أبي طالب، فقالت خديجه:
الي بيتك، فبيتي بيتك و أنا جاريتك [14] .
و هكذا تزوج الرسول (صلي الله عليه و آله).... و كان لهذا الزواج أهميه كبري في حياته، لأنه كان فقيرا معدما من جهه المال- و قد يكون لهذا السبب أو لا سباب اخري تأخر زواجه المبارك الي سن الخامسه و العشرين-، و وحيدا ليس
[ صفحه 24]
له عائله من جهه اخري، و بزواجه المبارك ارتفع الفقر و الحرمان، و وجد من يشاركه همومه، و يشاوره في أمر، و يقاسمه مر الحياه و حلئها [15] . كما أن خديجه (عليهاالسلام) فرحت بهذا الزواج فرحا شديدا و غمرتها سعاده ما بعدها سعاده، سعاده تحقيق أمانيها باقترانها بالرجل المأمول حيث أغلي أمانيها و غايه مقصودها.
و في ختام هذه الفقره نود أن نذكر بعض ما ورد من أشعار انشدت في زواج النبي (صلي الله عليه و آله) بخديجه (عليهاالسلام):
قال عبدالله بن غنم:
هنيئا مريئا يا خديجه قد جرت
لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجت من خير البريه كلها
و من ذاالذي في الناس مثل محمد؟
و به بشر البران عيسي بن مريم
و موسي بن عمران فيا
قرب موعد
قرب به الكتاب قدما بانه
رسول من البطحاء هاد و مهتد [16] .
و قال حبر من أحبار اليهود مبشرا خديجه (عليهاالسلام) بنبوه محمد (صلي الله عليه و آله):
يا خديج لا تنسي الآن قولي
و خذي منه غايه المحصول
يا خديج هذا النبي بلا شك
هكذا قد قرأت في الانجيل
سوف يأتي من الاله بوحي
و يحبي من الاله بالتنزيل
و يزوجه ذات الفخار فيضحي
في الوري شامخا علي كل جيل [17] .
[ صفحه 25]
و أنشأ العباس يقول:
أبشروا آل فهر و غالب
افخروا يا قومنا بالثنا و الرغائب
شاع في الناس فضلكم و علا في المراتب
قد فخرتم بأحمد زين كل الأطايب
فهو كالبدر نوره مشرق غير غائب
قد ظفرت خديجه بجليل المواهب
بفتي هاشم الذي ما له من مناسب
جمع الله شملكم فهو رب المطالب
أحمد سيد الوري خير ماش و راكب
فعليه الصلاه ما سار عيس براكب [18] .
قالت بعض النساء ممن حضرن عقد خديجه (عليهاالسلام):
أضحي الفخار لنا و عز الشان
و لقد فخرنا يا بني العدنان
أخديجه نلت العلا بين الوري
و فخرت فيه جمله الثقلان
أعني محمدا الذي لا مثله
ولدت النساء في الأزمان
صلوا عليه و سلموا و ترحموا
فهو المفضل من بني العدنان
فتطاولي فيه خديجه! و اعلمي
أن قد خصصت بصفوه الرحمن [19] .
و خرجت بين يديها صفيه بنت عبدالمطلب (رضي الله عنها) و
قالت:
جاء السرور مع الفرح
و مضي النحوس مع الترح
أنوارنا قد أقبلت
و الحال فيها قد نجح
[ صفحه 26]
بمحمد المذكور في
كل المفاوز و البطح
لو أن يوازن أحمد
بالخلق كلهم رجح
و لقد بدا من فضله
لقريش أمر قد وضح
ثم السعود لأحمد
و السعد عنه ما برح
بخديجه بنت الكمال
و بحر نايلها طفح
يا حسنها في حليها
و الحلم منها ما برح
هذا الأمين محمد
ما في مدائحه كلح [20] .
صلوا عليه تسعدوا
والله عنكم قد صفح [21] .
و قالت أيضا:
أخذ الشوق موثقات الفؤاد
و ألفت السهاد بعد الرقاد
فليالي القا بنور التداني
مشرقات خلاف طول البعاد
فزت بالفخر يا خديجه اذ نلت
من المصطفي عظيم الوداد
فعذا شكره علي الناس فرضا
شاملا كل حاضر ثم بادي
كبر الناس و الملائك جمعا
جبرئيل لدي السماء ينادي
فزت يا أحمد بكل الأماني
فنحي الله عنك أهل العناد
فعليك الصلاه ما سرت العيس
و حطت لثقلها في البلاد [22] .
[ صفحه 27]
نعم،.... اجتمع شمل محمد و خديجه، و تأسست الأسره، و بني البيت الذي يغمره الحب و السعاده و الحنان و الدف ء العائلي و التفاهم، فقد كانت خديجه أول من آمن بدعوه الرسول الاكرام (صلي الله عليه و آله)، و بذلت كل ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسه، و جعلت ثروتها بين
يدي الرسول (صلي الله عليه و آله) و قالت: جميع ما أملك بين يديك و في حكمك، اصرفه كيف تشاء في سبيل اعلاء كلمه الله و نشر دينه.
و تأسست أول أسره في الاسلام من لبنات ثلاث: محمد، و خديجه، و علي [23] ، و كانت بذره الثوره الاسلاميه العالميه، و تحملت وظائفها الجسام، و مسؤوليتها الشاقه في محاربه الكفر و الشرك و عباده الأوثان، و نشر رايه التوحيد في العالم، و اشاعه العدل في ربوعه.
و لم يك علي وجه الأرض بيت اسلامي سواه، و هو القاعده الولي للتوحيد التي ضمت جنودا أوفياء، تجهزوا و استعدوا للنفوذ الي العالم، و فتح قلوب الناس، و بث عقيده التوحيد فيها.
عميد البيت محمد (صلي الله عليه و آله) و قد قال الله فيه: و انك لعلي خلق عظيم (القلم: 4). و سيده شؤونه الداخليه خديجه (عليهاالسلام).
و كان الرسول (صلي الله عليه و آله) يحب خديجه من أعماق قلبه، و يحترمها غايه الاحترام.
يقول هشام: كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يودها و يحترمها و يشاورها في اموره كلها، و كانت وزير صدق، و هي أول امرأه آنت به، و لم
[ صفحه 28]
يتزوج في حياتها أحدا غيرها [24] .
و يروي عن الرسول (صلي الله عليه و آله) انه قال: «.... و خير نساء امتي خديجه بنت خويلد» [25] .
و قال (صلي الله عليه و آله): «خير نسائها خديجه» [26] .
و في روايه عن عائشه قالت: كان رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) اذا ذكر خديجه لم يسأم من الثناء عليها و الاستغفار لها، فذكرها ذات
يوم فحملتني الغيره، فقلت: و هل كانت الا عجوزا قد أخلف الله لك خيرا منها؟
قالت: فغضب حتي أهتز مقدم شعره و قال:
«والله ما أخلف لي خيرا منها؛ لقد آمنت بي اذ كفر الناس، و صدقتني اذ كذبني الناس، و أنفقتني ما لها اذ حرمني الناس، و رزقني الله أولادها اذ حرمني أولاد النساء».
قالت: فقلت في نفسي: والله لا أذكرها بسوء أبدا [27] .
و قد ورد في الروايه: أن جبرئيل (عليه السلام) أتي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقال:
«يا محمد، هذه خديجه قد أتتك، فاقرأها السلام من ربها، و بشرها ببيت في الجنه من قصب، لا صخب فيه و لا نصب» [28] .
و قال (صلي الله عليه و آله): «يا خديجه.... ان الله- عزوجل- ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا» [29] .
[ صفحه 29]
و كان (صلي الله عليه و آله) يحترم صدائقها اكراما و تقديرا لها.
روي عن أنس قال: كان النبي (صلي الله عليه و آله) اذا اتي بهديه قال: «اذهبوا الي بيت فلانه، فانها كانت صديقه لخديجه، انها كانت تحبها» [30] .
و في الصحيحين: ان عائشه قالت: ما غرت علي أحد من نساء رسول الله ما غرت علي خديجه، و ما رأيتها قط، و لكن كان رسول الله يكثر ذكرها، و ربما ذبح الشاه فيقطع أعضاءها و يبعث بها الي صدائق خديجه.
فأقول: كأنه لم تكن في الدنيا امرأه الا خديجه.
فيقول: «انها كانت، و كان لي منها الأولاد».
وروي عنه (صلي الله عليه و آله) انه كان اذا ذبح الشاه يقول:
«ارسلوا الي أصدقاء خديجه».
فتسأله عائشه في ذلك فيقول:
«اني لأحب
حبيبها».
و يروي: ان امرأه جاءته (صلي الله عليه و آله) و هو في حجره عائشه فاستقبلها و احتفي بها، و أسرع في قضاء حاجتها، فتعجبت عائشه من ذلك، فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آله):
«انها كانت تاتينا في حياه خديجه».
و جرت مره محاوره بين رسول الله (صلي الله عليه و آله) و زوجته عائشه، و حين شعرت بالغيره تملأ قلبها من كثره رسول الله (صلي الله عليه و آله) لخديجه، و تعاق جبه بها، فقالت له:
ما تذكر من عجوز حمرأ الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها؟!
فآلم النبي (صلي الله عليه و آله) هذا القول؛ ورد عليها قائلا:
«ما أبدلني الله خير منها، كانت ام العيال، و ربه البيت: آمنت بي حين
[ صفحه 30]
كذبني الناس، و واستني بمالها حين حرمني الناس، و رزقت منها الولد و حرمت من غيرها» [31] .
و خديجه بنت خويلد (عليهاالسلام) حريه بهذا الفدر و المقام عند رسول الله (صلي الله عليه و آله) بعد أن حازت المقام الرفيع و الدرجه الساميه عند ربها،فهي المرأه التي حباها رب العالمين، و بشرها بالخلد و النعيم.
و لذا قال فيها رسول الله (صلي الله عليه و آله):
«أفضل نساء أهل الجنه خديجه بنت خويلد، و فاطمه بنت محمد، و مريم بنت عمران،و آسيه بنت مزاحم امرأه فرعون» [32] .
و قابلته خديجه حبا بحب، و وفاء بوفاء، و تضحيه بتضحيه، آمنت به و بدعوته و بأهدافه المقدسه، و بذلت تمام وجودها من أجل ذلك، و قالت له بتواضع و خشوع:
البيت بيتك، و جميع ما أملك تحت يدك، و أنا جاريتك.
و كانت تؤازره علي أمره،
فخفف الله بذلك رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و كان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه و تكذيب له فيحزنه ذلك، الا فرج الله ذلك عن رسوله (صلي الله عليه و آله) بها، اذا رجع اليها تثبته، و تخفف عنه، و تهون عليه أمر الناس، حتي ماتت- رحمها الله-.... و كان الرسول (صلي الله عليه و آله) يسكن اليها، و يشاورها في المهم من اموره [33] .
نعم.... هذا هو منبت الزهراء.. فقد ولدت لأبوين مضحيين، و في
[ صفحه 31]
جو يغمره الحب و الحنان و الوئام.. في بيت رسول الله (صلي الله عليه و آله).
و هذه هي خديجه ام فاطمه، و ذاك أبوها محمد رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فقي أجواء هذا البيت ولدت الزهراء، و تحت هذه الظلال عاشت وتر عرعت، و في هذه الرعايه نشأت و تربت، و كان طبيعيا أن تؤثر هذه البيئه العائليه علي حياه فاطمه، و شخصيتها، فتتأثر بأبويها، و تقتدي بخيره خلق الله، خلقا و انسانيه.. فكانت خيره النساء، و قدوه المرأه المسلمه، و ام الأئمه الهداه.
و مما لا شك فيه فان عوامل الوراثه و البيئه هذه و التي توفرت لفاطمه (عليهاالسلام)... مع بقيه العوامل قد صاغت من فاطمه الوليده الولي في عالم الاسلام لا يضاهي...
هذه فاطمه الزهراء (صلي الله عليه و آله) سليله أبوين جمعا المكارم بكل أطرافه.
سليله الرساله السماويه و الوحي الالهي و طيب الارومه.
سليله النور و المآثر الحميده و المجد التليد.
هذه نظره خاطفه أو صوره مصغره للنبوغ الفكري، و العبقريات الفذه التي تمثلت في شخص سيدتنا الطاهره فاطمه الزهراء، و بذلك تظهر لنا الحقائق
في صوره حياتها علي ضوء الوراثه.
[ صفحه 32]
قبل الدخول في صلب الحديث و ددنا الاشاره الي نكته نطرحها كتمهيد موجز لما سيأتي:
ان النطفه التي تنعقد في الرحم و يتكون منها الجنين انما تترشح من الدم، و الدم يستخلص من الطعام (أي طعام كان)، بعد الانتهاء من عمليات الهضم و التمثيل في الأجهزه التي أعدها الله سبحانه لذلك.
فلا شك أن الطعام آثارا موضوعيه علي النطفه المستخلصه منه بالنتيجه، و من ثم بالجنين المتكون منها، و سلوك الفرد الذي نشأ منها، فان كان طيبا فيترك آثاره الحسنه، و ان كان خبيثا ترك آثاره السيئه.
(و البلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا...) (الأعراف: 58).
فشتان بين من انعقدت نطفته من لحم الخنزير و الخمور و مال السحت و الحرام و السرقه و الغصب و ما شاكل، و بين من انعقدت نطفته من رزق الله الطيب الحلال،فهذا يشب علي الفضيله و الخيرات، و ذاك يميل الي الخبائث و المنكرات.
و من جهه اخري فان الأبتعاد عن اللقاء الجنسي يؤدي الي الشوق و الهيام، و هذا بنفسه له دور فعال في انعقاد النطفه و تكوين الجنين و نسخ خيوط شخصيته المستقبليه.
و بعد هذا التمهيد ننطلق الي الروايات التي جاءت تخبرنا عن الأمر السماوي الذي توجه الي رسول الله (صلي الله عليه و آله)- و هو يتضمن ما مر معنا آنفا-قبل أن تنعقد نطفه الصديقه الطاهره فاطمه الزهراء:
روي الشيخ المجلسي في (البحار) في الجزء 16 ص 87 قال:
بينا النبي (صلي الله عليه و آله) جالس بالأبطح اذ هبط عليه جبرئيل
[ صفحه 33]
(عليه السلام) فناداه:
«يا محمد، العلي الأعلي يقروك السلام، و هو يأمرك أن تعتزل خديجه أربعين صباحا».
فبعث الي خديجه بعمار بن ياسر، و قال: قل لها:
«يا خديجه، لا تظني أن انتقطاعي عنك هجره و لا قلي، و لكن ربي- عزوجل- أمرني بذلك لينفذ أمره، فلا تظني يا خديجه الا خيرا، فان الله- عزوجل- ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا، فاذا جنك الليل فاجيفي الباب و خذي مضجعك من فراشك، فاني في بيت فاطمه بنت أسد».
قال: فأقام النبي (صلي الله عليه و آله) أربعين يوما يصوم النهار و يقوم الليل. فجعلت خديجه تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول الله (صلي الله عليه و آله). فلما كان كمال الأربعين هبط جبرئيل (عليه السلام) فقال:
«يا محمد: العلي الأعلي يقرؤك السلام، و هو يأمرك أن تتاهب لتحيته و تحفته».
قال النبي (صلي الله عليه و آله): «يا جبرئيل و ما تحفه رب العالمين؟ و ما تحيته؟!».
قال: لا علم لي.
قال: فبينا النبي (صلي الله عليه و آله) كذلك اذ هبط ميكائيل و معه طبق مغطي بمنديل سندس، فوضعه بين يدي النبي (صلي الله عليه و آله)، و أقبل جبرئيل (عليه السلام) و قال:
«يا محمد: يأمرك ربك أن تعجل الليله افطارك علي هذا الطعام...».
فأكل النبي (صلي الله عليه و آله) شبعا، و شرب من الماء ربا، ثم قام النبي (صلي الله عليه و آله) ليصلي فأقبل عليه جبرئيل و قال:
[ صفحه 34]
«الصلاه محرمه [34] عليك في وقتك حتي منزل خديجه.... فان الله- عزوجل- آلي علي نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليله ذريه طيبه».
فوثب رسول الله (صلي الله
عليه و آله) الي منزل خديجه.
قالت خديجه (رضي الله عنها): و كنت قد ألفت الوحده فكان اذا جنني الليل غطيت رأسي، و أسجفت ستري، و غلقت بابي، وصليت وردي، و أطفأت مصباحي، و آويت الي فراشي. فلما كان في تلك الليله لم أكن بالنائمه و لا بالمنتبهه، اذ جاء النبي (صلي الله عليه و آله) فقرع الباب فناديت:
من هذا الذي يقرع حلقه لا يقرعها الا محمد (صلي الله عليه و آله)؟ قالت خديجه: فنادي النبي (صلي الله عليه و آله) بعذوبه كلامه و حلاوه منطقه:
«افتحي يا خديجه، فاني محمد».
و فتحت الباب، و دخل النبي المنزل.... فلا والذي سمك السماء و أنبع الماء ما تباعد عني النبي (صلي الله عليه و آله) حتي أحسست بثقل فاطمه في بطني [35] .
و قد ذكر هذا الحديث مفصلا جم غفير من علماء العامه بالفاظ مختلفه لكنها تودي الي معني واحد، منهم:
الخوارزمي في (مقتل الحسين) (عليه السلام) ص 63- 68.
الذهبي في (الاعتدال) ج 2 ص 26.
تلخيص المستدرك ج 3 ص 156.
العسقلاني في (لسان الميزان) ج 4 ص 36.
و ثمه أحاديث اخري بهذا المعني مع اختلاف يسير في الألفاظ، و اتفاق في المضمون و الجوهر، و كلها تنص علي أن نطفه السيده فاطمه الزهراء
[ صفحه 35]
(عليهاالسلام) كانت من طعام الجنه، شواء كان ذلك من الرطب، أو العنب، أو التفاح، أو هبطت عليه المائده من السماء في طبق، أو انه أكل من الجنه لما صعد الي السماء، و اليك بعض تلك الأحاديث بصوره مجمله مع بعض التصرف في العباره:
عن الامام الرضا (عليه السلام) قال: قال النبي (صلي الله عليه و
آله): «لما عرج بي الي السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنه فناولني من رطبها فأكلته (و في روايه) فتحول ذلك نطفه في صلبي، فلما هبطت (الي الأرض) واقعت خديجه فحملت بفاطمه، ففاطمه حوراء انسيه، فكلما اشتقت الي رائحه الجنه شممت رائحه ابنتي فاطمه».
و في روايه اخري عن الامام الباقر (عليه السلام)، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، و في اخري عن ابن عباس:
و قد روي الحديث بألفاظ مختلفه، و معاني متقاربه كل من:
الخطيب البغدادي في تاريخه ج 5 ص 87.
الخوارزمي في (مقتل الحسين) (عليه السلام) ص 63.
محمد بن أحمد الدمشقي، في (ميزان اعتدلال) ج 1 ص 38.
الزرندي في (نظم درر السمطين).
العسقلاني في (لسان الميزان) ج 5 ص 160.
القندوزي في (ينابيع الموده).
محب الدين الطبري في (ذخائر العقبي).
و أورد هؤلاء رواياتهم عن عائشه، و ابن عباس، و سعيد بن مالك، و عمر ابن خطاب و غيرهم [36] .
[ صفحه 36]
بدأت آثار الحمل تظهر تدريجيا علي خديجه، و بذلك خرجت هذه المرأه الشرفه المضحيه من عزلتها و هموهما، و انكسر عنها حصار الوحده، و أخذت تستأنس بجنينها الذي تضمه في أحشائها.
يقول الامام الصادق (عليه السلام): «ان خديجه (عليهاالسلام) لما تزوجت برسول الله (صلي الله عليه و آله) هجرتها نسوه مكه، فكن لا يدخلن عليها و لا يسلمن عليها، و لا يتركن امرأه تدخل عليها، فأستوحشت خديجه من ذلك، و كانت تغتم و تحزن اذا خرج رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فلما حملت بفاطمه صارت تحدثها في بطنها و تصبرها.
فدخل يوما رسول الله و سمع خديجه تحدث فاطمه، فقال لها: يا خديجه، من يحدثك؟!
قالت: الجنين
الذي في بطني يحدثني و يؤنسني.
فقال لها: هذا جبرئيل يبشرني أنها انثي، و أنها النسمه الطاهره الميمونه، و أن الله- تبارك و تعالي- سيجعل نسلي منها، و سيجعل من نسلها أئمه الامه، يجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه» [37] .
روي عبدالرحمن الشافعي في (نزهه المجالس) ج 2 ص 227.
قالت امها خديجه (رضي الله عنها): لما حملت بفاطمه كانت حملا خفيفا، تكلمني من باطني.
وروي الدهلوي في (تجهيز الجيش) عن كناب (مدح الخلفاء الراشدين): انه لما حملت بفاطمه كانت تكلمها من بطنها، و كانت تكتمه عن النبي (صلي الله عليه و آله)، فدخل عليها يوما وجدها تتكلم و ليس معها
[ صفحه 37]
غيرها، فسألها عمن كانت تخاطب.
فقالت: ما في بطني (صلي الله عليه و آله): «أبشري يا خديجه، هذه بنت، جعلها الله ام أحد عشر من خلفائي يخرجون بعدي و بعد أبيهم».
نعم.. هذه خديجه التي بذلت كل غال و نفيس، و صبرت علي الأذي و الهجر و الواحده من أجل الأهداف المقدسه، و قدمت محمدا و دعوته علي كل شي ء سوي الله سبحانه، تسمع من فم الرسول (صلي الله عليه و آله) هذه البشري.....
ان الله حباها بهذه السعاه، و اجتباها لهذه الكرامه، و جعل أئمه الدين و المعصومين منها. فطفح البشر و السرور علي وجهها، و امتلأ قلبها غطبه و حبورا، و ازدادت اصرارا علي التضحيه و الفداء، و اشتد تعلقها و أنسها بالله و برسوله و بجنينها الذي تحمله بين جنبيها، حتي وصل الأمر، ان الله سبحانه و تعالي أوحي الي رسوله (صلي الله عليه و آله) أن يبشر خديجه ان الله بني لها في الجنه
قصرا من قصب لا نصب فيه لا صخب. و جعلها و ابنتها فاطمه الزهراء (عليهماالسلام) من سيدات أهل الجنه.
[ صفحه 38]
تصرمت أيام الحمل، و لم تزل خديجه (رضي الله عنها) علي ذلك الي أن حضرتها الولاده، فوجهت الي نساء قريش و نساء بني هاشم يجئن و يلين منها ما تلي النساء من النساء.
فأرسلن اليها: عصيتينا و لم تقبلي قولنا، و تزوجت محمدا يتيم أبي طالب، فقيرا لا مال له، فلسنا نجي ء و لا نلي من أمرك شيئا.
فاغتمت خديجه لذلك.. فبينا هي كذلك اذ دخل عليها أربع نسوه طوال كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن، فقالت احداهن:
لا تحزني يا خديجه، فانا رسل ربك اليك، و نحن أخواتك: أنا ساره، و هذه آسيه بنت مزاحم، و هي رفيقتك في الجنه، و هذه مريم بنت عمران، و هذه كلثم اخت موسي بن عمران، بعثنا الله- تعالي- اليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء.
فجلست واحده عن يمينها، و الاخري عن يسارها، و الثالثه من بين يديها، و الرابعه من خلفها، فوضعت فاطمه (عليهاالسلام) طاهره مطهره، فلما سقطت الي الأرض أشرق منها نور حتي دخل بيوتات مكه. و قالت النسوه:
خذيها يا خديجه طاهره مطهره زكيه ميمونه، بورك فيها و في نسلها، فتناولتها فرحه مستبشره [38] .
يا حبذا من ليله الميلاد
الليله العشرين من جمادي
ميلاد بنت المصطفي الرسول
صديقه طاهره بتول
[ صفحه 39]
سيده انسيه حوراء
فاطمه زكيه زهراء
يا ليله سر بها محمد
اذ ولدت بنت النبي أحمد
ميلادها سر قلوب البشر
لأنها شفيعه
في المحشر
و قرت العيون من ابناها
كذاك قرت عين من والاها
خديجه بمكه مليكه
كانت علي العريش و الأريكه
حقت لها فخرت مدي الزمن
ببنتها ام الحسين و الحسن
نور الاله قد ضحي و أشرق
غصن النبي قد علا و أورق
و أشرقت مكه بالأنوار
و طيبه كذاك بالأزهار
بكل الآفاق ضياؤها ضحي
أنار أطباق السموات العلي
و نورها قد كان قنديل الضياء
معلقا في ساق عرش الكبرياء [39]
عن جابر عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت: لم سميت فاطمه الزهراء «زهراء»؟ فقال: «لان الله عزوجل خلقها من عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات و الأرضين بنورها، و غشت أبصار الملائكه، و خرت الملائكه لله ساجدين و قالوا: الهنا و سيدنا، ما هذا النور؟ فأوحي الله اليهم: هذا نور من نوري، أسكنته سمائي، خلقته من عظمتي، أخرجه من صلب نبي من أنبيائي، أفضله علي جميع الأنيباء، و أخرج من ذلك النور أئمه يقومون بأمري يهدون الي حقي و أجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي».
[ صفحه 40]
وقع الخلاف بين علماء الاسلام في تاريخ ولادتها (عليهاالسلام) الا أن المشهور بين علماء الاماميه أنه في يوم الجمعه في العشرين من شهر جمادي الثاني في السنه الخامسه من البعثه و أكثر علماء العامه قالوا: أنها لدت قبل البعثه:
قال عبدالرحمن بن الجوزي في كتاب (تذكره الخواص) ص 306.
قال علماء السير:
أولدتها خديجه و قريش تبني البيت الحرام قبل النبوه بخمس سنين.
و قال محمد بن يوسف الحنفي في كتاب (نظم درر السمطين) ص 175: ولدت و قريش
تبني الكعبه.
وروي الطبري في ذخائر العقبي ص 53 عن ابن عباس: ولدت فاطمه و قريش تبني البيت و رسول (صلي الله عليه و آله) ابن خمس و ثلاثين سنه.
و قال أبو الفرج في كتاب (مقاتل الطالبيين) ص 30: كام مولد فاطمه (عليهاالسلام) قبل النبوه و قريش حينئذ تبني الكعبه.
و قال المجلسي في البحار ج 43 ص 213: أن عبدالله بن الحسن دخل علي هشام بن عبدالملك و عنده الكلبي، فقال هشام لعبدالله بن الحسن:
يا محمد أبامحمد، كم بلغت فاطمه بنت رسول الله من السن؟
فقال: بلغت ثلاثين.
فقال للكلبي: ما تقول؟
قال: بلغت خمسا و ثلاثين.
فقال هشام لعبدالله: أتسمع ما يقول الكلبي؟!
فقال عبدالله:
يا اميرالمؤمنين، سلني عن امي فأنا أعلم بها، و سل الكلبي عن امه فهو أعلم بها.
[ صفحه 41]
و لكن أكثر العلماء الاماميه مثل: ابن شهر آشوب في المناقب ج 3 ص 357، و الكليني في اصول الكافي ج 1 ص 458، و المجلسي في بحارالانوار ج 43 ص 6، و حياه القلوب ج 2 ص 149، و المحدث القمي في منتهي الآمال ج 1 ص 94، و محمد تقي سيهر في ناسخ التواريخ ص 17، و علي بن عيسي في كشف الغمه ج 2 ص 173، و الطبري في دلائل الامامه ص 10، و الفيض الكاشاني في الوافي ج 1 ص 173.
قال هؤلاء العلماء و غيرهم:
ان فاطمه (عليهاالسلام) ولدت بعد البعثه بخمس سنين، و عمدتهم في ذلك ما روي عن الأئمه الاطهار (عليهم السلام).
روي أبوبصير عن ابي عبدالله جعفر بن محمد (عليه السلام) قال:
«ولدت فاطمه في جمادي الآخره يوم العشرين سنه
خمس و أربعين من مولد النبي (صلي الله عليه و آله)، فأقامت بمكه ثمان سنين، و بالمدينه عشر سنين، و بعد وفاه أبيها خمسه و سبعين يوما، و قبضت في جمادي الآخره يوم الثلاثاء لثلات خلون منه سنه احدي عشره من الهجره» [40] .
و لا يخفي علي القاري الكريم أن وفاه الزهرا في 3 جمادي الآخره لا تتناسب مع روايه بقائها (75) يوما بعد أبيها، و تناسب روايه (95) يوما أكثر.
لذا لا يبعد أن يكون لفظ (تسعين) في الروايه مصحفا عن لفظ (سبعين).
و عن حبيب السجستاني قال: سمعت أباجعفر (عليه السلام) يقول:
«ولدت فاطمه بنت محمد (عليهاالسلام) بعد مبعث رسول الله (صلي الله عليه و آله) بخمس سنين، و توفيت و لها ثماني عشره سنه، و خمسه و سبعون يوما» [41] .
[ صفحه 42]
وروي أنها تزوجت و عمرها تسع سنوات [42] .
عن سعيد بن المسيب قال:
فقلت لعلي بن الحسين (عليه السلام) فمتي زوج رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاطمه من علي (عليهاالسلام)؟
فقال: «بالمدينه بعد الهجره بسنه، و كان لها يومئذ تسع سنين».
يستفاد من هذه الروايات و أضرابها أن ولادتها (عليهاالسلام) كانت بعد البعثه بخمس سنين.
روي صاحب كشف الغمه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
«ولدت فاطمه بعد ما أظهر الله نبوه و أنزل عليه الوحي بخمس سنين، و قريش تبني البيت، و توفيت و لها ثمانيه عشر عاما و خمسه و سبعون يوما» [43] .
و هذه الروايه- كما تلاحظ- تنطوي علي تناقض داخلي، فهي تقول:
انها ولدت بعد البعثه بخمس سنين، و توفيت و عمرها ثمانيه عشر سنه، و في نفس الوقت تقول: انها ولدت
و قريش تبني البيت، و انما كان بناء البيت قبل البعثه بخمس سنين هو الثابت و الصحيح.
و لا يمكن الجمع بين القولين الا أن يقال:
أن هناك اشتباه وقع في الروايه، كان تكون كلمه (قبل البعثه) بدلت اشتباها بكلمه (بعد از البعثه)، و أو أن جمله (و قريش تبني البيت) اضافه من الراوي.
و قال الكفعي في المصباح: كان مولد فاطمه (عليهاالسلام) في اليوم العشرين من جمادي الآخره (يوم الجمعه) سنه اثنتين من المبعث.
اتضح مما سبق أن تاريخ ولاده الزهراء (عليهاالسلام)، مورد اختلاف
[ صفحه 43]
بين علماء الاسلام، و لكن أهل البيت أدري بالذي فيه، و أبناء الزهراء الأئمه الأطهار (عليهم السلام) أعرف بتاريخ ولاده امهم و المروي عنهم أنها ولدت لخمس سنين بعد البعثه، و قولهم علي أقوال علماء العامه.
قد يقال: توفيقت خديجه بعد عشر سنين من البعثه، و عمرها 65 سنه، و علي القول بأن فاطمه ولدت بعد خمس سنين من البعثه، يكون حمل خديجه بها في سن التاسعه و الخمسين، و هذه النتيجه غريبه لا يمكن تصديقها!
نقول في مقام الجواب علي هذا الاشكال:
أولا: لا نسل أن عمر خديجه حين الوفاه 65 سنه، و انما علي قول ابن عباس: (انه (صلي الله عليه و آله) تزوجها و هي أبنه ثماني و عشرين سنه) [44] . فيكون عمرها عند الحمل بفاطمه 48 سنه.
و قول ابن عباس مقدم علي غيره لأنه أقرب برسول الله (صلي الله عليه و آله) و أعرف بشؤونه الشخصيه من غيره.
و علي هذا يكون عمر خديجه حين البعثه 43 سنه، و حين ولاده فاطمه- أي في السنه الخامسه من البعثه- 48 سنه،
و الحمل في مثل هذه السنين لا يعد خارقا للعاده.
ثانيا: لو لم نقبل روايه ابن عباس، و قلنا: انها تزوجت في سن الأربعين يكون حملها بفاطمه في سن 59 و هذا الأمر ليس محالا أيضا؛ لأن الفقهاء و العلماء قالوا: ان القرشيه تري دم الحيض، و يمكن أن تحمل في هذه السنين- مع ندرته- ممكن و له شواهد في الحاضر و الماضي [45] .
[ صفحه 44]
و بعد كل ما نذكر بان الاختلاف في تاريخ ولادتها (عليهاالسلام) يسري الي تاريخ زواجها و وفاتها أيضا.
فلو قلنا: ان ولادتها قبل البعثه بخمس سنين، يلزم أن يكون عمرها الشريف حين الزواج 18 سنه و عند الوفاه 28 سنه، و لو قلنا أن ولادتها بعد البعثه بخمس سنين، يلزم أن يكون عمرها الشريف حين الزواج تسع سنين تقريبا، و عند الوفاه ثمانيه عشر سنه [46] .
[ صفحه 45]
تعتبر تسميه المولود، من سنن الله تعالي في خلقه و قد سمي الله تبارك و تعالي آدم و حواء (عليهماالسلام) يوم خلقهما، و قال تعالي: و علم آدم الأسماء ملها و قد سار الناس علي هذه السنه و السيره، و تفننوا في وضع الأسماء علي مواليدهم نظرا للظروف و الأذواق و المستويات المختلفه باختلاف العصور و الاجيال.
أما أولياء الله فانهم يعيرون التسميه اهتماما كبيرا و يهدفون من وارئه غايه عظيمه لأن الانسان ينادي و يدعي باسمه، و للاسم تأثير عميق في نفسه و شتان بين الأسم الحسن الجميل ذي المدلول الطيب، و بين الاسم السيي ء القبيح.
فهذه امرأة عمران ولدت بنتا فقالت: (اني سميتها مريم) كما اختار الله سبحانه
و تعالي لنبيه يحيي (عليه السلام) هذا الاسم قبل أن تنعقد نطفته، يقول تبارك و تعالي في كتابه المجيد: (يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيي لم نجعل له من قبل سميا).
فاذا عرفت هذا هلم معي لنستعرض طائفه كبيره من الأحاديث التي تذكر اسم السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و وجه التسميه لها، و انها انما سميت بفاطمه لاسباب و مناسبات موضوعيه، روعي فيها مدلول الاسم و علاقته بالسمي و صدقه عليه (مصداقيته).
[ صفحه 46]
عدد أبوجعفر القمي اسماء فاطمه (عليهاالسلام) علي ما نقله عنه ابن شهر آشوب في مناقبه و هي كمايلي:
فاطمه، البتول، الحصان، الحره، السيده، العذراء، الزهراء، الحوراء، المباركه، الطاهره، الزكيه، الراضيه، المرضيه، المحدثه، مريم الكبري، الصديقه الكبري.
و يقال لها في السماء:
النوريه، السماويه، الحانيه [47] .
و قال الامام الصادق (عليه السلام): «(لجدتي) فاطمه تسعه أسماء عند الله عزوجل:
فاطمه، الصديقه، الزهراء، الطاهره، الزكيه، الراضيه، المرضيه، المباركه، المحدثه».
و كانت تلقب بالزهراء و البتول.
و كانت تكني بام الحسن و الحسين و ام أبيها، و ام الأئمه.
فاطمه
قال النبي (صلي الله عليه و آله): «شق الله لك يا فاطمه اسما من أسمائه، فهو الفاطر و أنت فاطمه» [48] .
و في الجزء العاشر من بحارالأنوار عن الامام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:
[ صفحه 47]
«لما ولدت فاطمه (عليهاالسلام) أوحي الله- عزوجل- الي ملك فأنطق به لسان النبي، فسماها فاطمه، ثم قال: اني فطمتك بالعلم، و فطمتك عن الطمث».
عن الامام الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام): قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا فاطمه أتدرين لم سميت فاطمه؟».
قال علي (عليه السلام): «لم سميت؟».
قال: «لأنها
فطمت هي و شيعتها- و في روايه: و ذريتها- من النار (يوم القيامه)».
و قال علي (عليه السلام): «انما سميت فاطمه لأن الله فطم من أحبها عن النار» [49] .
و قال النبي (صلي الله عليه و آله): «انما سميت ابنتي فاطمه لأن الله فطمها و فطم محبيها عن النار» [50] .
قال الصادق (عليه السلام): «تدري أي شي ء تفسير فاطمه؟ قال: فطمت من الشر».
و يقال: انما سميت فاطمه لأنها فطمت عن الطمث [51] .
عن محمد بن مسلم الثقفي قال: سمعت أباجعفر (عليه السلام) يقول: «لفاطمه (عليهاالسلام) و قفه علي باب جهنم، فاذا كان يوم القيامه كتب بين عيني كل رجل: مؤمن أو كافر، فيؤمر بمحب قد كثر ذنوبه الي النار، فتقرأ فاطمه بين عينيه محبا فتقول: الهي و سيدي سميتني فاطمه و فطمت بي من تولاني و تولي ذريتي من النار، و وعدك الحق، و أنت لا تخلف الميعاد».
فيقول الله عزوجل: «صدقت يا فاطمه، اني سميتك فاطمه، و فطمت
[ صفحه 48]
بك من أحبك و تولاك و أحب ذريتك و تولاهم من النار و وعدي الحق و أنا لا اخلف الميعاد....» الحديث [52] .
و عن الامامين الرضا و الجواد (عليهماالسلام) قالا: «سمعنا المأمون (العباسي) يحدث، عن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن جده قال ابن عباس لمعاويه: أتدري لم سميت فاطمه؟
قال: لا.
قال: لأنها فطمت هي و شيعتها من النار، سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله؟) يقول: و لو لا أن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب تزوجها لما كان لها كفؤ الي يوم القيامه علي وجه الأرض آدم فمن دونه.
و قد وردت أحاديث كثيره عن
النبي عن طريق أئمه أهل البيت (عليهم السلام) و أعلام الحفاظ و الرواه في صحاحهم و مسانيدهم في مغزي تمسيه فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و هم يؤكدون أن تسميتها بفاطمه لأن الله- سبحانه و تعالي- فطمها و ذريتها و شعيتها و محبيها من النار يوم القيامه كما فطمها من الطمث و الدنس و عصمها من المعاصي. منهم:
الخوارزمي في (مقتل الحسين) (عليه السلام) ص 51.
و الطبري في (ذخائر العقبي).
و القندوزي في (ينابيع الموده) ص 193.
الصفوي في (نزهه المجالس).
و احقاق الحق ج 10 و 19 نقلا عن مصادر العامه و غيرهم مما يطول شرحه.
و قال المولي محمد علي الأنصاري (رحمه الله):
ان اختلاف الأخبار في بيان وجه التسميه اشاره الي عدم انحصاره في
[ صفحه 49]
شي ء؛ أو كون معناها معني كليا يشتمل علي وجوه كثيره فيحتمل أن يكون ملحوظا في وجه التسميه امور علي حده أيضا، كفطمها عن الأخلاق الرذيله بالأخلاق الفاضله، عن الأحوال الخبيثه بالأحوال الطيبه الزكيه، و عن الأفعال القبيحه بالأفعال الحسنه، و عن الظلمانيه بالنورانيه، و عن السهو و الغفله بالذكر و المعرفه، و عن عدم العصمه بالمعصوميه، و بالجمله عن جميع جهات النقيصه بالكمالات العقلانيه و الروحانيه و النفسانيه و لوازمها الظاهريه و الباطنيه. فليزم حينئذ أن تكون لها العصمه الكبري في الدنيا و الآخره فتكون حينئذ معصومه تقيه وليه صديقه مباركه طاهره الي آخر الأسماء المذكوره في الروايه و غير الروايه [53] .
و لهذا فان المعصومين (عليهم السلام) يهتمون بهذا الاسم الشريف اهتماما بالغا و يكرمونه اكراما عظيما و اذا سمعوا به يبكون و يتأسفون، و يحبون التي تسمي به، و يحبون بيتا يكون فيه اسم
فاطمه.
فقد ورد عن فضاله بن أيوب، عن السكوني قال:
دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) و أنا مغموم مكروب فقال لي: «يا سكوني ما غمك؟».
فقلت: ولدت لي أبنه.
فقال: «يا سكوني، علي الأرض ثقلها، و علي الله رزقها، تعيش في غير أجلك، و تأكل من غير رزقك»، فسري والله عني.
فقال: «ما سميتها؟».
قلت: فاطمه.
قال: «آه آه آه»، ثم وضع يده علي جبهته- الي أن قال-: «أما اذا سميتها فاطمه فلا تسبها و لا تلعنها و لا تضربها».
[ صفحه 50]
و عن بشار المكاري قال: دخلت علي أبي عبدالله (عليه السلام) بالكوفه و قد قدم له طبق رطب طبرزد [54] و هو يأكل فقال: «يا بشار أدن فكل».
فقلت: هناك الله و جعلني فداك، قد أخذتني الغيره من شي ء رأيته في طريقي! أوجع قلبي، و بلغ مني....
فقال لي: «بحقي لما دنت فأكلت».
قال: فدنوت فأكلت فقال لي: «حديثك؟».
قلت:: رأيت جلوازا [55] يضرب رأس امرأه و يسوقها الي الحبس، و هي تنادي بأعلي صوتها: المستغاث بالله و رسوله، و لا يغيثها أحد.
قال: «و لم فعل بها ذلك؟».
قال: سمعت الناس يقولون انها عثرت فقالت: (لعن الله ظالميك يا فاطمه)، فارتكب منها ما ارتكب.
قال: فقطع الأكل و لم يزل يبكي حتي ابتل منديله و لحيته و صدره بالدموع، ثم قال: «يا بشار، قم بنا الي مسجد السهله فندعوا الله- عزوجل- و نسأله خلاص هذه المرأه».
قال: و وجه بعض الشيعه الي باب السلطان، و تقدم اليه بأن لا يبرح الي أن يأتيه رسوله، فان حدث بالمرأه حدث صار الينا حيث كنا.
قال: فصرنا الي مسجد السهله، و صلي كل واحد
منا ركعتين، ثم رفع الصادق (عليه السلام) يده الي السماء و قال: أنت الله- الي آخر الدعاء-.
قال: فخر ساجدا لا أسمع منه الا النفس، ثم رفع رأسه.
فقال: «قم، فقد اطلقت المرأه».
قال: فخرجنا جميعا فبينما نحن في بعض الطريق اذ لحق بنا الرجل الذي
[ صفحه 51]
و جهناه الي باب السلطان، فقال له (عليه السلام): «ما الخبر؟».
قال: قد اطلق عنها.
قال: «كيف كان اخراجها؟».
قال: لا أدري، و لكنني كنت واقفا علي باب السلطان، اذ خرج حاجب فدعاها و قال لها: ما الذي تكلمت؟ قالت: عثرت فقلت: لعن الله ظالميك يا فاطمه، ففعل بي ما فعل.
قال: فأخرج مائتي درهم و قال: خذي هذه واجعلي الأمير في حل؛ فأبت أن تأخذها؛فلا رأي ذلك منها دخل، و أعلم صاحبه بذلك، ثم خرج فقال: انصر في الي بيتك فذهبت الي منزلها.
فقال أبوعبدالله (عليه السلام): «أبت أن تأخذ مائتي درهم؟».
قال: نعم وهي والله محتاجه اليها.
قال: فأخرج من جيبه صره فيها سبعه دنانير و قال: «اذهب أنت بهذه الي منزلها فأقرأها مني السلام و ادفع اليها هذه الدنانير».
قال: فذهبنا جميعا، فأقرأناها منه السلام.
فقالت: بالله أقرأني جعفر بن محمد السلام؟
فقلت لها: رحمك الله، والله أن جعفر بن محمد أقرأك السلام...
فوقعت مغشي عليها. قال: فصبرنا حتي أفاقت، و قالت: أعدها علي، فأعدناها عليها حتي فعلت ثلاثا، ثم قلنا لها: خذي ما أرسل به اليك، و أبشري بذلك، فأخذته منا و قالت: سلوه يستوهب أمته من الله، فما أعرف أحد توسل به الي الله أكثر منه و من آبائه و أجداده (عليهم السلام).
قال: فرجعنا الي أبي عبدالله (عليه السلام) فجعلنا نحدثه بما كان
منها، فجعل يبكي و يدعو لها، ثم قلت: ليت شعري متي أري فرج آل محمد (عليهم
[ صفحه 52]
السلام) [56] ....
و عن سليمان الجعفري قال: سمعت أباالحسن (عليه السلام) يقول:
«لا يدخل الفقر بيتا فيه اسم محمد أو أحمد أو علي أو الحسن أو الحسين أو جعفر أو طالب أو عبدالله أو فاطمه من النساء» [57] .
البتول
قال ابن المنظور في لسان العرب: سئل أحمد بن يحيي عن فاطمه (رضوان الله عليها) بنت سيدنا رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، لم قيل لها: البتول؟
فقال: «لا نقطاعها عن نساء أهل زمانها و نساء الامه عفافا و فضلا و دينا و حسبا».
و قيل: لا نقطاعها عن الدنيا الي الله- عز و جل-.
و قيل: تبتيل خلقها انفراد كل شي ء عنها بحسنه لا يتكل بعضه علي بعض. قال ابن الأعرابي: المبتله من النساء: الحسنه الخلق، لا يقصر شي ء عن شي ء، لا تكون حسنه العين سمجه الأنف، و لا حسنه الأنف سمجه العين، و لكن تكون تامه.
و قال ابن الأثير في نهايته: و امرأه بتول: منقطعه عن الرجال لا شهوه لها فيهم، و بها سميت مريم ام المسيح (عليهاالسلام).
سميت فاطمه (البتول) لا نقطاعها عن نساء زمانها فضلا و دينا و حسبا و قيل لا نقطاعها عن الدنيا الي الله تعالي.
و قال الطريحي في مجمع البحرين: و البتول فاطمه الزهراء بنت رسول الله
[ صفحه 53]
(صلي الله عليه و آله) قيل: سميت بذلك لا نقطاعها الي الله و عن نساء زمانها فضلا و حسبا و دينا.
وروي عن النبي (صلي الله عليه و آله): «سميت فاطمه بتولا
لأنها و تبتلت و تقطعت عما هو معتاد العورات في كل شهر، و لأنها ترجع كل ليله بكرا. و سميت مريم بتولا لأنها ولدت عيسي بكرا» [58] .
و عنه (صلي الله عليه و آله): «و انما سميت فاطمه (البتول) لأنها تبتلت من الحيض و النفاس» [59] .
و عن علي (عليه السلام) قال: «ان النبي (صلي الله عليه و آله) سئل: ما البتول؟ فانا سمعناك- يا رسول الله- تقول: ان مريم بتول، و فاطمه بتول؟
فقال: البتول التي لن تر حمره قط- أي لم تحض- فان الحيض مكروه في بنات الأنيا» [60] .
المباركه
عن عبدالله بن سليمان قال: قرأت في الأنجيل في وصف النبي (صلي الله عليه و آله): نكاح النساء، ذو النسل القليل، انما نسله من مباركه لها بيت في الجنه،لا صخب فيه و لا نصب، يكفلها في آخر الزمان كما كفل زكريا امك، لها فرخان مستشهدان.
و قال ابن المنظور في لسان العرب: البركه: النماء و الزياده... و عن الزجاج:المبارك: ما يأتي من قبله الخير الكثير.
و هي عليهاالسلام خير كثير و هي الكوثر.
[ صفحه 54]
المحدثه
المحدث- بالفتح-: أي ملهم، أو صادق الظن، و هو من القي في نفسه شي ء علي وجه الالهام و المكاشفه من الملأ الأعلي، أو من يجري الصواب علي لسانه بلا قصد، أو تكلمه الملائكه بلا نبوه، أو من اذا رأي رأيا أو ظن ظنا أصاب، كأنه حدث به و القي في روعه من عالم الملكوت فيظهر علي نحو ما وقع له. و هذه منزله جليله من منازل الاولياء [61] .
عن اسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسي بن زيد علي قال: سمعت
أباعبدالله (عليه السلام) يقول: «انما سميت فاطمه محدثه لأن الملائكه كانت تهبط من السماء فتنايها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول:
يا فاطمه ان الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك علي نساء العالمين.
يا فاطمه أقنتي لربك و اسجدي و أركعي مع الراكعين [62] . فتحدثهم و يحدثونها.
فقالت لهم: أليست المفضله علي نساء العالمين مريم بنت عمران؟
فقالوا: ان مريم كانت سيده نساء عالمها، و أن الله جعلك سيده نساء عالمك و عالمها، و سيده نساء الأولين و الآخرين» [63] .
و عن عبدالله بن الحسن المؤدب، عن أحمد بن علي الأصفهاني، عن ابراهيم بن محمد الثقفي، عن اسماعيل ابن بشار قال: حدثنا علي بن جعفر الحضرمي بمصر منذ ثلاثين سنه. قال: حدثنا سليمان. قال: محمد بن أبي بكر
[ صفحه 55]
لما قرأ (و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي) [64] ، و لا محدث.
قلت: و هل يحدث الملائكه، الا الأنبياء؟
قال: ان مريم لم تكن نبيه و كانت محدثه، و ام موسي بن عمران كانت محدثه و لم تكن نبيه، و ساره امرأه ابراهيم قد عاينت الملائكه فبشروها باسحاق، و من وراء اسحاق يعقوب، و لم تكن نبيه، و فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله)، كانت محدثه و لم تكن نبيه [65] .
الزهراء
عن أبي هاشم العسكري قال: سألت صاحب العسكر (عليه السلام): لم سميت فاطمه (الزهراء) فقال: «كان وجهها يزهر لأميرالمؤمنين (عليه السلام) من أول النهار كالشمس الضاحيه، و عند الزوال كالقمر المنير، و عند غروب الشمس كالكوكب الدري» [66] .
عن ابن عماره عن أبيه قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن فاطمه لم سميت (زهراء)؟
فقال: «لأنها
كانت اذا قامت غفي محرابها زهر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض» [67] .
الراضيه
ان فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) كانت راضيه بما قدر لها من مراره الدنيا و مشقاتها و مصائبها و نوائبها.
[ صفحه 56]
و قال المولي محمد علي الأنصاري:
و اطلاق الرضيه لرضاها عن الله و رسوله حين ذهبت الي النبي (صلي الله عليه و آله) فطلبت منه خادمه و قالت: لا اطيق علي شدائد أشغال البيت.
فعلمها النبي (صلي الله عليه و آله) تسبيح فاطمه و بشرها بثوابه.
فقالت ثلاثا: رضيت عن الله و رسوله.
فرجعت الي بيتها فقالت: طلبت من أبي خير الدنيا فأعطاني خير الآخره.
أو لرضاها عن الله تعالي فيما أعطاها من القرب و المنزله و طهاره الطينه و غير ذلك من المراتب العاليه في الدنيا و البرزخ و الآخره من حيث الجاه و المنزله و النعمه و الشرف و الفضيله.
أو لرضاها عنه تعالي في جعل الشفاعه الكبري بيدها من الانتقام من قتله ولدها في الدنيا و الآخره [68] .
و عن جابر بن عبدالله قال: دخل رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي فاطمه و هي تطحن بالرحي و عليها كساء من حمله الابل فلما نظر اليها قال:
«يا فاطمه تعجلي فتجرعي مراره الدنيا لنعيم الآخره غدا» فأنزل الله و (لسوف يعطيك ربك فترضي) [69] .
المرضيه
و هي المرضيه لأن جميع أعمالها و أفعالها مرضيه عند الله و عند رسوله (صلي الله عليه و آله)، ف- (رضي الله عنهم و رضوا عنه [70] آيه في شأنها، (ارجعي الي
[ صفحه 57]
ربك راضيه مرضيه) [71] حديث عنها (عليهاالسلام).
و قد ذكر في تزويجها (عليهاالسلام) أنها سألت رسول الله (صلي الله عليه و آله) خادما...الي أن قال: ثم غزا رسول الله (صلي الله عليه و آله) ساحل البحر فأصاب سبيا، فقسمه، فأمسك امراتين أحد هما شلبه و الاخري دخلت في السن ليست بشبابه، فبعث الي فاطمه، و أخذ بيد المرأه فوضعها بيد فاطمه و قال: يا فاطمه هذه لك و أوصاها بها و قال: فاني رأيتها تصلي و ان جبرئيل نهاني أن أضرب المصلين، و جعل رسول الله (صلي الله عليه و آله) يوصيها بها. فلما رأت فاطمه (عليهاالسلام) ما يوصيها بها التفتت الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قالت: «يا رسول الله، علي يوم و عليها يوم».
ففاضت عينا رسول الله (صلي الله عليه و آله) بالبكاء و قال: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [72] ، (ذريه بعضها من بعض و الله سميع عليم) [73] ، و الظاهر انها كانت المومنه فضه والله العالم.
الطاهره
عن أبي جعفر، عن آبائه (عليهم السلام) قال:
«انما سميت فاطمه بنت محمد (صلي الله عليه و آله) (الطاهره) لطهارتها من كل دنس، و طهارتها من كل رفث، و ما رأت قط يوما حمره و لا نفاسا [74] .
و عن الصادق (عليه السلام) قال:
«ان الله حرم النساء علي علي ما دامت فاطمه حيه، لأنها طاهره لا تحيض» [75] .
[ صفحه 58]
و قال العلامه الأميني (رحمه الله): ان سد الأبواب الشارعه في المسجد كان لتطهيره عن الأدناس الظاهريه و المعنويه، فلا يمر به أحد جنبا، و لا يجنب فيه أحد و أما ترك بابه (صلي الله عليه و آله): و باب أميرالمومنين (عليه السلام) فلطهارتهما عن كل رجس و دنس
بنص آيه التطهير.
و قوله (صلي الله عليه و آله): «ألا ان مسجدي حرام علي كل حائض من النساء و كل جنب من الرجال الا علي محمد و أهل بيته: علي و فاطمه و الحسن و الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)» [76] .
و قوله (صلي الله عليه و آله): «ألا لا يحل هذا المسجد لجنب و لا لحائض الا لرسول الله و علي و فاطمه و الحسن و الحسين، ألا قد بينت لكم الأسماء أن لا تضلوا» [77] ....
فزبده المخض من هذه كلها أن ابقاء ذلك الباب و الأذن لأهله بما أذن الله لرسوله مما خص به مبتن علي نزول آيه التطهير النافيه عنهم كل نوع من الرجاسه [78] .
الصديقه
الصديقه: فعليه للمبالغه في و الصدق و التصديق، أي كانت كثيره التصديق لما جاء به أبوها (صلي الله عليه و آله)، و كانت صادقه في جميع أقوالها، مصدقه أقوالها بأفعالها، و هي معني العصمه، و لاريب في عصمتها (صلوات الله عليها) لدخولها في الذين نزلت فيهم آيه التطهير باجماع الخاصه و العامه، و الروايات المتواتره من الجانبين [79] .
[ صفحه 59]
عن علي بن جعفر، عن أخيه، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «ان فاطمه (عليهاالسلام) صديقه شهيده» [80] .
و قال الصادق (عليه السلام): «و هي الصديقه الكبري، و علي معرفتها دارت القرون» [81] .
و عن النبي (صلي الله عليه و آله) في حديث طويل:
«يا علي: اني قد أوصيت فاطمه بأشياء و أمرتها أن تلقيها اليك، فأنفذها، فهي الصادقه الصدوقه، ثم ضمها اليه و قبل رأسها و قال: فداك أبوك يا فاطمه» [82] .
و عن مفضل بن عمر
قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): من غسل فاطمه (عليهاالسلام)؟
قال: ذاك أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فكأنما استضقت (استفظعت) ذاك من قوله، فقال لي: كأنك ضقت مما أخبرتك به؟
فقلت: قد كان ذلك جعلت فداك؟
فقال: «لا تضيقن فانها صديقه لم يكن يغسلها الا صديق، أما علمت أن مريم لم يغسلها الا عيسي؟» [83] الحديث.
قال العلامه ابن شهر آشوب (رحمه الله):
و كناها: ام الحسن، و ام الحسين، و ام المحسن، و ام الأئمه، و ام
[ صفحه 60]
أبيها [84] .
و قال العلامه الأربلي (رحمه الله): كان النبي (صلي الله عليه و آله) يعظم شأنها، و يرفع مكانها، و كان يكنيها بام أبيها [85] .
و قال المولي الأنصاري (رحمه الله): و ذكر بعضهم أن من جمله كناها: ام الخيره،و ام المؤمنين، و ام الأخيار، و ام الفضائل، و ام الأزهار، و ام العلوم، و ام الكتاب [86] .
و قال في (نخبه البيان): فمنها ام أسماء، ذكره الخوارزمي في مقتله، و لعله لتعدد اسمائها الحاكيه عن صفاتها العليا و مناقبها العظمي [87] .
لماذا كنيا (ام أبيها)؟!
قد يكون السر في تكنيتها بام أبيها هو أنه (صلي الله عليه و آله) كان يعاملها (عليهاالسلام) معامله الولد امه، و أنها تعامله معامله الام ولدها، كما أن تاريخ يؤيذ ذلك و الأخبار تعضده، ففي الأخبار الكثيره أنه (صلي الله عليه و آله) كان يقبل يدها و يخصها بالزياره عند كل عوده الي المدينه و يودعها منطلقا عنها في كل أسفاره و رحلاته، و كأنه يتزود من هذا النبع الصافي عاطفه لسفره كما يتزود الولد من امه، و نلاحط من جهه اخري أن فاطمه (عليهاالسلام) تحتضنه و تضمد جروحه، و تخفف آلامه كالام المشفقه الرؤوم. و خلاصه القول: فان كل ما
يجده الولد في امه من العطف و الرقه و الشفقه و الأنس، فهو (صلي الله عليه و آله) يجده في فاطمه (عليهاالسلام) و كأنها امه [88] .
[ صفحه 61]
و نقل المولي الأنصاري (رحمه الله): ان النكته في هذه التكنيه انما هي محض اظهار للمحبه، فان الانسان اذا أحب ولده أو غيره و أراد أن يظهر في حقه غايه المحبه قال: (يا اماه) في خطاب المؤنث و (يا أباه) في خطاب المذكر، تنزيلا لهما بمنزله الام و الأب في المحبه و الحرمه علي ما هو معروف في العرف و العاده [89] .
أو أن الله- عز و جل- لما شرف و كرم أزواج النبي (صلي الله عليه و آله) بتكنيتهن بامهات المؤمنين صرن في معرض أن يخطر ببالهن أنهن أفضل النساء حتي من بضعه المصطفي فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، و لأجل ذلك كناها أبوها بام أبيها صونا عن هذا الخواطر الوساوس، يعني يا نساء النبي أن كنتن أمهات المؤمنين ففاطمه (عليهاالسلام) ام النبي ام المصطفي، ام الرسول، ام أبيها [90] .
و هذه منظومه تضمنت أكثر أسماء الزهراء (عليهاالسلام) و القابها و نعوتها التي نعتها بها العلماء و الخطباء:
ألقاب بنت المصطفي كثيره
نظمت منها نبذه يسيره
نفسي فداها و فدا أبيها
و بعلها الولي مع بنيها
سيده انسيه حوراء
نوريه حانيه عذراء
كريمه رحيمه شهيده
عفيفه قانعه رشيده
شريفه حبيبه محترمه
صابره سليمه مكرمه
صفيه عالمه عليمه
معصومه مغصوبه مظلومه
ميمونه منصوره محتشمه
جميله جليله معظمه
حامله البوي بغير شكوي
حليفه العباده و التقوي
حبيبه الله و بنت الصفوه
ركن الهدي و آيه النبوه
[ صفحه 62]
شفيعه العصاه ام الخير
تفاحه الجنه و المطهره
سيده النساء بنت المصطفي
صفوه ربها و موطن الهدي
قره عين المصطفي و بعضعته
مهجه قلبه كذا بقيته
حكيمه فهيمه عقيله
محزونه مكروبه عليله
عابده زاهده قوامه
باكيه صابره صوامه
عطوفه رؤوفه حنانه
البره الشفيقه الأنانه
والده السبطين دوحه النبي
نور سماوي و زوجه الوصي
بدر تمام غره غراء
روح أبيها دره بيضاء
واسطه قلاده الوجود
دره بحر الشرف و الجود
وليه الله و سر الله
أمينه الوحي و عين الله
مكينه في عالم السماء
جمال الآباء شرف الأبناء
دره بحر العلم و الكمال
جوهره العزه و الجلال
قطب رحي المفاخر السنيه
مجموعه المآثر العليه
مشكاه نور الله و الزجاجه
كعبه الآمال لأهل الحاجه
ليله قدر ليله مباركه
ابنه من صلت به الملائكه
قرار قلب امها المعظمه
عاليه المحل سر العظمه
مكسوره الضلع الصدر
مغصوبه الحق خفي القبر [91]
الذريه هي الامتداد الطبيعي للانسان في هذه الدنيا الفانيه، و الانسان يسعي للحصول علي الذريه و تربيتها بحكم الغريزه التي فطره الله عليها.
و هذا من أسرار الكون التي تدفع الانسان للاحتفاظ بنسله و نوعه، و الا
[ صفحه 63]
أنقرضت البشريه و أنهي الموت وجودها عن وجه الأرض.
و الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) و زوجته خديجه كانا يتمنيان الولد الصالح. فخديجه التي
قدمت كل شي ء في سبيل الله و سلمت أمرها بلا أي قيد أو شرط الله و لرسوله، كانت تطمح الي ولد صالح من صلب محمد (صلي الله عليه و آله) ليكون ناصرا لرساله الدين، و حاميا لأهدافه الساميه، و حاملا لرايه الحق بعد وفاه أبيه.
و محمد (صلي الله عليه و آله) يعلم علم اليقين أن الموت حق، و أن أيامه المباركه و عمره الشريف محدود في هذه الدنيا، و لا يكفي لتحقيق آماله و الوصول الي أهدافه، لينجي البشريه التعيسه من مستنقع الضلال و براثن الجاهليه، فلا بد من عصبه اولي قوه و اولي بأس شديد تلي الأمز من بعده، و تكون من ذريته و نسله.
و لكن الأجل كان- للأسف- يعاجل أبناء محمد (صلي الله عليه و آله) و يوافيهم و هم صغار، فلم يبق منهم أحد، و هم عبدالله، و القاسم [92] ، فيحزن الرسول (صلي الله عليه و آله) و خديجه- لذلك- حزنا شديدا، و يفرح الاعداء و يشمتون و يظنون أن نسل محمد قد انقرض فينادونه بالابتر أحيانا [93] .
أنزل الله سبحانه سوره الكوثر:
بسم الله الرحمن الرحيم
(انا أعطيناك الكوثر فصل لربك و انحر ان شانئك هو الأبتر)
[ صفحه 64]
ردا علي أعداء رسوله (صلي الله عليه و آله)؛ و وفاء بوعده، والله لا يخلف الميعاد. و سرعان ما رزقه الله ذريه طاهره مباركه تنتهي اليها الفضائل، و تعبق بالجلال و الكمال، حينما ولدت الزهراء (عليهاالسلام)، و أشرق أفق الحياه بنور الولايه و شعاع الامامه، و بشر الرسول (صلي الله عليه و آله) بها، فغمرته السعاده و السرور، و انتشي قلبه بحمدالله، و
طفح البشر علي قسماته المباركه، و أطمأن و سكن لتحقيق وعد الله....
و حاشي لنبي الرحمه (صلي الله عليه و آله) أن يكون كأولئك السفهاء الجهله من رجال الجاهليه الذين (و اذا بشر أحدهم بالانثي ظل وجهه مسودا و هو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه علي هون ام يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) [94] .
كيف و هو رسول الله (صلي الله عليه و آله) الذي بعث لأمه كانت تأكل القد و تئد البنات بلا ذنب، و تري المرأه عيا و عوره، ليغير أفكارها، و يمحو آثارها، و يحارب عقائدها الباليه. و يقدم المرأه الي المجتمع لتتحمل مسؤولياتها، و تخوض عباب الحياه، و تؤدي وظائفها و مسؤولياتها التي انيطت بها بما يناسب طبيعتها الخاصه و تكوينها، و تكون عضوا فاعلا مؤثرا في الوسط الذي تعيش.
و قد أراد الله سبحانه أن يبين مكانه المرأه و قيمتها في الاسلام، فجعل ذريه النبي (صلي الله عليه و آله) في ابنته، و قدر أن يكون أئمه الدين و قاده الناس أجمعين منها.
و بذلك تهدمت صروح الجاهليه الرعناء التي اعتبرت المرأه عارا يجب التخلص منه، و وصمه لا بد من التنصل منها؛ و أنكرت أن تكون البنت من الذريه [95] .
[ صفحه 65]
ففي تفسير سوره الكوثر:
و القول الثالث: الكوثر أولاده. قالوا: لأن هذه السوره انما انزلت ردا علي من عابه (صلي الله عليه و آله) بعدم الأولاد، فالمعني أنه يعطيه نسلا يبقون علي مر الزمان، فأنظركم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلي منهم و لم يبق من بني اميه في الدنيا أحد يعبأ به! ثم
أنظركم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا (عليهم السلام) و النفس الزكيه و أمثالهم [96] .
و قال أيضا: انا اذا حملنا الكوثر علي كثره الاتباع أو علي كثره الأولاد و عدم انقطاع النسل كان هذا اخبارا عن الغيب، و قد وقع مطابقا له، فكان معجزا [97] .
و قال الآموسي في تفسير (ان شانئك هو الأبتر): الأبتر الذي لا عقب له حيث لا يبقي منه نسل و لا حسن ذكر، و أما أنت فتبقي ذريتك.. عليه دلاله علي أن أولاد البنات من الذريه [98] .
و يستفاد من كليهما أن فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) وسيله لكثره أولاده و بقاء نسله (صلي الله عليه و آله)، و أن ذريتها دريته و أولادها أولاده، و هذا من أعظم بركاتها (عليهاالسلام).
و قال العلامه الطباطبائي (رحمه الله): ان كثره ذريته (صلي الله عليه و آله) هي المراده وحدها بالكوثر الذي أعطاه النبي (صلي الله عليه و آله)، أو المراد بها الخير الكثير، و كثره الذريه مراده في ضمن الخير الكثير، و لو لا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله (ان شانئك هو الأبتر) خاليا عن الفائده.
و قد استفاضت الروايات أن السوره انما نزلت فيمن عابه (صلي الله عليه
[ صفحه 66]
و آله) بالأبتر بعدما مات ابناه القاسم، و عبدالله، و بذلك يندفع ما قيل: ان مراد الشأني بقول (أبتر) المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير، فرد الله عليه بأنه هو المنقطع من كل خير. و لما في قوله (انا أعطيناك) من الامتنان عليه (صلي الله عليه و آله) جي ء بلفظ المتكلم مع الغير الدال علي العظمه، و لما
فيه من تطييب نفسه الشريفه أكدت الجمله (ان) و عبر بلفظ الاعطاء الظاهر في التمليك و بالجمله لا تخلو من دلاله علي أن ولد فاطمه (عليهاالسلام) ذريته (صلي الله عليه و آله)، و هذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم، فقد كثرالله- تعالي- نسله بعده كثره لا يعادلهم فيها أي نسل آخر، مع ما نزل عليهم من النوائب، و أفني جموعهم من المقاتل الذريعه [99] .
و قال العلامه القزويني: و وجه المناسبه أن الكافر شمت بالنبي (صلي الله عليه و آله) حين مات أحد أولاده و قال: ان محمد أبتر، فان مات مات ذكره. فأنزل الله هذه السوره علي نبيه (صلي الله عليه و آله) تسليه له، كأنه- تعالي- يقول: ان كان ابنك قد مات فانا أعطيناك فاطمه، و هي و ان كانت واحده و قليله و لكن الله سيجعل هذا الواحد كثيرا [100] .
وروي عن النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «ان الله- عز و جل- جعل ذريه كل نبي في صلبه، و ان الله- عز و جل- جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب» [101] .
و قال (صلي الله عليه و آله) أيضا في حديث طويل: «يا فاطمه، ما بعث الله نبيا الا جعل له ذريه من صلبه، و جعل ذريتي من صلب علي، و لو لا علي ما كانت لي ذريه» [102] .
[ صفحه 67]
وروي الخطيب عن عبدالله بن عباس قال: كنت أنا و أبي العباس بن عبدالمطلب جالسين عند رسول الله (صلي الله عليه و آله) اذ دخل علي بن أبي طالب، فسلم فرد عليه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و بش به وقام
اليه و اعتنقه و قبل بين عينيه و أجلسه عن يمينه.
فقال العباس: يا رسول الله، أتحب هذا؟
فقال النبي (صلي الله عليه و آله): «يا عم رسول الله، والله الله أشد حبا له مني، ان الله جعل ذريه كل نبي في صلبه، و جعل ذريتي في صلب هذا» [103] .
عن حميد بن صالح، مرفوعا، عن الامام جعفر بن محمد الصادق قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن الحسين بن علي (عليهماالسلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «فاطمه بهجه قلبي، و ابناها ثمره فؤداي، و بعلها نور بصري، و الأئمه من ولدها أمناء ربي و حبله الممدود بينه و بين خلقه، من اعتصم به نجا، و من تخلف عنه هوي» [104] .
و عن الامام علي بن موسي الرضا قال: حدثني أبي موسي بن جعفر قال: حدثني أبي جعفر بن محمد الصادق قال: حدثني أبي محمد بن علي الباقر قال: حدثني أبي علي بن الحسين قال: حدثني أبي الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ان الله عز و جل ليغضب لغضب فاطمه، و يرضي لرضاها» [105] .
[ صفحه 68]
لما ولدت فاطمه (عليهاالسلام) تناولتها المرأه التي كانت بين يديها و غسلتها، و أخرجت خرقتين، فلفتها بواحده وقنعتها بالاخري ثم قالت: خذيها يا خديجه، طاهره مطهره زكيه ميمونه، بورك فيها و في نسلها. فتناولتها خديجه فرحه مسروره مستبشره، و ألقمتها ثديها فدر عليها و شربت، فنمت فاطمه ذلك النمو الرائع [106] .
نعم، أرضعت خديجه وليدتها العزيزه من لبن صدرها و لم تحرمها مما أعده الله لها- كما تصنع بعض الجاهلات من النساء- و ذلك
لأنها كانت تعلم، أو أنها سمعت من النبي (صلي الله عليه و آله)، أن لبن الام هو أفضل غذاء صحي يناسب الجهاز الهضمي للطفل الذي عاش تسعه أشهر في رحم امه، و شاركها في الهواء الذي تتنفسه، و الغذاء الذي تأكله، و الدم الذي يجري في عروقها، فلبن الام يوافق تركيبه الطفل الخاصه و لا مجال للغش فيه، و لا طريق للجراثيم و الميكروبات اليه.
قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): «ما من لبن رضع به الصبي أعظم بركه من لبن أمه» [107] .
و كانت تعلم (رضي الله عنها) ما للرضاعه من ثدي الام من أهميه بالغه في حياه الطفل، الذي يترعرع في أحضان الام و يستشعر الحب و الحنان؛ فباشرت هي برضاعه الزهراء (عليهاالسلام) و تربيتها، لترضعها لبنا من ينابيع الشرف و العز، و النجابه، و العلم، و الفضيله، و الصبر، و الشجاعه.
و هل سوي ثدي خديجه و صدرها الطاهر الحنون، يربي مثل الزهراء
[ صفحه 69]
(عليهاالسلام) مشعل النور و المعرفه، و معدن الشجاعه و الفضيله الطاهره الطهر، التي أينغت ثمار بساتين النبوه ببركه وجودها المقدس.
و لبن كل ام لا يضاهي لبن السيده خديجه لا بنتها الطاهره فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، الا النبي (صلي الله عليه و آله)، حينما كان يوجر اللبن لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو رضيع، بيده المباركه عندما كان يرضعه، و كذلك رضاعته (صلي الله عليه و آله) الحسنين من لسانه الطاهر، و ابهامه الميمون.
و قد تركت هذه الرضاعه أثرها البالغ و العميق في نفوسهم الطاهره صلوات الله عليهم، فجعلتهم نماذج فخر و مصدر كرامه و ابا للانسانيه جميعا.
[ صفحه 70]
ذكر العلماء
و المتخصصون أن البيئه و الاحداث التي تمر في المجمتع و الافكار التي يحملها الأبوان، و مشاعرم و عواطفهم و انفعالاتهم، تؤثر تأثيرا بليغا في حياه الطفل منذ ولادته.
و قد عاش المجتمع الاسلامي أحداثا خطيره و أوضاعا متأزمه في صدر الاسلام، و الزهراء (عليهاالسلام) في دور الرضاعه.
و لكي نجعل القاري الكريم في الصوره تماما، لا بد من استعراض سريع لهذه الفتره التي نمت فيها بعضه الرسول (صلي الله عليه و آله):
بعث النبي (صلي الله عليه و آله) و عمره 40 سنه، فانطلق لوحده بالدعوه المباركه ليقف بوجه الكفر العاملي و عباده الاصنام و الشرك، و يغالب المشاكل و المصاعب الخطيره، فبلغ بالدعوه سرا حفاظا علي الدعوه الوليده من الاعداء، حتي جاء أمر الله باعلان الدعوه و اقتحام صفوف الباطل (فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين انا كفيناك المستهزئين) [108] .
فأعلن الرسول (صلي الله عليه و آله) دعوته، و أول عمل قام به (صلي الله عليه و آله) هو دعوه أهله و عشيرته الي الاسلام و نبذ الشرك و عباده الأوثان، تنفيذا لقوله تعالي (و أنذر عشيرتك الأقربين) فجمعهم (صلي الله عليه و آله) و هم زهاء أربعين رجلا و أولم لهم وليمه المره تلو المره و أبلغهم رساله السماء التي و المحدثين في صحاحهم و مسانيدهم و تواريخهم و تكاد تكون متواتره.
و قد سبق أن ذكرنا مفصلا في كتابنا «علي في الكتاب و السنه ج 1» في تفسير الآيه 124 من سوره الشعراء ص 204 و كذلك في موسوعه «المصطفي
[ صفحه 71]
و العتره» الجزء الأول محمد المصطفي.
و دعا الناس الي الاسلام، و أخذ
عدد المسلمين يزداد يوما بعد يوم، وعدا أعداء الاسلام من أسلم و اتبع النبي (صلي الله عليه و آله) من أصحابه، فوثبت كل قبيله علي من فيها من مستضعفي المسلمين، فجعلوا يحبسونهم و يعذبونهم بالضرب و الجوع و تركهم و رمضاء مكه و كيهم بالنار، ليفتنوهم عن دينهم، فلما رأي رسول الله (صلي الله عليه و آله) ما يصيب أصحابه من البلاء قال:
«لو خرجتم الي أرض الحبشه حتي يجعل الله لكم فرجا و مخرجا مما أنتم فيه».
فخرج المسلمون و تركوا أرضهم و أموالهم، مخافه الفتنه، و فرارا الي الله بدينهم [109] .
فلما رأت قريش أن أصحاب الرسول (صلي الله عليه و آله) قاوموهم و تحملوا أذاه، و أن الاسلام أخذ يفشو و ينتشر في القبائل، و عجزوا عن صده، ائتمروا بينهم علي قتل الرسول (صلي الله عليه و آله).
فلما أحس أبوطالب بذلك انحاز الي شعبه، و اجتمع اليه بنو هاشم و بنو المطلب ليحموا الرسول (صلي الله عليه و آله) و كان حمزه عم النبي (صلي الله عليه و آله) يسل سيفه و يحرسه حتي الصباح.
فحاصرتهم قريش حصارا اقتصاديا شديدا، و كتبوا بينهم كتابا يتعاقدون فيه علي ان لا يبيعوهم و لا يبتاعوا منهم شيئا، فأقاموا علي ذلك سنتين أو ثلاثا حتي جهدوا، لا يصل الي أحدهم شي ء الا سرا، و الجوع يشتد بهم و يتعالي صراخ الأطفال الجياع أحينا.
في جو خطير موحش من هذا القبيل قضت الزهراء (عليهاالسلام)
[ صفحه 72]
شطرا من أيام الرضاعه في شعب أبي طالب، ثم فطمت من اللبن هناك، و درجت تمشي علي رمضاء الشعب، و تعلمت النطق و هي تسمع أنين
الجياع و صراخ الأطفال المحرومين، و بدأت تأكل في زمن الحرمان و الفاقه، و اذا ما استيقطت في هدأه الليل وجدت الحرس يدورون- بحذر و ترقب- حول أبيها يخافون عليه من غدر الاعداء، و السيوف المسلوله نومض أمام عينيها في حلكه الليل.
ثلاث سنين تقريبا و الزهراء (عليهاالسلام) في هذا السجن لا يربطها بالعالم الخارجي أي شي ء، و حينما أدركت سن الخامسه عادت الي البيت مع رسول الله (صلي الله عليه و آله) و بني هاشم، بعد أن تركوا الشعب و نجوا من المخمصه، و كانت الحياه الجديده بما فيها من النعم و الرزق و راحه البيت عالما جديدا علي الزهرا (عليهاالسلام) يبعث علي الفرحه و السرور.
[ صفحه 73]
و مما يذيب القلب حسره أن خديجه (عليهاالسلام) توفيت قبل مضي عام واحد علي خروج النبي (صلي الله عليه و آله) و صحبه من شعب أبي طالب [110] ، و الزهراء بعد لم تذق طعم الحياه، و تتنفس الصعداء و تتلمس الراحه، حين فجعت بوفاه أمها الرؤم، فأخذ هذا الحادث المفاجي منها مأخذا عظيما، و صدع روحها الشفيفه و مشاعرها الحساسه و صدمها صدمه ذوت لها زهور الأمل، و انهمرت دموعها الساخنه علي فقد امها الحبيبه، و هي تحبث عنها في كل مكان. فان يتم الام أعظم عاطفيا من يتم الأب لدي الطفل.
و جعلت تلوذ برسول الله (صلي الله عليه و آله) و تدور حوله و تقول: «أبه أين امي؟!» فنزل جبرئيل فقال له: «ربك يأمرك أن تقرأ فاطمه السلام و تقول لها: ان امك في بيت من قصب، لا تعب فيه و لا نصب» [111] .
[ صفحه 74]
سنين الطفوله معين يزود العمر بما يختزن من صدي الأحداث التي عاشها الطفل، و تترك بصمات واضحه علي حياته، و نؤثر علي سلوكه و نشاطه و شخصيته و عواطفه،و قد عاشت الزهراء (عليهاالسلام) الوقائع و الحوادث المره في طفولتها، و تركت آثارا علي روحها الشفيفه، و يمكن أن نذكر أهم تلك الآثار:
1- ان من يعيش مثل هذه الظروف القاسيه و الايام الصعبه، و تتخدش عواطفه منذ الطفوله بصدمات كبيره، ينشأ حزينا كئيبا دائم الهم. و قد ذكروا في أحوال فاطمه (عليهاالسلام) أنها كانت حزينه مغمومه دائما.
2- ان الزهراء (عليهاالسلام) التي كبرت في مثل هذا الجو المتشنج، و قضت أيام الرضاعه و الطفوله المبكره في السجن، و فتحت عينها علي
الحياه من خلال جدران المعتقل، و رأت بعيني الطفوله البريئه كيف يعذب أبوها و أصحابه روحيا و جسديا و هم يضحون و يؤثرون بكل شي ء، و يقاومون الضغوط و الصعوبات، من أجل الأهداف المقدسه.
ان مثل هذه تنشأ قويه صلبه لا تهزها الهزاهز، و لا تفر من الميدان لأول مشكله، و انما تقاوم بصلابه، و تتحمل السجن و التعذيب من أجل الوصول الي الاهداف النبيله.
3- ان فاطمه (عليهاالسلام) التي عاشت الفداء و التضحيه و الغزوف عن الدنيا، و تحمل الحرمان و المشاق، من أجل نشر دين الله، و نشر كلمه التوحيد، و رفع رايه العداله، و ارضي بكل شي ء من أجل نجاه البشريه و هدايه الانسانيه، بأبويها و صحبهم كانت تتوقع من الخلف الذين خلفوا أباها السير علي هداه، و الجهاد في سبيل تحقيق أهدافه المقدسه، و الاستقامه علي صراطه
[ صفحه 75]
المستقيم [112] .
توفي أبوطالب و خديجه في السنه العاشره من المبعث الشريف [113] ، فحزن النبي (صلي الله عليه و آله) لذلك حزنا شديدا، و سمي ذلك العام ب- (عام الأحزان) [114] ، لأنه فقد ناصريه و حامييه في مكه، شريكه حياته و وزيرت و ام أولاده (خديجه)، و سنده و مانعه (أباطالب).
فتغيرت حياته (صلي الله عليه و آله) في داخل البيت و خارجه، و اشتدت عليه قريش و وصلوا من أذاه بعد وفاه أبي طالب الي ما لم يكونوا يصلون اليه في حياته، حتي نثر بعضهم التراب علي رأسه، و حتي أن بعضهم طرح عليه رحم الشاه و هو يصلي.
فيعود الي البيت محزونا مكروبا، فيري وجه ابنته الشاحب الذابل، و عينيها الدامعتين علي فراق
امها، و ما تراه يجري علي أبيها من الأذي خارج البيت ففي مره رأت قريشا اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا: لو رأينا محمدا لقمنا اليه مقام رجل واحد و لنقتلنه. فدخلت (عليهاالسلام) علي النبي (صلي الله عليه و آله) باكيه و حكت مقالهم [115] .
و في ذات يوم نثر أحد المشركين التراب علي رأس رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فلما دخل رسول الله (صلي الله عليه و آله) بيته و التراب علي رأسه قامت اليه احدي بناته «فاطمه (عليهاالسلام)» تغسل عنه التراب و هي تبكي، و رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «يا بنيه، لا تبكي فان الله مانع
[ صفحه 76]
أباك» [116] .
و عن ابن عباس، ان النبي دخل الكعبه و افتتح الصلاه، فقال أبوجهل: من يقوم الي هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزعبري و تناول فرثا و دما و ألقي ذلك عليه. فجاءت فاطمه (عليهاالسلام) فماطته و هم يضحكون، فلما سلم النبي (صلي الله عليه و آله) دعا عليهم [117] .
نعم، كانت فاطمه (عليهاالسلام) تعيش هذه الحوادث المؤلمه منذ صغرها، و تهب لنصره أبيها و تخدمه حتي سماها بام أبيها فلما توفيت خديجه (عليهاالسلام) و قعت المسؤوليه في البيت علي عاتقها. و لم يوضح لنا التاريخ تلك الفتره المشجيه العسيره التي مرت علي بيت النبي (صلي الله عليه و آله) و ليس فيه سوي الزهراء (عليهاالسلام)، و لكن عين البصيره تنفذ لتري أحوال ساكنيه التي تبعث علي الرقه و الأسي.
و انقضت هذه الفتره ثم تزوج الرسول (صلي الله عليه و آله) بسوده و اختار نساء اخريات أيضا كن يظهرن الحب لفاطمه (عليهاالسلام) بشكل
أو بآخر، و لكن من الصعب علي اليتيم أن يفقد امه و يري غيرها في محلها، و زوجه الأب مهما رؤمت و كانت حنونا لا تغني عن صفاء الحب و الحنان عند الام، و الام لوحدها تستطيع أن تبعث بحنانها الطمأنينه و القوه في قلب صغيرها.
و كما ازداد شعور الزهراء (عليهاالسلام) بالحرمان ن الام ازداد حب النبي (صلي الله عليه و آله) لها و أشعرها بذلك الحب، لأنه (صلي الله عليه و آله) يعرف ما تعانيه فاطمه (عليهاالسلام) من فقد امها و شعورها باليتم.
لهذا و لغيره كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) لا ينام حتي يقبل عرض و جنه فاطمه (عليهاالسلام) [118] .
[ صفحه 77]
هذه هي خلصه ثماني سنين من عمر ابنه رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) [119] .
من الجدير بالذكر ان هذ المصائب و المشاق لو صبت علي أي طفل لفتكت به، و حمطمت أعصابه، و جرته الي ضعف جسدي و روحي مدمر، و لكن لا ينبغي تعميم هذا الحكم، لأن الذهب انما تجلوه النار، و الطرق يثبت المسمار، و العظماء تشدهم المصائب و تقوي عزمهم المصاعب و تبرز ملكاتهم الدفينه، و الزهراء (عليهاالسلام) من تكلم العناصر الطاهره و الارومات الطيبه النقيه لم تهزمها الحوادث و لم تزعزعها المصائب و انا صقلت شخصيتها، و جلت روحها، و أعدتها للمواجهه.
[ صفحه 78]
هاجر رسول الله (صلي الله عليه و آله) سنه ثلاث عشره للبعثه من مكه الي يثرب «المدينه» حفاظا علي نفسه و ابقاء علي دعوته، و أوصي علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يبيت علي فراشه ليله الهجره ليوهم المشركين و يشغلهم، و أوصاه (صلي الله عليه و آله) بعده وصايا، منها:
انه اذا وصل مأمنه يرسل اليه من يدعوه بالتوجه اليه مع عائلته من الفواطم و غيرهن، و يرد جميع الأمانات التي كانت مودعه عنده الي أهلها، و يسدد الديون التي كانت عليه.
و لما وصل (صلي الله عليه و آله) منطقه (قبا)- و هي علي أميال من يثرب- و استقر فيها بعث مع أبي واقد الليثي كتابا يأمره بالقدوم عليه مع الفواطم، ورد الأمانات الي أهلها، فقام أميرالمؤمنين (عليه السلام) من ساعته و اشتري الرواحل اللازمه و أعد متطلبات السفر و الاستعداد للهجره من مكه، و أمر من كان معه من ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا و يتخفوا، اذا ملأ الليل بطن كل واد الي ذي طوي.
قال ابن شهر آشوب: و استخلفه الرسول (صلي الله عليه و
آله) لرد الودائع،....فلما أداها قام (علي عليه السلام) علي الكعبه فنادي بصوت رفيع: يا أيها الناس هل من صاحب أمانه؟ هل من صاحب وصيه؟ هل من عده له قبل رسول الله؟ فلما لم يأت أحد لحق بالنبي (صلي الله عليه و آله).
خرج علي (عليه السلام) بالفواطم في وضح النهار- و هن: فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، و فاطمه بنت أسد الهاشميه امه (عليهاالسلام)، و فاطمه بنت الزبير بن عبدالمطلب، و فاطمه بنت حمزه بن عبدالمطلب-، و تبعتهم حاضنه النبي (صلي الله عليه و آله) و خادمه بركه «ام أيمن» و أبنها أيمن مولي رسول الله (صلي الله عليه و آله).
[ صفحه 79]
و عاد مع الركب مبعوثه (صلي الله عليه و آله) أبو واقد الليثي، فجعل يسوق الرواحل فأعنف بهم، فقال له الامام علي (عليه السلام): «ارفق بالنسوه يا أباواقد، انهن ضعاف».
قال: اني أخاف أن يدركنا الطلب.
فقال علي (عليه السلام): «اربع عليك، فان رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال لي: يا علي لن يصلوا من الآن اليك بأمر تكرهه».
ثم جعل علي (عليه السلام) يسوق بهن سوقا رقيقا و هو يرتجز و يقول:
ليس الا الله فارفع ضنكا
يكفيك رب الناس ما أهمكا
و سار، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب، سبع فوارس من شجعان قريش متلثمين، و ثامنهم مولي الحارث بن اميه، يدعي جناحا، و كان شجاعا مقداما.
فأقبل الامام علي (عليه السلام) علي أيمن و أبي واقد و قد تراءي القوم فقال لهما: «أنيخا الأبل و أعقلاها»، و تقدم حتي أنزل النسوه، و دنا القوم فاستقبلهم علي (عليه السلام) منتضيا سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: ضننت أنك يا غدار ناج بالنسوه، ارجع لا أبا لك.
قال: «فان
لم أفعل؟».
قالوا: لترجعن راغما، أو لنرجعن بأكثرك شعرا- أي رأسك-.
و دنا الفوارس من النسوه و المطايا ليثوروها، فحال علي (عليه السلام) بينهم و بينها، فأهوي له جناح بسيفه فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته، و تختله علي (عليه السلام) فضربه علي عاتقه، فأسرع السيف مضيا فيه حتي مس كاثبه فرسه، فشد عليهم بسيفه و هو يقول:
خلوا سبيل الجاهد
آليت لا أعبد غير الواحد
[ صفحه 80]
فتصدع القوم عنه، فقالوا له: اغن [120] عنا نفسك يا بن أبي طالب.
قال: فاني منطلق الي ابن عمي رسول الله (صلي الله عليه و آله) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه، و اهريق دمه فليتبعني (فرجعوا عنه مخذولين منكسرين).
ثم أقبلعلي صاحبيه أيمن و أبي واقد فقال لهما: «أطلقا مطاياكما»، ثم سار بالركب ظافرا قاهرا حتي نزل (ضجنان)، فتلوم بها- أي لبث فيها- قدر يومه و ليلته، و لحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، و كانوا يصلون ليلتهم و يذكرون الله قياما و قعودا و علي جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتي طلع الفجر، فصلي الامام علي (عليه السلام) بهم صلاه الفجر، ثم سار لوجهه، حتي قدموا (قبا)، القريبه من المدينه و التحقوا برسول الله (صلي الله عليه و آله) و كان بانتظارهم [121] روحي فداه.
و قد نزل الوحي علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) بما كان في شأنهم قبل وصولهم، بآيات من القرآن المجيد قال سبحانه و تعالي:
الذين يذكرون الله قياما و قعودا و علي جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا- الي قوله سبحانه- فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أوانثي
[122] .
و قد مكث النبي (صلي الله عليه و آله) خمسه عشر يوما بقبا في انتظار قدوم الوفد، و في تلك الفتره أسس مسجد (قبا) المعروف لحد اليوم، و قد نزلت فيه آيات بينات في محكم التنزيل، قال تعالي: (لمسجد أسس علي التقوي من أول يوم أحق أن تقوم فيه) الي آخر الآيات.
كما أن النبي (صلي الله عليه و آله) حث علي الصلاه فيه و احيائه و ذكر
[ صفحه 81]
الأجر المرصول لمن يصلي فيه (في حديث مشهور ذكرناه في الجزء الأول و الثاني من هذا المسلسل).
و بعد استراحه الركب سار (صلي الله عليه و آله) بمن معه من أصحابه و أهله متوجها الي يثرب و يقدرون بأكثر من مائه رجل مدججين بالسلاح و سيوفهم علي عواتقهم و محيطين به كالسوار، فاستقبلته الجماهير المسلمه بالأشعار، و الأهازيج، و الشعارات الترحيبيه و هم يترنمون بصوت واحد بهذا النشيد:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعي لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينه
مرحبا يا خير داع
وأستقبله سادات يثرب و زعماء الأوس و الخزرج مرحبين بقدومه باذلين كل ما وسعهم من أمكانات ماليه و عسكريه، و كان عندما يمر علي حي من أحيائهم يتقدم الأشراف ليأخذوا بخطام ناقته رجاء أن ينزل في حيهم حيث الضيافه و المنعه، فكان (صلي الله عليه و آله) يدعوا لهم بالخير و يقول دعوا الناقه تسير فانها مأموره.
ثم بركت في رحبه من الأرض بجوار دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل و نزلت السيده الطاهره فاطمه الزهرا مع الفواطم
و دخلن علي ام خالد و بقيت السيده مع أبيها (صلي الله عليه و آله) زهاء السنه حتي تم بناء المسجد و دار رسول الله (صلي الله عليه و آله) فانتقلت اليه مع أبيها و زوجاته.
و تستقر الزهراء في دار هجرتها و في دار بيت أبيها، ذلك البيت البسيط المتواضع في دار الاسلام، لتنعم بعنايته و حبه و رعايته، تلك العنايه و الرعايه و الحب التي لم تحظ بمثلها امرأه و لا أحد من الناس سواها.
[ صفحه 82]
و كانت (عليهاالسلام) تعيش في ذلك الجو الطافح بالمكارم و الحنان و في ذلك الظل الوارف ظل الرسول العظيم (صلي الله عليه و آله) الذي شمل عطفه و حنانه القريب و البعيد علي حد سواء، عوضها عما كانت تعانيه في سالف أيامها المنصرمه المقرونه بالعواصف العاتيه الهوجاء المدمره المشجيه ابتداء من وفاه امها السيده خديجه الكبري، الي هجره أبيها (صلي الله عليه و آله) من وطنه و مسقط رأسه و دار عزه و عاشت حوادث هجوم المشركين من قريش علي دار أبيها، و تبع ذلك هجرتها من مكه، و مطارده قريش لها و للركب المهاجر معها.
فلما استقر النبي (صلي الله عليه و آله) با لمدينه تزوج (سوده) و هي أول من تزوجها بعد السيده خديجه ثم تزوج (ام سلمه بنت أبي أميه) و فوض أمر ابنته اليها.
فقالت ام سلمه تزوجني رسول الله (صلي الله عليه و آله) و فوض امر ابنته (فاطمه) الي، فكنت أؤدبها و أدلها، و كانت والله أأدب مني و أعرف بالاشياء كلها [123] .
[ صفحه 85]
من مبادي الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) الحث
علي الزواج و دفع الشباب المسلم الي بناء النبيه الاجتماعيه المسلمه علي مكارم الأخلاق و العفه و الكرامه و تكوين اسره صالحه تستطيع أن تكون لبنه أساسيه لمجتمع صالح ذو قيم أخلاقيه فاضله، لتحمل مسؤولياتها الي الأجيال الصاعده، كما أمر الله سبحانه و تعالي به في محكم كتابه المجيد:
(و أنكحوا الأيامي منكم و الصالحين من عبادكم و امائكم ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) (النور: 32).
كما وردت أحاديث و روايات كثيره في الحث علي الزواج و تكوين الاسره النظيفه منها:
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الاخر» [124] .
و لم يكتف (صلي الله عليه و آله) بالحث علي الزواج نظريا و انما عمد الي تطبيق ذلك عمليا و ببساطه بعيده عن التعقيد و التكليف، لكنه كان يلاحظ و يؤكد علي الكفاءه و الموازنه بين الزوجين في جميع المستويات، دينيا و خلقيا و اجتماعيا بعيدا عن عالم الماده و الزخرفه و البهرجه، و كان يري (صلي الله عليه و آله) أن تجري الامور علي مجراها الطبيعي، و كان النبي الاكرام (صلي الله عليه و آله) ينتظر الكف ء المناسب لأبنته (عليهاالسلام).
فاقت فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) نساء عصرها في الحسب و النسب، فهي بنت محمد رسول الله (صلي الله عليه و آله) و خديجه (عليهاالسلام)،
[ صفحه 86]
وسليله الفضل و العلم و السجايا الخيره، و غايه الجمال الخلقي و الخلقي، و نهايه الكمال المعنوي و الانساني، علا شأوها و تألق نجمها، و هي بالاضافه الي خصائصها (عليهاالسلام) الشخصيه بنت محمد (صلي الله عليه و آله) الذي غزا
الكفر و الشرك في عقر داره، و قويت شوكته و ظهرت قوته.
و كانت (عليهاالسلام) تمتاز من صغر سنها بالنضخ الفكري، و الرشد العقلي، و قد وهب الله تعالي لها عقلا كاملا و ذهنا وقادا، و ذكاء حادا و حسنا و جمالا في اشراقه محياها النوارنيه؛ فما أكثر موابها و ما أعظم فضائلها، و هي تكبر يوما بعد يوم تحت ظلال النبي (صلي الله عليه و آله).
فما أدركت (عليهاالسلام) مدرك النساء حتي خطبها أكابر قريش من أهل الفضل و السابقه في الاسلام و الشرف و المال، و كان كلما ذكرها رجل من قريش لرسول الله (صلي الله عليه و آله) أعرض عنه الرسول (صلي الله عليه و آله) بوجهه، حتي كان الرجل منهم يظن في نفسه ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) ساخط عليه [125] .
و رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان قد حبسها علي علي، و يرغب في أن يخطبها منه [126] ، لأنه مأمور أن يزوج النور من النور [127] .
عن بريده قال: خطب أبوبكر فاطمه (عليهاالسلام) فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «انها صغيره، و اني أنتظر بها القضاء».
فليقه عمر فأخبره، فقال: ردك، ثم خطبها عمر فرده [128] .
وروي أن عبدالرحمن عوف خطبها فلم يجبه (و في روايه غير انه قال بكذا من المهر) فغضب رسول الله (صلي الله عليه و آله) و مد يده الي حصوات
[ صفحه 87]
فرفعها فسبحت في يده و جعلها في ذيله فصارت درا و مرجانا، يعرض به جواب المهر.
و في أمالي الطوسي: عن أبي عمرو، معنعنا عن موسي بن جعفر، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، عن
جابر بن عبدالله قال: لما زوج رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاطمه من علي، أتاه اناس من قريش فقالوا: انك زوجت عليا بمهر خسيس، فقال: «ما أنا زوجت عليا، و لكن الله عز و جل زوجه ليله اسري بي عند سدره المنتهي، أوحي الله الي السدره أن أنثري ما عليك، فنثرت الدر و الجوهر و المرجان، فابتدر الحور العين فالتقطن، فهن يتهادينه و يتفاخرن و يقلن: هذا من نثار فاطمه بنت محمد (صلي الله عليه و آله)» [129] .
و عن أبي الحسن علي بن موسي الرضا، عن أبيه، عن ابائه، عن علي (عليهم السلام) قال: قال لي رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا علي لقد عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمه و قالوا: خطبناها اليك فمنعتنا و زوجت عليا؟ فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم و زوجه، بل الله منعكم و زوجه، فهبط علي جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد ان الله جل جلاله يقول: لو لم أخلق عليا لما كان لفاطمه ابنتك كف ء علي وجه الأرض، آدم فمن دون» [130] .
[ صفحه 88]
ذات يوم كان أبوبكر و عمر جالسين في مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله) و معهما سعد بن معاذ الانصاري، فتذاكروا فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فقال أبوبكر: قد خطبها الأشراف من رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقال: ان أمرها الي ربها، ان شاء يزوجها زوجها. و ان علي بن أبي طالب لم يخطبها من رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و لم يذكرها له، و لا أراه يمنعه من ذلك الا قله ذات اليد، و انه ليقع في نفسي ان
الله- عز و جل-، و رسوله (صلي الله عليه و آله) انما يحبسانها عليه، فان منعه قله ذات اليد و اسيناه و أسعفناه، فقال له سعد بن معاذ: وفقك الله.
قال سلمان الفارسي: فخرجوا من المسجد و التمسوا عليا فلم يجدوه، و كان ينضح ببعير- كان له- الماء علي نخل رجل من الانصار بأجره فأنطلقوا نحوه.
فلما نظر اليهم علي (عليه السلام) قال: «ما وراءكم، و ما الذي جئتم له؟».
فقال أبوبكر: يا أباالحسن، انه لم يبق خصله من خصال الخير الا ولك فيها الصحبه و السابقه، و قد خطب الاشراف من قريش الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) ابنته فاطمه فردهم، و قال: ان أمرها الي ربها ان شاء يزوجها زوجها، فما يمنعك أن تذكرها لرسول الله (صلي الله عليه و آله) و تخطبها منه؟ فاني أرجو أن يكون الله- عز و جل- و رسوله (صلي الله عليه و آله) انما يحبسانها عليك.
قال: فتغرغرت عينا علي بالدموع، و قال: «يا أبابكر لقد هيجت مني ساكنا، و أيقظتني لأمر كنت غافلا، والله ان فاطمه لموضع رغب، و ما مثلي قعد عن مثلها،غير أنه لا يمنعني من ذلك الا الحياء و قله ذات اليد».
[ صفحه 89]
فقال أبوبكر: لا تقل هذا يا أباالحسن فان الدنيا و ما فيها عندالله تعالي و رسوله كهباء منثور، فعجل في خطبتها [131] .
و بينما علي بن أبي طالب متجها الي دار النبي (صلي الله عليه و آله) و كان في بيت السيده ام سلمه هبط ملك من السماء بأمر الهي اليك مضمونه ملخصا.
(معاني الأخبار، و الخصال، و الامالي للصدوق) عن ابن مسرور مرفوعا، عن علي بن
جعفر قال: سمعت أباالحسن موسي بن جعفر عليهماالسلام يقول: «بينا رسول الله (صلي الله عليه و آله) جالس اذ دخل عليه ملك، فحسبه جبرئيل، فقال: حبيبي جبرئيل، لم أرك في مثل هذه الصوره! فقال الملك: لست بجبرئيل، أنا محمود بعثني الله عز و جل أن أزواج النور من النور، قال: من ممن؟ فقال: فاطمه من علي، قال: فلما ولي الملك اذا بين كتفيه: محمد رسول الله، علي وصيه،فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): منذكم كتب هذا بين كتفيك؟ فقال: من قبل أن يخلق الله عز و جل آدم باثنين و عشرين ألف عام، و في (المناقب) لابن شهر آشوب، بأربعه و عشرين ألف عام [132] .
[ صفحه 90]
عاش علي (عليه السلام) و فاطمه (عليهاالسلام) تحت سقف واحد [133] و تخرجا من مدرسه واحده، هي مدرسه النبي (صلي الله عليه و آله) و خديجه (رضي الله عنها)، و قد عرف علي فاطمه عن كثب، و هو يعلم أن الأرض لا تحمل علي ظهرها امرأه كفاطمه جمعت الفضائل و الكمالات، و حبها في أعماق قلبه خالص صميمي، و الفرصه تمر مر السحاب و قد لا تعود.
تأمل الامام اقتراح أبي بكر و بقي (عليه السلام) بين الحاله التي يعيشها هو و المجتمع الاسلامي من فقر وفاته وضيق في المعيشه يصرفه عن التفكير في الزواج و يشغله عن نفسه و هواجسها في بناء الاسره، و بين واقعه الشخصي و قد تجاوز الواحده و العشرين من العمر [134] . و آن له أن يتزوج من فاطمه التي لاكف ء لها سواه و لا كف ء له سواها، و هي نسيج لا يتكرر،و قد حانت الفرصه و آن الآوان، و من أين
يأتي بفاطمه اذا ما فرط بالفرصه، فلينطلق اذن.
[ صفحه 91]
وقع اقتراح أبي بكر موقع القبول عند علي (عليه السلام)، و تأججت في روحه جذوه الحب، فما أكمل عمله و انما حل عن ناضحه و أقبل يقوده الي منزله فشده فيه، و لبس نعله و أقبل الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) في منزل ام سلمه، فدق علي (عليه السلام) الباب.
فقالت ام سلمه: من بالباب؟
فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آله): (من قبل أن يقول علي: أنا علي): «قومي يا ام سلمه فأفتحي له الباب و مريه بالدخول، فهذا رجل يحبه الله و رسوله و يحبهما».
فقالت ام سلمه: فداك أبي و امي، من هذا الذي تذكر فيه هذا و أنت لم تره؟!
فقال: «مه يا ام سلمه، فهذا رجل ليس بالخرق و لا بالنزق هذا أخي و ابن عم و أحب الخلق الي».
فقالت ام سلمه: فقمت مبادره أكاد أعثر بمرطي، ففتحت الباب فاذا أنا بعلي بن أبي طالب (عليه السلام).
فدخل علي رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فقال: «السلام عليك يا رسول الله و رحمه الله و بركاته».
فقال له النبي (صلي الله عليه و آله): «و عليك السلام يا أباالحسن، أجلس»، فجلس علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين يدي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و جعل ينظر الي الأرض كأنه قصد لحاجه و هو يستحي أن يبينها، فهو مطرق الي الأرض حياء من رسول الله (صلي الله عليه و آله).
فكأن النبي (صلي الله عليه و آله) علم ما في نفسي علي (عليه السلام)
[ صفحه 92]
فقال له: «يا أباالحسن، اني أري انك أتيت لحاجه،
فقل حاجتك و أبد ما في نفسك، فكل حاجه لك عندي مقضيه».
قال علي (عليه السلام): فقلت: «فداك أبي و امي انك أخذتني من عمك أبي طالب و من فاطمه بنت أسد و أنا صبي، فغذيتي بغذائك، و أدبتني بأدبك، فكنت الي أفضل من أبي طالب و من فاطمه بنت أسد في البر و الشفقه، و ان الله تعالي هداني بك و علي يديك. و انك والله ذخري و ذخيرتي في الدنيا و الآخره، يا رسول الله فقد أحببت مع ما شد الله من عضدي بك، أن يكون لي بيت و أن تكون لي زوجه أسكن اليها، و قد أتيتك خاطبا راغبا، أخطب اليك ابتك فاطمه، فهل أنت مزوجي يا رسول الله؟».
فتهلل وجه رسول الله (صلي الله عليه و آله) فرحا و مسرورا، و أتي فاطمه فقال:«ان عليا قد ذكرك و هو من قد عرفت»، فسكتت، فقال: «الله اكبر، سكوتها رضاها»فخرج فزوجها [135] .
[ صفحه 93]
قال ابن أبي الحديد: و ان انكاحه عليا اياها ما كان الا بعد أن أنكحه الله تعالي اياها في السماء بشهاده الملائكه [136] .
عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: «أتاني ملك فقال: يا محمد ان الله يقرأ عليك السلام و يقول لك: اني قد زوجت فاطمه ابنتك من علي بن أبي طالب في الملأ الأعلي فزوجها منه في الأرض» [137] .
و عن جابر بن عبدالله قال: لما زوج رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاطمه من علي (عليهماالسلام) كان الله تعالي مزوجه من فوق عرشه [138] .
و عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): انما أنا بشر مثلكم، أتزوج فيكم و أزواجكم الا
فاطمه، فان تزويجها نزل من السماء» [139] .
و عن علي (عليه السلام) قال: «قال لي رسول الله (صلي الله عليه و آله): يا علي لقد عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمه، و قالوا: خطبناها اليك فمنعتنا و زوجت عليا، فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم و زوجه، بل الله منعكم و زوجه. فهبط علي جبرئيل فقال: يا محمد ان الله- جل جلاله- يقول: لو لم أخلق عليا لما كان لفاطمه ابنتك كف ء علي وجه الأرض آدم فمن دونه» [140] .
و عن رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أيها الناس هذا علي بن أبي طالب، أنتم تزعمون أنني أنا زوجته ابتني فاطمه، و لقد خطبها الي أشراف
[ صفحه 94]
قريش فلم أجب كل ذلك، أتوقع الخبر من السماء، حتي جاءني جبرئيل (عليه السلام) ليله أربع و عشرين من شهر رمضان فقال:
يا محمد العلي الأعلي يقرأ عليك السلام، و قد جمع الملائكه تحت شجره طوبي، و زوج فاطمه عليا، و أمر شجره طوبي فحملت الحلي و الحلل و الدر و الياقوت ثم نثرنه، و أمر الحور العين فأجتمعن فلقطن، فهن يتهادينه الي يوم القيامه و يقلن: هذا نثار فاطمه» [141] .
نقل الشيخ البهائي (رحمه الله) عن الواده (رحمه الله) في كشكوله: وجد در مكتوب فيه:
أنا در من السما نثروني
يوم تزويج والد السبطين
كنت أصفي اللجين بياضا
صبغتني دماء نحر الحسين [142] .
و لبعضهم في تخميس هذا:
أيها السائل المسائل دوني
كل ذي جوهر عزيز ثمين
ما أنا من الثري أخرجوني
أنا در من السماء نثروني
يوم تزوج والد السبطين
كنت
من جوهر و لا أعراضا
موضعي في السماء و ليس انخفاظا
انما حمرتي أتتني اعتراضا
كنت أصفي من اللجين بياضا
صبغتني دماء نحر الحسين [143] .
و عن بلال بن حمامه قال: خرج علينا رسول الله (صلي الله عليه و آله) ذات يوم ضاحكا مستبشرا، فقام اليه عبدالرحمن بن عوف فقال: ما أضحكك
[ صفحه 95]
يا رسول الله؟
قال: «بشاره أتتني من عند ربي أن الله لما أراد أن يزوج عليا فاطمه أمر ملكا أن يهز شجره طوبي فهزها، فنثرت رقاقا- يعني صكاكا- فالتقطها الملائكه فاذا كانت القيامه ثارت الملائكه في الخلق، فلا يرون محبا لنا أهل البيت محضا الا دفعوا اليه منها كتابا براءه له من النار من أخي و ابن عمي و ابتني فكاك رقاب رجال» [144] .
و في روايه: انه يكون في الصكوك براءه من العلي الجبار لشيعه علي و فاطمه من النار [145] .
أنشد العبدي الكوفي:
صدقه خلقت لصديق
شريف في المناسب
اختاره و اختارها
طهرين من دنس المعايب
اسماهما قرنا علي سطر
بظل العرش راتب
كان الاله وليها و
أمينه جبريل خاطب
و المهر خمس الارض مو
هبه تعالت في المواهب
و تهابها حمل طوبي
طيبت تلك المناهب
[ صفحه 96]
قالت ام سلمه: فرأيت وجه رسول الله (صلي الله عليه و آله) يتهلل فرحا و سرورا، ثم تبسم في وجه علي (عليه السلام) فقال: «يا أباالحسن فهل معك شي ء أزواجك به؟».
فقال علي (عليه السلام): «فداك أبي و امي، والله ما يخفي عليك من أمري شي ء؛ أملك
سيفي و درعي و ناضحي، و ما أملك شيئا غير هذا».
فقال له رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا علي أما سيفك فلا غني بك عنه، تجاهد به في سبيل الله، و تقاتل به أعداء الله، و ناضحك تنضح به علي نخلك و أهلك، و تحمل عليه رحلك في سفرك، و لكني قد زوجتك بالدرع و رضيت بها منك.
يا أباالحسن، أأبشرك؟!».
قال علي (عليه السلام) قلت: نعم فداك أبي و امي بشرني، فانك لم تزل ميمون النقيبه، مبارك الطائر، رشيد الأمر، صلي الله عليك».
فقال لي رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ابشرك يا أباالحسن! فان الله- عز و جل- قد زوجكها في السماء من قبل أن أزوجكها في الأرض. و لقد هبط علي في موضعي من قبل أن تأتيني جبرئيل من السماء فقال: يا محمد، ان الله- عز و جل- أمرني أن آمرك أن تزوج عليا في الأرض فاطمه، و تبشرهما بغلامين زكيين نجيبين طاهرين خيرين فاضلين في الدنيا و الآخره، يا أباالحسن فوالله ما عرج الملك من عندي حتي دققت الباب».
[ صفحه 97]
أكد الاسلام علي أن الميزان الاسلامي في اختيار الزوج هو: الخلق و الدين، لا الثروه و المال و حطام الدنيا، اذ ان الغني و الثروه لوحدها لا تضمن سعاده الاسره، و انما يضمن ذلك التدين، و الخلق الرفيع، و خوف الله و اليمان به، فهل تنتظر من ثري أحمق يركض وراء سراب الشهوات، و يعبد الأهواء و اللذات الرخيصه، و لا يشعر بالمسؤوليه، أن يسعد عائله؟!
فان القصور الشاهقه، و السيارات الفرهه و الخدم و الحشم، و الأثاث، و الفرش، و الرياش، و الستائر الثمينه،
بالاضافه الي ما يكملها من امللابس الفاخره، و الحلي الذهبيه، و الجواهر الكريمه، و غيرها من وسائل الترفيه و الراحه، لا تجلب السعاده الي البيت و الحياه الزوجيه. و تنعدم السعاده اذا انعدم الانسجام الروحي بين الزوجين.
في الحقيقه ان السعاده الزوجه تكمن في الانسجام الروحي، و التعاون، و التفاهم، و الاحترام المتبادل، حتي و لو عاشا علي الحصير و طعما خبز الشعير.
فكم من امرأه تجدها ترفل بالحرير، و تجلس علي الوقير و تتحلي بالذهب و الزفير، و ليس بينها و بين زوجها تفاهم و لا انسجم تجدهم يعيشون حتما في جحيم.
لذا أمر الاسلام جميع المسلمين أن يسألوا عن الخلق الزوج و دينه قبل أن يسألوا عن ثروته و ماله. قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «اذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه، الا تفعلوا تكن فتنه في الأرض و فساد كبير».
و كان الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) الذي علم المسلمين ذلك أول من ترجمه الي الواقع، حين رجح عليا، لتقواه و فضله و خلقه و كمالاته، و لم يعبأ بفقره و ضيق يده، علي ثوره عبدالرحمن و ماله.
[ صفحه 98]
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «امض يا أباالحسن أمامي فاني خارج الي المسجد و مزوجك علي رؤوس الناس، و ذاكر من فضلك ما تقر به عينك و أعين محبيك في الدنيا و الآخره».
فقال علي: «فخرجت من عند رسول الله (صلي الله عليه و آله) مسرعا، و أنا لا أعقل فرحا و سرورا، فاستقبلي أبوبكر و عمر، فقالا: ما وراءك؟ فقلت: زوجني الله من السما؟ء، و هذا رسول الله (صلي الله عليه
و آله) خارج في أثري ليظهر ذلك بحضره الناس، ففرحا بذلك فرحا شديدا و رجعا معي الي المسجد، فما توسطناه حتي لحق بنا رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و ان وجهه يتهلل سرورا و فرحا.
فقال (صلي الله عليه و آله): أين بلال؟
فقال: لبيك و سعديك.
فقال: و أين المقداد؟ فلباه.
فقال: و أين سلمان؟ فلباه.
فلما مثلوا بين يديه قال: انطلقوا بأجمعكم الي جنبات المدينه و اجمعوا المهاجرين و الأنصار و المسلمين. فانطلقوا لأمره فأقبل حتي جلس علي أعلي درجه من منبره، فلما حشد المسجد بأهله قام (صلي الله عليه و آله) فحمدالله و أثني عليه و قال:
الحمدلله الذي رفع السماء فبناها، و بسط الأرض و دحاها و أثبتها بالجبال فأرساها، و تجلل عن تحبير لغات الناطقين، و جعل الجنه ثواب المتقين، و النار عقاب الظالمين، و جعلني رحمه للمؤمنين، و نقمه علي الكافرين. عباد الله! انكم في دار أمل، بين حياه و أجل، و صحه و علل، دار زوال متقلبه
[ صفحه 99]
الحال، جعلت سببا للارتحال؛ فرحم الله امرءا قصر من أمله، وجد في عمله، و أنفق الفضل من ماله، و أمسك الفضل من قوته، فقدمه ليوم فاتقه، يوم تحشر فيه الأموات، و تخشع فيه الأصوات، و تنكر الاولاد و الامهات، و تري الناس سكاري،و ما هم بسكاري، يوم يوفيهم الله دينهم الحق، و يعلمون ان الله هو الحق المبين، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا، و من يعمل مثقال ذره خيرا يره، و من يعمل مثقال ذره شرا يره،
يوم تبطل فيه الانساب و تقطع الاسباب، و يشتد فيه علي المجرمين الحساب، و يدفعون الي العذاب، فمن زحزح عن النار و ادخل الجنه فقد فاز، و ما الحياه الدنيا الامتاع الغرور.
أيها الناس، انما الأنبياء حجج الله في أرضه، الناطقون بكتابه، العاملون بوحيه، و ان الله تعالي أمرني أن ازوج كريمي فاطمه بأخي و ابن عمي و أولي الناس بي علي بن أبي طالب؛ والله عز شأنه قد زوجه بها في السماء، و أشهد الملائكه، و أمرني أن ازوجه في الأرض، و اشهدكم علي ذلك».
ثم جلس و قال: «قم يا علي و اخطب لنفسك».
فقال علي: «أأخطب يا رسول الله و أنت حاضر؟!».
فقال: «اخطب، فهكذا أمرني جبرئيل أن آمرك تخطب لنفسك، و لو لا أن الخطيب في الجنان داود لكنت أنت يا علي».
ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قول نبيكم: ان الله بعث أربعه آلاف نبي، و لكل نبي وصي، فأنا خير الأنبياء و وصيي خير الأوصياء».
ثم امسك (صلي الله عليه و آله) و ابتدأ علي (عليه السلام) فقال:
«الحمدلله الذي ألهم بفواتح علمه الناطقين، و أنار بثواقب عظمته قلوب المتقين، و أوضح بدلائل أحكامه طرق السالكين، و أبهج بابن عمي المصطفي العالمين، حتي علت دعوته دعوه الملحدين، و استظهرت كلمته علي بواطن المبطلبين، و جعله خاتم النبيين و سيد المرسلين، فبلغ رساله ربه، و أعزهم
[ صفحه 100]
بدينه، و أكرمهم بنبيه محمد، و رحم و كرم و شرف و عظم.
و الحمدلله علي نعمائه و أياديه. و أشهد أن لا اله الا الله شهاده اخلاص ترضيه، و اصلي علي نبيه محمد صلاه تزلفه و تخظيه.
و بعد، فان النكاح
مما أمر الله تعالي به، و أذن فيه؛ و مجلسنا هذا مما قضاه الله تعالي و رضيه، و هذا محمد بن عبدالله رسول الله، زوجني ابنته فاطمه علي صداق أربعمائه درهم و دينار، و قد رضيت بذلك، فاسألوده و اشهدوا».
فقال المسلمون: زوجته يا رسول الله؟
قال: «نعم».
قال المسلمون: بارك الله لهما و عليهما و جمع شملهما [146] .
وروي عن أنس أنه قال:
بينا أنا قاعد عند النبي (صلي الله عليه و آله) اذ غشيه الوحي فلما سري عنه قال: «يا أنس تدري ما جاءني به جبرئيل من صاحب العرش؟».
قلت: الله و رسوله أعلم؛ بأبي و امي ما جاء به جبرئيل؟
قال: «ان الله تعالي أمرني أن أزوج فاطمه عليا، انطلق فادع لي المهاجرين و الأنصار».
قال: فدعوتهم، فلما أخذوا مقاعدهم قال النبي (صلي الله عليه و آله): «الحمدلله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرغوب اليه فيما عنده، المرهوب عذابه، النافذ أمره في أرضه و سمائه الذي خلق الخلق بقدرته، و ميزهم بأحكامه، و أعزهم بدينه، و أكرمهم بنبيه محمد.
ثم ان الله تعالي جعل المصاهره نسبا و صهرا، فأمر الله يجري الي قضائه، و قضاؤه يجري الي قدره، فلكل قدر أجل، و لكل أجل كتاب (يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده ام الكتاب) [147] .
[ صفحه 101]
ثم ان الله أمرني أن ازوج فاطمه بعلي، فأشهدكم أني قد زوجته علي أربعمائه من فضه ان رضي بذلك علي».
و كان علي غائبا قد بعثه رسول الله (صلي الله عليه و آله) في حاجته، ثم ام رسول الله (صلي الله عليه و آله) أمر بطبق فيه بسر فوضع بين أيدينا، ثم قال:
«انتهبوا، فبينا نحن ننتهب اذ أقبل علي (عليه السلام)، فتبسم اليه النبي (صلي الله عليه و آله) ثم قال:
«يا علي ان الله أمرني أن ازوجك فاطمه، فقد زوجتكها علي أربعمائه مثقال فضه،ان رضيت».
فقال علي (عليه السلام): «قد رضيت، يا رسول الله».
ثم ان عليا مال فخر ساجدا شكرا لله تعالي و قال:
«الحمدلله الذي حببني الي خير البريه محمد رسول الله».
فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «بارك الله عليكما، و بارك فيكما، و أسعدكما، و أخرج منكما الكثير الطيب».
قال أنس: فوالله لقد أخرج منهما الكثير الطيب [148] .
[ صفحه 102]
ان كانت السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) قد قلبت التزويج بهذا المهر القليل نزولا عند رغبه أبيها الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) حتي يقتدي به المسلمون، و تحقيقا لاهدافه الساميه الحكيمه، فليس معني ذلك أن تنسي نفسها، أو تتنازل عن شخصيتها و عظمتها، و لكن ذلك من سمو النفس و التضحيه في سيبل الله سبحانه و تركيز نظام الرساله، مع الاحتفاظ بشخصيتها و مقامها الرفيع، و حقيقتها و مكانتها العاليه، و طموحها في التوصل الي اعلي درجات مكارم الاخلاق.
و لهذا فقد روي أحمد بن يوسف الدمشقي في كتابه (أخبار الدول و آثار الأول) قال: و قد ورد في الخبر أنها- أي فاطمه (عليهاالسلام)- لما سمعت بأن أباها زوجها، و جعل الدراهم مهرا لها قالت: «يا رسول الله ان بنات الناس يتزوجن بالدراهم فما الفرق بيني و بينهن؟ أسألك أن تردها، و تدعوالله سبحانه أن يجعل مهري الشفاعه في عصاه امتك».
فهبط جبرئيل (عليه السلام) و معه بطاقه من حرير مكتوب فيها: (جعل الله مهر فاطمه الزهراء شفاعه المذنبين من امه
أبيها).
فلما حضرت وفاتها أوصت أن توضع تلك البطاقه علي صدرها و تحت كفنها، و قالت: «اذا حشرت يوم القيامه، رفعت تلك البطاقه بيدي و شفعت في عصاه امه أبي» [149] .
[ صفحه 103]
1- درع بمبلغ 400 درهما، و قيل 480 درهما، و قيل 500 درهما.
2- برد حبره [150] .
3- اهاب [151] .
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
«كان صداق فاطمه برد حبره، و اهاب شاه علي عرار» [152] .
وروي في الكافي: زوج النبي (صلي الله عليه و آله) فاطمه من علي علي جرد برد [153] .
و في (مجمع البحرين): و انجرد الثوب: انسحق و لان، و منه: كان صداق فاطمه (عليهاالسلام) جرد برد حبره، و درع حطميه، و جرد قطيفه انجرد خملها و خلقت.
عن الحسين بن علي (عليهماالسلام) في خبر: «زوج النبي (صلي الله عليه و آله) فاطمه عليا علي أربعمائه و ثمانين درهما».- و الدرهم مثقال فضه-.
وروي: أن مهرها أربعمائه مثقال فضه.
وروي: أنه كان خمسمائه درهم، و هو أصح [154] .
و عن الصادق (عليه السلام) قال: «كان صداق فاطمه (عليهاالسلام) درع حطميه و اهاب كبش أو جدي» [155] .
و عن جعفر بن محمد عن أبيه: «ان علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)
[ صفحه 104]
أصدق فاطمه (رضي الله عنها) درعا من حديد، و جره دوار، و ان صداق نساء النبي (صلي الله عليه و آله) كان خمسمائه درهم».
و عن كتاب مصباح الأنوار و كتاب المحتضر للحسن بن سليمان، نقلا من كتاب الفردوس، رفعه باسناده عن ابن عباس: ان النبي (صلي الله عليه و آله) قال لعلي (عليه السلام): «يا علي
ان الله عز و جل زوجك فاطمه و جعل صداقها الأرض،فمن مشي عليها مبغضا لك مشي عليها حراما. و مثله في كشف الغمه [156] .
و في المناقب لابن شهر آشوب: عن الحسين بن علي (عليهماالسلام) في خبر: زوج النبي (صلي الله عليه و آله) فاطمه عليا علي أربعمائه و ثمانين درهما.
و في أمالي الطوسي: عن الحسين بن ابراهيم الزوينين، مرفوعا، الي أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ان الله تبارك و تعالي أمهر فاطمه (عليهاالسلام) ربع الدني، فربعها لها و أمهرها الجنه و النار، تدخل أعدءها النار و تدخل أولياءها الجنه، و هي الصديقه الكبري و علي معرفتها دارت القرون الاولي [157] .
[ صفحه 105]
الاسلام لا يري من صلاح الامه أن تعقد علي المهور العاليه، اذا ما رضوا بدين الرجل و خلقه.
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أفضل نساء امتي أقلهن مهرا» [158] .
و قال الامام الصادق (عليه السلام): «شؤم المرأه في كثره صداقها».
يعتقد الاسلام أن المسابقه في ازدياد المهور تصعب الحياه علي الناس و تخلق للامه مشاكل كبيره.
فلابد من استماله الشباب لبناء الاسره- من خلال تسهيل أمر الزواج- لنتقي الآف المفاسد الاجتماعيه و الأمراض الروحيه.
المهور العاليه تثقل ميزانيه الزوج و تزلزل وضعه الاقتصادي في ابان حياته، و تؤثر علي المحبه و الصفاء بين الزوجين، فينفر الشباب من الزواج.
و النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) زوج ابنته العزيزه بذلك المهر التواضع، من علي بن أبي طالب (عليه السلام) و لم يجعل في ذمته شيئا- و لو بعنوان الدين- كي يفهم الناس عمليا أن المهور الثقيله العاليه ليست في صالح الامه واقعا.
[ صفحه
106]
أقبل رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقال لعلي:
«يا أباالحسن انطلق الآن فبع درعك، و ائتني بثمنه، حتي أهيي لك و لابنتي فاطمه ما يصلحكما».
قال علي: «فانطلقت فبعثه باربعمائه درهم سود هجريه (وروي 408، وروي 500)، و أقبلت الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فطرحت الدراهم بين يديه، فأعطي قبضه الي ام سلمه للطعام، و أنفذ عمارا و أبابكر و بلالا لا بتياع ما يصلحها».
و كان ما اشتروه:
1- قميصا.
2- خمارا.
3- قطيفه سوداء خيبريه.
4- سريرا مزملا بشريط.
5- فرشين من خيش [159] مصر، حشو أحدهما ليف،و حشو الآخر من جز الغنم.
6- أربع مرافق من أدم الطائف، حشوها اذخز [160] .
7- سترا من صوف.
8- حصيرا هجريا.
9- رحا لليد.
10- سقاء من أدم.
[ صفحه 107]
11- مخضبا من نحاس [161] .
12- قعبا للبن [162] .
13- شنا للماء [163] .
14- مطهره مزفته [164] .
15- جره خضراء.
16- كيزان خزف.
17- نطعا من أدم.
18- عباءه.
19- قربه ماء.
قالوا: و حملناه جميعا حتي وضعناه بين يدي رسول الله (صلي الله عليه و آله)،فلما نظر اليه بكي و جرت دموعه، ثم رفع رأسه الي السماء و قال:
«اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف» [165] .
[ صفحه 108]
و كان من تجهز علي داره:
1- انتشار رمل لين. (فرش (عليه السلام) بيته بالرمل).
2- نصب خشبه من حائط الي حائط للثياب.
3- بسط اهاب كبش.
4- منخل.
5- قربه للماء [166] .
و عن أبي يزيد قال: لما اهديت فاطمه الي علي لم تجد عنده الا رملا مبسوطا و
وساده، و جره و كوزا [167] .
[ صفحه 109]
كان زواج الزهراء؟ (عليهاالسلام) نموذجا فريدا للزواج الاسلامي، و ذلك لأن أركانه، علي و فاطمه، و محمد (صلي الله عليه و آله).
فالزوج: علي (عليه السلام) أوسط العرب نسبا، و أعظمهم شرفا و شجاعه و علما، خليفه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و وزيره، بطل الاسلام و قطب الرحي في حروب المسلمين و معاركهم.
و الزوجه: فاطمه بنت محمد (صلي الله عليه و آله) أكمل النساء عقلا و أشرفهن حسبا و نسبا، و أجملهن خلقا، و أحسنهن خلقا، و احدي النساء الأربعه اللواتي فضلهن الله علي نساء العالمين.
و أبوها: رسول الله (صلي الله عليه و آله)، الرجل الأول في الجزيره العربيه، بل في الدنيا كلها، حبيب الله وصفيه، و خيرته من خلقه.
جهاز بسيط مر ذكره، أشتري من صداق الزهراء (عليهاالسلام) و ليس من أموال أبيها، و وليمه متواضعه- كما سيأتي- لا بذخ فيها و لا اسراف.
أليس زواج الزهراء (عليهاالسلام)- المرأه النموذجيه في الاسلام- زوجا نموذجيا، و درسا توجيهيا، و قدوه صالحه لكل المسلمين؟!
أو لم يتمكن الرسول (صلي الله عليه و آله)- كأي أب يريد أن تنتقل ابنته الي بيت الزوجيه، مرفوعه الرأس عزيزه- أن يشتري للزهراء (عليهاالسلام) أفخر الأثاث و اللباس، و يولهم أعظم وليمه و يقول: اني شريف قومي، و ابنتي خير النساء، و صهري زين الرجال، و لابد أن اراعي شأني و ما يناسبني، و أبذال لوحيدتي ما يبذل لمثلها في ذلك الزمان؟! و لو جر ذلك دينا ثقيلا.
[ صفحه 110]
لم يفعل الرسول (صلي الله عليه و آله) شيئا من ذلك-
و حاشاه أن يفعل- هو يعرف الأضرار و المفاسد التي تترتب علي ارتقاع المهور و زياده كلفه الزواج، و يعرف البلاء الذي سيعم بلاد المسلمين اذا أصيبوا بهذا المرض من الفقر، و الخسران، و الانكسار الاقتصادي، و كثره الطلاق، و تخدش العواطف، و تنصل الشباب عن مسؤولياتهم و عزوفهم عن بناء الأسره الاسلاميه، و انتشار العزوبه بين الشباب و الفتيات، فتفشو الجريمه، و تزداد الجنايات، و تشيع الفاحشه و الأمراض الاجتماعيه و النفسيه و العصبيه.
و لهذا كان زواج الزهراء (عليهاالسلام) النموذج الأمثل، بسيطا لا تكلف فيه و لا اسراف، ليكون درسا عمليا و علاجا ناجحا و طريقا واضحا للمسلمين عموما، و للمتصدين لا داره شؤونهم خاصه.
و علي (عليه السلام)- أيضا- لم يتزوج للمال و الثروه، كسائر الشبان، فاذا ما وجدوا قصورا ماديا في اسره الزوجه حولوا الحياه الوديعه الي جحيم لا يطاق، و صبوا جام غضبهم علي الزوجه البريئه، و زلزلوا البيت تحت أقدامهم، و استبدلوا الحنان و الدف ء، بالقسوه و البرود، و الهدوء في الحياه الزوجيه الي صخب و ضجيج، و حولوا البيت الي سجن يختاره الزوجان بمل ء ارادتها.
علي (عليه السلام) الامام و القدره المدخر لغد المسلمين، حارب الأفكار الباليه، و طمس المعالم المغلوطه فهزمها، و ما قيمه المال في نظره الشريف؟!
[ صفحه 111]
قال علي (عليه السلام): «و مكثت بعد ذلك شهرا لا اعاود رسول الله (صلي الله عليه و آله) في أمر فاطمه بشي ء- استحياء من رسول الله (صلي الله عليه و آله) غير أني كنت اذا خلوت برسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول لي:
يا أباالحسن ما أحسن زوجتك و أجملها! أبشر يا أباالحسن فقد زوجتك سيده
نساء العالمين».
فقال علي (عليه السلام): «فلما كان بعد شهر دخل علي أخي عقيل فقال: يا أخي ما فرحت بشي ء كفرحي بتزويجك فاطمه بنت محمد (صلي الله عليه و آله): يا أخي، فما بالك لاتسال رسول الله (صلي الله عليه و آله) يدخلها عليك؟ فتقر عينا باجتماع شملكما».
قال علي: «والله يا أخي اني لأحب و ما يمنعني من مسألته الا الحياء منه».
فقال: أقسمت عليك الا قمت معي؛ فقمنا نريد رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فلقينتا في طريقنا بركه (ام أيمن)- مولاه رسول الله (صلي الله عليه و آله)- فذكرنا ذلك لها.
فقالت: لا تفعل ودعنا نحن نكلمه، فان كلام النساء في هذا الأمر أحسن و أوقع بقلوب الرجال.
ثم انثنت راجعه فدخلت الي ام سلمه فأعلمتها بذلك و أعلمت نساء النبي (صلي الله عليه و آله) فاجتمعن عند رسول الله (صلي الله عليه و آله) فأحدقن به و قلن- و الكلام لا يزال لام سلمه (ام المؤمنين)-.
فديناك بآبائنا و امهاتنا- يا رسول الله- قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجه في الاحياء لقرت بذلك عينها. قالت ام سلمه: فلما ذكرنا خديجه بكي رسول الله (صلي الله عليه و آله).
[ صفحه 112]
ثم قال: «خديجه، و أين مثل خديجه؟ صدقتني حين كذبني الناس، و وازرتني علي دين الله، و أعانتني عليه بمالها، ان الله- عز و جل- أمرني أن ابشر خديجه ببيت في الجنه من قصب (الزمرد) لا صخب فيه و لا تعب».
قالت ام سلمه: فقلنا فديناك بآبائنا و امهاتنا، يا رسول الله: انك لم تذكر من خديجه أمرا الا و قد كانت كذلك، غير أنها قد مضت الي ربها، فهنأها الله بذلك، و جمع بيننا و بينهما في درجات جنته
و رضوانه و رحمته.
يا رسول الله، و هذا أخوك في الدين، و ابن عمك في النسب، علي بن أبي طالب، يحب أن تدخل عليه زوجته فاطمه، و تجمع بها شمله.
فقال: «يا ام سلمه، فما بال علي لا يسألني ذلك؟».
فقلت: يمنعه الحياء منك يا رسول الله.
قالت ام أيمن: فقال لي رسول الله (صلي الله عليه و آله): «انطلقي الي علي فاتيني به».
فخرجت من عند رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاذا علي ينتظرني ليسألني عن جواب رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فلما رآني قال: ما وراءك يا ام أيمن؟».
قلت: أجب رسول الله.
قال (عليه السلام): فدخلت عليه و قمن أزواجه فدخلن البيت، و جلست بين يديه، مطرقا نحو الأرض حياء منه»، فقال: «أتحب أن تدخل عليك زوجتك؟».
فقلت- و أنا مطرق-: «نعم، فداك أبي و امي».
فقال: «نعم و كرامه، يا أباالحسن! أدخلها عليك في ليلتنا هذه أو في ليله غد ان شاءالله».
فقمت فرحا مسرورا، و أمر (صلي الله عليه و آله) أزواجه أن يزين فاطمه
[ صفحه 113]
(عليهاالسلام) و يطيبنها و يفرشن لها بيتا ليدخلنها علي بعلها ففعلن ذلك [168] .
وروي المجلسي في بحاره أيضا (43/ 95):
قال علي (عليه السلام): «فأقمت بعد ذلك شهرا اصلي مع رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و أرجع الي منزلي، و لا أذكر شيئا من أمر فاطمه (عليهاالسلام)،ثم قلن أزواج رسول الله (صلي الله عليه و آله): ألا نطلب لك من رسول الله (صلي الله عليه و آله) دخول فاطمه عليك؟ فقلت: أفعن»، فدخلن عليه فقالت ام أيمن [169] : يا رسول الله لو أن خديجه باقيه لقرت عينها بزفاف فاطمه و ان عليا يريد أهله، فقر عين فاطمه ببعلها
و اجمع شملها و قر عيوننا بذلك.
فقال (صلي الله عليه و آله): فما بال علي لا يطلب مني زوجته، فقد كنا نتوقع ذلك منه».
قال علي: فقلت: «الحياء يمنعني يا رسول الله».
فالتفت الي النساء فقال: «من هاهنا؟».
فقالت ام سلمه: أنا ام سلمه و هذه زينب، و هذه فلانه و فلانه، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «هيئوا لابنتي و ابن عمي في حجري بيتا».
فقالت ام سلمه: في أي حجر يا رسول الله؟
فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «في حجرتك و أمر نساءه أن يزين (فاطمه) و يصحلن من شأنها».
قالت ام سلمه: فسألن فاطمه: هل عندك طيب ادخرتيه لنفسك؟
قالت: «نعم»، فأتت بقاروره فكسبت منها في راحتي فشممت منها رائحه ما شممت مثله قط.
[ صفحه 114]
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا علي، لابد للعرس من وليمه».
فقال سعد: عندي كبش، و جمع له رهط من الأنصار أصواعا من ذره.
و أخذ رسول الله (صلي الله عليه و آله) من الدراهم التي سملها الي ام سلمه عشره دارهم فدفعها الي و قال: «اشتر سمنا و تمرا و اقطا». فاشتريت و أقبلت به الي رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فحسر عن ذارعيه و دعا بسفره من أدم،و جعل يشرخ التمر و السمن و يخلطهما بالأقط حتي أتخذه حيسا. ثم قال: «يا علي ادع من أحببت».
فخرجت الي المسجد و أصحاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) متوافرون قلت: أجيبوا رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و في روايه «أجيبوا الي وليمه فاطمه» فقاموا جميعا، و أقبلوا نحو النبي (صلي الله عليه و آله) فاخبرته أن القوم كثير فجلل السفره
بمنديل، و قال: أدخل علي عشره بعد عشره، ففعلت؛ و جعلوا يأكلون و يخرجون لا ينقص الطعام، و كان النبي (صلي الله عليه و آله) يصب الطعام بيده و العباس و حمزه و علي و عقيل يستقبلون الناس، ثم دعا رسول الله (صلي الله عليه و آله) بالصحاف فملئت لفقراء المدينه الذين لم يحضروا الوليمه ثم أخذ صحفه و قال: «هذا لفاطمه و بعلها» [170] .
وروي أن النبي (صلي الله عليه و آله) قال: يا علي، اصنع لأهلك طعاما فاضلا».
و جاء أصحابه بالهدايا.
و أمر النبي فطحن البر (الحنطه) و خبز، و ذبح الكبش، و اشتري علي تمرا و سمنا، و أقبل رسول الله (صلي الله عليه و آله) و حسر عن ذراعه، و جعل يشدخ
[ صفحه 115]
التمر بالسمن فقال: «يا علي، أدع من أحببت».
قال علي (عليه السلام): «فأتيت المسجد و هو غاص بالناس، فناديت: أجيبوا الي وليمه فاطمه بنت محمد (صلي الله عليه و آله). فأجابوا من النخلاء و الزروع، و أقبل الناس ارسالا و هم أكثر من أربعه آلاف رجل، و سائر نساء المدينه و رفعوا منها ما أرادوا، و لم ينقص من الطعام شي ء ثم دعا رسول الله (صلي الله عليه و آله) بالصحاف و الأواني فملئت و وجه بها الي منازل أزواجه، ثم أخذ صحيفه، و قال: «هذه لفاطمه و بعلها».
[ صفحه 116]
كان النبي (صلي الله عليه و آله) أمر نساءه أن يزين فاطمه و يطيبنها ثم دعا بابنته فاطمه و دعا بعلي (عليه السلام) فأخذ عليا بيمينه و فاطمه بشماله و جمعهما الي صدره فقبل بين أعينهما، ثم دعا فاطمه و
أخذ بيدها فوضعها في يد علي. و قال: «بارك الله لك في ابنه رسول الله، يا علي! نعم الزوج فاطمه، و يا فاطمه نعم البعل علي».
و في روايه: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا علي هذه وديعتي عندك».
و في كتاب مولد فاطمه عن ابن بابويه في خبر: أمر النبي (صلي الله عليه و آله) بنات عبدالمطلب و نساء المهاجرين و الأنصار أن يمضين في صحبه فاطمه، و أن يفرحن و يرجزن و يكبرن و يحمدن، و لا يقلن مالا يرضي الله.
قال جابر: فأركبها علي ناقه- و في روايه علي بغلته الشهباء- و أخذ سلمان زمامها، و حولها سبعون ألف حوراء و النبي (صلي الله عليه و آله) و حمزه و عقيل و جعفر و أهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم، و نساء النبي (صلي الله عليه و آله) قدامها يزجزن فأنشأت ام سلمه:
سرن بعون الله جاراتي
و اشكرنه في كل حالات
و اذكرن ما أنعم رب العلي
من كشف مكروه و آفات
فقد هدانا بعد كفر و قد
أنعشنا رب السماوات
و سرن مع خير نساء الوري
تفدي بعمات و خالات
يا بنت من فضله ذو العلي
بالوحي منه و الرسالات
ثم قالت عائشه:
يا نسوه استرن بالمعاجر
و أذكرن ما يحسن في المحاصر
و اذكرن رب الناس اذ يخصنا
بدينه مع كل عبد شاكر
[ صفحه 117]
و الحمدلله علي أفضاله
و الشكر لله العزيز القادر
سرن بها فالله أعطي ذكرها
و خصها منه بطهر طاهر
ثم قالت حفصه:
فاطمه خير نساء البشر
و من لها وجه كوجه القمر
فضلك الله علي كل الوري
بفضل من خص بآي الزمر
زوجك الله فتي فاضلا
أعني عليا خير من في الحضر
فسرن جاراتي بها انها
كريمه بنت عظيم الخطر
ثم قال معاذ ام سعد بن معاذ:
أقول قولا فيه ما فيه
و ذكر الخير و ابديه
محمد خير بني آدم
ما فيه من كبر و لا تيه
بفضله عرفنا رشدنا
فالله بالخير يجازيه
و نحن مع بنت نبي الهدي
ذي شرف قد مكنت فيه
في ذروه شامخه أصلها
فما أري شيئا يدانيه
و كانت النسوه يرجعن أول بيت من كل رجز، ثم يكبرن و دخلن الدار ثم أنفذ رسول الله (صلي الله عليه و آله) الي علي ودعاه، ثم دعا فاطمه فأخذ يديها و وضعها في يده و قال: «بارك الله في ابنه رسول الله».
ثم قال: «يا علي، هذه فاطمه وديعتي عندك»، ثم دعا و قال: «اللهم اجمع شملهما، و ألف بين قلبيهما، و اجعلهما و ذريتهما من ورثه جنه النعيم، و ارزقهما ذريه طاهره طيبه مباركه، و اجعل في ذريتهما البركه، و اجعلهم أئمه يهدون بأمرك الي طاعتك، و يأمرون بما رضيت».
و في كتاب ابن مردويه: أن النبي سأل ماء فأخذ منه جرعه فتمضمض بها ثم مجها في القعب، ثم صبها علي رأسها، ثم قال: «أقبلي» فلما أقلبت نضح من بين ثدييها، ثم قال: «أدبري» فلما أدبرت نضح من بين كتفيها، ثم دعا لهما.
[ صفحه 118]
«اللهم بارك فيهما،
و بارك عليهما، و بارك لهما في شبليهما».
وروي أنه قال: «اللهم انهما أحب خلقك الي، فأحبهما و بارك في ذريتها و اجعل عليهما منك حافظا، و اني اعيذهما بك و ذريتهما من الشيطان الرجيم».
وروي انه دعا لها فقال: «أذهب الله عنك الرجس و طهرك تطهيرا».
وروي انه قال: «مرحبا ببحرين يلتقيان، و نجمين يقترنان».
ثم أمر النبي (صلي الله عليه و آله) بمخضب مملوء بالماء، فدعا بفاطمه فأخذ كفا من الماء فضرب به علي رأسها، كفا بين يديها، ثم رش جلدها، ثم دعا بمخضب آخر لعلي و صنع معه كما صنع مع فاطمه، ثم أمرهما أن يتوضئا. ثم خرج من عندهما فأخذ بعضادتي الباب فقال:
«طهركما الله و طهر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكم و حرب لمن حاربكم، استودعكما الله و أستخلفه عليكما»، و أغلق الباب و أمر النساء فخرجن.
فلما أراد الخروج رأي امرأه فقال: «من أنت؟».
قالت: أسماء [171] .
فقال: «ألم آمرك أن تخرجي»؟.
قالت أسماء: بلي يا رسول الله- فداك أبي و امي- و ما قصدت خلافك، و لكني أعطيت خديجه عهدا. فحينما حضرت الوفاه خديجه، بكت، فقلت: أتبكين و أنت سيده نساء العالمين؟ و أنت زوجه النبي (صلي الله عليه و آله)، و مبشره علي لسانه بالجنه؟!
فقالت: ما لهذا بكيت، و لكن المرأه ليله زفافها لابد لها من امرأه تفضي
[ صفحه 119]
اليها بسرها، و تستعين بها علي حوائجها، و فاطمه حديثه عهد بصبا، و أخاف أن يكون لها من يتولي أمرها حينئذ.
فقلت: يا سيدتي! لك علي عهد الله ان بقيت الي ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر.
فبكي رسول الله قال:
«بالله لهذا وقفت؟».
فقلت: نعم والله، فدعا لي [172] .
وروي أنه قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) «يا ام سلمه هلمي فاطمه، فانطلقت فأتت بها و هي تسحب أذيالها، و قد تصببت عرقا حياء من رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فعثرت. فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أقالك الله العثره في الدنيا و الآخره».
فلما وقفت بين يديه كشف الرداء عن وجهها حتي رآها علي (عليه السلام)، ثم أخذ يدها فوضعها في يد علي (عليه السلام) و قال: «بارك الله لك في ابنه رسول الله يا علي نعم الزوجه فاطمه، و يا فاطمه نعم البعل علي انطلقا الي منزلكما و لا تحدثا أمرا حتي آتيكما».
قال علي: «فأخذت بيد فاطمه و انطلقت بها حتي جلست في جانب الصفه و جلست في جانبها و هي مطرقه الي الأرض حياء مني و أنا مطرق الي الأرض حياء منها».
ثم جاء رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقال: «من ههنا؟». فقلنا: ادخل يا رسول الله مرحبا بك زائرا و داخلا، فدخل، فأجلس فاطمه من جانبه ثم قال: «يا فاطمه ائتيني بماء». فقامت الي قعب في البيت فملأته ماء ثم أتته به، فأخذ جرعه فتمضمض بها ثم مجها في القعب ثم صب منها علي رأسها،
[ صفحه 120]
ثم قال: «أقبلي»! فلما أقبلت نضح منه بين ثدييها، ثم قال: «أدبري»، فأدبرت فنضح منه بين كتفيها، ثم قال: «اللهم هذه ابتني و أحب الخلق الي، اللهم و هذا أخي و أحب الخلق الي، اللهم اجعله لك وليا و بك حفيا، و بارك له في أهله»، ثم قال: «يا علي أدخل بأهلك بارك الله و رحمه الله و بركاته عليكم
انه حميد مجيد».
و باتت عند فاطمه سلمي بنت عميس أم عماره زوجه حمزه بن المطالب [173] .
اتخذ رسول الله (صلي الله عليه و آله) جميع التدابير اللازمه لزفاف ابنته فاطمه ليعوضها عما فقدته من وجود امها خديجه و حنانها.
و بالرغم من بساطه مراسيم الزواج و سهولته و الابتعاد عن التكلف و الترف، أقول: بالرغم من كل ذلك الا انه كان محاطا بهاله من آيات العظمه و الجلاله، و الجمال، حتي روي الهيثمي في مجمع الزوائد عن جابر انه قال: حضرنا عرس علي و فاطمه رضي الله عنهما، فما رأينا عرسا كان أحسن منه.
و قد شاء الله تعالي أن يكون زواج السيده فاطمه ممتازا من جميع الجوانب كما خطط له الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) و أراد، حتي لا تشعر، و لذلك أمر النبي (صلي الله عليه و آله) بتقديم بغلته الشهباء، و ثني عليها قطيفه، و قال لفاطمه: «اركبي فداك أبوك»، و أمر سلمان أن يقود البغله و كان هو (صلي الله عليه و آله) يسوقها.
[ صفحه 121]
دخل رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي فاطمه (عليهاالسلام) في صبيحه عرسها بقدح فيه لبن فقال: «اشربي فداك أبوك».
ثم قال لعلي (عليه السلام): «اشرب فداك ابن عمك» [174] .
ثم سأل عليا: «كيف وجدت أهلك؟».
قال: «نعم العون علي طاعه الله».
و سأل فاطمه فقالت: «خير بعل» [175] .
و مكث رسول الله بعد ذلك ثلاثا لا يدخل عليهم فلما كان في ماء صبيحه اليوم الرابع جاء (صلي الله عليه و آله) و دخل عليهم.
ثم قال: يا علي، ائتني بكوز من ماء، فجاء علي بكوز فيه ماء، فتفل فيه
ثلاثا،و قراء عليه آيات من كتاب الله تعالي، ثم قال: «يا علي اشربه، و اترك فيه قليلا» ففعل علي ذلك، فرش النبي باقي الما علي رأسه و صدره، ثم قال: «أذهب الله عنك الرجس يا علي، و طهرك تطهيرا». و أمره بالخروج من البيت، و خلا بابنته فاطمه (عليهاالسلام)، و قال: «كيف أنت يا بنيه؟ و كيف رأيت زوجك؟».
قالت: «يا أبه خير زوج، الا انه دخل علي نساء من قريش و قلن لي: زوجك رسول الله من فقير لا مال له».
فقال لها: «يا بنيه، ما أبوك و لا بعلك بفقير، و لقد عرضت علي خزائن الأرض، فاخترت ما عند ربي، والله يا بنيه ما ألوتك نصحا أن زوجتك أقدمهم سلما و أكثرهم علما و أعظمهم حلما.
[ صفحه 122]
يا بنيه، ان الله- عز و جل- اطلع الي الأرض فاختار من أهلها رجلين، فجعل أحدهما أباك و الاخر بعلك.
يا بنيه، نعم الزوج زوجك، لا تعصي له أمرا.».
ثم صاح رسول الله (صلي الله عليه و آله) بعلي: «يا علي».
فقال: «لبيك يا رسول الله».
قال: «ادخل بيتك و الطف بزوجتك وارفق بها، فان فاطمه بضعه مني يؤلمني ما يؤلمها و يسرني ما يسرها، أستودعكما الله و أستخلفه عليكما» [176] .
عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «لما زوج رسول الله (صلي الله عليه و آله) عليا فاطمه (عليهماالسلام)، دخل عليها و هي تبكي فقال لها: «ما يبكيك؟ فوالله لو كان في أهل بيتي خير منه زوجتك، و ما أنا زوجتك و لكن الله زوجك و أصدق عنك الخمس ما دامت السموات و الارض» [177] .
عن الامام جعفر بن محمد
الصادق (عليه السلام) و اللفظ له، في قوله تعالي مرج البحرين يلتقيان قال: «علي و فاطمه، بحران عميقان لا يبغي أحدهما علي صاحبه».
و في روايه (بينهما برزخ) (هو) رسول الله (صلي الله عليه و آله) (يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان) (هما) الحسن و الحسين (عليهماالسلام).
(و في روايه) و في الخبر لا بن عبد البر في الاستيعاب، لما زوج رسول الله (صلي الله عليه و آله) ابنته فاطمه (عليهاالسلام)، قال لها: «زوجتك سيدا في الدنيا و الاخره، و انه أول أصحابي اسلاما و أكثرهم علما و أعظمهم حلما».
[ صفحه 123]
1- عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «تزوج علي فاطمه (عليهماالسلام) في شهر رمضان و بني بها في ذي الحجه من (نفس) السنه (بعد معركه بدر)» [178] .
2- أمالي الطوسي: روي ان أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال: «دخل بفاطمه (عليهاالسلام) بعد وفاه اختها رقيه زوجه عثمان بسته عشر يوما، و ذلك بعد رجوعه من (معركه) بدر، لايام خلت من شوال، السنه الثانيه من الهجره».
كما روي انه دخل بها يوم الثلاثاء لست خلون من ذي الحجه و الله العالم [179] .
3- اقبال الأعمال لا بن طاووس: باسناده الي شيخنا المفيد في كتاب حدائق الرياض قال: ليله احدي و عشرين من المحرم و كانت ليله خميس سنه ثلاث من الهجره، كان زفاف فاطمه ابنه رسول الله (صلي الله عليه و آله) الي منزل أميرالمؤمنين (عليه السلام) [180] .
4- في أول يوم من ذي الحجه (النسه الثانيه من الهجره) زوج رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاطمه عليا (عليهماالسلام) [181] .
هذه أربع روايات ذكرها أصحابنا عن أئمه أهل البيت (عليهم السلام)، تكاد تكون متقاربه المعاني و
التاريخ، و كلها تنص علي وقوع الزواج
[ صفحه 124]
بعد رجوعهم من (بدر) منتصرين بعون الله و تسديده.
و لما تزويج علي فاطمه قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) لعلي: «اطلب منزلا». فطلب علي منزلا فأصابه مستأخرا عن النبي (صلي الله عليه و آله) قيلا، فبني بها فيه.
فجاء النبي (صلي الله عليه و آله) اليها فقال: «اني اريد أن احولك الي».
فقالت لرسول الله (صلي الله عليه و آله): فكلم حارثه بن النعمان أن يتحول عني.
فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): قد تحول حارثه عنا حتي قد استحييت منه.
فبلغ ذلك فتحول و جاء الي النبي (صلي الله عليه و آله) فقال: يا رسول الله انه بلغي انك تحول فاطمه اليك، و هذه منازلي و هي أسبق بيوت بني النجار بك، و انما أنا و مالي لله و لرسوله، والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحب الي من الذي تدع.
فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «صدقت، بارك الله عليك، فحولها رسول الله الي بيت حارثه [182] .
وروي فقال (صلي الله عليه و آله) لعلي (عليه السلام): «هيي ء منزلا حتي تحول فاطمه اليه».
فقال علي (عليه السلام): «يا رسول الله ما هاهنا منزل الا منزل حارثه بن النعمان».
فقال (صلي الله عليه و آله): «والله، لقد استحيينا من حارثه بن النعمان فقد أخذنا عامه منازله».
فبلغ ذلك حارثه فجاء الي النبي (صلي الله عليه و آله)، فقال: يا رسول
[ صفحه 125]
الله، أنا و مالي لله و لرسوله، والله ما شي ء أحب الي مما تأخذه، والذي تأخذه أحب ألي مما تتركه، فجزاه الرسول خيرا.
فحول فاطمه
الي دار علي (عليهماالسلام) في منزل حارثه، و بسطوا علي أرض البيت كثيبا من الرمل، و نصبوا عودا يوضع عليه السقاء «القربه» و ستروه بكساء، و نصبوا خشبه من حائط لحائط للثياب، و بسط جلد كبش و مخده ليف.
فقال النبي (صلي الله عليه و آله): «يا علي، اصنع لأهلك طعاما فاضلا». لأهلك طعاما فاضلا».
و جاء أصحابه بالهدايا. الي آخرر ما تقدم.
و في كشف الغمه و مصباح الأنوار و كتاب المحتضر نقلا عن كتاب الفرودس، عن النبي (صلي الله عليه و آله) أنه قال: «لو لا علي لم يكن لفاطمه كف ء» [183] .
و في تفسير فرات الكوفي ملخصا: عن علي الجعفي معنعنا عن ابن عباس في قوله تعالي (و هو الذي خلق من الما بشرا فجعله نسبا و صهرا) [184] قال: خلق الله سبحانه نطفه بيضاء مكنونه فجعلها في صلب آدم، ثم نقلها الي صلب شيث و من صلب الي صلب، حتي توارثتها كرام الأصلاب في مطهرات الأرحام، حتي جعلها في صلب عبدالمطلب، ثم قسمها نصفين، فألقي نصفها الي صلب عبدالله، و نصفها الي صلب أبي طالب، (و هي السلاله الطاهره) فولدت لعبدالله محمدا، و لأبي طالب عليا (عليهماالسلام).
فذلك قوله تعالي الايه، و زوج فاطمه بنت محمد عليا، فعلي من محمد، و محمد من علي، و الحسن و الحسين و فاطمه نسب و علي الطهر صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين.
[ صفحه 129]
انتقلت السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) الي البيت الزوجي، و كان انتقالها من بيت الرساله و النبوه الي دار الامامه و الوصايه و الخلافه و الولايه، و حصل تطور في سعاده حياتها، فبعد أن كانت
تعيش تحت شعاع النبوه صارت قرينه الامامه.
كانت حياتها في البيت الزوجي تزداد اشراقا و جمالا، اذ كانت تعيش في جو تكتنفه القداسه و النزاهه، و تحيط به عظمه الزهد و بساط العيش، و كانت تعين زوجها علي امر دينه و آخرته، و تتجاوب معه في اتجاهاته الدينيه، و تتعاون معه في جهوده و جهاده.
و ما أحلي الحياه الزوجيه اذا حصل الانسجام بين الزوجين في الاتجاه و المبدأ و نوعيه التفكير، مبينا علي أساس التقدير و الاحترام من الجانبين.
و ليس ذلك بعجيب، فان السيده فاطمه الزهراء تعرف لزوجها مكانته العظمي و منزلته العليا عندالله تعالي، و تحترمه كما تحترم المرأه المسلمه امامها، بل أكثر و أكثر، فان السيده فاطمه كانت عارفه بحق علي حق معرفته، و تقدره حق قدره، و تطيعه كما ينبغي، لأنه أعز الخلق الي رسول الله.
لأنه صاحب الوالايه العظمي، و الخلافه الكبري، و الامامه المطلقه.
لأنه أخو رسول الله و خليفته، و وارثه و وصيه.
لأنه صاحب المواهب الجليله، و السوابق العظيمه.
و هكذا كان علي (عليه السلام) يحترم السيده فاطمه الزهراء احتراما لائقا بها،لا لأنها زوجته فقط:
بل لأنها أحب الخلق الي رسول الله.
لأنها سيده نساء العالمين.
[ صفحه 130]
لأن نورها من نور رسول الله.
لأنها من الذين بهم فتح الله كتاب الايجاد و الوجود، أنها كتله من العظمه.
لأنها مجموعه من الفضائل، و لو كانت فضيله واحد من تلك الفضائل متوفره في امرأه واحده لا ستحقت التقدير و التعظيم.
فكيف بفاطمه الزهراء، و قد اجتمعت فيها من المزايا و المواهب و الفضائل و المكارم ما لم تجتمع في أيه امرأه في العالم كله، من حيث النسب الشريف
الأرفع، و الروحانيه و القدسيه، من حيث بدء الخلقه و منشأ ايجادها و كرامتها عندالله، و عبادتها و عملها و ديانتها و زهدها و تقواها و طهارتها و نفسيتها و شخصيتها، و غير ذلك من مئات المزايا مما بطول الكلام بذكرها.
بعد ما قصصنا و ما لم نقصص عليك يمكن لك أن تدرك الجو الذي كان الزوجان السعيدان يعيشانه، و الحياه الطيبه السعيده الحلوه (بجميع معني الكلمه) التي كانا يتمتعان بها:
حياه لا يعكرها الفقر، و لا تغيرها الفاقه، و لا تضطرب بالحوادث.
حياه يهب عليها نسيم الحب و الوئام، و تزينها العاطفه بجمالها المدهش.
لم يعلم بالضبط مده اقامه الامام و السيده فاطمه (عليهماالسلام) في دار حارثه بن النعمان، الا أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) بني لها بيتها ملا صقا لمسجده، له باب شارع الي المسجد، كبقيه الحجرات التي بناها لزوجاته،و انتقلت السيده فاطمه الي ذلك البيت الجديد الملاصق لبيت الله، المجاور لبيت رسول الله (صلي الله عليه و آله).
و قد تحملت فتاه الاسلام النموذيجه في بيتها الجديد عند علي بن أبي طالب قائد الجند، و وزير الرسول (صلي الله عليه و آله) و مشاوره الأول، وظائف جسيمه. و مسؤوليات عظيمه، اذ كان عليها أن ترسم معالم البيت الاسلامي النموذجي في الاسلام بوضوح، و تعطي الدروس العمليه لنساء
[ صفحه 131]
العالم أجمع عن الوفاء و الحب و الانسجام و حسن التبعل و تربيه الابناء، و القيام بواجبات البيت و الاحتفاظ بدفئه و حرارته و طراوته، فكانت القدوه الصالحه، و كانت حقيقه الدين النورانيه، و الاسلام المتحرك الشمع المجسد في الوسط النسوي و الاجتماعي.
كانت السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) تسكن
و تعيش في بيت محاطا بالقداسه و الروحانيه و النور، و كان نبينا علي الاحترام المتبادل و التقدير، و لم يعرف حق ذلك البيت الا كل من عرف حق فاطمه و بعلها و بنيها.
روي شيخنا المجلسي (رحمه الله) عن أنس ابن مالك و عن بريده قال: قرأ رسول الله (صلي الله عليه و آله) (في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال) [185] فقام رجل فقال: أي البيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء». فقام اليه أبوبكر، فقال: يا رسول الله! هذا البيت منها؟ و أشار الي بيت علي و فاطمه (عليهماالسلام) قال: «نعم، من أفضلها!!».
[ صفحه 132]
بيت علي و فاطمه، هو البيت الوحيد الذي يضم بين جدرانه زوجين معصومين مطهرين منزهين عن ارتكاب الذنوب و اكتساب المآثم، و يتصفان بالفضيله الاخلاقيه و الكمال الانساني.
فعلي (عليه السلام) نموذج الرجل الكامل في الاسلام، و فاطمه نموذج المرأه الكامله في الاسلام.
علي بن أبي طالب كبر و ترعرع منذ نعومه أظفاره علي يدي الرسول الاكرم (صلي الله عليه و آله)، و كان محور اهتمامه (صلي الله عليه و آله)، غذاه العلم و الخلق و الفضائل و الكمالات، و الزهراء تربت في أحضان النبي الطاهره أيضا.
استأنست أذنهم الواعيه منذ الصغر بالقرآن الكريم، و هم يسمعون النبي (صلي الله عليه و آله) يرتله ليلا و نهارا و في كل آن، و أطلوا علي العيب و ارتشفوا العلوم و المعارف الاسلاميه من معينها الاصيل و منبعها العذاب الزلال، ورأوا الاسلام يتحرك في شخصيته رسول الله (صلي الله عليه و آله) و...فكيف اذن لا تكون اسرتهم النموذج الامثال للاسره المسلمه؟!
كان بيت علي و فاطمه (عليهاالسلام) اروع نموذج في الصفاء و الاخلاص و الموده و الرحمه، تعاونا فيه بوئام و اخلاص علي اداره شوون البيت و انجاز اعماله. و قد تقاضيا في ابن حياتها الزوجيه الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و في الخدمه فقضي (صلي الله عليه و آله) بخدمه فاطمه ما دون الباب، و قضي علي علي (عليه السلام) بما خلفه.
فقالت فاطمه (عليهاالسلام): «فلا يعلم ما داخلني من السرور الا الله، بكفايتي رسول الله (صلي الله عليه و آله) تحمل رقاب الرجال» [186] .
[ صفحه 133]
نعم فخريجه مدرسه الوحي (فاطمه) تعلم أن البيت معقل المرأه و من المواقع المهمه في الاسلام، و اذا ما تخلت عنه و سرحت في البيع و الشراء، عجزت عن القيام بوطائف البيت و تربيه الابناء كما ينبغي، فتهلل وجهها بالبشر و داخلها السرور حينما قضي الرسول (صلي الله عليه و آله) علي علي (عليه السلام)بأداء الاعمال الصعبه خارج البيت....
و لم تستنكف وحيده الرسول- و هي بنت أعظم رجل في الاسلام و العالم- من العمل في البيت، و لم تتنصل من أداء مهام البيت، حتي أن عليا (عليه السلام) رق لحالها و امتدح صنعها، و قال لرجل من بني سعد:
«ألا احدثك عني و عن فاطمه؟... انها كانت عندي و كانت من أحب أهله (صلي الله عليه و آله) اليه، و انها استقت بالقربه حتي أثر في صدرها، و طحنت بالرحي حتي مجلت يداها، و كسحت البيت حتي اغبرت ثيابها، و أوقدت النار تحت القدر حتي دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد.
فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك ضر ما أنت فيه
من هذا العمل.
فأتت النبي (صلي الله عليه و آله) فوجدت عنده حداثا، فاستحت فانصرفت».
قال علي (عليه السلام): «فعلم النبي (صلي الله عليه و آله) أنها جاءت لحاجه.
قال: فغذا علينا رسول الله (صلي الله عليه و آله) و نحن في لفاعنا.
فقال: السلام عليكم.
فقلت: و عليك السلام يا رسول الله، ادخل، فلم يعد أن جلس عندنا.
فقال: يا فاطمه، ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟
قال: فخشيت ان لم تجبه أن يقوم.
[ صفحه 134]
فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله انها استقت بالقربه حتي أثرت في صدرها، و جرت بالرحي حتي مجلت يداها، و كسحت البيت حتي أغبرت ثيابها، و أقدت النار تحت القدر حتي دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل.
قال (صلي الله عليه و آله): أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ اذا أخذتما منامكما فسبحا ثلاثا و ثلاثين و احمدا ثلاثا و ثلاثين و كبرا أربعا و ثلاثين. فذلك مائه باللسان و ألف حسنه في الميزان».
فقالت: رضيت عن الله و رسوله (صلي الله عليه و آله)» [187] .
و في روايه اخري: أنها لما ذكرت حالها و سألت جاريه، بكي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقال:
«يا فاطمه، والذي بعثي بالحق، ان في المسجد اربعمائه رجل ما لهم طعام و لا ثياب، و لو لا خشيتي لأ عطتيك ما سألت.
يا فاطمه، و اني لا اريد أن ينفك عنك أجرك الي الجاريه و اني أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم القيامه بين يدي الله- عز و جل- اذا طلب حقه منك ثم
علمها صلاه التسبيح».
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): «مضيت تريدين من رسول الله (صلي الله عليه و آله) الدنيا فأعطانا الله ثواب الآخره» [188] .
و في ذات يوم دخل رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي علي (عليه السلام) فوجده هو و فاطمه (عليهاالسلام) يطحنان في الجاروش فقال النبي (صلي الله عليه و آله): أيكما أعيي؟
فقال علي (عليه السلام): «فاطمه، يا رسول الله».
[ صفحه 135]
فقال لها: «قومي يا بنيه». فقامت و جلس النبي (صلي الله عليه و آله) موضعها مع علي (عليه السلام) فواساه في طحن الحب [189] .
وروي عن جابر الأنصاري أنه رأي النبي (صلي الله عليه و آله) فاطمه و عليها كساء من أجله الأبل، و هي تطحن بيديها و ترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلي الله عليه و آله). فقال: «يا بنتاه، تعجلي مراره الدنيا بحلاوه الآخره».
فقالت: «يا رسول الله، الحمدلله علي نعمائه، و الشكر لله علي آلائه»، فأنزل الله (و لسوف يعطيك ربك فترضي) [190] .
و عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: «كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) يحتطب و يستقي و يكنس، و كانت فاطمه (عليهاالسلام) تطحن و تعجن و تخبز» [191] .
و عن أنس: أن بلالا أبطأ عن صلاه الصبح، فقال له النبي (صلي الله عليه و آله): «ما حسبك؟».
قال: مررت بفاطمه تطحن و الصبي يبكبي، فقلت لها: ان شئت كفيتك الرحي و كفيتيني الصبي، و ان شئت كفيتك الصبي و كفيتيني الرحي.
فقالت: «أنا أرفق بابني منك».
فذاك الذي حبسني.
قال: «فرحمتها، رحمك الله» [192] .
[ صفحه 136]
عاشت الزهراء (عليهاالسلام) في بيت ثاني أعظم شخصيه اسلاميه، رجل الشجاعه القوي، و قائد الجند،
و وزير الرسول (صلي الله عليه و آله)، و مشاوره الخاص،و هي تعرف مكانته و أهميته، فلو لا سيف علي ما قامت للدين قائمه.
عاشت (عليهاالسلام) في بيت علي (عليه السلام) في ظروف حساسه و غايه في الحطوره، يوم كانت جيوش الاسلام في حاله انذار دائم، و كانت تشتبك في حروب ضروس في كل عام، و قد اشترك الامام علي (عليه السلام) فيها جميعا أو في أكثرها.
و الزهراء (عليهاالسلام) تعرف مسؤولياتها الثقيله جيدا، و دورها و نفوذها في التأثير علي زوجها. فالمرأه لها نفوذ واسع علي زوجها، و يمكنها أن توجهه الي أي جهه تشاء. و من الواضح أن سعاده الرجل و تعاسته، و رقيه و تراجعه، و انشراحه و كآبته، و نجاحه و فشله في الحياه، لها علاقه و ثيقه بالمرأه و تعاملها في داخل البيت.
و البيت هو المللجأ الذي يلجأ اليه الرجل فرارا من متاعب الحياه و مشاكل الدنيا و مصائب المجتمع و آلامه، ليسريح في ظلاله الوارفه، و يستعيد قواه و يتزود للقاء جديد مع الحياه خارج البيت، و يتحمل المهام و الوظائف اللمقاه علي عاتقه، و المرأه هي المسؤول الأول عن هذا المتجع، و قد جعل الله الزوجه سكن للرجال كما روي عن الامام موسي بن جعفر (عليه السلام): «جهاد المرأه حسن التبعل» [193] .
[ صفحه 137]
و الزهراء (عليهاالسلام) تعلم أن قائد الجيش الشجاع- علي (عليه السلام)- يدخل ساحه الوغي و ينتصر علي عدوه اذا ما سكن و اطمأن لزوجته، و سعد و فرغ باله في بيته. فكان الامام- و هو سيد المحاربين و المضحي من أجل الدين- يعود الي البيت بجسد متعب مكدود، فيجد الدف ء و الحنان
و الموده في زوجته العزيزه، حين تضمد جراحه، تغسل الدم عن جسده، و ثيابه، تسأله عن أخبار الحرب. الزهرا؟ (عليهاالسلام) كانت تقوم بكل هذه المهام، بل كانت تغسل الدم عن ثياب النبي (صلي الله عليه و آله) أحيانا.
وروي ان النبي (صلي الله عليه و آله) و عليا (عليه السلام) حينما عادا من غزوه احد دفعا بسيفيهما الي فاطمه و قالا: «اغسلي عنهما الدم» [194] .
كانت الزهراء (عليهاالسلام) تشجع زوجها، و تمتدح شجاعته و تضحيته و تشد علي يده لتعده للمعارك المقلبه و تسكن جراحه و تمتص آلامه، و تسري عنه أتعابه، حتي قال الامام علي (عليه السلام): «و لقد كنت أنظر اليها فتنجلي عني الغموم و الاحزان بنظرتي اليها» [195] .
ما خرجت فاطمه من بيتها بدون اذن زوجها، و ما اسخطته يوما، لأنها تعلم ان الله لا يقبل عمل امرأه اسخطت زوجها حتي ترضيه [196] .
الزهراء (عليهاالسلام).. لم تغضب زوجها يوما، و لم تخرج من البيت بدون اذنه.و ما كذبت في بيته، و ما خانته، و ما عصمت له أمرا حتي قال الامام (عليه السلام):
«فوالله ما أغضبتها و لا أكربتها من بعد ذلك حتي قبضها الله اليه، و لا أغضبتني و لا عصت لي أمرا» [197] .
[ صفحه 138]
و ذكر الامام (عليه السلام) ذلك في لحظات عمر الزهراء (عليهاالسلام) الآخيره حين قالت: «يا ابن عم، ما عهدتني كاذبه و لا خائنه، و لا خالفتك منذ عاشرتني».
فقال: «معاذ الله، أنت أعلم بالله و أبر و أتقي و أكرم و أشد خوفا منه، و الله جددت علي مصيبه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قد عظمت وفاتك و فقدك،
فانا لله و انا اليه راجعون» [198] .
من أجل هذا أحزر الامام (عليه السلام) كل هذا التوفيق و النجاح و النتصار في حياته.
هذه هي الزهراء (عليهاالسلام)، و أما علي (عليه السلام) فلا يتصور أنه كان- و العياذ بالله- من الرجال المغرورين، الذي ينتظر من زوجته كل شي ء و يعقد عليها آلاف الآمال و التوقعات، و لا يهتم بمسؤولياته و واجباته، و يتعامل معها معامله الاماء و الرقيق.
أبدا، لم يكن علي (عليه السلام) كأولئك، و انما كان و فيا مخلصا يجازي الاحسان بالاحسان، و يعلم أنه يقتحم الموت في سلحه المعركه، و زوجته تجاهد من وارء في معقل البيت، و تقوم بكل مهام البت في غيابه، تطبخ الطعام، و تغسل الثيلب، و تربي الاطفال، و تؤمن احتياجات المنزل رغن القحط و الشحه و العسر في زمن الحرب، تتألم لما تسمعه من أخبار الحرب الواصله.
و خلاصه القول: انها كانت تدير بيتا لا تقل ادارته عن اداره دوله كامله.
و الامام علي (عليه السلام) يعلم ان الجندي المضحي الداخلي يحتاج الي من يسمح بالحنان قبله و يشجعه و يرفق به، فكان اذا دخل البيت سأل عما جري فيه أثناء غيابه، و عما تحملته الزهراء (عليهاالسلام) من المشقه و العناء و ينثر محبته و وده، فيريل أتعاب الجسد المكدود، و يهدي القلب المغموم بلطفه،
[ صفحه 139]
و يواسيها و يعينها علي الفقر و العسر و الفاقه، و يدفعها بقوه للاستمرار في العمل و الحياه.
فألمرأه تحتاج الرجل، كي يغدق عليها حبه و حنانه و يعشرها بالخلاصه لها و تشجيعه اياها علي ما تبذله من جهد، و تقوم به من دور، و ذلك عين ما يحتاجه
الرجل من المرأه.
هكذا عاش هذان الزوجان المنوذجيان في الاسلام و أديا واجباتهما، و ضربا با المثل الأعلي للأخلاق الاسلاميه الساميه.
كيف لا؟ و قد قال النبي (صلي الله عليه و آله) في ليله الزفاف لعلي (عليه السلام): «يا علي! نعم الزوجه زوجتك».
و قال لفاطمه: «يا فاطمه نعم البعل بعلك» [199] .
و قال (صلي الله عليه و آله): «لولا علي لم يكن لفاطمه كف ء» [200] .
وروت فاطمه (عليهاالسلام) عن أبيها أنه قال: «خياركم ألينكم مناكبه و أكرمهم لنسائهم» [201] .
و قال علي (عليه السلام) صبيحه عرسه، حينما سأله النبي (صلي الله عليه و آله): «كيف وجدت أهلك؟».
قال: «نعم العون علي طاعه الله» [202] .
[ صفحه 140]
ان الامومه من الوظائف الحساسه و المهام الثيقله التي القيت علي عاتق الزهراء (عليهاالسلام) حيث رزقت (عليهاالسلام) خمسه أطفال هم: الحسن، و الحسين، و زينب، و ام كلثوم، و محسن- الذي اسقط و هو جنين في بطن امه- و بقي لها ولدان و بنتان. و قد قدر الله سبحانه أن يكون نسل رسول الله (صلي الله عليه و آله) و ذريته من فاطمه (عليهاالسلام).
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ان الله جعل ذريه كل نبي من صلبه خاصه و جعل ذريتي من صلبي و من صلب علي بن أبي طالب» [203] .
لهذا تحملت فاطمه (عليهاالسلام) مسؤوليه التربيه، و قد تبدو لفظه «تربيه الأطفال» مختصره صغيره ليس فيها كثير عناء، الا أن معناها عميق واسع و حساس جدا.
فالتربيه ليست مجرد أن يوفر الأب الطعام و الشراب و اللبس، و يسعي للمحصول علي لقمه العيش، بينما تهي ء الام الطعام و تغسل الملابس،
و تراعي نظامه الطفل و ما شاكل، و أن لا مسؤوليه اخري سوي هذه.
لا، أبدا، فالاسلام لا يكتفي بهذا الحد، و انما يجعل مسؤوليه الأبوين أكبر بكثير مرهونه بتربيه أبويه و مراقبتهما و متابعتهما له، و كل صغيره و كبيره من حركاتها و سكناتهما و أفعالهما و سلوكهما- كأبوين- تؤثر في روح الطفل الشفيفه، فهو يقلد أبويه، و يعكس سلوكهما تماما كالمرآه.
من هنا أصحبت مسؤوليه الأبوين مراقبه أطفالهم بدقه، و الاعداد لمستقبلهم بجديه، و حمايه فطرتهم السليمه من التلوب- لأن الله خلقهم علي
[ صفحه 141]
فطره الايمان-.
و الزهراء (عليهاالسلام) ربيبه الوحي التي كبرت في أحضان النبوه، تعرف مناهج التربيه الاسلاميه، و لا تغفل عنها و عن تأثيرها في الطفل، ابتداء من تغذيته من لبن امه و قبلتها علي وجهه، الي سلوكها و أفعالها و أقوالها.
تربي (عليهاالسلام) مثل الحسن (عليه السلام) ليتجرع الغصص في المواقف الحرجه،و يختار السكوت و يصالح معاويه، و يفهم العالم أن الاسلام يرجح السلام علي الحرب، فيسقط ما في يد معاويه و يفشل ريحه، و يميت مؤامرته، و يكشف تظيله للناس، و تنتهي اللعبه التي أراد معاويه أن يمررها علي المسلمين.
و الزهراء (عليهاالسلام) تريد أن تربي مثل الحسين (عليه السلام) الذي يضحي بنفسه و بكل أهله و أصحابه و أعزائه في سبيل الله و من أجل الدفاع عن الذين، و مقارعه الظلم و الظالمين، ليروي بدمه شجره الاسلام.
و تربي نساء مثل زينب و ام كلثوم، و تعلمهن في مدرسه البيت دروس التضحيه و الفداء و الصمود أمام الظالمين، حتي لا يرعن و لا يخضعن للظالم و قوته، و يقلن الحق، و تعلمهن كيف ديوان يعرضن مظلومه
الحسين علي الاسماع، فيبكي العدو و المحب في ديوان بني اميه، تعلمهن كيف يقفن تلك المواقف المشرفه، و يخطبن علي الملا بشجاعه، و يفضحن مخططات الأمويين و جرائمهم و يحلن دون تحقيق الظالم لأهدافه.
من هذه النماذج المعجزه تتجلي عظمه الزهراء (عليهاالسلام) و قوتها الروحيه الفريده.
نعم، لم تكن الزهراء (عليهاالسلام) من تلك النساء القاصرات الجاهلات- و العياذ بالله- لتتصور البيت بمحيطه الصغير الضيق و انما كانت تحسب محيط واسعا شاسعا مهما، باعتباره مصنعا لانتاج الانسان
[ صفحه 142]
الرسالي، و جامعه لتعليم دروس الحياه و معكسر لتلقي تمارين التضحيه و الفداء التي سيطبقها غدا في المجتمع الواسع خارج البيت.
و الزهراء (عليهاالسلام) لم تشعر بعقده النقص لأنها امرأه، فالمرأه- عندها- وجود مقدس له مكانته العاليه، و مقامه الشامخ، و قد فوض الله اليها أصعب مسؤوليه و أثقل مهمه في الحياه [204] .
و هذه نماذج من نمط حياتهما داخل البيت
عن أبي سعيد الخدري قال: أصبح علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم ساغبا فقال: يا فاطمه هل عندك شي ء تغذينيه؟ قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوه و أكرمك بالوصيه اوثرك به علي نفسي و علي ابني هذين الحسن و الحسين، فقال علي:يا فاطمه ألا كنت أعلمتني فأبغيكم شيئا؟ فقالت: يا أباالحسن اني لاستحي من الهي أن اكلف نفسك ما لا تقدر عليه [205] .
و دخل رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي علي و فاطمه (عليهماالسلام) في البيت فوجدهما يطحنان في (الجاروش)، فقال (صلي الله عليه و آله): «أيكما أعبي؟ فقال علي: فاطمه يا رسول الله، فقال لها: قومي يا بنيه، فقامت، و جلس النبي (صلي الله عليه و آله) موضعها مع
علي (عليه السلام) فواساه في طحن الحب [206] .
و عن أبي عبدالله، عن أبيه عليهماالسلام قال: «تقاضي علي و فاطمه الي رسول الله صلوات الله عليهم في الخدمه، قضي الخدمه، قضي علي فاطمه بخدمه البيت مادون الباب، و قضي علي علي بما خلفه، قال: فقالت فاطمه: فلا يعلم ما دخلني من السرور الا الله باكفأئي رسول الله تحمل رقاب الرجال. ذكر ذلك صاحب كتاب (فاطمه الزهراء) بهجه قلب المصطفي ص 495.
[ صفحه 143]
و حملت السيده فاطمه الزهراء بولدها الحسن (عليه السلام) و عمرها اثنتا عشره سنه و انتقل شي ء من نور الامام و الامامه من صلب علي الي فاطمه، و من الطبيعي أن النور يتجلي في وجهها، و يزهر وجهها كي يصدق عليها اسم (الزهراء).
و اقتربت الولاده، و اتفقت للرسول سفره جاء يودع ابنته فاطمه، فأوصاها بوصايا تتعلق بالمولود المنتظر و منها: أن لا يلفوه في خرقه صفراء.
و وضعت فاطمه وليدها الأول في النصف من شهر رمضان (علي قول) سنه ثلاث من الهجره، فكان يوما عظيما، و قد حضرت عند الولاده أسماء بنت عميس فلفوه في خرقه صفراء لا تعمدا و مخالفه للرسول، بل سهوا و غفله أو جهلا من النسوه اللاتي حضرن الولاده.
فأقبل النبي (صلي الله عليه و آله) و قال: «أروني ابني، ما سميتوه؟».
و كانت فاطمه قالت لعلي (عليه السلام): «سمه». فقال علي: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله، فلما جاء النبي و أخذ المولود قال: «ألم أنهكم أن تلفوه في خرقه صفراء؟». ثم رمي بها، و أخذ خرقه بيضاء فلفه بها.
ثم قال لعلي (عليه السلام): «هل سميته؟» فقال علي: «ما كنت لأسبقك باسمه». فقال النبي (صلي الله عليه
و آله): «و ما كنت لأسبق ربي عز و جل».
فأوحي الله الي جبرئيل: أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط، فاقرأه السلام، و هناه و قل له: «ان عليا منك بمنزله هارون من موسي، فسمه باسم ابن هارون».
فهبط جبرئيل فهناه من الله عز و جل، ثم قال: ان الله تبارك و تعالي يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون.
[ صفحه 144]
فقال النبي (صلي الله عليه و آله): «و ما كان اسمه؟».
قال جبرئيل: شبر.
فقال النبي: «لساني عربي» [207] .
قال جبرئيل سمه الحسن.
فسماه الحسن، و أذن رسول الله (صلي الله عليه و آله) في أذنه اليمني و أقام في اليسري.
فلما كان يوم السابع عق النبي (صلي الله عليه و آله) بكبشين أملحين و أعطي القابله فخذا و دينارا. و حلق رأسه، و تصديق بوزن الشعر فضه، و طلي رأسه بالخلوق (طيب مركب من الزعفران و غيره) و قال: «يا أسماء الدم فعل الجاهليه»أي أن أهل الجاهليه كانوا يطلون رأس المولود بالدم.
و كان الرسول يقبله، و يدخل لسانه في فم الحسن فيمصه الحسن و قيل: كان ذلك كله يوم السابع من الولاده.
عن أبي ملكيه قال: كانت فاطمه (عليهاالسلام) تنفز الحسن بن علي و تقول: بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي [208] .
و عن فاطمه (عليهاالسلام) قالت: قلت: «يا رسول الله، أنحل أبني الحسن و الحسين، فقال: أنحل الحسن المهابه و الحلم، و أنحل الحسين السماحه و الرحمه»و في روايه، «نحلت هذا الكبير المهابه و الحلم، و نحلت الصغير المحبه و الرضا» و فيه أيضا قال (صلي الله عليه و آله): «أما الحسن فان له هيبتي و سؤددي، و
أما الحسين فان له جرأتي وجودي [209] .
[ صفحه 145]
حملت السيده فاطمه الزهراء بطفلها الثاني، و مضت سته أشهر علي الحمل، و اذا بها تشعر بعلائم الولاده. كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) قد بشر بولاده الحسين كما قال الامام الصادق (عليه السلام) قال: أقبل جيران أم ايمن الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقالوا: يا رسول الله ان أم ايمن لم تنم البارحه من البكاء، لم تزل تبكي حتي أصبحت. فبعث رسول الله الي أم ايمن فجاءته فقال لها: «يا ام أيمن! لا أبكي الله عينيك! ان جيرانك أتوني و أخبروني أنك لم تزل الليل تبكين أجمع، فلا أبكي الله عينيك منا الذي أبكاك؟». قالت: يا رسول الله، رأيت رؤيا عظيمه شديده، فلم أزل أبكي الليل أجمع فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آله): «فقصيها علي رسول الله، فان الله و رسوله أعلم». فقالت: تعظم علي أن أتكلم بها. فقال لها: «ان الرؤيا ليست علي تري، فقصيها علي رسول الله».
فقالت: رأيت ليلتي هذه كأن بعض أعضائك ملقي في بيتي! فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آله): «نامت عينك و رأيت خيرا، يا ام ايمن تلد فاطمه الحسين فتربينه و تلبينه فيكون بعض أعضائي في بيتك».
فلما ولدت فاطمه الحسين (عليهماالسلام) أقبلت به أم أيمن الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقال: «مرحبا بالحامل و المحمول، يا أم أيمن هذا تأويل رؤياك».
و رأت أم الفضل زوجه العباس (عم النبي) رؤيا شبيه برؤيا أم أيمن.
و حضرت النسوه وقت الولاده، منهن: صفيه بنت عبدالمطلب (عمه النبي) و أسماء بنت عميس و أم سلمه، فلما ولد الحسين قال النبي (صلي الله عليه و آله): «يا عمي هلمي الي ابني». فقالت:
يا رسول الله انا لم ننظفه بعد.
[ صفحه 146]
فقال: «يا عمه أنت تنظفينه؟ ان الله تبارك و تعالي قد نظفه و طهره».
و هبط جبرئيل علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أمراه أن يسميه: الحسين باسم ابن هارون، و كان اسمه بالعبريه (شبير) و معناها بالعربيه: الحسين.
و هبط علي النبي (صلي الله عليه و آله) أفواج من الملائكه لتهنئه بولاده الحسين و تعزيه بشهادته، و أخذ رسول الله (صلي الله عليه و آله) الحسين، فجعل لسانه في فمه، فجعل الحسين يمص و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يأتيه كل يوم. فيلقمه لسانه فيمصه الحسين حتي نبت لحمه و أشتد عظمه من ريق رسول الله (صلي الله عليه و آله) و لم يرتضع الحسين (عليه السلام) من أمه، و لا من امرأه اخري! قال سيدنا بحرالعلوم (عليه الرحمه):
لله مرتضع لم يرتضع أبدا
من ثدي انثي و من طه مراضعه
يعطيه ابهامه آنا فآونه
لسانه فاستوت منه طبائعه
و في يوم السابع من ولادته أمر رسول الله (صلي الله عليه و آله) فحلق رأي الحسين، و تصديق بوزن شعره فضه، و عق عنه [210] . هذا و تجد التفصيل في كتابنا «الحسين عليه السلام» الحلقه الخامسه من السلسله الذهيبه لموسوعه المصطفي و العتره.
[ صفحه 147]
ولدت السيده زينب الكبري في السنه الخامسه من الهجره، و هي المولود الثالث للبيت النبوي العلوي الشريف الأرفع.
و انني أراها- هنا- في غني عن التعريف و الوصف، و ما عساني أن أقول في سيده أبوها: الامام المرتضي علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أمها التي أنجبتها: سيده
نساء العالمين الصديقه الكبري فاطمه الزهراء بضعه الرسول (صلي الله عليه و آله) و أخواها سيدا شباب أهل الجنه الامامان: الحسن و الحسين (عليهماالسلام).
فهي حصيله الفضائل، و نتيجه العظمه، محاطه بهاله من الشرف الرفيع من جميع جوانبها.
فلا تسأل عن صدر أرضعها، و حجر رباها، و تربيه شملتها، و رعايه أحاطت بها، و البيت الذي فتحت فيه عينيها.
و لا تسأل عن عوامل الوراثه، تفاعل التربيه، و تأثير الجو العائلي المقدس في نفسيه السيده زينب، مضافه الي أخلاقها المكتسبه، و مواهبها التي ظهرت من الامكان الي الفعل.
و كم يؤلمني أن أقول بأن التاريخ قد ظلم السيده زينب كما ظلم أباه و أمها و أسرتها أجمعين، اذ لم يعبا بها التاريخ كما ينبغي، و لم يتحدث عنها كما تقتضيه و تتطلبه شخصيه سيده مثل زينب الكبري عقيله الهاشميين، حفيده رسول الله (صلي الله عليه و آله).
سماها جدها الرسول زينبا.
و قد ذكر الشيخ محمد جواد مغينه في كتابه: (الحسين و بطله كربلاء) نقلا عن جريده (الجمهوريه) المصريه 1972/10/31 م مقالا للكاتب المصري يوسف محمود، نقتطف منه موضع الحاجه:
[ صفحه 148]
ولدت في شعبان من السنه الخامسه للهجره، فحملتها أمها، و جاءت بها الي أبيها (علي) و قالت: سم هذه المولوده.
فقال لها- رضي الله عنه-: «ما كنت لأسبق رسول الله (صلي الله عليه و آله)» و كان في سفر له، و لما جاء النبي و سأله عن اسمها قال: «ما كنت لأسبق ربي».
فهبط جبرئيل يقرأ علي النبي السلام من الله الجليل و قال له:
اسم هذه المولوده زينب، فقد اختار الله لها هذا الاسم.
هذا ما ذكره صاحب المقال بدون تعرض لسند
هذا الحديث، ذكرته بالمعني الواحد.
و للسيده زينب الكبري حياه مشرقه و تاريخ حافل بالمكارم، و الفضائل و ملي ء بالمآسي في أدوار حياتها في عهد الطفوله و دور الصبا. من افتجاعها بجدها الرسول الأقدس (صلي الله عليه و آله) و أمها الصديقه الطاهره فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و الأحداث التي عاشتها السيده زينب طليه ربع قرن الفتره التي كان أبوها المرتضي علي (عليه السلام) جليس البيت مسلوب الامكانيات.
ثم هجرتها من المدينه الي الكوفه عاصمه أبيها يومذاك، و شاءت الاراده الالهيه أن تفجع السيده زينب بأبيها العظيم الامام علي (عليه السلام) تلك الكارثه التي اهتزت لها السموات العلي، و أعقبت ذلك أحداث من الحرب التي قامت بين أخيها الامام الحسن (عليه السلام) و بين معاويه، و أنتجت تلك النتائج و الي أن انتهت الفتره بوفاه الامام الحسن (عليه السلام) مسموما، و انتقضت سنوات و اذا بالسيده زينب تواجه كارثه أخري هي أعظم فاجعه عرفها التاريخ تلك فاجعه كربلاء الداميه ذات المسيره الطويله و الابعاد العديده فكانت السيده زينب تعيش تلك الأحداث بدون أن يعتريها انهيار أو ارتباك، لم تفقد أعصابها، و لم يختل و عيها، و الي أن رجعت الي المدينه، و حكمت السلطه عليها بالابعاد، فاختارت مصر، و قدر الله لها أن تفارق حياتها، تلك
[ صفحه 149]
الحياه المأساويه في أرض النيل فيكون مثواها ملاذا و معاذا و مهوي أفئده الملايين علي مر القرون الي يومنا هذا و الي يوم يعلمه الله.
و نقل العلامه المحقق الشيخ جعفر النقدي المتوفي سنه 1370 ه- نقلا عن مصادر مؤثوقه، في كتابه «زينب الكبري» ص 140- 144 أذكر منه محل الحاجه.
و ذكر النسابه العبيدلي الحسيني 214- 277
ه- في أخبار الزينبيات علي ما حكاه عنه مؤلف كتاب السيده زينب: أن زينب الكبري بعد رجوعها من أسر بني اميه الي المدينه أخذت تؤلب الناس علي يزيد بن معاويه، فخاف عمرو بن سعد الأشدق انتقاض الأمر، فكتب الي يزيد بالحال، فأتاه كتاب يزيد يأمره بأن يفرق بينها و بين الناس، فأمر الوالي باخراجها من المدينه الي حيث شاءت، فأبت الخروج من المدينه و قالت: قد علم الله ما صار الينا، قتل خيرنا، و سقنا كما تساق الأنعام، و حملنا علي الأقتاب، فوالله لا أخرج و ان اهرقت دماؤنا، فقالت لها زينب بنت عقيل: فطيبي نفسا و قري عينا، و سيجزي الله الظالمين، أتريدين بعد هذا هوانا؟! ارحلي الي بلد آمن، ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم فاطمه ابنه الحسين و سكينه، فدخلت مصر لأيام بقيت من ذي الحجه، فاستقبلها الوالي مسلمه بن مخلد الأنصاري في جماعه معه، فأنزلها دار بالحمراء، فأقامت به أحد عشر شهرا و خمسه عشر يوما، و توفيت عشيه يوم الأحد لخمسه عشر يوما مضت من رجب سنه اثنين و ستين هجريه، و دفنت بمخدعها في دار مسلمه المستجده بالحمراء القصوي حيث بساتين عبدالله بن عبدالرحمن بن عوف الزهري. انتهي نص العبيدلي.
و نقل الموافقه له في الدفن الشريف ناشر كتاب الزينبيات عن ابن عساكر الدمشقي في تاريخه الكبير، و المؤرخ ابن طولون الدمشقي في الرساله الزينبيه،
[ صفحه 150]
و وجدنا الموافقه له أيضا في كتاب لواقح الأنوار للشعراني 1/ 23، و في كتاب اسعاف الراغبين للشيخ محمد صبان: 196 بهامش نور الأبصار، و في كتاب نور الأبصار للشبلنجي: 166، و في الاتحاف للشبراوي: 93، و في مشارق الاأنوار
للشيخ حسن العدوي: 100 نقلا عن الشعراني في الأنوار القدسيه و المنن، و عن العلامه الاجهوري في رسالته علي مسلسل عاشوراء.
و هناك روايات عديده اخري حول مدفنها الشريف أنقلها بصوره موجزه من نفس الكتاب غير أنها ضعيفه السند.
قيل: أنها توفيت و دفنت في المدينه المنوره، و كان ذلك بعد رجوعها من الشام،متي و أين؟ لا أدري.
و القول الآخر: أنها هاجرت مع زوجها عبدالله بن جعفر الطيار الي الشام، و اثر المجاعه التي أصابت أهل المدينه، و توفيقت في أحدي قري الشام.
و قول آخر: أنها توفيت و دفنت حوالي الشام، و لعل المرقد المطهر الواقع قرب الشام ربما يكون قبر اختها السيده ام كلثوم و كانت تسمي بزينب الصغري والله العالم.
هذه نبذه موجزه و لمحه خاطفه تعتبر عصاره و خلاصه لحياه سيدتنا زينب الكبري (عليها و علي جدها و أمها و أبيها و أخويها الصلاه السلام).
و الي اللقاء في كتاب: (زينب الكبري الحلقه الخامسه عشر من السلسله الذهبيه-لوسوعه المصطفي و العتره).
[ صفحه 151]
استقبل بيت السيده فاطمه الزهراء و علي (عليهماالسلام) بنتهما الثانيه و طفلها الرابع بما استقبل به من سبقها من الأطفال من الفرح و السرور.
و قد شاركت السيده ام كلثوم أختها زينب في النسب الشريف و التربيه الممتازه و الأحداث كلها، و ان اختلفت عنها في بعض جوانب حياتها.
و هي أيضا من الذين شملهم ظلم التاريخ، كما شملتها المآسي و الآلام التي لا يتحملها أقوياء الرجال.
و لعلنا نتطرق الي نبذه من جوانب حياتها أثناء التحدث عن شقيقتها زينب الكبري، و نؤدي بعض ما يتطلبه البحث و التحقيق ان شاءالله تعالي.
[ صفحه
152]
بيت الزهراء (عليهاالسلام) مدرسه اسلاميه تربويه للطفل المسلم.
مديرتها المرأه الاولي في الاسلام؛ الصديقه الطاهره فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و معاونها علي ابن أبي طالب (عليه السلام)؛ أو ثاني رجل في الاسلام، و باشراف مباشر من الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله).
و منهاجها تنزيل من رب العالمين.
و خريجوها خيره البشريه و قدوه الانسانيه.
و هنا لا بد من الاعتراف- و للاسف الشديد- بأن التاريخ لم يسجل لنا مفردات المنهج القويم، ذلك لا سباب منها:
أولا: لأن المسلمين في ذلك العصر لم يكونوا بمستوي من الرشد و الوعي يؤهلهم للاهتمام بالتربيه و المناهج التربويه، فلم يراقبوا جزئيات سلوك النبي (صلي الله عليه و آله) و علي و فاطمه (عليهماالسلام)، قولا و فعلا مع أبنائهم، كي يرووها للاجيال القادمه.
و ثانيا: ان أكثر البرامج التربويه للطفل تطبق داخل البيت، و في مثل هذه الحاله يكون الستار مسدولا بوجه الآخرين غالبا.
و لكن يمكن القول اجمالا أن مناهج الزهراء (عليهاالسلام) في التربيه هي نفسها مناهج الاسلام الوارده في قرآن الكريم و أحاديث النبي (صلي الله عليه و آله) و الأئمه (عليهم السلام)، و مع هذا فان الشذرات القليله المرويه يمكن-الي حد ما- أن تكشف لنا عن منحاهم التربوي.
و جدير بالذكر، اننا الآن لسنا بصدد بيان الاصول و المناهج التربويه بشكل مفصل، لأن المقام لا يسع هذا التفصيل، و لكن نشير باختصار الي ما ورد من أخبار عما كانت الزهراء تفعله- كمناهج للتربيه- مع أبنائها.
[ صفحه 153]
الدروس الأول: الحب و الموده:
قد يتخيل البعض أن فتره التربيه تبدأ في حياه الطفل حينما يبدأ بالتمييز بين الجيد و الردي، و الحسن
و القبيح، و لا ثمره للتربيه قبل هذا الحين باعتباره لا يدرك شيئا عن محيطه الخارجي و بيئته.
و هذا الرأي واضح الفساد، لأن علماء التربيه يؤكدون أن ما يجري من أحداث و وقائع في بيئه الطفل أيام الطفوله المكبره، و كذلك طريقه تعامل الأبوين، و كيفيه الرضاعه، كلها تؤثر-بشكل و آخر- تأثيرا ملحوظا علي الطفل و بناء شخصيته في المستقبل.
و قد ثبت لدي علماء النفس و التربيه أن الطفل يحتاج أكثر ما يحتاج في فتره الطفوله المبكره و التأخره الي الشعور بحب الأخرين و اهتمام به و يلمس حب امه و أبيه و تعلقهما به، و لا يهمه بعدها أن يعيش في قصر مشيد أو كوخ خاو، و يلبس الشفوف أو الثياب المهلهله، و يأكل ما لذ وطالب أو لا يأكل، ما دام يستشعر الدف ء و العطف و الحنان الذي يشبع احساسه الداخلي، و يتدفق فيه ينبوعا أخلاقيا فاضلا يمده في مستقبل عمره و يقوم شخصيته.
صدر الام الرؤوم و حضنها الدافي، و حب الأب الخالص و عطفه الشفيف، يفجران فيه ينابيه الخير، و روح التعاون، و حب الآخرين و مساعدتهم هذه الموده تنجيه من الضعف و خوف الوحده، و تمنحه الأمل في الحياه.
هذه القبلات الصادقه و المحبه العميقه الصافيه، تزرع فيه بذور الخير و العادات الطيبه، و تفتح أمامه آفاق النشاط الاجتماعي و التعاون و خدمه الآخرين، و تهديه نحو السعاده، و تنتشله من الأعتزال و الهروب من الواقع.
هذا الحب يعشر الطفل بشخصيته و استحقاقه للحب و الحياه. و علي العكس تماما ينشأ الطفل المحروم من الحب و الحنان خائفا في الغالب،
[ صفحه 154]
خجولا، ضعيفا،
متشائما، معتزلا، خاملا، كئيبا، و قد يشب مريضا هزيلا لا يقوي علي شي ء و يحاول- من خلال ردود فعل خطيره- اثبات اثبات استغنائه عن المجتمع، فيرتكب الجرائم، كالسرقه و القتل لينتقم من المجتمع الذي حرمه الحب و الحنان و اللمسه الرقيقه، ليفهم الجميع أنه ليس بحاجه لحبهم الذي بخلوا به عليه.
فالحب و الحنان- اذن- من الحاجات الضرروريه في تربيه الطفل، و قد طبق هذا الدرس بدقه متناهيه في بيت الزهراء (عليهاالسلام)، و الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) علمه لا بنته عمليا.
فقد روي عن جابر انه قال: لما حملت فاطمه الحسن فولدت، و قد كان النبي (صلي الله عليه و آله) أمرهم أن يلفوه في خرقه بيضاء، فلفوه في صفراء، فجاء النبي (صلي الله عليه و آله) فأخذه و قبله، و أدخل لسانه في فيه، فجعل الحسن (عليه السلام) يمصه، ثم قال لهم رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ألم أتقدم اليكم أن لا تلفوه في خرقه صفراء»، فدعا (صلي الله عليه و آله) بخرقه بيضاء فلفه ورمي بالصفراء.
فلما ولد الحسين جاء اليهم النبي (صلي الله عليه و آله) ففعل به كما فعل بالحسن (عليه السلام) [211] .
وروي ان النبي (صلي الله عليه و آله) كان يصلي يوما في فئه و الحسين صغير بالقرب منه، فكان النبي (صلي الله عليه و آله) اذا سجد جاء الحسين فركب ظهره ثم حرك رجيله و قال: «حل، حل»، فاذا أراد رسول الله (صلي الله عليه و آله) أن يرفع رأسه أخذه فوضعه الي جانبه فاذا سجد عاد علي ظهر و قال: «حل، حل» فلم يزل يفعل ذلك حتي فرغ النبي (صلي الله عليه و آله) من
صلاته.
[ صفحه 155]
فقال اليهودي: يا محمد! انكم لتفعلون بالصبيان شيئا ما نفعله نحن.
فقال النبي (صلي الله عليه و آله): «أما لو كنتم تؤمنون بالله و رسوله لرحمتم الصبيان».
قال: فاني أؤمن بالله و رسوله. فأسلم لما رآي كرمه (صلي الله عليه و آله) مع عظيم قدره [212] .
و ذات يوم كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقبل الحسن و الحسين (عليهماالسلام) فقال الأقرع بن حابس: ان لي عشره ما قبلت واحدا منهم قط. فغضب رسول الله (صلي الله عليه و آله) حتي التمع لونه. و قال للرجل:
«ان كان الله قد نزع الرحمه من قبلك فما أصنع بك؟! من لا يرحم صغيرنا و لا يعزز كبيرنا فليس منا» [213] .
وروي أن النبي (صلي الله عليه و آله) مر علي بيت فاطمه (عليهاالسلام) فسمع الحسين يبكي، فقال: «ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني» [214] .
و عن أبي هريره: خرج رسول الله (صلي الله عليه و آله) و معه الحسن و الحسين هذا علي عاتقه و هذا علي عاتقه، و هو يلثم هذا مره و هذا مره حتي انتهي الينا فقال له رجل: يا رسول الله انك لتحبهما؟
فقال: «من أحبهما فقد أحبني، من أبغضهما فقد أبغضني» [215] .
وروي أن النبي (صلي الله عليه و آله) كان يقول لفاطمه (عليهاالسلام): «ادعي لي ابني»، فيشمهما- كما يشم الورده العطره- و يعضمهما اليه [216] .
[ صفحه 156]
و عن أبي هريره قال: رأيت النبي (صلي الله عليه و آله) يمص لعاب الحسن و الحسين كما يمص التمره.
الدرس الثاني: تنميه الشخصيه:
قال علماء النفس: لابد للمربي من أن ينشي الطفل
علي الثقه بالنفس و الاحترام و علو الهمه، و يشعره بشخصيته و كينونته، ليبتعد عن الاعمال الشريره، و لا يركع للايام و لا يخضع للذل و الهوان. و بالعكس لو احتقره المربي و لم يحترمه و حطم شخصيته، فانه يشب جبانا يعيش الهزيمه في داخله، و لا يشعر بقيمه لنفسه و لا يثق بها و لا يقدم علي الاعمال الكبيره لانه يتضاءل أمامها و يشعر بالعجز، و الاشخاص من هذا القبيل لا يكون لهم دور في الحياه و المجتمع، و لا يتكرون بصماتهم علي الايام، و سرعان ما يركعون للذل و الهوان، و يستسلمون للمصاعب.
و قد أوصي علماء النفس بجمله وصايا للمربين نذكر منها اثنتين:
أولا: احاطه الطفل بالحب و الحنان و اظهار الاهتمام به، و قد ذكرنا هذه النقطه في الدرس الأول، و قلنا هناك: ان الحسن و الحسين كانا يرضعان الحب و الحنان الكافيين من امهما، و يلمسانهما من جدهما و أبيهما.
ثانيا: لابد من تشجيع الطفل علي الصفات الحميده و التأكيد عليها بذكرها أمامه و أمام الآخرين، و تعليمه علي القوه و العصاميه في شخصيته.
و قد قال الرسول (صلي الله عليه و آله) مرارا: «ان الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنه، و أبوهما خير منهما» [217] .
و قال (صلي الله عليه و آله): «الحسن و الحسين ريحانتاي من الدنيا» [218] .
وروي عن أبي بكر قال: سمعت النبي (صلي الله عليه و آله) علي المنبر
[ صفحه 157]
و الحسن الي جنبه ينظر الي الناس مره و اليه مره، قال: «ان ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» [219] .
و عن جابر قال: دخلت علي النبي (صلي الله عليه و آله) و الحسن و الحسين (عليهماالسلام) علي ظهره و هو يحبشو لهما و يقول: «نعم الجمل جملكما، و نعم العدلان أنتما» [220] .
و عن يعلي العامري، انه خرج مع رسول الله (صلي الله عليه و آله) الي طعام دعي اليه، فاذا بحسين يلعب مع الصبيان، فاستقبله النبي (صلي الله عليه و آله) أمام القوم، ثم بسط يديه فوثب الصبي هنا مره و هنا مره، و جعل رسول الله (صلي الله عليه و آله) يضاحكه حتي أخذه، فجعل احدي يديه تحت ذقنه و الاخري تحت قفاه و وضع فاه علي فيه و قبله، ثم قال:
«حسين مني و أنا منه، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط» [221] .
و كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) يقول للحسن و الحسين (عليهماالسلام): «أنتما امامان بعقبي و سيدا شباب أهل الجنه، و المعصومان، حفظكما الله، و لعنه الله علي من عاداكما» [222] .
أتت فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) بابنيها الحسن و الحسين (عليهماالسلام) الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقالت: «يا رسول الله، هذان ابناك فورثهما شيئا».
فقال «أما الحسن فان له هيبتي و سؤددي، و أما الحسين فان له شجاعتي
[ صفحه 158]
وجودي» [223] .
و عن سلمان فارسي قال: كان الحسين (عليه السلام) علي فخذ رسول الله (صلي الله عليه و آله) و هو يقبله و يقول: «أنت سيد بن سيد أبوالساده، أنت الامام ابن الامام أبوالأئمه، أنت الحجه ابن الحجه أبوالحجج التسعه من صلبك، و تاسعهم قائمهم» [224] .
نعم هكذا كان الرسول (صلي الله عليه و آله) يكبر الطفل
و يحترمه، و لا يحتقره أمام الآخرين ليتصاغر و تتهاوي شخصيته، و تبعه علي ذلك- ايضا- الامام علي و فاطمه (عليهماالسلام) و لهذا كان نتاج تربيتهم سادات البشر و أخيارهم.
روي ان رجلا أذنب في حياه رسول الله (صلي الله عليه و آله) فتغيب حتي وجد الحسن و الحسين (عليهماالسلام) في طريق خال، فأخذهما، فاحتملهما علي عاتقه، و أتي بهما النبي (صلي الله عليه و آله) فقال: يا رسول الله، اني مستجير بالله و بهما، فضحك رسول الله (صلي الله عليه و آله) حتي رد يده الي فمه، ثم قال للرجل: «اذهب فأنت طليق». و قال للحسن و الحسين: «قد شفعتكما فيه أي فتيان» [225] .
لهذا تربي الحسين (عليه السلام) كبير النفس، عطيم الهمه، فوقف مع صحبه المعدودين بوجه جيش يزيد و حاربهم بقوه و اقتدار و لم يستسلم للذل و الهوان،انما قال: «والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل و لا أفر فرار العبيد [226] و في روايه و لا أقر لكم اقرار العبيد.
و من ثمار هذه التربيه زينب (عليهاالسلام)- جبل الصبر و الصمود- التي
[ صفحه 159]
تحدت يزيد و أذنابه الظالمين، و كشفت دسائس النظام الحاكم السفاك، بخطبها في الكوفه و الشام، و لم تهن و لم تنكل و لم تنهزم أمام الطغاه.
الدرس الثالث: الايمان و التقوي:
اختلف العلماء في السن المناسبه لتلقي المفاهيم و العقائد الدينيه:
فمنهم من قال: ان الطفل لا يستوعب هذه الأفكار الا بعد اجتياز مرحله البلوغ و الرشد.
و منهم من قال: ان المربي يمكنه أن يصوغ و العقائد الدينيه و يصبها في قوالب سهله جزله يستأنس بها الصبي و يتقبلها، و يكلف ببعض الاعمال الخفيفه
السهله ليشب عليها، حتي اذا ما ناهز سن البلوغ كان قد تعودها من قبل و ليست غريبه عليه.
و الاسلام يأخذ بالاتجاه الثاني، و يأمر أن يمرنوا الأطفال علي الصلاه من سن السابعه [227] . و الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) لقن التعاليم الدينيه- في بيت الزهراء (عليهاالسلام)- منذ لحظات الطفوله الاولي و الرضاعه، عندما ولد الامام الحسن (عليه السلام) أذن في أذنه اليمني، و أقام في اليسري، لما ولد الحسين (عليه السلام) جاء النبي (صلي الله عليه و آله)، ففعل به كما فعل بالحسن (عليه السلام) [228] .
و عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: «ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان في الصلاه و الي جانبه الحسين بن علي، فكبر رسول الله (صلي الله عليه و آله) فلم يحر الحسين التكبير، و لم يزل رسول الله (صلي الله عليه و آله) يكبر و يعالج الحسين التكبير لم يحر حتي أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسين التكبير في السابعه» [229] .
[ صفحه 160]
فالرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) كان يولي هذا الاحياء و التلقين الروحي أهميه كبيره منذ لحظه الولاده. فأذن و اقام في أذني الحسن و الحسين (عليهماالسلام) ليكون ذلك درسا للمربين.
و الزهراء (عليهاالسلام) أيضا كانت تلاعب الحسن (عليه السلام) و ترقصه و تقول:
أشبه أباك يا حسن
و اخلع الحق الرسن
و اعبد الها ذا منن
و لا توال ذا الاحن [230] .
و لو أمعنا النظر في هذين البيتين لوجدنا هما يحتويان علي نكات أربعه مهمه لقنتها الزهراء (عليهاالسلام) لابنها:
1- كن كأبيك عبدالله، شجاعا.
2- اعبد الله وحده.
3- دافع عن الحق.
4-
لا توال ذا الاحن.
و كان النبي (صلي الله عليه و آله) يهتم اهتماما بالغا بالتقوي، و يراقب أبناءه و يحاذر عليهم من أي طعام فيه أدني أو شبهه.
ففي روايه عن أبي هريره، ان النبي اتي بتمر من تمر الصدقه، فجعل يقسمه، فلما فرغ حمل الصبي و قام، فاذا الحسن في فيه تمره يلوكها. ففطن له رسول الله (صلي الله عليه و آله) فأدخل اصبعه في في الصبي فأنتزع التمه ثم قذفها، و قال «انا آل محمد لا نأكل الصدقه» [231] .
هذا، مع أن الامام الحسن (عليه السلام) بعد صبي لم يبلغ الحام لم يكلف، و لكنه (صلي الله عليه و آله) يعلم أن الأكل الحرام يؤثر تأثيرا موضوعيا
[ صفحه 161]
علي روح الطفل. و ينبغي أن يعرف الطفل منذ سنينه الاولي أن هناك حراما و حلالا و قيودا في الأكل.
بالضافه الي أنه (صلي الله عليه و آله) أكد شخصيه الامام الحسن (عليه السلام)و طيب منبته، فالزكاه حق المحرومين، و ليس لمثل الحسن (عليه السلام) أن يأكل منها.
و هكذا مزج (صلي الله عليه و آله) العظمه و الشرف و أشربهما في ولد الزهراء (صلي الله عليه و آله) فوقفت ام كلثوم ذلك الموقف الذي حكي صنع جدها رسول الله (صلي الله عليه و آله) في الكوفه، فكانت تأخذ الخبز و التمر و الجوز من أيدي الاطفال و ترميها، و هي تقول: يا أهل الكوفه، ان الصدقه محرمه علينا أهل البيت [232] .
الدرس الرابع: الالتزام بالنظم و رعايه حقوق الآخرين:
من المور التي ينبغي للوالدين و المربين جميعا الالتفات اليها، هي مراقبه الطفل مراقبه دقيقه، لكي يتجاوز علي الآخرين، و يحترم حقوقهم، و يتعلم النظم
في شؤون حياته، و لا يعجز عن استرداد حقوقه، و لا يبخس الناس أشياءهم.
و الأبوان يربيانه علي هذا الخلق من خلال تعاملهم مع أبنائهم- في البيت- معامله صادقه عادله، لا ظلم فيها لأحد، و لا يؤثران بعضهم علي بعض و لا يفرقان بين الولد و البنت، و الصغير و الكبير، و الجميل و القبيح، و الذكي و الخامل في التودد و التحبب اليهم، كي تنمو بذور الحقد و الحسد و الغيره، فيدخلوا المجتمع بحسن التجاوز و الاعتداء.
فالطفل الذي تراعي في بيته حقوق الافراد، يعرف أن عليه احترام حقوق الآخرين في الخارج و علي العكس اذا ما كان البيت تسوده الفوضي
[ صفحه 162]
و التفرقه، فانه سوف يتربي علي الاعتداء و التجاوز و ظلم الاخرين.
و لو أن طفلا تجاوز أثناء دخوله أو خروجه من المدرسه أو ركوبه في السياره أو أي مكان آخر علي حق صاحبه و أخذ نوبته، و سكت عنه والده أو مربيه فانهم بسكوتهم يخونون الطفل، حيث انه يتصور أن القوه و التعدي نوع من أنواع الشطاره و الفن، فاذا ما دخل المجتمع، أو تصدي لمسؤوليه ما، فانه سيظلم و يتعدي و يسحق حقوق الاخرين، و لا يفكر الا بمصلحته.
و قد نفذ هذا الدرس بدقه في بيت الزهراء (عليهاالسلام)، و نذكر الروايه التاليه كنموذج:
عن علي (عليه السلام) قال: «رأينا رسول الله (صلي الله عليه و آله) قد أدخل رجله في اللحاف أو في الشعار، فاستقي الحسن (عليه السلام) فوثب النبي (صلي الله عليه و آله) الي منيحه لنا فمص من ضرعها فجعله في قدح ثم و ضعه في يد الحسن، فجعل الحسين (عليه السلام) يثب عليه و رسول الله
(صلي الله عليه و آله)يمنعه، فقالت فاطمه: كأنه أحبهما اليك يا رسول الله!؟ قال: ما هو بأحبهما الي و لكنه استقي أول مره و اني و اياك و هذين و هذا المنجدل يوم القيامه في مكان واحد» [233] .
الدرس الخامس: الرياضه و اللعب:
يوصي علماء التربيه أن يترك الأطفال لحالهم في اختيار اللعب التي يهوونها و علينا أن نوفر لهم الوسائل السليمه. و قد تنبه أخيرا- ما يسمي بالعالم المتمدن- لهذه الحقيقه، فوفروا ألعابا مسليه سليمه في دور الحضانه و المدارس الأبتدائيه و الثانويه بما يناسب مراحلهم و أعمارهم؟ و صاروا يشجعونهم علي الألعاب الجماعيه، لما لهذه الألعاب من تأثير عميق علي رشد أجسادهم و أرواحهم.
بينهما يتوقع البعض من الأطفال أن يتصرفوا كما لو كانوا كبارا و يمنعونهم
[ صفحه 163]
من اللعب و يحاسبونهم علي تصرفاتهم الطفوليه، و يسمون هذا تربيه. فاذا كان الطفل لعوبا حركا اتهموه بسوء الأدب، و اذا كان منزويا خاملا لا يلعب و لا يتحرك امتدحوه و شجعوه علي سكونه و هدوئه!!
لكن علماء النفس يعدون هذا خطأ كبيرا و يعتبرون سكون الطفل و خموله دليلا علي مرضه روحيا و فسيولوجيبا، علي أن لا يكون لعبه مضرا به أو مزاحما للاخرين.
بل علي الأبوين أن يتصابوا لهم و يلاعبوهم في أوقات فراغهم، لأن الطفل يستشعر الحب في ذلك. و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يلعب مع الحسن و الحسين (عليهماالسلام).
روي عن أبي هريره: أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) أخذ بيديه جميعا بكتفي الحسن و الحسين، و قدماهما علي قدم رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و قال: ترق عين بقه. قال: فرقا
الغلام حتي وضع قدميه علي صدر رسول الله (صلي الله عليه و آله). ثم قال له: «افتح فاك ثم قبله». ثم قال: «اللهم أحبه فاني أحبه» [234] .
و عن أبي هريره أيضا قال: اصطرع الحسن و الحسين فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ايها حسن». فقالت فاطمه (عليهاالسلام): «يا رسول الله تقول ايها حسن، و هو أكبر الغلامين».
فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أقول ايها حسن و يقول جبرئيل: ايها حسين» [235] .
و عن جابر قال: دخلت علي النبي (صلي الله عليه و آله) و الحسن و الحسين (عليهماالسلام) علي ظهره، و هو يجثو لهما و يقول: «نعم الجمل جملكما
[ صفحه 164]
و نعم العدلان أنتما» [236] .
و عن الرضا (عليه السلام) عن ابائه قال: «ان الحسن و الحسين (عليهماالسلام) كانا يلعبان عند النبي (صلي الله عليه و آله) حتي مضي عامه الليل. ثم قال لهما: انصرفا الي امكما، فبرقت برقه في السماء فما زالت تضي ء لهما حتي دخلا علي فاطمه (عليهاالسلام) و النبي (صلي الله عليه و آله) ينظر الي البرقه، فقال: الحمدلله الذي أكرمنا أهل البيت» [237] .
و في الاستيعاب ج 1 ص 384: عن علي، قال: «كان الحسن أشبه الناس برسول الله (صلي الله عليه و آله) ما بين الصدر الي الرأس، و الحسين أشبه الناس بالنبي (صلي الله عليه و آله) ما كان أسفل من ذلك».
و في تهذيب ابن عساكر ج 4 ص 209، عن ابن مسعود، قال: كنت مع رسول الله (صلي الله عليه و آله) اذ مر الحسن و الحسين و هما صبيان، فقال «هاتوا ابني اعوذهما بما عوذ به ابراهيم ابنيه اسماعيل
و اسحاق»، فضمهما الي صدره و قال:«اعيذكما بكلمات الله التامه من كل شيطان وهامه و من كل عين لامه».
و عن جابر قال: دخلت علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و هو حامل الحسن و الحسين (عليهماالسلام) علي ظهوره و هو يمشي بهما، فقلت نعم الجمل جملكما، فقال: «نعم الركبان هما».
و ابن ماجه ج 1 ص 56، عن ابن عمر: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «حسين مني و أنا من حسين أحب الله....».
[ صفحه 167]
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، و خديجه بنت خويلد، و فاطمه بنت محمد، و آسيه بنت مزاحم» [238] .
و قال: «فاطمه خير النساء أهل الجنه» [239] .
و قال (صلي الله عليه و آله): اذا كان يوم القيامه نادي مناد من بطنان العرش: يا معشر الخلائق، غضوا أبصاركم حتي تجوز فاطمه بنت محمد علي الصراط» [240] .
و عن النبي (صلي الله عليه و آله) أنه قال: «يا فاطمه، ان الله ليغضب لغضبك و يرضي لرضاك» [241] .
و عن عائشه: ما رأيت أحدا كان أصدق لهجه من فاطمه الا أن يكون الذي ولدها [242] .
و عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «والله لقد فطمها الله تبارك و تعالي بالعلم» [243] .
و قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) لفاطمه (عليهاالسلام): «يا بنيه، ان الله أشرف علي الدنيا فاختارني علي رجال العالمين، ثم اطلع ثانيه فاختار زوجك علي رجال العالمين، ثم اطلع ثالثه فاختارك علي نساء العالمين، ثم
[ صفحه 168]
اطلع رابعه فاختار ابنيك علي شباب العالمين»
[244] .
وروي أن النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «أشتاقت الجنه الي أربع نساء: مريم بنت عمران، و آسيه بنت مزاحم زوجه فرعون، و خديجه بنت خويلد، و فاطمه بنت محمد» [245] .
و عنه (صلي الله عليه و آله) انه قال: «ان فاطمه شجنه مني، يسخطني ما أسخطها» [246] .
وروي أن النبي (صلي الله عليه و آله) قال و هو آخذ بيد فاطمه (عليهاالسلام):«من عرف هذه فقد عرفها، و من لم يعرفها فهي فاطمه بنت محمد، و هي بضعه مني و هي قلبي و روحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني و من آذاني فقد آذي الله» [247] .
و عن ام سلمه قالت: «كانت فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) أشبه الناس وجها و شبها برسول الله [248] .
و عنه (صلي الله عليه و آله) أنه قال: «ان فاطمه خلقت حوريه في صوره انسيه» [249] .
و قال (صلي الله عليه و آله): «أول شخص يدخل الجنه فاطمه (عليهاالسلام)» [250] .
و عن أبي عبدالله (عليه السلام): «و انما سميت فاطمه لأن الخلق فطموا
[ صفحه 169]
عن معرفتها» [251] .
وروي أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «ان الله- عز و جل خلقني و خلق عليا و فاطمه و الحسن و الحسين من نور» [252] .
و عن ابن عباس قال: سألت النبي (صلي الله عليه و آله) عن الكلمات التي تلقي آدم من ربه فتاب عليه. قال: «سأله بحق محمد و علي و فاطمه و الحسن و الحسين الا تبت علي، فتاب عليه» [253] .
و عن أبي عبدالله (عليه السلام) انه قال: «لولا أن
الله- تبارك و تعالي- خلق أميرالمؤمنين لفاطمه (عليهاالسلام) ما كان كان لها كف ء علي وجه الأرض، آدم فمن دونه» [254] .
و عن ابن عباس قال: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان جالسا ذات يوم و عنده و علي و فاطمه و الحسن و الحسين (عليهم السلام)، فقال: «اللهم انك تعلم أن هؤلاء أهل بيتي و أكرم الناس علي، فأحبب من أحبهم، و أبغض من أبغضهم، و وال من ولاهم، و عاد من عاداهم، و أعن من أعانهم، و أجعلهم مطهرين من كل رجس، معصومين من كل ذنب، و أيديهم بروح القدس منك».
ثم قال: «يا علي، أنت امام امتي، و خليفتي عليها بعدي، و أنت قائد المؤمنين،و كأني أنظر الي ابنتي فاطمه قد أقبلت يوم القيامه تقود مؤمنات امتي الي الجنه، فأيما امرأه صلت في اليوم و الليله خمس صلوات، و صامت شهر رمضان، و حجت بيت الله الحرام، و زكت مالها، و أطاعت زوجها، و والت عليا بعدي، دخلت الجنه بشفاعه ابنتي فاطمه. و انها لسيده نساء العالمين».
[ صفحه 170]
فقيل: يا رسول الله: أهي سيده نساء عالمها؟!
فقال (صلي الله عليه و آله): «تلك مريم بنت عمران، فأما ابنتي فاطمه فهي سيده نساء العالمين من الاولين و الاخرين».
ثم قال: «ان فاطمه بضعه مني و هي نور عيني و ثمره فؤادي، يسؤني ما أساها، و يسرني ما سرها، و انها أول من يلحقي من أهل بيتي» [255] .
و في صحيح البخاري: ج 3 ص 164، باسناده قال النبي (صلي الله عليه و آله): (فاطمه) انما هي بضعه مني يريبني ما رابها و يؤذيني ما آذاها.
و في مستدرك الحاكم ج
3 ص 156 عن سعد بن مالك، قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أتاني جبرئيل (عليه السلام) بسفرجله من الجنه فأكلتها ليله اسري بي،فعلقت خديجه بفاطمه، فكنت اذا اشتقت الي رائحه الجنه شممت رقبه فاطمه».
و في نفس المصدر ج 3 ص 156 عن ميناء قال: خذوا عني قبل أن تشاب الأحاديث بالاباطيل، سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «أنا الشجره و فاطمه فرعها، و علي لقاحها، و الحسن و الحسين ثمرتها، و شيعتنا ورقها، و أصل الشجره في جنه عدن».
و في نفس المصدر ج 3 ص 154 عن علي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) لفاطمه: «ان الله يغضب و يرضي لرضاك».
أقول: فمن أغضب فاطمه فقد أغضب الله و رسوله، فانها بعضته و روحه التي بين جنبيه، و لا أدري من أغضبها كيف يعتذر عندالله و عند رسوله و بأي وجه يلقي الله و رسوله؟.
[ صفحه 171]
قال أبومحمد العسكري (عليه السلام): «حضرت امرأه عند الصديقه فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) فقالت: ان لي والده ضعيفه، و قد لبس عليها في أمر صلاتها شي ء و قد بعثتني اليك أسالك فأجابتها فاطمه (عليهاالسلام) عن ذلك، فثنت فأجابتها ثم ثلثت الي أن عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثره فقالت: لا أشق عليك يا ابنه رسول الله (صلي الله عليه و آله).
قالت فاطمه: «هاتي و سلي عما بدا لك، أرأيت من اكتري يوما يصعد الي سطح بحمل ثقيل، و كراه مائه ألف دينار يثقل عليه؟».
فقالت: لا.
فقالت: «أكتريت أنا لكل مسأله بأكثر من مل ء ما بين الثري الي العرش لؤلؤا فأحري أن لا يثقل علي» [256] .
عن أبي محمد (عليه السلام) قال: «قالت فاطمه (عليهاالسلام) عندما اختصم اليها امرأتان، فتنازعتا في شي ء من أمر الدين، احدهما معانده و الاخري مؤمنه ففتحت علي المؤمنه حجتها فاستظرت علي المعانده، ففرحت فرحا شديدا.
فقال فاطمه (عليهاالسلام): ان فرح الملائكه باستظهارك عليها أشد من فرحك، و ان حزن الشيطان و مردته بحزنها أشد من حزنها» [257] .
[ صفحه 172]
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) «ان ابنتي فاطمه (عليهاالسلام) ملأ الله قلبها و جوارحها ايمانا الي مشاشها، ففرغت لطاعه الله» [258] .
و عن الحسن بن علي (عليه السلام) قال: «رأيت امي فاطمه (عليهاالسلام) قامت في محرابها ليله جمعه، فلم تزل راكعه و ساجده حتي أنفجر عمود الصبح، و سمعتها تدعو للمؤمنين و المؤمنات و تسميهم و تكثر الدعاء لهم و لا تدعو لنفسها بشي ء، قلت لها يا اماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغريك؟
قالت: يا بني! البحار ثم الدار» [259] .
و عنه (عليه السلام): «ما كان في الدنيا أعبد من فاطمه، كانت تقوم حتي تتورم قدماها» [260] .
و قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ابنتي فاطمه سيده نساء العالمين من الأولين و الآخرين، و هي نور عيني و ثمره فؤادي و هي روحي التي بين جنبي، و هي الحوراء الأنسيه، متي قامت في محرابها بين يدي ربها- جل جلاله- زهر نورها لملائكه السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض. و يقول الله- عز و جل- لملائكته: يا ملائكتي انظروا الي أمتي سيده امائي، قائمه بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي و قد أقلبت بقلبها علي عبادتي، اشهدكم اني قد أمنت شيعتها من النار».
و كيف لا تكون
فاطمه (عليهاالسلام) كذلك و هي وليده بيت نزل فيه القرآن، و ربيبه أحضان الوحي و سيد الرسل، الذي عبدالله حتي تورمت
[ صفحه 173]
قدماه الشريفتان، و سمعت آيات القرآن تتلي عليها في آناء الليل و أطراف النهار، و عاشت في بيت زوج هو أعبد الناس لله.
كانت (عليهاالسلام) اذا جن الليل تقوم في محرابها صافه قدميها منقطعه الي ربها نصليه مناجيه متهجده، تدعو الله سبحانه بلسان الخائف الذليل المنقطع و تقول في دعائهم: اللهم اني أسألك قوه في عبادتك، و تبصرا في كتابك، و فهما في حكمك، اللهم صل علي محمد و آل محمد، و لا تجعل القرآن بنا ماحلا، و الصراط زائلا و محمدا (صلي الله عليه و آله) عنا مؤليا.
اللهم أجعل أول يومي هذا فلاحا، و أوسطه صلاحا، و أخره نجاحا اللهم صل علي محمد و آل محمد، و اجعلنا ممن أناب اليك فقبلته، و توكل عليك فكفيته، و تضرع اليك فرحمته.
اللهم اني اسألك الهدي، و التقي، و العفاف، و الغني، و العمل بما تحب و ترضي، اللهم اني أسألك من قوتك لضعفنا، و من غناك لفقرنا و فاقتنا، و من حلمك وعلمك لجهلنا، اللهم صل علي محمد و آل محمد و اعنا علي شكرك و ذكرك، و طاعتك و عبادتك يا أرحم الراحمين.
و من دعائهم عليهاالسلام، و تهجدها:
اللهم اجعلنا من اقرب من تقرب اليك، و اوجه من توجه اليك، و انجح من سألك و تضرع اليك، اللهم لا تمتنا الا علي رضاك، اللهم و اجعلنا ممن أخلص لك بعمله،و أحبك في جميع خلقك.
[ صفحه 174]
عن جابر بن عبدالله
الأنصاري قال: صلي بنا رسول الله (صلي الله عليه و آله) صلاه العصر فلما انفتل جلس في قبلته و الناس حوله، فبينا هم كذلك اذ أقبل شيخ من مهاجره العرب عليه سمل قد تهلل و أخلق، و لا يكاد يتمالك كبرا و ضعفا، فأقبل عليه رسول الله (صلي الله عليه و آله) يستحثه الخبر، فقال الشيخ: يا نبي الله، أنا جائع الكبد فأطعمني، و عاري الجسد فأكسني، و فقير فأرشني.
فقال (صلي الله عليه و آله): «ما أجد لك شيئا، و لكن الدال علي الخير كفاعله، انطلق الي منزل من يحب الله و رسوله، يحبه الله و رسوله، يؤثر الله علي نفسه، انطلق الي حجره فاطمه». (و كان بيتها ملاصق بيت رسول الله (صلي الله عليه و آله) الذي ينفرد به لنسفه من أزواجه) و قال: «يا بلال! قم فقف به علي منزل فاطمه».
فانطلق الاعرابي مع بلال، فلما وقف علي باب فاطمه نادي بأعلي صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوه، و مختلف الملائكه، و مهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند رب العالمين.
فقالت فاطمه: «عليك السلام فمن أنت يا هذا؟».
قال: شيخ من العرب أقلبت علي أبيك السيد البشير من شقه، و أنا يا بنت محمد (صلي الله عليه و آله) عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله.
و كان لفاطمه و علي في تلك الحال- و رسول الله (صلي الله عليه و آله)- ثلاثا ما طعموا فيها طعاما، و قد علم رسول الله (صلي الله عليه و آله) ذلك من شأنهما، فعمدت فاطمه الي جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن و الحسين، فقالت: «خذ هذا أيها الطارق، فعسي الله أن يختار لك ما هو خير
[ صفحه 175]
فيه».
قال الاعرابي: يا بنت محمد شكوت اليك الجوع فناولتيني جلد كبش ما أصنع به، مع ما أجد من السغب.
قال: فعمدت لما سمعت هذا من قوله الي عقد كان فيه عنقها أهدته لها فاطمه بنت عمها حمزه بن عبدالمطلب، فقطعته من عنقها و نبذته الي الأعرابي، و قالت:«خذ وبعه، فعسي الله أن يعوضك به ما هو خير منه».
فأخذ الأعرابي العقد و انطلق الي مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله) و النبي جالس في أصحابه فقال: يا رسول الله، أعطتني فاطمه هذا العقد فقالت: «بعه، فعسي الله أن يصنع لك».
قال: «فبكي النبي (صلي الله عليه و آله) و قال: «كيف لا يصنع الله لك! و قد أعطتك فاطمه (عليهاالسلام) بنت محمد سيده بنات آدم».
فقام عمار بن ياسر- رحمه الله فقال: يا رسول الله، أتأذن لي بشراء هذا العقد.
قال: «اشتره يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبهم الله بالنار».
فقال عمار: بكم العقد يا أعرابي؟!
قال: بشبعه من الخبز و اللحم، و برده يمانيه أستر بها عورتي و اصلي بها لربي، و دينار يبلغني الي أهلي.
و كان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله (صلي الله عليه و آله) من خيبر و لم يبق منه شيئا، فقال: لك عشرون دينار و مئتا درهم هجرته، و برده يمانيه و راحلتي تبلغك أهلك، و شعبك من خبز البر و اللحم.
فقال الأعرابي: ما أسخاك بالمال، يا رجل.
و انطلق به عماره فوفاه منا ضمن له.
و عاد الأعرابي، الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقال له رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أشبعت و اكتسيت؟». قال الأعرابي:
نعم؛ و استغنيت
[ صفحه 176]
بأبي أنت و أمي.
قال: «فأجز فاطمه بصنيعها».
فقال الأعراب: اللهم انك اله ما استحدثناك، و لا آله لنا نعبده سواك، و أنت رازقنا علي كل الجهات. اللهم أعط فاطمه ما لا عين رأت و لا اذن سمعت.
فأمن النبي علي دعائه، و أقبل علي اصحابه، فقال: «ان الله قد أعطي فاطمه في الدنيا ذلك، أنا أبوها و لا أحد من العالمين مثلي، و علي بعلها، و لو لا علي لما كان لفاطمه كفؤ أبدا، و عطاها الحسن و الحسين و ما للعالمين مثلهما،سيدا شباب اسباط الأنبياء، و سيدا شباب أهل الجنه».
و كان بازائه مقداد و عمار و سلمان. فقال: «و أزيدكم؟».
قالوا: نعم يا رسول الله.
قال: «أتاني الروح- يعني جبرئيل- أنها اذا هي قبضت و دفنت، يسألها الملكان في قبرها: من ربك؟ فتقول: الله ربي.
فيقولان: فمن نبيك؟ فتقول: أبي.
فمن وليك؟ فتقول: هذا القائم علي شفير قبري.
ألا و أزيدكم من فضلها؟ ان الله قد و كل بها رعيلا من الملائكه يحفظونها من بين يديها و من خلفها و هن يمينها و عن شمالها، و هم معها في حياتها و عند قبرها و عند موتها، يكثرون الصلاه عليها و علي أبيها و بعلها و بنيها. فمن زراني بعد وفاتي فكأنها زارني في حياتي و من زار فاطمه فكأنما زارني، و من زار علي بن أبي طالب (عليه السلام) فكأنها زار فاطمه، و من زار الحسن و الحسين فكأنما زار عليا، و من زار ذريتهما فكأنما زارهما».
فعمد عمار الي العقد فطيبه بالمسلك، و لفه في برده يمانيه و كان له عبد اسمه (سهم) ابتاعه من
ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد الي المملوك و قال له، خذ هذا العقد و دافعه لرسول الله و أنت له، فأخذ المملوك
[ صفحه 177]
العقد فأتي به رسول الله (صلي الله عليه و آله) فأخبره بقول عمار. فقال النبي (صلي الله عليه و آله): «انطلق الي فاطمه فادفع اليها العقد و أنت لها».
فجاء المملوك بالعقد و أخبرها بقول رسول الله (صلي الله عليه و آله) فأخذت فاطمه (عليهاالسلام) العقد و أعتقت المملوك، فضحك الغلام، فقالت: «ما يضحكك يا غلام؟».
فقال: أضحكني عظم بركه هذا العقد، أشبع جائعا، و كسي عريانا و أغني فقيرا، و أعتق عبدا، و رجع الي ربه.
عن زراره عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) اذا أراد السفر سلم علي من أراد التسليم عليه من أهله، ثم يكون آخر من يسلم عليه فاطمه (عليهاالسلام)، فيكون وجهه الي سفره من بيتها، و اذا رجع بدأ بها يزورها قبل كل أحد، فسافر مره، و قد أصاب علي (عليه السلام) شيئا من الغنيمه، فدفعه الي فاطمه فأخذت (فاشترت) به سوارين من فضه، و علقت علي بابها سترا، فقعد (صلي الله عليه و آله) حيث ينظر اليها، فبكت فاطمه (عليهاالسلام) و حزنت و قالت: ما صنع هذا بي قبلها، فنزعت الستر عن بابها، و خلعت السوارين من يديها، فدعت ابنيها فدفعت السوارين الي احدهما و الستر الي الآخر ثم قالت لهما: انطلقا الي أبي، فأقرآه السلام و قولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا فشأنك به. فجاءاه فأبلغاه ذلك عن امهما، فقبلهما (صلي الله عليه و آله) و قال: فعلت، فداها أبوها، ثلاث مرات مالآل محمد و للدنيا؟
فانهم خلقوا للآخره، و خلقت الدنيا لهم، ثم أمر بذينك السوارين فكسرا فجعلها قطعا، [و باع الستر] ثم دعا أهل الصفوه و هم الفقراء من المهاجرين فقسمه بينهم».
[ صفحه 178]
لفاطمه الزهراء (عليهاالسلام) المكانه المرموقه عند أبيها (صلي الله عليه و آله) فقد حلت أوسع مكان في قلبه، و رقعت في نفسه أحسن موقع، فكان يحبها حبا لا يشبه محبه الآباء لبناتهم، اذ كان ذلك الحب مزيجا بالاحترام و التعظيم، فلم يعهد في العالم أب عامل أبناءه ما شوهد من معامله الرسول (صلي الله عليه و آله) لا بنته فاطمه.
و لم يكن ذلك منبعثا من العاطفه الأبويه فحسب، بل كان ذلك لما تتمتع به السيده الزهراء (عليهاالسلام) من مواهب و المزايا و الفضائل الفريده لعله كان مأمورا باحترامها و اجلالها، فما كان يدع فرصه أو مناسبه تمر الا و نوه بعظمه ابتنه فاطمه (عليهاالسلام) و يشهد بمكانتها الساميه عند الله سبحانه و تعالي و عند الرسول (صلي الله عليه و آله).
و لو لم يكن لها عند الله فضل عظيم، لم يكن الرسول (صلي الله عليه و آله) يفعل معها ذلك (لأنه لا ينطق عن الهوي).
و ربما يكون اظهار فضلها و بيان مكانتها عند الله و رسوله للمسلمين لحثهم علي الموده و التقدير لها من بعده، (قل لا أسألكم عليه أجرا الا الموده في القربي) لأنها البقيه الباقيه من بعده و ام الأئمه الطاهرين.
عن عائشه قالت: ما رأيت أحدا أشبه حديثا و كلاما برسول الله (صلي الله عليه و آله) من فاطمه، و كانت اذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبلها و أجلسها في مجلسه،و كان اذا دخل عليها
قامت فقبلته و أخذت بيده فأجلسته في مكانها [261] .
و عن حذيفه بن اليمان قال: دخلت عائشه علي النبي (صلي الله عليه
[ صفحه 179]
و آله) و هو يقبل فاطمه (صلوات الله عليها) فقالت له: يا رسول الله أتقبلها و هي ذات بعل؟
فقال لها: «أما والله لو علمت ودي لها. اذن لأزددت لها حبا... فاطمه حوراء أنسيه، فاذا اشتقت الي رائحه الجنه شممت ابنتي فاطمه (صلي الله عليها و علي أبيها و بعلها)» [262] .
و سأله علي (عليه السلام) يوما، فقال: «يا رسول الله، أنا أحب اليك أم فاطمه؟».
فقال: «أنت عندي أعز منها، و هي أحب منك» [263] .
وروي عنها (عليهاالسلام) قالت: «لما نزلت (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) رغب رسول الله (صلي الله عليه و آله) أن أقول له: يا أبه، فكنت أقول يا رسول الله، فأعرض عني مره أو اثنتين أو ثلاثا، ثم أقبل علي فقال: يا فاطمه! انها لم تنزل فيك و لا في نسلك، و أنت مني و أنا منك، انما نزلت في أهل الجفاء من قريش، قولي: يا ابه، فانها أحيي للقلب و أرضي للرب» [264] .
و سئلت عائشه: من كان أحب الناس الي رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟
فقالت: فاطمه.
قيل: انما اسأيك عن الرجال!
قال: زوجها [265] .
[ صفحه 180]
و عن حذيفه قال: كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) لا ينام حتي يقبل عرض وجه فاطمه [266] .
و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) اذا سافر، فآخر عهده اتيان فاطمه، و أول من يدخل عليه اذا قدم فاطمه [267] .
و
يقول النبي (صلي الله عليه و آله): «فاطمه بضعه مني، من سرها فقد سرني، و من ساءها فقد ساءني، فاطمه أعز البريه علي».
لا شك أن النبي (صلي الله عليه و آله) كان يحب فاطمه حبا جما حتي عذله بعض في ذلك. و الحب عند النبي ليس حبا أعمي (و العياذ بالله) لأنه (صلي الله عليه و آله) (لعلي خلق عظيم) [268] و (و ما ينطق عن الهوي ان هو الا وحي يوحي) [269] و انما كان يحب فاطمه كل هذا الحب، لعلمه بمقامها الشامخ، و لأنها ام الأئمه و منبع الولايه و الامامه، انها المرأه النموذيجه في الاسلام، و المعصومه من كل ذنب و دنس، و لا يعرفها حق المعرفه الا الله و رسوله و علي، و هي الاشعاع الملائكي في الأرض، و بعث النور السماوي الملكوتي التي يشم فيها الرسول (صلي الله عليه و آله) رائحه الجنه كلما اشتقها.
[ صفحه 181]
عن سويد بن غفله قال: أصابت عليا (عليه السلام) شده فؤتت فاطمه (عليهاالسلام)رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فدقت الباب، فقال: «أسمع حس حبيبتي بالباب يا ام أيمن قومي و انظري»، ففتحت لها الباب فدخلت، فقال (صلي الله عليه و آله): «لقد جاءتنا في وقت ما كانت تأتينا في مثله؟».
فقالت فاطمه (عليهاالسلام): «يا رسول الله ما طعام الملائكه عند ربنا؟».
فقال: «التحميد».
فقالت: «ما طعامنا».
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «والذي نفسي بيده ما اقتبس في آل محمد شهرا نارا، و أعملك خمس كلمات علمنيهن جبرئيل (عليه السلام)».
قلت: «يا رسول الله و ما الخمس كلمات؟».
قال: «يا رب الأولين، و الآخرين، يا ذا القوه المتين، و يا راحم المساكين،
و يا أرحم الراحمين». و رجعت.
فلما أبصرها علي (عليه السلام) قال: «بأبي أنت و أمي، ما وراءك يا فاطمه؟».
قالت: «ذهبت للدنيا و جئت بالآخره».
قال علي (عليه السلام): «خيرا أمامك، خيرا أمامك» [270] .
و ذات يوم عاد رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاطمه (عليهاالسلام) في
[ صفحه 182]
وجع لها فقال: «يا بنيه كيف تجدينك؟».
قالت: «اني لوجعه و انه ليزيدني وجعا أن ليس لي طعام آكله».
فقال: «أما ترضين أنك سيده نساء العالمين؟!» [271] .
و عن أسماء بنت عميس عن فاطمه بنت رسول الله (عليهاالسلام): «أن الرسول (صلي الله عليه و آله) أتي يوما فقال: أين ابناي حسنا و حسينا؟».
قالت: أصبحنا و ليس عندنا في بيتنا شيئا يذوقه ذائق».
فقال علي: «أذهب بهما الي فلان».
فتوجه اليهما رسول الله (صلي الله عليه و آله) فوجدهما يلعبان في مشربه بين أيديهما فضل من تمر. فقال: يا علي، ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر عليهما؟
قال: فقال علي: «أصبحنا و ليس في بيتنا شي ء، فلو جلست يا رسول الله حتي أجمع لفاطمه تمرات»، فلما اجتمع له شي ء من التمر، جعله في حجره ثم عاد الي البيت [272] .
و عن عمران بن حصين قال: كنت مع النبي (صلي الله عليه و آله) جالسا اذ أقبلت فاطمه فوقفت بين يديه فنظر اليها و قد غلبت الصفره علي وجهها، و ذهب الدم من شده الجوع، فقال: «ادني يا فاطمه»، فدنت ثم قال: «ادني يا فاطمه»، فدنت حتي وقفت بين يديه، فوضع يده علي صدرها في موضع القلاده و فرج بين أصابعه ثم قال:
«اللهم مشبع الجاعه و رافع الوضعه لا تجع فاطمه بنت
محمد» [273] .
[ صفحه 183]
قال الشيخ ابراهيم الأميني:
ان التاريخ العام و الروايات تشهد أن حياه شخصيات الطراز الأول في الاسلام- محمد (صلي الله عليه و آله)، و علي (عليه السلام)، و فاطمه (عليهاالسلام)- كانت بسيطه جدا و كثيرا ما تتخللها الصعوبات و المشقات، و لا غرابه في ذلك، اذا ما أخذنا الوضع العام للمسلمين- في زمانهم- بنظر الاعتبار، لأن الأكثريه الساحقه كانت من الفقراء و المعدمين، و الأقليه القليله التي كانت تتمتع بشي ء من الغني النسبي، اضطرت- تحت الضغوط و فرارا بالدين- الي ترك مكه و الهجره الي المدينه المنوره.
و المجتمع المدني لا يخلف عن المجتمع المكي، سوي أن الأقليه المسلمه التي كانت تتمتع بالغني النسبي، اضطرت- هنا- الي مديد العون و المساعده للمهاجرين، و تقديم كل ما بوسعهم لهم و مواساتهم تكريما لهم.
ثم ان الاسلام و المسلمين كانوا يمرون بأزمه حاده، و منادي الجهاد يدعوهم للتعبئه العامه دائما، و هم في حاله انذار قصوي و انشغال بالحرب و الدفاع، و لهذا كان من الصبوعه بمكان انتعاش الوضع الاقتصادي و دعمه.
و حياه أهل البيت (عليهم السلام) كانت مواساه للفقراء و المساكين، و ترفعا عن الترف و الترهل، فذلك لا يليق بهم و لا يناسبهم، مع أن النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) و الامام عليا (عليه السلام) كانا يعملان بيديهما و لهما سهم في الغنائم- كسائر المسلمين- و يمكنهما أن يعيشا في سعه أفضل حياه.
و لكن كيف يشبع الرسول (صلي الله عليه و آله) و صهره و ابنته و بطون فقراء المدينه غرثي و صرخاتهم مدويه؟!
و كيف يلبسون الثياب الفاخره و في المسلمين من يجلس
عاريا في المسجد؟!
[ صفحه 184]
و كيف يشبع الحسنان و أطفال المسلمين جياع و هما يسمعان أنينهم؟!
لقد اقتحمت جماهير المسلمين المستضعفه ميادين التضحيه و المعارك، و قدموا أرواحهم في سبيل الأهداف الرساليه المقدسه، و هم بعد لم يدركوا معني الوحي جيدا، و لا زالوا في أول عهدهم بالاسلام، و لا زالت عقولهم في عيونهم.
ذلك لأن النبي (صلي الله عليه و آله) نفذ و هيمن علي قلوبهم و أرواحهم و لانه (صلي الله عليه و آله) و أهل بيته الطاهرين- علي و فاطمه (عليهماالسلام)- واسوا سائر المسلمين جاعوا حين جاعوا، و تألموا حين تألموا، و حرموا حين حرموا، و كانوا أول من يعمل بما يقولونه نموذجا عليما و تجسيدا حيا للأوامر قولا و فعلا و لقد دعوا الناس بأعمالهم و سلوكهم الي الاسلام و التضحيه و العطاء [274] .
[ صفحه 185]
تطلق كلمه المعصوم في اللغه علي الممنوع المحفوظ.
و في الاصطلاح تطلق علي من لا يخطي ء و لا يسهو و لا يذنب، و له بصيره نافذه يري من خلالها حقائق الكون بالمشاهده و العيان، فلا عصيان و لا اثم و لا خطأ و لا سهو في ساحه وجوده المقدس، لعلاقته الوثيقه بعالم الملكوت و لتسديده الغيبي، و قد ذكروا أدله و براهين عقيله و نقليه لاثبات مقام العصمه الرفيع للأنبياء و المرسلين (عليهم السلام).
و يعتقد الاماميه بعصمه أوصياء النبي (صلي الله عليه و آله) و خلفائه- الأئمه الأثني عشر- أيضا و يقيمون الأدله و البراهين الكافيه علي ذلك.
و لا نريد التعرض لمباحث الامامه خوفا من الاطاله ولئلا نبتعد عن محور البحث المقصود.
و
كذلك الأمر في عصمه الزهراء (عليهاالسلام). و لكننا سوف نذكر هنا شيئا يسيرا في عصمتها (عليهاالسلام) و نحيل القاري الكريم علي المطولات.
الدليل الأول: آيه تطهير.
قوله سبحانه و تعالي في كتابه المجيد (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) (الاحزاب: 33).
ليس من شك و لا شبهه ان حديث نزول آيه التطهير في أهل البيت (عليهم السلام) أو ما أطلق عليه العلماء و المحدثون اسم (حديث كساء). قد روي بطرق لا تحصي حتي جاوز حد التواتر، و بلغ من الشهره و الثبوت بحيث لم يبق سبيلا أمام أي عالم، أو باحث، أو محقق منصف الا صدقه و أذعن لفحواه، بل أدي هذا التواتر الي انكباب كبار الحفاظ و أجله العلماء و ثقاه الرواه الي روايته و حفظه و دراسته، و التصدي له بالتأليف و التصنيف، و حرك في صيارفه القول و صاغه القريض و الشعراء البارعين روح الابداع، فنظموه في
[ صفحه 186]
قصائد عصماء و أراجيز بديعه، سار ذكرها مع الركبان، و حكاها مهره الفن و أئمه النقل، بأقلامهم السياله.
و قد ورد في أحاديث كثيره- من طرق العامه و الخاصه كما ذكرنا- انها نزلت في النبي (صلي الله عليه و آله) و علي (عليه السلام) و فاطمه الحسن و الحسين (عليهم السلام) اليك نموذجا منها:
و لتكن متون الحديث و مصادره بذكر متنه المطلول الذي رواه الشيخ الجليل عبدالله البحراني في (العوالم) بسند فيه ثله من أجلاء العلماء و أعلام الطائفه الي جابر بن عبدالله الأنصاري قال:
سمعت فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) بنت رسول الله أنها قالت:
«دخل علي أبي رسول الله (صلي الله عليه و آله)، في بعض الأيام.
فقال: السلام
عليك يا فاطمه.
فقلت: و عليك السلام يا أبتاه.
فقال: اني لأجد في بدني ضعفا.
فقلت له: اعيذك بالله يا أبتاه من الضعف.
فقال: يا فاطمه، ائتيني بالكساء اليماني، و غطيني به.
فأتيته و غطيته به، و صرت أنظر اليه فاذا به يتلألأ كأنه البدر في ليله تمامه و كماله.
فما كانت الا ساعه و اذا بولدي الحسن قد أقبل، فقال: السلام عليك يا أماه.
فقلت: و عليك السلام يا قره عيني، و ثمره فؤادي.
فقال لي: يا أماه، اني اشم عندك رائحه طيبه كأنها جدي رسول الله.
فقلت: نعم يا ولدي، ان جدك تحت الكساء.
فأقبل الحسن نحو الكساء و قال: السلام عليك يا جداه، يا رسول
[ صفحه 187]
الله، أتأذن لي أن أدخلني معك.
فقال: و عليك السلام يا ولدي، و صاحب حوضي، قد أذنت لك. فدخل معه تحت الكساء.
فما كانت الا ساعه فاذا بولدي الحسين قد أقبل، قال: السلام عليك يا اماه.
فقلت: و عليك السلام يا قره عيني، و ثمره فؤادي.
فقال لي: يا اماه اني أشم عندك رائحه طيبه كأنها رائحه جدي رسول الله.
فقلت: نعم يا بني، ان جدك و أخاك تحت الكساء. فدنا الحسين نحو الكساء و قال:السلام عليك يا جداه، السلام عليك يا من اختاره الله، أتأذن لي أن أكون معكما تحت هذا الكساء.
فقال: و عليك السلام يا ولدي، و يا شافع أمتي، قد أذنت لك. فدخل معهما تحت الكساء.
فأقبل عند ذلك أبوالحسن علي بن أبي طالب، قال: السلام عليك يا فاطمه، يا بنت رسول الله.
فقلت: و عليك السلام يا أباالحسن، و يا أميرالمؤمنين.
فقال: يا فاطمه، اني أشم عندك رائحه طيبه كأنها
رائحه أخي و ابن عمي رسول الله.
فقلت: نعم، ها هو مع وليدك تحت الكساء.
فأقبل علي نحو الكساء و قال: السلام عليك يا رسول الله، أتأذن لي أن أكون معكم تحت الكساء.
فقال له: و عليك السلام يا أخي، و خليفتي، و صاحب لوائي في المحشر، نعم قد أذنت لك. فدخل علي تحت الكساء.
ثم أتيت نحو الكساء، و قلت: السلام، عليك يا أبتاه، يا رسول الله،
[ صفحه 188]
أتاذن لي أن أكون معكم تحت الكساء؟
فقال لي: و عليك السلام يا ابنتي، و يا بضعتي، قد أذنت لك. فدخلت معهم.
فلما اكتملنا و اجتمعنا جميعا تحت الكساء أخذ أبي رسول الله بطرفي الكساء، و أومي بيده اليمني الي السماء و قال:
«اللهم ان هؤلاء أهل بيتي، و خاصتي، و حامتي، لحمهم لحمي، و دمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم، و يحزنني ما يحزنهم، أنا حرب لمن حاربهم، و سلم لمن سالمهم، و عدو لمن عاداهم، و محب لمن أحبهم، و انهم مني و أنا منهم، فاجعل صلواتك و بركاتك و رحمتك و غفرانك و رضوانك علي و عليهم، و أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا».
فقال عز و جل: «يا ملائكتي، و يا سكان سماواتي، اني ما خلقت سماء مبنيه، و لا أرضا مديحه، و لا قمرا منيرا، و لا شمسا مضيئه، و لا فلكا يدور، و لا فلكا تسري، و لا بحرا يجري الا لمحبه هؤلاء الخمسه، الذين هم تحت الكساء».
فقال الأمين جبرئيل: يا رب، و من تحت الكساء؟
فقال الله عز و جل: هم أهل بيت النبوه، و معدن الرساله؛ و هم: فاطمه و أبوها و بعلها و بنوها.
فقال جبرئيل: يا رب،
أتأذن لي أن أهبط الي الأرض لأكون معهم سادسا؟
فقال الله عز و جل: قد أذنت لك.
فهبط الأمين جبرئيل، و قال لأبي: السلام عليك يا رسول الله، العلي الأعلي يقرؤك السلام، و يخصك بالتحيه و الاكرام، و يقول لك: و عزتي و جلالي، اني ما خلقت سماء مبينه، و لا أرضا مدحيه، و لا قمرا منيرا، و لا شمسا مضيئه، و لا فلكا يدور، و لا بحرا يجري، و لا فلكا تسري الا لأجلكم
[ صفحه 189]
و محبتكم؛ و قد أذن لي أن أدخل معكم، فهل تأذن لي أنت يا رسول الله؟
فقال أبي: و عليك السلام يا أمين وحي الله، نعم، قد أذنت لك، فدخل جبرئيل معنا تحت الكساء.
فقال جبرئيل لأبي: ان الله قد أوحي اليكم يقول: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا).
فقال علي: يا رسول الله، أخبرني ما لجلوسنا هذا تحت هذا الكساء من الفضل عند الله.
فقال: والذي بعثني بالحق نبيا، و اصطفاني بالرساله نجيا، و ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض، و فيه جمع من شيعتنا و محبينا الا و نزلت عليهم الرحمه، و حفت بهم الملائكه، و استغفرت لهم الي أن يتفرقوا.
فقال علي: اذن والله فزنا و فاز شيعتنا، و رب الكعبه.
فقال أبي: يا علي، والذي بعثني بالحق نبيا، و اصطفاني بالرساله نجيا، ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض، و فيه جمع من شيعتنا و محبينا و فيهم مهموم الا و فرج الله همه، و لا مغموم الا و كشف الله غمه، و لا طالب حاجه الا و قضي الله حاجته.
فقال علي: اذن والله فزنا و سعدنا، و كذلك شيعتنا فازوا و سعدوا في الدنيا و الاخره، و رب الكعبه».
الله! ما أجل الحديث و أعظمه، اللهم اجعلنا من محبي رسولك و أهل بيته و من المتمسكين بأهدافهم. (الله اكبر ما أجل هذا الحديث).
وروي المحدث المفسر الثقه الحسين بن الحكم الحبري المتوفي سنه (286 ه-) في ما نزل من القرآن في علي (عليه السلام) ص 297 حديث 50 باسناده الي ام سلمه، قالت:
نزلت هذه الآيه في علي (و فاطمه، و الحسن، و الحسين) (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا).
[ صفحه 190]
قالت: قلت يا رسول الله!! ألست من أهل البيت؟ قال (صلي الله عليه و آله): «انك علي خير، انك من أزواج النبي»، و كان في البيت رسول الله (صلي الله عليه و آله) و علي، و فاطمه، و الحسن، و الحسين (عليهم السلام).
و في كتاب (دلائل الصدق) للعلامه المظفر ج 2 ص 102 ط القاهره قال: قوله تعالي: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) أجمع المفسرون وروي الجمهور كأحمد بن حنبل و غيره، أنها نزلت في علي و فاطمه و الحسن و الحسين (عليهم السلام).
وروي أبوعبدالله محمد بن عمران المرزباني عن أبي حمران قال:
خدمت النبي (صلي الله عليه و آله) تسعه أشهر و عشره، و كان (صلي الله عليه و آله) عند كل فجر لا يخرج من بيته حتي يأخذ بعضاده باب علي فيقول: «السلام عليكم و رحمه الله و بركاته»، فيقول علي و فاطمه و الحسن و الحسين: «عليك السلام يا بني الله و رحمه الله و بركاته»، ثم يقول: «الصلاه رحمكم
الله، (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا)»، ثم ينصرف الي مصلاه.
و من طرقه الصحيحه أيضا ما رواه عنه المحدث المفسر الثقه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره ص 121.
و في ص 300 ح 52 باسناده الي شهر بن حوشب عن ام سلمه.
و في ص 302 ح 53 باسناده الي شهر بن حوشب عن ام سلمه، و عبدالملك، و عن عطاء عن ام سلمه.
وروي في ص 304 ح 54 باسناده الي عطيه الطفاوي، عن أبيه عن ام سلمه.
وروي في ص 306 ح 55، و ص 307 ح 56 باسناد الي أبي سعيد الخدري و عبدالله بن عباس، ان هذه الايه نزلت في بيت ام سلمه، و في رسول الله (صلي الله عليه و آله) و علي و فاطمه و الحسن و الحسين (صلوات الله عليهم
[ صفحه 191]
أجمعين).
وروي في ص 310 ح 58 باسناد الي أنس بن مالك: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان اذا خرج الي مصلاه الفجر ينادي: «الصلاه أهل البيت (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا)».
و ذلك لما نزلت آيه التطهير الشريفه في أهل البيت (عليهم السلام).
عن نافع ابن أبي الحمراء قال: شاهدت رسول الله (صلي الله عليه و آله) ثمانيه أشهر اذا خرج الي صلاه الغداه مر بباب فاطمه (عليهاالسلام) فقال: «السلام عليكم يا أهل البيت الصلاه (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا)».
و هناك روايات و أحاديث كثيره يطول شرحها، جاءت في مصادر مختلفه نقلها أئمه الحديث و فطاحل العلماء و المفسرين و المؤرخين في صحاحهم و مسانيدهم و كتبهم، بالفاظ مختلفه
تؤدي الي نفس المعني و الغايه.
و قد ذكرنا قسما منها في تفسير الآيه في الجزء الأول من كتابنا «علي في الكتاب و السنه» ص 411- 424، فراجع..
و اليك بعض المصادر منها:
الحافظ مسلم بن الحجاج القشري النيسابوري في صحيحه الذي يعد من أصلح الكتب المصنفه عند العامه، في ج 4 ص 1882، باب 9 ح 2424 ط دارالفكر- بيروت- باسناده الي صفيه بنت شيبه، قالت: قالت عائشه: روت الحديث مفصلا، و تفسير الآيه.
ورواه الحافظ الترمذي المتوفي سنه (297 ه-) في (الجامع الصحيح) ج 5 ص 351 ح 3205 و ص 352 ح 3206، ص 663 ح 3787، و ص 699 ح 3871، ط دار احياء التراث العربي- بيروت.
ورواه الحافظ البغوي في (مصابيح السنه) ج 4 ص 123 ح 4796 ط دار المعرفه- بيروت.
[ صفحه 192]
ورواه الحافظ امام الحنابله أحمد بن حنبل في (المسند) ج 1 ص 330، ج 4 ص 107 و ج 6 ص 292، 296، 298، 304، 323، ط دار الفكر- بيروت.
ورواه الحافظ ابن مردوديه في (المناقب) علي ما في (كشف الغمه) ج 1 ص 325.
ورواه الحافظ الطبراني في (المعجم الصغير) ج 1 ص 65 و 124، في غيره من المعاجم.
ورواه الخطيب البغدادي الشافعي المتوفي سنه (463 ه-) في (المتفق و المفترق) ص 10 مخطوط و كذلك في (تاريخ بغداد) ج 9 ص 126 ط- مصر.
كما ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في (المطالب العاليه) ص 360 ط- الكويت.
و في (فتح الباري) ج 2 ص 169 و 504، و ج 4 ص 366 ط- مصر.
و الحاكم النيشابوري في (المستدرك)
ج 2/ 416 و ج 3/ 108 ط- حيدرآباد.
و الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي في (السنن الكبري) ج 2/ 149 و 150 و 152 و ج 7/ 63 ط- حيدرآباد.
و العلامه المفسر أبوجعفر الطبري في (جامع البيان) ج 22/ 6 و 8 ط الحلبي- مصر.
و العلامه ابراهيم بن محمد البيهقي في (المحاسن و المساوي ء) ص 298 ط- بيروت.
و الحافظ البخاري صاحب الصحيح في (التاريخ الكبير) ج 1 قسم 2 ص 70 رقم 1719 و 2174 ط- حيدرآباد.
و في (الكني) ص 25 ط- حيدرآباد.
و الحافظ أبونعيم الأصبهاني في (أخبار أصبهان) ج 1/ 108 و ج 2/
[ صفحه 193]
253.
و الحافظ جلال الدين السيوطي في (مفحمات الآقران في مبهات القرآن) ص 32 ط- القاهره.
و الحافظ أبوعبدالله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في (كفايه الطالب) ص 371- 377، ط- طهران، بعده طرق.
و الحفاظ الفقيه أبوالحسن علي بن محمد ابن المغازلي المتوفي سنه (483 ه-) في (مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام) ص 301- 307 بعده طرق.
و الحافظ الخبير أبوجعفر الطحاوي في (مشكل الآثار) ج 1/ 332- 339 بعده طرق، ط- حيدرآباد الدكن.
الحافظ الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) ج 2/ 10- 92 ح 637- 774 بأكثر من (140) طريقا، ط الأعملي- بيروت.
و المؤرخ النسابه أحمد بن يحيي البلاذري المتوفي سنه (297) تقريبا في كتابه (أنساب الأشراف) ص 104 ح 38 ط الأعملي- بيروت.
و الحافظ المؤرخ ابن عساكر في ترجمه الامام الحسن (عليه السلام) من (تاريخ دمشق) ص 63- 72 ح 128 113 ط المحمودي- بيروت.
و الحافظ شمس الدين الذهبي في (سير أعلام النبلاء)
ج 2/ 122 و ج 3/ 254 و 283، 385 و ج 10/ 347 ط مؤسسه الرساله- بيروت.
و لمزيد من المصادر راجع:
(العمده) ص 31- 46 ط قم.
(الطرائف) للسيد ابن طاووس ص 122- 130 ط قم.
(تأويل الآيات) ج 2/ 456- 459 ط قم.
(تفسير البرهان) ج 3/ 309- 325 و فيه (65) حديثا.
(بحارالأنوار) ج 35 باب 5 ص 206- 236 ط طهران.
(احقاق الحق) ج 2/ 501- 562، و ج 3/ 513- 531، و ج 9/ 1-
[ صفحه 194]
69، و ج 14/ 40- 105، و ج 18/ 359- 383 [275] .
و حصيله هذه الروايات أن النبي (صلي الله عليه و آله)- بعد نزول الآيه- جعل عليا و فاطمه و الحسن و الحسين (عليهم السلام) تحت كسائه مرارا و في عده مواطن (في بيت فاطمه مره، في بيت ام سلمه اخري، و غيرها)، و تلا الآيه المباركه و قال: «اللهم ان هولاء أهل بيتي فطهرهم تطهيرا»، ثم واضب علي تلاوتها في باب الزهراء (عليهاالسلام) ليعرف (صلي الله عليه و آله) المراد من (أهل البيت) يحدد موضوع الآيه الشريفه.
و انما كان كل هذا من النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) ليقطع الطريق علي الانتهازيين و النفعيين لئلا يسيئوا الاستفاده من هذه الآيه الشريفه، فيدعي أحد يوما انها نزلت فيه.
و قد احتج بها علي (عليه السلام) و الحسن و الحسين (عليهماالسلام) علي الصاحبه في مواطن عديده و قالوا: انها نزلت فيهم و ما أنكر عليهم أحد قط.
و الآيه المباركه نصت علي أن الله سبحانه أراد أن يطهر أهل البيت من الرجس. و الرجس هنا ليس النجاسه الظاهريه، و
الا فالتنزه عنها مطلوب من المسلمين كافه، ثم لو كانت النجاسه الظاهريه هي المقصود لما احتاج النبي (صلي الله عليه و آله) الي كل تلك المراسم و الالتزامات، و الي تلاوتها شهورا عديده علي باب علي و فاطمه (عليهماالسلام)، و لما جر الرداء من ام سلمه و هو يقول: «انك علي خير».
فالمراد- اذن- هو التلوث و النجاسه الباطنيه، أي ارتكاب الذنوب و معصيه الرب- فيكون الآيه الشريفه: (ان الله أراد أن يكون أهل البيت منزهين مطهرين من ارتكاب الذنوب و المعاصي).
و الاراده هنا ليست اراده تشريعيه، أي أن الله أراد من أهل البيت أن
[ صفحه 195]
ينزهوا و يطهروا أنفسكم من الذنوب- كلا، لأن هذه الاراده ليست خاصه بأهل البيت (عليهم السلام) و انما تمشل الناس جميعا. فالمراد اذن هي الاراده التكوينيه [276] .
و قد فسر الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) الآيه الشريفه بالعصمه من الذنب أيضا.
فعن ابن عباس عن النبي (صلي الله عليه و آله): «قسم الله الخلق قسمين و جعلني في أفضلهما، فقال: و (أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) فأنا أفضل أصحاب اليمن، و قسمهم ثلاثه أقسام و جعلني في أفضلها فقال: (فأصحب الميمنه ما أصحاب الميمنه و أصحاب المشئمه ما أصحاب المشئمه و السابقون السابقون) فأنا أفضل السابقين. ثم قسم الطوائف الثلاث الي قبائل و جعلني في أفضلها فقال: (و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) فأنا أتقي بني آدم و أفضلهم، و لن أفخر بذلك. و قسم القبائل الي اسر و جعلني في أفضلها فقال: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
و يطهركم تطهيرا) فأنا و أهل بيتي معصومون من الذنب و المعصيه» [277] .
لكن هناك من قال: ان الايه خاصه بنساء النبي (صلي الله عليه و آله) و تشبثوا في ذلك بسياق الايه، فالآيه واقعه في سياق الخطاب مع نساء النبي (صلي الله عليه و آله)، فان دلت العصمه فهي ثابته لنساء النبي (صلي الله عليه و آله) و لم يقل بذلك أحد من المسلمين و الجواب علي ذلك:
ذكر العلامه السيد عبدالحسين شرف الدين هذا الاشكال و أجاب عليه بعده وجوه:
[ صفحه 196]
الأول: انه اجتهاد في مقابل النصوص الصريحه و الأحاديث المتواتره الصحيحه، و قد سمعت بعضها.
الثاني: انها لو كانت خاصه في النساء- كما يزعهم هؤلاء- لكان الخطاب في الآيه بما يصلح للاناث و لقال- عز من قائل-: عنكن، و يطهركن، كما في غيرها من آياتهن، فتذكير ضمير الخطاب فيها دون غيرها من آيات النساء كاف في ردهم.
الثالث: ان الكلام البليغ يدخله الاستطراد و الاعتراض، و هو كثير في الكتاب و السنه و كلام العرب العاربه و غيرهم من البلغاء، و آيه التطهير من هذا القبيل جاءت مستطرده بين آيات النساء، فتبين بسبب استطرادها أن خطاب الله لهن بتلك الأوامر و النواهي و النصائح و الآداب لم يكن الا لعنايه الله تعالي بأهل البيت، أعني الخمسه- لئلا ينالهم- و لو من جهتهن- لوم، أو ينسب اليهم (و لو بواسطتهن) هناه، أو يكون عليهم للمنافقين (و لو بسببهن) سبيل.
الرابع: ان القرآن لم يترتب في الجمع حسب ترتبه في النزول باجماع المسلمين كافه، و علي هذا فالسياق لا يكأفي الأدله الصحيحه عند تعارضهما لعدم الوثوق حينئذ بنزول الآيه
في ذلك السياق [278] .
الدليل الثاني
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا فاطمه، ان الله يغضب لغضبك و يرضي لرضائك» [279] .
و بديهي أن ميزان الرضي و الغضب عند الله هو الحق، والله لا يرضي بالقبيح و مخالفه الحق، و لو غضب لذلك غيره، كما لا يغضب- سبحانه- من الفعل الحسن و الحق و لو أغضب ذلك الآخرين.
[ صفحه 197]
و نتيجه ذلك: ان الزهراء (عليهاالسلام) لابد أن تكون معصومه من الذنب و الخطأ، و ذلك لأنها لو لم تكن معصومه لما صح قول النبي (صلي الله عليه و آله) في حقها، بينما لو كانت معصومه- كما هو الحق- فان رضاها و غضبها يوافق الموازين الشرعيه دائما، فهي لا تغضب من الحق و لا ترضي بما يخالف رضا الله.
و لتوضيح المعني نضرب مثلا.
لو فرض أن فاطمه (عليهاالسلام) لم تكن معصومه، و يصح الخطأ و الاشتباه في حقها، فلو تنازعت مع شخص علي شي ء، فمن الممكن أن تطالب بدافع الهوي و الاشتباه بغير الحق و خلافا للواقع، و حينما ينتصر الحق و يغلبها الخصم فقد تغضب (عليهاالسلام) لذلك و لا ترضي عليه، فهل يمكن- علي هذا الفرض- أن يقال ان ينسب هذا الفعل القبيح الي الله سبحانه.
و يمكن اثبات عصمتها (عليهاالسلام) بهذا الحديث أيضا.
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «فاطمه بضعه مني فمن أغضبها أغضبني» [280] .
رواه الفريقان و اعترف به المسلمون جميعا.
و كما بينا فيما سبق فان هذا الحديث يدل علي عصمه فاطمه (عليهاالسلام) لأن النبي (صلي الله عليه و آله) معصوم عن الذنب و الخطأ و الهوي و يغضب
و يرضي لغضب الله و رضاه، فلا يمكن أن قال: ان النبي (صلي الله عليه و آله) يغضب لغضب فاطمه، الا اذا قلنا بعصمتها (عليهاالسلام) عن الذنب و الخطأ و من شواهد الاخري علي عصمتها (عليهاالسلام) قول
[ صفحه 198]
الصادق (عليه السلام): «ان فاطمه انما سميت فاطمه لأنها فطمت من الشر» [281] .
و مما يدل علي عصمتها (عليه السلام) اليك بعض الاحاديث الثابته، التي رواها فطاحل العلماء و أثبتوها في صحاحهم و مسانيدهم.
1- في الاستيعاب ج 4 ص 1895: عن ابن عباس: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله: «أفضل نساء أهل الجنه خديجه بنت خويلد، و فاطمه بنت محمد، و مريم بنت عمران، و آسيه بنت مزاحم زوجه فرعون مصر».
2- في صحيح البخاري ج 2 ص 185 و 189: قال النبي (صلي الله عليه و آله): «فاطمه (عليهاالسلام) سيده نساء أهل الجنه».
3- و في سنن الترمذي ص 540: عن حذيفه قال: أتيت النبي (صلي الله عليه و آله)فصليت معه.. قال: «هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذا الليله، استأذن ربه أن يسلم علي و يبشرني بأن فاطمه سيده نساء أهل الجنه، و ان الحسن و الحسين شباب أهل الجنه» [282] .
تدل هذه الاحاديث الشريفه علي أن فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) «معصومه و أي عصمه» و هي أفضل نساء الامه، بل و أفضل نساء أهل الجنه من السابقين و اللاحقين كما أن ابنيها سيدا شباب أهل الجنه.
[ صفحه 199]
قوله سبحانه و تعالي في محكم كتابه المجيد: (فمن حاجك فيه من بعد ماجاءك من العلم فقل تعالوا فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم
و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنه الله علي الكاذبين) (آل عمران: 61).
نزلت هذه الآيه في واقعه من أشهر الوقائع و الحوادث التي مرت علي المسلمين في حياه الرسول الأعظم، من يوم وقوعها الي يومنا هذا.
و لا أراني بحاجه الي ذكر مصادرها، حيث أن جميع المفسرين و المحدثين، (الا من شذ و ندر) قد أتفقت كلمتهم علي نزولها علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) في واقعه المباهله مع نصاري نجران.
و قد قصدت الآيه من (أبناءنا) الحسن و الحسين (عليهماالسلام)، و (نساءنا) فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، و (أنفسنا) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فجعله الله سبحانه و تعالي نفس محمد (صلي الله عليه و آله)، و المراد المساواه و المساوي الأكمل الا انه ليس ينبي.
و جاء في تفسير الطبرسي لهذه الآيه- المباهله- ما يلي:
(... أجمع المفسرون علي أن المراد ب- (أبناءنا): الحسن و الحسين، قال أبوبكر الرازي: هذا يدل علي أن الحسن و الحسين أبناء رسول الله (صلي الله عليه و آله) و ان ولد الابنه هو ولد في الحقيقه... ثم تابع تفسيره قائلا: و (نساءنا) اتفقوا علي ان المراد بها فاطمه (عليهاالسلام) لأنه لم يحضر المباهله غيرها من النساء، هذا يدل علي تفضيل الزهراء فاطمه (عليهاالسلام) علي جميع النساء.
و يعضدها ما جاء في الخبر ان النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «فاطمه بضعه مني يريبني ما رابها». و قال: «ان الله يغضب لغضب فاطمه و يرضي لرضاها».
[ صفحه 200]
و قد صح عن حذيفه انه قال: سمعت النبي يقول: «أتاني ملك فبشرني ان فاطمه سيده نساء أهل الجنه، أو سيده نساء
امتي»... ثم قال الطبرسي و أنفسنا يعني علي بن أبي طالب خاصه، و لا يجوز أن يكون المعني به! أي النبي (صلي الله عليه و آله) لأنه هو الداعي، و لا يجوز أن يدعو الانسان نفسه انما يصح أن يدعوا غيره، و اذا كان قوله و أنفسنا لا بد أن يكون اشاره الي غيره الرسول، وجب أن يكون اشاره الي علي، لأنه لا أحد يدعي دخول غير أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) و زوجته و ولديه المباهله، و هذا يدل علي غايه الفضل، و علو الدرجه، و البلوغ منه الي حيث لا يبلغه أحد، اذ جعله الله نفس الرسول...).
و هكذا يتحدث القرآن الكريم عن مقام السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام). و أهل البيت (عليهم السلام) و بأنهم هم المختارون للدعوه عند الله سبحانه و تعالي، و الصفوه في امه محمد (صلي الله عليه و آله).
و قد ذكرنا مصادر عده في تفسير الآيه في الجزء الأول من كتابنا علي في الكتاب و
السنه ص 69 ط- بيروت.
قدم و فد نصاري نجران المدينه ليحاجوا الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) في دينه لما دعاهم الي الاسلام أو دفع الجزيه، و كان في مقدمه الوفد العاقب و السيد- و في بعض الروايات فيهم الطيب و عبد المسيح- مع أصحابهم، و لما يؤنوا، نزلت الآيه المذكوره فقرأها (صلي الله عليه و آله) عليهم و دعاهم الي المباهله، و هي (الملاعنه).
قالوا: حتي نرجع و ننظر في أمرنا، و نأتيك غدا. فخلا بعضهم الي بعض للتشاور.فقال لهم الأسقف: انظروا الي محمد في غد، فان غدا بولده
[ صفحه 201]
و أهله فاحذروا مباهلته، و ان غدا بأصحابه
فباهلوه فانه علي غير شي ء.
و في اليوم الثاني عادوا، و خرج رسول الله (صلي الله عليه و آله)، محتضنا الحسن، و آخذا بيد الحسين، و فاطمه تمشي خلفه، و علي بن أبي طالب خلفها، (صلوات الله عليهم)، و هو يقول لهم: «اذا أنا دعوت فأمنوا» و قال (صلي الله عليه و آله) لوفد نصاري نجران، «أباهلكم بخير أهل الأرض و أكرمهم عند الله».
و سأل الأسقف عنهم، فقيل له: هؤلاء أعز الناس عليه، و أقربهم الي قبله. و تقدم رسول الله (صلي الله عليه و آله) فجثا علي ركبتيه.
فلما نظر الأسقف، و هو العاقب، و كان رئيسهم، قال: لقد جثا، والله، كما جثا الأنبياء للمباهله. فرجع و لم يقدم علي المباهله، بعد أن رأي تلك الوجوه النورانيه، و سمع كلام رسول الله (صلي الله عليه و آله) التفت الي أصحابه و قال: لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، و لا يبقي علي وجه الأرض نصراني الي يوم القيامه، فقالوا: افعل ما تراه، فتوجه الأسقف الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قال: يا أباالقاسم، انا لا نباهلك، و لكن نصاحك، فقال (صلي الله عليه و آله): «نعم». فصالحهم علي أموال و حلل يؤدنها للدوله الاسلاميه (سنويا).
فلما رجع الوفد، لم يلبث السيد و العاقب الا يسيرا حتي رجعا الي النبي (صلي الله عليه و آله) و أهدي العاقب له حله و عصاه و قدحا و نعلا، ثم أسلما علي يد الرسول (صلي الله عليه و آله).
و أي فضل يداني آل محمد (صلي الله عليه و آله) فحسن و حسين أبناء رسول الله (صلي الله عليه و آله) بنص القرآن، و فاطمه سيده نساء العالمين، و علي نفس رسول الله
(صلي الله عليه و آله)، و هذا مما يكاد يقوم عليه اجماع المفسرين، ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) بخروجه للمباهله لم يكن معه
[ صفحه 202]
غير أهل بيته، و هم علي، و فاطمه، و الحسن، و الحسين (صلوات الله عليهم).
الله أكبر، لقد بهرت النصاري عظمه تلك الوجوه المقدسه النورانيه، و آمنوا بما لها من الكرامه و الشأن عند الله، و وقفوا خاضعين أمام عظمه الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله) و نفذوا طلباته، و قال (صلي الله عليه و آله):«والذي نفسي بيده، ان العذاب تولي أهل نجران، و لو لا عفوا لمسخوا قرده و خنازير، و لا ضطرم عليهم الوادي نارا، و لا ستأصل الله نجران أهلها حتي الطير علي الشجر، و ما حال الحول علي الانصاري كلهم».
و ما ذكرنا ملخصا يناسب ما يتطلبه بحثنا، و حديثنا- هنا- حول قوله تعالي: (و نساءنا و نساءكم) فقد أجمع المسلمون ان رسول الله (صلي الله عليه و آله)، لم يأخذ معه من الرجال الا عليا (عليه السلام)، و من الأبناء الا الحسن و الحسين (عليهماالسلام) و من النساء الا ابتنه فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، و لم يأخذ معه أحدا من بقيه بناته أو زوجاته، و هن في حجراته، و لم يأخذ معه احدي عماته كصفيه بنت عبدالمطلب التي كانت شقيقه أبيه عبدالله، و لم يصطحب ام هاني بنت أبي طالب، و لا دعي غيرهن من الهاشميات و لا من نساء المهاجرين و الأنصار، فلو كانت في النساء امراه كفاطمه الزهراء في الجلاله و العظمه و القدر و القداسه و النزاهه لدعاها رسول الله (صلي الله عليه و آله) لترافقه للمباهله، مع العلم أن الله تبارك
و تعالي أمر نبيه (صلي الله عليه و آله) أن يدعو نساءه بقوله: (و نساءنا) و لكنه (صلي الله عليه و آله) لم يجد امرأه تليق بالمباهله سوي ابنته الصديقه الطاهره فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، لهذا انتخبها.
و بلفظ آخر أذكر القصه.
قدم علي النبي (صلي الله عليه و آله) و فد نصاري نجران، يقدمهم العاقب، و محسن، و السيد، و الاسقف، و الطيب، و عبد المسيح، مع أصحابهم، و رافقهم رجلان من أحبار اليهود، لمحاججه الرسول (صلي الله
[ صفحه 203]
عليه و آله) تقدم الاسقف و هو رئيسهم و قال: يا أباالقاسم فذاك موسي من أبوه؟
قال النبي (صلي الله عليه و آله): «عمران». الاسقف: فيوسف من أبوه؟ قال النبي (صلي الله عليه و آله): «يعقوب». الاسقف: فداك أبي و امي: فأنت من أبوك؟ قال النبي (صلي الله عليه و آله): عبدالله بن عبدالمطلب». الاسقف: فعيسي من أبوه؟ فسكت النبي (صلي الله عليه و آله) برهه فنزل جيرئيل (عليه السلام) فقال: هو روح الله و كلمته. الاسقف: يكون روح بلا جسد فسكت النبي (صلي الله عليه و آله) برهه فأوحي الله اليه: (ان مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم له كن فيكون) فوثب الاسقف و ثبه اعظام لعيسي أن يقال له من تراب ثم قال: ما نجد هذا- يا محمد- في التواره و لا في الانجيل و لا في الزبور، و لا نجد هذا الا عندك فأوحي الله اليه: الآيه عندما لم يؤمنوا (فقل تعالوا ندع....) الي آخر الايه. فقالوا أنصفنا يا أباالقاسم فمتي موعدك؟ قال: الغداده ان شاءالله...... الي آخر القصه.
وروي نزول هذه الآيه في أهل البيت
(عليهم السلام)، جم غفير من علماء اخواننا أهل السنه في تفاسيرهم، و صحاحهم، و مسانيدهم، منهم:
الحافظ أحمد بن حنبل امام الحنابله في كتابه (المسند) ج 1 ص 185 ط مصر.
العلامه الطبري في تفسيره ج 2 ص 192 ط الميمنه مصر.
و العلامه أبوبكر الجصاص، المتوفي سنه 270 ه- في كتابه (أحكام القرآن) ج 2 ص 16.
و العلامه الحافظ الحكام في (المستدرك) ج 3 ص 150 ط حيدرآباد دكن.
و الحافظ أبونعيم الأصبهاني في كتاب (دلائل النبوه) ص 297 ط حيدر
[ صفحه 204]
آباد دكن.
و العلامه الزمخشري في تفسيره (الكشاف) ج 1 ص 192 ط مصطفي محمد.
و العلامه الحافظ أبوبكر ابن العربي المعاقري الاندلسي المالكي المتوفي سنه 542 ه- في كتابه (أحام القرآن) ج 1 ص 115 مطبعه السعاده بمصر.
الحافظ الذهبي في تلخيصه المطبوع في ذيل مستدرك الحاكم ج 3 ص 150 ط حيدرآباد دكن.
العلامه الحافظ ابن الأثير في كتابه (أسد الغابه) ج 4 ص 25 ط الأول مصر.
العلامه سبط ابن الجوزي في (التذكره) ص 17 ط النجف.
العلامه البيضاوي في تفسيره ج 2 ص 22 طبع مصطفي محمد بمصر.
العلامه القربطي في (الجامع لاحكام القرآن) ج 2 ص 104 ط مصر سنه 1926 م.
العلامه الأديب ابن حيان الاندسي المغربي، المتوفي سنه 754 ه-، حيث أورد نزول الآيه الشريفه في حق النبي، و علي، و فاطمه، و الحسن، و الحسين (عليهم السلام) في كتابه (البحر المحيط) ج 2 ص 479 ط مطبعه السعاده بمصر.
انتقينا ثلاثه عشر مصدرا من مصادر عديده ذكرها العلامه المرعشي النجفي في موسوعه احقاق الحق و تعليقاته، و من مصادر اخري،
روما للاختصار، و لو قصدت الاستقصاء لطال بنا الحديث.
[ صفحه 205]
قال الله تبارك و تعالي في محكم كتابه المجيد، في سوره الدهر.
بسم الله الرحمن الرحيم
(هل أتي علي الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) الي ان قال: (ان الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عبادالله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا و يطعمون الطعام علي حبه مسكينا و يتيما و أسيرا انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا) الي أن قال: (و جزاهم بما صبروا جنه و حريرا) الي أن قال: (ان هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا) الي آخر السوره.
اطبق المفسرون بمختلف مللهم و نحلهم، الا ما شذ و ندر، ان هذه السوره نزلت في أهل بيت الرسول (صلي الله عليه و آله) و هم: علي، و فاطمه، و ابناهما الامامين الحسن و الحسين (عليهم السلام)، حينما تصدقوا بطعام افطارهم علي المسكين، و اليتيم، و الأسير، و فاء بالنذر لله الذي قطعوه علي أنفسهم، صيام ثلاثه أيام ان شافي الله ولديهما الحسن و الحسين (عليهماالسلام)، و تري في هذا شاهدا و متحدثا بفضلهم، و عارضا هذا النموذج من طائع الايمان الفذه، و مثلا أعلي في الايثار و الكرم، و سمو الأخلاق، و الرحمه بالمحتاجين، و داعيا للمسلمين الي الاقتداء بهم، و الاقتباس من سيرهم.
و قد ذكر أعلام القوم تفسير نزول هذه الآيات الباهرات من سوره الدهر و رووا هذه الفضيله في صحاحهم و مسانيدهم، الي حد التواتر، عجز الكثيرون من أحصائهم، و سأذكر شذرات منها فيما يلي أن شاءالله.
قال الشيخ المفسر
الفضل بن الحسن الطبرسي في (مجمع البيان) ج 10/ 611 ط دار المعرفه- بيروت- قد روي الخاص و العام أن الآيات من هذه السوره، و هي قوله: (ان الابرار يشربون) الي قوله: (و كان سعيكم
[ صفحه 206]
مشكورا) نزلت في علي و فاطمه و الحسن و الحسين (عليهم السلام).
و قال الحافظ محمد بن طلحه الشافعي المتوفي سنه 652 ه- في (مطالب السؤول) ص 31: (كفي بهذه عباده، و باطعام هذا الطعام مع شده حاجتهم اليه منقبه، و لو اليه منقبه، و لو لا ذلك لما عظمت هذه القصه شأنا، و علت مكانا، و لما أنزل الله تعالي فيها علي رسول الله قرآنا).
و أفرد هذه الفضيله بالتأليف الشيخ أبومحمد أحمد بن محمد بن علي العاصمي، و المولود سنه (378 ه-) في كتاب فخم سماه (زين الفتي في تفسير هل أتي) في مجلدين.
أما موجز القصه فهي كالاتي:
مرض الحسن و الحسين (عليهماالسلام) مرضا شديدا، فعادهما رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و عادهما بعض الصاحبه المقربين، فقالوا: يا أباالحسن، لو نذرت علي ولديك نذرا. فقال علي (عليه السلام): «لو برءا صمت ثلاثه أيام شكرا لله».و سمعت فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) فقالت: «ولله علي مثل الذي ذكرت». و سمعه الامامان الحسن و الحسين (عليهماالسلام) فقالا: «يا أبه، ولله علينا مثل الذي ذكرت». و قالت جاريه لهم نوبيه يقال لها (فضه) كذلك، فألبس الله تعالي الغلامين لباس العافيه و برءا، و ليس عند آل محمد (صلي الله عليه و آله) قليل و لا كثير، فحصل أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) علي ثلاثه أصوع من الشعير.
فطحنت فاطمه الزهراء منها صاعا، فخبزته خمسه أرغفه لكل واحد منهم رغيف، و صلي
علي (عليه السلام) المغرب، فلما أتي المنزل و وضع الطعام بين يديه للافطار، طرق الباب مسكين، و سألهم، فأعطاه كل واحد منهم قوته و مكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا غير الماء.
ثم صاموا اليوم الثاني، فطحنت و خبزت فاطمه (عليهاالسلام) الصاع الثاني كذلك، فلما قدم بين أيديهم للافطار، طرق الباب يتيم، و سألهم
[ صفحه 207]
القوت، و قال: اني جائع. فأعطاه كل واحد منهم قوته، و فطروا علي الماء فقط.
فلما كان اليوم الثالث من صومهم، كذلك طحنت فاطمه الزهراء الصاع الثالث و خبزته، و قدم الطعام للافطار، فطرق عليهم هذا المره أسير، و سألهم شيئا من الطعام، فأعطاه كل واحد منهم رغيفه و طعامه، و باتوا تلك الليله طاوين كالليالي السابقه، و لم يذوقوا غير الماء.
فرآهم رسول الله (صلي الله عليه و آله) في اليوم الرابع، و هم يرتعشون من شده الجوع، و فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، قد التصق بطنها بظهرها من شده الجوع، و غارت عيناها، فقال (صلي الله عليه و آله):
«و اغوثاه، يا الله، أهل بيت محمد يموتون جوعا، فهبط جبرئيل فقال: خذ ما هناك الله تعالي به في أهل بيتك. فقال: و ما آخذ يا جبرئيل؟» فأنزل الله عله سوره (هل أتي) و قرأها عليهم جبرئيل (عليهم السلام).
و قال أبواسحاق الثعلبي في تفسيره:
(وزاد ابن مهران الباهلي في حديثه: فوثب النبي (صلي الله عليه و آله) حتي دخل علي فاطمه (عليهاالسلام) و رأي ما بهم أنكب عليهم يبكي، ثم قال لهم: «أنتم منذ ثلاث فيما أري، و أنا غافل عنكم!». فهبط جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآيات من سوره (هل أتي))
قال الحافظ ابن البطريق في (العمده) ص 348 ط
مؤسسه النشر الاسلامي- قم:
(وزاد محمد بن علي صاحب الغزالي، علي ما ذكره الثعلبي في كتابه المعروف ب- (البلغه) أنهم (عليهم السلام) نزلت عليهم مائده من السماء، فأكلوا منها سبعه أيام).
و قال الحافظ أبوعبدالله الكنجي الشافعي في (كفايه الطالب) ص 348:
(و قد سمعت الحافظ أباعمرو عثمان بن عبدالرحمن المعروف با بن
[ صفحه 208]
الصلاح في درس التفسير في سوره (هل أتي) و ذكر الحديث و قال فيه:
ان السؤال كانوا ملائكه من عند رب العالمين، و كان ذلك امتحانا من الله عز و جل لأهل بيت الرسول (صلي الله عليه و آله).
و سمعت بمكه حرسها الله تعالي من شيخ الحرم بشير التبريزي في درس التفسير أن السائل الأول كان جبرئيل، و الثاني ميكائيل، و الثالث كان اسرافيل (عليهم السلام).
و نقرأ في السوره قوله تعالي:
(و يطعمون الطعام علي حبه مسكينا و يتيما و أسيرا انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا).
و هكذا يعرض القرآن بيت النبوه نموذجا للشخصيته الاسلاميه المتفانيه في ذات الله، المتجرده عن حب الدنيا و زخرف الحياه، المنتصره علي شهوه القرص و مضغه الطعام.
يعرضهم قدوه في الايثار و تقديم الغير علي النفس، فيقدم درسا فريدا في الانتصار علي الذات و سمو الأخلاق، و التسامي السلوكي الذي يحلق بالطليعه المؤمنه الي مستوي المبادي و القيم الاسلاميه بل يقدمهم ليعرض التسجيد العملي للاسلام، من خلال عرض نموذج حي للمبادي و القيم، و تلك فلسفته و حكمته من عرض القصص و ضرب الأمثال و نقل الوقائع و الأحداث، لينقل الانسان من خلال هذا العرض، و ذلك الوصف من عالم الفكر و المعرفه و
النظريه، الي ميدان العمل، و تجسيد الحدث أو الواقعه، ليتفاعل معها الانسان بحسه و وعيه و وجدانه فينفعل بها، و يستفيد الدرس و العبره و التجربه منها، لذلك يدوعنا الي موده أهل البيت (عليهم السلام)، و الالتزام بحبهم..
و ما كان القرآن ليقصد بالحب أو الموده الا الموده الا موده العقيده، و حب العمل و التعلق بشخصيات أهل البيت (عليهم السلام) التي جسدت الاسلام سلوكا في
[ صفحه 209]
الحياه.
و من الجدير ذكره، ان من شده حب الله لفاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و الحرص علي عدم خدش شعورها و كرامتها، أن ذكر سبحانه في سوره (هل أتي) المباركه الكثير الكثير من نعيم الجنه، و حتي (الولدان المخلدون) و لكنه لم يتطرق و لم يذكر الحور العين، لا من قريب و لا من بعيد، كرامه لحبيبه حبيبه (صلي الله عليه و آله) لأن الآيه نزلت في حق علي، و فاطمه، و الحسن و الحسين (عليهم السلام)، فحفظ الله تعالي لفاطمه الزهراء جلاتها، اذ لم يذكر- عز و جل-الحور العين، كرامه لسيده نساء العالمين.
و نحن حين نعرض هذه اللوحات السلوكيه الفذه، انما يهمنا منها أمران:
الأول: ان الاسلام ليس قيما نظريه مثاليه محضه.. و انما هو تنظيم منهجي للحياه يحقق أسمي المراتب الحضاريه للانسان.. كل حين.
الثاني: ان أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا أصحاب نطريات و اجتهادات و مذاهب.. و انما هم التجسيد الحي الصادق للرساله... شاء الله تعالي أن يكون كذلك، فكانوا كما أراد جل شأنه.
و قد حازت هذه الفضيله جانبا كبيرا، و اهتماما ملحوظا عند الشعراء علي مر السنين، لو جمعت أشعارهم و قصائدهم لأصحبت كتابا فخما ضخما بديعا، يضم بين طياته نماذج رائعه
من فنون الأدب و الشعر القصصي و الملحمي:
و سائل هل أتي نص بحق علي
أجبته هل أتي نص بحق علي
قال امام الشافعيه محمد بن ادريس الشافعي:
الي م الي م و حتي متي
أعاتب في حب هذا الفتي
و هل زوجت فاطم غيره
و في غيره هل أتي؟ هل أتي؟!@
و قال الحافظ المفسر أبواسحاق الثعلبي:
أنا مولي لفتي
أنزل فيه هل أتي
أخرجه ابن البطريق في (العمده) ص 349 عن تفسير الثعلبي.
[ صفحه 210]
قال الحافظ محمد بن طلحه الشافعي المتوفي سنه (652 ه-) في (مطلب السؤول) ص 8:
هم العروه الوثقي لمتعصم بها
مناقبهم جاءت بوحي و انزال
مناقب في الشوري و سوره هل أتي
و في سوره الأحزاب يعرفها التالي
و هم أهل بيت المصطفي فودادهم
علي الناس مفروض بحكم و اسجال
قوله (في الشوري) آيه الموده، و بينهما في البيت الثالث.
و قوله (في سوره الأحزاب) آيه التطهير، و قد أفردت لكل من هاتين الآيتين بابا خاصا، فراجع.
و للملك الصالح أبي الغارات نصير الدين طائع بن رزيك بن صالح الأرمني، صاحب مصر، المولود سنه (495 ه-) و المستشهد سنه (556 ه-)، عده فصائد في السوره، أذكر منها قوله:
ولايتي لأميرالمؤمنين علي
بها بلغت الذي أرجوه من أملي
ان كان قد انكر الحساد رتيته
في جوده فتمسك يا أخي بهل
أي ب- (هل أتي....)
و قال أيضا:
آل الرسول الاله قوم
مقدارهم في العلي خطير
و للسيد الحميري- كما في
مناقب ابن شهر آشوب 3/ 329:
و أخبرنا الاله بما وقاهم
و لقاهم هناك من السرور
و أكرمهم لما صبروا جميعا
بجنات و ألوان الحرير
فلا شمسا يرون و لا حميما
و لا غساق بين الزمهرير
و للبعدي:
أوليس الاله قال لنا
لا شمس فيها يري لا زمهريرا
و اذا بالنداء يا ساكن الجنه
مهلا أمنتم التغييرا
[ صفحه 211]
ذا علي الوصي داعب مولا
تكم فاطمه فأبدت سرورا [283]
فبدا اذا تبسمت ذلك النور
فزادت كرامه و حبورا [284]
أما المصادر التي ذكرت نزول هذه الآيات الباهرات من سوره (هل أتي) فلا تحصي كثره، و العلماء و الحفاظ و المفسرون الذين رووا هذه الفضيله فكثيرون، اذكر منهم أكثر من عشرين مصدرا:
المحدث المفسر الحسين بن الحكم الحبري، المتوفي سنه (286 ه-) في كتاب (ما نزل من القرآن في علي عليه السلام) ص 326 ج 69 ط مؤسسه آل البيت- بيروت.
الحافظ الفقيه ابن المغازلي في (مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام) ص 272 ج 320 ط دار الأضواء- بيروت.
الحافظ أبوعبدالله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في (كفايه الطالب) ص 345- 349 ط طهران.
الحافظ موفق بن أحمد الخوارزمي في (المناقب) ص 188- 194 ط النجف الأشرف.
الحافظ ابراهيم بن محمد الجويني في (فرائد السمطين) ج 1/ 53 ح 383 الباب الحادي عشر، و عنوانه: فضائل تنقاد بذكرها كل شامسه، و تشرق من نورها ليالي الأزمان الدامسه.
الحافظ الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) ج 2/ 298- 310 ح 1042- 1061 بعده طرق، ط الأعلمي-
بيروت.
العلامه شهاب الدين الحسيني الشافعي في (توضيح الدلائل) ص 169 مخطوطه مكتبه ملي بفارس، عن الحسن و قتاده و الطبري و الواحدي، و عن فرائد
[ صفحه 212]
التفسير.
و في ص 322 عن الواحدي، و عن الامام الصالحاني عن شيخه أبي موسي المديني.
العلامه المفسر ناصر الدين محمد بن عبدالله في (فتح الرحمان في تفسير القرآن) ص 167 نسخه مكتبه جستر بيتي- ايرلنده.
الشيخ أبوالمعالي محمد بن الحسن بن حمدون في (التذكره الحمدونيه) ص 70 ط- بيروت.
العلامه السيد خير الدين الآلوسي في (غاليه المواعظ و مصباح المتعظ و الواعظ) ج 2/ 96 ط- القاهره.
العلامه أبوالحسن الواحدي في (أسباب النزول) ص 331 ط- القاهره.
العلامه محب الدين الطبري في (الرياض النضره) ج 2/ 207 ط- مصر.
و في (ذخائر العقبي) ص 102 ط مصر.
العلامه أبوالفرج ابن الجوزي في (التبصره) ص 449 ط الحلبي- مصر.
المورخ ابن الأثير الجزري في (أسد الغابه) ج 5/ 530 ط- مصر.
العلامه جار الله الزمخشي في (ربيع الأبرار) ص 209 مخطوط.
الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الاصابه) ج 4/ 376 ط- دار الكتب المصريه.
و في (الكاف الشاف) ص 80 ط- مصر.
الحافظ البغوي الشافعي في تفسيره (معالم التنزيل) ج 7/ 159 ط- القاهره.
العلامه العارف الشيخ محيي الدين ابن عربي في (محاضره الأبرار
[ صفحه 213]
و مسامره الأخيار) ج 1/ 103 ط- مطبعه الشعرواي.
الشيخ عبدالرحمن الصفوري في (نزهه المجالس) ج 1 ص 213 ط- القاهره.
الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في (ينابيع الموده) ص 212 ط- اسطنبول.
و لمزيد من التفاصيل راجع المصادر التاليه:
(تأويل الآيات) ج 2 ص
741- 752.
(بحارالأنوار) ج 35 ص 237- 257.
التفسير البرهان) ج 4 ص 411- 414.
(احقاق الحق) ج 3 ص 158، 169- 583، ج 8 ص 576، و ج 9 ص 110- 123 و ج 14 ص 446- 457، و ج 18 ص 339- 343، و ج 20 ص 153- 170.
كما ذكر ذلك الواحدي في كتابه البسيط، و الثعلبي في تفسيره الكبير و أبوالمؤيد موفق في كتابه (الفضائل)، و الزمخشري في تفسيره (الكشاف) و غيرهم و لو أردت الاستقصاء لطال البحث و خرجت من الاختصار، و لكني اكتفيت بالنزر اليسير.
[ صفحه 214]
قال سبحانه و تعالي في محكم كتابه المجيد: (قل لا أسئلكم عليه أجرا الا الموده في القربي و من يقترف حسنه نزد له فيها حسنا ان الله غفور شكور) [285] .
تفسير الآيه واضح و هو خطابه تبارك و تعالي الي رسوله الكريم (صلي الله عليه و آله) (قل) يا محمد لأمتك: (لا أسئلكم عليه) أي علي أداء الرساله (أجرا) شيئا من الأجر (الا الموده في القربي) أي الا أن تودوا قرابتي، و قد اتفقت كلمات أئمه أهل البيت (عليهم السلام) و كلمات العلماء أن المقصود من القربي هم آل النبي (صلي الله عليه و آله).
و هناك أحاديث متواتره في كتب الشيعه و السنه حول تعيين القربي بأفرادهم و أسمائهم، و من جمله الأحاديث التي ذكرها علماء العامه في صحاحهم و تفاسيرهم هذا الحديث:
لما نزلت هذه الآيه قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين تجب علينا مودتهم؟ فقال (صلي الله عليه و آله):؛ يا علي و فاطمه و ابناهما... الخ».
ذكر هذا الحديث طائفه من العلماء،
منهم:
ابن حجر في الصواعق المحرقه.
السيوطي في الدر المنثور.
أبونعيم في حيله الاولياء.
الحمويني الشافعي في فرائد السمطين.
و حديث آخر رواه الطبري و ابن حجر أيضا: أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: «ان الله جعل أجري عليكم الموده في أهل بيتي، و اني سائلكم
[ صفحه 215]
غدا عنهم».
هؤلاء بعض الرواه الذين ذكروا و نقلوا هذا الحديث بصوره اجماليه.
و اليك بعض الأحاديث التي تصرح باحتجاج أئمه أهل البيت (عليهم السلام) بهذه الآيه علي من المقصود من القربي، منها:
في الصواعق المحرقه لا بن حجر: عن علي (عليه السلام): «فينا في آل حم، لا يحفظ مودتنا الا كل مؤمن ثم قرأ: (قل لا أسئلكم عليه أجرا الا الموده في القربي و من يقترف حسنه نزد له فيها حسنا) و اقتراف الحسنه مودتنا أهل البيت... و الي هذا أشار الشاعر الكميت الأسدي بقوله:
وجدنا لكم في آل حم آيه
تأولها منا تقي و معرب
و عن جابر بن عبدالله قال: جاء اعرابي الي النبي (صلي الله عليه و آله) قال:يا محمد اعرض علي الاسلام.
فقال: «تشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له. و ان محمدا عبده و رسوله».
قال: تسألني عليه أجرا؟
قال: «لا، الا الموده في القربي».
قال: قرابتي أو قرابتك؟
قال: «قرابتي».
قال: هات ابايعك، فعلي من لا يحبك و لا يحب قرابتك لعنه الله.
فقال النبي (صلي الله عليه و آله): «آمين».
رواه الكنجي في (كفايه الطالب) ص 31.
و ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقه ص 101 هذين البيتين لا بن العربي:
رأيت ولائي آل طه فريضه
علي رغم
أهل البعد يورثني القربا
فما طلب المبعوث أجرا علي الهدي
بتبليغه الا الموده في القربي
[ صفحه 216]
و هذين البيتين للامام الشافعي:
يا أهل بيت رسول الله حبكم
فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر انكم
من لم يصل عليكم لا صلاه له
و قد ذكر شيخنا العلاه الأميني (عليه الرحمه) في الجزء الثالث من كتابه الغدير خمسه و أربعين مصدرا حول نزول هذه الآيه في شأن علي، و فاطمه، و الحسن، و الحسين (عليهم السلام).
و الآيات في علي، و فاطمه، و الحسن، و الحسين (عليهم السلام) كثيره، و كلها توضيح و تؤكد بمعانيها، و سبب نزولها مقام أهل البيت (عليهم السلام)، و علو مكانتهم، و من جمله ما نزل فيهم من القرآن آيه الموده، فعن ابن عباس قال: لما نزلت... (قل لا أسئلكم عليه أجرا الا الموده في القربي).
قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟
قال: «علي، و فاطمه، و ابناهما». أخرجه أحمد في المناقب [286] .
الي هذا الحد أقف عن الاسترسال تاركا للمتتبع مراجه المصادر و الغوص في بطون امهات الكتب.
في بيوت أذن الله أن ترفع
في تفسير هذه الآيه، و الحديث الشريف، يقودني البحث الي أن اشرح بصوره موجزه ماهيه البيوت بصوره عامه، لا سيما بيوت الأنبياء التي خصها الله سبحانه بالآيه و أفضلها بيت علي و فاطمه (عليهاالسلام).
ان البيت الذي كانت السيده فاطمه الزهراء تسكن و تعيش فيه مع زوجها و ابنيهما (عليهم السلام)، كان محاطا بهاله نورانيه من القدسيه
[ صفحه 217]
و الروحانيه، و كان ذلك البيت مبينا علي
أساس مكارم الاخلاق و الاحترام المتبادل، و ربما لا يعرف حقيقه ذلك البيت الا من عرف حقيقه فاطمه و أبيها و بعلها و بنيها (صلوات الله عليهم).
و قد روي شيخنا المجلسي (قدس سره) عن أنس بن مالك، و عن بريده قال: قرأ رسول الله (صلي الله عليه و آله): (في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الأصال رجال لا تلهيهم تجاره و لا بيع عن ذكر الله...) الآيه [287] فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟
فقال: «بيوت الأنبياء».
فقام اليه أبوبكر، فقال: يا رسول الله! هذا البيت منها؟ و أشار الي بيت علي و فاطمه (عليهماالسلام).
فقال: «نعم، من أفضلها!!».
رواه جماعه من أعلام القوم، منهم:
الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) ج 1 ص 409 و 410 ط- بيروت، بثلاث طرق.
العلامه البدخشي في (مفتاح النجا) ص 12 مخطوط.
العلامه الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) ج 18 ص 157 ط المنيريه بمصر قال ما لفظه: أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريده الي آخر ما ذكرنا أعلاه.
و العلامه شهاب الدين الشافعي في (توضيح الدلائل) ص 163 مخطوط، (مكتبه ملي بفارس)، و قال: رواه الامام الصالحاني.
و الحافظ المفسر الثعلبي في (الكشف و البيان) مخطوط.
و العلامه جلال الدين السيوطي في (الدر المنثور) ج 5 ط مصر ص 50.
[ صفحه 218]
و المحدث العارف ابن حسنويه في (در بحر المناقب) ص 18 مخطوط.
و للمزيد راجع، (تأويل الآيات) ج 1 ص 361- 363.
تفسير البرهان ج 3 ص 137- 139.
احقاق الحق ج 3 ص 558، ج 9 ص 137،
ج 14 ص 421 و 422 و ج 18 ص 515 و ج 20 ص 72.
و عن ابن عباس قال: كنت في مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و قد قرأ القاري: (في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه...) الآيه فقلت: يا رسول الله؟ ما البيوت؟
فقال: «بيوت الأنبياء». و أم الي منزل فاطمه!
و الآن ننقلك عزيزي القاري الي البيت الذي أذن الله سبحانه و تعالي أن يرفع و يذكر فيه اسمه، بيت الامام أميرالمؤمنين، و بيت السيده فاطمه الزهراء (عليهماالسلام) ذلك البيت البسيط المتواضع في الظاهر، و العظيم عند الله و رسوله، لتري أجنحه السعاده و السمو ترفرف علي كل جانب من جوانبه، أساسه الايثار و التضحيه.
فقد علمها أبوها (صلي الله عليه و آله) معني الحياه، و أوحي لها بأن الانسانيه هي جوهر الحياه، و ان السعاده الزوجيه القائمه علي الخلق و القيم الاسلاميه عي أسمي من المال، و القصور، و الزخارف، و قطع الآثاث، و تحف الفن المزخرقه.. و تعيش فاطمه الزهراء في كنف زوجها، قريره العين، سعيده المثاليه، زوجه علي بطل المسلمين، و رجل الاقدام، و الفداء، و حامل لواء النصر و الجهاد... و عليها أن تكون بمستوي المسؤوليه و هذه المهه الخطيره...و ان تكون لعلي كما كانت امها خديجه لرسول الله (صلي الله عليه و آله) يتصدرها ببطوله و بساله.. فكانت كذلك.. و كانت حقا بمستوي مهمتها التي
[ صفحه 219]
أختارها الله تعالي لها..
و لم يكن رسول الله (صلي الله عليه و آله) ليترك هذا الغرس النبوي، دون أن يرعاه و يحتضنه... فمحمد رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و رعايته، أحاط
فاطمه و عليا (عليهماالسلام) بتوجيهه و عنايته، فعاش الزوجان في ظل رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و تحت كنفه و رعايته.. و منح (صلي الله عليه و آله) فاطمه بعد زواجها ما لم يمنحه لأحد، حتي بلغ من شده عنايته بفاطمه، و تعلق قلبه بها: انه اذا أراد الخروج في سفره أو غزوه، كانت فاطمه آخر انسان يودعه، و اذا عاد من سفره أو غزوه، كان أول انسان يلقي به هو فاطمه.
(فعن ثوبان) قال: كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) اذا سافر آخر عهده اتيان فاطمه، و أول من يدخل عليه اذا قدم: فاطمه (عليهاالسلام)- أخرجه أحمد [288] .
و عن أبي ثعلبه قال: كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) اذا قدم من غزوه أو سفر بدأ بالمسجد فصلي فيه ركعتين، ثم أتي فاطمه، ثم أتي أزواجه [289] .
فأيه علاقه هذه؟ و أيه رابطه تربط رسول الله (صلي الله عليه و آله) بابنته الحبيبه فاطمه، انها علاقه الروح و المبدأ، و جامعه الغايه و الهدف.
و تعيش فاطمه في بيتها، تعتني بشؤون منزلها، و تدبر حاجاتها بالاعتماد علي جهودها... فلم يكن يساعدها أحد لا عبيد، و لا اماء، فكل حياتها كدح و جهاد...
كانت فاطمه تطحن الشعير و تدير الرحي بيدها، و تصنع أقراص الخبز بنفسها، و تكنس البيت، و تدبر مستلزمات الاسره... و قد كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) و علي (عليه السلام) يريان ذلك من فاطمه فيشاركانها
[ صفحه 220]
العناء، و يهونان عليها متاعب الحياه... بل و كان علي (عليه السلام) و ربما النبي (صلي الله عليه و آله) يساعدانها في أعمال المنزل، و تدبير شؤون
البيت.
فقد صور لنا التاريخ و دون كتاب السير و الأثر، صوره الحياه العائليه الفريده التي كانت تعايشها فاطمه مع زوجها و أبنائها، أهل بيت النبوه تحت ظل أبيها رسول الله (صلي الله عليهم أجمعين).
و في المناقب لابن شهر آشوب: تفسير الثعلبي، عن الامام الصادق (عليه السلام)،و تفسير القشري، عن جابر الانصاري: انه رأي النبي (صلي الله عليه و آله) فاطمه و عليها كساء من أجله الابل، و هي تطحن بيديها و ترضع ولدها، فدمعت عيناه (صلي الله عليه و آله) و قال: «يا بنتاه تعجلي مراره الدنيا بحلاوه الآخره»، فقالت: «يا رسول الله، الحمدلله علي نعمائه، و الشكر لله علي آلائله، فأنزل الله تعالي آيه: (و لسوف يعطيك ربك فترضي) [290] .
قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «جهاد المرأه حسن التبعل».
وروي المجلسي في البحار ج 43 ص 50- 51 بلفظ آخر، مماثل في المعني، فراجع.
و عن الامام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «ان فاطمه ضمنت لعلي (عليه السلام) عمل البيت و العجن و الخبز، و قم البيت، و ضمن علي (عليه السلام)ما كان خلف الباب، (خارج البيت) نقل الحطب و ان يجيي بالطعام، فقال لها يوما، يا فاطمه هل عندك شي ء؟ قالت: والذي حقك ما كان عندنا منذ ثلاثه أيام شي ء نقريك به، قال: أفلا أخبرتني؟ قالت: كان رسول الله (صلي الله عليه و آله)نهاني أن أسألك شيئا فقال: لا تسألين ابن عمك شيئا ان جاءك بشي ء و الا فلا تسألين» [291] .
[ صفحه 221]
و قال علي (عليه السلام): «فوالله ما أغضبتها- خلال الحياه المشركه مع فاطمه (عليهاالسلام)- و لا أكرهتها علي أمر و لا عصيت لي أمرا حتي قبضها الله، كنت أنظر
اليها فتنكشف عني الهوم و الاحزان».
هذه الصوره العائليه، و اللقطه الفذه من حياه المجتمع الاسلامي، و الحياه النبويه الكريمه، توضح لنا صوره الحياه التعاونيه و علاقه الرجل بالمرأه، و عظمه التواضع عند قاده الاسلام، و عظماء البشريه، فمحمد الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) يساعد فاطمه و يعينها علي طحن طعامها، و علي يشاطرها العمل في المنزل.. انها الصوره المثاليه لحياه العائله المثاليه في السلام، و لمكانه المرأه و علاقتها بالزوج و الاسره في هذه الرساله الالهيه الخالده...
فرسول الله و علي و فاطمه (صلي الله عليهم) مثال الأب و الزوج و البنت و الزوجه في الاسلام، و علي شاكله هذه الاسره يجب أن تبني الاسره المسلمه... و بمثل هذه العلاقه يجب أن تشاد العلاقات بين أفرادها...
فرسول الله (صلي الله عليه و آله) و علي و فاطمه قدوه و اسوه، و كان بامكان رسول الله أن يتخذ العبيد و الخدم لفاطمه، و أن يوفر لها المال و الثروه و متع الحياه. الا ان الرسول القائد و القدوه، الداعي الي العدل و المساواه،و الرافض لمتع الحياه و عرضها يرد أن يجسد مبادئه سلوكا و حياه لامته، بل يريد من المصلح، و المربي، و الحاكم، و القائد، أن يعلم، و يقود، و يربي، بسلوكه و سيرته، قبل أن يدعو الناس بلسانه و مواعظه.
و تأتي المواقف و الشواهد دليلا... و العمل لسانا بليغ التعبير، قوي الوقع و الاثر.
روي عن الامام الصادق (عليه السلام): «... كان علي (عليه السلام) يستقي و يحطب، و كانت فاطمه (عليهاالسلام) تطحن و تعجن و تخبز و ترقع، و كانت من أحسن الناس و جها كأن وجنتيها وردتان» صلي الله عليها
[ صفحه
222]
و علي أبيها و بعلها و بنيها الطاهرين.
و عن علي (عليه السلام) قال: «انها استقت بالقربه حتي أثرت في صدرها، و طحنت بالرحي حتي مجلت يدها، و كسحت البيت حتي أغبرت ثيابها، و أوقدت النار تحت القدر حتي دكنت ثيابها» [292] .
وروي عن الامام علي (عليه السلام) انه قال: «ان فاطمه شكت ما تلقاه من أثر الرحي، فأتي النبي (صلي الله عليه و آله) سبي، فانطلقت، فلم تجده، فوجدت عائشه، فأخبرتها، فلما جاء النبي (صلي الله عليه و آله) أخبرته عائشه بمجي ء فاطمه فجاء (صلي الله عليه و آله) الينا و قد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأ قوم، فقال: علي مكانكما، فقعد بيننا حتي وجدت برد قديمه علي صدري، فقال: ألا اعلمكما خيرا مما سألتماني، اذا أخذتما مضاجعكما، فكبرا أربعا و ثلاثين، و سبحا ثلاثا و ثلاثين و أحمدا ثلاثا و ثلاثين، فهو خير لكم من خادم يخدمكما» [293] . أخرجه البخاري و أبوحاتم [294] .
انها الصوره الفريده من حياه الكدح، الصبر علي شظف العيش و معاناه أهل البيت علي و فاطمه و أبنائهما الحسن و الحسين يعانون هذه الحياه القياسه، و هذا الرسول الاعظم يشاطرهم بروحه و احساسه، و بجهده و اهتمامه، فيعمل علي (عليه السلام) بكد يده، و يكدح ليوفر حنفه تمر قوتا لعاليه، و يستمر في مسيرته المباركه تلك حتي استشهاد (عليه السلام) و هو القائل: «لو شئت لا هتديت الطريق الي مصفي هذا العسل، و لباب هذا القمح و نسائج هذا القز- الحرير- و لكن هيهات أن يقودني جعشي تخير
[ صفحه 223]
الأطعمه، و لعل بالحجاز أو اليمامه من لا عهد له بالقرص و لا طمع
له بالشبع... الي آخره».
و هو القائل: «والله لو أعطيت الاقاليم السبعه- أي السموات السبع- بما تحت أفلاكها علي أن أعصي الله في نمله أسلبها جلب شعير ما فعلت، ما لعلي و نعيم يفني، و لذه تبقي...».
و هو القائل: «والله رقعت مدرعتي- ثوب من صوف- حتي استحييت من راقعها (أو من رقعها)، و لقد قال لي قائل ألا تنبذها- تهملها و تتركها- عنك فقلت اغرب أبعد- عني فعند الصباح يحمد القوم السري» [295] .
انها مدرسه النبوه تصنع الحياه، و تعلم الأجيال كيف يمارس الانسان المسلم الحياه و يتفاعل معها، و يكافح و يكدح و يعمل، للحصول علي لقمه العيش الحلال مع العزه و الكرامه...
لقد خبر علي و فاطمه (عليهماالسلام) الحياه و عرفاها جهادا و كفاحا، و آمنا بأن العمل جهاد و شرف، و كدحت فاطمه في بيتها و عملت دون كلل أو ملل من أجل زوجها و أبنائها يساعدها علي مشاق العمل باخلاص و تجرد و رضي، حتي فكرت أن تطلب من أبيها (صلي الله عليه و آله) أن يوفر لها خادما، و لكنه (صلي الله عليه و آله) قدم لها درسا و منهجا، حري بالأجيال و قاده الامم أن يتعلموه، و يعوا ما به من قيم و معان انسانيه عاليه. فالانسان المسلم يجب أن يجعل نفسه بمستوي الطبقات الفقيره الكادحه، فعلي بن أبي طالب، أو فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) و غيرهما من عامه المسلمين سواء، لا فارق بينهما و بين غيرهما، الا فارق القرب و التقوي، ميزه الاخلاص لله سبحانه تعالي؛ لذا حرص رسول الله (صلي الله عليه و آله) أن يعلم ابنته دروسا في العباده و التوحيد، و
يوجه نظرها الي الارتباط بالله سبحانه
[ صفحه 224]
و التجرد من العلائق الماديه و الدنيويه، كي تكون مثلا و نموذجا في حياتها و مركزها، و قدوه في التواضع و حب العمل، و رائده في المساواه و الزهد في هذه الحياه.
نعم، هكذا كان أولياء الله سبحانه، كانوا ينظرون الي حطام الدنيا نظره زهد، و تحقير، و استهانه، و لا تتعلق قلوبهم بحب الدنيا و زخرفها و ما فيها، و لا يحبون الدنيا للدنيا، بل يحبونها للآخره، يحبون البقاء في الدنيا ليتزودوا منها للآخره و ليعبدوا الله تعالي، نعم يريدون المال لينفقوه في سبيل الله عز و جل، لاشباع البطون الجائعه، و الأجساد العاريه، و اغاثه الملهوف و اعانه المضطر، فقد عرفت (عليهاالسلام) الحياه الدنيا و زهدت فيها،فلا عجب ان قنعت باليسير اليسير من متاعها، و رضيت لنفسها اختيارا فضيله المواساه و الايثار، و هانت عليها ثروه الدنيا و نعيمها، و كرهت الترف، و السرف.
فأين اسلامنا اليوم الغارق في الترف و الفجور والذي نشاهده لدي جميع الطبقات من القاده و الزعماء الي أدني المستوي، من محسوبيه و منسوبيه و غيرها من ذلك الاسلام المحمدي الذي بشر به الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) و ربي به أهل بيته صلوات الله عليه و عليهم في سيرته قولا و عملا؟ فانا لله و انا اليه راجعون.
[ صفحه 225]
في بحارالأنوار ج 43/ ص 59- 61 حديث 51 نقلا عن تفسير فرات بن ابراهيم (الكوفي) عن عبيده بن كثير معنعنا عن أبي سعيد الخدري: (أنقلها ملخصا روما للاختصار) قال:
أصبح علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم ساغبا، فقال: «يا فاطمه هل
عندك شي ء تغذينيه؟ قالت: لا والذي أكرم أبي بالنبوه و أكرمك بالوصيه ما أصبح الغداده عندي شي ء، و ما كان شي ء اطعمنا مذيوين الا شي ء كنت اؤثرك به علي نفسي و علي أبني هذين الحسن و الحسين»، فقال علي: «يا فاطمه ألا كنت أعلمتيني فأبغيكم شيئا»، فقالت: «يا أباالحسن اني لأ ستحيي من الهي أن اكلف نفسك ما لا تقدر عليه»، فخرج علي بن أبي طالب من عند فاطمه (عليهاالسلام) واثقا بالله بحسن الظن فاستقرض دينارا، فبينا الدينار في يده يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرض له المقداد بن الآسود في يوم شديد الحر قد لوحته الشمس من فوقه و آذته من تحته، فلما رآه علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنكر شأنه فقال: «يا مقداد ما أزعجك هذه الساعه من رحلك»؛ قال: يا أباالحسن خل سبيلي و لا تسألني عما ورائي، فقال: «يا أخي انه لا يسعني أن تجاوزني حتي أعلم علمك»، فقال: يا أباالحسن أما اذا أبيت فوالذي أكرم محمدا بالنبوه و أكرمك بالوصيه ما أزعجني من رحلي الا الجهد و قد تركت عيالي يتضاغون جوعا، فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض فخرجت مهموما راكبا رأسي، هذه حالي و قصتي، فانهملت عينا علي بالبكاء حتي بلت دمعته لحيته فقال له: «أحلف بالذي حلفت ما أزعجني الا الذي أزعجك من رحلك فقد استقرضت دينارا و قد آثرتك علي نفسي»، فدفع الدينار اليه و رجع حتي دخل مسجد النبي (صلي الله عليه و آله) فصلي فيه الظهر و العصر و المغرب، فلما قضي رسول الله (صلي الله عليه و آله) المغرب مر
[ صفحه 226]
بعلي بن أبي طالب و هو في الصف الأول فغمزه
برجله فقام علي (عليه السلام) متعقبا خلف رسول الله (صلي الله عليه و آله) حتي لحقه علي باب من أبواب المسجد فسلم عليه فرد رسول الله (صلي الله عليه و آله) (السلام) فقال: «يا أباالحسن هل عندك شي ء تتعشاه فنميل معك»، فكمث مطرقا لا يحير جوابا حياء من رسول الله (صلي الله عليه و آله) و هو يعلم ما كان من أمر الدينار و من أين أخذه و أين وجهه، و قد كان أوحي الله تعالي الي نبيه محمد (صلي الله عليه و آله) أن يتعشي الليله عند بن أبي طالب (عليه السلام)، فلما نظر رسول الله (صلي الله عليه و آله) الي سكوته فقال: «يا أبالحسن ما لك لا تقول: لا، فأنصرف أو تقول: نعم، فأمضي معك، فقال حياء و تكرما فاذهب بنا»، فأخذ رسول الله (صلي الله عليه و آله) يد (ي) علي بن أبي طالب (عليه السلام) فانطلقا حتي دخلا علي فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و هي في مصلاها قد قضت صلاتها و خلفها جفنه تفور دخانا، فلما سمعت كلام رسول الله (صلي الله عليه و آله) في رحلها خرجت من مصلاها فسمعت عليه و كانت أعز الناس عليه فرد عليهاالسلام و مسح بيده علي رأسها و قال لها: «بنتاه كيف أمسيت رحمك الله تعالي عشينا غفرالله لك و قد فعل»، فأخذت الجفنه فوضعتها بين يدي النبي (صلي الله عليه و آله) و علي بن أبي طالب، فلما نظر علي بن أبي طالب الي طعام و شم ريحه قال لها: «يا فاطمه أني لك هذا الطعام الذي لم أنظر الي مثل لونه قط و لم أشم مثل ريحه قط و ما آكل أطيب منه». قال فوضع رسول الله (صلي الله عليه و آله) كفه الطيبه المباركه بين
كتفي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فغمزها ثم قال: «يا علي هذا بدل دينارك و هذا جزاء دينارك من عند الله (ان الله يرزق من يشاء بغير حساب) (آل عمران: 37) ثم استعبر النبي (صلي الله عليه و آله) باكيا ثم قال: «الحمدالله الذي أبي لكم أن تخرجا من الدنيا حتي يجزيكما و يجريك يا علي مجري زكريا و يجري فاطمه مجري مريم بنت عمران (كلما دخل عليها زكيا المحراب وجد عندها رزقا) (آل عمران: 37).
[ صفحه 227]
في كشف الغمه: عن أبي سعيد مثله.
و في البحار ج 43 ص 73 نقلا من كتاب المناقب لابن شهر آشسوب «ملخصا» عن سلمان الفارسي مرفوعا قال:
ورد النبي (صلي الله عليه و آله) الي حجره فاطمه (عليهاالسلام) فرآي صفار وجهها و تغير حدقتيها، فقال لها: «يا بنيه ما الذي أراه من صفار وجهك و تغير حدقتيك؟».
فقالت: «يا أبت ان لنا ثلاثا ما طعمنا طعاما و ان الحسن و الحسين قد اضطربا علي من شده الجوع ثم رقدا كأنهما فرخان منتوفان».
فقال: فأيقظهما النبي (صلي الله عليه و آله) فأخذ واحدا علي فخذه الأيمن، و الآخر علي فخذه الأيسر، و أجلس فاطمه (عليهاالسلام) بين يديه و أعتنقها، و دخل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأعتنقه من وراءه، ثم رفع النبي (صلي الله عليه و آله) طرفه نحو السماء فقال: «الهي و سيدي و مولاي هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا».
قال ثم و ثبت فاطمه (عليهاالسلام) و دخلت مخدعها و صفت قدميها فصلت ركعتين ثم رفعت باطن كفيها الي السماء و قالت: «الهي و سيدي هذا محمد نبيك، و هذا علي ابن
عم نبيك، و هذان الحسن و الحسين سبطا نبيك، الهي أنزل علينا مائده من السماء كما أنزلتها علي بني اسرائيل أكلوا منها و كفروا بها، أللهم أنزلنا علينا فانا بها مؤمنون».
قال ابن عباس: والله ما استتمت الدعوه فاذا هي بصفحه من ورائها يفور قتارها،و اذا قتارها أزكي من المسك الأذفر، فاحتضنتها ثم أتت بها الي النبي و علي و الحسن و الحسين، (صلوات الله عليهم أجمعين).
فلما نظر اليها علي قال: «يا فاطمه من أين لك هذا؟ و لم يكن عهد عندنا شيئا»، فقال له النبي (صلي الله عليه و آله) «كل يا أباالحسن و لا تسأل، الحمدلله الذي لم يمتني حتي رزقني ولدا مثلها مثل مريم بنت عمران (كلما دخل
[ صفحه 228]
عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب) (آل عمران: 37).
روي عن جابر بن عبدالله قال: ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) أقام أياما و لم يطعم طعاما حتي شق عليه ذلك، فطاف في ديار أزواجه فلم يصب عند أحداهن شيئا، فأتي فاطمه فقال: «يا بنيه هل عندك شي ء آكله، فاني جائع؟
قالت: لا والله بنفسي و أخي»، فلما خرج عنها بعثت جاريه لها رغيفين و بضعه لحم، فأخذته و وضعته تحت جفنه و غطت عليها و قالت: «لا وثرن بها أبي رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي نفسي و غيري»، و كانوا محتاجين الي شبعه طعام، فبعثت حسنا و حسينا الي أبيها رسول الله (صلي الله عليه و آله) فرجع اليها.
و قالت: قد أتانا الله بشي ء فخباته لك فقال:
هلمي علي يا بنيه، فكشفت الجفنه، فاذا هي مملؤه خبزا و لحما، فلما نظرت اليه بهتت و عرفت انه من عند الله تعالي:
فحمدت الله وصلت علي نبيه أبيها، و قدمته اليه، فلما رآه حمدالله و قال: «من أين لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، ان الله يرزق من يشاء بغير حساب».
فبعث رسول الله (صلي الله عليه و آله) الي علي، فدعاه و أحضره، و أكل هو، و علي، و فاطمه، الحسن، و الحسين و جميع أزواجه حتي شبعوا.
قالت فاطمه (عليهاالسلام): «و بقيت الجفنه كما هي، فأوسعت منها علي جميع الجيران، جعل الله فيها البركه و الخير الكثير» [296] .
[ صفحه 229]
في بحارالأنوار ج 43 ص 51- 52 حديث 48 نقلا عن كتاب كشف الغمه للأربلي، من كتاب معالم العتره لعبد العزيز بن الأخضر، باسناده مرفوعا الي قتاده، عن أنس قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «خير نسائها مريم، و خير نسائها فاطمه بنت محمد».
و باسناده الي أحمد بن حنبل يرفعه الي أنس، ان النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «حسبك من نساء العالمين، مريم بنت عمران، و خديجه بنت خويلد، و فاطمه بنت محمد، و آسيه بنت مزاحم امرأه فرعون».
و في صفحه 50 من نفس الكتاب قال الله سبحانه و تعالي: (و مريم ابنت عمران التي احصنت فرجها) (الترحيم: 12) يريد بذلك العفاف لا الملامسه.
و قال تعالي لفاطمه الزهراء و أولادها (عليهم السلام) (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) (الأحزاب: 34).
و نعم ما قال حسان بن ثابت:
و ان مريم أحصنت فرجها
و
جاءت بعيسي كبدر الدجي
فقد أحصنت فاطم بعدها
و جاءت بسبطي نبي الهدي
وروي ابن خالويه في كتاب الآل عن أبي عبدالله الحنبلي، عن محمد بن أحمد بن قضاعه، عن عبدالله بن محمد، عن الامام أبي محمد الحسن العسكري، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): لما خلق الله آدم و حواء تبختر في الجنه، فقال آدم لحواء: ما خلق الله خلقا هو احسن منا، فاوحي الله الي جبرئيل: ائت بعبدي الفردوس الأعلي، فلما دخلا الفردوسي نظرا الي جاريه علي درنوك من درانيك الجنه و علي رأسها تاج من نور و في أذنيها قرطان من نور قد أشرقت الجنان من حسن وجهها فقال آدم:
[ صفحه 230]
حبيبي جبرئيل من هذه الجاريه التي أشرقت الجنان من حسن وجهها؟ فقال: هذه فاطمه بنت محمد، نبي من ولدك يكون في آخر الزمان، قال: فما هذا التاج الذي علي رأسها؟ قال: بعلها علي بن أبي طالب (عليه السلام).
قال: فما القرطان اللذان في أذنيها؟ قال: ولداها الحسن و الحسين، قال آدم: حبيبي جبرئيل أخلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في غامض غامض علم الله قبل أن تخلق بأربعه آلاف سنه».
وروي العلامه المجلسي (رحمه الله) عن جابر عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت: لم سميت فاطمه الزهراء «زهراء»؟ قال: «لأن الله عز و جل خلقها من عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات و الأرض بنورها، و غشت أبصارها الملائكه، و خرت الملائكه لله ساجدين و قالوا: الهنا و سيدنا، ما هذا النور؟ اخرجه من صلب نبي من أنبيائي، افضله علي جميع الانبياء، و اخرج من ذلك النور أئمه يقومون بأمري، يهدون الي حقي، و أجعلهم خلفائي
بعد انقضاء وحيي» [297] .
كما ذكره العلامه المجلسي في (مرآه العقول) [298] .
و عن ابن خالويه من كتاب الآل يرفعه الي علي بن موسي الرضا، عن آبائه، عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): اذا كان يوم القيامه نادي مناد من بطنان العرش يا معشر الخلائق غضوا أبصاركم حتي تجوز فاطمه (عليهاالسلام) بنت محمد (صلي الله عليه و آله)».
[ صفحه 231]
في بحارالأنوار ج 43 ص 31 حديث 39، نقلا عن مناقب ابن شهر آشوب، عن القاضي أبي محمد الكرخي، في كتاب عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «قالت فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) لما نزلت: (لا تجعوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) (النور: 63) هبت رسول الله (صلي الله عليه و آله) أن أقول له: يا أبه فكنت أقول: يا رسول الله فأعرض عني مره أو اثنين أو ثلاثا ثم أقبل علي فقال: يا فاطمه انها لم تنزل فيك، و لا في أهلك و لا في نسلك، أنت مني و أنا منك انما نزلت في أهل الجفاء و الغلظه من قريش أصحاب البذخ و الكبر قولي: يا أبت، فانها أحي للقلب، و أرضي للرب.
و اعلم أن الله تعالي ذكر اثني عشره امراه في القرآن علي وجه الكنايه (اسكن أنت و زوجك الجنه) (البقره: 35) حواء (ضرب الله مثلا للذين كفروا امراه نوح و امرأه لوط) (التحريم: 10) (اذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنه) (التحريم: 11) امراه فرعون (و امراته قائمه) (هود: 71) لابراهيم (و أصلحنا له زوجه) (الأنبيا: 84) لزكريا (الآن حصحص الحق) (يوسف: 51) زليخا (و اتيناه أهله) (الأنبياء: 84) لأيوب (اني وجد
امراه تملكهم) (النمل: 23) بلقيس (اني أريد أن أنكحك) (القصص: 27) لموسي (و اذ أسر النبي الي بعض أزواجه حديثا) (التحريم: 3) حفصه و عائشه (وجدك عائلا) (الضحي: 8) خديجه (مرج البحرين) (الرحمن: 19) فاطمه (عليهاالسلام).
ثم ذكرهن بخصال: التوبه من حواء (قالا ربنا ظلمنا) (الأعراف: 23) و الشوق من آسيه (رب ابن لي عندك بيتا) (التحريم: 11) و الضيافه من ساره (و امرأته قائمه) (هود: 71) و العقل من بلقيس (ان الملوك اذا دخلوا قريه) (النمل: 34) و الحياء من امرأه موسي (فجاءته احدهما تمشي) (القصص: 25).
[ صفحه 232]
و الاحسان من خديجه (و وجدك عائلا) (الضحي: 8) و النصيحه لعائشه و حفصه (يا نساء النبي لستن كأحد- الي قوله- و أطعن الله و رسوله) (الاحزاب: 32) و العصمه من فاطمه (عليهاالسلام) (و نساءنا و نساءكم) (آل عمران: 61).
و ان الله تعالي أعطي عشره أشياء لعشره من النساء: التوبه لحواء زوجه آدم، و الجمال لساره زوجه ابراهيم، و الحفاظ لحرمه زوجه أيوب، و الحرمه لاسيه زوجه فرعون، و الحكمه لزليخا زوجه يوسف، و العقل لبلقيس زوجه سليمان، و الصبر لبرخانه أم موسي، و الصفوه لمريم أم عيسي، و الرضا لخديجه زوجه المصطفي،و العلم لفاطمه زوجه المرتضي.
و الاجابه لعشره (و لقد نادنا نوح فلنعم المجيبون) (الصافات: 75) (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن) (يوسف: 34) يوسف قال: (قد أجيبت دعوتكما) (يونس: 89)موسي و هارون (فاستجبنا له) (الانبياء: 88)
يونس (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر) (الانبياء: 84) أيوب (فاستجبنا له و وهبنا له يحيي) (الأنبياء: 90) زكريا (أدعوني أستجب لكم) (المؤمن: 60) للمخلصين (أمن يجيب المضطر) (النمل: 62) للمضطرين (و
اذا سألك عبادي) (البفره: 186) للداعين (فاستجاب لهم ربهم) (آل عمران: 195) فاطمه و زوجها.
و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يهتم لعشره أشياء فآمنه الله منها و بشره بها: لفراقه وطنه، فأنزل الله (ان الذي فرض عليك القرآن لرادك الي معاد) (القصص: 85) و لتبديل القرآن بعده كما فعل بسائر الكتب فنزل (انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون) (الحجر: 9) و لامته من العذاب فنزل: (و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم) (الأنفال: 33) و لظهور الدين فنزل: (ليظهره علي الدين كله) (براءه: 33) و لمؤمنين بعده فنزل: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياه الدنيا و في الاخره) (ابراهيم: 27) و لخصمائهم فنزل: (يوم لا
[ صفحه 233]
يخزي الله النبي و الذين آمنوا) (التحريم: 8) و الشفاعه فنزل: (و لسوف يعطيك ربك فترضي) (الضحي: 5) و للفتنه بعده علي وصيه فنزل: (فاما نذهبن بك فانا منهم منتقمون) (الزخرف: 41) يعني بعلي، و لثبات الخلافه في أولاده فنزل: (ليستخلفنهم في الأرض) (النور: 55) و لا بنته حال الهجره فنزل: (الذين يذكرون الله قياما و قعودا) (آل عمران: 191) الايات.
و رأس التوابين أربعه: آدم (قالا ربنا ظلمنا انفسنا) (الأعراف: 23) و يونس قال: (سبحانك اني كنت من الظالمين) (الأنبيا: 87) و داود (و خر راكعبا و اناب) (ص: 24) و فاطمه (الذين يذكرون الله قياما و قعودا) (آل عمران: 191).
و خوف أربعه من الصالحات: آسيه عذبت بأنواع العذاب فكانت تقول: (رب ابن لي عندك بيتا في الجنه) (التحريم: 11). و مريم خافت من الناس و هربت (فناديها من تحتها ألا تحزني) (مريم: 24)
و خديجه عذلها النساء في النبي (صلي الله عليه و آله) فهجرنها فقالت فاطمه: «أما كان أبي رسول الله (أصلي الله عليه و آله) ألا يحفظ في ولده، فما أسرع ما أخذتم، و أجعل ما نكصتم» [299] .
و رأس البكائين ثمانيه: آدم، و نوح، و يعقوب، و يوسف، و شعيب، و داود، و فاطمه، و زين العابدين (عليهم السلام)، قال الصادق (عليه السلام): «أما فاطمه فبكت علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) حتي تأذي بها أهل المدينه فقالوا لها: قد آذيتينا بكثره بكائك، اما أن تبكي بالليل و اما أن تبكي بالنهار، فكانت تخرج الي مقابر الشهداء فتبكي».
و قال (صلي الله عليه و آله): «خير نساء العالمين أربعه». بحذف السند، عن محمد بن الحنيفه: عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) قراء (ان الله اصطفاك و طهرك) الايه فقال لي يا علي
[ صفحه 234]
«خير نساء العالمين أربعه: مريم بنت عمران، و خديجه بنت خويلد، و فاطمه بنت محمد، و آسيه بنت مزاحم امرأه فرعون».
عن علي انه قال لفاطمه (عليهماالسلام): «ما خير النساء؟ قالت: لا يرين الرجال و لايرونهن، فذكر ذلك للنبي (صلي الله عليه و آله) فقال: انما فاطمه بضعه مني».
و ذكر ابن المغازلي في مناقبه عن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام): «ان فاطمه بن رسول الله استأذن عليها أعمي فحجبته [300] فقال لها النبي لم حجبته و هو لا يراك؟ فقالت: يا أبه يا رسول ا: ان لم يكن يراني فانا أراه و هو يشم الريح، فقال (صلي الله عليه و آله): اشهد أنك بضعه مني».
و هناك روايات من مصادر اخري
طوينا عنها روما للاختصار.
[ صفحه 235]
في بحارالأنوار ج 43 ص 66- 68 حديث 59 نقلا عن مهج الدعوات، مرفوعا عن عبدالله بن سلمان الفارسي عن أبيه (أنقله ملخصا) قال:
خرجت من منزلي يوما بعد وفاه رسول الله (صلي الله عليه و آله) بعشره أيام فلقيني علي بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عم الرسول (صلي الله عليه و آله)»، فقلت حبيبي أباالحسن مثلكم لا يجفي غير أن حزني علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) طال فهو الذي منعني من زيارتكم، فقال (عليه السلام): «يا سلمان ائت منزل فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) فانها اليك مشتاقه تريد أن تتحفك بتحفه قد اتحفت بها من الجنه»، قلت لعلي (عليه السلام): قد اتحفت فاطمه (عليهاالسلام) بشي ء من الجنه بعد الجنه بعد وفاه رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟ قال: «نعم بالأمس».
قال سلمان الفارسي: فهرولت الي منزل فاطمه (عليهاالسلام) بنت محمد (صلي الله عليه و آله)، فاذ هي جالسه و عليها قطعه عباء فلما نظرت الي اعتجرت ثم قالت: «يا سلمان جفوتني بعد وفاه أبي (صلي الله عليه و آله)»، قلت: حبيبتي أأجفوكم؟ قالت: فمه؟
بعد حديث طويل عنه روما للاختصار.
قالت: اجلس أعلمك دعاء علمنيه رسول الله (صلي الله عليه و آله) كنت أقوله في غدوه و عشيه.
قال سلمان: قلت علميني الكلام يا سيدتي، فقالت: «ان سرك أن لا يسمك أذي الحلمي ما عشت في دار الدنيا فواظب عليه». ثم قال سلمان: علمتني هذا الحرز فقالت:
[ صفحه 236]
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله النور، بسم الله نور النور، بسم الله نور علي النور، بسم الله الذي هو
مدبر الامور، بسم الله الذي خلق النور من النور، الحمدلله الذي خلق النور من النور، أنزل النور علي الطور، في كتاب مسطور، في رق منشور، بقدر مقدور، علي نبي محبور، الحمدلله الذي هو بالعز مذكور و بالفخر مشهور، و علي السراء و الضراء مشكور و صلي الله علي سيدنا محمد و آله الطاهرين.
قال سلمان: فتعلمتهن فوالله لقد علمتهن أكثر من ألف نفس من أهل المدينه و مكه ممن بهم الحمي فكل بري من مرضه باذن الله تعالي.
و يروي أن السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) علمت سجينا في المنام و هو بالشام هذا الدعاء:
اللهم بحق العرش و من علاه، و بحق الوحي و من أوحاه، و بحق النبي و من نباه،و بحق البيت و من بناه، يا سامع كل صوت، يا جامع كل فوت، يا باري النفوس بعد الموت، صل علي محمد و أهل بيته و آتنا و جميع المؤمنين و المؤمنات في مشارق الأرض و مغاربها فرجا من عندك عاجلا بشهاده أن لا اله الا الله و أن محمدا عبدك و رسولك، صلي الله عليه و علي ذريته الطيبين الطاهرين و سلم تسليما كثيرا.
[ صفحه 239]
منذ أن دخل رسول الله (صلي الله عليه و آله) المدينه المنوره و كان دائبا علي هدم أركان الجاهليه، و استئصال جذورها، و ضرب مواقعها.. فكانت حياته في المدينه المنور كما كانت في مكه حياه جهاد و بناء. جهاد المشركين و المنافقين، و اليهود و الصليبيين، و بناء الدوله الاسلاميه العظيمه، و نشر الدعوه و تبليغها في كل بقعه يمكن لصوت التوحيد أن يصل اليها، فراح رسول الله (صلي الله عليه و آله) يحارب بالكلمه
و العقيده تاره، و بالسيف و القوه تاره اخري، و بالأسلوب الذي يميله الموقف، و تفرضه الحكمه..
و هكذا جاهد رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و قاتل في مرحله حرجه صبعه، لم يكن يملك فيها من المال و الجيوش و الاستعدادات العسكريه ما يعادل، أويقارع جيوش الأحزاب، و قوي البغي و الضلال، التي تصدت لدعوه الحق و الهدي،بل كانت كل قواه قائمه في ايمانه و انتصاره بربه و بالفئه المخلصه من اصحابه.
والذي يقرأ تاريخ الدعوه، جهاد رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و صبره و احتماله، يعرف عظمه هذا الانسان الرسول الكريم، و يدرك قوه عزيمته، و مدي صبره و رعايه الله و نصره له، و لأولئك المجاهدين الذين حملوا رايه الجهاد بين يديه، فيكتشف النصر، و مصدر القوه و المعنويه العاليه..
و لقد مرت هذه الفتره الجهاديه الصعبه، بكامل ظروفها و أبعادها بفاطمه (عليهاالسلام)، هي تعيش بكنف زوجها و أبيها.. تعيش بروحها و مشاعرها، و بجهادها في بيتها، و في مواساتها و مشاركتها لأبيها، في شدته و محنته.. فقد شهدت جهاد أبيها و صبره و أحتماله، شاهدته و هو يجرح في (احد)
[ صفحه 240]
و تكسر رباعيته [301] ، و يخذله المنافقون،و يستشهد عم أبيها حمزه، أسد الله، و نخبه من المؤمنين معه.
فتأتي فاطمه أباها، و هي تبكي، و تحاول تضميد جرح رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قطع الدم الذي كان ينزف من جسده الشريف الطاهر.. فكان زوجها علي (عليه السلام) يصب الماء علي جرح رسول الله (صلي الله عليه و آله) و هي تغسله، و لما يئست من انقطاع الدم أخذت قطعه حصير فأحرقتها، حتي صار
رمادا، فذرته علي الجرح حتي انقطع دمه..
و في مواقع اخري يحدثنا التاريخ عن مشاركه فاطمه (عليهاالسلام) بروحها وجدانها و مشاعرها لأبيها في كفاحه و صبره و جهاده.
فقد روي أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قدم من غزاه له، فدخل المسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم بدأ- كعادته- ببيت فاطمه قبل بيوت نسائه.. جاءها ليزورها، و يسر بلقائها، فرأت علي وجهه آثار التعب و الجهاد، فتألمت لما رأت و بكت، فسألها: «ما يبكيك يا فاطمه؟» فقالت:
«أراك قد شحب لونك»، فقال لها: «يا فاطمه ان الله- عز و جل- بعث أباك بأمر لم يبق علي ظهر الأرض بيت مدر و لا شعر، الا أدخله به عزا أو ذلا، يبلغ حيث يبلغ الليل» [302] .
و ليست هذه العاطفه، و تلك العانيه و المشاركه مع الأب القائد و الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) من ابنته فاطمه (عليهاالسلام) هي كل ما تقدمه لأبيها من ايثارها له، و اهتمامها به، و مشاركتها له في شدته و عسرته، انها
[ صفحه 241]
جاءت يوم الخندق و رسول الله (عليهاالسلام) منهمك مع أصحابه في حفر الخندق، لتحصين المدينه، و حمايه الاسلام.. جاءت و هي تحمل كسره خبز فرفعتها اليه فقال: «ما هذه يا فاطمه؟». قالت: «من قرص أختبزته لأبني، جئتك منه بهذه الكسره»، فقال: «يا بنيه أما انها لأول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث» [303] .
فهذه صوره مشرقه لجهاد المرأه المسلمه، تصنعها فاطمه في ظلال رسول الله (صلي الله عليه و آله).. فهي تشارك في صبرها، و احتمالها، و مشاعرها، و أمكانياتها، لتشد أرز الاسلام، و تكافح جنبا الي جنب مع أبيها و
زوجها و أبنائها في ساحه واحده، و خندق واحد، لتدون في صحائف التاريخ درسا عمليا تتلقاه أجيال النساء والفتيات في هذه الامه المسلمه، فيتعلمن حياه الايمان، و يكتشفن عمق الأثر العملي البناء، الذي تتركه عقيده التوحيد في حياه المرأه المسلمه، فتشارك الرجل في حياته و جهاده، و مهمات رسالته، بعيده عن اللهو و العبث و الضياع، مشغوله بالعطاء الاجتماعي و البناء الروحي و حمل الرساله و صناعه الأجيال.
و مرت تلك الأيام بعطائها و حلوها و مرها حتي جاءت السنه العاشره من الهجره،فدعا النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) عامه المسلمين لأداء مناسك الحج، و حج بهم حجه الوداع، و علمهم أحكام الحج و مناسكه، و عند العوده توقف الركب عند غدير خم، و صعد النبي (صلي الله عليه و آله) علي منبر من أحداج الابل، و مادي بصوت عال: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، و نصب عليا (عليه السلام) لخلافه و الولايه من بعده، ثم أمر المسلمين، فبايعوا عليا و سلموا عليه بامره المؤمنين، و تفرقوا في بلدانهم و عاد النبي (صلي الله عليه و آله) الي المدينه و بقي فيها و قد تغير حاله، و بانت امارات الموت عليه،
[ صفحه 242]
و ضعفت صحته، فكان يتهيأ للموت و يوصي بأهل بيته في كل مناسبه، و يزور البقيع و يستغفر للموتي.
و مره رأت فاطمه (عليهاالسلام) في منامها- بعد حجه الوداع- أنها كانت تقرأ القرآن من يدها و اختفي، فاستيقظت مرعوبه، و قصت الرؤيا علي أبيها.
فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أنا ذلك القرآن- يا نور عيني- و سرعان ما أرحل» [304] .
ثم أخذ المرض يشتد به
(صلي الله عليه و آله) فجهز النبي جيشا بامره اسامه بن زيد و أمره بالمسير الي الروم و دعا الناس للاشتراك بهذا البعث، و نص علي بعضهم بالاسم ليخلي الساحه من المنافقين و المتربصين، و يفوت الفرصه علي المعارضين لخلافه الامام علي (عليه السلام).
و اشتد المرض بالنبي (صلي الله عليه و آله) أكثر فاكثر، و هو مسجي علي فراش الموت، و الزهراء يتشد وجدها علي أبيها، فتاره تحدق في وجهه الشاحب و تذرف الدموع الساخنه، و اخري تدعو له بالسلامه: «الهي... هذا أبي الذي ما اوذي نبي بمثل ما اوذي ليغرس شجره الاسلام، و يثبت جذورها في الأرض، و قد لاحت في الآفاق آيات النصر و ارهاصات الفتح الشامل، و كان أوملي أن تعلو رايه الاسلام خفاقه و يمحي الشرك و الظلم و الجور عن وجه الأرض علي يديه، لكنه الآن- وا أسفاه- قد اشتد مرضه... الهي سلمه و اشفه، فمنك الشفاء و منك السلامه».
ثقل المرض علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) حتي اغمي عليه، فلما أفاق وجد أبابكر و عمر و آخرين عنده، فقال (صلي الله عليه و آله): «ألم آمركم بالمسير في جيش اسامه؟»، فاعتذروا، الا أن النبي (صلي الله عليه و آله) يعلم
[ صفحه 243]
ما تكن صدورهم. و ما يبيتون- من بقائهم في المدينه- لينزوا علي مقام الخلافه.
فقال (صلي الله عليه و آله): «أعتوني بدواه و بياض، أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي أبدا».
فأسرع بعضهم لاجابه طلب الرسول (صلي الله عليه و آله) فمنعه عمر و قال: أن الرجل ليهجر، قد غلبه مرضه [305] .
و الزهراء (عليهاالسلام) تري و تسمع ذلك فيربو
همها و يزداد غمها، فقد كشر النفاق عن أنيابه، و طفح علي وجوه القوم الغدر، و النبي (صلي الله عليه و آله) (لا ينطق عن الهوي ان هو الا وحي يوحي)، و ما كان يريد سوي خير المسلمين و مصلحتهم، فما لهؤلاء الذين يعاندون و يعصون و لا يكادون يفقهون حديثا...؟!
يبدو ان المستقبل ينذر بالخطر، و القوم صمموا علي تضييع أتعاب نبيهم، والله أحكم الحاكمين.
[ صفحه 244]
لما ثقل و اشتد حال رسول الله (صلي الله عليه و آله) و حضره الموت، أخذ علي (عليه السلام) رأسه الشريف فوضعه في حجره (عليه السلام) فأغمي عليه فكانت فاطمه (عليهاالسلام) تنظر في وجهه و تندبه و تبكي و تقول:
و أبيض يستسقي الغمام بوجهه
ثمال اليتامي عصمه للارامل
ففتح رسول الله (صلي الله عليه و آله) عينيه و قال بصوت ضعيف: «بنيه قولي: (و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين)» [306] .
و عن عائشه: انه (صلي الله عليه و آله) أسر اليها (عليهاالسلام) حديثا فبكت،فقلت لها: أستخصك رسول الله (صلي الله عليه و آله) حديثه ثم تبكين؟
ثم انه أسر اليها حديثا فضحكت فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن! فسألتها عما قال:
فقالت: «ما كنت لأفشي سر رسول الله (صلي الله عليه و آله)».
حتي اذا قبض النبي (صلي الله عليه و آله) سألتها فقالت: «انه أسر الي فقال: ان جبرئيل (عليه السلام) كان يعارضني بالقرآن في كل عام مره، انه عارضني به هذا العام مرتين، و لا أراه
الا قد حضر أجلي، و انك أول أهل بيتي لحوقا بي، و نعم السلف أنا لك».
فقالت: «أما حين بكيت فانه أخبرني ميت، فبكيت، ثم أخبرني اني أول أهله لحوقا به فضحكت» [307] .
[ صفحه 245]
و عن أنس قال: جاءت فاطمه معها الحسن و الحسين (عليهماالسلام) الي النبي (صلي الله عليه و آله) في المرض الذي قبض فيه فانكبت عليه فاطمه و ألصقت صدرها بصدره و جعلت تبكي فقال لها النبي (صلي الله عليه و آله): «يا فاطمه لا تبكي و لا تلطمي، و لا تخمشي علي خدا، و لا تجزي علي شعرا، و لا تدعي بالويل و الثبور، و تعزي بعزاء الله»، ثم بكي و قال: «اللهم أنت خليفتي في أهل بيتي، اللهم هؤلاء و ديعتي عندك و عند المؤمنين».
و بلفظ آخر:
روي البخاري، و مسلم، في صحيحيهما، عن عائشه قالت: أقبلت فاطمه تمشي كأن مشيتها مشي النبي (صلي الله عليه و آله) فقال النبي (صلي الله عليه و آله): «مرحبا بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر اليها حديثا فبكت، فقلت لها لم تبكين؟ ثم أسر اليها حديثا فضحكت، فقلت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عما قال؟ فقالت: «ما كنت لأفشي سر رسول الله» حتي قبض النبي (صلي الله عليه و آله) فسألتها، فقالت: «أسر الي أن جبرئيل كان يعارضني القرآن كل سنه مره و انه عارضني العالم مرتين، و لا أراه الا حضر أجلي، و انك أول أهل بيتي لحاقا بي فبكيت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيده نساء أهل الجنه، أو نساء المؤمنين؟ فضحكت لذلك».
[ صفحه 246]
عن
موسي بن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام): «لما كانت الليله التي قبض النبي في صبيحتها، دعا عليا و فاطمه و الحسن و الحسين (عليهم السلام) و أغلق عليه و عليهم الباب. و قال: يا فاطمه، و أدناها منه فناجاها من الليل طويلا، فلما طال ذلك خرج علي و معه الحسن و الحسين و أقاموا بالباب و الناس خلف الباب، و نساء النبي ينظرون الي علي (عليه السلام) و معه ابناه.
فقالت عائشه: لأمر أخرجك منه رسول الله و خلا بابنته عنك في هذه الساعه؟
فقال لها علي (عليه السلام): قد عرفت الذي خلا بها و أرادها له، و هو بعض ما كنت فيه و أبوك و صاحباه- مما قد سماه-.
فوجمت أن ترد عليه كلمه.
قال علي: فما لبثت أن نادتني فاطمه (عليهاالسلام) فدخلت علي النبي (صلي الله عليه و آله) و هو يجود بنفسه، فقال لي: ما يبكيك يا علي؟ ليس هذا أوان بكاء فقد حان الفراق بيني و بينك، فأستودعك الله يا أخي، فقد اختار لي ربي ما عنده، و انما بكائي و غمي و حزني عليك و علي هذه أن تضيع بعدي، فقد أجمع القوم علي ظلمكم، و قد استودعتكم الله و قبلكم مني وديعه، اني قد أوصيت فاطمه ابنتي بأشياء و أمرتها أن تلقيها اليك فنفذها، فهي الصادقه الصدوقه».
ثم ضمها اليه و قبل رأسها و قال: «فداك أبوك يا فاطمه»، فعلا صوتها بالبكاء،ثم ضمها اليه و قال: «أما والله لينتقمن الله ربي، و ليغضبن لغضبك فالويل ثم الويل للضالمين، ثم بكي رسول الله (صلي الله عليه و آله)».
قال علي (عليه السلام): «فوالله لقد حسبت قطعه مني ذهبت لبكائه»، حتي هملت عيناه مثل المطر، حتي بلت دموعه
ليحته و ملاءه كانت عليه، و هو
[ صفحه 247]
يلتزم فاطمه لا يفارقها. و رأسه علي صدري و أنا مسنده، و الحسن و الحسين يقبلان و يبكيان بأعلي أصواتهما.
قال علي (عليه السلام): «فلو قلت ان جبرئيل في البيت لصدقت لأني كنت أسمع بكاء نغمه لا أعرفها، و كنت أعلم أنها أصوات الملائكه لا شك فيها لأن جبرئيل لم يكن في مثل تلك الليله يفارق النبي (صلي الله عليه و آله).
و لقد رأيت بكاءا من فاطمه أحسب أن السماوات و الأرضين بكت لها».
ثم قال لها: «يا بنيه، الله خليفتي عليكم و هو خير خليفه، والذي بعثي بالحق لقد بكي لبكائك عرش الله و ما حوله من الملائكه و السموات و الأرضون و ما فيهما. يا فاطمه، والذي بعثني بالحق لقد حرمت الجنه علي الخلائق حتي ادخلها،و انك لأول خلق الله يدخلها بعدي، كاسيه حاليه ناعمه. يا فاطمه، هنيئا لك، والذي بعثي بالحق، ان جهنم لتزفر زفره لا يبقي ملك مقرب و لا نبي مرسل الا صعق، فينادي اليها أن: يا جهنم، يقول لك الجبار: اسكني بعزي و استقري، حتي تجوز فاطمه بنت محمد (صلي الله عليه و آله) الي الجنان لا يغشاها فقر و لا ذله.
والذي بعثي بالحق، ليدخلن حسن و حسين: حسن عن يمينك و حسين عن يسارك، و لتشرفن من أعلي الجنان بين يدي الله في المقام الشريف، و لواء الحمد مع علي بن أبي طالب (عليه السلام).
والذي بعثني بالحق، لأقومن بخصومه اعدائك، و ليندمن قوم أخذوا حقك و قطعوا مودتك و كذبوا علي، و ليختلجن دوني فأقول: امتي، امتي، فيقال: انهم بدلوا بعدك و صاروا الي السعير»
[308] .
[ صفحه 248]
رأس الرسول (صلي الله عليه و آله) في حجر علي (عليه السلام)، و الحسن و الحسين و امهما ينظرون في وجه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و يذرفون الدموع، و فجأه أغمض الرسول (صلي الله عليه و آله) عينه، و سكنت أنفاسه الطاهره، و حلقت روحه الشريفه الي الحياه الأبدايه السرمديه في مقعد صدق عند مليك مقتدر. فانهالت هموم الدنيا و مصائب الدهر علي بعضه النبي (صلي الله عليه و آله) الصديقه فاطمه (عليهاالسلام) التي قضت عمرها بالآلام و الهموم و الغصص، و كل ما كانت تجد فيه الأمل و الراحه هو في وجود أبيها و ظلاله الوارفه، و قد انهار صرح الآمال بعد هذا الحادث المدمر الجلل.
و علي حين غفله، و الزهراء (عليهاالسلام) غارقه في الاحزان لفقد الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) و علي (عليه السلام) مشغول بتجهيزه و اذا بالخبر ان جماعه من المسلمين اجمتعوا في سقيفه بني ساعده لتعيين خليفه رسول الله (صلي الله عليه و آله)!!
و ما مضت ساعه جاء الخبر ثانيه: انهم انتخبوا أبابكر خليفه علي المسلمين!!
هز الخبر فاطمه و عليا (عليهماالسلام) و هما في غمره الغموم و الغصص و البكاء علي رسول الله (صلي الله عليه و آله)
سبحان الله.. ما عدا مما بدا.. أليس الخليفه هو علي بن أبي طالب بنص الرسول العظيم (صلي الله عليه و آله)؟! كم مره أوصي به منذ اليوم الأول حين دعا عشيرته (و انذر عشيرتك الأقربين) الي ساعه وفاته؟!!
ألم ينصبه خليفه للمسلمين في غدير خم قبل شهور فقط من وفاته؟! و هل ينكر أحد جهاد علي و تضحياته و سابقته في الاسلام،
و علمه و هو الذي
[ صفحه 249]
غذاه النبي (صلي الله عليه و آله) بعلوم النبوه منذ نعومه أظفاره ليكمل الميسره الي أهدافه المقدسه بعده؟!
الاسلام بحاجه الي قائد معصوم، لا يزل عن جاده الصواب و لا ينحرف يمينا و شمالا.
... و قد وقع المسلمون في منزلق خطير و فتنه قد تجرهم الي الهاويه.
... كم تحمل النبي (صلي الله عليه و آله)، و ضحي علي (عليه السلام) من أجل الاسلام في أحلك الظروف و أخطر المواقف، و كم مره اقتحم علي فم الموت و خاطر بحياته...
أفلا يعلمون أن عليا ربيب الوحي و النبوه، و المعصوم الذي استقي الاسلام من محمد (صلي الله عليه و آله)، لو أصبح قائدا للمسلمين لساق المجتمع الاسلامي الفتي الي السعاده و الرفاه، و لقادهم أحكم و أقوم قياده، و لحملهم علي المحجه البيضاء.
نعم... لعل هذه الخواطر كانت تجيش في خلد فاطمه (عليهاالسلام) و تلح ذهنها، و تحاول اخطاف الصبر منها و اعتصار قلبها المقدس.
[ صفحه 250]
لا نود سرد قصه السقيفه و انتخاب أبي بكر مره ثانيه لأنها قصه ذات شجون و لا نريد خدش العواطف حيث سبق أن ذكرنا القصه بكاملها في الجزء الثاني من هذا المسلسل (علي المرتضي).
و رحم الله من قال:
آمنت أني مأحوذ علي فمي
و مجتمعي مشلوله يده
و أن سيفي ذو حدين أيهما
سللته راح في عرقي يفصده
و خلاصه البحث: لما انتهي الامام علي (عليه السلام) و من معه من تجهيز النبي (صلي الله عليه و آله)، وجدوا أنفسكم أمام أمر قدتم نسجه و احبك فتله، و انتهي
كل شي ء من خلال أمر دبر بليل حيث بويع أبوبكر و نصب للخلاقه.
يقول الشيخ ابراهيم الاميني في كتابه (فاطمه الزهراء) ص 119.
و كان الامام (عليه السلام) أمام خيارات ثلاث:
الأول: أن يقدم علي حركه حديه ثوريه، و يعلن الحرب علي أبي بكر رسميا، و يدعو الناس اليها، و يدفعهم نحوها.
و هذا غير ممكن، لأنه يعني اقحام المجتمع الاسلامي في معركه غير محموده العواقب، تؤدي الي انتفاع الانتهازيين و الوصوليين من الفرصه، و استحواذ أعداء الاسلام و قوه شوكتهم، و هم يتربصون بالاسلام و المسلمين الدوائر، و بالنتيجه اقتلاع جذور الاسلام الفتي.
الثاني: أن يحافظ علي وجوده و منافعه الشخصيه و مصالحه المستقبليه بعد أن انتهي كل شي ء فيبايع أبابكر،- دون ممانعه- و عندئذ تبقي مصالحه الشخصيه في أمان، و ينال المكانه و التكريم و الاحترام لدي الجهاز الحاكم.
[ صفحه 251]
و هذا غير ممكن أيضا، لأنه يعني امضاءه (عليه السلام) لبيعه أبي بكر و ولايته و لعمل المسلمين أيضا، مما يؤدي الي انحراف الخلافه و الولايه و الامامه عن مسارها الاصلي و معناها الحقيقي الي الابد، و تبدد الجهود و التضحيات التي بذلها النبي (صلي الله عليه و آله) و الامام علي (عليه السلام) من أجل ارساء قواعد الاسلام و تحكيم اصول الخلافه الشرعيه.
هذا بالاضافه الي أن ما سيفعله عمر و أبوبكر سيوضع في حساب السلام القويم، باعتبارهما ليسا معصومين و صدور الخطأ و الذنب و مخالفه الشريعه منهما محتمل جدا.
الثالث: أن يسلك (عليه السلام) سبيلا معتدلا يحفظ بيضه السلام و يصون المسلمين و ان كانت ثماره تأتي متأخره علي المدي البعيد.
فعزم هو و الزهراء (عليهماالسلام) علي خوض معركه واسعه- تشتد
حينا، و تنخفض حينا آخر و بهدوء و حكمه لتضمن سلامه السلام و بقاءه و عدم اعطاء الفرصه لأعداء السلام المتربصين له، فكانت المواجهه علي مراحل.
[ صفحه 252]
أخذ الامام علي و فاطمه (عليهماالسلام) بيدي الحسن و الحسين (عليهماالسلام)و طافوا علي بيوت المدينه و رجالها و أشرافها، و دعوهم الي نصرتهم و ذكروهم بوصايا النبي الأكرم (صلي الله عليه و آله) [309] اتماما للحجه و كأن فاطمه تقول:
أيها الناس، ألم ينصب أبي رسول الله (صلي الله عليه و آله) عليا خليفه عليكم من بعده؟! أنسيتم جهاده و تضحياته؟ لو أطعتم ما أوصي به النبي و سلمتم زمام اموركم لعلي لهداكم الي الصراط المستقيم و لسار بكم سيرا سجحا، و لحملكم علي المحجه البيضاء، و لبلغ بكم غايات رسول الله (صلي الله عليه و آله).
أيها الناس،... ألم يقل أبي رسول الله (صلي الله عليه و آله): «اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله و عترتي أهل بيتي؟!».
أيها الناس... أتخذلوننا و تتركوننا لوحدنا و تتثاقلون عن نصرتنا؟!
و هكذا دأبوا علي دعوه الناس الي الحق و القاء الحجه عليهم بأساليب شتي لعلهم يرشدون و يندمون و يثوبون، و ليعيدوا الخلافه الي أهلها و تعود الامور الي نصابها.
و بالفعل استطاعوا أن يكسبوا من خلال هذه الحمله الاعلاميه الواسعه جماعه وقعت تحت تأثير الحقيقه، فواعدوهم النصره، و ما و في بالوعد الا القليل.
فكانت ثمار هذه المرحله- التي أعلنوا فيها مخالفتهم للنظام الحاكم
[ صفحه 253]
و لشخص أبي بكر بالذات- ميل بعض القلوب نحو البضعه الطاهره و زوجها و انجلاء الحقيقه نسبيا للامه، و سيأتي تفصيل
ذلك.
و ما حادثه مالك بن نويره رئيس عشائر بني حنيفه و غدر خالد بهم عنك ببعيد.
هذه الواقعه ذكرها معظم المؤرخين و الحفاظ و أصحاب السنن في كتبهم و صحاحهم، بألفاظ متباينه تدل علي معني واحد، حنيما جهز أبوبكر جيشا بقياده خالد بن الوليد لقمع العشائر الذين امنتعوا عن بيعه أبي بكر و الاعتراف له با لخلافه و كان منهم بنو حنيفه.
خرج خالد بجيشه الي العشائر الممتنعه. أمثال أسد، و غطفان، و طي و هوازن، و غير هم لقمع ثوراتهم، ثم عرج الي البطاح موقع مضارب بني حنيفه، و لما قرب جيش خالد، خرجوا اليه مسلمين و قالوا نحن مسلمون نقيم الصلاه و بقيه الشعائر الاسلاميه فما تريدون منا؟
أجابهم خالد نحن لم نقصدكم، فالقوا سلاحكم، فلما حضرت الصلاه صلي خالد بهم العتمه، اطمان بنو حنيفه و ألقوا سلاحهم، وضيفوا خالدا و من معه، و لما استقر الجميع و اطمأنوا، أمر خالد مناديه فنادي: أدفئوا اسراكم، و كان هذا الشعار رمزا بينهم للغدر و القتل، فقام جيش خالد فاوثقوا بني حنيفه كتافا بما فيهم مالك بن نويره زعيمهم ثم قتلوا رجالهم جميعا،و أما مالك فقد قتله ضرار بن الأزور، و قد امتنع بعض جيش خالد من هذا العمل الشنيع و الغدر منهم الصحابي أبو قتاده فصاح بخالد: هذا عملك؟ فزبره خالد،فضرب أبا قتاده و تركه حتي أتي أبابكر، فأشتكا اليه عمل خالد. فغضب أبوبكر علي أبي قتاده حتي كلمه عمر فيه، و جعل خالد رؤوس القتلي في قدورهم، و نزا خالد علي زوجه مالك بتك الليله و زني بها، هذه واحده من مئات الفضائح التي قام بها الحكام الجدد الذين تسنموا الخلافه الاسلاميه، و أصبحت
و صمه عار في جبين الانسانيه في التاريخ، حتي يخاصموا و يحاجوا أمام الحكم العدل، فانا و انا اليه راجعون.
[ صفحه 254]
رفض الامام علي (عليه السلام) البيعه لأبي بكر، و أعلن سخطه علي النظام الحاكم، ليتضح للعالم أن هذه الحكومه التي أعرض عنها الرجل الأول في الاسلام بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله)- علي بن أبي طالب (عليه السلام)- لا توافق الخلافه الاسلاميه جذريا.
و كذلك فعلت فاطمه (عليهاالسلام)، ليعلم الناس أن بنت نبيهم لا ترضي عن هذه الخلافه.
و بدأ الامام (عليه السلام) جهادا سلبيا ضد الغاصبين، فاشتغل بجمع القرآن و تأليفه و ترك المجتمع، و أصبح جليس داره.
فقال عمر لأبي بكر: يا هذا، ان الناس قد بايعوك ما خلا هذا الرجل و من معه في بيته، فابعث اليه، فبعث اليه قنفذا، و قال له: يا قفنذ، انطلق الي علي فقل له: أحب خليفه رسول الله، فبعثاه مرارا و أبي علي (عليه السلام) أن يأتيهما.
فوثب عمر غاضبا و نادي خالد بن الوليد، و المغيره بن شعبه، و مولاه قنفذا، و جماعه من أتباعهم، و أمرهم بحمل الحطب و كان بيده قبس من نار، ثم أقبل حتي انتهي الي دار علي و فاطمه (عليهماالسلام) و صاح بأعلي صوته يا ابن أبي طالب أخرج حتي تبايع و تدخل فيما دخل فيه الناس، و الا أحرقت عليكم (الدار).
فخرجت اليه فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) معصبه الرأس ناحله الجسم منهده القوي، و وقفت خلف الباب رعايه للحجاب، لتمنع عمر و أتباعه من الهجوم علي الدار و قالت: «يا عمر ما لنا و لك، ألا تدعنا و ما نحن
[ صفحه 255]
فيه».
فقال عمر: افتحي
الباب و الاأحرقنا عليكم [الدار]. فقالت: «يا عمر أما تتقي الله؟! تدخل علي بيتي و تهجم علي داري؟!!».
فأبي ذلك و منعته فاطمه و استبسلت و لكنه ركل الباب برجله بقوه و فتحها عنوه، و لاذت الزهراء و راء الباب رعايه للحجاب، فعصرها بين الحائط و الباب عصره كادت أنفاسها أن تخرج فيها فكسر ضلعا من أضلاعها و أنبت المسمار في صدرها و أسقطت جنينها و وقعت علي الأرض مغشيا عليها.
فهجم هو و أتباعه علي الدار شاهرين السلاح، فخرج اليهم الزبير شاهرا سيفه ليمنعهم و لكنه عثر و سقط علي الأرض فوثبوا عليه و أخذوا السيف منه.
ثم دخلوا علي علي (عليه السلام) الدار فأخذوه و قادوه مكتفا بحمائل سيفه و هو صابر محتسب، فتصدت لهم فاطمه الزهراء لتمنعهم و لتحول بينه و بينهم بعدما قامت من غشيتها علي ما فيها من الالام من شده العصره، فرفع خالد بن الوليد السيف و هو في غمده ووجأ به جنبها فصرخت ثم أمر عمر قنفذا ليردها، فرفع هذا السوط و ضرب عضدها حتي اسود، فألجأها الي عضاده البيت فدفها فكسر ضلعا من أضلاعها، فلم يكتف عمر بذلك حتي رجع عليها بنفسه فسطرها علي خدها حتي أحمرت عينها و انتثرقرطها فانا لله و انا اليه راجعون.
ثم أخذوا عليا الي المسجد، فهبت الزهراء (عليهاالسلام) لنصره الحق و الدفاع عن اين عمها، و خرجت علي أثره كسيره الضلع منهكه الجسد، شاحبه الوجه فلما انتهت الي القبر صاحت يا أبه يا رسول الله ماذا لقينا بعدك؟ و قالت: «خلوا ابن عمي، فوالذي بعث محمدا بالحق لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري و لأضعن قميص رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي
رأسي و لأصرخن الي الله».
[ صفحه 256]
و كادت تقلب نظام الحكم يومئذ بدعائها و استغاثتها، فلما أحس علي (عليه السلام) بالخطر نادي سلمان و قال له: «أدرك بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أصرفها عن الدعاء».
فجاءها سلمان و قال: يا سيدتي و مولاتي، ان الله- تبارك و تعالي- بعث أباك رحمته فلا تكوني نقمه.
فقالت: «يا سلمان، دعني أنتقم من هؤلاء الظالمين». قال: ان عليا أمرني أن أصرفك عن الدعاء.
قالت: «لئن قد أمر علي فسمعا و طاعه، أصبر».
و ما غادرت فاطمه المكان حتي أخذت بيد علي و عادت به الي الدار [310] .
و قد روي هذا الخبر بالفاظ متفاوته جمع من المؤرخين و المحدثين و المتقدمين و اليك بعض أقوالهم: في العقد الفريد ج 2 ص 250، و تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156، و أعلام النساء ج 3 ص 1207: و بعث اليهم أبوبكر عمر بن الخطاب، وقال له: فان أبوا فقاتلهم. و أقبل عمر بقبس من نار علي أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمه فقالت: «يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟». قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الامه.
و في تاريخ الطبري ج 3 ص 198 و الامامه و السياسه ج 1 ص 13 و شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 134: دعا- عمر- بالحطب و قال: والله لنحرقن عليكم أو لتخرجن الي البيعه 7 أو لأحرقنها علي من فيها. فيقال للرجل: ان فيها فاطمه فيقول: و ان!!
ذكر ابن قتيبه في (الامامه و السياسه) ص 19:
كيف كانت بيعه علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)؟
[ صفحه 257]
قال: و ان أبا بكر تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي (كرم الله وجهه) فبعث اليهم عمر، فجاء فناداهم و هم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب و قال: و الذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لاحرقنها علي من فيها.
فقيل له: يا أبا حفص ان فيها فاطمه!
قال: و ان!
فخرجوا فبايعوا الا عليا فانه قال: «حلفت أن لا أخرج و لا أضع ثوبي (ردائي) علي عاتقي حتي أجمع القرآن».
فوقفت فاطمه (رضي الله عنها) علي بابها و قالت: «لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضرا منكم، تركتم رسول الله (صلي الله عليه و آله) جنازه بين أيدينا و قطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا و لم تردوا (تروا) لنا حقا؟!
و يقول محمد حافظ ابراهيم (شاعر النيل) في قصيدته العمريه:
و قوله لعلي قالها عمر
أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها
ان لم تبايع و بنت المصطفي فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها
أمام فارس عدنان و حاميها
ذكر مصطفي بك الدمياطي في شرحه علي هذه القصيده ص 38: و في روايه لابن الخطاب قال: حدثنا جرير عن مغيره عن زياد بن كليب قال: أتي عمر بن الخطاب منزل علي و به طلحه و الزبير و رجال من المهاجرين فقال: والله لا حرقن عليكم أو لتخرجن الي البيعه فخرج عليه الزبير معلنا بالسيف فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.... الخ.
كما روي ابن جرير الطبري بحديث مماثل له.
و قد روي الشهرستاني في (الملل و النحل) ص 83 عن النظام قال: ان عمر ضرب بطن فاطمه يوم البيعه
حتي ألقت الجنين (المحسن) من بطنها، و كان يصيح: احرقوا دارها بمن فيها. و ما كان في الدار غير علي و فاطمه و الحسن و الحسين.
[ صفحه 258]
و روي مثل ذلك البلاذري في (أنساب الأشراف) ج 1 ص 404.
و ذكر ابن حذابه أو خرذاذبه في غدره: قال زيد بن أسلم: كنت ممن حمل الحطب مع عمر الي باب فاطمه حين امتنع علي و أصحابه عن البيعه، فقال عمر لفاطمه: أخرجي من البيت أو لأحرقنه و من فيه!!!
قيل: في البيت علي و فاطمه و الحسن و الحسين و جماعه من أصحاب النبي، فقالت فاطمه: «أفتحرق علي ولدي؟!.
فقال: اي والله أو ليخرجن و ليبايعن!!
هذا ما ظفرت به من المصادر المذكوره في كتب أهل السنه و الجماعه، و لعل غيري يجد أكثر من هذه المصادر في كتبهم.
بعد استعارض هذه النصوص التاريخيه انكشف لنا موقف بعض المسلمين تجاه أهل بيت رسول الله (صلي الله عليه و آله) و اتضح لنا أن بعض الأفراد لم يراعوا حرمه السيده فاطمه الزهراء و لا حرمه بيتها، و لا راقبوا كرامه زوجها أميرالمؤمنين علي، و لا كرامه ولديها: الحسن و الحين، و لم يحفظوا فيهم حرمه الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) المرء يحفظ في ولده.
عزيزي القاري ء: أعرض لك صوره موجزه للحوادث التي حصلت لعد يوم السقيقه و ما جري علي أهل بيت الرساله.
أنقلها ملخصا مما رواه أئمه الحديث و الحفاظ في صحاحهم و مسانيدهم و مصادرهم الصحيحه من اخواننا علماء أهل السنه و الجماعه [311] بألفاظ متفاوته تؤدي الي معني واحد.
بعد البيعه المفاجئه و الخاطفه التي تمت بالخلافه لأبي
بكر، عاد الي بعضهم رشده، و ندموا علي تسرعهم و اندفاعهم لعقد البيعه بصوره ارتجاليه
[ صفحه 259]
لأبي بكر بتأثير عمر بن الخطاب و التحقوا بالمؤمنين الذين رفضوا اعطاء البيعه له و هم من أعيان الصحابه من المهاجرين و الأنصار و خيارهم و ممن أشاد النبي (صلي الله عليه و آله) بفصلهم و ادراكهم لحقائق الامور، أمثال العباس بن عبد المطلب، و عمار بن ياسر، و أبي ذر الغفاري، و سلمان الفارسي، و المقداد بن الأسود، و خزيمه ذي الشهادتين، و عباده بن الصامت، و حذيفه بن اليمان، و سهل بن حنيف، و عثمان بن حنيف، و أبي أيوب الأنصاري، و لم ترهبهم تهديدات الانقلابيين و في مقدمتهم عمر با الخطاب، و كانوا يتجاهرون لانتقاد السطات الحاكمه بكل جرأه علي رغم الارهاب الذي شمل الكل، مما ألهب مشاعر الكثرين الذين انجرفوا مع التيار، و ندموا فيما بعد علي ما ظهر منهم علي استجابتهم لتلك البيعه الخاطفه المرتجله أعل بيت النبوه، أضف الي ذلك بعض العشائر المؤمنه المحيطه بالمدينه مثل أسد، و فزاره، و بني حنيفه و غيرهم ممن شاهدوا و بيعه يوم الغدير «غديرخم» التي عقدها الرسول الأعظم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب بامره المؤمن من بعده، و لم يطل بهم المقام حتي سمعوا بالتحاق الرسول الي الرفيق الأعلي، و البيعه لأبي بكر بن أبي قحافه و تربعه علي منصه الخلاقه فاندهشوا لهذا الحادث و رفضوا البيعه لأبي بكر جمله و تفضيلا و امنتعوا عن أداء الزكاه ريثما ينجلي الموقف، و كانوا علي اسلامهم يقيمون الصلاه و يؤدونن جميع الشعائر، و لكن السلطه الحاكمه رأت من مصلحتها أن تجعل حدا لمثل هؤلاء و ترميهم بالارتداد
و الكفر وسعت الي محاربتهم بكل ما أوتيت من قوه بقياده خالد بن الوليد و من سار في ركبهم.
و قد أدرك هذه الحقيقه جماعه من المستشرقين و الكتاب العرب و المحدثين، و ألمح اليها بعض المؤلفين القدامي في هذا الموضوع و بهذه المناسبه، فقد قال المستشرق لانس في كتابه.
[ صفحه 260]
ان الحزب القرشي الذي يرأسه أبوبكر و عمر بن الخطاب، و أبو عبيده بن الجراح، لم يكن وليد الساعه و لا مفاجأه أو ارتجالا و انما كان وليد مؤامره سريه مجرمه حيكت اصولها و رتبت أطرافها بكل احكام و اتقان، و ان أبطال هذه المؤامره أبوبكر، و عمر بن الخطاب، و أبو عبيده بن الجراح، و سالم مولي حذيفه، و عاشيه، و حفصه، و غيرهم. [مات بعضهم قبل تنفيذها].
و عند ذلك أحس أبوبكر و حزبه بالخطر المحيط بهم و بحكمهم من تصاعد المعارضه ان لم يباردروا فورا الي ايقاف هذا التيار، و ذلك باجبار رأس المعارضه علي بن أبي طالب و من يدور في فلكه علي بيعه أبي بكر، فاجتمع الحزب الحاكم و أمر عمر بن الخطاب، خالد بن الوليد، و المغيره بن شعبه و من يتابعهم مثل قنفذ و غيرهم فقصدوا دار علي و فاطمه و أبنائهما (عليهم السلام)، حاملين معهم رزمات الحطب، و قبس من النار كان بيد عمر، و ذلك لاحراق البيت علي أهله ان لم يخرج علي لبيعه أبي بكر.
و كان في الدار علي، و سلمان، و المقداد، و عمار، و أبوذر، و الزبير، و لما أحاط الامقلابيون بالدار صاح عمر بن الخطاب و قبس النار بيده: و الذي نفس عمر بيده لتخرجن من الدار الي
البيعه أو لأحرقنها علي من فيها، و بدا عليه الهيجان و التصميم علي ذلك.
فقيل له: ان في الدار فاطمه بنت رسول الله و ابناءها الحسن و الحسين، قال: و ان.
فخرج اليهم الزبير شاهرا سيفه ليمنعهم فعثر و وقع السيف من يده فوثبوا عليه و أخذوا السيف و ضربوا به الجدار.
ثم حاول المهاجمون أن يدخلوا الدار فوقفت السيده فاطمه الزهراء وراء الباب لتمنهم من تادخول فلم يراعوا حرمتها و مقامها من رسول الله (صلي الله عليه و آله) فدفع عمر الباب بقوه و لاذت فاطمه وراء الباب رعايه لسترها لأنها كانت بدون حجاب، فعصرها عمر بين الحائط و الباب عصره شديده كسر
[ صفحه 261]
ضلعها و أسقط جنينها، و نبت المسار في صدرها و وقعت علي الأرض مغيشا عليها، فجاءت خادمتها فضه فأسندتها الي صدرها و حملتها الي فراشها.
و هجم القوم علي الدار و أخراجوا الامام من الدار قاصدين به المسجد ملبدا بحمائل سيفه حاسر الرأس و السيف مسلط علي رأسه مهددين له بالقتل ان لم يبايع أبابكر، و هو صابر، و ينادي يا بن ام ان القوم استضعفوني و كادوا يقتلوني.
هذا ما نقلته بصوره موجزه مما قرأته في كتب أعلام القوم و محدثيهم. و اليكم صوره اخري رواها المؤرخين و المحدثون في صحاحهم و كتبهم و مصادرهم الموثوقه أنقلها ملخصا روما للاختصار.
أيها القاري العزيز:
لقد وصلنا في حديثنا هذا الي موضع حساس جدا تاريخيا و دينيا و عقائديا، و لا أعلم ما يكون صدي هذه الجمل التي سأذكرها، و هي من روايات و أقول فطاحل العلماء و المؤرخين من اخواننا أهل السنه و الجماعه الذين اثبتوها في صحاحهم
و مسانيدهم بمصادرهم و طرقهم الخاصه.
و لعلك لا ترضي بهذه الحقائق الثابته و لا تصديق أنها صدرت من الناس تسنموا الصداره في الاسلام و من طليعه الصاحبه.
علي كل حال لا يمنهي هذا بقدر ما يهمني أن تطلع علي الحقائق الدامغه التي نقلتها من كتبهم و مصادرهم و الثابه ثبوت الوتد في الأرض أو واضحه وضوح الشمس في رابعه النهار، أنقلها للحقيقه و التاريخ.
و اليك أولا: ما ذكره الاستاذ عبدالفتاح عبد المقصود في كتابه «الامام علي بن أبي طالب ص 225».
أنقلها ملخصا حيث قال:
و اجتمعت جموعهم- آونه في الخفاء و الخري علي ملاء- يدعون الي علي بن أبي طالب لأنهم روأه أولي الناس بان يلي امور الناس: ثم تألبوا حول داره
[ صفحه 262]
يهتفون باسمه و يدعونه أن يخرج اليهم ليردوا عليه تراثه المسلوب.
و كذلك سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب ذلك النهار، و هو يسير في جمع من صبحه و معاونيه الي دار فاطمه و في باله أن يحمل ابن عم رسول الله، ان طوعا و ان كرها، علي البيعه و اقرار ما أباه حتي الآن سواء بالسيف أو بالنار و أقبل الرجل محنقا مندلع الثوره علي دار علي و قد ظاهره معاونوه و من جاء بهم فاقتحوها أو أشكوا علي الاقتحام، فاذا وجه كوجه رسول الله يبدو بالباب، حائلا من حزن، علي قسماته خطوط الآم، و غضبوا الأبصار من خزي أو استحياء و هي ترفع صوتها الرقيق الحزين النبرات، تهتف بمحمد الثاوي بقربها، و تناديه باكيه مريره: «يا أبت يا رسول الله، يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب، و ابن أبي قحافه»، فكأنما زلزلت الأرض بندائها تحت
هذا الجمع الباغي، من رهبه النداء...
هذا ما اقطفناه من كتاب الاستاذ عبد الفتاح الكابت المصري المعاصر «الامام علي بن أبي طالب».
فقد عرفنا من هذه النصوص أن العصابه جاءت لاخراج الامام علي من بيته ليبايع أبابكر، و قد سمعنا التهديد بالحراق البيت و كل من فيه من آل رسول الله (صلي الله عليه و آله).
ما كانت السيده فاطمه الزهراء تنظر أن تري في حياتها يوما كذلك اليوم، و مأساه كتلك المأساه، و ان أبوها الرسول قد أخبرها بذلك اجمالا أو تفصيلا، و لكن السماع شي ء آخر، و تأثير المصيبه يختلف سماعا و رؤيه.
ان كانت السيده فاطمه قد سمعت من أبيها الرسول أن المور سوف تنقلب عليها، و ان الأحقاد سوف تظهر بعد وفاه الرسول (صلي الله عليه و آله) فانها قد شاهدت بام عينها تلك الأحداث فقد هجم القوم علي عرينها ليخرجوا زوجها من ذلك البيت الذي ما كان الرسول يدخله الا بعد الاستئذان من
[ صفحه 263]
فاطمه.
لا تستطيع الزهراء أن تسكت وتقف موقف المتفرجه، و أيه عائله تسكت أو تهدأ اذا رأت عصابه تريد الهجوم علي بيتها لاخراج رئيس العائله؟
فالخوف و الذعر و الاضطراب يبلغ أشده، و يسلب من العائله كل استقرار وهدوء، فالأطفال يصر خون باكين من هول الموقف، و الأصوات ترتفع في تلك اللحظات الرهيبه.
كانت السيده فاطمه (قبل هجوم القوم) خلف الباب و قد عصبت رأسها بعصابه، و لم يكن عليها خمار.
فلما هجم القوم لأذت السيده فاطمه خلف الباب لتستر نفسها عن أوئلك الرجال، فعصروها عصره شديده و كانت هي حاملا في الشهر السادس من حملها.
صرخت السيده صرخه من شده الألم، لأن
جنينها قتل من صدمه الباب و لا تسأل عن مسمار الباب الذي نبت في صدرها بسبب عصره الباب.
و في تلك اللحظات العصيبه كان القوم قد دخلوا الدار و ألقوا القبض علي الامام أميرالمؤمنين و هم يريدون اخراجه من الدار.
و قد حالت السيده فاطمه الزهراء بين القوم و بين اخراجه علي الرغم ما ألم بها من الاجهاض و الآمه و الاعياء الشديد.
و قد أصدر الأمر لعبده (قنفذ) بردها، فضرب السيده فاطمه حبيبه رسول الله و عزيزته بالسوط علي عضدها فاسود و صار مثل الدملج الي حين وفاتها، كل ذلك جري علي مرأي و مسمع من أطفالها و هم يتصلرخون، و أدي ذلك الي مرضها الشديد حتي وافتها المنيه. فانا لله و انا اليه راجعون.
و لكن القوم لم يعيروا اهتماما بما جري علي سيده النساء و ابنه سيد الأنبياء، بل أخذوا زوجها أميرالمؤمنين ملبدا بحمائل سيفه بعد أن نزعوا عنه سلاحه، و هنا يقف القلم عن الجري، و يخرس اللسان عن البيان و شرح ما جري
[ صفحه 264]
تلك اللحظات علي آل الرسول، و قد قادوه الي المسجد و هو ينظر يمينا و شمالا، و ينادي: «و احمزتاه، و لا حمزه لي اليوم، و اجعفراه و لا جعفر لي اليوم»، و قد مروا به علي قبر أخيه و ابن عمه رسول الله، و هو ينادي: «يا ابن ام ان القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني».
فقال عمر بايع. فقال علي: «فان أنا لم أفعل فمه؟»، قال له اذن والله أضرب عنقك؟
قال علي: «اذن والله تقلون عبدالله و أخا رسول الله».
فقال عمر: أما عبد الله نعيم، و أما أخو رسول الله فلا.
فقال: «أتجحدون
أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) آخي بيني و بينه؟»، و جري حوار شديد بين الامام و بين الزمره الحاكمه.
و عند ذلك وصلت السيده فاطمه الي المسجد و قد أخذت بيد ولديها الحسن و الحسين، و ما بقيت هاشميه الا و خرجت معها، يصحن و يولولن و صاحت: «خلوا عن ابن عمي!! خلوا عن بعلي!! والله رأسي و لأتضعن قميص أبي رأسي و لأدعون عليكم، فما ناقه صالح بأكرم علي الله مني، و لا فصيلها بأكرم علي الله من ولدي» [312] .
و في روايه العياشي: قالت: «يا أبابكر أتريد أن ترملني من زوجي و تيم أولادي؟ والله لئن لم تكف عنه لأمشرن شعري، و لأشقن جيبي، و لآتين قبر أبي، و لا صيحن الي ربي» فأخذت بيد الحسن و الحسين تريد قبر أبيها عند ذلك صاح الناس من هنا و هناك بأبي بكر ما تريد الي هذا؟ أتريد أن تنزل العذاب علي هذه الامه؟
فما رجعت السيده فاطمه الي البيت الا و أخذت زوجها معها و أنقذته من تلك الزمره، و خلصته من أخذ البيعه منه بالقهر و القوه.
[ صفحه 265]
نعود الي ما ذكره ابن قتيبه في «الامامه و السياسه» ص 11:
و ذكروا ان عليا اتي به الي أبي بكر و هو يقول: «أنا عبدالله و أخو رسوله». فقيل له: بايع أبابكر، فقال:
«أنا أحقبهذا الأمر منكم. لا ابايع، و أنتم أولي بالبيعه لي، أخذتم هذا الامر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابه من النبي (صلي الله عليه و آله) و تأخذونه من أهل البيت غصبا؟؟ ألستم زمعتم للأنصار أنكم أولي بهذا الأمر لمكان محمد (صلي الله عليه
و آله) منكم؟؟ فأعطوكم المقاده، و سلموا اليكم الاماره؟ و أنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به علي الأنصار، نحن أولي برسول الله (صلي الله عليه و آله) حيا و ميتا فأنصفونا من أنفسكم ان كنتم تخافون المعاد».
فقال له عمر: أنت لست متروكا حتي تبايع.
فقال له علي: «أحلب حلبا لك شطره!! أشدد له اليوم ليرده عليك غدا، والله يا عمر لا أقبل قولك و لا ابايعه».
فقال له أبوبكر: فان لم تبايعني فلا اكرهك.
فقال علي: «يا معشر المهاجرين الله! الله! لا تخرجوا سلطان محمد (صلي الله عليه و آله) من داره، و قعر بيته الي دوركم و تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقه».
هذا ما رواه ابن قتيبه في كتابه «الامامه و السياسه».
و أما ما ذكره العياشي في تفسيره ج 2 ص 67 فقد سبق أن ذكرته.
قال ابن أبي الحديد ج 14 ص 192: ان زينب بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) تجهزت للحقوق بأبيها، و خرجت من مكه علي بعير لها و هي في الهودج، فخرج في طلبها هبار بن الأسود فروعها بالمرح- و هي في الهودج- و كانت حاملا، فلما رجعت طرحت ما في بطنها، فلذلك أباح رسول الله (صلي الله عليه و آله) يوم فتح مكه دم هبار بن الأسود.
[ صفحه 266]
قلت- و الكلام لابن أبي الحديد-: و هذا الخبر أيضا قأته علي النقبب أبي جعفر فقال: «اذا كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) أباح دم هبار بن الأسود لنه روع زينب فألقت ذا بطنها، فظهر الحال أنه لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمه حتي ألقت ذا بطنها».
و لقد خاطب
الامام الحسن (عليه السلام) المغيره بن شعبه في مجلس معاويه بقوله: «و أنت ضربت فاطه بنت رسول الله حتي أدميتها، و ألقت ما في بطنها، استذلالا منك لرسول الله، و مخالفه منك لأمره، و انتهاكا لحرمته، و قد قال لها رسول الله (صلي الله عليه و آله): انت سيده نساء أهل الجنه. والله مصيرك الي النار».
و في كتاب سليم بن قيس، عن ابن عباس: فضربها بالسوط فماتت حين ماتت و ان في عضدها كمثل الدملج من ضربته.. فألجأها الي عضاده بيتها و دفعها، فكسر ضعلها من أضلاعها فالقت جنينا من بطنها...
و كذا قال الامام الصادق (عليه السلام): «و كان سبب وفاتها أن قنفذا- مولي عمر بن الخطاب- لكزها بنعل السيف بأمره.. فأسقطت محسنا، و مرضت من ذلك مرضا شديدا فماتت، و آثار الضرب في عينها و عضدها».
و يستفاد من جمله الأحدايث و الأخبار ان الذين ضربوا بضعه الرسول (صلي الله عليه و آله) كانوا أكثر من واحد.
و نظموا قصائد عصماء جسدوا و الحادثه بقرائحهم و هذه نماذج منها:
فأستقطت بنت الهدي و ازنا
جنينها ذاك المسمي محسنا
و قال آخر:
و الدخلين علي البتوله بيتها
و المسقطين لها أعز جنين
و القائدين امامهم بنجاده
و الطهر تدعو خلفهم برنين
خلوا ابن عمي أو لأكشف في الدعا
رأسي و أشكوا للاله شجوني
[ صفحه 267]
و قال آخر:
أو تدري ما صدر فاطم ما المسمار
ما حال ضعلها المكسور
ما سقط الجنين؟ ما حمره العين؟
ما بال قرطها المنثور؟
و قال آخر:
و لست أدري ما خبر المسمار
سل صدرها خزانه الاسرار
و انفجرت قرائح الشعراء بدموع القوافي لتبكي مصاب الزهراء (عليهاالسلام):
و لايه الله الصدر:
غصبوها حقها جهرا و من
عجب أن تغضب الزهرا جهارا
من لحاها اذ بكت والدها
قائلا فلتبك ليلا أو نهارا
و يلهم ما ضرهم لو بكيت
بضعه المختار أياما قصارا
من سعي في ظلمها؟ من راعها؟
من علي فاطمه الزهراء جارا؟
من غدا ظلما علي الدار التي
اتخذتها الانس و الجن مزارا
طالما الأملاك فيها أصبحت
تلثم الاعتاب فيها و الجدارا
و من النار بها ينجو الوري
من علي أعتابها أضرم نارا
و النبي المصطفي كم جاءها
يطلب الاذن من الزهرا مرارا
و عليها هجم القوم و لم
تك لاثت، لا و عليها، خمارا
لست أنساها و يا لهفي لها
اذ وراء الباب لاذت كي توارا
فتك الرجس علي الباب و لا
تسألن عما جري و صارا
لا تسلني كيف رضوا ضلعها
و اسألن الباب عنها و الجدارا
و اسألن أعتابها عن محسن
كيف فيها دمه راحا جبارا
و اسألن لؤلؤ فرطيها لما
انتثرت و العين لم تشكو احمرارا
و هل المسمار موتور لها
فغذا في صدرها يدرك ثارا [313] .
[ صفحه 268]
و للسيد صالح الحلي:
يا مدرك الثار البدار البدار
شن علي حرب عداك المغار
تنسي علي الدار هجوم العدي
مذ أضرموا الباب بحزل و نار
و رض من فاطمه ضلعها
و
حيدر يقاد قسرا جهار
تعدو و تدعوا خلف أعدائها
يا قوم خلوا عن علي الفخار
قد أسقطوا جنينها و اعتري
من لطمه الخد العيون احمرار
فما سقوط الحمل؟ ما صدرها؟
ما لطمها؟ ما عصرها بالجدار
ما و كزها بالسيف في ضلعها؟
و ما انتشار قرطها و السوار
ما ضربها بالسوط ما منعها
من البكا و ما لها من قرار؟
و لصالح الكواز:
لو لا سقوط جنين فاطمه لما
اوذي لها في كربلاء جنين
و بكسر ذاك الضلع رضت أضلع
في طيها سر الاله مصون
و كذا علي قوده بنجاده
فله علي بالوثاق قرين
و كما لفاطم رنه من خلفه
لبناتها خلف العليل رنين
و بزجرها بسايط قنفذ و شحت
بالطف من زجر لهن متون
و قال آخر:
قال سليم قلت يا سلمان
هل دخلوا و لم يك استيذان
قال بلي و عزه الجبار
و ما علي الزهراء من خمار
و فاطم لاذت وراء الباب
رعايه للستر و الحجاب
و مذ رؤاها عصروها عصره
كادت بنفسي أن تموت حسره
[ صفحه 269]
فأسقطت بنت الهدي و احزنا
جنينها ذاك المسمي محسنا
تقول يا فضه سنديني
فقد و ربي اسقطوا جنيني
للشيخ محمد حسين الغروي الكمباني:
أيضرم النار بباب دارها
و آيه النور علي منارها
لكن كسر الضلع ليس ينجبر
الا بصمصام عزيز مقتدر
اذ رض تلك الأضلع الزكيه
رزيه ما بعدها
رزيه
و من نبوغ الدم من ثدييها
يعرف عظم ما جري عليها
و جاوزوا الحد بلطم الخد
شلت يد الطغيان و التعدي
فأجرت العين و عين المعرفه
تذرف بالدمع علي تلك الصفه
و لا تزيل حمره العين سوي
بيض السيوف يوم ينشر اللوي
و للسياط رنه صداها
في مسمع الدهر فما أشجاها
و الآثر الباقي كمثل الدملج
في عضد الزهراء أقوي الحجج
و من سواد متنها اسود الفضا
يا ساعد الله الامام المرتضي
و وكز نعل السيف في جنبيها
أتي بكل ما أتي عليها
و لست أدري خبر المسمار
سل صدرها خزانه الاسرار
و في جنين المجد ما يدمي الحشا
و هل لهم اخفاء أمر قد فشا
و الباب و الجدار و الدماء
شهود صدق ما به خفاء
و قال آخر:
الواثبين لظلم آل محمد
و محمد ملقي بلا تكفين
و القائلين لفاطم آذيتنا
في طول نوح دائم و حنين
و القاطعين أراكه كي ما تقيل
بظل أوراق لها و غصون
و مجمعي حطب علي البيت الذي
لم يجمع لولاه شمل الدين
و الداخلين علي البتوله بيتها
و المسقطين لها أعز جنين
[ صفحه 270]
و القائدين امامهم بنجاده
و الطهر تدعو خلفهم برنين
خلوا ابن عمي أو لأكشف في الدعا
رأسي و أشكو للاله شجوني
ما كان ناقه صالح و فصيلها
بالفضل عند الله الا دوني
ورنت الي القبر الشريف
بمقله
عبري و قلب مكمد محزون
أبتاه هذا السامري و عجله
تبعا و مال الناس عن هارون
أي الرزايا أتقي بتجلدي
هو في النوائب ما حييت قريني
فقدي أبي أم غصب بعلي حقه
أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني
أم أخذهم حقي و فاضل نحلتي
أم جهلهم قدري و قد عرفوني
قهروا يتيميك الحسين و صنوه
و سألتهم ارثي و قد نهروني [314]
و اليك: خمسه أبيات مقتطفه من قصيده الأزري، و الخمسه الاخري من قصيده شريف مكه:
تركوا عهد أحمد في أخيه
و أذا اقوا البتول ما أشجاها
و هي العروه التي ليس ينجو
غير مستعصم بحبل ولاها
لم ير الله للرساله أجرا
غير حفظ الزهراء في قرباها
يوم جاءت ياللمصاب اليهم
و من الوجد ما أطال بكاها
فدعت و اشتكت الي الله شكوي
و الرواسي تهتز من شكواها
جرعاها بعد والدها الغيظ
مرارا فبئس ما جرعاها
أهل بيت لم يعرفوا سنن الجور
التباسا عليهم واشتباها
ما كان تحت الخضراء بنت نبي
صادق ناطق أمين سواها
بنت من؟ ام من؟ حليله من؟
ويل لمن سن ظلمها و اذاها
ختم الله رسله بأبيها
و اصطفا لوحيه و اصطفاها
[ صفحه 271]
بالرغم من أن المعركه التي خاضتها فاطمه (عليهاالسلام) كانت لفتره قصيره و وقعت في محيط محدود، غير أن صداها بقي لأجيال و أجيال و الي يومنا هذا و يجدر الالتفات الي عده امور فيها:
الأول: ان الزهراء
(عليهاالسلام) هبت للدفاع عن الوصي و وقفت وراء الباب بصلابه متناهيه حينما حاصروا البيت ليأخدوا عليا و لم تنهزم و تلوذ بزوايه البيت فرارا.
الثاني: ان الزهراء (عليهاالسلام) رفضت الفرار بعد أن أقتحموا الدار، و أصرت علي الصمود و المقاومه و الوقوف بوجوههم، حتي و جأوا صدرها المقدس بغمد السيف، و ضربوها حتي أسود عضدها المبارك.
الثالث: دخلت فاطمه (عليهاالسلام) الميدان من جديد، عندما استخرجوا عليا و تعلقت به، و حالت بينهم و بينه، و ما تراجعت حتي اسود بدنها من سياط قنفذ.
الرابع: حينما أخرجوا عليا (عليه السلام) راحت الزهراء (عليهاالسلام) تدافع في آخر المواقع، فلحقت به لعلها تمنعهم عنه، و صمدت و قامت في موقعها هذا حتي عصروها بين الحائط و الباب، و كسروا ضلعها و أسقطوا جنينها [315] .
و بعد كل هذا انطلقت الي المسجد- تريد اعلان سخطها و تخليص زوجها من أيدي الأعداء- صارخه مستغيثه بالله و رسوله علي رؤوس الأشهاد.
و حينما يئست منهم انصرفت للدعاء عليهم لولا أن الامام (عليه السلام) أدركها فرجعت الي البيت بعد أن خلصت زوجها.
[ صفحه 272]
نعم، هكذا وقفت فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، بكل ما اوتيت من قوه، للدفاع عن علي (عليه السلام)، و منعهم عن أخذ البيعه منه قهرا و اظهار السخط علي الخلافه و الخلفاء و أهل الشوري بل و عليهم أجمعين.
و ان ضربها، و كسر ضلعها، و اسقاط جنينها، كشف مؤامراتهم و أسقط أقنعتهم.
و فهم العالم- عمليا- نتائج الانحراف عن الخلافه الحقه فمن أجل الاحتفاظ بالملك و السلطان ما تورعوا عن كسر ضلع عزيزه نبيهم، و قتل ابنها في بطن امه، و بذلك تنذر المسلمين، و تقدم لهم
أنموذجا واضحا من نتائج خلافه الشوري.
و الزهراء (عليهاالسلام) خريجه مدرسه النبوه و الامامه، درست التضحيه و الفداء، و الشجاعه في هذين البيتين، فلا تخاف كسر الضلع و لا الضرب، و لا تخشي سوي الله في مواقع الدفاع عن الحق و الاهداف المقدسه.
[ صفحه 273]
أحسن كلام نفتتح به هذا الحديث، و أصدق حديث نبدا به في هذا الموضوع هو كلام الله تعالي: (و من أصدق من الله قيلا و من أصدق من الله حديثا).
قال تعالي: فآت ذاالقربي حقه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله و اولئك هم المفلحون).
هذه الآيه كما تراها خطاب من الله عز و جل الي حبيبه محمد (صلي الله عليه و آله) يأمره أن يؤتي ذاالقربي حقه، فمن ذواالقربي؟ و ما هو حقهم؟
لقد ذكرنا- في آيه القربي أو آيه الموده- أن المقصود من القربي هم أقرباء الرسول و هم علي و فاطمه و الحسن و الحسين (عليهم السلام) فيكون المعني: و أعط ذوي قرباك حقوقهم.
أما فدك فقريه تبعد عن المدينه عده فراسخ، كان فيها بساتين و مزارع لليهود، فلما فرغ رسول الله (صلي الله عليه و آله) من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا الي رسول الله (صلي الله عليه و آله) فصالحوه علي النصف منها فقبل منهم ذلك. و كانت فدك لرسول الله (صلي الله عليه و آله) خالصه له [316] ، لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب.
و كانت فدك ملكا عظيما، و أرضا واسعه، و بساتين مثمره يانعه، و تدر أرباحا طائله حتي قالوا: كان دخلها أربعه و عشرين ألف دينار، و في
روايه: سبعين ألف دينار [317] سنويا.
عن عطيه قال: لما نزلت (فآت ذاالقربي حقه)، دعا رسول الله (صلي
[ صفحه 274]
الله عليه و آله) فاطمه (عليهاالسلام) فأعطاها فدكا [318] .
و عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «أقطع رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاطمه فدكا» [319] .
وروي عن أبي سعيد الخدري و غيره أنه لما نزلت هذه الآيه علي النبي (صلي الله عليه و آله) أعطي فاطمه فدكا و سلمه اليها، و هو المروي عن الامام الباقر و الامام الصادق (عليهماالسلام) و هو المشهور بين جميع علماء أهل البيت.
كما ذكر ذلك من علماء العامه عدد كثير بطرق عديده، منها.
صرح في (كنز العمال) و في مختصره المطبوع في الهامش من الكتاب (المسند) لأحمد بن حنبل في مسأله صله الرحم من كتاب (الأخلاق) عن أبي سعيد الخدري قال:لما نزلت (فآت ذاالقربي حقه) قال النبي (صلي الله عليه و آله): «يا فاطمه لك فدك».
قال: رواه الحاكم في تاريخه و في ص 177 من الجزء الرابع من تفسير (الدر المنثور) للسيوطي أنه أخرج البزاز و أبويعلي و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآيه: (فآت ذاالقربي حقه) أقطع رسول الله (صلي الله عليه و آله) فاطمه فدكا.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: و قد روي من طرق مختلفه غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب: أنه لما نزل قوله تعالي: (فآت ذاالقربي حقه)دعا النبي (صلي الله عليه و آله) فاطمه فأعطاها فدكا.
و ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقه، و الشيخ السمهودي في تاريخ المدينه أن عمر قال: اني أحدثكم عن هذا الأمر: ان الله خص
نبيه في هذا الفي ء بشي ء لم يعطه أحدا غيره فقال: (و ما أفاء الله علي رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب و لكن الله يسلط رسله علي من يشاء والله علي كل شي ء
[ صفحه 275]
قدير)، فكانت هذه خالصه لرسول الله... الخ.
اذن فالمستفاد من مجموع الآيات و الروايات أن فدك كانت لرسول الله (صلي الله عليه و آله) خالصه، و أن النبي (صلي الله عليه و آله) أعطي فاطمه فدكا بعنوان النحله و العطيه بأمر الله تعالي حيث أمره بقوله: (فآت ذاالقربي حقه).
و يستفاد أيضا من تصريحات المؤرخين و المحدثين أن السيده فاطمه الزهراء كانت تتصرف في فدك، و أن فدكا كانت في يدها.
فمنها تصريح الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب الذي أرسله الي عثمان بن حنيف و هو عالمه علي البصره فانه ذكر فيه: «... بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم الله... الخ» [320] .
و ذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقه) في الباب الثاني: ان أبابكر انتزع من فاطمه فدكا... الخ.
و معني كلام ابن حجر أن فدكا كانت في يد الزهراء (عليهاالسلام) من عهد أبيها الرسول فانتزعها أبوبكر منها.
و قد روي العلامه المجلسي عن كتاب (الخرائج):
فلما دخل رسول الله (صلي الله عليه و آله) المدينه (بعد استيلائه علي فدك) دخل علي فاطمه (عليهاالسلام) فقال: «يا بنيه ان الله قد أفاء علي أبيك بفدك،و اختصه بها، فهي له خاصه دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء، و انه قد كان لأمك خديجه علي أبيك مهر،
و ان أباك قد جعلها لك بذلك، و أنحلها لك و لولدك بعدك». قال: فدعا بأديم و دعا بعلي بن أبي طالب فقال: «اكتب لفاطمه بفدك نحله من رسول الله». فشهد علي ذلك علي بن
[ صفحه 276]
أبي طالب و مولي لرسول الله و ام أيمن.
و لما توفي رسول الله (صلي الله عليه و آله) و استولي أبوبكر علي منصه الحكم و مضت عشره أيام. و استقام له الأمر بعث الي فدك من أخرج وكيل فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله).
كانت فدك للسيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) من ثلاثه وجوه:
اوجه الأول: انها كانت ذات اليد، أي كانت متصرفه في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها الا بالدليل و البينه. كما قال رسول الله (صلي الله عليه و آله):«البينه علي المدعي، و اليمين علي من أنكر». و ما كان علي السيده فاطمه أن تقيم البينه لأنها ذات اليد.
الوجه الثاني: انها كانت تملك فدكا بالنحله و العطيه و الهبه من أبيها رسول الله (صلي الله عليه و آله).
الوجه الثالث: انها كانت تستحق فدك بالارث من أبيها الرسول و لكن القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثه، فقد طالبوها بالبينه، و طالبوها بالشهود علي النحله، و أنكروا وراثه الأنبياء علي غير أساس من شرع أو عرف.
و بامكان السيده فاطمه أن تطالب بحقها بكل وجه من هذه الوجوه الثلاثه.
و لهذا طالبت بفدك عن طريق النحله أولا، ثم طالبت بها عن طريق الارث ثانيا كما صرح بذلك الحلبي في سيرته ج 3 ص 39 قال:
ان فاطمه اتت ابابكر بعد وفاه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قالت: «ان فدكا نحله ابي، اعطانيها حال حياته». و
انكر عليها ابوبكر و قال:اريد بذالك شهودا فشهد لها علي، فطلب شاهدا آخر فشهدت لها ام أيمن فقال لها: أبرجل و امره تستحقينها؟؟
و ذكر الطبرسي في الاحتجاج: فجاءت فاطمه (عليهاالسلام) الي أبي بكر ثم قالت: «لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله؟ و أخرجت وكيلي من فدك
[ صفحه 277]
و قد جعلها لي رسول الله (صلي الله عليه و آله) بأمر الله تعالي؟». الي آخر ما ذكره أصحاب السير و المفسرون.
و بلفظ آخر:
و حاج الامام علي (عليه السلام) أبابكر و هو في المسجد و حوله المهاجرون و الانصار فقال: «يا أبابكر لم منعت فاطمه ميراثها من أبيها رسول الله (صلي الله عليه و آله) و قد ملكته في حياته؟؟» قال أبوبكر: هذا في المسلمين، فان أقامت شهودا أن رسول الله جعله لها و الا فلا حق لها فيه! فقال علي: «يا أبابكر تحكم بيننا بخلاف حكم الله في المسلمين؟» قال: لا، قال: «فان كان في يد المسلمين شي ء يملكونه فادعيت أنا فيه، من تسأل البينه؟» قال: أياك اسال، قال: «فما بال فاطمه سالتها البينه علي ما في يديها و قد ملكته في حياه ابيها رسول الله و بعده و لم تسأل المسلمين علي ما ادعوها شهودا كما سألتني علي ما دعيت عليهم؟؟» فكست أبوبكر فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك فانا لا نقوي علي حجتك، فان أتيت بشهود عدول، و الا فهي في ء للمسلمين، و لا حق لك و لا لفاطمه فيه؟؟
[ صفحه 278]
لما بويع أبوبكر و استقام له أمر بعث الي فدك من أخرج وكيل فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) منها، فجاءت فاطمه (عليهاالسلام) الي أبي بكر
ثم قالت: «لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟ و أخرجت وكيلي من فدك و قد جعلها لي رسول الله (صلي الله عليه و آله) بأمر الله تعالي؟».
فقال: ان شاءالله انك تقولين الا حقا و لكن هاتي علي ذلك شهودا. فجاءت بام أيمن فقالت له ام أيمن: لا أشهد- يا أبابكر- حتي أحتج عليك بما قال رسول الله (صلي الله عليه و آله)، أنشدت بالله ألست تعلم أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: «ام أيمن امراه من أهل الجنه»؟.
فقال: بلي.
قالت: فأشهد أن الله- عز و جل- أوصي الي رسول الله (صلي الله عليه و آله): (فآت ذالقربي حقه) فجعل فدكا لها طعمه بأمر الله.
فجاء علي (عليه السلام) فشهد بمثل ذلك.
فكتب لها كتابا و دفعه اليها.
فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال ان فاطمه ادعت فدكا و شهدت لها ام أيمن و علي، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من فاطمه فتفل فيه و مزقه، فخرجت فاطمه (عليهاالسلام) تبكي.
فلما كان بعد ذلك جاء علي (عليه السلام) الي أبي بكر و هو في المسجد فقال: «يا أبابكر، لم منعت فاطمه ميراثها من رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟ و قد ملكته في حياه رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟».
فقال أبوبكر: هذا في ء المسلمين، فان أقامت شهودا أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) جعله لها، و الا فلا حق لها فيه.
[ صفحه 279]
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): «يا أبابكر أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟».
قال: لا.
قال: «فان كان في يد المسلمين شي ء يملكونه، ثم أدعيت أنا فيه، من تسأل البينه؟».
قال: اياك أسأل البينه.
قال: «فما بال فاطمه سألتها البينه
علي في يدها و قد ملكته في حياه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و بعده، و لم تسأل المسلمين بينه علي ما ادعوا شهودا كما سألتني علي ما أدعيت عليهم؟».
فكسبت أبوبكر.
فقال عمر: يا علي، دعنا من كلامك، فانا لا نقوي علي حجتك، فان أتيت بشهود عدول، و الا فهو في ء للمسلمين لا حق لك. و لا لفاطمه فيه [321] .
فقال الامام علي (عليه السلام): «يا أبابكر تقرأ كتاب الله؟» قال: نعم. قال: «أخبرني عن قوله عز و جل: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) فيمن نزلت فينا أو في غيرنا؟» قال: بل فيكم! قال: «فلو ان شهودا شهدوا علي فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) بفاحشه ما كنت تصنع بها؟» قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم علي نساء العالمين؟! قال علي:«كنت اذن عند الله من الكافرين!» قال: و لم؟ قال: «لأنك رددت شهاده الله بالطهاره و قبلت شهاده الناس عليها، كما رددت حكم الله و حكم رسوله أن جعل لها فدكا و زعمت أنها في ء للمسلمين، و قد قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): البينه علي المدعي، و اليمين علي من أدعي عليه».
[ صفحه 280]
فدموم الناس، و أنكر بعضهم بعضا، و قالوا: صدق- والله- علي:
قال الشيخ ابراهيم الأميني في كتابه فاطمه الزهراء ص 133:
و الانصاف في هذه المحاكمه أن الحق مع فاطمه (عليهاالسلام)، لأنها صاحبه اليد في فدك، لذا قال علي (عليه السلام) في نهج البلاغه:
«بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم
الحكم الله» [322] .
و علي أبي بكر، الطرف الآخر للمنازعه- أي المدعي- اقامه البينه، و لكن أبابكر ركل كل هذا الحكم البديهي بقدميه و لم يقض به.
مع هذا خرجت الزهراء (عليهاالسلام) ظافره منتصره من هذه المرحله، بمنطقها السليم و احتجاجها القوم و أدلتها المحكمه، التي أضطرت أبابكر للاعتراف بحقها و كتب صحيفه لها بذلك، الا أن عمر دخل الميدان بمنطق القوه فأخذ الكتاب و مزقه فصه نقصان البينه.
[ صفحه 281]
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال علي لفاطمه (عليهماالسلام): انطلقي فاطلبي ميراثك من أبيك رسول الله (صلي الله عليه و آله). فجاءت الي أبي بكر فقالت: أعطني ميراثي من أبي رسول الله (صلي الله عليه و آله)».
فقال: النبي (صلي الله عليه و آله) لا يورث.
فقالت: «ألم يرث سليمان داود؟».
فغضب و قال: النبي لا يورث.
فقالت (عليهاالسلام): «ألم يقل: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) (النساء: 11).
فلم يجد أبوبكر جوابا لمنطق الزهراء (عليهاالسلام) و حجتها فقال: النبي لا يورث، و لكي يبرر فعلته غير المشروعه أسند حديثا للمبي (صلي الله عليه و آله) أنه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث». و شهدت عليه حفصه و عائشه.
و لكن الزهراء (عليهاالسلام) حجته و أفحمته بالكتاب الكريم، و قد ثبت أن ما خالف القرآن فهو زخرف يضرب به عرض الحائط و لا يعتني به.
و الجدير بالذكر ان عائشه نفسها طالبت عثمان يوم ولي الخلافه بميراثها من رسول الله (صلي الله عليه و آله). فقال: أليس جئت فشهدت أنت أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: «لا نورث: فأبطلت حق فاطمه و جئت تطلبينه! لا أفعل [323] .
[ صفحه
282]
قررت الزهراء (عليهاالسلام) الاعلان عن مظلوميتها، و الذهاب الي المسجد و القاء خطاب مهم في الناس..
و سري الخبر في المدينه.. و شاع في الناس أن بقيه النبي (صلي الله عليه و آله) التي تذكر المسلمين به (صلي الله عليه و آله)، و بعضه و ريحانته فاطمه تريد أن تخطب في الناس في مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله).
و هز الخبر أرجاء المدينه- كأعنف انفجار- و تدافعت علامات الاستفهام في الرؤوس... ماذا ستقول؟ و ماذا ستكون ردود فعل الخليفه- حينئذ-؟!
فاحتشدوا في المسجد ليسمعوا الخطاب التاريخي.
فاختارت السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) لخطبتها هذا الأسلوب للبدايه و النهايه انها لم تكتف بالتركيز علي مطالبه حقها فقط، بل انتهزت الفرصه لتفجر للمسلمين عيون المعارف الالهيه، و تكشف لهم محاسن الدين الاسلامي، و تبين لهم علل الشرائع و الأحكام و ضمنا تهيي ء الجو لكلامها المقصود و هدفها المطلوب.
و هذه رؤوس أقلام الخطبه و مواضيعها:
الحمد و الثناء علي الله.
التوحيد الاستدلالي.
النبوه.
التحدث عن العهد الجاهلي.
انجازات الرسول.
توجيه الخطاب الي الحاضرين.
[ صفحه 283]
التحدث عن القرآن.
بيان علل الشرائع و فلسفه الاسلام.
الدخول في صميم الموضوع.
حوادث فتره الرساله.
موقف زوجها العظيم من تلك من تلك الأحداث.
بيان انقلاب الحكم ضد آل الرسول.
بيان تخاذل المسلمين تجاه أهل البيت.
توجيه الخطاب الي رئيس الدوله حول الارث.
اقامه الأدله و البراهين.
توجيه العتاب الي الأنصار و توبيخهم.
جواب رئيس الدوله.
تزييف كلامه و تفنيد مغالطاته.
اعتذار رئيس الدوله.
توجيه الخطاب الي الحاضرين، شكوي الي رسول الله.
روي عبدالله بن الحسن باسناده عن آبائه، أنه لما أجمع أبوبكر علي
منع فاطمه فدكا، و بلغها ذلك.
لاثت خمارها علي رأسها [324] ، و اشتملت بجلبابها، و أقبلت في لمه من حفدتها و نساء قومها [325] ، تطأذيولها [326] ، ما تخرم مشيتها مشيه رسول الله (صلي الله عليه و آله) [327] ، حتي دخلت علي أبي بكر. هو في حشد [328] من المهاجرين
[ صفحه 284]
و الأنصار و غير هم، فنيطت دونها ملاءه [329] .
فجلست ثم أنت أجهش بابكاء فارتج المجلس.
ثم أمهلت هنيئه، حتي اذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم [330] .
افتتحت الكلام بحمدالله و الثناء عليه، و الصلاه علي رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها.
فقالت (عليهاالسلام):
«الحمدلله علي ما أنعم، و له الشكر علي ما ألهم، و الثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها، و سبوغ آلاء أسداها [331] ، و تمام منن والاها، جم عن الاحصاء عددها [332] و نأي عن الجزاء أمدها [333] ، و تفاوت عن الادراك أبدها، و ندبهم لا ستزدتها بالشكر لا تصالها [334] ، و استحمد الي الخلائق باجزالها، و ثني بالندب الي أمثالها [335] .
و أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، كلمه جعل الاخلاص تأويلها، و ضمن القلوب موصولها [336] ، و أنار في التفكير معقولها، و الممتنع من الأبصار رؤيته، و من الألسن صفته، و من الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شي ء كان قبلها [337] ، و أنشأها بلا احتذاء أمثله امتثلها [338] ، كونها بقدرته،
[ صفحه 285]
و ذرأها بمشيئته [339] من غير حاجه منه الي تكوينها، و لا فائده في تصويرها، الا تثبيتا
لحكمته و تنبيها علي طاعته، و أظهار لقدرته، تعبدا لبريته، و اعزازا لدعوته.
ثم جعل الثواب علي طاعته، و وضع العقاب علي معصيته ذياده لعباده من نقمته [340] و حياشه لهم الي جنته [341] .
و أشهد أن أبي (محمدا) عبده و رسوله، اختاره و انتجبه قبل أن اجتبله [342] ، و اصطفاه قبل أن ابتعثه، اذ الخلائق بالغيب مكنونه، و بستر الأهاويل مصونه، و بنهايه العدم مقرونه، علما من الله تعالي بمآئل الأمور [343] ، و احاطه بحوادث الدهور، و معرفه بمواقع المقدور ابتعثه الله اتماما لأمره، و عزيمه علي امضاء حكمه و انفاذا لمقادير حتمه، فرأي الأمم فرقا في أديانها، عكفا علي نيرانها، و عابده لأوثانها، منكره لله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد (صلي الله عليه و آله) ظلمها [344] ، و كشف عن القلوب بهمها [345] ، و جلي عن الأبصار غممها [346] ، و قام في الناس بالهدايه، و أنقدهم من الغوايه، و بصرهم من العمايه، و هداهم الي الدين و المستقيم، ثم قبضه الله اليه قبض رأفه و اختيار و رغبه و ايثار،فمحمد (صلي الله عليه و آله) من تعب هذه الدار في راحه قد حف بالملائكه الأبرار، و رضوان الرب الغفار، و مجاوره الملك الجبار، صلي الله علي أبي، نبيه، و أمينه
[ صفحه 286]
علي الوحي و صفيه، و خيرته من الخلق و رضيه.
و السلام عليه و رحمه الله بركاته.
ثم التفتت الي أهل المجلس و قالت:
أنتم- عباد الله- نصب أمره و نهيه [347] .و حمله دينه و وحيه، و أمناء الله علي أنفسكم [348] ، و بلغاؤه الي الأمم [349] ، زعيم حق
له فيكم، و عهد قدمه اليكم، و بقيه استخلفها عليكم، كتاب الله الناطق، و القرآن الصادق، و النور الساطع [350] ، و الضياء اللامع [351] ، بينه بصائره، منكشفه سرائره [352] ، متجليه ظواهره [353] ، مغتبط به أشياعه [354] ، قائد الي الرضوان اتباعه، مؤد الي النجاه استماعه، به تنال حجج الله المنوره و عزائمه المفسره [355] ، و محارمه المحذره، و بيناته الجاليه [356] ، و براهينه الكافيه، و فضائله المندوبه [357] ، و رخصه الموهوبه، و شرائعه المكتوبه [358] .
فجعل الله الايمان تطهيرا لكم من الشرك.
و الصلاه تنزيها لكم من اكبر.
[ صفحه 287]
و الزكاه تزكيه للنفس و نماء في الرزق.
و الصيام تثبيتا للاخلاص.
و الحج تشييدا للدين.
و العدل تنسيقا للقلوب [359] ، و اطاعتنا نظاما للمله.
و امامتنا أمانا للفرقه.
الجهاد عزا للاسلام
والصبر معونه علي استجباب الأجر.
و الأمر بالمعروف مصحله للعامه.
و بر الوالدين وقايه من السخط.
وصله الأرحام منماه للعدد [360] .
والقصاص حقنا [361] للدماء.
و الوفاء بالنذر تعريضا [362] للمغفره.
و توفيقه المكاييل [363] و الموازين تغييرا للبخس.
و النهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس.
و اجتناب القذف حجابا عن اللعنه.
و ترك السرقه ايجابا للعفه.
و حرم الشرك اخلاصا له بالربوبيه.
فاتقوا الله حق تقاته، و لا تموتن الا و أنتم مسلمون، و أطيعوا الله فيما أمركم به و نهاكم عنه، فانه انما يخشي الله من عباده العلماء.
[ صفحه 288]
ثم قالت: أيها الناس! اعلموا أني فاطمه! و أبي محمد (صلي الله عليه و آله) أقول عودا و بدءا [364] ، و لا
أقول ما اقول غلطا، و لا أفعل ما أفعل شططا [365] :
(لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [366] ، فان تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم [367] ، و أخا ابن دون رجالكم و لنعم المعزي اليه [368] (صلي الله عليه و آله) فبلغ بالرساله، صادعا بالنذاره [369] ، مائلا علي مدرجه المشركين [370] ، ضاربا ثبجهم [371] ، آخذا بأكظامهم [372] ، داعيا الي سبيل ربه بالحكمه و الموعظه الحسنه، يكسر الأصنام، و ينكت الهام [373] ، حتي انهزم الجمع و لوا الدبر، حتي تفري الليل عن صبحه [374] و أسفر الحق عن محضه [375] و نطق زعيم الدين و خرست شقاشق الشيطاطين [376] ، و طاح و شيظ النفاق [377] ، و انحلت عقد الكفر
[ صفحه 289]
و الشقاق [378] ، و فهتم بكلمه الاخلاص [379] ، في نفر من البيض الخماص [380] .
و كنتم علي شفا حفره من النار [381] ، مذقه الشارب [382] ، و نهزه الطامع [383] ، و قبسه العجلان [384] ، و موطي الأقدام، تشربون الطرق [385] ، و تقتاتون القد و الورق [386] ، أذله خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تعالي بمحمد (صلي الله عليه و آله) بعد اللتيا و التي.
و بعد أن مني ببهم الرجال [387] ، و ذؤبان العرب، و مرده أهل الكتاب [388] ، كلما أوقدا نارا للحرب أطفألها الله أو نجم [389] قرن للشيطان أو فغرت [390] فاغره من المشركين، قذف أخاه في لهواتها [391] فلا ينكفي حتي يطأ صماخمها بأخمصه [392] ،
و يخمد لهبها بسيفه [393] مكدودا في ذات الله [394] ، مجتهدا في أمر الله قريبا من رسول
[ صفحه 290]
الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا [395] .
و أنتم في رفاهيه من العيش، و ادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، و تتوكفون الأخبار، و تنكصون عند النزال، و تفرون من القتال.
فلما اختار الله لنبيه (صلي الله عليه و آله) دار أنبيائه و مأوي أصفيائه، ظهر فيكم حسكه النفاق [396] ، و سمل جلباب الدين [397] ، و نطق كاظم الغاوين [398] ، و نبغ خامل الأقلين [399] ، فخطر في عرصاتكم [400] ، و أطلع الشيطان رأسه من مغزره [401] هاتفا بكم. فألفاكم لدعوته مستجيبين، و للغره فيه ملاحظين [402] . ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، و أحمشكم فألفاكم غضبا [403] . فوستمتم غير ابلكم [404] ، و أوردتم غير شربكم [405] .
هذا و العهد لقريب، و الكلم رحيب [406] ، و الجرح لما يندمل [407] ، و الرسول لما يقبر [408] .
[ صفحه 291]
ابتدارا زعمتم خوف الفتنه [409] ، ألا في الفتنه سقطوا و ان جهنم لمحيطه بالكافرين.
فهيهات منكم! و كيف بكم؟ و أني تؤفكون [410] ، و كتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهره، و أحكامه زاهره، و أعلامه باهره، و زواجره لائحه، و أوامره واضحه، و قد خلفتموه وراء ظهوركم أرغبه عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا. (و من يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه هو في الآخره من الخاسرين.
ثم لم تلبثوا الا ريث أن تسكن نفرتها [411] ، و يسليس قيادها [412] .
ثم أخذتم تورون و قدتها، و تهيجون جمرتها [413] ، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، و اطفاء أنوار الدين الجلي، و اخماد سنن النبي الصفي، تسرون حسوا في ارتغاء [414] ، تمشون لأهله و ولده في الخمر و الضراء [415] ، و نصبر منكم علي مثل حز المدي [416] ، و وخز السنان في الحشي [417] .
و أنتم- الآن- تزعمون أن لا ارث لنا أفحكم الجاهليه يبغون؟ و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلي تجلي لكم كالشمس الضاحيه أني ابنته.
أيها المسلمون! أأغلب علي ارثي.
[ صفحه 292]
ثم التفتت الي الحاكم أبي بكر و قالت: يا ابن أبي قحافه! أفي كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟؟ لقد جئت شيئا فريا [418] !! أفعلي عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم؟ اذ يقول:
(و ورث سليمان داود) [419] .
و قال- فيما اقتص من خبر زكريا- اذ قال:
(فهب لي لدنك وليا يرثني و يرث من آل يعقوب) [420] .
و قال:
(و أولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله) [421] .
و قال:
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) [422] .
و قال:
(ان ترك خيرا الوصيه للوالدين و الأقربين بالمعروف حقا علي المتقين) [423] .
و زعمتم أن لا حظوه لي [424] ! و لا ارث من ابي! أفخصكم الله بآيه أخرج أبي منها؟ أم تقولون: ان أهل ملتين لا يتوارثان؟
أو لست أنا و أبي من أهل مله واحده؟
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي؟
[ صفحه 293]
فدونكها مخطومه
مرحوله [425] . تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله، و الزعيم محمد، و الموعد القيامه، و عند الساعه يخسر المبطلون.
و لا ينفعكم اذ تندمون، و لكل نبأ مستقر، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، و يحل عليه عذاب مقيم.
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت:
يا معشر النقيبه، و أعضاد المله، و حضنه الاسلام [426] . ما هذه الغميزه في حقي [427] ؟ و السنه عن ظلامتي؟
أما كان رسول الله صلي الله (عليه و آله) أبي يقول:
«المرء يحفظ في ولده؟».
سرعان ما أحدثتم، و عجلان ذا اهاله، و لكم طاقه بما أحاول، و قوه علي ما أطلب و أزاول [428] .
أتقولون: مات محمد (صلي الله عليه و آله)، فخطب جليل استوسع وهنه [429] و استنهر فتقه [430] ، و انفتق رتقه، و اظلمت الأرض لغيبه، و كسفت النجوم لمصيبته، و أكدت الآمال [431] ، و خشعت الجبال، و اضيع الحريم [432] ، و أزيلت الحرمه عند مماته، فتلك- والله- النازله الكبري [433] ، و المصيبه العظمي،
[ صفحه 294]
لا مثلها نازله، و لا بائقه عاجله [434] أعلن بها كتاب الله- جل ثناؤه- في أفنيتكم [435] في ممساكم و مصبحكم هتافا و صراخا و تلاوه و ألحانا ما حل بأنبيائه و رسله حكم فصل، و قضاء حتم.
(و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم و من ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين) (سوره آل عمران: 144).
ثم التفتت الي الأنصار و قالت:
ايها بني قيله [436] ! أأهضم تراث أبي؟ و أنتم مني و
مسمع و منتدي و مجمع [437] تلبسكم الدعوه، و تشملكم الخبره [438] ، و أنتم ذوا العدد و العده، و الأداه و القوه و عندكم السلاح و الجنه توافيكم الدعوه فلا تجيبون؟ و تأتيكم الصرخه فلا تعينون؟ و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير و الصلاح، و النخبه التي انتخبت، و الخيره التي اختيرت [439] لنا أهل البيت.
قاتلتم العرب، و تحملتم الكد و التعب [440] ، و ناطحتم الأمم، و كافحتم البهم [441] ، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون حتي اذا دارت بنا رحي الاسلام و در حلب الأيام [442] ، و خضعت ثغره الشرك، و سكنت فوره الافلاك [443] ، و خمدت
[ صفحه 295]
نيران الكفر [444] ، و هدأت دعوه الهرج، استوسق نظام الدين، فأني حرتم بعد البيان [445] ؟ و أسررتم بعد الاعلان؟ و نكصتم بعد الاقدام؟ [446] و أشركتم بعد الايمان؟
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا باخراج الرسول، و هم بدؤوكم أول مره،أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه ان كنتم مؤمنين [447] .
ألا: و قد أري أن قد أخلدتم الي الخفض [448] ، و أبعدتم من هو أحق بالبسط و القبض، و خلوتم الي الدعه [449] ، و نجوتم من الضيق بالسعه [450] ، فمججتم ما وعيتم [451] ، و دسغتم الذي تسوغتم [452] فان تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا فان الله لغني حميد.
ألا و قد قلت ما قلت علي معرفه مني بالخذله التي خامرتكم [453] و الغدره التي استشعرتها قلوبكم [454] ، و لكنها فيضه النفس [455] ، و نفثه الغيظ [456] ، و خور القنا [457] ، و بثه
الصدر، و تقدمه الحجه.
[ صفحه 296]
فدونكموها، فاحتقبوها دبره الظهر [458] نقبه الخف [459] باقبه العار موسومه بغضب الله و شنار الأبد [460] موصوله بنار الله الموقده التي تطلع علي الأفئده.
فبعين الله ما تفعلون. (و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، و أنا ابنه نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا اما عاملون، و انتظروا اما منتظرون».
[ صفحه 297]
أنهت الزهراء (عليهاالسلام) خطابها الناري، الذي ألقته بشجاعه أمام الآلاف و بحضور أبي بكر. و استجوبت الخليفه، و فضحت مخططاته بالأدله و البراهين الساطعه المحكمه، و ذكرت فضائل الخليفه الحقيقي في الاسلام و كمالاته المطلوبه، فتوتر الجو و انساق الرأي العام لصالح الزهراء (عليهاالسلام)، و جعلت أبابكر في زاويه حرجه و أمام طريق مسدود. فاذا انساق مع الرأي العام و أرجع فدكا للزهراء (عليهاالسلام) فهذا يعني أن الخليفه صدقها في هذه القضيه أي انها انتصرت في هذه الجوله و حينئذ سوف تبدأ بالجوله الثانيه تطالب فيها بحق زوجها في الخلافه.
يقول ابن أبي الحديد: سألت ابن الغارقي مدرس المدرسه الغريبه ببغداد، و قلت له: أكانت فاطمه صادقه؟
قال: نعم.
قلت: فلم لم يدفع اليها أبوبكر فدكا و هي عنده صادقه؟
فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا قال: لو أعطاها اليوم فدكا لمجرد دعواها، لجاءت اليه غدا وادعت لزوجها الخلافه و زحزحته عن مقامه، و لم يمكن الاعتذار و الموافقه، لانه يكون قد سجل علي نفسه أنها صادقه فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجه الي بينه و شهود [461] .
ثم ان تصديقه لفاطمه يعني اعترافه بخطئه و اشتباهه، و بذلك يفتح باب الاعتراض عليه من قبل
المسلمين مما يشكل خطرا علي جهاز الخلافه الحاكم ابان حكمه.
و لكن أبابكر لم يول هاربا من الميدان بهذه السرعه، فقد حسب لهذه
[ صفحه 298]
الاحداث حسابا، و فكر و قدر، و هو يعلم بعجزه أمام حجه الزهراء (عليهاالسلام) و لا يستطيع مقابلتها بخشونه و قوه ما دام الرأي العام لصالحها. و يجب عليه أن يجيب علي الاسئله التي وجهتها له ليستميل الرأي العام، و يخدر الضمائر و يمتص النقمه. فالأفضل له أن يستفيذ من نفس السلاح الذي استخدمه سابقا في تضليل الناس، و التظاهر بالدفاع عن حمي الدين و أحكامه و سنه الرسول (صلي الله عليه و آله) و يقول: انه يعمل بما أنزله الله و هو بري ء مما يرمي به. و بتقمص لباس الدين يمكن أن يخدع الجمهور، و يلبس الحق بالباطل، و يدحض كل دعدي متي لو كانت هي الدين نفسه.
[ صفحه 299]
لجأ أبوبكر الي اسلوب التضليل و الاستغفال فقال:
يا بنت رسول الله! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رؤوفا رحيما علي الكافرين عذابا أليما و عقابا عظيما، ان عزوناه وجدناه أباك دون النساء [462] ، و أخا الفك دون الأخلاء [463] آثره علي كل حميم [464] و ساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم الا كل سعيد، و لا يبغضكم الا كل شقي، فأنتم عتره رسول الله الطيبون، و الخيره المنتجبون، علي الخير أدلتنا، و الي الجنه مسالكنا.
و أنت يا خيره النساء، و ابنه خير الأنبياء صادقه في قولك سابقه في وفور عقلك، غير مردوده عن حقك، و لا مصدوده عن صدقك [465] .
والله ما عدوت رأي رسول الله [466] !!
و لا عملت الا باذنه و ان الرائد لا يكذهب أهله [467] .
و اني اشهد الله و كفب به شهيدا. أني سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول:
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضه و لا دارا و لا عقارا و انما نورث الكتاب و الحكمه، و العلم و النبوه، و ما كان لنا من طعمه فلولي الأمر بعدنا، أن يحكم فيه بحكمه».
و قد جعلنا ما حاولته في الكراع و السلاح [468] يقاتل بها المسلمون و يجاهدون
[ صفحه 300]
الكفار و يجادلون المرده الفجار [469] ذلك باجماع من المسلمين!! لم أنفرد به وحدي، و لم استبد بما كان الرأي فيه عندي [470] .
و هذا حالي و مالي هي لك، و بين يديك، لا تزوي عنك [471] ، و لا تدخر دونك أنت سيده أمه أبيك، و الشجره الطيبه لبنيك لا يدفع مالك من فضلك، و لا يوضع في فرعك و أصلك حكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك (صلي الله عليه و آله) [472] ؟
فقالت (عليهاالسلام):
«سبحان الله ما كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) عن كتاب الله صادفا، و لا لأ حكامه مخالفا بل كان يتبع أثره و يقفو سوره أفتجمعون الي الغدر اعتلالا عليه بالزور، و هذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته.هذا كتاب الله حكما عدلا، و ناطقا فصلا يقول: (يرثني و يرث من آل يعقوب).
و يقول: (و ورث سليمان داود).
فبين (عز و جل) فيما وزع عليه من الأقساط، و شرع من الفرائض و الميراث، و أباح من
حظ الذاكران و الاناث ما أزاح عله المبطلين، و أزال التظني و الشبهات في الغابرين كلا، بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل، والله المستعان علي ما تصفون».
[ صفحه 301]
فقال أبوبكر:
صدق الله و صدق رسوله صدقت ابتنه أنت و معدن الحكمه، و موطن الهدي و الرحمه،و ركن الدين و عين الحجه لا أبعد صوابك، و لا أنكر خطابك هؤلاء المسلمون بيني و بينك قلدوني ما تقلدت، و باتفاق منهم أخدت ما أخذت غير مكابر و لا مستبد، و لا مستأثر، و هم بذلك شهود.
و هكذا استطاع أبوبكر من اخماد العواطف، و حرف الرأي العام نحوه، من خلال التضليل و التظاهر بالصلاح.
[ صفحه 302]
فالتفتت فاطمه (عليهاالسلام) الي الناس و قالت:
«معاشر الناس المسرعه الي قيل الباطل المغضيه [473] علي الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها؟ كلا، بل ران علي قلوبكم ما أساتم من أعمالكم فأخذ بسمعكم و أبصاركم و لبئس ما تأولتم و ساء ما به أشرتم و شر ما منه اعتضتم [474] لتجدن- والله- محلمه ثقيلا، و غبه و بيلا [475] اذا كشف لكم الغطاء و بان ما وراءه الضراء، و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، و خسر هنالك المطلبون».
و لقد أجاد العلامه المحقق الخطيب السيد القزويني في تحليل فصول و كلمات خطبه السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، في كتابه- فاطمه الزهراء من المهد الي اللحد- فراجع من ص 335 الي ص 480.
[ صفحه 303]
اضطراب المجلس، و تفرق الناس، و ارتفعت الضجه،و اصبحت خطبه الزهراء (عليهاالسلام) حديث الساعه، فلجأ أبوبكر الي التهديد و الوعيد.
قالوا: لم ير باك و باكيه كان أكثر من ذلك اليوم، ارتجت المدينه و هاج الناس و ارتفعت الأصوات، فلما بلغ ذلك أبابكر قال لعمر: تربت يداك ما كان عليك لو تركتني، فربما مات الخرق و رتقت الفتق. ألم يكن ذلك بنا أحق.
فقال الرجل: قد كان في ذلك تضعيف سلطانك، و توهين كافتك، و ما أشفقت الا عليك.
قال: ويلك فكيف بابنه محمد، و قد علم الناس ما تدعو اليه، و ما نحن من الغدر عليه.
فقال: هل هي الا غمزه انجلت، و ساعه انقضت، و كأن ما قد كان لم يكن.
ما قد مضي مما مضي كما مضي
و ما مضي مما مضي قد انقضي
أقم الصلاه و آت الزكاه، و أمر بالمعروف، و أنه عن المنكر، و وفر الفي ء وصل القرابه فان الله يقول: (ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكر للذاكرين) ذنب واحد في حسنات كثيره. قلدني ما يكون من ذلك.
فضرب بيده علي كتف عمر و قال: رب كربه فرجتها يا عمر.
ثم نادي الصلاه جامعه، فاجتمع الناس [476] .
قال ابن أبي الحديد في شرحه علي نهج البلاغه: لما سمع أبوبكر خطبتها المذكوره و ما وقع بين الناس من الاختلاف و الهمهمه في سوء تلك المقدمه و خاف أن تنعكس القضيه شق عليه ذلك فصعد المنبر فقال:
[ صفحه 304]
أيها الناس! ما هذه الرعه الي كل قاله؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله؟ ألا! من سمع فليقل، و من شهد فليتكلم، انما هو ثعاله شهيده ذنبه مرب لكل فتنه هو الذي يقول: كروها جذعه بعد هرمت يستعينون بالضعفه و يستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها اليها البغي ألا اني لو أشاء لقلت، و لو قلت لبحت، اني ساكت ما تركت.
ثم التفت الي الأنصار فقال: يا معشر الأنصار قد بلغني مقاله سفهائكم و أحق من لزم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فآويتم و نصرتم، ألا اني لست باسطا يدا و لسانا علي من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل.
ثم قال ابن ابي الحديد: قرأت هذا الكلام علي النقيب أبي يحيي جعفر ابن يحيي بن أبي زيد الصبري و قلت له: بمن يعترض؟ فقال بل يصرح. قلت لو صرح لم أسألك. فضحك فقال: لعلي بن أبي طالب!! قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله؟ قال: نعم انه الملك يا بني. قلت: فما مقاله الأنصار؟ قال: هتفوا بقول علي، فخاف
من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم فسألته عن غريبه (أي شرح الكلمات) فقال: أما الرعه- بالتخفيف- أي الاستماع و الاصغاء، و القاله: القول. و ثعال: اسم الثعلب، مثل ذؤاله للذئب. و شهيده ذنبه: أي لا شاهد له علي ما يدعيه الا بعضه و جزء منه، و أصله مثل: قالوا: ان الثعلب أراده أن يغري الأسد بالذئب فقال له: انه قد أكل الشاه التي كنت أعددتها لنفسك، و كنت حاضرا. قال: فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه و عليه دم.
و كان الأسد قد افتقد الشاه، فقبل شهادته، و قتل الذئب. و (مرب): ملازم من ارب بالمكان و (كروها جذعه): أعيدوها الي الحال الأولي يعني الفتنه و الهرج و (ام طحال) امرأه بغي في الجاهليه يضرب بها المثل، فيقال: أزني من ام طحال.
نحن لا نقول شيئا علي هذه الكلامات التي استعلها أبوبكر في آل رسول الله (صلي الله عليه و آله) و عترته الطاهره الذين أذهب الله عنهم الرجس
[ صفحه 305]
و طهرهم تطهيرا، و لا نعاتبه علي أدبه في الكلام!، و لكن نقول: قرت عينك- يا رسول الله- فهكذا يقال في حق ابنتك و عزيزتك و حبيبتك فاطمه الزهراء و هكذا يقال في حق أخيك أميرالمومنين علي بن أبي طالب و كل هذا علي منبرك و في مسجدك و في جوار مرقدك، قرت عيناك يا أبافاطمه الزهراء و بشراك بل بشريان!! فهذه كرامه أهل بيتك، و عترتك عند أبي بكر و أشباعه! و هذا المنطق صادر ممن يدعي و يزعم انه خليفه الوحي و رسوله.
دفاع ام سلمه:
و في الدر النظيم للشيخ جمال الدين الشامي قال- بعد خطبه فاطمه (عليهاالسلام) في المسجد و كلام أبي بكر- فقالت ام سلمه
(رضي الله عنها) حين سمعت ما جري لفاطمه (عليهاالسلام): ألمثل فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقال هذا القول؟ هي والله الحوراء بين الانس، و النفس للنفس، ربيت في حجور الأتقياء، و تناولتها أيدي الملائكه، و نمت في حجور الطاهزات، و نشأت خيره نشأه، و ربيت خير مربي، أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه و لم يعلمها؟ و قد قال الله تعالي: (و انذر عشيرتك الأقربين) أفأنذرها و خالفت متطلبه؟
و هي خيره النسوان وام ساده الشبان، و عديله مريم، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، و يوسدها يمينه و يلحفها بشماله،رويدا و رسول الله (صلي الله عليه و آله) بمرآي منكم، و علي الله تردون واها لكم، فسوف تعلمون.
قال فحرمت عطاءها تلك السنه [477] .
لقد أتمت السيده فاطمه الحجه علي الجميع، و أدت ما عليها من الواجبات، و سجلت آلامها في سجل التاريخ.
[ صفحه 306]
ففي الكافي [478] : محمد بن المفضل قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: «جاءت فاطمه (عليهاالسلام) الي ساريه في المسجد و هي تقول و تخاطب أباها النبي (صلي الله عليه و آله):
قد كان بعدك أنباء و هنبثه [479]
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب [480] .
انا فقدناك فقد الأرض و ابلها [481]
و اختل قومك فأشهدهم و قد نكبوا [482] .
و كل أهل له قربي و منزله
عند الاله علي الأدنين مقترب
أبدت رجال لنا نجوي صدورهم [483]
لما مضيت و حالت دونك الترب
تجهمتنا رجال و استخف بنا
لما فقدت، و كل الارث مغتصب [484] .
و كنت بدرا و نورا يستضاء به
عليك تنزل من ذي العزه الكتب
و كان جبريل بالايات يؤنسنا
فقد فقدت، فكل الخير محتجب
فليت قبلك كان الموت صادفنا
لما مضيت و حالت دونك الكثب [485] .
انا رزينا لما لم يرز ذو شجن [486]
من البريه لا عجم و لا عرب»
و في ناسخ التواريخ زياده هذه الأبيات:
سيعلم المتولي ظلم حامتنا
يوم القيمه اني سوف ينقلب
و سوف نبكيك ما عشنا و ما بقيت
له العيون بتهمال له سكب
و قد رزينا به محضا خليفته
صافي الضرائب و الاعراق و النسب
[ صفحه 307]
فأنت خير عباد الله كلهم
و اصدق الناس حين الصدق و الكذب
و كان جبريل روح القدس زائرنا
فغاب عنا فكل الخير محتجب
ضاقت علي بلاد بعدما رحبت
وسيم سبطاك خسفا فيه لي نصب
و في كشف الغمه و غيره: ثم عطفت علي قبر رسول الله (صلي الله عليه و آله) فتمثلت بقول هند بنت أثاثه:
قد كان بعدك..... الخ
و قيل هذه الأبيات لهند بنت أبان بن عبدالمطلب تمثلت بها السيده فاطمه، و علي كل فقد ألقت السيده فاطمه نفسها علي قبر أبيها و هي تنشد هذه الأبيات.
و في كشف الغمه: فما رأينا أكثر باك و لا باكيه من ذلك اليوم.
و هذه الابيات بالمناسبه من قصيده الشيخ كاظم الأزري:
تركوا عهد أحمد في أخيه
و أذاقوا البتول ما أشجاها
و هي العروه التي ليس ينجو
غير مستعصم بحبل
و لاها
لم ير الله للرساله أجرا
غير حفظ الزهراء في قرباها
يوم جاءت بيا للمصاب اليهم
و من الوجد ما أطال بكاها
فدعت و اشتكت الي الله شكوي
و الرواسي تهتز من شكواها
[ صفحه 308]
ثم انكفأت (عليهاالسلام) [487] راجعه الي الدار و أميرالمؤمنين (عليه السلام) يتوقع رجوعها الي [488] و يتطلع طلوعها اليه.
فلما استقرت بها الدار قالت لأميرمؤمنين (عليه السلام):
«يا بن أبي طالب! اشتملت شمله الجنين [489] و قعدت حجره الظنين [490] نقضت قادمه الأجدل [491] فخانك ريش الأعزل [492] . هذا ابن أبي قحافه يبتزني نحله أبي [493] ، و بلغه ابني [494] لقد أجهر في خصامي [495] ، و ألفيته الألد في كلامي [496] حتي حبستني قيله نصرها [497] ، و المهاجره وصلها [498] ، و غضت الجماعه دوني طرفها فلا دافع و لا مانع خرجت كاظمه، وعدت راغمه [499] أضرعت خدك يوم أضعت
[ صفحه 309]
حدك [500] افترست الذئاب و افترشت التراب ما كففت قائلا، و لا أغنيت باطلا [501] ، و لا خيار لي [502] ليتني مت قبل هينتي [503] ، و دون ذلتي عذيري الله منك عاديا و منك حاميا و يلاي في كل شارق مات العمد و وهن العضد شكواي الي أبي و عدواي الي ربي. اللهم أنت أشد قوه و حولا، و أحد بأسا و تنكيلا».
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام):
«لا ويل عليك الويل لشانئك نهنهي عن وجدك يا بنت الصفوه [504] ، و بقيه النبوه فما و نيت عن ديني [505] ، و لا أخطاك مقدوري فان كنت تريدين البلغه فرزقك مضمون
[506] ، و كيفيلك مأمون، و ما أعد لك خير مما قطع عنك فاحتسبي الله».
فقالت: «حسبي الله». و أمسكت.
[ صفحه 310]
كان الامام أميرالمؤمنين (عليه السلام) يسير علي خطه حكميه تتفق مع العقل و المنطق و الدين، و ينتهز الفرص لاحقاق حقه و اثبات مظلوميه و اتمام الحجه علي ذلك المجتمع، بل و تسجيلها في سجل التاريخ، كي يعلم ذلك الشعوب التي جاءت بعد ذلك اليوم و الي يومنا هذا و الي ماشاءالله.
من الصحيح أن نقول: ان الامام عليا (عليه السلام) كان يري لزاما عليه أن يتم الحجه علي الناس، و يبين لهم ان الخلافه من حقه الذي جعله الله و رسوله له، و حتي اذا كان عالما أن الناس لا يتجاوبون معه، و هكذا يبين لهم أن فدكا من حق السيده فاطمه الزهراء فهو (شرعا) خليفه رسول الله (صلي الله عليه و آله) سواء قام بالأمر أم لم يقم و سواء أذعن له الناس أم لم يذعنوا، و سواء خضع له المجتمع أم لم يخضع و هكذا ان فدكا ملك للسيده الزهراء سواء أعطوها حقها أم لا.
و السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) لها المكانه المرموقه و الشخصيه المشهوره في ذلك المجتمع، فلا بأس أن السيده الزهراء تتكلف و تتجشم تأييد زوجها في اثبات الحق و الحقيقه و المطالبه بحقها، فلا عجب اذا كانت ترافق زوجها العظيم، و ولديها: سيدي شباب أهل الجنه، و تستنجد بالصحابه لئلا يكون للناس علي الله بعد ذلك حجه، لئلا يقولوا: كنا غافلين ناسين أو جاهلين. و لماذا ما جاءنا علي ليذكرنا، ليخبرنا، ليعرفنا الحق و الحقيقه؟
و لهذا كان علي (عليه السلام) يحمل السيده فاطمه الزهراء
علي أتان [507] ، فيدور بها أربعين صباحا علي بيوت المهاجرين و الأنصار، و الحسن و الحسين معها، و هي تقول:
[ صفحه 311]
«يا معشر المهاجرين و الأنصار. انصروا الله و ابنه نبيكم، و قد بايعتم رسول الله يوم بايعتموه أن تمنعوه و ذريته مما تمنعون منه أنفسكم و ذراريكم.
ففوا لرسول الله ببيعتكم».
فما أعانها أحد، و لا أجابها و لا نصرها.
فانتهت الي معاذ بن جبل فقالت: «يا معاذ بن جبل! اني قد جئتك مستنصره، و قد بايعت رسول الله علي أن تنصره و ذريته، و تمنعه مما تمنع منه نفسك و ذريتك، و ان أبابكر قد غصبي علي فدك، و أخرج وكيلي منها».
قال: فمعي غيري؟
قالت: «لا، ما أجابني أحد».
قال: فأين أبلغ أنا من نصرك؟
خرجت السيده من دار معاذ و هي تقول له: «والله لا أنازعنك الفصيح من رأسي حتي أرد علي رسول الله».
و دخل ابن معاذ فقال لأبيه: ما جاء بابنه محمد اليك؟
قال: جاءت تطلب نصرني علي أبي بكر، فانه أخذ منها فدكا.
قال: فما أجبتها؟
قال: قلت: و ما ببلغ من نصرتي أنا وحدي؟
قال: فأبيت أن تنصرها؟
قال: نعم!!
قال: فأي شي ء قالت لك؟
قال: قالت لي: «والله لا أناز عنك الفصيح من رأسي حتي أرد علي رسول الله».
فقال: أنا والله لا أناز عنك الفصيح من رأسي حتي أرد علي رسول الله.
و ذكر ابن قتيبه الدينوري في (الامامه و السياسه) ص 19: قال: و خرج علي (كرم الله وجهه) يحمل فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) علي
[ صفحه 312]
دابه ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصره، فكانوا يقولون يا
بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، و لو أن زوجك و ابن عمك سبق اليا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول علي (كرم الله وجهه) أفكنت أدع رسول الله (صلي الله عليه و آله) في بيته لم أدفنه و أخرج انازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمه: «ما صنع أبوالحسن الا ما كان ينبغي له، و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم».
[ صفحه 313]
لم يستسلم أبوبكر لفاطمه (عليهاالسلام) و قاوم جهادها المستمر، و أصر علي عناده، و لم يرجع اليها فدكا.
و كذلك فاطمه (عليهاالسلام) لم تهن و لم تنكل، فاستطاعت تمزيق القناع عن وجه الجهاز الحاكم و كشف ظلمه و جوره، و اثبات حقها و مظلوميتها، و عرف العالم كله ذلك، فبقيت فدك شجي في حلوق الظالمين، و بركانا يهددهم بالأنفجار في كل حين، و يهز أركان حكمهم بعنف و أكبر وسيله اعلاميه ضدهم، فكانوا اذا أرادوا كسب رضا العلويين أعادوها اليهم، و اذا ما نقموا منهم سلبوها منهم.
فلما ولي الأمر معاويه أقطع مروان بن الحكم ثلثها، و أقطع عمر بن عثمان بن عفان ثلثها، و أقطع يزيد بن معاويه ثلثها، فلم يزالوا يتداولونها حتي خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبدالعزيز ابنه، فوهبها عبدالعزيز لابنه عمر بن عبدالعزيز، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافه ردها الي الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
و قيل: بل ردها الي علي بن الحسين (عليه السلام).
و كانت بيد أبناء فاطمه (عليهاالسلام) مده ولايه عمر بن عبدالعزيز.
فلما ولي يزيد بن عاتكه قبضها منهم، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت، يتداولونها حتي انتقلت الخلافه عنهم.
فلما ولي أبوالعباس
السفاح علي عبدالله بن الحسن بن الحسن، ثم قبضها أبوجعفر لما غضب علي ولد الحسن، ثم ردها المهدي- ابنه- علي ولد فاطمه (عليها السلام).
ثم قبضها موسي بن المهدي و هارون أخوه، فلم تزل في أيديهم حتي ولي المأمون فردها علي الفاطميين، ففي ذات يوم جلس المأمون للمظالم فأول
[ صفحه 314]
رقعه وقعت في يده نظر فيها و بكي و قال للذي علي رأسه: ناد أين وكيل فاطمه، فقام شيخ فتقدم فجعل يناظره في فدك و المأمون يحتج و هو يحتج علي المامون،ثم أمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل و قري فأنفذه.
فلم تزل في أيديهم حتي كان في أيام المتوكل فأقطعها عبدالله بن عمر البازيار، و كان فيها احدي عشره نخله غرسها رسول الله (صلي الله عليه و آله) بيده، فكان بنو فاطمه يأخذون ثمرها فاذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر،فيصلونهم، فيصير لهم من ذلك مال جزيل جليل، فصرم عبدالله عمر البازيار ذلك التمر، و وجه رجلا يقال له (بشران بن اميه الثقفي) الي المدينه فصرمه ثم عاد الي البصره ففلج [508] .
[ صفحه 315]
لم تبق الزهراء (عليهاالسلام) بعد أبيها سوي شهور- أو أيام- معدوده قضتها بالبكاء و النجيب و الأنين، حتي عدت من البكائين، و لم تر ضاحكه قط [509] .
و كان لبكائها اسباب و دوافع كثيره، أهمها انحراف المسلمين عن الطريق المستقيم، و انزلاقهم في مهاو تؤدي الي الاختلاف و الفرقه و التشتت و التعاسه لا محاله. و فقدانها أبيها، و غضب الخلاقه و الاحداث التي آلت اليها.
ففي ذات يوم دخلت ام سلمه علي فاطمه (عليهاالسلام) فقالت لها: كيف
أصبحت عن ليلتك، يا بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله)؟
قالت: «أصبحت بين كمد و كرب، فقد النبي (صلي الله عليه و آله)، و ظلم الوصي (عليه السلام)، هتك والله حجاب من أصبحت امامته مقبضه علي غير ما شرع الله في التنزيل، و سنها النبي (صلي الله عليه و آله) في التأويل، و لكنها أحقاد بدريه و ترات احديه» [510] .
و عن علي (عليه السلام) قال: «غسلت النبي (صلي الله عليه و آله) في قميصه، فكانت فاطمه تقول: أرني القميص، فاذا شمته غشي عليها، فلما رأيت ذلك غيبته» [511] .
وروي أنه لما قبض النبي (صلي الله عليه و آله) امتنع بلال من الأذان، قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و ان فاطمه (عليهاالسلام)قالت ذات يوم: اني أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي (صلي الله عليه
[ صفحه 316]
و اله) بلال، فبلغ ذلك بلالا، فأخذ في الأذان. فلما قال: الله أكبر، الله أكبر، ذكرت أباها و أيامه فلم تتمالك من البكاء، فلما بلغ الي قوله: أشهد أن محمدا رسول الله (صلي الله عليه و آله) شهقت فاطمه (عليهاالسلام) و سقطت لوجهها و غشي عليها.
فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال، فقد فارقت ابنه رسول الله (صلي الله عليه و آله) الدنيا، و ظنوا أنها قد ماتت، فقطع أذانه و لم يتمه، فأفاقت فاطمه (عليهاالسلام) و سألته أن يتم الأذان فلم يفعل، و قال لها: يا سيده النسوان، اني أخشي عليك، مما تنزلينه بنفسك اذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك [512] .
هكذا أخذت فاطمه (عليهاالسلام) بالبكاء و العويل ليلها و نهارها، و لا ترقأ لها دمعه حتي
جزع لذلك جيرانها، فاجتمع شيوخ أهل المدينه و أقبلوا الي أميرالمؤمنين (عليه السلام): و قالوا يا أباالحسن ان فاطمه نبكي الليل و النهار، فلا أحد منا يتهنا بالنوم في الليل علي فراشنا، و لا بالنهار لنا قرار علي أشغالنا و طلب معايشنا، و انا نخبرك أن تسألها اما أن تبكي ليلا أو نهارا.
فأقبل أميرالمؤمنين (عليه السلام) حتي دخل علي فاطمه (عليهاالسلام) فقال لها:
«يا بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) ان شيوخ المدينه يسألونني أن أسألك اما أن تبكي أباك ليلا و اما نهارا».
فقالت: «يا أباالحسن، ما أقل مكثي بينهم، و ما أقرب مغيبي من بين أظهرهم» [513] .
و لا أدري ما كان تأثير بكاء السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) علي
[ صفحه 317]
القوم و علي النفوس التي شعرت و أحست بوصمه العار و ثقل مسؤوليه ما أرتكبوه من وديعه رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و هل بكاء امرأه جالسه في بيتها يسلب راحه الحكام الي هذا الحد؟ و لكنهم أدركوا ان بكاءها، هو احتجاج صارخ علي ظلمها، و اغتصاب حق زوجها و ضربات تأنيت شديده علي رؤوسهم ربما تعيد الامه الي رشدها و تقيق من غفوتها، و بالتالي تثور علي الحكام و تقلعهم كما تقلع النخله من جذورها؟
و لكن- مع الأسف- السياسه الزمنيه فرضت عليهم ذلك، و يعلمون كل العلم بأن لها كل الحق ان لا تمتنع عن البكاء، علي من؟ علي فقدانها سيد البشر الرسول العظيم (صلي الله عليه و آله) و علي المصائب و الفواجع التي صبت عليها بعد فراقه، لاجل من تمتنع؟ لاجل حفنه حاكمه غاصبه، لاجل غايات و أهداف يريدون تمريرها علي الامه
لتثبيت عروشهم.
فاضطر أميرالمؤمنين (عليه السلام) بناء بيت خلف البقيع خارج المدينه و سماه «بيت الأحزان» و كان اذا أصبحت قدمت الحسن و الحسين (عليهماالسلام) أمامها، و خرجت اليه و هي تمر علي البقيع باكيه [514] ، فاذا جاء الليل أقبل أميرالمؤمنين (عليه السلام) اليها و رافقها الي منزلها.
عن أنس قال: لما فرغنا من دفن النبي (صلي الله عليه و آله) أتيت الي فاطمه (عليهاالسلام) فقالت: «كيف طاوعتكم أنفسكم علي أن تهيلوا التراب علي وجه رسول الله (صلي الله عليه و آله)» ثم بكت [515] .
و عن محمود بن لبيد قال: مررت علي قبور شهداء احد، و اذا بفاطمه تبكي عند قبر حمزه (رضي الله عنه)- و كانت تأتي قبره بعد رفاه أبيها- فصبرت حتي هدأت، فسلمت و قلت: يا سيدتي، لقد قطع بكاؤك نياط قلبي.
[ صفحه 318]
فقالت: «كيف لا أبكي و قد فقدت أبي خير الآباء و أفضل الأنبياء؟! ما أشوقني الي رسول الله (صلي الله عليه و آله)».
فقلت: يا سيدتي: أحب أن أسألك مسأله؟
فقالت: «سل».
فقلت: هل صرح النبي (صلي الله عليه و آله) بامامه علي (عليه السلام) في حياته؟
فقالت: «عجبا، أو نسيتم غدير خم؟».
فقلت: أعرف يوم الغدير، و لكني اريد أن أسمع ما قاله لكم في ذلك.
فقالت: «والله لقد سمعت النبي (صلي الله عليه و آله) يقول: علي خليفتي من بعدي و هو بعدي و هو الامام، و الحسن و الحسين امامان، و يكون من صلب الحسين (عليه السلام) تسعه أئمه من تبعهم اهتدي و نجي، و من خالفهم ضل و هوي» [516] .
أسفي علي تلك الذات الطاهره و علي شبابها الذابل بضعه المصطفي و روحه التي
بين جنبيه، و الشمعه التي تنطفي، و هي تنظر الي زوجها و ابن عمها العظيم، جليس الدار، و مسلوب الاراده و الامكانات، مغصوبا حقه، و مدفوعا عن منصبه الذي نصبه الله سبحانه و رسوله الكريم، و تنظر الي أملاكها التي صودرت و أموالها التي غصبت، و تنظر الي فلذاتها و أطفالها المفجوعين الذين لم تهدأ لهم حسره أو زفره، و لا تقر لهم دمعه، و هي أسيره الكرب و المرض و رهينه الفراش، تنتظر أمر ربها ساعه بهد ساعه فانا لله و انا اليه راجعون.
و قد تفجرت قرائح الشعراء لما ألم بهم الخطب و نظموا هذه المأساه في قصائد جزله عصماء سنوافيك بها في ما يأتي من فصول الكتاب ان شاءالله.
[ صفحه 321]
انتشر خبر مرض السيده فاطمه الزهراء في المدينه، و سمع الناس بانحراف صحتها،و لم تكن تشكو السيده فاطمه الزهراء من داء عضال، غير ما حدث لها بين الحائط و الباب من عصرها و كسر ضلعها و سقوط جنينها و لطمها علي خدها و غيرها.
كل هذه الأمور ساهمت في انحراف صحتها، و قعودها عن ممارسه أعمالها و كان زوجها العطوف هو الذي يتولي تمريضها، و تعينه علي ذلك أسماء بنت عميس [517] ، جاءت نسوه من أهل المدينه لعيادتها، و خطبت فيهن تلك الخطبه التي ستمر عليك، و أعادت النسوه كلامها علي رجالهن، فجاء الرجال يعتذرون، فما قبلت اعتذارهم، فقالت: «اليكم عني لا عذر بعد تعذير و لا أمر بعد تقصير».
ان الأمر لا ينتهي هنا، بل انتشر خبر استياء السيده فاطمه من السلطه، و نقمتها علي الذين آزروا تلك السلطه، و نبذوا وراءهم جميع المفاهيم و
القيم، و تناسوا كل آيه من القرآن نزلت في آل الرسول.
و أعرضوا عن كل حديث سمعوه من شفتي الرسول في حق السيده فاطمه الزهراء و زوجها و ولديها.
و أخيرا تولد شي ء من الوعي عند الناس، و عرفوا أنهم مخطئون في دعم السلطه الحاكمه التي لا تعترف بها أسره رسول الله (صلي الله عليه و آله) و لا العدل و لا المنطق.
تلك السلطه التي كان موقفها تجاه بنت الرسول موقفا غير حسن.
[ صفحه 322]
لا نعلم- بالضبط- السبب الحقيقي و الدافع الأصلي دعا بنساء المهاجرين و الأنصار لعياده السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام)، فهل كان ذلك بايعاز من رجالهن فما الذي دها أولئك الرجال لارسال نسائهم الي دار السيده فاطمه؟
أو هل حصل الوعي عند النساء و شعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج حضورهن للعياده و المجامله أو ارضاء لضمائرهن المتألمه مما حدث و جري علي سيده النساء؟؟
أو كانت هناك أسباب سياسيه فحضرن لتلطيف الجو و تخفيف توتر العلاقات بين السيده فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) و بين السلطه الحاكمه في ذلك اليوم؟
خاصه و ان الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيده فاطمه لنفسها، و انسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خاليا عن التأثير، بل كان جالبا لانتباه الناس، و بالأخص حين حمل الامام أميرالمؤمنين السيده فاطمه يطوف بها علي بيوت المهاجرين و الأنصار تستنجد بهم و تستنهضهم فلم تجد منهم الاسعاف بل وجدت منهم التخاذل، و قد مرت عليك نتيجه الحوار الذي جري بين السيده فاطمه الزهراء و بين معاذ بن جبل، و عرفت موقف ابنه في ذلك الرد السي ء.
و علي كل تقدير فلا يعلم- أيضا- عدد النساء اللاتي حضرن عند السيده فاطمه و هي طريحه الفراش، و لكن المستفاد أن العدد لم يكن قليلا بل كان العدد كثيرا يعبأ به.
[ صفحه 323]
قال سويد بن غفله:
لما مرضت فاطمه (عليهاالسلام) المرضه التي توفيت فيها اجتمع اليها نساء المهاجرين و الأنصار يعدنها.
فقلن لها: كيف أصبحت من علتك يا ابنه رسول الله؟
فحمدت الله، و صلت علي أبيها، ثم قالت:
«أصبحت- والله- عائفه لدنياكن [518] ، قاليه لرجالكن [519] لفظتهم بعد أن عجمتهم [520] و شنئتهم بعد أن سبرتهم [521] فقبحا لفلول الحد [522] ، و اللعب بعد الجد [523] ، و قرع الصفاه، و صدع القناه [524] ، و خطل الآراء، و زلل الأهواء [525] ، (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون) [526] لا جرم لقد قلدتهم ربقتها [527] ، و حملتهم أقتها [528] و شننت عليهم عارها [529]
[ صفحه 324]
فجدعا و عقرا و سحقا للقوم الظالمين [530] .
و يحهم! أني زحزحوها عن رواسي الرساله [531] ، و قواعد النبوه و الدلاله [532] و مهبط الروح الأمين [533] ، و الطبين بأمور الدنيا و الدين [534] ألا ذلك هو الخسران المبين.
و ما الذي نقموا من أبي الحسن [535] نقموا منه- والله- نكير سيفه [536] ، و قله مبالاته بحتفه [537] ، و شده و طأته و نكال وقعته [538] ، و تنمره في ذات الله عز و جل [539] ، والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله اليه لا عتلقه [540] ، و لسار
بهم سيرا سجحا [541] لا يكلم خشاشه [542] ، و لا يتعتع راكبه [543] ، و لأوردهم منهلا، صافيا رويا، فضفاضا تطفح ضفتاه، و لا يترفق جانباه [544] و لأصدرهم بطانا [545] و نصح
[ صفحه 325]
لهم سرا و اعلانا، و لم يكن يحلي من الغني بطائل [546] ، و لا يحظي من الدنيا بنائل [547] غير ري الناهل [548] ، و شبعه الكافل [549] ، و لبان لهم الزاهد من الراغب، و الصادق من الكاذب.
(و لو أن أهل القري آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) [550] .
(و الذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا و ما هم بمعجزين) [551] .
ألا: هلم و استمع، و ما عشت أراك الدهر عجبا!، و ان تعجب فعجب قولهم!!
ليت شعري الي أي سناد استندوا [552] ؟ و علي اي عماد اعتمدوا؟ و بايه عروه تمسكوا؟ و علي أيه ذريه أقدموا و احتنكوا [553] ؟ لبئس المولي و لبئس العشير.
و بئس للظالمين بدلا استبدلوا- والله- الذنابا بالقوادم [554] ، و العجز بالكاهل [555] .
فرغما لمعاطس القوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [556] ألا: انهم هم
[ صفحه 326]
المفسدون و لكن لا يشعرون.
و يحهم!! (أفمن يهدي الي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي الا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون) [557] ؟
أما: لعمري! لقد لقحت [558] فنظره ريثما تنتج [559] دما عبيطا [560] و ذعافا مبيدا [561] هنالك يخسر المطلبون، و يعرف التالون غب ما أسسه الأولون [562] .
ثم طيبوا عن دنياكم
أنفسا [563] ، و اطمانوا للفتنه جاشا [564] و أبشروا بسيف صارم و سطوه معتد غاشم [565] و هرج شامل [566] و استبداد من الظالمين [567] يدع فيئكم زهيدا [568] ، و جمعكم حصيدا [569] فيا حسره لكم [570] : و أني بكم [571] ؟ و قد عميت عليكم [572] . (أنلزمكموها و أنتم لها كارهون)؟؟».
[ صفحه 327]
قال سويد بن غفله: فأعادت النساء قولها علي رجالهن فجاء اليها قوم من وجوه المهاجرين و الأنصار معتذرين، و قالوا:
يا سيده النساء لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد [573] ، و نحكم العقد لما عدلنا الي غيره!!
فقالت: «اليكم عني! فلا عذر بعد تعذيركم، و لا أمر بعد تقصيركم» [574] .
استمع الي هذا الاعتذار الواهي و البعيد عن الواقع و المنطق، حتي لكأن الآيات القرآنيه لم تنزل علي النبي (صلي الله عليه و آله) و لم يبلغ بها امته- و العياذ بالله- و كأنهم صموا و لم يسمعوا النبي (صلي الله عليه و آله) يصرح في غير موضع و غير مره بولايه علي و وجوب طاعته، و كأن القرآن لم ينزل بقوله تعالي: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك...) الآيه.
و بقوله تعالي حينما كان علي (عليه السلام) يصلي فتصدق بخاتمه: (انما و ليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاه و يؤتون الزكاه و هم راكعون) (سوره المائده: 55).
و قوله تعالي: (في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال....) الآيات (سوره النور: 36).
و قوله تعالي: (فمن حاجك فيه من ما
جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم) (سوره آل عمران: 61).
و قوله تعالي: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا (سوره الأحزاب: 33).
[ صفحه 328]
و غيرها من الآيات الباهرات التي ذكرناها في كتابنا «علي في الكتاب و السنه».
و كأنهم لو يسمعوا النبي (صلي الله عليه و آله) و هو يقول- كما في حديث المنزله- «أما ترضي أن تكون مني بمنزله هارون من موسي الا أنه لا نبي بعدي».
و يقول في حديث الرايه: «لأعطين الرايه غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله، كرار غير فرار، حتي يفتح الله علي يديه قلاع خيبر».
و دعا (صلي الله عليه و آله) قائلا في حديث الطائر المشوي: «أللهم أئتني بأحب الخلق اليك يأكل معي».
كأن كل تكلم الآيات الباهره و الاحاديث الساطعه و البراهين الدامغه لم تبلغهم، فاستمع و ان عشت أراك الدهر عجبا. و لذلك ردتهم السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) بهذا الرد الدامغ.
أيها القاري الكريم! لقد قضينا معك برهه من الزمان في رحاب كلمات السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) التي خطبت بها في المسجد و في بيتها و في فراش العله و المرض، و قد تبين لك الكثير الكثير من الحقائق التي اشملت عليها خطب السيده الزهراء.
و قد ذكرنا لك بعض المصادر لخطبتها التي بها في المسجد، و لا بأس أن نذكر- هنا- بعض مصادر خطبتها التي خطبت بها للنساء:
1- معاني الأخبار للشيخ ابن بابويه المتوفي سنه (381 ه-) ينتهي سند الخطبه الي فاطمه بنت الحسين (عليهماالسلام).
2- و
يروي أيضا باسناده عن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) يروي عن أبيه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليهماالسلام).
[ صفحه 329]
3- الطبرسي في الاحتجاج عن سويد بن غفله كما تقدم الكلام في أول الخطبه.
4- أمالي الشيخ الطوسي يروي باسناده عن ابن عباس.
5- دلائل الامامه للطبري يروي باسناده عن الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليهماالسلام).
6- بلاغات النساء لأبي الفضل بن أبي طاهر يروي باسناده عن عطيه العوفي.
7- كشف الغمه للاربلي ص 147 يروي عن كتاب السقيفه لأحمد بن عبدالعزيز الجوهري.
8- ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغه يروي أيضا عن الجوهري.
9- أعلام النساء تأليف عمر رضا كحاله ج 4/ ص 123.
10- الشيخ المجلسي في الجزء العاشر من كتابه بحارالاأنوار.
[ صفحه 330]
كان الصاحبه رجالا و نساء يعودون فاطمه (عليهاالسلام) بين الحين و الحين، الا عمر و أبابكر لم يعوداها لأنها قاطعتهم و رفضتهم و لم تأذن لهم بعيادتها، و لما ثقل عليها المرض و قاربتها الوفاه لم يجدا بدا من عيادتها لئلا تموت بعضه المصطفي (صلي الله عليه و آله) و هي ساخطه عليهما علي رؤوس الأشهاد فتبقي و صمه العار تلاحق الخليفه و جهازه الحاكم الي يوم الدين.
و أرادوا تغطيه أعمالهم و استدراك ما فات، فقرروا أن يعودوا السيده فاطمه الزهراء لا سترضائها، و عند ذلك ينتهي كل شي ء، و تكون المأساه نسيا منسيا، هكذا تفكروا و تدبروا.
و لكن السيده الزهرا (عليهاالسلام) كانت تعرف هذه الأساليب، و تعلم كل هذه الامور، و اليك الواقعه كما ذكرها ابن قتيبه في (الامامه و السياسه ج 1ص 14)و (أعلام النساء 3 ص
314):
«ان عمر قال لأبي بكر: انطلق بنا الي فاطمه فانا قد أغضبناها فانطلقا جميعا، فأستأذنا علي فاطمه فلم تأذن لهما، فأتيا عليا فكلماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حولت وجهها الي الحائط فسلما عليها، فلم ترد- عليها- السلام، فتكلم أبوبكر فقال: يا حبيبه رسول الله! والله ان قرابه رسول الله أحب الي من قرابتي و انك لأحب الي من عائشه ابتني، و لوددت يوم مات أبوك أني مت و لا أبقي بعده، أقتراني أعرفك و أعرف فضلك و شرفك، و أمنعك حقك و ميراثك من رسول الله؟
الا أني سمعت أباك رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «لا نورث، ما تركناه فهو صدقه».
فقالت: «أرأيتكما ان حدثتكما عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) تعرفانه و تفعلان به؟».
[ صفحه 331]
فقالا: نعم.
فقالت: «نشدتكما الله: ألم تسمعا رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: رضا فاطمه مني رضاي، و سخط فاطمه من سخطي، فمن أحب فاطمه ابتني فقد أحبني، و من أرضي فاطمه فقد أرضاني، و من أسخط فاطمه فقد أسخطني؟».
قالا: نعم، و سمعناه من رسول الله (صلي الله عليه و آله).
قالت: فاني أشهد الله و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضيتماني، و لئن لقيت النبي (صلي الله عليه و آله) لأشكونكما اليه. فقال أبوبكر: أنا عائذ بالله تعالي من سخطه و من سخطك يا فاطمه. ثم انتحب أبوبكر يبكي، حتي كادت نفسه أن تزهق، و هي (فاطمه) تقول: «والله لأدعون عليكما في كل صلاه أصليها. ثم خرج باكيا، فاجمتع الناس اليه فقال لهم: يبيت كل رجل معانقا حليلته، مسرورا بأهله و تركتموني و ما أنا فيه، لا حاجه لي في بيعتكم،
أقيلوني بيعتي».
في علل الشرائع: لما مرضت فاطمه (عليهاالسلام) مرضها الذي ماتت فيه أتاها أبوبكر و عمر عائدين، و استأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما، فلما رأي ذلك أبوبكر أعطي الله عهدا أن لا يظله سقف بيت حتي يدخل علي فاطمه و يترضاها، فبات في البقيع، ما أظله شي ء، ثم ان عمر أتي عليا (عليه السلام) فقال له: قد أتيناها (فاطمه) غير هذه المره مرارا نريد الاذن عليها و هي تأبي أن تأذن لنا حتي ندخل عليها فنترضي، فان رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل.
قال: نعم، فدخل علي علي فاطمه فقال: «يا بنت رسول الله قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت، و قد ترددا مرارا كثيره ورددتيهما و لم تأذني لهما، و قد سألاني أن أستاذن لهما عليك».
[ صفحه 332]
فقالت: «والله لا اذن لهما. و لا اكلمهما كلمه من رأسي حتي ألقي أبي فأشكوهما اليه بما صنعاه و ارتكباه مني».
قال علي: «فاني ضمنت لهما ذلك».
قالت: «ان كنت قد ضمنت فالبيت بيتك، و النساء تتبع الرجال، لا أخالفك بشي ء، فاذن لمن أحببت».
فخرج علي فأذن لهما، فلما وقع بصرهما علي فاطمه سلما عليها، فلم ترد عليهما،و حولت وجهها عنهما، فتحولا و استقبلا وجهها حتي فعلت مرارا و قالت: «يا علي جاف الثوب» و قالت- لنسوه حولها-: «حولن وجهي!!» فلما حولن وجهها حولا اليها فقال أبوبكر: يا بنت رسول الله انما اتيناك ابتغاء مرضاتك و اجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا و تصفحي عما كان منا اليك.
قالت: «لا أكملكما من رأسي كلمه واحده حتي ألقي أبي و أشكوكها اليه. و أشكو صنيعكما و فعالكما ما ارتكبتما مني».
ثم
التفت الي علي و قالت: «اني لا اكملهما من رأسي حتي أسألهما عن شي ء سمعاه من رسول الله، فان صدقا رأيت رأيي.
قالا: اللهم ذلك لها، و انا لا نقول الا حقا نشهد الا صدقا.
فقالت: «انشدكما بالله: أتذكران أن رسول الله استخرجكما في جوف الليل بشي ء كان حدث من أمر علي؟».
فقالا: اللهم نعم.
فقالت: «أنشهد كما بالله هل سمعتما النبي يقول: فاطمه بضعه مني و أنا منها، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذي الله، و من آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، و من آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟».
قالا: اللهم نعم.
فقالت: «الحمدلله».
[ صفحه 333]
ثم قالت: «اللهم اني أشهدك فاشهدوا يا من حضرني: أنهما قد آذياني في حياتي و عند موتي. والله لا أكلمكما من رأسي كلمه حتي ألقي ربي فأشكوكما اليه بما صنعتما به وبي، و ارتكبتما مني والله لأدعون عليكما عند كل صلاه أصليها».
فدعا أبوبكر بالويل و الثبور و قال: ليت أمي لم تلدني!!
فقال عمر: عجبا للناس كيف و لوك أمورهم و انت شيخ قد خرفت!! تجزع لغضب امراه و تفرح برضاها؟ و ما لمن أغضب امراه؟ و قاما و خرجا [575] .
أقول: لا حاجه الي هذا البكاء المر الذي أوشك علي ازهاق الروح- علي حد تعبير روايه ابن قتيبه- و لا حاجه الي الاستقاله ما دام العلاج مقدورا للخليفه، و لا داعي بأن ينادي أبوبكر بالويل و الثبور و بامكانه أن يرضي السيده فاطمه بأن يرد اليها حقوقها، و يرفع يده عن أراضيها، و يعتذر عن أعماله، و يعيد الخلاقه الي صاحبها.
و لكن الخليفه
يريد أن يبقي علي اعتدائه و علي موقفه الذي عرفته بدون أي تنازل، و في نفس الوقت يريد أن ترضي عنه فاطمه الزهراء!؟
لا أظن أن أي انسان أو مسلم أو قانون أو شعب يرضي بهذا، و لا أظن أن شريعه أو دينا أو ضميرا أو وجدانا أو منطقا يقول بهذا سوي منطق العنف و الضغط، و منطق القوه و القدره، و لكن السيده فاطمه أقوي نفسا و روحا من أن تخضع لهذا المنطق أو بالأحري: أن تنخدع بهذه المظاهر!؟
بقيت هنا كلمه و سؤال: قد يتبادر الي ذهن القاري أن يتصور و يسأل: ما دعا أبابكر أن يلين و يخضع هكذا؟ و ما دعا الزهراء أن تثبت علي رأيها، و لا تتضعضع عن موقفها؟
لقد أجاب الجاحظ علي هذا السؤال، و كفانا مؤونه الجواب، قال في
[ صفحه 334]
رسائله ص 300 (... فان قالوا: كيف تظن به ظلمها و التعدي عليها، و كلما ازدادت عليه غلظه ازداد لها لينا ورقه حيث تقول له: والله لا أكلمك أبدا، فيقول: والله لا أهجرك أبدا، ثم تقول: «والله لأدعون الله عليك»، فيقول: والله لأدعون الله: لك، ثم يتحمل منها هذا الكلام الغيظ و القول الشديد في دار الخلافه و بحضره قريش و الصحابه مع حاجه الخلافه الي البهاء و التنزيه، و ما يجب لها من الرفعه و الهيبه، ثم لم يمنعه ذلك عن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها، المكبر لمفامها، الصلائن لوجهها، المتحنن عليها: ما أحد أعز علي منك فقرا و لا أحب الي منك غني، و لكن سمعت رسول الله يقول: «انا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه؟؟».
قيل لهم: ليس
ذلك بدليل علي البراءه من الظلم و السلامه من الجور، و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر اذا كان أريبا و للخصومه معتادا أن يظهر كلام المظلوم و ذله المنتصف، و حدب الوامق و مقت المحق... الخ).
و غفي موقف آخر نجده أشد صلابه حتي من عمر- علي أهل البيت- في حاله تثبيت سلطانه و هو الذي أمر عمر لما أرسله لمطالبه علي (عليه السلام) علي المبايعه و اذا أن يحرق عليهم الدار حتي لو كانت فاطمه و الحسنان فيها.
فانظر الي هذا التناقص في الموقفين لين و شده في آن واحد لماذا؟!
لأن السياسع الزمنيه و الدهاء و المكر يتطلبان ذلك.
[ صفحه 335]
كانت السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) في ذلك اليوم، الذي توقيت فيه، طريحه الفراش، و قد أخذ منها الهزال كل مأخذ، ما بقي منها سوي الهيكل العظمي فقط.
نامت السيده في ساعه من ساعات ذلك اليوم و اذا بها تري أباها رسول الله (صلي الله عليه و آله) في المنام، و لعل تلك المره هي الاولي و الاخيره التي رأت الزهراء أباها الرسول في المنام.
رأت أباها في قصر من الدر الأبيض، فلما رآها قال (صلي الله عليه و آله): «هلمي الي يا بينه، فاني اليك مشتاق!!».
فقالت: «والله اني لأ شد شوقا منك الي لقائك».
فقال لها: «أنت الليله عندي!!».
انتبهت من غفوتها، و استدت للرحيل الي الآخره، فقد سمعت من أبيها الصادق المصدق الذي قال: «من رآني فقد رآني» سمعت منه نبا ارتحالها فلا مجال للشك و التردد في صدق الخبر.
فتحت عينها، و استعادت نشاطها، و لعلها كانت في صحوه الموت و قامت لا
تخاذ التدابير اللازمه، و اغتنمت تلك السويعات الاخيره من حياتها.
و يعلم الله مدي انشغال قلبها و تشتت فكرها في تلك اللحظات، فهي مسروره بالموت الذي سوف يحل بها، فانها تستريح من هموم الدنيا و غمومها، و تلتحق العلي في مقعد صدق عند نليك مقتدر، و تتحقق في حقها البشري التي زفها اليها رسول الله (صلي الله عليه و آله) يوم قال لها: أنت أول أهل بيتي لحوقا بي.
و لكنها من ناحيه اخري: يضطرم قلبها لأنها سوف تترك زوجها العظيم
[ صفحه 336]
و كفؤها الكريم وحيدا غريبا في هذه الحياه القاسيه، بلا ناصر و لا معين سوي الله تعالي، فلقد كانت الزهراء خير محاميه و مدافعه و ناصره لزوجها في تلك الأحداث، فمن الذي يقوم مقامها اذا هي فارقت الحياه؟!
و مما كان يؤلمها في تلك السويعات أكثر و أكثر و كان يضغط علي قلبها أنها تفارق أطفالها الصغار، و كأنهم أفراخ لم تنبت أجنحتهم بعد، و قد ذركنا (فيما مضي) أن من جمله أسمائها: الحانيه. لأنها ضربت الرقم القياسي في الحنان و العطف علي أولادها، و كانت أمهات العالم حبا و شفقه علي أطفالها الاعزاء.
انها ستترك أفلاذ كبدها أهدافا لسهام هذا الدهر الخؤون الذي لا يرحم كبيرا و لا صغيرا، و لا وضيعا و لا شريفا، و خاصه و انها قد سمعت من أبيها الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آله) مرات عديده: أن آل رسول الله هم المستضعفون و انهم سوف يرون أنواع الاضطهاد و ألوان المصائب و الذل و الهون، كما شاهدت هي ذلك بعد وفاه أبيها الرسول (صلي الله عليه و آله).
و يعلم الله كيف كانت الهواجس
و الأفكار تهاجم قلبها المنكسر المتألم.
و علي كل حال: فالحزن- هنا- لا يجدي و لا ينفع و لا بد من الاستسلام للواقع المر، و التسليم لأمر الله و قضائه و لا بد من انتهاز هذه الفرصه القصيره التي تمر مر السحاب.
أقبلت الزهراء تزحف أو تمشي متكئه علي الجدار نحو الموضع الذي يوجد فيه الماء من بيتها، و شرعت تغسل ثياب أطفالها بيديها المرتعشتين، ثم دعت أطفالها و طفقت تغسل رؤوسهم بالماء و الطين، لأنها لم تجد غسيلا غير الطين.
قف بنا لحظه!! لنبك علي هذه السيده التي قد اقترب أجلها، و هي تلمس رؤوس أطفالها و أبدانهم النحيفه، و كأنها تودعهم، و ما يدريك أنها- حينذاك- كانت تبكي بصوت خافت، و تتقاطر الدموع من جوانب عينيها
[ صفحه 337]
الغائرتين، و تسيل علي وجهها المنكسف لتغسل الذبول المستولي عليه.
و دخل الامام علي (عليه السلام) البيت، و اذا به يري عزيزته قد غادرت فراش العله و هي تمارس أعمالها المنزليه.
رق لها قلب الامام حين نظر اليها و قد عادت الي أعمالها المتبعه التي كانت تجهدها أيام صحتها، فلا عجب اذا سألها: سبب قيامها الأعمال بالرغم من النحراف صحتها؟
أجابته بكل صراحه: لأن هذا اليوم آخر يوم من أيام حياتي، قمت لاغسل رؤوس أطفالي و ثيابهم لأنهم سيصبحون يتامي بلا أم!!
سألها الامام عن مصدر هذا النبأ فأخبرته بالرؤيا، فهي بذلك قد نعت نفسها الي زوجها بما لا يقبل الشك.
اذن، فاسيده فاطمه في أواخر ساعات الحياه، و قد حان لها أن تكاشف زوجها بما أضمرته في صدرها (طيله هذه المده) من الوصايا التي يجب تنفيذها و لو بأغلي الأثمان و
لا يمكن التسامح فيها أبدا، لأن لها غايه الأهميه.
كأنها قد فرغت من أعمالها المنزليه و عادت الي فراشها و فرغت لوصاياها:
قالت (عليهاالسلام) لعلي (عليه السلام): يا ابن عم!! انه قد نعيت الي نفسي، و انني لا أري ما بي الا أنني لا حقه بأبي ساعه بعد ساعه، و أنا أوصيك بأشياء في قلبي».
قال لها علي (عليه السلام): «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله»، فجلس عند رأسها، و أخرج من كان في البيت، ثم قالت:
«يا ابن عم! ما عهدتني كاذبه و لا خائنه. و لا خالفتك منذ عاشرتني».
فقال علي (عليه السلام): «معاذ الله!! أنت أعلم بالله، و أبر و أتقي و أكرم، و أشد خوفا من الله من أن أوبخك بمخالفتي. و قد عز علي مفارقتك و فقدك.
الا أنه أمر لا بد منه.
[ صفحه 338]
والله لقد جددت علي مصيبه رسول الله، و قد عظمت وفاتك و فقدك فانا لله و انا اليه راجعون.
من مصيبه ما أفجعها و آلمها، و أمضها و أحزنها.
هذه مصيبه لا عزاء منها ورزيه لا خلف لها».
ثم بكيا جميعا ساعه، و أخذ الامام رأسها و ضمها الي صدره ثم قال:
«أوصيني بما شئت، فانك تجدينني و فيا أمضي كلما أمرتني به، و أختار أمرك علي أمري».
فقالت: «جزاك الله غني خير الجزاء.
يا ابن عم! أوصيك أولا:
أن تتزوج بعدي بابنه أختي أمامه، فانها تكون لولدي مثلي، فان الرجال لا بد لهم من النساء».
ثم قالت: «أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فانهم عدوي و عدو رسول الله، و لا تترك أن يصلي علي أحد منهم و لا من أتباعهم،
و ادفني في الليل اذا هدأت العيون و نامت الأبصار [576] .
ثم قالت: «يا ابن العم! اذا قضيت نحبي فغسلني و لا تكشف عني، فاني طاهره مطهره، و حنطني بفاضل حموط أبي رسول الله (صلي الله عليه و آله).
و صل علي، و ليصل معك الأدني من أهل بيتي و ادفني ليلا لا نهارا، و سرا لا جهارا، و عف موضع قبري، و لا تشهد جنازتي أحدا ممن ظلمني.
يا ابن العم! أنا أعلم أنك لا تقدر علي عدم التزويج من بعدي فان أنت تزوجت امرأه اجعل لها يوما و ليله، و اجعل لأولادي يوما و ليله.
[ صفحه 339]
يا أباالحسن! و لا تصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فانهما بالأمس فقدا جدهما و اليوم يفقدان أمهما، فالويل لأمه تقتلهما و تبغضهما، ثم أنشأب تقول:
ابكني ان بكيت يا خير هادي
و اسبل الدمع فهو يوم الفراق
يا قرين البتول أوصيك با
لنسل فقد أصبح حليف اشتياق
أبكني وابك لليتامي، و لا تنس
قتيل العدي بطف العراق
وروي صاحب كشف الغمه و ابن عبد البر في الاستيعاب بسنده أن فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) لما مرضت مرضها الذي توفيت فيه، قالت لاسماء بنت عميس: أني قد استقبحت ما يصنع بالنساء انه يطرح علي المرأه الثوب فيصفها لمن رأي.
فقالت أسماء: يا بنت رسول الله أنا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشه، فدعت بجرائد- النخل- رطبه فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمه (عليهاالسلام):«ما أحسن هذا و أجمله لا تعرف به المرأه من الرجل»، ثم قالت فاطمه (عليهاالسلام): «اذا أنا مت فاغسليني أنت و لا يدخلن علي أحد...» [577] .
وروي ابن عباس وصيه مكتوبه لها (عليهاالسلام) جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
«هذا ما أوصت به فاطمه بنت رسول الله (صلي الله عليه و آله) أوصت و هي شهادت أن لا اله الا الله و أن محمدا عبده و رسوله، و أن الجنه حق، و النار حق، و أن الساعه آتيه لاريب فيها، و أن الله يبعث من في القبور.
يا علي: أنا فاطمه بنت محمد، زوجني الله منك لأكون لك في الدنيا و الآخره، أنت أولي بي من غيري، حنطني و غسلني و كفني بالليل و صل علي
[ صفحه 340]
و ادفني بالليل و لا تعلم أحدا. و أستودعك الله و أقرأ علي ولدي السلام الي يوم القيامه» [578] .
هذه بعض وصايا السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) التي يتجلي فيها مدي تألمها من ذلك المجتمع، و مدي تذمرها من الجفاه القساه.
[ صفحه 341]
انتقلت السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) الي فراسها المفروش في وسط البيت، و اضطجعت مستقبله القبله، واضعه يدها تحت خدها بعد أن هيأت طعاما لأطفالها، و قيل: أنها أرسلت بنتيها، زينب و أم الكلثوم الي بيوت بعض الهاشميات لئلا تشاهدا موت أمهها، كل ذلك من باب الشفقه و الرأفه، و التحفظ عليهما من صدمه مشاهده المصيبه.
يستفاد من بعض الأحاديث أن الامام عليا و الحسن و الحسين (عليهم السلام) كانوا خارج البيت في تلك الساعه، و لعل خروجهم كان لأسباب قاهره و ظروف معينه، و علي كل لم يحضروا تلك الدقائق الأخيره من حياه أمهم، و انما كانت أسماء حاضره و ملازمه لها، و يستفاد من بعض الأحاديث أن خادمه فضه أيضا كانت حاضره [579]
.
[ صفحه 342]
حانت ساعه الاحتضار، و حاله النزع، و انكشف الغطاء، و نظرت السيده فاطمه نظرا حادا ثم قالت: «السلام علي جبرئيل.
السلام علي رسول الله.
اللهم مع رسولك، اللهم في رضوانك و جوارك و دارك دار السلام».
ثم قالت: «أترون ما أري؟» فقيل لها: ما ترين؟ قالت: «هذه مواكب أهل السموات و هذا جبرئيل، و هذا رسول الله يقول: يا بينه اقدمي، فما أمامك خير لك».
و فتحت عينيها.... ثم قالت: «و عليك السلام يا قابض الأرواح عجل بي و لا تعذبني»، ثم قالت: «اليك ربي لا الي النار».
ثم غمضت عينيها، و مدت يديها و رجليها و فارقت الحياه فشقت أسماء جيبها، و وقعت عليها تقلبها و هي تقول: يا فاطمه اذا قدمت علي أبيك رسول الله فاقرئيه عن أسماء بنت عميس السلام [580] .
و دخل الحسن و الحسين فوجدا أمهما مسجاه فقالا: «يا أسماء ما بنيم أمنا في هذه الساعه؟» قالت: يا بني رسول الله ليست أمكما نائمه، قد فارقت الدنيا.
فألقي الحسن نفسه عليها يقبل رجلها و يقول: «يا أماه كلميني قبل أن
[ صفحه 343]
تفارق روحي بدني».
و هكذا الحسين كان يقبل رجلها و يقول: يا اماه! أنا ابنك الحسين!! كلميني قبل أن يتصدق قلبي فأموت».
قالت لهما أسماء: يا بني رسول الله انطلقا الي أبيكما فأخبراه بموت أمكما فخرجا حتي اذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء.
فابتدر اليهما جمع من الصحابه و سألوهما عن سبب بكائهما فقالا: «أو ليس قد ماتت أمنا فاطمه!».
فوقع الامام علي (عليه السلام) علي وجهه يقول: بمن العزاء يا بنت محمد؟» و أقبل الي البيت.
[ صفحه 344]
ارتجت المدينه بالبكاء من الرجال و النساء، و دهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و صاح أهل المدينه صحيه واحده، و اجتمعت نساء أهل المدينه علي باب دار السيده فاطمه.
و أقبلوا مسرعين و ازدحموا مثل عرف الفرس علي باب البيت، علي جالس؛ و الحسن و الحسين بين يديه يبكيان، فبكي الناس لبكائهما.
و جاءت هائسه لتدخل فمنعتها أسماء و قالت لها: لا تدخلي. فكلمت عائشه أبابكر فقالت: ان الخثعميه تحول بيننا و بين ابنه رسول الله و قد جعلت لها هودج العروس. فجاء ابوبكر فوقف علي الباب فقال: يا اسما ما حملك علي ان منعت ازواج النبي ان يدخلن علي بنت رسول الله؟ و جعلت لها مثل هودج العروس؟ فقالت أسماء: ان فاطمه أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، و أريتها هذا الذي صنعت و هي حيه، فأمرتني أن أصنع لها ذلك.
قال أبوبكر: فاصنعي ما أمرتك. ثم انصرف.
و أقبل الشيخان الي علي يعزيانه، و يقولان له: يا أباالحسن لا تسبقنا بالصلاه علي ابنه رسول الله.
كان الناس ينتظرون خروج الجنازه فأمر علي (عليه السلام) أباذر فنادي: انصرفوا، فان ابنه رسول الله قد اخر اخراجها في هذه العشيه.
و هكذا تفرق الناس، و هم يظنون أن الجنازه تشيع صباح غد، اذ أن السيده فاطمه الزهراء فارقت الحياه بعد صلاه العصر، أو أوائل الليل [581] .
[ صفحه 345]
مضي من الليل شطره، و هدأت الأصوات، و نامت العيون، ثم قام الامام لينفذ وصايا السيده فاطمه.
حمل ذلك الجسد النحيف الذي أذابته المصائب حتي صار كالهلال.
حمل ذلك البدن الطاهر كي يجري عليه مراسم السنه الاسلاميه.
وضع ذلك الجثمان
المطهر علي المغتسل، و لم يجرد فاطمه من ثيابها تلبيه لطلبها، اذ لا حاجه الي نزع الثوب عن ذلك البدن الذي طهره الله تطهيرا، و يكفي صب الماء علي البدن، كما صنع ذلك في تغسيل النبي الطاهر.
و هناك أسماء بنت عميس، تلك السيده الوفيه الطيبه التي استقامت علي علاقها الحسنه مع أهل البيت، فهي تناول عليا الماء لتغسيل السيده فاطمه.
يقول الامام الحسين (عليه السلام): «غسلها ثلاثا و خمسا، و جعل في الغسله الاخيره شيئا من الكافور، و أشعرها مذرا سابغا دون الكفن، و هو يقول:
اللهم انها أمتك، و ابنه رسولك وصفيك، و خيرتك من خلقك اللهم لقنها حجتها، و أعظم برهانها، و أعل درجتها، و أجمع بينها و بين أبيها محمد (صلي الله عليه و آله)» [582] .
و بعد الفراغ من التغسيل حملها و وضعها علي أكفانها، ثم نشفها بالبرده التي نشف بها رسول الله [583] و حنطها بحنوط السماء الذي يمتاز عن حنوط الدنيا.
ثم لفها في أكفانها، و كفنها في سبعه أثواب» [584] .
و انما قام علي (عليه السلام) بتغسيلها، و لم يكلف أحدا من النساء بذلك لاسباب:
1- تليبه لطلبها، و تنفيذا لوصيتها.
[ صفحه 346]
2- اثباتا لعصمتها و طهارتها، فان تغسيل الميت يعتبر تطهيرا له، و أما بالنسبه للمعصومين فلا يسمح للأيدي الخاطئه أن تمد لتغسيلهم، و انما هو من واجبات المعصوم الخاصه أن يقوم بعمليه التطهير، و قد مر عليك الحديث عن الامام صادق (عليه السلام) حول كونها صديقه، و ان الصديقه لا يغسلها الا صديق.
فكانت الغرض من تلك الوصيه و تنفيذها اثبات عصمتها، و التنويه بذلك في شتي المجالات و كافه المناسبات.
و
صرح الامام (عليه السلام) بذلك حيث يقول: «فغسلتها في قميصها و لم أكشفه عنها فوالله. لقد كانت ميمونه طاهره مطهره.... الخ».
رأي الامام أن يتامي فاطمه ينظرون الي أمهم الباره الحانيه، و هي تلف في أثواب الكفن، انها لحظه فريده في الحياه، لا يستطيع القلم وصفها، انها لحظه يهيج فيها الشوق الممزوج بالحزن، انه الوداع الاخير الأخير!!
هاجت عواطف الأب العطوف علي أطفاله المنكسره قلوبهم، فلم يعقد الخيوط علي الكفن، بل نادي- بصوت مختنق بالبكاء-: «يا حسن و يا حسين يا زينب يا ام كلثوم هلموا و تزودوا من أمكم، فهذا الفراق و اللقاء في الجنه!!».
كان الاطفال ينتظرون هذه الفرصه و هذا السماح لهم كي يودعوا تلك الحوراء، و يعبروا عن آلامهم و أصواتهم و دموعهم المكبوته المحبوسه، فاقلبوا مسرعين، و جعلوا يتساقطون علي ذلك الجثمان الطاهر كما يتساقط الفراش علي السراج.
كانوا يبكون بأصوات خافته، و يغسلون كفن أمهم الحانيه بالدموع، فتجففها الآهات و الزفرات.
كان المنظر مشجيا مثيرا للحزن، فالقلوب ملتهبه، و الا حاسيس مشتعله و العواطف هائجه، و الاحزان ثائره.
و انتهت مراسيم التكفين و التحنيط، و جاء دور الصلاه عليها ثم الدفن،
[ صفحه 347]
لقد حضر الأفراد الذين تقرر يشتركوا في تشييع الجثمان و مراسم الصلاه و غيرها، و هم الذين لم يظلموا فاطمه، و لم يسكنوا أمام تلك الأحداث، و لم يكن موقفهم موقف المتفرج الذي لم يتاثر بالحوادث.
لقد حضروا في تلك الساعه المتأخره من تلك الليله خائفين مترقبين، اذ قد تقرر اجراء تلك المراسم ليلا و سرا، و استغلال ظلمه الليل مع رعايه الهدوء و السكوت، كل ذلك لأجل تنفيذ وصايا السيده فاطمه الحكيمه.
لقد
حضروا، و هم: سلمان، عمار بن ياسر، أبوذر الغفاري، المقداد، خذيفه، عبدالله بن مسعود، العباس بن عبدالمطلب، الفضل بن عباس، عقيل، الزبير، بريده، و نفر من بني هاشم، و شيعوا جثمان فاطمه الزهراء البنت الوحيده التي تركها الرسول الأقدس بين امته، و كانها امرأه غريبه خامله فقيره في المدينه،لا يعرفها أحد و كانها لم تكن لهاتلك المنزله الرفيعه و الشخصيته المثاليه.
هؤلاء هم المشتركون في تشييع جنازه سيده نساء العالمين.
و تقدم الامام علي (عليه السلام) و صلي بهم علي حبيبه رسول الله، قائلا: «اللهم اني راض عن ابنه نبيك، اللهم انها قد أوحشت فآسنها، اللهم انها قد هجرت فصلها، اللهم انها قد ظلمت فأحكم لها و أنت خير الحاكمين» [585] .
ثم صلي ركعتين و رفع يديه الي السماء فنادي: «هذه بنت نبيك فاطمه أخرجتها من الظلمات الي النور. فأضاءت الأرض ميلا في ميل».
صلي الامام علي (عليه السلام) عليها، اذا أنها كانت معصومه، فيجب أن يصلي عليها المعصوم، فالصلاه علي الميت دعاء له بالرحمه، و أما بالنسبه للمعصوم فالدعاء له أي الصلاه علي جثمانه فهو من واجب المعصوم.
[ صفحه 348]
و كان من بنود وصيتها أن قالت: «يا بن العم! أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فانهم عدوي و عدو رسول الله، و لا تترك ان يصلي علي أحد منهم و لا من أتباعهم، و ادفني في الليل اذا هدأت العيون و نامت الأبصار» [586] .
و ترمز هذه الوصيه الي أن الزهراء عاشت بعد أبيها ناقمه و غاصبه علي اولئك الأفراد، و استمرت النقمه و الغضب حتي الموت و بعد الموت و الي يوم يبعثون.
فلا ترضي السيده فاطمه
أن تشيعها تلك العاصبه، و لا أن يصلوا علي جنازتها و لا يشهدوا دفنها، و لا يعرفوا قبرها، بل يبقي مخفيا من يوم وفاتها الي يوم الفصل الذي كان ميقاتا ليجلب هذا العمل انتباه المسلمين و علي الأخص الحجاج و المعتمرين الذي يزورون قبر الرسول (صلي الله عليه و آله) في المدينه المنوره، و مراقد الأئمه في البقيع، و يتساءلون عن قبرها فلا يجدون لذلك أثرا و لا خبرا.
فالقبر كان و لا زال مجهولا عند المسلمين بسبب اختلاف المؤرخين و المحدثين فهناك أحاديث تصرح بدفنها في البقيع، و هناك روايات أنها دفنت في حجرتها و عند توسيع المسجد النبوي الشريف صار قبرها في المسجد.
فان صح هذا القول فان صور القبور التي صورها الامام في البقيع كان لغرض التمويه، و صرف الأنظار عن مدفنها الحقيقي.
و ان كان الامام قد دفنها في البقيع فالقبر كان لا يزال مجهولا.
و علي كل تقدير: لقد حفروا القبر للسيده فاطمه، و حفروا مرقدا لتلك الزهره الزهراء، و اللؤلؤه النوراء، و تقدم أربعه رجال و هم علي و العباس و الفضل
[ صفحه 349]
ابن العباس و رابع [587] يحملون ذلك الجسد النحيف [588] .
و نزل علي (عليه السلام) الي القبر لأنه ولي أمرها، و أولي الناس بامورها، و استلم بضعه رسول الله (صلي الله عليه و آله) و أضجعها في لحدها، و وضع ذلك الخد الذي طالما تعفر بين يدي الله تعالي في حال السجود ذلك الخد الذي كان يقلبه رسول الله (صلي الله عليه و آله) في كل ليله قبل أن ينام وضع ذلك الخد علي تراب القبر و قال: «يا أرض أستودعك وديعتي، هذه
بنت رسول الله، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله و بالله و علي مله رسول الله محمد بن عبدالله (صلي الله عليه و آله).
سلمتك أيتها الصديقه الي من هو أولي بك مني، و رضيت لك بما رضي الله تعالي لك». ثم قرأ: (منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تاره اخري)» [589] .
لا يستطيع العقل أن يدرك، و لا يستطيع القلم أن يصور أو يصف الحاله التي كان علي (عليه السلام) يعيشها تلك اللحظات، و مدي تأثير الأحزان علي قلبه.
ثم خرج من القبر، بعد أن أشرج اللبن، و تقدم الحاضرون ليهيلوا التراب علي تلك الدره النبويه.
دفنونها، و دفنوا أشبه الناس خلقا و خلقا و منطقا برسول الله (صلي الله عليه و آله).
دفنوا أول شهيده من آل محمد.
لقد دفنوا المواهب و الفضائل.
لقد أخفوا في بطون التراب الحوراء الانسيه.
[ صفحه 350]
و سوي علي (عليه السلام) قبرها، و كأنه في تلك المراحل كان جرحه حارا، فلا يشعر بالالم، و الانسان قد يصاب بجراح أو كسر فلا يشعر بالالم في وقته، و بعد مضي لحظات يشتد به الوجع، و يجعله يصرخ و يصحيح.
[ صفحه 351]
انتهت مراسم الدفن بسرعه خوفا من انكشاف أمرهم و هجوم القوم عليهم، فلما نفض الامام يده من تراب القبر هاج به الحزن لفقد بعضه الرسول التي تذكره به،و زوجته الودود التي عاشت معه الصفاء و الطهاره و التصحيه و الايثار، و تحملت من أجله الأهوال و الصعاب فواغوثاه... من هضمها... من آلامها... من تصدع قلبها... و اغوثاه من كسر ضلعها... و اسوداد عضدها... و اسقاط جنينها... و لكن:
لكل اجتماع من
خليلين فرقه
و كل الذي دون الممات قليل
و ان افتقادي فاطما بعد أحمد
دليل علي أن لا يدوم خليل
لقد كان جثمان السيده فاطمه نصب عين علي في تغسيلها و تكفينها و الصلاه عليها و دفنها، و الآن قد غابت الزهراء عن الأبصار، و اختفت عن عينه في طبقات الثري.
و حان الوقت ليشعر الامام علي بألم المصاب، و يشتد به الوجع أشد ما يمكن.
كانت تلك اللحظات الحرجه من تلك الليله المؤله و المشجيه، فلقد كان قلب الامام مضغوطا عليه بسبب المصيبه.
لقد ماتت فاطمه الزهراء شهيده الاضطهاد، قتيله الظلم و الاعتداء.
و فقد الامام بفقدها شريكه حياته، و أحب الناس اليه و الي رسول الله.
فقد سيده في ريعان شبابها، و مقتبل عمرها، و نضاره حياتها.
فقد سيده انسجمت معه دينا و دنيا و آخره.
فقد زوجه شاركته في مصائب حياته و مرارتها بكل صبر.
فقد حوراء ليست من مستويات نساء الدنيا.
سوف لا يجد الامام علي وجه الأرض مثلها عصمه و نزاهه و تقوي و علما
[ صفحه 352]
و كمالا و شرفا، و فضائل و مكارم و غيرها.
فلا يمكن له أن يتسلي بامرأه اخري.
و مما زاد في المصيبه، و ضاعف في أبعاد الكارثه أن السيده أوصت الي زوجها أن يكون تشييع جثمانها ليلا و سرا، و باخفاء قبرها بحيث لا يكون لقبرها أثر و لا علامه.
و لهذا هاجت له الأحزان لما نفض يده من تراب القبر فأرسل دموعه علي خديه و حول وجهه الي قبر رسول الله (صلي الله عليه و آله) ثم قال:
«السلام عليك يا رسول الله عني [590] . السلام
عليك عن ابنتك و زائرتك [591] ، و البائته في الثري ببقعتك،المختار الله لها سرعه اللحاق بك.
قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، و عفي عن سيده نساء العالمين تجلدي [592] الا أن في التاسي لي بسنتك في فرقتك موضع تعزي [593] فلقد و سدتك في ملحوده قبرك بعد ان فاضت نفسك [594] بين نحري و صدري، و غمضتك بيدي، و توليت أمرك بنفسي.
بلي [595] و في كتاب الله لي أنعم القبول انا لله و انا اليه راجعون. قد استرجعت الوديعه، و أخذت الرهينه، و اختلست الزهراء [596] فما أقبح الخضراء و الغبراء.
يا رسول الله!! أما حزني فسرمد و أما ليلي فمسهد، و هم لا يبرح من
[ صفحه 353]
قلبي [597] أو [598] يختار الله لي دارك التي أنت فيها [599] مقيم كمد مقيح، و هم مهيج سرعان ما فرق الله بيننا و الي الله أشكو، و ستنبئك ابنتك بتظافر [600] أمتك علي، و علي هضمها حقها، فأحفها السوأل، و استخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الي بثه سبيلا، و ستقول و يحكم الله خير الحاكمين.
و السلام عليكما [601] يا رسول الله مودع لا سئم و لا قال [602] فان أنصرف فلا عن ملاله، و ان أقم فلا عن سوء ظن [603] بما وعد الله الصابرين.
واها واها!! و الصبر أيمن و أجمل و لو لا غلبه المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما و التلبث عنده عكوفا [604] ، و لا عولت اعوال الثكلي علي جليل الرزيه. فبيعن الله تدفن ابتنك سرا؟!! و يهتضم حقها قهرا؟!! و يمنع ارثها جهرا؟!! و لم يطل منك العهد [605]
، و لم يخاق منك الذكر فالي الله- يا رسول الله- المتشكي، و فيك- يا رسول الله- أجمل العزاء، فصلوات الله عليها و عليك و رحمه الله و بركاته» [606] .
[ صفحه 354]
و أصبح الصباح من تلك الليله فأقبل الناس ليشيعوا جنازه السيده فاطمه فبلغهم الخبر أن عزيزه رسول الله (صلي الله عليه و آله) قد دفنت ليلا و سرا.
و كان علي (عليه السلام) قد سوي في البقيع صور قبور سبعه أو أكثر، و حيث أن البقيع كان في ذلك اليوم و الي يومنا هذا مقبره أهل المدينه، و لهذا أقبل الناس الي البقيع يبحثون عن قبر السيده فاطمه، فأشكل عليهم الأمر، و لم يعرفوا القبر الحقيقي لسيده نساء العالمين، فضج الناس، و لام بعضهم بعضا، و قالوا: لن يخلف نبيكم الا بنتا واحده، تومت و تدفن و لم تحضروا وفاتها و الصلاه عليها، و لا تعرفوا قبرها؟!!
ثم قال رجال السلطه: هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتي نخرجها فنصلي عليها، و نزور قبرها، أرادوا تنفيذ هذه الخطه كي يزيفوا الخطه التي اختطتها السيده فاطمه في وصاياها، و ان يحبطوا المساعي التي بذلها الامام علي (عليه السلام) في اخفاء القبر، و حرمان بعض الناس عن درك ثواب الصلاه علي جنازه السيده فاطمه.
و الا فما معني نبش القبر لأجل الصلاه علي الميت؟ أكانوا يظنون أن عليا دفن فاطمه بلا صلاه؟ هل من المعقول أن يظن أحد ذلك؟ و أي اسلام و أي دين و شريعه يبيح نبش قبر ميت قد صلي عليه وليه بأحسن وجه و أكمل صوره، صلي عليه بتصريح و وصيه منه؟؟!
انني أعتقد أن الذي علي هذه المجازفه
و خرق الآداب و تحطيم المعنويات هو استضاعفهم لأميرالمؤمنين (عليه السلام) فكأنهم قد نسوا أو تناسوا سيف الامام علي و بطولاته في جبهات القتال، و شجاعته التي شهد بها أهل السماء و الأرض.
[ صفحه 355]
ان كان الامام أميرالمؤمنين لم يجرد سيفه في تلك الأحداث و الماسي التي حدثت من بعد وفاه رسول الله (صلي الله عليه و آله) لأجل توحيد كلمه المسلمين،و عدم تفرقهم عن الدين، فليس معني ذلك أن يسكت عن كل شي ء و أن يصبر علي كل هضيمه ورزيه، و بعباره أخري: ان كان علي (عليه السلام) مأمورا بالصبر في موارد معينه و مواطن محدوده فلا يعني ذلك أن يتحمل كل اهانه و يسكت عليها.
و صل الي الامام خبر المؤامره التي يوشك أن تنفذ.
لبس الامام القباء الأصفر الذي كان يلبسه في الحروب، و حمل سيفه ذاالفقار و قد احمرت عيناه و درت أوداجه من شده الغضب، و قصد نحو البقيع.
سبقت الأخبار عليا الي البقيع، و نادي مناديهم: هذا علي بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه، يقسم بالله: لئن حول من هذه القبور حجر ليضعن السيف علي غابر الآخر.
تلقي الناس هذا التهديد بالقول و التصديق، لأنهم عرفوا أن عليا صادق القول: قادر علي ما يقول.
و لكن رجلا من السلطنه استخف بهذا التهديد و الانذار و قال: ما لك يا أباالحسن! والله لننبشن قبرها و لنصلين عليها!!
فضرب علي بيده الي جوامع ثوب الرجل و هزه، ثم ضرب به الأرض و قال له: «يا بن السوداء! أما حقي فقد تركته مخافه أن يرتد الناس عن دينهم، و أما قبر فاطمه فوالذي نفس علي بيده لئن رمت و أصحابك
شيئا من ذلك لأسقين الأرض من دمائكم!!».
فقال أبوبكر: يا اباالحسن بحق رسول الله و به حق من فوق العرش الا خليت عنه، فانا غير فاعلين شيئا تكرهه. فخلي عنه و تفرق الناس، و لم يعودوا الي ذلك، و بقيت وصايا السيده فاطمه باقيه و نافذه المفعول الي يومنا هذا و ما بعده من الأيام.
[ صفحه 356]
ان كانت العاده و الانسانيه قد قضت برثاء الميت، فان السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) تستحق الرثاء بعد وفاتها كما تستحق الثناء في حياتها و بعد مماتها، و الرثاء تعبير عن الشعور، و اظهار التوجع و التأسف علي الفقيد، و بيان تأثير مصيبه فقده علي الراثي، و انطلاقا من هذا المفهوم فانه يجدر بالامام علي (عليه السلام) أن يرثي السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و يبث آلامه النفسيه من تلك الفاجعه المؤلمه، فالامام يعشر بألم المصاب أكثر من غيره، لأنه يقدر فقيدته حق قدرها، و تأثير الصدمه في نفسه أقوي و أكثر، فلا عجب اذا هاجت أحزانه فقال مخطابا لسيده النساء فاطمه العزيزه بعد وفاتها قائلا:
نفسي علي زفراتها محبوسه
يا ليتها خرجت مع الزفرات
لا خير بعدك في الحياه و انما
أبكي مخافه أن تطول حياتي
و قوله:
أري علل الدنيا علي كثيره
و صاحبها حتي الممات عليل
ذكرت أبا ودي فبت كأنني
برد الهموم الماضيات وكيل
لكل اجتماع من خليلين فرقه
و كل الذي دون الفراق قليل
و ان افتقادي فاطما بعد أحمد
دليل علي أن لا يدوم خليل
و قوله:
فراقك أعظم الأشياء عندي
و فقدك فاطم أدهي
الثكول
سأبكي حسره و أنوح شجوا
علي خل مضي أسني سبيل
ألا يا عين جودي و اسعديني
فحزني دائم أباكي خليلي
و قوله:
حبيب ليس يعدله حبيب
و ما لسواه في قلبي نصيب
حبيب غاب عن عيني و جسمي
و هن قلبي حبيبي لا يغيب
[ صفحه 357]
و قوله مخاطبا للسيده فاطمه بعد وفاتها:
مالي وقفت علي القبور مسلما
قبر الحبيب فلم يرد جوابي
أحبيب مالك لا ترد جوابنا
أنسيت بعدي خله الأحباب
قال الحبيب و كيف لي بجوابكم
و أنا رهين جنادل و تراب
أكل التراب محاسني فنسيتكم
و حجبت عن أهلي و عن أترابي
فعليكم مني السلام تقطعت
مني و منكم خله الأحباب
و قال (عليه السلام):
شيئان لو بكت الدماء عليهما
عيناي حتي تأذنا بذهاب
لم يبلغ المعاشر من حقيهما
فقد الشباب و فرقه الأحباب
و قال (عليه السلام) أيضا:
و ما الدهر و الأيام الا كما تري
رزيه مال أو فراق حبيب
و ان امرءا قد جرب الدهر لم يخف
تقلب حاليه بغير لبيب
و قال (عليه السلام):
يريد الفتي أن لا يموت خليله
و ليس له الا الممات سبيل
فلا بد من موت و لا بد من بلي
و ان بقائي بعدكم لقليل
ستعرض عن ذكري و تنسي مودتي
و يحدث بعدي للخليل بديل
[ صفحه 358]
ليس من العجيب أن يختلف المؤرخين في تاريخ وفاتها و
مقدار عمرها كما اختلفوا في تاريخ ولادتها قبل البعثه أو بعدها، و هكذا الاخلاف في مقدار مكثها في الحياه بعد وفاه أبيها الرسول (صلي الله عليه و آله).
فاليعقوبي يروي أنها عاشت بعد أبيها ثلاثين أو خمسه و ثلاثين يوما، و هذا أقل ما قيل في مده بقائها بعد الرسول، و قول آخر: أربعون يوما، و قول ثالث: خمسه و سبعون و هو الأشهر، و رابع: خمسه و تسعون يوما و هو الأقوي، و هناك أقوال لا يعبا بها كالقول بانها عاشت بعد أبيها سته أشهر أو ثمانيه أشهر و هذا أكثر ما قيل في مكثها بعد أبيها (صلي الله عليه و آله).
و هناك أحاديث وارده عن أئمه أهل البيت (عليهاالسلام) كانت و لا تزال مورد الاعتبار و الاعتماد.
ففي كتاب (دلائل الامامه) للطبري الامامي باسناده عن الامام الصادق (عليه السلام): انها قبضت في جمادي الآخره يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه، سنه احدي عشره من الهجره.
و في العاشر من البحار عن جابر بن عبدالله: و قبض النبي و لها يومئذ ثماني عشره سنه و سبعه أشهر.
أيضا عن الامام محمد بن علي الباقر (عليه السلام): «و توفيت و لها ثماني عشره سنه و خمسه و سبعون يوما».
وروي الكليني هذا القول في الكافي.
قال أبوالفرج الاصفهاني: و كانت وفاه فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) بعد وفاه النبي (صلي الله عليه و آله) بمده يختلف في مبلغها، فالمكثر يقول بسته أشهر،و المقل يقول أربعين يوما، الا أن الثابت في ذلك ما روي عن الامام أبي جعفر محمد بن علي الباقر انها توفقت بعده بثلاثه أشهر.
[ صفحه 359]
و ذكر الكفعمي في (المصباح) و الشبيخ الطوسي
في (مصباح المتهجد) ص 554، و السيد ابن طاووس في (الاقبال) ورواه أبوبصير عن الامام الصادق (عليه السلام)،كما في (البحار) ج 10 ص 1، و اليه يرجع ما في (مقاتل الطالبين) ص 19 من أن الثلاثه هو الثابت في وفاه السيده فاطمه الزهراء بروايه أبي جعفر الباقر (عليه السلام).
و علي كل تقدير فان عشرات الآلاف من المجالس و المآتم تقام في البلاد الشيعيه بمناسبه وفاه السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) في المساجد و البيوت و المجامع، و يطعمون الطعام في يوم وفاتها بكل سخاء، و تسمي تلك الأيام ب- (الفاطميه) فيرقي الخطباء المنابر و يتحدثون عن السيده فاطمه الزهراء (عليهاالسلام) و عن حياتها الزاخره بالفضائل و المناقب و المواقف المشرفه، و يختمون كلامهم عن ذكر بعض مصائبها و آلامها. و لو لا اخلاف الروايات لما تعددت هذه المجالس في ذكري مصابها.
[ صفحه 361]
1- «من أصعد الي الله خالص عبادته أهبط الله اليه أفضل مصلحته» [607] .
2- «خياركم ألينكم مناكبه، و أكرمهم لنسائهم» [608] .
3- «أدني ما تكون- المرأه- من ربها أن تلزم قعر بيتها».
4- و سئلت (عليهاالسلام) عن بكائها فقالت:
«لحق لي البكاء، فلقد أصبت بخير الآباء رسول الله (صلي الله عليه و آله)، وا شوقاه الي رسول الله»، ثم أنشأت تقول:
اذا مات ميت قل ذكره
ذكر أبي مذمات والله أكثر [609]
5- و قالت (عليهاالسلام): «مثل علي (أو مثل الامام) مثل الكعبه اذ يؤتي و لا يأتي» [610] .
6- و قالت (عليهاالسلام): «أما والله لو تركوا الحق علي أهله و اتبعوا عتره نبيه لما اختلف في الله اثنان و لورثها سلف عن سلف و
خلف بعد خلف حتي يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين، و لكن قدموا من أخره الله، و أخروا
[ صفحه 362]
من قدمه الله، حتي اذا ألحدوا المبعوث و أودعوه الجدث المجدوث اختاروا بشهوتهم، و علموا بآرائهم، تبالهم، أو لم يسمعوا الله يقول: (و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيره) (القصص: 68).
بل سمعوا و لكنهم كما قال الله سبحانه: (فانها لا تمعي الأبصار و لكن تعمي القلوب التي في الصدور) (الحج: 46).
هيهات بسطوا في الدنيا آمالهم، و نسوا آجالهم، فتسعا لهم و أضل أعمالهم، أعوذ بك يا رب من الحور بعد الكور» [611] .
7- و قالت (عليهاالسلام) و قد سألتهم ام سلمه (رضي الله عنها) عن حالها: «أصحبت بين كمد و كرب، فقد النبي و ظلم الوصي؛ هتك والله حجابه من أصبحت امامته مقتضبه علي غير ما شرع الله في التنزيل و سنها النبي (صلي الله عليه و آله) في التأويل و لكنها أحقاد بدريه و تراب احديه عليها قلوب النفاق مكتمنه لامكان الوشاه، فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثار من مخيله الشقاق، فيقطع وتر الايمان من قسي [612] صدرها، و لبئس- علي ما وعد الله من حفظ الرساله و كفاله المؤمنين- ما أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا بعد انتصار ممن فتك بآبائهم في مواطن الكرب و منازل الشهادات» [613] ».
8- و قالت (عليهاالسلام) في جواب عائشه بنت طلحه:
«أتسأليني عن هنه حلق بها الطائر، و حفي بها السائر، رفعت الي السماء أثرا، ورزئت في الارض خبرا. ان قحيف تيم، و أحيول عدي جاريا أباالحسن في السباق، حتي اذا تفريا في الخناق، فاسرا له الشنآن، و طوياه
الاعلان فلما خبأ نور الدين، و قبض النبي الأمين، نطلقا بفورهما، و نفثا بسورهما، و أدالا
[ صفحه 363]
غدكا، فيا لهم من ملك ملك أنها عطيه الرب الأعلي للنجي، الا وفي، و لقد نحلنيها للصبيه السواغب من نجله و نسلي، و انها لبعلم الله و شهده أمينه، فان انتزعا مني البلغه و منعاني اللمظه، فأحتسبها يوم الحشر و ليجدن آكلها ساعره حميم في لظي جحيم» [614] .
9- و قالت (عليهاالسلام): «المؤمن ينظر بنور الله» [615] .
10- و قالت (عليهاالسلام):
«... أنا ثمره فؤداه- تعني النبي- و عضو من أعضائه و غصن من أغصانه، و ليس له ولد غيري... و أنا ابنه خديجه الكبري... أنا ابنه سدره النتهي... و أنا ابنه من دني فتدلي و كان من ربه قاب قوسين أو أدني... أنا بنت الصالحات و المؤمنات... و أنا زوجت في الرفيق الأعلي... و أنا من بحر علمي يغترفون- شيعتي-... و أنا مسلك نجاه الراغبين... أنا البره الزكيه...» [616] .
11- و قالت (عليهاالسلام): «ان كنت تعمل بما أمرناك، و تنتهي عما زجرناك عنه فأنت من شيعتنا...» [617] .
12- و قالت (عليهاالسلام): «شيعنا من خيار أهل الجنه» [618] .
13- و قالت (عليهاالسلام) لبعض النساء:
«أرضي أبوي دينك محمدا و عليا بسخط أبوي نسبك أبوي نسبك، و لا ترضي أبوي نسبك بسخط أبوي دينك، فان أبوي نسبك ان سخطا أرضاهما محمد و علي (عليهماالسلام) بثواب جزء من ألف ألف جزء من ساعه من طاعاتها، و ان
[ صفحه 364]
أبوي دينك- محمدا و عليا- ان سخطا لم يقدر نسبك أن يرضياهما، لأن ثواب طاعات أهل الدنيا
كلهم لا يفي بسخطهما» [619] .
14- و قالت (عليهاالسلام): «البشر في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنه» [620] .
15- و قالت (عليهاالسلام): «أبوا هذه الامه محمد و علي يقيمان أودهم و ينقذانهم من العذاب الدائم ان أطاعوهما، و يبيحانهم النعيم الدائم ان و افقوهما» [621] .
16- و قالت (عليهاالسلام): «ما يصنع الصائم بصيام اذا لم يصن لسانته و سمعه و بصره و جوارحه» [622] .
17- و لما سمعت (عليهاالسلام): (و ان جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعه أبواب لكل منهم جزء مقسوم) [623] سقطت علي وجهها و هي تقول:
«الويل ثم لمن دخل النار» [624] .
18- عن الحسن (عليه السلام) قال: «رأيت امي فاطمه قائمه في محرابها ليله الجمعه فلم تزل راكعه ساجده حتي انفلق عمود الصبح و سمعتها تدعو للمؤمنين و المؤمنات و تسميهم و تكثر الدعاء لهم و لا تدعوا لنفسها بشي ء فقلت: يا اماه لم لا تدعي لنفسك كما تدعين لغيرك؟». قالت:
«يا بني الجار ثم الدار» [625] .
19- و قالت (عليهاالسلام): «خير للنساء أن لا يرين الرجال و لا
[ صفحه 365]
يراهين الرجال» [626] .
20- و قالت (عليهاالسلام) في دعاء لها بعد أن صلت ركعتين و رفعت باطن كفيها الي السماء:
«الهي و سيدي هذا محمد نبيك، و هذا علي ابن عم نبيك و هذان الحسن و الحسين سبطا نبيك. الهي أنزل علينا مائده من السماء كما أنزلتها علي بني اسرائيل أكلوا منها و كفروا بها اللهم أنزلها علينا فانا بها مؤمون» [627] .
21- و قالت (عليهاالسلام) لما قضي النبي لها بالخدمه ما دون الباب:
«فلا يعلم ماداخلني من السرور الا الله باكفائي رسول الله
(صلي الله عليه و آله) تحمل رقاب الرجال» [628] .
22- و قالت (عليهاالسلام) لأبيها (صلي الله عليه و آله): «رضيت بالله ربا و بك يا ابتاه و بابن عمي بعلا و وليا» [629] .
23- و لما حضرت النبي الوفاه بكت (عليهاالسلام) فقال لها النبي (صلي الله عليه و آله): «لا تبكي يا بنيه». فقالت (عليهاالسلام):
«لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، و لكني لفراقك يا رسول الله» [630] .
24- و قالت (عليهاالسلام): «الزم رجلها- تعني الام- فان الجنه تحت أقدامها» [631] .
25- و قالت (عليهاالسلام): «أنسيتم قول رسول الله (صلي عليه
[ صفحه 366]
و آله) يوم غدير خم (من كنت مولاه فعلي مولاه؟) و قوله (صلي الله عليه و آله): (أنت مني بمنزله هارون من موسي)؟!» [632] .
26- و قالت (عليهاالسلام): «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): (رضا فاطمه من رضاي، و سخط فاطمه من سخطي، فمن أحب فاطمه ابتني فقد أحبني، و من أرضي فاطمه فقد أرضاني، و من أسخط فاطمه فقد أسخطني» [633] .
27- و قالت (عليهاالسلام): «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) أما أنك يا علي و شيعتك في الجنه» [634] .
28- و قالت (عليهاالسلام): «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): ألا من مات علي حب آل محمد مات شهيدا» [635] .
29- و سئلت (عليهاالسلام) عن الأئمه (عليهم السلام) فقالت:
«سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: الأئمه بعدي عدد نقباء بني اسرائيل» [636] .
30- و قالت (عليهاالسلام): «الأوصيا أولهم ابن عمي و أحد عشر من ولدي آخرهم القائم» [637] .
31- و قالت (عليهاالسلام): «قال رسول الله (صلي
الله عليه و آله): لا يلومن الا نفسه من باب و في يده غمر» [638] . (و الغمر- باتحريك: الدسم
[ صفحه 367]
و الزهومه من اللحم).
32- و قالت (عليهاالسلام): «قال لي رسول الله (صلي الله عليه و آله): زوجتك أعلم الناس علما و أولهم سلما و أفضلهم حلما» [639] .
33- و قالت (عليهاالسلام): «قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) من تختم بالعقيق لم يزل يري خيرا» [640] .
34- و قالت (عليهاالسلام): «ان الله هو السلام و منه السلام و اليه السلام» [641] .
35- و قالت (عليهاالسلام): «ما كنت لأفشي لرسول الله سرا» [642] .
36- و قالت (عليهاالسلام)- في حديث-: «ما عندنا الا قوت الصبيه، لكننا نؤثر ضيفنا» [643] .
37- و قالت (عليهاالسلام): «ان أبي نظر الي علي و قال: هذا و شيعته في الجنه» [644] .
38- و قالت (عليهاالسلام):
«احمدوا لله الذي لعظمته و نوره يبتغي من في السموات و الأرض اليه الوسيله. و نحن وسيلته في خلقه، و نحن خاصته و محل قدسه، و نحن حجته في غيبه، و نحن ورثه أنبيائه» [645] .
[ صفحه 369]
للشيخ صالح الكواز احلي يرثي الحسين (عليه السلام) و يذكر مصيبه الزهراء (عليهاالسلام) منها:
و تتبعت أشقي ثمود و تبع
و بنت علي تأسيس كل خؤون
و الواثبين لظلم آل محمد
و محمد ملقي بلا تكفين
و القائلين لفاطم آذيتنا
في طول نوح دائم و حنين
و القاطعين أراكه كيلا تقيل
بظل أوراق لها و غصون
و مجمعي حطب علي البيت الذي
لم يجتمع
لولاه شمل الدين
و الداخلين علي البتوله بيتها
و المقسطين لها أعز جنين
و القائدين امامهم بنجاده
و الطهر تدعو خلفهم برنين
خلوا ابن عمي أو لا كشف في الدعا
رأسي و أبدي للاله شجوني
ما كان ناقه صالح و فصيلها
في الفضل عند الله الا دوني
و رنت الي القبر الشريف بمقله
عبري و قلب مكمد
قالت و أظفار المصاب بقلبها
غوثاه قل علي العداده معيني
أي الرزايا ؤتقي بتجلد
هو في النوائب مذ حييت قريني
فقد أبي أم غصب بعلي حقه
أم كسر ضعلي أم سقوط جنيني
أم أخذهم ارثي و فاضل نحلتي
أم جهاهم حقي و قد عرفوني
قهروا يتميك الحسين و صنوه
و سألتهم حقي و قد نهروني
و له قصيده اخري:
عقدت بيثرب بيعه قضت بها
للشرك منه بعد ذاك ديون
[ صفحه 370]
برقي منبره رقي في كربلا
صدر و ضرج بالدماء جبين
لو لا سقوط جنين فاطمه لما
اوذي بها في كربلاء جنين
و بكسر ذاك الضلع رضت أضلع
في طيها سر الاله مصون
و كذا علي قوده بنجاده
فله علي بالوثاق قرين
و كما لفاطم رنه من خلفه
لبناتها خلف العليل رنين
و بزجرها بسياط قنفذ و شحت
بالطف من زجر لهن متون
و بقطعهم تلك الأراكه دونها
قطعت يد في كربلا و وتين
و لقد أجاد المرحوم الشيخ كاظم الأزري في قصديته الهاليه حيث
قال:
نقضوا عهد أحمد في أخيه
و أذاقوا البتول ما أشجاها
يوم جاءت الي عدي و تيم
و من الوجد ما أطال بكاها
فدعت و اشتكت الي الله شكوي
و الرواسي تهتز من شكواها
لست أدري اذ روعت و هي حسري
عاند القوم بعلها و أباها
تعظ القوم في أتم خطاب
حكت المصطفي به وحكاها
هذه الكتب فاسألوها تروها
بالمواريث ناطقا فحواها
و بمعني (يوصيكم الله) أمر
شامل للأنام في قرباها
فأطمأنت لها القلوب و كادت
أن تزول الأحقاد ممن طواها
أيها القوم راقبوا الله فينا
نحن من روضه الجليل جناها
و اعملموا أننا مشاعر دين الله
فيكم فأكرموا مثواها
و لنا من خزائن الغيب فيض
ترد المهتدون منه هداها
أيها الناس أي بنت نبي
عن مواريثه أبوها زواها؟
كيف يزوي عني تراثي عتيق
بأحاديث من لدنه افتراها
كيف لم يوصنا بذلك مولانا؟
و تيما من دوننا أوصاها؟
[ صفحه 371]
هل رآنا لا نستحق اهتداء
و استحقت تيم الهدي فهداها
أم تراه أضلنا في البرايا
بعد علم لكي نصيب خطاها
أنصفوني من جائرين أضاعا
حرمه المصطفي و ما رعياها
هذه البرده التي غضب الله
علي من سوانا ارتداها
فخذوها مقرونه بشنار
غير محموده لكم عقباها
و لأي الامور تدفن سرا
بضعه المصطفي و يعفي ثراها
فمضت و هي أعظم وجدا
في فم الدهر غصه من جواها
و
ثوب لا يري الناس لها مثوي
أي قدس يضمه مثواها
و للسيد باقر الهندي هذه القصيده التي نظمها بعد أن رآي الامام الحجه (عجل الله فرجه) في المنام ليله عيد الغدير:
كل غدر و قول افك وزور
هو فرع عن حجد نص الغدير
فتبصر تبصر هداك الي الحق
فليس الأعلمي به كالبصير
ليس تعمي العيون لكنما تعمي
القلوب التي انطوت في الصدور
يوم أوحي الجليل يأمر طه
و هو سار أن من يترك المصير
حط رحل السري علي غير ماء
و كلا في الفلا و حر الهجير
ثم بلغهم و الا فما بلغت
و حيا عن اللطيف الخبير
أقم المرتضي اماما علي الخلق
و نورا يجلو دجي الديجور
فرقي آخذا بكف علي
منبرا كان من حدوج و كور
و دعا الملا حضور جميعا
غيب الله رشدهم من حضور
ان هذا أميركم و ولي
الأمر بعدي و وارثي و وزيري
هو مولي لكل من كنت مولاه
من الله في جميع الأمور
فأجابوا بألسن تظهر الطاعه
و الغدر مضمر في الصدور
بايعوه و بعدها طلبوا البيعه
منه لله ريب الدهور
[ صفحه 372]
الي أن قال:
لست تدري لم أحرقوا الباب
بالنار أرادوا اطفاء ذاك النور
لست تدري ما صدر فاطم
ما المسمار ما حال ضلعها المكسور
ما سقوط الجنين ما حمره العين
و ما بال قرطها المنثور
دخلوا الدار و هي حسري بمرأي
من علي ذاك
الأبي الغيور
الي أن قال:
و استداروا بغيا علي أسد الله
فاضحي يقاد قود البعير
و البتول الزهراء في اثرهم تعثر
في ذيل بردها المجرور
بأنين أوري القلوب ضراما
و حنين اذاب صم الصخور
ودعتهم خلوا ابن عمي عليا
أو لا شكو الي السميع البصير
ما رعوه بل روعوها و مروا
بعلي ملببا كالأسير
بعض هذا يريك ممن تولي
بارز الكفر ليس بالمستور
كيف حق البتول ضاع عنادا
مثل ما ضاع قبرها في القبور
قابلوا حقها المبين بتزوير
و هل عندهم سوي التزوير
ورووا عن محمد خبرا لم
يك فيه محمد بخبير
و علي يري و يسمع و السيف
رهيف و الباع غير قصير
قيدته وصيه من أخيه
حملته ما ليس بالمقدور
افصبروا يا صاحب الأمر و الخطب
جليل يذيب قلب الصبور
كم مصاب يطول فيه بياني
قد عري الطهر في الزمان القصير
كيف من بعد حمره العين منها
يا ابن طه تهنا بطرف قرير
فابك وازفر لها فان عداها
منعوها من البكا و الزفير
و كأني به يقول و يبكي
بحلو تزر و دمع غزير
لا تراني اتخذت لا وعلاها
بعد بيت الحزان بيت السرور
فمتي يا ابن فاطم تنشر الطاغوت
و الجبت قبل يوم النشور
[ صفحه 373]
فتدارك منا بقايا نفوس
قد اذيبت بنار غيظ الصدور
و هذه قصيده دعبل الخزاعي (رحمه الله) ذكرها العلامه المجلسي في بحاره ج
49 ص 426، و الشيخ الرحماني في كتابه فاطمه الزهراء ص 609:
هم نقضوا عهد الكتاب و فريضه
و محكمه بالزور و الشبهات
و لم تك الا محنه كشفتهم
بدعوي ضلال من هن و هنات
تراث بلا قربي و ملك بلا هدي
و حكم بلا شوري بغير هداه
رزايا أرتنا خضره العين حمره
وردت اجاجا طعم كل فرات
و ما سهلت تلك المذاهب فيهم
علي الناس الا بيعه الفلتات
و ما قيل أصحاب السقيفه جهره
بدعوي تراث في الضلال نتات
و لو قلدوا الموصي اليه امورها
لزمت بمأمون من العثرات
أخي خاتم الرسل المصفي من القذي
و مفترس الابطال في الغمرات
فان جحدوا كان الغدير شهيده
و بدر واحد شامخ الهضبات
[ صفحه 374]
و آي من القرآن تتلي بفضله
و ايثاره بالقوت في اللزمات
و اليك شذارات من قصيده العلامه السيد جمال الهاشمي اقتطفناها من كتاب (وفاه الصديقه الزهراء عليهاالسلام ص 20):
شعت فلا الشمس تحكيها و لا القمر
زهراء من نورها الأكوان تزدهر
بنت الخلود بها الأجيال خاشعه
أم الزمان اليها تنتمي العصر
روح الحياه فولا لطف عنصرها
لم تأتلف بيننا الأرواح و الصور
الي ان قال:
أتقرن النور بالضللماء من سفه
ما أنت في القول الا كاذب أشر
بنت النبي الذي لولا هدايته
ما كان للحق لا عين و لا أثر
الي أن قال:
علي النبوه أضفت في مراتبها
فضل الولايه لا تبغي
و لا تذر
ام الأئمه من طوعا لرغبتهم
يعلو القضاء بنا أو ينزل القدر
قف يا يراعي عن مدح البتول ففي
مديحها تهتف الألواح و الزبر
[ صفحه 375]
و ارجع لتسخبر التاريخ عن نبأ
قد فاجأتنا به الأنباء و السير
هل أسقط القوم ضربا حملها فهوت
تان مما بها و الضلع منكسر؟
و هل كما قيل قادوا بعلها فعدت
وراه نادبه و الدمع منهمر؟
ان كان حقا فان القوم قد مرقوا
علي الهدي و بدين الله قد كفروا
و للكعبي (رحمه الله) هذه الأبيات ذكرها صاحب (رياض المدح و الرثاء ص 342)، و الشيخ في كتابه (فاطمه الزهراء ص 607):
بالله ما سيف شمر نال منك و لا
يد سنان وان جل الذي ارتكبوا
لو لا الالي أغضبوا رب العلي
و أبونص الولا و لحق المرتضي غضبوا
أصابك النفر الماضي بما ابتدعوا
فما المسبب لو لم ينجح السبب
و لا تزال خيول الحقد كامنه
حتي اذا وجدوها فرصه و ثبوا
كف بها امك الزهراء قد ضربوا
هي التي اختك الحوارء بها سلبوا
فلبيك يومك من يبكيه يوم غدوا
بالطهر قودا و بنت المصطفي ضربوا
تالله ما كربلا لو لا السقيفه، و الا حياءُ
تدري لو لا النار ما الحطب
[ صفحه 376]
و قال القاضي أبوبكر ابن قريعه، نقلتها من كتاب كشف الغمه ج 1 ص 505:
يا من يسائل دائبا
عن كل معظلمه سخيفه
لا تكشفن
مغطا
فلربما كشفت جيفه
و لرب مستور بدا
كالطبل من تحت القطيفه
ان الجواب لحاضر
لكنني اخيفه خيفه
لو لا اعتداء رعيه
ألقي سياستها الخليفه
و سيوف أعداء بها
هاماتنا أبدي نقيفه
لنشرت من اسرار آل
محمد حملا طريفه
تغنيكم عما رواه
مالك و أبوحنيفه
و اريكم ان الحيسن
اصيب من يوم السقيفه
و لأي حال لحدت
بالليل فاطمه الشريفه
و لما حمت شيخيكم
عن وطي حجرتها المنيفه
أوه لبنت محمد
ماتت بعضتها أسيفه
و اليك مفتطفات من هذه القصيده الرائعه لأحد الساده من أشراف مكه وجدت بخط الشهيد الأول- محمد بن مكي العاملي (رحمه الله) و هذا مطلعها و هي تربوا علي السبعين بيتا:
ماليني قد غاب عنها كرها
و عرها من عبره ما عراها
الدار نعمت فيها زمانا
ثم فارقتها فلا أغشاها
الي أن قال:
بل بكائي لذكر من خصصها الله
تعالي بطفله و اجتباها
ختم الله رسله بأبيها
و اصطفاه لوحيه و اصطفاها
و حباها بالسيدين الزكيين
الامامين منه حين حباها
[ صفحه 377]
و لفكري بالصالحين الذين
اسحثا ظلمها و ما راعياها
منها بعلها من العد و العققد
و كان المنيب و الاواها
و استبدا بامره دبراها
قبل دفن النبي و انتهزاها
و أتت فاطم تطالب بالارث
من المصطفي فما ورثاها
ليت شعري لم خولفت سنن
القرآن فيها؟ والله قد أعلاها
نسخت آيه المواريث
منها
أم هما بعد فرضها بدلاها؟
أم تري آيه الموده لم تأت
بود الزهراء في قرباها
ثم قالا: أبوك جاء بهذا
حجه من عنادهم نصباها
قال: للأنبياء حكم بأن لا
يورثوا في القديم و انتهراها
أفبنت النبي لم تدر ان كان
نبي الهدي بذلك فاها؟
بضعه من محمد خالفت ما
قال؟ حاشا مولاتنا حاشاها
سمعته يقول ذاك و جاءت
تطلب الارث ضله و سفاها؟
هي كانت لله أتقي و كانت
أفضل الخلق عفه و نزاها
أو تقول: النبي قد خالف القرآن؟
و يح الأخبار ممن رواها
سل بابطال قولهم سوره النمل
و سل مريم التي قبل طه
فهما ينبئان عن ارث يحيي
سليمان من أراد انتباها
فدعت و اشتكت الي الله من ذاك
و فاضت بدمعها مقلتاها
ثم قالت: فنحله لي من والدي
المصطفي فلم ينحلاها
فأقامت بها شهودا فقالوا:
بعلها شاهد لها و ابناها
لم يجيزوا شهاده لبني رسول
الله هادي الأنام اذ ناصباها
لم يكن صادقا علي و لا فاطمه
عندهم و لا ولداها
جرعاها من بعد والدها الغيظ
مرارا فبئس ما جرعاها
ليت شعري ما كان ضرهما الحفظ
لعهد النبي لو حفظاها
كان اكرام خاتم الرسل الهادي
البشير النذير لو أكرماها
[ صفحه 378]
و لكان الجميل أن يقطعاها
فدكا لا اجميل أن يقطعاها
أتري المسلمين كانوا يلومو
نهما في العطاء لو أعطياها
كان تحت الخضراء
بنت نبي
صادق ناطق أمين سواها
بنت من؟ أم من؟ حليله من؟
ويل لمن سن ظلمها و أذاها
ذاك ينبيك عن حقود صدور
فاعتبرها بالفكر حين تراها
قل لنا أيها المجادل في القول
عن الغاصيبن اذ غصباها
أهما ما تعمداها كما قلت
بظلم كلا و لا اهتضماها
فلماذا اذ جهرت للقاء اله
عند الممات لم يحضراها
شعيت نفسها ملائكه الرحمن
رفقا بها و ما شيعاها
كان زهدا في أجرها أم عنادا
لأبيها النبي لم يتبعاها؟
أم لأن البتول أوصت بأن لا
يشهدا دفنها فما شهداها
أم أبوها أسر ذاك اليها
فاطاعت بنت النبي أباها
كيف ما شئت قل كفاك فهذي
فريه قد بلغت أقصي مداها
أغضاباها و أغضبا عند ذاك الله
رب السما اذ أغضباها
و كذا أخبر النبي بان الله
يرضي سبحانه لرضاها
لا نبي الهدي اطيع و لا فاطمه
أكرمت و لا حسناها
و حقوق الوصي ضيع منها
ما تسامي في فضله و تناهي
تلك كانت حزازه ليس تبرا
حين ردا عنها و قد خطباها
و غدا يلتقون والله يجزي
كل نفس بغيها و هداها
فعلي ذلك الاساس بنت صاحبه
الهودج المشؤوم بناها
و بذاك اقتدت أميه لما
أظهرت حقدها علي مولاها
لعنته بالشام سبعين عاما
لعن الله كهلها و فتاها
ذكروا مصرع المشايخ في بدر
وقد صمخ الوصي لحاها
و بأحد من بعد بدر و قد أتعس
فيها معاطسا
و جباها
[ صفحه 379]
فاستجادت له السيوف بصفين
و جرت يوم الطفوف قناها
لو تمكنت بالطفوف مدي الدهر
لقلبت تربها و ثراها
أدركت ثارها أميه بالنار
غدا في معادها تصلاها
أ