رسالة في رد مذهب الوهابية

اشارة

سرشناسه : عصار، محمد، 1315 - 1226

عنوان و نام پديدآور : رساله في رد مذهب الوهابيه تاليف محمد العصار؛ تحقيق نعمان النصري

مشخصات نشر : 1420ق = 1999م = 1378.مشعر

مشخصات ظاهري : 190 ص جدول نمونه

يادداشت : عربي

يادداشت : كتابنامه ص 176؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : وهابيه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع : كلام شيعه اماميه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع : شيعه اماميه -- دفاعيه ها و رديه ها

شناسه افزوده : نصري نعمان محقق

رده بندي كنگره : BP207/62 /ع6ر5 1378

رده بندي ديويي : 297/416

شماره كتابشناسي ملي : م 81-28436

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

ص:6

ص:7

موجز عن حياة المؤلف: السيد محمد العصار

نسبه وولادته:

هو محمد بن محمود الحسيني اللواساني الطهراني المعروف ب «العصار» ولد في سنة (1264 ه/ 1848 م) وتوفي سنة (1356 ه/ 1937 م) وكان حكيماً، متكّلماً، فقيهاً، أصولياً، شاعراً، ومن مفسّري الشيعة.

عاش في طهران ومشهد، لقّب في أوائل عمره بالناظم ثمّ ب «آشفته تهراني» أي الغاضب الطهراني وفي أواخر عمره لقّب ب «العصّار» وكانت عائلته في الأصل من مازندران.

أبوه هو الحاج السيد محمود اللواساني، عاش أولًا في مدينة لواسان ثمّ هاجر إلى طهران.

ص:8

وقد أرّخ المؤلف نفسه ولاته في كتاب تاريخ العصّار ومقدّمة تفسير ناسخ التفاسير جاء فيه: «ولدتُ في سنة تربّع ناصر الدين شاه القاجاري على كرسي الحكم أو السنة التالية لها ويعني سنة (1264 ه/ 1848 م) أو (1265 ه/ 1849 م).

دراسته الحوزوية:

درس العصّار مقدّمات العلوم في طهران، وفي الثالثة عشرة من عمره الشريف سافر إلى طالقان برفقة استاذه، وبعد مدّة عاد إلى طهران، فدرس كتابي معالم الاصول وشرح اللمعة على يد الشيخ محمد حسن الچاله ميداني وملّا اسماعيل القره باغي. وبعد إتمام مرحلة السطوح في طهران هاجر إلى مدينة كربلاء المقدسة للتتلمذ على يدي علمائها وفقهائها آنذاك أمثال زين العابدين المازندراني (ت 1309 ه/ 1892 م) والذي كان مرجعاًللتقليد في الهند ومازندران.

سفره إلى السعودية والبلدان العربيّة:

بعد ذلكَ سافر إلى مدينة الرسول على ساكنها الصلاة والسلام، حيث التقى هناك مع حاكمها آنذاك خالد باشا، وأنشد قصيدة في مدحه فأجازه بهدية، وبقي مدة في المدينة حيث ألّف كتاب التحفة المدنيّة في العروض سنة (1290 ه/ 1873 م).

ص:9

وفي نفس تلك السنة سافر إلى مكّة زادها اللَّه شرفاً وقد حضرهناك دروس السيّد أحمد دحلان ودرس الأدبيات عند الشيخ محمّد بسيوني وحصل على إجازة الرواية للصحاح الستّة لأهل العامّة من المولى عبدالغني الهندي الحنفي وغير ذلك.

وسافر أيضاً إلى بيروت ودمشق ثمّ عاد إلى النجف، وبعدها وفي سنة (1296 ه/ 1879 م) سافر إلى سامراء لحضور دروس الميرزا الشيرازي، وبقي هناك إلى سنة (1301 ه/ 1884 م) حيث ترك سامراء متوّجهاً إلى طهران مسقط رأسه، فبقي فيها عدّة سنوات.

ونقل عنه أنّه بعد اثنتي عشرة سنة من العزلة والابتعاد عن الناس ترك طهران في الثاني من ذي الحجّة الحرام سنة (1340 ه- كانون الثاني 1922) ورحل إلى مدينة مشهد المقدسة، وبقي إلى أواخر عمره بجوار مشهد الإمام الرضا عليه السلام.

أساتذته:

حضر السيّد العصّار طيلة زمان دراسته في الحوزة العلمية عند كبار أساتذة عصره، فقد درس عند الميرزا الشيرازي (ت 1312 ه/ 1894 م) والآخوند الخراساني (ت 1329 ه/ 1911 م) كما حصل على إجازة الرواية من الميرزا حسين النوري

ص:10

(ت 1320 ه/ 1902 م) والسيد مهدي القزويني (ت 1300 ه/ 1883 م) والسيد محمّد بحر العلوم والشيخ محمد حسن المامقاني (ت 1323 ه/ 1905 م) والشيخ عباس كاشف الغطاء من علماء الشيعة والشيخ محمد بسيوني المكي الشافعي من علماء أهل السنّة.

تلاميذه:

لقد ربّى السيد العصّار مجموعة كبيرة من الطلبة وغذّاهم من فيض علومه، وقد أشار صاحب الذريعة إلى أحدهم وهو الميرزا أحمد بن صالح البادكوبئي (ت 1300 ه/ 1883 م).

سيرته العلمية:

لقد عاش المترجم حياة حافلة بالعلم والمعرفة وترك آثاراً علمية كبيرة، ولكنّ كثيراً منها- كما ينقل عنه- تعرّض للسرقة أو الضياع بسبب تنقّلاته المستمرة من مكان آخر، ويعلم مما كتبه السيد المترجم له أنّه تعرض خلال حياته للفقر والمصائب الكبيرة، وتعرّض في كثيرة من الأحيان لمحاولات الاغتيال، من ذلك ماذكره في كتاب تاريخ العصّار: في الوقت الذي كثر فيه أصحاب الحوائج والمسائل عليَّ، فإنّ ذلكَ لم يكن ليمنعني من تخصيص عمدة وقتي لطلب العلم، وبحمد اللَّه لم أتحسّر أو أندم على

ص:11

ذلك وكان مايسرّني ويؤنسني هو أن أكون قرب المحبوب الحقيقي.

ولأني كنت من العلماء الذين يوجهون الناس ويعبئونهم حتى الشيخوخة فقد تعرّضت للإغتيال وجرحت خمس مرّات ولكنّ اللَّه تعالى نجاني من القتل بلطفه.

وبقيت مدّة طويلة تحت العلاج كي يتسنى لي الشفاء من تلك الآلام والجروح، وقد نجّاني اللَّه تعالى من الغرق في السفر مرّتين، وكذلكَ حفظني من الحرق والهدم، بعد كلّ تلك الحوادث الجسيمة آثرت العزلة وترك الاختلاط مع كافة طبقات المجتمع ممّا حدا بي إلى التعمّق في المسائل العلمية والنظر الدقيق في المطالب.

وفي أواخر عمري أصبت بالضعف الجسمي وأصيبت عيناي بالعمى فاجريت عملية جراحية لهما ولكنها لم تترك تأثيراً على العين اليمنى، ولكن العين اليسرى حصل لها بعض التحسّن حيث تسنّى لي بواسطة النظّارة والعدسة المكبّرة القراءة والكتابة ولكن بصعوبة.

آراؤه الخاصة في المنهج الحوزوي:

للسيد آراء خاصة يعتقد بها بالنسبة للمنهج المتبع في الحوزة العلمية ويرشد الطلبة وخصوصاً طلبة العلوم القديمة حيث كتب:

لا يلزم على الطلبة الدخول في دراسة علم المنطق من أي جهة

ص:12

وكون المنطق يعصم الفكر من الخطأ كما هو معروف لا وجه له إلى أن يقول:... ولذا تعتبر جميع الاصطلاحات المنطقية سريعة النسيان وقليلة الاستعمال في العلوم الاخرى، حتّى في الحكمة فإنّ الاعتقاد السائد أنّ المنطق وضع لأجل فهم الحكمة ولكن لا أصل لهذه الشهرة.

وأمّا الفقه فيكفي دراسة المتون الفقهية التي تحيط برؤوس المسائل ويكفي من الاصول المختصرات منه كتهذيب العلامة ومعالم الاصول، وبعدها تلخيص الاصول وتلخيص الفرائد الذي هو توضيح المطالب المهمّة التي تنفع في الفقه، وأمّا الرجوع إلى المطولات مثل القوانين والفصول والفرائد للشيخ الأنصاري وكفاية الاصول فهو من أسباب التأخير في الدراسة بلا مبرّر..

وكذلكَ حضور درس خارج الفقه والاصول تضييع للعمر.

وبنظري فإنّ قراءة بعض الكتب الاستدلالية مثل شرح اللمعة والمسائل وجامع المقاصد في حال وجود مدرّس قادر على الجمع بين تدريس هذه الكتب والتحقيق في مسائلها أحسن وأكمل من حضور بحث الخارج، وهو نافع للطلبة بشكل كبير.

آثاره:

1- بركات الرضويّة: وهو دورة اصولية كاملة وقد جمع فيه

ص:13

بين كتابي تلخيص الاصول وتلخيص الرسائل.

2- فقاهة الرضويّة: في الفقه الاستدلالي وهو جزءان: الأوّل في مقدمات الفقه واصوله في أبواب العبادات والمعاملات أتمّه في (24 ذي الحجة سنة 1346 ه).

ثمّ ذيّله برسالة رجالية في أسماء وألقاب الأئمة: وأصحابهم ورواة كل رواية وأتمّها في (2 ربيع الثاني 1347 ه).

وأمّا الجزء الثاني فهو من أوّل الطهّارة إلى آخر التيمم، بدأ بتأليفه في (24 ذي الحجة 1346 ه) وأتمّه في (النصف من شعبان 1350 ه).

وقال حول كتابه فقاهة الرضوية: وصحيح أنّ مقدّمة الكتاب مفصّلة ومطولة ولكنّ فائدتها هي أنّ الطالب إذا كان حاضر الذهن متوجّه إلى مطالب الكتاب فإنّه سيستغني عن الرجوع إلى الكتب المصنّفة في الاصول والقواعد الفقهية المعروفة كقواعد الشهيد الأوّل وتمهيد القواعد للشهيد الثاني و...

3- تفسير ناسخ التفاسير: يوجد نسخة خطية منها في الآستانة الرضوية المقدسة.

4- تلخيص الكفاية.

5- شرح الزيارة الجامعة المسماة بالإلهامات الرضوية.

6- قوامع الأوهام في الردّ على كتاب ينابيع الإسلام تأليف

ص:14

أحد النصارى كتبه في تخطئة الدين الإسلامي.

7- رسالة في ردّ مذهب الوهابيّة- وهي التي بين يديك-.

8- مواهب الرضوية في الردّ على الدعاة من المسيحيين والبهائيين والقاديانيين.

9- مختصر حياة الإمام الرضا عليه السلام.

10- الإشراقات الرضوية: وهو شرح بالعربية على منظومة السبزواري.

11- التوحيد الكمالي والأخلاق الكمالية- في علم الأخلاق- مجلدين كتبه في فترة إقامته في طهران.

12- ومن آثاره الشعرية:

أ- لسان الغيب في استقبال المثنوي كتبه في أوقات التهجد في السحر، وامتاز بكثرة الاقبال عليه من الناس.

ب- بيان الغيب في استقبال خواجه حافظ.

ج- نياح الغيب في خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة وواقعة الطف إلى رجوع أهل بيته: إلى المدينة. وقد طبع مع كتاب آداب السلوك للرعية والمملوك.

د- شرح منظوم على «گلشن راز».

إضافة إلى ذلكَ فقد نظم المؤلّف مجموعة كبيرة من القصائد الغزليات والمخمّسات والرباعيات باللغتين العربية والفارسية.

ص:15

13- كما كتب شروحاً وحواشي كثيرة منها:

أ- شرح كشف قواعد العلامة.

ب- حاشية على كشف الفوائد للعلامة الحلّي.

ج- وجوه تأمل على مكاسب الشيخ الأنصاري.

د- شروح على قواعد الشهيد الأوّل.

ه- شرح وجيز على منظومة السيد بحر العلوم.

14- قام المؤلف بتصحيح قسم من الكتب المهمّة منها:

أ- مكاسب الشيخ مرتضى الأنصاري.

ب- مستدركات الوسائل.

ج- قواعد الشهيد الأوّل.

د- كشف الفوائد للعلامة الحلّي.

ه- منظومة السيد بحر العلوم.

و- جزءان من إقبال السيد ابن طاووس.

وفاته:

توفّي المرحوم العصّار في التاسع من محرّم سنة 1356 ه 22 آذار 1937 في مشهد المقدسة و دفن في الايوان الذهبي للإمام الرضا عليه السلام.

ص:16

منهج التحقيق

اعتمدت في تحقيق هذهِ الرسالة الشريفة على مخطوطتين موجودتين في مكتبة الاستانة الرضوية المقدسة الاولى كاملة بخط النستعليق ورمزت لها بالرمز: «س» وهي رديئة الخط وكُتبت سنة 1343 ه وعدد أوراقها 30 بطول 21 وعرض 17 سم وهي مختلفة السطور.

وأمّا الثانية فرمزنا إليها برمز: «ن» تمتاز بجودة الخطّ ولكنها ناقصة من الأخير وخطها النسخ وعدد الأسطر 24 وعدد الأوراق 24 بطول 21 وعرض 17 سم.

وقد قمت بمقابلت النسختين وبّينت مابينهما من الإختلاف وأصلحت الأخطاء الإملائية التي وردت وأشرت لها بالهامش واستخرجت الآيات والروايات من كتب الفريقين وغيرها، وقمت بتقطيع الرسالة طبقاً للقواعد الحديثة وأشكلت مايحتاج إلى الشكل من العبارات وغير ذلك مما يرتبط بالإخراج والتقويم.

وأشرت أحياناً بكلمة الأصل أو النسختين إلى «س» و «ن» وأسأل اللَّه تعالى ان يجعل ذلكَ العمل القليل خالصاً لوجهه الكريم وآخر دعوانا أن الحمدُ للَّه ربِّ العالمين وصلّى اللَّه على محمد وآله الطاهرين.

نعمان النصري

ص:17

الصفحة الأولى من النسخة «س»

ص:18

الصفحة الأولى من النسخة «ن»

ص:19

الصفحة الأخيرة من النسخة «س»

ص:20

صفحه بيضاء

ص:21

مقدّمة المؤلّف

اشارة

] رَبِّ اشْرَحْ لي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أمري واحلُلْ عُقْدةً مِنْ لساني يَفْقَهُوا قولي «(1)»

.

الحمد للَّه الّذي هدانا إلى الاسلام، وجعلنا من امّة محمّد صلى الله عليه و آله والأئمّة الكرام عليهم الصّلاة والسّلام، والّلعنة الدّائمة على أعدائهم من الآن إلى قيام يوم القيام.

وبعد؛ فيقول العبد الجاني محمّد الحسينيّ الطهرانيّ، حليف الآثام والأماني:

إنّي- وللَّه الحمد- من سوء القضاء أو لكون ا للَّه تعالى يفعل ما يشاء واقع في زمان تهاجم الفتن، وتعاظم أعداء الدّين، المصرّين على تبديل الفرائض والسّنن، وتعطيل الأحكام بجدّ أكيد في السّر والعلن، وظهور ذلك للعين والعيان أغنانا عن


1- - سورة طه: الآيات 25- 28.

ص:22

تفصيل العناوين بالبيان.

والعجب من الجماعة الوهّابية من أنّهم أسّسوا أساس العناد، بعنوان ديانة العباد، أعلى وأعظم من البابيّة والبهائيّة؛ حيث زعموا أنفسهم موحّدين، وكّل فرق المسلمين مشركين، وجعلوا القتل والنّهب والأسر والغصب ديانة حقّة، وعبادة مستحقّة، وأعجب من ذلك إقامتهم الدليل على مرامهم من التنزيل، بعنوان ظاهره لاالتأويل، زاعمين أنهّم جند اللَّه الغالبون، وسائر المسلمين كفّار مشركون، ولم أرَ من كتبهم إلا شطراً، ولا من أدلّتهم الّانزراً.

ولقد أراني من كتبهم كرّاساً ناقصاً أوّلًا وآخراً بعض الأحباب، من السادة الأجلّة الأنجاب، وسلالة العلماء الأعلام الأطياب، سائلًا منّي التعرّض لأجوبة مقالاتهم، والردّ لاستدلالاتهم، فأجبته حبّاً وكرامة، وبعد أن كتبت ما يمكن جواباً عمّا في الأوراق الناقصة وجدت تلك النّسخة تامّةً سليمةً «(1)» أوّلًا وآخراً، وقد تعرّض لما عليه بعض أصدقائنا المعاصرين القاطن في الكاظمين، والرّسالة- على ماعرفه المعاصر- لمحمّد بن عبد الوهاب الحجازي؛ إمام الفرقة الوهّابية، وظنّي أنّه كذلك وإن لم أجد في هذه الأوراق والرّسالة ما يشير إلى صاحب


1- - في الأصل: تامّاً سليماً، والصواب ما أثبتناه.

ص:23

المقال المصرّ بإضلال الجهّال- وذلك لكون ذلك المعاصر المتعرّض لردّ كلمات هذا المضلّ القاصر والزنديق المجاهر قريب العهد بتهاجم الوهّابية على كربلا [ء]، ومطّلعاً على إمامهم ورأيهم في تلك الأوقات.

و كيف كان؛ فنحن نرى ما قاله القائل زوراً، وألقى إليه الشيطان زخرف القول غروراً، وعلينا إقامة البرهان، وإبطال ما ألقى وأوحى إليه الشيطان، فنبدأ بإزهاق أباطيله من ابتداء أقاويله فنقول:

قال مريد الشيطان الرجيم: «بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم» إغفالًا للجهّال، بكونه مؤسّس الإضلال، وجالب الخزي وخيبة الآمال، إلى العامّة والجهّال، واللَّه العالم بالسرّ وأخفى و أعماق الخيال، ثمّ قال:

«اعلم- رحمك اللَّه- أنّ التوحيد هو إفراد اللَّه بالعبادة، وهو دين الرسل والّذين أرسلهم اللَّه تعالى به إلى عباده؛ فأوّلهم نوح؛ أرسله اللَّه تعالى إلى قومه لمّا غلوا في الصالحين: ودّاً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، وآخر الرّسل محمّد صلى الله عليه و آله، وهو الّذي كسّر صور هؤلاء الصالحين، أرسله اللَّه إلى أُناس يتعبّدون، ويحجّون، ويتصدّقون، ويذكرون اللَّه كثيراً ولكنّهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين اللَّه يقولون نريد

ص:24

منهم التّقرّب إلى اللَّه، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة، وعيسى بن مريم، وأُناس غيرهم من الصّالحين، فبعث اللَّه محمّداً يجدّد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرّب والاعتقاد محض حقّ اللَّه، لا يصلح منه شي ء لملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، فضلًا من «(1)» غيرهما، وإلّا فهؤلاء المشركين «(2)»

الّذين قاتلهم رسول اللَّه، يقرّون بأنّ اللَّه تعالى هو الخالق الرّازق، وحده لا شريك له، وأنّه لا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت إلّاهو، وأن جميع السّماوات السّبع ومن فيهنّ، والأرض ومن فيها، كلّهم عبيده، وتحت تصرّفه وقهره، فإذا أردت الدّليل على أنّ هؤلاء المشركين الّذين قاتلهم رسول اللَّه يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّماءِ والأرضِ أمّنْ يَملكُ السَّمْعَ والأبْصَارَ ومَنْ يُخْرجُ الحَيَّ من الميِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أفلا تَتَّقُونَ «(3)»

وقوله تعالى قُلْ لِمَنْ الأرضُ وَمَنْ فيها إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ سَيَقُولُونَ اللَّهُ قُلْ أفَلا تَذكَّرونَ «(4)»

وقوله تعالى قُلْ مَنْ بِيَدِهِ


1- - كذا، والصحيح عن.
2- - كذا والصحيح: المشركون.
3- - سورة يونس: الآية 31.
4- - سورةالمؤمنون: الآيتان 84- 85، وفي المصدر: تتقون وهو خطأ، والصحيح ما اثبتناه.

ص:25

مَلَكوتُ كلِّ شي ء وَهُوَ يجيرُ ولا يجارُ عَلَيْه إن كُنْتُمْ تَعْلَمونَ سَيَقُولُونَ اللَّه قُلْ فأنّى تُسْحَروْنَ «(1)»

إلى غير ذلك من الآيات» انتهى محلّ الحاجة.

أقول: ويشير بذلك إلى قوله تعالى قُلْ لِمَنْ الأرضُ وَمَنْ فيها إن كنتم تعلمون «(2)» سَيَقولونَ للَّه قل أفلا تذكرّون قل من ربّ السماوات والأرض وربّ العرش العظيم سيقولون اللَّه قل أفلا تتقون ولابدّ لنا من توضيح مقالاته وتشريح كلماته وتلخيص مراداته، ثم بيان ما يرد على مراده من عباراته.

وقبل الشّروع في التّوضيح والتّشريح لابدّ لنا من تقديم مقدّمة شريفة يستمدّ بها على تخريب [ال] أساس الّذي أسّسه بإبطال استدلالاته السّخيفة، وهي أنّ العبادة خضوع وخشوع خاصّ لا ينبغي لأحد غير اللَّه تعالى، وفعلها بتلك الخصوصيّة لغيره تعالى تشريك له في العبادة وإن لم يسمّ عبادة بل سمّي شفاعة، وسيأتي بيان المناسبة بين العبادة والشفاعة ببعض معانيها المتصوّرة إن شاء


1- - سورة المؤمنون: الآية 88- 89.
2- - ان كنتم تعلمون ساقطة من الأصل.

ص:26

اللَّه تعالى.

والخضوع الخاصّ فيما جبّل به الأشياء تكويناً يرشدنا إليه قوله تبارك وتعالى: وإن من شي ء إلّايسبّحُ بحَمْدِه وَلكِنْ لا تَفْقَهونَ تَسْبِيْحَهُمْ «(1)»

وأيضاً له خضوع تشريعيّ يدلّنا عليه قوله تعالى: وله يسجد من في السماوات والأرض «(2)»

كلّ وقوله تعالى: له من في السّموات والأرض كلّ له قانتون «(3)»

وقوله تعالى في وصف المؤمنين: الراكعون السّاجدون الآمرون بالمعروف «(4)»

الخ إلى غير ذلك مما دلّ على تشريع كيفيّة العبادة للَّه تعالى، والخضوع التّكوينى للأشياء ناشٍ عن علمها الفطريّ بأنّ المولى والحقيقّي [الّذي] يستحقّ العبادة والخضوع التشريعيّ بالكيفيّة الخاصّة يحتاج إلى معلّم يعلّم العباد كيفيّة العبادة للَّه تعالى، والنبيّ هو المبنى عن اللَّه،، وأنّه المولى المستحقّ فقط للعبادة، ولا يستحقّها غيره، فيعبده المتعلّمون إما خوفاً من ناره، أو شوقاً إلى جنّته، أو لكونه أهلًا لذلك كما نطق به أمير المؤمنين عليه السلام في مناجاته حيث قال: «إلهي ما عبدتُكَ خَوفاً مِن نارِكَ، ولا شوقاً إلى جنّتك، بل وجدتك أهلًا لذلك» «(5)».


1- - سورة الإسراء: الآية 44.
2- - لا توجد هكذا آية في القرآن، ولكن يوجد قوله تعالى:« و للَّه يسجد من في السماوات والأرض».
3- - سورة الروم: الآية 26.
4- - سورة التّوبة: الآية 112.
5- - علل الشرائع ص 57.

ص:27

ينطقُ العقلُ [بل] اللَّهَ اعبدوا «(1)» ولشمسٍ قمرٍ لا تَسجُدُوا

ذا نداء لم يزل مرتفعاً «(2)» بنداء العقل جمع اهتدوا

أيقنت أنفسُ جمع بالنِّدا «(3)» وبظلم وعتوّ جحدوا

قلدوا أسلافهم في منكرٍ وللاتٍ ولعزّى سجدوا

من هو المستحق للعبادة

] وحاصل المقصود أنّ المعبود هو اللَّه، ولايستحقّ العبادة سواه؛ لانحصار موجباتها به وحده لاشريك له، فالعابد لغيره مشرك ولو كان هواه أو مايهواه، ولو كان محبوباً للإله فضلًا عن أن يكون مخلوقاً لا وجاهة له عند اللَّه كالخشبة المنحوتة أو الذّهب المصوغ بأي شكلٍ ترضاه، والخضوع بغير الكيفيّة المخصوصة للأكابر من الأولياء لا يصدق عليه العبادة، ولو اطلق عليه لفظها كان إطلاقاً


1- - ما بين المعقوفتين ساقط من« س».
2- - في« س» و« ن»: مرتفع، والصحيح ما أثبتناه.
3- - في« س»: بالنداء.

ص:28

مجازيّاً أو توسّعاً بمعنى جعل الخضوع لهم خضوعاً للَّه بغير الكيفيّة الخاصّة لكون ذلك حبّاً لمحبوب ا للَّه تعالى وحبّ محبوب اللَّه حبّ اللَّه، وذلك واضح لمن تدبّر وأنصف لا لمن عاند واعتسف.

تبصرة تذييلية:

جملة «العبوديّة جوهرة كنهها الرّبوبيّة» يجب أن يكون لها معنى معقولًا أراده المتكلّم بها سواء أذعنّا كونها من الأحاديث القدسيّة أم لا، وما يتوهّم من ظاهرها من أنّ العبوديّة موصلة للعبد بمقام الرّبوبيّة غير مراد قطعاً للزوم انقلاب الشّي ء إلى ضدّه، فيكون العبد مولى، وهذا خلف.

والمعنى المعقول أن يراد بها أنّ العبوديّة تجعل «(1)» العبد واسطة لإيصال فيض التّربية مّن الرّب الأعلى إلى المربوبين، فيكون ربّاً بالغير، وبذلك تصير «(2)» له رتبة عالية لا ينالها من لم يحصل له مقام العبوديّة للربّ الأعلى، وبذلك كان النبيّ المصطفى صلى الله عليه و آله أفضل من جميع الأنبياء العظام؛ لإحرازه مقام العبوديّة أوّلًا، وشرّف بلقب العبوديّة قبل الرسالة كما يشير إليه شهادة أن محمّداً عبده ورسوله


1- - في« س» و« ن» يجعل والأنسب ما ذكرناه.
2- - في« س» و« ن» يصير و الأنسب ما ذكرناه.

ص:29

حيث قدّم العبوديّة على الرسالة، وعلى ذلك يتفرّع تفضيل بعض الأنبياء على بعض، كما أنّه يتفرّع على ذلك ثبوت حقّ للعبد على الرّبّ، فيصحّ أن يقال: اللهم إنّي أسألك بحقّ محمّد وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين والتّسعة المعصومين من ذرّية الحسين صلوات اللَّه عليه وعليهم أجمعين؛ لأنّهم بالعبوديّة استحقّوا التكريم والوجاهة عند اللَّه وحبّه تعالى لهم عليهم السلام؛ وذلك لاقتضاء ذات العبوديّة لثبوت هذا الحقّ عليه، والموجب لذلك عليه تعالى هو نفسه جلّ جلاله وعظم شأنه وسلطانه ولا إله غيره؛ إذ لا موجب سواه.

ليس على خالق أرض وسما حقّ لمخلوق إليه ينتما

إلّا حقوق أوجب الفيض لها عليه من بذل الوجود العدما

تكريمه لعبده المنتجبِ حقّ له بفضله إختتما

وجوب تعظيم ما ينسب إلى المنتجبين

] ويتفرّع على ذلك وجوب التعظيم والتكريم على الأنام لكل ما ينسب إلى ذلك العبد المنتجب كالباب، بل عتبة داره وقبره والضريح الدائر حول قبره، وهذا الوجوب استحسان عقلائيّ عليه عامّة أهل العرف في سيَرهم وأعمالهم، وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه، ولنعم ما قيل:

ص:30

أمر على جدار ديار ليلى اقبّل ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبّ الدِّيارِ شغفنَ قَلْبي ولكنْ حبُّ من سَكَنَ الدِّيارا «(1)»

الأثار المترتبة على الإضافة التشريفية

والعارفون بما عليه قاطبة العقلاء من حيث كونهم عقلاء في محاوراتهم، كثيراً ما يرتّبون على الإضافة التّشريفيّة اموراً كثيرة، ففي أمثال: بيت اللَّه وكتاب اللَّه ورسول اللَّه في المحاورات كثيرة؛ كلُّها إضافة تشريفيّة فيقال نديم السلطان كاتب السّلطان وأمين السّلطان، ولا شكّ عندهم أنّ الإنسان محترم حيّاً وميّتاً، ويدلّ على ذلك مضافاً إلى سيرة العقلاء جعل التّغسيل والتّكفين والتّدفين في الشّرع، وجريان أحكام الحياة على الأموات من الشّجاج وقطع الأعضاء، وأحكام القبور من حرمة النّبش واستحباب تعليته عن الأرض وغيرها، وجعل العلامة لها، فإذا كان الإنسان مكرّماً فكلّما ازداد له الشّرافة والإضافة التّشريفيّة بكونه نبيّ اللَّه أو وليّه أو حبيبه زاد احترامه واحترام ما ينسب


1- - البيتان لقيس بن الملوّح العامري مجنون ليلى وهما في أغاني الأغاني 1: 146 ط 3- سنة 1993.

ص:31

إليه، والمنكر لذلك إمّا معاند لجوج أو مجامل لجوج.

بل نقول: إن المنكر لذلك منكر لما هو ضروريّ في الدّين، فهو مرتدّ من الدّين (ومن يرتد عن دينه فأولئك هم الكافرون) «(1)» يشمله، فيجب أن يجري عليهم أحكام الارتداد، بل يجب إعدامهم لكونهم مؤسّسين للفساد، ولا يختصّ رفع الفساد في الأرض بالمسلمين، بل يجب على عامّة العباد.

إذا عرفت ما تلونا عليك فاعلم أنّ مراده من أوّل مقاله بعد التّسمية بقوله: «اعلم يرحمك» إلى آخر كلامه أنّ التوّحيد عبارة عن إفراد اللَّه تعالى وتخصيصه بالعبادة، فلا يشرك في عبادته أحد، فكلُّ من أشرك أحداً في العبادة مع اللَّه فهو مشرك يجب قتاله، كما قاتل النبيّ صلى الله عليه و آله المشركين لذلك مع كونهم قائلين باللَّه الخالق الرازق المحيي المميت المدبّر، ويوضّح أنّ هذا خلاصة مقالاته الّتي يشير إليها بعد ذلك، وأنت عرفت ممّا ذكرنا أنّ العبادة بالمعنى المذكور في المقدّمة مختصّة باللَّه تعالى، لكنّ ما ذكره من اختصاص التوّحيد بذلك، وكون التوّحيد الّذي قاتل [عليه] النبيّ صلى الله عليه و آله المشركين مختصاً بالتوّحيد في العبادة باطل لا ينبغي صدوره عن العاقل؛ لأنّ التوّحيد للذات أعلى وأشرف ما يتحقّق به التوّحيد، بل ليس


1- - انظر الآية: 30 من سورة التوبة.

ص:32

أحد موحّداً إلا باعتقاد في مقامات أربع: توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، وتوحيد العبادة، وسيجي ء زيادة بيان لذلك إن شاء اللَّه تعالى.

هذا مضافاً [إلى] أن النبيّ صلى الله عليه و آله لم يقاتل المشركين في العبادة وحدهم، بل قاتل المجوس القائلين بالنور والظُّلمة، واليهود القائلين بأنّ عزيراً ابن اللَّه «(1)»، والنصارى القائلين بالأقانيم الثّلاثة، ومشركي العرب القائلين بأن أوثانهم آلهة، والدّهريّة المنكرين للصانع، القائلين بأنه لا يهلكنا إلا الدهر «(2)» إلى غير ذلك من أقسام المشركين وعبدة الكواكب «(3)» والشمس والقمر، فليس الشرك منحصراً بالشرك في العبادة، ولم يكن مقاتلة النبيّ صلى الله عليه و آله مختصّة بهم.

ثمّ إنّ المشار إليه بقوله: «ويخبرهم أن هذا التقرّب والاعتقاد محض حقّ اللَّه» غير مفهوم لنا، بل لا يتصّور له معنى، لأنّ المشار إليه بالاعتقاد لابدّ أن يكون هو الاعتقاد بوساطة المخلوق بين العبد وخالقه، وليس فيما «(4)» أشار إليه في كلامه مايناسب للاعتقاد


1- - انظر الآية 30 من سورة التوبة.
2- - انظر الآية 24 من سورة الجاثية.
3- - في النسختين: الكوكب والصحيح ما ذكرناه
4- - في النسختين: ما والصواب ما ذكرناه.

ص:33

المذكور، ويكون حقّاً للَّه محضاً؛ لأن معنى كونه حقّاً للَّه أن يعتقد ذلك للَّه، ولا يمكن ذلك بالنسبة إلى اللَّه؛ فإنّ الوساطة بين إثنين إنما تكون «(1)» بثالث، فلا تكون الوساطة للَّه بين نفسه وعبده.

والحاصل أنّ الاعتقاد بالوساطة ليس حقّاً للَّه، فيكون عطف الاعتقاد على التقرّب وجعله حقّاً للَّه باطلًا.

فإن قلت: كيف يتصوّر كون الشّفاعة للَّه وقد قال اللَّه تعالى: قل للَّه الشفاعة جميعاً «(2)»

؟.

قلت: معنى كون الشفاعة للَّه أنّ الشفاعة لا تكون «(3)» لأحد إلا بإذن من اللَّه له، والوساطة بهذا المعنى أيضاً حقّ له تعالى، ونحن نقول به بمعنى أنّ الوساطة بين العبد وخالقه للمخلوق لابدّ أن تكون بإذن منه تعالى، وهي بهذا المعنى عين الشفاعة ومحض له تعالى فلا يجوز أن يجعل أحد واسطة عنده إلّا بإذنه، فيكون مأذوناً في الوساطة والشفاعة، فيكون الاستشفاع مأذوناً فيه، بل مأموراً به لقوله تعالى لنبيّه: فأْذَنْ لمنْ شئْتَ منهم واستغفرْ لَهُمْ «(4)»

وقوله تعالى: واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وللمُؤْمنينَ


1- - في النسختين: يكون والانسب ما ذكرناه.
2- - سورة الزمر: الآية 44.
3- - في الاصل: يكون، والصحيح ما أثبتناه.
4- - سورة النور الآية 62.

ص:34

والمُؤْمِناتِ «(1)»

وغيرهما من الآيات، ولا يمكن أن يأذن في الشفاعة له وللائمة من ذريته بقوله: والّذينَ آمَنوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهم بإيْمان ألحقنا بهمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «(2)»

ويمنعنا عن الاستشفاع بهم، بل يّدل قوله تعالى: وابْتَغُوْا إليه الوَسِيْلَةَ «(3)»

[على] أمرنا بالاستشفاع.

وعلى هذا نقول: الاستشفاع بالأصنام ليس مأذوناً فيه، بخلاف الاستشفاع بالأنبياء والأولياء؛ فإنّه أمر مأذون فيه، مرغوب إليه؛ فلا يكون شركاً. و سيجي ء زيادة تحقيق وتوضيح لذلك إن شاء اللَّه تعالى.

ثم قال: «إذا تحقّقت أنّهم مقرّون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الّذي دعاهم إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عرفت أنّ التوحيد الّذي جحدوه هو توحيد العبادة الّذي يسمّيه المشركون في زماننا: الاعتقاد، كانوا يدعون اللَّه ليلًا ونهاراً، ثم منهم من يدعو


1- - سورة محمّد صلى الله عليه و آله، الآية 19.
2- - سورة الطور: الآية 21.
3- - سورة المائدة: الآية 35.

ص:35

الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من اللَّه ليشفعوا له، أو يدعو رجلًا صالحاً مثل اللّات، أو نبيّاً مثل عيسى عليه السلام وعرفت أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاتلهم على هذا الشّرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة للَّه كما قال اللَّه تعالى: فلا تدعوا مع اللَّه أحدا «(1)»

وقال تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ والذين يدعون من دونه لا يَسْتَجيْبُونَ لهم بشي ء «(2)»

» انتهى محلّ الحاجة.

أقول: خلاصة مقصود المستدل بالآيات أنّ الكفّار والمشركين كانوا مقرّين باللَّه تعالى، وكونه ربّ السماوات والأرض، وبيده ملكوت كلّ شي ء، لكن لم يكن ذلك توحيداً دعاهم النبيّ صلى الله عليه و آله لعدم الحاجة إلى الدعوة إلى ما هم مقّرون به، فلزم أن يكون المدعو إليه من التّوحيد هو التّوحيد في العبادة؛ بأن لا يدعوا «(3)» غير اللَّه تعالى، وتكون عبادتهم خالصة لوجه اللَّه تعالى، وحيث إنّهم أنكروا عليه صلى الله عليه و آله؛ فمنهم من أشرك الملائكة معه، ومنهم من أشرك رجلًا صالحاً كاللّات، ومنهم من أشرك نبياً مثل عيسى عليه السلام قاتلهم النبيّ على ذلك، وكانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه «(4)»

كما يقول به المشركون في هذا الزمان، فكما عاملهم النبيّ صلى الله عليه و آله بالقتل والقتال لأجل جعلهم هؤلاء شفعاء، ولم يكونوا من أهل التوحيد، مع الإقرار باللَّه وكانوا مشركين لأجل تشريكهم يكهم هؤلاء به


1- - سورة الجن: الآية 18.
2- - سورة الرعد: الآية 14. وفي الأصل: فلا والصحيح ما أثبتناه.
3- - في الأصل يدعون والصحيح ما ذكرناه.
4- - سورة يونس: الآية 18.

ص:36

تعالى في العبادة، فكذلك يكون حال كلّ من استشفع عند اللَّه بأحد من الأنبياء؛ فإنّه مشرك يجب العاملة معه معاملة معه معاملة المشركين.

هذا خلاصة كلامهم. لكنّ الآيات المذكورة غير دالّة على مرامهم، وذلك لأنّ الاستفهام في الآيات المذكورة تقريريّ، ويتفرّع على إقرارهم بطلان عملهم ولوازمه، فيكون حاصل الكلام المتفرّع على إقرارهم بأنّ اللَّه ربّ السماوات والأرض، وبيده ملكوت كلّ شي ء أنّه أيّ منزلة لهؤلاء الآلهة الّتي تدعونهم، وأيّ شي ء يصدر عنهم ممّا هو من شأن الالوهية، يعني إذا كان ربّ السماوات والأرض هو الّذي بيده ملكوت كلّ شي ء، وهو يجير ولا يجار عليه، فلا يصدر من غيره شي ء من هذه الامور، ومع عدم حصول شي ء [من] غيره؛ فكيف تجعلون هؤلاء آلهة، وكيف تتوسّلون بشي ء لا يملك نفعاً ولا ضراً، وكيف تستشفعون بمن لا وجاهة له عند اللَّه؟! فإنَّ الاستشفاع بشي ء يتوقّف على كونه قابلًا لها بكونه وجيهاً محترماً عند المستشفع إليه، فيكون تسمية هؤلاء آلهة خطأوباطلًا، وجعلهم شفعاء خطأ وباطلًا، والتعظيم والخضوع لهم خطأ وباطلًا؛ لعدم الموجب لذلك لهم؛ لأنّ الموجب للتعظيم والتكريم الانتساب إلى اللَّه بنحو من الأنحاء من نبوّة أو ولاية أو صلاح، والخشبة المنحوتة أو الذهب المصوغ بشكل مرضيّ لا انتساب إلى اللَّه بنحو من الانحاء المذكورة، فتكريمهم خطأ

ص:37

وباطل، والخضوع لهم بما لا يستحقّه غير اللَّه تعالى خطأ وباطل.

وعلى هذا فعمل النبيّ صلى الله عليه و آله مع هؤلاء المشركين بالمقاتلة إنّما هو لكونهم مرتكبين للخطايا والأباطيل، وليس شي ء منها فيما عليه المسلمون المرميّون بالشرك عند هؤلاء الجماعة المستدلّين بهذه الآيات من الاستشفاع بالأنبيّاء والأئمة عليهم السلام واللّو [ا] ذ بقبورهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء اللَّه تعالى.

ثم قوله: «التوحيد الّذي جحدوه هو توحيد العبادة الّذي يسمّونه المشركون في زماننا اعتقاد» الخ كلام لايفهم معناه، بل لا محصّل له؛ إذ المشركون في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله من عبدة الأوثان المقرّون باللَّه تعالى وجحدهم توحيد العبادة غير ملازم لكون توحيد المشركين في زمانهم بزعمهم جحداً لتوحيد العبادة، بعد عدم عبادتهم وخضوعهم لأحد من الأنبياء والأولياء بكيفية العبادة والخضوع للَّه تعالى، وتسمية الاستشفاع بهم عبادة لهم غلط واضح؛ لأنّ التوسّل بالشّفيع لأجل الشّفاعة ليس عبادة له، بل إظهار لوجاهتهم عند اللَّه، ولا مماثلة بين استشفاع عبدة الأوثان والمشركين «(1)» في زمان النبيّ صلى الله عليه و آله، واستشفاع المستشفعين بالأنبياء والأولياء حيث إنّ عبدة الأثان كانوا يعملون من أصناف العبادة


1- - في« س» و« ن» المشركون والصواب ما أثبتناه.

ص:38

للَّه ما يعملون للأصنام، ويجعلون الصنم معبوداً ليقبل اللَّه عبادتهم ولم يكن لهم عبادة مخصوصة للَّه تعالى، واستشفاعاً بالأوثان، وهذا بخلاف استشفاع المستشفعين بالأنبياء والأولياء؛ فإنّ عباداتهم كلّها للَّه، والاستشفاع كالاستغفار للعفو عن الذّنوب، وأين هذا من ذاك؟! وقول اللَّه تعالى: ويَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللَّه ما لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ وَيَقوْلُوْنَ هؤلاء شُفَعَاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلُّ أتُنَبِّئُوْنَ اللَّهَ بما لا يعلمُ في السَّماواتِ ولا في الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عمّا يُشْركُون «(1)»

صريح في ذم عبدة الأوثان بتركهم عبادة اللَّه، وبعبادتهم الأوثان، وتسميتهم لها شفعاء، وجعلهم من لا يستحقّ العبادة معبوداً بعبادة لا يستحقّها غير اللَّه تعالى، وهذا العمل تشريك منهم للَّه جلّ وعزّ، وهو لا يعلم لنفسه شريكاً في السماوات ولا في الأرض.

والحاصل أنّ عبدة الأوثان لم يكونوا عابدين للَّه، بل كانوا يعبدون الأصنام زعماً منهم عدم قابليتهم لعبادة اللَّه، فكانوا يعبدون الأوثان؛ ليشفعوا لهم عند اللَّه، فتقضي مهمّاتهم وحوائجهم، ولا مناسبة بين ذلك وبين الاستشفاع بالأنبياء والأولياء كما لايخفى، مع أنّ الاستشفاع من امور لاتجوز الّا بإذن


1- - سورة يونس: الآية 18.

ص:39

من اللَّه تعالى عموماً أو خصوصاً، فالاستشفاع بمن لم يأذن اللَّه جعله شفيعاً باطل وحرام يدلّ عليه قوله تعالى: من ذا الّذي يشفع عنده إلّا بإذنه «(1)»

وقوله تعالى: ولا يشفعون إلّالمن ارتضى «(2)»

فانّ عدم شفاعة الشّفعاء إلا بالإذن في الشفاعة يستلزم لزوم الاستيذان في الاستشفاع للمستشفعين ومن يُستشفع به، فمن لم يجعل شفيعاً من قبل اللَّه لا يستشفع به لكونه غير مأذون فيه.

وبتقرير آخر لا يُشَفِّعُ «(3)» أحد عند أحد أحداً ما لم يعلم أو يظن كونه مقبول الشفاعة، فمن يمكن معرفة كونه كذلك كالمقربين عند السّلاطين والأكابر والخصيصين من أصحاب العلماء يستشفع به؛ لدلالة هذا الموقف على جواز الاستشفاع به وذلك أمر عقلائيّ ومن لم يعرف بهذا الوصف، فلا دليل على جواز الاستشفاع به بل يعدّ التوسل والاستشفاع به لغواً وباطلًا لا يقدم عليه إلّاالسفيه والعابث.

وحينئذٍ فنقول: إنّ الأنبياء والأولياء حيث إنّه معلوم كونه مقبول الشفاعة عند اللَّه جاز التوسّل بهم، وأمّا الخشب المنحوت والذهب المصوغ بشكل نبيّ أو ملك أو رجل صالح فلم يعلم كونه


1- - سورة البقرة: الآية 255.
2- - سورة الأنبياء: الآية 28.
3- - في الأصل يستشفع، والصحيح ما أثبتناه.

ص:40

مقبول الشفاعة بل المعلوم عدمه، فكيف يجعل شفيعاً عند اللَّه؟

ولأجل ذلك أمر اللَّه تعالى رسوله الأكرم صلى الله عليه و آله: قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّه بما لا يَعْلَمُ في السماوات والأرض «(1)»

يعني هل تخبرون اللَّه العالم بكل الأشياء بما ليس في السملوات والأرض.

وحاصل الكلام أنّ الشريك للَّه تعالى ليس في السماوات والأرض حتّى يعلمه، وشفيع يقبل شهادته عند اللَّه مما لا يضر ولا ينفع أيضاً ليس في السماوات والأرض حتّى يعلمه اللَّه تعالى، فقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه شي ء ينبئون اللَّه بما لا يعلم في السماوات والأرض.

ثم إنّ الظاهر أنّ مراده بالمشركين في زماننا هم المستشفعون بالأنبياء والأولياء، العائذون بهم، اللائذون بقبورهم، والمستغيثون «(2)» بهم في الشدائد، لكن لم يعلم أنّ المشار إليه بالضّمير في «يسميه» هل هو جحد التوحيد في العبادة أو غيره؟ فان كان مرجع الضمير هو جحد التوحيد في العبادة فهو- مع أنّه غير قابل لتسميته اعتقاداً، فإنّ الإنكار أمر عدمي لا يصحّ أن يجعل من قبيل الاعتقاد الّذي هو وجودي- كذب صريح، فإنّ أحداً ممّن يستشفع بالأنبياء والأولياء لم يجحد التوحيد في العبادة حتّى أنّهم


1- - سورة: يونس: الآية 18.
2- - في الأصل: المستشفعين ... العائذين ... المستغيثين، والصحيح ما أثبتناه.

ص:41

جعلوا عبادة المرائي باطلة بعدم الخلوص فكيف يسمّون شيئاً لم يقولوا به اعتقاداً، وإن كان مرجع الضمير غير جحد التوحيد في العبادة؛ فليس في الكلام ما يدلّ عليه.

والحاصل أنّي لم أستفد من هذه العبارة معنى متصوّراً معقولًا، لكنك عرفت ممّا تقدّم أنّ قوله: «وعرفت أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاتلهم على هذا الشّرك ودعاهم إلى الإخلاص» تخصيص لا دليل عليه؛ لاشتمال أفعالهم على خطايا أربع كلّها أباطيل؛ فلا دليل على اختصاص فعل النبيّ صلى الله عليه و آله ومقاتلة رسول اللَّه معهم بخصوص أحد الخطايا والأباطيل، ولو فرضنا الاختصاص فهو بالنسبة إلى عبدة الأوثان، فلا ربط له بالمستشفعين بالأنبياء و الأولياء والداعين لهم للوساطة والشفاعة، من غير أن يجعلوهم معبوداً يعبدونهم بما يعبدون اللَّه به وخضوعهم لهم بغير تلك الكيفية ليس بعبادة لهم، بل هو تعظيم وتكريم لهم باعتبار انتسابهم إلى اللَّه بالاضافة التشريفيّة.

ثم قال: «وتحققت أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاتلهم لتكون الطاعة كلّها للَّه، والنّذر كلّه للَّه، والذّبح كلّه للَّه، والاستغاثة كلّها للَّه، وجميع انواع العبادات للَّه، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبيّة لم يدخلهم في الإسلام، وأنّ قصدهم الملائكة والأنبياء يريدون شفاعتهم والتقرّب إلى اللَّه بذلك هو الّذي أحلّ دماءهم

ص:42

وأموالهم، عرفت حينئذٍ التّوحيد الّذي دعت إليه الرّسل وأبى عن الإقرار به المشركون.

أقول: خلاصة مقصود القائل أنّ النبيّ قاتل الكفّار لكون دعائهم ونذرهم وذبحهم لغير اللَّه تعالى، واستغاثتهم وعباداتهم لغيره تعالى، ودعاهم إلى فعل ذلك كلّه خالصاً لوجهه الكريم، فانكروا عليه فقاتلهم ليردّهم عن ذلك إلى أن يكون كل ذلك للَّه، وقصدهم في هذه الأعمال للملائكة أو الأنبياء أو الأولياء للشفاعة عند اللَّه عزّ وجلّ والتقرّب به لم يدخلهم في الاسلام بل أحل دماءهم وأموالهم للمسلمين، يريد بهذا البيان تأكيد ما ذكره من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله إنّما كان يدعو المشركين المقرين باللَّه إلى التوحيد في العبادة. انتهى خلاصة المرام.

لكن غير خفي على المتدبّر الخبير والمتدرّب البصير أنّ دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله لهؤلاء المشركين إلى التوحيد في العبادة غير منافٍ لدعوتهم إلى وحدة الذّات والإقرار بكون اللَّه تعالى خالق السماوات والأرض، وبيده ملكوت كلّ شي ء بعد جعل الشريك له في العبادة دليل على قصورهم عن معرفة وحدة الحقّ بالذات؛ فإنّ العارف بذلك لا يمكن أن يسمّي غيره كائناً ما كان إلهاً، ولا يمكن أن يستشفع بغيره للقرب إليه كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في دعائه: «اللهم إنّي أتقرّب إليك بذكرك واستشفع بك إلى نفسك

ص:43

الخ» «(1)»

ولا يمكن أن يعبد غيره بالكيفيّة الخاصّة به، وعلى هذا كان دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله لهم إلى معرفة حقيقة التوحيد الذاتيّ لا خصوص التوحيد بالعبادة، فانكروا عليه ذلك وقالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشي ء عجاب «(2)»

وأيضاً قالوا: امْشوا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشي ء يراد ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرةِ إن هذا إلّااختلاقٌ بل كانوا شاكيّن في وجود اللَّه الواحد حيث قالوا لصالح عليه السلام قال لهم: ياقوم اعبدوا اللَّه مالكم من إله غيره هو الّذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها «(3)»

: يا صالح قد كُنْتَ فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤنا وإنّنا لفي شكّ ممّا تدعوننا إليه مُريبٍ «(4)»

مضافاً إلى أنّ الحاق المستشفعين بالأنبياء والأولياء واللائذين بقبورهم بالمشركين في زمن النبي صلى الله عليه و آله لا دليل عليه حتّى القياس الممنوع؛ لأنهم مع استشفاعهم بالأنبياء والأئمة عليهم السلام وقبورهم مقرّون بالتوحيد الذاتيّ والأوصافيّ والأفعاليّ والعباديّ حتّى أنّهم حكموا ببطلان عبادات المرائي كما أشرنا إليه آنفاً، فكيف يلحقونهم


1- - انظر دعاء كميل في مفاتيح الجنان.
2- - سورة ص: الآية 5.
3- - سورة هود: الآية 61.
4- - سورة هود: الآية 62.

ص:44

بهؤلاء الثابت عليهم الخطأ والباطل في المقامات الأربعة المتقدّمة، وعدم اعتقادهم بالتوحيد في شي ء من أقسام التوحيد.

وفي قوله: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاتلهم لتكون الطاعة كلّها للَّه، والنذر كله للَّه، والذبح كله للَّه» إشارة إلى أنّ المشركين في زمانهم ينذرون ويذبحون لغير اللَّه، ويستشفعون بغيره، فيجب قتالهم كما فعل النبيّ صلى الله عليه و آله ذلك بالمشركين في زمنه، لأجل فعلهم الأفعال لغيراللَّه، لكن ذلك- بالنسبة إلى من يعتقدونه «(1)» مشركاً في زمانهم- كذب واضح؛ إذ ليس أحد من المسلمين ينذر لغير اللَّه أو يذبح لغيره تعالى، مثلًا من أراد ولداً وطلبه من اللَّه يقول: للَّه عليّ صوم كذا أو صدقة كذا إن رزقني ولداً، وكذا يقولون: للَّه عليّ ذبح شاة إن رزقت ولداً، والذّبح في الحجّ والأضحيّة فمعلوم أنّه للَّه، أمّا نذر الذّبح لحضرة العبّاس عليه السلام المتداول بين عوام النّاس؛ فهو أيضاً ذبح للَّه، وإن كان تعبيرهم قاصراً عن مقصودهم؛ فإنّ مقصود النّاذر كذلك النذر للَّه على أن يذبح ويتصدّق به ليكون ثوابه راجعاً إليه عليه السلام، فيكون هدية تهدى لكون قضاء حاجته بشفاعته له عند اللَّه في تلك الحاجة.

والحاصل أنّ كلّ المسلمين المستشفعين بالأنبياء والأولياء لا


1- - في الأصل: يعتقدوه، والصحيح ما ذكرناه.

ص:45

يقصدون بذلك كلّه إلّا اللَّه معتقداً كونهم واسطة لفيضه، [و] رابطة بين العبد وربّه بإذن من اللَّه لهم في ذلك، قال اللَّه تعالى:

في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّه أن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسمه يسبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيْهِمْ تجارَةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ اللَّه «(1)»

الخ المفسّر على ما في تفسير الثعلبي بما رواه عن أبان بن تغلب عن بقيع بن حارث عن أنس بن مالك وبريدة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه صلى الله عليه و آله سئل لمّا قرأ الآية: أيّ بيوت هذه البيوت؟ فقال: بيوت الأنبياء عليهم السلام فقام أبو بكر وقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيت عليّ عليه السلام وفاطمة عليها السلام منها؟ فقال:

نعم من أفاضلها «(2)»

. وقوله صلى الله عليه و آله: «من أفاضلها» دالّ على ما حققّناه في شرح [ال] زيارة الجامعة من أنّ بيت النبوّة هو بيت النبي ى الله عليه و آله، وبيوت النبييّن من فروعه، وأفضليّة بيت عليّ عليه السلام باعتبار كونه بيت النبيّ صلى الله عليه و آله كما تدل عليه آية المباهلة؛ حيث جعل صلى الله عليه و آله علياً عليه السلام داخلًا في أنْفُسَنا «(3)»

ولذلك قلت في ذلك:

بيت آل المصطفى مُذ بدعا أذِنَ اللَّه له أن يُرْفعا


1- - سورة النور: الآيتان 36- 37.
2- - الدر المنثور للسيوطي في تفسير الآية ج 5، ص 91، ط 1، بيروت.
3- - سورة آل عمران: الآية 61.

ص:46

ليسَ رفعُ البَيتِ من بنيانِهِ هو شأنٌ من شؤون الرفعا

رفعه من ذَكَرَ اسمَ اللَّه فيه من رجالٍ خشّعٍ والركعا

ليس يلهيهمْ عن الذكر هوى نَفْسِهِمْ من تاجرٍ أو بَيِّعا

من شؤون الذِّكرِ لَهْ أنْ يَجعلوا ربَّ ذاكَ البيتِ عبداً شافعا

فقد تحقّق لك مما ذكرت أنّ المشركين لم يكونوا مقرّين بتوحيد الربوبيّة حتّى يدخلهم ذلك في الإسلام؛ لأنّ توحيد الرّبوبيّة لا يجتمع مع الشرك لسائر مقامات التوحيد، وعلمت أنّ استشفاع المشركين بآلهتهم غير قابل للقياس على استشفاع المستشفعين بالأنبياء والأولياء عليهم السلام.

في بيان معنى التوحيد

] ثم قال القائل: «هذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا اللَّه؛ فإنّ الإله عندهم هو الّذي يقُصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أوشجرةً أوقبراً أو جنّياً، لم يريدوا أنّ الإله

ص:47

هو الخالق الرّزاق المدبّر، فإنّهم يعلمون أنّ ذلك اللَّه وحده كما قدّمت لك، وإنّما يعنون بالإله مايعني المشركون في زماننا بلفظ السّيد، فأتاهم النبيّ صلى الله عليه و آله يدعوهم إلى كلمة التوحيد؛ وهي لا إله الّا اللَّه، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفّار الجهّال يعلمون أنّ مراد النبيّ صلى الله عليه و آله بهذه الكلمة إفراد اللَّه تعالى بالتعلّق، والكفر بما يعبدون دونه، فإنّه صلى الله عليه و آله لما قال لهم: قولوا لا إله الا اللَّه قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشي ء عجاب «(1)»

أقول: خلاصة مرامه بما يظهر من ظاهر كلامه أنّ الكفّار في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله كانوا مقرّين بأنّ الخالق الرازق المدبّر هو اللَّه وحده، وإنّما كانوا يقصدون من الآلهة الّتي كانوا يعبدونها كائناً ما كان الامور، ومعنى لا إله إلّا اللَّه الّذي دعاهم صلى الله عليه و آله اليه هو ترك طلب هذه الأمور من هذه الآلهة وامَرَهم بطلب كلّ شي ء من اللَّه الّذي لا إله إلّا هو، وهذا هو المراد من «لا إله إلّا اللَّه» وكلمة التوحيد.

لكن قد عرفت أنّ المشركين في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله لم يكونوا موحّدين مع إقرارهم بأنّ اللَّه تعالى هو خالق السماوات والأرض، وبيده كلّ شي ء وهو يجير و لا يجار عليه وكانوا يقولون اجَعَلَ


1- - سورة ص: الآية 5.

ص:48

الآلهة إلها واحداً وقوم صالح كانوا يقولون إنّنا لفي شكّ ممّا تدعوننا إليه مريب ولو كانوا موحدين لما تكلموا بهذا الكلام، ولا كانوا مريبين فيما يدعوهم إليه صالح.

وأمّا قوله: «إنمّا يعنون بالآلهة ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيّد» فكلام لا محصّل له؛ فإنّ لفظ السّيّد عند المشركين في زمننا باعتقادهم عبارة عن شخص محترم ينّزلوه منزلة مالك العبد في كونه تحت إطاعته، وإطلاق السيّد على اللَّه يراد به المالك الحقيقي لا المالك التنزيليّ المستعمل في إطلاقه على الأنبياء والأولياء، والدليل على ذلك إطلاق سيّد السادات على اللَّه في المناجاة دون غيره تعالى، فيقال: السلام عليك يا سيدي يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله ياسيدي يا أمير المؤمنين عليه السلام ولا يقال: يا سيد السادات يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

والحاصل أنّ المستشفعين بالأنبياء والأولياء واللائذين بقبورهم القائلين بأنّهم السيّد لا يريدون به إلاله في مقابل اللَّه تعالى كما كان ذلك حال المشركين في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولذلك دعاهم تعالى إلى كلمة التوحيد الّتي هي لا إله إلّا اللَّه المراد بها معناها لا لفظها.

وقوله: «والكفّار الجهّال يعلمون أنّ مراد النبيّ صلى الله عليه و آله هو أفراد اللَّه تعالى بالتعلّق والكفر بما يعبدون دونه»، معلّلًا بقولهم: أجعل

ص:49

الآلهة إلهاً واحداً لا يستحقون الطعن عليهم فيما فهموا من قوله صلى الله عليه و آله؛ فإنّ استفادتهم م هذا المعنى من قوله صلى الله عليه و آله: «قولوا إلا إله إلّا اللَّه» استفادة حسنة جداً، وعدم قبولهم هذا المعنى بدليل قولهم: أجعل الآلهة إلهاً واحداً دليل على شركهم الّذي أوجب حلّيّة قتلهم ونهبهم، ونسبة الجهل إلى المسلمين- لهذا المعنى الّذي عرفه الكفّار الجهّال واعتقادهم كون المراد منه التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشي ء من معناها- نسبة كذب وفرية، وقولهم باستحقاق الثواب بالتّلفّظ بها أمر خارج عن لزوم الاعتقاد بمعناها الّذي هو التّوحيد في تمام المقامات المذكورة.

وكذا قوله: «والحاذق منهم يظنّ معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يدبّر الأمر إلّا اللَّه» كذب وفرية؛ إذ الحذاق منهم يقول: لا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه بل يقول: كان اللَّه ولم يكن معه شي ء، والعارف به لا يرى غير اللَّه تعالى ويقول: هو الآن كما كان.

وممّا ذكرنا من مجموع ما تقدّم علمت أنّ القائل لهذه الكلمات جعل الموحّد الحقيقيّ مشركاً والشرك الحقيقي توحيداً لزعمه بأنّ قول عابدي الأصنام: اللَّه خالق السماوات والأرض مع قولهم:

هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه يجعلهم موحّدين «(1)»، وكونهم مشركين باعتبار جعلهم الأصنام شفعاء، وفساده ظاهر؛ فهو إمّا جاهل


1- - في الأصل: موحّد، والصحيح ما ذكرنا.

ص:50

قاصر أو عدوّ قاهر وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون «(1)»

.

قُلْ لمنْ كَفّر مِنْ فَقْدِ البَصَرْ مسلماً أسلمه خير البَشَرْ

سَأراكَ في غدٍ مُرتَعِشاً قايلًا مِنْ فزعٍ: أين المفرْ؟

وترى ذاك الّذي كفرته في نعيم مستمرّ مستقرْ

قائلًا يا أحمقاً كفرتني ذُقْ هنيئاً لك ذا مَسَّ سَقَرْ

فوائد معرفة معنى التوحيد

] ثم قال: «إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلبٍ، وعرفت الشّرك الّذي قال اللَّه فيه إنّ اللَّه لا يغفر أن يُشرَكَ بِهِ ويغفرُ ما دونَ ذلك لمنْ يشاء «(2)»

وعرفت دين اللَّه الّذي ارسل به الرسل من أوّلهم إلى آخرهم، الّذي لا يُقبل من أحد سواه، وعرفت ما احتج غالب الناس فيه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين:

الاولى: الفرح بفضل اللَّه ورحمته كما قال اللَّه تعالى: قل بفضل اللَّه ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير ممّا يجمعون «(3)»


1- - سورة الشعراء: الآية 227.
2- - سورة النساء: الآية 116.
3- - سورة الأعراف: الآية 138.

ص:51

وأفادك أيضاً الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أنّ الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها ويظنّ أنها تقرّبه إلى اللَّه تعالى كما ظنّ الكفّار، خصوصاً أن ألهمك اللَّه ما قصّ عن قوم موسى- مع صلاحهم وعلمهم- أنهم أتوه قائلين: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة «(1)»

وحينئذٍ يعطم خوفك وحرصك على ما يخلّصك من هذا وأمثاله» ان x ى.

أقول: وخلاصة مرامه- مع طول كلامه- أنّك إذا عرفت بالتصديق القلبيّ أنّ الشرك هو العبادة لغير اللَّه، وعرفت أنّ الدّين هو العبادة الخالصة له تعالى، واجتنبت الشرك الّذي هو ذنب لا يغفر، صرت ممّن يفرح بفضل اللَّه ورحمته؛ حيث جعلت عبادتك خالصة للَّه ولم تشرك أحداً معه تعالى فيهما، وصرت متديّناً بدين ارسل به الرسل، ويحصل لك خوف من أن تنطق بكلام يوجب الكفر جهلًا أو ظنّاً بكونه مقرباً إلى اللَّه تعالى كما يفعله الكفّار هذا حاصل مرامه.

لكنك عرفت ممّا قدمنا فساد كلامه؛ فإنّ الشرك الثابت لعبدة الأصنام لم يكن شركاً في العبادة بل كانوا مشركين بتمام مقامات


1- - سورة يونس: الاية 58.

ص:52

التوحيد، بل ما استدل به من آية اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة دليل على التزامهم امهم بإمكان تعدّد الآلهة بل وقوعه، وعلمت عدم شباهة ما عليه المستشفعون بالأنبياء والإولياء واللائذون بقبورهم للاستشفاع الّذي كان يقول به عبدة الأصنام بقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه «(1)»

وعرفت أنّ الدّين الّذي أتى به الرسول صلى الله عليه و آله هو الاعتقاد بالتّوحيد، وحقيقة معنى لا إله إلا اللَّه الغير الحاصل إلا باعتقاد التوحيد في المقامات الأربع، و عرفت أنّ التوحيد ليس عبارة عن التلّفظ بلا إله إلا اللَّه، ولا يراد منه أنّه لا يخلق لق ولا يرزق ولا يدبّر الأمر إلّااللَّه.

ثمّ إنّ الفرح ليس فائدة لما قاله القائل؛ من حيث إنّ المعرفة والاعتقاد القلبي، بمقالاته حاصل له بفضل اللَّه ورحمته، فإنّ كلُّ حزبٍ بما لَدَيْهِمْ فَرِحُوْن «(2)»

حيث يزعمون أنّ ما «(3)» عندهم بفضل اللَّه ورحمته، وكذلك الخوف حاصل لكلّ من لا يعلم عاقبة أمره حتّى أنّ يوسف عليه السلام يقول: توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين «(4)»

هذا مع أنّ الكلمة الصادرة الموجبة وجبة للكفر جهلًا


1- سورة يونس: الآية 18.
2- سورة المؤمنون الآية 53 والروم: 32.
3- في الأصل: ممّا، والصحيح ما ذكرناه.
4- سورة آل عمران: الآية 67.

ص:53

غير قابلة للخوف منها فضلًا عن الكلمة التّي يظنّ كونها مقرّبة، والاستشهاد بكلام قوم موسى- حيث قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة- في غير محلّه؛ فإنّه لم يصدر عنهم ذلك تعنّتاً، بل زعماً منهم أنّ ذلك طريق مرضي، والذّمّ المترتّب على طلبهم إنّما هو على التقليد في الاعتقاد مع كونهم في سبيل الانقياد.

وبعبارة اخرى توبيخهم إنمّا هو على التكلّم بغير تأمّل في حسنه وقبحه، على كونهم وصيرورتهم كفّاراً بذلك، بمعنى أنّهم كانوا مع إسلامهم وإيمانهم ملومين؛ لتكلّمهم بكلام لا ينبغي أن يصدر عن مثلهم، بسبب عدم التأمّل في حسنه وقبحه، وهذا واضح لمن له أدنى إدراك ينجيه من الهلاك.

كلّما قُلتَ بزعمٍ فاسدِ باطلٌ نسمعُهُ من حاسدِ

تَرَكَ الرُّشدَ وأمراً رابحاً صار فَرحاناً بشُغل كاسدِ

نستعيذ بالإله الأحَدِ من ذعين بلسانٍ جاحدِ

في وجوب التسلح بالعلم لمواجهة أعداء اللَّه

] ثم قال القائل: «واعلم أنّ اللَّه تعالى لم يبعث من حكمته نبّياً بهذا التوحيد إلّاجعل له أعداء كما قال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدّواً شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض

ص:54

زخرف القول غُرُوراً «(1)»

وقد يكون لأعداء الدّين علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم «(2)»

.

إذا عرفت ذلك وعرفت أنّ الطريق إلى اللَّه لا بّد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين اللَّه ما يصير سلاحاً لك تقاتل به هؤلاء الشياطين الّذين قال: إمامهم ومقدّمهم لربّك: لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينّهم من بينِ أيديهم و من خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين «(3)»

ولكنّك إن أقبلت على اللَّه وأصغيت إلى حجج اللَّه وبيّناته فلا تخف ولا تحزن إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً «(4)»

والعامّي من الموحّدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين كما قال اللَّه تعالى: وإنّ جندنا لهم الغالبون «(5)»

فجند اللَّه هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان، وإنّما الخوف على الموحّد الّذي


1- - سوة الانعام: الآية 112.
2- - سورة غافر: الآية 83.
3- - سورة الاعراف: الآية 16.
4- - سورة النّساء: الآية 76.
5- - سورة الصافات: الآية 173.

ص:55

يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من اللَّه تعالى علينا بكتابه الّذي جعله: تبياناً لكل شي ء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين «(1)»

فلا يأتي صاحب باطل بحجّة إلّاوفي القرآن ما يناقضها وبيان بطلانها كما قال اللَّه تعالى: ولا يأتونك بمثل إلّا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً «(2)»

قال بعض المفسّرين: هذه الآية عامّة في كلّ حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة، وأنا أذكر لك أشياءً مما ذكر اللَّه في كتابه جواباً لكلام احتجّ به المشركون في زماننا علينا» انتهى.

وحاصل مرامه- مع طول كلامه- أنّ الأنبياء السالكين سبيل التوحيد سلكوا طريق الحق، وكان لهم أعداء علماء؛ وعندهم حجج وبينات على ما عندهم، وكانوا مغلوبين للأنبياء بحججهم الحقّة وبيّناتهم الدافعة لحججهم، وكانوا غالبين عليهم بالحجج؛ لكونهم جند اللَّه، فكذلك كلّ من يكون موحّداً يسلك سبيل الحقّ له أعداء من هؤلاء المشركين في زماننا وعندهم حجج يبطلها ما في كتاب اللَّه لكونه تبياناً لإبطال كل باطل من الحجج، ونذكر من الكتاب ماأجاب اللَّه تعالى من حجج المشركين في زماننا بعد ذكر حججهم.

هذا خلاصة مرامه، وهو كلام حق يريد به الباطل كما سنبينه


1- - سورة النحل: الآية 89.
2- - سورة الفرقان: الآية 33.

ص:56

ونوضّحه إن شاء تعالى.

بيان ذلك أنّ حجج الأنبياء على أعدائهم غير قابل للتشكيك والشبهة إلا بلجاج وعناد، وتسمية المعجزات سحراً تعمداً وتعنّتاً، وليس الأمر في كلّ من يدّعي سلوك طريق الحقّ مستدلًا بما يقطع ببطلانه العقلاء المتفطّنون كذلك، بل كلّ مدّع بالنظر الدقيق الخالي من اللجاج والعناد موقن بحقيقة معتقده ودلالة دليله عليه، ويدّعي الغلبة على خصمه يزعم كونه من جند اللَّه.

نعم يوجد بين المجادلين من يوقن بالحق قلباً ويجحده لساناً لأغراض متوقّفة على سلوك هذا المسلك، و إلى طائفة منهم يشير قوله تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين «(1)»

وكما يرى ممّن يتمسّك في حلية النهب بأنّ الغزو كسب النبيّ صلى الله عليه و آله متمسّكاً بحلية الغنائم المأخوذة من دار الحرب، ولا يصغون إلى كلام من يقول بحرمة ذلك إلا بشروط معيّنة في باب الجهاد، ولا يقبلون حججهم باللسان مع كونهم مذعنين بذلك بالقلب والجنان حرصاً منهم على النهب، وشوقاً لهم منهم إلى الغصب في أخذ أموال الناس بالاختلاس، ويزيد ذلك وضوحاً ما نذكر في أخذ أموال الناس بالاختلاس، ويزيد ذلك وضوحاً ما نذكر الجواب عن حجج المشركين في زمانهم إن شاء اللَّه تعالى.


1- - سورة النمل: الآية 14.

ص:57

في كيفية جواب أهل الباطل

] ثم قال القائل: «فنقول جواب أهل الباطل من طريقين:

مجمل ومفصّل؛ أمّا المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ امّ الكتاب واخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زَيْغٌ فَيتَّبعُوْنَ ما تَشابَهَ منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تَأْوِيلهِ وما يَعْلَم تأويلَهُ إلّااللَّه «(1)»

الآية وقد صح عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الّذين سمّى اللَّه فاحذروهم» «(2)» مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين: ألا إنّ أولياء اللَّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون «(3)»

وإنّ الشفاعة حقّ وإنّ الانبياء عليهم السلام لهم جاه عند اللَّه، أو ذكر كلاماً للنبيّ صلى الله عليه و آله يستدلّ به على شي ء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الّذي ذكره، فجاوبه بأنّ اللَّه تعالى قال: إنّ الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه وما ذكرته لك من أن اللَّه ذكر أنّ المشركين مقرّون بالربوبيّة، وأنّ «(4)»


1- - سورة آل عمران: الآية 7.
2- - كنز العمال 1: 193.
3- - سورة يونس: الآية 62.
4- - في الأصل: وأنّه.

ص:58

كفرهم يتعلق على الملائكة والأنبياء والأولياء، مع قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه هذا أمر محكم بيّن لا يقدر أحد أن يغيّر معناه، وما ذكرته لي أيّها المشرك من القرآن أو كلام النبيّ صلى الله عليه و آله لا أعرف معناه، ولكن أقطع بأنّ كلام اللَّه تعالى لا يتناقض، وأنّ كلام النبيّ صلى الله عليه و آله لا يخالف كلام اللَّه. وهذا جواب جيّد سديد، لكن لا يفهمه إلّامن وفّقه اللَّه تعالى، فلا تَسْتَهْوِنْ بِه فإنه كما قال اللَّه وما يلقّاها إلّاالّذين صبروا وما يلقّاها إلّاذو حظّ عظيم «(1)»

انتهى.

وخلاصة مرامه- على طول كلامه- أنّ الإقرار بالرّبوبيّة من مشركي زمان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع قتال النبيّ صلى الله عليه و آله معهم لكونهم مشركين صريح في أنّ الشرك فيهم إنّما كان لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه وتناقضه الآية فيكون متشابهاً، فالمستدلّ بالآية للاستشفاع بالأولياء متّبع للمتشابه، فيجب الحذر منه لزيغ في قلبه، و بالآخرة يرجع حاصل كلامه إلى تعليم من يتّبع كلامه بإنكار كلّ دليل يقال على خلاف ما فهمه من الآيات الدالّة على إقرار المشركين بالربوبية، وقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه بعنوان أنّه من المتشابه في مقابل تلك الآيات.


1- - سورة فصلت: الآية 35.

ص:59

لكنّك بأدنى تأمّل فيما تلونا عليك سابقاً تطّلع على فساد هذه الكلمات من جهات شتى.

الاولى: أنّ الإقرار بالرّبوبيّة لا ينافيه الشرك، ولا يستلزم التوحيد الحقيقي الّذي هو مدلول لا إله إلّا اللَّه بالنسبة إلى توحيد الذّات وتوحيد الأفعال الدالّ عليه قوله تعالى: لا حول ولا قوة إلّا باللَّه العلي العظيم «(1)» والتوحيد في الصفات المستفاد من قوله تعالى ليس كمثله شي ء والتوحيد في العبادة المستفاد من قوله تعالى: ليعبدوا اللَّه مخلصين له الدين «(2)»

.

الثانية: كيفية أعمال هؤلاء المشركين بالنّسبة إلى الأصنام فإنهم كانوا يعملون لهم ما يختصّ باللَّه تعالى المستفاد من قوله تعالى: لا تسجدوا للشمسِ ولا للقمر «(3)»

الخ.

الثالثة: كيفية استشفاعهم؛ حيث كانوا يقولون: عبادتنا هذه للأصنام موجبة «(4)» لحصول قربنا من اللَّه خالق السماوات والأرض، وهذا خارج عن استشفاع المستشفعين بالأنبياء و الأولياء ولا مناسبة بينهما.


1- - الآية هكذا: لا قوّة إلّاباللَّه سورة الكهف: الآية 39، وما ذكر المؤلّف سهو منه.
2- - سورة البيّنة: الآية 5 وفي الأصل: فاعبدوا والصحيح ما أثبتناه.
3- - سورة فصلت: الآية 37.
4- - في الأصل: موجب والصحيح ما ذكرناه.

ص:60

الرابعة: من حيث الإذن في الاستشفاع؛ فإنّ الاستشفاع بالأصنام أو الملائكة المعبودة أو النبيّ المعبود غير مأذون فيه، بخلاف الاستشفاع بالأنبياء والأولياء؛ فإنّه مأذون فيه.

الخامسة: من حيث الاشتراك في الاسم؛ إنّهم كانوا يسمّون الأصنام المقول فيها هؤلاء شفعاؤنا آلهة فقال اللَّه تعالى: أإلهٌ مع اللَّه تعالى اللَّه عمّا يشركون «(1)»

وهذه المقالة عند المستشفعين بالأنبياء والأولياء كفر لا يستر، وذنب لا يغفر، فالقياس مع بطلانه من أصله ليس له جامع، ووجود الفرق عنه مانع.

إيقاظ وتبصرة:

قد أعمل هذا القائل الشيطنة والتّقّلب إغفالًا للمراجع إلى كلامه؛ حيث أسقط تتمّة الآية، وذكر الآية إلى حدّ قوله تعالى: وما يعلم تأويله الا اللَّه «(2)»

وترك قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا وما يذكّر إلّا اولوا الألباب لئلا يتوجّه إليه سؤال إلزاميّ وهو السؤال عن معنى «الراسخون في العلم»، وأنّه من المراد منهم،، والقول بأنّه كلام مستأنف وليس عطفاً على اللَّه حتّى يكون المراد راد أن: الراسخون


1- - سورة النمل: الآية 63. وفي الأصل:« آلهة» والصحيح ما ذكرنا.
2- - سورة آل عمران: الآية 7.

ص:61

في العلم يعلمون تأويله، بل هو كلام مستأنف، و المراد منه أنّ العلماء الّذين لا يعلمون التأويل يقولون كلّ من عند ربّنا باطل «(1)» جدّاً؛ فإنّ استيناف الكلام مقتضٍ لا نحصار العلم بالتأويل في اللَّه تبارك وتعالى، كما قصد القائل بترك تتمة الآية إيهام الانحصار غافلًا عن ورود الاعتراض على اللَّه بذلك بأن يقال: الكلام المتشابه الّذي لا يعلم معناه إلّا المتكلم يكون صدوره منه وتكلّمه به لغواً، وإنّما يخرجه عن اللغوية وجود من يعلم تأويله ومعناه غير التكلّم، وحينئذٍ يسأل عن القائل إنّ الراسخون في العلم العالمون بتأويله إذا ذكروه وثبت عندنا المراد منه هل يدخل حينئذٍ في المحكم أو لا؟ فان قال: نعم يدخل في المحكم قلنا فالمتّبع للمتشابهات بعد العلم بمفاده وتأويله من بيان الراسخين في العلم ليس ممن يكون في قلبه زيغ، و إن قال: لا يدخل في المحكم، قلنا فما ثمرة البيان الصادر من الراسخين في العلم؟ فإن رجع القول بانحصار العلم بتأويله في اللَّه تبارك و تعالى عاد الاعتراض بكون التكلّم بما لا يعلمه أحد لغواً وقبيحاً لايصدر عن أدنى متكلّم فضلًا عن الحكيم تعالى، وإذا ثبت كون بيان الراسخين في العلم مخرجاً للكلام عن كونه متشابهاً، وصار


1- - هذا خبر لقوله:« والقول».

ص:62

بذلك داخلًا في المحكم فنقول: إنّ الفرد الظاهر المنصرف إليه لفظ الراسخون في العلم هم الأنبياء والأولياء، أعنى ء أوصياءهم المتعلّمين منهم، الحائزين لعلومهم، فيجب على كلّ مسلم سؤالهم عن تأويل المتشابهات، والأخذ بمقالتهم، فربما يختلط الأمر على العامّي فيزعم المحكم متشابهاً كما مثّل القائل المتشابه بقوله تعالى: ألا إنّ أولياء اللَّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون «(1)»

.

إلى أن قال: «وأنت لا تفهم معنى الكلام الّذي ذكره، فجاوبه بقولك إنّ اللَّه تعالى ذكر في كتابه أنّ الّذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه الخ» وحينئذٍ بعد السؤال من الراسخين يعلم كونه محكماً أو متشابهاً، وعلى تقدير كونه متشابهاً يعلم تأويله ومعناه ببيانه، ويدخل حينئذٍ في المحكم، فينحصر اتّباع المتشابه بمن لا يسأل من الراسخين في العلم، ويأوّل على مقتضى مرامه، ومراده ابتغاء الفتنة.

ثم إنّ قول القائل: «وأنت لا تفهم معنى الكلام الّذي ذكره فجاوبه الخ» مغالطة وإغفال وتعليم للتجاهل والاضلال؛ فإنّ كلّ من عرف لغة العرب علم الموضوع له الألفاظ من كلمة «ألا» التنبيه ولفظ «الأولياء» الّذي هو جمع الوليّ و «لا» النافية و


1- - سورة يونس: الآية 62.

ص:63

«الخوف» و «الحزن» وفهم المراد من هذه الجملة المتكررة في القرآن في موارد كثيرة منها قوله تعالى فَمَنْ تَبِعَ هُداي فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «(1)»

أي من اتّبع رسلي الهادين للنّاس إليّ فلا خوف عليه من العقبات الموحشة ولا هم يحزنون من البليّات والمكاره المتوجّهة؛ لعلمهم بأنّ اللَّه تعالى لا يعذب المتهدين الّذين هم أولياؤه وأحبّاؤه.

ومنها قوله تعالى: الّذين آمنوا والّذينَ هادُوا والنّصارى والصابئينَ من آمنَ باللَّه واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجْرُهُمْ عِنْدَ ربِّهِمْ ولا خوفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ «(2)»

فجعل الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه و آله وكذلك المؤمنين باللَّه والقيامة من الطوائف المذكورة، ومأجورين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ومنها قوله تعالى: بَلَى مَنْ أسلم وجهه للَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فله أجْرُهُ عِنْدَ رَبّهِ ولا خَوْفٌ عليهمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ «(3)»

فجعل التوجّه إلى اللَّه مسلماً مع العمل الحسن مناطاً لعدم الخوف والحزن.

ومنها قوله تعالى: الّذينَ يُنْفِقُوْنَ أموالهم في سبيلِ اللَّه ثم لا يُتبعون ما أنْفَقوا منّاً ولا أذى لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ


1- - سورة البقرة: الآية 38.
2- - سورة البقرة: الآية 62.
3- - سورة البقرة: الاية 112.

ص:64

عَلَيْهِمْ وَ لا هم يَحْزَنُون «(1)»

ومنها قوله تعالى: الّذين يُنْفقونَ أموالَهُمْ باللّيلِ والنّهارِ سرّاً وَ عَلانيةً فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ «(2)»

إلى غير ذلك ممّا لا نحتاج إلى إلى ذكره بتمامه.

والحاصل أنّ عدم فهم معنى آية ألَا إنّ أولياء اللَّه لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون «(3)»

للعارف بلغة العرب شي ء لا يساعد عليه وجدان أحد، وعدّ ذلك من المتشابه لا يصدر إلّامن معاند ألدّكما أنّ جعل الإقرار بالربوبيّة دليلًا على كون الشرك جعلهم الآلهة شفعاء عند اللَّه، وقياس المستشفعين بالأنبياء والأولياء عليهم بجامع الاستشفاع أمر لا يساعد عليه عاقل واحد سوى اللّجوج المعاند، وقد سبق منّا عدم الجامع للقياس وعدم المنافاة بين الإقرار بالرّبوبيّة ونقصان التوحيد، وسنز يدك وضوحاً فيما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.

وأمّا عدم فهم كلام من يقول بالشفاعة وأنّ الأنبياء لهم جاه عند اللَّه بجعله من المتشابهات- فمن أعجب العجائب؛ لأنّ عدم فهم حقي [ق] ة الشّفاعة إن كان لأجل عدم إمكان الإذن فيها، فقول


1- - سورة البقرة: الاية 262.
2- - سورة البقرة: الآية 274.
3- - سورة يونس: الاية 63.

ص:65

اللَّه تعالى: من ذا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّابإذنه «(1)»

صريح في إمكانه ووقوعه، وإنْ كان لأجل كونها دعوة وتوجّهاً إلى غير الحقّ، فمع فرض الإذن فيها يخرج عن كونها دعوة وتوجّهاً غير مأذون فيه، وإن كان لأجل عدم وجاهة الأنبياء والأولياء عليهم السلام عند اللَّه فهو انكار للبديهيّ؛ فانّ وجاهتهم هي التّي صارت سبباً لنبوّتهم وولايتهم، ولولا تلك الوجاهة المعبّر عنها بالقرب إلى اللَّه لكان تقدّمهم على غيرهم ترجيحاً بلا مرجّح، والأدلّة على وجود تلك الوجاهة كثيرة مذكورة في علمي الحكمة والكلام، وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك في شرح [ال] زيارة الجامعة عند قول الإمام عليه السلام: «يا أهل بيت النبوة» «(2)»

ومن أراد الاطّلاع على التفصيل فليرجع إليه و إلى غيره من مظانه.

قل لمن يظهر ديناً مؤمناً ما سِوى ذلك شركاً بيّنا

أيقَنَ الشّيطان في استدلاله جاوب الحقّ جواباً متقنا

صار مردوداً بما قد قاله عاند اللَّه عناداً معلنا

هَمّ بالإضلال والإغواء مَنْ كان في طوعِ الهوى مرتَهَنا

فتلخّص ممّا ذكرنا وتبيّن لك أنّ هذا القائل منكر للشفاعة الّتي


1- - سورة البقرة: الآية 255.
2- - راجع الزيارة الجامعة في مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي ره.

ص:66

هي من واضحات الدّين ومصرحات الفرقان المبين آيات عديدة، وم y ا قوله تعا: ولا يَشْفَعُونَ إلّالمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتهِ مُشْفِقُونَ «(1)»

وم y ا قوله تعا: لا تنفع الشفاعة عنده إلّالمن أذن له «(2)»

ا وأمثال ذلك.

وظهر لك أنّه هو الجاحد لما نطق به التنزيل العظيم، وحكم به ضرويّ دين النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله وأنّ الكفر والشرك مردود إليه دون من نسب ذلك إليه من المسلمين والمؤمنين الموحّدين، نعم ذلك عاقبة من ترك أحد الثّقلين، واستغنى واغترّ بفهمه عن الرّجوع والأخذ بثاني الوديعتين اللّتين أودعهما النبيّ صلى الله عليه و آله أمّته في الروايات الصحيحة المقبولة عند الطرفين بقوله صلى الله عليه و آله: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي» ثم إنّه صلى الله عليه و آله لم يكتف في الحكم بلزوم الجمع بينهما بحرف الواو الّذي هو للجمع، بل أكدّ ذلك بعد ضم إصبعيه بقوله صلى الله عليه و آله: «لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» «(3)»

مع التعبير بكلمة «لن» الّتي هي لنفي الأبد دون كلمة «لا» قال اللَّه تبارك وتعالى: ثم كان عاقبةُ الّذين أساءوا السُّوآى أن كذّبوا


1- - سورة الأنبياء: الآية 28.
2- - سورة سبأ: الآية 23 وفي الأصل حذفت كلمة« عنده» وزيدت الواو قبل: لا تنفع.
3- - راجع الحديث في مسند أحمد 3: 14.

ص:67

بآيات اللَّه وكانوا بها يَستهزئون «(1)»

الجواب المفصل على أهل الباطل

] ثم قال «أمّاالجواب المفصّل فإنّ أعداءك لهم اعتراضات كثيرة يصدّون بهاالناس منها قولهم: نحن لا نشرك باللَّه شيئاً، بل نشهد أنّه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي و لا يميت ولا يدبّر الأمر ولا ينفع ولا يضرّ إلّااللَّه وحده لاشريك له، وأنّ محمداً صلى الله عليه و آله لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلًا عن عبد القادر وغيره، لكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند اللَّه وأطلب بهم، فجاوبه بما تقدّم؛ وهو أنّ الّذين قاتلهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مقرّون بما ذكرت ومقرّون بأنّ أوثانهم لاتدبّر شيئاً، وإنمّاأرادوا بما قصدوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكره اللَّه وفهّمه في كتابه ووضّحه». انتهى.

يعني به الآيات التّي دلت على الإقرار بأنّ اللَّه خالق السماوات والأرض، وبيده كل شي ء.

ثم قال: «فإن قال هؤلاء: الآيات نزلت فيمن يعبد الأوثان كيف تجعلون الصّالحين مثل الأصنام، أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً؟ فجاوبه بما تقدّم، فإنّه إذا أقرّ بأن الكفّار يشهدون بالرّبوبيّة كلّها للَّه وأنّهم ما أرادوا بمن قصدوا إلّاالشفاعة، ولئن


1- - سورة الروم: الآية 10، وفي الأصل يجحدون والصحيح ما أثبتناه.

ص:68

أراد أن يفرّق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أنّ الكفّار منهم من يدعو الصّالحين والأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذّين قال اللَّه فيهم: أولئك الّذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيُّهم أقرب ويرجون من اللَّه رحمته ويخافون عذابه «(1)»

الآية ويدعون عيسى بن مريم عليه السلام وأمّه وقد قال اللَّه تعالى: ما المسيح بن مريم إلّارسول قد خلت من قبله الرسل وامّه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون «(2)»

واذكر قوله تعالى: ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك «(3)»

الآية وقوله تعالى: وإذ قال اللَّه يا عيسى ابنَ مريمَ أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون اللَّه «(4)»

الآية فقل له: عرفت أنّ اللَّه كفّر من عبد الاصنام وكفّر أيضاً من عبد الصالحين وقاتلهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإن قال: الكفّار يريدون منهم وأنا أشهد أنّ اللَّه هو النافع الضارّ الّذي لا اريد إلّامنه، والصالحون ليس من الأمر شي ء ولكن أقصدهم أرجو من اللَّه شفاعتهم.


1- - سورة الإسراء: الآية 57.
2- - سورة المائدة الآية 75.
3- - سورة الأنعام: الآية 22.
4- - سورة المائدة: الآية 116. و حذفت عبارة ابن مريم من الأصل.

ص:69

فالجواب أنّ هذا قول الكفّار سواء بسواء؛ فاقرأ عليه قول اللَّه تعالى: ما نعبدهم إلّاليقربونا إلى اللَّه زلفى «(1)»

ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه.

واعلم أنّ هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أنّ اللَّه وضّحها في كتابه وَفَهِمْتها فهماً جيّداً فما بعدها أيسر منها» انتهى موضع الحاجة.

وخلاصة مرامه أنّ المشركين في زماننا أكبر حججهم على صحّة عملهم امور ثلاثة وقد أجاب اللَّه تعالى عنها كلّها في كتابه:

الحجّة الاولى: قولهم: إنّا لسنا مشركين باللَّه، بل نحن نقول ونعلم أنّ كلّ الامور المذكورة بيد اللَّه وحده لا شريك له، ونقول: إنّ محمداً صلى الله عليه و آله عبده لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وإذا كان هو صلى الله عليه و آله كذلك فغيره من الأنبياء والأولياء بطريق أولى لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ولكن لوجاهةٍ له ولهم عند اللَّه أطلب غفران ذنوبي بهم من اللَّه، وليس هذا بشرك، وإنّ ما عليه عبدة الأصنام لهو شرك.

الثانية: أنّ في الاستدلال بالآيات الدالّة على إقرار المشركين بالربوبيّة تشبيه الأنبياء والصّلحاء بالأصنام وهو مناف لمقاماتهم العالية.


1- - سورة الزمر: الآية 3.

ص:70

الثالثة: أنّ عبدة الأصنام كانوا يريدون الأمور من الأصنام، ونحن نريدها من اللَّه لا من الأنبياء والصّالحين، بل نرجو من اللَّه قبول شفاعتهم إذا شفعونا.

وحاصل جواب القائل عن الحجّة الأولى أنّ الآيات الدالة على إقرار عبدة الأصنام بالربوبيّة تعيّن وتوجب «(1)» انحصار جهة شركهم في جعلهم شفعاء، والمشركون في زماننا أيضاً مقرّون بالربوبيّة ويجعلون الأنبياء والصّلحاء شفعاء فيتساوون في الاعتقاد والعمل، ويشتركون في كونهم مشركين، وأنت- بعدما أحطت خبراً بما قدّمته لك من أنّ خطأ عبدة الأصنام لم ينحصر في الاستشفاع الغير المأذون فيه من قبل اللَّه تعالى، بل من جهات عديدة وخطايا شديدة- عرفت أنّ الجواب مغلطة غير سديدة ونزيدك وضوحاً بأن نقول عبدة الأصنام لم يؤمنوا بالنبيّ صلى الله عليه و آله وإلّا لقبلوا قوله صلى الله عليه و آله في التوحيد، ولم يقاتلهم النبيّ صلى الله عليه و آله على الشّرك، والمستشفعون بالأنبياء إنما يستشفعون بهم بعد الايمان بهم واعتقاد وجاهتهم عند اللَّه لنبوّتهم المقتضية لذلك، فالقياس فاسد والتشريك في العمل والاعتقاد لا يجده ولا يقول به إلّا المعاند.

وحاصل جواب القائل عن الحجّة الثانية: أنّ الآيات دالّة


1- - في الأصل: يعين، ويوجب، والصحيح ما أثبتناه.

ص:71

على إقرار عبدة الأصنام بالربوبيّة للَّه وحده، فلا يقدر العدوّ أن ينكر كون شركهم باعتبار قصدهم الشفاعة لكن يفرّق بين عملهم وعمله؛ حيث إنهم يقصدون نفس الأصنام والمستشفعين بالأنبياء الشّفاعة، فالفرق في العمل.

والجواب عن الفرق بأنّ عبدة الأصنام لم يكونوا مستشفعين بها فقط، بل كانوا يدعون الملائكة وعيسى بن مريم عليه السلام، فلم يصح التشبيه للأنبياء بالأصنام.

لكنّك بعد ماذكرنا سابقاً وآنفاً تقدر على معرفة بطلان هذا الجواب، وتوضيحه- مزيداً للمعرفة- بأنّا نقول إنّ المستشفعين بالأنبياء لا يعبدون إلّااللَّه، ولا يسمّون غير اللَّه إلهاً، ولا يرجون غير اللَّه تعالى، فلا يقاسون بعبدة الأصنام وإن كانوا عابدين للصالحين مع الأصنام، و كذلك الّذين يعبدون الأولياء، وقد قال اللَّه تعالى في كتابه العزيز حين توجّه القحط إلى قريش «(1)» العابدين للأصنام والملائكة أو الجنّ أو عيسى بن مريم عليه السلام: قُلِ ادْعُوا الّذينَ زَعمتم مِنْ دونِ اللَّه فَلا يَملكونَ كَشْفَ الضُّر عنكُمْ ولا تحويلًا «(2)»

لكونهم بأنفسهم يبغون لهم م الوسيلة إلى ربّهم أيهم


1- - في« س» و« ن»: القريش، والصواب ما ذكرناه
2- - سورة الإسراء: الآية: 56.

ص:72

أقرب ويرجون- مع كونهم م معبودين لكم- رحمة ربّهم، و يخافون عذابه ووبخهم على عبادة من لا يصلح للدّعوة؛ لعدم كونه قادراً على شيي ء.

وتحصّل من هذا الكلام أنّهم غير لا ئقين للمعبودية، فالمحذور هو جعلهم معبودين، مع كونهم باغين الوسيلة إلى رحمة ربّهم لا يجعل عبدتهم إياهم شفعاء، فتشبيه الأنبياء بالملائكة أو الجنّ أو عيسى بن مريم عليه السلام عند عبدتهم، وقياس المستشفعين بالأنبياء لوجاهتهم على اولئك مع كون المذكورين معبوداً لهم- غلط واضح وقياس غير صالح؛ إذ الاستشفاع بصالح لم يجعله معبوداً لا قصداً ولا جوارحاً غير الاستشفاع بمن يعبد قصداً وجوارحاً، وبتعبير أوضح وبيان أفصح: إذا فرضنا المقرّين بالربوبية الذين كانوا يستشفعون بالأصنام موحّدين «(1)» ذاتاً ومشركين «(2)» لأجل الاستشفاع بالأصنام أو الصالحين إنمّا يصحّ قياس المشركين في زمانهم على المشركين في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله إذا كانوا موافقين لهم في الاعتقاد والعمل، وليس الأمر كذلك؛ فإنهم جعلوا المستشفعين بهم معبودين لهم قصداً وجوارحاً، وهذا بخلاف المستشفعين بالأنبياء والأولياء الغير الجاعلين لهم معبوداً لا قصداً ولا جوارحاً، فالقياس غير لائق، لكونه مع الفارق.


1- - في الأصل: موحداً والصواب ما ذكرناه.
2- - في الأصل: مشركاً والصواب ماذكرناه.

ص:73

وحاصل جواب القائل عن الحجّة الثالثة بقوله: «هذا قول الكفّار سواء بسواء فاقرأ عليه قوله تعالى: ما نعبدهم الّا ليقربونا إلى اللَّه زُلفى وقولهم هؤلاء شفعاؤنا عِندَ اللَّه إنّ عبدة الأوثان أو الصالحين كانوا معتذرين في عبادتهم لها بكونها شفعاء لهم وهو عين الحجّة الثالثة.

لكنّك بعد التأمل فيما تلونا عليك سابقاً وآنفاً تعرف أنّ هذا الجواب من قبيل المصادرة على المطلوب؛ لأنّ أصل الدّعوى كون كلام المستشفعين بالأنبياء والأولياء عليهم السلام مطابقاً لكلام المشركين العابدين للأصنام، فالجواب بأنّ هذا كلام الكفّار سواء بسواء جواب نفس الدعوى، وتعقيبه بقوله: واقرأ عليه قوله تعالى: ما نعبدهم إلّا ليقربونا الخ غير ... «(1)» به لعدم دلالة الآية على التسوية، فإنّ اعتذار الكفّار إنّما هو اعتذار عن عبادتهم إياها بالاستشفاع وأمّا المستشفعون بالأنبياء والأولياء فلا «(2)» يعتذرون عن شى ء، ولا مقام ولا وجه لاعتذارهم، فانّهم م لم يفعلوا قبيحاً باستشفاعهم، وأنّهم يرونه حسناً، ويعلّلون حسنه بوجاهة الأنبياء والأولياء عند اللَّه بحكم الوجدان في استشفاع كلّ مقصر بالموجهين عند مولاه، وهذا غير الاعتذار عن العبادة فليس


1- - غير واضح في الأصل.
2- - في الأصل لا، والانسب ما ذكرنا.

ص:74

الكلامان «(1)» سواء بسواء.

ثم إنّ الآية الثانية أعني قوله: أهؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، لا توجد في القرآن، وليس فيه والآية الموجودة هكذا: وَيعبدونَ مِنْ دونِ اللَّه ما لا يَضُرُّهم ولا ينفعُهُمْ وَيَقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، قل أتنبّئون اللَّهَ بما لا يَعْلَمُ في السماواتِ والأرض إلى قوله:

سُبحانَهُ وَتَعالى عمّا يُشْرِكُون «(2)»

ومفاد قوله تعالى: ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عندَ اللَّه هو الاعتذار عن العبادة لما لا يضر هم ولا ينفعهم بالاستشفاع، فوبّخهم اللَّه بأنّ هذا الكلام إخبار بأمر لا يعلم اللَّه وجوده في السماوات؛ لأن الاستشفاع بما لا ينفع استشفاع العبد بما ليس له وجاهة عند اللَّه، فصار سبيل هذه الآية سبيل الآية الاولى من حيث عدم الارتباط بالمدّعى أعني تسوية كلام المستشفعين بالأنبياء والأولياء لكلام الكفّار بالبيان الّذي قدّمناه.

والعجب من قول القائل: «واعلم أنّ هذه الشبه الثلاث أكبر ماعندهم، فإذا عرفت أنّ اللَّه تعالى وضّحها في كتابه، وفهمتها فهماً جيداً، فما بعدها أيسر منها».

وجه العجب أنّ القائل مع كونه من العرب، ومستأنساً بالقرآن استدل بآيات لا دخل لها في المطلب، فيستحق أن يقال في حقه:


1- - في الأصل: الكلامين، والصحيح ما أثبتناه.
2- - سورة يونس: الآية: 18.

ص:75

يامَن يُرَى مِنْهُ العجبْ يكفيكَ خِزي المُكتَسَبْ

لا تعجلن بالنارِ قَبْلَ الآ خرة أنْ صِرْتَ حمّالَ الحَطَبْ

تمشي بأقوال الّتي قد قلتها بعد التَّعَبْ «(1)»

ثم قال: «فإن قال: أنا لا أعبد إلّااللَّه، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بشرك، فقل له: أنت تُقرّ أنّ اللَّه قد فرض عليك إخلاص العبادة،، فاذا قال: نعم فقل له: بيّن لي هذا الفرض الّذي فرض اللَّه عليك؛ وهو إخلاص العبادة؛ وهو حقّه عليك؛ فإنه لا يعرف العبادة، ولا أنواعها، فاذا أعلمته بهذا فقل له: أقررت أنّه عبادة للَّه، فلابدّ أن يقول: نعم، والدّعاء مخّ العبادة، فقل له: إذا أقررت أنّه عبادة للَّه، و دعوت اللَّه ليلًا ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثمّ دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره، هل أشركت في هذه العبادة غير اللَّه؟ فلابدّ أن يقول: نعم، فقل: له قال اللَّه تعالى: فصلّ لربِّكَ وانحرْ «(2)»

فإذا أطعت اللَّه، ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلابدّ أن يقول: نعم، فقل له: إذا نحرت لمخلوق؛ نبيّ أو جنيّ أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة


1- - كذا.
2- - سورة الكوثر: الآية 2.

ص:76

غير اللَّه؟ فلابدّ أن يقرّ ويقول: نعم» انتهى.

ومحصّل كلامه في جواب القائل: «بأنّا لا نشرك في عبادتنا أحداً ممّنْ نجعله شفعاء» أنّ كلّما هو عبادة للَّه إذا فعلتها لغير اللَّه أيضاً فهو تشريك له به، فالذّبح يقع عبادة للَّه إذا لم يقع لغيره، فإذا وقع لغيره صار ذلك الغير شريكاً للَّه في تلك العبادة.

هذا محصل مرامه بعد إسقاط فضول كلامه، وهو كما ترى غلط لا يصدر من جاهل فضلًا عن عاقل؛ لأنّ العبادة خضوع خاصّ وخشوع مخصوص لها كيفيّات خاصة توقيفيّة، وتعيينها بلسان النبيّ صلى الله عليه و آله عَلى طبق ما أمر اللَّه تعالى بتبليغها، فالنحر المحسوب عبادة المشار إليه بقوله تعالى: فصلّ لربّك وانحر «(1)»

بناء على تفاسير أهل السّنّة مخصوص بنحر يوم العيد في «منى» فلا يذبح ولا ينحر أحد إبلًا ولا غنماً في منى «(2)» لغير اللَّه بل لا يذبح أحد الشاة خضوعاً لأحد، بل يذبح إمّا تكريماً لقدومه أو تصدّقاً لمريض أو غير ذلك، باعتبار كون ذلك مأموراً به من اللَّه تعالى، والذّبح المنذور صدقة، فهو أيضاً متمحّض للَّه؛ لأنّ الناذر يقول: للَّه عَلىَّ ذبح غنم إن شا في اللَّه مريم، أو رزقني ولداً ذكراً.

وأما الذّبح للعبّاس بن علي بن أبي طالب عليه السلام فهو ذبح يرجع


1- - سورة الكوثر: الآية 2.
2- - في« س» و« ن»: المنى، و الصحيح ما أثبتناه.

ص:77

إلى اللَّه؛ ليكون ثوابه هدية للعبّاس عليه السلام؛ ليشفع عند اللَّه في حاجة للذابح يقضيها «(1)» اللَّه تعالى، فكلّ الذّبح راجع إلى اللَّه، ومصرف المذبوح هم الفقراء وغيرهم ممن عيّنه اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله، وذبح المشركين راجع إلى آلهتهم، وكانوا يمنعون الفقراء منه، بل مصرفه عندهم خدام الأصنام والمستحفظين لها.

هذا وكذلِك الدّعوة أيضاً للَّه تعالى؛ فإنّ الدّعاء الّذي يحسب عبادة هو ما يسأل المصلّي من تعالى في قنوته أو تعقيب صلواته أو حال مناجاته في مظانّ إجابة الدّعوة وكلها معيّنة بكيفيّات خاصّة من الخضوع والخشوع والابتهال والبكاء، ولايدعو أحدٌ أحداً من الأنبياء والأولياء مثل ما يدعون اللَّه تعالى، مثلًا يقول الدّاعي:

ياربّ أعطني سعة في الرّزق، وبركة في المال، وصحّة في الجسم إلى غير ذلك، ولا يقول: يا محمّد صلى الله عليه و آله أو يا علي عليه السلام أعطني سعة في الرّزق الخ بل يقول: يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو يا أمير المؤمنين عليه السلام اشفع لي عند اللَّه تعالى أن يعطيني كذا وكذا، وهذا الدعاء ليس عبادة، بل استغاثة والتجاء كما يقول الأعمى: يا رجلًا خذ بيدي أو يقول شخص لأحد: اركبني عَلى فرسي، أو يقول الغريق لسبّاح:

أنقذني.


1- - في« س» و« ن»: يقضها، والصحيح ما أثبتناه.

ص:78

فالعبد المقصّر عند مولاه إذا قال للوجيه عند المولى: اشفع لي عند مولاي في العفو عني، فهذا يعدّ التجاء واستغاثة لا أنّه تشريك في الدّعاء الّذي هو مخّ العبادة؛ فإنّ لتلك الدّعوة كيفيّة مخصوصة، لا تصدر «(1)» من أحد بتلك الكيفيّة إلّاللَّه تعالى فالقياس غير لائق على أنّه مع الفارق.

ومن العجب ما يقوله بقوله «فإنّه لايعرف العبادةوأنواعها» فإنّه مع كونه تخرّصاً أمر غير معقول عادة؛ إذ لا يمكن أن يكون كلّ محتجّ بهذا الاحتجاج غير عارف بالعبادة وأنواعها محتاجاً إلى بيان خصمه.

وقد عرفت ممّا قرّرت هنا أنّ قوله: «فقل له: أقررت أنّه عبادة ودعوت اللَّه ليلًا ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثمّ دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره هل أشركت في هذا الدّعاء غيره، فلابدّ أن يقول: نعم» غلط واضح؛ إذ الفرض غير واقع؛ فإنّ للدّعاء الّذي يدعو به اللَّه لحاجة كسعة الرّزق أو بركة في المال يطلب به نفس الحاجة يقوله: اللهمّ أعطني سعة في الرّزق مثلًا، ولا يقول يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أعطني سعة في الرّزق، بل يقول: يانبيّ اللَّه اشفع لي عند اللَّه أن يعطيني سعة في الرّزق، فكيف يقول:


1- - في الاصل: يصدر، والانسب ما ذكرناه.

ص:79

«فلابدّ أن يقول نعم» ومثل هذا الكلام ما قاله بالنسبة إلى الذّبح بالتقريب المتقدمّ.

أفْسَدَ الدّهْرُ فَسادَ الخُرَّصِ مِنْ لجاجٍ وعنادِ الحُرَّصِ

خَرْقُ بنيانٍ ركيكٍ أصْلُهُ لا يُعَمَّرْ بعجينِ الجصّ «(1)»

ليس ما قلت يفيد السامِعَ دع مقالًا لخبال اللص «(2)»

في دعوى أن طلب الشفاعة من الأنبياء كطلبها من الأصنام؟

] ثم قال القائل: «ثم قل له: المشركون الّذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة و الصالحين واللات وغير ذلِك، فلا بدّ أن يقول: نعم فقل: هل كانت عبادتهم إياهم إلّافي الدّعاء والذّبح والالتجاء ونحو ذلِك وإلّا فهم مقرّون أنّهم عبيد اللَّه تحت قهره وتصريفه، وأنّ اللَّه الّذي يدبّر الأمر، ولكن دعوهم والتجأوا إليهم للجاه والشّفاعة، وهذا ظاهر».

وخلاصة مرامه تكرار مقالاته الباطلة من أنّ الإقرار بالربوبية للَّه تعالى يوجب انحصار عبادتهم لهؤلاء المعبودين في


1- كذا.
2- كذا.

ص:80

الدّعاء إياهم و الذّبح لهم، والالتجاء إليهم للجاه والشّفاعة، وقد قرّرنا بطلان هذه المقالات بتقريرات مختلفة في موارد متعدّدة، فلا نعيدها؛ فإنّ العاقل المنصف تكفيه الاشارة، والمعاند المتعسّف لا يردّه عمّا هو عليه تكرار العبارة، وأحسن ما يليق أن يقال في حقه ما قيل بالفارسية.

كوش أكَر كوش تو وناله أكرناله من آنكه البته بجائى نرسد فريادست

ويستحقّ أن تقول له: أخاطب من أراه تائهاً في ضلاله لا هديه لكنّه لا حياة له «(1)».

ثم قال: «وإذا قال أتنكر شفاعة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتبرأ عنها فقل لا أنكرها، ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه و آله الشافع المشفعّ، وأرجو شفاعته، لكنّ الشّفاعة كلّها للَّه كما قال اللَّه تعالى: قل للَّه الشّفاعة جميعاً «(2)»

ولا تكون إلّابعد إذن اللَّه كما قال تعالى من ذا الّذي يشفع عنده إلّابإذنه «(3)»

ولا يشفع في أحد الّا بإذن اللَّه فيه، ولا يأذن إلّالأهل التّوحيد والإخلاص كما قال تعالى: ولا يشفعون


1- - هذا في الظاهر ترجمة للبيت الفارسي المتقدم.
2- - سورة الزمر: آية 44.
3- - سورة البقرة: الآية 255.

ص:81

إلّا لمن ارتضى «(1)»

وهو لا يرضى إلّاالتّوحيد كماقال اللَّه تعالى: وَمَنْ يبتغِ غَيْرَالإسلام ديناًفَلَنْ يُقبلَ مِنْهُ «(2)»

الآية فإذا كانت الشّفاعة كلّها للَّه، ولا تكون إلّابعد إذنه، ولايشفع النبيّ صلى الله عليه و آله ولا غيره في أحد حتى يأذن اللَّه فيه، ولا يأذن إلّالأهل التّوحيد تبيّن أنّ الشّفاعةكلّهاللَّه، وأطلبهامنه فأقول: اللّهم لا تحرمني شفاعته، اللّهم شفّعه فيّ وأمثال هذا» انتهى.

وخلاصة مرامه أنّ الجمع بين كون الشّفاعة كلّها للَّه وأنّها لا تكون ألّابإذنه، والمأذون فيها لا يشفع إلّالمن ارتضى غير ممكن إلّا بأن يقال إنّه يصحّ الطلب من اللَّه شفاعته بأن يقال: اللّهم شفّع النبيّ صلى الله عليه و آله أو غيره فيّ فيكون قول من يقول: يا أيها النبيّ اشفع لي عند اللَّه شركاً؛ لأنّ الشّفاعة كلّها للَّه، وإذا طلب السائل ذلِك من النبيّ صلى الله عليه و آله أو غيره فقد أشركه مع اللَّه.

هذا لكنّك خبير بأنّ هذا الكلام أقبح الكلمات، فإنّ النزاع اللفظي غير لائق بالعلماء سيما في الامور المهمة الّتي تتعقبها «(3)» المفاسد الكثيرة، مضافاً إلى أنّ نسبة ذلِك إلى المستشفعين


1- - سورة الأنبياء: الآية 28.
2- - سورة آل عمران: الآية 85.
3- - في« س» و« ن» تتعقبّه، والصواب ما أثبتناه

ص:82

بالأنبياء والأولياء تهمة وتجرية؛ فإنّهم يقولون في تشهّد صلواتهم: «وتقبّل شفاعته وارفع درجته» «(1)»

وقد يقولون:

«اللهمّ إنّي أتقرب اليك بذكرك، واستشفع بك إلى نفسك» «(2)»

وقد يقولون «يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لنا عند اللَّه» «(3)»

وفي هذه العبارة إشعار بأنّ الاستشفاع بالشفيع المخاطب إنما هو لأجل وجاهته عند اللَّه تعالى لا لكونه مالك أمره، وأيضاً فيها تلويح بأنّ الإذن في الاستشفاع حاصل لكلّ وجيه عند قربه إليه، [و] كيف لا يكون كذلِك وقد أمر اللَّه تعالى عباده بطلب الرحمة من اللَّه لنبيه صلى الله عليه و آله بقوله تعالى: إنّ اللَّه وملائكته يصلّون عَلى النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً «(4)»

بعد ما ذكر أنّه تعالى وملائكته يصلّون عليه مشعراً بكمال وجاهته صلى الله عليه و آله عنده تعالى، و قربه منه، و محبوبيّته لديه، مع ما جبّل عليه الطباع والعقول من قبول شفاعة الشفيع عند المتقرّب تقرّب إليه والمحبوب لديه.

تبصرة وإيضاح تقلب و إيقاظ عن إغفال


1- - فروع الكافي 3: 188.
2- - مفاتيح الجنان: دعاء كميل.
3- - المصدر السابق: دعاء التوسّل.
4- - سورة الأحزاب: الآية 56.

ص:83

في استدلال القائل بقوله تعالى: قل للَّه الشّفاعة جميعاً إسقاط لما قبل الآية وذيلها بما يتّضح به حقيقة المطلوب والمراد؛ فإنّ الآية السابقة عليه قوله تعالى: أم اتخذوا من دون اللَّه شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون قل للَّه الشّفاعة جميعاً له ما في السّماوات والأرض ثم إليه ترجعون «(1)»

توبيخ في الآية الشريفة لعبدة الأصنام بالاستفهام الإنكاري اللّومي؛ حيث قالوا فيما يعبدون من الأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، معلّلًا للتوبيخ بأنّ الشفيع لابدّ في شفاعته أن يكون مالكاً للشفاعة، و مختاراً للمشفوع لأمر يستشفع عنده، أو يكون عالماً عاقلًا موجهاً مستحقاً للإكرام والاحترام، بقبول شفاعته لمقام علمه و شرف عقله، وحينئذٍ فلا تستحق الأصنام مقام الشّفاعة مع كونها آلهة عندهم، بل الشّفاعة كلّها للَّه، ولا شريك يك له في ذلِك، فهو بنفسه شفيع للمقرّبين والمذنبين عند نفسه برحمته الواسعة، وبجعل الشفيع عنده بمن عيّنه شفيعاً لقربه إليه بشرف العلم والعقل، وهو المأذون من طرفه في شفاعة المذنبين المصرّين وقضاء حوائج المحتاجين، لكونه تعالى مالك ما في


1- - سورة الزمر: الآيتان 43 و 44.

ص:84

السماوات والأرض من أمر الشّفاعة وغيرها، فإليه يرجع شفاعة من يشفع بإذنه لرجوع كلّ الامور اليه، فهذه بالصراحة تدلّ عَلى غلطيّة قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، وفي صحّة شفاعة من يكون له وجاهة عنده وقرب لديه؛ لعلمه وعقله، وتصريح بأنّ شفاعته أيضاً شفاعة راجعة إلى اللَّه، لرجوع كل أمر إليه، فالآية دليل لنا لا علينا.

وأمّا الاستدلال بقوله تعالى ولا يشفعون إلّالمن ارتضى «(1)»

فشي ء لا ينكره أحد من المستشفعين بالأنبياء والأولياء؛ فإنّهم معتقدون بأنّهم عليهم السلام بأمره تعالى يعملون، وبحكمه يحكمون، و إلى سبيله يرشدون لا يوجبون عَلى اللَّه قبول الشّفاعة، ولا يتمنّون من الشفعاء إلّانفس الشّفاعة في ظاهرها لهم، ويطلبون من اللَّه قبول الشّفاعة في الباطن.

وكون الرضابالشّفاعة لأهل التّوحيد مسلّم لكنّ الإشكال في تخصيص الموحّدين بالوهّابية دون سائر المسلمين.

وفي الاستدلال بهذه الآية لإثبات كون غيرهم مشركين دور واضح؛ لتوقّف عدم الرّضا بالشّفاعة لهم عَلى كونهم غير موحّدين، وتوقّف كونهم كذلِك عَلى كون استشفاعهم شركاً وهو عين المتنازع فيه.


1- - سورة الأنبياء: الآية 28.

ص:85

قُلْ لمن عانَدَ للحق أيا سالكٌ عن صقع عَدلٍ عدَلا

مَسلكُ الحقِّ طريقٌ واحدٌ لايجاوز عنه إلّاالحوّلا

لم يكن إثبات حقٍّ بالجدالْ دع مراءً ظاهراً أو جدلا

ثم قال: «فإن قال: إنّ النبيّ اعطي الشّفاعة وأنا أطلبه ممّا «(1)»

أعطاه اللَّه، فالجواب أنّ اللَّه تعالى أعطاه الشّفاعة، ونهاك أن تدعو مع اللَّه أحداً قال اللَّه تعالى: المساجدَ للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً «(2)»

وطلبك من اللَّه شفاعة نبيه صلى الله عليه و آله عبادة، واللَّه نهاك أن تشرك في هذه العبادة أحداً فاذا كنت تدعو أن يشفعه فيك فأطعه في قوله تعالى فلا تدعوا في هذه العبادة أحداً انتهى.

وملخّص مقصوده: أنّ إعطاء الشّفاعة تكريم لنبيه صلى الله عليه و آله وهو في محلّه، والنهي عن أن تدعو مع اللَّه أحداً تكليف متوجّه إليك وجمع الطالبين «(3)»، يحصل أن تطلب من اللَّه أن يشفع النبيّ فيك، لكنك أنت لا تدعو غير اللَّه نبياً كان أو ولياً أو ملكاً أو صالحاً.

هذا لكنك إذا تأملت في حقيقة معنى إعطاء اللَّه تعالى الشّفاعة


1- - كذا، والصحيح ممّن.
2- - سورة الجن: الآية 18.
3- - في الأصل: المطلبين والصواب ما أثبتناه.

ص:86

لنبيه أو وليّاً، عرفت أنّه لا معنى للإعطاء إلّاترغيب النّاس إلى الاستشفاع به وطلب ما أعطاه ربّه، ويدل عَلى ذلِك ما ورد في تفسير قوله تعالى: فتلقّى آدمُ من رَبِّه كلماتٍ فتاب عَلَيْهِ «(1)»

من أنّ المراد بتلقيه تلك الكلمات التوسل بالأسامي المكتوبة في ساق العرش، فتوسّل بها وقال: «اللّهم بمحمّد صلى الله عليه و آله وأنت المحمود» إلى آخر الخبر «(2)» فقبل بذلِك توبته، بل نقول: إنّه إذا قال الداعي: اللّهم لا تحرمني شفاعة النبي صلى الله عليه و آله، أو شفعه في لا معنى له غير قبول شفاعته بعد الاستشفاع به؛ إذ أصل الشّفاعة المعطى بها للنبيّ صلى الله عليه و آله ولا حاجة إلى دعوة الداعي ومطلوب الداعي قبول شفاعته فيما استشفعه به، فإذا قال خطاباً للنبي صلى الله عليه و آله: ياوجيهاً عند اللَّه اشفع لي عند اللَّه، فقد طلب الشّفاعة صريحاً من النبيّ صلى الله عليه و آله وقبوله ضمناً من اللَّه تعالى وإذا قال: اللّهم لا تحرمنى شفاعة النبيّ صلى الله عليه و آله أو شفعه في، فقد طلب من اللَّه قبول شفاعته صلى الله عليه و آله واستشفع به صلى الله عليه و آله ضمناً، وهذا ظاهر عند العارف العارف المنصف وذي الوجدان غير المتعسف «(3)».

وأما النهي عن دعوة غيرة اللَّه بقوله تعالى: وأنّ المساجد للَّه فلا


1- - سورة البقرة: الآية 37.
2- - راجع تفسير الآية في مجمع البيان 1: 200 ط دار المعرفة- بيروت.
3- - في الأصل: الغير معتسف، والصواب ما أثبتناه.

ص:87

تدعوا مع اللَّه أحداً «(1)»

فنهى عن الدّعوة المخصوصة الّتي كانت معمولة عند عبدة الأصنام، بل اليهود والنّصارى، حيث إنهم في بيعهم و كنايسهم يدعون العزير وعيسى عليه السلام بالالوهية، وعبدة الأصنام كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلّاشريك هو لك، فالآية ناهية عن تلك الأفعال، ولو سلمنا العموم فهو مخصّص بالدّعوة الاستشفاعيّة لمن أعطاه اللَّه الشّفاعة، ولو سلّمنا عدم التّخصيص فنقول: ليس الاستشفاع بالنبيّ صلى الله عليه و آله دعوة لغير اللَّه تعالى، ونفس الاستشفاع للوجاهة ليست بعبادة، والنهي عن دعوة غير اللَّه مع اللَّه الدّعوة بالالوهية لا الدّعوة للاستشفاع، وقد قدّمنا أنّها مستلزمة لدعوة قبول الشّفاعة.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّ قول القائل: «طلبك من اللَّه شفاعة نبيه صلى الله عليه و آله عبادة، واللَّه نهاك أن تدعو مع اللَّه أحداً في العبادة» مغلطة وليس في محلّه؛ لأنّ الاستشفاع بالنبيّ صلى الله عليه و آله والوليّ أيضاً


1- - سورة الجن: الآية 18.

ص:88

عبادة للَّه لتضمنه طلب قبول الشّفاعة، لأنّ طلب شفاعة نبيه صلى الله عليه و آله ليس إلّالأجل التوجّه إلى ذات الحقّ وهو حاصل بالاستشفاع بالنبيّ صلى الله عليه و آله لأنّ معنى الاستشفاع طلب الحاجة بتوسّط النبيّ المجعول له الشّفاعة، والمأذون في الشّفاعة بإعطائها له صلى الله عليه و آله.

ثم قال القائل: «وأيضاً فإنّ الشّفاعة أعطاها غير النبيّ صلى الله عليه و آله فصحّ أنّ الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول إنّ اللَّه أعطاهم الشّفاعة فاطلبها منهم، فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصّالحين الّتي ذكرها اللَّه تعالى في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك: أعطاه اللَّه الشّفاعة وأنا أطلبه ممّا أعطاه اللَّه» انتهى.

وخلاصة مقاله في إثبات أنّ إعطاء الشّفاعة من فضل اللَّه ليس مختصّاً بالنبيّ صلى الله عليه و آله بل أعطاها كلّ الصّالحين، فالاستشفاع بهم ليس شركاً وقد جعله اللَّه شركاً، فليكن الاستشفاع بالنبيّ صلى الله عليه و آله كذلِك.

هذا لكنك بعد التأمل فيما ذكرناه ممّا تقدم من أنّ عبدة الأصنام والملائكة وعيسى عليه السلام وغيرهم كانوا يسمّون العبادة شفاعة بقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه «(1)» وما نعبدهم إلّاليقربونا إلى اللَّه زلفى «(2)»

تعرف الفرق بين كلامهم وعملهم وبين عمل المسشفعين بالأنبياء والأولياء وكلامهم مع أنّ لنا أنّ نقول: إنّ الشّفاعة لم تعط «(3)» من اللَّه إلّاللنبيّ صلى الله عليه و آله وأوصيائه، ولهذا نقول: و بمحمّد وآله صلى الله عليه و آله نتوجه إليك ونستشفع لديك ونقول في التشهد د وتقبّل شفاعته والالتجاء بغيرهم باعتبار كونهم من المقرّبين والموجّهين عند اللَّه


1- - سورة يونس: الآية 18.
2- - سورة الزمر: الآية 3.
3- - في الأصل: يعط، والأنسب ما ذكرناه.

ص:89

ترجيح للمرجوح عَلى الراجح والمفضول على الفاضل ولا يصدر ذلِك عن العاقل، فمع إمكان الاستشفاع بالنبيّ وآله عليهم السلام، والالتجاء بهم، ومعلوميّة أفضليّتهم من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، لا حاجة لأحد إلى الالتجاء والاستشفاع بغيرهم، وَمَنْعُنا عن الالتجاء بهم إنّما هو لكون ذلِك تفضيلًا للمفضول عَلى الفاضل، ولا يصدر إلّاعن سفيه أو جاهل.

زَعِمَ الجاهِل السَّراب كماءٍ يُتَروّى به غليل ظماءِ

قُلْ له بالغِ النظارةَ فِيهِ كي تُرى نَظْرَةَ الحُمَقَاءِ

كَيْفَ هذا القياسُ عِنْدَ بَصيرٍ عايَنَ الميزان غيرَ سواءِ

ثم قال القائل: «فإن قال: أنا لا اشرك باللَّه شيئاً حاشا وكلّا، لكن الالتجاء بالصّالحين ليس بشرك فقل له: إذا كنت تقرّ بأنّ اللَّه تعالى حرّم الشرك أعظم من تحريم الزّنا وغيره، وأنّ اللَّه لا يغفره، فما هذا الأمر الّذي عظّمه اللَّه وذكر أنّه لا يغفره؟ فإنه لا يدري فقل: كيف تبرئ نفسك عن الشرك وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم اللَّه عليك هذا ويذكر أنّه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟

أتظنّ أنّ اللَّه يحرّمه ولا ينبّه لنا؟ فإن قال: الشرك عبادة الأصنام فقل له: ما معنى عبادة الأصنام أتظنّ أنّهم يعتقدون أنّ تلك الأحجار والأخشاب تخلق وترزق وتدبّر أمرهم إن دعوها؟

ص:90

فهذا يكذبه القرآن، أو هو قصد خشبة أو حجراً «(1)» أو بناء عَلى قبر أو غيره، ويدعون ذلِك، ويذبحون له، ويقولون: إنّه يقرّبنا إلى اللَّه زلفى، ويدفع عنّا اللَّه ببركته، ويعطينا ببركته، فقد صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايا «(2)» الّتي عَلى القبور، فهذا أقرّ بأنّ فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب» انتهى.

وملخّصه تكرار للمقال وإعادة لما قال من أنّ أفعال المستشفعين بقبور الأنبياء والأولياء هي ما كان يعمل به [يعمله خ ل] عبدة الأوثان، والمراد من الشرك المحرّم الّذي هو أعظم من الزنا هو هذا، لكن لا يعلم أنّه شرك، فإذا علمتّه واعترف بأنّ عبدة الأصنام كانوا يعملون مثل عملهم ويفعلون مثل فعلهم وقولهم ثبت المطلوب.

أقول: هذا الكلام من هذا القائل مشتمل عَلى خرص وجهل وكذب وتهمة.

أما الخرص فهو قوله: «فإنّه لايدري الخ» إذ معنى الشرك معلوم لغة وعرفاً لكلّ من استأنس بلسان العرب، وليس له غير المعنى اللغوي أو العرفي إلّاما اصطلح عليه الوهابية، والقرآن


1- - كذا.
2- - كذا.

ص:91

منزّل عَلى لسان العرب لا عَلى ما اصطلح عليه جماعة تقليداً لعبد الوهاب الأصفهاني العجميّ.

فنقول نحن نعلم الشرك الّذي نتبرأ منه، ونقول: هو حاصل لمن لم يوحّد اللَّه ذاتاً وفعلًا ووصفاً وعبادة، فمن عبد غير اللَّه بما هو عبوديّة للَّه تعالى فهو مشرك، وكذا التشريك في الامور الثلاثة غير العبادة أياً ما كان، وقد سبق.

وأما الجهل فلأنه- عَلى ما يفهم من كلماته- لم يعلم أنّ الشرك كالتّوحيد أمر قلبيّ وفعل من أفعاله يختلف عمل الجوارح باختلافه، مثلًا الانحناء لشخص عظيم يجلّله تعظيم، ولغيره مسخرة واستهزاء، وليس حاله كالسجود المختص باللَّه تعالى حتّى لا ينقلب عنوانه بالقصد، فتقبيل الحجر الأسود «(1)» واستلامه، وكذا الأحجار والأخشاب المعمولة للبناء عَلى قبور الأنبياء والأولياء والالتجاء بهم لا يقاس بأفعال عبدة الأوثان، فإنهم يدعون أصنامهم، ويذبحون لها، والمستشفعون بالأنبياء لا يدعونهم، ولا يذبحون لهم، ولا يقولون: مانعبدهم إلّاليقربونا إلى اللَّه زلفى «(2)»

وقد سبق تبيان ذلِك.

فقوله: «وهذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايا الّتي عَلى


1- - في الأصل: حجر الأسود، والصحيح ما أثبتناه.
2- - سورة الزمر: الآية 3.

ص:92

القبور وغيرها الخ» باطل ناشٍ عن جهل بمعنى العبادة، وكذب وتهمة في نسبة فعلنا إلى فعل عبدة الأصنام، و هذا الكلام لا يصدر عن العوام إلّاضلّ من الأنعام؛ لأنّ المشركين كانوا يقولون: أتنهانا أن نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤنا «(1)»

أو يقولون: ما نَعْبُدُهمْ إلّا ليقرّبونا إلى اللَّه زلفى فيصرحون بأنّهم يعبدون الأصنام الّتي قال اللَّه تعالى فيها: لا يملكون شيئاً «(2)»

حتّى الشّفاعة، ولايعقلون «(3)»

شيئاً فيكون سبباً لقربهم ووجاهتهم عند اللَّه.

وأما المستشفعون بالأنبياء فيصرحون بقول لا إله إلّااللَّه، ولانعبد إلّا ايّاه، ويستشفعون بمن أذن اللَّه في الاستشفاع به، وهو وجيه عند اللَّه، وواسطة لإيصال الفيوضات من اللَّه إلى عباده، ومع قربه ووجاهته لا يعبدونه، بل يقولون لا نعبد إلّاإيّاه، فكيف لا يستحيي ولا يخجل هذا القائل من قوله: «هذا فعلكم عند الأحجار الخ»؟ مع أنّ الكلام كان في الاستشفاع والالتجاء، وليس أحد من المستشفعين بالأولياء يفعلون ذلِك بالنّسبة إلى أحجار بنيان القبور و أخشابه، وما أشبه هذا الكلام السّفسطي بمقالة من يقول من أهل السّنّة من أنّ الشّيعة الرافضة «(4)» مشركون


1- - سورة هود: الآية 62 وفي الأصل: أتنهانا عمّا يعبد ... والصحيح ما ذكرناه.
2- - سورة الزمر: الآية 43.
3- 3
4- - في الأصل الرّفضة، والصحيح ما أثبتناه.

ص:93

لسجودهم عَلى التّربة؛ وهي كالصّنم لِعَبَدَتِه، وكلّما يقول الساجد على التربة من أنّ هذا تعفير، وهو مندوب، وخضوع مخصوص للَّه جلّ جلاله؛ لا يقبلون منه الاعتذار، ويجعلونه مسلك الفرار، كما أنّ الشيعة تقول لهم: إنّ التّكتّف حال القراءة قبل الركوع تعظيم للجبابرة عند الوقوف بحضورهم، ولا يصحّ أن يعمل في الوقوف عند اللَّه ما يعمل للوقوف بمحضر الجبابرة، وهو بدعة، مستحدثة لم يأت بها النبيّ المختار صلى الله عليه و آله ولم تحكم «(1)» به شريعة سيد الأبرار يقولون: هذا أدب نعمله للعظماء وأيّ عظيم أعظم من اللَّه، ولا يقبلون الأدلة الدالة عَلى المنع منه باستحسان عندهم، لكنّ الحقّ أحقّ أنّ يتبع.

أيا مَنْ أنْتَ مختالٌ فخورُ وتزعمُ أنْك حيّالٌ غرورُ

أتخدع بالتمويه جمعاً «(2)» وبين يديك منتقم غيورُ

تَرى يَوماً يخاصمك الجماعة عليكَ جزاءُ ما تعملْ يدورُ

في دعوى أن الشرك لا يختص بعبادة الأصنام


1- - في الأصل: يحكم والأنسب ما أثبتناه.
2- - كذا.

ص:94

ثم قال: «ويقال له أيضاً قولك الشرك عبادة الأصنام هل مرادك أنّ الشرك مخصوص بهذا، وأنّ الاعتماد على الصّالحين ودعائهم لا يدخل في ذلِك؟ فهذا يردّه ما ذكره تعالى في كتابه العزيز من تعلّق بالملائكة وعيسى عليه السلام والصالحين، فلابدّ أنّ يقرّ لك أنّ من أشرك في عبادة اللَّه أحداً من الصّالحين فهو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب» انتهى.

وملخّص مقصوده: أنّ الشّرك غير مختص بعبادة الأصنام؛ فإنّ اللَّه تعالى كفّر من تعلّق بالملائكة وعيسى والصّالحين وتكفيرهم إنمّا هو لكونهم داعين مع اللَّه أحداً، فيكون فعلكم كعملهم، في كونه شركاً.

هذا مرامه، لكنك خبير بأنّ هذه سفسطة واضحة؛ لأنّ التعلّق بالملائكة وعيسى والصالحين يصدق عليه العبادة، والدّعوة مع اللَّه أحداً بالبيان المتكرر المتقدم، وهذا غير الاستشفاع بالنبيّ صلى الله عليه و آله والولي عليه السلام وبينهما بون بعيد، وتفاوت شديد، فلا يشابهه ولا يدانيه، ويدرك ذلِك من لاعيب فيه ودلالة الوجدان عليه تغنيه، وقد تكرر منّا بيانه جواباً لتكرار برهانه، فإنّه حيث لم يكن عنده دليل عَلى مدّعاه سوى ما ادّعاه أوّلًا وحققنا جوابه كاملًا، يكرّر ذلِك بعبارات مختلفة غير فصيحة، ويلزمنا التكرار ردّاً عليه وكلّما عاد للإضلال عدنا عليه للاذلال.

إنّ عادت العقرب عدنا لها وكانت النّعل لها حاضره

ثم قال القائل: «وسرّ المسألة أنّه إذا قال: أنا لا اشرك باللَّه شيئاً فقل له: و ما الشّرك باللَّه؟ فسّره لي فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل: ما معنى عبادة الأصنام؟ فسّرها لي، فإن قال: أن لا نعبد إلّا اللَّه فقل ما معنى عبادة اللَّه؟ فسّرها لي، فإن قال بما فسّره القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدّعي شيئاً لا يعرفه، وإن فسّره بغير معناه بيّن له الآيات الواضحات في معنى الشرك، وما قاله عبدة الأوثان أنّه الّذي يفعلونه هذا الزمان بعينه، وأنّ عبادة اللَّه وحده لا شريك له هي الّذي ينكرون علينا، ويصيحون كما يصيح إخوانهم حيث قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً هذا لشي ءٌ عجاب «(1)»

انتهى.

ومراده من هذا الكلام الطويل ما كرره سابقاً من أنّ عبدة الأصنام مقرون باللَّه الخالق الرازق المدبّر، ويستشفعون بالأصنام والصّالحين للتقرب إلى اللَّه، وهذا عين ما عليه أهل زماننا لكونهم؛ مقرين باللَّه خالقاً ورازقاً ويستشفعون بالصالحين للتقرب إلى اللَّه، ولكنك قد عرفت الجواب بما ذكرنا في المقدمات وغيرها.

ونجيب كلامه هنا أيضاً بتعبير أوضح فنقول في جواب السؤال عن تفسير الشرك أعني قوله: «ما الشرك فسّره لي»: أنّ الشّرك العبادة لغير اللَّه بما يعبد به اللَّه تعالى وحده، ومعناه أنّه إذا تواضع


1- - سورة ص: الآية 5.

ص:95

ص:96

وخشع لغير اللَّه بالخضوع والخشوع الّذي يفعله للَّه من السجود والركوع والقنوت والدعوات الخاصّة به تعالى فهو مشرك باللَّه وإن سمِّي من فُعِلَ له ذلِك شفيعاًعند اللَّه فضلًا عن أن يسمّيه إلهاً، ولا خفاء في معنى الشرك لغة وعرفاً حتّى يحتاج إلى التفسير بعبادة الأصنام.

وكذا نقول في جواب السؤال عن معنى عبادة اللَّه: إنّ العبادة التشريعية والتكوينية قد بيّناهما في المقدمات؛ وهي توقيفية يتوقف بيانها عَلى تعيين النبيّ صلى الله عليه و آله، ولا يجوز التعدي عمّا بيّنه صلى الله عليه و آله، ويحرم فعل ما عيّنه اللَّه عبادة لغيره تعالى، وعلى هذا فتفسير الآيات بما بيّنه وفسّره هذا القائل تفسير بغير ما هو حقّ التفسير لها، فيشمله قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «من فسّر القرآن برأيه فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النّارِ» «(1)»

وقد فصلّنا الفرق بين عمل عبدة الأصنام وعمل المستشفعين بالأنبياء والأولياء عليه السلام فراجع ولكن:

لا تَزْعُمَنْ يا مَنْ له التدبيرُ في التفسير يُقبل لدى أحدٍ ماقلته بنقير

ماذا دعاك إلى الإصرار في حمق تهجي به مرة اخرى بِتكفيرْ «(2)»


1- - في البحار ج 3 ص 223 ح 14: من فسّر القرآن بغير علم ...
2- - كذا.

ص:97

ثم قال القائل: «فإن قال: إنهم لم يكفروا بدعاء الملائكة والأنبياء، وإنّما كفروا لمّا قالوا: الملائكة بنات اللَّه، ونحن لم نقل عبد القادر ولا غيره ابن اللَّه.

فالجواب أنّ نسبة الولد إلى اللَّه كفر مستقلّ، قال اللَّه تعالى: قل هو اللَّه أحد اللَّه الصمد «(1)»

فالأحد الّذي لانظير له، والصمد المقصود في الحوائج، فمن حجد هذا فقد كفر ولو لم يحجد أوّل السورة، ثم قال: لم يلد ولم يولد «(2)»

فمن جحد هذا فقد كفر وإن لم يجحد أوّل السورة، قال اللَّه تعالى: ما اتخذ اللَّه من ولدٍ وما كان معه من إله «(3)»

ففرّق بين النوعين، وجعل كلّا منهما كفراً مستقلّاً.

وقال اللَّه تعالى: وجعلوا للَّه شركاء الجنّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقوا له بنينَ وبناتٍ بغير علمٍ سُبحانَهُ وَتعالى عمّا يصفون «(4)»

ففرق


1- - سورة الاخلاص: الآيتان 1- 2.
2- - سورة الاخلاص: الآية 3.
3- - سورة المؤمنون: الآية 91.
4- - سورة الأنعام: الآية 100.

ص:98

بين الكفرين.

والدليل عَلى هذا أيضاً أنّ الذين كفروا بدعاء اللات مع كونه رجلًا صالحاً لم يجعلوه ابن اللَّه والذين كفروا بعبادة الجنّ لم يجعلوهم كذلِك، وكذلِك العلماء في المذاهب الأربعة يذكرون في باب حكم المرتد أنّ المسلم إذا زعم أنّ للَّه ولداً فهو مرتد، وإذا دعا للَّه ندّاً فهو مرتد فيفرقون بين النوعين، وهذا غاية الوضوح» انتهى.

وخلاصة السؤال والجواب:

أنّ اعتذار المستشفعين بالأنبياء والأولياء عن كفر المشركين المستشفعين بالملائكة من باب قولهم بكونها بنات اللَّه، وهذا العذر غير مقبول؛ لكون القول بذلِك كفراً آخر غير الشرك باللَّه.

هذا ولكن احتمال اعتذار هؤلاء بذلِك من الجهالة، بل ناشٍ من الحماقة؛ لأنّ الفرق بين الكفرين واضح لا يخفى عَلى الجهال فضلًا عن العقلاء والعلماء ذوي الألباب، وماأجاب به هذا القائل عن السؤال إنّما يتجه لفرض وجود سائل غير قابل بل أحمق جاهل، وما يستحق الجواب أن يفرض السائل في مقام الفرق بين عملهم وعمل المستشفعين بالملائكة من غير جهة قولهم بكون الملائكة بنات اللَّه؛ لوضوح قولهم بكونها إلهاً معبوداً وكان عملهم عَلى ذلِك وقو لهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه أو ليقربونا إليه زلفى اقرار منهم بما ينا في حقيقة الاستشفاع فإنّ الاستشفاع فإنّ بهذه الكيفية لا يصدق عليه الاستشفاع، وإنّ المستشفعين بالأنبياء والأولياء لا يعملون عملًا ينافي الاستشفاع، مع أنّ الاستشفاع أمر يحتاج إلى إذن

ص:99

من اللَّه للشفيع فيكون بالاستلزام إذناً للمستشفعين في الاستشفاع، وأنّه لم يدلّ دليل على إذن الملائكة في الشّفاعة فضلًا عن أصنامهم وأمثالها، والفرار عن جواب هذا الاعتراض بفرض السؤال المذكور، والجواب عنه بما لا يخفى عَلى ذي مسكة مغلطة واضحة وسفسطة لائحة.

هذا كلّه مضافاً إلى أن الكفر علّة واحدة ولو باختلاف الموجبات، وأيّ ربط بينه وبين اثبات الكفر بالاستشفاع بالكيفية المعمولة بين المستشفعين بالنبيّ صلى الله عليه و آله وأوصيائه عليه السلام الّذين لا يجعلونهم معبوداً، ولا يسمّونهم إلهاً، ولا يعبدونهم نحو عبادة المشركين الّذين سمّاهم اللَّه تعالى مشركين، والقياس- مع بطلانه من أصله؛ فان أوّل من قاس إبليس- لا يصّح مع الفارق، والدّعوة والاستغاثة اللّتين ترجعان إلى دعوة اللَّه والاستغاثة به تعالى ليس دعوة مع اللَّه أحداً.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّ عبدة اللات و الجنّ كانوا عابدين لهما كما ذكرنا مراراً لا مستشفعين نحو الاستشفاع بالأنبياء والأولياء عليهم السلام من المسلمين، والاستشهاد بمقالة العلماء في المذاهب الأربعة ليس منكراً ولا مربوطاً بالمقام.

إن كنت ذا بصر فالفرق منظور أن القياس بطل والذم مشهور «(1)»


1- - كذا.

ص:100

لكن بعين حسود كلّ واضحة «(1)» تستر بحقد خفيّ وهو مستور «(2)»

ثم قال القائل: «وإن قال: ألا إنّ أولياء اللَّه لا خوف عليهم ولاهم يحزنون «(3)»

فقل هذا حقّ ولكن لا يعبدون، ونحن لا ننكر عبادتهم مع اللَّه واشراكهم معه، وإلّا الواجب عليك حبهم واتباعهم والاقرار بكراماتهم ولا يجحد كرامات الأولياء إلّاأهل البدع والضّلال؛ ودين اللَّه وسط بين طرفين، وهدىً بين ضلالتين، وحق بين باطلين» انتهى.

أقول: من الشيطنة والتقلبات المندرجة في هذا المقال تركه تقريب الاستدلال لعدم مناسبة جوابه لهذه الآية بالتقريب الّذي لا يمكن الذبّ عنه، ونحن نستدلّ بهذه الآية بتقريب يعلم كل أحد عدم مناسبة الجواب معه، والعجب أنّه ذكر هذه الآية وجعلها من المتشابهات، وكأنّه لم يعرف تقريب الاستدلال وهو بأن يقال: لمّا قال اللَّه في مواضع من كتابه الكريم: ألا إنّ أولياء اللَّه لا خوف عليهم


1- - كذا.
2- - كذا.
3- - سورة يونس: الآية 62.

ص:101

ولا هم يحزنون عرفنا صدق هذا الكلام، و لمّا رأينا قوله تعالى: إنّكم وماتعبدون من دون اللَّه حصب جهنم أنتم لها واردون «(1)»

عرفنا أنّ أولياء اللَّه غير معبودين، وإلّا لكانوا من أهل جهنّم وكانوا خائفين محزونين، فنستدل بعدم الخوف عليهم وعدم حزنهم أنّ الاستشفاع بهم ليس عبادة ودعوة لهم، فمن جعل ذلِك عبادة لهم مع اللَّه فهو معاند لجوج ومجادل مجوج، مبطل في كلامه مضل في مرامه، وعليه وزر آثامه.

وإذا عرفت تقريب الاستدلال عرفت أنّ قوله: «هذا حقّ، لكن «لا يعبدون» تناقض في كلامه؛ لأنهم إن كانوا معبودين لا يمكنهم عدم الخوف والحزن بعد قول اللَّه تعالى لمن يعبد سواه: إنّكم وما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنم ا الخ فلابدّ أن يحمل ما يعمل بالنّسبة إليهم من الاستشفاع عَلى ما ليس بعبادة غير اللَّه، ولا الدّعوة مع اللَّه أحداً مع أنّ إلاقرار بكراماتهم في حياتهم إن كان بحصول ما يسألهم النّاس من شفاء مرض، أو قضاء حاجة لهم؛ فليس ذلِك إلّا بسبب قبول شفاعتهم عند اللَّه؛ فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا نشوراً.

وكذا ما يظهر منهم بعد الممات بعد التوسّل بهم عند قبورهم أو في غيرها؛ لا يحصل إلّابقبول شفاعتهم عند اللَّه في محاويج عبيده وإمائه؛ فإنهم عليهم السلام حقيقة ليسوا بأموات، بل أحياء عند ربّهم


1- - سورة الأنبياء: الآية 98.

ص:102

يرزقون كما قال تعالى في كتابه العظيم: ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون «(1)»

الخ.

وبالجملة كلّما يحصل للناس بعد التوسل والاستشفاع بهم عند اللَّه من قضاء الحوائج مثبت لكرامتهم و قربهم ووجاتهم عند اللَّه، ودليل عَلى قبول شفاعتهم عنده تعالى.

كرامة الأولياءْ شاهد صدقٍ عَلى

شفاعة المذنبين لدى إلهِ لسماءْ

يا أيّها المذنبون قوموا إلى المغفره

من رحمةٍ واسعهْ شفاعة الشّافعينْ

الفرق بين شرك الأولين و شرك أهل هذا الزمان

] ثم قال القائل: «فإذا عرفت أنّ هذا الّذي يسميه المشركون في وقتنا الاعتقاد هو الشرك الّذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله النّاس عليه فاعلم أنّ شرك الأوّلين من شرك أهل زماننا أخف بأمرين:

أحدهما: أنّ الأوّلين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع اللَّه إلّافي الرّخاء، وأمّا في الشّدّة


1- - سورة آل عمران: الآية 169.

ص:103

فيخلصون الدين للَّه كما قال تعالى: وإذا مسّكم الضُّرُّ في البحرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُوْنَ إلّاإيّاه فلما نجّاكم إلى البرِ أعرضتم وكان الإنسانُ كفوراً «(1)»

، وقال تعالى: قل أرأيتُمْ إن أتاكم عذابُ اللَّهِ أو أتتكُمُ السّاعَةُ أغيرَ اللَّهِ تدعونَ إن كنتُم صادقينَ بل إيّاه تدعونَ «(2)»

ألخ وقال تعالى: وإذا مسّ الإنسانَ ضرٌّ دعا ربّهُ مُنيباً إليه ثم إذا خوّلَهُ نعمةً منهُ نَسِيَ ما كان يدعو إليه مِنْ قَبْلُ «(3)»

الآية وقال تعالى: وإذا غَشِيَهُم موجٌ كالظّللِ دَعَوُا اللَّهَ مخلصينَ له الدّين «(4)»

الآية.

فمن فهم هذه المسألة الّتي وضحها اللَّه في كتابه، وهي أنّ المشركين الذين قاتلهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدعون اللَّه، ويدعون غيره في الرّخاء، وأمّا في الضّراء والشدّة، فلا يدعون إلّااللَّه وحده وينسون ساداتهم؛ تبينّ له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأوّلين، لكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً، واللَّه المستعان» انتهى.

أقول: للقائل في مقاله هذا دعويان:


1- - سورة الإسراء: الآية 67.
2- - سورة الأنعام: الآية 40.
3- - سورة الزمر: الآية 8.
4- - سورة لقمان: الآية 32.

ص:104

الاولى: تسمية عمل المشركين في زمانه اعتقاداً.

الثانية: أخفّية شرك الأوّلين عن شرك أهل زمانه؛ لكون الاوّلين داعين لغير اللَّه في الرخاء دون الشدة، بخلاف المشركين في زمانه؛ فإنّهم يدعون غير اللَّه في الرّخاء والشدّة جميعاً، وكلتا الدعويين ناشئة عن الجهالة والضّلالة، أو إغفال لمن له رشد ونبالة.

توضيح ذلِك: أنّ الاعتقاد عند من يسميه القائل: «مشرك زمانه» عبارة عن الاذعان والتصديق القلبي بالتّوحيد والنبوة الخاصة والحشر والنشر وصحة جميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله من الامور الاعتقادية القلبية، والتكاليف العملية الفرعية، ومن لم يعتقد بذلِك كلّاً أم بعضاً فهو كافر، وهذا الاعتقاد كيف صار هو الشّرك الّذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول اللَّه النّاس عليه؟

والشرك النّازل في القرآن عَلى ما صرح به هذا القائل هو الشرك في العبادة، ومشركو زمانه لا يعبدون غير اللَّه نبياً كان أو ولياً، ولا يسمّون ما يعملونه من الاستشفاع والتوسل بهم اعتقاداً، فهذه النسبة اليهم إمّا صادرة «(1)» عن جهل القائل أو إغفال للسامعين.

وأمّا أخفّية شرك الأوّلين عن شرك المشركين في زمان القائل


1- - في الأصل: صادر، والصحيح ما أثبتناه.

ص:105

فكلام لا محصل له دعوىً ودليلًا.

توضيح ذلِك: أمّا من حيث الدّعوى فلإنّ الشرك والكفر ليسا من قبيل السّواد والبياض، فيكونا مشككاً متفاوتاً بالشدة والضّعف، و إلى ذلِك يشار بقولهم: «الكفر ملة واحدة» ولا ينافي ذلِك قوله تعالى أشدّ كفراً «(1)»

فإنّ الأشدّية «(2)» هناك من حيث ظهور الآثار لا من حيث كونه مشككاً ولو سلمنا كونه مشكّكاً، فكون الدّعوة في الرخاء فقط أخف بالنسبة إلى الدّعوة في الشدّة والرّخاء جميعاً غير معلوم، بل قولهم: «الضرورات تبيح المحذورات» يجعل الدّعوة حال الشدة ملحقاً بالعدم فيتساويان.

وهذا التسليم مماشاة منا مع الخصم في نسبة الدّعوة إلى المشركين في زمانه، وإلّا فنحن منكرون لكون عملهم دعوة لغير الحق مطلقاً.

وأمّا عدم المحصل لدليله الّذي أقامه عَلى اختصاص دعوة المشركين لغير اللَّه بحال الرخاء دون الشدة بل إنّهم في الشدّة يدعون اللَّه فقط، فلأنّ الآية أعني قوله تعالى: وإذا مسّكم الضرُّ في البحر إلى قوله تعالى: وكان الإنسان كفوراً «(3)»

فبيان لأمر جبلي


1- - سورة التوبة: الآية 97.
2- - في الأصل: أشدّيّة، والصحيح ما أثبتناه.
3- - سورة الاسراء: الآية 67.

ص:106

للإنسان، فإنّه عند الرخاء يتصوّر له أعواناً و أنصاراً من أب وأمّ وقريب وصديق إلى غير ذلِك يدعوهم لقضاء حوائجه، وفي الضراء ووقت الاضطرار الّذي لا يجد ممن ذكر أحداً يقدر عَلى كشف كربته، فلابدّ له من دعوة اللَّه تعالى، وقد صحّ عن المعصوم: أنّ الّذي تنكسر به السفينة في البحر ولا يرى من ينجيه يرى في نفسه وجود من هو قادر عَلى نجاته؛ وهو اللَّه تعالى «(1)»، فيكون محصّل معنى الآية أنّ الانسان- لكونه كفوراً عند الاضطرار- يتوجّه إلى اللَّه تعالى دون غيره، وبعد حصول النجاة له عن الضرر والاضطراب نسي تلك الحالة، ورجع إلى الغفلة المعبرّ عنها بالإعراض عن اللَّه؛ فإنّ الغفلة عن اللَّه مثل الإعراض عنه تعالى في كونه غير متوجّه إليه.

وبما ذكرنا ظهر أنّ نسيان ما يدعونه المشركون المشار إليه بقوله تعا: وتنسون ما تشركون «(2)»

ليس أمراً اختيارياً G م، بل


1- - روى في توحيد الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام ما يدلّ على ذلك فراجع ص 221 منه.
2- - سورة الأنعام: الآية 41.

ص:107

ال ورة تدعوهم إ دعوته تعا فقط، ولازم ذلِك نسيان ما يدعونه، فيكون التوجّه منحصراً في التوجه إليه تعالى دون غيره بغير التفات واختيار؛ لاقتضاء الجبلّة، فلا يحمدون بذلِك، كما أنّ دعوة الغريق للَّه تعالى فقط أمر مجبول بغير اختياره، فلا يمدح عليه.

لا يقال: كيف يدعو بغير اختيار مع كونه عاقلًا مختاراً؟

لأنا نقول: إنّ الأمر المجبول عليه حاكم عَلى الاختيار، بمعنى أنّه يحصل من غير المختار؛ فانّ امتصاص المولود أوّل ولادته لما يتغذّى به من حلمة الثدي ليس باختيار منه والتفات لكونه بحكم الجماد، ومع كون المصّ منسوباً إليه.

والحاصل أنّ ترك دعوة المشركين زمن النبيّ صلى الله عليه و آله لدعوة غير اللَّه ليس باختيارهم، فلا يحمدون عليه، بل لنا أن نقول: إنّهم في الرّخاء يدعون غير اللَّه دائماً ولا يدعون اللَّه في الرّخاء أبداً حتى يصدق أنّهم يدعون مع اللَّه أحداً.

وأما قوله تعالى: وإذا مسّ الإنسانَ ضرٌّ «(1)»

الآية فهي نازلة في عتبة بن ربيعة أو غيره؛ حيث تركوا عبادة الأصنام عند الابتلاء ببليّة، فلما رُفِعتَ عطاءً من اللَّه رجعوا إلى ماكانوا فيه من عبادة الاصنام واشتغلوا بالإضلال الّذي كانوا عليه، وإن فرضناها عامّة فسبيلها سبيل الآيات السّابقة في كون ذلِك ممّا عليه الجبلّة.


1- - سورة الزمر: الآية 8.

ص:108

وأما الاستدلال بقوله تعالى واذا غشيهم موج كالظُّلل الخ فإغفال عن المطلب، بإسقاط الآية المقدمة عليها، وإسقاط الذيل منها، وتمام الآية بنفسها تدل على عدم أرتباطها بمطلوبه المستدلّ له بالآية وهي هكذا: ألم تر أنّ الفُلْكَ تجري في البَحْرِ بنعمةِ اللَّهِ ليُرِيَكُمْ مِنْ آياته إنّ في ذلِك لآيات لكلّ صبّارٍ شَكُور وإذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كالظّللِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّينَ فلمّا نَجّاهُمْ إلى البَرِّ فَمِنْهُم مُقْتَصدٌ ومَا يَجْحَدُ بآياتِنا إلّاكلُّ خَتّارٍ كفورٍ «(1)»

فإنّها كما ترى لا ربط لهما بدعوة المشركين للَّه في الشّدّة واختصاص ذلِك بهم، بل بيان لحال نوع البشر الراكب في الفلك عند الابتلاء بهيجان البحر وتهاجم الأمواج الموجبة لانكسار السفينة، وحصول الغرق لمن فيها، فبإسقاط الآية الاولى وذيل الثانية اوْهَمَ ارتباط ذلِك بمطلوبه، إغفالًا للناظرين.

وعلى هذا فقوله: «فمن فهم هذه المسألة» إلى قوله «تبيّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأوّلين» كلام لا محصل له، بل يوجب الحيرة والوله، كما أنّ مقالاته في الأمر الثاني موجبة «(2)» لذلك أيضاً، بل أنّها لا تصدر «(3)» من وقيح أبْلَه؛ فإنّ قوله: «الأمر الثاني أن الأوّلين يدعون مع اللَّه اناساً مقربين عند اللَّه؛ إمّا نبياً أو


1- - سورة لقمان: الآيتان 31- 32.
2- - في الأصل: موجب، والصحيح ما ذكرناه.
3- - في الأصل: يصدر، والأنسب ما ذكرناه.

ص:109

وليّاً، وإمّا ملائكة أو يدعون أحجاراً وأخشاباً وأشجاراً مطيعة للَّه وليست بعاصية، وأهل زماننا يدعون مع اللَّه اناساً من أفسق النّاس، والذين يدعونهم هم الّذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة، وترك الصلاة وغير ذلِك، والّذي يعتقد في الصّالح والّذي لا يعصي مثل الخشبة والحجر أهون ممّن يعتقد ويشاهد فسقه و فساده ويشهد به» انتهى.

أقول: ليت شعري من المشركون- في زمان هذا القائل- الذين يدعون أناساً من أفسق النّاس؟ والكلام من أوّل المقال إلى هنا متوجهاً إلى المستشفعين بالأنبياء والأولياء عليهم السلام المقرّبين إلى اللَّه والموجهين عنده تعالى و إلى قبورهم عليهم السلام.

والحاصل أنّا لم نعرف، بل لم نعهد من يدعو مع اللَّه اناساً هم أفسق النّاس عَلى نحو دعوة المشركين للصّلحاء، وما لا يعصى اللَّه، وعلى من يعرفهم بيان أشخاصهم ومقرّهم وأوطانهم، بل حالهم ومسلكهم؛ لنعرفهم ونقول فيهم ما يستحقون!!.

وبالجملة هذا الكلام إمّا افتراء وتهمة، أو خروج عن البحث تجاهلًا أو بغفلة؛ لأنّ دعوة النّاس للفساق في حوائجهم- مثل سلاطين الجور وأتباعهم أو الأعمى يستغيث بكلّ من سمع صوت رجله، فيقول: يا رجلًا خذ بيدي، من دون مبالاة بأوصاف المستغاث [به] من حيث الكفر والإيمان والفسق والعدالة- ليست

ص:110

تلك الدّعوة المبحوث عنها الموجبة لكون الداعي بها مشركاً باللَّه تعالى، مع أنّه لا مناسبة بين الأمرين حتّى يلاحظ ما هو أقّل فساداً وأهون قبحاً منهما.

مخادعتك المنحوسة باللَّه باطلهْ مخالبك المنكوسة بالحقّ عاطله

وبينَك والحقّ الّذي مسلكُ الهُدى جبالُ عنادٍ واللجاجة حائله

أراك بسكرِ الموتِ من ألم الأسى عليك جنود الهمِّ والغمِّ هاطله «(1)»

الفرق بين كفّار زمان النبّي صلى الله عليه و آله وزماننا

] ثم قال القائل: «فإذا تحقّقت أنّ الذين قاتلهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أصحّ عقولًا من هؤلاء فاعلم أنّ لهؤلاء شبهة يوردونها عَلى ماذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغِ سمعك لجوابها، وهي أنّهم يقولون: إنّ الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلّا اللَّه، ويكذبون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ


1- - كذا، والآبيات إلى النثر أقرب منها إلى الشعر.

ص:111

محمّداً صلى الله عليه و آله رسول اللَّه، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلّي ونصوم، فكيف يجعلوننا مثل اولئك؟

فالجواب أنْ لا خلاف بين العلماء كلّهم أنّ الرجّل إذا صدّق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في شي ء وكذّبه في شي ء أنّه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلِك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصّلاة، أو أقرّ بالتّوحيد والصلاة وجحد وجوب الزّكاة، أو أقرّ بهذا كلّه وجحد وجوب الصوم، أو أقرّ بهذا كلّه وجحد الحجّ، ولمّا لم يعتقد اناس في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالحج «(1)» أنزل تعالى فيهم: وللَّهِ عَلى النّاس حجُّ البيتِ من استطاعَ إليه سَبيلًا وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللَّهَ غنيّ عن العالمين «(2)»

ومن أقرّ بهذا كلّه وجحد البعث كفر بالإجماع، وحلّ دمه وماله كما قال اللَّه تعالى: إنّ الذينَ يكفرونَ باللَّهِ وَرُسُلِهِ ويريدون أن يُفَرّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُوْلُوْنَ نُؤْمِنُ بِبَعضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويريدون أن يَتّخذُوا بَيْنَ ذلِك سبيلًا اولئك هُمُ الكافِرون حقّاً «(3)»

فإذا كان اللَّه قد صرح في كتابه أنّ من آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر حقّاً؛ زالت هذه الشبهة،


1- - في الأصل: الحجّ، والصواب ما ذكرناه.
2- - سورة آل عمران: الآية 97.
3- - سورة النساء: الآيتان 150- 151.

ص:112

وهذه هي الّتي ذكرها بعض أهل الإحساء في كتابه الّذي ارسل إلينا» انتهى.

وخلاصة جوابه عن الشبهة المذكورة بعد تطويل الكلام بما ترى من كفر من أنكر ضروريات الدين أنّ هؤلاء منكرون للتوحيد الّذي هو أعظم من سائر ما يتحقق به الكفر.

أقول: وهذا الجواب يرجع إلى ما أثبته إلى هنا من أنّ المستشفعين بالأنبياء والأولياء يدعون مع اللَّه أحداً؛ وهو إنكار التّوحيد وإنكار التوحيد هو الشرك الّذي في كتاب اللَّه، فقول المعترض بأنّا نشهد أن لا إله إلا اللَّه، كذب واعتراف صوريّ بالتّوحيد، ولا نصيب له من التّوحيد شي ء.

وأنت خبير بأنّ ما يذكره من نسبة إنكار التّوحيد إلى مشركي زمانه مع قولهم وشهادتهم بأنّه لا إله إلّااللَّه ليس بأولى من أن يقال: إنّ مقالة المشركين في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأنّ هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه كذب وإثبات الشريك للَّه تعالى ذاتاً في العبادة، وقد استدللنا عَلى إنكارهم التّوحيد بقولهم: أجعل الآلهة إلهاً واحداً «(1)»

إلى غير ذلِك فراجع إلى ما قدّمنا لك.

ولنا أن نقول: أنتم الوهّابية من الذين قال اللَّه تعالى فيهم:


1- - سورة ص: الآية 5.

ص:113

أَفَتُؤْمنون ببعضِ الكتابِ وَتَكْفُرون بِبَعْضٍ «(1)»

حيث إنكم تؤمنون بأنّ التّوحيد أن لا يدعو مع اللَّه أحداً، وتكفرون بشفاعة الصّالحين من الأنبياء والأولياء، وتقولون إنّ دعوتهم دعوة غير اللَّه، وقد جعل اللَّه تعالى للمجرمين شفعاء، وأعطى للنبيّ صلى الله عليه و آله الشّفاعة، ومعنى إعطائه الشّفاعة أنّ المستشفعين يلزمهم التماس الشّفاعة لهم م عنداللَّه، فلابد لهم من دعوة غير اللَّه للشفاعة عند اللَّه، وأنتم منكرون لذلِك فمؤمنون ببعض وكافرون ببعض، مع أنّ قوله تعالى: ومن يطع اللَّه والرسول فاولئك مع إلى قوله تعالى: النّبِيِّيْنَ والصّدّيقينَ والشّهداءِ والصّالحين وحسُن اولئك رفيقاً «(2)»

بشارة لهم بالكون مع النّبييّن في الجنة، ولا شك أنّ أهل العرف والعقلاء معتعرفون بأنّ المؤمن الغير المخالف لأحكام اللَّه من الصلاة والحجّ والزكاة وغير ذلِك المستشفع بالنبيّ صلى الله عليه و آله وأوصيائه عليهم السلام، أولياء اللَّه، ومحسوبون في المطيعين للَّه والرّسول صلى الله عليه و آله ولا يصدق عليهم العاصي للَّه والرسول صلى الله عليه و آله فيلزم كونهم مع النبيّين والشهداء والصّالحين، ولو كان الاستشفاع الصادر منه بالنسبة إلى النبيّ والولي شركاً لما كان مع النبيّين مع


1- - سورة البقرة: الآية 85، وفي الأصل: أتؤمنون، والصحيح ما أثبتناه.
2- - سورة النساء: الآية 69. وفي الأصل: فاولئك مع النبيين، والصحيح ما أثبتناه.

ص:114

كونه مطيعاً للَّه والرّسول صلى الله عليه و آله بحكم العرف والعقلاء، وهذا تكذيب لكلام اللَّه تعالى.

وإن شئت قلت: كما أنّ العلماء متّفقون عَلى كفر من أنكر شيئاً من المذكورات، وجحدها، كذلِك العلماء والعقلاء متفقون عَلى أنّ من اعتقد في قلبه وحدة اللَّه تعالى ذاتاً ووصفاً وفعلًا وعبادة لا يكفر بطلب الشّفاعة من الأنبياء والأولياء، مع كونهم وجهاء «(1)» عند اللَّه ومأذونين في الشّفاعة للمسيئين والمجرمين، ولا يحسبه العقلاء والعلماء ممّن يدعو مع اللَّه أحداً، ونسبة ذلِك إلى هذا الشخص افتراء وإنكار لبعض الكتاب الجاعل لمن أطاع اللَّه ورسوله مع النبيّين والصديقين، ولو كان الشخص من المشركين لم يكن مع النبيّين والصّدّيقين الخ، وذلِك واضح لمن تبصّر واستخبر.

وممّا ذكرنا في فساد هذا الجواب يظهر لك ما في قول هذا القائل ما هذا لفظه: «ويقال أيضاً إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول صلى الله عليه و آله في كلّ شي ء وجحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلِك إذا أقرّ بكلّ شي ء إلّاالبعث، وكذلِك لو جحد وجوب صوم رمضان وكذب بذلِك لا يجحد هذا، ولا


1- - في الأصل: وجيهاً والصحيح ما أثبتناه.

ص:115

تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا، فمعلوم أنّ التّوحيد هو أعظم فريضة جاء بهاالنبيّ صلى الله عليه و آله وهو أعظم من الصلاة والصّوم والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الامور كفر ولو عمل بكلّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله، وإذا جحد التّوحيد الّذي هو دين الرسّل كلهم لا يكفر، سبحان اللَّه ما أعظم هذا الجهل!» انتهى.

وحاصل مقاله- بعد انحلاله- أنّ إنكار التّوحيد أعظم من إنكار غيره ممّا يوجب الكفر ودعوة غير اللَّه معه إنكار للتوحيد، وهذا هو عمل مشركي زماننا.

أقول: سبحان اللَّه ما أعظم هذا الجهل أو التجاهل الّذي يتعمده هذا القائل في جعل الاستشفاع بالأنبياء والأولياء دعوة لغير الحقّ، ووضوح كون ذلِك دليلًا على كمال التّوحيد كالنّار عَلى المنار، بل كالشمس في رابعة النهار، وقد سبق منّا بيانه فلا نعيد ما بان إعلانه.

يا أيّها المجادلُ ما قلتَهُ افتراءْ دَعْ هذه الخديعةَ فإنّها هباء

لا خير في مرامٍ تطلبه بجدٍ كبيت عنكبوت يفسده الهواء

في قتال أصحاب النبي صلى الله عليه و آله لبني حنيفة

] ثم قال القائل: «ويقال أيضاً هؤلاء أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ص:116

قاتلوا بني حنيفة وقد شهدوا مع النبيّ صلى الله عليه و آله أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويصلون ويؤذنون؛ فإن قال: إنّهم يقولون إنّ مسيلمة نبيّ قلنا: هذا هو المطلوب إذا كان من رفع مرتبة رجل في مرتبة النبيّ صلى الله عليه و آله كفر وحلّ دمه وماله ولم تنفعه الشهادتان، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيّاً أو نبياً في مرتبة جبّار السماوات والأرض سبحان اللَّه ما أعظم شأنه: كَذلِك يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الّذيْنَ لا يعلمون «(1)»

انتهى.

وخلاصة كلامه أن إعلاء مرتبة غير المستحق لمرتبةٍ كفرٌ، فكما أنّ جعل مسيلمة نبياً في مقابل النبيّ صلى الله عليه و آله كفر، فكذلِك جعل الآلهة مع اللَّه، ودعوة غير اللَّه تعالى كفر بطريق أولى وهذا عمل المشركين في زماننا و فعالهم.

أقول: هذا الكلام من المتكلّم به دليل عَلى كمال حمقه وسفهه، وكونه مكابراً مفسداً، وأمّا دلالته عَلى الحمق والسّفه فلأن من قال بنبوة مسيلمة الكذاب فقد كذب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومن كذبه كذب اللَّه تعالى، والصلاة والشهادتين والأذان لا أثر لها لغير المصدّق للَّه ورسوله.

توضيح ذلِك: أنّ القول بنبوة مسيلمة إنكار لكون


1- - سورة الروم: الآية 59.

ص:117

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خاتم النّبيين، وتكذيب لقول اللَّه تعالى: محمّد رَسُولُ اللَّهِ «(1)»

و: وخاتم النّبييّن «(2)»

ولقوله صلى الله عليه و آله: «لا نبيّ بعدي» و «حلال محمّد صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» فمقالة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لهم ليس لرفعهم مرتبة مسيلمة مرتبة النبي صلى الله عليه و آله، بل لتكذيبهم اللَّه ورسوله، وليس في فعل المستشفعين بالأنبياء والأولياء تكذيب للَّه ورسوله أو رفع مرتبة أحدٍ إلى مرتبة جبّار السماوات والأرض.

وأما دلالته عَلى المكر والفساد فلأنّ الاستشهاد بمقالة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لبني حنيفة أتباع مسيلمة يقصد به تهييج أتباع عبد الوهاب عَلى سفك الدّماء ونهب أموال المسلمين بعنوان الكفر المحلّل للدّم، وهذا مكر يوجب الفساد في الأرض، وقد عيّن اللَّه جزاءه في كتابه الكريم بقوله تعالى: إنما جزاء الّذين يحاربون اللَّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ان يقتّلواأو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلِك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم «(3)»

الآية نعوذ باللَّه من شرّ النّاس التّابعين للخناس الّذي يوسوس في صدور


1- - سورة الفتح: الآية 29.
2- - سورة الأحزاب: الآية 40.
3- - سورة المائدة: الآية 33.

ص:118

النّاس، وهو الوسواس الّذي أمر اللَّه تعالى نبيّه الأكرم صلى الله عليه و آله بالاستعاذة من شرّه في آخر سورة من كتابه تعالى، وقد علّمنا بالعقل والنقل الصحيح أنّ للباطل جولة وللحق صولة ودولة: واللَّهُ يَهدي مَنْ يَشاءُ إلى صِراط مُستقيمٍ وهو تعالى يعلم من طبع قلبه ويعلم المهتدي العليم من الضالّ الرّجيم.

ثم قال القائل: «ويقال أيضاً الّذين حرّقهم علي بن أبي طالب بالنار كلّهم يدّعون الاسلام، وهم من أصحاب علي عليه السلام، وتعلموا العلم من الصّحابة، ولكن لمّا اعتقدوا في علي عليه السلام الاعتقاد بيوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة عَلى قتلهم وكفرهم؟ أتظنون الصّحابة يكفّرون المسلمين أم تظنون أنّ الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضرّ والاعتقاد في علي بن أبي طالب عليه السلام يكفّر؟» انتهى.

وخلاصة مقال هذا السفيه التمويه بما لا يغتر به العاقل النبيه؛ فانّ كلمة الغلاة وأفعالهم شرك صريح وهي تسمية علي عليه السلام إلهاً ودعوتهم أحداً مع اللَّه وحرقهم وقتلم وظيفة للصحابة وجميع المسلمين، ودعواهم الفاسدة «(1)» مع تكذيبهم لولي اللَّه الّذي هو تكذيب للَّه ورسوله غير مفيد جزماً؛ فإنّ علياً عليه السلام نهاهم عن هذه


1- - في الأصل: الفاسد، والصحيح ما أثبتناه.

ص:119

المقالة فما نفعهم كلامه عليه السلام، فقياس المستشفعين بالأنبياء والأولياء عَلى الغلاة قياس مع الفارق وتمويه غير لائق.

فعل الصحابة لَتكفيرٌ بموقِعِهِ وَضعٌ لأهل الحق للحقّ بموضعه «(1)»

ليس القياس لأعمى بالبصيرِ سوى إبطال حقّ يبين جهل موقعه

تكفير العلماء لبني عبدالقدامى

] ثم قال القائل: «ويقال أيضاً بنو عبد القدامى الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس كلّهم يشهدون أن لا إله إلّا اللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه ويدّعون الاسلام ويصلّون الجمعة والجماعة، فلمّا اظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، أجمع العلماء عَلى كفرهم وقتالهم، وأنّ بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلاد المسلمين» انتهى.

وظهور مراده من هذا الكلام أغنانا عن بيانه وكونه سفسطة وتمويهاً ظاهراً من عنوانه.


1- - كذا.

ص:120

توضيح ذلِك أزيد مما هو ظاهر أنّ الاستدلال بفعل سلاطين الجور، وحكم علمائهم الّذين ما تركوا قبيحاً إلّاارتكبوه كفتوى قضاة زمن سلطنة يزيد بن معاوية لعنه اللَّه بمقاتلة الحسين عليه السلام سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء عليهم السلام، ومقاتلة معاوية والخوارج لعليّ «(1)» بن أبي طالب عليه السلام دليل واضح عَلى بطلانه خصوصاً إذا لم يتعيّن أنّ ترك بني القداح للشريعة ومخالفتهم في أشياء كيف كانت هل كان من إنكار بعض ضروريات الدين أو تحليلًا لمحرماته الضرورية أو غير ذلِك فلم يعلم وجه المقاتلة، بل مقاتلة المسلم القاهر الجبّار مع المسلمين للأغراض الدّنيوية ليست بأوّل قارورة كسرت في الإسلام، بل مقاتلة بعض العرب بعضاً قائلين بأن الغزو كسب النبيّ صلى الله عليه و آله من القضايا المعروفة.

شمول التكفير حتّى لمن مزح بكلمة الكفر

] ثم قال القائل: «ويقال أيضاً إذا كان الأوّلون لم يكفروا إلّا جمعوا بين الشرك «(2)» وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلِك، فما معنى الباب الّذي ذكره العلماء في كل مذهب حكم المرتدّ بعد إسلامه، وذكروا أنواعاً كثيرة، كلّ نوع منها


1- - في الأصل: مع علي والصحيح ما أثبتناه.
2- - كذا.

ص:121

يكفر ويحلّ دم الرّجل وماله حتى أنّهم ذكروا أشياء يسيرة عند فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة ذكرها عَلى وجه المزح واللعب» انتهى.

وحاصل كلامه أنّ الكفر غير منحصر بالشّرك وإنكار الرسول صلى الله عليه و آله والقرآن والبعث؛ لوجود أشياء توجب الارتداد عن الإسلام بمجرد النطق بها ولو من غير عقد القلب عليها.

أقول: ارتباط هذا المطلب بكون المستشفعين بالأنبياء والأولياء كفّاراً ومشركين بنفس الاستشفاع غير معلوم؛ لأنّه إن أراد بذلِك إن من جملة ما ذكره العلماء في أنواع الارتداد هو هذا الفعل، فكذبه أوضح من أن ترى؛ إذ لم يحدث هذا الكلام من أحد قبل الوهابية، وإن أراد أن فعل هؤلاء المرتدين بالتنطق بكلمة مزحاً أيسر من فعل هؤلاء المشركين في زمانه فهو عين المدّعى فيكون مصادرة [على] المطلوب.

ولنا أن نقول إنّ التنطق بكلمة موجبة للارتداد موجب للكفر حقيقة سواء كان مع عقد القلب عليها أو كان مزاحاً؛ لرجوع هذين الفعلين إلى إنكار عظمة اللَّه وجبروته، وهو تكذيب للَّه ورسوله صلى الله عليه و آله في إثبات العظمة والجبروت له تعالى.

وأمّا الاستشفاع بالأنبياء والأولياء عليه السلام فناشٍ عن كمال التصديق بعظمة اللَّه تعالى؛ فإنّ تقديم العبيد المقصرين للشفعاء

ص:122

عند الولي دليل عَلى كمال الاعتناء بعظمة المولى وجبروته، وأين هذا من مزاح العبد مع مولاه.

الكفر قد يحصل بالاهانه لاسيما ممّن به المهانه

ليس لعبد مزحه لمولاه ولا له ملعبة الرِّهانه

ثم قال القائل: «ويقال أيضاً الّذين قال اللَّه تعالى فيهم: يحلفونَ باللَّهِ ما قالوا ولقد قالوا كلمةَ الكُفْرِ وكَفَروا بعد إسلامهم «(1)»

الخ أما سمعت اللَّه كفّرهم مع كونهم في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله يجاهدون معه، ويصلون معه ويحجون ويزكّون ويوحدون اللَّه وكذلِك في الّذين قال اللَّه فيهم: أباللَّه وآياتِهِ وَرَسُولِهِ كنتم تَسْتَهْزِءُونَ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم «(2)»

الخ فهؤلاء الذين صرّح اللَّه أنّهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنّهم قالوها على وجه المزح واللعب.

فتأمّل هذه الشبهة، وهي قولهم: أتكفرون المسلمين اناساً يشهدون أن لا إله إلّااللَّه، ويصلّون ويصومون ويحجّون ثم تأمّل في جوابها، فانه أنفع ما في هذه الأوراق» انتهى.


1- - سورة التوبة: الآية 74.
2- - سورة التوبة: الآية 65- 66.

ص:123

وحاصل مقاله- مع حذف من أماله «(1)»- أنّ الامور المذكورة دلّت عَلى تجويز حصول الكفر بعد الإسلام والإيمان بكلمة الكفر، فلا بأس بتكفير المسلمين الذين هم كفّار زماننا بما يصدر منهم بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء وقبورهم.

أقول: مضافاً إلى ما عرفت في كلماتنا السابقة من أنّ الارتداد وحصول الكفر بعد الإيمان أمر لا ينكر، لكنّ الشأن في بيان سبب حصوله، وفي أنّ عمل المستشفعين بالأنبياء والأولياء يوجب الارتداد أم لا؟ فإثبات وقوع الارتداد أو تجويز تكفير المسلم بعد الإسلام بما يوجب الارتداد لا يثبت كون عمل هؤلاء ارتداداً.

ومراد من يقول: «هل تكفّرون المسلمين» أنّ المسلم الغير الصادر عنه كلمة الردّة، لا يجوز تكفيره، لا أنّ الارتداد عن الإسلام غير ممكن، أو أنّ تكفير المسلم بعد الارتداد غير جائز حتى تكون الأدلة المذكورة دليلًا عَلى الجواز.

ثم إنّ الآية نزلت في حقّ رجل من المنافقين حضر راكباً عَلى حمار ليصدّ النّاس عن غزوة تبوك، وكان سابّاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فبلغه ذلِك، ولما عاتبه صلى الله عليه و آله عَلى ماقاله حلف عَلى عدم صدور الكلمة الموجبة للكفر منه، فاخبر اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه و آله بكذبه في


1- - كذا.

ص:124

حلفه «(1)». ومن المعلوم أنّ سبّ النبيّ صلى الله عليه و آله كفر وارتداد، وكذلِك الاستهزاء باللَّه واياته ورسوله صلى الله عليه و آله وكذلِك المزاح واللعب مع اللَّه ورسوله، كلّ ذلِك موجب للارتداد عن الإسلام كما قدمنا آنفاً نظماً ونثراً.

ثمّ قال القائل: «ومن الدّليل عَلى ذلِك ما حكى اللَّه تعالى عن بني إسرائيل مع صلاحهم وعلمهم أنّهم قالوا لموسى عليه السلام:

اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة «(2)»

وقول اناس من الصّحابة: يارسول اللَّه اجعل لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ، فحلف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ هذا مثل قول بني إسرائيل لموسى عليه السلام: اجعل إلهاً كما لهم آلهة «(3)»

ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصّة، وهي أنّهم يقولون: إنّ بني إسرائيل يكفروا، وكذلِك الّذين سألوا النبيّ صلى الله عليه و آله أن يجعل لهم ذات أنواط.

فالجواب أن تقول إنّ بني إسرائيل لم يفعلوا، وكذلِك الّذين سألوا النبيّ صلى الله عليه و آله، ولا خلاف أنّ بني اسرائيل لو فعلوا ذلِك


1- - راجع سبب نزول الآية في مجمع البيان، ج 5، ص 78، ط دار المعرفة بيروت.
2- سورة الاعراف: الآية 138.
3- - الصراط المستقيم 3: 107، والبحار 9: 67، والقصّة بكاملها في سيرة ابن هشام، ج 4، ص 442، وذات أنواط: هي شجرة كانت تعبدها قريش ويعلّقون عليها التمر وغيره من المأكولات.

ص:125

لكفروا، وكذلِك الّذين نهاهم النبيّ صلى الله عليه و آله لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب. ولكن هذه القصّة تفيد أنّ المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلّم والتحرّز، ومعرفة أنّ قول الجاهل: «التّوحيدفهمناه» من أكبر الجهل ومكايدالشيطان، وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام الكفر وهو لا يدري فنبّه على ذلِك وتاب من ساعته أنّه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل، والّذين سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تفيد أيضاً أنّه لو لم يكفر فإنّه يغلّظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رحمهما الله انتهى.

وخلاصة كلامه إثبات مرامه الّذي هو إمكان صدور كلمة الكفر بعد الإيمان كما صدر من بني إسرائيل ائيل حيث قالوا: ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وصدر أيضاً من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث سألوه جعل ذات أنواط لهم، لكن التعجّب من هذا القائل من وجهين:

الأول: قوله مع صلاحهم وعلمهم، حيث إنّه لم يعلم السائلين بأشخاصهم حتى يحكم عليهم بكونهم صالحين عالمين، فهذا الحكم منه تخرّص بالغيب.

الثاني: في تكذيب موسى بل القرآن بقوله: «مع صلاحهم» فإنّ قول موسى عليه السلام في جوابهم: إنكم قومٌ تَجْهَلُونَ إنّ هؤلاء متبّرٌ مّا

ص:126

هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مّا كانوا يَعْمَلُون «(1)»

وقوله عليه السلام: أغَيْرَ اللَّهِ أبغِيكُمْ إلهاً وَهُوْ فَضَّلَكُم عَلى العَالَمينَ «(2)»

صريح في كون سؤالهم عن معنى الالوهية الغير القابلة للتعدّد وأنّ هؤلاء القائلين بذلِك هالكين بما هم فيه لقوله عليه السلام عَلى سبيل التعجب عن سؤالهم: أغير اللَّه أبغيكم إلهاً مع أنّه فضلكم عَلى سائر الناس، فلا ينبغي هذا السؤال عن مثلكم.

وحلف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ هذا مثل قول بني إسرائيل معناه أنّ سؤالكم عن الجهل، وهذا سؤال عجيب منكم، وجواب هذا القائل عن شبهة المشركين في زمانه واصطلاحه أعجب ممّا تقدم، فإنّ شبهته تخطئة في الاستدلال بأمر غير واقع، مع كفاية ما ذكر من الواقعيات في إثبات مطلوبه، بل المطلب مهم وليس بأمر قابل للانكار، فمع كفاية الآيات المذكورة لاحاجة إلى دليل ليس له دلالة عَلى المطلوب.

والجواب بأنّهم لو فعلوا كفروا غير صحيح؛ لأنّه لو لم يكن ذلِك أعني الارتداد بعد الإيمان مسلّماً، ولم تكن الآيات دالّة عليه لم يكن هذا الأمر التعليقي أعني لو فعلوا كفروا مع سؤالهم من موسى جعل الآلهة أو من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذات أنواط دليلًا عَلى أنّهم


1- - سورة الأعراف: الآيتان 138- 139.
2- - سورة الأعراف: الآية 140.

ص:127

كانوا معتقدين بإمكان ذلِك للنبيّين لا غير، وأنّ هؤلاء الآلهة كان بجعل نبيّهم فإن [ولو خ ل] لم يكونوا معتقدين لما كانوا يسألون وكانوا يفعلون مطلوبهم لقدرتهم عليه وعدم الحاجة إلى الغير.

وأمّا الفوائد الّتي ذكروها لهاتين القصّتين فأباطيل لا يصلح ولا يليق التعرض لها كما لا يخفى عَلى الناقد البصير، بل عَلى من له تمييز قصير، بل لم يكن ما كتبه من أوّل الأوراق إلى هنا لائقاً للجواب وبيان بعده عن الصواب، وكانت «(1)» كلها أباطيل لا يستحق التعرض لها بالاختصار أو التطويل، وبالإجمال أو التفصيل، ولكنّما تعرّضنا لجوابها رفعاً لتوهم الجهال صحّة المقال أو توجّه الاشكال، ورجاء لتنبه صاحب المقال عمّا عليه من الضّلال، واللَّه المتعال الموفق لحسن العاقبة والمآل.

إنكار النبي على أُسامة

] ثم قال القائل: «وللمشركين شبهة اخرى؛ وهي أنّهم يقولون إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أنكر على اسامة قتل من قال لا إله إلّااللَّه، وقال: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلّااللَّه؟» «(2)» وكذلِك قوله صلى الله عليه و آله: «امرت أن اقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّااللَّه» «(3)» وكذلِك أحاديث اخرى


1- - في الأصل: كان، والأنسب ما ذكرناه.
2- - البحار 21: 65/ 12.
3- - البحار 8: 368/ 41.

ص:128

في الكفّ عمّن قال: لا إله إلّااللَّه ومراد هؤلاء الجهلة أنّ من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل، فيقال لهؤلاء: الجهّال معلوم أنّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه، ويصلون ويدّعون الإسلام، وكذلِك الّذين حرّقهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالنّار وهؤلاء الجهلة مقرّون أنّ من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلّااللَّه، وأنّ من أنكر شيئاً من أركان الاسلام كفر وقتل ولو قال: لا إله إلّااللَّه، فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئاً من الفروع وتنفعه إذا جحد التّوحيد الّذي أساس دين الرّسل ورأسه.

ولكن أعداء اللَّه ما فهموا معنى الأحاديث، فأمّا حديث اسامة فإنه قتل رجلًا ادّعى الإسلام بسبب أنّه ظنّ أنّه ما أدّعاه إلّا خوفاً عَلى دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكفّ عنه حتى يتبيّن منه ما يخالف ذلِك وأنزل اللَّه في ذلِك: ياأيّها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللَّه فتبينوا «(1)»

الآية


1- - سورة النساء: الآية 94.

ص:129

فالآية تدل عَلى أنّه يجب الكف عنه والتثبت، فإن تبيّن منه بعد ذلِك ما يخالف الاسلام قتل لقوله تعالى: فتبينوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنىً.

وكذلِك الأحاديث الاخر وأمثالها فمعناها ما ذكرناه من أنّ من أظهر الإسلام والتّوحيد وجب الكفّ عنه إلّاأن يتبيّن منه ما يناقض ذلِك، والدليل عَلى هذا أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الّذي قال: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلّااللَّه» «(1)» وقال «امرت أن اقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلّااللَّه» «(2)» هو الّذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئنْ أدركتهم لأقتلّنهُمْ قَتْلَ عادٍ» «(3)» مع كونهم من أكثر النّاس عبادة وتهليلًا، حتى أنّ الصّحابة يحقرون أنفسهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصّحابة، فلم تنفعهم لا إله إلّا اللَّه، ولا كثرة العبادة، ولا ادّعاء الإسلام لمّا ظهر منهم مخالفة الشريعة، و كذلِك ما ذكرنا من قتال اليهود وقتال الصّحابة بني حنيفة، وكذلِك أراد صلى الله عليه و آله أن يغزو بني المصطلق لمّا أخبره رجل أنّهم منعوا الزكاة حتى أنزل اللَّه: يا أيّها الذين آمنوا إنْ جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا «(4)»

الآية وكان الرجل كاذباً عليهم، فكل هذا يدلّ أنّ مراد النبيّ صلى الله عليه و آله بالأحاديث الواردة ما ذكرناه» انتهى.


1- - البحار 21: 65/ 12.
2- - البحار 8: 368/ 41.
3- - البحار 33: 133/ 576، كشف الغمّة 1: 129.
4- - سورة الحجرات: الآية 6.

ص:130

وخلاصة مرامه الّذي عليه وزر آثامه أن المشركين في زمان هذا القائل لهم شبهة اخرى؛ وهي أنّهم استفادوا من اعتراض النبيّ صلى الله عليه و آله عَلى اسامة بقتله من قال: لا إله إلّااللَّه، وقوله صلى الله عليه و آله «امرت أن اقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلّااللَّه» وغير ذلِك من الأحاديث أنّ قول: لا إله إلّااللَّه مانع عن القتل والكفر، ولو فعل ما فعل فاعترض عَلى ما استفادوا- بزعمه الفاسد ورأيه الكاسد- بما ذكره سابقاً من قتل أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بني حنيفة القائلين لا إله إلا اللَّه محمّد رسول اللَّه، وهم يدّعون الإسلام، وكذلِك حرق عليّ عليه السلام بن أبي طالب القائلين بهذا القول، فلا معنى للشبهة، مع أنّهم يكفرون منكر البعث وضروريات الإسلام، وإن قالوا هذه الكلمات، ثم فرّع عَلى ذلِك أنّ إنكار التّوحيد أشدّ من إنكار البعث والضّروريات، وغرضه من هذا الكلام أنّ المشركين في زمانه منكرون للتوحيد وإن نطق بلا إله إلا اللَّه؛ إذ لا منافاة بين هذه الكلمة والكفر.

هذا ملخص كلامه جواباً وتفريعاً لاستنتاج مطلوبه، وأنت خبير بأنّ ما استفاده من مقالة اعتراض الرسول صلى الله عليه و آله عَلى اسامة وقوله صلى الله عليه و آله: «امرت أن اقاتلكم حتى تقولوا لا إله إلّااللَّه» غلط فاحش لم يختلج ببال المناقش؛ فإنّ قوله: «ومراد هؤلاء الجهلة أنّ من قالها لا يكفر ولا يقتل، ولو فعل ما فعل» مناقض لقوله:

ص:131

«وهؤلاء مقرون أنّ من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلّا اللَّه» وليت شعري كيف يمكن الجمع بين القول بأنّ من قال: لا إله إلّا اللَّه لا يكفر ولا يقتل، ولو فعل ما فعل، وبين الإقرار بأنّ منكر البعث وأركان الإسلام كافر يجب قتله وإن قال لا اله الا اللَّه وكيف يمكن بين الجمع أن يقول إنّ كلمة لا إله إلّااللَّه لا تنفع في منع القتل عن منكر الفروع فيقتل وإن قال: لا إله إلّااللَّه ولكن تنفع في نفي التّوحيد، فلا يقتل منكره بعد قول لا إله إلّااللَّه، وأيضاً كيف يتصوّر إنكار التّوحيد ممّن يقول لا إله إلّااللَّه فإنّ المستفاد من هذه الكلمات إثبات التّوحيد لا نفيه وإنكاره.

والجمع بأنّه بالقول اللفظي يثبت وهو في قلبه منكر إما تخرّص بالغيب أو ينتهي إلى دعوى علم الغيب؛ فإنّ ثبوت التّوحيد بهذه الكلمة معلوم، ولابدّ لمن يدّعي إنكاره القلبي أن يستدلّ بما يكشف عن ذلِك فعلًا أو قولًا، و الإنكار القولي مفروض عدمه ولا كاشف عن الإنكار القلبي في الأفعال الخارجية عن القول، فينحصر في دعوى علم الغيب إمّا مطلقاً؛ فيكذبه الوجدان أو الخصوص من هذا المطلب؛ فيكون دعوى بلا دليل وتخرصاً بالغيب.

فإن قلت: دعوتهم لغير اللَّه شرك وهو أمر ظاهر.

قلت: هذا غلط لأنّ دعوة غير اللَّه شرك إن لم يرجع إلى دعوة اللَّه الحقّ، وهو مناف لقول لا إله إلّااللَّه إن لم يؤل أمره إلى دعوة اللَّه

ص:132

تعالى وإثبات ذلِك بالنّسبة إلى من يعدّه مشرك زمانه أوّل الكلام، وأمر لم يدل عليه دليل عقلي ولا نقلي، وكلّما ذكره القائل سابقاً كان مصادرة عَلى المطلوب كما أشرنا إليه مراراً.

ومن أقبح القبائح وأفضح الفضائح ما ارتكبه هذا القائل في قوله: «وللمشركين شبهة اخرى» من حيث نسبة الشرك إلى علماء المسلمين ثم نسبة الجهل إليهم بقوله: «فيقال لهؤلاء الجهال» ثم نسبة العداوة للَّه إليهم بقوله: «فإن أعداء اللَّه لم يفهموا معنى الأحاديث».

توضيح ذلِك أنّ نسبة الشرك بزعمه الفاسد انّما هو لدعوتهم لغير اللَّه تعالى، ونسبة الجهل إليهم حسب اعتقاده الكاسد إنّما هو لزعمه عدم فهمهم معنى الأحاديث فتبقى «(1)» نسبة عداوة اللَّه إليهم من غير دليل يوجبها، فلا محمل لهذه النسبة إلّاالعناد واللجاج والعدواة معهم الموروثة «(2)» من جعل الاستشفاع بالأنبياء والأولياء دعوة لغير الحقّ الموجبة للشرك وعدم فهم معنى الأحاديث الّذي نسبها «(3)» إليهم كيف يمكن تصديقه مع أنّ عامّي أهل اللسان يعرفه، بل لا يمكن أنّ لا يفهمه من له انس بلسان


1- - في الأصل: فيبقى، والصحيح ما أثبتناه.
2- - في الأصل: المورثة، والصحيح ما أثبتناه.
3- - في الأصل نسبة، والصحيح ما أثبتناه.

ص:133

العرب، وليس ذلِك كلّه كاشفاً عن جهل القائل وقوله «(1)» بهوى نفسه ومرض في قلبه. فزاده اللَّه مرضاً وله عذاب عظيم، وكيف لا يكون كذلك مع أنّ التوبيخ المستفاد من قوله صلى الله عليه و آله: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلّااللَّه» دالّ عَلى تركه ما كان يجب فعله وهو التبين والتثبت، بل قوله صلى الله عليه و آله في القصة «هل شققت قلبه؟» كناية عن أنّ عدم التبين وحمل قوله لا إله إلّااللَّه عَلى الخوف عَلى دمه وماله فعل غير لائق، وترك لما يجب فعله، وليس هذا معنى لا يفهمه الجاهلون فضلًا عن العلماء، وهذا دليل على أنهم لم يقولوا ولا يقولون أنّ من قال: لا إله إلّااللَّه لا يقتل ولا يكفر، وإن فعل ما فعل، فهذه النسبة إليهم كذب وافتراء وبهتان واجتراء ونقول: اللّهم سبحانك هذا بهتان عظيم «(2)» لكن هذا القائل لمّا لم يفهم تقريب الشبهة وقع في الضيق والحيص والبيص، ولم يدر ما يقول، ونحن نقرّر الشبهه، حتّى يعلم مراد العلماء.

وحاصله أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عاتب اسامة ووبّخه عَلى ترك ما يجب فعله من التثبت عَلى القائل بكلمة لا إله إلّااللَّه، والمسارعة إلى قتله بزعم كون قوله ذلِك للخوف عَلى دمه وماله، ومثل هذا وارد عَلى الوهّابية المقاتلين للقائلين بهذه الكلمة من غير تثبت لما


1- - كذا.
2- - سورة النور: الآية 16.

ص:134

يجوّز تكفيرهم ونسبة الشرك إليهم.

وبعبارة اخرى كما كان قتل من قال لا إله إلّا اللَّه قبحاً فعله اسامة فكذلِك نسبة الكفر والشرك إلى المستشفعين بالأنبياء والأولياء عليهم السلام القائلين بهذه الكلمة قبيح يفعله الوهّابية ففي الواقع ونفس الأمر لم يفهم هذا القائل الكاتب للأوراق مراده من وجه الشبهة عليهم.

والحاصل أنّ هذا القائل بأنّ من قال: لا إله إالّا اللَّه لا يجوز ترتيب آثار الكفر عليه إلّابعد التبين كما هو مدلول الآية بقوله:

«إنّ من أظهر الاسلام والتّوحيد وجب الكفّ عنه إلى إن يتبيّن مايناقضه» اعتراف بقبح الحكم بالشرك لكلّ من قال لا إله إلّااللَّه في زمانهم إلّابعد التبيّن والتثبت، والعلم بما يوجب كون القائل بهذه الكلمة مرتداً عن الإسلام، وليس أمر هؤلاء كذلِك بيّناً؛ لعدم ما يوجب ارتداد المستشفعين في زمنه إلّادعوى كون الاستشفاع دعوة مع اللَّه أحداً، وقد منعناها، بل أثبتنا كون نفس الاستشفاع دعوة للَّه تعالى.

وظهر ممّا ذكرنا أنّ قوله: «والدليل عَلى هذا (يعني وجوب الكف عمّن أظهر الإسلام إلى أن يظهر مايناقضه) أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال (يعني لُاسامة): «أقتلته بعد ما قال لا إله إلّااللَّه» وقال صلى الله عليه و آله «امرت أن اقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلّااللَّه» هو

ص:135

الّذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم» إلى آخر كلامه؛ أعني قوله: «لمّا ظهر منهم مخالفة الشريعة» تطويل بلا طائل واستدلال بلاحاصل يظهر وجهه من أواخر كلماتنا والأوائل.

ثم إنّ هذا القائل جعل ظهور كفر الخوارج بمخالفة الشريعة للإغفال وتتميم الاستدلال من دون أن يتبيّن مخالفتهم الّتي وقعت منهم؛ لأنّه علم أنّ بيان مخالفتهم موجب لإفحامه وإذعانه ببطلان استدلاله بل كلّ ما جاء به.

بيان ذلِك أنّ مخالفة الخوارج لعليّ بن أبي طالب عليه السلام إنّما صارت بسبب قبوله الحكم في وقعة صفيّن، فقالوا: لا حكم إلّاللَّه، ونسبوا فعل علي عليه السلام إلى الخطأ، وحكموا بوجوب قتاله، ولمّا كانت هذه المخالفة ناشئة عن تفسيرهم القرآن برأيهم، وعدم معرفتهم معنى قوله تعالى: الحكم للَّه العلي «(1)»

وقعوا «(2)» بذلِك في الكفر العظيم وهو الخروج عَلى إمام زمانهم بالسيف وصاروا كفّاراً كفّرهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمر بقتلهم، وقال: «لأقتلنهم» ا.

وكلّ من علم هذه القصة رأى بعين الإنصاف أنّ فعل الوهّابية هو فعل الخوارج سواء بسواء؛ حيث إنّهم فسّروا قول اللَّه تعالى:


1- - سورة غافر: الآية 12، وفيها: فالحكم.
2- - في الأصل: فوقعوا والصحيح ما أثبتناه.

ص:136

فلا تدعوا مع اللَّه أحداً «(1)»

حسب رأيهم الفاسد ونظرهم الكاسد، وهوى أنفسهم، وميلهم إلى القتال، و نهب أموال النّاس، واستحلال نسائهم، وسبي ذراريهم كفعل فرعون في بني إسرائيل، وقالوا: إنّ الاستشفاع بالأنبياء والأولياء داخل في معنى دعوة غير اللَّه، وجعلوا ذلِك كفراً وشركاً مبيحاً للدّم والمال والعرض، وهو مخالفة واضحة لواقع معنى القرآن، فيمكن إلحاقهم اقهم بالخوارج بما يفعلون.

بل ويمكن دعوى شمول قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالنّسبة إلى الخوارج للوهابية بالمناط القطعي؛ وهو مخالفة الشريعة بتفسير القرآن بالرأي، وترتيب الآثار عَلى رأيهم المخالف لقول إمام الزمان عليه السلام.

وبما ذكرنا ظهر أيضاً فساد قوله: «وكذلِك ما ذكرنا من قتال اليهود والصّحابة لبني حنيفة» إلى آخر كلامه الّذي قال فيه «إنّ مراد النبيّ صلى الله عليه و آله من الأحاديث ما ذكرناه» ولا حاجة إلى تكراره وذكره، فإنّ ذكر القبيح قبيح، ولعمري أنّه وقيح.

بنيت بيتاً بلا أساسِ وَقِسْتَ حكماً بلا مقياسِ

ما حزت من ذا شيئاً سوى أن جمّعت جمعاً شر اناسِ


1- - سورة الجن: الآية 18 وفي الأصل: لا، والصحيح ما أثبتناه.

ص:137

غداً تنادي ياليتني كنت تراباً وواثبوراً من الوَسواسِ «(1)»

في بيان أنّ الناس يوم القيامة يستشفعون بالنبيّ صلى الله عليه و آله

] ثم قال القائل: «ولهم شبهة اخرى؛ وهي ما ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ النّاس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

قالوا: فهذا يدلّ عَلى أنّ الاستغاثة بغير اللَّه ليست بشرك.

فالجواب أنّ تقول: سبحان من طبع عَلى قلوب أعدائه، فإنّ الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها كما قال تعالى: فاسْتغاثهُ الّذي من شيعته على الّذي من عدوه «(2)»

وكما يستغيث الانسان بأصحابه في الحرب وغيره في الأشياء الّتي يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة الّتي يفعلونها عند قبور الأولياء وفي غيبتهم في الأشياء الّتي لا يقدر عليها إلّااللَّه.


1- - كذا، والأبيات جميعها غير مستقيمة الوزن كما هو الحال في أكثر أبيات الكتاب.
2- - سورة القصص: الآية 15.

ص:138

إذا ثبت ذلِك فالاستغاثة بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا اللَّه أن يحاسب النّاس حتى يستريح أهل الجنّة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي عند رجل صالح حتى يجالسك ويسمع كلامك تقول له: ادع لي كما كان أصحاب رسول اللَّه يسألونه في حياته، وأمّا بعد موته فحاشا وكلّا أنّهم سألوه ذلِك عند قبره، بل أنكر السّلف عَلى من قصد دعاء اللَّه عند قبره، فكيف بدعائه نفسه» انتهى.

أقول: لما كان من شأن الباطل أن يظهر بطلانه وفساده بنفسه، وقع القائل في مقام اعتراف ببطلان ما أثبته من أوّل الأوراق إلى هنا من حيث لا يحتسب ولا يشعر.

توضيح ذلِك: أنّه من أوّل كلامه المذكور في هذه الأوراق كانت استدلالاته متوجّهة إلى أنّ الاستشفاع دعوة لغير اللَّه، وقد قال اللَّه تعالى: لا تدعوا مع اللَّه أحداً والشّفاعة كلّها للَّه، فلابد أن يقول الموحّد: اللهم لا تحرمني شفاعة النبيّ صلى الله عليه و آله أو شفّعه فيّ، وكذلِك الاستغاثة والتوجّه بغير اللَّه تعالى دعوة مع اللَّه أحداً، وفي الجواب عن هذه الشبهة اعتراف ببطلان ذلِك الكلام، واعتراف بأنّ الاستشفاع في أيام حياتهم و في القيامة والمحشر غير منكر عندهم، بل المنكر التوجّه إلى الأنبياء والأولياء والاستشفاع والاستغاثة بهم عند قبورهم.

وعلى هذا فالتعجب الظاهر من قوله: «سبحان اللَّه من طبع عَلى قلوب أعداء اللَّه؛ فإنّ الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لاننكرها» الخ مع إطلاق كلماته السابقة الشّامل لكلّ توجّه إلى غير اللَّه، بل تصريحه بالكفر في خصوص الاستشفاع أيضاً ينبغي أن

ص:139

يتعجب من قوله: «ونحن أنكرنا استغاثة العبادة الّتي يفعلونها عند قبور الأولياء وفي غيبتهم في الأشياء الّتي لا يقدر عليها إلّا اللَّه» فإنّه يدل عَلى أن مراده من دعوة غير اللَّه والدّعوة مع اللَّه هو هذه الاستغاثة الّتي ذكرها هنا، ومع عدم ذكر ذلِك ينسب المخالف له إلى كونه مطبوع القلب من اللَّه تعالى مع أنّ نسبة العداوة للَّه تعالى إلى الفاعل لهذه الاستغاثة تدلّ عَلى كمال العناد مع الحقّ، فإن هذا العمل على تقدير تسليم كونه عَلى خلاف العقل- يصير عملًا لغواً لا أنّه يوجب الشّرك والكفر، ولا يجعل فاعله عدوّاً للَّه، يعرف ذلِك كل عارف بطريق المحاورة وأساليب المخاطبة والمحاضرة.

وبالجملة خلاصة كلام القائل بعد إنكار كلماته السابقة أن بشفاعة الأنبياء يوم القيامة للاستراحة من كرب الموقف، فيجوز الاستشفاع بهم هناك وفي زمان حياتهم، كما أنّ التماس الدّعاء من الصّالحين المجالسين معك السامعين لكلامك جائز لا بأس به، وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حياته كانوا يسألونه حاجاتهم، وأمّا بعد مماته فلم يصدر منهم ذلِك، والسّلف من العلماء والأكابر أنكروا عَلى من قصد دعاء اللَّه عند قبره صلى الله عليه و آله فضلًا عن دعائه بنفسه.

والجواب عن هذا المقال المزخرف والضعيف المضعّف من وجوه نبيّنها ونوضّحها بعد التنبيه عَلى انحصار الدّعوى فيما أجملنا

ص:140

بيانه وتفصيله- أنّ هذا القائل كان يدّعي من أوّل كلامه إلى هنا أنّ الاستغاثة والاستشفاع بغير اللَّه والتوجّه إلى غيره تعالى شرك وكفر؛ لكونه دعوة أحدٍ مع اللَّه وكون الاستشفاع بغير اللَّه الحقّ شركاً؛ لكونه فعل المشركين في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله القائلين بأنّ هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، وهنا في جواب هذه الشبهة أنكر جميع الدّعاوى السّابقة، واعترف بجواز الاستغاثة والاستشفاع في الدّنيا والآخرة بالنسبة إلى الأحياء، فانحصر الإنكار فيما يفعله المستشفع عند قبورهم، وظهر من آخر كلامه أنّ دعوة اللَّه تعالى عند قبورهم منكر فضلًا عن دعوتهم عندها، وحينئذٍ فيتخلّص للقائل دعويان:

إحداهما: أنّ دعوة اللَّه عند قبور الأنبياء والأولياء كفر وشرك.

وثانيهما: أنّ دعوتهم عند قبورهم كذلِك شرك وكفر، ولنا أوّلًا السؤال عن دعوة اللَّه الّتي إذا كانت عند غير قبورهم فليس بمنكر؛ لعدم كونها شركاً، وإذا كانت عند غير قبورهم تصير شركاً وكفراً هل هي إلّامن قبيل الصلاة والاعتكاف والتكبير والتّهليل والتّنزيه والتّقديس والمناجاة وطلب المغفرة والقرب والإخلاص في العمل أو حاجة دنيوية إلى غير ذلِك.

وثانياً: المطالبة بدليل كون تلك الدّعوة شركاً وكفراً، فإنّا لانتعقّل مقصودهم من دعوة اللَّه الّتي تكون شركاًوكفراً هل هي

ص:141

الأعمال العبادية، أو هي طلب الامور المذكورة؛ فإن كان من قبيل الأوّل فالقرآن ناطق بجواز فعلها في غير المكان المغصوب في قوله تعالى: أرأيت الّذي ينهى عبداً إذا صلّى «(1)»

فإنها تدلّ على الإنكار والتوبيخ عَلى الناهي عن الصلاة في أيّ مكان تكون، وكذا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللَّه ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرة وأصيلًا «(2)»

تدلّ على جواز الذّكر والتسبيح و التقديس في كلّ مكان، واستثناء المكان المغصوب لا ينافي جواز ذلِك عند قبور الأولياء، وكذا مادل عَلى جواز قراءة القرآن للمؤمنين عند قبورهم، فكيف يتصوّر أن يكون كلّ ذلِك شركاً وكفراً.

وأمّا المناجاة وطلب حاجة دنيوية أو اخروية من اللَّه تعالى عند قبورهم، فمن حيث توقف الطلب عَلى التوجه إلى من يطلب منه الحاجة «(3)» يصدق عليه ذكر اللَّه، وطلب الحاجة بعد التوجّه إليه تعالى قهريّ؛ لعلمه والتفاته في تلك الحالة إلى أنه لا يلتجئ المخلوق إلّاإلى خالقه، ولايذهب العبد فيما يريد إلّاإلى مولاه، فكيف يكون ذلِك شركاً وكفراً.

وحينئذٍ فنطالب القائل بدليل إنكار دعوة اللَّه عند قبور


1- - سورة العلق: الآيتان: 9- 10.
2- - سورة الأحزاب: الآيتان 41- 42.
3- - في« س»: الحاجة منه.

ص:142

الأنبياء والأولياء وجعلها شركاً وكفراً؛ فإن قال في الجواب: إنّ قصد الدّاعي للَّه مزية دعوة اللَّه فيها عَلى غيرها من الأمكنة كفر وشرك؛ طالبناه بدليل كون اعتقاد المزيّة وقصدها كفراً وشركاً مع أنّ الاعتقاد بعد حصول موجبه أمر غير اختياريّ؛ ومع وجود موجبه من الدّليل العقليّ والنقليّ المعتمد كالكتاب والسنّة كيف يمكن الإغماض عنه؟ وكيف يقدر أحد ممّن له عقل سليم أن يمنع العمل بالعلم والاعتقاد القطعي؟ وكيف يمكن لأحد أن يمنع مشاهد الأسد مقبلًا عليه من الفرار منه، أو من يرى محبوبه متوجّهاً نحوه أن يمنعه من استقباله.

وبالجملة وجود موجبات الاعتقاد بالمزية عقلياً كان أو نقلياً يوجب وجوده قهراً، ولا ربط لهذا الاعتقاد بجعل الشريك له تعالى، بل إنّه يؤكد الإخلاص والتّوحيد من حيث الإقدام عَلى العمل الزائد تقربه إلى اللَّه لفضل محلّه عَلى محلّ آخر، فكما أنّ الصلاة في المسجد لمزية له عَلى سائر الأمكنة توجب تأكيد الاخلاص، فكذلِك قبور الأنبياء والأولياء لدى من اعتقد لها مزيد فضل عَلى سائر الأمكنة؛ وهو كذلِك لقوله تعالى: في بيوت أذنَ اللَّه أن تُرفعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ «(1)»

بالتقريب المتقدّم ذكره فلا نعيد.


1- - سورة النور: الآية 36.

ص:143

وبالجملة الأدلة الدالة عَلى شرافة قبورهم، وحسن التوسّل بشرافتها كثيرة لسنا بصدد تعدادها؛ لوضوحها حتى عند الوهّابية المتعمّدين للاغماض عنها، وكيف لا يكون كذلِك وأكبر الخلفاء الراشدين الصدّيق وتاليه الفاروق استشرفا بشرافة جوار المرقد المطهّر النبوي صلى الله عليه و آله، والإمام المجتبى الممتحن الحسن بن عَلي عليهما السلام أراد التشرّف بهذه الشرافة، فأوصى بما أوصى، ولكن مُنع من ذلِك ولولا وصيته لإخوته وأصحابه بالصّبر لسُفكت الدّماء بالمنع عن دفنه عند جده لتحصيل تلك الشّرافة، بل يجب أن يكون كذلِك لحصول الشّرافة بالاضافة، فكما أنّ بيت اللَّه شريف، والمساجد كلّها مشرّفة بإضافتها إلى اللَّه، وكذلِك جلد القرآن وحواشي صفحاته الخالية من كتابة كلام اللَّه محترمة يجب احترامها، فكذلِك قبور الأنبياء والأولياء مشرفة بالإضافة إليه تعالى، فيقال قبر نبيّ اللَّه، وقبر وليّ اللَّه، وقبور عباد اللَّه الصالحين، وكما أنّ سقف المسجد إلى فرشه متشرف بشرافة إضافته إلى المسجد الّذي هو بيت اللَّه فكذلِك البنيان والقباب المبنية عَلى قبورهم عليهم السلام متشرفة بالانتساب والاضافة إليهم عليهم السلام فالسلوك معها سلوك سائر الأماكن، بل أدون من ذلِك بالفتوى بلزوم هتكها أو هدمها دون بيوت جبابرتهم ورؤسائهم لا يصدر إلّامن جاهل غبيّ أو معاند غويّ.

ص:144

والعجب من هذا القائل حيث قال: «وانكر السّلف عَلى من قصد دعاء اللَّه عند قبره فكيف بدعائه نفسه صلى الله عليه و آله» ولم يعيّن السّلف الّذي أنكر دعاء اللَّه عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛ فإنّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والخلفاء الراشدين لم ينكروا ذلِك، بل كانوا هم يعملون هذا العمل.

فإن قلت: كانوا يدعون اللَّه في مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله لا عند قبره.

قلت: لم يكن قبر النبيّ صلى الله عليه و آله ابتداء داخلًا في المسجد، وإنّما حدث ذلِك بعد مدة مديدة، وأصحاب الرسول صلى الله عليه و آله كانوا يتشرفون ويزورون قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، والحسن بن علي عليه السلام استشفى مراراً عن السمّ الّذي سقوه بالقبر المطهّر، والحسين بن علي عليهما السلام بات عند القبر ليلة الوداع معه للمسافرة إلى مكة في السفر الأخير الّذي ارتحل منها إلى العراق فأصابته الشهادة، مضافاً إلى أنّ التابعين وتابعي التابعين كانوا يعملون هذه المعاملة بعد صيرورة القبر المطهّر داخلًا في المسجد بقرب المرقد الشريف طلباً للفضلِ، واستمرت العادة عَلى ذلِك خلفاً عن سلف، بل من لم يدرك هذا الفضل توارد عليه الأسف بعد الأسف «(1)».

والحاصل: أنّه لا ينكر دعوة اللَّه تعالى عند قبرالنبيّ صلى الله عليه و آله إلّا


1- - في الأصل: أسف، والصحيح ما ذكرناه.

ص:145

مجادل محجوج أو معاند مجنون لجوج، مضافاً إلى أنّ قوله صلى الله عليه و آله: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» «(1)»

إرشاد للمسلمين إلى دعوة اللَّه تعالى في ذلِك المكان الشريف.

هذا [تمام] «(2)» الكلام في دعاء اللَّه تعالى عند قبورهم عليهم السلام.

وأمّا دعاؤهم عند قبورهم فلم يدل دليل عَلى المنع منه أو ثبوت الكفر والشرك به لا من جهة أنّ ذلِك دعوة غير اللَّه تعالى، أو أنّه دعوة مع اللَّه أحداً ولا من جهة أنّهم أموات لا يسمعون ولا يفهمون كلام من يدعوهم ويخاطبهم.

أمّا عدم كون دعوتهم دعوة لغير اللَّه سواء كان للُامور الدنيويّة أو الاخروية [ف] لأنّ من شهد أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله عبد اللَّه ورسوله، والعبد: لا يَقْدرُ عَلى شَي ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ «(3)»

لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً اًولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، كيف يمكن أن يطلب منه شيئاً لا يقدر عليه، بل إنّه يطلب منه ما أعطاه مولاه وملّكه سيّده؛ وهو الشّفاعة، فالداعي عند قبره يدعو اللَّه تعالى صلى الله عليه و آله بتوسط الشفيع ومصاحباً له، وبالاستشفاع يؤكد الطلب من الحقّ وهو تكثير للخضوع والتضرع، مضافاً إلى ماصّح من


1- - فروع الكافي 4: 553.
2- - في« ع»: كلّه.
3- - سورة النحل: الآية 76.

ص:146

تفسير قوله تعالى: وللَّهِ الأسماءُ الحُسنى فادعوه بها «(1)»

برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخلفائه، وأوصيائه عليهم السلام، فيكون ذلِك دعوة للَّه تعالى، وإطاعة للقرآن، كما أنّ قوله: فتلقى آدم من ربّه كلمات «(2)»

الخ مفسر بأسمائهم الشريفة المكتوبة عَلى ساق العرش.

وأيضاً يدل عليهم السلام عَلى ذلِك ما هو المتعارف «(3)» المعهود بين النّاس بل عليه جبلّة العقلاء من استشفاع المقصرين عند اولي الأمر عليهم بالمقربين عندهم، بل لا ينحصر ذلِك في مورد العفو عن التقصير، وأنّهم يعلمون ذلِك في مقام طلب الحوائج منهم أيّاًمّا كانت، وكما أنّ استغاثة المخلوق بالمخلوق في امور يقدرون عليها «(4)» ليس دعوة لغير اللَّه معه تعالى، فكذلِك الاستشفاع بهم عند قبورهم عليهم السلام ليس دعوة لغير اللَّه، ولا دعوة مع اللَّه أحداً؛ لكونه طلباً من اللَّه مصاحباً للشفيع.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ قول القائل: «نحن أنكرنا الاستغاثة والعبادة الّتي يفعلونها عند قبور الأولياء وفي غيبتهم في الأشياء الّتي لا يقدر عليها إلّااللَّه الخ» غير منطبق على الاستشفاع


1- - سورة الأعراف: الآية 180.
2- - سورة البقرة: الآية 37.
3- - في« ع»: المرسوم.
4- - في الأصل: عليه، والصحيح ما أثبتناه.

ص:147

والتّوسل بالأنبياء والأولياء عند قبورهم؛ لأنّ الاستشفاع ليس بعبادة ولا يفعلون استغاثة تكون عبادة إلّاعبادة اللَّه بنحو الصوم والصلاة والمناجاة وطلب الحوائج الدنيوية والاخروية الّتي قد حققنا أنّها جائزة؛ لكونها صحيحة مطلوبة في كلّ زمان وكلّ مكان إلّافي المكان المغصوب، وبعض الأزمنة الخاصة؛ واعتقاد زيادة فضل لها باعتبار وقوعها عند قبورهم عليهم السلام لاضير فيه ولا قبح يعتريه.

وعلى هذا فاللازم عَلى القائل عدم إنكار الاستشفاع بهم عليهم السلام عند قبورهم، لأنّ الاستشفاع ليس بعبادة، وكون الشّفاعة للَّه الحقّ لايدلّ عَلى كون الاستشفاع استغاثة عبادياً بل إنها أمر يقدر عليه العبد المتقرب إلى اللَّه وليست من الامور الّتي لا يقدر عليها إلّا اللَّه تعالى، وهذا تمام الكلام في عدم كون دعائهم عليهم السلام عند قبورهم دعوة لغير الحقّ، أودعوة مع اللَّه أحداً.

وأمّا من حيث كونهم أمواتاً لا يسمعون ولا يفهمون فلأنّ عدم سماعهم وفهمهم لكلام من يتوسل بهم ويطلب شفاعتهم غير ثابت، بل القرآن ناطق بخلافه في قوله تعالى: ولا تحسبنَّ الّذينَ قُتلوا في سبيلِ اللَّهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربّهم يرزقون فَرِحِين بما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فضلِهِ ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم مِنْ

ص:148

خَلْفِهِمْ ألّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُم يَحْزَنُونَ «(1)»

الآية.

ولا يتوهّم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله غير مقتول، أمّا أوّلًا فلأنّه قد صحّ عنهم عليهم السلام أنّهم قالوا: «ما منا إلّامن هو مقتول أو مسموم» «(2)»

وثانياً فلأنا نقول بتعميم المقتول في سبيل اللَّه؛ فإنّ الأنبياء وأوصياءهم عليهم السلام جاهدوا مع أنفسهم في سبيل اللَّه؛ وهو الجهاد الأكبر الّذي قال فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأصحابه حين رجعوا من غزوة ذات السلاسل: «رجعتم وقضيتم الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر قالوا له صلى الله عليه و آله وما الجهاد الاكبر؟ قال صلى الله عليه و آله الجهاد مع النفس» «(3)»

فهم بالمقاتلة مع النفس يحسبون مقتولين في سبيل اللَّه وليسوا بأموات، بل هم: أحياء عند ربّهم يرزقون فرحين بما آتاهم اللَّه من فضله «(4)»

كيف لا يكون كذلِك والنفس


1- - سورة آل عمران: الآيتان 169- 170.
2- - البحار 27: 216/ 18 و 19.
3- - البحار 70: 373/ 18.
4- - سورة آل عمران: الآية 170.

ص:149

روحانية البقاء، والنفوس القدسية باقية ببقاء اللَّه، بل لا فناء لكلّ نفس وجدت وخلقت، ولولا ذلِك لبطل الثواب والعقاب في عالم البرزخ وبعده، و إلى ذلِك يشير قوله صلى الله عليه و آله: «خلقتم للبقاء لا للفناء» وهو الفرق بين الإنسان وغيره من الحيوانات والجمادات؛ فإنها بموتها تفنى دون الإنسان، وأنّ كلّ مجرّد عاقل شاعر غير غافل فكيف بالأولياء والمقرّبين فإنّهم يسمعون الكلام، ويردّون الجواب، ويفهمون، الخطابات، ويعلمون الحوائج؛ لعدم غفلتهم عن حوائج المحتاجين، و كيف لا يكون كذلِك وقد قال اللَّه تعالى: إنّ اللَّهَ وملائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النَّبيّ يا أيّها الذين آمَنوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْليماً «(1)»

والخطاب عامّ ولا يختصّ بزمان الحياة ولا بغير قرب القبر المطهر.

والأخبار في إكثار الصلاة عليه صلى الله عليه و آله أكثر من أن تُحصى، ولا اختصاص لها بحال حياته، ومن الأخبار الدالة صريحاً عَلى سماعه صلى الله عليه و آله للصّلاة عليه بعد ارتحاله وموته ما رواه في دلائل الخيرات من أنّه سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أرأيت صلاة المصلين عليك ممّن غاب عنك ومن يأتي بعدك ما حالها عندك فقال صلى الله عليه و آله: «أسمع صلاة أهل محبتي، وأعرفهم، وتعرض عليّ صلاة غيرهم عرضاً» وأيضاً يدلّ عَلى ذلِك ما صحّ عن المعصومين عليهم السلام في وظائف الدّاعي، حيث عدّ منها الصلاة عَلى النبيّ صلى الله عليه و آله قبل طلب حاجاته من اللَّه تعالى وبعده. ومعللًا بحصول الاستجابة للصلاة أوّلًا وآخراً، فلا يردّ مابينهما من طلب الحاجات؛ فيستجاب


1- - سورة الأحزاب: الآية 56.

ص:150

باستجابتهما، وهذا بنفسه تكريم من اللَّه تعالى للنبيّ صلى الله عليه و آله.

ويدل عَلى ذلِك عدّ الشّفيع والمشفّع وصاحب الشّفاعة من أسماء النبيّ صلى الله عليه و آله وأوصافه، فكما أنّ جميع أسمائه وأوصافه وألقابه وكناه غير مختصّ بحال حياته، بل يعمّ بعد مماته أيضاً، وكذلِك الشفيع وصاحب الشّفاعة لا يختصّ بحال حياته أو في القيامة بعد حشره، كما أنّ الاستشفاع به صلى الله عليه و آله غير مختصّ بإيقاعه عند قبره الشّريف، بل يعمّ المساجد و المعابد وأوقات الدّعوات. وأيضاً استحباب السلام في التشهد بعبارة: «السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته» دليل عَلى سماعه للسلام وفهمه للمرام، فكيف لا يكون كذلِك والسلام عَلى أموات المؤمنين حال زيارة أهل القبور بالعبارات المختلفة، والكيفيات المتعدّدة، والطرق العديدة الواردة عن المعصومين عليهم السلام، ومنها السلام بهذه الكيفيّة: «السلام عَلى أهل لا إله إلّااللَّه» إلى آخره ومنها: «السلام عليكم يا أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين» إلى آخره ومنها غير ذلِك المكتوبة المدوّنة في محالها، ومن أرادها فليراجع مظانّها- ممّا لا يقبل الإنكار، فكيف بمثله صلى الله عليه و آله.

والالتزام بكون زيارة أهل القبور والتسليمات عليهم تعبداً صرفاً بدعوى عدم إدراكهم لذلِك شطط من الكلام، وكدعوى ذلِك في تلقينه الشهادتين حال دفنه، وعدم إدراكنا لكيفية علمهم،

ص:151

وخصوصيات إدراكهم، والتفاتهم للتسليمات المتوجهة إليهم من الأحياء لا ينافي واقع إدراكهم وسماعهم لكلام زائريهم تعبداً بقول من أمر بالسلام عليهم المطّلع عَلى أحوالهم، فإنّه صلى الله عليه و آله قد أخبرنا في صحيح الخبر بالتفاتهم وإدراكهم، وهو أعلم بما قال وأخبر صلى الله عليه و آله.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا من الأدلة أنّ الأنبياء والأولياء يسمعون ويفهمون بعد ارتحالهم ومماتهم ودفنهم في القبور، كما يسمعون ويفهمون كلام من يخاطبهم حال حياتهم.

وأمّا زيارة قبورهم والتوسّل بهم عند مراقدهم فلمزيّة النظر والتوجّه لهم إلى قبورهم لأجل التوجّه إلى زائري قبورهم واللائذين إلى مراقدهم والعائذين عند ضرائحهم.

ولو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا واعترفنا (والعياذ باللَّه) بأنّهم لا يسمعون الكلام، ولا يفهمون الخطاب، وفرضناهم (نستجير باللَّه) كالخشبة المصنوعة صنماً لا يدرك شيئاً فحينئذٍ يكون التوسل بهم لغواً وعبثاً لا ينبغي أن يصدر من العقلاء والعلماء، وأين هذا من الشرك والكفر، وأنّ ذلِك لا يعدّ شركاً ولا كفراً لا عرفاً ولا لغة.

فإن قال القائل: إنّه صرّح القرآن بكون ذلِك شركاً بالنسبة إلى عبدة الأوثان، وهذا العمل مطابق لعمل المشركين في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله حيث إنّهم كانوا يستشفعون بالأصنام والأوثان الغير

ص:152

المدركة لشي ء وكانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه.

قلت: قد سبق الجواب عن هذا المقال مراراً بأنّ إطلاق المشرك الكافر عليهم لم يكن لمخاطتهم تلك الأصنام بل إنّما هو لُامور اخر مرّ ذكرها من تسميتهم لها آلهة، ومن عبادتهم لها عبادة اللَّه الحقّ في الكيفية، بل كانوا يسمّون ذلِك عبادة لآلهتهم، ومن حيث عدم كون تلك الأصنام صاحب الشّفاعة من عند اللَّه تعالى ذلِك من جهات الفرق الّتي سبقت في كلماتنا مراراً فالقياس مع بطلانه من أصله قياس مع الفارق، وليس بكاشف عن الحقائق.

ثم إنّ لنا سؤلًا إلزامياً من هذا القائل، وهو أنّ من يريد أن يناجي ربّه في مصلّاه فيقول: اللّهم إني أتوجّه اليك بنبيك نبيّ الرّحمة صلواتك عليه وآله، وأقدّمهم بين يدي حوائجي، فاجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنياوالّاخرة، وافعل بي كذا وكذا هل يعدّ هذا الكلام شركاً وكفراً أو أنّه جائز وليس بشرك ولا كفراً؟ فإنّ قال: هذا كفر وشرك فيقال له: كذبت ولئمت لا يرجع هذا الكلام إلى ما يكون كفراً وشركاً في اللّغة ولا في المحاورات العرفية، وإن اعترف بأنّ هذا الكلام ليس بشرك ولا كفر، فنسأله إن فرضنا أنّه نطق بهذا الكلام عند قبر النبيّ صلى الله عليه و آله أو أحد أوصيائه، كيف يكون شركاً وكفراً؟ فإن قال: ذكره عند قبورهم أيضاً ليس بشرك ولا كفر و حينئذٍ نقول: فإن قال بدل ذلِك: يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لي

ص:153

عند اللَّه أن يفعل بي كذا وكذا، هل يصير شركاً وكفراً؟ فإن اعترف بأنّه أيضاً ليس بشرك ولا كفر ثبت مطلوبنا، وبطل ما ادّعاه، وإن أنكر فنسأله عن دليل ذلِك ونطالبه بالفرق بين هذه العبارة والعبارة الأولى الّتي معناها الاستشفاع أيضاً؛ اذ معنى التوجّه إلى اللَّه بالنبيّ صلى الله عليه و آله وتقديمه صلى الله عليه و آله بين يدي حوائجه جعله شفيعاً عنده ولا يعقل أن يكون الفرق من جهة المكان إلّاأن يقول:

إنّ الفرق من حيث المخاطبة للميت ولا شك أنّ المتقدم للشّفاعة قدر على الشفاعة، ويفهم كلام من استشفع به عند اللَّه وإن كان ميتاً ظاهراً وإلّا لم يكن يقدم لذلِك أو يقول إنّه دعوة لغير الحقّ، وقد أجبنا عن ذلِك مراراً فلا نعيده، ومن لم يهده اللَّه فلا نفيده.

ثم قال القائل: «ولهم شبهة اخرى؛ وهي قصة إبراهيم عليه السلام لمّا القي في النار اعترض له جبرئيل عليه السلام في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام: «أمّا إليك فلا» قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبرئيل شركاً لم يعرضها عَلى إبراهيم عليه السلام فالجواب أنّ هذا من جنس الشبهة الاولى؛ فأنّ جبرئيل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنّه كما قال اللَّه تعالى فيه: شديدُ القُوَى «(1)»

فلو أذن اللَّه تعالى له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من


1- - سورة النجم: الآية 5.

ص:154

الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلًا محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو يهبه شيئاً يقضي به حاجته، فيأبى ذلِك الرّجل المحتاج أن يأخذ ويصبر حتى يأتيه اللَّه برزق لا منّة فيه، فأين هذا باستغاثة «(1)» العبادة والشرك لو كانوا يفقهون» انتهى.

وخلاصة مرامه أنّ القدرة عَلى الفعل الّذي يريده الطالب من «(2)» المطلوب منه شرط في جواز الاستغاثة به، وكان جبرئيل عليه السلام قادراً عَلى جميع ما كان يحتاج إبراهيم عليه السلام، وأمّا الأنبياء والأولياء المقبورون «(3)» فلا يقدرون عَلى شي ء؟ فلا يجوز الطلب منهم.

والجواب عن هذا الكلام يعلم مما ذكرنا آنفاً من أنّ الاستغاثة


1- - كذا، والصحيح: من استغاثة.
2- - في الأصل: عن، والصحيح ما أثبتناه.
3- - في الأصل: المقبورين والصحيح ما أثبتناه.

ص:155

بالعبادة لا معنى له، فإنّه ليس أحد ممن يستشفع بالأنبياء والأولياء عليهم السلام عابداً لهم عند دعوتهم، والاستغاثة والاستشفاع بهم، بل هذه العبارة غلط لا تفيد «(1)» أصلًا؛ لإنّ الاستغاثة شي ء يحصل بألفاظه خاصّة دون العبادة؛ فإنّها خضوع وخشوع مخصوص يحصل بأفعال مخصوصة لا باللفظ وإنّها وإنّ تضمنت أيضاً ألفاظاً مخصوصة لكن لا ربط لها بالاستغاثة، ومن أنّ الأنبياء والأولياء بعد موتهم أحياء عند ربهم يرزقون «(2)»

فيسمعون الكلام، ويفهمون، الخطاب ويردون الجواب، وعدم سماع جوابهم بالآذان الظاهرية لا ينافي علمنا بالجواب منهم، إمّا بإعطائهم ما نسأل اللَّه بتوسطهم من الحاجات من رزق، أو ولد، أو شفاء مرض أو غير ذلِك، أو بردّهم إيّانا بإسماع الكلام لنا في الخلسة أو بردّهم في النعاس، أو في النّوم، فيفهّمونا عدم كون تلك الحاجة صلاحاً لنا، أو بعدم الاعتناء بنا فيما شفعناهم عند اللَّه، ونفهم ذلِك، بل إنّهم يفهّمونا ذلِك بقضاء بعض حوائج المحتاجين دون بعض، فنعلم أنّه لم يكن صلاحاً بالنسبة إلينا كما نشاهد ذلِك في دعوة اللَّه تعالى مع قوله تعالى: ادعوني أسْتَجبْ لكم «(3)»

الآية من إجابة


1- - في الأصل: يفيد، والصحيح ما أثبتناه.
2- - سورة آل عمران: الآية 169.
3- - سورة غافر: الآية 60.

ص:156

بعض ا وائج دون بعض، فنعلم صلاح ما أجابنا فيه من الدّعوات، وعدم المصلحة في بعضها الآخر الّذي ما استجابه «(1)»، وقد حققنا في بعض مصنفاتنا معنى قوله تعالى: واذا سألك عبادي عني فإنيّ قريبٌ اجيبُ دعوة الداعِ «(2)»

الآية لا يناسب ذكره هنا.

الحاصل أنّ الاعتقاد بأنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون يلزمه الاعتقاد بأنّهم يسمعون الخطاب ويردون الجواب ولو أغمضنا عن ذلِك وقلنا بعدم سماعهم الكلام، فلا محذور في دعوتهم م إلّاالعبث واللغوية لا الكفر والشرك، وقياس ذلِك بعبادة الأصنام الغير المدركين لشى ء قياس مع الفارق بيّناه مراراً.

هذا كلّه مع أن الجواب المذكور لا يردّ الشبهة المذكورة الراجعة إلى الاعتراض عَلى إطلاق كلام القائل حيث إنّه كان يجعل مطلق الاستغاثة بالمخلوق شركاً وكفراً والعدول عن الاطلاق إلى التقييد بالمخلوق الغير القادر، و إلى الاستغاثة بالعبادة الّتي ما حصلنا لها معنى محصلًا لا يرفع الاعتراض عَلى إطلاق الكلام.

فتحصل من عدوله رفع اليد من إطلاق كلامه ولم يبق له إلّا صورة التقييد وقد أوضحنا بطلانها وفساد برهانها، والحمد للَّه عَلى ما هدانا وله الشكر عَلى ما أولانا.


1- - في الأصل: استجابها، والصحيح ما أثبتناه.
2- - سورة البقرة: الآية 186.

ص:157

إيقاظ عرفاني وإلهام رباني

وهو أنّه يفهم ويعلم من قصة إبراهيم عليه السلام صدراً وذيلًا امور نوضّحها بعد ذكر تمام القصّة؛ فإنّه عليه السلام بعد سؤال جبرائيل عليه السلام له «(1)»: ألك حاجة قال: «أمّا لك فلا، وأمّا إلى اللَّه فعلمه بحالي يكفي عن سؤالي» «(2)».

منها أنّ جبرئيل عليه السلام أراد بيان أنّ الاستغاثة وطلب الحاجة من المقرّبين إلى اللَّه تعالى جائزة، وليست من الدّعوة لغيراللَّه تعالى في شي ء.

ومنها امتحان إبراهيم عليه السلام في صبره عَلى البلاء في مقام نصرة دين اللَّه.

ومنها الاطلاع عَلى ما عنده من العلم والمعرفة باللَّه تعالى، ومعرفة فضله على الأنبياء قبله.

ومنها إعلام النّاس بمقامه عليه السلام من الجواب الّذي كان يجيبه.

ومنها ما أفاده عليه السلام بجوابه: «أمّا إليك فلا» من دفع توهم جبرئيل عليه السلام أنّه معرض للحاجة وأنه عليه السلام مظهر له إيّاها عَلى تقدير وجودها.

ومنها ما أفاده عليه السلام أيضاً «وأمّا إلى اللَّه» المحذوف جوابه يعني فنعم، من أن كلّ الحاجات إليه؛ لأنّه لا يقدر عَلى قضائها غيره تعالى، ولا يملك الامور سواه.


1- - في الأصل عنه: والصحيح ما أثبتناه.
2- - البحار 71: 155/ 70 وأمالي الصدوق ص 456 وعلل الشرائع ص 35.

ص:158

ومنها ما أفاده عليه السلام أيضاً بقوله «علمه بحالي حسبي عن سؤالي» بعد كونه جواباً لسؤال مقدر من جبرئيل عليه السلام وهو أنّه بعد قول إبراهيم عليه السلام: «أمّا إلى اللَّه فنعم» كان في نيّته وعزمه السؤال عن وجه عدم إظهارها للَّه تعالى، فقال عليه السلام قبل إظهاره ذلِك ما قال من أنّ علمه بحالي حسبي عن سؤالي.

ومنها الإشارة بالجواب المذكور إلى أنّ العارفين باللَّه المخلصين له والمشتاقين إليه لا يسألون اللَّه دفع شي ء ممّا بهم من الآلام والأذى، لعلمهم بأن اللَّه فعل بهم وفي حقّهم ما يصلحهم ويحتاجون إليه من غير سؤال لفظي وإلحاح نطقي، وأنّه تعالى يدفع عنهم ما يضرّهم وما لا ينفعهم؛ لعدم الحاجة إليه، وإنّما يسأل اللَّه تعالى الحوائج المنظورة لهم والمستحسنة عندهم بعقولهم المشوبة بالأوهام أرباب العقول الناقصة، وقد تقدّم أن مع: ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ «(1)»

وقوله تعا: اجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ «(2)»

حققناه بعض مصنفاتنا وتلك الاشارة كانت لأجل تنبيه ج ئيل عليه السلام إ أنّ سؤاله عن وجه ترك طلب ا اجة من اللَّه تعالى في سويداء قلبه لا وجه له، وفي غير محلّه، وكأنّه قال:

يا جبرئيل لا ينبغي لمثلي طلب شي ء من اللَّه تعالى لأنه يفعل بي


1- - سورة غافر: الآية 60.
2- - سورة البقرة: الآية 186.

ص:159

وفي حّقي ما هو الأصلح لي من غير طلب وسؤال مني، واللَّه العالم بحقيقة معاني مقاله، كما أنّه تعالى هو العالم بحقيقة حاله، ونسأل اللَّه تعالى أن يصلّي على محمّد وآله وعليه صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

خاتمة في معنى الإسلام

] ثم قال القائل: «ولنختم الكلام بمسألة عظيمة مهمة تفهم ممّا تقدّم، لكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف في أنّ التّوحيد لابدّ أن يكون بالقلب واللّسان والعمل، فإن اختل شي ء من هذا لم يكن الرجل مسلماً» انتهى محّل الحاجة.

أقول وكأنّ القائل بهذا الكلام لم يطّلع عَلى الخلاف العظيم بين العلماء في اعتبار الامور الثّلاثة في الإسلام أو الاعتقاد بالقلب والاقرار باللّسان أو هو الاعتقاد بالقلب؟ حتّى أنّ بعضهم عبّر عن اعتبار الامور الثّلاثة بقوله: هو الاعتقاد بالجنان والإقرار باللّسان والعمل بالأركان، وبعضهم- وهم الأكثر- قالوا بأنّ العمل بالأركان للفرار عن الفسق لا لحصول الإسلام، والاقرار باللّسان كاشف عمّا هو حقيقة الإسلام الّذي هو الاعتقاد بالجنان.

والحق أنّ الإسلام عبارة عن الاعتقاد بالجنان بشرط عدم الجحود باللّسان، فمن أقرّ باللّسان وكان جاحداً بالجنان فهو

ص:160

خارج عن الإسلام؛ لكون الجحود في الباطن مخرجاًله عن كونه من أهل التّسليم الحقيقي، وإن كان نفي الاسلام عنه في الظّاهر محرّماً لقوله تعا: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً «(1)».

والحاصل أنّ القول بعدم الخلاف في اعتبار الامور الثّلاثة في الإسلام كاشف عن عدم الاطلاع عَلى الامور أو التقصير في العثور، [و] كيف لايكون كذلِك وقد قال اللَّه تعا: وَمَنْ يُؤمنْ باللَّهِ يَهْدِ قلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَي ءٍ عَليمٌ «(2)»

حيث نسب ا G داية إليه بالقلب مؤكداً بكون اللَّه عا X اً بكل ا فيات الّ م y ا ما هو ثابت القلب.

هذا مضافاً إلى دلالة لفظ الإسلام المأخوذ من التّسليم في ذلِك؛ فإنّ التّسليم يحدث أوّلًا في القلب، ثم يتبعه الجوارح، و اللسان يتبعه بالإظهار وساير الجوارح بالعمل، وهذا واضح عند المنصف لا عند المعاند المعتسف.

قل لمن يرشد أعلام الهدى أنت لا تعرف حقّاً مسلما

كيف تَرجوأن تكون مهتدي «(3)» أنت كفّرت بجهل مسلما


1- - سورة النساء: الآية 94.
2- - سورة التغابن: الآية 11 وفي الأصل: وهو بدلًا من: واللَّه. والصحيح ما ذكرناه.
3- - كذا.

ص:161

ثم قال: «فإن أخلّ بشي ء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التّوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما. وهذا يغلط فيه كثير من النّاس يقولون: هذا حقّ، تفهم هذا أنّه الحقّ، ولكن لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلّامن وافقهم، وغير ذلِك من الأعذار ولم يدر المسلمين «(1)» أنّ غالب أئمة الكفر يعرفون الحقّ ولم يتركوه إلّا لشي ء من الأعذار كما قال اللَّه تعالى: اشتروا بآيات اللَّه ثمناً قليلًا «(2)»

وغير ذلِك من الآيات كقوله تعالى: يعرفونه كما يعرفون أبنائهم «(3)»

انتهي محلّ الحاجة.

أقول: قد تبيّن ممّا قدمنا أنّ الاسلام هو الاعتقاد القلبي الحقيقي بشرط عدم الجحود الظّاهري؛ لأنّ الجحود يناقض التسليم، والتسليم بلا جحود ظاهري «(4)» لا يناقض فعل ما لا ينافي التسّليم؛ فإنّ ترك الصلاة معتذراً بأنّه صعب عَلى فعله مع التسّليم بوجوبه به، وكون تركها موجباً للفسق والمخالفة للشريعة غير مناف للإسلام؛ إذ قبول وجوبه والالتزام بكون تركه موجباً للفسق


1- - كذا في الأصل، والصواب: المسلمون.
2- - سورة التوبة: الآية 9.
3- - سورة ص: الآية 76.
4- - في الأصل: الظاهري، والصواب ما أثبتناه.

ص:162

ومخالفة للشرع بنفسه تسليم للحقّ، و مطلق العصيان لا يوجب الكفر، وإطلاقه عَلى ترك بعض الواجبات الفرعية كالزّكاة والحجّ مبالغة في لزوم الاهتمام به وإطلاق مجازيّ للفظ الكفر بقرينة مقاليّة أو مقامية، وكفر فرعون وإبليس مع الاعتقاد القلبي بالتّوحيد لا الجحود الظاهري، أمّا جحود فرعون فظاهر، وأمّا جحود إبليس فلإنكاره علم الحقّ بكونه خيراً من آدم، أو كون آدم خيراً منه حيث قال: أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «(1)»

فأثبت صفة النقص للَّه تعالى وهو مناف للتوحيد، واعتقاد كلما ينافي التّوحيد جحود للحقّ.

والحاصل أن كفر إبليس أيضاً ليس لأجل ترك السّجدة، بل لأجل جحود الحقّ وإثبات الجهل للَّه تعالى، تعالى اللَّه عن ذلِك علواً كبيراً.

ثم إنّ الاعتذار عن ترك ا لعمل بالأعذار الّتي أشار إليه [ا] في كلماته، كيف يمكن أن يكون اعتذاراً مجوزاً لترك العمل إلّاأن يريدوا من تلك المعاذير إثبات الإكراه والاضطرار إلى ترك العمل مع أنّ مطلق الترك ليس موجباً للكفر، بل ربمّا يكون مؤكداً


1- - سورة الاعراف: الآية 12.

ص:163

للتوحيد، كما يدل عليه ما ورد في الدّعاء: «إلهي لم أعصكَ «(1)»

حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك «(2)» مستخف، ولا «(3)» لوعيدك متهاون، لكن خطيئة «(4)» عرضت «(5)»، وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي «(6)»، وأعانني عليها «(7)» شقوتي، فقرّني سترك المرّخى «(8)» عليّ» «(9)»

إلى غير ذلِك ممّا ورد في هذا المعنى.

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك أنّ قياس من ترك العمل بالفروع معتذراً ببعض المعاذير الغير المنافية للإسلام بالمعاذير المعتذر بها أئمة الكفر قياس مع الفارق وتفريع غير لائق.

ثم إنّ استدلال هذا القائل عَلى اعتذار أئمة الكفر بالمعاذير بقوله تعالى: اشتروا بآيات اللَّه ثمناً قليلًا «(10)»

وإن كان قابلًا


1- - في الأصل: لم أعصيك والصحيح ما ذكرناه.
2- - في الأصل: أمرك والصحيح ما ذكرناه.
3- - في الأصل: ولو لوعيدك، والصحيح ماأثبتناه.
4- - في الأصل: ولكن بليّة والصحيح ما ذكرناه.
5- - في الأصل: عرضت لي، والصحيح ما ذكرناه.
6- - ساقط من الأصل، والصحيح ما ذكرناه.
7- - في الأصل: وأعانتني، والصحيح ما ذكرناه.
8- - في الأصل: فقرني ... الرخي، والصحيح ما ذكرناه.
9- - راجع دعاء أبو حمزة الثمالي في مفاتيح الجنان.
10- - سورة البقرة: الآية 146.

ص:164

للمناقشة، لكن لا يخلو عن مناصبة.

أمّا استدلاله واستشهاده بقوله تعالى: يعرفونه كما يعرفون أبناءهم «(1)»

فلم نفهم وجهه، بل لا يصحّ، فإنّ الآية في مقام بيان حال منكري «(2)» رسالة خاتم النبييّن صلى الله عليه و آله بإنكار العلامات الّتي عيّنها الانبياء المبشرين بظهوره وقدومه.

فان قلت استشهاده بهذه الآية بملاحظة أنهّم معتذرون لعدم إيمانهم بعدم ثبوت العلائم عندهم، فيعتذرون لعدم الإيمان بعدم انطباق العلائم فالاستشهاد في محلّه.

قلت: ظاهر كلام القائل أنّ التاركين للعمل عَلى طبق الاعتقاد القلبيّ اللازم في حصول الإسلام يعتذرون باعتذارات كما يعتذرون أئمة الكفر باعتذارات، والمناسبات لذلِك أن يكون اعتذارهم عن ترك العمل بالجوارح لا الاعتذار عن ترك الإيمان بنفس ما اعتقدوه حقّاً لصدق العلائم، وكيف كان [ف] هذه المقالات


1- - سورة البقرة: الآية 146.
2- - في الأصل: منكرين، والصحيح ما أثبتناه.

ص:165

غير دالة عَلى اعتبار العمل بالأركان في حقيقة الإسلام؛ بحيث لو فرضنا ترك العمل به يكون خروجاً عن الإسلام، و إن سلّمنا أن ترك العمل كان موجباً للكفر؛ فارتباط هذا المطلب بكون المستشفعين بالأنبياء والأولياء، واحترام قبورهم مشركين وداعين «(1)» للَّه لغيره ومشاركين في عبادة اللَّه أحداً غير معلوم، بل المعلوم عدمه.

وكأنّ القائل لهذا الكلام عدل عن تلك المسألة ويريد بهذه المقالات إثبات كفر المسلمين من حيث ترك الأعمال، وبعبارة اخرى: يريد بهذا البيان تكفير تمام المسلمين بالعصيان وترك الأعمال الرّاجعة عليهم، ولازم هذا الكلام يرجع إلى تزهيد تمام الوهّابية وكونهم موحدّين ومسلمين لعدم استشفاعهم بالأنبياء والأولياء، وكونهم عاملين بما أوجب اللَّه عَلى المسلمين من غير أن يصدر منهم ترك واجب أصلًا.

وأنت خبير بأنّ ذلِك إعجاب بالنّفس، وتزهيد أكيد، وهو ممّا لم يجترئ عليه الأنبياء كما يدّل عليه قوله تعالى- حكاية عن يوسف عليه السلام: وما ابرّئُ نفسي إنّ النفس لأمّارةٌ «(2)» بالسّوء إلّاما رَحِمَ ربي «(3)»

ولا يتكلم به إلّاا تال الفخور، ومن يكون مثل إبليس جسور، فيليق أن يقال حقّه:

أيّها المغرور استغفر اللَّه تعالى من قول الزّور:


1- - في الأصل: مشركون وداعون ... ومشاركون، والصحيح ما أثبتناه.
2- - في الأصل: أمّارة، والصحيح ما أثبتناه.
3- - سورة يوسف: الآية 53.

ص:166

إلى مَ تحبّ السالكين سبيلا حميداً عزيزاً في الأنام ذليلا «(1)»

أقمت بتمويه دلائل باطله ولا تحسبنّ ما في العقول دليلا

في وجوب الاعتقاد القلبي بالاسلام

] ثم قال القائل: «فإن عمل بالتّوحيد عملًا ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلب فهو منافق، وهو شّر من الكافر الخالص كما قال اللَّه تعالى: إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار «(2)»

وهذه المسألة مسألة طويلة يتبينّ لك إذا تامّلتها في ألسنة النّاس ترى من يعرف الحقّ ويترك العمل لخوف نقص دنيا أو مداراة، وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً». انتهى محلّ الحاجة.

أقول حاصل مقاله أنّ من لم يعتقد الإسلام بقلبه، لكنه في الظاهر يعمل به فهو شرّ من الكافر، ومن اعتقد به في قلبه لكنّه ترك العمل به لأمر دنيويّ أو لمداراة النّاس وكأنه يريد بذلك انقسام الناس بين قسمين: كافر؛ وهو يعتقد ولا يعمل به لعذر أو مداراة أو نقص مال أو غيره، ومنافق؛ وهو الّذي يعمل


1- - كذا.
2- - سورة النساء: الآية 145.

ص:167

ظاهراً لا باطناً، ويقصد إثبات كون الوهّابية بين كافر ومنافق، ولكنّك قد عرفت أنّ الحصر غير حاصر، والمعجب بالنفس قاصر ومكابر.

ثم قال القائل: «ولكن عليك بفهم آيتين في كتاب اللَّه؛ وهما ما تقدّم من قوله: لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم «(1)» فإذا تحقّقتَ أن بعض الصّحابة الّذين غزوا الروم مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كفروا بسبب كلمة قالوها عَلى وجه المزاح، تبيّن أنّ من يتكلم بالكفر ويعمل به خوفاً من نقص مال أو جاه أو مداراة أحد- أعظم ممّن تكلّم بكلمة بخرج بها» انتهى محلّ الحاجة.

وخلاصة مقاله: أنّ الاعتذار عن الكفر بعد الإيمان غير مفيد، ولا يصلح لرفع الكفر، والدليل عليه أنّ كلمة الخراج إذا أوجبت الكفر عَلى ما عرفت سابقاً فكلمة الكفر بطريق أولى، وإذا تحقّق أنّ الاعتذار لا ينفع في رفع الكفر، فتحقّق كفر غير الوهّابية الذين يقولون ما هو في الواقع كلمة الكفر واعتذارهم بما يعتذرون ليس رافعاً لكفرهم.

هذا خلاصة مقصوده، ونهاية ما كمن في وجوههم وضمره طبع حسودهم «(2)».


1- - سورة التوبة: الآية 66، وفي الأصل: فقد.
2- - كذا.

ص:168

وأنت بعد التّأمّل فيما ذكرنا سابقاً وآنفاً تعلم أنّ كلّ هذه المقالات وجولان الخيالات موجبات إغفال الجهال، وتمويهات عَلى ضعفاء العقول والأطفال، [و] كيف لا يكون كذلك مع أنّ حصول الكفر ببعض الكلمات المشعرة بإنكار ما يجب في الاسلام الاعتقاد من المسلّمات، وكذلِك المزح المتضمّن للاستهزاء باللَّه ورسوله من المكفّرات، لكنّ الشأن في تطبيق ذلِك عَلى المستشفعين بالأنبياء والأولياء وقبورهم عند حلول مايحوجهم إلى الالتجاء والمسألة عن اللَّه في قضاء حوائجهم ورفعه عنهم البليّات، وذلِك أصعب عَلى من أدّعاه من خرط القتاد، والصعود عَلى السماوات، فينبغي أن يقال له:

يا سالكٌ مسلك ذي الحقودِ دَعْ عنك هذا المسلكِ المردودِ

تزعُم بأنّ هذه الخرافات ترفعك المنازل المسعودِ

هيهات أن تنفعك الخرافات سوى البعاد عن رضى المعبودِ

نعم أراك في جوى مضيق تحرق بنار محرق ... «(1)»


1- - كذا الأبيات، والكلمة الأخيرة غير واضحة في الأصل.

ص:169

ثم قال القائل: «والآية الثانية قوله تعالى: من كفر باللَّه من بعد إيمانه إلّامن اكره وقلبه مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن من شرحَ اللَّه بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من اللَّه ولهم عذابٌ عظيم «(1)»

إلى قوله: الكافرين فلم يعذر اللَّه من أولئك إلّامن اكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان، وأمّا غيره فقد كفر بعد إيمانه؛ سواء فعله خوفاً، أو مداراة، أو محنّة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله أو قوله عَلى وجه المزاح أو غير ذلِك من الأغراض إلّاالمكره» انتهى.

أقول: تتمة الآية الّتي لم يذكرها وذكر آخرها هي قوله تعالى:

ذلِك بأنهم استحبوا الحياة الدّنيا عَلى الآخرة وأنّ اللَّه لا يهدي القوم الكافرين «(2)»

وخلاصة مرامه في هذه الجملة من كلامه: أنّ الإكراه عَلى ترك الأعمال مع اطمينان القلب والبال بالإيمان غير مضر بالإيمان، وما سوى ذلِك مضرّ للإيمان، ومدخل للانسان في الكفر بعد الايمان، ونتيجة ذلِك أنّ غير الوهّابية كلّهم غير مكرهين على ترك الأعمال، ومستحبيّ الحياة الدّنيا عَلى الآخرة، فهم كفّار أعدّ اللَّه لهم ما أعدّه، واستدلّ عليه بالآيتين.

توضيح ذلِك أنّ الكلام من أوّل افتتاحه كان متعلّقاً بكون


1- - سورة النحل: الآية 106.
2- - سورة النحل: الآية 107.

ص:170

الاستشفاع بالأنبياء والأولياء وقبورهم دعوة لغير اللَّه، فيكون شركاً وكفراً، ومن المعلوم أنّ هذا الكلام لا ربط له بمسألة اعتبار العمل في الاسلام، والاستدلال بكون ترك الأعمال بغير الإكراه كفراً لا ربط له بتلك المسألة، والاستدلال لذلِك بالآيتين أيضاً لا يفيد مطلوبه؛ لأنّ مجرّد إطلاق الكفر عَلى من ترك واجباً أو فعل محرّماً ليس مفاده هو الشّرك المنافي للتوحيد وتحقّق الإسلام، وإطلاق الكفر عَلى الفسق ليس أمراً منكراً، واستحقاق العذاب كما يكون بالكفر يكون بالفسق والعصيان.

والحاصل: خلط مسألة كون الاستشفاع بالأنبياء والأولياء و قبورهم والا لتجاء لهم- شركاً ودعوة لغير اللَّه بترك الأعمال اللازم من فعله في الإسلام من الجهل أو التجاهل أو الإغفال للجهال ... «(1)» والتطاول، هذا مع أنّ الآية وإن دلّت على انحصار عدم الضرر بالإيمان بترك العمل بالإكراه، لكن يرفع الانحصار ما هو المشهور من قول النبيّ صلى الله عليه و آله «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنّسيان، وما لايعلمون، وما استكرهوا عليه، وما اضطروا إليه ...» «(2)»

وتفصيل هذه الامور في محلّه، والمقصود هنا التّنبيه عَلى عدم الانحصار، وإلاشارة إلى بطلان ما يقول به القائل من الاقتصار.


1- - غير واضح في الأصل.
2- - الخصال ص 417 و التّوحيد ص 353.

ص:171

يا مَنْ أرى نصيبك المقدرا ليس سوى بيانك المكرّرا

لا تزعمن ينفعك التكرار من صحّة القول فكن مضفّرا

بصحّة القول ورأى جيّد تملك من حظ الامور الأوفرا

ثم قال القائل: «والآية تدلّ عَلى هذا من وجهين:

الأُولى: قوله: إلّامن اكره فلم يستثن إلّاالمكره، ومعلوم أنّ الإنسان لا يكره إلّاعَلى الكلام والفعل، وأمّا عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد.

الثانية: قوله: ذلِك بأنهم استحبّوا الحياة الدّنيا عَلى الآخرة فصرّح بأنّ الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد والجهل والبغض للدين، ومحبّة الكفر ... «(1)» أنّ له في ذلِك حظّاً من حظوظ الدنيا فآثره، واللَّه تعالى أعلم، وصلّى اللَّه عَلى محمّد وآله وسلّم».

أقول: خلاصة كلامه تقريب استدلاله عَلى مطلبه بالآية الثانية من حيث حصر الشي ء الّذي لا يضرّ بالإيمان الإكراه عَلى


1- - غير واضح في الأصل.

ص:172

فعل أو كلام يخالف أمر الدين، فترك ما يجب عَلى المسلم إن لم يكن بالإكراه موجب للكفر، ومن حيث إنّ السبب في ذلِك محبّة الدّنيا، واختيارها وترجيحها عَلى الآخرة.

وأنت إذا تأمّلت فيما ذكرنا آنفاً تعرف أنّ فيها تكرار الكلام السابق وإظهار لأمر ظاهر عند أولي الألباب والخواطر، لكنه خلط للمبحث من حيث إنّ الكلام المنعقد له الاستدلال في أوّل الأمر كان في إثبات كون الاستشفاع بقبور الأنبياء والدّعوة عندها كفراً وشركاً، وهذه الكلمات لا مساس لها بذلِك المطلب، فإن أجابه بأنّ ذلِك الكلام كان لإثبات الكفر لهؤلاء الجماعة من جهة الاستشفاع، وهذا الكلام لإثبات الكفر لهم بترك العمل بغير الإكراه نقول في جوابه:

إنّ هذا الكلام ينافي تسمية هؤلاء الجماعة مشركي زمانهم؛ فإنّ الكفر الّذي يحصل بترك العمل لا يوجب الشّرك الّذي كان يوجبه الاستشفاع؛ لعدم كون ذلِك دعوة لغير الحقّ، وقد عرفت أنّ إطلاق الكفر عَلى ترك ما يجب من الفروع مجاز ومتساهل، مضافاً إلى أنّ إثبات الكفر والشّرك للمستشفعين بالأنبياء والأولياء وقبورهم بالأدلة المثبتة لها عليهم مغن عن إثبات الكفر بترك الفروع بغير إكراه، فلم يكن له حاجة إلى تطويل الكلام بأزيد ما ليس إليه حاجة في المقام، والاستدلال بدليل أضعف ممّا

ص:173

أقامه أولًا في العوام والاستحكام وهو خارج عن مسلك أهل السّداد حتّى العوام.

ويل لمن جعل الإضلال إسلاما والانهماك بقتل النفس إلزاما

..... «(1)» بل من يخالف كلامه الأعداما

خاتمة المؤلّف

ولنختم الكلام ببيان نتيجة مقالات هذا «(2)» المضلّ الأضل من الأنعام، فإنّ مراده من هذه التمويهات والمفتريات والإغفال والسفسطة في المقال لإضلال الجهال تحريضهم عَلى طلب الدنيا بعنوان الإسلام والديانة، وتشجيعهم عَلى هتك المشاهد المشرّفة والمعظمات بالنهب والغصب، والخيانة باسم الإسلاميّة والديانة، وحيازة الثروة والرياسة، بل السلطة الجائرة المستقلة بعنوان ... «(3)» الإسلام والدين بالإعانة، وغير


1- - غير واضح في الأصل، والابيات من أوّل الكتاب- كما ذكرنا- أكثرها غير متّسقة الوزن، وقد أصلحنا ما يمكن إصلاحه منها ممّا هو مخالف لقواعد العربية وأشرنا إلى أصله، وما لم يمكن إصلاحه فقد أبقيناه عَلى حاله.
2- - في الأصل: هذه، والصحيح ما أثبتناه.
3- - غير واضح في الأصل.

ص:174

خفيّ عَلى قاطبة المسلمين باختلاف مشاربهم ومذاهبهم أنّ الإقدام على هذا الأمر الفضيع إهانة ومهانة وخروج عن الإسلام بإنكار الضروري لما هو من الاسلام والدين كالأسطوانة، وإفساد في الأرض، وإخلال بنظام فاعلية كافّة البشر من تعظيم مشاهدهم ومعظّماتهم بالإهانة، فهم- بارتدادهم لإنكار ضروري الدين- كفّار مهدورو «(1)» الدّم ومهتوكو الاحترام، وبإفسادهم في الأرض واجبو القتل والإعدام، وهذا حكمهم في شرع الإسلام وحكم العقلاء بدفع «(2)» الفساد؛ لبقاء النظام، ودفع هذه الكريهة العظيمة المتضمنة للعواقب الوخيمة لازم على قاطبة الأنام وعلى من اتبع الهدى السّلام، والحمد للَّه أولًا وآخراً.

وقد فرغت من تسويد هذه الأوراق في الثاني والعشرين من ذي الحجّة سنة 1343 ه.


1- - في الأصل: مهدور و مهتوك وواجب، والصحيح ما أثبتناه.
2- - في الأصل: رفع والأنسب ما أثبتناه.

ص:175

خاتمة التحقيق

نسأل اللَّه تعالى أن يتقبّل أعمالنا ويجعلها خالصة لوجهه الكريم ويمنّ علينا بدولة كريمة يعزّ بها الإسلام وأهله، ويذلّ بها النفاق وأهله، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين وصلّى اللَّه عَلى محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

تم الفراغ من تصحيحه وتحقيقه يوم الخميس 20/ شعبان/ 1419 ه

نعمان النصري

ص:176

مصادر التحقيق

1- القرآن الكريم.

2- أغاني الأغاني، ط 3، سنة 1993.

3- الأمالي للشيخ الصدوق.

4- بحار الأنوار للعلّامة المجلسي.

5- التوحيد للشيخ الصدوق.

6- الخصال للشيخ الصدوق.

7- الدرّ المنثور للسيوطي.

8- سيرة ابن هشام.

9- الصراط المستقيم.

10- الكافي للشيخ الكليني.

11- علل الشرائع.

12- كشف الغمّة.

13- كنز العمّال للمتّقي الهندي.

14- مجمع البيان للشيخ الطبرسي، ط دار المعرفة، بيروت.

15- مسند أحمد.

16- مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي.

ص:177

فهرست الآيات

الآية السورة رقم الآية الصفحة اجعل لنا إلهاً كما ...-- الاعراف-- 138-- 50، 52- 53، 124 ادعوني استجب لكم-- غافر-- 60-- 155 ارأيت الذي ينهى عبداً ...-- العلق-- 9- 10-- 141 اشتروا بآيات اللَّه ثمناًقليلًا ...-- التوبة-- 9-- 161- 163 الذين آمنوا و الذين هادوا ...-- البقرة-- 62-- 63 الذين ينفقون أموالهم بالليل ...-- البقرة-- 274-- 64 الذين ينفقون أموالهم في سبيل ...-- البقرة-- 262-- 63- 64 الراكعون الساجدون الآمرون ...-- التوبة-- 112-- 26

ص:178

الآية السورة رقم الآية الصفحة المساجد للَّه فلاتدعوا مع ...-- الجن-- 18-- 85 إن الذين يكفرون باللَّه ...-- النساء-- 150- 151-- 111 إن اللَّه لا يغفر أن يشرك به ...-- النساء-- 116-- 50 إنّ اللَّه وملائكته يصلّون على النبيّ ...-- الاحزاب-- 56-- 82، 86- 87، 149 إنّ المنافقين في الدرك ...-- النساء-- 145-- 166 إنكم قوم تجهلون إنّ ...-- الأعراف-- 138- 139-- 125- 126 إنكم و ما تعبدون من دون ...-- الانبياء-- 98-- 100- 101 إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً-- النساء-- 76-- 54 انّما جزاء الذين يحاربون اللَّه ...-- المائدة-- 33-- 117 إننا لفي شك مما تدعونا ...-- هود-- 62-- 48 أإله مع اللَّه تعالى اللَّه ...-- النمل-- 63-- 60

ص:179

الآية السورة رقم الآية الصفحة أباللَّه وآياته ورسوله ...-- التوبة-- 74-- 122 أتنهانا أن نعبد ما ...-- هود-- 62-- 92 أحياء عند ربّهم يرزقون-- آل عمران-- 169-- 155 أشدّ كفراً-- التوبة-- 97-- 105 أغير اللَّه أبغيكم ربّاً ...-- الأعراف-- 140-- 126 أفتؤمنون ببعض الكتاب ...-- البقرة-- 85-- 113 ألا إنّ أولياء اللَّه لا خوف ...-- يونس-- 62-- 57، 62، 100 ألم تر أن الفلك تجري ...-- لقمان-- 31- 32-- 108 أم اتخذوا من دون اللَّه ...-- الزمر-- 43- 44-- 83 أنا خير منه خلقتني ...-- الأعراف-- 12-- 162 أنفسَنا-- آل عمران-- 61-- 45 أولئك الذين يدعون يبتغون ...-- الإسراء-- 57-- 68 امشوا واصبروا على آلهتكم-- ص-- 6- 7-- 43 بسم اللَّه الرحمن الرحيم-- الفاتحة واول كل سورة-- 1-- 23

ص:180

الآية السورة رقم الآية الصفحة بلى من أسلم وجهه ...-- البقرة-- 112-- 63 تبياناً لكل شي ء وهدى ...-- النحل-- 89-- 55 توفّني مسلماً وألحقني بالصالحين ...-- آل عمران-- 17-- 52 ثمّ كانت عاقبة الذين ...-- الروم-- 10-- 66- 67 ذلك بأنهم استحبّوا الحياة ...-- النحل-- 107-- 169، 171 ربّ اشرح لي صدري ...-- طه-- 25- 28-- 21 شديد القوى النجم-- 5-- 153 فاستغاثه الذي من شيعته ...-- القصص-- 15-- 137 فالحكم للَّه العلي-- غافر-- 12-- 135 فأذن لمن شئت منهم ...-- النور-- 62-- 33 فتلقّى آدم من ربّه ...-- البقرة-- 37-- 86 فتلقّى آدم من ربّه ...-- البقرة-- 37-- 146 فصلّ لربّك وانحر-- الكوثر-- 2-- 75، 76 فلا تدعوا مع اللَّه أحداً-- الجن 18-- 35 فلا تدعوا مع اللَّه أحداً-- الجنّ-- 18-- 136

ص:181

الآية السورة رقم الآية الصفحة فلمّا جاءتهم رسلهم بالبينات ...-- غافر-- 83-- 54 فمن تبع هداي فلا ...-- البقرة-- 38-- 63 في بيوت أذن اللَّه أن ترفع ...-- النور-- 36- 37-- 45، 142 قل ادعوا الذين زعمتم ...-- الاسراء-- 56-- 71 قل أتنبئون اللَّه بما لا يعلم في ...-- يونس 4018 قل أرأيتم إن أتاكم عذاب ...-- الانعام 40-- 103 قل بفضل اللَّه ورحمته فبذلك ...-- يونس 58-- 50 قل للَّه الشفاعة جميعاً-- الزمر-- 44-- 33، 80، 83 قل لمن الأرض ومن ...-- المؤمنون-- 84- 85-- 24، 25 قل من بيده ملكوت ...-- المؤمنون-- 88- 89-- 24- 25 قل من يرزقكم من السماء والأرض ...-- يونس-- 31-- 24 قل هو اللَّه أحد ...-- الاخلاص-- 1- 2-- 97 كذلك يطبع اللَّه على قلوب ...-- الروم-- 59-- 116

ص:182

الآية السورة رقم الآية الصفحة كل حزب بما لديهم فرحون ...-- المؤمنون والروم-- 53، 32-- 52 لا تسجدوا للشمس ولا للقمر-- فصلت-- 37-- 59 لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ...-- التوبة-- 66-- 167 لا تنفع الشفاعة عنده إلّا ...-- سبأ-- 23-- 66 لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم-- الأعراف-- 16-- 54 لا يقدر على شي ء وهو ...-- النحل-- 76-- 145 لا يملكون شيئاً-- الزمر-- 43-- 92 لم يلد ولم يولد-- الاخلاص-- 3-- 97 له دعوة الحق والذين ...-- الرعد-- 14-- 35 له من في السموات والأرض ...-- الروم-- 26-- 26 ليس كمثله شي ءالشورى 11-- 59 ليعبدوا اللَّه مخلصين ...-- البيّنة-- 5-- 59 ما اتخذ اللَّه من ولد ...-- المؤمنون-- 91-- 97

ص:183

الآية السورة رقم الآية الصفحة ما المسيح بن مريم وامّه إلّا ...-- المائدة-- 75-- 68 ما نعبدهم إلّا ليقربونا ...-- الزمر-- 3-- 69، 73، 88، 91، 92، 98 محمد رسول اللَّه-- الفتح-- 29-- 117 من ذا الذي يشفع عنده ...-- البقرة-- 255-- 39، 65، 80 من كفر باللَّه من بعد إيمانه ...-- النحل-- 106-- 169، 171 هو الذي أنزل عليك الكتاب ...-- آل عمران-- 7-- 57، 60 هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه ...-- يونس 18-- 35، 52، 58، 60، 69، 73، 88، 98، 152 وابتغوا إليه الوسيلة-- المائدة-- 35-- 34

ص:184

الآية السورة رقم الآية الصفحة وإذا سألك عبادي عنّي ...-- البقرة-- 186-- 156، 158 وإذا غشيهم موج كالظُلل ...-- لقمان 32-- 103،- 108 وإذا مسّ الانسانَ ضرٌّ ...-- الزمر-- 8-- 103، 107 وإذا مسّكم الضرّ في البحر ...-- الاسراء-- 67-- 103، 105 واستغفر لذنبك وللمؤمنين ... محمد صلى الله عليه و آله 19-- 33- 34 والذين آمنوا واتبعتهم ...-- الطور-- 21-- 34 واللَّه يهدي من يشاء الى صراط مستقيم-- النور-- 46-- 118 وإن جندنا لهم الغالبون-- الصافات-- 173-- 54 وإن من شي ء إلّايسبّح ...-- الاسراء-- 44-- 25- 26 و تنسون ما تشركون-- الانعام-- 41-- 106 وجحدوا بها واستيقنتها ...-- النمل-- 14-- 56 وجعلوا للَّه شركاء الجنّ-- الانعام-- 100-- 97 وخاتم النبيين-- الاحزاب-- 40-- 117

ص:185

الآية السورة رقم الآية الصفحة وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ...-- الشعراء-- 227-- 50 وقالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً ...-- ص-- 5-- 43، 48، 49، 95، 112 وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً ...-- الانعام-- 112 53- 54 ولا تحسبن الذين قُتلوا ...-- آل عمران-- 169- 170-- 102، 147- 148 ولا تقولوا لمن ألقى إليكم ...-- النساء-- 94-- 160 ولا يأتونك بمثل إلّا ...-- الفرقان-- 33-- 55 ولا يشفعون إلّالمن ارتضى-- الانبياء-- 28-- 39، 66، 81، 84 وللَّه الأسماء الحسنى فادعوه ...-- الأعراف-- 180-- 146 وللَّه على الناس حجّ البيت ...-- آل عمران-- 97-- 111 وللَّه يسجد من في السموات ...-- الرعد-- 13-- 26

ص:186

الآية السورة رقم الآية الصفحة وما ابرّئ نفسي إنّ النفس ...-- يوسف-- 53-- 165 وما يلقّاها إلّاالّذين صبروا ...-- فصّلت-- 35-- 58 ومن يتبع غير الإسلام ...-- آل عمران-- 85-- 81 ومن يطع اللَّه والرسول ...-- النساء-- 69-- 113 ومن يؤمن باللَّه يهدِ قلبه ...-- التغابن-- 11-- 160 وهو يجير ولا يجار عليه ...-- المؤمنون-- 88-- 48 ويعبدون من دون اللَّه ...-- يونس-- 18-- 38، 74 ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ ...-- الانعام-- 22-- 68 يا ايها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق ...-- الحجرات-- 6-- 129 يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في ...-- النساء-- 94-- 128 يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللَّه ...-- الأحزاب 41- 42-- 141 يا صالح قد كنت فينا مرجوّاً ... هود-- 62-- 43

ص:187

الآية السورة رقم الآية الصفحة يا قوم اعبدوا اللَّه ما لكم ...-- هود-- 61-- 43 يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ...-- ص-- 76-- 161- 164 يقولون كلّ من عند ربنا-- آل عمران-- 7-- 61

ص:188

فهرست الروايات

إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه ... 57

انّه صلى الله عليه و آله سأل لمّا قرأ ... 45

إنّي تارك فيكم الثقلين ... 66

أسمع صلاة أهل محبّتي ... 149

أقتلته بعدما قال لا إله إلّااللَّه ... 127، 129، 133، 134

أمّا إليك فلا ... 153، 158

أمرت أن أقاتل الناس حتّى ... 127، 129، 130، 135

أينما لقيتموهم فاقتلوهم ... 129

بين قبري ومنبري روضة ... 145

حلال محمد حلال إلى يوم ... 117

خلقتم للبقاء لا للفناء 148

رجعتم وقضيتم الجهاد ... 148

ص:189

رفع عن امّتي تسعة ... 170

قولوا لا إله إلّااللَّه ... 49

لا نبيّ بعدي 117

ما منّا إلّامن هو مقتول أو مسموم 148

من فسّر القرآن برأيه ... 96

هل شققت قلبه ... 133

يا رسول اللَّه اجعل لنا ذات أنواط ... 124

ص:190

فهرست الزيارات والأدعية

السلام على أهل لا إله إلّااللَّه 150

السلام عليك أيها النبيّ ... 150

السلام عليكم يا أهل الديار من ... 150

اللهم انّي أتقرب إليك بذكرك ... 43، 82

اللهم بمحمد صلى الله عليه و آله وأنت المحمود ... 86

الهي لم أعصك حين عصيتك وأنا ... 163

إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ... 26

وتقبّل شفاعته وارفع درجته 82

يا أهل بيت النبوّة ... 65

يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لنا ... 82

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.