الرد على الفتاوى المتطرفة

اشارة

نام كتاب:الرد على الفتاوى المتطرفة( في خطبة الجمعة لصلاح البدير)

نام مؤلف:على الكوراني

ناشر: مشعر

موضوع:حج

زبان:عربى

تعداد جلد:1

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

مقدمة

الحمد للَّه ربّ العالمين وأفضل الصلاة وأتمّ السلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.

في خطبة الجمعة من موسم الحجّ لعام 1422 ه. تناول خطيب المسجد النبوي الشيخ صلاح البدير أموراً ومواضيع، وأصدر فيها أحكاماً مخالفةً لما أجمع عليه المسلمون وما أفتى به أئمّة المذاهب الإسلاميّة.

وقد تضمّنت خطبته اتّهاماً للمسلمين بالضلال والشرك، وهو أمر خطير يفتّ في عضدهم، ويقوّض وحدتهم في وقت نحن أحوج فيه إلى تقوية وحدة الأمّة الإسلاميّة ورصّ صفوفها.

لذلك اضطررنا إلى الردّ على هذا الخطيب الذي كان عليه أن يرحّب بحجّاج بيت اللَّه تعالى وزوّار قبر نبيّه صلى الله عليه و آله ويبيّن لهم ما اتفقت عليه مذاهبهم من تعظيم حرم اللَّه تعالى وحرم رسوله الأمين صلى الله عليه و آله ويرغّبهم في أداء حجّهم وزيارتهم، بهدوء الخاشعين وتحابّ المؤمنين.

لكنه بدل ذلك جعل خطبته منبراً لأفكاره الخاصّة المتطرفة، وشنَ

ص: 6

هجوماً خشناً على الذين يخالفون رأيه، وهم كل المسلمين بكل مذاهبهم، واتهمهم بالشرك والكفر والضلال!

وهذه التهم لايناسب أن تصدر من رجل عادي في مكان عادي، فكيف بخطيب من على منبر المسجد النبوي الشريف؟!

وفيما يلي رد مقولاته الباطلة وتهمه الظالمة، ضمن عشر مسائل وخاتمة،

واللَّه ولي التوفيق والقبول.

ص: 7

خطبة البدير

نص خطبة صلاة الجمعة للشيخ صلاح بن محمد البدير

في المسجد النبوي الشريف في موسم حج سنة 1422

الخطبة الأولى

إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لاشريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً. يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللَّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيراً ونساءً واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام إن اللَّه كان عليكم رقيبا. يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللَّه وقولوا قولًا سديداً. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع اللَّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما.

أما بعد،

فيا أيها المسلمون الوافدون لطابة! قدمتم خير مقدم، وغنمتم خير مغنم، وطاب في طيبة بقاؤكم، وتقبل اللَّه صالح أعمالكم، وبلغكم خير آمالكم، حييتم في دار الهجرة والنصرة، بلد المصطفى المختار، ومهاجر الصحابة الأخيار، وديار الأنصار، فأنتم في هذه البلاد بلاد الحرمين وخادمة المسجدين العظيمين، بين أهليكم وذويكم ومحبيكم، خدمتكم شرفها، وراحتكم مطلبها، والقيام بما تحتاجون وظيفتها وواجبها، والديار دياركم، والبلاد بلادكم.

ص: 8

أيها الوافدون لطابة! إنكم في بلد هي بعد مكة خير البقاع، وأشرف الأماكن والأصقاع، فاعرفوا حقها، واقدروا قدرها، وراعوا حرمتها وقداستها، وتأدبوا فيها بأحسن الآداب. واعلموا أن اللَّه توعد من أحدث فيها بأشد العذاب.

فعن أبي هريرة (رض) عن النبي (ص) أنه قال: «المدينة حرم ما بين عير الى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلًا» متّفق عليه. ومن أتى فيها إثماً أو آوى من أتاه، وضمّه اليه وحماه، فقد عرض نفسه للعذاب المهين وغضب إله العالمين. وإن من أعظم الإحداث تكدير صفوها بإظهار البدع أرضها الطاهرة بنشر المقالات البدعية، وما يخالف الشريعة الاسلامية، بأنواع المنكرات والمحرمات، والمحدث والمؤوي له بالاسم سواء.

أيها الوافد الزائر لمسجد سيد الأوائل والأواخر! هل فقهت ما لهذه الزيارة من أحكام، هل علمت الحلال فيها من الحرام، أم أنت ممن قلد العوام واتبع الطغام، وجهل سنة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

أيها الزائر المكرم! إليك كلمات منتقاة وتوجيهات مستقاة من الكتاب والسنة ما هي إلا إشارة وإنارة، في أحكام هذه الزيارة، وبالكتاب والسنة يحتمي المسلم من ضلال الضلال، وجهالة الجهال، وبدع الأقوال، ومحدثات الأفعال.

أيها المسلمون! زيارة المسجد النبوي سنة من المسنونات، وليست واجباً من الواجبات، ليس لها علاقة بالحج ولا هي له من المتممات، وكل

ص: 9

ما يروى من أحاديث في إثبات علاقتها وعلاقة زيارة قبر المصطفى (ص) بالحج، فهو من الموضوعات والمكذوبات. ومن قصد بشد رحله إلى المدينة زيارة المسجد والصلاة فيه، فقصده مبرور وسعيه مشكور، ومن لم يرُم بشد رحله إلا زيارة القبور، والاستغاثة بالمقبور، فقصده محظور، وفعله منكور. فعن أبي هريرة (رض) أن رسول اللَّه (ص) قال: «لاتشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» متفق عليه. وعن جابر (رض) عن رسول اللَّه (ص) أنه قال: «إنّ خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق» أخرجه أحمد.

أيها المسلمون! الصلاة في مسجد المدينة مضاعفة الجزاء فرضاً ونفلًا في أصح قولي العلماء. يقول عليه الصلاة والسلام: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام». متفق عليه. إلا أنّ صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد، حتى ولو كانت مضاعفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «فإنّ أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة». متفق عليه.

أيها الزائر المكرم لهذا المسجد المعظم! اعلم أنه لايجوز التبرك بشي ء من أجزاء المسجد النبوي كالأعمدة، أو الجدران، أو الأبواب، أو المحاريب، أو المنبر، بالتمسح بها أو تقبيلها، كما لايجوز التبرك بالحجرة النبوية باستلامها أو تقبيلها، أو مسح الثياب بها، ولايجوز الطواف عليها، فمن فعل شيئاً من ذلك، وجب عليه التوبة وعدم العودة.

ويشرع لمن زار المسجد النبوي أن يصلي في الروضة الشريفة ركعتين أو ماشاء من النفل؛ لما ثبت فيها من الفضل. فعن أبي هريرة (رض) عن النبي (ص) قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري

ص: 10

على حوضي». متفق عليه. وعن يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آت مع سلامة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة، التي عند المصحف أي الروضة الشريفة فقلت: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ فقال:

إني رأيت النبي (ص) يتحرى الصلاة عندها. متفق عليه. والحرص على الصلاة في الروضة لايسوغ الاعتداء على الناس، أو مدافعة الضعاف، أو تخطي الرقاب.

ويشرع لزائر المدينة والساكنين بها إتيان مسجد قبا للصلاة فيه اقتداء بالمبعوث في أم القرى، وتحصيلًا لأجر العمرة بالإمترا. فعن سهل بن حنيف (رض) قال: (قال رسول اللَّه (ص): «من خرج حتى يأتي هذا المسجد يعني مسجد قبا فيصلي فيه كان له كأجر عمرة». أخرجه أحمد.

وعن ابن ماجة: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قبا وصلى فيه صلاة كان له أجر عمرة». وفي الصحيحين أن رسول اللَّه (ص) كان يأتي مسجد قبا كل سبت ماشياً وراكباً فيصلي فيه ركعتين.

أيها الزائر المكرم! لايشرع زيارة شي ء من المساجد في المدينة النبوية سوى هذين المسجدين، مسجد رسول اللَّه ومسجد قبا، ولايشرع للزائر ولغيره قصد بقاع بعينها يرجو الخير بقصدها أو التعبد عندها، لم تستحب الشريعة قصدها. وليس من المشروع تتبع مواطن أو مساجد صلى فيها رسول اللَّه (ص) أو غيره من الصحابة الكرام؛ لقصد الصلاة فيها أو التعبد بالدعاء ونحوه عندها، وهو (ص) لم يأمر بقصدها ولم يحث على زيارتها. فعن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب (رض) فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدر ناسٌ يصلون فقال: ما شأنهم؟

قالوا: هذا مسجد رسول اللَّه (ص) فابتدر الناس يصلون فيه، فقال

ص: 11

عمر (رض): يا أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض فيه صلاة... أخرجه بن أبي شيبة. ولما بلغ عمر بن الخطاب (رض) أنّ ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها النبي (ص) أمر بها فقطعت. أخرجه بن أبي شيبة.

أيها المسلمون! ويشرع لزائر المسجد النبوي من الرجال، زيارة قبر النبي (ص) وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر (رض) بالسلام عليهم والدعاء لهم. أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور في أصح قولي العلماء، لما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس (رض): أن النبي لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. ولما رواه الترمذي عن أبي هريرة (رض) أن رسول اللَّه (ص) لعن زورات القبور.

وصفة الزيارة أن يأتي الزائر القبر الشريف ويستقبله بوجهه، ويقول:

السلام عليك يا رسول اللَّه، ثم يتقدم الى يمينه قدر ذراع، فيسلم على أبي بكر ويقول: السلام عليك يا أبا بكر، ثم يتقدم قليلًا الى يمينه قدر ذراع بالسلام على عمر بن الخطاب (رض) فيقول: السلام عليك يا عمر.

فليحذر الزائر الوقوع في إحدى المخالفات التالية:

المخالفة الأولى: دعاء الرسول (ص) أو نداؤه أو الاستغاثة به، كقول بعضهم: يا رسول اللَّه اشف مريضي، يا رسول اللَّه اقض ديني، يا وسيلتي، يا باب حاجتي، أو غير ذلك من الأقوال الشركية، والأفعال البدعية، المضادة للتوحيد الذي هو حق اللَّه على العبيد.

المخالفة الثانية: الوقوف أمام القبر كهيئة المصلي بوضع اليمين على الشمال على الصدر أو تحته، وذلك فعل محرم، وإن تلك الهيئة هيئة ذل

ص: 12

وعبادة لا تجوز إلا للَّه عز وجل.

المخالفة الثالثة: الانحناء عند القبر، أو السجود، أو غير ذلك، مما لا يجوز فعله الا للَّه. ففي الحديث عن قيس بن سعد (رض) قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول اللَّه أحق أن نسجد له، فأتيت النبي (ص) فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول اللَّه أحق أن نسجد لك، فقال (ص): «أرأيت إن مررت بقبري أكنت تسجد له؟ فقلت: لا، فقال (ص): فلا تفعله». أخرجه أبو داود. وعن أنس (رض) قال: قال رسول اللَّه (ص): «لايصلح لبشر أن يسجد لبشر». أخرجه أحمد.

المخالفة الرابعة: دعاء اللَّه عند القبر، أو اعتقاد أن الدعاء عنده مستجاب، وذلك فعل محرم؛ لأنه من أسباب الشرك. ولو كان الدعاء عند القبور أو عند قبر النبي (ص) أفضل وأثوب وأحب إلى اللَّه وأجوب؛ لرغبنا فيه رسول الهدى (ص)، لأنه لم يترك شيئاً يقرب إلى الجنة إلا وحث أمته عليه، فلما لم يفعل ذلك علم أنه فعل غير مشروع، وعمل محرم وممنوع.

وقد روى أبو يعلى والحافظ الضياء في المختارة أن علي بن الحسين رضي اللَّه عنهما رأى رجلًا يجي ء إلى الفرجة كانت عند قبر النبي (ص) فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي رسول اللَّه (ص): «لاتتخذوا قبري عيداً ولابيوتكم قبوراً وصلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم».

المخالفة الخامسة: إرسال من عجز عن الوصول الى المدينة سلامه لرسول اللَّه (ص) مع بعض الزوار وقيام بعضهم بتبليغ هذا السلام، فهذا فعل مبتدع، وأمر مخترع. فيامرسل السلام ويا مبلغه: كفَّ عن ذلك، فقد

ص: 13

كفيتكما به قوله (ص): «صلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم».

وبقوله (ص): «إنّ للَّه في الأرض ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام». أخرجه أحمد.

المخالفة السادسة: التكرار والإكثار من زيارة قبره (ص) كأن تكون زيارته بعد كل فريضة، أو في كل يوم بعد فريضة بعينها، ففي هذا مخالفة لهدي النبي (ص)، وفي هذا مخالفة لقوله (ص): «لا تجعلوا قبري عيداً».

قال ابن حجر الهيثمي في شرح المشكاة: العيد اسم من الأعياد، يقال عاده واعتاده وتعوده، صار له عادة. والمعنى: لاتجعلوا قبري محلًا لاعتياد المجي ء اليه متكرراً تكراراً كثيراً. فلهذا قال (ص): «فصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». فإن فيها كفاية عن ذلك. انتهى كلامه (ره).

وفي كتاب الجامع للبيان لابن رشد: سئل مالك (ره) عن الغريب يأتي قبر النبي (ص) كل يوم فقال: ما هذا من الأمر، فذكر حديث: «اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد»، قال ابن رشد: فيكره أن يكثر المرور به والسلام عليه والإتيان كل يوم اليه؛ لئلا يجعل القبر كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه، فقد نهى رسول اللَّه (ص) عن ذلك بقوله: «اللهم لاتجعل قبري وثناً».

انتهى كلامه (ره).

وسئل القاضي عياض عن أناس من أهل المدينة يقفون على القبر في اليوم مرة أو أكثر ويسلمون ويدعون ساعة فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه، ولايصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك.

المخالفة السابعة: التوجه إلى قبره الشريف من كل نواحي المسجد واستقباله له كلما دخل المسجد، أو كلما فرغ من الصلاة، ووضع اليدين

ص: 14

على الجنبين، وتنكيس الرؤوس والأذقان أثناء السلام عليه في تلك الحال.

وهذه من البدع المنتشرة والمخالفات المشتهرة، فاتقوا اللَّه عباد اللَّه واحذروا سائر البدع والمخالفات، واحذروا الهوى والتقليد الأعمى، وكونوا من أمركم على بينة وهدى. قال جلّ في علاه: أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم. جعلني اللَّه وإياكم من الهداة المهتدين، المتبعين لسنة سيد المرسلين.

أقول ما تسمعون، وأستغفر اللَّه لي ولكم ولسائر المسلمين، من كل ذنب وخطيئة، واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد للَّه على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، تعظيماً لشانه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الداعي الى رضوانه، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد، فيا عباد اللَّه! اتقوا اللَّه وراقبوه وأطيعوه ولا تعصوه: يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللَّه وكونوا مع الصادقين.

أيها المسلمون! ويشرع لزوار المدينة من الرجال زيارة أهل بقيع الغرقد وشهداء أحد للسلام عليهم والدعاء لهم. عن أبي هريرة (رض) قال: كان رسول اللَّه يعلمهم إذا خرجوا الى المقابر يقول: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية». أخرجه مسلم.

وزيارة القبور إنما شرعت لمقصدين عظيمين أولهما للزائر لغرض

ص: 15

الاعتبار والإذكار. وثانيهما للمزور بالدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار.

ويشترط لجواز زيارة القبور عدم قول الهجر، وأعظمه الشرك والكفر.

فعن أبي هريرة (رض) أنّ رسول اللَّه (ص) قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا». أخرجه النسائي. فلا يجوز الطواف بهذه القبور ولا غيرها، ولا الصلاة اليها، ولابينها، ولا التعبد عندها بقراءة القرآن، أو الدعاء، أو غيرها؛ لأن ذلك من وسائل الإشراك بربّ الأملاك والأفلاك، ومن اتخاذها مساجد حتى ولو لم يبن عليها مسجد. فعن عائشة وعبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: لما نزل برسول اللَّه (ص) الموت، طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة اللَّه على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». يحذر ما صنعوا أخرجه البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام: «إنّ من شرار الناس من تدرك الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد». أخرجه أحمد. وعن أبي مرفد الغنوي (رض) قال: سمعت رسول اللَّه (ص) يقول: «الأرض كلّها مسجد إلا المقبرة والحمام». أخرجه أحمد. وفي حديث أنس (رض) أنّ النبي (ص) نهى أن يصلى بين القبور. أخرجه المحبان. ولا يجوز السجود على المقابر، بل ذلك وثنية الجاهلية، وشذوذ فكري، وتخلف عقلي.

ولا يجوز لزائر تلك القبور ولا غيرها التبرك بها بمسحها وتقبيلها أو إلصاق شي ء من أجزاء البدن، أو الاستشفاء بتربتها بالتمرغ عليها، أو أخذ شي ء منها للاغتسال بها، ولا يجوز لزائرها أو غيره دفن شي ء من شعره أو بدنه أو مناذيره، أو وضع صورته، أو غير ذلك مما معه، في تربتها لقصد البركة.

ص: 16

ولا يجوز رمي النقود أو شي ء من الطعام كالحبوب ونحوها عليها، فمن فعل شيئاً من ذلك، وجب عليه التوبة وعدم العودة. ولا يجوز تخليقها ولا تقبيعها، والقسم على اللَّه بأصحابها. ولايجوز سؤال اللَّه بهم، أو بجاههم، وحقهم، بل ذلك توسل محرم من وسائل الشرك. ولا يجوز تصوير القبور؛ لأن ذلك وسيلة إلى تعظيمها والافتتان بها. ولايجوز وضع طعام أو طيب أو غير ذلك، لمن علم استخدامه لها في تلك المخالفات العظيمة.

والاستغاثة بالأموات، والاستعانة بهم، أو طلب المدد منهم، أو نداؤهم، وسؤالهم لسد الفاقة وجلب الفوائد، ودفع الشدائد، شرك أكبر، يخرج صاحبه عن ملة الاسلام، ويجعله من عباد الأوثان، إذ لا يفرج الهموم ولا يكشف الغموم إلا اللَّه وحده لا شريك له، جل في علاه. ذلكم اللَّه ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير. إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير.

ويقول جلّ في علاه: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محظورا.

فاتقوا اللَّه عباد اللَّه! واحذروا أفعال عُبَّاد الأوثان، وأولياء الشيطان، الذين يعطلون المساجد، ويعظمون القبور والمشاهد، والجؤوا إلى اللَّه وأنزلوا الشدائد الصعاب، والنوازل الصلاب عليه وإن يمسسك اللَّه بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شي ء قدير

ص: 17

وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. فصلوا وسلموا على خير البرية، وأزكى البشرية، وقد أمركم اللَّه بذلك: إن اللَّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، بمنك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.

**

ص: 18

ص: 19

المسألة الأولى: معنى الإحداث في المدينة المنورة

اشارة

قال البدير: (أيها الوافدون لطابة! إنكم في بلد هي بعد مكة خير البقاع، وأشرف الأماكن والأصقاع، فاعرفوا حقها، واقدروا قدرها، وراعوا حرمتها وقداستها، وتأدبوا فيها بأحسن الآداب.

واعلموا أن اللَّه توعد من أحدث فيها بأشد العذاب. فعن أبي هريرة (رض) عن النبي (ص) أنه قال: «المدينة حرم ما بين عير الى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لايقبل اللَّه منه يوم القيامة صرفاً و لا عدلًا». متفق عليه. ومن أتى فيها إثماً، أو آوى من أتاه، وضمّه اليه وحماه، فقد عرض نفسه للعذاب المهين وغضب إله العالمين.

وإن من أعظم الإحداث تعكير صفوها بإظهار البدع والمحدثات، وتعكيرها بالخرافات والخزعبلات، وتدنيس أرضها الطاهرة بنشر المقالات البدعية، وما يخالف الشريعة الإسلامية، بأنواع المنكرات والمحرمات، والمحدث والمؤوي له بالاسم سواء). انتهى.

أولًا: أخطأ هذا الشيخ في معنى الإحداث في المدينة المنورة!

ص: 20

نلاحظ أنّ هذا الخطيب أورد الحديث النبوي الشريف: «فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً.. الخ»، وهو حديث متفق عليه بين المسلمين، لكن الكلام في تفسير الإحداث في المدينة المنورة، فإن فتاوى فقهاء المذاهب مختلفة، وحتى فتاواهم داخل المذهب الواحد.

فبعضهم قال: إنّ الإحداث الذي يوجب اللعن والقصاص هو الهجوم على المدينة ومحاربة أهلها، كما فعل يزيد في وقعة الحرة، حيث قتل مئات الصحابة والتابعين، وأباح المدينة لجيشه، فعاثوا فيها فساداً وإجراماً!

وبعضهم قال: إنّ الإحداث المنهي عنه في المدينة كما يشمل مهاجمة أهلها، يشمل أيضاً ارتكاب القتل والسرقة فيها، وبه أفتى ابن تيمية.

وأما مذهب أهل البيت عليهم السلام فقد فسر الإحداث فيها بالقتل خاصة.

وقد شذ هذا الشيخ الخطيب عن الجميع، فقال: إنّ الإحداث فيها هو كل إثم! وكان اللازم عليه أن يذكر فتاوى فقهاء المذاهب في المسألة، ومنها فتوى مرجعه ابن تيمية، ويطلب من المسلمين تطبيق ما أفتى به فقهاؤهم، لكنه مع الأسف لم يفعل ذلك، بل ارتكب التدليس في الفتوى، فأتى بالحديث النبوي الشريف المتفق عليه، ثم وصله بكلام من عنده، يتوهم السامع أنه حديث شريف، أو أنه رأي الإسلام المتفق عليه عند الفقهاء! فقال: «ومن أتى فيها إثماً أو آوى من

ص: 21

أتاه.. الخ.» فأفتى بأن الإحداث في المدينة يشمل كل إثم! فخالف بذلك فتوى إمامه، وجعل كل من ارتكب في المدينة المنورة أي ذنب كبيراً أو صغيراً، مستحقاً للعن والعقوبة! فلو سأل شخص رفيقه بكم اشتريت هذا؟ فقال له: اشتريته بخمسة ريالات، وقد اشتراه بأربعة، فهو بفتوى البدير يستحق لعنة اللَّه ورسوله والملائكة والناس أجمعين، ويستحق القتل أو القصاص أو التعزير!

قال ابن تيمية في كتاب رأس الحسين ص 205: (ويزيد بن معاوية قد أتى أموراً منكرة منها وقعة الحرة، وقد جاء في الصحيح عن علي رضي اللَّه عنه عن النبي (ص) قال: «المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا. من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لايقبل اللَّه منه صرفاً ولا عدلًا». وقال: «من أراد أهل المدينة بسوء أماعه اللَّه كما ينماع الملح في الماء». ولهذا قيل للإمام أحمد: أتكتب الحديث عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامة. أوَ ليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل؟! وقيل له: إنّ قوماً يقولون: إنا نحب يزيد! فقال: وهل يحب يزيد أحدٌ يؤمن باللَّه واليوم الآخر؟! فقيل:

فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحداً؟). انتهى.

وقال ابن تيمية في السياسة الشرعية ص 77: (من آوى محارباً أو سارقاً أو قاتلًا ونحوهم ممن وجب عليه حدٌّ أو حقٌّ للَّه تعالى أو لآدمي، ومنعه ممن يستوفي منه الواجب بلا عدوان، فهو شريكه في الجرم، وقد لعنه اللَّه ورسوله (ص). روى مسلم في صحيحه عن علي ابن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه (ص): «لعن اللَّه من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً».

ص: 22

وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث، فإنه يطلب منه إحضاره أو الإعلام به، فإن امتنع، عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة، حتى يمكِّن من ذلك المحدث). انتهى.

وعليه فقد فسر ابن تيمية المُحْدِث بيزيد بن معاوية؛ لأنه هاجم المدينة وقتل أهلها، وفسره بالمحارب الخارج على المجتمع أو الدولة، والسارق والقاتل، وفسر المؤوي بمن يمنع الدولة من إجراء الحكم والحد الشرعي.

ولكن هذا الشيخ البدير وسَّع معنى الإحداث الى كل إثم! فخالف بذلك إمامه، وخالف عامة الفقه الإسلامي!

أما في فقه أهل البيت الطاهرين عليهم السلام، وهم أهل البيت والمدينة، وأهل البيت أدرى بما فيه، فقد فسروا الإحداث في المدينة بالقتل خاصة، روى الكليني في الكافي ج 4 ص 565، بسند صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أحدث بالمدينة حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة اللَّه. قلت: وما الحدث؟ قال:

القتل».

ثانياً: جعل الإحداث شاملًا للرأي، فخالف بذلك إجماع المسلمين!

ارتكب هذا الشيخ خطأ أفظع من الأول، حيث وسَّع معنى الإحداث في مدينة النبي صلى الله عليه و آله، فجعله يشمل الآراء المخالفة له وسماها بدعة!

ص: 23

قال: (وإنّ من أعظم الإحداث تعكير صفوها بإظهار البدع والمحدثات، وتعكيرها بالخرافات والخزعبلات، وتدنيس أرضها الطاهرة بنشر المقالات البدعية.. الخ).

وهذا تعميم متهورٌ لم يقل به أحد من فقهاء المسلمين؛ لأنه يجعل جميع الحجاج من جميع المذاهب حتى المقلدين لابن تيمية محدثين في المدينة المنورة، يستحقون لعنة اللَّه ورسوله والملائكة والناس أجمعين، والعقوبة!

مثلًا: ينوي الحاج من بلده حج بيت اللَّه تعالى وزيارة قبر نبيه صلى الله عليه و آله والتوسل به الى اللَّه تعالى، ويعتقد أن ذلك من أفضل القربات الى اللَّه، فهذه هي فتوى مذاهب المسلمين كافة.

ويزعم هذا الشيخ أن التوسل بالنبيّ صلى الله عليه و آله شرك وأن نيته معصية، فيكون سفر الحجاج كلهم سفر معصية، ويكونون بزعمه مشركين مبتدعين، فهم محدثون في المدينة عليهم اللعنة والعقوبة! مع أنهم بفتوى مذاهبهم مثابون!

فانظر الى هذا الخطيب كيف يتهم المسلمين بالشرك والبدعة والإفساد في مدينة نبيهم صلى الله عليه و آله!!

ثالثاً: هل يحقّ لهذا الشيخ أن يفرض فتواه الشاذة على الحجاج؟!

لو سألنا هذا الشيخ: لقد عممت حكم من أحدث في المدينة حدثاً لكل بدعة وخرافة وخزعبلة، أو نشرمقالة بدعية، أو ارتكاب ما هو مخالف للسنة على حد تعبيرك.. وجعلت ذلك موجباً للعن

ص: 24

صاحبه وإقامة الحد عليه!

فلو أردنا في موسم الحج أن نطبق قولك، فمن الذي نرجع اليه في أن هذا الشي ء بدعة أو ليس بدعة، وأنه مخالف للسنة أو موافق لها، وأنه حقيقة أو خرافة؟

فإن قال: الذي يرجع اليه في ذلك هم فقهاء المذاهب، فلماذا أفتى هو برأيه، ولم يُرجع المسلمين الى أئمة مذاهبهم؟!

وإن قال: أنا لي الحق في تحديد ذلك، وأنا أفتي بأنه إحداث في المدينة!

فجوابه: أن كلامك هذا رد على إمامك ابن تيمية! والحجاج لا يقلدونك ولا يقلدونه، ولا الحكومة السعودية نصبتك قاضياً لمحاكمة الحجاج!

وحتى لوقلدك أحد من المسلمين في السعودية، أو نصبتك الحكومة مفتياً، فالواجب عليك أن تفتي لمن يقلدك فقط، وتترك ضيوف الرحمن وزوار حبيبه المصطفى صلى الله عليه و آله يعملون بفتوى أئمة مذاهبهم، ويؤدون مناسكهم على فتواهم، ويزورون قبر نبيهم صلى الله عليه و آله ومسجده على فتواهم!

إن مشكلة هؤلاء الشيوخ أنهم متطرفون فكرياً، فهم يتخيلون أشياء، ويريدون فرضها على عامة المسلمين بالعصا والخشونة! والى الآن لم يفيقوا من نومهم، مع أنهم يرون أن المسلمين لايحترمون فتاويهم!

رابعاً: لو طبقنا فتوى البدير عليه نفسه؟!

من الطريف أنّ هذا (القاضي) حكم على نفسه في خطبته بأنه أحدث حدثاً في مدينة النبي صلى الله عليه و آله، وأنه يستحق اللعن والعقوبة!

ص: 25

وذلك لأنه حكم بأن من خالف السنة فقد أحدث في المدينة، وقد خالف هو السنة بمخالفته لفتاوى جميع فقهاء المذاهب ومنهم إمامه ابن تيمية!

ثم خالف السنة بإهانته للحجاج وحكمه عليهم بالشرك والإحداث!

فهاتان مخالفتان للسنة على منبر مسجد النبي صلى الله عليه و آله!

وهما بحكمه إحداث في المدينة!

خامساً: أخطأ البدير في معنى مؤوي المحدث أيضاً!

إن المؤوي للمحدث ليس من يؤجره بيتاً يسكن فيه مثلًا، بل هو الذي يحميه في مقابل السلطة ليدفع عنه العقوبة الشرعية، لكن هذا الشيخ جعل من يرتكب إثماً محدثاً ومن يؤويه مثله! فصار كل من يؤجر بيته من أهل المدينة محدثاً ملعوناً، لأنّه يعرف أن فيهم من يرتكب إثماً!

قال ابن تيمية في السياسة الشرعية ص 62: (وكذلك ذوو الجاه إذا حَمَوْا أحداً أن يقام عليه الحد، مثل أن يرتكب بعض الفلاحين جريمة، ثم يأوي إلى قرية نائب السلطان أو أمير، فيحمي على اللَّه ورسوله، فيكون ذلك الذي حماه ممن لعنه اللَّه ورسوله، فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه (ص): «لعن اللَّه من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً. فكل من آوى محدثاً من هؤلاء، فقد لعنه اللَّه ورسوله». انتهى.

وقال ابن تيمية في رسائل وفتاوي في الفقه ج 10 ص 323:

ص: 26

(ومن آوى محارباً أو سارقاً أو قاتلًا، ونحوهم ممن وجب عليه حد، أو حق للَّه تعالى أو لآدمي، ومنعه أن يستوفى منه الواجب بلا عدوان، فهو شريكه في الجرم، وقد لعنه اللَّه ورسوله. روى مسلم في صحيحه عن علي.. الى آخره). انتهى.

فهل يتقي اللَّه الشيخ البدير وأمثاله من المتطرفين، ولايكفرون المسلمين أكثر مما كفرهم إمامهم على الأقل؟!

***

المسألة الثانية: زعمه أن زيارة قبر النبي غير مستحبة!

اشارة

ص: 27

قال البدير: (زيارة المسجد النبوي سنة من المسنونات، وليست واجباً من الواجبات، وليس لها علاقة بالحج ولا هي له من المتممات، وكل ما يروى من أحاديث في إثبات علاقتها وعلاقة زيارة قبر المصطفى (ص) بالحج، فهو من الموضوعات والمكذوبات. ومن قصد بشد رحله إلى المدينة زيارة المسجد والصلاة فيه، فقصده مبرور وسعيه مشكور، ومن لم يرم بشد رحله إلا زيارة القبور والاستغاثة بالمقبور، فقصده محظور وفعله منكور)!.

وقال: (أيها المسلمون! ويشرع لزائر المسجد النبوي من الرجال، زيارة قبر النبي (ص) وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر (رض) بالسلام عليهم والدعاء لهم. أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور في أصح قولي العلماء!!)

وقال: (المخالفة السادسة: التكرار والإكثار من زيارة قبره (ص)، كأن تكون زيارته بعد كل فريضة أو في كل يوم بعد فريضة بعينها، ففي هذا مخالفة لهدي النبي (ص) وفي هذا مخالفة لقوله (ص): لاتجعلوا قبري عيداً).

ص: 28

أولًا: أجمع المسلمون على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله

أفتى المسلمون على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، أنّه يستحب للمسلم خاصة الحاج، أن يزور قبر النبي صلى الله عليه و آله في المدينة، ويصلّي في مسجده الشريف، ويزور بقية المساجد والأماكن الطاهرة في المدينة وحولها، وعلى ذلك جرت سيرتهم من صدر الإسلام الى عصرنا هذا.

لكن ابن تيمية جاء في القرن الثامن وخالف عامة المسلمين، وقال: لا تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله، ولا زيارة المدينة! ولذلك قال البدير: «يُسَنّ» زيارة مسجد النبي صلى الله عليه و آله، يقصد المسجد فقط، لا قبر النبي صلى الله عليه و آله ولا المدينة!

وهذه بعض نصوص فقهاء مذاهب المسلمين ترد على مقولتهم الشاذة!

1- قال الحافظ الممدوح في «رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة» ص 51- 54: (كلام الأئمة الفقهاء في استحباب زيارة القبر الشريف: قال الإمام المجمع على علمه وفضله أبو زكريا النووي: (واعلم أن زيارة قبر رسول اللَّه (ص) من أهم القربات وأنجح المساعي، فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة استحب لهم استحباباً متأكداً أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته (ص)، وينوي الزائر مع الزيارة التقرب وشد الرحل إليه والصلاة فيه). انتهى.

(المجموع: 8/ 204).

وقال أيضاً في الإيضاح في مناسك الحج: (إذا انصرف

ص: 29

الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدينة رسول اللَّه (ص) لزيارة تربته (ص) فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي، وقد روى البزار والدارقطني بإسنادهماعن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه (ص):

(من زار قبري وجبت له شفاعتي) (ص 214).

وعلق الفقيه ابن حجر الهيتمي على الحديث فقال في حاشية الإيضاح: الحديث يشمل زيارته (ص) حياً وميتاً، ويشمل الذكر والأنثى، والآتي من قرب أو بُعد، فيستدل به على فضيلة شد الرحال لذلك وندب السفر للزيارة، إذ للوسائل حكم المقاصد. انتهى. ح (ص 214 حاشية الايضاح).

وقال الإمام المحقق الكمال ابن الهمام الحنفي في شرح فتح القدير: المقصد الثالث في زيارة قبر النبي (ص) قال: مشايخنا رحمهم اللَّه تعالى من أفضل المندوبات. وفي مناسك الفارس وشرح المختار: إنها قريبة من الوجوب لمن له سعة، ثم قال بعد كلام ما نصه: والأولى فيما يقع عند العبد الضعيف تجريد النية لزيارة قبر النبي (ص) ثم إذا حصل له إذا قدم زيارة المسجد، أو يستفتح فضل اللَّه سبحانه في مرة أخرى ينويهما فيها؛ لأنّ في ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله (ص). انتهى. (3/ 179- 180).

وقال محقق مذهب الحنابلة أبو محمد بن قدامة المقدسي:

(ويستحب زيارة قبر النبي (ص) لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه (ص): «من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي». وفي رواية، «من زار قبري وجبت له شفاعتي». رواه باللفظ الأول سعيد، ثنا حفص بن سليمان، عن ليث،

ص: 30

عن مجاهد، عن ابن عمر). انتهى كلام الممدوح.

2- وقال السقاف في كتابه البشارة والإتحاف ص 53:

فصل: ابن تيمية يمنع زيارة قبر سيدنا رسول اللَّه (ص) والذهبي يخالف ذلك في (السير) ويرد عليه

ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري شرح صحيح البخاري: 3/ 66) عند الكلام على حديث: (لا تشدّ الرحال): أن ابن تيمية يقول بتحريم شد الرحل الى زيارة قبر سيدنا رسول اللَّه (ص)! وذكر ابن حجر أنه أنكر ذلك على ابن تيمية، وأن ذلك من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية!

وإليك نصه بحروفه من الموضع المشار إليه آنفاً: (والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل الى زيارة قبر سيدنا رسول اللَّه (ص) وأنكرنا صورة ذلك، وفي شرح ذلك من الطرفين طول، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية! ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي (ص) ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي (ص)! وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدباً لا أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة الى ذي الجلال، وإنّ مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع). انتهى.

3- وقال الذهبي في سيرأعلام النبلاء: 4/ 484 راداً على ابن تيمية ما نصه: (فمن وقف عند الحجرة المقدسة ذليلًا مسلماً مصلياً على نبيه فيا طوبى له! فقد أحسن الزيارة وأجمل في التذلل والحب، وقد أتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في صلاته، إذ الزائر له

ص: 31

أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه، والمصلي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط. فمن صلى عليه واحدةً صلى اللَّه عليه عشراً.

ولكن من زاره صلوات اللَّه عليه وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر أو فعل ما لايشرع، فهذا فعل حسناً وسيئاً، فيُعَلَّم برفق واللَّه غفور رحيم. فواللَّه ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء، إلا وهو محب للَّه ولرسوله، فحبه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب، وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء، لئن سلَّمنا أنه غير مأذون فيه؛ لعموم قوله صلوات اللَّه عليه: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فشد الرحال إلى نبينا (ص) مستلزمٌ لشد الرحل الى مسجده، وذلك مشروعٌ بلا نزاع، إذ لاوصول إلى حجرته إلا بعد الدخول إلى مسجده، فليبدأ بتحية المسجد، ثم بتحية صاحب المسجد، رزقنا اللَّه وإياكم ذلك).

ثانياً: محاكمة ابن تيمية، وحكم قضاة الفقهاء الأربعة بانحرافه!

صورة الفتوى من خط القضاة الأربعة، وكتب في سابع عشرين رجب سنة ست وعشرين وسبعمائة: (الحمد للَّه. هذا المنقول باطنها) جواب عن السؤال عن قوله (إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة)، وما ذكره من نحو ذلك، وأنه لايرخص بالسفر لزيارة الأنبياء عليهم السلام!

باطل مردود عليه. وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء، ويمنع من الفتاوى الغريبة،

ص: 32

و يحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره؛ ليتحفظ الناس من الاقتداء به.

وكتب محمد بن إبراهيم بن سعد اللَّه بن جماعة الشافعي.

وكذلك يقول محمد بن الحريري الأنصاري الحنفي، لكن يحبس الآن جزماً مطلقاً. وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي، ويبالغ في زجره حسب ما تندفع به هذه المفسدة وغيرها من المفاسد.

وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي.

ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي (ص) وقبور الأنبياء عليهم السلام معصية بالإجماع مقطوع بها! وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكام، وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني، فلما رأوا خطه عليها تحققوا فتواه، فغاروا لرسول اللَّه (ص) غيرة عظيمة، وللمسلمين الذين ندبوا إلى زيارته، وللزائرين من أقطار الأرض، واتفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه، وأهانوه ووضعوه في السجن. انتهى من كتاب ابن شاكر الكتبي). (التوفيق الرباني لجماعة من العلماء ص 20)

ثالثاً: زملاء البدير يحرفون الكتب، ويحذفون منها زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله

قال الحافظ الممدوح في رفع المنارة ص 57:

(قال اللَّه تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّه تَوَّاباً رَحِيماً (1)،


1- -النساء: 64.-

ص: 33

وهذه الآية تشمل حالتي الحياة وبعد الانتقال، ومن أراد تخصيصها بحال الحياة فما أصاب؛ لأنّ الفعل في سياق الشرط يفيد العموم، وأعلى صيغ العموم ما وقع في سياق الشرط، كما في إرشاد الفحول ص 122.

إلى أن قال الممدوح: وقد فهم المفسرون من الآية العموم، ولذلك تراهم يذكرون معها حكاية العتبي الذي جاء للقبر الشريف، فقال ابن كثير في تفسيره: 2/ 306: وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو النصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي قال: كنت جالساً عند قبر النبي (ص) فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه.

سمعت اللَّه يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّه تَوَّاباً رَحِيماً وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:

يا خيرَ من دُفنتْ بالقاع أعظمُهُ فطابَ من طيبهنَّ القاعُ والنَّسَمُ

نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُه فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ

ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني فرأيت النبي (ص) في النوم، فقال: يا عتبي إلحق الأعرابي فبشره أن اللَّه قد غفر له).

انتهى.

وقال الممدوح في هامشه: (وقد ذكر قصة العتبي الإمام المجمع على فضله وعلمه يحيى بن شرف النووي الشافعي رحمه اللَّه تعالى في كتابه «الأذكار» ولكن خلع «المحقق» ربقة الأمانة! فحذف قصة العتبي في الطبعة التي حققها لحساب دار الهدى بالرياض سنة 1409!!

ولم يكتف بهذا التحريف، فله نظائر أخرى منها: قال الإمام النووي في الأذكار: (فصل في زيارة قبر رسول اللَّه (ص) وأذكارها:

ص: 34

اعلم أنه ينبغي لكل من حج أن يتوجه إلى زيارة رسول اللَّه (ص) سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن، فإن زيارته (ص) من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات.. إلخ). هذه عبارة الإمام النووي، ولكن المحقق حرَّف عبارة النووي، وهذا نص تحريفه ص 295: (فصل في زيارة مسجد رسول اللَّه (ص)... الخ.)! انتهى كلام الممدوح.

فانظروا الى انعدام الأمانة العلمية عند هؤلاء، وجرأتهم على تحريف مصادر المسلمين، وتزوير كتاب الأذكار للنووي، مع أنه كتاب مطبوع ومؤلفه فقيه معروف! وهذا مثلٌ من تحريفاتهم، ولها أمثال أخرى!

رابعاً: لماذا التفريق في حكم زيارة القبور بين الرجال والنساء؟!

فتوى مذهب أهل البيت الطاهرين عليهم السلام أنه لا فرق في استحباب زيارة القبور بين الرجال والنساء، ومن الطبيعي أنه يجب على النساء والرجال في هذه الحالة وكل الحالات أن يراعوا الأحكام الشرعية في الستر والآداب. وهي فتوى عامة المذاهب الإسلامية، إلا من شذ وندر.

بل هذه هي فتوى المعترف بإمامته عندهم الشيخ ناصر الدين الألباني، الذي يعتبرونه محدث العصر، ويمدحه ابن باز وغيره من أئمتهم.

قال الألباني في أحكام الجنائز ص 180: (والنساء كالرجال في

ص: 35

استحباب زيارة القبور لوجوه: الأول: عموم قوله (ص): فزوروا القبور، فيدخل فيه النساء. وبيانه أن النبي (ص) لمَّا نهى عن زيارة القبور في أول الأمر، فلا شك أن النهي كان شاملًا للرجال والنساء معاً، فلما قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، كان مفهوماً أنه كان يعني الجنسين، ضرورة أنه يخبرهم عما كان في أول الأمر من نهي الجنسين، فإذا كان الأمر كذلك، كان لزاماً أن الخطاب في الجملة الثانية من الحديث وهو قوله: فزوروها، أن ما أراد به الجنسين أيضاً......

ويزيده تأييداً الوجوه الآتية:

الثاني: مشاركتهن الرجال في العلة، التي من أجلها شرعت زيارة القبور: (فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة).

الثالث: أن النبي (ص) قد رخص لهن في زيارة القبور، في حديثين حفظتهما لنا أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها:

1- عن عبد اللَّه بن أبي مليكة: (أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول اللَّه (ص) نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم ثم أمر بزيارتها. وفي رواية عنها: أن رسول اللَّه (ص) رخص في زيارة القبور، أخرجه الحاكم: 1/ 376 وعنه البيهقي: 4/ 78 من طريق بسطام بن مسلم، عن أبي التياح يزيد ابن حميد، عن عبد اللَّه بن أبي مليكة.

والرواية الأخرى لابن ماجه: 1/ 475: قلت: سكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: صحيح، وقال البوصيري في الزوائد: 1/ 98: إسناده صحيح رجاله ثقات. وهو كما قالا. وقال الحافظ العراقي في تخريج

ص: 36

الإحياء: 4/ 418: رواه ابن أبي الدنيا في القبور والحاكم، بإسناد جيد)... الخ. انتهى.

فانظر كيف يفتي لهم أئمتهم ويستدلون بصحاحهم وبعمل عائشة، وبعمل فاطمة الزهراء عليها السلام، ولكنهم يخالفونهم ويصرون على التشديد على المسلمين، والتمييز بين المرأة والرجل بدون دليل من الشرع؟!

خامساً: تأكيد مذهب أهل البيت على زيارة قبور النبي وآله صلى الله عليه و آله

روى الكليني في الكافي ج 4 ص 272 عن الإمام الصادق عليه السلام بسند صحيح قال: «لو أن الناس تركوا الحج، لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده. ولو تركوا زيارة النبي صلى الله عليه و آله، لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين»

وروى أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «إن زيارة قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وزيارة قبور الشهداء وزيارة قبر الحسين عليه السلام تعدل حجةً مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

وروى في ج 4 ص 548: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أتى مكة حاجاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة، ومن مات في أحد الحرمين مكة والمدينة لم يُعرض ولم يُحاسب، ومن مات مهاجراً إلى اللَّه عز وجل حُشر يوم القيامة مع أصحاب بدر».

فتوى المرجع السيد الخوئي قدس سره في استحباب الزيارة

ص: 37

قال قدس سره في البيان في تفسير القرآن ص 470: (وعلى هذا جرت الصحابة والتابعون خلفاً عن سلف، فكانوا يزورون قبر النبي صلى الله عليه و آله ويتبركون به ويقبلونه ويستشفعون برسول اللَّه (ص)، كما كانوا يستشفعون به في حياته. وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمة الدين عليهم السلام وأولياء اللَّه الصالحين، ولم ينكر ذلك أحدٌ من الصحابة، ولا أحد من التابعين أو الأعلام، إلى أن ظهر أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد اللَّه بن تيمية الحراني، فحرم شد الرحال إلى زيارة القبور، وتقبيلها ومسها والاستشفاع بمن دفن فيها، حتى أنه شدد النكير على من زار قبر النبي صلى الله عليه و آله إن تبرك به بتقبيل أو لمس، وجعل ذلك من الشرك الأصغر تارةً، ومن الشرك الأكبر أخرى.

ولما رأى علماء عصره عامة أنه قد خالف في رأيه هذا ما ثبت من الدين وضرورة المسلمين؛ لأنهم قد رووا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حثه على زيارة المؤمنين عامة وعلى زيارته خاصة بقوله: «من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي» وما يؤدي هذا المعنى بألفاظ أخر، تبرأوا منه وحكموا بضلاله، وأوجبوا عليه التوبة، فأمروا بحبسه، إما مطلقاً، أو على تقدير أن لايتوب. والذي أوقع ابن تيمية في الغلط، إن لم يكن عامداً لتفريق كلمة المسلمين، هو تخيله أن الأمور المذكورة شرك باللَّه وعبادة لغيره! ولم يدرك أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الأعمال يعتقدون توحيد اللَّه، وأنه لا خالق ولا رازق سواه، وأن له الخلق والأمر، وإنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر اللَّه، وقد علمتَ أنها راجعةٌ إلى تعظيم اللَّه والخضوع له والتقرب إليه سبحانه

ص: 38

والخلوص لوجهه الكريم، وأنه ليس في ذلك أدنى شائبة للشرك؛ لأن الشرك كما عرفت أن يعبد الإنسان غير اللَّه، والعبادة إنما تتحقق بالخضوع لشي ء على أنه رب يعبد، وأين هذا من تعظيم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأوصيائه الطاهرين عليهم السلام بما هو نبي وهم أوصياء، وبما أنهم عباد مكرمون؟! ولاريب في أن المسلم لايعبد النبي أو الوصي فضلًا عن أن يعبد قبورهم!

وصفوة القول: أن التقبيل والزيارة وما يضاهيهما من وجوه التعظيم، لا تكون شركاً بأي وجه من الوجوه وبأي داع من الدواعي، ولو كان كذلك لكان تعظيم الحي من الشرك أيضاً، إذ لا فرق بينه وبين الميت من هذه الجهة. ولا يلتزم ابن تيمية وأتباعه بهذا! للزم نسبة الشرك إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وحاشاه، فقد كان يزور القبور، ويسلم على أهلها، ويقبل الحجر الأسود كما سبق! وعلى هذا فيدور الأمر بين الحكم بأن بعض الشرك جائز لامحذور فيه، وبين أن يكون التقبيل والتعظيم لابعنوان العبودية خارجاً عن الشرك وحدوده، وحيث إنه لا مجال للأول لظهور بطلانه، فلا بد وأن يكون الحق هو الثاني).

**

المسألة الثالثة: زعمه أن المشي لزيارة النبي صلى الله عليه و آله ولو خطوة واحدة حرام!

ص: 39

وهي المسألة المعروفة ب «مسألة شد الرحال» ومعناها أن ينوي المسلم من بلده زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله، فإن ابن تيمية حكم بالشرك والكفر على المسلمين؛ لأنهم ينوون من بلادهم زيارة قبر النبي (ص)!

بل شملت فتواه من يقصد زيارة القبر الشريف ويخطو اليه من خارج المسجد، بل من يخطو اليه من داخل المسجد ولو خطوة واحدة! واعتبر ذلك حسب فهمه شداً للرحال! وحكم على هذا المسلم المخلص لربه ونبيه بأنه بخطوته هذه بنية الزيارة والتوسل، قد أشرك باللَّه تعالى وكفر!!

وهذا معنى قول البدير: «زيارة المسجد النبوي سنة من المسنونات، وكل ما يروى من أحاديث في إثبات علاقتها وعلاقة زيارة قبر المصطفى (ص) بالحج، فهو من الموضوعات والمكذوبات!».

وكذلك قوله: «ومن لم يرم بشد رحله إلا زيارة القبور، والاستغاثة بالمقبور، فقصده محظور وفعله منكور».

وقد أخفى هذا المطوَّع مذهبه باللف والدوران في كلامه، فقال: إن ذلك حرام ومنكور، ولم يصرح بشرك فاعله وكفره؛ لأنه يخاف من حكومته ومن عامة المسلمين، إن أعلن فتواه بتكفيرهم!

وقد رد جميع علماء المذاهب على شذوذ ابن تيمية، ونكتفي بنقل ردود مختارة مختصرة، مضافاً الى ما تقدم في استحباب أصل الزيارة:

ص: 40

قال الحافظ الممدوح في رفع المنارة ص 56: (قال ابن نصر اللَّه: لازم استحباب زيارة قبره (ص) استحباب شد الرحال إليها؛ لأن زيارته للحاج بعد حجه لا تمكن بدون شد الرحل، فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل لزيارته (ص). ج 2/ 514. وقال أبو الحسن المرداوي في الإنصاف: 4/ 53: هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم).

وقال الممدوح في ص 72: (غير خفي أن ابن تيمية انفرد في القرن السابع بمنع إنشاء السفر لزيارة النبي (ص)..... وأعقب فتيا ابن تيمية مناظرات ومصنفات وفتن، وأكثرَ العلماء من رد مقالته).

وقال في ص 74: وقال أيضاً (الحافظ أبو زرعة) في طرح التثريب: 6/ 43):

(وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام بشع عجيب، يتضمن منع شد الرحل للزيارة! وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في شفاء السقام، فشفى صدور قوم مؤمنين).

وقال في ص 75- 83: (وعمدة ابن تيمية على هذا المنع حديث «لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا».

والجواب على هذا من وجوه. الوجه الأول: هذا الاستثناء المذكور في الحديث استثناءٌ مفرَّغ، ولابد من تقدير المستثنى منه، وهو إما أن يحمل على عمومه فيقدر له أعم العام؛ لأن الاستثناء معيار العموم، فيكون التقدير لاتشد الرحال إلى مكان إلا إلى المساجد الثلاثة، وهذا باطلٌ بداهةً؛ لأنه يستلزم تعطيل السفر مطلقاً إلا للمساجد الثلاثة.

ص: 41

ولكن لابد أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه).... الخ. ثم تابع الممدوح:

وقال العلامة البدر العيني الحنفي: 6/ 276: (وشد الرحل كناية عن السفر؛ لأنه لازم للسفر، والاستثناء مفرَّغ فتقدير الكلام: لاتشد الرحال إلى موضع أو مكان. فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن لا يجوز السفر إلى ما كان غير المستثنى حتى لا يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل (ص) ونحوه؛ لأن المستثنى منه في المفرغ لابد أن يقدر أعم العام.

وأجيب: بأن المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعاً ووصفاً، كما إذا قلت ما رأيت إلا زيداً، كان تقديره ما رأيت رجلًا أو أحداً إلا زيداً، لا ما رأيت شيئاً أو حيواناً إلا زيداً. فهاهنا تقديره لاتشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة).

وقال ابن حجر في فتح الباري: 3/ 66: (قال بعض المحققين:

قوله: (إلا إلى ثلاثة مساجد) المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدر عاماً فيصير: لاتشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة أو أخص من ذلك، ولاسبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة، وصلة الرحم، وطلب العلم وغيرها، فتعين الثاني. والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو: لاتشد الرحال إلى مسجد للصلاة إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين).

وقال السبكي ما ملخصه: ص 119- 121: (السفر فيه أمران باعث عليه كطلب العلم وزيارة الوالدين وما أشبه ذلك، وهو مشروع

ص: 42

بالاتفاق، الثاني: المكان الذي هو نهاية السفر، كالسفر إلى مكة أو المدينة أو بيت المقدس، ويشمله الحديث. والمسافر لزيارة قبر النبي (ص) لم يدخل في الحديث؛ لأنه لم يسافر لتعظيم البقعه، وإنما سافر لزيارة من فيها، فإنه لم يدخل في الحديث قطعاً، وإنما يدخل في النوع الأول المشروع.

فالنهي عن السفر مشروط بأمرين: أحدهما، أن يكون غايته غير المساجد الثلاثة. والثاني، أن تكون علته تعظيم البقعة. والسفر لزيارة النبي (ص) غايته أحد المساجد الثلاثة، وعلته تعظيم ساكن البقعة لا البقعة، فكيف يقال بالنهي عنه؟! بل أقول: إن للسفر المطلوب سببين، أحدهما مايكون غايته أحد المساجد الثلاثة، والثاني ما يكون لعبادة وإن كان إلى غيرها.

والسفر لزيارة المصطفى (ص) اجتمع فيه الأمران، فهو في الدرجة العليا من الطلب، ودونه ما وجد فيه أحد أمرين. وإن كان السفر الذي غايته أحد الأماكن الثلاثة، لابد في كونه قربة من قصد صالح. وأما السفر لمكان غير الأماكن الثلاثة لتعظيم ذلك المكان فهو الذي ورد فيه الحديث، ولهذا جاء عن بعض التابعين أنه قال: قلت لابن عمر: إني أريد أن آتي الطور قال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد رسول اللَّه والمسجد الأقصى، ودع الطور فلا تأته).

والحاصل أن الحديث إن حمل على عمومه وفق مراد ابن تيمية، فهو لايرِد على الزيارة مطلقاً؛ لأن المسافر للزيارة مسافر لساكن البقعة كالعالم والقريب وهذا جائز إجماعاً. أما الحديث فوارد في الأماكن فقط فتدبر تستفد. وللَّه در التقي السبكي).

ص: 43

وقال النووي رحمه اللَّه في شرح مسلم: 9/ 106: (والصحيح عند أصحابنا، وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولايكره، قالوا: والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة).

وقال الشيخ الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي في المغني: 2/ 103 (وأما قوله عليه السلام (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، فيحمل على نفي التفضيل لا على التحريم، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر، فلا يضر انتفاؤها). ومثله لأبي الفرج ابن قدامة في الشرح الكبير: 2/ 93).

وقال إمام الحرمين في الروضة: 3/ 324: والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة، وبه قال الشيخ أبو علي. ومقصود الحديث تخصيص القربة بقصد المساجد الثلاثة. انتهى. (المجموع: 8/ 375).

وصفوة ما سبق أن الصلاة في هذه المساجد تختص بطاعة زائدة على ما سواها من المساجد، وما كان الأمر كذلك فلا يصح الوفاء بالنذر إلا إليها. أما غيرها من المساجد فيستوي ثواب الصلاة فيها، والسفر إليها سفر مباح، يجوز قصر الصلاة فيه). انتهى كلام الممدوح.

وقال الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي رحمه الله، وهو من كبار فقهاء الإمامية وكان قريباً من عصر ابن تيمية فقد توفي سنة 786، قال في كتابه الذكرى ص 154 من الطبعة القديمة: (وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص): لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي، والمسجد الأقصى.

ص: 44

قلت: أجمع العلماء إلا من شذ على أن المراد بهذا النفي بالنسبة الى المساجد، أي لايصلح ذلك الى مسجد غير هذه الثلاثة؛ لتقارب المساجد سواها في الفضل، فليس سفره إلى مسجد بلد آخر ليصلي فيه بأولى من مقامه عند مسجد بلده والصلاة فيه.

وهذا النفي يراد به نهي التنزيه؛ لانعقاد الإجماع على عدم تحريم السفر إلى غير المساجد المذكورة، لتجارة أو قُربة من القرب.

وقال بعضهم: المراد لايستحب شد الرحال إلا الى هذه، ولا يلزم من نفي الاستحباب نفي الجواز.

وارتكب واحد من العامة تحريم زيارة الأنبياء والأئمة عليهم السلام والصالحين متمسكاً بهذا الخبر على مطلوبه، ذاهباً إلى أنه لابد من إضمار شي ء هنا وليكن العبادة؛ لأن الأسفار المطلقة ليست حراماً! وهو تحكُّمٌ محض؛ لأن إباحة الشد للأسفار المطلقة تستلزم أولويته لما هو عبادة، إذ العبادة أو الحج في نظر الشرع من السفر المباح.

ويلزمه عدم الشد لزيارة أحياء العلماء، وطلب العلم، وصلة الرحم، وقد جاء: من زار عالماً فكمن زار بيت المقدس، وورد:

اطلبوا العلم ولو بالصين، ولايخالف أحدٌ في إباحة هذا مع أنه عبادة، فتعين أن المراد بالحديث: لايستحق، أو لايتأكد، أو لا أولى بالشد من هذه الثلاثة. أو يضمر المساجد كما سبق ذكره.

وهذا القائل كلامه صريح في نفي مطلق زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام والصلحاء؛ لأنه احتج بأنه لم يثبت في الزيارة خبر صحيح! بل كلما ورد فيها موضوع بزعمه! وكل هذا مراغمةً للفرقة المحقة والفرقة الناجية، الذين يرون تعظيم الزيارات والمزارات، ويهاجرون إليها ويجاورون

ص: 45

فيها، ويتركون فيها في رضا اللَّه تعالى أهليهم وديارهم، انعقد اجماع سلفهم وخلفهم على ذلك، وفيهم أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ويروون في ذلك أخباراً تفوق العد وتتجاوز الإحصاء، بالغةً حد التواتر! وقد روى منها الحافظ ابن عساكر من العامة طرفاً صالحاً منها، منها حديث: وسيكون حثالةٌ من العامة يعيرون شيعتكم بزيارتكم كما تعير الزانية بزناها! وغيره. مع أن جميع المسلمين مجمعون على زيارة النبي صلى الله عليه و آله منذ نقله اللَّه إلى دار عفوه ومحل كرامته، إلى هذا الزمان، ففي كل سنة يعملون المطي ويشدون الرحال، ولاينصرفون إلّابعد السلام عليه. وانعقاد الإجماع في هذه الأعصار قبل ظهور هذه المقالة الشنيعة وبعدها، حجةٌ قاطعةٌ في هذا المقام، وأي حجة أقوى من إجماع أهل الاسلام على زيارة النبي صلى الله عليه و آله بإعمال المطي وشد الرحال في كل عام؟!

وأما الأخبار الواردة في زيارته فهي كثيرة جداً، قد ضمنها العلماء في كتبهم المأثورة وسننهم المشهورة، مثل ما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ما من رجل يسلِّم عليَّ إلا ردَّ اللَّه عليَّ روحي حتى أردَّ». ولم يزل الصحابة والتابعون كلما دخلوا المسجد يسلمون على النبي (ص). ولاحاجة إلى الاستدلال بالأخبار في هذا المقام المجمع عليه، فإنه عدولٌ عن يقين إلى شك، ومن علمٍ إلى ظن!).

انتهى.

**

ص: 46

ص: 47

المسألة الرابعة: زعمه أن تكرار زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله حرام!

اشارة

قال البدير: (أيها المسلمون! ويشرع لزائر المسجد النبوي من الرجال، زيارة قبر النبي (ص) وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر (رض) بالسلام عليهم والدعاء لهم. أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور في أصح قولي العلماء!!)

وقال: (المخالفة السادسة: التكرار والإكثار من زيارة قبره (ص)، كأن تكون زيارته بعد كل فريضة، أو في كل يوم بعد فريضة بعينها، ففي هذا مخالفة لهدي النبي (ص)! وفي هذا مخالفة لقوله (ص): لاتجعلوا قبري عيداً).

**

أولًا: أنهم خالفوا في هذه الفتوى مليار ونصف مليار مسلم

ص: 48

إن مقتضى إطلاق الأحاديث الشريفة، وفتاوي أئمة المذاهب جميعاً هو استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله لمن دخل المسجد النبوي سواء أراد أداء الفريضة فيه أم غيرها أو لم يرد الصلاة فيه، وسواء قبل صلاته أو بعدها، سواء كان ذلك مرة أو أكثر. وأن يصلي في مسجده الشريف ركعتي الزيارة، أو ما شاء من الصلاة، خاصة في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر!

وخالف التيميون في ذلك جميع المسلمين فقالوا: دخول المسجد بنية زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله معصية! وحتى الخطوة الواحدة الى قبره داخل المسجد بنية زيارته معصية، وإن كانت هذه الخطوة مع نية التوسل به فهي شرك!

وقالوا: لا تستحب زيارته! بل هي مشروعة غير محرمة! ووضعوا لها شروطاً متعددة صريحة أو غير صريحة، لم يشترطها أحد من المسلمين:

منها: أن لا يتوسل الى اللَّه تعالى بالنبي صلى الله عليه و آله.

ومنها: أن يبتعد عن الضريح ولا يتبرك به.

ومنها: أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله وغيره من القبور مخصوصة بالرجال، محرمة مشددة التحريم على النساء!

ومنها: أن يزوره مع صاحبيه أبي بكر وعمر.

ومنها: أن الزيارة الجائزة مرة واحدة! فإذا تعددت صارت

ص: 49

حراماً، فلايجوز للمسلم أن يزور قبر النبي صلى الله عليه و آله كلما دخل الى المسجد، بل يكفي أن يزوره في عمره مرة واحدة! والمرة أيضاً كثيرة! فقد نقلوا عن أحد مشايخهم أنه افتخر بأنه صلى إماماً في المسجد النبوي ثلاثين سنة، وكان يمر من عند قبر النبي صلى الله عليه و آله ولم يسلم عليه حتى مرة واحدة!! قال: أنا منذ ثلاثين سنة أقيم في هذا البلد وأصلي في هذا المسجد وأؤم الناس، وكل يوم أدخل المسجد مرات، ولكن ما سلّمت عليه ولا مرة؛ لأنه رجل جاء ومضى!!

نعوذ باللَّه من الخذلان!

ثانياً: تناقض فتواهم مع الشرع والعقل!

فقد أفتوا بأن أصل زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله حلال، فكيف تصير حراماً إذا تكررت؟! فهل تكون زيارة قبر أقدس شخص في الوجود صلى الله عليه و آله قليلها حلال، وكثيرها حرام؟!

وإن زعموا أن النبي صلى الله عليه و آله نهى أن يجعل قبره عيداً أي محفلًا، وأن هذا يشمل زيارة قبره الشريف، فلا فرق في ذلك بين المرة والمرات! فاللازم أن يحرموا زيارة القبر الشريف كلياً! لأن المسلمين يجتمعون حوله ويحتفلون بزيارته طوال السنة، والذي يزوره أول مرة والذي يزوره للمرة الخمسين، مشاركون في هذا الاحتفاء والاحتفال!!

ويلاحظ أن الشيخ البدير اعتبر تكرار الزيارة من المخالفات أي من المعاصي فقال: (المخالفة السادسة: التكرار والإكثار من زيارة قبره)! وقد أبهم هذا الشيخ واستعمل التقية، ولم يبين قصده خوفاً من المسلمين!

ص: 50

وإلا فقصده أن يقول مثلًا: إن زيارة النبي صلى الله عليه و آله غير مستحبة أبداً، بل هي جائزة على كراهة، بشرط أن تكون في العمر مرة واحدة لا أكثر! فإن زادت عن ذلك فهي مخالفة للشرع ومعصية، ويجري على صاحبها حكم المحدث في المدينة! فيستتاب عند القاضي، فإن تاب من هذه الجريمة، يعزر حسب نظر القاضي، وإن أصرَّ على جريمته يجب قتله، والأفضل أن يكون قتله قرب قبر النبي صلى الله عليه و آله حتى يكون عبرةً للآخرين!

هذه هي عقليات هؤلاء المشايخ الذين كفَّروا المسلمين، وشوهوا الإسلام!

ثالثاً: لماذا يصر الأعوج على فرض اعوجاجه على الناس؟!

مقتضى الحمل على الأحسن أن نقول: إن ابن تيمية وأتباعه المشايخ وصل اجتهادهم الى أن الزيارة الأولى للنبي صلى الله عليه و آله معفوة، والزيارة الثانية وما بعدها حرام وبدعة.. وعلى المجتهد أن يعمل باجتهاده وما وصل اليه رأيه؛ لأنه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.

حسناً، لهم الحرية أن يعملوا برأيهم، لكن ملايين المسلمين أتباع المذاهب الأربعة، والخمسة، والسبعة، لهم الحرية أ يضاً في أن يعملوا برأي مذاهبهم. فلماذا يستغل هؤلاء المشايخ موسم الحج والمناصب الدينية والمدنية التي تعطيهم إياها الحكومة السعودية، ويعملون لفرض رأيهم على الحجاج، ويحكمون عليهم بالكفر أو الضلال، إذا لم يقلدوهم؟!

فإن قالوا: هذا رأينا واجتهادنا في المسألة، فإن باب الاجتهاد

ص: 51

مفتوح للجميع، فلماذا يفتحونه لأنفسهم، ويقفلونه على غيرهم؟!

وإن كان الميزان إجماع المسلمين في مقابل الرأي الشاذ، فهم الأقلية الشاذة؛ لأن عددهم لايبلغ المليون من مجموع مليار ونصف مسلم! فهم حتى في بلادهم ليسوا هم أكثرية، فلو أجروا استفتاء في المملكة العربية السعودية على فتاوى ابن تيمية وتقليده، لما بلغوا مليون شخص!

هذا إذا حسبنا مجموع المسلمين، أما لو اقتصرنا على الفقهاء، فكم يبلغ عدد فقهائهم يا ترى من مجموع فقهاء المسلمين؟!

ص: 52

ص: 53

المسألة الخامسة: زعمه أن التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله شرك باللَّه تعالى!

اشارة

يرى ابن تيمية وأتباعه أن من توسل الى اللَّه تعالى بنبيه المصطفى صلى الله عليه و آله فلو قال الزائر مثلًا: اللهم إني أتوسل اليك بنبيك نبي الرحمة محمد أن تغفر لي. أو قال: يارسول اللَّه إني أتوجه بك الى اللَّه، وأتوسل بك الى اللَّه أن يغفر لي. فقد أشرك باللَّه تعالى وكفر! لأنه بزعمهم قد أشرك الرسول صلى الله عليه و آله وعبده وجعله إلهاً مع اللَّه تعالى!

وهذا معنى قول البدير: «ومن قصد بشد رحله إلى المدينة زيارة المسجد والصلاة فيه، فقصده مبرور وسعيه مشكور، ومن لم يرم بشد رحله إلا زيارة القبور، والاستغاثة بالمقبور، فقصده محظور وفعله منكور».

وقد عبر هذا الشيخ بأسلوب فظ غليظ عن قبر النبي صلى الله عليه و آله وزواره! كما استعمل أسلوب اللف والدوران في كلامه، فلم يصرح بكفر الحاج الذي يقصد زيارة قبر نبيه صلى الله عليه و آله ويتوسل به الى ربه، ولكن ذلك معلوم من كلامه، ومن مذهبه! لاحظ قوله: «ومن لم يرم بشد رحله إلا زيارة القبور، والاستغاثة بالمقبور، فقصده محظور، وفعله منكور!».

وقصده بالمقبور النبي (ص)! وقصده بأن فعله منكور: أنه مشرك!

يقول ذلك من على منبر مسجد النبي صلى الله عليه و آله وهو يعرف أن كافة المسلمين الذين يستمعون الى خطبته قد نووا من بلادهم حج بيت اللَّه تعالى وزيارة قبر حبيبه المصطفى صلى الله عليه و آله والتوسل به الى اللَّه تعالى! فلو سألت أي حاج مصري أو تركي أو أندونيسي، عن نيته في سفره

ص: 54

لأجابك إني نويت الحج وزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله والتوسل به!

وهؤلاء المسلمون المخلصون لربهم ولنبيهم صلى الله عليه و آله لهم حجتهم الشرعية من مذاهبهم، فقد أفتى لهم علماؤهم أن قصد زيارة النبي والتوسل به صلى الله عليه و آله من أفضل القربات الى اللَّه تعالى! فهل من الدين، أو الأخلاق الإسلامية، أو الأخلاق الإنسانية، أو العامية، أن يقوم إمام مسجد النبي صلى الله عليه و آله وخطيب الجمعة فيه، بمصادرة جميع مذاهب المسلمين وفتاوي فقهائهم، ويستعمل هذا الكلام الجافي مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومع زوار قبره الشريف؟!

انظر كيف يخاطبهم كأنهم كفار يعبدون النبي صلى الله عليه و آله ويعبدون الأموات ويعتقدون أنهم آلهة من دون اللَّه تعالى؟!

قال البدير: (فليحذر الزائر الوقوع في إحدى المخالفات التالية:

المخالفة الأولى: دعاء الرسول (ص) أو ندائه أو الاستغاثة به كقول بعضهم يا رسول اللَّه اشف مريضي، يا رسول اللَّه اقض ديني، يا وسيلتي، يا باب حاجتي، أو غير ذلك من الأقوال الشركية والأفعال البدعية المضادة للتوحيد).

وقال: (والاستغاثة بالأموات والاستعانة بهم، أو طلب المدد منهم، أو ندائهم وسؤالهم لسد الفاقة وجلب الفوائد ودفع الشدائد، شرك أكبر! يخرج صاحبه عن ملة الاسلام، ويجعله من عبَّاد الأوثان، إذ لا يفرج الهموم ولا يكشف الغموم إلا اللَّه وحده لا شريك له). انتهى.

أولًا: تعليم النبي صلى الله عليه و آله للمسلمين التوسل به الى اللَّه تعالى

ص: 55

اتفقت كلمة المسلمين على مشروعية التوسل الى اللَّه تعالى بالنبي وآله الطاهرين صلى الله عليه و آله أو بغيرهم من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام. ورووا بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه و آله أنه عَلَّمَ المسلمين أن يتوسلوا به الى اللَّه تعالى.

* روى الترمذي: 5/ 229 رقم 3649: (حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي (ص) فقال: أدع اللَّه أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك.

قال: فادعه. قال فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعوه بهذا الدعاء:

اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة.

يا محمد إني توجهت بك الى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه فيَّ. هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي.

انتهى.

ورواه ابن ماجه في: 1/ 441، وقال: قال أبو اسحاق هذا حديث صحيح. ورواه أحمد في مسنده: 4/ 138، بروايتين. ورواه الحاكم في المستدرك: 1/ 313، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ورواه في: 1/ 519، بسندين آخرين،

ص: 56

وقال بعدهما: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه في: 1/ 526، وقال: تابعه شبيب بن سعيد الحبطي عن روح ابن القاسم، مع زيادات في المتن والإسناد والقول... وقال أيضاً: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وإنما قدمت حديث عون بن عمارة؛ لأن من رسمنا أن نقدم العالي من الأسانيد. ورواه الطبراني في كتاب الدعاء ص 320، وما بعدها بعدة طرق، وكذا في المعجم الكبير: 9/ 31، والصغير: 1/ 183، وصححه. ورواه في مجمع الزوائد: 2/ 279، وقال: قلت: روى الترمذي وابن ماجه طرفاً من آخره خالياً عن القصة، وقد قال الطبراني عقبه: والحديث صحيح، بعد ذكر طرقه التي روى بها. ورواه في كنز العمال: 2/ 181، و 6/ 521 (ت، ه، ك، عن عثمان بن حنيف. حم. ت. حسن صحيح غريب. هك.

وابن السني، عن عثمان بن حنيف) ورواه ابن خزيمة في صحيحه: 2/ 225.

* وفي السنن الكبرى للنسائي: 6/ 168: (عن عثمان بن حنيف أن رجلًا أعمى أتى النبي (ص) فقال: يا رسول اللَّه إني رجل أعمى، فادع اللَّه أن يشفيني، قال: بل أدَعُك، قال: أدع اللَّه لي مرتين أو ثلاثاً.

قال: توضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك الى اللَّه أن يقضي حاجتي، أو حاجتي الى فلان، أو حاجتي في كذا وكذا.

اللهم شفع في نبيي وشفعني في نفسي). انتهى. ثم رواه النسائي بروايتين أيضاً.

ثانياً: الصحابة علموا الناس التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله بعد وفاته

ص: 57

فقد روى الطبراني بسند صحيح تطبيق عثمان بن حنيف لحديث التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله بعد وفاته!

قال الحافظ الصديق المغربي في كتابه (إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي) ص 11:

(وبعد، فإن الشيخ الألباني سامحه اللَّه تعالى صاحب غرض وهوى، إذا رأى حديثاً أو أثراً لايوافق هواه، فإنه يسعى في تضعيفه بأسلوب فيه تدليس وغش؛ ليوهم قراءه أنه مصيب مع أنه مخطئ بل خاطئ غاش، وبأسلوبه هذا ضلَّلَ كثيراً من أصحابه الذين يثقون به ويظنون أنه على صواب، والواقع خلاف ذلك.

ومن المخدوعين به من يدعى حمدي السلفي الذي يحقق المعجم الكبير، فقد أقدم بجرأة على تضعيف أثر صحيح لم يوافق هواه كما لم يوافق هوى شيخه، وكان كلامه في تضعيفه هو كلام شيخه نفسه! فأردت أن أرد الحق الى نصابه، ببيان بطلان كلام الخادع والمخدوع به، وعلى اللَّه اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي: روى الطبراني في المعجم الكبير: 9/ 17، من طريق ابن وهب، عن شبيب، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن س هل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف (رضي اللَّه عنه): أن رجلًا كان يختلف الى عثمان بن عفان (رضي اللَّه عنه) في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: إئت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: أللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيك محمد (ص) نبي

ص: 58

الرحمة. يا محمد إني أتوجه بك الى ربي فتقضى لي حاجتي.

وتذكر حاجتك، ورح اليه حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان، فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال له: ما حاجتك، فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ماكانت لك من حاجة فأتنا.

ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له:

جزاك اللَّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت اليَّ حتى كلمتَه فيَّ.

فقال عثمان بن حنيف: واللَّه ما كلمتُه، ولكن شهدتُ رسول اللَّه (ص) وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي (ص) أو تصبر؟ فقال: يا رسول اللَّه إنه ليس لي قائد وقد شقَّ علي. فقال له النبي (ص): إئت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات! قال عثمان بن حنيف: فواللَّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضُرٌّ قَطْ.

صححه الطبراني، وتعقبه حمدي السلفي بقوله: لا شك في صحة الحديث المرفوع، وإنما الشك في هذه القصة التي يستدل بها على التوسل المبتدع، وهي انفرد بها شبيب كما قال الطبراني، وشبيب لا بأس بحديثه، بشرطين: أن يكون من رواية ابنه أحمد عنه، وأن يكون من رواية شبيب عن يونس بن يزيد. والحديث رواه عن شبيب بن وهب وولديه إسماعيل وأحمد، وقد تكلم الثقات في رواية ابن وهب عن شبيب في شبيب، وابنه اسماعيل لايعرف، وأحمد وإن روى القصة عن أبيه، إلا أنها ليست من طريق يونس بن يزيد، ثم اختلف فيها على

ص: 59

أحمد. ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة، والحاكم من ثلاثة طرق بدون ذكر القصة، ورواه الحاكم من طريق عون بن عمارة البصري عن روح بن القاسم به، قال شيخنا محمد ناصر الدين الألباني: وعون هذا وإن كان ضعيفاً فروايته أولى من رواية شبيب لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي. انتهى.

وفي هذا الكلام تدليس وتحريف نبينه فيما يلي:

أولًا: هذه القصة رواها البيهقي في دلائل النبوة من طريق يعقوب ابن سفيان، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، ثنا أبي عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أن رجلًا كان يختلف الى عثمان بن عفان (رضي اللَّه عنه)، فذكر القصة بتمامها. ويعقوب بن سفيان هو الفسوي الحافظ الإمام الثقة، بل هو فوق الثقة، وهذا إسناد صحيح البخاري، ومعنى ذلك أنها صحيحة، وهذا الذي يوافق كلام الحافظ ويبطل ما استنبطه الألباني من كلام الحافظ في مقدمة فتح الباري، فليتأمل. وإن الحفاظ أيضاً صححوا هذه القصة، كالمنذري في الترغيب والترهيب:

1/ 476 بإقراره للطبراني، والهيثمي في مجمع الزوائد: 2/ 279، أيضاً، وقبلهما الإمام الحافظ الطبراني في معجمه الصغير: 1/ 307 الروض الداني. وغيرهم.

ثانياً: أحمد بن شبيب من رجال البخاري، روى عنه في الصحيح وفي الأدب المفرد، ووثقه أبو حاتم الرازي وكتب عنه هو وأبو زرعة، وقال ابن عدي: وثقه أهل البصرة وكتب عنه علي بن المديني. وأبوه شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري أبو سعيد، من رجال البخاري

ص: 60

أيضاً، روى عنه في الصحيح وفي الأدب المفرد. ووثقه أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والذهلي والدارقطني والطبراني في الأوسط. قال أبو حاتم: كان عنده كتب يونس بن زيد، وهو صالح الحديث لا بأس به.

وقال ابن عدي: ولشبيب نسخة الزهري عنده عن يونس عن الزهري أحاديث مستقيمة. وقال ابن المديني: ثقة كان يختلف في تجارة الى مصر، وكتابه كتاب صحيح.

هذا ما يتعلق بتوثيق شبيب، وليس فيه اشتراط صحة روايته بأن تكون عن يونس بن يزيد، بل صرح ابن المديني بأن كتابه صحيح.

وابن عدي إنما تكلم على نسخة الزهري عن شبيب فقط، ولم يقصد جميع رواياته!

فما ادعاه الألباني تدليس وخيانة! يؤكد ذلك أن حديث الضرير صححه الحفاظ ولم يروه شبيب عن يونس عن الزهري! وإنما رواه عن روح بن القاسم!

ودعواه ضعف القصة بالاختلاف فيها، حيث لم يذكرها بعض الرواة عند ابن السني والحاكم لون آخر من التدليس! لأن من المعلوم عند أهل العلم أن بعض الرواة يروي الحديث وما يتصل به كاملًا، وبعضهم يختصر منه بحسب الحاجة، والبخاري يفعل هذا أيضاً، فكثيراً ما يذكر الحديث مختصراً أو يوجد عند غيره تاماً. والذي ذكر القصة في رواية البيهقي إمام فذ، يقول عنه أبو زرعة الدمشقي: قدم علينا رجلان من نبلاء الناس أحدهما وأرحلهما يعقوب بن سفيان، يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلًا.

وتقديمه رواية عون الضعيف على من زاد القصة، لون ثالث

ص: 61

من التدليس والغش! فإن الحاكم روى حديث الضرير من طريق عون مختصراً، ثم قال: تابعه شبيب ابن سعيد الحبطي عن روح بن القاسم زيادات في المتن والإسناد، والقول فيه قول شبيب فإنه ثقة مأمون، هذا كلام الحاكم، وهو يؤكد ما تقرر عند علماء الحديث والأصول أن زيادة الثقة مقبولة، وأن من حفظ حجة على من لم يحفظ!

والألباني رأى كلام الحاكم لكن لم يعجبه لذلك ضرب عنه صفحاً، وتمسك بأولوية رواية عون الضعيف عناداً وخيانة.

ثالثاً: تبين مما أوردناه وحققناه في كشف تدليس الألباني وغشه، أن القصة صحيحة جداً، رغم محاولاته وتدليساته، وهي تفيد جواز التوسل بالنبي (ص) بعد انتقاله؛ لأن الصحابي راوي الحديث فهم ذلك، وفهم الراوي له قيمته العلمية، وله وزنه في مجال الاستنباط.

وإنما قلنا: إن القصة من فهم الصحابي على سبيل التنزل، والحقيقة أن ما فعله عثمان بن حنيف من إرشاده الرجل الى التوسل كان تنفيذاً لما سمعه من النبي (ص) كما ثبت في حديث الضرير. قال ابن أبي خيثمة في تاريخه: حدثنا مسلم بن ابراهيم، ثنا حماد بن سلمة أنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف (رضي اللَّه عنه):

أن رجلًا أعمى أتى النبي (ص) فقال: إني أصبت في بصري فادع اللَّه لي قال: اذهب فتوضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيي محمد نبي الرحمة. يا محمد إني أستشفع بك الى ربي في رد بصري. اللهم فشفعني في نفسي، وشفع نبيي في رد بصري.

وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك. إسناده صحيح. والجملة الأخيرة من الحديث تصرح بإذن النبي (ص) في التوسل به عند عروض حاجة

ص: 62

تقتضيه. وقد أعلَّ ابن تيمية هذه الجملة بعلل واهية. بينت بطلانها في غير هذا المحل. وابن تيمية جري ء في رد الحديث الذي لا يوافق غرضه ولو كان في الصحيح! مثال ذلك: روى البخاري في صحيحه حديث (كان اللَّه ولم يكن شي ء غيره) وهو موافق لدلائل النقل والعقل والإجماع المتيقن، لكنه خالف رأيه في اعتقاده قدم العالم، فعمد الى رواية للبخاري أيضاً في هذا الحديث بلفظ (كان اللَّه ولم يكن شي ء قبله) فرجحها على الرواية المذكورة، بدعوى أنها توافق الحديث الآخر (أنت الأول فليس قبلك شي ء). قال الحافظ ابن حجر: مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه الرواية على الأولى لا العكس، والجمع مقدم على الترجيح بالاتفاق.

قلت: تعصبه لرأيه أعماه عن فهم الروايتين اللتين لم يكن بينهما تعارض...

مثالٌ ثانٍ: حديث أمر رسول اللَّه (ص) بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي، حديث صحيح، أخطأ ابن الجوزي بذكره في الموضوعات. ورد عليه الحافظ في القول المسدد. وابن تيمية لانحرافه عن علي كما هو معلوم، لم يكفه حكم ابن الجوزي بوضعه، فزاد من كيسه حكاية اتفاق المحدثين على وضعه!! وأمثلة رده للأحاديث التي يردها لمخالفة رأيه كثيرة يعسر تتبعها). انتهى كلام الصديق المغربي.

ثالثاً: تعليم عائشة للمسلمين أن يتوسلوا بقبر النبي صلى الله عليه و آله

اشارة

عقد الدارمي في سننه ج 1 ص 43، باباً تحت عنوان: (باب ما أكرم اللَّه تعالى نبيه صلى اللَّه عليه وسلم بعد موته)، وروى فيه

ص: 63

هذا الحديث:

حدثنا أبو النعمان، ثنا سعيد بن زيد، ثنا عمرو بن مالك النكري، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد اللَّه، قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم فاجعلوا منه كوًى إلى السماء، حتى لايكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق). اه.

* وقد تحير ابن تيمية وأتباعه مثل الألباني في رواية عائشة في التوسل؛ لأنها صريحة، وهي على موازين علماء الجرح والتعديل صحيحة! وبحثا عن منفذ لتضعيفها، فتعقبهم النقاد من أتباع المذاهب المختلفة وكشفوا ما ارتكبوه في تضعيف حديث عائشة اتباعاً للهوى!

قال الحافظ الصديق المغربي في رسالته (إرغام المبتدع الغبي في جواز التوسل بالنبي) ص 23: (قال الدارمي في سننه... ونقل الرواية ثم قال: ضعف الألباني هذا الأثر بسعيد بن زيد، وهو مردود؛ لأن سعيداً من رجال مسلم، ووثقه يحيى بن معين. ذكر الألباني تضعيفه في كتاب (التوسل أنواعه وأحكامه الطبعة الثانية ص 128:

واحتج بحجج باطلة على عادته في تمويهاته حيث نقل كلام ابن حجر في التقريب الذي يوافق هواه ولم ينقل من هنالك أنه من رجال مسلم في صحيحه، فلننتبه إلى هذا التدليس وهذه الخيانة التي تعود عليها هذا الرجل، الذي يصف أعداءه بكتمان الحق وما يخالف آراءهم، كما في مقدمته الجديدة لآداب زفافه والتي حلاها بما دل على اختلاطه من هجر وخنا، ثم أردف ذلك بنقل ترجمة سعيد بن زيد من الميزان

ص: 64

للذهبي، زيادة في الكتم والتعمية، وقد خان فلم يذكر ما ذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: 4/ 29 من نقل أقوال موثقيه، زيادةً على أنه من رجال مسلم في الصحيح....

وضعفه أيضاً باختلاط أبي النعمان، وهو تضعيف غير صحيح؛ لأن اختلاط أبي النعمان لم يؤثر في روايته، قال الدارقطني: تغير بآخره وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو ثقة. وقول ابن حبان وقع في حديثه المناكير الكثيرة بعد اختلاطه، رده الذهبي فقال: لم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثاً منكراً!). انتهى.

وقال السقاف في رسالته (الإغاثة بأدلة الاستغاثة) ص 24:

الدليل السادس للاستغاثة: حديث الدارمي في سننه أو مسنده (1/ 43): عمرو بن مالك أبو النعمان هو عارم واسمه محمد بن الفضل السدوسي من رجال البخاري ومسلم والأربعة أيضاً. وهو ثقة ثبت.

تغير في آخر عمره، وما ظهر له بعد تغيره حديث منكر، كما نص على ذلك أكابر الحفاظ كالدارقطني، وأقره الحافظ الذهبي في الميزان (4/ 8) فمن حاول أن يطعن فيه بالاختلاط فقد حاول الطعن في البخاري ومسلم، وسجل على نفسه بأنه لا يعرف في هذا العلم كثيراً ولا قليلًا، وليس لكلامه قيمة أصلًا.

سعيد بن زيد: هو من رجال مسلم في الصحيح. وثقه يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل، وقال الإمام البخاري: حدثنا مسلم بن ابراهيم، ثنا سعيد بن زيد أبو النكري، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد اللَّه قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت... الخ.

ص: 65

قلت: وهذا صريح أيضاً بإسناد صحيح بأن السيدة عائشة رضي اللَّه عنها استغاثت بالنبي بعد موته، وكذا جميع الصحابة الذين كانوا هناك وافقوها وفعلوا ما أرشدتهم إليه). انتهى كلام السقاف.

ص: 66

ملاحظة بالمناسبة

يدل قول عائشة هذا على أن قبر النبي صلى الله عليه و آله لم يكن في حجرتها، بل كان في حجرة النبي صلى الله عليه و آله التي كان يستقبل فيها ضيوفه، وتعرف بحجرة فاطمة لأنها كانت تسكن فيها قبل زواجها.

ويدل على ذلك أيضاً حديث عائشة أيضاً عن آيات القرآن، التي أكلتها السخلة في مرض النبي صلى الله عليه و آله ففي صحيح مسلم: 4/ 167، عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهنَّ فيما يقرأ من القرآن! ورواه الدارمي في سننه: 2/ 157. ورواه ابن ماجه في سننه: 1/ 625 وروى بعده عن عائشة قالت: لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشراً. ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها). انتهى. والداجن الحيوان الأهلي الذي يربى في المنزل كالماعز، فهذا يدل على أن مرض النبي صلى الله عليه و آله ووفاته لم يكن في غرفتها، وإلا لما كانت فارغة ودخلتها السخلة وأكلت الآيات! وبحث ذلك خارج عن موضوعنا.

ص: 67

رابعاً: روى الجميع توسل عمر بن الخطاب بالعباس عم النبي صلى الله عليه و آله

روى الحاكم في المستدرك: 3/ 334: (عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم هذا عم نبيك العباس نتوجه إليك به فاسقنا.

فما برحوا حتى سقاهم اللَّه. قال فخطب عمر الناس فقال: أيها الناس إن رسول اللَّه كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده، يعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول اللَّه في عمه العباس، واتخذوه وسيلة الى اللَّه عز وجل فيما نزل بكم). وروت ذلك عامة مصادرهم.

خامساً: إذا كان التوسل شركاً، فلماذا جوزوه بالحي؟!

لم يخالف ابن تيمية في أصل التوسل، بل خالف في التوسل بالأموات، لأنهم بزعمه لاينفعون، وجوزه بالأحياء؛ لأنهم ينفعون! واعتبر النبيّ صلى الله عليه و آله الذي هو في عقيدة كل المسلمين أفضل من الشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون، اعتبره ابن تيمية ميتاً لاينفع، وجعل التوسل به شركاً!

فالتوسل بالميت عنده شرك حتى لو كان بالنبي صلى الله عليه و آله! والتوسل بالحي عنده إيمان وعبادة حتى لو كان بشخص كافر!

فلو قال شخص: اللهم إني أتوسل اليك بنبيك صلى الله عليه و آله فقد كفر! ولو قال: اللهم أتوسل اليك بالشيخ حنتوش بن جعموص، فهو مؤمن!!

كل ذلك لأن النبي صلى الله عليه و آله بزعمه عاجز لايقدر على نفع من توسل واستغاث به الى اللَّه تعالى، بينما حنتوش وحتى الشحاذ الكافر في (الهايد

ص: 68

بارك) قادر على النفع، فالتوسل به حلال وإيمان!

واستدل على رأيه بأن عمر بن الخطاب قد توسل بالعباس عم النبي صلى الله عليه و آله ولم يتوسل بالنبي (ص)، وفسر ذلك بأن عمر مثله يعتقد أن التوسل بالميت حرام وشرك، والتوسل بالحي حلال وإيمان حتى بالكافر!

مع أن العقل والشرع يقولان: إن حكم التوسل واحد، فإن كان بالميت شركاً، فهو بالحي شرك أيضاً! وإن كان بالحي جائزاً فهو بالميت جائز، ومحال أن يكون بعضه شركاً وبعضه إيماناً!

وكما قال السيد الخوئي رحمه الله: إن جعل التوسل شركاً باللَّه تعالى لأنه دعاء غير اللَّه تعالى، فلا فرق في ذلك بين التوسل بالحي أو الميت! وإلا لزم أن يعتقد بأن بعض الشرك جائز لا يخرج عن الإسلام، وبعضه حرام مخرج عن الإسلام! وهذا تهافت وهو إشكال لاجواب له عندهم!

قال ابن باز في جواب سؤال عن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه: (أما الحي فلا بأس أن يتعاون معه؛ لأن له عملًا فيما يجوز شرعاً من الأسباب الحسية كما قال تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ (1)

، في قصة موسى، فإن موسى حيٌّ وهو المستغاث به، فاستغاثه الإسرائيلي على الذي من عدوه وهو القبطي، وهكذا الإنسان مع إخوانه ومع أقاربه، يتعاونون في مزارعهم، وفي إصلاح بيوتهم، وفي إصلاح سياراتهم، وفي أشياء أخرى من حاجاتهم،


1- - القصص: 15.-

ص: 69

يتعاونون بالأسباب الحسية المقدورة، فلا بأس.....

فالتعاون مع الأحياء شي ء جائز بشروطه المعروفة، وسؤال الأموات، والاستغاثة بالأموات، والنذر لهم أمر ممنوع، ومعلوم عند أهل العلم أنه شرك أكبر)! (موقع فتاوي ابن باز:

http ://search .ibnbaz .org /resutl 1 .asp ?c :0

سادساً: النبي صلى الله عليه و آله سيد الأحياء عند ربّه، وهو ينفع حيّاً وميتا

من الإشكالات عليهم أن المسلم الذي يدافع عن بيته وماله فيقتل، فهو حي عند ربه يرزق بنص القرآن، بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّه أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (1)

فكيف تجعلون النبي صلى الله عليه و آله الذي هو أفضل الخلق، ميتاً لايسمع توسلنا، ولاينفع من يتوسل به الى ربّه؛ لأنه لا يستطيع أن يدعو له؟!!

وأصل مشكلة هؤلاء المشايخ أنهم ينقصون من مقام النبي صلى الله عليه و آله، ولا يفهمون شخصيته الربانية المقدسة، بسبب غلظة أذهانهم وغلبة التفكير المادي عليهم، فهم يتصورون أن النبي صلى الله عليه و آله إذا مات فقد انقطع عن الدنيا، فكأنهم غربيون لايؤمنون بعوالم الغيب والروح، وحياة الشهداء عند ربهم، وأن الأنبياء عليهم السلام أحياء عند ربهم بحياة أعلى من حياة الشهداء.

والعجيب أنهم يغمضون أعينهم عن الأحاديث الشريفة الصحيحة


1- - آل عمران: 169.-

ص: 70

الصريحة في حياة نبينا صلى الله عليه و آله وأن سلامنا يبلغه وأنه يرد الجواب على أهله، وأن صلاتنا عليه تبلغه، وأعمالنا تعرض عليه، وينسون أن اللَّه تعالى أمرنا بآية صريحة في كتابه أن نأتي إليه صلى الله عليه و آله ونستغفر اللَّه عنده ونطلب منه أن يستغفر لنا، فقال:

وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّه تَوَّاباً رَحِيماً (1)

وهو أمرٌ عام لكل مسلم في كل عصر، وهو أمرٌ مطلق لحياة النبي صلى الله عليه و آله أو بعد وفاته، وتخصيصه بحياته تحكُّمٌ بلا دليل.

هكذا فهم الآية جميع المسلمين، وعملوا بها في حياة النبي صلى الله عليه و آله وبعد وفاته، وأفتى بها الفقهاء من جميع المذاهب ودونوها في مناسكهم! فهل كانوا كلهم على ضلال حتى جاء ابن تيمية في القرن الثامن، واكتشف أن جميع المسلمين بقصدهم زيارة النبي صلى الله عليه و آله وتوسلهم به مشركون كفار؟!!

قال الحافظ المغربي في الرد المحكم المتين ص 44:

(فهذه الآية عامة تشمل حالة الحياة وحالة الوفاة، وتخصيصها بأحدهما يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا، فإن قيل: من أين أتى العموم حتى يكون تخصيصها بحالة الحياة دعوى تحتاج إلى دليل؟ قلنا: من وقوع الفعل في سياق الشرط، والقاعدة المقررة في الأصول أن الفعل إذا وقع في سياق الشرط كان عاماً؛ لأن الفعل في معنى النكرة لتضمنه مصدراً منكراً، والنكرة الواقعة في سياق النفي أو الشرط تكون للعموم


1- -سورة النساء: 64.-

ص: 71

وضعاً). انتهى.

ولايتسع المجال لإيراد جميع الأدلة من الأحاديث الشريفة وفتاوى فقهاء المذاهب وحكم العقل على حياة نبينا صلى الله عليه و آله عند ربه، وسماعه سلامنا وصلاتنا وتوسلنا واستغفاره ودعائه لنا، فنكتفي ببعضها:

منها: ما رواه في مجمع الزوائد ج 9 ص 24 وقال رجاله رجال الصحيح، قال: (باب ما يحصل لأمته صلى اللَّه عليه وسلم من استغفاره بعد وفاته): عن عبداللَّه بن مسعود، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال:

إن للَّه ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام. قال: وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «حياتي خير لكم تحدثون وتحدث لكم، ووفاتى خير لكم تُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت اللَّه عليه، وما رأيت من شر استغفرت اللَّه لكم». رواه البزار ورجاله رجال الصحيح). انتهى. وقد صححه عدد كبير من علماء السنة، وقد عدَّدَ مصححيه الحافظ السقاف في الإغاثة ص 11.

ومنها: لو كان نبينا صلى الله عليه و آله لايسمع توسل المتوسلين الى اللَّه تعالى به كما يزعمون، فإن من اللغو والعبث أن يخاطبه المسلمون في صلاتهم فيقولون: (السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته)؟!

ومن محاولات الألباني المفضوحة للهروب من هذا الإشكال، أنه حاول أن يغير صيغة السلام في الصلاة من الخطاب الى الغيبة! فوجد رواية عن ابن مسعود لم يعمل بها المسلمون تقول (السلام على النبي ورحمة اللَّه وبركاته) فتمسك بها! وقد رد عليه الحافظ الصديق المغربي في رسالته (القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع ص 13) وكذا في رسالته (إرغام المبتدع الغبي في جواز التوسل بالنبي) فقال في الأخيرة

ص: 72

ص 19:

(تواتر عن النبي صلى عليه وسلم تعليم التشهد في الصلاة، وفيه السلام عليه بالخطاب ونداؤه (السلام عليك أيها النبي) وبهذه الصيغة علمه على المنبر النبوي أبو بكر وعمر وابن الزبير ومعاوية، واستقر عليه الإجماع كما يقول ابن حزم وابن تيمية! والألباني لابتداعه خالف هذا كله وتمسك بقول ابن مسعود (فلما مات قلنا السلام على النبي) ومخالفة التواتر والاجماع هي عين الابتداع).

ومنها: ما رواه الحافظ الممدوح في رفع المنارة ص 62، قال:

(قد صح أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون. أخرجه البيهقي في حياة الأنبياء ص 15، وأبو يعلى في مسنده: 6/ 147، وأبو نعيم في أخبار أصبهان: 2/ 44، وابن عدي في الكامل: 2/ 739. وقال الهيثمي في المجمع: 8/ 211: ورجال أبي يعلى ثقات. اه، والحديث له طرق.

وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره». أخرجه مسلم: 4/ 1845، وأحمد: 3/ 120، والبغوي في شرح السنة: 13/ 351، وغيرهم. وقال ابن القيم في نونيته عند الكلام على حياة الرسل بعد مماتهم (النونية مع شرح ابن عيسى:

2/ 160).

والرسل أكمل حالةً منه (الشهيد) بلا شك، وهذا ظاهر التبيان

ص: 73

فلذاك كانوا بالحياة أحق من شهدائنا بالعقل والبرهان

وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ فنساؤه في عصمة وصيان

ولأجل هذا لم يحل لغيره منهن واحدة مدى الأزمان

أفليس في هذا دليل أنه حيٌّ لمن كانت له أذنان

ومن العجيب أن ابن القيم تلميذٌ مغال في شيخه ابن تيمية، ومع ذلك يعترف بأن النبي صلى الله عليه و آله حيٌّ عند ربه يسمع وينفع، مع أن شيخه يقول: إن التوسل بالنبي (ص) شرك؛ لأنه ميت لا يسمع ولا ينفع!!

قال الشيخ أحمد زيني دحلان المصري شيخ الشافعية، في الدرر السنية ج 1 ص 42، في حديثه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (حتى أن بعض أتباعه كان يقول: عصاي هذه خير من محمد؛ لأنها ينتفع بها في قتل الحية ونحوها، ومحمد قد مات، ولم يبقَ فيه نفع أصلًا!!). انتهى.

ونقله أيضاً الشيخ الزهاوي شيخ الأحناف في العراق، في كتابه الفجر الصادق ص 18. والشيخ أبو حامد الإستانبولي من علماء الأحناف في تركيا في كتابه التوسل بالنبي (ص) ص 245، والسيد محسن الأمين من علماء الشيعة في كشف

ص: 74

الارتياب ص 127.

واعتقاد أتباع ابن تيمية بأن النبي صلى الله عليه و آله بعد وفاته لاينفع، ثابتٌ عليهم لايحتاج الى رواية مسندة عن شيخهم ولاغيره؛ لأن ذلك عقيدتهم الى اليوم، وعليه يرتكز تحريمهم التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله وكل الأموات، ولئن سألت أي شيخ منهم، هل ينفع النبي صلى الله عليه و آله اليوم؟ يدور ويلف ولا يقول ينفع!

بينما يجوزون التوسل بأي شخص حي، ولو كان كافراً بوالًا على عقبيه!

سابعاً: جوَّز المتطرفون التوسل بالحيوانات، وحرَّموه بالأنبياء عليهم السلام!

مما يشكل عليهم به أنهم جوزوا التوسل في صلاة الاستسقاء بالحيوانات، فكيف يحرمونه بالأنبياء والأولياء عليهم السلام؟!

قال النووي في المجموع: 5/ 66: (وقال أبو اسحاق: استحب إخراج البهائم لعل اللَّه تعالى يرحمها، لما روي أن سليمان (ع) خرج ليستسقي فرأى نملة تستسقي، فقال: إرجعوا فإن اللَّه تعالى سقاكم بغيركم).

وقال في المجموع: 5/ 70: (يستحب أن يستسقى بالخيار من أقارب رسول اللَّه (ص) وبأهل الصلاح من غيرهم، وبالشيوخ والضعفاء والصبيان والعجائز وغير ذوات الهيئات من النساء).

ص: 75

ثامناً: خالفوا نص إمامهم أحمد على استحباب التوسل بالنبي (ص)

ومما يشكل به عليهم أن إمامهم أحمد بن حنبل نص على مشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله واستحبابه:

قال الحافظ الممدوح في رفع المنارة: (وهو- التوسل- السؤال بالنبي أو بالولي أو بالحق أو بالجاه أو بالحرمة أو بالذات وما في معنى ذلك. وهذا النوع لم ير المتبصر في أقوال السلف من قال بحرمته أو أنه بدعة ضلالة، أو شدد فيه وجعله من موضوعات العقائد، كما نرى الآن. لم يقع هذا إلا في القرن السابع وما بعده! وقد نقل عن السلف توسلٌ من هذا القبيل.

قال ابن تيمية في التوسل والوسيلة ص 98: (هذا الدعاء (أي الذي فيه توسل بالنبي) ونحوه قد روي أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل بالنبي (ص) في الدعاء.

انتهى، ونحوه في ص 155 من الكتاب المذكور! وقال في ص 65:

(والسؤال به (أي بالمخلوق) فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس). انتهى.

وذكر أثراً فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله لفظه: (اللهم إني أتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلى اللَّه عليه وسلم تسليما. يا محمد اني أتوجه بك الى ربك وربي يرحمني مما بي). وقال ابن تيمية: فهذا الدعاء ونحوه روي أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم في الدعاء. انتهى.

وهذا هو نص عبارة أحمد بن حنبل، قال في منسك المروزي بعد

ص: 76

كلام ما نصه: وسل اللَّه حاجتك متوسلًا إليه بنبيه (ص) تقضى من اللَّه عز وجل. انتهى. هكذا ذكره ابن تيمية في الرد على الأخنائي ص 168!!

والتوسل به (ص) معتمدٌ في المذاهب ومرغبٌ فيه، نص على ذلك الأئمة الأعلام، وكتب التفسير، والحديث، والخصائص، ودلائل النبوة، والفقه، طافحةٌ بأدلة ذلك). انتهى.

تاسعاً: إمامهم ابن حنبل كان يزور القبور ويتوسل بالأموات!

يتعجب الإنسان عندما يقرأ عن الحنابلة في القديم وحتى في الحاضر، فيجد أنه ثبت عندهم أن إمامهم أحمد وكبار أئمتهم كانوا يزورون القبور ويتوسلون الى اللَّه تعالى بأصحابها!

ويجد أنهم هم بنوا على قبر أحمد بن حنبل في بغداد مسجداً وقبة، وجعلوه مزاراً يصلون عنده، ويتمسحون به ويتوسلون به! وما زال ذلك ديدن الحنابلة الى اليوم! فما بالهم اليوم يسكتون عمن يزور قبر أحمد بن حنبل في بغداد، ولا يفتون بوجوب هدم قبته، ولا يمنعون الناس من التوسل به والتبرك والتمسح بقبره؟

فهل كان إمامهم أحمد مشركاً؟ وهل أسلافهم وإخوانهم مشركون؟

أم كيف صار ذلك حلالًا، بينما صار قصد زيارة أفضل الخلق وسيد المرسلين صلى الله عليه و آله حراماً، والتوسل به الى اللَّه بدعةً وشركاً وكفراً؟! فهل إمامهم أحمد بن حنبل، وأحمد عبد الحليم تيمية، أفضل من النبي صلى الله عليه و آله؟!

ص: 77

ففي النهاية لابن كثير: 12/ 323: (وفي صفر سنة 542 رأى رجل في المنام قائلًا يقول له: من زار أحمد بن حنبل غفر له. قال: فلم يبق خاصٌ ولا عامٌ إلا زاره، وعقدت يومئذ مجلساً، فاجتمع فيه ألوفٌ من الناس)!!

وفي وفيات الأعيان لابن خلكان: 1/ 64: (أحمد بن حنبل...

توفي ضحوة الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول...

ودفن بمقبرة باب حرب، وباب حرب منسوب الى حرب بن عبد اللَّه أحد أصحاب أبي جعفر المنصور، والى حرب هذا تنسب المحلة المعروفة بالحربية، وقبر أحمد بن حنبل مشهور بها يزار.

وفي مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي الحنبلي ص 454: (حدثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي وكان شيخاً صالحاً قال: كان قد جاء في بعض السنين مطرٌ كثير جداً قبل دخول رمضان بأيام، فنمت ليلة في رمضان فأريت في منامي كأني قد جئت على عادتي الى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره، فرأيت قبره قد التصق بالأرض حتى بقي بينه وبين الأرض مقدار ساف أو سافين، فقلت: إنما تم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث! فسمعته من القبر وهو يقول: لا، بل هذا من هيبة الحق عز وجل لأنه عز وجل قد زارني!! فسألته عن سر زيارته إياي في كل عام فقال عز وجل: يا أحمد، لأنك نصرت كلامي فهو ينشر ويتلى في المحاريب.

فأقبلت على لحده أقبله ثم قلت: يا سيدي ما السر في أنه لا يقبل قبر إلا قبرك؟ فقال لي: يا بني، ليس هذا كرامة لي ولكن هذا كرامة لرسول اللَّه (ص)؛ لأن معي شعرات من شعره!! ألا ومن يحبني يزورني

ص: 78

في شهر رمضان! قال ذلك مرتين!!

وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلى الموصلي: 2/ 186: (سمعت رزق اللَّه يقول: زرت قبر الإمام أحمد صحبة القاضي الشريف أبو علي فرأيته يقبل رجل القبر! فقلت له: في هذا أثر؟ قال لي: أحمد في نفسي شي ء عظيم، وما أظن أن اللَّه تعالى يؤاخذني بهذا!!

وفي تاريخ بغداد للخطيب: 4/ 423: (عن أبي الفرج الهندباني يقول: كنت أزور قبر أحمد بن حنبل فتركته مدة، فرأيت في المنام قائلًا يقول لي: لمَ تركت زيارة إمام السنة!

وفي عمدة القاري في شرح البخاري للعيني: 5 جزء 9/ 241:

(سعيد العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل.. أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي (ص) وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك. قال: فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية، فصار يتعجب من ذلك ويقول: (عجبت! أحمد عندي جليل، يقول هذا الكلام)! وأي عجب وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به!!

وفي تاريخ الإسلام للذهبي: 14/ 335:

(قال ابن خزيمة: هل كان ابن حنبل إلا غلاماً من غلمان الشافعي؟)

وفي الغدير للأميني: 5/ 194: (قال ابن حجر في (الخيرات الحسان) في مناقب الإمام أبي حنيفة في الفصل الخامس والعشرين: إن الإمام الشافعي أيام كان هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة ويجي ء الى ضريحه يزوره فيسلم عليه ثم يتوسل الى اللَّه تعالى به في

ص: 79

قضاء حاجاته، وقال: قد ثبت أن الإمام أحمد توسل بالإمام الشافعي حتى تعجب ابنه عبد اللَّه بن الإمام أحمد، فقال له أبوه: إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن. ولما بلغ الإمام الشافعي أن أهل المغرب يتوسلون بالإمام مالك لم ينكر عليهم.

وفي الغدير: 5/ 198: قال (ابن الجوزي) في المنتظم: 10/ 283: وفي أوائل جمادى الآخرة سنة 574 تقدم أمير المؤمنين بعمل لوح ينصب على قبر الإمام أحمد بن حنبل، فعمل ونقضت السترة جميعها وبنيت بآجر مقطوع جديدة، وبني له جانبان، ووقع اللوح الجديد وفي رأسه مكتوب: هذا ما أمر بعمله سيدنا ومولانا المستضي ء بأمر اللَّه أمير المؤمنين. وفي وسطه: هذا قبر تاج السنة وحيد الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد الإمام أبي عبد اللَّه أحمد بن محمد ابن حنبل الشيباني رحمه الله. وقد كتب تاريخ وفاته وآية الكرسي حول ذلك.

ووعدت بالجلوس في جامع المنصور، فتكلمت يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى، فبات في الجامع خلق كثير وخُتمت ختمات، واجتمع للمجلس بكرة ما حزر بمائة ألف، وتاب خلق كثير وقطعت شعور، ثم نزلت فمضيت الى زيارة قبر أحمد، فتبعني من حزر بخمسة آلاف.

وقال الكوثري في هامش السيف الصقيل ص 185:

(رأيت بخط الحافظ الضياء المقدسي الحنبلي في كتابه الحكايات المنثورة المحفوظ تحت رقم 98 من المجاميع بظاهرية دمشق، أنه سمع الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي يقول: إنه خرج في عضده شي ء يشبه الدمل فأعيته مداواته ثم مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم

ص: 80

يعد إليه! إنتهى ملخصاً).

وفي رحلة ابن بطوطة: 1/ 220: (قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين بها.... وبقرب الرصافة قبر الإمام أبي حنيفة، وعليه قبة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الطعام فيها ماعدا هذه الزاوية. وبالقرب منها قبر الإمام أبي عبد اللَّه أحمد بن حنبل، ولا قبة عليه. ويذكر أنها بنيت على قبره مراراً فتهدمت بقدرة اللَّه تعالى. وقبره عند أهل بغداد معظم، وأكثرهم على مذهبه، وبالقرب منه قبر أبي بكر الشبلي من أئمة المتصوفة).

عاشراً: كيف تعمد ابن تيمية خلط المفاهيم لتكفير المتوسلين!

تعمد ابن تيمية الخلط بين النداء، والتوسل، والاستشفاع، والاستغاثة، والدعاء، والعبادة! فجعلها كلها عبادة للمنادى والمتوسل به والمستشفع به والمستغاث به! فعندما تقول: يا رسول اللَّه أتوسل بك، أو: أستشفع بك، أو: أغثني، فقد عبدته بزعمه!

لقد افترض مسبقاً أن المتوسل أو المستغيث بالنبي صلى الله عليه و آله (يدعوه) وجعل معنى يدعوه يطلب منه وليس من اللَّه تعالى! فقال له: إنك اعترفت أنك دعوت الرسول أو الولي بدل اللَّه! فأنت إذن كافر!

وهذا من أسوأ أنواع المصادرة على المطلوب، حيث قام بلف الحكم المتنازع فيه في لفافة، وجعله جزءاً من مقدمة مسلَّمة عند

ص: 81

مخالفه! مع أن المتوسل لم يدع النبي صلى الله عليه و آله بدل اللَّه تعالى! بل توسل به واستغاث به واستشفع به الى اللَّه تعالى؛ لكرامته عند اللَّه!

ومثال ذلك: أن يتوسل شخص الى رئيس مكتب الملك؛ ليتوسط له عند الملك! فيقول له ابن تيمية: إنك تعديت على شرعية الملك وجعلت رئيس مكتبه هو الملك! فعملك هذا انقلاب على الملك تستحق به الإعدام!!

وقد حاول ابن تيمية أن يستدل على هذه المصادرة المفضوحة بأن المستغيث يطلب من الرسول صلى الله عليه و آله أو الولي ما لا يقدر عليه إلا اللَّه تعالى، وهذا يستلزم أنه يؤلهه! لكن هذا كذب وافتراء على المسلمين؛ لأن المتوسلين منهم يعرفون أن الأمر كله للَّه تعالى، وأنه ليس للنبي صلى الله عليه و آله ولا لمخلوق مع اللَّه ذرة شراكة، وإنما يستشفع بنبيه؛ لكرامته على ربه! فهو يطلب من اللَّه بواسطة نبيه، أو يطلب من نبيه أن يشفع له الى ربه!

ومن الطريف أن ابن تيمية يدعي أن (لازم المذهب ليس مذهباً) فعندما يقال له: يلزم على قولك هذا أن يكون اللَّه تعالى جسماً.. يجيب أن لازم المذهب ليس بمذهب! أي يصح له أن يلتزم بشي ء ولا يلتزم بلوازمه! فلماذا لايجوز ذلك لغيره؟!

ومثال ذلك أيضاً: أن تتعطل سيارتك في الطريق، فترى شخصاً وتناديه: يا محمد ساعدني، أغثني، أتوسل بك.. فهل يقول عاقل بأنك عبدته؟!

ونفس الكلام فيمن يتوسل أو يستغيث بنبيه (ص)، فهو لا يعبده، وإنما يطلب مساعدته بما له من مقام وكرامة عند ربه تعالى.

حادي عشر: شيطنة ابن تيمية في نقل التوسل من الفقه الى أصول العقائد!

ص: 82

كانت مسألة التوسل والاستشفاع والاستغاثة لمدة ثمانية قرون مسألة فقهية، وكان فقهاء المذاهب جميعاً، يبحثونها في باب الحج والزيارة، فيذكرون صورها، ويفتي مفتيهم بجواز بعض فروعها وحرمة بعضها!

حتى جاء شخص حراني نصبه الحاكم المملوكي الشركسي لمدة قليلة بمنصب (شيخ الاسلام في الشام) أي قاضي القضاة، فابتدع في هذه المسألة ونقلها من فروع الفقه الى أصول الدين! من أجل أن يكفّر مسلمي عصره والعصور المتقدمة؛ لأنهم يتوسلون بنبيهم الميت (ص)!!

ومثل هذا كما إذا نقلنا مادة جزائية من القانون التجاري أو القانون الجنائي، وجعلناها في مواد مخالفة الدستور، ومن اختصاص أمن الدولة ففي هذه الحالة سيكون الفرق على مرتكبها كبيراً؛ لأن التهمة الجنائية أصعب من التهمة الجزائية، وأصعب منهما تهمة الإخلال بالأمن!!

وما فعله ابن تيمية هو أنه نقل مخالفة المتوسلين من مجرد مخالفة للشرع، وجعلها إخلالًا بأصول الدين وارتكاباً للشرك! فبذلك فقط يستطيع أن يحكم عليهم بالكفر ويستحل قتلهم، ويستبيح أموالهم وأعراضهم!!!

ص: 83

ثاني عشر: هل كذَّب ابن تيمية نفسه وجوَّز التوسل بالنبي (ص)؟!

نقل أتباع ابن تيمية عنه أنه تراجع عن رأيه عندما سجنوه في مصر وحاكموه على آرائه الشاذة، ومنها تحريم التوسل بالنبي (ص).

قال السقاف في رسالته: البشارة والإتحاف بما بين ابن تيمية والألباني في العقيدة من الاختلاف: (فصل: أما مسألة التوسل فقد اختلفت آراء دعاة السلفية فيها بشكل ملحوظ، مع أن الموجودين في الساحة منهم اليوم يقولون بأن هذه المسألة من مسائل العقائد، وليست كذلك قطعاً.

أما ابن تيمية فقد أنكر في كتابه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) التوسل ومرادنا التوسل بالذوات، ثم رجع عن ذلك كما نقل تلميذه ابن كثير في البداية والنهاية: 14/ 45، حيث قال: قال البرزالي: وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين، وكلموه في ابن عربي وغيره الى الدولة، فردوا الأمر في ذلك الى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شي ء، لكنه قال: لا يستغاث إلا باللَّه لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يتوسل به ويتشفع به الى اللَّه. فبعض الحاضرين قال ليس عليه في هذا شي ء، ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب). انتهى.

ويؤيد ما ذكره السقاف ظاهر كلام ابن تيمية في رسالته التي كتبها من سجنه، وهى في مجموعة رسائله حيث قال ص 16:

ص: 84

وكذلك مما يشرع التوسل به في الدعاء كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن النبي (ص) علم شخصاً أن يقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد يا رسول اللَّه، إني أتوسل بك الى ربي في حاجتي ليقضيها. اللهم فشفعه فيَّ. فهذا التوسل به حسن، وأما دعاؤه والاستغاثة به فحرام! والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين. المتوسل إنما يدعو اللَّه ويخاطبه ويطلب منه لا يدعو غيره إلا على سبيل استحضاره، لا على سبيل الطلب منه. وأما الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعو ويطلب منه ويستغيثه ويتوكل عليه). انتهى.

لكن المتأمل يجد أن ابن تيمية لف كلامه بلفافة، حيث جوَّز التوسل، لأنه دعاء للَّه وليس للنبي (ص)، وبهذا كذب نفسه عندما قال:

إن التوسل بالميت دائماً دعاء له وهو شرك! لكنه جعل التوسل قسماً في مقابل الاستغاثة مع أنهما شي ء واحد! ثم جعل الاستغاثة دعاءً للنبيّ (ص) من دون اللَّه تعالى، وعبادةً وتوكلًا عليه من دون اللَّه تعالى! وهذا لا يقصده أحدٌ من المسلمين بتوسله بنبيه (ص)!!

ثالث عشر: رأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحفيده والبدير

جاء في (عقائد الاسلام لمحمد بن عبد الوهاب ص 26): (فمن قصد شيئاً من قبر أو شجر أو نجم أو نبي مرسل لجلب نفع أو كشف ضر، فقد اتخذ إلهاً من دون اللَّه، فكذب بلا إله إلا اللَّه، يستتاب وإلا قُتل، وإن قال هذا المشرك: لم أقصد إلا التبرك، وإني لأعلم أن اللَّه هو

ص: 85

الذي ينفع ويضر، فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردت، كما أخبر اللَّه تعالى عنهم أنهم لما جاوزوا البحر، أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فأجابهم بقوله:

إنكم قوم تجهلون). انتهى.

وبذلك أفتى بكفر كل من توسل بنبينا صلى الله عليه و آله أو بغيره من الأنبياء عليهم السلام وهدَرَ دمَه وأحلَّ ماله وأحل عرضه، حتى لو كان ذلك في اعتقاده لا ينافي التوحيد! وهذا هو الإفراط الذي عانى منه المسلمون الكثير، وما زالوا.

وقال الشيخ سليمان حفيد ابن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد ص 209:

فحديث الأعمى شي ء، ودعاء غير اللَّه تعالى والاستغاثة به شي ء آخر. فليس في حديث الأعمى شي ء غير أنه طلب من النبي (ص) أن يدعو له ويشفع له، فهو توسل بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في آخره:

اللهم فشفعه فيَّ، فعلم أنه شفع له. وفي رواية أنه طلب من النبي (ص) أن يدعو له! فدل الحديث على أنه (ص) شفع له بدعائه، وأن النبي (ص) أمره هو أن يدعو اللَّه، ويسأله قبول شفاعته. فهذا من أعظم الأدلة أن دعاء غير اللَّه شرك؛ لأن النبي (ص) أمره أن يسأل قبول شفاعته، فدل على أن النبي (ص) لا يدعى، ولأنه (ص) لم يقدر على شفائه إلا بدعاء اللَّه له. فأين هذا من تلك الطوام؟! والكلام إنما هو في سؤال الغائب (يقصد النبي بعد موته) أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا اللَّه! أما أن تأتي شخصاً يخاطبك (يعني شخصاً حياً) فتسأله أن يدعو لك، فلا إنكار في ذلك على ما في حديث الأعمى. فالحديث

ص: 86

سواء كان صحيحاً أو لا، وسواء ثبت قوله فيه يا محمد أو لا، لا يدل على سؤال الغائب (الميت) ولا على سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا اللَّه، بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك فهو مفتر على اللَّه وعلى رسوله (ص)!! انتهى.

فانظر كيف شكك في حديث الأعمى الذي صححه علماء المذاهب، وصححه ابن تيمية؟! ثم انظر كيف افترض أن المستشفع (يدعو) النبي صلى الله عليه و آله من دون اللَّه تعالى، ويطلب منه نفسه ما لا يقدر عليه إلا اللَّه تعالى؟! كل ذلك ليثبت أن المسلم المستغيث الى اللَّه برسوله قد كفر، واستبدل عبادة اللَّه بعبادة الرسول! ويستحل بذلك قتله وأخذ ماله وعرضه!!

وإن سألته عن دليله على أن المتوسلين والمستشفعين يدعون الرسول صلى الله عليه و آله من دون اللَّه.. يجبك كما قال جده: إنه مشرك يعبد غير اللَّه، حتى لو اعتقد أن الضار النافع هو اللَّه فقط!!

أما البدير فيقول: (والاستغاثة بالأموات، والاستعانة بهم، أو طلب المدد منهم، أو نداؤهم وسؤالهم لسد الفاقة وجلب الفوائد ودفع الشدائد، شرك أكبر! يخرج صاحبه عن ملة الاسلام، ويجعله من عُبَّاد الأوثان).

انتهى.

وبذلك يحكم على كل المسلمين بالكفر؛ لأنهم يقولون: يانبي اللَّه إنا نتوسل بك الى اللَّه، ونستشفع بك اليه، ونستغيث بجاهك عنده اليه أن يرحمنا!! ويحكم كذلك بوجوب قتلهم وجعل أموالهم غنائم ونساءهم وبناتهم إماءً،! ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.

**

ص: 87

المسألة السادسة: زعمه أن الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله وسيلة للشرك!

اشارة

قال البدير: (المخالفة الرابعة: دعاء اللَّه عند القبر، أو اعتقاد أن الدعاء عنده مستجاب، وذلك فعل محرم؛ لأنه من أسباب الشرك. ولو كان الدعاء عند القبور أو عند قبر النبي (ص) أفضل وأثوب وأحب إلى اللَّه وأجوب؛ لرغَّبنا فيه رسول الهدى (ص)، لأنه لم يترك شيئاً يقرب إلى الجنة إلا وحث أمته عليه، فلما لم يفعل ذلك علم أنه فعل غير مشروع وعمل محرم وممنوع.

وقد روى أبو يعلى والحافظ الضياء في المختارة (أن علي بن الحسين (رضي اللَّه عنهما) رأى رجلًا يجي ء إلى الفرجة كانت عند قبر النبي (ص) فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي رسول اللَّه (ص): لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ فإن تسلميكم يبلغني أين كنتم). انتهى.

**

أولًا:ما هو الأصل الأولي في الأشياء عندهم؟

ص: 88

نلاحظ أن البدير استدل على تحريم الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله بأن النبي لم يأمرنا به ولم يحثنا عليه! كأنه يقول: وحيث لم يرد فيه نص فهو حرام! فهل يلتزمون في أصول فقههم بأن الأصل في الأشياء الحرمة حتى يرد فيها نص؟!

كلا! فهم يستعملون في حياتهم عشرات الوسائل والمئات مما لم يرد فيها نص، وحجتهم أنها مباحة؛ لأنه لم يرد فيها تحريم!

ثم يناقضون أنفسهم، فيستدلون على ما يريدون تحريمه بأنه لا نص فيه، مثل إهداء الزهور للمريض، ووضع الرياحين على القبر، وقراءة الفاتحة عنده، والاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وعشرات الأمور التي يحرمونها تحكماً بغير دليل إلا قولهم لم يأمر بها النبي صلى الله عليه و آله أو لم يفعلها!

وعندما تقول لهم: حددوا موقفكم، فإن كان الأصل فيما لا نص فيه الحرمة، فالتزموا به في كل أموركم وحرموا كل شي ء لم يرد فيه نص. وإن كان الأصل الحلية والإباحة، فلماذا تحرمون ما أحل اللَّه بحجة عدم النص؟! وكم سألناهم فتهربوا من الجواب، لأنهم يريدون الاستدلال بالشي ء ونقيضه! فمرة يجعلون الأصل في الأشياء الإباحة والحلية ويحللون، ومرات ومرات يجعلون الأصل فيها الحرمة ويحرمون!

وقد رد علماء الأصول من كل المذاهب مقولة أن الأصل في كل

ص: 89

شي ء هو التحريم، وأثبتوا أن الأصل فيها الإباحة حتى يثبت تحريمها، واستدلوا بقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّه بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ (1)

، وقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (2)

، فالحجة للَّه على خلقه أن يبين لهم ما يجب اتقاؤه وتجنبه، وحيث لم يبينه في الكتاب والسنة فلا تحريم ولا عقاب!

هذا هو حكم اللَّه تعالى فيما لا نص فيه، فمن حرَّم شيئاً بدون دليل من كتاب أو سنة، فقد اجترأ، ونسب الى دينه ما ليس منه!

قال سيد سابق في فقه السنة ج 3 ص 288: (أما ما سكت الشارع عنه ولم يرد نص بتحريمه فهو حلال، تبعاً للقاعدة المتفق عليها وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة، وهذه القاعدة أصل من أصول الاسلام. وقد جاءت النصوص الكثيرة تقررها، فمن ذلك قول اللَّه سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً (3)

، وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة أن رسول اللَّه (ص) قال: إن اللَّه فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نسيان، فلا تبحثوا عنها)... الخ.

وفي كشاف القناع للبهوتي: 1- 190: (إذ الأصل في الأشياء الإباحة إلا لدليل). وفي مجموع النووي: 1- 210: (ومذهبنا


1- -سورة التوبة: 115.-
2- -سورة الاسراء: 15-
3- -سورة البقرة: 29.-

ص: 90

ومذهب سائر أهل السنة أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، وأن العقل لا يثبت شيئاً). انتهى.

وهذا هو مذهب أهل البيت عليهم السلام فقد روى الصدوق في الفقيه:

4- 75: (وخطب أمير المؤمنين عليه السلام الناس فقال: إن اللَّه تبارك وتعالى حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً لها، فلا تكلفوها، رحمةً من اللَّه لكم فاقبلوها).

وفي الكافي: 5- 313، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: كل شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه (1)

ثانياً:خالف البدير إمامه وأئمة المذاهب بتحريمه الدعاء عند القبر!

لقد أفرط هذا الشيخ القليل العلم الكثير التعصب، فخالف حتى إمامه ابن تيمية عندما قال: (المخالفة الرابعة: دعاء اللَّه عند القبر، أو اعتقاد أن الدعاء عنده مستجاب، وذلك فعل محرم).!!

فإن ابن تيمية لم يقل ولا قال أحد من أئمة المذاهب، ولا أحد من علماء المسلمين، ولا من جهالهم: إن الدعاء عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حرام!


1- -(راجع في تفسير آية (حتى يبين لهم): الكافي ج 1 ص 163، وابن كثير ج 3 ص 203، والدر المنثورج 3 ص 286، وفتح القدير ج 2 ص 414. وراجع في القاعدة إحكام الآمدي: 1 ص 130، والمستصفى: ج 1 ص 40)-

ص: 91

والبحث الذي ابتدعه ابن تيمية ليس في أصل الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله بل في اتجاه الزائر في حال زيارته للنبي صلى الله عليه و آله وهل يتجه الى قبر النبي أو الى القبلة؟ ثم في اتجاه الداعي في حال دعائه اللَّه تعالى بعد زيارة النبي صلى الله عليه و آله، وهل يبقى متجهاً الى القبر، أو يجب أن يتجه الى القبلة؟!

وقد حرم ابن تيمية الاتجاه في حال الدعاء الى القبر، وليس أصل الدعاء عند القبر الشريف، كما فعل هذا الشيخ المفرط!

قال الألباني في كتابه في أحكام الجنائز ص 195: (قلت: فإذا كان الدعاء من أعظم العبادة، فكيف يتوجه به إلى غير الجهة التي أمر باستقبالها في الصلاة؟ ولذلك كان من المقرر عند العلماء المحققين أنه لا يستقبل بالدعاء إلا ما يستقبل بالصلاة. قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى في اقتضاء الصراط المستقيم 175: (وهذا أصل مستمر أنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه، ألا ترى أن الرجل لما نهي عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها، فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء؟ ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح، سواء كانت في المشرق أو غيره، وهذا ضلال بين وشر واضح....

وتابع الألباني عن إمامه ابن تيمي ة يقول:

وذكر قبل ذلك بسطور عن الإمام أحمد وأصحاب مالك أن المشروع استقبال القبلة بالدعاء حتى عند قبر النبي (ص) بعد السلام عليه. وهو مذهب الشافعية أيضاً.... فقال شيخ الاسلام في القاعدة الجليلة، في التوسل والوسيلة ص 125: (ومذهب الأئمة الأربعة مالك

ص: 92

وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الاسلام أن الرجل إذا سلم على النبي (ص)، وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة، واختلفوا في وقت السلام عليه، فقال الثلاثة مالك والشافعي وأحمد:

يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه، وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام، كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم، ثم في مذهبه قولان: قيل يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره. فهذا نزاعهم في وقت السلام. وأما في وقت الدعاء، فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة). انتهى كلام الألباني وابن تيمية.

فأنت تلاحظ أن ابن تيمية نقل عن المذاهب الأربعة أنهم لا خلاف بينهم في الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله، وإنما البحث هل يستقبل الداعي القبلة أم يستقبل قبر النبي صلى الله عليه و آله؟! وهذا دليل دامغ على بطلان ما ذكره البدير وغيره من تحريم الدعاء عند القبر الشريف!

وحيث أجمعت المذاهب وفق مذهب أهل البيت الطاهرين عليهم السلام على مشروعية الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله فقد تحقق إجماع المسلمين، ولم يبق أي قيمة لقول البدير ومن يحرمه، ويعتبره من أسباب الشرك!

أما استقبال القبر الشريف عند الزيارة فهو طبيعي عند كل البشر، وأما في حالة الدعاء بعد الزيارة، فيستحب في مذهب أهل البيت عليهم السلام أن يستقبل القبلة ولو جعل القبر خلف كتفيه، ففي الكافي ج 4 ص 551، في حديث صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (وإن كانت لك حاجة فاجعل قبر النبي صلى الله عليه و آله خلف كتفيك واستقبل القبلة وارفع يديك، واسأل حاجتك، فإنها أحرى أن تقضى إن شاء اللَّه). انتهى.

لكن ذلك لا يعني أن نضلل أو نكفر المسلم إذا دعا اللَّه وهو متجه

ص: 93

الى أي جهة، فإنه يدعو اللَّه تعالى، ولا يدعو الشخص أو القبر الذي أمامه!

بينما قال الحصني الدمشقي في دفع الشبه عن الرسول (ص) ص 201: (وأما الدعاء عند القبر فقد ذكره خلق، ومنهم الإمام مالك، وقد نص على أنه يقف عند القبر، ويقف كما يقف الحاج عند البيت للوداع ويدعو، وفيه المبالغة في طول الوقوف والدعاء، وقد ذكره ابن المواز في الموازية فأفاد ذلك. إن إتيان قبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم والوقوف عنده والدعاء عنده من الأمور المعلومة عند مالك، وأن عمل الناس على ذلك قبله وفي زمنه، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لأنكره، فضلًا عن أن يفتي به أو يقره عليه. وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى اللَّه عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدعو ويسلم، ولا يمس القبر بيده). انتهى. وقد ذكر ذلك عن فقهاء حنابلة، وآخرين أيضاً، فراجع.

ثالثاً:رد ما نسبه البدير الى الإمام زين العابدين عليه السلام

نلاحظ أن البدير وأئمته إنما يذكرون أهل البيت النبوي عليهم السلام عندما يجدون حديثاً موضوعاً منسوباً الى أهل البيت عليهم السلام يوافق أهواءهم!

والحديث الذي ذكره عن الإمام زين العابدين عليه السلام، من هذا النوع، وهو لا يتم حتى على موازينهم لا سنداً، ولا دلالة!

أما سنداً، فقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده: ج 1 ص 361، قال: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين قال: حدثنا علي بن عمر، عن

ص: 94

أبيه، عن علي بن حسين، أنه رأى رجلًا يجي ء إلى فرجة كانت عند قبر النبي (ص) فيدخل فيها فيدعو، فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول اللَّه (ص) قال: لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا عليَّ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم). انتهى.

ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ج 2 ص 268، لكن فيه: «فإن صلاتكم تبلغني» ورواه البخاري في الأدب المفرد ج 2 ص 186، وحذف آخره، في ترجمة جعفر بن ابراهيم الجعفري، وهو علة الحديث عندهم؛ لأنه لم يوثقه أحد! ولذا اعتبره الألباني في أحكام الجنائز ص 220 مؤيداً فقط، قال: (وله شاهد آخر بنحو هذا من طريق علي ابن الحسين عن أبيه عن جده مرفوعاً أخرجه اسماعيل القاضي رقم 20 وغيره). انتهى.

وأما دلالةً، فإن الحديث ليس فيه نهي عن الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله؛ لأن النهي فيه عن الدخول من الفرجة الى القبر، والكلام المروي فيه عن النبي صلى الله عليه و آله ليس فيه ذكرٌ للدعاء عند قبره!!

والأغرب من هذا أن ابن تيمية استدل بحديث الإمام زين العابدين عليه السلام على أن قصد قبر النبي صلى الله عليه و آله للسلام حرام، والدعاء عنده حرام! وهو من نوع كلام الجرائد، لا يستعمله طالب في الاستدلال الفقهي!

قال في الإقتضاء ص 155- 156، على ما نقله عنه الألباني في أحكام الجنائز ص 220: (فهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي اللَّه عنهم نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند

ص: 95

قبره (ص)، واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي، وهو أعلم بمعناه من غيره، فتبين أن قصده أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من الدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً. وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره اتخاذه عيداً. فانظر هذه السنة كيف أن مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول اللَّه (ص) قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط). انتهى.

فاعجب لهذا النوع من الاستدلال الذي يرتب عليه صاحبه تحريم الدعاء عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتحريم القصد اليه ولو بخطوة بنية زيارته، وتحريم دعاء اللَّه تعالى عند قبره الشريف، ويرتب على ذلك تكفير المسلمين!!

والعجيب هنا أنه يمدح أهل البيت النبوي؛ لتخيله أن روايتهم وافقت هواه!

رابعاً:فضيحتهم في تحريم الاعتقاد بأن الدعاء عندالنبي صلى الله عليه و آله مستجاب!

لم يكتف البدير بتحريم الدعاء عند قبر النبي (ص)، حتى جعل اعتقاد المسلم بأن الدعاء عند قبر نبيه معصية تؤدي الى الشرك! قال: «المخالفة الرابعة: دعاء اللَّه عند القبر، أو اعتقاد أن الدعاء عنده مستجاب، وذلك فعل محرم؛ لأنه من أسباب الشرك»!!

ولو كان القائل غير مسلم، لقلنا إنه يستعمل أسلوباً خبيثاً لتنقيص مقام النبي صلى الله عليه و آله وتشكيك المسلمين فيه، وإبعادهم عن زيارته

ص: 96

والاعتقاد باستجابة دعائهم عند قبره ببركته! لكنه الإفراط لا يقف بصاحبه عند حد!

وممن أفرط من مشايخهم وزاد على إمامه ابن تيمية المدعو الشيخ صالح الفوزان، قال الحافظ الممدوح في كتابه رفع المنارة في تخريج أحاديث التوسل والزيارة، هامش ص 45: (هو صالح الفوزان، ودعوى البدعة والشرك عنده سهلة جداً، حتى أنني رأيت منسكاً له عد فيه الدعاء عند القبر الشريف من الأخطاء العظيمة، لأنه (وإن كان الداعي لا يدعو إلا اللَّه) بدعةٌ ووسيلةٌ إلى الشرك! كذا في منسكه (ص 52). وغير خفي أن الدعاء عند القبر الشريف تظافرت النقول عليه عن السلف والخلف، وابن تيمية ذكر ذلك عن جماعات في رده على الأخنائي ص 37- 38، فانظره). انتهى.

ولعلك لو قلت لأحدهم: إن لي حاجة الى اللَّه، وأنا ذاهب الى بغداد لزيارة قبر ابن حنبل، أو الى الشام لزيارة قبر أحمد عبد الحليم ابن الحاجة تيمية؛ لأدعو اللَّه عند قبره، فما تقول؟ لقال لك: أحسنت وخيراً تفعل، أرجو أن يقضي اللَّه حاجتك؛ لأن الدعاء عند قبره مستجاب!

نقول ذلك، لأنهم قالوا مثل هذا الكلام في إمامهم أحمد بن حنبل، وأئمتهم المجسمة مثل ابن لال الفارسي، أي الأخرس!

قال إمامهم الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 17 ص 75: (ابن لال. الشيخ الإمام الفقيه المحدث، أبو بكر أحمد بن علي بن أحمد، له:

السنن ومعجم الصحابة، ما رأيت أحسن منه. والدعاء عند قبره مستجاب)!!

ص: 97

وقال الذهبي في سيره أيضاً ج 16 ص 519: عن الحافظ شيرويه الديلمي: (كان ركناً من أركان الحديث ثقة.... ويستجاب الدعاء عند قبره)!

وقال في تذكرةالحفاظ ج 3 ص 985: عن صالح بن محمد السمسار: (الحافظ الكثير الصدق المعمر أبو الفضل التميمي الهمذاني السمسار، حدث عن أبيه وعلي بن الحسن بن سعد، وله مصنفات غزيرة، توفي في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاث مائة. والدعاء عند قبره مستجاب)!! انتهى.

وقد تقدمت نصوص عديدة لا يمكنهم ردها في زيارتهم لقبر إمامهم ابن حنبل وغلوهم فيه، ودعائهم عنده، وتوسلهم به!!

فقليلًا من الإنصاف يا قومنا! فقد جعلتم زيارة قبور أئمتكم، والدعاء عندها، والاعتقاد بالاستجابة عندها، إيماناً وتسليماً!

وجعلتم زيارة قبر سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه و آله والدعاء عنده والاعتقاد باستجابته.. معصيةً وشركاً؟!! روحي فداك يا رسول اللَّه، كم ظلمك الجهال المتعصبون! وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا!

خامساً:مخالفتهم لأمر القرآن بالصلاة والدعاء عند مقام ابراهيم عليه السلام

فقد خالف هؤلاء المتطرفون في فتواهم بتحريم الصلاة عند القبور قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِىَ

ص: 98

لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (1)

، فالأمر الإلهي باتخاذ مصلى من مقام نبيه ابراهيم يُشعر بجواز اتخاذ المصلى عند مقام الأنبياء عليهم السلام وقبورهم المشرفة. ويكون دليلًا على عدم صحة الحديث النبوي الذي رووه، أو على عدم فهمهم له! إذ كيف يعقل أن يأمر اللَّه تعالى المسلمين ومن قبلهم من أتباع إبراهيم عليه السلام أن يتخذوا من مقامه الذي أقام فيه مصلى للتبرك ويعبدوا اللَّه تعالى ويدعوه عنده، وفي نفس الوقت ينهاهم عن الصلاة والدعاء في مقام وارث ابراهيم وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه و آله وعند قبره الشريف، وكذا في مقام غيره من الأنبياء عليهم السلام وعند قبورهم الشريفة وبقاعهم الطاهرة؟!

سادساً:تناقض أتباع ابن تيمية في حكم الصلاة عندالقبر!

إذا كانت الصلاة على القبر أو عند القبر جريمة، فهل الصلاة على قبر ابن باز حلال؟! فقد كتب أحد السلفيين واسمه بندر الشعلان في شبكة الساحة العربية السلفية، بتاريخ 18- 05- 1999، سائلًا مستغرباً، قال:

(كنت في زيارة لمقبرة العدل يوم أمس الاثنين فرأيت مطوعاً يصلي على قبر سماحة الشيخ ابن باز رحمة اللَّه عليه!

في البداية استغربت من الوضع، ولما اقتربت منه وجدته يصلي عليه صلاة الميت بعد أكثر من ثلاثة أيام من دفنه، وأنا أعرف أن الرسول صلى اللَّه عليه وسلم نهى عن الصلاة عند القبور.. فما هي


1- -سورة البقرة: 125.-

ص: 99

وجهة نظركم وفتواكم في هذا الموضوع؟!

فأجابه شيخ منهم اسمه أبو محمد الدوسري فقال: (لقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى بأن صلاة الجنازة على القبر إلى شهر جائزة وذلك عند الإمام أحمد رحمه اللَّه رحمة واسعة. ثم هداك اللَّه لماذا هذا الأسلوب في قولك (فرأيت مطوعاً) هل كل مطوع يوحي لك بشي ء؟ اللَّه أعلم، كأنك انتقصت قدر أخيك فدعوت له بالمغفرة كي يعفو اللَّه عنك. ثم يا أخي الشكل لا يوحي بالعلم في غالب الأحوال، واللَّه أعلم.

ثم كتب له ابن الوادي يفرق بين الصلاة على القبر والصلاة عند القبر. فأجابه أحدهم: (استغرابي هو ما عسى أن يكون الفرق بين صلاة الجنائز وسائر الصلوات، حتى حكمنا على مفردة بالشرك، وعلى المفردة الأخرى بالنزاهة من درن الشرك؟!! ... الخ.).

وجرى بينهم نقاش طويل واختلاف، ولم يستطيعوا إقناع المتسائلين منهم بالفرق الذي يجعل صلاةً عند القبر إيماناً، وصلاةً أخرى شركاً، مع أن نية المصلي فيهما عبادة اللَّه تعالى، وليس عبادة صاحب القبر؟!!

وقام المشايخ كالعادة بتوبيخ السائل وشتمه!

راجع نص الموضوع في الموقع.

***

ص: 100

ص: 101

المسألة السابعة: زعمه أن مراسم احترام قبر النبي صلى الله عليه و آله بدعة!

اشارة

(أفتى) البدير بأن التوجه من داخل المسجد الى قبر النبي صلى الله عليه و آله وزيارته، حرام ومعصية، وكذلك حرَّم أنواعاً من الآداب والاحترام يؤديها الحجاج والزوار لقبر نبيهم (ص)! قال: (المخالفة السابعة: التوجه إلى قبره الشريف من كل نواحي المسجد، واستقباله له كلما دخل المسجد، أو كلما فرغ من الصلاة، ووضع اليدين على الجنبين وتنكيس الرؤوس والأذقان أثناء السلام عليه في تلك الحال.

وهذه من البدع المنتشرة والمخالفات المشتهرة، فاتقوا اللَّه عباد اللَّه واحذروا سائر البدع والمخالفات واحذرو الهوى والتقليد الأعمى، وليكن أمركم على بينة وهدى. قال جل وعلا: أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم.

وكذلك زعم البدير أن إرسال السلام مع أحد الى النبي صلى الله عليه و آله حرام وبدعة! قال:

(المخالفة الخامسة: إرسال من عجز عن الوصول الى المدينة سلامه لرسول اللَّه (ص) مع بعض الزوار، وقيام بعضهم بتبليغ هذا السلام، فهذا فعل مبتدع، وأمر مخترع. فيا مرسل السلام، ويا مبلغه: كفَّ عن ذلك، فقد كفيتكما بقوله (ص): صلوا عليَّ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم.

وبقوله (ص): إن للَّه في الأرض ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام.

أخرجه أحمد).

أولًا:ليس لفتاواهم قيمة علمية؛ لأنها تحكماتٌ بغيردليل!

ص: 102

من شروط الفقيه أن يكون متقياً يخاف اللَّه تعالى فلا يستعجل في فتواه، ولا يتبع الظن والاحتمال؛ لأنه بفتواه ينسب حكماً الى اللَّه العظيم عز وجل، فلا بد أن يكون مستنده العلم والقطع.

هذا هو المنهج الصحيح في الاستنباط، ولا يفرق الأمر فيه بين أن يكون الموضوع تحليل شي ء أو تحريمه، فالتحريم كالتحليل يحتاج الى مستند قطعي!

ولو سألنا هذا الشيخ: ما الدليل على أن هذه الآداب والمراسم، التي يستعملها بعض الحجاج تجاه النبي صلى الله عليه و آله عند قبره الشريف، حرام؟!

إن كنت تفتي بالاعتماد على القرآن والسنة، فأرنا آيةً أو حديثاً تدل على تحريم ذلك! وإن كنت تعتمد على حكم العقل، فأنت إذن تقبل دور العقل الإنساني في استنباط الحكم الشرعي، فلا تحتكر هذا الحق لعقلك وحدك، واقبل دور عقول كل فقهاء المسلمين في الاستنباط، واعذر مقلديهم!

وإذا كان عقلك الكبير يرى أن هذه الآداب والمراسم شرك باللَّه تعالى، أو ذريعة للشرك، فإن عقول غيرك ترى أن مراسم احترام النبي صلى الله عليه و آله من لبِّ التوحيد، ومن أفضل القربات الى اللَّه الواحد الأحد الفرد الصمد!

ألم يقل اللَّه تعالى للمسلمين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ

ص: 103

لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه أُولَئِك الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّه قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (1)

وقال لهم: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (2)

فإذا كان المسلم يعتقد بالدليل أن حرمة النبي صلى الله عليه و آله ميتاً كحرمته حياً، فهو يتصرف في مسجده وعند قبره كأن النبي صلى الله عليه و آله أمامه، فهل يجب عليه أن يترك دليله واعتقاده، ويعمل بتصورات عقلك بأن النبي صلى الله عليه و آله مات وانتهى!

إن كنت لا ترى، فاعذر من يرى! فإن من يعلم حجة على من لا يعلم!

ثانياً:ما الذي يضرك من مراسم احترام الحجاج لنبيهم صلى الله عليه و آله؟!

ثم، ما الذي يضرك من إرسال مسلم سلامه الى نبيه صلى الله عليه و آله مع زائره؟! فهل صار واجب المشايخ أن يفتشوا قلوب الناس وما يحمل وينقل فيها، وأن يقسموا السلامات المرسلة الى سلامات يجوز حملها ونقلها، وسلامات يحرم حملها ونقلها؛ لأن ذلك شرك باللَّه العظيم؟!

وهل يختلف تجسسكم على قلوب الناس عن التجسس


1- - الحجرات: 2- 3.-
2- -النور: 63.-

ص: 104

على بيوتهم؟!

ثم، ألست مسلماً تعتقد بأن السلام يبلغ النبي (ص)! فما الفرق بين أن يسلم عليه المسلم عن نفسه، أو يسلم عليه ويبلغه السلام من غيره؟

وكيف صار حمل السلام اليك وإبلاغك إياه حلالًا وأمانةً وإيماناً، وحمله الى النبي صلى الله عليه و آله وإبلاغه إياه مخالفةً ومعصيةً وشركاً وكفراً؟

وهل تدلنا على مسلم من مليار مسلم يصدقك بأنك أنت حيٌّ تسمع وتنفع، والنبي صلى الله عليه و آله ميتٌ لا يسمع ولا ينفع؟!

سبحان اللَّه كيف يبلغ الإفراط بأصحابه، أن تصبح سليقتهم عوجاء؟!

ثالثاً: من أمثلة ما صنعه الإفراط بأصحابه!

مَثَلُ ابن تيمية وأتباعه كشخص كان يقف على حافة سطح، فخاف أن يقع منه، فأخذ يحتاط ويرجع الى الوراء، فأفرط في رجوعه حتى وقع من الجهة الأخرى من السطح!

فقد خافوا أن ينفوا صفات اللَّه تعالى ويعطلوها، مثل صفات السميع البصير العليم المتكلم... فأفرطوا في طريقة إثباتها فأثبتوا للَّه تعالى أذناً وعيناً ويداً وفماً وأعضاءً كأعضائنا! حتى يسمع بها ويرى بها ويتكلم...! فوقعوا بذلك في التجسيم، وقالوا: فلنكن مجسمة وأصروا عليه؛ لأن صفات اللَّه بخيالهم لا يمكن إثباتها إلا إذا جعلوا ربهم وجوداً مادياً! وجعلوا خالق كل شي ء سبحانه، ومنه الزمان والمكان، خاضعاً لقوانين الزمان والمكان!

ص: 105

وهنا في موضوع زيارة النبي صلى الله عليه و آله والتوسل به، أرادوا أن يوحدوا اللَّه تعالى ويعبدوه ويدعوه وحده، ولا يدعو معه غيره، فتصوروا أن التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله الى اللَّه تعالى دعاءٌ للنبي صلى الله عليه و آله وعبادةٌ له من دون اللَّه تعالى! وتخيلوا أن كل مراسم احترامه عبادةٌ له!

وبذلك وقعوا من الناحية الأخرى من السطح، فنقصوا حق نبيهم وأهانوه! وقالوا للمسلمين: لا تزوروا النبي صلى الله عليه و آله، وإن مشى أحدكم خطوة واحدة بنية زيارته فقد أشرك باللَّه تعالى، ومن توسل به فقد أشرك باللَّه تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه و آله ميت لا يسمع الكلام ولا ينفع، والعصا أنفع منه!

وقالوا لهم: إن سلمتم عليه مرة، فلا تكرروها؛ لأن ذلك حرام، ولا تفعلوا عند قبره شيئاً من الآداب التي أفتى بها أئمة المذاهب، واستحسنها العقل السليم، وأجمعت عليها سيرة الأمة من عصر نبيها صلى الله عليه و آله الى اليوم!

ولو أنهم اعتدلوا في فهم ذات اللَّه تعالى وصفاته؛ لنزهوه عن المادة والأعضاء والخضوع لقوانين المادة والمكان والزمان المخلوقة له.

ولو أنهم اعتدلوا في فهم التوحيد والعبادة؛ لفهموا أن التوسل بالنبي وآله صلى الله عليه و آله ليس عبادة لهم، بل عبادة للَّه الواحد الأحد، الذي أمرنا أن نتقرب اليه بمودتهم والصلاة عليهم، وأن نتوسل بهم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1)


1- -سورة المائدة: 35.-

ص: 106

رابعاً:كما خالفوا إمامهم فقد خالفوا العقل والفطرة السوية!

تقدمت فتوى أحمد بن حنبل في جواز التبرك بقبر النبي صلى الله عليه و آله وأماكنه الشريفة، وردُّ الذهبي عليهم ووصفه إياهم بالمتنطعين المبتدعين أتباع آراء الخوارج، فقد قال في سير أعلام النبلاء ج 11 ص 212: (أين المتنطع المنكر على أحمد، وقد ثبت أن عبد اللَّه سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويمس الحجرة النبوية؟ فقال: لا أرى بذلك بأساً! أعاذنا اللَّه وإياكم من رأي الخوارج، ومن البدع). انتهى كلام الذهبي.

وفي تهذيب الأحكام ج 6 ص 7، عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«إذا فرغت من الدعاء عند القبر، فأت المنبر فامسحه بيديك وخذ برمانتيه، وهما السفلاوان فامسح عينيك ووجهك، فإنه يقال إنه شفاء للعين، وقم عنده فاحمد اللَّه واثن عليه وسل حاجتك، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة، والترعة هي الباب».

انتهى.

وأما مخالفتهم للعقل والفطرة البشرية السوية؛ فلأنهما تقضيان بأن أنواع المراسم والآداب التي يستعملها الحجاج في زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله أمورٌ حسنةٌ لأنها احترامٌ وتعظيمٌ لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتوسلٌ به الى ربه، وهي من أفضل القربات الى اللَّه تعالى، وهي عبادةٌ للَّه تعالى بتعظيم نبيه والتوسل به، وليست عبادةً للنبي صلى الله عليه و آله كما يزعم هؤلاء، ولا يحرم من

ص: 107

هذه المراسم إلا ما ورد فيه نهي شرعي، فليأتوا بآية أو حديث نهى عنها إن كانوا صادقين!

خامساً:من بدعهم تحريم الإضاءة على الضريح النبوي الشريف!

ماهو دليلهم الفقهي الذي استندوا اليه في تحريم إضاءة القبر النبوي؟

جوابهم: أنّ محمداً مات وقبره كبقية القبور، والإضاءة على القبور حرام!!

فإن سألناهم: أليس من الكبائر والبدع في الدين أن تنسبوا تحريم شي ء الى اللَّه تعالى وشريعته بدون دليل، فهل عندكم دليل من آية أو حديث؟

يجيبون: ليس عندنا آية ولا حديث، بل دليلنا أن النبي صلى الله عليه و آله والصحابة لم يفعلوه، فهو بدعة!

تقول لهم: في عصر النبي صلى الله عليه و آله لم يكن عند المسلمين القوت اليومي إلا بالكاد، فكيف نعرف أنهم كانوا يستطيعون أن يضيئوا الشوارع والأزقة والمقابر ولم يفعلوا؟ ألا ترون حث الشرع على إضاءة المساجد طول الليل؟

ثم، إذا كان كل شي ء لم يفعله النبي صلى الله عليه و آله والصحابة حرام، فلماذا لا تحرمون (بدعة) إضاءة الطرقات، وتعتموا شوارع المملكة وأزقتها؟!

يجيبون: القبور لا تحتاج الى ضياء، فإضاءتها إسراف وتضييع للمال!

ص: 108

نعم، هذا كل دليلهم على هذه الفتوى البائسة، التي سببت أن يمنعوا إضاءة القبر النبوي الشريف! فقد قصروا نظرهم على حاجة الميت للضياء، وأغمضوا أعينهم عن المصالح المتعددة للأحياء من الإنارة!

والمفارقة الطريفة أن البلديات في أنحاء المملكة العربية السعودية جهزت المقابر بالمصابيح الكهربائية، وارتاح الناس لذلك؛ لأن إبقاءها مظلمة سيجعلها مصدراً للتخيل والخوف، ومصدر خطر أن يأوي اليها الفاسدون ومدمنو المخدرات، وأهل الجرائم.

وعندما أشكل الناس على المشايخ لهذه المفارقة: كيف حرَّمتم الإضاءة على قبر نبيكم صلى الله عليه و آله، وحللتموه على المقابر في المدن والقرى؟!

لذلك بادروا بعد نصف قرن الى تعميم فتوى على البلديات بوجوب تعتيم كافة المقابر في المملكة! وهذا نصها الذي نشرته الجريدة الاقتصادية العدد 2657 بتاريخ الخميس 18 يناير 2001، قالت:

(أصدر الدكتور محمد الجار اللَّه وزير الشؤون البلدية والقروية تعليمات للأمانات والبلديات ومديريات المناطق، تؤكد على منع إنارة المقابر!

وتأتي هذه التعليمات بناء على خطاب من سماحة المفتي العام للسعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، بعدم جواز إنارة المقابر إنارة دائمة لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: لعن اللَّه زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج). انتهى.

ويلاحظ في هذه الفتوى للمشايخ الكبار قولهم: (إنارة دائمة) لكي يتخلصوا من حديث شريف ينص على أن النبي صلى الله عليه و آله زار قبراً في الليل

ص: 109

فأضاؤوا له سراجاً. ففي المغني لابن قدامة الحنبلي ج 2 ص 417: (عن ابن عباس أن النبي (ص) دخل قبراً ليلًا فأسرج له سراج.. قال الترمذي هذا حديث حسن)

والأهم في فتواهم: أنها قامت على حديث ضعيف لم يصح عندهم أنفسهم! فهذا إمامهم ناصر الألباني الذي يسمونه أمير المؤمنين الحديث في عصرنا، أفتى بتحريم الإضاءة على القبور، واستند الى أنه بدعة وتضييع للمال، وقال في أحكام الجنائز ص 232: (فإن قيل:

فلماذا لم تستدل بالحديث المشهور الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس: لعن اللَّه زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج؟

وجوابنا عليه: أن هذا الحديث مع شهرته ضعيف الإسناد لا تقوم به حجة، وإن تساهل كثير من المصنفين فأوردوه في هذا الباب وسكتوا عن علته، كما فعل ابن حجر في الزواجر، ومن قبله العلامة ابن القيم في زاد المعاد، واغتر به جماهير السلفيين وأهل الحديث، فاحتجوا به في كتبهم ورسائلهم ومحاضراتهم. وقد كنت انتقدت ابن القيم من أجل ذلك فيما كنت علقته على كتابه، وبينت علة الحديث مفصلًا هناك، ثم في (سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 223)، ثم رأيت ابن القيم في تهذيب السنن: 4/ 342) نقل عن عبد الحق الإشبيلي أن في سند الحديث باذام صاحب الكلبي، وهو عندهم ضعيف جداً، وأقره ابن القيم، فالحمد للَّه على توفيقه). انتهى.

والحمد للَّه على توفيقه، فقد رأينا الضعف في أصل دليلهم، والتدليس في فتوى هيئتهم، حيث استندت على حديث يعرفون

ص: 110

سقوطه عن الحجية!

ولو أنهم اعتدلوا في تفكيرهم وكانوا عقلانيين، لقالوا: إن الأصل فيما لم يرد فيه نهي من الشرع هو الإباحة والحلية، وما دامت حرمة إضاءة القبور لم تثبت لضعف حديثها الوحيد، فإضاءة القبر والمقابر غير حرام.

ولو أنهم قاسوا إضاءة قبر النبي صلى الله عليه و آله وكافة المقابر على احترام المساجد وتعظيمها بإضاءتها؛ لكان قياسهم أقوى من تخبطهم! ولما احتاجوا التدليس!

قال المحقق الحلي رحمه الله في المعتبر ج 2 ص 450: (وما رواه أنس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من أسرج في مسجد من مساجد اللَّه سراجاً، لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له مادام في المسجد ضوء من ذلك السراج).

وقال الشيخ زين الدين في كلمة التقوى ج 1 ص 363: (يستحب كنس المسجد وإخراج القمامة منه، ويتأكد ذلك في يوم الخميس وليلة الجمعة، ويستحب الإسراج فيه ليلًا، من غير فرق بين أوقات الصلاة وغيرها ووجود المصلين وعدمهم، وحاجة المسجد الى الإنارة وعدمها، فإن ذلك من تعظيم شعائر اللَّه). انتهى.

لكن القوم أصابتهم هذه المصيبة لتنقيصهم مقام النبي صلى الله عليه و آله ومسجده وآثاره، وهي عقيدةٌ ورثوها من إمامهم ابن تيمية وورثها هو من أئمته الأمويين، الذين كانت عندهم حساسية من تعظيم المسلمين لنبيهم صلى الله عليه و آله وقبره الشريف، وفي المقابل احتقارهم للخليفة الأموي وقصره وحكومته، فروجت الحكومات الأموية حتى الكفريات أو سكتت

ص: 111

عليها، للرفع من مقام الخليفة والتنقيص من مقام النبي صلى الله عليه و آله!

قال الجاحظ: خطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول اللَّه (ص) بالمدينة فقال: تباً لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية! هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟! ألا يعلمون أن خليفة المرأ خير من رسوله؟ (الكامل للمبرد ص 126، والعقد الفريد لابن عبد ربه ص 1218، وحياة الحيوان للدميري ص 283، وشرح النهج لابن أبي الحديد ص 2828، ونثر الدرر للآبي ص 773، راجع موقع الوراق:

http ://www .alwarq .com /cgi -bin /doccgi .exe /booksearch

أعاذنا اللَّه من التأثر بهذا المادي المنافق، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.

سادساً:ومن بدعهم تحريمهم إهداء الزهور!

نشرت شبكة الساحة العربية هذه الفتوى العجيبة:

فتوى رقم 21409 تاريخ 21/ 3/ 1421:

الحمد للَّه والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد، فلقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي محمد عبد الرحمن العمر، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 1330 وتاريخ: 3/ 1420، وقد سأل المستفتي سؤالًا هذا نصه: (لقد انتشرت في بعض المستشفيات محلات بيع الزهور، وأصبحنا نرى بعض الزوار يصطحبون باقات- طاقات الورود- لتقديمها للمزورين، فما

ص: 112

حكم ذلك؟

وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء، أجابت بما يلي:

ليس من هدي المسلمين على مر القرون إهداء الزهور الطبيعية أو المصنوعة للمرضى في المستشفيات، أو غيرها.. وإنما هذه عادة وافدة من بلاد الكفر، نقلها بعض المتأثرين بهم من ضعفاء الإيمان، والحقيقة أن هذه الزهور لا تنفع المزور، بل هي محض تقليد وتشبيه بالكفار لا غير، وفيها أيضا إنفاقٌ للمال في غير مستحقه، وخشيةٌ مما تجر إليه من الاعتقاد الفاسد بهذه الزهور من أنها من أسباب الشفاء! وبناء على ذلك: فلا يجوز التعامل بالزهور على الوجه المذكور، بيعاً، أو شراءً، أو إهداءً. انتهى.

رئيس اللجنة... التوقيع... الأعضاء.... موقع: 209. 39. 13.

51. 81 www. alsaha. com

(ولهم فتاوى عديدة تشبه هذه الفتوى، لا دليل لهم عليها إلا سليقتهم وذوقهم، منها تحريمهم قراءة الفاتحة أو أي شي ء من القرآن عند قبر الميت، وتحريم وضع الزهور على تابوته أو على قبره! جواباً عن سؤال رقم 14285، ننقلها من موقع: (www. islam- qa. com، يقول السؤال:

(نرى بعض الناس يقرأون القرآن عند قبر ميتهم إذا زاروه، وآخرين يضعون بعض الورود والريحان عند القبر، فما حكم ذلك؟

الجواب: الحمد للَّه، أما قراءة القرآن عند زيارتها، فمما لا أصل له في السنة. وهي غير مشروعة، ومما يقوي عدم مشروعيتها قوله صلى اللَّه عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من

ص: 113

البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة) أخرجه مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة، فقد أشار إلى أن القبور ليست موضعاً للقراءة شرعاً، فلذلك حض على قراءة القرآن في البيوت، ونهى عن جعلها كالمقابر التي لا يقرأ فيها، كما أشار في الحديث الآخر إلى أنها ليست موضعاً للصلاة أيضاً، وهو قوله: «صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً».

أخرجه مسلم وغيره عن ابن عمر، وهو عند البخاري بنحوه. وترجم له بقوله: (باب كراهة الصلاة في المقابر) فأشار به إلى أن حديث ابن عمر يفيد كراهة الصلاة في المقابر، فكذلك حديث أبي هريرة يفيد كراهة القرآن في المقابر ولا فرق. قال أبو داود في مسائله ص: 158:

وسمعت أحمد سئل عن القراءة عند القبر فقال: لا.

ولا يشرع وضع الآس ونحوها من الرياحين والورود على القبور؛ لأنه لم يكن من فعل السلف، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد قال ابن عمر رضي اللَّه عنهما: (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة) رواه ابن بطة في الإبانة عن أصول الديانة: 2/ 112 واللالكائي في السنة: 1/ 21 موقوفاً بإسناد صحيح).

ومعنى هاتين الفتويين أنك إذا زرت مريضاً، فلا تأخذ له باقة زهور؛ لأنها حرام، لكن لو أخذت له كفناً وتابوتاً، فهو حلال!

وإذا زرت قبره فسلم عليه فقط، ويحرم عليك أن تقرأ الفاتحة وتهدي له ثوابها، ولا شيئاً من القرآن؛ لأنه حرام ومعصية! لكن لو قرأت هناك جريدة أو فتاوى السلفيين، فهو حلال! ولا حول ولا قوة إلا باللَّه!

ويلاحظ أن كل دليلهم الذي استندوا عليه هو عدم فعل النبي صلى الله عليه و آله

ص: 114

والصحابة والسلف: (ليس من هدي المسلمين على مر القرون إهداء الزهور الطبيعية أو الصناعية). مع أنه لم يستدل أحد من الفقهاء من أي مذهب بترك النبي صلى الله عليه و آله لفعل، على تحريمه! ففعله صلى الله عليه و آله لشي ء يدل على أنه حلال، أما عدم فعله فلا يدل على أنه حرام! والحكم فيه الرجوع إلى الأصل، وهو قاعدة: (كل شي ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام، وكل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي من الكتاب أو السنة). وإلا فيجب علينا أن نحرم كل وسائل الحياة الجديدة، وأنواع الفعاليات التي يقوم بها الناس، ومنهم هؤلاء المشايخ! فهل يلتزمون بذلك ويتركون كل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه و آله والصحابة والسلف؟!

وأين هم عن أهل البيت عليهم السلام الذين ثبت عنهم أنه يستحب لمن عاد مريضاً أن يأخذ له هدية من فاكهة أو طيب أو بخور أو نحوه مما يحبه ويرتاح اليه، ففي الكافي ج 3 ص 118: أن الإمام الصادق عليه السلام رأى في الطريق أناساً يعرفهم فسألهم: أين تريدون؟ فقلنا: نريد فلاناً نعوده، فقال لنا: قفوا فوقفنا، فقال: مع أحدكم تفاحة أو سفرجلة أو أترجة أو لعقة من طيب، أو قطعة من عود بخور؟ فقلنا: ما معنا شي ء من هذا! فقال: أما تعلمون أن المريض يستريح إلى كل ما أدخل به عليه؟).

أما الفتوى الثانية فهي كغيرها من تحريماتهم، التي اشتهروا بها وأدمنوا عليها تقوم على مغالطة وليس على دليل شرعي، وأصلها من كتاب أحكام الجنائز للألباني، ونلاحظ أنه استدل على حرمة قراءة الفاتحة أو أي شي ء من القرآن عند قبر الميت ووضع الريحان عليه، بأنه لم يرد فيه سنة فهو حرام، وقد عرفت أن الأصل فيما لم يرد فيه كتاب ولا سنة الإباحة، وليس التحريم!

ص: 115

ثم قوى تحريمه بحديث: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة»! وهو استدلال مضحك؛ لأن النهي في الحديث عن جعل البيت مهجوراً كالمقبرة لا يوجد فيها من يذكر اللَّه تعالى ويتلو كتابه. فاستنبط منه الألباني أنه يجب أن تكون المقبرة مهجورة، ويحرم فيها ذكر اللَّه وتلاوة كتابه!

وعلى هذا فلو قال النبي صلى الله عليه و آله (لا تجعلوا بيوتكم مقابر خالية من ذكر اللَّه) يكون معناه عند الألباني يحرم ذكر اللَّه في المقابر، ويجوز ذكر الشيطان!

ولو قال النبي (ص): (لا تجعل بيتك كبيت زيد مهجوراً لا يقرأ فيه القرآن) فهو يدل عند الألباني على حرمة قراءة القرآن في بيت زيد؟!

ولو قلت لشخص: لا تجعل بيتك كالمكاتب التجارية مهجورة من الصلاة، فهو يدل عنده على حرمة الصلاة في المكاتب التجارية!

إن النهي هنا منحصر في التشبه بمكان لا يوجد فيه صلاة أو قراءة قرآن أو ذكر، ولا يفهم منه أحدٌ سوي الذهن بأنه أمرٌ بأن لا يوجد فيها ذلك!

وختاماً، أحسن الألباني باستدلاله بقول ابن عمر: (كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة)، مع أن الألباني يصلي التراويح التي ابتدعها عمر وقال إنها بدعة حسنة! ففي موطأ مالك ج 1 ص 114: (ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر:

نعمت البدعة هذه)! انتهى.

وما دامت البدعة الحسنة تصح في الصلاة، فلماذا لا تصح في قراءة سورة الفاتحة أو غيرها من القرآن على المقبرة، وإهداء ثوابها للميت؟!

المسألة الثامنة: زعمهم أن القبة النبوية الشريفة بدعة يجب هدمها ويجب إخراج قبر النبي صلى الله عليه و آله من المسجد!!

اشارة

ص: 116

ص: 117

إن مقولات الشيخ البدير، ترجع الى آراء إمامه ابن تيمية الشاذة في قبر النبي صلى الله عليه و آله من تحريم قصد زيارته، وتحريم الصلاة عنده، وتحريم الدعاء عنده، وتحريم التوسل الى اللَّه تعالى به صلى الله عليه و آله!

وقد بلغ شذوذهم حده الأقصى، عندما أفتوا بأن قبة المسجد النبوي الشريف بدعة يجب هدمها! فعندما دخلوا المدينة المنورة قبل نحو ثمانين سنة، أمر شيخهم بهدم القبة النبوية، وجميع القباب المبنية على قبور أهل البيت عليهم السلام والصحابة، في البقيع وأنحاء المدينة المنورة وضواحيها! فاعترض المسلمون الذين بلغهم الخبر من أنحاء العالم، وأعلنوا استنكارهم وتهديدهم، وكان لعلماء الهند موقف شديد مميز جزاهم اللَّه خيراً، فمنعهم الملك ابن سعود من هدم القبة النبوية، وهدموا بقية القباب المشرفة المبنية على قبور الأئمة من أهل البيت الطاهرين عليهم السلام في البقيع وغيرها، وذلك في اليوم الثامن من شهر شوال سنة 1344 هجرية.

ويظهر أن هدم القبة النبوية الشريفة ما زال هدفاً في قلوب مشايخهم! فقد أفتى ابن باز عدة فتاوى بوجوب هدمها، لكنه استعمل فيها التقية! وغلف فتواه بأنها عامة لكل القباب والبناء على القبور!

قال ابن باز في جوابه عن سؤال رقم 116 من فتاويه: (يقول

ص: 118

السائل: ما حكم البناء على القبر؟ وما الحكم لو كان البناء مسجداً؟

الجواب: أما البناء على القبور فهو محرم، سواء كان مسجداً أو قبة أو أي بناء، فإنه لا يجوز ذلك؟...... والخلاصة أنه لا يجوز البناء على القبور، لا مسجد ولا غير مسجد ولا قبة، وأن هذا من المحرمات العظيمة، ومن وسائل الشرك فلا يجوز فعل ذلك، وإذا وقع فالواجب على ولاة الأمور إزالته وهدمه، وألا يبقى على القبور مساجد، ولا قباب.. الخ.!!

(موقع فتاوي ابن باز:

http ://search .ibnbaz .org .Result 1 .asp ?c :0

أما شيخهم مقبل الوادعي وهو مرجعهم في اليمن، فقد كتب رسالة صريحة بعنوان: (حكم القبة المبنية على قبر الرسول صلى اللَّه عليه وسلم)، وأفتى فيها بوجوب هدم القبة الشريفة وهدم المسجد، وجعل القبر الشريف خارج المسجد!!

وقد جرت مناقشات حول كتابه في شبكات الأنترنت، منها في موقع القلعة السلفي بتاريخ: 18- 3- 2001

http ://www .qal 3 ah .net :444 /vb /index .php

) وقال السيد يوسف الرفاعي وهو عالم سني وله كتاب (نصيحتي الى علماء نجد) في مقابلة مع مجلة المنبر:

http ://www .41 masom .com /menbar /70 /50 .htm

) (عندما هدموا بقية القبب لم تبق سوى قبة الحبيب المصطفى فحاولوا هدمها، ومن كان حاضراً من المسلمين من أهل مكة والمدينة نصحوا الملك عبد العزيز وأعلموه بالأمر، فحال بينهم وبين هدم القبة.

ص: 119

كذلك أشرت إلى هذا الموضوع في كتابي. وهناك أحد علماء السلفيين يدعى مقبل الوادعي وهو من اليمن، كتب رسالة يطالب فيها بإخراج قبر النبي الشريف! والمصيبة أنها أُقرّت ومنح عليها الماجستير! كما قرأت في كتاب (الجنائز) أن الألباني قال: «أنا لا أصلي في الحرم النبوي لوجود القبر فيه، ويجب إخراجه»!

والحمد للَّه أن الحكومة السعودية لا تستمع للأصوات التي تطالب إخراج قبر النبي صلى الله عليه و آله من الحرم النبوي؛ لأنها تدرك قدسية هذه الأمور عند المسلمين ولا تشجع الأفكار المتطرفة، ونسأل اللَّه تعالى أن يهدي المسؤولين الكرام لإعادة بناء أضرحة أهل البيت عليهم السلام قريباً). انتهى.

وقد أخذوا فتاويهم هذه من شيخهم ابن تيمية، الذي تعرض لوجوب هدم القبة النبوية بشكل غير صريح خوفاً من المسلمين!

لكن تلميذه ابن القيم كان أكثر صراحة من شيخه ابن تيمية، فأفتى بوجوب هدم قبة قبر النبي صلى الله عليه و آله وإخراج قبره من المسجد!

قال في كتابه إغاثة اللهفان ج 1 ص 210: (وأبلغ من ذلك أن رسول اللَّه هدم مسجد الضرار، ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض، وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار! وكذلك القباب التي على القبور يحب هدمها كلها! لأنها أسست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور)!!

أولًا:أنهم خالفوا بذلك القرآن الكريم!

ص: 120

قال اللَّه تعالى في قصة أهل الكهف: وَكَذَلِك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّه حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لارَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (1)

.الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، بقول أكثر المفسرين هم المؤمنون الموحدون غلبوا رأي المشركين الذين خالفوا بناء المسجد وقالوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً بل هو المتعين؛ لأن اللَّه سمّاه مسجداً وغير الموحدين لا يبنون مسجداً، فبنوه على باب كهفهم ليعبدوا اللَّه فيه ويتبركوا بهم.

وقد أقر اللَّه عملهم هذا، ولم يستنكره. ولو كان عملًا منكراً لما أقره ولما سمّاه مسجداً.

وهذه الآية توجب علينا أن نشك فيما رووه من أن النبي صلى الله عليه و آله لعن اليهود والنصارى؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد! ولو صح الحديث فمعناه أنهم جعلوا قبور أنبيائهم نفسها قبلةً وصلَّوا إليها، أو صلَّوا لأصحاب القبور بدل اللَّه تعالى! إذ من المحال أن يقرَّ اللَّه تعالى بناء مسجد على قبور أوليائه أهل الكهف، ثم يلعن الذين بنوا مساجد على قبور أنبيائهم عليهم السلام!

قال الشوكاني في فتح القدير ج 3 ص 277: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً. ذِكْرُ اتخاذ المسجد يُشعر بأن


1- -سورة الكهف: 21.-

ص: 121

هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل هم أهل السلطان والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأول أولى).

وقال الواحدي في تفسيره ج 2 ص 657: (الذين غلبوا على أمرهم، وهم المؤمنون وكانوا غالبين في ذلك الوقت).

وقال أبوالسعود في تفسيره ج 5 ص 215: (قال الذين غلبوا على أمرهم وهم الملك والمسلمون). انتهى. وقال قريباً من ذلك أكثر المفسرين.

وبعد ظهور الآية في مدح المؤمنين لبنائهم مسجداً على قبر أهل الكهف، وإقرار عملهم، وورود الرواية بمدحهم، واختيار أكثر المفسرين ذلك، فلا يغرنك فتوى ابن تيمية في حقهم بأنهم ضالون ملعونون! فهذه عادته في الإفراط والتطرف في الفتاوي! قال في كتابه اقتضاء الصراط ص 10: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً: فكان الضالون بل والمغضوب عليهم، يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين)!.

ولا يغرنك ميل ابن كثير الى رأي شيخه ابن تيمية في البداية والنهاية ج 2 ص 138، حيث قال: «واختلفوا في أمرهم فقائلون يقولون ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً، أي سدوا عليهم باب الكهف لئلا يخرجوا، أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم، وآخرون وهم الغالبون على أمرهم قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً، أي معبداً يكون مباركاً لمجاورته هؤلاء الصالحين. وهذا كان شائعاً فيمن كان قبلنا، فأما في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول اللَّه (ص) أنه قال: لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). انتهى.

ص: 122

ثم لا يغرنك إظهار ابن كثير أنه متردد في الموضوع! حيث قال في تفسيره ج 3 ص 79: (حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما أنهم المسلمون منهم، والثاني أهل الشرك منهم، فاللَّه أعلم).

وكلام ابن كثير في البداية متناقض ككلام شيخه، إذ كيف يكون البناء على قبور الأنبياء عليهم السلام شائعاً مشروعاً فيمن قبلنا؟! وكيف يقره اللَّه تعالى في قرآنه ولا يذمهم عليه، ثم يلعنهم النبي صلى الله عليه و آله بسببه؟!

ويؤيد ما قلناه أن المباني والقباب على قبور الأنبياء والأولياء عليهم السلام كانت موجودة عند مجي ء الإسلام، ولم يتعرض لها المسلمون في الفتح الإسلامي ولم يهدموها، ومنها قبر داود وقبر موسى عليهما السلام في القدس وقبور غيرهم، بل أقرها الخلفاء وصلوا عندها، ولم يستنكرها الأئمة من أهل البيت عليهم السلام.

ثانياً:أنهم خالفوا ضرورة الإسلام في الصلاة والحج والطواف!

وذلك أن المسجد الحرام والكعبة الشريفة التي نتوجه اليها في صلاتنا ونطوف حولها، مليئة بقبور الأنبياء والأولياء عليهم السلام!

بل إن حجر إسماعيل عليه السلام، الذي أمرنا النبي صلى الله عليه و آله أن ندخله في طوافنا، ما هو إلا مُحَوَّطةٌ أقامها إسماعيل عليه السلام على قبر أمه هاجر رضي اللَّه عنها، حتى لا تدوسَ القبر أقدام الطائفين، ثم أمر إسماعيل عليه السلام أن يدفنوه في الحجر.

فكل المسلمين إذن، وقبلهم أتباع ملة إبراهيم عليه السلام يطوفون حول تلك القبور ويصلون عندها، فهل يقول المتنطعون: إنهم اتخذوا قبور

ص: 123

أنبيائهم مساجد فهم ملعونون؟! وهل يفتون لأنفسهم وأتباعهم بترك الحج وترك الصلاة الى القبلة، بسبب فهمهم الأعوج؟!

وقد استفاضت مصادر التاريخ والحديث عند الشيعة والسنة، بوجود قبر هاجر واسماعيل وقبور الأنبياء عليهم السلام حول الكعبة الشريفة!

ففي الكافي ج 4 ص 210: (عن الإمام الصادق عليه السلام: «الحجر بيت إسماعيل وفيه قبر هاجر وقبر إسماعيل».

وفي الكافي ج 4 ص 214: (عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «صلى في المسجد الخيف سبعمائة نبي، وإن ما بين الركن والمقام لمشحون من قبور الأنبياء عليهم السلام وإن آدم عليه السلام لفي حرم اللَّه عز وجل».

وفي علل الشرائع ج 1 ص 37، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إن إسماعيل دفن أمه في الحجر، وجعله عالياً، وجعل عليها حائطاً؛ لئلا يوطأ قبرها».

وفي تاريخ الطبري ج 1 ص 221: (وعاش إسماعيل فيما ذكر مائةً وسبعاً وثلاثين سنة، ودفن في الحجر عند قبر أمه هاجر).

وفي تفسير القرطبي ج 2 ص 130: (ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبياً، جاءوا حجاجاً فقبروا هنالك عليهم السلام).

وفي الدر المنثور ج 3 ص 103: (وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسمعيل وشعيب عليهما السلام، فقبر إسمعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود). انتهى.

ولكن الروايات التي تذكر وجود قبور أنبياء آخرين عليهم السلام، أكثر وأقوى.

ثالثاً:أنهم خالفوا السيرة العملية، التي أجمع عليها المسلمون!

ص: 124

فقد كانت المباني والقباب موجودة عند مجي ء الإسلام كما ذكرنا، واتصلت سيرة المسلمين على زيارة قبور الأنبياء والأولياء عليهم السلام والصلاة والدعاء عندها الى عصر ابن تيمية والى يومنا هذا، وقد أقرها الصحابة والسلف وصلوا عندها، ولم يستنكرها الأئمة من أهل البيت عليهم السلام!

وهذه بلادنا الاسلامية من مصر الى نيجيريا الى أندونيسيا، مملوءةٌ بالمشاهد والضرائح المباركة، المشيدة العامرة بزوارها، المتقربين الى اللَّه بزيارتها، ولا يبالون بهؤلاء الحفنة من المشايخ المتطرفين، الذين يكفرونهم؛ لأنهم يصلون عندها ويتوسلون الى ربهم بأصحابها.

فهذا الإجماع العملي المتصل من عصر النبي صلى الله عليه و آله الى عصرنا، يدل:

أولًا: على أن هذه السيرة القطعية تعارض الحديث الذي رووه:

(لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). فإما أن يكون الحديث مكذوباً، وإما أن يكون له تفسير يتفق مع هذه السيرة المتصلة الى عصر النبي صلى الله عليه و آله في تعظيم قبور الأنبياء والأولياء عليهم السلام والصلاة عندها.

ونحن نرجح أن السلطة بعد النبي صلى الله عليه و آله احتاجت الى إعلان الأحكام العرفية ومنع الناس من التجمع عند قبر النبي صلى الله عليه و آله، خشية أن يستجير بنو هاشم بقبر النبي صلى الله عليه و آله ويطالبوا بالخلافة، فوضع لها بعضهم هذا الحديث، وغفل أنه لا مصداقية له في تاريخ اليهود والنصارى؛ لأن

ص: 125

النصارى عندهم نبي واحد وليس له قبر، واليهود لم يحترموا أنبياءهم حتى يتخذوا قبورهم مساجد، ولم يبنوا إلا قبور بعض أنبيائهم مثل قبر داود وسليمان عليهما السلام في القدس، وقد زارهما عمر وصلى عندهما!

ثانياً: أن هذه السيرة معناها إجماع من المسلمين على خلاف رأي ابن تيمية ومقلديه، والخارج على إجماع الأمة لا قيمة لرأيه ولا فتاويه!

ثالثاً: تدل هذه السيرة على كذب دعواهم بأنهم أهل التوحيد وأهل السنة، وفظاعة تكفيرهم لعامة المسلمين بسبب زيارتهم قبور الأنبياء والأولياء عليهم السلام والتوسل بهم! إذاً معنى ذلك أن عامة الأمة بجميع مذاهبها ومشاربها كفار أو ضُلَّال، ما عدا حفنة قليلة ضئيلة لا يبلغون مليون شخص!

والأغرب من هذا أنهم يتكلمون باسم المسلمين فيقولون: نحن أهل التوحيد ونحن أهل السنة والجماعة! فهل رأيت أجرأ ممن يكفرك، ثم ينصب نفسه ناطقاً رسمياً باسمك! ثم يمنعك أن تتكلم باسمك؟!

رابعأ:لماذا أغمضوا عيونهم عن قبر إمامهم أحمد في بغداد؟!

من عجائب ابن تيمية وأتباعه أن حركتهم نشأت في بغداد، ثم حمل رايتها ابن تيمية في القرن الثامن في الشام، ثم نشطت في القرن الحادي عشر في الجزيزة، وكانت أبرز شعاراتها محاربة زيارة القبور والصلاة عندها والتوسل الى اللَّه تعالى بأصحابها.

وقد كان قبر إمامهم أحمد بن حنبل طوال هذه المدة في بغداد مبنياً عليه ضريح وقبة، واتخذوا عليه مسجداً، وكان وما زال مزاراً لهم

ص: 126

ولبقية الحنابلة، وهم يروون عنه الكرامات والمنامات، ويغالون في استجابة الدعاء عنده، ولم يقوموا بهدمه، ولا نهوا الناس عن زيارته، ولا أفتوا بوجوب هدم قبته وتسوية القبر بالأرض أو نقله الى خارج المسجد! وقد كانت علاقاتهم مع حكومة العراق وما زالت قوية، ولو طلبوا منها هدمه لفعلت!

ألا يدل هذا على شي ء في نفوسهم، وأنهم يكيلون بمكيالين!

***

ص: 127

المسألة التاسعة: تحريمهم التبرك بأماكن النبي وآله وآثارهم عليهم السلام

اشارة

أفتى المتطرفون بأن التبرك بآثار النبي صلى الله عليه و آله معصية أو شرك! فخالفوا بذلك إجماع مذاهب المسلمين وسيرتهم في كل العصور!

قال البدير: (أيها الزائر المكرم لهذا المسجد المعظم: إعلم أنه لا يجوز التبرك بشي ء من أجزاء المسجد النبوي، كالأعمدة أو الجدران، أو الأبواب أو المحاريب أو المنبر، بالتمسح بها أو تقبيلها، كما لا يجوز التبرك بالحجرة النبوية باستلامها أو تقبيلها، أو مسح الثياب بها، ولا يجوز الطواف عليها، فمن فعل شيئاً من ذلك، وجب عليه التوبة وعدم العودة).

أولًا:أنهم خالفوا في ذلك إمامهم أحمد بن حنبل!

فقد نقل عنه ولده عبد اللَّه في كتاب العلل والسؤالات ج 2 ص 492 ح 3243 قال: (سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول اللَّه يتبرّك بمسّه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثوابِ اللَّه، فقال: لا بأس به). انتهى. ونقله عنه أيضاً السمهودي في وفاء الوفا ج 4 ص 1404.

أما الذهبي المعاصر لابن تيمية والذي يعترفون بإمامته، فقد انتقد أسلافهم أصحاب هذا الرأي المتطرف وسماهم المتنطعين وأتباع الخوارج، وأفتى بأن تحريمهم للتبرك بمنبر النبي صلى الله عليه و آله بدعة!

* قال في سير أعلام النبلاء ج 11 ص 212: (أين المتنطع المنكر على أحمد، وقد ثبت أن عبد اللَّه سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويمس الحجرة النبوية، فقال: لا أرى بذلك بأساً.

ص: 128

أعاذنا اللَّه وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع). انتهى كلام الذهبي.

ثانياً:أنهم خالفوا بذلك فعل الصحابة ومذاهب المسلمين

كان المسلمون يتبركون بالنبي صلى الله عليه و آله ويأتون له بأطفالهم خاصة عند ولادتهم ليمسح رؤوسهم، وكانوا يتبركون بسؤره وقطرات وضوئه، وحتى بخيط من ثيابه. وبعد وفاته صلى الله عليه و آله كانوا يتبركون بآثاره، من ثيابه وشعره الذي احتفظوا به من حياته، وتراب قبره الشريف.

* قال السمهودي في كتاب وفاء الوفاء ج 1 ص 544: كان الصحابة (يأخذون من تراب القبر) يعني قبر النبي صلى الله عليه و آله.

(وفي الموسوعة الفقهية الكويتية ج 24 ص 90 تحت عنوان زيارة القبور الفصل 5: (وقال الحنابلة: لا بأس بلمس القبر باليد، لا سيما من ترجى بركته).

* وفي صحيح البخاري ج 4 ص 46: (باب ما ذكر من درع النبي (ص) وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته، ومن شعره ونعله وآنيته، مما تبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته..).

* وفي فتح الباري لابن حجر ج 1 ص 469: (ومحصل ذلك أن ابن عمر كان يتبرك بتلك الأماكن وتشدده في الاتباع مشهور. ولا يعارض ذلك ما ثبت عن أبيه أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك فقالوا: قد صلى فيه النبي (ص)، فقال: من عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب؛ لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً؛ لأن ذلك من عمر أنه كره

ص: 129

زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة، أو خشي أن يشكل ذلك على من لا يعرف حقيقة الأمر فيظنه واجباً، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر، وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى وإجابة النبي (ص) إلى ذلك، فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين). انتهى.

* وفي فتح الباري ج 3 ص 52: (واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتاً، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال الشيخ أبو محمد الجويني:

يحرم شد الرحال الى غيرها وأشار بظاهر هذا الحديث.... والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد، بخلاف غيرها فإنه جائز. وقد وقع في رواية لأحمد وسيأتي ذكرها بلفظ: لا ينبغي للمطي أن تعمل، وهو لفظ ظاهر في غير التحريم...... واستدل به على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك، وبه قال مالك وأحمد والشافعي والبويطي، واختاره أبوإسحاق المروزي، وقال أبو حنيفة لا يجب مطلقاً...) انتهى.

* وفي النص والاجتهاد للسيد شرف الدين ص 284: (وقال ابن عساكر في التحفة: جاءت فاطمة رضي اللَّه عنها فوقفت على قبره صلى اللَّه عليه وسلم وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعتها على عينيها وبكت وأنشأت تقول:

ماذا على من شم تربة أحمد أن لا يشم مدى الزمان غواليا

ص: 130

صبت عليّ مصائب لو أنها صبت على الأيام عُدْنَ لياليا (1)

* وفي حواشي الشرواني ج 3 ص 175: (إن قصد بتقبيل أضرحتهم التبرك، لم يكره، كما أفتى به الوالد رحمه اللَّه، فقد صرحوا بأنه إذا عجز عن استلام الحجر يُسَنُّ أن يشير بعصى وأن يقبلها، وقالوا: أي أجزاء البيت قبَّل فحسن).

ثالثاً:إهانة البدير للحجاج والزوار حتى في مخاطبتهم!

يقول البدير مخاطباً زوار قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: (أيها الزائر المكرم لهذا المسجد المعظم!). ومعنى ذلك أني لا أعترف بكم كزوار للنبي (ص)؛ لأن زيارته بدعة وشرك! بل أعترف بكم زواراً للمسجد فقط!

فهل رأيت هذا الأدب مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومع زواره؟!

أيها الخطيب البدير: من أين عرفنا مسجد النبي صلى الله عليه و آله ومدينته لولاه، وهل لمسجده الشريف هذه القيمة العليا، لو لم يكن قبره الشريف هنا؟!

أفرض أن ملايين المسلمين الذين تخاطبهم مخطئون حسب رأيك! لكنهم في اعتقادهم تقربوا الى اللَّه تعالى بواحدة من أفضل القربات اليه


1- -وفي هامشه: راجع وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى ج 4/ 1405، السيرة النبوية لابن سيد الناس ج 2/ 340، الشمائل للقارى ج 2/ 210، الاتحاف للشبراوي ص 9، صلح الاخوان ص 57، مشارق الانوار للحمزاوي ص 63، السيرة النبوية لزين دحلان ج 3/ 391، أعلام النساء لعمر رضا كحالة ج 3/ 1205، الغدير ج 5/ 147 وغيرهم.-

ص: 131

وهي زيارة قبر نبيه صلى الله عليه و آله، فهل من آداب الإسلام أن تصفعهم وتهين نبيك فتقول لهم: أنا أعترف بكم زوار المسجد فقط، أما زوار النبي صلى الله عليه و آله فلا؛ لأن زيارته بدعة؟!!

وماذا سيحمل في نفسه عنك الى بلده الحاج الذي جاء ليصلي الجمعة خلفك في مسجد النبي صلى الله عليه و آله، فصفعته بهذه الغلظة؟!

اللهم بجاه نبيك الكريم الذي قلت فيه: وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وقلت فيه: فَبَما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك.. ارزقنا نفحةً من أخلاقه النبوية، وأعذنا من الفظاظة.

***

ص: 132

ص: 133

المسألة العاشرة: الرد على نهي البديري عن زيارة معالم المدينة المنورة!

اشارة

قال البدير:(أيها الزائر المكرم! لا يشرع زيارة شي ء من المساجد في المدينة النبوية سوى هذين المسجدين مسجد رسول اللَّه ومسجد قبا، ولا يشرع للزائر ولغيره قصد بقاع بعينها يرجو الخير بقصدها أو التعبد عندها، لم تستحب الشريعة قصدها، وليس من المشروع تتبع مواطن أو مساجد صلى فيها رسول اللَّه (ص) أو غيره من الصحابة الكرام؛ لقصد الصلاة فيها أو التعبد بالدعاء ونحوه عندها وهو (ص) لم يأمر بقصدها ولم يحث على زيارتها.

فعن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب (رض) فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدر ناس يصلون، فقال (رض): ما شانهم؟ وقال: هذا مسجد رسول اللَّه (ص) فابتدر الناس يصلون فيه، فقال عمر (رض): يا أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض فيه صلاة...) أخرجه بن أبي شيبة.

ولما بلغ عمر بن الخطاب (رض) أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها النبي (ص) أمر بها فقطعت. أخرجه بن أبي شيبة).

أيها المسلمون! ويشرع لزوار المدينة من الرجال زيارة أهل بقيع الغرقد وشهداء أحد للسلام عليهم والدعاء لهم.

عن أبي هريرة (رض) قال: كان رسول اللَّه يعلمهم إذا خرجوا الى

ص: 134

المقابر يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية). أخرجه مسلم.

وزيارة القبور إنما شرعت لمقصدين عظيمين أولهما للزائر لغرض الاعتبار والادكار، وثانيهما للمزور بالدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار.

ويشترط لجواز زيارة القبور عدم القول الهجر، وأعظمه الشرك والكفر. فعن أبي هريرة (رض) أن رسول اللَّه (ص) قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرًا. أخرجه النسائي.

فلا يجوز الطواف بهذه القبور ولا غيرها، ولا الصلاة اليها ولا بينها، ولا التعبد عندها بقراءة القرآن أو الدعاء أو غيرها؛ لأن ذلك من وسائل الإشراك برب الأملاك والأفلاك، ومن اتخاذها مساجد حتى ولو لم يبن عليها مسجد. فعن عائشة وعبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: (لما نزل برسول اللَّه (ص) الموت طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة اللَّه على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا. أخرجه البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام: إن من شرار الناس من تدرك الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد. أخرجه أحمد.

وعن أبي مرفد الغنوي (رض) قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام. أخرجه أحمد.

وفي حديث أنس (رض) (إن النبي (ص) نهى أن يصلى بين القبور.

أخرجه المحبان. ولا يجوز السجود على المقابر، بل ذلك وثنية الجاهلية، وشذوذ فكري، وتخلف عقلي.

ص: 135

ولا يجوز لزائر تلك القبور ولا غيرها التبرك بها بمسحها بتقبيلها أو إلصاق شي ء من أجزاء البدن أو الاستشفاء بتربتها بالتمرغ عليها، أو أخذ شي ء منها للاغتسال بها.

ولا يجوز لزائرها أو غيره دفن شي ء من شعره أو بدنه أو مناذيره، أو وضع صورته أو غير ذلك مما معه، في تربتها لقصد البركة.

ولا يجوز رمي النقود أو شي ء من الطعام كالحبوب ونحوها عليها، فمن فعل شيئاً من ذلك وجب عليه التوبة وعدم العودة.

ولا يجوز تخليقها ولا تقبيلها، والقسم على اللَّه بأصحابها.

ولا يجوز سؤال اللَّه بهم أو بجاههم وحقهم، بل ذلك توسل محرم من وسائل الشرك.

ولا يجوز تصوير القبور؛ لأن ذلك وسيلة إلى تعظيمها والافتتان بها).

***

ص: 136

أولًا:أنهم انتقصوا من مقام المدينة المنورة وخالفوا النبي صلى الله عليه و آله

مشكلة بعض الناس أنهم لا يعرفون قدر النبي صلى الله عليه و آله ولا قدر مدينته المنورة! وإلا فإن المسلم السويّ يكفيه أن يتذكر المدينة حتى ينبض قلبه بحبها، ويستشرف نسيم بقاعها الطاهرة، وما إن يدخل الى رحابها حتى يتنفس هواءها العابق، فيشم منه نفح النبي وآله الأطهار وأصحابه الأبرار وأنفاسهم المقدسة، وحياتهم وجهادهم الذي افتخر به الملأ الأعلى!

نقول ذلك؛ لأن أصح مصادرهم روت في فضل المدينة ما يهز الوجدان! ففي البخاري ج 2 ص 221: (عن أبي هريرة أنه كان يقول لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها، قال رسول اللَّه (ص): ما بين لابتيها حرام).

وفي فتح الباري ج 4 ص 79: (وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة، وهو أمر مجمع عليه، وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض، ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلًا على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة). انتهى.

بل رووا أن تراب المدينة شفاء للمرض، ففي صحيح البخاري ج 7 ص 24: (عن عائشة قالت كان رسول اللَّه (ص) يقول في الرقية:

بسم اللَّه تربة أرضنا، وريقة بعضنا، تشفي سقيمنا، بإذن ربنا).

وفي سنن أبي داود ج 2 ص 227: (للإنسان إذا اشتكى يقول

ص: 137

بريقه، ثم قال به في التراب...)

وفي مستدرك الحاكم ج 4 ص 412: (عن عائشة أن رسول اللَّه (ص) كان إذا اشتكى الإنسان الشي ء منه أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي (ص) بإصبعه هكذا ووضع سبابته بالأرض ثم رفعها: بسم اللَّه تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).

وقال النووي في شرح مسلم ج 14 ص 184: (قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا هنا جملة الأرض، وقيل أرض المدينة خاصة لبركتها).

وفي فتح الباري ج 10 ص 177: (تنبيه: أخرج أبو داود والنسائي ما يفسر به الشخص المرقي، وذلك في حديث عائشة أن النبي (ص) دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض فقال: إكشف الباس رب الناس، ثم أخذ تراباً من بطحان فجعله في قدح، ثم نفث عليه، ثم صبه عليه).

وفي عون المعبود ج 10 ص 264: (وصب ذلك التراب المخلوط بالماء (عليه) أي ثابت بن قيس، والمعنى أي جعل الماء في فيه، ثم رمى بالماء على التراب، ثم صب ذلك التراب المخلوط بالماء على ثابت بن قيس...... قال الحافظ ابن القيم: هذا من العلاج السهل الميسر النافع المركب، وهي معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية).

انتهى.

وابن القيم هذا هو تلميذ ابن تيمية، وهو متعصب له ولأفكاره!

فما دامت مكانة المدينة المنورة وتربتها عند اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله

ص: 138

بهذه المكانة العظيمة، فكيف يقبل العقل أن يقول خطيب المسجد النبوي للحجاج (وليس من المشروع! تتبع مواطن أو مساجد صلى فيها رسول اللَّه (ص) أو غيره من الصحابة الكرام، لقصد الصلاة فيها أو التعبد بالدعاء ونحوه عندها).

ألا يفكر هؤلاء المتطرفون قليلًا قبل أن يطلقوا عشرات فتاوي التحريم من منبر مسجد النبي، ويصفعوا بها وجوه حجاج بيت اللَّه وزوار قبر نبيه صلى الله عليه و آله؟!

فكيف صار الحجاج أكفر الكافرين، وصارت أعمالهم في حرم نبيهم ومدينته المنورة، وصلاتهم في بقاعها المباركة، ودعاؤهم فيها، صارت كلها معاصي وذنوباً وآثاماً، وبدعاً وشركاً؟!

لقد شذ هذا البدير ورفقاؤه حتى عن مذهبهم! فإن كانوا يفتون لأنفسهم فهو أمر يخصهم، لكن ليسمحوا من فضلهم لأمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله التي لا تقلدهم، أن تأخذ بفتاوي أئمة مذاهبها بالتبرك بكل بقاع المدينة وذرات ترابها الطاهر، والصلاة والدعاء فيها، وتقديس مائها وهوائها!

والحمد للَّه أن المسلمين لا يعيرون بالًا لفتاوي هؤلاء، بل تراهم يأخذون بالتوجيه المروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ومن المشاهد بالمدينة التي ينبغي أن يؤتى إليها وتشاهد، ويصلى فيها وتتعاهد:

مسجد قبا، وهو المسجد الذي أسس على التقوى، ومسجد الفتح، ومشربة أم إبراهيم، وقبر حمزة، وقبور الشهداء. وينبغي للزائر أن يكون آخر عهده خارجاً من المدينة قبر النبي صلى الله عليه و آله يودعه كما يفعل يوم دخوله ويقول كما قال، ويدعو ويودع بما تهيأ له من وداع، وينصرف».

(البحار ج 96 ص 379).

ص: 139

وحتى لا يقال: إن هذا مغالاة من الشيعة في تقديس بقاع المدينة لارتباطها بأهل البيت عليهم السلام، نسجل أن أئمة أهل البيت عليهم السلام قد فضلوا مكة المكرمة عليها، بينما فضل بعض علماء السنة المدينة على مكة!

قال ابن حجر في فتح الباري ج 13 ص 259: (وقد احتج أبو بكر الأبهري المالكي بأن المدينة أفضل من مكة بأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم مخلوق من تربة المدينة وهو أفضل البشر، فكانت تربته أفضل الترب. انتهى. وكون تربته أفضل الترب لا نزاع فيه، وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة؛ لأن المجاور للشي ء لو ثبت له جميع مزاياه لكان لما جاور ذلك المجاور نحو ذلك، فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكة وليس كذلك اتفاقاً. كذا أجاب به بعض المتقدمين وفيه نظر). انتهى.

ولم يحكم ابن حجر بأن مكة أفضل من المدينة!

بينمار وى الصدوق في الفقيه ج 2 ص 243، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «أحب الأرض إلى اللَّه تعالى مكة، وما تربة أحب إلى اللَّه عز وجل من تربتها، ولا حجر أحب إلى اللَّه عز وجل من حجرها، ولا شجر أحب إلى اللَّه عز وجل من شجرها، ولا جبال أحب إلى اللَّه عز وجل من جبالها، ولا ماء أحب إلى اللَّه عز وجل من مائها». انتهى.

نعم قد يوافق مذهبنا على ما قاله البهوتي في كشاف القناع ج 2 ص 548، قال: (قال في الفنون: الكعبة أفضل من مجرد الحجرة فأما والنبي (ص) فيها، فلا واللَّه، ولا العرش وحملته والجنة؛ لأن بالحجرة جسداً لو وزن به لرجح. قال في الفروع: فدل كلام أحمد والأصحاب على أن التربة على الخلاف). انتهى.

ص: 140

وقصده أن أحمد بن حنبل وأصحابه يفضلون الكعبة على الحجرة النبوية، أما على التربة المدفون فيها النبي (ص)، فمحل خلاف.

ثانياً:لمحة من جرائم فتاواهم في إزالة آثار النبي وآله صلى الله عليه و آله

لماذا هذه الحساسية عند هؤلاء المتطرفين من قباب المدينة المنورة، ومعالمها، ومساجدها الكثيرة المباركة؟! فقد تتبعوا آثار النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام وصحابته الأبرار، في ربوع المدينة المنورة، وأبادوها!

وما زالوا يتتبعون ما بقي منها ويبيدونه! كأنهم إلى الآن لم يشفوا ما في قلوبهم من الغيظ من آثار النبي وآله الطاهرين عليهم السلام!!

لقد قاموا بهجومهم الكبير في 8 شوال 1344 على مشهد الأئمة من أهل البيت النبوي (ص)، وكان أكبر مشهد في البقيع، يقع على ربوتها الوحيدة التي هي أعلى نقطة فيها، فهدموا قبابه وخربوا ضريحه، وهدموا كل القباب المباركة وضرائحها المشيدة في البقيع وفي المدينة وضواحيها، وسووا قبورها الطاهرة بالأرض، وأزالوا مئات الآثار المميزة، وحرموا الأجيال من وثائق إسلامية مادية، وشواهد عينية محسوسة من حياة النبي وآله الطاهرين عليهم السلام وأصحابه الميامين!!

وفي كل سنة تراهم مدوا أيديهم الطويلة إلى أثر آخر فحرفوه، أو أزالوه! وفي سنة 1422 أخبرني بعض الحجاج بآخر تحريف قاموا به في الضريح النبوي الشريف، ثم تأكدت منه بنفسي حيث غيروا الكتابة التي على الشبابيك الثلاثة من جهة الرأس الشريف، وهي كتابة مصنوعة من النحاس على شكل تاج مثلث مكتوب فيه (يا اللَّه يا

ص: 141

محمد) وكانوا قاموا قبل سنوات بإزالة ياء النداء من الثانية فصارت الكتابة (يا اللَّه ا محمد) وقد اشتريتُ صورتها بهذا الشكل المحرف كوثيقة.. وهذه السنة غيروا العبارة الى (يا اللَّه يا مجيد)! وإن سألتهم لماذا اخترتم (مجيد) من الأسماء الحسنى التسع والتسعين؟ لأجابوك لأنه أقرب إلى اسم (محمد) لكي نحافظ على شكل ما كان موجوداً! وهذا من مهارتهم في التدليس في تحريف نصوص الدين وآثاره، حيث يحرفون المضمون، ويبقون الشكل ليغشوا المسلمين!

كل هذا لأن أذهانهم الهوجاء وسليقتهم العوجاء تتخيل أن نداء النبي صلى الله عليه و آله (يا محمد) والتوسل به الى اللَّه تعالى، شرك وكفر!!

أضف إلى ذلك أنهم حذفوا أو غيَّروا كثيراً من الكتابات وأبيات الشعر التي كانت على الضريح النبوي، وعلى أعمدة الروضة في المسجد الشريف!

وأزالوا الضريح الرمزي لفاطمة الزهراء عليها السلام في أواخر الحجرة النبوية الشريفة وغيروا مكان أبواب الحرم، ومنها باب جبرائيل، فموضعه الحالي ليس موضعه الأصلي، وقد جعلوا مكانه شباكاً. وأزالوا باب علي عليه السلام وهو من جهة البقيع، سدوه عند تجديد الحائط الشرقي، وجعلوا مكانه شباكاً.

وأزالوا الرخامة المكتوب عليها آية تغير القبلة في مسجد القبلتين! وهدموا كثيراً من المزارات الشريفة والآثار المباركة، وأزالوها.

وقد لاحقت فتاويهم ومعاولهم كل مكان في المدينة المنورة، حتى النخلات التي غرسها النبي صلى الله عليه و آله بيده، التي واصل المسلمون غَرْسَ مكانها من فِسْلانها كلما شاخت، فبقيت أثراً مباركاً يستشفي المسلمون

ص: 142

بتمرها، وقد كانت الى مدة قريبة في بستان سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه، وقد أكلتُ منها للتبرك قبل أكثر من عشرين سنة، فطالتها معاولهم!

ولا يتسع المجال لتعداد أفاعيلهم في آثار النبي وآله صلى الله عليه و آله وأصحابه، التي جعلتهم منفورين عند كل مسلمي العالم بكل مذاهبهم!

فيكفي للمسلم أن يتذكر تكفيرهم للمسلمين، ومنعهم من تعظيم سيد المرسلين، حتى يشمئز منهم. ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم.

لكن من عجائب هؤلاء المشايخ أن فتاويهم ومعاولهم خرست أمام حصن زعيم اليهود كعب بن الأشرف، العدو اللدود للنبي (ص)، فما زال حصنه وآثاره في المدينة سليمةً معافاة! كأنهم أفتوا بوجوب المحافظة عليها!

ففي كتاب تاريخ معالم المدينة المنورة قديماً وحديثاً، لأحمد ياسين الخياري مع تعليق عبيد اللَّه محمد أمين كردي، إصدار نادي المدينة المنورة الأدبي، مطابع شركة دار العلم في السعودية، كتب مؤلفه ص 22:

(بقية حصن كعب بن الأشرف بأعلى بطحان وليس بالعوالي، قبل سد العوالي للصاعد إليه من العوالي، وترى آثاره على اليمين بعد حديقة البلدية بخمسمائة متر تقريباً، وعليها لافتة من إدارة الآثار تمنع تغيير المعالم)!!

وفي موقع:

http ://www .al -madinah .org /arabic /731 .htm

ص: 143

فارع، حصن كعب بن الأشرف

وهو قلعة صغيرة مبنية على هضبة صخرية في المنطقة الجنوبية الشرقية للمدينة، يبلغ طول الحصن 33 متراً، وعرضه 33 متراً، وارتفاع ما بقي من جدرانه 4 أمتار، وسمكها متر، وله باب واحد من الجهة الغربية، وثمانية أبراج ضخام مبنية من حجارة ضخمة، طول بعضها 140 سم، وعرضها 80 سم، وسمكها 40 سم، وبوسطه رحبة واسعة مربعة تبلغ مساحتها ألف متر. وبجوانب الحصن من الداخل 10 غرف، وبداخله بئر، وقد خرب هذا الحصن عندما أجلى الرسول صلى الله عليه و آله بني النضير عن المدينة، وسمح لهم بحمل ما يستطيعون حمله من أمتعة دون السلاح.

وصاحب هذا الحصن كعب بن الأشرف، وهو يهودي عربي من قبيلة نبهان! أمه من بني النضير، وكان يؤلب المشركين على حرب المسلمين بشعره ويؤذي المسلمين، فأمر النبي صلى الله عليه و آله بقتله، فذهب بعض الصحابة واحتالوا عليه وأخرجوه من حصنه ليلًا، وقتلوه سنة 2 للهجرة.

للتوسع: آثار المدينة المنورة/ عبدالقدوس الأنصاري ص 61. انتهى.

فما هو قصدهم بقولهم (وهو يهودي عربي من قبيلة نبهان)؟! وهل عندنا قبائل عربية يهودية؟! لقد وقعوا في فخ الحزب القرشي حيث زعم أن كعباً كان عربياً، ليخفف من مؤامراته على الإسلام ونبيه (ص)! فمتى سمح اليهود لعربي أن يترأس فيهم، خاصة بني النضير أكثر اليهود تعصباً؟!

ص: 144

قال البيهقي في سننه ج 9 ص 183: (بعث رسول اللَّه (ص) حين فرغ من بدر بشيرين إلى أهل المدينة، زيد بن حارثة وعبد اللَّه بن رواحة، فلما بلغ ذلك كعب بن الأشرف فقال: ويلك أحق هذا؟! هؤلاء ملوك العرب وسادة الناس، يعني قتلى قريش، ثم خرج إلى مكة فجعل يبكي على قتلى قريش، ويحرض على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم)!.

وفي فتح الباري ج 7 ص 259: (باب قتل كعب بن الأشرف أي اليهودي، قال ابن إسحاق وغيره... وكان طويلًا جسيماً ذا بطن وهامة، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى مكة فنزل على ابن وداعة السهمي.... كان شاعراً وكان يهجو رسول اللَّه (ص) ويحرض عليه كفار قريش.... قدم على مشركي قريش، فحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين. ومن طريق أبي الأسود عن عروة أنه كان يهجو النبي (ص) والمسلمين ويحرض قريشاً عليهم... صنع طعاماً وواطأ جماعة من اليهود أنه يدعو النبي (ص) إلى الوليمة فإذا حضر فتكوا به، ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل بما أضمروه بعد أن جالسه، فقام فستره جبريل بجناحه فخرج، فلما فقدوه تفرقوا! فقال (ص) حينئذ من ينتدب لقتل كعب). انتهى.

فليت هؤلاء المشايخ يعاملون آثار النبي وأهل بيته وأصحابه صلى الله عليه و آله كما يعاملون آثار حصن كعب اليهودي!

بل ليتهم عاملوا مساجد المدينة الأثرية المباركة كما عاملوا حصن كعب اليهودي! فقد هدموا مسجد السقيا الذي هو أحد المساجد السبعة المشهورة، وكذلك مسجد الشمس الذي رد اللَّه فيه الشمس

ص: 145

من عند غروبها الى وقت العصر، فكانت معجزة للنبي صلى الله عليه و آله، فقد هدموه وجعلوه ورشة حدادة! وأقفلوا مسجد الغمامة، القريب من مسجد النبي صلى الله عليه و آله ومنعوا الزوار من التبرك به والصلاة فيه، مقدمةً لهدمه!

قلت لأحد هؤلاء المشايخ: مادامت آثار النبي وآله وأصحابه صلى الله عليه و آله وقبابهم على قبورهم بدعة يجب أن تهدم، لسد ذرائع الشرك وعبادة غير اللَّه تعالى، فأفتوا لنا بهدم قبة أحمد بن حنبل في بغداد، ونحن نكفيكم إياها!

فنظر اليَّ بغضب ولم يجب! وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل.

ص: 146

ص: 147

ختام:في ارتكاب البدير مخالفة وبدعة في خطبته!

ختم الشيخ البدير خطبته النكراء بقوله: (اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، بمنك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين).

وقد ارتكب في صيغة صلاته هذه على النبي صلى الله عليه و آله مخالفةً، وبدعة!

أما المخالفة فهي حذفه الصلاة على آل النبي صلى الله عليه و آله، في صلاته الختامية المفصلة، مع أنه أتى بها في صلاته العادية المختصرة! وقد اتفقت مصادر الجميع على أن المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه و آله كيف نصلي عليك؟

فأمرهم بالصلاة عليه وعلى آله معاً، وعلمهم صيغتها! وهذا نصها من البخاري:

(4797: قِيلَ يَارَسُولَ اللَّه أَمَّا السَّلامُ عَلَيْك فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِك عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (1)

.وتسمى الصلاة الإبراهيمية؛ لأن فيها فقرة: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ


1- - راجع الأحاديث: 3369، 3370، 6357، 6358، 4798، 6360.-

ص: 148

إِبْرَاهِيمَ وهي نص صريح في أن اللَّه تعالى لا يقبل منا الصلاة على نبيه إلا إذا قَرَنَّا به آله وأهل بيته صلى الله عليه و آله، وتسمى هذه الصيغة في علم أصول الفقه «صيغة تعليمية» وهي أقوى أساليب التحديد دلالة؛ لأن النبي صلى الله عليه و آله في مقام البيان والتعليم. وهي صيغة توقيفية، مطلقة للصلاة عليه في الصلاة وغيرها؛ لأن السؤال مطلق فقد سألوه: فَكَيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْك؟

ولم يقولوا فكيف الصلاة عليك في صلاتنا، حتى يتفلسف متفلسف فيقول نحن نتقيد بها في الصلاة، ونحذف منها ونزيد عليها في غير الصلاة!

فلماذا حذف منها هذا الشيخ الخطيب الذي يوجه المسلمين من على منبر نبيهم صلى الله عليه و آله، ويحذرهم أن يشركوا بربهم تعالى، أو يعصوا نبيهم صلى الله عليه و آله؟!

السبب لا يخلو من أمرين:

الأول: أن يكون قلّد بني أمية في معصية النبي صلى الله عليه و آله وبغض أهل بيته الطاهرين عليهم السلام، فقد اعترف الحافظ الحنبلي الشهير ابن حجر بأن العلماء والرواة ارتكبوا تحريف أحاديث النبي صلى الله عليه و آله وحذفوا منها الصلاة على آل النبي (تقيةً) من حكام بني أمية، وأتباعهم!

قال في سبل السلام: 1/ 192: (ودعوى النووي وغيره الإجماع على أن الصلاة على الآل مندوبة غير مسلمة، بل نقول: الصلاة عليه (ص) لا تتم ويكون العبد ممتثلًا بها، حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل؛ لأنه قال السائل: كيف نصلي عليك؟

فأجابه بالكيفية أنها الصلاة عليه وعلى آله، فمن لم يأت بالآل فما صلى عليه بالكيفية التي أمر بها، فلا يكون ممتثلًا للأمر، فلا يكون

ص: 149

مصلياً عليه (ص).

وكذلك بقية الحديث: من قوله: كما صليت إلى آخره يجب، إذ هو من الكيفية المأمور بها، ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية بإيجاب بعضها وندب بعضها، فلا دليل له على ذلك.

وأما استدلال المهدي في البحر على أن الصلاة على الآل سنة بالقياس على الأذان، فإنهم لم يذكروا معه (ص) فيه، فكلام باطل، فإنه كما قيل لا قياس مع النص؛ لأنه لا يذكر الآل في تشهد الأذان لا ندباً ولا وجوباً، ولأنه ليس في الأذان دعاء له (ص)، بل شهادة بأنه رسول اللَّه، والآل لم يأت تعبد بالشهادة بأنهم آله.

ومن هنا تعلم: أن حذف لفظ الآل من الصلاة كما يقع في كتب الحديث، ليس على ما ينبغي! وكنت سئلت عنه قديماً فأجبت أنه قد صح عند أهل الحديث بلا ريب كيفية الصلاة على النبي (ص) وهم رواتها، وكأنهم حذفوها خطأ تقيةً لما كان في الدولة الأموية من يكره ذكرهم، ثم استمر عليه عمل الناس متابعةً من الآخر للأول، فلا وجه له. وبسطت هذا الجواب في حواشي شرح العمدة بسطاً شافياً).

انتهى.

والثاني: أن يكون البدير قلّد عبد اللَّه بن الزبير، الذي كان في خلافته يصلي الجمعة فلا يذكر النبي صلى الله عليه و آله أو إذا ذكره لا يصلي عليه (ص)! فعوتب على ذلك فقال: (إن هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره أشرأبت أعناقهم، وأبغض الأشياء إليه ما يسرهم! لا يمنعني ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها!

وفي رواية أو ذات مرة قال: إن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم

ص: 150

عند ذكره!) (1).

ونحن نرجح أن البدير كابن الزبير، وأنه ترك الصلاة على آل النبي صلى الله عليه و آله عمداً؛ لكي لا يَسُرَّ (المشركين) بأهل البيت عليهم السلام، وهم عامة المسلمين الذين تحت منبره من كافة المذاهب! لأنهم يتوسلون بالنبي وأهل بيته الطاهرين صلى الله عليه و آله ويتبركون ببقاعهم الطاهرة، وخاصة الشيعة منهم!

لكن ينبغي لهذا البدير أن يتعمق في فقه ابن الزبير، فقد يكون عدم ذكر النبي صلى الله عليه و آله بالمرة عنده أحوط، وأقرب الى اللَّه تعالى!!

*** وأما البدعة التي ارتكبها البدير، فهي إضافته الصلاة على الصحابة الى الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله فقد وضعهم بدل الآل الذين حذفهم! قال: (اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين... الخ).

فإن كان عنده حديث يجوِّز له قَرْنَ الصحابة بالنبي صلى الله عليه و آله في الصلاة عليه فهو معذور، وإلا فإن عمله يكون استدراكاً على النبي صلى الله عليه و آله وبدعة! وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار! وحكم البدعة بفتوى ابن تيمية أن يستتاب صاحبها، فإن لم يتب يحكم بكفره ويقتل!


1- - راجع الصحيح من السيرة ج 2 ص 153، عن العقد الفريد ج 4 ص 413 ط دار الكتاب العربي، وشرح النهج ج 20 ص 127، وأنساب الأشراف ج 4 ص 28 وقاموس الرجال ج 5 ص 452، ومقاتل الطالبيين ص 474.-

ص: 151

قال الحافظ الصديق المغربي في (القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع) مطبوع بطنجة سنة 1986، ص 12:

(وننبه هنا على خطأ وقع من جماهير المسلمين، قلد فيه بعضهم بعضاً ولم يتفطن له إلا الشيعة، ذلك أن الناس حين يصلون على النبي (ص) وسلم يذكرون معه أصحابه، مع أن النبي (ص) وسلم حين سأله الصحابة فقالوا: كيف نصلي عليك؟ أجابهم بقوله: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد. وفي رواية: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، ولم يأتِ في شي ء من طرق الحديث ذكر أصحابه مع كثرة الطرق وبلوغها حد التواتر.

فذكرُ الصحابة في الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم زيادةٌ على ما علمه الشارع، واستدراك عليه، وهو لا يجوز.

وأيضاً فإن الصلاة حقٌّ للنبي ولآله صلى الله عليه و آله و سلم، ولا دخلَ للصحابة فيها، لكن يترضى عنهم).

وقد رد الألباني على الصديق المغربي في مقدمة كتابه (سلسلة الأحاديث الضعيفة) ج 3 ص 8، رداً مطولًا، ومما قاله:

(قلت: ليس في هذا الكلام من الحق إلا قولك الأخير: إنه لا تجوز الزيادة على ما علمه الشارع.. إلخ، فهذا حق نقول به ونلتزمه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. ولكن ما بالك أنت وأخوك خالفتم ذلك، واستحببتم زيادة كلمة (سيدنا) في الصلاة عليه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم ترد في شي ء من طرق الحديث؟! أليس في ذلك استدراك صريح عليه صلى الله عليه و آله و سلم، يا من يدعي تعظيمه بالتقدم بين يديه؟! أما سائر كلامك فباطل لوجوه،

الأول: أنك أثنيت على الشيعة بالفطنة ونزهتهم عن البدعة، وهم

ص: 152

فيها من الغارقين الهالكين. واتهمت أهل السنة بها وبالبلادة والغباوة، وهم والحمد للَّه مبرؤون منها، فحسبك قوله (ص) في أمثالك: إذا قال الرجل هلك الناس، فهو أهلكهم. رواه مسلم..... وتابع الألباني:

هذا العموم المزعوم أنت أول مخالف له؛ لأنه يستلزم الصلاة عليه (ص) بهذه الصلوات الابراهيمية كلما ذكر عليه الصلاة والسلام، وما رأيتك فعلت ذلك ولو مرة واحدة في خطبة كتاب أو في حديث ذكر فيه النبي (ص)، ولا علمنا أحداً من السلف فعل ذلك، والخير كله في الاتباع (!).

والسر في ذلك أن هذا العموم المدعى إنما هو خاص بالتشهد في الصلاة، كما أفادته بعض الأحاديث الصحيحة، ونبه عليه الإمام البيهقي فيما ذكره الحافظ في فتح الباري: 11/ 154، الطبعة السلفية فليراجعه من شاء، والإمام الشافعي في رسالته على ما ذكره الحافظ السخاوي في القول البديع. والرافعي، والشيرازي، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، وغيرهم كثير وكثير جداً لا يمكن حصرهم، ما زال كل واحد منهم يصلي على النبي (ص) في خطبة كتبه ويصلي على أصحابه معه، كما أفعل أنا أحياناً اقتداءً بهم، وبخاصة أن الحافظ ابن كثير نقل في تفسيره الإجماع على جوازه (!)، ومع ذلك كله رميتني بسبب ذلك بدائك وبَدَّعتني، أفهؤلاء الأئمة مبتدعةٌ عندك! ويحك، أم أنت تزن بميزانين وتكيل بكيلين؟!....

وهو يعلم أن النبي (ص) كان يصلي على أصحابه بمناسبات مختلفة، ومن ذلك حديث: كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلّ عليهم، فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى. رواه

ص: 153

الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في الإرواء، 853، وغيره.....

ولا دليل على أن ذلك من خصوصياته (ص) بل قد صح عن ابن عمر أنه كان يقول في الجنازة: اللهم بارك فيه وصل عليه واغفر له وأورده حوض رسولك. رواه ابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 414، وسنده صحيح على شرط الشيخين. وبعد هذا كله فإني أرجو أن يكون ظهر للقراء جميعاً من هو المبتدع!). انتهى.

هذا لبُّ ما ذكره الألباني من كلام طويل جداً، لم يأت فيه بدليل على جواز قرن الصحابة بالنبي في الصلاة عليه (ص)، وغاية ما ذكره ثلاثة أدلة:

الدليل الأول: قوله: (والسر في ذلك أن هذا العموم المدعى إنما هو خاص بالتشهد في الصلاة، كما أفادته بعض الأحاديث الصحيحة، ونبه عليه الامام البيهقي فيما ذكره الحافظ في فتح الباري.. الخ). انتهى.

ويقصد الألباني أنه لا عموم لصيغة الصلاة التي علمها النبي (ص) للمسلمين للصلاة عليه، بل هو تعليم نبوي خاص بتشهد الصلاة، فنحن نلتزم بهذه الصيغة النبوية في تشهد الصلاة دون غيرها، ففي غير الصلاة يجوز أن تحذف الصلاة على الآل، وتضع مكانهم الصحابة، ولا حرج!

لكن ما هو دليل الألباني على تخصيصها بتشهد الصلاة، وحديثها في البخاري وغيره عام مطلق ليس فيه حصر في التشهد، قالوا:

(فَكَيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ...)؟!

يقول الألباني دليلي على تخصيصها: (أفادته بعض الأحاديث

ص: 154

الصحيحة، ونبه عليه الإمام البيهقي فيما ذكره الحافظ في فتح الباري...)

فقد ادعى الألباني وجود أحاديث نبوية صحيحة تحصر صيغة الصلاة النبوية التعليمية للمسلمين في تشهد الصلاة.. فأين هي هذه الأحاديث الصحيحة؟!

الجواب: يبعث لك اللَّه، فلا توجد أحاديث لا صحيحة ولا ضعيفة!

وإلا لأتى بها الألباني في رده الطويل الذي أخذ أكثر من عشر صفحات!

فإن قيل: هل يكذب الألباني؟

فالجواب: إنهم يستحلون الكذب لرد أهل البدع، وللدفاع عن الصحابة!

ثم قال الألباني: (ونبه عليه الإمام البيهقي فيما ذكره الحافظ في فتح الباري...) يعني أن هؤلاء العلماء الذين ليس فيهم واحد قبل القرن السادس! نبهوا على تخصيص صيغة الصلاة التعليمية النبوية بالتشهد دون غيره!

لا بأس، فما هو دليلهم على هذا التخصيص؟

الجواب: هو الأحاديث الصحيحة التي وعد بها الألباني، ولا وجود لها!!

أرأيتم كيف يتجرؤون على تقييد صيغة الصلاة النبوية التعليمية التوقيفية العامة المطلقة، ويحصرونها في تشهد الصلاة، ليذبحوها خارج الصلاة؟!

الدليل الثاني: قال (وهو يعلم أن النبي (ص) كان يصلي على

ص: 155

أصحابه بمناسبات مختلفة، ومن ذلك حديث: كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى. رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في الإرواء، 853، وغيره....). انتهى.

والجواب: أن موضوعنا كيف يجب أن نصلي نحن على النبي (ص)؟

فانظر كيف يستدل عليه بصلاة النبي (ص) على المسلمين؟!

النبي (ص) يعرف تكليفه كيف يصلي هو علينا، وقد بين لنا تكليفنا كيف نصلي نحن عليه، فهل نزل علينا جبرئيل لنقول للنبي (ص): كلا، نريد أن نصلي عليك كما نحب، ونضم في الصلاة عليك من نحب، ونحذف منها ما لا نحب! لأنك أنت تفعل ذلك؟!

الدليل الثالث: قال الألباني: (ولا دليل على أن ذلك من خصوصياته (ص) بل قد صح عن ابن عمر أنه كان يقول في الجنازة:

اللهم بارك فيه وصل عليه واغفر له وأورده حوض رسولك. رواه ابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 414، وسنده صحيح على شرط الشيخين).

يقول الألباني بذلك لقد ثبت بأثر صحيح عن ابن عمر أنه قال لميت: (اللَّه بارك فيه وصل عليه) فالصلاة على المسلمين ليست من مختصات النبي (ص) بل يجوز لأي مسلم أن يقول لمسلم آخر (اللهم صل عليه)، ونحن نقول: اللهم صل على الصحابة، فما المانع؟!

والجواب: أن الألباني يعرف أن المسألة ليست جواز الصلاة على مسلم بقولنا (اللهم صل عليه)، بل هي: هل يجوز أن نتعدى تعليم النبي (ص) بالصلاة عليه، ونحذف آله من صلاتنا عليه، ونضع

ص: 156

بدلهم الصحابة؟!

فانظر كيف غيَّر الموضوع، وشطَّ عنه بعيداً! وكذلك يفعلون!

*** إن حذفهم لآل النبي صلى الله عليه و آله ووضعهم للصحابة بدلهم، معضلةٌ لا يستطيع أن يحلها البدير ولا أساتذته، فليست هي واحدة واثنتين، بل هي ست معضلات فقهية كاملة:

1- هل يجوز الصلاة على غير النبي، ومن أمر النبي صلى الله عليه و آله بالصلاة عليه؟

2- هل يوجد دليل يخصص صيغة الصلاة النبوية الإبراهيمية بتشهد الصلاة؟

3- هل يجوز حذف آل النبي صلى الله عليه و آله من الصلاة عليه؟

4- هل يجوز وضع الصحابة مكانهم وقرنهم بالنبي صلى الله عليه و آله؟

5- هل يجوز أن ننوي بصلاتنا على آل النبي صلى الله عليه و آله جميع ذريته من فاطمة وعلي وكل ذرية بني هاشم وعبد المطلب الى يوم القيامة، ونقرنهم بالنبي صلى الله عليه و آله وفيهم من ثبت أنهم أعداء للَّه ورسوله، وفيهم اليوم نصارى وملحدون وقتلة وأشرار؟! فكيف يأمرنا اللَّه تعالى أن نصلي على هؤلاء الكفار والفجار وأن نقرنهم بسيد المرسلين صلى الله عليه و آله؟! فهل يجب للتخلص من هذا الإشكال أن نقول (وآله المؤمنين)؟!

6- إذا حلينا أصل مشكلة ضم الصحابة وقرنهم بالصلاة مع النبي (ص)، فهل يجوز لنا أن نعمم الصلاة عليهم جميعاً بدون تخصيص أو تقييد؛ لأنا عندما نقول: (صلى اللَّه عليه وعلى أصحابه أجمعين) نشمل بذلك أكثر من مئة ألف شخص، ونقرنهم بالنبي صلى الله عليه و آله وهؤلاء فيهم

ص: 157

من شاركوا في محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه و آله ليلة العقبة، وفيهم من ثبت نفاقهم بنص القرآن ونص النبي صلى الله عليه و آله، وفيهم جماعة شهد النبي صلى الله عليه و آله بأنهم لن يروه بعد وفاته، وأنهم سوف ينقلبون من بعده، ويمنعون من ورود حوضه يوم القيامة ويؤمر بهم الى النار؟! فهل يجب التخلص من هذا الإشكال بأن نقول: (عليه وعلى أصحابه المؤمنين، أو المرضيين)؟!

إنها مشكلات أوقع البدير نفسه فيها؛ لأنّه حذف آل النبي صلى الله عليه و آله من صلاته عليه، ووضع بدلهم آخرين! بل هي أصل مشكلة المتطرفين!

أما نحن فلا مشكلة عندنا؛ لأننا لا نستحل أن نقرن بنبينا في الصلاة عليه صلى الله عليه و آله إلا آله وأهل بيته عليهم السلام الذين أمرنا بقرنهم به، وهم عندنا مصطلح نبوي خاص حدده النبي صلى الله عليه و آله بعلي وفاطمة والحسن والحسين، وتسعة من ذرية الحسين آخرهم المهدي عليهم السلام.

والحمد للَّه رب العالمين.

وقع الفراغ منه بقم المشرفة

في اليوم الثاني من ربيع الثاني سنة 1423

وحرره أقل خدمة العترة النبوية: علي الكوراني

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.