الحج عبر الحضارات و الامم

اشارة

سرشناسه : آل مرتضي مومن ماجده

عنوان و نام پديدآور : الحج عبر الحضارات و الامم دراسه مقارنه بين الحج في الاسلام وطقوس الديانات الاخري تاليف ماجده آل مرتضي المومن مراجعه محسن الاسدي

مشخصات نشر : تهران دارمشعر، 1422ق = 1380.

مشخصات ظاهري : 288 ص مصور، عكس

شابك : 964-6293-97-211000ريال ؛ 964-6293-97-211000ريال

يادداشت : عربي

يادداشت : كتابنامه ص [281 - 277]؛ همچنين به صورت زيرنويس

عنوان ديگر : دراسه بين الحج في الاسلام وطقوس الديانات الاخري

موضوع : حج

شناسه افزوده : اسدي محسن مترجم

رده بندي كنگره : BP188/8/آ76ح 3 1380

رده بندي ديويي : 297/357

شماره كتابشناسي ملي : م 80-13389

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

الإهداء

ص: 4

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ا 96 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97)

سورة آل عمران

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ا 32 لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

سورة الحجّ

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ (197)

سورة البقرة

ص: 5

إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام أول من وضع قواعد الحج ومناسكه...

إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه و آله الذي أحيا الحجّ ونزّه مناسكه من كلّ ما علق بها من شوائب الجاهليّة وعاداتها..

ص: 6

ص: 7

المقدمة

نحن أمام موضوع شرعي يخرج الفرد من فرديته إلى الدائرة الأوسع، دائرة المجتمع العالمي المتنوع، فالحج ممارسة شرعية في أصلها ضمن مجتمع كبير، لا تتاح في الفرائض الأخرى .. لهذا السبب أخذ أهمية خاصة، على مستوى الفرد والدولة، وصار متميزاً بين الفرائض الدينية الأخرى

والحج فريضة عامة لم تقتصر على دين معين، وإنما هو ركن ديني مهم عرفته الأجيال البشرية ومارسته منذ زمن النبي ابراهيم الخليل عليه السلام، بل وحتى قبل زمانه، إلى يومنا هذا، مارسته سائر الأديان السماوية التوحيدية، ومارسته الأديان الوضعية، والجاهلية أيضاً وبأشكال مختلفة.. ووضعت له قوانين وأحكاماً وشعارات، فمنهم مَن اتجه إلى الكعبة الشريفة قبل الإسلام (في الجاهلية)، ومنهم من اتجه إلى مكان آخر، قدّسه وعدّه مكاناً يحلّ مشاكله ويقرّبه إلى آلهته زلفىً...

وإذا رجعنا إلى أصل الحج، إلى حقيقته وانتمائه، فسنعرف أنه ذو مصدر إلهي، شرعه اللَّه تعالى على وفق كيفية معينة ليؤديه العباد، وينالوا الثواب عليه والجزاء

ص: 8

المناسب الذي قدره اللَّه سبحانه وتعالى ..

هذا هو الحج الحقيقي الذي أداه الأنبياء ومن أخذ بتعاليمهم ولا سيما نبينا الكريم محمد صلى الله عليه و آله وأتباعه من المسلمين أينما كانوا، وقد جاء هذا الحج (الحج عند المسلمين) تتويجاً لكلّ الحج السابق في الفكر والممارسة، جاء نظريةً وهدفاً رائعاً، وجاء ممارسةً وتطبيقاً عظيماً، ينسجم وتطلعات الإنسان الأساسية والفطرية؛ ليبقى مع الإنسان ملازماً له طالما هو حيّ على سطح الكرة الأرضية.

لكن الإنسان المتطلع إلى كلّ ما يشبع الفطرة والحاجات الأولية، حاول- حين ابتعد عن الدين وعن الاقتراب من اللَّه تعالى أن يلبي نداء هذه الفطرة الملحّة...

فقلّد ووضع حجّاً مماثلًا في شكله وبعض مضامينه لعلّه يملأ هذا الفراغ الروحي، فذهب إلى هذه المنطقة وعطف على تلك البقعة ممارساً طقوساً وحركات خاصة لعلّه يلبي النداء الداخلي، لكن لم يفلح؛ لأنه صدر من مخلوق أرضي ناقص قاصر لا يمكن أن يرقى إلى جزء صغير من ذلك الحج الإلهي الكبير...

وبقي حجُّ الأنبياء وأتباعهم حجّاً حقيقياً، وحجُّ أولئك المقلدين حجّاً شكلياً خاصاً بهم، يُرضي أنفسهم ولا يرضي اللَّه تعالى ..

لقد شرع اللَّه تعالى الحج؛ ليدخل الفرد ضمن الجماعة ويتفاعل معها ويتكامل بها، فينطلق الإسلام بفضله إلى روح الأخوة والتعاون، ينطلق كتلةً واحدةً مجتمعةً على من سواها، ينطلق محلّقاً فوق الذاتيات والأفراد والتمايزات والألوان والتفاوتات بمختلف أنواعها...

وهذا الكتاب- عزيزي القارئ- دارسة مقارنة للحج، بين تلك الفريضة التي تجمع الناس في مكان واحد وزمان واحد وموقف واحد ولهدف واحد، وذلك الحج الآخر الذي حرّفه الإنسان وأدخل عليه من ذاتياته وصناعته، فصار بعيداً عن الأصل الإلهي، كحج الحضارات والأمم المختلفة التي سادت ثم بادت... ولم

ص: 9

يبق منها سوى آثارها أو أسمائها أو بعض مواقعها...

إنّ الفارق بين الحج الإلهي الصحيح كحج الإسلام، والحج الإلهي المحرّف أو الوضعي هو كالفرق بين الحق والباطل...

وقد قسّمت الكتاب إلى عشرة فصول، يحتوي كلّ فصل على عدد من النقاط.

وفيما يلي خلاصة موجزة لهذه الفصول العشرة...

الفصل الأول: «الحج: المعنى والمغزى ويحتوي على معنى الحج في اللغة وفي الاصطلاح والشرع، وذكرت مغزى الحج وتحدثت عنه في نقطتين: المغزى الروحي والأخلاقي، والمغزى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

الفصل الثاني: وهو تحت عنوان «من تاريخ الحج» ويحتوي على الحج في الحضارات والأمم المختلفة كحضارة وادي النيل وحضارة وادي الرافدين، والحضارة الفارسية القديمة والحضارة الرومانية وغيرها. ثم الحج في الجاهلية وحج الأنبياء والرسل ودورهم في الحضارات المختلفة.

الفصل الثالث: وهو تحت عنوان «الخليل عليه السلام المعلم الأول» ويحتوي على ذكر منزلة الخليل ابراهيم عليه السلام ونبوته وإمامته، ثم بنائه البيت الحرام، ودعوته إلى الحج، واستجابة اللَّه تعالى لدعائه، ثم تحدثت عن كيفية الحج الإبراهيمي وما ورد في الروايات عنه، ثم محاولة ذبحه ابنه قرباناً للَّه تعالى وأنهيتُ الفصل بالحديث عن الانحراف عن ملة ابراهيم عليه السلام.

الفصل الرابع: وعنوانه «الحج في الديانة اليهودية» ويحتوي على وجهة النبي موسى عليه السلام في الحج، وكيفية انحراف اليهود في الحج وعدم اتباعهم له، ثم بينت وجهاتهم المتعدّدة في الحج كحجهم إلى جبل موسى عليه السلام في صحراء سيناء، وحجهم الى بيت المقدس، وحجهم إلى بئر الحي الرائي والى معبد بيت إيل وإلى ظواهر من الطبيعة، ثم وضعت فقرة بعنوان «تلخيص واستنتاج» لبيان عدم قبول حجهم؛

ص: 10

لأنهم لم يتخذوا الوجهة الصحيحة في الحج.

الفصل الخامس: وعنوانه «الحج في الديانة النصرانية» ويحتوي على ذكر وجهة النبي عيسى عليه السلام في الحج، وكيفية انحراف النصارى في الحج وعدم اتباع نبيهم عيسى عليه السلام، ثم ذكرتُ وجهاتهم المتعدّدة في الحج كحجهم إلى بيت المقدس وعود الصليب الأصلي، وحجهم إلى فاطيما في البرتغال، والى رومة في ايطاليا والى لورد في فرنسا والى أماكن ومقدسات أخرى وآخر الفقرات، فقرة «تلخيص واستنتاج» لبيان عدم قبول حجهم، وحالهم حال اليهود في ذلك...

الفصل السادس: وهو تحت عنوان «القدس: في تاريخ الأنبياء» ذكرت فيه أنّ القدس لم تكن يوماً مركز حج للأنبياء والرسل، ولكنها دار مقدسة ومشرَّفة بما احتضنت من أنبياء ورسل في طول تاريخها الشريف، ثم ذكرت أشهر الأنبياء الذين قدّسوها وعمروها واهتموا بها واستقبلوها في صلاتهم، ثم أتيت على ذكر خاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه و آله وإسرائه إليها، ثم بيّنتُ أنّ الكعبة هي مركز حج الأنبياء جميعاً وليس القدس.

الفصل السابع: وعنوانه «الحج في الإسلام» ويحتوي على حج الحبيب محمد صلى الله عليه و آله قبل الإسلام وبعده واقتداء المسلمين بنبيهم صلى الله عليه و آله. ثم ذكرت فريضة الحج في الإسلام والاستطاعة للحج وأنواع الحج في الإسلام وأفضلها ثم أفعال الحج وأركانه وأهم التروك في الاحرام للحج...

الفصل الثامن: وهو تحت عنوان «أهمية الحج في الإسلام وأفضليته» ويقع في قسمين: القسم الأول أهمية الحج في الإسلام والثاني أفضلية الحج في الإسلام، وكلّ قسم يحتوي على عدة نقاط تؤكد تلك الأهمية والأفضلية معزِّزةً ذلك بعدد من الشواهد: آيات وروايات.

الفصل التاسع: وهو تحت عنوان «الكعبة في التاريخ» ويحتوي على تاريخ

ص: 11

الكعبة المشرّفة من هبوط آدم عليه السلام الذي بناها إلى زوال معالمها في الطوفان.

ثم تحدّثت عن تجديد إبراهيم عليه السلام لبنائها وولاية أبنائه عليها، ثم ذكرت منزلتها وحادثتي تُبّع والفيل، وأخيراً تحدثت عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه و آله وفريضة الحج إلى الكعبة، وأنها أحبّ بقاع الأرض إلى اللَّه تعالى

الفصل العاشر: تحت عنوان «الحج في النظرية والتطبيق: المشتركات والاختلافات» ويحتوي هذا الفصل على عدد من المشتركات والاختلافات بين الحج السماوي (الحقيقي) وبين الحج الوضعي.

ففي المشتركات تحدثت عن أنه تلبية حاجة إنسانية ضرورية، وفيه القصد والزيارة وممارسة طقوس وشعائر وتقديم أضاحٍ وقرابين وغيرها.

وفي الاختلافات ذكرت أنّ الحج الوضعي، هو انحراف عن خط الأنبياء والرسل، وأنه تقليد أعمى للأسلاف وبِدع وخرافات وشرك باللَّه تعالى وغيرها من النقاط.

وختمتُ الكتاب بكلمة أخيرة تحت عنوان «خاتمة».

ويسعدني ويزيدني فخراً واعتزازاً أن أكتب في هذا الموضوع الكريم تلبيةً للدعوة الموجهة إليَّ في هذا الخصوص، راجية أن أكون قد وفقت في تحقيق دراسة هادفة تسهم بحق في رفد هذا المشروع المبارك.

وأخيراً أقدم جزيل شكري إلى السادة العاملين في مؤسسة الحج والزيارة خاصّة الأستاذ محسن الأسدي الذي تعهّد بمراجعة كتابي هذا، وبارك اللَّه في جهودهم الكريمة في سبيل إرساء قواعد حج واع وشامل.

وفقهم اللَّه تعالى وسدد خطاهم، وبارك فيهم، وأخذ بيدهم نحو الكمال، واللَّه من وراء القصد.

المؤلفة

ص: 12

الفصل الأول: الحج: المعنى والمغزى

اشارة

ص: 13

الفصل الأول: الحج: المعنى والمغزى

ص: 14

ص: 15

من الضروري- ونحن في صدد الدخول في رحاب الحج وقراءته في التاريخ، والديانات السماوية و التشريعات الوضعية- أن نلقي ضوءاً على ما قالته اللغة العربية فيه؛ لنفهم أصله اللغوي والتاريخي.. وإكمالًا لمعناه المعروف في الديانات المختلفة، علينا أيضاًأن نعرف ما هوالحج في الاصطلاح وفي لغة الفقهاء والشريعة الإسلامية.

الحجّ لغةً:

فعلى مستوى اللغة جاء في لسان العرب:

الحجُّ: «القصد، حجَّ إلينا فلان أي قَدِمَ، وحجّهُ يحُجهُ حجّاً: قصده.

وحججتُ فلاناً واعتمدتُهُ أي قصدته. ورجلٌ محجوج أي مقصود. وقد حَجَّ بنو فلان فلاناً إذ أطالوا الاختلاف إليه قال الُمخبّلُ السعدي:

وأشهَدُ من عَوْفٍ حُلولًا كثيرةً يحجونَ سِبَّ الزِّبرِقانِ المزعفرا

أي يَقصدونه ويزورونه. قال ابن السكيت: يكثرون الاختلاف إليه، هذا

ص: 16

الأصل، ثم تُعوُرِفَ استعماله في القصد إلى مكة للنُسك، والحجّ إلى البيت خاصة، تقول: حَجَّ يحجُّ حجّاً إذا قصدته، وأصله من ذلك.

وقال سيبويه: وقالوا: حَجُةٌ واحدةٌ، يريدون عَمَلَ سنة واحدة. قال الأزهري: الحَجُّ قضاءُ نُسُكِ سَنةٍ واحدةٍ، وبعضٌ يكسر الحاء، فيقول: الحِجُّ والحِجَّةُ، وقُرئ: وللَّه على الناسِ حِجُّ البيت، والفتح أكثر. وقال الزجاج في قوله تعالى وللَّه على الناس حَجُّ البيت، يُقرأ بفتح الحاء وكسرها والفتح الأصل والحَجُّ: اسم العمل... واحتج البيت: كحَجّهُ. والحَجُّ والحِجُّ ليس عند الكسائي بينهما فرقٌ. وغيره يقول: الحَجُّ حَجُّ البيت، والحِجُّ عَمَلُ السنة.

وتقول: «حججتُ فلاناً إذا أتيته مرّةً بعد مرّة، فقيل: حج البيت؛ لأنّ الناس يأتونه كلّ سنة» (1).

وعرّفه الراغب الأصفهاني: «القصدُ للزيارة» (2).

وعرّفه الفيومي في المصباح بقوله: «حجَّ: حجّاً من باب قَتَلَ قَصَدَ فهو (حاجّ) هذا أصله» (3).

وقال الجرجاني: وتعريفه في اللغه «الحج: القصدُ إلى الشي ء المعظّم» (4).

وجاء في ترتيب القاموس: «فالحجُّ في اللغة العربية: هو القصد المتكرر» (5).

وفي المعجم الوسيط: (حجَّ) اليه- حجّاً: قَدِم و- المكان: قصده... والبيت الحرامَ: قصده للنُسك. وفي التنزيل العزيز: وللَّه على الناس حج البيت. ويقال:


1- 1 لسان العرب، ابن منظور 2: 226.
2- 2 المفرادت في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني ت 502: 107.
3- 3 المصباح المنير، الفيومي، ت 707: 121.
4- 4 كتاب التعريفات، الجرجاني، ت 816: 36.
5- 5 ترتيب القاموس، مادة حَجَّ 1: 591.

ص: 17

حجَّ بنو فلان فلاناً. أكثروا التردد عليه» (1).

ومن هذا المعنى اللغوي الذي يؤكد أنّ الحجَّ هو القصد أو الزيارة أو تكرار الزيارة إلى مكان معين، أخذ هذا اللفظ معناه العام، وصار يُطلق على كلّ زيارة بهيئة وكيفية مخصوصة إلى مكان مقدّس يؤمن به الزائر أو الحاج.

وبكلمة أخرى: أنّ المعنى اللغوي للحج هو الذي أعطى العمومية لكلّ زيارة الى مكان يؤمن به قاصدوه في وقتٍ معين، زيارة جماعية.

الحجّ اصطلاحاً وشرعاً:

اشارة

أما الحجُّ في الاصطلاح والشريعة الاسلامية، فسنذكر عدداً من الأقوال والآراء فيه.

فبعدما ذكر الفيومي تعريفه للحج في اللغة قال: «وقُصِرَ استعماله في الشرع على قصد الكعبة للحج أو العُمرة، ومنه يُقال (ما حجَّ ولكن دجَّ) (فالحج) القصد للنُسك (والدّجُّ) القصد للتجارة. والاسم (الحِج) بالكسرة و (الحجةُ) المرةُ بالكسرة على غير قياس والجمعُ (حِجَجُ) مثل سِدرَةٍ وسِدَرٍ، قال ثعلبُ: قياسُهُ الفتح، ولم يُسمع من العرب، وبها سُميَ الشهر (ذو الحجة) بالكسرة، وبعضهم بفتح في الشهر وجمعه (ذوات الحِجّةِ) وجمعُ (الحاجّ) (حُجّاجٌ) و (حجيجٌ) و (احججتُ) الرجلَ بالألف بعثته ليحُجَّ» (2).

وقال الراغب الأصفهاني: خُصَّ في تعارُفِ الشرع بقصد بيت اللَّه تعالى إقامةً للنسك فقيل: الحَجُّ والحِجُّ، فالحجُّ مصدرٌ والِحجُّ اسمٌ، ويوم الحجِّ الأكبر،


1- 1 المعجم الوسيط 1: 156.
2- 2 المصباح المنير، مصدر سابق: 121.

ص: 18

يوم النحر، ويوم عرفة، ورويَ العُمرةُ الحجُّ الأصغرُ (1).

وذكر الجرجاني في تعريفاته قائلًا: «وفي الشرع قصدٌ لبيت اللَّه تعالى بصفة مخصوصة في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة» (2) وفي المعجم الوسيط جاء:

(الحِج): أحد أركان الإسلام الخمسة وهو القصد في أشهر معلومات إلى البيت الحرام للنُسك والعبادة. و (الحج الأكبر): هو الذي يسبقه الوقوف بعرفة. وفي التنزيل: وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر و (الحجّ الأصغر) الذي ليس فيه وقوف بعرفة، ويُسمى العُمرة (3).

وقال العلّامة الحلّي: «الحجّ اسم لمجموع المناسك المؤداة في المشاعر المخصوصة، وهو فرضٌ على المستطيع، ويجب بأصل الشرع مرّة» (4).

وقد عرفه العلّامة الطباطبائي قال: «هو العمل المعهود بين المسلمين» (5).

والحجُّ «رحلة إلى مكان مقدس؛ لغرض ديني، عرف منذ القدم، ودعت إليه الديانات السماوية الثلاثة. وكان اليهود يحجون سنوياً إلى القدس في عيد الفصح. ويحج المسيحيون إلى أماكن كثيرة مثل روما في ايطاليا، ولورد في فرنسا، وفاطيما في البرتغال وأهم مكان لديهم جميعاً هو القدس، ومن أجله قامت الحروب الصليبية في القرون الوسطى أما المسلمون فالحج عندهم القصد إلى الكعبة في مكة، والطواف بها سبعاً. والوقوف بعرفة. وأركانه الاحرام من أماكنه و...


1- 1 المفردات في غريب القرآن، مصدر سابق: 107.
2- 2 التعريفات، مصدر سابق: 36.
3- 3 المعجم الوسيط، مصدر سابق: 156.
4- 4 المختصر النافع في فقه الإمامية، المحقق الحلّي، ت 676 ه: 75.
5- 5 الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي 1: 382.

ص: 19

والحجّ فرض- في العمر مرّةً- على كلّ قادر...» (1).

هذا ما جاء في الموسوعة العربية الميسّرة. أما في موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم فقد ذكر التهاوني الحج وعرفه في الشريعة والاصطلاح بقوله:

«والحج شريعةً: القصد إلى بيت اللَّه الحرام أي الكعبة بأعمال مخصوصة في وقت مخصوص... الخ» (2).

إذن اتفق علماء المسلمين على أن الحج في الشريعة الإسلامية وفي الاصطلاح المتعارف عليه عند المسلمين، أنه- الحج- القصد إلى مكة المكرمة ومشاعرها ومناسكها المخصوصة بهيئتها المخصوصة في الزمان المعروف لإقامة المناسك والمشاعر المفروضة من قبل السماء، وجملة من الأفعال والأقوال والممارسات تنتظم جميعها؛ لتُجسّد بمجموعها معنًى تعبدياً بقصد القربة إلى اللَّه تعالى ووجوبه مرّةً واحدة في العمر، واستحبابه كلّ عام، وكما يقول صاحب اللمعة رحمه اللَّه تعالى:

«ومستحبٌ تكراره» (3).

والحج في الشرع الاسلامي يُعدُّ فريضةً من الفرائض الاسلامية المهمة، وهو ركن قويم يعتمد عليه بناء الاسلام، وأداؤه يُحقق للمسلمين مكاسب دينية ودنيوية وثقافية واجتماعية وسياسية وغيرها تنظم دنيا المسلم وآخرته. وهو أفضل الأعمال التي يشترك فيها العقل والمال والبدن، ويتطلب مزيداً من حسن النية والصدق والإخلاص للَّه، والبُعد عن الرياء والسمعة حتى يظفر صاحبها بالقبول، هكذا نفهم الحج الاسلامي من خلال مصادره الاساسية. أما غيره- أي الحج عند غير المسلمين- فهو غير ذلك، وبعيد عنه.


1- 1 الموسوعة العريبة الميسرة، د. محمد شفيق غربال: 689.
2- 2 كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، التهاوني 1: 619.
3- 3 اللمعة الدمشقية، العاملي، باب الحج 1: 159.

ص: 20

مغزى الحج

للحج مغزًى لم يدركه إلّامن ذاق طعمه، وهذا ما يقوله كلّ من ذهب إلى بيت اللَّه الحرام في موسم الحج.

له مغزًى وجداني واضح، وهو ذلك الإحساس الرائع المستمد من مشاهد الايمان والقدسية والذكريات، ومغزًى آخر تعيشه النفس وحدها ولا تستطيع البوح به... وهو القرب المعنوي من الخالق الرحمن الرحيم الغفور الودود... من خلال بيته، ومن خلال مهبط الوحي ومهوى أفئدة الأنبياء، ومن خلال أجواء الرسالة وأجواء الدعوة الإسلامية التي قادها النبي محمد صلى الله عليه و آله أعظم قيادة.

والحج في حقيقته غفران من اللَّه تعالى لذنوب المذنبين، ورحمة للعالمين، وباب لطفٍ من ألطافه الكثيرة على مخلوقاته، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أعظم الناس ذنباً مَن وقف بعرفة وظنَّ أن اللَّه لم يغفر له» (1).

ويعدّ الحج إحدى العبادات الخاصة، التي تجتمع فيها جميع خواص العبادات وهذا مغزًى مهم جدّاً..

وهناك مغزًى آخر هو: أنّ الانسان في فطرته يحتاج إلى أن يستمد العون ممّن هو قادر على ذلك، ويشكو همومه وذنوبه إلى من هو أقوى منه، الى من لا يشكو ولا يذنب، وفي الحج يتحقق هذا المطلب، والأماكن المقدسة وحدها تحقق هذا المغزى من بين سائر الأماكن الأخرى وقد حاول الانسان ارتياد أماكن اعتبرها مقدسةً تارةً، وتارةً أخرى قدّستها له السماء ك (الكعبة).. فذهب إليها وشكى همه


1- 1 من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق 2: 37.

ص: 21

وبث كربه ودعا وتضرع لينال مأربه ومراده.

إذن، فللحج مغازٍ شتى مادية وأخرى معنوية، وقد أكد القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى ليشهدوا منافع لهم (1)

وقد فسَّر بعضهم هذه الآية الشريفة، قائلًا:

إنها منافع دنيوية.. وفسّرها آخرون بأنها منافع أخروية، وفريق ثالث أكّد أنها منافع دنيوية واخروية معاً، ومن بينهم نأخذ رأي العلامة الطباطبائي في تفسيره للآية، قال: «وقد اطلقت المنافع ولم تتقيد بالدنيوية أو الأُخروية، والمنافع نوعان:

منافع دنيوية وهي التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية ويصفو بها

العيش، وترفع بها الحوائج المتنوعة، وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير، وأقسام الرسوم والآداب والسنن والعادات، ومختلف التعاون والتعاضد الاجتماعي وغيرها.

ومنافع أُخروية وهي وجوه التقرب إلى اللَّه تعالى بما يمثل عبودية الإنسان

من قول وفعل، وعمل الحج بما له من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلى اللَّه وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش والسعي إليه بتحمل المشاق، والطواف حول بيته والصلاة والتضحية والإنفاق والصيام وغير ذلك» (2).

والحج مع كلّ هذا يُنبئُ عن كيان وحضارة وقيام الأمة التي ترتبط فيما بينها بروابط الهدف الواحد والقصد والزمان المعلومين، فإذا كانت الأمة ملتزمة بشريعة السماء، اتجهت الوجهة الصحيحة وإلّا انحرفت إلى أماكن تَدَخّلَ الهوى والخيالُ في ارتيادها.

والحج الذي فرضه اللَّه تعالى هو الذي يحقق المنافع المذكورة فهو اجتماع عظيم، وسياسي، وديني، وعبادي، واقتصادي، وإلهي عالمي عام لا يختصّ بشعب دون


1- 1 الحج: 28.
2- 2 تفسير الميزان، الطباطبائي 14: 307- 371.

ص: 22

شعب أو هوية دون هوية، بل هو لجميع الناس الذين يرفعون شعار (لا إله إلّااللَّه محمد رسول اللَّه). وهو أوسع نطاقاً للمسلمين من صلاة الجمعة والعيدين، يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، في مكان مقدس بتوقيت معين تجمعهم كلمة التوحيد، وتظللهم أجواء قدسية فريدة لأداء عمل واحد موحد.

ونحن لا نشك في أنّ هذا الحج وبهذه المواصفات التي ذكرناها آنفاً، هو المغزى الحقيقي للحج الذي أراده اللَّه تعالى والقرآن الكريم والإسلام الحنيف، ولا نعتقد أن أي حج آخر مهما كان صاحبه مخلصاً فيه يحقق هذه الغاية والأرضية الإلهية في آنٍ واحد، وهذه حقيقة يجب أن نعرفها ونفرق بها بين حجنا- نحن المسلمين- وأنواع الحج الأخرى المعروفة في التاريخ القديم والحديث.

المغزى الروحي والأخلاقي

والمغزى الروحي يتجسّد في الرحلة الشيقة إلى بيت اللَّه الحرام، وما يرافقها من سمو أخلاقي عظيم يرفع الفرد المكلف إلى أعلى درجات الكمال النفسي والروحي مع خالقه العظيم من خلال الأدعية والخوف من الخالق عزوجل وتذكر يوم النشور والحشر، والخشية من اللَّه تعالى والبكاء والتضرع، وانتظام الجسم في الطواف، والإسراع في بعض مراحل السعي والطواف، كلّها تساهم في عملية سمو الروح والأخلاق، خصوصاً عندما يشعر الفرد أنّه مع ناس يخافون الخالق ويهابونه في بيته، وكأنهم حُشروا إليه ونُشروا للحساب. وتسمو الأخلاق؛ لأنّ تعاليم الحج تفرض عليه عدم الرفث والفسوق والجدال، والامتناع عن أذى الحيوانات وتحريم صيدها وتحريم قتل هوام الجسد، وغيرها من الأفعال العبادية والتروك والالتزامات الشرعية في أداء فريضة الحج.

كلّ هذه التعابير الجسدية وسيلة من وسائل انتظام الروح والخُلق وسموها

ص: 23

وانضباطها ككيان روحي فكري أخلاقي عبادي متميز.

اذن فمناسك الحج لها أثر واضح ومغزى أوضح في التفاعل الروحي والأخلاقي وسمو النفس وتحليقها نحو بارئها. وكلما كانت نية الحاج أصدق وأصفى في الحج كان لهذا المغزى أكثر فاعلية وأشد وقعاً على بقية آثار الحج ومغازيه حيث إنه- هذا المغزى يتفاعل تفاعلًا طردياً مع قوة إيمان الفرد ونيته.

فالروح تسمو حال الطواف وحال السعي وعند الوقوف بعرفات والإفاضة الى المشعر الحرام وباللباس الأبيض المتواضع، تسمو وتحلق وكأنها ترى بأمّ عينيها يوم يخرج الناس كالفراش المبثوث والعهن المنفوش ينتظرون رحمة اللَّه وغفرانه..

المغزى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي

والحج يولد شعوراً لدى الفرد الحاج المندمج في الجماعة التي تؤدي ما يؤدي هو نفسه من المناسك والأفعال، يولد في نفسه أن إنساناً اجتماعياً خُلق ليتفاعل مع نظائره من المخلوقات لا منعزلًا عنهم ولا منزوياً بل هو مندمج معهم شاءَ أو أبى

فمناسك الحج تضيّق الفوارق الطبقية والعرقية وغيرها التي وضعها الإنسان بين بني الإنسان، فالحج يسقطها جميعاً في مواقف ومناسك كثيرة، فالكلّ مكلّفون بتطبيق المناسك المفروضة، وهذا دون شك يؤدي إلى تفاعل اجتماعي بين الفقراء والأغنياء، وبين الحكّام والمحكومين، وتجمعهم في مكانٍ واحد بزي بسيط متواضع واحد بنداء واحد بزمان واحد بنية واحدة وهدف واحد، على الرغم من اختلاف درجات ثرواتهم وقواهم ومنازلهم الاجتماعية ومناصبهم السياسية وغيرها..

وهذا التنظيم الإلهي يستحق تأملًا دقيقاً في أهدافه ومغزاه.. والمغزى الاجتماعي للحج يأتي بالدرجة الثانية بعد المغزى الروحي إذا ما قلنا: إنه المغزى

ص: 24

الأول للحج؛ لأهميته القصوى في تدريب العباد وجعل الغني كالفقير والحاكم كالمحكوم والعزيز كالذليل والذليل كالعزيز، في تكليفٍ موحّد يُشعرهم بالمساواة في كلّ شي ء... لا فرق بينهم سوى قبول العمل وعدمه.

وهناك مغزًى آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع وهو المغزى الاقتصادي للحج كالأعمال التجارية التي تقام في موسم الحج، والأسواق التي يشترك فيها المسلمون من شتى أنحاء العالم الإسلامي، والتي تجلب النفع للفرد المسلم وللمجتمع الإسلامي..

وللحج كذلك مغزًى سياسي يرتبط بالعلاقات الدولية، فبما أنّ المسلم مرتبط ارتباطاً دينياً وعقائدياً بالكعبة الشريفة وبمكة المكرمة، فالحكومات الإسلامية تلتقي سنوياً على مسرح مكة المكرمة من خلال حجيجها..

وهكذا يتفاعل الوضع الاجتماعي بالاقتصادي بالسياسي بالروحي بالاخلاقي في وحدة واحدة يكمّل بعضها بعضاً.

الفصل الثاني: من تاريخ الحج

اشارة

ص: 25

الفصل الثاني: من تاريخ الحج

ص: 26

ص: 27

قد يعتقد بعض الناس أنّ الحجّ أمرٌ أو حالة تقتصر على الدين الإسلامي والمسلمين فقط، وبالكيفية التي فصّلتها كتب الفقه المستمدّة من الكتاب الكريم والسُنّة الشريفة.

ولكنّ المتتبّع للحضارات القديمة والديانات السماوية والوضعية يجد أنّ الحج ركن ديني أساسي، مارسته الحضارات المختلفة، وألِفَته الأديان السماوية والوضعية بشكل مشابه بعض الشي ء للحج الإسلامي.

ولعلَّ الكشوفات الأثرية الحديثة والتطوّر في المعارف والثقافة، والاطّلاع على الشعوب البدائية من خلال الدراسات «الإنثروبولوجية» الميدانية، لعلَّ كلّ ذلك كشف المزيد من المعلومات عن هذه الفريضة العالمية الكبيرة.

إنّ كثيراً من الهياكل والمعابد والمراكز الدينية المنتشرة في العالم، في بلاد وادي الرافدين وبلاد وادي النيل، وهياكل العبادة في كثير من المدن والبلدان هي في الحقيقة كانت مراكز أساسية للحج، يأتيها الزائرون قاصدين إليها لأداء أعمال وأفعال وممارسات وطقوس محدّدة يعرفها المنتسبون لتلك الديانات.. يأتون في

ص: 28

وقت محدّد وعلى جماعات، أَليس ذلك هو الحج؟

إنّ الحج وإن اختلف بين حضارة وحضارة ودين ودين، يبقى مرجعه ومحوره النموذجي هو الحج الذي فرضه اللَّه تعالى على عباده.

والمحور النموذجي والمرجع الحقيقي لكل حج في تاريخ الإنسان هو حج الأنبياء والرسل وحج إبراهيم عليه السلام الذي دعا الناس بأمرٍ من اللَّه تعالى لأوّل بيت مقدّس على وجه الأرض، إلى أوّل بيت من بيوت اللَّه جُعل للهداية ولغفران الذنوب، وهو بيت اللَّه العتيق في مكّة المكرّمة، قال تعالى: إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركاً وهدًى للعالمين (1)

.أي: جعل هذا البيت لجميع الناس، ولجميع الأديان، منذ خلقه اللَّه تعالى حتّى يقوم الحساب، ولم يخصّصه لفئة معيّنة أو لدين معيّن؛ لأنّ الدعوة إلى الدين، مصدرها الواحد الأحد لا غير، فالخالق واحد، والدعوة إلى الهدى في جميع الأديان السماوية التوحيدية واحدة أيضاً، ولا يمكن أن يفرق بين عباده، بأن يجعل لأحدهم بيتاً مباركاً ذا رحمة وخير وبركة، ولا يجعل للآخرين مثله، وقوله تعالى:

وضع للناس و هدًى للعالمين يدل على ذلك المعنى

لكنّ الناس عبر المسيرة البشرية حرّفت الأديان والتعاليم السماوية، والكتب المنزلة، كصحف إبراهيم عليه السلام، وتوراة موسى عليه السلام، وإنجيل عيسى عليه السلام، وزبور داود عليه السلام، إلى ما تشتهي الأنفس ويميل الهوى عندهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا (2)

، وابتعدوا تماماً عن الدين، إلّامن هدى اللَّه تعالى منهم، قال تعالى:

ولقد بعثنا في كلّ امّةٍ رسولًا أن اعبدوا اللَّه واجتنبوا الطاغوت فمنهم من


1- 1 آل عمران: 96.
2- 2 الأنعام: 70.

ص: 29

هدى اللَّه ومنهم من حقّت عليه الضلالة (1)

.فلما ابتعد أكثر الناس عن الدين الحنيف- دين اللَّه- عبدوا الأصنام، وتعدّدت الآلهة، وصُنفت إلى إله الشمس وإله القمر وإله الخير وإله الشر...، وقدّسوا ظواهر الطبيعة من أشجار وغابات وجبال وأنهار وكواكب ووديان وأفلاك.

وبعضهم الآخر قدّس قبور الموتى وحيوانات معيّنة... وجعلوا منها أماكن ومراكز يزورونها في أوقات معيّنة وأكثرها زيارات الأعياد؛ لتكون زيارة جماعية موقتة بزمن ومكان، وإذا اجتمعت هذه الثنائية كوّنت حجّاً!.

الحج في حضارة وادي النيل

اشتهرت أرض مصر الفرعونية بالهياكل، والمقابر الضخمة كالاهرامات، وبتعدّد الآلهة إلّافي زمن اخناتون الموحِّد للآلهة.

فالهياكل انتشرت في أنحاء مصر القديمة وأشهرها «الكَرْنَكْ» و «الأُقصُر» و «إدْفُو» و «دَنْدارة». وهذه الهياكل بعضها محفور في شاهق صخري كمعبد «أبي سِنْبل» في بلاد النوبة، الذي هو أشهر الهياكل وقيل أقدمها، وله أهمية كبيرة في نفوس المصريين القدماء، وحين تولّى رمسيس الثاني عرش مصر نحته في الصخر الحيّ وأتمّ بناءه (2).

واعتقد المصريون بآلهة كثيرة، ولكنّهم آثروا عبادة اثنين كان لهم السبق على جميع الآلهة الاخرى، أحدهما (أوزيريس) الذي لم يقهره الموت، والآخر هو الشمس التي تبهر البصر بضيائها في سماء مصر الصافية، هذا هو الإله «رع» الذي


1- 1 النحل: 36.
2- 2 انظر قصّة الحضارة، ول ديورانت، مج 1، ج 2. وكتاب الحضارات: 26- 27، وكذلك موسوعة المورد 1: 30.

ص: 30

كان أعظم الآلهة المصرية كإله للأحياء، والذي أقام المصريون لعبادته أفخم معابدهم. ولم يكن الهرم إلّارمزاً مقدّساً له (1).

وكانت الهياكل على شكلٍ كبير من الضخامة؛ لتليق بالآلهة- كما يعتقدون- كمعبد «الكرنك» الذي يبلغ طوله حوالى (100) متر تقريباً. والتصميم المعتمد هو نفسه تقريباً في كلّ الهياكل. وأقسامه الأساسية هي: بُرجان ضخمان عند المدخل، وأمام كلّ من البرجين تنتصب مِسَلّة حجرية وسارية ترفرف عليها أعلام. وفي بعض المعابد يحيط بالمدخل صفّان من تماثيل «أبي الهول» (2) وفي نهاية المدخل بوّابة تؤدي إلى باحة محاطة بالأعمدة، وفي نهاية الباحة «بهو الأعمدة» الذي لا يدخله إلّاالكهنة والمتنفّذون. ويلي «بهو الأعمدة» حجرة سرّية تحيط بها مقصورات تعجّ بالنفائس، وفي وسطها المركب المقدّس. بينما تمثال الإله يوضع في فناء المعبد (3).

ثم صار الآلهة في آخر الأمر بشراً- أو بعبارة أصحّ أصبح البشر آلهة، ولم يكن آلهة مصر من الآدميين إلّارجالًا متفوّقين أو نساء متفوّقات خُلقوا في صورة عظيمة باسلة (4). فقد ألَّهوا (أزوريس) الذي أصبح قبره فيما بعد محجّةً لهم وللأجيال بعدهم. ويذكر لنا التاريخ أنّ المصريين القدماء كانوا يعتقدون أنّ آلهتهم تجتمع في معبد «أوزيرس» بمدينة «أبيدوس» في عيد هذا المعبود، فكانوا يحجّون إليه بهذه المناسبة، ولمدينة أبيدوس تاريخ ديني وسياسي مرموق، ففيها دُفن أقدم


1- 1 انتصار الحضارة، چيمس هنري برستر، ترجمة د. أحمد فخري: 94، الجامعة العربية.
2- 2 أبي الهول: تمثال رأسه على شكل إنسان، ووجهه كالفرعون خفرع يرقى تاريخه إلى حوالى 2250 ق. م.
3- 3 كتاب الحضارات، لبيب عبدالساتر: 27.
4- 4 قصّة الحضارة، مصدر سابق: 159.

ص: 31

ملوك مصر، وإليها انتقلت عبادة «أوزوريس» وفي المكان المعروف اليوم «بأم العقاب» جعل المصريون قبره، وعُدت أبيدوس كعبة يطوفون بها حول قبر الشهيد «أزوريس» الذي صار لديهم (إمام الموتى والشهداء، لا يدخلون الجنّة إلّا من بابه، ويبنون لهم فيها مزارات...» (1).

ولهذا الشهيد اسطورة تحكيها لنا الكتابات المسجلة على جدران المعبد باللغة «الهيروغليفية». ولأهمية هذه الاسطورة الخرافية في معتقداتهم بحيث يصبح قبر بطلها كعبة يُحج إليها كلّ عام، ويُقدّم لها كل غالٍ ونفيس، تقول الاسطورة: «إنّه في قديم الزمان كان يحكم هذه البلاد ملك اسمه" جب" وكان له ولدان من الذكور واثنتان من الإناث. وزوّج الملك ابنه أوزوريس من اخته ايزيس، كما زوج ابنه ست من أخته تفتيس.. ولأنّ أوزوريس كان طيب القلب عادلًا ملَّكه أبوه الوديان الخضر والسهول والأنهار. أما ست الذي كان شرّيراً حاقداً فقد ملّكه أبوه أرض الصحارى القاحلة والرمال القفر. وكان أوزوريس موسيقياً بارعاً أحبّهُ الناس، فحقد عليه أخوه ست، وتآمر مع آخرين حتى صنع صندوقاً من الذهب الخالص بحجم أوزوريس، وزعم في حفل أقامه أنّه يهديه لمن يتسع له..

فأقام مأدبة واستلقى فيه كثيرٌ حتى استلقى الأخ، فأمر ست بإغلاق الغطاء وإلقائه في النيل. وراحت الأمواج تتقاذف الصندوق.. ووظّفت زوجته الوفية، ما لديها من علوم السحر، حتّى عرفت محلّه الذي استقر فيه الصندوق. فركبت سفينة انطلقت بها.. وتحايلت على ملك ببلوس الذي احتفظ بالصندوق، وكشفت له عن شخصيتها، وأماطت اللثام عن سيّدها، فسمح لها باسترداد الصندوق. وإذ حلَّ عليها المساء، نامت فوق الصندوق الذي فيه زوجها، فجاءتها الرؤيا وهي نائمة بأنّها حملت من روح زوجها، وعندما عادت إلى مصر اختفت ومعها الصندوق في


1- 1 راجع الموسوعة العربية الميسّرة، مصدر سابق: 159.

ص: 32

جزيرة فيلة خوفاً عليه من (ست). وظلّت مختفيةً حتى ولدت «حورس». وعثر (ست) على الصندوق، وقطّع جثة أوزوريس إلى (16) قطعة بعثرها في جميع معبد «أبي سنبل» وفيه قبر «إمام الموتى والشهداء!» أوزوريس

ص: 33

مقاطعات مصر، وفتشت الزوجة الوفية فعثرت عليها إلّاالقدم اليمنى . وكانت هذه القدم تجلب الخير والخصب والطمى؛ لتنمو ربوع مصر بالخير والفيضان للنيل، ومنذ تلك اللحظة صار أوزوريس ملكاً للموتى يتولى حسابهم في الآخرة، وأصبح ابنه «حورس» من بعد هو الإله.. ونُصب له تمثال برأس الصقر الذهبي..» (1).

الحجّ في حضارة وادي الرافدين

أمّا في حضارة ما بين النهرين- السومرية والبابلية والأكدية والآشورية- التي استمرّت ثلاثة آلاف عام، كان (الإله آنو) على رأس (البانتيون)، وكانت الآلهة تخرج بملابس محمولة بشرف على أكتاف الكهنة، في أعياد رأس السنة، وبمراسم خاصّة وطقوس خاصّة، وكانت لها أهمّية ذات حدّين، وقد يقوم الإله بزيارة طقسية إلى معبودات اخرى بمناسبة الأعياد الكبيرة، لذا فإنّ (نابو) في بورسيا يزور بانتظام والده مردوخ في عيد رأس السنة الجديدة في بابل (2).

وتعدّدت الآلهة في وادي الرافدين بتعدّد المدن والدويلات، وحصر السومريون آلهتهم في مجموعتين: الثالوث الأوّل ويتألّف من «آنو» إله السماء «وأنليل» إله الأرض، و «إيا» إله المياه الجوفية، فجمعوا بذلك بين عناصر المادّة الثلاثة: السائل والهواء والجماد. والثالوث الثاني يتألّف من «شَمَشْ» إله الشمس،


1- 1 انظر قصة الحضارة، مصدر سابق: 159- 167. وانتصار الحضارة، مصدر سابق: 93- 94. ومجلة العربي، استطلاع: سليمان مظهر: 142- 143 منهم من اختصر القصّة ومنهم من فصّلها.
2- 2 انظر عظمة بابل، د. هاري ساكز، ترجمة د. عامر إبراهيم: 412.

ص: 34

و «سين» إله القمر، و «أدَدْ» الذي يجمع كلّ عناصر الطبيعة. وأدَدْ هذا أدخله «الاكديون» معهم من بلاد «أمورّو». وأضافت كلّ دولة إلهاً خاصّاً بها مثل «مردوخ» و «آشور» و «عشتار» و «نَبُو» (1).

وأهم الأبنية الدينية عندهم هي المعابد والمقابر: وعُرفت المعابد باسم «الزقورة» أقدمها ما بناه السومريون، وأشهرها «برج بابل» حيث عُبد الإله «نَبُو» (2).

وكان لكلّ مدينة مهمّة- في بلاد ما بين النهرين- معبد مهم، وفي كلّ معبد برج شامخ يسمّونَهُ «زقورة» شكله مربّع في المعابد المربعة، ومستدير في المعابد البيضوية، تراقب منه الكواكب والنجوم. نظراً لما لعلم الفلك من أهمّية وتأثير في الحياة اليومية والدينية، وكانوا يعلنون من خلاله بداية رأس السنة الجديدة، ليعلنوا بدايات الطقوس الدينية السنوية لزوّار الزقورة في المعبد. وقد كشفت التنقيبات الحديثة عن زقورات عديدة منها زقورة اورك ونيبور وآشور وخورس ونمرود وماري وغيرها، وكانت هذه أماكن مهمّة (للحج) في أعياد رأس السنة المعروفة عندهم آنذاك على ما يبدو..

«ويشير لنزن H. Lenzen، وهو حُجة في موضوع الزقورة، ويؤكد أن المعبد العالي- أعلى الزقورة- لم يكن مجرّد مكان لاستراحة المعبود، بل أن طقساً حقيقياً كان يتمّ إجراؤه هناك. ولذا فقد كانت الزقورة بهذا المعنى «مذبحاً عظيماً» وفي داخل المعبد، قريباً من قاعدة الزقورة، كانت غُرفة الإله الرئيس، وعدد من المصليات الصغيرة بالنسبة للمعبودات المرتبطة به، على حين يوجد خارج هذا


1- 1 الحضارات، لبيب عبد الساتر: 42.
2- 2 المصدر السابق: 46 وقصّة الحضارة 1، 2، الباب التاسع بابل.

ص: 35

الهيكل الرئيسي ساحة كبيرة حيث تجتمع العامّة في أوقات الأعياد» (1).

يبدو من كلّ ذلك ومن الطقوس والمراسيم والرحلات الجماعية إلى الزقورة (2) ومع ما يصطحبها من ذبح وقرابين وأعمال خاصة من النحور وبعض المراسم الطقسية السنوية. أنّها- الزقورات- أماكن حج لتلك الأقوام.. وبالطبع هو حج وضعي غير إلهي واضح من آلهتهم المتعدّدة وعبادتهم للآلهة البشر.

والجدير بالذكر أنّ حضارة وادي الرافدين الطويلة في الزمن وفي التاريخ، لابد من أن تكون هناك أماكن اخرى محلية قصدها الزوّار؛ لغرض أداء طقوس معيّنة وشكليات منظمة يمكن أن تحسّها أنواعاً من حجّهم.. ولعل السبب في عدم العثور على تلك الحقائق هو طبيعة البناء عندهم، حيث كان ذا أساس طيني ممّا لم تبقِ الفيضانات له شيئاً عبر الزمن. وهذا خلاف طبيعة البناء المصري القديم الذي غالباً ما يكون بناء صخرياً يحافظ عليه مناخ مصر الجاف آلافاً من السنين.

وهناك مذهب ديني في حضارة وادي الرافدين يرجع تاريخه إلى عهدٍ قديم، وهو مذهب الصابئة، يدّعي أصحابه: «أنّ معلميهم الأوّلين هما النبيان الفيلسوفان عاذيمون (أي الروح الطيب) وهرمس، وقد قيل: إنّ عاذيمون هو شيث (3) الابن الثالث لآدم عليه السلام، وإنّ هرمس هو النبي إدريس عليه السلام (4). وكان


1- 1 عظمة بابل، مصدر سابق: 410.
2- 2 الزقورة: برج هرمي متعدّد الطبقات، يعتبر بمثابة صرح ديني نموذجي على ما يصفه د. هنري س. عبودي في معجم الحضارات السامية. والزقورة تبدو في الصورة أعلاه كالكعبة وسط الحرم. فالزقورة وسط المعبد تحيطها ساحة كبيرة لاستيعاب الحجاج في موسم رأس السنة.
3- 3 شيث: وتعني هبة اللَّه، وهو الجد الثالث لإدريس عليه السلام، وقد حكم في الناس بعد أبيه آدم عليه السلام واستشرع صحفه وما أنزل عليه في خاصته من الأسفار والأشراع.
4- 4 إدريس: تزعم الصابئة أنّه هرمس، ومعنى هرمس عطارد. وقد أنزل اللَّه تعالى عليه ثلاثين صحيفة، وكان قد نزّل قبل ذلك على آدم، إحدى وعشرين صحيفة، وأنزل على شيث تسعاً وعشرين صحيفة فيها تهليل وتسبيح.

ص: 36

أورفيوس أيضاً من فلاسفتهم وأنبيائهم» (1).

وكانت هذه الفئة تسكن مدينة حرّان الواقعة في الجنوب الشرقي من تركيا الحالية «وهي بين طريق الموصل والشام» (2).

وحرّان: مدينة قديمة جدّاً تقع قرب منابع نهر البليخ بين الرها ورأس عين،


1- 1 انظر: دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة من المستشرقين 14: 89. وكتاب الملل والنحل للشهرستاني: 47.
2- 2 معجم البلدان، ياقوت الحموي، باب الحاء والراء.

ص: 37

وقد اشتهرت بأنّها موطن إبراهيم عليه السلام ولابان، ولكن شهرتها ترجع بصفة خاصة إلى أنّها (قصبة الصابئة) وموئل دينهم (1). واشتهرت في التاريخ أنّها مقر عبادة (سن) إله القمر الذي زيّن معبده أكثر من ملك من ملوك الآشوريين، ولم تتغيّر الأحوال في المدينة على أثر انهيار سلطان الكلدانيين وقيام دولة الفرس (2). وكانت مركزاً هامّاً في طريق التجارة من نينوى إلى قرقميش، وكانت مركزاً لعبادة إله القمر الآشوري (3).

وحرّان المدينة المقدّسة عند الصابئة، ومقصد حجّهم حيث معبدهم مقر «سن» إله القمر، «وفئة من الصابئة تحج إلى حاران- أو حرّان- التي هاجر إليها إبراهيم عليه السلام، وينسب إليها الصابئة الحرّانيون» (4).

والصابئة فرق متعدّدة، رغم قلّتهم، فمنهم من ينتمي إلى كاظم بن تارح، وقد ذكرهم المقريزي بين الفرق المختلفة، وكأنّهم يقابلون دين إبراهيم عليه السلام بدين أخ له ينتمي إلى تارح، أبي إبراهيم في رواية العهد القديم (5).

ويقال: إنّ الحرّانيين ينتمون إلى حاران أو هادان أخي إبراهيم عليه السلام وقد يكون هو نفسه المقصود (كاظم) ولا دليل لنا على ذلك.

وقد ذكر أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية: «أنّ أوّل المذكورين من الصابئة: يعني المتنبئين يوذاسف، وقد ظهر عند مضي سنة من ملك طمهورث بأرض الهند، وأتى بالكتابة الفارسية، ودعا إلى ملّة الصابئين فاتبعه خلق كثير،


1- 1 انظر دائرة المعارف الإسلامية 7: 354.
2- 2 انظر المصدر السابق: 355.
3- 3 الموسوعة العربية الميسّرة، مصدر سابق: 695.
4- 4 إبراهيم أبو الأنبياء، العقّاد: 89.
5- 5 المصدر السابق: 90.

ص: 38

وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممّن كان يستوطن بلخ، يعظّمون النيرين والكواكب وكليات العناصر، ويقدّسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، وبقايا أولئك الصابئين (بحرّان) يُنسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرانية وقد قيل: إنّها نسبة إلى هاران بن ترخ أخي إبراهيم عليه السلام وأنّه كان من بين رؤوسائهم أوغلهم في الدين وأشدّهم تمسّكاً به» (1).

والصابئة الحرّانيون لهم أقوال وآراء في إبراهيم الخليل عليه السلام يندى لها الجبين، نذكر هنا ما ينسبونه إليه عليه السلام في خروجه عن دينهم: «إنّ إبراهيم عليه السلام إنّما خرج عن جملتهم؛ لأنّه خرج في قلفته برص، وإنّ من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه، فقطع قلفته بذلك السبب يعني (اختتن) (2)، ودخل إلى بيت من بيوت الأصنام، فسمع صوتاً من صنم يقول له: يا إبراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، وجئتنا بعيبين، اخرج ولا تعاود المجي ء إلينا، فحمله الغيظ على أن جعلها جُذاذاً، وخرج من جملتهم، ثم إنّه ندم بعدما فعله، وأراد ذبح ابنه لكوكب المشتري صدق توبته ففداه بكبش» (3).

وهناك فرقة اخرى من فرق الصابئة تسمّى (المنديا) (4) أو الصبوة، وهي فرقة يهودية نصرانية تمارس شعيرة التعميد في العراق» (5).

وهناك فرق اخر، أفرد الشهرستاني لهم ولشرح أقوالهم فصلًا مسهباً غاية الإسهاب في كتابه الملل والنحل.


1- 1 الميزان في تفسير القرآن، العلّامة الطباطبائي: 1/ 194.
2- 2 مذهب الصابئة يحرّم الاختتان ويعتبر المختتن خارجاً عن الدين.
3- 3 الميزان، مصدر سابق: 1/ 194.
4- 4 المنديا: فرقة من الصابئة وتسمّى نصارى يوحنا المعمدان.
5- 5 دائرة المعارف الإسلامية 14: 89.

ص: 39

ومن الصابئة من يعظِّم بيت اللَّه الحرام والكعبة الشريفة ويحج إليها كلّ عام، وجاء في الأحاديث الشريفة، أن أنواعاً من الحج تعدّدت في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكان أهمّها الحج الجاهلي والحج الحنفي والحج الصابئي.

وتدّعي هذه الفرقة من الصابئة أنّ الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم وأنّ اللّات كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة» (1).

«والمشهور عن الصابئة أنّهم يوقّرون الكعبة في مكّة، ويعتقدون أنّها من بناء هرمس أي إدريس عليه السلام وأنّها بيت زحل أعلى الكواكب السيّارة، ويُنقل عنهم عارفوهم أنّهم قرأوا صفة محمّد صلى الله عليه و آله في كتبهم ويسمّونه عندهم ملك العرب» (2).

وقد ذكرهم القرآن الكريم في ثلاثة مواضع فقط، في سورة البقرة، الآية 62.

وفي سورة المائدة، الآية 69، وفي سورة الحج الآية 17.

والصابئة دين خليط يشبه الجميع في بعض شرائعه، ويختلف مع الجميع في بعض شرائعه الاخرى (3).

الحجّ في الحضارة الفارسية القديمة


1- 1 الميزان، مصدر سابق.
2- 2 إبراهيم أبو الأنبياء، العقّاد: 91.
3- 3 إبراهيم أبو الأنبياء، العقّاد: 87- 90.

ص: 40

وفي الحضارة الفارسية القديمة طقوس ورسوم وعقائد وأفكار يطول تعدادها لو أردنا الدخول إليها، ولكن لنأخذ مقطعاً من تأريخها وليكن الديانة الزرادشتية؛ لأنّها أشهر ديانة وأعظم تعاليم تمسّك بها الفرس منذ «القرن العاشر أو السادس قبل الميلاد» (1) حتى يومنا هذا توجد بقايا من أتباعه في مدينة يزد الإيرانية وفي الهند.

والذين يدينون بالزرادشتية يعرفون أن تعاليمها تأتي من خمسة كتب مقدّسة ادّعى بها نبيّهم «زرادشت» (2) أنّها من وحي الإله الواحد أهورا- مزدا إله النور والسماء.

ومن بين هذه الكتب المقدّسة كتاب «الياسنا» الذي يهتم بالشعائر والطقوس، ويمكننا أن نلتقط من هذه الشعائر والطقوس ما يمكن أن يمثِّل شكلًا من أشكال الحج، حيث الزيارات السنوية المقدّسة إلى المعابد في الأعياد الدينية، وتقديم


1- 1 قصّة الحضارة، مصدر سابق مج 1، 2: 425.
2- 2 زرادشت: مصلح إيراني ظهر في إيران قبل المسيح بمئات السنين، وله قصّة مثيرة ومؤثّرة في نفوس أتباعه، قيل: إنّ امّه قد حملت به حملًا إلهياً قدسياً؛ ذلك أنّ الملاك الذي كان يرعاه تسرّب إلى نبات الهَوْما، وانتقل مع عصارته إلى جسم كاهن حين كان يقرّب القرابين المقدّسة. وفي ذلك الوقت نفسه دخل شعاع من أشعة العظمة السماوية إلى صدر فتاة راسخة النسب سامقة في الشرف، وتزوّج الكاهن بالفتاة، وامتزج الحبيسان الملاك والشعاع، فنشأ «زرادشت» من هذا المزيج، وقهقهه حين ولادته ففرّت من حوله الأرواح الخبيثة، وأحبّ هذا الوليد الحكمة والاصطلاح، ثم تجلّى له رب النور الإله الأعظم، ووضع في يديه الأبستاق أي كتاب العلم والحكمة، وأمره أن يعظ الناس. وهكذا ولد الدين الزردشتي. وعمَّر زرادشت طويلًا حتّى أحرقه وميض برق، وصعد إلى السماء، انظر قصّة الحضارة مج 1، 2: 424.

ص: 41

الأضاحي والنذورات ومراسم مقدّسة أخرى .

ومن تعاليم هذا الكتاب «التقوى يقول وِل ديورانت: «ولمّا كانت التقوى أعظم الفضائل على الإطلاق- عندهم- فإنّ أوّل ما يجب على الإنسان في هذه الحياة أن يعبد اللَّه بالطهر والتضحية والصلاة. ولم تك فارس الزرادشتية تسمح بإقامة الهياكل أو الأصنام، بل كانوا ينشئون المذابح المقدّسة على قمم الجبال وفي القصور أو في قلب المدن، وكانوا يوقدون النار فوقها تكريماً لآهورا- مزدا، أو لغيره من صغار الآلهة. وكانوا يتخذون النار نفسها إلهاً يعبدونه ويسمّونها «أنار» ويعتقدون أنّها ابن إله النور.. وكانوا يقرّبون إلى الشمس، وإلى النار- التي لا تنطفئ طيلة العام- وإلى أهورا مزدا، القرابين من الأزهار والخير، والفاكهة، والعطور، والثيران والضأن والجمال والخيل والحمير وذكور الوعل، وكانوا في أقدم الأزمنة يقرّبون إليها الضحايا البشرية (1) شأن غيرهم من الامم، ولم يكن للآلهة من هذه القرابين إلّارائحتها.. لأنّ الآلهة- على حدّ قول الكهنة- ليست في حاجة إلى أكثر من روح الضحية (2).

«وكان الأهلون- عامّة الشعب المتديّن- يجتمعون في الأعياد وكلّهم يرتدون الملابس البيضاء. وكانت (الشريعة الأبستاقية) (3) كالشريعتين الإبراهيمية والموسوية مليئة بمراسم التطهير والحذر من القذارة، وكان في كتاب الزرادشتية المقدّس فقرات طويلة ممّا خصّت كلّها بشرح القواعد الواجب اتباعها لطهارة الجسد والروح» (4).


1- 1 كان تقديم الضحايا البشرية قبل عهد زرادشت أي في عهد المجوس الذي قضى عليهم زردشت.
2- 2 قصّة الحضارة، مصدر سابق: 433.
3- 3 الشريعة الابستاقية هي نفسها شريعة زرادشت وتنسب إلى كتابه المقدّس.
4- 4 قصّة الحضارة، مصدر سابق: 439.

ص: 42

ونفهم ممّا سبق أنّ لهم زيارات سنوية لمعابدهم يؤدّون فيها طقوساً خاصّة، ويلبسون الملابس البيضاء، ويقدّمون الضحايا ممّا يدلّ على أنّ لهم حجّاً بالمعنى اللغوي الذي فهمناه.

الحجّ في الحضارة الرومانية

والحضارة الرومانية كذلك عرفت الحج، ونظّمت طقوساً خاصّة به، ممّا يتعلّق بديانتهم، وبنت الهياكل الكبيرة (1) المربعة منها والمستديرة، وقدّمت للهياكل


1- 1 أعظم هيكل روماني هو هيكل يونو المنذرة أو الحارسة على القمّة الشمالية لتل الكپتول وعلى المنحدر الجنوبي من هذا التل يوجد معبد ساترن، ويرجع بناء ذلك المزار أو الهيكل- الذي هو أقدس مزارات رومة- يرجع تاريخه إلى عام 497 ق. م. ولا زالت آثاره باقية حتى الآن. انظر قصّة الحضارة: مج 5، 1: 293.

ص: 43

هدايا وأضاحي ونذورات، وعددت الآلهة، وجعلت لكلِّ شي ءٍ إلهاً، وتقرّبت للآلهة؛ لكسب عونها ورضاها، أو لاتقاء غضبها. وكان الكهنة يوصون الحجّاج أو زائري الهياكل والمعابد أن يلتزموا بالدقّة في ممارسة الطقوس والشعائر الخاصّة في الاحتفال في الأعياد السنوية وغير السنوية، وإذا وقع خطأ في طقس من هذه الطقوس أيّاً كان نوعه، وجبت إعادته من جديد، ولو تطلّب ذلك إعادته ثلاثين مرّة (1).

وكان أهم ما في هذه الطقوس، التضحية «وفي أكبر المناسبات أهمية عيد السو أفي يلية (Su- ove- taur- illa) أي (عيد الخنزير والشاة والثور). وكانوا يعتقدون أنّه إذا تليت صيغ خاصة على التضحية استحالت إلى إله يراد منه أن يتقبلها، وعلى هذا الاعتبار كان الإله نفسه هو الذي يضحى به» (2).

وهناك مراسم اخرى في عيد التطهير «وكان احتفال التطهير من أكثر هذه الطقوس متعة، وكان هذا التطهير يحدث للمحصولات الزراعية أو لقطعات الماشية أو للجيش أو المدينة. وكانت الطريقة المتّبعة في هذا الاحتفال أن يطوف موكب بالشي ء المراد تطهيره، ويقدّم له الصلوات والذبائح والانشودة والرقية، ورجاء الإجابة فانّ لم يجب فإن غلطة ما قد حدثت في الطقوس المرعية» (3).

وهناك مكان آخر حجّ إليه الرومان وهو إله القمر (ديانا) «وكانت- ديانا- في زعمهم روح شجرة جي ء بها من أريشة (Aricea) حينما خضع هذا الإقليم من


1- 1 المصدر السابق 2: 133.
2- 2 المصدر السابق: 135- 136.
3- 3 المصدر نفسه.

ص: 44

أقاليم لا ينوم لحكم رومة، وكان بالقرب من أريشيا بحيرة نيمي Nemi وأيكتها، وكان في هذه الأيكة مزار ديانا ملجأ الحجاج، الذين يعتقدون أن هذه الالهة قد ضاجعت في هذا المكان فربيوس Virbius ملك الغابات الأوّل، ولكي يضمن دوام إخصاب ديانا وإخصاب الأرض كان خلفاء فربيوس- وهم كهنة الصائدة وأزواجها- يستبدل بهم جميعاً واحداً بعد واحد أي عبد قوي يعوذ نفسه بغصن (يسمى عندهم بالغصن الذهبي) يأخذه من شجرة البلوط المقدّسة إحدى أشجار الأيكة ويهاجم الملك ويذبحه. وقد بقيت هذه العادة إلى القرن الثاني بعد ميلاد المسيح» (1).

أمّا رومة المسيحية فقد اتخذت أشكالًا أُخرى وأنواعاً من الحج سنتحدّث عنها في (الحجّ في الديانة المسيحية) وفي وقت آخر إن شاء اللَّه تعالى.

الحجّ في الحضارة الهندية

أمّا الهند فلا يمكن استيعابها بأسرها؛ لكثرة السكان واختلاف اللغات والأديان، فهي ليست أمّة واحدة كمصر أو بابل أو رومة، بل هي قارة بأسرها.

لقد تعدّدت الأديان في الهند، وأخذت عقائدها الدينية ما يمثِّل كل مراحل العقيدة من الوثنية البربرية إلى أدقّ وحدة في الوجود وأكثرها روحانية منذ عام 2900 ق. م إلى يومنا هذا..

لقد وضع الهنود لهم أعياداً سنوية كغيرهم من الامم، وبعض هذه الأعياد يصاحبها حج إلى معبد أو ضريح أو هيكل معيّن، وممارسة بعض الطقوس والشعائر المتعلّقة به، كما وجدنا ذلك عند بقية الامم، فغالباً ما يكون الحج مصحوباً بعيد سنوي ديني.


1- 1 المصدر السابق: 128.

ص: 45

والهنود قلّدوا ما قبلهم من الأقوام، الذين نطقوا باللغة السنسكريتية، ووضعوا الأدعية والصلاة وغيرها بتلك اللغة «فكانوا يسيرون مواكب عظيمة أو أفواجاً من الحجّاج، قاصدين الأضرحة القديمة، ولم يكونوا ليفهموا ما يُقال من عبارات الصلاة في تلك المعابد؛ لأنّها كانت تقال «بالسنسكريتية»، لكنّهم كانوا يفهمون الأوثان، فيزينونها بالحُلى ويطلونها بالطلاء، ويرصعونها بكريم الأحجار، وكانوا أحياناً يُعاملونها كأنّها كائنات بشرية..» (1).

وأعظم الطقوس الجماعية عندهم هي تقديم القرابين، فالقربان عند الهندي ليس مجرّد صورة خاوية؛ لأنّه يعتقد أنّه إذا لم يقدمه للآلهة طعاماً تموت جوعاً. ولما كان الإنسان في مرحلة أكل اللحوم البشرية، كانت القرابين في الهند كما في غيرها من بلاد العالم قرابين أو ضحايا بشرية.. فلمّا تقدّمت الأخلاق أخذت الآلهة تكتفي بالحيوان قرباناً (2).

وهناك مركز رئيسي للحج عند الهنود منذ القرن 16 ق. م وهو مدينة بنارس الجليلة القدر عندهم، كعبة يحجّون إليها سنوياً يقدّسها البوذيون والچين، ويقصدها سنوياً حوالى مليون حاج؛ لزيارة معابدها وأضرحتها التي تمتد 65 كم بموازاة الجانج، وبها المعبد الذهبي (3).

يقول وِل ديورانت في شأن هذه المدينة:

«.. وبنارس هي المدينة المقدّسة للهند، إذ باتت كعبة الملايين من الحجّاج، يؤمّها الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء جاءوا من كل أرجاء البلاد؛ ليستحموا في النهر المقدّس (نهر الكنج) حتى يستقبلوا الموتى برآء من كل إثم


1- 1 قصة الحضارة مج 2، 3: 224- 225.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 الموسوعة العربية الميسّرة: 407.

ص: 46

أطهاراً من كلّ رجس. إنّ الإنسان ليأخذه الخشوع، بل يأخذه الفزع، حين يتذكّر أنّ أمثال هؤلاء الناس قد حجّوا إلى بنارس مدى ألفي عام، وغمسوا أنفسهم في مياهها، وهم يرتعشون من لذعة البرد في فجر الشتاء، وشمّوا بنفس متقززة لحم الموتى وهو يحترق، فعلوا كلّ ذلك وهم يفوهون بنفس الدعوات التي كان يقينهم أن تجاب، فعلوا ذلك قرناً بعد قرن، وتوجّهوا بالدعاء إلى نفس الآلهة التي لبثت على صمتها، لكن عدم استجابة إله من الآلهة لا يحول دون تعلّق القلوب به، فلا تزال الهند تعتقد اليوم بنفس القوّة، التي كانت تعتقد بها في أي عصر مضى في الآلهة، الذين لبثوا كلّ هذا الزمن ينظرون إلى فقرها وبؤسها، فلا تأخذهم من أجلها رحمة (1). وما زال السيخ يحجّون إلى هذا المعبد (2).

هذا نموذج لحج الهند القديمة، وإذا تقدّمنا في الزمن بعيداً من ذلك التاريخ..

تقدّمنا إلى الهند في القرن الثامن الهجري، فسنجد نوعاً آخر من الحج المنحرف ينسبه أصحابه هذه المرّة إلى الإسلام، ذلك هو الحج على المذهب الذِكْري، وقد أسّس هذا المذهب: محمد المهدي الأتكي وضمّن آراءه في كتابه البرهان. وتبدأ قصّة هذا الحج كما كتبها (أحمد مولانا عبدالخالق رحمه الله) قال:

«كان الضال ملّا محمّد المهدي الأتكي يسكن في البنجاب، وانتقل منه من موضع إلى موضع حتى وصل إلى موضع مشهور في بلوشستان المسمّى ب (كيج) وبدأ يستفيد من جهّال هذه المدينة استفادة باطلة، ويدّعي بأنّه «المهدي الموعود» فصار مقبولًا عند الخاص والعام، ولم يمر وقت طويل حتّى كتب كتاباً ينبئ فيه امّته المضلة بأنّه قد نُسخت الشريعة المحمّدية بمجيئه في الدنيا، واعتقادها كفر ولا يحاسب أحد يوم القيامة عن أركانها الأربعة من الصوم والصلاة والحج


1- 1 قصة الرحمة مج 2، 3: 227.
2- 2 انظر موسوعة المورد 5: 11.

ص: 47

والزكاة» (1).

وبهذا الكلام استطاع محمد الاتكي أن يصرف المسلمين سكّان تلك المنطقة عن الصوم والصلاة والزكاة، والحج إلى الكعبة المشرّفة؛ وابتكر لهم حجّاً مشابهاً للحج الاسلامي المحمّدي لأماكن شبيهة بمقدّسات مكّة المكرّمة كجبل عرفات وجبل ثور وغار حراء، وبنى لهم كعبة ليحجّوا إليها..

ويضيف أحمد مولانا قائلًا: «والحجّ:- لا يحج معتقدو هذا المذهب- المذهب الذِكْري- إلى بيت اللَّه الحرام الذي أمر المسلمون بزيارته. والحج في الأشهر الحرام به، وإنّما اتخذوا جبلًا معروفاً باسم (كوه مراد) حجّاً لهم حيث يقع في جنوب مدينة (تربت) وهو منسوب إلى نائبه الضال (ملّا مراد) ساكن تلك المدينة، فيحجّون في الأيام الأخيرة من شهر رمضان بدايةً من 27 من رمضان ويستغرق ثلاثة أيّام» (2).

ويضيف أحمد مولانا أيضاً: «إنّ محمد الأتكي ادّعى أن كتابه (البرهان) (3) أو بلغتهم (بركهور) كان ينزل عليه في جبل (كوه إمام) من خلال «مهبط الالهام» أو الوحي تحت الشجرة، وجعل لهم هذا الجبل (كغار حراء) ثم اتخذ لهم ميداناً واسعاً كعرفة، حتى إذا أرادوا الحج ذهبوا لزيارته، وهو ميدان يسمّى (بكوه دن) و «كارتيزهزئي» الذي كان نهراً أو منبعاً للماء أصبح لهم بئر زمزم كما في مكة،


1- 1 الفاروق، مجلّة إسلامية ثقافية، فصلية تصدر عن رئاسة الجامعة الفاروقية، باكستان: 36 العدد 54/ 1988 م.
2- 2 المصدر السابق: 37.
3- 3 البرهان: كتاب ألّفه محمّد الاتكي مؤسس المذهب الذكري، وادّعى أنّه قرآنهم الجديد النازل عليه من السماء والناسخ لقرآن محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله. وفيه كلّ تعاليم المذهب، وفيه أحاديث عن الرسول صلى الله عليه و آله تؤكّد ظهور محمد المهدي الاتكي في القرن الثامن الهجري.

ص: 48

ولكن من سوء حظّهم نضب ماؤها الآن بأفعالهم الخبيثة» (1).

والطريف أنّ معتنقوا هذا المذهب يؤكّدون بأن للرسول محمّد صلى الله عليه و آله أحاديث تؤكّد وتبشِّر بمجي ء إمامهم الموعود (محمّد المهدي) فنرى الشيخ محمد قصر قندي في نسخته القلمية يقول:

«إنّ أبا بكر الصديق سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: متى يكون خروج المهدي؟ فقال صلى الله عليه و آله:

السلام: «فقد يجي ءُ بعد مماتي في بلاد الهند سنة سبع وسبعين وتسعمائة اسمه كاسمي واسم أبيه كاسم أبي» (2).

الحج في الصين

والصين كالهند، فهي ليست موطناً موحّداً لُامّة واحدة، بل هي خليط من أجناس مختلفة الأصول متباينة اللغات غير متجانسة.

وقد حدّثنا المؤرِّخون بأحاديث مفصّلة عن تاريخها منذ (3000 ق. م) حتى العصر الحديث، عن عاداتهم، وتقاليدهم ودياناتهم... ولو أردنا استيعاب ذلك بأسره لطال الحديث بنا، ولكن لنأخذ نموذجاً يعطينا صورة من صور حجّهم وطريقتهم في الحج، علماً أن أشهر هيكل حج إليه الصينيون كان «هيكل السماء ومذبحه» اقتداءً بسنّة الإمبراطور العظيم «تاي دز ونج»: الذي كان يأتي هذا الهيكل في الساعة الثالثة من صباح رأس السنة الصينية للصلاة والدعاء لأسرته بالتوفيق والفلاح ولشعبه بالرخاء، ويقرب القربان للسماء التي يرجو أن تكون بصفّهِ لا في صفِّ عدوّه. وموقع هذا الهيكل بالقرب من سور «پيچنچ» التتاري الجنوبي، ويتكوّن مذبح هذا الهيكل من سلسلة من الدرج والشرفات الرخامية،


1- 1 الفاروق، مصدر سابق: 37.
2- 2 المصدر نفسه: 36.

ص: 49

التي كان لعددها الكبير ونظامها أثر سحري في نفوس الزائرين، والهيكل نفسه

هيكل السماء في پينج

(بچودة) معد من ثلاث طبقات قائمة فوق ربوة من الرخام ومشيّدة من الآجر والقرميد الخاليين من الرونق. وقد نزلت صاعقة من السماء على هذا المعبد في عام 1889 م فأصابتهُ بضرر بليغ (1). وهذا الهيكل كان لعامّة الشعب أي كان معبداً عامّاً للجميع. وهناك معبد وهيكل مخصّص للديانة الرسمية، وهو الذي أمر ببنائه الامبراطور المذكور أعلاه «تاي دزونج»، فلمّا تربّع هذا الامبراطور العظيم على العرش أمر أن يشاد هيكل ل «كنفوشيوس»(2)

في كلّ مدينة وقرية في جميع أنحاء


1- 1 قصّة الحضارة: مج 2، 4: 182- 183.
2- 2 كنفوشيوس: ولد عام 551 ق. م في مدينة تشو- فو إحدى البلاد التي كانت تكوِّن وقتئذمملكة لو، والتي تكون الآن ولاية شان توبخ. وصار فيلسوفاً، ومعلّماً محبوباً تهوي إليه القلوب، وألَّف خمسة مجلّدات أسماها كتب القانون الخمسة ولما مات عن عمر 72 سنة واراه تلاميذه التراب باحتفالٍ مهيب جدير بما تنطوي عليه قلوبهم من حبٍّ له وإجلال، وأحاطوا قبره بأكواخٍ لهم أقاموا فيها ثلاث سنين يبكون كما تبكي الأبناء على آبائهم. ثم بنى الامبراطور العظيم فوق قبره هيكلًا ومعبداً وأصبح مكاناً يحجّ إليه الصينيون آلاف الأعوام.

ص: 50

الامبراطورية، وأن يقرب لها القرابين (1). وبنى هيكلًا خاصّاً للديانة الرسمية في «پيكنج» والمسمى بهيكل «كنفوشيوس»، وحارسه پاي- لو، وكان فخماً محفوراً أجمل حفر..

وقد أدخلت عدّة تعديلات عليه، وأُعيد بناء بعض أجزائه عدّة مرّات، وقد وضعت لوحة روح أقدس القديسين المعلم والأب كنفوشيوس على قاعدة خشبية في مشكاة مفتوحة في الهيكل، ونقشت العبارة الآتية فوق المذبح الرئيسي: «إلى المعلِّم الأعظم والمثال الذي تحتذيه عشرة آلاف جيل» (2)..

ويمكن تسجيل عدد آخر من الأماكن العبادية المناسبة للحج، ولكن نكتفي بهذين النموذجين اللذين يعتبران أكثر الأماكن أهمّية وقصداً للزيارة في تاريخ الصين.

الحجّ في اليابان

وحين ننتقل إلى اليابان نجدها قد تأثّرت بالصين بكثير من الامور كالفلسفة والعقائد الدينية وفن بناء المعابد وغيرها.. غير أنّ معابد اليابان كانت أغنى من معابد الصين زخرفاً وأرقى نحتاً. فما يُرى في معابد اليابان من بوّابات فخمة على طول المرتقى أو المدخل الذي يؤدّي إلى الحرم المقدّس وغيرها لا يُرى في معابد الصين.


1- 1 قصة الحضارة: مج 2، 4: 66.
2- 2 المصدر نفسه: 182.

ص: 51

واعتادت فئة في اليابان على تقديس أرواح أسلافها فحيث تلتقي عبادة أرواح الأسلاف بالطقوس البوذية (1) في تعايش سلمي منسجم، تقوم معابد (الشينتو)- أي معابد تقديس أرواح الأسلاف- مستقلة عند المعبد البوذي ومجاورة له وتسمّى في لغتهم: «فوجي ياما». ولفظة فوجي تعني «النار» (2).

كما يؤمون المعابد البوذية في مدينة «نارا» حيث أقسم أسلافهم القدماء هناك على تحرير وطنهم من التبعية لإمبراطور الصين، فأصبح معبدها محجّةً لهم، ولم تكن ديانة «شنتو» بحاجة إلى تفصيل مذهبي أو طقوس معقّدة أو تشريع خلقي، ولم تكن لها طبقة من الكهنة خاصة بها، كلا! ولا تذهب إلى ما يبعث العزاء في نفوس الناس من خلود الروح ونعيم الفردوس، فكان كلّ ما تطالب به من معتنقيها أن يحجّوا آناً بعد آن لأسلافهم وأن يقدّموا لهم ضراعة الخاشعين، ويضحّوا بالقرابين ويقدّموا النذور وغيرها (3).

ويمكن أن نعدّ في اليابان نوعاً آخر من الحج يتعلّق بالزهور ويمكن أن نسمّيه (حج الزهور):

فالزهور عند اليابانيين بمثابة الدين، فهم يعبدونها عبادة تشيع فيها روح التضحية بالقرابين، ويلتقي فيها أفراد الشعب جميعاً، وهم يرقبون في كلّ فصل من فصول العام ما يلائمه من زهور، فإذا ما أزهرت شجرة الكريز مدى اسبوع أو اسبوعين في أوائل شهر ابريل، يخيل اليك أنّ أهل اليابان جميعاً قد تركوا أعمالهم


1- 1 البوذية كانت تمارس في اليابان ولكن دخلت تعاليمها عام 522 م من الصين بتفاصيل، وكان على الرجل الياباني أن يختار لنفسه مذهباً من عدّة مذاهب في البوذية، أو أن يختار لنفسه سبيلها في حج صبور إلى حيث دير «كوپاسان» وهناك يبلغ الجنّة بأن يدفن في أرض تقدّست بفضل ما فيها من عظام «كوبودايشي» ذلك العظيم في علمه وفي تديّنه وفي فنّه.
2- 2 موسوعة المورد: 4/ 177.
3- 3 انظر قصّة الحضارة مج 3، 5: 10- 14.

ص: 52

ليحدجوا فيها بأبصارهم، بل ليحجّوا إلى الأماكن المقدّسة التي تزخر بهذه المعجزة، ويكمل فيها إزهار هذا الضرب من الشجر (1).

جيل فوجى باليابان

حجّ الأنبياء والحضارات

لقد قرأنا الحج في الحضارات في النقاط السابقة، ولنا أن نتساءَل... أين عاش الأنبياء، أليس هم بشراً جاؤوا لإرشاد الناس، وأين كان الناس أليسوا هم أبناء الحضارات المختلفة المنتشرة في العالم؟

الحقيقة أنّ الأنبياء وهم كثيرون جدّاً، لابدّ من أنّهم عاشوا في ثنايا الحضارات المختلفة يرشدون الناس، ويدلونهم على طريق اللَّه الصائب، وعلى الرغم من أننا نعرف أنّ إبراهيم عليه السلام عاش في حضارة وادي الرافدين، ويوسف وموسى عاشا في حضارة وادي النيل، وأنبياء بني إسرائيل عاشوا في الحضارة الفينيقية وغيرها وآخرين في حضارات اخرى إلّاأننا لا نعرفهم جميعهم كما جاؤوا في أحاديث نبيّنا صلى الله عليه و آله والأئمّة الأطهار عليهم السلام أنّهم (124) ألف نبيّ أو أكثر


1- 1 قصّة الحضارة، المصدر السابق: 59.

ص: 53

و (300) رسول أو أكثر.

ولكن على أيّ حال لابدّ من أن نذكِّر أنّ ما تبقى من الشعائر الصحيحة في تلك الحضارات هي لا شك جاءت بفضل كثرة الأنبياء، الذين عاشوا في تلك الحضارات. فقد كان الأنبياء في كلّ الحضارات القديمة، القدوة الحقيقية لشعوبهم، بل ولكلّ العالم، وتصرّفاتهم مستمدّة من السماء لا يفعلون شيئاً شائناً مضرّاً بالناس، وإلّا لا يمكن وصفهم بالأنبياء والقدوة، فالمقتدى به يجب أن يكون أفضل الناس.. وهكذا كان الأنبياء في كلّ مكان وزمان. ولمّا كان الحج فريضة أمر اللَّه تعالى بها، فقد كانوا أولى المبادرين إليه، وكانوا أفضل من يقوم به ويؤدّي شعائره وممارسته..

فقد جاء في الروايات عن النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله وعن أهل بيته الكرام عليهم السلام، في حج الأنبياء، أنّ الأنبياء والرسل مارسوا الحج جميعهم إلى بيت اللَّه الحرام، ولم يتخلّف نبيٌّ واحد عن هذا المسار الربّاني السماوي.. وإليك بعض الأحاديث:

عن الحلبي: سُئل أبو عبداللَّه الصادق عليه السلام عن البيت أكان يحجُّ إليه قبل أن يبعث النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله؟ قال: «نعم وتصديقه في القرآن الكريم قول شعيب حين قال لموسى حيث تزوّج: على أن تأجرني ثماني حجج ولم يقل ثماني سنين، وأنّ آدم ونوحاً حجّا، وسليمان بن داود قد حجَّ البيت بالجن والإنس والطير والريح، وحجّ موسى على جمل أحمر يقول: لبيك لبيك، وأنّه كما قال اللَّه: إنّ أوّل بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين، وقال: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، وقال: أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وأنّ اللَّه أنزل الحجر لآدم وكان البيت» (1).


1- 1 بحار الأنوار: 99/ 94.

ص: 54

وعن الإمام الرضا عليه السلام قال قائل: فَلِمَ جعل وقتها في ذي الحجّة؟ قيل: لأنّ اللَّه تعالى أحبَّ أن يُعبد بهذه العبادات في أيّام التشريق، فكان أوّل ما حجّت إليه الملائكة وطافت به في هذا الوقت، فجعله سُنّة ووقتاً إلى يوم القيامة. فأمّا النبيّون آدم ونوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمّد (صلوات اللَّه عليهم) وغيرهم من الأنبياء إنّما حجّوا في هذا الوقت، فجُعلت سُنّة في أولادهم إلى يوم القيامة» (1).

وجاء في أخبار مكة للأزرقي، قال: «ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيّاً جاءوا حُجّاجاً فقبروا هنالك» (2).

البيت الحرام، وجهة حج الأنبياء

الحجّ في الجاهلية


1- 1 بحار الأنوار 99: 45.
2- 2 أخبار مكّة، الأزرقي 1: 68.

ص: 55

والجاهليون في الجزيرة العربية ونواحيها قدّسوا البيت الحرام والكعبة الشريفة ومنى وعرفات، وطافوا ولبّوا ونحروا ورموا الجمرات وأحرموا، وكان حجّهم يبدأ في اليوم التاسع من شهر ذي الحجّة، وعندما يصل الحجاج إلى عرفة، يرتدون لباساً خاصّاً بالحجّ، قال الجاحظ فيهم:

«كانت سيماء أهل الحرم إذا خرجوا إلى الحلِّ في غير الأشهر الحُرم، أن يتقلّدوا القلائد، ويُعلّقوا عليهم العلائق، فإذا أوذم أحدهم الحج، تزيّا بزيّ الحاج» (1).

وكان الحج الإبراهيمي المحور الأساس في الحج الجاهلي، ولم يحفظ العرب من شريعة إبراهيم عليه السلام شيئاً إلّاالحج في مظاهره، غير أنّهم زادوا فيه وحذفوا منه، وأدخلوا الأصنام في الكعبة الشريفة، حتّى بلغ عددها أكثر من (3000) صنم، على رأسها هُبل واللات والعزى ومناة... «.. وهم بعدُ يعظّمون الكعبة ومكّة، ويحجّون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام..» (2).

«ومنهم على ذلك من بقايا عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسّكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج، والعُمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البُدن، والإهلال بالحج والعُمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه» (3).

وذكر القرآن الكريم حجّهم وأعمالهم عند بيت اللَّه الحرام، بأنّها مزيج من الشرك والتفاخر والتجارة والهرج والمرج، قال تعالى: وما كان صلاتُهم عنى البيت إلّامُكاءً وتصدية (4)

ويتنسّكون عنده مناسك يسمّونها اليوم أعياداً


1- 1 البيان والتبيين، الجاحظ: 3/ 65.
2- 2 كتاب الأصنام، الكلبي: 6.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 الأنفال: 35.

ص: 56

وموالد كشأن الجاهلية الاولى، وكلّ ذلك لا يصيب به تشريع اللَّه.. إلّامن حمله الهوى أو الجهل أن يركب رأسه فيقول، بغير علم ولا بيّنة..» (1). وقد عبّر عنهم القرآن الكريم بقوله تعالى:

إن يتّبعون إلّاالظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى أم للإنسان ما تمنّى (2)

.وكان لكلّ قبيلة من قبائل العرب في الجاهلية، صنمها الخاص بها تهلل حوله حتى تصل مكّة، وكان عبّاد كلّ صنم إذا أرادوا الحج، انطلقوا إليه، وأهلّوا عنده ورفعوا أصواتهم، ووقفت كلّ قبيلة عند صنمها وصلّت عنده، وكانوا عند ترديد التلبية يصفقون ويصفرون (3). وكانت التلبية هي: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك! إلّا شريكٌ هو لك! تملكُهُ وما مَلَكْ! (4).

وكان من شعائرهم في الطواف، أو لبعض منهم أن يطوفوا عرايا متجرّدين من كلّ ثيابهم، وهي شعيرة وثنية واضحة على الانحراف، وقد ذكر ذلك القرآن الكريم وكُتب الأحاديث والسير وكتب التاريخ.

والجدير بالذكر أنّ الحج إلى «بيت اللَّه الحرام» في زمن الجاهلية لم يكن مقتصراً على العرب فقط، فقد ذكر لنا التاريخ أن الفرس وغيرهم حجّوا إليه وعظّموه وقدّموا إليه الذهب والفضّة والقرابين والنذورات وغيرها.. فقد جاء في مروج الذهب للمسعودي: «وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام، وتطوف به، تعظيماً له».


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية، مصدر سابق، المعلق في الحاشية محمد حامد الفقي: 305.
2- 2 النجم: 23.
3- 3 كتاب الأصنام: 7.
4- 4 انظر أخبار مكة: 1/ 75. وتاريخ اليعقوبي: 1/ 296.

ص: 57

والمكاء: الصفير، بصيغة المبالغة طائر بالحجاز شديد الصفير، ومنه المثل السائر: (بنيك حمّري ومكئكيني) والتصدية التصفيق بضرب اليد على اليد، والمعنى أنّ المشركين في الجاهلية كان حجّهم وأعمالهم عند البيت الحرام، ما هي إلّا ملعبة من المكاء والتصدية (1). وهرجاً ومرجاً لا خشوع فيها ولا خضوع، لأنّها كانت صفيراً بالأفواه، وتصفيقاً بالأيدي (2).

وقد ورد عن الحج في الجاهلية: «أنّه كان يقام في الجاهلية كلّ عام سوقان في شهر ذي القعدة أحدهما في عكاظ والآخر في مجنة، وكان يتلوهما في الأيام الاولى من ذي الحجة سوق ذي الحجاز، ومنه يخرج الناس إلى عرفات مباشرة.. وكان الحج إلى عرفات يقع في التاسع من ذي ا لحجة، وكانت شتّى قبائل العرب تشترك فيه» (3).

وللحج في الجاهلية مظاهر خاصّة من أعمال وحركات عابثة وأفعال لا معنى لها؛ لأنّها رموز وشعائر ومناسك مقتبسة وغير مقتبسة وتلبيات، دون حضور قلب وهدى بل حضور هوى وعصبية قبلية، ومحبّة وإخلاص للأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ ولا تعي ولا تسمع ولا تغني عنهم شيئاً.

«والواضح الذي لا شكَّ فيه: أنّ الوثنيين قد اتخذوا بما أوحى إليهم الشيطان، معابد وهياكل يحجّون إليها. ليس العرب وحدهم ولا في القديم فقط، بل الناس هذا شأنهم حين تغلب عليهم الجاهلية، ويُشرعون من الدين ما لم يأذن به اللَّه. فقد أقاموا من قبور أوليائهم ومن تماثيل معظميهم الذين غلوا فيهم، فأعطوهم الآلهية، ما يحجّون إليه كلّ عام ولجدِّها إبراهيم عليه السلام، وتمسّكاً بهديه، وحفظاً لأنسابها،


1- 1 الميزان: 9/ 74.
2- 2 الكاشف 3: 475.
3- 3 دائرة المعارف الإسلامية: مج 7/ مادة الحج: 304- 305.

ص: 58

وكان آخر من حجّ منهم ساسان بن بابك وهو جدّ أردشير بن بابك، وهو أوّل ملوك ساسان وأبوهم الذي يرجعون إليه... فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزَمْزَمَ على بئر إسماعيل» (1).

وقد افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام بذلك، فقال:

وما زلنا نحجُّ البيتَ قِدْما ونلقي بالأباطح آمنينا

وساسان بن بابك سار حتى أتى البيت العتيق يطوف دينا

فطاف به، وزمزم عند بئر لإسماعيل تروي الشاربينا (2)

البيت الحرام وجهة حج الجاهلية أيضاً

وقال المسعودي أيضاً: «وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالًا في صدر الزمان، وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك هذا أهدى غزالين من ذهب وجواهر وسيوفاً وذهباً كثيراً فقذفه في بئر زمزم» (3). ثم يضيف قائلًا: «وقد ذهب قوم من مصنّفي الكتب في التواريخ وغيرها من السير أن ذلك كان لجرهم حين كانت بمكّة، وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها، ويحتمل أن يكون لغيرها، واللَّه أعلم» (4).

الفصل الثالث: الخليل المعلم الأول

منزلة النبي ابراهيم عليه السلام


1- 1 مروج الذهب، المسعودي 1: 254.
2- 2 المصدر السابق.
3- 3 المصدر نفسه: 255.
4- 4 المصدر السابق.

ص: 59

الفصل الثالث: الخليل المعلم الأول

لمناسك الحج

ص: 60

ص: 61

منزلة النبي ابراهيم عليه السلام

ذكر القرآن الكريم لإبراهيم عليه السلام منزلة خاصة إذ جعله إماماً يقتدي بشريعته جميع الأنبياء والرسل من بعده... وجعله أسوة حسنة لجميع البشر بعده...

قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه (1)

وقال تعالى أيضاً: وإذ ابتلى ابراهيمَ رَبُّه بكلمات فأتمّهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين* وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مُصَلّى وعَهِدْنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركع السجود (2)

.فبعد أن امتحن واختبر إبراهيم عليه السلام بكلمات اللَّه تعالى طيلة عمره الشريف وتخرج برتبة عالية، ونجاح باهر، ابتلي واختبر بالكواكب (3) والأصنام (4)


1- 1 الممتحنة: 4.
2- 2 البقرة: 124- 125.
3- 3 الأنعام: 75- 80.
4- 4 الصافات: 91- 99، والأنبياء: 57- 60.

ص: 62

ومحاربة أبيه (1) له ولعقيدته (2). والهجرة عن الوطن (3)، وقبلها امتحن بإلقاء شخصه الكريم في النار الذي أضرمها الوثنيون للقضاء عليه(4)

، والالتزام بأمر الذبح لابنه البكر إسماعيل عليه السلام (5)، وغيرها من الكلمات والامتحانات، وبعد أن أتمّها عليه السلام على أكمل وجه، برزت لياقته وكفاءته عند خالق الكون مع علم مسبق، أن يجعله للناس إماماً في أواخر عمره الشريف، بعد أن كان نبياً معصوماً من أولي العزم، فتقلّد شرف الإمامة والقدوة الصالحة.

قال صاحب الميزان: وإذ ابتلى ابراهيمَ ربُّه... قال إنّي جاعلك للناس إماماً أي مقتدى يقتدي بك الناس، ويتبعونك في أقوالك وأفعالك، فالإمام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس (6).

ويؤكد المعنى أيضاً سيد قطب في تفسيره: «يقول للنبي صلى الله عليه و آله: اذكر ما كان من ابتلاء اللَّه تعالى لإبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف، فأتمهن وفاءً وقضاءً. وقد شهد اللَّه تعالى لإبراهيم عليه السلام في موضع آخر بالوفاء بالالتزامات على النحو الذي يرضى اللَّه عنه فيستحق شهادته الجليلة: وإبراهيم الذي وفى . وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه ابراهيم، مقام الوفاء والتوفية بشهادة اللَّه عزوجل..

عندئذ استحق إبراهيم عليه السلام تلك البشرى أو تلك الثقة: قال إني جاعلك للناس إماماً. أي قدوة، يقودهم إلى اللَّه تعالى .. ويكونون له تبعاً..» (7).


1- 1 ولد ابراهيم عليه السلام يتيما و تربى فى بيت زوج أمه، و قيل فى بيت عمه، و قيل الذى رباه جده لأمه، والله أعلم.
2- 2 مريم: 41 50.
3- 3 الأنبياء: 72.
4- 4 الأنبياء: 68 70.
5- 5 الصافات: 102 108.
6- 6 الميزان 1: 266.
7- 7 في ظِلال القرآن، سيد قطب 1: 112.

ص: 63

يالَها من منزلة، وشرف عظيم أن يجعل اللَّه تعالى إبراهيم عليه السلام إماماً وقدوةً بعد أن تربى في بيت (من رباه) (1) ناحت الأصنام، مُضل الغافلين، ينحتُ ربّه أو إلهه وإله قومه بيده ليعبدوها ويتقرّبوا إليها ويضعوها في معابد، ويضعوا لها أعياداً ليحجوا إليها في أعيادها، ويقربوا لها الأضاحي وغيرها من الأمور!

كان ذلك في بلاد الرافدين التي تحدثنا عنها سابقاً... كانت من مدنها «اور» التي كانت مسقط رأس ابراهيم عليه السلام ومركز عبادة الأصنام. وشاء اللَّه تعالى أن يخرج الولد الطيب الطاهر من البيت الخبيث، ويجعله أباً للأنبياء، وأسوةً صالحةً لكلّ الأجيال، ويجعل اسمه مقروناً بالإكرام والدعاء والإجلال عند معتنقي الأديان السماوية الثلاثة، وكلٌ يفتخر بنسبه إلى خليل اللَّه إبراهيم عليه السلام:

فاليهود ينسبون دينه اليهم والنصارى كذلك، والقرآن يحسم الموقف بقوله تعالى يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلّا من بعده أفلا تعقلون* وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين (2)

.هذا ابراهيم الخليل عليه السلام يحكي لنا القرآن الكريم شجاعته وشخصيته وعظمته وصدقه.. إنّه كان صدّيقاً نبياً (3)

.ويحكي لنا القرآن الكريم كذلك محاججته لأبيه، وطريقته في إلقاء الحجة قبل إعلان حربه وتحطيمه للأصنام، أصنام أبيه وقوم أبيه، قال إبراهيم عليه السلام في بداية


1- 1 تربى ابراهيم عليه السلام اليتيم في بيت ناحت الأصنام، ولكن نجد في القرآن الكريم من حوارابراهيم عليه السلام لمربيه كأنه يحاور أبيه الحقيقي، وهذا من باب أدب الأنبياء. وابراهيم عليه السلام نشأ يتيماً ولم يتربى في بيت أبيه.
2- 2 آل عمران: 65- 67.
3- 3 مريم: 41.

ص: 64

المحاججة متسائلًا:.. يا أبتِ لِمَ تعبُد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يغني عنك شيئاً* يا أبتِ قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً* يا أبت لا تعبد الشيطان إنّ الشيطان كان للرحمن عصيّاً* يا أبتِ إني أخاف أن يمسّك عذابٌ من الرحمن فتكون للشيطان ولياً (1)

.فلم يستجب الأب لهذا الخطاب المهذّب وأصرّ على عناده، فأعلن إبراهيم عليه السلام حربه بتحطيم الأصنام بكلّ شجاعة وبسالة لا خائفاً ولا وجلًا، تحفّه رعاية اللَّه تعالى وعونه فقال: وتاللَّه لأكيدنّ أصنامكم بعد أن تُولّوا مدبرين* فجعلهم جُذاذاً إلّاكبيراً لهم لعلّهم إليه يرجعون (2)

.وإنها لجرأة وشجاعة حقاً أن يتحدى شخص واحد قوماً طغاة عصاة، لا يكون كذلك إلّامن ذاب في مبدأ وعقيدة قوية مؤيدة من السماء. جاء القوم ولمّا نظروا آلهتهم العزيزة المحطّمة: قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنّه لمن الظالمين* قالوا سمعنا فتًى يذكُرُهم يُقالُ له إبراهيم* قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلّهم يشهدون* قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (3)

. فتحداهم مرةً أخرى و قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون (4)

.وهنا يبرز ذكاء إبراهيم، أن يجعلهم في موضع الاعتراف الذاتي، إنه الحقّ وهم الباطل، ونكسوا رؤوسهم، وأصدر نمرود حكم الإعدام بحرقه في النار؛ لأنه احسَّ بضعف حيلته أمام قوة الحق، ولا سبيل للطغاة في تاريخ البشرية سوى التخلص من أصحاب الحق بقوة النفوذ السلطاني الحاكم! وجعل اللَّه تعالى النار


1- 1 مريم: 42- 45.
2- 2 الأنبياء: 58.
3- 3 الأنبياء: 60- 62.
4- 4 الأنبياء: 63.

ص: 65

برداً وسلاماً على ابراهيم ونجّاه إلى الأرض المقدّسة المباركة أرض «ملكي صادق» القدس الحالية. وسنتحدث عنها في الفصل السادس إن شاء اللَّه تعالى ..

ابراهيم عليه السلام يحطّم الاصنام ويضع الفأس في عنق كبيرهم

ص: 66

والآن فلنقرا الآيات الكريمة التالية في بيان نجاة ابراهيم عليه السلام من نمرود وقومه:

فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ* قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ* قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ* قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الْأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (1)

بناءُ البيت الحرام

وإذ يرفع إبراهيم القواعدَ من البيت وإسماعيل ربَّنا تقبل منّا إنك أنت السميع العليم (2)

.قال الراغب الأصفهاني: قواعد البناء أساسهُ (3).

وقال العلامة الطباطبائي: «القواعد جمع قاعدة وهي ما قعد من البناء على الأرض واستقر عليه الباقي، ورفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها، ونسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها. وفي قوله تعالى من البيت تلميح إلى هذه العناية المجازية» (4).


1- 1 الأنبياء: 64- 71.
2- 2 البقرة: 127.
3- 3 المفردات، الأصفهاني: 48.
4- 4 الميزان في تفسير القرآن: 277.

ص: 67

فقواعد البيت الحرام وضعها ابراهيم عليه السلام بمساعدة ولده الأكبر اسماعيل عليه السلام، سواءً أكانت القواعد الحقيقية أم المجازية، أي سواءً أكانت قواعد أساس البناء للبيت، أم قواعد العبادة فيه، فهو الذي رفع هذه القواعد، بعد أن كان لها وجود، ولكن صورته غير واضحة عندنا كيف كانت قبل ابراهيم عليه السلام، ولكن الواضح عندنا أنّ الملائكة حجت هذه البقعة المباركة المقدّسة وحج أبو البشر آدم ومن جاء بعده حتى رفع في الطوفان. وسنفصل هذا في الفصل العاشر بإذنه تعالى ..

إذن فللبيت وجود قبل ابراهيم، والذي كُلفَ به الخليل وابنه عليهما السلام هو إحياؤه بعد أن درست معالمه، بوّأه اللَّه تعالى لإبراهيم وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت (1)

و «بوأتُ له مكاناً: سويته فتبوأ» (2). و «بوأتُهُ داراً أسكنته إياها و (وبوأتُ) له كذلك و (تبّوأ) بيتاً اتخذه مسكناً» (3).

وقد بيّن سيد قطب في تفسيره القواعد بقوله: «... البيت الحرام... يرجع نشأته على يد ابراهيم عليه السلام بتوجيه من ربّه وإرشاده. ويرجع إلى القاعدة التي أقيم عليها وهي قاعدة التوحيد، إلى الغرض من إقامته، وهو عبادة اللَّه الواحد، وتخصيصه للطائفين به والقائمين للَّه فيه» (4).

إذن فهندسة البيت التي نراها اليوم وستبقى إلى ما شاء اللَّه أن تبقى هي لإبراهيم عليه السلام بإذنٍ من ربّه وطاعة من إبراهيم عليه السلام.

أما ابن الأثير فيقول في (رفع القواعد): «فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ- النبي ابراهيم عليه السلام- عن رفع الحجارة، قام على حجر وهو


1- 1 الحج: 26.
2- 2 المفردات، الأصفهاني: 69.
3- 3 المصباح المنير، الفيومي 1: 67.
4- 4 في ظِلال القرآن، سيد قطب: 2418.

ص: 68

مقام ابراهيم عليه السلام» (1).

واتفق المؤرخون على أن ابراهيم هو الذي كان يبني واسماعيل يناوله الحجارة، فلما ارتفع البناء استعان ابراهيم عليه السلام بالوقوف على صخرة لِعلو البناء، وكلما فرغ من جدار نقل الحجر إلى سواه وهكذا حتى تمّ بناء جدران الكعبة، فبقي أثر قدميه الشريفتين على الصخرة.

واختلف الرأي في مقام إبراهيم، فمنهم من قال: هو مقام الصخرة، ومنهم من قال: الحرم كلّه الذي حول الكعبة.

ولنأخذ رأي السيد السبزواري في مهذّب الأحكام حيث يقول: إن لإبراهيم مقامين:

مقام قدمي وهي الآثار التي بقيت على الصخرة.

ومقام عبادي وهو الذي أمر اللَّه تعالى عباده باتخاذه مُصلّى حيث قال سبحانه: واتخذوا من مقام ابراهيم مُصلًّى (2) (3)

.وروى الصدوق في «علل الشرائع» بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: «لما أوحى اللَّه إلى إبراهيم عليه السلام: أن أذن في الناس بالحج أخذ الحجر... فوضعه بحذاء البيت لاصقاً به بحيال الموضع الذي هو فيه اليوم، ثمَّ قام عليه فنادى بأعلى صوته بما أمره اللَّه تعالى به، فلما تكلّم بالكلام لم يحتمله الحجر فغرقت رجلاه فيه، فقلع ابراهيم عليه السلام رجليه من الحجر قلعاً» (4).

فبقيت آثار قدميه الشريفتين.


1- 1 الكامل في التاريخ: ابن الأثير 1: 36.
2- 2 البقرة: 125.
3- 3 مهذّب الأحكام، السيد السبزواري، الفائدة الثالثة 14: 65.
4- 4 علل الشرائع، الصدوق 2: 128.

ص: 69

وعن ابن عباس أنّه قال: «... لبث ابراهيم ما شاء اللَّه أن يلبث ثم جاء الثالثة فوجد اسماعيل عليه السلام قاعداً تحت الدوحة التي بناحية البير يبري نبلًا أو نبالًا له فسلم عليه ونزل إليه فقعد معه فقال ابراهيم: يا اسماعيل إن اللَّه تعالى قد أمرني بأمر، فقال له اسماعيل: فأطع ربّك فيما أمرك، فقال ابراهيم: يا اسماعيل أمرني ربي أن ابني له بيتاً، قال له اسماعيل: واين؟ يقول ابن عباس: فأشار له إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، عليها رضراض من حصباء يأتيها السيل من نواحيها ولا يركبها، يقول ابن عباس: فقاما يحفران عن القواعد ويحفرانها ويقولان: ربنا تقبل منا إنك سميع الدعاء، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ويحمل له اسماعيل الحجارة على رقبته ويبني الشيخ ابراهيم، فلما ارتفع البناء وشق على الشيخ ابراهيم تناوله قرّب له اسماعيل هذا الحجر- يعني المقام- فكان يقوم عليه ويبني، ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت، يقول ابن عباس: فلذلك سمي مقام ابراهيم لقيامه عليه» (1).

وهنا روايات أخرى يطول ذكرها، ومهما كان وكيفما كان المقام فإنه آية من آيات اللَّه تعالى حيث قال: فيه آيات بينات مقام ابراهيم (2)

.أما الركن فهو الحجر الأسود. وذكر ابن عباس: «أنّ الركن (الحجر الأسود) والمقام: إنهما ياقوتتان من ياقوتات الجنّة، أنزلا فوضعا على الصفا فأضاء نورهما لأهل الأرض ما بين المشرق والمغرب» (3). ولما أُكمل بناء البيت وضع ابراهيم عليه السلام بمساعدة ابنه اسماعيل عليه السلام الحجر الأسود في الركن والمقام بلصق البيت. وهكذا تكامل بناء الكعبة الشريفة وأذن للحج إليها حتى يومنا هذا...

الدعوة إلى الحج


1- 1 أخبار مكة، للأزرقي 1: 59، منشورات الشريف الرضي.
2- 2 آل عمران: 97.
3- 3 علل الشرائع 2: 132.

ص: 70

وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميق (1)

.بعد أن أتمَّ ابراهيم عليه السلام بناء البيت الحرام... جاءه الأمر الإلهي أن يدعو الناس لزيارة هذا البيت الطاهر الآمن المقدس زيارة جماعية سنوية؛ ليذكروا اللَّه تعالى ويحمدوه ويعبدوه ويثنوا عليه ويستغفروا لذنوبهم في البيت الذي نسبه إلى ذاته المقدسة ...

فاستجاب الخليل عليه السلام ودعا الناس إلى بيت اللَّه الحرام بأذان و «التأذين:

الإعلام برفع الصوت ولذا فُسّر بالنداء، والحج القصد سمي به العمل الخاص الذي شرعه أولًا إبراهيم عليه السلام وجرت عليه شريعة محمد صلى الله عليه و آله لما فيه قصد البيت الحرام:

ورجال جمع راجل خلاف الراكب، والضامر المهزول الذي أضمره السير، والفج العميق- على ما قيل- المكان البعيد» (2).

وبعد أمر الدعوة إلى الحج، أوعد اللَّه تعالى ابراهيم عليه السلام باستجابة هذه الدعوة من الناس، وأنهم سيأتون مشاة وركباناً على ضوامر من الخيل والإبل من كلّ طريق بعيد... والقريب أولى بالاستجابة.

أذّن عليه السلام في الناس بالحج، ولبّى له الناس في أصلاب الرجال وأرحام النساء، هذا ما تبينه الروايات عن المعصومين عليهم السلام:


1- 1 الحج: 27.
2- 2 الميزان في تفسير القرآن 14: 370.

ص: 71

«لما أمر اللَّه تعالى ابراهيم عليه السلام، نادى يا أيها الناس إن للَّه بيتاً فحجوه، فأسمع اللَّه نداءه كلّ من يريد اللَّه أن يحج من ذريته إلى يوم القيامة» (1).

ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا والى ما يشاء اللَّه، يتقاطر الناس على هذا البيت المقدس العظيم من كلّ مكان، من أقطار الأرض جميعاً، وعبر القرون، منذ زمن ابراهيم عليه السلام إلى ما شاء اللَّه لهذه الأرض من البقاء، وما تزال أفئدة من الناس تهوي وترف إلى رؤية هذا البيت العظيم والى الطواف فيه، وعشرات الألوف من الحجاج يتقاطرون كلّ عام من فجاج الأرض، تلبي هذه الدعوة العظيمة دعوة خليل الرحمن بإذن من خالق الخلق، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها.

عن ابن اسحاق قال: «لما فرغ ابراهيم خليل الرحمن عليه السلام من بناء البيت الحرام جاءه جبريل فقال له:... ثم أمر ابراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، قال: فقال ابراهيم: يا رب ما يبلغ صوتي؟ قال اللَّه سبحانه: أذّن وعليَّ البلاغ، قال: فعلا على المقام فأشرف به حتى صار أرفع الجبال وأطولها، فجمعت له الأرض يومئذ سهلها وجبلها وبرها وبحرها وإنسها وجنها حتى أسمعهم جميعاً قال: فأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمناً وشاماً وشرقاً وغرباً وبدأ بشق اليمن فقال: أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم، فأجابوه من تحت التخوم السبعة ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلّها، لبيك اللهم لبيك...» (2).

وقال القمي في تفسيره: «إنّ الصعود على المقام كان للنداء لا للبناء، وأنه ارتفع حتى كان أطول من الجبال كذلك للنداء لا للبناء» (3).


1- 1 المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني 2: 146.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 1: 66- 67.
3- 3 تفسير القمي 2: 83.

ص: 72

واشتهر عند مؤرخي مكّة المتأخرين: أن المقام تطاول وعلا في السماء للبناء، وأقدم من ذكره أبو حيان التوحيدي المتوفى عام (745 ه) في تفسيره البحر المحيط في الجزء الثالث الصفحة السابعة.

استجابة دعاء إبراهيم عليه السلام

عندما جاء إبراهيم عليه السلام بابنه اسماعيل وأمّه هاجر من الشام إلى الوادي ذي الأحجار والرمال اليابسة الخالية من الماء والزرع يلفحهم حرّ الجزيرة القاحلة، رفع يديه الشريفتين إلى السماء قائلًا: ربّنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع (1)

.ودعا اللَّه تعالى قائلًا: فاجعل أفئدةً من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون(2)

.كان هذا دعاءه الأول لهم ثم دعا: ربِّ اجعل هذا البلدَ آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام (3)

. وقال:... ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمنَ منهم باللَّه واليوم الآخر* قال ومن كفر فامتعه قليلًا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (4)

.استجاب اللَّه تعالى دعاء خليله ابراهيم عليه السلام وفجَّر له ماء زمزم وجعل فيه كلّ الخير والبركة، وجعل ماءه شفاءً وعافيةً، وجعل القوافل والتجار تمرُّ من مكة،


1- 1 ابراهيم: 37.
2- 2 ابراهيم: 37.
3- 3 ابراهيم: 35.
4- 4 البقرة: 126.

ص: 73

وأفاض الرزق عليها، وجعلها بلدةً آمنة من الأخطار والأعداء، ومن يعتدي عليها يهلكه اللَّه تعالى بإذنه، وسنبين ذلك في الفصل التاسع إن شاء اللَّه تعالى ..

وللخليل ابراهيم عليه السلام أدعية أخرى لبلدةِ ذريته من اسماعيل عليه السلام أهمها أنه قال وابنه اسماعيل عليه السلام بعد إكمالهم بناء الكعبة الشريفة وتثبيت قواعدها، قالا:... ربَّنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم* ربَّنا واجعلنا مسلِمَين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك وأرنا مناسكنا وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم* رَبَّنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (1)

.دعا ابراهيم واسماعيل عليهما السلام اللَّه تعالى أن يتقبل منهم عملهم في رفع القواعد وغيره من الأعمال، وأن يجعلهم مسلمين. وكذلك من ذريتهم أمة مسلمة أيضاً، وأن يريهم الأفعال العبادية الصادرة منهما، والأعمال التي يعملانها دون الأفعال، والأعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بإراءة حقيقة الفعل الصادر منهما» (2).

ثم دعوا أن يتوبَ عليهم ويبعث فيهم رسولًا منهم: أي من نسل ابراهيم واسماعيل عليهما السلام، وكانت دعوة مستجابة، فتقبل اللَّه تعالى منهم عملهما وجعلهما مسلِمَين وجعل الأمة المسلمة من نسلهما، وبعث محمد بن عبد اللَّه- صلوات اللَّه تعالى عليه- الذي هو من نسل اسماعيل نبيّاً، في الجزيرة العربية التي أقيمت قواعد الكعبة الشريفة بها، وأنزل عليه الكتاب (القرآن) يتلوه على أُمته ويعلمهم آيات اللَّه المحكمات، ويطهرهم من الأوثان والشرك والأرجاس.


1- 1 البقرة: 127- 129.
2- 2 الميزان في تفسير القرآن 1: 279- 280.

ص: 74

والجدير بالذكر أنّ اللَّه تعالى ذكر استجابته لدعوة ابراهيم عليه السلام في كتبه التي أنزلها على موسى وداود وعيسى عليهم السلام إضافةً إلى القرآن الكريم، فقد جاء في التوراة:

«أما اسماعيل فقد سمعتُ لك فيه (في نسخة الترجوم) سمعت دعاءك له، ها أنا أُباركه وأكثره جدّاً جدّاً اثني عشر رئيساً يلد وأجعله أمةً كبيرةً، ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية» (1).

لقد بارك اللَّه تعالى فعلًا لإسحاق وجعل منه يعقوب، الذي كان من ذريته أنبياء بني اسرائيل... أما اسماعيل فقد اجيبت دعوة ابراهيم عليه السلام له بعد حوالى (4000) سنة، وجعل منه الأمة المسلمة التي هي خير أمةٍ أُخرجت للناس وجعل محمداً صلى الله عليه و آله نبياً فيهم وسيد البشر والرسل وخاتم الأنبياء ومن ذريته جعل اثني عشر إماماً هداة.

قال ابن كثير في هذا الصدد: جاء في سفر التكوين قول (الرب) لإبراهيم عليه السلام ما نصه بالعبرية:

«في لبشماعيل بيَرخْتي أو تواو في هِفْريتي أو تو

في هِرْ بيتي بمئوْد مِئوداو شنيم عَسار نسيئيم يوليد

في نِتتيف لِكَوي كَدول» (2).

وتعني حرفياً: «واسماعيل أباركه، وأُثمره (3)، واكثّره جدّاً جدّاً، اثني عشر إماماً يلد، وأجعله أمةً كبيرة».


1- 1 التوراة، الاصحاح 117، الفقرتان 20- 21.
2- 2 العهد القديم، سفر التكوين، الاصحاح 17: الفقرة 20.
3- 3 أي اثمرهُ ب محمد صلى الله عليه و آله، انظر ميقات الحج، العدد الأول، دعوة ابراهيم عليه السلام في رفع القواعد: 244.

ص: 75

فيتضح من هذه الفقرة أن التكثير والمباركة إنما هما في صلب اسماعيل عليه السلام، مما يجعل القصد واضحاً في الرسول محمد صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام باعتبارهم امتداداً لنسل اسماعيل عليه السلام (1).

أما في الانجيل، فقد ذكر القرآن الكريم أنّ اللَّه تعالى بشّر بنبي يأتي بعد عيسى عليه السلام اسمه أحمد. قال تعالى وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل إني رسولُ اللَّه اليكم مصدقاً لما بين يديَّ من التوراة ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمُهُ أحمد (2) (3)

.وقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول صلى الله عليه و آله أنه قال: «أنا دعوة ابراهيم» (4).

كيفية الحج الإبراهيمي

بنى ابراهيم عليه السلام أول بيت لعبادة اللَّه تعالى والتقرب إليه وحده لا شريك له، في حين كانت الشعوب والقبائل في أنحاء الأرض في عهد إبراهيم وبعده، يبنون بيوتاً لعبادة أصنامهم وتماثيلهم أو لموتاهم العظماء أو الأعزاء.

وبعد إكمال ابراهيم عليه السلام البيت طلب من اللَّه تعالى أن يعلمه المناسك الخاصة بهذا البيت العبادي، وشرع اللَّه تعالى له شعائر الحج والعبادة في هذا البيت المقدّس:


1- 1 معالم المدرستين، العلامة السيد مرتضى العسكري 1: 538- 539.
2- 2 أحمد ومحمد: تعني كثير الحمد والثناء. وجاء في التوراة في النصوص الأصلية باسم ماحمود أو ماحماد وكذلك تعني المعنى نفسه.
3- 3 الصف: 6.
4- 4 الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي 1: 281.

ص: 76

«والشائع في الأخبار والروايات العربية القديمة أنّ الحج، على زمن ابراهيم عليه السلام، كان يعني قصد كعبةمكة والطواف بالبيت والتلبية وقضاء بقية المناسك، ثم جاءت الوثنية بأصنامها وبيوتها وعباداتها فصار الحجُّ يشملها أيضاً» (1).

ومناسك الحج الإبراهيمي... هي المناسك التي فرضها الإسلام على المسلمين، والتي سنأتي عليها لاحقاً في هذا الكتاب إن شاء اللَّه، وأصوله هي تلك التي شرعها دين محمد صلى الله عليه و آله وبالتحديد ما يتعلّق بالإحرام والطواف والهدي و... من الناحية العبادية والتبري والتولي وغير ذلك من الأمور.

«ثم: إن اللَّه سبحانه أمر خليله ابراهيم عليه السلام أن يُشرع للناس أعمال الحج، كما قال: وأذن في الناس بالحج... (2)

وما شرعه عليه السلام لم يكن معلوماً لنا بجميع خصوصياته، لكنه كان شعاراً دينياً عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث اللَّه تعالى النبي محمداً صلى الله عليه و آله وشرع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه ابراهيم إلّابالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى قل إنّي هداني ربّي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة ابراهيم حنيفاً (3)

وقوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى (4)

وكيف كان فما شرعه النبي محمد صلى الله عليه و آله من نسك الحج المشتمل على الإحرام والوقوف بعرفات والمبيت بالمشعر والتضحية ورمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والطواف والصلاة بالمقام، تحكي قصة إبراهيم عليه السلام وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من


1- 1 الوثنية في الأدب الجاهلي، د. عبد الغني زيتوني: 273.
2- 2 الحج: 27.
3- 3 الأنعام: 161.
4- 4 الشورى: 13.

ص: 77

مواقف طاهرة إلهية...» (1).

بعد مضي قرون من هذه المواقف الطاهرة الإلهية الروحانية، حرفها الوثنيون من سكان الجزيرة وتعددت أنواع من الحج، كان أشهرها في الجزيرة العربية:

الحج الجاهلي والحج الحنيفي، والحج الصابئي الذي سنتحدث عنه في الفصل القادم إن شاء اللَّه.

وظهرت في الديانة اليهودية أنواع من الحج وأشكال، كما سيأتي في الفصل الخامس...

وأيضاً في الديانة المسيحية أُبتدعت أماكن وطقوس خاصة لحجهم وسيأتي في الفصل السادس بإذنه تعالى

وبون شاسع بين حج هؤلاء والحج الإبراهيمي، عدا الحج الجاهلي في الجزيرة العربية، قريب بعض الشي ء في بعض مراسمه ومظهره كما مر بنا في قول الكلبي، حيث قال: «ومنهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام يتنسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه ...» (2).

فأدخلوا فيه مثلًا: جواز الطواف بالتجرّد عن الثياب، وجعلوا لكلّ قبيلة صنماً يتنسكون به ويطوفون حوله و... وغيرها، وحرّفوا فيه السعي بين الصفا والمروة إلّاقليل منهم حتى ظنّ بعض المسلمين حين شُرع لهم الحج أنها عادة جاهلية فقال تعالى إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما... (3)

ما جاء في الروايات عن حج ابراهيم عليه السلام


1- 1 الميزان في تفسير القرآن 1: 263، الطبعة البيروتية.
2- 2 كتاب الأصنام، أبو منذر هشام بن محمد الكلبي: 6.
3- 3 البقرة: 158.

ص: 78

هناك حشد كبير من الروايات تحكي لنا مناسك حج ابراهيم عليه السلام وابنه اسماعيل وشعائرهم، فقد جاء عن محمد بن اسحاق أنه قال: «لما فرغ ابراهيم خليل الرحمن من بناء البيت الحرام جاءه جبريل فقال: طف به سبعاً فطاف به سبعاً هو واسماعيل يستلمان الأركان كلّها في كلّ طواف، فلما أكملا سبعاً هو واسماعيل صليا خلف المقام ركعتين، قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلّها: الصفا والمروة ومنى ومزدلفة، وعرفة، قال: فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثّل له ابليس عند جمرة العقبة، فقال له جبريل: ارمه، فرماه إبراهيم بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة الوسطى، فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات فغاب عنه، ثمّ برز له عند الجمرة السفلى فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الحذف فغاب عنه إبليس، ثم مضى ابراهيم في حجه وجبريل يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفة، فلما انتهى إليها قال له جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال إبراهيم: نعم! قال: فسميت عرفات بذلك لقوله أعرفت مناسكك؟ ...» (1).

وعن عبيد بن عمير الليثي قال: «... ثم حجَّ باسماعيل ومن معه من المسلمين، من جرهم وهم سكان الحرم يومئذ مع اسماعيل وهم أصهاره، وصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى ثم بات بهم حتى أصبح وصلى بهم الغداة، ثم غدا بهم إلى نمرة، فقام بهم هنالك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الظهر والعصر بعرفة في مسجد إبراهيم، ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة فوقف بهم، وهو الموقف من


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 66- 67.

ص: 79

عرفة الذي يقف عليه الإمام يريه ويعلمه، فلما غربت الشمس دفع به وبمن معه حتى أتى المزدلفة، فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات حتى إذا طلع الفجر صلى بهم صلاة الغداة، ثم وقف به على قزح من المزدلفة وبمن معه وهو الموقف الذي يقف به الإمام، حتى إذا أسفر غيرمشرق دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف ترمى الجمار حتى فرغ له من الحج كلّه، وأذن به في الناس، ثم انصرف إبراهيم عليه السلام راجعاً إلى الشام، فتوفي بها صلى اللَّه عليه وسلم وعلى جميع أنبياء اللَّه والمرسلين» (1).

يذكر القرآن الكريم أنّ ابراهيم واسماعيل عليهما السلام بعد إكمالهما بناء الكعبة، قالا:

... وأرنا مناسكنا وتُب علينا... (2)

.يقول عطاء: «وأرنا مناسكنا: أبرزها لنا وأعلمناها» (3).

فاستجاب اللَّه تعالى هذا الدعاء أيضاً كاستجابته لبقية أدعيتهما كما ذكرنا سابقاً، وعلمهم مناسك الحج عن طريق الوحي (جبريل عليه السلام).

الخليل عليه السلام يمتثل لذبح ابنه قربانا

وجاء موسم الحج ورأى ابراهيم عليه السلام رؤيا- ورؤيا الأنبياء وحي- رأى أنه يذبح ابنه ليقدمه قرباناً للَّه تعالى في الموسم، وشاء اللَّه تعالى أن يكون امتثال ابراهيم سُنة، ففدى اللَّه تعالى اسماعيل عليه السلام بكبش عظيم لتكون سُنة الذبح في موسم الحج، وليس التضحية بالإنسان التي كانت سائدة في التاريخ الإنساني نتيجة تخوف الناس من غضب الطبيعة والآلهة كما كانت الطقوس السنوية التي كانت تقيمها


1- 1 المصدر السابق 1: 70- 71.
2- 2 البقرة: 128.
3- 3 أخبار مكة 1: 70.

ص: 80

الحضارات القديمة كحضارة «ألازتيك» بتقديمها كلّ عام شاباً جميل الصورة، قوي البنيان، بعد قراءة بعض الأدعية وعبق البخور ونغمات الترانيم ولبس الملابس الزاهية الألوان الفاخرة، يطعن الشاب بخنجر الكهنة لتغتسل الجنبات بالدم الشرياني الأحمر الزاهي في الوقت الذي ترتسم فيه وجوه الكهنة بابتسامات الارتياح بتنفيذ المهمة!! (1)

أو في حضارة وادي النيل حيث تُلقى سنوياً فتاة شابة، تُلقى حيّةً للنيل بدعوى خصوبته وقذفه بالطمي المناسب.

ويقول المؤرخ وِل ديورانت «والظاهر أنّ التضحية بالإنسان قد أخذ بها الإنسان في كلّ الشعوب تقريباً، فقد وجدنا في جزيرة كارولينا في خليج المكسيك تمثالًا كبيراً معدنياً أجوف لإله مكسيكي قديم، فوجدنا فيه رفات كائنات بشرية، لا شك أنها ماتت بالحرق قرباناً للَّه، وكلنا يسمع عن (مُلُخ) الذي كان الفينيقيون والقرطاجنيون وغيرها من الشعوب السامية حيناً بعد حين، يقدمون له القرابين من بني الإنسان» (2).

وجاء الإعلان السماوي على يد ابراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام بإيقاف (القربان البشري وليُضحّى بالحيوان... وها هو القرآن الكريم يقصّ علينا قصة فداء اسماعيل عليه السلام بالذبح العظيم، فلنقرأ الآيات التالية: وقال إني ذاهبٌ إلى ربّي سيهدين* ربّ هَبْ لي من الصالحين* فبشرناه بغلامٍ حليم* فلما بلغ معه السعي قال يا بُنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تُؤمر ستجدني إن شاء اللَّه من الصابرين* فلما أسلما وتلّه للجبين*


1- 1 قصة الحضارة: مج 1، 113- 114.
2- 2 انظر مجلة الفيصل، العدد 258، مقال د. الجلبي تحت عنوان: «يوم الحج الأكبر: يوم ميثاق السلام العالمي».

ص: 81

وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدّقتَ الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين* إنّ هذا لهو البلاءُ المبين* وفديناه بذِبْحٍ عظيم* وتركنا عليه في الآخرين* سلامٌ على ابراهيم* كذلك نجزي المحسنين* إنّه من عبادنا المؤمنين* وبشّرناه بإسحاق نبياً من الصالحين (1)

.وهذا ليس إعلاناً بقدسية الدم البشري فحسب، بل درساً عملياً لبني الإنسان في حال التضحية وتقديم القربان.

والنصّ القرآني أعلاه يبين الذبيح اسماعيل عليه السلام، الغلام الحليم الولد البكر لإبراهيم عليه السلام. بينما محرفو التوراة كتبوا أنّ الذبيح إسحاق ونصّهم التوراتي هكذا:

«قال الرب لإبراهيم، خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحاق واذهب إلى أرض مورية و...» (2).

بينما كان اسماعيل ابنه الوحيد، وبُشّر بإسحاق بعد عدة سنين من ولادة اسماعيل، وعند تحليلنا للنص التوراتي نجده ينطبق على اسماعيل والتحريف في الاسم واسم المكان، ونجد في النص القرآني وضوحاً كاملًا أنّ ابراهيم عليه السلام ابتلي بذبح ابنه اسماعيل وبعدها بُشّر بإسحاق: وبشّرناه بإسحاق نبياً. سُئل الإمام الصادق عليه السلام: أيهما كان أكبر اسماعيل أم اسحاق؟ وأيهما كان الذبيح؟ فقال: كان اسماعيل أكبر من اسحاق بخمس سنين، وكان الذبيح اسماعيل، وكانت مكة منزل اسماعيل، وإنما أراد ابراهيم أن يذبح اسماعيل أيام الموسم بمنى قال: وكان بين بشارة اللَّه لإبراهيم باسماعيل وبين بشارته باسحاق خمس سنين» (3).

وعن الإمام الباقر عليه السلام حين سأله محمد بن مسلم عن المكان الذي كاد


1- 1 الصافات: 99- 112.
2- 2 العهد القديم، التوراة، الاصحاح 22، العدد 2.
3- 3 بحار الأنورا، المجلسي 12: 130.

ص: 82

اسماعيل عليه السلام أن يُذبح فيه، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام أين أرادَ ابراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه؟ قال: على الجمرة الوسطى وسألته عن كبش ابراهيم عليه السلام ما كان لونه؟ قال كذا وكذا... الخ» (1).

حدّث ابراهيم عليه السلام ابنه اسماعيل بأمر الذبح؛ لكي لا يذبحه على حين غفلة وليكون على بينةٍ من أمره، ثم قال له فانظر ماذا ترى بعد هذه الاستشارة جاء الجواب من اسماعيل عليه السلام الولد الحليم؛ ليبين أرفع صور الإيمان وأجلّها في تاريخ الإنسانية بقوله: يا أبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللَّه من الصابرين (2)

.وهذا هو الإيمان، بل هو الاندماج الكلي في إرادة اللَّه تعالى التي تتركز في العمل بوصاياه وأوامره والتضحية بكلّ غال ونفيس في سبيله.

قال محمد بن كعب القرظي: فذكرت ذلك (3) لعمر بن عبدالعزيز وهو خليفة، إذ كنتُ معه بالشام. فقال لي عمر: إنّ هذا الشي ء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده من الشام وكان يهودياً فأسلم وأحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء يهود، فسأله عمر بن عبدالعزيز عن ذلك وأنا عنده، فقال له: أي ابني إبراهيم الذي كان أمر بذبحه؟ فقال: اسماعيل، ثم قال:

واللَّه يا أمير المؤمنين إنّ اليهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أبوكم الذي أمر اللَّه بذبحه لما فيه من الفضل الذي ذكر أنه كان منه بصبره على ما أمر به، فهم يزعمون أنه إسحاق لأنّ إسحاق أبوهم (4).


1- 1 الكافي، الكليني 4: 2209، والوسائل 14: 110، والفقيه 1: 149.
2- 2 الصافات: 110.
3- 3 ذكر له الاختلاف في أيهما الذبيح من ولدي ابراهيم.
4- 4 ابراهيم أبو الأنبياء، عباس محمود العقاد، منشورات المكتبة العصرية، بيروت- صيدا: 86.

ص: 83

ابراهيم يذبح ابنه قرباناً للَّه «وفديناه بذبحٍ عظيم»

الانحراف عن ملة ابراهيم عليه السلام

ص: 84

ومَن يرغب عن ملة إبراهيم إلّامن سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين* إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمتُ لربّ العالمين* ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ إنّ اللَّه اصطفى لكم الدينَ فلا تموتنَّ إلّا وأنتم مسلمون(1)

.إنّ ملة ابراهيم عليه السلام، بإجماع العلماء والفقهاء والمفسّرين هي الإسلام الخالص الصريح، إن كان بمعناها اللغوي أو بمعناها الاصطلاحي، ومن انحرف أو ينحرف عنها فهو ظالم لنفسه، سفيه، غافل جاهل، ومن سار عليها فهو مسلم طاهر مهتد من تبعة ابراهيم عليه السلام فمن تبعني فإنه منّي (2)

.والدين عند اللَّه الإسلام، واليهودية والنصرانية وغيرهما أسماء أطلقها أصحابها على أنفسهم، ولو رجعنا إلى تاريخ هذه الملل نجد أن اليهود قبائل يرجع تاريخها إلى يهوذا (3)، والنصارى قبائل يرجع تاريخها إلى مدينة الناصرة (4).

لكن هؤلاء صورت لهم عنصرياتهم وأهواؤهم أنّ ابراهيم يهوديٌ، والنصارى أنه نصرانيٌ، لكن القرآن الكريم يبطل تصوراتهم الجريئة على خليله عليه السلام في سورة آل عمران بقوله تعالى ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً


1- 1 البقرة: 130- 132.
2- 2 ابراهيم: 36.
3- 3 يهوذا: أحد أولاد يعقوب عليه السلام أخ ليوسف عليه السلام من أبيه.
4- 4 الناصرة: مدينة في بلاد الشام نزلتها مريم وابنها عيسى عليهما السلام.

ص: 85

ولكن كان حنيفاً مسلماً (1)

.وفي سورة البقرة قال تعالى وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين* قالوا آمنا باللَّه وما أُنزل الينا وما أنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربّهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (2)

.هذا ما يؤكده القرآن الكريم دائماً، أنّ ابراهيم أبو الأنبياء عليهم السلام جميعاً، أنه الإمام والأسوة الحسنة للجميع، والأسوة: القدوة وهي: الحالة التي يكون عليها الإنسان في اتباع غيره، إن حسناً وإن قبيحاً وإن ساراً وإن ضاراً، ولهذا قال تعالى لقد كان لكم في رسول اللَّه أُسوة حسنة فوصفها بالحسنة (3). فهو- ابراهيم عليه السلام- أسوة حسنة وإمام في الشريعة الإلهية التوحيدية.

ولكن- مع الأسف الشديد- أنّ هذه الأسوة تُركت، وحرّف ما جاء به ابراهيم عليه السلام وأبناؤه من الأنبياء عليهم السلام، وصارت العادات والسلوكيات بعيدة عن ذلك الدين، رغم إرسال السماء العدد الغفير من الأنبياء والرسل، ولم يأخذ بهذا الدين إلّا من هدى اللَّه قلبه وأسلم للَّه وحده. قال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (4)

.واليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الهوى والمصالح والشيطان ابتعدوا كثيراً


1- 1 آل عمران: 67.
2- 2 البقرة: 135- 136.
3- 3 المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني: 18.
4- 4 آل عمران: 85.

ص: 86

عن ملة ابراهيم عليه السلام وحرّفوا دين اللَّه تعالى

تقول الكاتبة بربارة براون: «إن مسألة تحريف الإنسان لوحي اللَّه هي السبب في نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه و آله. الوحي النهائي لخاتم رسل اللَّه... إنّ القرآن الكريم يتكلّم حول هذا التحريف الذي أصاب كتب الوحي السابقة في عدد من الآيات» (1).

وهذه بعض آيات كتاب اللَّه العزيز تبيّن تحريف أصحاب الكتب السماوية السابقة:

فبدّل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم (2)

.... وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام اللَّه ثم يُحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (3)

.وإنّ منهم لفريقاً يلووُن ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند اللَّه (4)

.وتضيف بربارة براون قائلة: «إنّ القرآن قد جاء من اللَّه لتصحيح كلّ هذه التحويرات المتعمدة أو غير المقصودة لوحيه السابق. إنّ اللَّه قد بيّن تماماً أنّ هذا، وهو وحيه الختامي، لن يعتريه ما أصاب الكتب السابقة قائلًا: إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون (5)

...» (6).

لقد حفظ اللَّه تعالى القرآن الكريم من كلّ سوء، وجعله وتعاليمه خالدة إلى يوم


1- 1 نظرة عن قرب في المسيحية، بربارة براون: 78، نشر توحيد، ترجمة المهندس مناف حسين الياسري، كندا.
2- 2 البقرة: 59.
3- 3 البقرة: 75.
4- 4 آل عمران: 78.
5- 5 الحجر: 9.
6- 6 نظرة عن قرب في المسيحية: 79.

ص: 87

الحساب؛ لأنه البلاغ الأخير والبيان الختامي والإنذار النهائي لبني آدم عليه السلام. وإذا قورنت نصوص القرآن في وقتنا الحاضر مع النصوص التي نزلت على محمد صلى الله عليه و آله لا نجد فيها أي نقص أو تبديل أو تغير أو زيادة، رغم مرور أكثر من (1400) عام على نزولها. بينما نجد اليهودية والمسيحية والديانات الوضعية مستمرة في الانحراف يوماً بعد آخر، وكلّ يوم يأتون بجديد، كتعاليم الحج وأماكن الحج ومناسك الحج مثلًا كما سنرى ذلك في الفصول القادمة إن شاء اللَّه...

وللقرآن الكريم مخطوطات أصلية لا تزال في الوجود لتثبيت ذلك. ففي مكتبة الشيخ حمود في المدينة المنورة في العربية السعودية توجد نسخة من القرآن يرجع تاريخها إلى القرن السابع الميلادي أي القرن الأول الهجري وهي أقدم نسخة معروفة في الوجود، وقد كتبت باليد على جلد غزال بعد سنين قليلة فقط من رحيل النبي محمد صلى الله عليه و آله. ونسخة أخرى تعود إلى القرن السابع الميلادي أيضاً وهي من زمن الخليفة عثمان وتوجد في متحف توبكابي في استانبول في تركيا (1)...

قال تعالى في القرآن الكريم نفسه أنه لا يمكن أن يناله التحريف: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (2)


1- 1 المصدر السابق: 79.
2- 2 فُصلت: 42.

ص: 88

ص: 89

ص: 90

ص: 91

الفصل الرابع: الحج في الديانة اليهودية

الحج في الديانة اليهودية

اشارة

مارس اليهود الحج بأشكال مختلفة، واتجهوا إلى أماكن متعددة، واتخذت كل فرقة من فرقهم وجهة معينة، تحجُّ اليها في أعيادها الخاصة، وعلى وفق مذهبها وتعاليمه وعقيدتها، وما تفرض عليها من الأوامر والنواهي...

وفكرة الحج، ليست طارئة على اليهود، فقد كانت منتشرة آنذاك، فمن كان على دين ابراهيم عليه السلام، كان يعرف الحج ويمارسه في بيت اللَّه الحرام، ومن كان من الأقوام السامية، فانه يحج إلى المعابد والهياكل وقبور الموتى وغير ذلك مما وجدناه في الحضارات والأمم.

فاليهود كغيرهم، حجوا ومارسوا طقوساً خاصة بالحج، وسفر الخروج في التوراة حدّد لهم أعياداً دينية سنوية يزورون فيها مقدساتهم بملابس خاصة أو جديدة، وينحرون ويطوفون ويقرأون الأدعية والتعويذات الخاصة وغير ذلك، وحجهم خليط من حج وضعي وحج سماوي، فهو صورة جديدة بين حج وثني باطار توحيدي.

والظاهر أن حج اليهود كان فرضاً واجباً أوجبته التوراة عليهم، هذاما يؤكده

ص: 92

النص التالي:

«والحج إلى معبد من المعابد عادة سامية قديمة جعلت حتى في الأجزاء القديمة من أسفار موسى الخمسة فرضاً يجب أداؤه، فقد ورد في سفر الخروج، في الاصحاح الثالث والعشرين، الآية الرابعة عشرة: «ثلاث مرات يعيّد لي في السنة» وفي الآية الثالثة والثلاثين من الاصحاح الرابع والثلاثين «ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله إسرائيل» وربما كان في بلاد العرب أيضاً أماكن كثيرة للحج حيث كانت تقام شعائر شبيهة بالحج إلى عرفات» (1).

وفي كل عيد من هذه الأعياد الثلاثة اتخذت الفرق اليهودية حجاً إلى أماكن معينة، ففي يوم الاستغفار (عيد المظال) كانوا يحجون إلى جبل سيناء، وفي عيد الفصح إلى بيت المقدس، وفي عيد استير وعيد المطر و... و... الخ يتجهون إلى أماكن أخرى كما سنرى من خلال البحث ان شاء اللَّه...

مع هذا، وعند استقرائنا للتوراة، لم نجد ذكر مكان معينٍ خاصٍ للحج على لسان نبيهم موسى عليه السلام كوعدٍ الهي لهم، ونتساءل هنا: هل اللَّه تعالى لم يشرع لهم فريضة الحج إلى مكان معين، أم رواة وكتبة النصوص الدينية التوراتية تجاوزوا ذكرها، أم تعمدوا تحريفها لعنصريتهم المعروفة؟

ولهذا تعددت اماكن الحج، وكثرت اليها الرحلات اليهودية في الأعياد السنوية، ويكاد كل موضع يبدأ اسمه بكلمة «بيت» يكون مكان حج وزيارة سابقاً أو لاحقاً، فمثلًا «بيت المقدس» و «بيت إيل» و «بيت آوِن» كان بالقرب من بيت إيل و «بيت إصِلْ» في يهوذا و «بيت حور» بالقرب من القدس و «بيت هاجَنَّ» في المكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام في بيت لحم و «بيت هاشطة» وبيوت أخرى


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية 7: 305.

ص: 93

وأخرى كثيرة يطول الكلام في عدّها وذكرها، يمكن الرجوع إلى الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) حيث أحصاها وعدّها عدّاً... وفي تحديد أوقات الحج، يقول د. حسن ظاظا: أما الأوقات التي يحجون فيها فهي موازية لأعيادهم وهي ثلاثة أوقات:

1- عيد الفصح: ويقع في فصل الربيع، ومدته 7 أيام تبدأ يوم 15 نيسان في التقويم اليهودي.

2- عيد الحصاد أو الأسابيع (شبو عوت)، ومدته يوم واحد، 6 من شهر سيوان اليهودي، ويقع في أوائل الصيف (يونية).

3- عيد الظُلل: (سوكوت) ومدته ثمانية أيام، ويأتي في الخريف، ويبدأ يوم 15 تشري اليهودي، ويسمون هذه المواسم «الثلاثة الاعتيادية» يستحب فيها الحج؛ لاقترانها بالكثير من الصدقات (1).

وجهة النبيّ موسى عليه السلام في الحج

ومن الضروري والمناسب أن نعرف وجهة كليم اللَّه النبي موسى عليه السلام في الحج، قبل أن نقف على ما حرّف اليهود من شريعة موسى عليه السلام نبيهم الذي ينسبون أنفسهم إليه، ويدّعون أنهم من أتباعه ومحبيه والسائرين على خطه وتعاليمه...

عند تتبعنا للأخبار والروايات والأحاديث الواردة من السُنة الشريفة لا نجد الكليم موسى عليه السلام توجه بوجهة معاكسة أو مخالفة لما توجه إليها أنبياء اللَّه والمرسلون فهو عليه السلام حج وطاف ولبى في بيت اللَّه العتيق مقتدياً بسنة آبائه وأجداده من الأنبياء، ومجيباً لأوامر السماء، هذا ما تؤكده الروايات في حجه عليه السلام، نختار منها:


1- 1 طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 10.

ص: 94

روي عن ابن عباس أنه قال: «كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين مكة والمدينة، فمررنا بوادٍ، فقال: أي واد هذا؟ قالوا: وادي الأزرق، قال: كأني أنظر موسى صلى اللَّه عليه وسلم (فذكر من طول شعره شيئاً لا يحفظه داود- أحد رواة الحديث-) واضعاً أصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى اللَّه بالتلبية ماراً بهذا الوادي، قال: ثم سرنا حتى كذا وكذا... الخ» (1) أي ذكر حجه إلى مكة المكرمة والكعبة الشريفة.

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: مرّ موسى بن عمران عليه السلام في سبعين نبياً على فجاج الروحاء... يقول: لبيك عبدك ابن عبديك» (2).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أيضاً أنّه قال: «أحرم موسى من رملة مصر، قال:

ومرّ بصفائح الروحاء محرماً، يقود ناقة بخطام من ليف، عليه عباءتان قطونيتان، يُلبي وتجيبهُ الجبال» (3).

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مرّ موسى النبي (صلوات اللَّه عليه) بصفائح الروحاء على جمل أحمر، خطامه من ليف عليه عباءتان قطونيتان وهو يقول: لبّيك يا كريم لبيك» (4)

.وجاء في أخبار مكة: «حج موسى النبي على جبل أحمر فمرَّ بالروحاء عليه عباءتان قطونيتان متزر بأحدهما مرتدي بالأخرى فطاف بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة فبينا هو بين الصفا والمروة إذ سمع صوتاً من السماء وهو يقول: لبيك عبدي أنا معك، فخر موسى ساجداً» (5)


1- 1 سنن ابن ماجة 2: 965، محمد بن يزيد القزويني، الحلبي وشركاه.
2- 2 وسائل الشيعة 12: 385 ح 16574.
3- 3 وسائل الشيعة 9: 54.
4- 4 بحار الأنوار 99: 185، الطبعة البيروتية.
5- 5 أخبار مكة، الأزرقي: 68- 69.

ص: 95

والنبي موسى عليه السلام من كبار الأنبياء والرسل، وفي مصطلحاتنا الإسلامية يُعدُّ من أُولي العزم، وعليه فلا يمكن أن ينحرف في حجه إلى الوجهة غير الصحيحة وغير المرضية عند اللَّه تعالى وإذا وجدنا هناك انحرافاً في اليهودية فهو في قومه الذين خالفوه، ولم يلتزموا بتعاليمه وأوامره مما أخذهم اللَّه تعالى بانحرافهم وذنوبهم، فكانوا قوماً مهانين ومغضوباً عليهم إلى يوم يبعثون، قال تعالى فيهم:

وضُربت عليهم الذلةُ والمسكنة وباءوا بغضبٍ من اللَّه ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللَّه ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عَصَوا وكانوا يعتدون (1)

انحراف اليهود في حجهم

لم يتبع اليهود سُنة كليم اللَّه موسى عليه السلام، نبيهم الذي توجه في حجه إلى بيت اللَّه العتيق كما مرّ علينا سابقاً، بل حرّفوا أغلب تعاليم دينه ومن ضمنها الحج، ومن الملاحظ أن: «الحج عند اليهود في الوقت الحاضر ليس بفريضة عندهم ولا بركن من أركان العبادة كما هو في الإسلام، فهو على أكثر تقدير يشبه (العُمرة) عند المسلمين» (2)

.وانقسم (3)

اليهود بعد الكليم عليه السلام إلى عدة فرق، وكلُّ فرقة اتخذت لها وجهة


1- 1 البقرة: 61.
2- 2 طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 10.
3- 3 انقسم اليهود بعد موسى عليه السلام إلى عدة فرق ودويلات من الناحية السياسية ومن الناحية القبليةومن الناحية الدينية، والذي يهمنا هنا انقسامهم من الناحية الدينية، فقد انقسموا إلى خمس فرق دينية، وهي: فرقة الفريسيين وفرقة الصدوقيين، وفرقة السامريين، وفرقة الحدسيين، وفرقة القرائين.

ص: 96

ومكاناً تحج إليه بوضع تعاليم وطقوس وشعائر خاصة بها.

ولنعرض قسماً منها على سبيل المثال لا الحصر:

1- توجه قسم منهم إلى بيت المقدس وهيكل سليمان عليه السلام.

2- والقسم الآخر إلى جبل النبي موسى عليه السلام في طور سيناء.

3- وآخرون إلى بئر الحي الرائي بالقرب من مدينة الخليل.

4- ومنهم من توجه إلى (بقاع مباركة)- حسب تعبيرهم- أهمها الجبال الشامخة والتلال والآبار وعيون الماء وأماكن طبيعية أخرى

وسنحاول ان شاء اللَّه تعالى تفصيل هذه النقاط قدر استطاعتنا، وبيان الأساليب المتبعة في حجهم وتاريخه والمواقع الجغرافية لكلّ منها.

الحج إلى بيت المقدس

يُعدُّ بيت المقدس أو القدس من أهم الأماكن المقدّسة لدى اليهود- إضافة إلى أهميته عند المسيحيين والمسلمين- لذلك تميّز حجهم لهذا البيت بقدسية ومعنى خاصين.

عظّم اليهود بيت المقدس وخاصة فرقة (يهوذا) المنحدرة من داود وسليمان عليهما السلام، خصوصاً بعد بناء النبي سليمان عليه السلام للهيكل المعروف في القدس الشريفة ب (هيكل سليمان).

«وقدسية بيت المقدس عند اليهود تاريخها مقارناً لبناء سليمان الهيكل، والهيكل المعبد المركزي لليهود الذي صار حرماً للحج وقبلة للصلاة منذ عهد داود وسليمان عليهما السلام، وهذا المعبد الضخم تعرض عبر تاريخه ولحد الآن إلى أحداث جِسام لم يبق منه إلّاجزء من جدار، يعرف عند اليهود باسم (الجدار الغربي) وعند سائر الأُمم باسم «حائط المبكى وهو جدار من سور يرجع إلى عهد هيرودس المعاصر

ص: 97

لمولد المسيح عليه السلام» (1)

.والقدس: مدينة تقع وسط فلسطين فوق تل صخري من تلال اليهودية على ارتفاع (762 م) على بُعد حوالى 5 كم من يافا، وهي المدينة الجديدة... أما المدينة القديمة فتقع بآثارها الدينية بالمملكة الأردنية الهاشمية.

قراءة تلمودية عند حائط المبكى

وبيت المقدس: هو البيت الذي فيه مقدسات الأديان الثلاثة (اليهودية- والمسيحية- والإسلام) وتضم المدينة القديمة معظم الأماكن المقدسة. كان اليهود يعتقدون أن جانباً من أحد جدران المسجد الأقصى بني بأحجار أخذت من هيكل سليمان، وهو الجدار المعروف بحائط المبكى .. وقد تكون هي شليم، المذكورة في سفر التكوين، وجعلها داود عاصمته بعد انتزاعها من اليبوسيين، وأقام سليمان هيكله العظيم بها، فزاد من بهائها وعظمتها، واتخذها ملوك يهوذا عاصمة


1- 1 طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 9.

ص: 98

مملكتهم. التي ظهر فيها كثير من عظماء الأنبياء من بني اسرائيل الذين نادوا برسالتهم في شوارعها.

ويُقال: «ما فيها موضع شبر إلّاوقد صلّى فيه نبي» (1)

.«حارب اليهود العرب لانتزاعها من ايديهم، واضطر اليهود إلى أن ينزلوا للعرب عن المدينة القديمة، ولكن المدينة الجديدة لا تزال في قبضتهم» (2)

.القدس الحالية

المهم، أنّهم- فرقة يهوذا- اتخذت من بيت المقدس وهيكل سليمان محجةً سنويةً لها في العيد السنوي الديني المسمى ب (عيد الفصح) (3)

.وأهم المراسم المتبعة فيه هي «الضحية» أي القربان أو «الهدي» في المصطلح الإسلامي، يقدم إلى الرب أو الإله، وهذا القربان تؤكده وصايا تلمودهم (4)

، التي تختلف اختلافاً كبيراً مع الوصايا المنصوص عليها في التوراة في مسألة


1- 1 معجم البلدان 1: 112.
2- 2 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 454.
3- 3 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 454.
4- 4 التلمود: تعاليم دينية وضعها علماء اليهود، وهي كالرسائل العملية عندنا، مع فارق لا قياس فيه.

ص: 99

«الضحية»، فالتوراة أوصاهم بتقديم «ثور» (1)

قرباناً للرب في عيد الفصح. أما تعاليم التلمود فكانت توصيهم أن تكون الضحية من البشر:

و «تختار الضحايا أو الذبائح في عيد الفصح من الأطفال، الذين لا تتجاوز سنهم العاشرة أو تزيد عنها قليلًا. ويمزج دم الضحية بعجين الفطائر قبل تجفيفه أو بعده... ويستنز اليهود دم الضحية بطرائق كثيرة: فأحياناً يتم ذلك عن طريق «البرميل الابري» وهو برميل مثبت على جوانبه من الداخل إبر حادة توضع فيه الضحية حيّة فتنغرز هذه الإبر في جسمها، وتسيل الدماء ببطء من مختلف الأعضاء، وتظل كذلك في عذابٍ أليم حتى تفيض روحها، بينما يكون اليهود الملتفون حول هذا البرميل في أكبر نشوة بما يبعثه هذا المنظر في نفوسهم من لذة وسرور. وينحدر الدم إلى قاع البرميل ثم يصب في إناء مُعد لجمعه»(2)

.و «أحياناً تقطع شرايين الضحية في عدة مواضع ليتدفق الدم من جروحها.

وأحياناً تذبح الضحية كما تذبح الشاة ويؤخذ دمها، وبعد أن يتجمع الدم بطريقة من الطرق السابقة أو غيرها تسلم إلى الحاخام أو الكاهن أو الساحر، الذي يقوم باستخدامها في إعداد الفطائر المقدسة أو في عمليات السحر» (3)

.أما الزمان أو الوقت الذي يحجون فيه إلى بيت المقدس، ليقيموا شعائرهم في عيدهم الديني هذا، فهو اليوم الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم الدينية وهو شهر نيسان، ويحتفلون فيه بنجاة موسى عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون وقومه


1- 1 العهد القديم، سفر الخروج، الاصحاح 29: «خذ ثوراً واحداً ابن البقر وكبشين صحيحين و... الخ» راجع.
2- 2 اليهود واليهودية، د. علي عبدالواحد وافي: 44- 45، وكتاب حقائق وأباطيل، فوزي محمد حميد: 141- 200.
3- 3 المصدر نفسه، ومن المعلوم عندهم أن يكون دم الضحية من غير اليهود، وإذا كان دم مسيحي فيكون أفضل عندهم.

ص: 100

وخروجهم من مصر (1)

.والفصح في اللغة (فصح أي الفسح أو الخروج أو المرور).

وقد ورد أن هذا العيد «عيد اليهود، 15 نيسان (الشهر السابع في التقويم العبري) ويسمى أيضاً عيد الفطير، وفيه خروج بني إسرائيل من مصر هرباً من فرعون» (2)

.وعن قضية التضحية بالأطفال يقول وِل ديوارنت:

«لقد كان اليهود الأقدمون يشتركون معَ الكنعانيين والمؤابيين والفينيقين والقرطاجنين وغيرهم من الشعوب في عادة التضحية بطفل، بل بطفل محبوب، لاسترضاء السماء الغضبى، ثم أصبح في الإمكان على توالي الأيام أن يستبدل بالطفل المجرم المحكوم عليه بالإعدام، وكان البابليون يلبسون هذا الضحية أثواباً ملكية، لكي يمثل بها ابن الملك، ثم تجلد وتشنق، وكان هذا نفسه يحدث في رودس في عيد كرونس. وأكبر الظن أن التضحية بحمل أو جدي في عيد الفصح ليست إلّا تخفيفاً لهذه التضحية البشرية اقتضاه تقدم المدنيّة» (3)

.والظاهر أن اليهود في الحال الحاضر يضحون بحمل أو جدي في حجهم إلى بيت المقدس، وقتلهم للبشر اتخذَ صوراً أخرى ..

جبل موسى عليه السلام في صحراء سيناء

اعتقد اليهود أن الجبل الواقع في طور سيناء، الذي يبعد (320) كيلومتراً عن منطقة عيون موسى والذي يبلغ ارتفاعه (7600) قدم، هو الجبل الذي كلّم اللَّه


1- 1 انظر العهد القديم، سفر اللاوبين، الاصحاح 23، الفقرات 5- 9.
2- 2 الموسوعة العربية الميسرة: 1247.
3- 3 قصة الحضارة، مج 6، 1: 264.

ص: 101

تعالى موسى عليه السلام فيه، وأنزل عليه الألواح المقدسة... فقدسوا هذا الجبل جيلًا بعد جيل وحجّوا إليه، وعدّوه من المقدسات اليهودية المهمة.

وقد صرّح الاستاذ (منشه حاريل) استاذ الجغرافيا الدينية وتاريخ الأديان بالجامعات العبرية قائلًا: «إن اليهود يحجون كلّ عام... ومن القرن السابع الميلادي حتى اليوم إلى جبل موسى ويتحملون مشقة الوصول إليه، وتسلق (3800) درجة للوصول إلى قمته، التي يعتقدون أن موسى كلّم ربّه فوقها، وتلقى منه الرسالة والوصايا، حتى أصبح ذلك الجبل بالنسبة لهم كالكعبة بالنسبة للمسلمين. ولا يقل عدد من تحملوا مشقة ذلك الحج عن العشرين مليون يهودي، حتى أصبح ذلك الجبل من المقدسات الدينية» (1)

.ثم بيّن خطأ اعتقادهم وصرّح في حديث له نُشر في مجلة المختار الألمانية عام (1974 م) بأنّ كلّ ما ورد ببحوث البعثة الأمريكية صحيح، وأنّه يتفق مع النتائج، التي توصلت إليها بحوث معهده، وتمَّ تسجيلها وإعداد مخططاتها من بضع سنوات، فالجبل الذي يحجون اليه ليس هو نفسه الجبل الذي كلّم اللَّه تعالى موسى عليه السلام فيه.

ولما سئل عن سبب عدم موافقته على نشرها واعلانها رسمياً قال: «فإعلان تلك البحوث أو الحقائق التاريخية ستخيب آمالهم وتفقدهم ثقتهم في اسطورة تحولت إلى عقيدة» (2)

.والحقيقة، أنّ التوراة تذكر مشخصات وعلامات لجبل موسى عليه السلام تختلف عما موجود في الجبل الذي يحجون إليه سنوياً كبُعده من عيون موسى وارتفاعه وغيرها من العلامات... ووصف الأرض أنّها أرض مناجم الفيروز والنحاس،


1- 1 فرعون موسى، د. سيد كريم، مجلة الهلال، العدد 5: 73، عام 1975 م.
2- 2 المصدر السابق.

ص: 102

الذي اشتهر اليهود بصناعتها والتجارة فيها في ذلك الوقت (1)

.فالجبل الذي يحجون إليه سنوياً بعيد عن عيون موسى وأكثر ارتفاعاً من الجبل المذكور في التوراة، والذي كشفته البعثة الأمريكية للآثار، وليس لمناجم الفيروز والنحاس وجود فيه...

إذن هذه العقيدة الإسطورية لليهود، أصبحت واضحة للعيان كوضوح الشمس في ظهر النهار أنّها بِدعة ابتدعتها أنفسهم بعد ميلاد عيسى المسيح عليه السلام بسبعة قرون، ومثلها تعاليم التلمود، ومثلها من تدوين التوراة من قبل، وهكذا.

أما مناسك حجهم إلى هذا الجبل، يمكن بيانها من خلال الموازنة التي أجراها (هوتسما) (Houtsma) بين الوقوف- وقوف المسلمين في عرفات- وبين إقامة بني إسرائيل على جبل سيناء، فهؤلاء يعدون أنفسهم لهذه الإقامة بالامتناع عن النساء (سفر الخروج، الاصحاح 19، آيه 15)، وبغسل ثيابهم (الخروج، 19/ 10 و 14) وبذلك يقفون أمام الرب، وعلى هذا النحو لا يقرب المسلمون النساء ويرتدون ثياب الإحرام ويقفون أمام الخالق في سفح جبل سيناء» (2)

.ومن مناسك هذا الجبل أيضاً، الاستسقاء من ماء عين (شيلوه المقدسة) ولهذا الاستسقاء تعويذة خاصة، وإنارة المعبد، وكذلك الضحية (الهدي) وأمور أخرى إضافة إلى ذلك فإن وقت هذا الحج لهذا الجبل، يكون عادةً في عيد المظال أو (يوم الاستغفار) (3)

، «فمن الطبيعي عند البحث في معناه الأصيل أن نوازن بينه وبين عيد الخريف عند سامي الشمال، وهو عيد المظال (أو يوم الاستغفار) وهو أمر نجد له ما يؤيده أيضاً من أن عيد المظال في التوراة غالباً ما يطلق عليه للايجاز اسم «حج»


1- 1 راجع سفر الخروج العهد القديم يبين ويوضح جغرافية ذلك المكان.
2- 2 دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة من المستشرقين 7: 306.
3- 3 راجع المصدر نفسه: 310.

ص: 103

(سفر القضاة، الاصحاح 21، الفقرة 19، وسفر الملوك الأولى الاصحاح الثامن، الفقرات 2 و 65)...» (1)

بئر الحي الرائي بالقرب من الخليل

وهناك فرقة أخرى من اليهود قدست هذه المنطقة التي فيها (البئر المقدس) وحجت إليها، وما زالت هذه الفرقة تعتقد أنّها بلد جدّهم الأعلى إسحاق بن الخليل ابراهيم عليهم السلام، ومدينة إقامته ووفاته.

جاء في التوراة: «وكان بعد موت إبراهيم أن اللَّه بارك إسحاق ابنه، وأقام إسحاق عند بئر الحي الرائي و... الخ» (2)

.وذكرت التوراة أيضاً أنّ إسحاق تزوج من (رفقة) في ذلك المكان في حياة أبيه إبراهيم عليه السلام وامّه سارة:

«وكان إسحاق قد أتى من وُروُد بئر لحي رُئي. إذ كان ساكناً في أرض الجنوب، وخرج إسحاق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء، فرفع عينيه ونظر وإذا جِمالٌ مقبلة، ورفعت رفقةُ عينيها فرأت اسحاق فنزلت عن الجمل، وقالت للعبد:

مَن هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو سيدي. فأخذت البرقُعَ وتغطّت، ثم حدَّث العبدُ إسحاق بكلّ الأمور التي صنع، فأدخلها إسحاق إلى خِباء سارة أُمّه، وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبها» (3)

.ولهذه القصة في هذا المكان المقدس، لها وقع خاص في قلوب اليهود؛ لذلك قُدست المنطقة وقُدس ماءُ بئرها.


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة من المستشرقين 7: 306.
2- 2 العهد القديم، سفر التكوين، الاصحاح 25، الفقرة 11.
3- 3 المصدر السابق، الاصحاح 24، الفقرات 62- 67.

ص: 104

ومنطقة (بئرالحي الرائي) تقع بالقرب من مدينة الخليل، والخليل على بُعد (44) كم جنوب بيت المقدس، وهي مدينة حبرون القديمة، وفيها قبر الخليل إبراهيم وزوجه سارة وإسحاق ويعقوب وقبر رفقة، ويضمّ هذه القبور مسجدٌ كبير (1)

.ولهؤلاء الخمسة مكانة خاصة عند بعض اليهود؛ لذلك قُدست قبورهم وأماكن ذكرياتهم، واعتبرت مكاناً يُحج اليه، ويتقرب بهم إلى اللَّه في تقديم الأضاحي والنذورات والهدايا، وقراءة الأدعية والتضرع والتخشع والبكاء؛ للحصول على النعيم الاخروي من خلالهم ولرضا الربّ الاله.

ويقول د. حسن ظاظا في الحج إلى هذه المنطقة:

«وبئر الحي الرائي، بالقرب من الخليل، وقباله سنديانة قمْرا، كثير من أتقياء اليهود يحجون اليها حتى اليوم، لِما جاء في التوراة: وكان بعد موت إبراهيم أنّ اللَّه بارك إسحاق ابنه، وأقام إسحاق عند بئر الحي الرائي، وتزوج عندها في رفقة قبل موت ابويه سارة وإبراهيم» (2)

معبد (بيت إيل) بالقرب من نابلس

معبد (بيت إيل) بالقرب من نابلس (3)

عظمت هذا المعبد فرقة أخرى من اليهود وهي فرقة (السامرية) وهي الفرقة اليهودية التي لا تؤمن إلّابالأسفار الخمسة، التي تمثل القسم الأول من (العهد القديم)، وكذلك لا تؤمن بالبعث واليوم الآخر... وقد ذكرها ابن حزم في كتابه


1- 1 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 764.
2- 2 طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 7.
3- 3 نابلس: مدينة بالمملكة الأردنية الهاشمية، على الضفة الغربية لنهر الأردن، وعلى بُعد 6 كم شمال بيت المقدس، يعيش بها عدد قليل من السامريين القدامى، الذين مازالوا يحافظون على طقوس عبادتهم وعلى تقاليدهم القديمة. ذكرتها التوراة باسم شكيم بمعنى منكب، انظر الموسوعة العربية الميسرة: 1811.

ص: 105

(الفصل في الملل والأهواء والنحل) قائلًا:

«إنّهم يبطلون كلّ نبوة كانت في بني إسرائيل بعد موسى ويوسع عليهما السلام، فيكذبون شمعون وداود وسليمان وأشعيا واليسع وإلياس وعاموص وحبقوق وزكريا وأرميا وغيرهم، وأنّهم يقولون: إنّ مدينة القدس هي نابلس، وهي من بيت المقدس على ثمانية عشر ميلًا، ولا يعرفون حرمة بيت المقدس ولا يعظمونه.

وهم بالشام لا يستحلون الخروج عنها» (1)

.وكان معبد «بيت إيل» الذي أقامه يعقوب في أرض كنعان بالقرب من نابلس، المكان الأول الذي يحج اليه بنو اسرائيل حتى أن شيّد سليمان الهيكل في القدس، ولم يفقد منزلته هذه إلّابعد انشطار مملكة سليمان نصفين بعد وفاته:

1- السامرة شمالًا وكانت مملكة معادية لأسرة داود وسليمان في الجنوب، وتسمي نفسها إسرائيل! واستمرت في الحج إلى بيت إيل.

2- يهوذا المنحدرة من داود وسليمان، فكانت تحج إلى «الهيكل» في أورشليم، وهو الاسم الذي اشتهرت به منذ سليمان (2)

.وفي هذا المعبر قبر يوسف عليه السلام، وعين يعقوب عليه السلام بالقرب منها (3)

.أما القبلة التي تتوجه إليها فرقة السامرة فهي نحو جبل يقال له «غريز يم» بين بيت المقدس ونابلس. قالوا: إنّ اللَّه تعالى أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلس، وهو الطور الذي كلّم عليه موسى عليه السلام، فتحول داود إلى (إيلياء) وبنى البيت ثمة، وخالف الأمر، فظلم، والسامرة توجهوا إلى تلك القبلة دون سائر


1- 1 الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم 1: 82.
2- 2 انظر طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 7.
3- 3 الموسوعة العربية الميسرة: 1811.

ص: 106

اليهود (1). الذين قبلتهم بيت المقدس.

وكلمة «إيل» تعني «اللَّه» فيكون معنى المعبد «بيت اللَّه» ويجاور هذا المعبد، جبل ونخلة، الجبل اتخذوه كعرفات في مكة، والمعبد كالكعبة، والنخلة ك (العُزى :

وهي في وادي بطن نخلة، قطعها خالد بن الوليد بأمر النبي محمد صلى الله عليه و آله التي كان يُحجُ إليها في الجاهلية ويُعلق عليها النذور والهدايا... فمقام تلك النخلة كهذه.

ولفرقة السامرة طقوس خاصة كالطواف والأضاحي وغيرها من صعود الجبل والوقوف عليهِ، وتقديم النذورات والهدايا والقرابين للشجرة المقدسة؛ لتقضي لهم حوائجهم... وقد جاء في سفر القضاء: «وكانت دبورة النبيّة، زوجة لفيدوت متولية قضاء بني إسرائيل في ذلك الزمان- أي بعد موسى بقرنين- وكانت دبورة تجلس تحت (نخلة دبورة) بين الرامة وبيت إيل (في إقليم نابلس) في جبل أفرايم، وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها لتقضي لهم» (2)

.ومن الجدير ذكره أنّ دعاء السمات للشيعة الإمامية، ذكر قدسية هذا المكان، ويبدو أنّ السبب هو تجلي مجد اللَّه تعالى للنبي يعقوب عليه السلام جاء في الدعاء: «اللهم وباسمك العظيم الأعظم الأعز الأجل الأكرم، وبمجدك الذي تجليت به لموسى كليمك عليه السلام ول... ول... وليعقوب نبيك عليه السلام في بيت إيل» (3).

أماكن مقدسة من الطبيعة

وحجَّ قسمٌ آخر من اليهود إلى أماكن طبيعية كالجبال الشاهقة، وبعض التلال والأشجار والآبار وعيون الماء، اعتماداً على النصوص التوراتية، واقتداءً بسُنة


1- 1 الملل والنحل، الشهرستاني، ت 548 ه: 200، الطبعة الإيرانية.
2- 2 سفر القضاء، الإصحاح 4، الفقرات 4- 5.
3- 3 مفاتيح الجنان، الحاج الشيخ عباس القمي، دعاء السمات.

ص: 107

الأجداد، الذين قدسوها واعتبروها آيات عظيمة تقربهم إلى الرب.

وهذا النص التوراتي يبين قدسية الأماكن الطبيعية من الأرض: «هذه هي الفرائض والأحكام التي تحفظون لتعلموها في الأرض التي أعطاك الربُّ إله آبائِك؛ لتمتلكها كلّ الأيام التي تحيون على الأرض. تخربون جميع الأماكن حيث عبدت الأُمم، التي ترثونها آلهتها على الجبال الشامخة، وعلى التلال، وتحت كلّ شجرة خضراء. وتهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم، وتحرقون سواريهم بالنار، وتقطعون تماثيل آلهتهم، وتمحون اسمهم من ذلك المكان... لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم. بل المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه سُكناه تطلبون والى هناك تأتون. وتقدمون إلى هناك محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذوركم ونوافلكم وأبكار بقركم وغنمكم» (1).

وهذا النص التوراتي له وقع كبير في نفوس بعض اليهود، حيث يذهبون سنوياً إلى تلك الأماكن المخصصة من الطبيعة، التي احتلها الأجداد وقضوا على سكانها، وأحرقوهم، وقتلوهم، يذهبون إليها حجاجاً معيدين مع ذبائحهم وضحاياهم ونذورهم وهداياهم، وهذا ما يوجبه عليهم المقطع الأخير من النص، اضافة إلى أمرهم بالصلاة الخاصة هناك، وتقديم البكر من البقر والغنم إما ضحية أو هدية، وقبل هذا كلّه يوصيهم النص أن يقدموا محرقاتهم اي (ينيروا المكان) ليستضيئوا ولا تمسهم الظلمة.

وهذا الحج في الحقيقة عادة وثنية اقتبسها اليهود، الذين عاشوا في قرون سبقت عهد موسى عليه السلام، فانتقلت إلى ابنائهم فادخلوا عليها عبر القرون والأيام ما يسدّ حاجتهم العنصرية والنفسية، فجعلوها ضمن معتقدهم الديني.


1- 1 سفر التثنية، الاصحاح 12، الفقرات 1- 7.

ص: 108

ويقول د. حسن ظاظا: «كان اليهود- أو بنو إسرائيل- يجعلون من الأشجار والجبال والتلال وعيون الماء والآبار مزارات يحجون إليها ويتبركون بها، ويبنون عندها معابدهم» (1).

جاء في الحديث عن إبراهيم عليه السلام في التوراة: «وتجلّى له الرب في سندبانة (قَمْرا) وهو جالس بباب الخيمة، عند ارتفاع النهار. فرفع بصره وألقاه فرأى ثلاثة رجال واقفين أمامه، فلما رآهم هَمَّ لاستقبالهم أمام باب الخيمة، وسجد على الأرض قائلًا: مولاي! إن كانت لي حظوة في عينيك، فلا تضرب صفحاً عن عبدك، سأقدّم لكم بعض الماء فتغسلون أرجلكم، وتتكئون تحت الشجرة، وأقدّم كسرة خبز، لتسندوا بها قلوبكم، ثم تنصرفوا، بعد ذلك، فإنكم لذلك مررتم بعبدكم.

قالوا: اصنع كما قلت! فاسرع إبراهيم إلى الخيمة، إلى سارة، وقال: هاتي ثلاثة أصواع من دقيق سمين، فاعجنيها واصنعيها خبز مَلَّة. وبادر إبراهيم إلى البقر فأخذ عجلًا حنيذاً طيباً، ودفعه إلى الغلام، فأسرع في إعداده. ثم أخذ زبداً ولبناً، والعجل الذي كان قد هيّأه، ووضع ذلك بين أيديهم، وهو واقف أمامهم تحت الشجرة، فأكلوا. ثم قالوا: أين سارة، امرأتك؟ قال: هي في الخباء، قال: سأرجع إليك مثل الآن في العام القادم، ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة تستمع عند باب الخباء، وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة شيخين طاعنين في السن، يستحيل أن يكون لهما ما للنساء. فضحكت سارة في نفسها قائلة: أبعد شيخوختي يكون لي تَنعُّم (2)؟ وبعلي شيخ كبير! فقال الرب لإبراهيم: ما بال سارة قد ضحكت قائلة: أألدُ وأنا عجوز؟ أهذا على الرب أمر عسير؟ في مثل هذا الوقت من قابل،


1- 1 طقوس الحج عند اليهود: 7.
2- 2 التنعّم: يعني البنين أو بمعنى الذريّة.

ص: 109

أعود اليك ويكون لسارة ابن» (1).

ولأن التجلي الإلهي والبشرى بإسحاق كانتا عند هذه الشجرة (السنديانة)، فقد قدسها بنو إسرائيل وكانوا يحجون إليها، ويتبركون بها، ويطلبون منها حوائجهم.

«أما العيون والآبار فمن أشهرها «قادش» الذي يدل اسمها المؤابي على تقديسها، واحتفظت في اسمها بالعربية (عين قديس) ويتصدر الآبار (بئر سبع) جنوب شرقي غزّة. وكان الساميون القدماء من بني إسرائيل وغيرهم يعتقدون أنّ هذه البئر (مسكونة) أي تقيم فيها كائنات غير منظورة من الملائكة والجن، وأنّ عددهم سبعة، تسهر على عقاب الحانث في يمينه، المتعمد للكذب، فكان عليه أن يذهب مع خصمه إلى تلك البئر، ويدعو على نفسه باللعنات السبع، كأن يموت بلا عقب، وأن يفقد كلّ عزيز عليه، وأن يصاب في ماله، وصحته، وشرفه، وأن يضرب في الأرض شريداً، وأن يفقد السمع والبصر والعقل... الخ» (2).

تلخيص واستنتاج

وصفوة القول أنّ الديانة اليهودية عرفت الحج كممارسة عبادية، مادية ومعنوية، كما عرفتها الديانة الإسلامية والديانات الأخرى التوحيدية وغير التوحيدية، لكن الفرق يكمن في ماهية هذه العبادة والأعمال والشعائر والمكان والزمان، والأهم من هذا كله، اتباع ما اعتقدوا هم به، وليس بما جاءهم به نبيهم من شريعة السماء، بالتوجه الصحيح إلى المكان المطلوب، والزمان المعين، والمناسك المفروضة و... الخ.


1- 1 سفر التكوين، الاصحاح 18، الفقرات 1- 14.
2- 2 طقوس الحج عند اليهود: 7.

ص: 110

والحج فُرض على الناس منذ زمن الخليل إبراهيم عليه السلام حين أذن في الناس:

وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلِّ فجّ عميق (1)

.وهذا الفرض السماوي عيّن المكان وعيّن الزمان واشترط الاستطاعة لأدائه، فقال تعالى وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليهِ سبيلًا (2)

أي حقّ على الناس كافة أن يحجوا إليه- إلى البيت الحرام- حيث هي الدعوة عامة وليست خاصة لفئة معينة من الناس دون أخرى ولم يخصص المسلمين دون غيرهم أو المؤمنين دون غيرهم، اللَّه تعالى لا يفرق بين عباده، فلم يقل وللَّه على المسلمين أو على المؤمنين أو على الفرقة الفلانية أو الفئة الفلانية، أو تلك القبيلة أو العنصر المعين أو اللون المفضل، بل جاء الخطاب عاماً للنّاس.

وقوله تعالى إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين (3)

. ومن غير الممكن أن يجعل اللَّه تعالى لفئة من عباده بيتاً فيه البركة والهدى والرحمة وغفران الذنوب و... و... ويحرم آخرين منه.

وقد روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام حين سُئل عن هذه الآية وللَّه على الناس حج البيت... ومن كفر فإنّ اللَّه غني عن العالمين قال: «من قال ليس هذا هكذا فقد كفر» (4).

إذن فالحج لغير بيت اللَّه الحرام لا يُقبل من أي إنسان أياً كان، فهو بِدعة لا يقبلها اللَّه تعالى ولا تأخذ معنى الحج الحقيقي.


1- 1 الحج: 27.
2- 2 آل عمران: 97.
3- 3 آل عمران: 96.
4- 4 وسائل الشيعة 11: 16، ح 4128.

ص: 111

هناك نصوص قرآنية تدين الخلط بين الحق والباطل، وتدين التباس الأمر على الناس نتيجة الانحراف، وترجعها إلى انعدام الرؤية الواضحة والصحيحة والاضطراب عند بعض من الناس، من أضلهم وأغواهم الشيطان للانحراف عن الطريق المستقيم وعن جادة الصواب، إلى طريق الهوى وطريق الغواية... قال تعالى

لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (1)

.فاليهود يعلمون أن اللَّه تعالى شرع حجّاً... ويعلمون قدسية بيت اللَّه الحرام، ويعرفون أن جدهم إبراهيم الخليل عليه السلام بنى بيتاً لعبادة اللَّه تعالى مع هذا أنكروا الحق وألبسوه بالباطل وتوجهوا إلى أماكن ارتاحت لها أنفسهم وثبتت فيها عنصريتهم. ونسج الانحراف خيوطه فتاهت الحقيقة عليهم جيلًا بعد جيل، وضاعت معه مقدساتهم الحقيقية ومعتقداتهم الواقعية، ولعب الهوى أيضاً دوره، والإنسان ابن الهوى إذا لم يقيده قيد ويرشده مرشد(2)

... وهذه المسألة في غاية الدقة والأهمية.


1- 1 آل عمران: 71.
2- 2 نقصد بالقيد والمرشد: العقل والإيمان الحقيقي، والارتباط باللَّه تعالى.

ص: 112

ص: 113

ص: 114

ص: 115

الفصل الخامس: الحج في الديانة المسيحية

الحجّ في الديانة المسيحية

اشارة

مضى النصارى على شاكلة نظائرهم اليهود في اتخاذ وجهات متعددة، ومراسم وسلوكيات خاصة، خطّتها لهم خيالاتهم وأهواؤهم، وزيّن لهم الشيطان سوء أعمالهم وتصرفاتهم، حتى أحسّوا أنّهم على حقّ وغيرهم على باطل.

عرفوا الحج أنّه طواف ودوار حول مقدسات العقيدة، فطافوا بمقدساتهم، وقدموا الأضاحي والنذورات والهدايا... بكوا وتضرعوا وطلبوا الغفران، وبعضهم ترك ملذات الدنيا المحللة والشهوات المباحة، واتجهوا للرهبانية عن الحياة ليتخذوا من (العذراء مريم) أسوة، ومن إلههم الثاني عيسى المسيح ربّاً- كما يزعمون- يغفر ذنوبهم ويكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم نعيم الجنة!!

وانقسم المسيحيون إلى عدّة فرق، وكلّ فرقة اتخذت وجهة خاصة في الحج ومراسم وطقوس حجّ خاصة.

وقد خصّص لهم كتابهم (الإنجيل المحرف) أعياداً دينية، ك (عيد الفصح) و (عيد القيامة)، و (عيد الميلاد) و (عيد الفطاس)، وغالباً ما يصاحب أعيادهم حج وطقوس خاصة به.

ص: 116

يقول أحد الكتاب المسيحيين (فنسنك wensinck) في معنى الحج عندهم:

«وقد فسّر لغويو العرب الحج بأنه «القصد» ويتفق هذا ومعنى الحج عندنا (أي عند النصارى على أنه من الواضح أنّ هذا المعنى اصطلاحي، كالفعل العبري، ولعل المادة ومعناها في اللغات السامية الشمالية والجنوبية «يطوف» أو «يدور»...» (1).

ولم نقرأ في إنجيلهم المحرف ذكراً للحج عندهم، بل هناك أعياد دينية، يفرحون بها ويذكرون اللَّه (الأب) وابنه (يسوع المسيح) الذي جمع في تكوينه بين الروح الإلهية والتكوين الإنساني فهو- حسب تعبيرهم- مركب من إله وإنسان.

وعلى هذا فالمسيحية ذات إلهين وليس إلهاً واحداً، وإنَّ ديناً له أكثر من إله واحد ليس ديناً توحيدياً بل ثنائياً أو ثلاثياً يُسيِّره الإله الأب والإله الابن وروح القدس.

فالمكان الذي وُلد فيه الإله الابن محجة أولى لهم، ومكان الصلب والرفع محجة ثانية، وكل مكانٍ صلى فيه عيسى المسيح أو ظهر هو أو أمّه مريم العذراء، فهو مكان مقدس ومحجة لهم، وهذا الظهور والتجلي في أي زمان أو مكان أو لأي شخص منهم فهو مقدس ومحل زيارة ومحجة سنوية في أحد الأعياد الدينية التي رسمها لهم كتبة الإنجيل.

الإنسان المتدين بدين المسيحية كأي إنسان آخر فهو ابن عقيدته، ونظرة أي إنسان إلى الحياة والكون ومفاهيمه في شتى المجالات، بل وحتى عواطفه وأحاسيسه كلّها تدور حول محور العقيدة التي يتبناها، والتي تسهم في بنائه الفكري والأخلاقي والاجتماعي والعبادي.

فإذا حكّم الإنسان عقله تجلى له الطريق الصحيح، وإذا قلّد أو غفل أو تعصب انحرف. فكتبة الإنجيل من أمثال هؤلاء الذين قلّدوا وغفلوا وتعصبوا فامتزج


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة من المستشرقين 7: 304.

ص: 117

عندهم الحق بالباطل. وأول من أدخل البِدع وحرّفَ في الديانة المسيحية، شاب يهودي اسمه شاؤول يذكر قصته الكتاب المقدس في الاصحاح السابع من العهد الجديد، ادّعى أنّه حصلت له رؤيا ظهر فيها عيسى المسيح ودعاه إلى التبشير.

وفجأةً غيّر هذا الشاب اسمه إلى (بولص) وأدخل في المسيحية ما ليس فيها؛ ليكسب بدعوته الوثنيين والجهال من اليهود ومن غيرهم. ففي كتاب: «المئة: تقييم الأشخاص الأكثر أهمية في التاريخ» فإنّ مؤلفه مايكل هارت يقول: «ليس هناك شخص لعب دوراً في الضخامة كالدور الذي لعبه بولص في إشاعة المسيحية» (1).

وجهة النبيّ عيسى عليه السلام في الحج

وعيسى روح اللَّه عليه السلام لبّى نداء نبي اللَّه وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، حين أمره اللَّه تعالى أن يؤذن في الناس بالحج، وعَلِم (وهو من الأنبياء الكبار: أي من أولي العزم) من اللَّه تعالى أن هذا النداء عام ولم يختص بشريحة معينة من شرائح المجتمع، بل هو يشمل جميع الأديان السماوية وجميع الأنبياء والرسل، وهو تكليف عام، واجب على المكلفين ومستحب لغير المكلفين، وسنبين شروط التكليف في الفصول اللاحقة إن شاء اللَّه تعالى

وقد أكدت الروايات الشريفة عن الرسول صلى الله عليه و آله وعن أئمة الهدى عليهم السلام، حج ابن مريم عيسى روح اللَّه عليه السلام، إلى الكعبة الشريفة، فقد جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«والذي نفس محمد بيده ليُهلَّن ابن مريم بفجّ الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنّيهما» (2).


1- 1 عن كتاب: نظرة عن قرب في المسيحية، بربارة براون: 22.
2- 2 مسند أحمد 2: 240 و 272 بتفاوت يسير و 290 في حديث قال فيه: «وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما».

ص: 118

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: «ومرّ عيسى بن مريم عليه السلام بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك عبدك وابن أمتك» (1).

وفي تحديد الوقت الذي كان الأنبياء يحجون فيه إلى البيت العتيق، ومن ضمنهم عيسى عليه السلام، قال الإمام الرضا عليه السلام:

«... وقتها عشرة ذي الحجة... النبيون آدم ونوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد (صلوات اللَّه عليهم) وغيرهم من الأنبياء، إنما حجّوا في هذا الوقت، فجعلت سُنة في أولادهم إلى يوم القيامة» (2).

والنبيّ عيسى عليه السلام أحد أولي العزم الخمسة، ومن غير الممكن أن تكون وجهته في الحج مخالفة عن وجهة بقية الأنبياء والرسل، كأن يتخذ من بيت المقدس أو مكاناً آخر محجة خاصة له ولقومه واتباعه.

انحراف النصارى في الحج

والنصارى أو المسيحيون حالهم حال اليهود في التحريف والانحراف عن سُنة اللَّه والأنبياء، وعدم التزامهم بتعاليم نبيهم المرسل إليهم الذي ينسبون أنفسهم إليه، وما أنزل عليه من شرائع السماء، وضربهم على تعاليم الشريعة بحُجب التحريف والكتمان، والترك الصريح لها، وقد ذكرهم القرآن الكريم، مستنكراً أعمالهم وعبادتهم في آيات بينات كثيرة منها قوله تعالى

قل يا أهل الكتاب لستم على شي ء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربّكم وليزيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً


1- 1 بحار الأنوار، المجلسي 99: 185، الطبعة البيروتية.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 119

فلا تأس على القوم الكافرين (1)

.فالآية الكريمة صريحة البيان واضحة المعنى أن أعمالهم ليست مقبولة، وهي لا شي ء حتى يعملوا بما أمرهم اللَّه من خلال الكتب السماوية المنزلة على أنبيائه.

عيسى عليه السلام كغيره من الأنبياء جاء بشيراً ونذيراً نبياً وهو بشر، لكن المسيحيين انقسموا فريقين من بعده: فريقاً كفروا وعادوا إلى وثنيتهم. والفريق الآخر جعل من شخصية عيسى عليه السلام مرتكزاً للدين وأخذ الدين اسمه من عيسى المسيح، وأخذت كل المعتقدات المسيحية تتمحور حول عيسى؛ المسيح. الأعياد المسيحية الرئيسية تتعلق بأحداث في حياة عيسى المسيح. ورمز العقيدة المسيحية، وهو الصليب، يشير إلى عيسى المسيح. وصلوات المسيحيين موجهة إلى عيسى لأنهم يعتبرون أن اللَّه نفسه لا يمكن أن يخاطبه إنسان عادي. وحسب ما يقوله المؤلف المسيحي فرتز رايدنور: «إن مفتاح العقيدة المسيحية هو أن عيسى المسيح كان في الواقع السبب في وجودها كلّها، وأنه هو الذي يحافظ على تماسكها بأجمعه» (2).

فهذه الملّة من البشر جعلوا من أماكن ذكريات نبيهم، وما تجلى لهم من شخصه وشخصية أمّه عبر تاريخه إلى يومنا هذا، جعلوها أماكن حج دينية في أعيادهم السنوية... نذكر من هذه الأماكن المقدسة ما يلي:

1- اتجه بعض المسيحيين إلى بيت المقدس في فلسطين حيث الصليب الأصيل للسيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام اقتداءً بسنة الملكة هيلانة.

2- واتجه قسمٌ آخر إلى كنيسة رومة في ايطاليا (rom) Rome.


1- 1 المائدة: 68.
2- 2 كيف تكون مسيحياً في عالم غير مسيحي: 176، نقلًا عن نظرة عن قرب في المسيحية، بربارة براون: 14.

ص: 120

3- ومنهم من حجَّ إلى لورد في فرنسا للمكان الذي ظهرت فيه السيدة العذراء لهم.

4- وتوجه جمع منهم إلى كنيسة (فاطيما) (Fatima) لتجلي السيدة النورانية صاحبة المسبحة فاطيما.

5- وآخرون توجهوا إلى أماكن متفرقة كقبور الأسلاف من موتاهم، أو إلى الجبال وغيرها من الطبيعة.

وسنحاول قراءة كلّ واحدة من هذه النقاط قدر استطاعتنا، وإلقاء الضوء على الموقع الجغرافي ونبذة عن تاريخها إن شاء اللَّه تعالى

الحج إلى بيت المقدس

التوجه في الحج إلى بيت المقدس، لم يرد فيه نص لا في التوراة ولا في الإنجيل، بل سُنة اتبعت نتيجة اسباب معينة، فعند النصارى كان السبب الرئيسي هو اتباع سُنة الملكة، (هيلانه (ste) (Helene) أمّ الامبراطور قسطنطين، التي اكتشفت العود الأصلي، الذي صُلبَ عليه عيسى المسيح، فجُعلَ ذلك اليوم مباركاً وعيداً يحج فيه إلى بيت المقدس الذي يحتضن العود المقدس...

«وهيلانة التي اهتدت إلى الدين المسيحي، وقامت عام (326 م) بجولة تفقدية في الشرق، زارت خلالها الأماكن المقدسة في فلسطين، وقامت ببناء كنائس في أورشليم وبيت لحم. يُروى أنّها عثرت على عود الصليب الحقيقي» (1).

ويُروى أنّها «كرست اهتمامها لكشف مواضع الحوادث المهمة للمسيحيين، ولبناء كنائس تذكاراً لها» (2).


1- 1 معجم الحضارات السامية، هنري س. عبّودي: 896، طرابلس- لبنان.
2- 2 العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة: 390، العربي للإعلان والنشر.

ص: 121

فالمسيحيون يكرّمون «كنيسة القبر المقدس، التي تقوم على المكان التقليدي لجبل (الجلجثة)، الذي يعتقد المسيحيون أن المسيح صلب عليه. يحيط بالمدينة القديمة سور شيده السلطان سليمان القانوني عام (1541)، وفي شرق المدينة القديمة يقع وادي قدرون وبه بستان جشماني» (1) و «حينما منع الأتراك السلاجقة، المسيحيين من زيارة بيت المقدس، وهدّموا كنيسة القبر المقدس (الآن كنيسة القيامة) قامت الحروب الصليبية، فسقطت في أيدي الصليبيين عام (1099)...» (2).

والزيارة أو الحج إلى كنيسة القيامة (كنيسة القبر المقدس)، عادةً تكون في عيد الفصح السنوي وهو: «العيد الرئيسي عند المسيحيين، وهو ذكرى قيامة المسيح بين الأموات في العقيدة المسيحية، ويقع بين (22) مارس و (25) أبريل، ويرتبط به عدد كبير من الأعياد الأخرى ويُسبق بالصيام الكبير الذي يدوم أربعين يوماً، ويجمعه «آلام المسيح»...» (3).

وعيد الفصح: عيد ديني تُمارس فيه أوامر ونواهٍ خاصة كالصوم والصلاة والدعاء والنذور والأضاحي وغيرها، ويختلف بكثير عن عيد الميلاد المسيحي المشهور، الذي تحوّل إلى عيد قومي يُلزم به المتدين وغير المتدين من المسيحيين، وهو ذكرى مولد السيد المسيح، يلي صيام أربعين يوماً (هذا بالنسبة للملتزمين، أما غير الملتزمين فلا يعنيهم هذا الصيام)، وهو يوم 25 ديسمبر بالتقويم الغربي، ويوم 29 كهيك بالتقويم القبطي، احتُفِل به قبل (200)، ثم انتشر وأصبح شائعاً وشعبياً في القرون الوسطى، التصقت به عادات وتقاليد قومية، مثل غناء الترانيم،


1- 1 الموسوعة العربية الميسرة.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 الموسوعة العربية الميسرة: 1247.

ص: 122

وتبادل الهدايا وإرسال التهاني، وغير ذلك، أما إقامة (شجرة عيد الميلاد) فهي عادة ألمانية الأصل (1).

وهنا لا يهمنا هذا العيد، ولكن الشي ء بالشي ء يذكر. لأنهم يستحب لهم في عيد الميلاد زيارة (كنيسة القيامة المقدسة) إن استطاعوا، وإلّا فأي كنيسة أخرى

أما الحج إلى (كنيسة القيامة) في بيت المقدس الشريف المُسن من قبل الملكة هيلانه، فهو ذكرى العثور على عود الصليب الأصلي كما ذكرنا سابقاً، يحيون ذكراه، حتى أصبحت عادة وسُنة جيلًا بعد جيل، وكأنهم يحجون إليه لفريضة أو أمر إلهي شرعه له عيسى المسيح عليه السلام فتركز في نفوسهم، أما حقيقة هذا الحج فهو التراث الذي خلّفته (هيلانه)، فهو تراث وحج مزيف وليس حجاً إلهياً حقيقياً.

رومة في ايطاليا

تعدُّ روما من المدن المهمة والمقدسة للمسيحيين، وهي مركز ثقافي وفني وديني منذ عهد طويل ويطلق عليها: (المدينة الخالدة) وكذلك (المدينة المقدسة) وهي وسط ايطاليا قرب الساحل الغربي على ضفتي نهر «التيبر»، عاصمة ايطاليا، وفيها الفاتيكان مقر البابوية، وكان للإصلاح الكاثوليكي بعد عام (1527) م أثر في استفادة البلاط البابوي- بعد أن خرب جنود شارل روما عام 1527 م- وكذلك استعاد مكانته وسلطته الروحية. استمرت روما في الازدهار والإفادة من وفود جموع الحجاج عليها (2).

وروما من كُبرى مُدن ايطاليا، ويرقى تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد.


1- 1 انظر المصدر السابق.
2- 2 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 898- 900.

ص: 123

كانت فيما ما مضى عاصمة الجمهورية الرومانية، ثم عاصمة الامبراطورية الرومانية، ثم عاصمة المقاطعات البابوية... وهي اليوم عاصمة الجمهورية الإيطالية، والعاصمة الإدارية والروحية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية بوصفها مقرَّ الكرسي الرسولي (في الفاتكان) (1).

جاء في تاريخ الحضارات العام: «فإننا نشاهد عناصر عديدة من المسيحيين تقوم في العاصمة روما، ملتقى جميع الملل والطوائف، ومحجّة الشعوب على اختلافها» (2).

كنيسة رومة في ايطاليا


1- 1 انظر موسوعة المورد، منير البعلبكي 8: 163.
2- 2 تاريخ الحضارات العام، اشراف موريس كروزيه 2: 426.

ص: 124

وروما المدينة الجميلة ذات الطبيعة الخلابة والآثار الجذابة ومقر الكنيسة الكاثوليكية ومقر الكرسي الرسولي، التي تستهوي القلوب المسيحية التي تعلقت بشخص عيسى المسيح عليه السلام، اعتُبرت كنيستها والآثار المحيطة بها، محجّة سنوية ومركزاً تجارياً وترفيهياً.

والحج لهذه المدينة الأثرية- في اعتقادنا- ما هو إلّانزهة سنوية ترفيهية اكثر مما هي معنوية الهية أو روحية.

إنّ هذا النوع من النزهة السنوية ممكن في كل مكان وزمان، ولم يتوفر على أيّ من شروط الحج، ونحن نعتقد وتبعاً لما نعرف من الأوضاع الاجتماعية المتردية في الغرب، لابد وأن يصاحب هذه السفرة السياحية قضايا وامور انحرافية لا أخلاقية مما لا يرضى اللَّه بها ولا السيد المسيح نفسه، فكيف يطلقون على هذه النزهة «حجاً»؟!

والظاهر أن زيارة المسيحيين لرومة تكون عادةً في عيد القيامة، ويصاحبها استعمال البخور والماء المقدس في التطهير، وإيقاد الشموع وتقديم النذور وبعض الأضاحي (1).

كنيسة لورد في فرنسا

ابتدع هذا الحج عام (1858 م) أي بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام بأكثر من ثمانية عشر قرناً، ويرجع سببه إلى ادّعاء إحدى راهبات الكنيسة في فرنسا أنها شاهدت مريم العذراء، تجلت لها بجوار المغارة التي كانت بالقرب منها.

ولورد: بلدة في الجزء الجنوبي الغربي من فرنسا. كانت في القرون الوسطى ذات موقع استراتيجي هام. أصبحت منذ العام (1858 م) محجّاً يقصده المرضى


1- 1 انظر قصة الحضارة 11: 314- 320.

ص: 125

من الكاثوليك التماساً للشفاء بعد الذي أُذيع من أن العذراء تجلّت غير مرة، في مغارة هناك لفتاة ريفية اسمها برنادت(1) Bernadette)).

كنيسة لورد في فرنسا

وتدّعي الكتب المسيحية أن برنادت سوبيروس... المولودة عام (1844 م) في لورد (فرنسا) ظهرت لها السيدة العذراء عام (1856 م) أو (1858 م)، أي كانت بالغة من العمر (12- 14) عاماً، ودعتها إلى تأسيس معبد (لورد) الحالي، وكانت وفاتها عن عمر يناهز (35) عاماً أي عام (1879 م) (2).


1- 1 موسوعة المورد 6: 148.
2- 2 المنجد، لويس معلوف: 127، دار الشرق- بيروت.

ص: 126

ومدينة لورد الواقعة بمقاطعة البرانس العليا جنوب غرب فرنسا يؤمها حوالى مليون زائر سنوياً، التماساً للعلاج عن طريق المعجزات (1).

ولا شك أن (مُودة) ظهور السيدة العذراء وتجليها للنصارى أصبحت معروفة: وهي إما خيالات لمغالين أو لأغراض سياسية أو اجتماعية أو تبشيرية أو لُامور أخرى عِلماً أنّ هذه المغارة أصبحت لهم (باب المراد) يطلبون حوائجهم منها وينذرون لها ما استطاعوا إليه سبيلًا أو أكثر، يحيون الليل بالبكاء والتضرع آملين من العذراء غفران الذنوب وستر العيوب والشفاء من الأمراض.

وعجباً لسذاجة بعض المسيحيين، أن يطلقوا على هذه الأماكن، أماكن حج يُعبد فيها الرب الإله والرب اليسوع عيسى وامّه، تذكرها كتبهم بكلِّ جرأة ووقاحة... تجرهم طفلة أحبت العذراء مريم عليها السلام وتعلقت بها وتخيلتها مرّات، هذا تعليقنا على هذه القضية إن صحت الأخبار في نقلها...

كنيسة (فاطيما) في البرتغال

وقصة فاطيما تتمحور في قضية مقدسة حدثت في أورپا، اهتم بها العالم المسيحي؛ لأنها من شؤونه الدينية الخاصة، وقد ارتبطت هذه القصة باسم يمت إلى العالم الإسلامي بصلة.

وفاطيما: قرية في شبه جزيرة (فيبري) غرب اسپانيا في مدينة ليشبونة في البرتغال، فتحها عبد الرحمن عام (710 م) وبقيت تحت راية الإسلام حتى القرن الحادي عشر الميلادي، استولت عليها أورپا وانجلى الإسلام عنها، وأصبح أغلب سكانها من المسيحيين.

وفي عام (1917 م) أصبحت فجأةً محجة للمسيحيين ومقصداً للزوّار، والمتابع


1- 1 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 1574.

ص: 127

لأخبارها يعجب للدين المزيج من التعاليم المسيحية والتعاليم الإسلامية، خصوصاً عند أهل القرية التي تحتضن كنيسة فاطيما...

وبدأت القضية هكذا: ثلاثة اطفال قرويين يفتحون عيونهم على حقيقة تجلت لهم في ضواحي القرية، لتصبح فيما بعد مَعيناً متدفقاً لاعتقاد عميق في حياة أبناء هذا البلد. الأطفال هم: جاسنيتا- سبع سنوات- وفرانسيسكو- تسع سنوات- ولوسيا- عشر سنوات- الشاهد الأصلي لهذه الحادثة هي لوسيا. وتروي ألسنة الأطفال الثلاثة الحادث على النحو الآتي: في عام 1916، قبل عام واحد من رؤيتنا السيدة التي تشع بالنور، تراءت لنا «ملاكاً» ورددت هذه العبارة:

لا تخافوا... أنا «ملاك السلام». وقالت أيضاً «إلهي! أنا أعتقد بك وأؤمن بك وأحبك، وإني أطلب الغفران لهؤلاء الذين لا يؤمنون، ولا يعتقدون بك، ولا يحبونك».

بعد ذلك تراءت لهم ملاكاً مرتين في الصيف والخريف، وفي كلّ مرّة كانت تقول لهم: «قدّموا الأضاحي، واستغفروا للمذنبين وادعوا لهدايتهم» وقد لعبت المواقف الثلاثة دوراً في تهيئة الأطفال لرؤية السيدة صاحبة المسبحة، وفي الثالث عشر من آيار (مايس) 1917 م، رأى الأطفال هالة النور مرتين، ثم أطلّ نور عظيم من أعلى شجرة البلوط، سيدة أشد ضياءً من نور الشمس تسمى «فاطيما» راحت تكلمهم:

- لا تخافوا، لا أريد أن اخيفكم.

- من أنت؟

- فاطمة بنت الرسول.

- من أين جئت؟

- جئتُ من الجنة.

- ماذا تريدين منّا؟

ص: 128

- جئت لأطلب منكم أن تواظبوا على المجي ء إلى هنا، وسأقول لكم فيما بعد ماذا أريد منكم. وأخذت تظهر كلّ شهر وفي لقائها السادس والأخير أظهرت معجزة كبرى أمام أنظار سبعين ألف شخص كانوا قد احتشدوا لرؤيتها... إذ شاهدت الحشود المنتظرة، توقف هطول المطر فجأة، واهتزت الشمس واستقرت، ثم دارت مرّتين بنحو ظنَّ الناس بأنّها ستسقط في أي لحظة على رؤوسهم. ثم عادت الشمس إلى موضعها. وأول صحيفة نشرت هذا الخبر (صحيفة ليسبون) في الخامس عشر من تشرين الثاني من العام نفسه (1).

وهناك مصدر آخر يقول: «ان فاطيما قرية وسط البُرتغال زُعم أنّ السيدة العذراء ظهرت لثلاثة من أطفالها (اطفال القرية) في 13 مايو عام 1917 م.

ومنذئذ أصبحت محجةً يقصد إليها المسيحيون من مختلف أرجاء الأرض...» (2).

وتعتبر ليلة الثالث عشر من مايو- يوم الحادث- من كلّ عام ليلة الدعاء المهمة في مزار فاطيما، إذ ينبغي وفقاً لوصية السيدة صاحبة المسبحة، قضاؤها بالدعاء والتسبيح والاستغفار، وهو درس تعلّمهُ الناس هنا من السيدة فاطيما؛ ليصبح فيما بعد واحداً من معتقداتهم وتصوراتهم الدينية. والطريف أن هذه الحشود البشرية، التي تقطع مئات الكيلومترات كلّ عام من شمال البلاد وجنوبها، قاصدة هذه المدينة المقدسة، لم يثنها عن مجيئها حرٌّ ولا برد، ولا ليل ولا نهار، بل وبعد انتهائها من الزيارة يتمتم كلّ واحد بهذه الكلمات:

«سيدتنا فاطيما! السيدة صاحبة المسبحة! السيدة هالة النور! أنا مضطر الآن للابتعاد عنكِ، ولكن أطلب من اللَّه أن لا يجعل هذا اللقاء آخر لقائي بك، وأن


1- 1 «فاطيما» مهوى الأفئدة وملاذ المتضرعين، الطاهرة، العدد 70: 11- 12. والفلم التحقيقي الذي عرضه تلفزيون الجمهورية الإسلامية باللغة الفارسية.
2- 2 موسوعة المورد، البعلبكي 4: 108.

ص: 129

يكون هذا الالتماس وهذا الشوق حيّاً في وجودي دائماً يا فاطمة! في أمان اللَّه يا سيدتنا الطاهرة» (1).

كنيسة فاطميا في البرتغال

وتعليقنا على هذه الواقعة التي جاءتنا من بعيد، من البرتغال أو بالأحرى من قرية نائية من البرتغال، من بيئة مسيحية، واقعة شاهد آثارها عدد كبير، وزارها الباب نفسه (2)... وفي نفس الوقت تتعلق القضية بشأن إسلامي مهم هو ظهور السيدة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه و آله ذات المسبحة (3).


1- 1 «فاطيما» مهوى الافئدة وملاذ المتضرعين: 13.
2- 2 في عام 1967 م. في الذكرى الخمسين لإقامة المزار، زارها البابا بولس السادس تجليلًا للبقعةالمقدسة وتكريماً لها. كما زارها الباب بولس الثاني عام 1982 م.
3- 3 الطريف أن حجاج تلك الكنيسة يحملون بأيديهم مسبحة ويسبحون كتسبيح الشيعة الإمامية أي: يذكرون اللَّه 34 مرة اللَّه اكبر، ويحمدون اللَّه 33 مرة الحمد للَّه، ويسبحون اللَّه 33 مرة سبحان اللَّه، كلٌ بلغته الخاصة.

ص: 130

ص: 131

ونحن نحترم السيدة مريم العذراء عليها السلام، وفي الوقت نفسه نقدس السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، فهل يا ترى أنّ الذي ورد صحيح مئة بالمئة؟ ذلك ما لا أستطيع أن أنفيه على الأقل...

ولكن أتساءل... لَمْ نقرأ أن مجموعة من المسيحيين ومنهم صاحبة القضية الأصلية الراهبة (لوسيا) أنهم أسلموا مع أن القضية تستحق الإسلام، هذا اذا كان التجلي لشخص فاطمة الزهراء عليها السلام، وإذا كان التجلي لشخص مريم العذراء عليها السلام فلَم نقرأ أن لمريم عليها السلام اسماً يشابه اسم فاطمة؛ لكي تُسمى المنطقة باسمها.

ثم إنّ اهتزاز الشمس ودورانها مرتين ورجوعها إلى حالها منذ زمن قريب جدّاً (سنة 1917 م)... ليس أمراً عادياً، إنه أمر كوني تنقلب له الدنيا وتهتز له عقول العلماء الفلكيين، ولكن لم نسمع ولم نقرأ عن هذا الحدث الكوني شيئاً، في حين أن تسجيلات خسوفات وكسوفات عادية جاءت من آلاف السنين.

إنّ القضية أو القصة يجب أن تُقرأ بشكل مفصل نظرياً وميدانياً، واللَّه أعلم ما وراء ذلك...

وقد سمعنا من أحد الناقلين القادمين من البرتغال أن التي تجلت لهم (1) كانت (فاطمة) بنت أحد الخلفاء المسلمين وليست بنت الرسول صلى الله عليه و آله، فإن كانت هذه أو تلك فالقضية تحتاج إلى دارسة أكثر كما ذكرنا أعلاه...

حجهم إلى مقدسات أخرى

إضافة إلى ما ذكرنا من مقدسات النصارى هناك أماكن أخرى قدسها البعض منهم؛ كقبور الموتى وبعض الأشجار التي رُمز لها (بشجرة عيد الميلاد) وبعض الجبال وغيرها، ونذكر هنا تقديسهم وحجهم للقبور القديمة:


1- 1 أي تجلت للأطفال الثلاثة.

ص: 132

كانت طريقة الدفن المسيحية آخر ما تُكرَّم به حياة المسيحي، ذلك أن من عقائد دينهم عودة الحياة إلى الجسم والروح، ولهذا كان يُعنى بالميت أشد عناية، فيقوم قسيس بالخدمة الدينية للميت وقت دفنه... فكان العمال يحفرون طرقات طويلة تحت الأرض مختلفة البُعد عن سطحها، توضع فيها أجسام الموتى في دياميس بعضها فوق بعض ممتدة على جانبي هذه الطرقات، وسار الوثنيون واليهود على هذه السنة نفسها، ولعلهم فعلوا هذا ليسهلوا مشقة الدفن ونفقاته على الجمعيات التي كانت تقوم بهذه المهمة. ويبدو لنا أن بعض هذه الطرقات قد جعلت ملتوية عمداً، وقد يبعث على الظن بأنها كانت تستخدم كمخابئ في أوقات الاضطهاد، فلما أن علا شأن المسيحية وانتصرت على أعدائها زالت عادة دفن الموتى في السراديب، وأضحت الدياميس أماكن معظمة «يحجُّ» اليها الناس (1).

والظاهر أنّ هذه الدياميس بقيت محجة لمئات السنين حتى حلَّ القرن التاسع الميلادي، سدّت السراديب ونسيها الناس، ولم تُكشف إلّابطريق المصادفة عام (1578) ميلادية (2).

وكذلك عادة تقديس بعض الجبال وبعض الأشجار، فقد انقرضت بظهور عادة الحج إلى رومة وفاطيما ولورد والقدس وغيرها من المقدسات الحديثة...

تلخيص واستنتاج

والحج المسيحي هو الآخر ليس حجاً إلهياً صحيحاً، وذلك بسبب من أصل العقيدة التي اختاروها أو صنعوها ومزجوا بها بين اللَّه والانسان، فديانتهم التي اختارتها عقولهم رأت أن المسيح عليه السلام هو الإله (الابن) المكمل للإله الحقيقي،


1- 1 انظر قصة الحضارة 6، 11: 285- 286.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 133

فالمسيحية هي ديانة ذات إلهين وليس إلهاً واحداً، وأن ديناً له أكثر من إله واحد ليس ديناً توحيدياً...

وكما ذكرنا في المقدمة ما قالته (بربارة براون) الكاتبة الأمريكية التي أسلمت عن قناعة راسخة بعد أن رأت أن المعتقدات المسيحية كلّها تدور حول الإله الابن (عيسى عليه السلام) وقالت: «إنّ المسيحية هي ديانة ذات إلهين وليس إلهاً واحداً» (1)، والأعياد والصلاة و... و... كلّها موجهة إلى عيسى المسيح...

وكذلك الحج عندهم ليس عبادة خالصة موجهة إلى الواحد الأحد- كما عند المسلمين- بل هي مرتبطة إما بشخص عيسى عليه السلام أو مكان ذكرياته كمسقط رأسه أو العود الذي صُلب عليه، أو المكان المرتبط بالسيدة العذراء مريم عليها السلام إذا تجلت لهم في خيال أو تصور أو منام أحدهم أو للمغالين منهم...

ومن هنا تبين الانحراف والابتعاد عن الحج الحقيقي، الذي وضع اللَّه الواحد الأحد هدفه الأسمى والأول والآخر، وغير ذلك لا يمكن أن نعتبره حجاً بأي حال من الأحوال مهما كان صاحبه مخلصاً، ومهما عمل من الأعمال والمناسك الدينية...

فالحج عند النصارى إذن ليس مرتبطاً بالإله الحقيقي بالمرة، وإنما مرتبط بالإنسان الذي خلقه اللَّه تعالى للبشر؛ ليُبشر ويُنذر وليبين الحق من الباطل...

والنبي عيسى عليه السلام ما هو إلّابشرٌ مثلنا يُشاركنا ونشاركه بالإنسانية، اصطفاه اللَّه تعالى ليكون رسولًا نبياً. وأمه أيضاً لا يمكن أن تُعبد أو أن تكون في مقام أُم الإله اليسوع- كما يدّعون-، فهي امرأة انسانة، لكنها وصلت مرحلة الأولياء الصالحين نتيجة علاقتها باللَّه وعبوديتها الحقّة له، ممّا جعلها سيدة نساء زمانها، وأمّ نبي اللَّه.

و أمّا النصارى فقد أشركوا باللَّه تعالى حين جعلوا لعيسى عليه السلام وامّه عليها السلام مقام الإلوهية ...


1- 1 نظرة عن قرب في المسيحية: 13.

ص: 134

صفحه سفيد

ص: 135

ص: 136

ص: 137

الفصل السادس: القدس في تاريخ الأنبياء

القدس، هل كانت مركزاً لحج الأنبياء؟

بيت المقدس أو القدس، مدينة تاريخية قديمة عرفت في التاريخ مدينة مقدسة، اهتمت بها الأديان الرئيسية الثلاثة: الديانة اليهودية والديانة المسيحية والدين الإسلامي الحنيف...

ولفرط قداستها اعتبرها اليهود رمزاً لبيت اللَّه تعالى واعتبرها النصارى رمزاً لروح القدس، واعتبرها المسلمون أولى القبلتين ومحل إسراء الرسول صلى الله عليه و آله...

وقد حفلت هذه المدينة بالأماكن المقدسة كقبة الصخرة والمسجد الأقصى وهيكل سليمان وحائط المبُكى و... و... الخ مما تقدسه الأديان الثلاثة.

ومن هنا جاء اهتمام التاريخ والأديان بها والصراع عليها، وكلٌ يستطيع أن يؤدي شعائره وطقوسه فيها...

وقد عاش فيها عدد من الأنبياء والمرسلين، فهي في حقيقتها مدينة الأنبياء والأولياء، وليس هناك مدينة في تاريخ العالم تمتعت بقدسية مستديمة منذ أن أسسها

ص: 138

(اليبوسيون الكنعانيون) (1) قبل نحو خمسة آلاف عام حتى يومنا هذا، مثل مدينة أورشليم، (بيت المقدس الحالية): فهي الأرض المباركة «دار السلام» كما سمّاها الأقدمون، وقد حمل ملوكها القدماء لواء عقيدة التوحيد للإله العلي لأول مرة في التاريخ البشري، على ما يرى كثير من المؤرخين (2).

وقد خصّها اللَّه تعالى بالعديد من الأنبياء حتى قيل: إنّ بناءها تم على أيديهم وسكنوها وعمروها «ومافيها موضع شبرإلّا وقد صلّى فيه نبي أو قام فيه ملك» (3)، كما خصّها اللَّه تعالى بإسراء خاتم الأنبياء، ثم إنها قبلة اليهود والنصارى وصلّى إليها المسلمون مع رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله في بداية الدعوة الإسلامية فترة قصيرة حتى منَّ اللَّه تعالى على رسوله المصطفى بقبلةٍ يرضاها:... فلنولينك قِبلةً ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثُ ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الذين اوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحقّ من ربّهم وما اللَّه بغافلٍ عما يعملون (4)

.وبالرغم من هذه القدسية لبيت المقدس لكننا لم نجد في القرآن الكريم ما يشير الى أن اللَّه تعالى ينسبه إلى نفسه في الكيفية، التي نتلمسها في الكعبة والتي تختص بها دون غيرها، كما في قوله تعالى بيتي وبيتك (5). كما ورد في قوله ابراهيم عليه السلام مناجياً ربّه عند بيتك المحرم (6)

. ولو رجعنا إلى التوراة التي دونها اليهود


1- 1 اليبوسيون: أقدم سكان أورشليم يرجع الخبراء تاريخ وجودهم في المدينة إلى ما قبل خمسةآلاف سنة حين نزحوا من جزيرة العرب. وكونوا في موطنه الجديد حضارة ذات حكومة وصناعة وتجارة وديانة، المصدر: العرب واليهود في التاريخ: 391.
2- 2 العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة: 386.
3- 3 معجم البلدان، ياقوت الحموي 1: 112.
4- 4 البقرة: 144.
5- 5 البقرة: 125. الحج: 26.
6- 6 ابراهيم: 37.

ص: 139

أنفسهم في الأسر، بعد السبي البابلي وبعد مضي ثمانمئة عام من نزول الوصايا العشر على موسى عليه السلام وتعاليم الشريعة الموسوية، ثم حشر تاريخ بني اسرائيل فيها والتشويه والتحوير الذي جاء لخدمة مقاصد خاصة وأهداف معينة، حيث اتخذت من شخصية النبي موسى عليه السلام قوة دينية تتشبث بها ضد أعدائها، كما اتخذت من إرجاع أصلها إلى إبراهيم الخليل عليه السلام وحفيده «يعقوب عليه السلام» النسب الأصيل الذي يجعلها أهلًا لتكون «شعب اللَّه المختار»، ومن بيت المقدس عقيدة (الوطن الموعود) الذي يفيض عليها قدسية وروحانية، وعزت كلّ ذلك إلى الإله «يهوه» والى ابراهيم الخليل ويعقوب وكلهم بريئون منها، ولو رجعنا إلى الانجيل فحاله حال التوراة، ومع كلّ ما شوهت وكتبت ودست لكننا لا نلمس أثراً ولا نصاً يقول: إنّ اللَّه تعالى نسبه إلى نفسه أو أمر الناس أن يحجوا إليه بينما وجدنا ابراهيم الخليل عليه السلام عندما أقام البيت الحرام (الكعبة) جاءه الخطاب الإلهي وأذّن في الناس بالحج... الخ وجاء تأكيد القرآن الكريم أولوية الكعبة فقال إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة.

هجرة النبي ابراهيم عليه السلام إلى القدس

اشارة

لقد توصل علماء الآثار في أحدث بحوثهم إلى أن ابراهيم الخليل عليه السلام ظهر في القرن التاسع عشر قبل الميلاد أي قبل حوالى أربعة آلاف عام في بلاد الرافدين، وعاش في زمن نمرود، الملك الذي دفعته أحلامه المزعجة إلى مراقبة الحوامل وقتل الذكور من المواليد.

وزار عُملاؤه والدة ابراهيم عليه السلام ليكشفوا ما في بطنها قبل أن يأتيها المخاض، وجسّوا جانبها الأيمن، فاختفى الجنين في الجانب الأيسر، وجسّوا الأيسر، فاختفى

ص: 140

في الجانب الأيمن، فانصرفوا دون أن يظفروا بما ستلد، الأمر الذي اضطر أمَّ ابراهيم أن تلجأ إلى كهفٍ بالقرب من «كوثا» (1)، وهناك رأى ابراهيم الخليل نور الحياة للمرة الأولى (2).

ولما بلغ ابراهيم رشده، كما ورد في القرآن الكريم، من محاورته لأبيه وقومه من عبدة الأوثان، قال تعالى ولقد آتينا ابراهيم رُشدَه من قبلُ وكُنّا به عالمين* إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين* قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ظلالٍ مبين* قالوا أجئتنا بالحقِّ أم أنت من اللاعبين* قال بل ربّكم ربّ السماوات والأرض الذي فطرهُنَّ وأنا على ذلكم من الشاهدين (3)

.ثم صمم ابراهيم عليه السلام على تحطيم أصنامهم وأقسم باللَّه على ذلك وتاللَّه لأكيدن أصنامكم بعد أن تُوَلّوا مدبرين* فجعلهم جُذاذاً إلّاكبيراً لهم لعلهم يرجعون* قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين* قالوا سمعنا فتًى يذكُرهم يُقال له ابراهيم (4)

.وكانت هذه القضية سبباً لمحاكمته العلنية أمام الأشهاد، وانتصر ابراهيم عليهم من خلال محاججته المنطقية والموضوعية: قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون* قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم* قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون* فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا انكم أنتم الظالمون*


1- 1 كوثا: مدينة في العراق بالقرب من مدينة بابل الحالية، وكانت مركزاً مهماً للساميين.
2- 2 نقله الطبري، الثعلبي، الكسائي، ابن ميمون، الزمخشري، البيضاوي، ابن الأثير مع اختلاف بسيط في التعابير والألفاظ.
3- 3 الأنبياء: 51- 56.
4- 4 الأنبياء: 57- 60.

ص: 141

ثم نُكّسوا على رؤوسهم لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون (1)

.وبهذا فشل القوم مع ابراهيم عليه السلام، وزادتهم العِزةُ بالإثم عناداً وعداءً لإبراهيم عليه السلام، وأصروا على التخلص منه: قالوا حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين* قُلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم* وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين* ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (2)

.من هنا اتخذ ابراهيم عليه السلام خليل الرحمن، رأياً محدداً في تقرير مصيره، فحين نجّاه اللَّه تعالى من النار التي أضرمها القوم للقضاء عليه، صمم الرحيل والهجرة عن الوطن إلى الأرض المباركة (المقدسة) التي باركها اللَّه تعالى للعالمين كما ذكرتها الآية الكريمة.

أجل إنها كانت مُقدسة، وكان فيها العابد الكاهن الموحّد للَّه تعالى المؤسس لبيت المقدس (ملكي صادق) الذي بارك لإبراهيم عليه السلام كما ذكر المؤرخون والباحثون، وذكروا أيضاً أنّ (ملكي صادق) من سلالة كنعان، وكان محافظاً على سُنة اللَّه القديمة بين شعب وثني، وقد عُرف بالتقوى والزهد، وقيل: إنه كان يسكن هو وقومه في الكهوف، وكان أول من اختط (أورشليم) القدس وبناها وكان محباً للسلام حتى أطلق عليه «ملك السلام» ومن هنا جاء اسم المدينة «سالم» اي مدينة السلام، ثم «شالم» و «شليم» فهي اليوم «أورشليم» (3).

هاجر ابراهيم خليل اللَّه مع زوجه سارة ولوط وعدّة من أتباعه تحفهم رعاية


1- 1 الأنبياء: 62- 65.
2- 2 الأنبياء: 68- 71.
3- 3 انظر العرب واليهود في التاريخ: 385- 387.

ص: 142

اللَّه ورحمته إلى مدينة (حاران) (حرّان الحالية) ومنها إلى أرض كنعان «شليم» فلسطين الحالية، ليستقر هو وأتباعه بالقرب من الرجل الصالح «ملكي صادق».

أمّ إبراهيم تخفي ولدها في كهف بالقرب من «كوثا»

ص: 143

وبعد فترة، أصاب المدينة قحط وغلاء، فانحدر ابراهيم عليه السلام وزوجه إلى مصر، ثم غادرها عائداً إلى «شليم» وأقام في حبرون مدينة الخليل الحالية، ثم رزقه اللَّه ذكراً من الجارية المصرية هاجر أسماه اسماعيل الذي فداه اللَّه تعالى بالذبح العظيم كما ذكرنا سابقاً بعد بناء الكعبة الشريفة.

من خلال ما وصل إلينا من أخبار المؤرخين ومن بحوث المنقبين في الآثار ومن القرآن الكريم وغيرها، لم يذكر أحدهم أنّ ابراهيم عليه السلام هاجر إلى القدس ليحج فيها، أو رجع من مصر ليؤدي مراسم الحج في القدس، أو أنه اتخذها مكاناً للحج أو دعا للحج فيها، بل هي دار هجرته وغربته كما تذكر التوراة: «تغرب ابراهيم في أرض الفلسطينين» (1). وكذلك «وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه في أرض كنعان» (2).

وهذا ما قد عرفنا أنّ وطن ابراهيم الأول هو بلد وادي الرافدين أي في العراق الحالية، بل إنه عراقي المولد كنعاني الأصل يرجع إلى الجزيرة العربية التي انحدر منها آباؤه وأجداده إلى بابل. والجزيرة العربية أصبحت بعد ذلك موطن ذريته من اسماعيل بعد أن أسكنه هو وأمه فيها...

القدس في عهد يوسف عليه السلام

ورزق اللَّه ابراهيم عليه السلام في شيخوخته ولداً آخر سمّاه (إسحاق) أسكنه وأمّه العجوز سارة في مدينة حبرون (الخليل الحالية)، وآلَ أمر إسحاق عليه السلام أن يكون نبياً ويرزق بيعقوب نبياً، وشاء اللَّه تعالى أن يرزق يعقوب أحدَ عشرَ ولداً ذكراً من زوجاته الأربع من بينهم كان يوسف الأثير عند أبيه يعقوب يخصّه بقسط عظيم من


1- 1 العهد القديم، التوراة، سفر التكوين.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 144

محبته ويميزه على اخوانه، وكان يوسف عليه السلام حسن السيرة، جميل الصورة، كثير الأحلام الصادقة، مما جعل يعقوب عليه السلام يهتم به ويؤثره عليهم فسبب ذلك حقد اخوته عليه، ثم كان سبباً في محنته وغُربته عن الوالد حوالى ثلاثين عاماً لكنها- المحنة والغربة- كانت خيراً وبركة عليه وعلى الأمم القريبة من مصر وعلى مصر نفسها وعلى اورشليم موطن غربتهم...

وذُكرت قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم بشكل مفصل وجميل كما ذكرتها التوراة مع فارقٍ بسيط، وفي هذا الحديث لا يهمنا من قصة يوسف وأحداثها سوى أنه عندما خرج من بيت المقدس مباعاً إلى «فاطيفور» (1) الجندي الفرعون، ثم دخل مصر، هل رجع إلى القدس حاجاً لها؟... هذا ما ستبينه المفاجأت في حياة يوسف عليه السلام!

تغرب يوسف عليه السلام عن الأهل والأحبة والاخوان عدداً من السنين، وبعد معاناة طويلة صار وزيراً على مصر كلّها، فبعث وراء أبويه وعشيرته عن طريق اخوته الذين أرسلهم أبوهم (يعقوب عليه السلام) نتيجة القحط والفقر والجدب الذي أصاب مدينة «أورشليم» وما حولها من البلدان الا مصر بشهامة يوسف عليه السلام وعقله الناضج، حيث ادّخر المواد الغذائية في المخازن المصرية الفرعونية في أيام الوفرة لأيام القحط (2)...

واستقر آل يعقوب «بنو اسرائيل» (3) في مصر الفرعونية، حتى وفاة يعقوب عليه السلام حيث جهزه يوسف عليه السلام مع وفد من أهل بيته ورجاله في موكب عزٍّ


1- 1 نقلت المصادر التاريخية وكذلك التوراة أن الذي اشترى يوسف عليه السلام من أخوته كان هذا الجندي، راجع التوراة، العهد القديم، سفر التكوين.
2- 2 راجع القرآن الكريم؛ الآيات الشريفة من سورة يوسف، والتوراة، العهد القديم، سفر التكوين.
3- 3 يعقوب: هو اسرائيل وتعني بالعربية عبداللَّه وسمّيَ ابناؤه باسمه بنو اسرائيل.

ص: 145

وجلال ودُفن في منطقة «بئر الحي الرائي» (1) بالقرب من قبر أبيه إسحاق وجده ابراهيم عليه السلام، في مدينة الخليل الحالية.

وبقي بنو اسرائيل في مصر وتوفي يوسف عليه السلام، ولم يذكر التاريخ لنا أو الآثار أو التوراة أو أي كتاب سماوي أن يوسف عليه السلام خلال مدة إقامته في مصر أنه حجَ بيت المقدس أو دعا القوم للحج إليه، بل كلّ ما وصلنا أنّ بيت المقدس وما حولها في عهد يوسف عليه السلام أصابها جدب وقحط وقلة في الأمطار حتى تركها الأغلبية من سكانها طلباً للماء والغذاء.

يوسف عليه السلام يباع للفراعنة


1- 1 راجع، التوراة، العهد القديم، سفر التكوين.

ص: 146

إذن دخول بني اسرائيل- بني يعقوب- مصر وكان عام (1656) ق. م عن طريق يوسف عليه السلام في عهد الملك (أبو فيس) ملك الهكسوس في الأسرة السادسة عشرة، وكان عددهم كما ورد في التوراة سبعين شخصاً بقيادة يعقوب عليه السلام (1)... واستقرت هذه الأسرة حوالى (400) عام حتى ظهر موسى عليه السلام بينهم...

هذا ما كان للقدس منذ زمن اسحاق عليه السلام حتى موسى عليه السلام فلم يحج أحدهم إليها رغم قدسيتها ومقامها عند الجميع، والقدسية شي ء والأمر الإلهي شي ءٌ آخر.

موسى الكليم عليه السلام والقدس

وقصة موسى عليه السلام، قصة العظات والعبر والدروس، ذكرها القرآن الكريم بكامل تفاصيلها لأهميتها، ولبيان حماقة قومه الذين كانوا مستضعفين ومضطهدين، فأنجاهم موسى عليه السلام ليسير بهم إلى الأرض المقدسة، فيسكنهم فيها، لكنهم لجوا وكفروا فباءوا بغضبٍ من اللَّه إلى يوم يُبعثون.

وذكرت التوراة قصته بما يشابه ما قصّه القرآن الكريم في ذكر عنادهم ولجاجتهم، إلّاأن التوراة حوّرت في نهاية مطاف بني اسرائيل مع موسى عليه السلام وأخبار الأجداد والسلف منهم في شرعية استحلال القدس ودخولها وقتل أهلها وسلبهم وحرق ما حلى لهم من ممتلكات سكان أهلها. فقد ذكروا أنّ ابراهيم الخليل حين دخل مدينة «ملكي صادق» باركه الرب وقطع معه ميثاقاً هذا نصّه:

«لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير إلى نهر الفرات» (2). وفي موضع آخر من التوراة نجد النص التالي: «وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض


1- 1 فرعون موسى، د. سيد كريم، الهلال، العدد 5: 75.
2- 2 العهد القديم، سفر التكوين، الاصحاح، الفقرة.

ص: 147

غربتك. كلّ أرض كنعان لك ملكاً أبدياً» (1).

ولو رجعنا إلى كليم اللَّه موسى عليه السلام واستقرأنا تاريخه منذ الولادة حتى الوفاة والرحيل إلى الملكوت الأعلى لنفهم ما هي علاقته عليه السلام بالأرض المقدسة وبيت المقدس، وهل كان يزورها ويحج إليها... هذا ما ستمليه علينا النصوص الواردة فيه.

وموسى عليه السلام: هو ابن عمران بن قاهان بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وُلد في مصر، وتربى في بيت «رمسيس الثاني» (2) الملك الفرعوني وعدو بني اسرائيل، الذي كان يتوقع أن تلد بنو اسرائيل ذكراً يقضي على عرشه وسلطانه (3).

كبر موسى عليه السلام في البيت الفرعوني، وبلغ أشده، فأنعم اللَّه تعالى عليه بالعلم والحكمة بالاضافة إلى ما تعلمه من علوم في بيت مربيه، ولما بَلغَ أشده واستوى آتيناه حُكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين (4)

.لقد أعدَّ اللَّه تعالى موسى عليه السلام لرسالته ودعوته بعد محنٍ كثيرة وغُربة وهجرة وابتلاءات، اصطفاه نبياً ورسولًا، وأمره بالدعوة إلى اللَّه، فسأل موسى عليه السلام من اللَّه أن يشرك أخاه هارون معه في هذه المهمة، واجابَ اللَّه سؤله، وأمره أن يذهب هو


1- 1 المصدر نفسه، الاصحاح، الفقرة.
2- 2 وهذا هو فرعون موسى! نجيب فرج، اكتوبر، مجلّة الهلال لعام 1976: 26، وفرعون موسى، د. سيد كريم، العدد 5: 73 وغيرها.
3- 3 كان الفرعون قد أخبرته السحرة والكهنة أن ذكراً من بني اسرائيل يقضي على عرشه فجعل يقتل الذكور من مواليدهم، لكن موسى عليه السلام نجى، بايحاء اللَّه تعالى لأم موسى فقال: «وإذ أوحينا إلى أمك ما يوحى* أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدوٌ لي وعدوٌ له» سورة طه 28- 29.
4- 4 القصص: 14.

ص: 148

وأخوه إلى فرعون مؤيدين بالآيات والمعجزات، وأمرهما أن يقصداه بالذات لأنه طغى وفسد في الأرض (1)، وبعد جدال ومحاججات، أيقن فرعون أنه لم يقهر موسى وأخاه، بل هم قهروه وانتصروا عليه، فضاق فرعون ذرعاً بموسى فأتمر على قتله والخلاص من دعوته، ومن قوة بيانه التي قد تؤثر في القوم.

فجاءَ الأمر الإلهي لموسى عليه السلام بالخروج من مصر مع بني اسرائيل المعذبين فيها، فانطلق بهم سرّاً متوجهاً إلى الأرض المقدسة...

خاطب موسى عليه السلام قومه في صحراء سيناء، مذكراً إياهم نعم اللَّه تعالى عليهم، وخروجهم من رقّ العبودية، وهدايتهم في بعثه نبياً فيهم و... و... الخ.

رغم استمرار موسى عليه السلام في إصلاحهم وهدايتهم، لكنهم عارضوا وعاندوا وقسوا، وغضب اللَّه عليهم مراراً ثم تابوا ثم أنعم عليهم ثم عصوا ولجّوا ثم تابوا ثم عصوا وهكذا. وكان سلوكهم مع نبي اللَّه موسى الكليم هكذا، حتى اشرفوا على حدود الأرض المقدسة، طلب موسى عليه السلام منهم الدخول فيها، بعد أن أرسل رواداً للاستطلاع على الأوضاع هناك، (وهذا دليل على أنّ موسى عليه السلام لم يدخلها قبل هذا الوقت ولم يعرف عنها شيئاً، وأنه سيدخلها لأول مرة في حياته)، فلما رجع الرواد أخبروه أن قومها أقوياء طوال الهامات، وأن مدنها حصينة، فارتاع بنو اسرائيل ولم يمتثلوا لأمر موسى عليه السلام بمباشرة الغزو بل قالوا له: إنّ في هذه الأرض جبابرة لا طاقة لنا بهم فلن ندخلها ما داموا فيها، فإذا خرجوا منها نلبي طلبك وندخلها، قال تعالى

وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يُؤتِ أحداً من العالمين* يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب اللَّه لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين* قالوا


1- 1 القرآن الكريم، الآيات 42- 47 من سورة طه و 18- 22 من سورة الشعراء.

ص: 149

يا موسى إنّ فيها قوماً جبّارين وإنّا لن نَدخُلها حتى يَخرجوا منها فإن يخرُجُوا منها فإنّا داخلون (1)

.هكذا كانت نهاية المطاف مع موسى عليه السلام، نهاية الجهد والتعب والسفر الطويل والعناء في سبيل دخول الأرض المقدسة، أن يقول بنو اسرائيل لموسى عليه السلام: لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون* قال ربّ إنّي لا أملك إلّانفسي وأخي (2)

ثم دعا عليهم فقال: فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين* قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (3)

. فاستجاب اللَّه تعالى دعاءه وأخبره بأنّ الأرض المقدسة لن يدخلوها وسيتيهوا في صحراء سيناء أربعين سنة فلا يأخذه الحزن عليهم، إنهم خارجون عن طاعة اللَّه تعالى ..

وبعدسنين التيه وقبل دخول الأرض المقدسة، أمر اللَّه تعالى موسى عليه السلام أن يذهب إلى جبل «نبو» وأن ينظر إلى الأرض المقدسة ولا يدخلها، فصعد موسى عليه السلام، ونظر إليها من فوق الجبل، وتوفي فوق الجبل، ودُفن على الفسجة وهو الكثيب الأحمر (4).

يقول البيضاوي نقلًا عن النجار عن المدينة المقدسة التي نظر إليها موسى من الجبل، يقول: «إنّ المدينة هي بيت المقدس أي «أورشليم» أو «أريحا». ولعل القول بأنها «أورشليم» الذي دعا أهلها لأن يسموا أحد أبوابها «باب حطة» والقرآن لم يبين المدينة، والتوراة لم يذكر المسألة أصلًا» (5).


1- 1 المائدة: 20- 22.
2- 2 المائدة: 24- 25.
3- 3 المائدة: 25- 26.
4- 4 انظر: قصص الأنبياء، عبدالوهاب النجار: 298.
5- 5 المصدر نفسه.

ص: 150

ومما سبق لم يتبين لنا- خلال عرض حياة موسى عليه السلام- أنّ القدس «بيت المقدس» كانت «بيت حج» موسى عليه السلام أو أنه دعا قومه أن يدخلوها ليحجوا إليها ويطوفوا حولها، كلُّ ما في الأمر أنهم كانوا قد استضعفوا عند الفراعنة حيث قال اللَّه تعالى عن تلك الفترة التي عاشوها في مصر: وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يُذبّحون أبناءَكم ويستحيون نساءَكم وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيم (1)

.وحين استضعفوا وظُلموا أرسل اللَّه تعالى لهم موسى عليه السلام ليخرجهم من الظلمات إلى النور، لكنهم أبوا أن يطيعوا اللَّه ورسوله، فحرمهم من الأرض المقدسة وغضب عليهم.

سليمان يبني الهيكل المقدس

دخل بنو اسرائيل مدينة «أورشليم» القدس بقيادة «يوشع بن نون» سبط يوسف عليه السلام، بعد وفاة موسى وهارون عليهما السلام، وكان أول بلد احتلوه مدينة «أريحا»، وقيل: «أورشليم»، وقد أمرهم ربّهم أن يدخلوا باب المدينة خاشعين متذللين للَّه تعالى وأن يقولوا «حطّة» أي حطّ يا رب عنّا خطايانا، ولكن هؤلاء القوم خالفوا أمر اللَّه تعالى كعادتهم- فدخلوا متكبرين، وفسقوا بدل أن يستغفروا ربهم كما دعاهم لذلك (2). وولي يوشع أمرهم حتى وافاه الأجل فوليَ أمرهم بعده قضاة حكموا فترة من الزمن دون أن يكون لهم ملك ذو سطوة وعزّة، وكانوا عرضة لغزوات الأُمم المجاورة لهم، وكانت العادة المتبعة عندهم أنهم إذا خاضوا حرباً ضد


1- 1 البقرة: 49.
2- 2 انظر الآيات الكريمة 58- 59 من سورة البقرة.

ص: 151

أعدائهم جعلوا «تابوت العهد» (1) أمامهم يستنصرون به لتقوى عزائمهم.

وكان بنو اسرائيل في عهد القضاة في حالة بدوية، وكانت عصبتهم تتجه نحو القبلية واستمروا كذلك حتى عام (1040) ق. م حين ظهر فيهم زعيم وحد شمل قبائلهم وجمعها تحت راية واحدة، وقبض بيده على زمام الحكم وكان بذلك أول ملك في بني اسرائيل، وقد عُرف في التاريخ اليهودي باسم «شاول» وسمّاه القرآن الكريم «طالوت».

ظهر لطالوت عدوٌ جبار عرف باسم «جالوت» وشاع شرّه وفساده، دعا طالوت قومه للجهاد في سبيل اللَّه وحثهم على قتال أعدائهم، وخرج جالوت ووقف وسط الوادي ونادى صفوف بني اسرائيل أن يختاروا رجلًا منهم لمبارزته وقال: إن استطاع رجلكم أن يغلبني صرنا لكم عبيداً، وإن ظفرت أنا به وقتلته تصيرون لنا عبيداً، فارتاع بنو اسرائيل وأحجموا عن محاربته، وظل يتحداهم أربعين صباحاً ومساءً، حتى برز شاب يرعى غنمه، جاء يتفقد اخوته الذين اشتركوا مع جنود طالوت، أرسله أبوه ليخبره بحال أولاده، وكان هذا صغيرهم المسمى «داود»، حين رأى بأمّ عينيه توعدات جالوت لبني اسرائيل وتمرجله عليهم، لم يطق داود الموقف، فقذف جالوت بحجر أخرجه من مقلاعه، فضربه على جبهته فخرَّ الجبار على أثرها على الأرض يتلوى وفي سرعة البرق الخاطف وثبَ عليه داود واستل سيفه وقطع رأسه، فبهرت بنو اسرائيل من هذا الموقف


1- 1 تابوت العهد: صندوق من خشب حفظ فيه موسى ألواح الشريعة التي أُنزلت عليه في جبل سيناء، استولى عليه الفلسطينيون إثر انتصارهم في معركة افيق، ووضعوه في قرية «يعاريم». وقام داود من ثَمّ بنقله في موكب رسمي إلى أورشليم حيث بنى له سليمان هيكلًا. وحفظه في قدس الأقدس. وزال تابوت العهد أثناء حريق الهيكل عام 587 أو 586 ق. م على يد نبوخذ نصر، انظر معجم الحضارات السامية، هنري س. عبودي: 264.

ص: 152

الجبار، وأكبرت داود وجعلته مقدماً بين رجال الحرب في بني اسرائيل... ثم ما لبث فترة حتى صار ملكاً عليهم.

«وتولى داود الحكم في بني اسرائيل، فجمع كلّ اسرائيل وذهب معهم الى «أورشليم»... وأقام في الحصن «حصن صهيون» لذلك دعيت «مدينة داود».

وبنى بناءً مستديراً من القلعة... واختار القسم الشمالي... وبنى فيه مذبحاً للرب» (1).

ثم جعل داود ابنه سليمان وليَّ عهده قبل أن يموت، ولمّا وليّ سليمان عرش الملوكية، أتَمَّ أعمال أبيه وواصل الفتوحات ونظّمَ المملكة تنظيماً حديثاً وشيّد الهيكل، وأوتي الحكمة، وجمع بين النبوةِ والملك، والحُكم والعدل، ودعا ربّه قائلًا:

ربِّ اغفر لي وهبْ لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب (2)

فاستجاب له ربه، فقال تعالى فسخّرنا له الريح تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب* والشياطين كلَّ بنّاءٍ وغوّاص* وآخرين مقرّنين في الأصفاد* هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب* وإنَّ له عندنا لزُلفى وحُسن مآب (3)

.مَلّكَ اللَّه تعالى سليمانَ ما يشاء من الملك، فوسع سليمان بيت المقدس وبنى الهيكل المسمى ب «هيكل سليمان» (4)، ويسمى الآن موضع الهيكل القديم (الحرم


1- 1 العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة: 398.
2- 2
3- 3 2 و 3 سورة ص: 35- 40.
4- 4 هيكل سليمان: بناء ضخم ومحل عبادة، بلغ ارتفاعه 180 قدماً حين بناه سليمان عليه السلام، مرصع بالذهب، وكان الذهب يغشي أجزاء كثيرة من الهيكل، وجي ءَ بمعظم مواد بنائه من فينيقية، وكان يقوم بمعظم الأعمال الفنية صنّاع من صيدا وصور... واستمر بناؤه والعمل في تشييده سبع سنين، كان فيه 100 حوض من الذهب، وكانت الحجارة الكريمة ترصع أجزاء متفرقة منه، كما كان ملكان مغطيان بصفائح الذهب يحرسان تابوت العهد، وهذا الصرح الضخم لم يبقَ منه حجر واحد، بل إن موضعه نفسه لا يعرفه أحد على وجه التحقيق، انظر قصة الحضارة مج 1: ج 2: 336 فما بعد...

ص: 153

الشريف) وفي وسطه- في الوقت الحاضر- مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى الى الجنوب منه.

إذن فالهيكل المعروف في القدس كان من إنشاء نبي اللَّه سليمان عليه السلام، لكن هذا الهيكل العظيم الضخم، لم يرد فيه أنّ سليمان بعد اتمامه للبناء أنه أذن في الناس للحج فيه، أو أنه حجَّ إليه يوماً من الأيام بأمرٍ من اللَّه تعالى ..

وهنا لنا أن نتساءل من أين جاء تشريع الحج لليهود والنصارى إلى الهيكل أو الى بيت المقدس واقامة الطقوس التي يمارسونها الآن في بيت المقدس؟

زكريا ويحيى وخدمة الهيكل

زكريا عليه السلام من أنبياء بني اسرائيل، قضى عمره الشريف في الدعوة إلى اللَّه وخدمة الهيكل المقدس في بيت المقدس «أورشليم» وعلى هذا فهو «لاوي» لأن خدّام الهيكل «لاويّوا» النسب، أي من نسل لاوي بن يعقوب النبي عليه السلام.

كان زكريا عليه السلام قد بلغ من الكبر عتياً، وامتلأ رأسه شيباً، وامرأته عجوز عاقر غير قادرة على الإنجاب، وبلغ زكريا درجة اليأس من أن يكون له ولد يخلفه في خدمة الهيكل المقدس والدعوة إلى اللَّه تعالى لأنّ أقاربه- بني اسرائيل- أصبحوا شِرار القوم- حسب تعبيره عليه السلام- ويخاف أن لا يقيموا أمور الدين ولا يتولوا الناس بالعدل بعد موته، لعلمه بحالهم وعدم تمسكهم بالشريعة الإلهية وخاف تحريفها، فدعا اللَّه تعالى بنداء خفي يطلبُ منه الولد، وحفزه ما يراه من إكرام اللَّه تعالى مريم، إنه كلما دخل عليها المحراب فيسألها يا مريم أنى لك هذا (1)

تجيبهُ قائلة: هو من عند اللَّه إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب (2)

وحفزه ما يراه من عبادة


1- 1 آل عمران: 37.
2- 2 آل عمران: 37.

ص: 154

مريم عليها السلام وخدمتها للهيكل المقدس، فطرق باب الدعاء إلى اللَّه تعالى واستجاب له ربه: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن اللَّه يبشّرك بيحيى مصدقاً بكلمة من اللَّه وسيداً وحصوراً (1)

.أجل... استجاب اللَّه تعالى دعاء نبيه زكريا عليه السلام خادم الهيكل والمسؤول عنه والمبشر والنذير لبني اسرائيل المعاندين، استجاب له بولد يخلفه في النبوة والرسالة والهداية، وأرسل إليه ملائكة تبشّره بذلك، واختار له اللَّه تعالى اسماً لم يكن أحد من قبله قد سمي بذلك الاسم: يا زكريا إنّا نبشّرك بغلامٍ اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً (2)

تعجب زكريا عليه السلام بهذه البشرى وقال: ربِّ أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً قال كذلك قال ربّك هو عليَّ هينٌ وقد خلقتك من قبلُ ولم تكُ شيئاً (3)

.وتحققت إرادة اللَّه تعالى وحملت زوجة زكريا واسمها «اليصابات»، ويقول أهل الكتاب: كان حملها في الزمن الذي كانت مريم حاملًا في عيسى ولا دليل على صحة هذا الادعاء عندنا في وقت الحمل وزمنه.

لقد كان يحيى عليه السلام على أكمل أوصاف الصلاح والتقوى منذ صباه، وقد أوتي الحكمة، قال تعالى يا يحيى خذ الكتاب بقوةٍ وآتيناه الحكم صبيا (4). وكذلك خصّه اللَّه تعالى بحنانه ورحمته لتقواه منذ الصبا، وحناناً من لدنا وزكاةً وكان تقياً (5). هذا ما كان من حياة زكريا وعلاقته في الهيكل المقدس، وبعد وفاة


1- 1 آل عمران: 39.
2- 2 مريم: 7.
3- 3 مريم: 9.
4- 4 مريم: 12.
5- 5 مريم: 13.

ص: 155

زكريا عليه السلام، وقيل قُتِلَ، حسب ما جاء في انجيل برنابا: «أنّ عيسى قال لليهود:

ستأتي عليكم دماء الأنبياء الذين قتلتموهم إلى دم زكريا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح» (1).

فتسلم يحيى زمام الأمور بعد زكريا عليه السلام في امور الدين والقضاء وخدمة الهيكل المقدس والصلاة والعبادة في معبد الهيكل، وكان بارعاً في الشريعة الموسوية- شريعة موسى عليه السلام- ومرجعاً مهماً لكلّ من يستفتي في أحكامها...

وتذكر كتب التاريخ والتفسير أنّ في زمن نبوةِ يحيى عليه السلام كان أحد حكام فلسطين يقال له «هيرودس» وكانت له بنت أخ تدعى «هيروديا» بارعة الجمال، عشقها عمّها وأراد الزواج منها. وكانت البنت وأمّها ترغبان في ذلك، غير أن يحيى عليه السلام كان معارضاً لهذا الزواج؛ لأنه محرّم في الشرائع السماوية، وكان يحيى آنذاك سيداً نبياً يُحترم كلامه، ولما عرفت أمّ الفتاة أن يحيى معارضاً لهذا الزواج، هيّأت بنتها في كامل زينتها وأخرجتها على عمّها، ورقصت البنت أمامه، فسَرَّت قلبه، فقال لها: اطلبي ما تتمنين لأَسُرَّ قلبك، وكانت أُمّها قد لقّنتها أن تطلب منه رأس يحيى بن زكريا في طبق، ففعلت ووفى لها عمّها وأمر بقتل يحيى في محرابه ومحراب أبيه بين الهيكل المقدس ومذبح الرب (2).

وبذلك صار هذا المحراب له قدسية خاصة عند أتباع زكريا ويحيى يُطافُ حوله في مراسم حجّهم السنوي في ذكرى يوم الغدر بهما.

ومن خلال ما تقدم لم نجد أن زكريا أذن للناس بالحج في بيت المقدس ومحراب صلاة زكريا أو ابنه يحيى مع أنهم كانوا في خدمة بيت المقدس من الناحية الدينية.


1- 1 قصص الأنبياء/ عبدالوهاب النجار: 368. بيروت- لبنان.
2- 2 المصدر السابق/: 368- 369. وكذلك في كتاب مع الأنبياء في قصّة يحيى.

ص: 156

منطقة الهيكل في أدوارها الثلاثة من عهد سليمان حتى العهد الاسلامي «عن كتاب» دليل فلسطين التاريخي

روح اللَّه عيسى عليه السلام والقدس

الى جذع النخلة في الموضع الذي فيه مدينة (بيت لحم)، على بضعة كيلومترات من بيت المقدس، جاءت بنت عمران «مريم القديسة» لتستتر أو لتعتمد على النخلة اليابسة، وهي في حالة المخاض قالت في نفسها: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً* فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً* وهزي اليك بجذع النخلة تُساقط عليك رطباً جنيا* فكلي واشربي وقري عيناً (1)

.لقد أراد اللَّه تعالى أن يسكن روع مريم القديسة العذراء، ولتعلم أن من أوجد


1- 1 سورة مريم: 23- 26.

ص: 157

لها الرطب من النخلة اليابسة في الشتاء، وأوجد لها الماء الجاري في تلك الهضبة التي كانت عليها من الجبل- جبل صهيون- قادر أن يرد عنها كلّ سوء وحتى عيب العائبين، وقذف القاذفين، وسيأتي المولود الذي خلقه اللَّه بكلمة «كن» على غير الطريقة العادية في التوالد، وهذا الولد اسمه المسيح عيسى وسيجعله اللَّه تعالى ذا مكانة في الدنيا وذا جاه وشرف وعلو قدر، كما أنه في الآخرة من الصفوة المقربين الى اللَّه تعالى .. وإنه خاتم أنبياء بني اسرائيل، ومَثَلُ خلقهِ كمثل آدم عليه السلام: إن مثل عيسى عند اللَّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (1)

.وضعت مريم العذراء مولودها! وهي وجلة من القوم وبما سيرمونها من الفاحشة والفجور، لكنَّ الملك جبرئيل «الوحي» علّمها بأمرٍ من اللَّه تعالى أنها إذا أتت قومها أن تقول لهم: إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً (2)

.وجاءت قومها تحمله، سألوها يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أُمّك بغياً (3)

فأشارت إلى وليدها، وتكلم بإذن اللَّه تعالى قائلًا: إنّي عبد اللَّه آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينَ ما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيّاً... (4)

.وبذلك ظهرت براءة مريم العذراء العابدة القديسة المنذورة لبيت المقدس والعاكفة على صلاتها فيه.

ومضت ثلاثون عاماً (5) على هذه المعجزة لمريم عليها السلام أتتها المعجزة الأخرى أن


1- 1 آل عمران: 59.
2- 2 مريم: 26.
3- 3 مريم: 28.
4- 4 مريم: 30- 31.
5- 5 بموجب روايات الإنجيل أنه بُعث نبياً وهو في عمر الثلاثين من عمره.

ص: 158

بُعث عيسى روح اللَّه عليه السلام نبياً ورسولًا في بني اسرائيل وأُنزل عليه الإنجيل، وبدأ بالدعوة إلى اللَّه، ففريق صدّقوه واتبعوه حقاً، وفريقٌ كذّبوه وحاربوه، وفريقٌ ثالث انبهرت عقولهم به وبشخصه ومعجزة مجيئه إلى الدنيا من غير أب ومن إحيائه الموتى وشفائه للأكمه والأبرص وغيرها من المعاجز التي جاء بها عليه السلام، هذا الفريق من الناس جعلوه إلهاً يُعبد أو ابناً للَّه الكبير وأنه نظير للمعبود الأب وغيرها من الاصطلاحات التي ميزووا به بقية مخلوقات اللَّه تعالى ..

أجل... أنزل اللَّه تعالى على عيسى عليه السلام الإنجيل: وقفّينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل (1)

. ولكن اين هو الإنجيل الذي من عند اللَّه والذي ذكره القرآن الكريم؟

لقد ضاع «الإنجيل الأصل» وبقيت أناجيل متعددة محرّفة كتبتها أيادي النصارى أو بكلمة أخرى ألّفها تلاميذ المسيح عليه السلام من بعده بزمن طويل، وهي عبارة عن تعريف بأحوال المسيح وأعماله وأقواله وعظاته ومعجزاته وخوارق العادات التي أجراها اللَّه تعالى على يده.

أهم الأناجيل التي تعترف بها الكنيسة، أربعة هي:

1- انجيل متى 2- انجيل مرقس 3- انجيل لوقا 4- انجيل يوحنا.

«إنّ هذه الأناجيل وغيرها من الأناجيل الكثيرة، لم تكتب زمن عيسى عليه السلام بل بعد عهده بفترة، قام بعض تلامذته وتلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم وكتبوا قصصاً كثيرة. وكلّ واحد يسمي ما كتبه «انجيلًا» حتى قيل: إنّ الأناجيل بلغت: نيفاً ومائة انجيل» (2).

والجدير بنا بيانه: أن هذه الأناجيل في الظاهر لا ذكر فيها للأمر بالحج إلى بيت


1- 1 الحديد: 27.
2- 2 قصص الأنبياء، النجار: 399.

ص: 159

المقدس أو إلى أماكن ذكريات عيسى عليه السلام أو مسقط رأسه مثلًا، ولكنّا نرى النصارى يحجون إلى بيت المقدس والى جبل صهيون حيث مسقط رأس المسيح عليه السلام وبيت لحم.

هذا المكان في القدس بدأ الحج إليه منذ أن بُنيت أول كنيسة هناك...

«... وبيت لحم، بعثها الامبراطور قسطنطينوس الأول الكبير، بعثها مدينة دينية وبنى فيها عام 326 م كنيسة إلى جانب مغارة يرجح أن يكون المسيح ولد فيها، وهي لا تزال قائمة إلى اليوم، كما بنى فيها (يوستينيانوس) الأول 526- 565 كنيسة مزخرفة بالفيسانوس...» (1).

وعلى هذا، فليس هناك مجال للاعتقاد بأنّ المسيح عليه السلام جعل أوامر الحج مكان مسقط رأسه الشريف، وإنما طقوس وألاعيب نسجت بعده عليه السلام.

إسراء محمد صلى الله عليه و آله إلى القدس

وبُعث محمد صلى الله عليه و آله بعد ميلاد المسيح ب (610) أعوام؛ ليكون خاتماً لجميع الأنبياء والرسل وسيدهم، وخصه اللَّه تعالى بخصائص ومعجزات كثيرة كان منها الإسراء والمعراج.

لقد أسريَ بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى (2) في بيت المقدس، ثم عُرج به من بيت المقدس إلى السموات العُلى وقد اتفقوا على وقوع الإسراء والمعراج لوجود النصّ عليهما في القرآن والسُنة، قال


1- 1 معجم الحضارات، هنري س. عبودي: 253.
2- 2 المسجد الأقصى: مكان للعبادة ولفظة مسجد مأخوذة من الفعل سَجَدَ، فالمسجد موضع السجود، وحين أُسري بالرسول الأكرم، لم يكن في ذلك المكان بناء معروف بالمسجد الأقصى، وإنما سمي في الآية الكريمة ب المسجد الأقصى لأنه مكان يُسجد فيه في العبادة.

ص: 160

تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا... (1)

.جاء عن القمي عن أبيه عن ابن أبي عُمير عن هُشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في تفسير هذه الآية قال: جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخذ واحد باللجام وواحد بالركاب وسوى الآخر عليه ثيابه، فتضعضعت البراق فلطمها جبرئيل ثم قال لها: اسكني يا براق فما ركبك نبيّ قبله ولا يركبك بعده مثله.

قال: فرفَّت به ورفعته ارتفاعاً ليس بالكثير ومعه جبرئيل يريه الآيات من السماء والأرض. قال: فبينا أنا في مسيري إذ نادى منادٍ عن يميني: يا محمد فلم أجبه ولم التفت إليه، ثم نادى منادٍ عن يساري: يا محمد فلم أجبه ولم التفت إليه، ثم استقبلتني امرأة كاشفة عن ذراعيها من كلّ زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى اكلمك فلم التفت إليها، ثم سِرتُ فسمعتُ صوتاً أفزعني فجاوزتُ، فنزل بي جبرئيل فقال: صلِّ فصليتُ. فقال: أتدري أين صليتَ؟ قلتُ: لا، فقال: صليتَ بطورِ سيناء حيث كلّم اللَّه تعالى موسى عليه السلام تكليماً، ثم ركبتُ فمضينا ما شاء اللَّه ثم قال لي: انزل فصلِّ فنزلتُ وصليتُ فقال لي: أتدري أين صليتَ؟ فقلتُ: لا، قال:

صليتَ في بيت لحم، وبيت لحم بناحية بيت المقدس حيثُ ولد عيسى بن مريم.

ثم ركبتُ فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فربطتُ البراق بالحقة التي كانت الأنبياء تربط بها، فدخلتُ المسجد ومعي جبرئيل إلى جانبي، فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى فيمن شاء اللَّه من أنبياء اللَّه عليهم السلام فقد جمعوا إليَّ واقيمت الصلاة ولا أَشُكُ إلّاوجبرئيل يستقدمنا، فلما استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدمني وأممتهم ولا فخر.


1- 1 الإسراء: 1.

ص: 161

ثم أتاني الخازن بثلاثِ أوانٍ وإناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء، وسمعتُ قائلًا يقول: إن أخذ الماء غرق وغرقت أُمته، وإن أخذ الخمر غوى وغويت أُمته، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أُمتُه، قال: فأخذتُ اللبن وشربتُ منه، فقال لي جبرئيل: هديت وهديت أُمتك. ثم قال لي: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلتُ: ناداني منادٍ عن يميني فقال: أوأجبته؟ فقلتُ: لا ولم ألتفت إليه فقال: داعي اليهود، لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك، ثم قال ماذا رأيت؟ فقلتُ: ناداني منادٍ عن يساري فقال لي: أوأجبته؟ فقلتُ: كلا ولم ألتفت إليه، فقال: ذاك داعي النصارى ولو أجبته لتنصرت أمتك من بعدك.

ثم قال: ماذا استقبلك؟ فقلتُ: لقيتُ امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا، فقالت: يا محمد انظرني حتى أكلمك. فقال: أوكلمتها؟ فقلتُ: لم أكلمها ولم ألتفت إليها، فقال: تلك الدنيا ولو كلمتها لاختارات أمتك الدنيا على الآخرة (1).

ومن بيت المقدس انتقل النبي محمد صلى الله عليه و آله إلى السماء- فكان المعراج- وهناك فُرض عليه وعلى أُمته الصلوات الخمس في اليوم والليلة وغيرها، ثم عاد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى مكة وجَرى ذلك كله في ليلة واحدة (2)...

ومن تلك الليلة قدّس المسلمون المسجد الأقصى في بيت المقدس، وتوجهوا إليه في صلاتهم بأمرٍ من اللَّه ثلاثة عشر عاماً وبضعة أشهر.

ولم يكن عجباً أن يتخذه المسلمون مكاناً مقدساً لهم، وأن يكون عندهم


1- 1 نقله القمي في تفسيره للآية الأولى من سورة الاسراء، والطباطبائي في الميزان، ومحمد جواد مغنية في الكاشف، وسيد قطب في تفسيره في ظِلال القرآن، ونقله كُتّاب التاريخ الإسلامي باتفاق السُنة والشيعة، فراجع.
2- 2 المصدر السابق.

ص: 162

بالمنزلة الثالثة بعد الحرم المكّي والمدني من حيث القداسة والصيانة والرعاية...

فصلاة النبي فيه إماماً لأنبياء اللَّه دليلًا على أن اللَّه تعالى يورث الأرض لعباده الصالحين، ودليلًا على قدسية هذا المكان العظيم، لكن القدسية شي ء والحج الذي نحن بصدده شي ء آخر.

فالمسلمون يقدسون بيت المقدس، ويعتبرونه من مقدساتهم المهمة، لكنهم لم يحجوا إليه؛ لأنهم لم يؤمروا بذلك... ولم تأمر به الأديان السماوية السابقة.

والجدير بالذكر أنّ النبي محمداً صلى الله عليه و آله قيّد البراق بالصخرة المقدسة (1) حين بلغ به الإسراء إلى بيت المقدس، وحتى يومنا هذا يُسمى الجدار الغربي للحرم القدسي بجدار البُراق (2)، وجاء في الروايات أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه و آله صلى على أطلال هيكل سليمان إماماً لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وبقية الأنبياء...

والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من معجزات حبيب اللَّه محمد صلى الله عليه و آله وهي تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام، الى محمد صلى الله عليه و آله خاتم النبيين، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً، وكأنما أُريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الخاتم لمقدسات الرُسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعاً، قال تعالى إن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده (3)


1- 1 الصخرة المقدسة: صخرة ذات تاريخ قديم جدّاً قدسها أهل أورشليم وتصوروا أنها نزلت من السماء كالحجر الأسود في الكعبة.
2- 2 جِدار البراق: هو الحائط الذي ربط فيه رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله البُراق الدابة في ليلة الإسراءفسمي بجدار البُراق.
3- 3 الأعراف: 128.

ص: 163

وهذه أروع رابطة وأروع علاقة بين الإسلام وبيت المقدس (محل عبادة الأنبياء)، وقد مثلها النبي الأكرم محمد صلى الله عليه و آله.

لقد احترم الإسلام بيت المقدس، فهو فعلًا بيت مقدس ومحل عبادة للَّه تعالى وفيه مقدسات الأنبياء من أولهم حتى خاتمهم صلى اللَّه تعالى عليهم جميعاً وسلم، ولكن مع هذا لم يجعله لحظة واحدة مركزاً للحج ولا أخبر نبيه الكريم أنه أمر أحداً من الأنبياء بالحج إليه، بل الاتجاه المأمور به منذ خلق البشرية إلى نهاية الأرض، بالحج إلى مكة المكرمة حيث بيت اللَّه العتيق، فالإذن إليه لا لغيره.

الصخرة المشرفة، منها عرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى السماء

ص: 164

سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

المسجد الأقصى حاليا

الكعبة لا القدس مركزاً لحج الأنبياء

من كلّ ذلك، ومن خلال ما أوردناه من حياة الأنبياء، لم نقرأ أنهم حجوا بيت المقدس، كما قد يتبادر إلى الذهن من خلال اسم البيت وقدسيته، ووجود الأنبياء

ص: 165

فيه وممارستهم بعض شعائرهم... وعباداتهم و... و...

لكن البيت الحقيقي الذي حجّه الأنبياء ومارسوا فيه شعائر اللَّه تعالى هو بيت اللَّه العتيق والكعبة الشريفة، كما وردت في الروايات عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله وعن آله الأطهار أنه أول بيت وضع للحج، وهو أول بيت للَّه عُبد اللَّه تعالى فيه، وهو أول بيت أسست شعائر الحج فيه، إلّاأنّ المنحرفين عن الجادة المستقيمة، اتّخذوا أماكن حج وشعائر حج على غرار الحج لبيت اللَّه.

وكما أنّ لبيت اللَّه الأولوية في كلّ شي ء، فإنه أعظم بيت وضع على الأرض، فقد قال الأزرقي: حدثني جدي عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال:

«أخبرني ابن جريج، قال: بلغنا أنّ اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء، ولأنه في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: الكعبة أعظم، فبلغ ذلك النبيّ محمداً صلى الله عليه و آله فنزل: إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً حتى بلغ فيه آيات بينات مقام ابراهيم وليس ذلك في بيت المقدس، ومن دخله كان آمناً وليس ذلك في بيت المقدس» (1).

وبيت المقدس بيت مُقدّس واقعاً، وبيت عُبد فيه اللَّه، وكلّ بيت يُعبد فيه اللَّه فهو مسجد، وكلُّ مسجد هو بيت اللَّه، لكن الكعبة شي ء آخر، ولها شأنٌ آخر، فقد قال اللَّه تعالى لآدم عليه السلام: «سأجعلُ فيها (2) بيوتاً ترفع لذكري، ويسبحني فيها خلقي، وسأبوئك فيها بيتاً أختاره لنفسي، وأختصّه بكرامتي، وأوثره على بيوت الأرض كلّها باسمي، فأسميه بيتي، وأنطقه بعظمتي، وأجوزه بحرماتي، وأجعله أحقّ بيوت الأرض كلّها وأولاها بذكري، وأضعه في البقعة التي اخترتُ لنفسي، فإني اخترتُ مكانه يوم خلقت السموات والأرض... ومن عظّم شأنه عظم في عيني، ومن


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 75.
2- 2 أي في الأرض.

ص: 166

تهاون به صغر في عيني، ولكلّ ملك حيازة ما حواليه، وبطن مكة خيرتي وحيازتي وجيران بيتي وعمارها وزوّارها... فأجعله أول بيت وضع للناس... الخ» (1).


1- 1. أخبار مكة، الأزرقي 1: 46- 47، منشورات الشريف الرضي.

ص: 167

ص: 168

ص: 169

الفصل السابع: الحج في الإسلام

مقدمة

اشارة

مسيرة الحج على أشكاله المتنوعة طويلة بطول الأُمم والحضارات والأديان، ابتدأت بظهور آدم عليه السلام على وجه الأرض، ثم الأُمم القديمة البائدة والحضارات كالحضارة الفرعونية القديمة والبابلية والفارسية وغيرها وانتهت إلى الحضارات والأديان والامم الموجودة الآن كالمسيحية واليهودية والإسلام على ما بينها من تفاوت... تفاوت في طبيعته وشروطه وأشكاله وأعماله وتفاصيله المختلفة كما مرَّ علينا من خلال الفصول السابقة...

وقمة نضوج الحج هو تلاؤمه مع مختلف الظروف الحالية والمستقبلية مع الإسلام، فالحج في هذه الديانة السماوية الإلهية، هو في الحقيقة خاتم أشكال الحج، كما دين الإسلام خاتم الأديان، ومحمد صلى الله عليه و آله خاتم الرسل والأنبياء، وانسجامه مع مختلف الظروف مكاناً وزماناً، هو في الحقيقة قمة نضوجه... ونضوجه من نضوج الإسلام، وكماله من كمال الإسلام.

ومن هنا تميز الحج في الإسلام عن كلّ أنواع الحج في الأُمم والحضارات والديانات الأخرى تميز بفرادته وهدفه السامي الصافي من كلّ شائبة. ولذلك

ص: 170

جاء هذه المرة صورة كاملة متكاملة موزعة بين عدة أركان وفروع وملحقات وممارسات... ضمن إطار كبير اسمه (الحج الأكبر أو حجة الإسلام).

إذن الحج الإسلامي، هو حالة كاملة متكاملة بمعنى الكلمة، لا يمكن الوصول الى هدفها، إلّاإذا تفاعل فيها عقل وقلب الإنسان ليكون أعمالًا مادية جسدية مزيجة بالروح والإيمان وبعلاقة من خارج الطبيعة، وهذه هي معنى الفرادة، وهذا هو معنى أبدية الحج الإسلامي واستمراره في الزمان والمكان، فهو فريضة تتماشى والفطرة الإنسانية السليمة وإلّا لا معنى لاستمراريته وشموله وخلوده.

ويقع الحج في الإسلام موقعاً ممتازاً، يقع في قمة الأجزاء الأساسية في هذا الدين الحنيف، فحين قسّم الإسلام أجزاء الدين إلى اصول وفروع... وهي اساسيات الدين الإسلامي... كان الحج أحد هذه الفروع وهي الصوم والصلاة والزكاة وغيرها، ومن مجموع هذه الاصول والفروع يتشكل أساس الإسلام، فهي أعمدة كبرى قام عليها الإسلام، فالحج جزء أساس من الإسلام، جزء ضمن أجزاء إذا سقط أحدها تداعت له سائر الأجزاء ولم يكن إسلاماً أبداً...

ولكلّ جزء منزلة محددة ووظيفة محددة تختلف عن سائر الوظائف الأخرى .. ولكل فريضة منزلة خاصة تختلف وظيفتها عن وظائف الأخرى ..

ويقف الحج بمنزلة شامخة بين المنزلات، بسبب عموميته وفوائده الاجتماعية العريضة، فالحج في الإسلام، دعوة عبادية عامة ومصالحة بين عدد من الشعوب؛ لذلك جعل اللَّه فيه ثواباً كبيراً وعظيماً فإذا أدّاه الفرد كما ينبغي، كان كيوم ولدته أمه، طاهراً كأن لم يأتِ بذنب، وجعل اللَّه تعالى للحاج منزلة كبيرة يوم القيامة.

ويمكن أن يعرف المسلم، بل وحتى غير المسلم قيمة الحج، حين يرى أو يسمع بذلك الجمع الغفير من الناس المتجه إلى اللَّه تعالى بنية العبادة والإخلاص للَّه الواحد الأحد في وقت واحد بمنطقٍ واحدٍ بلباسٍ واحدٍ بموقفٍ واحدٍ ب... ب... الخ، حقاً

ص: 171

إنها فريضة ذات منزلة كبيرة لا يعرف قيمتها الحقيقية إلّاالذي يؤديها ويمارسها على أكمل وجهها...

والحج في الإسلام، منسك مهم وشعار عظيم لاستمرار الدين وإقامته، فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة» (1).

اذن فقيام الدين واستمراره بإقامة وديمومة فريضة الحج، حتى جاء في الحديث عنه عليه السلام أيضاً: «لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يُجبرهم على الحج، إن شاؤوا وإن أبوا، فإنّ هذا البيت إنما وُضِع للحج» (2).

اذن، فتعظيم الكعبة وإقامة الشعائر، هو الغرض الأسنى والهدف الأسمى من العبادة، وهو أعلى درجات العبادة عندما يؤدّى بشروطه الصحيحة.

والحج بعد هذا «من بين أركان الإسلام ومبانيه، عبادة العمر، وختام الأمر، وتمام الإسلام، وكمال الدين فيه... قال النبي صلى الله عليه و آله: من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً» (3) هذا لمن استطاع إليه سبيلًا ولم يؤده...

والحج في الإسلام، ليس بدعة، ولا خيالًا، أو اختلاقاً، أو ابتكاراً أو هوًى أو إرادة شخص معين من البشر، بل هو شريعة السماء وسُنة الأنبياء، التي سنّها إله الكون لأبناء آدم عليه السلام لغفران ذنوبهم وتوحيد صفوفهم و... و... الخ، وبيّن اللَّه تعالى اسمه وأصوله ومناسكه وشعائره ولم يُدخل المسلمون عليه شيئاً إلّاما سنه اللَّه تعالى لهم.

وللحج في الإسلام فلسفة خاصة وطعم خاص، ومن فلسفته أن جعله اللَّه


1- 1 وسائل الشيعة 2: 37.
2- 2 المصدر السابق 8: 15.
3- 3 المحجة البيضاء ج 2، كتاب الحج: 145، الطبعة البيروتية.

ص: 172

تعالى مؤتمراً عالمياً سنوياً يلتقي فيه المسلمون، يتداولون مشاكلهم وهمومهم، فهو رحمة ونفع للناس في الدنيا والآخرة. قال تعالى ليشهدوا منافع لهم (1)

حجُّ الحبيب محمد صلى الله عليه و آله

النبي محمد صلى الله عليه و آله، نموذج فريد من البشر في كلّ شي ء، حتى وصف اللَّه تعالى خلقه بالعظمة، فقال: إنك لعلى خُلقٌ عظيم (2)

، فهو نموذج في كلّ شي ء، في سلوكه وأعماله وأفعاله وممارساته، كيف لا، وهو الذي أوصل صدى الإسلام كلّ العالم؟ كيف لا، وهو الذي أنقذ الناس من الجهل المطبق إلى نور الحياة والحضارة... بخلقه العالي وسلوكه الهادئ وصبره الجميل وقلبه الواسع الكبير؟!

وقد مارس كلّ شعائر اللَّه تعالى أحسن ممارسة وجسّدها أعظم تجسيد، حتى أصبح حبيباً للَّه، ويا لَه من شرف عظيم أن يصبح الإنسان الذي هو من مخلوقات اللَّه حبيباً لخالقه..! أجل، أحبه اللَّه تعالى وأحب أُمته حتى قال فيهم: كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس (3)

.وقد أدى صلى الله عليه و آله الحج إلى الكعبة الشريفة كغيره من الأنبياء، وكان نموذجاً في ذلك، فهو الصورة الرائعة للحج والنموذج الذي سار المسلمون على منواله...

وقد فرض اللَّه تعالى لحبيبه صلى الله عليه و آله الحج وشرعه له في السنة السادسة للهجرة، وقيل: إنه اعتمر في السنوات الأربع حتى أمره اللَّه تعالى وأنزل الآية الكريمة:


1- 1 الحج: 28.
2- 2 القلم: 4.
3- 3 آل عمران: 110.

ص: 173

وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميق (1)

.وكان هذا الأذان في السنة العاشرة للهجرة، فقد جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد، رواية أنس بن مالك ومجاهد: «كانت حجة الرسول صلى الله عليه و آله في ذي الحجة سنة (10 ه) هي حجته الوحيدة عقب هجرته صلى الله عليه و آله إلى المدينة المنورة» (2).

وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ، ثم أنزل اللَّه تعالى عليه: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر... (3)

فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتِهم بأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحجُّ من عامه هذا، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب، فاجتمعوا، فحجَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإنما كانوا تابعين ينتظرون ما يؤمرون به فيتبعونه، أو يضع شيئاً فيضعونه: فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أربع بقين من ذي القعدة... الخ» (4).

وقد بيّن اللَّه تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه و آله شعائر الحج ومراسمه في آيات عديدة من القرآن الكريم، حتى بلغت أكثر من أربع وثلاثين آية، وأنزل سورة خاصة ب (الحج) تكريماً لهذ الركن الإسلامي الأساسي، وعبر عنه- عن الحج- وعن مراسمه أنها من شعائر اللَّه ومن يعظم شعائر اللَّه فإنها من تقوى القلوب (5)

وأطلق على هذه الشعيرة السماوية ب (يوم الحج الأكبر)، وقال جلّ اسمه: وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر (6)


1- 1 الحج: 27.
2- 2 الطبقات الكبرى، ابن سعد 2: 189، وابن حزم، حجة الوداع: 137.
3- 3 الحج: 27.
4- 4 وسائل الشيعة 8: 150.
5- 5 الحج: 32.
6- 6 التوبة: 3.

ص: 174

وكان الرسول صلى الله عليه و آله في مكة قبل هذا الأذان وقبل بعثته وبعدها يحج البيت ويختلف في أدائه عمّن كانوا يحجون إليه من الجاهلية والحنيفية والصابئة وغيرهم، وقد ذكرت ذلك أغلب كتب التاريخ والتفسير.

وقد «سُئل الإمام الصادق عليه السلام، أحجَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غير حجة الوداع؟ قال:

نعم عشرين حجة» (1).

وعنه عليه السلام أيضاً قال: «حجَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عشرين حجّة» (2).

وكذلك قال أيضاً: «لم يحجّ النبي صلى الله عليه و آله بعد قدومه المدينة إلّاواحدة، وقد حجَّ بمكة مع قومه حجّات» (3).

اقتداء المسلمين بسُنة نبيهم

الحج عند المسلمين، غير الحج في الأديان الأخرى وبقية الأمم والحضارات، فهو الوحيد الذي بقي صافياً خالصاً، كما بدأ أول مرّة.

فكلّ أشكال الحج وأنواعه في غير الإسلام قابلة للتغيير والتبديل ومعرضة لآفة التحريف في أي زمان ومكان، لا تشمله الثبوتية والخلودية، والسبب هو في عدم كونه ركناً أساسياً من أركان أديانهم المتعددة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم رجوعه إلى معصوم منزّه من الخطأ، بل هو من صنع بشر عاديين معرضين للخطأ والنسيان والغفلة والذنوب والنزعات الذاتية...

أما الحج عند المسلمين، فهو التزام واجب وأمرٌ مفروض من ربّ العزّة والجبروت، فرضه الإسلام على المسلمين، فاتبعوا وأطاعوا وعلموا والتزموا بما


1- 1 الكافي 4: 251، والوسائل 11: 125.
2- 2 المصدر السابق: 245، والوسائل: 126.
3- 3 المصدر السابق: 244، والوسائل: 124.

ص: 175

قال نبيهم محمد صلى الله عليه و آله، وبما فعل وقرر، وعلموا أنه: وما ينطق عن الهوى* إن هو إلّا وحيٌّ يوحى (1)

.فحينما أذّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الناس بالحج: «... واجتمعوا لحجِّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه أو يصنع شيئاً فيصنعونه، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أربع بقين من ذي القعدة» (2).

هكذا بدأ الحج عند المسلمين، اتباع سُنةِ حبيب اللَّه محمد صلى الله عليه و آله. وهذا سرُّ خلوده وديمومته، فهو كان ومازال صادقاً صافياً، لا تحريف ولا غلو فيه... وهو فرضٌ واجب لمن استطاع إليه سبيلًا، ومن استطاع ولم يحج حجة الإسلام فهو ليس بمسلم، فقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه و آله وآله الأطهار: «من مات ولم يحج حجّة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق معه الحج، أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانياً» (3).

الاستطاعة للحج

الحج في الإسلام فرعٌ من فروع الدين وركن أساس وفرض واجب أوجبه اللَّه تعالى على عباده بشروط خاصة، فمن توافرت فيه الشروط، وجب عليه الحج، ومن وجب عليه الحج ولم يحج فقد كفر، للنص الموجود في القرآن الكريم: وللَّه على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإنَّ اللَّه غنيٌّ عن العالمين (4)


1- 1 النجم: 3- 4.
2- 2 الكافي 4: 245، والتهذيب 5: 454، والوسائل 11: 213.
3- 3 الكافي 4: 268، ومثله في تفسير ابن كثير: 386.
4- 4 آل عمران: 97.

ص: 176

أما الاستطاعة المذكورة في الآية الكريمة فهي:

1- البلوغ: ويعني سنّ التكليف الشرعي وهي 9 سنوات أو 13 سنة على رأي للأنثى و 15 للذكر.

2- العقل: أي لا تجب على المجنون وفاقد الذاكرة وما شابه ذلك.

3- الحرية: أي أن لا يكون عبداً مملوكاً.

4- الزاد: والمراد به قدر الكفاية من القوت والشرب، ذهاباً وإياباً.

5- الراحلة: وهي الوسيلة التي توصله إلى مكة، ذهاباً وإياباً.

6- التمكّن من السير: أي عدم المرض المانع للسير، وأمان الطريق، وعدم منع الحاكم له (1).

وشروط صحة حج الإسلام... فمن كان غير مسلم لا يصح منه الحج ولا يجب عليه... إلّاأن يسلم.

«يجب الحج على المستطيع من الرجال والنساء والخناثي على الفور، وشرط وجوبه البلوغ والعقل والحرية والزاد والراحلة والتمكّن من السير، وشرط صحته الإسلام» (2).

ويجب الحج كذلك بأسباب أخرى كالنذر والعهد واليمين والنيابة والاستئجار والإفساد (3). وبتفصيل أكثر نذكر حجّ الأسباب فهي:

1- النذر: وهو أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمرٍ، يُقال نذرت للَّه أمراً (4).


1- 1 شرائع الإسلام، المحقق الحلي: 224- 229.
2- 2 اللمعة الدمشقية، العاملي: 159.
3- 3 انظر المصدر السابق.
4- 4 المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني: 487.

ص: 177

2- العهد: وسُمِّيَ المَوْثِق الذي يَلزَمُ مُراعاتُه عهداً قال تعالى وأوفوا بالعهد إنّ العهدَ كان مسئولا (1)

.3- اليمين: وهو الحَلِف مُستعارٌ من اليد اعتباراً بما يفعله المعاهِدُ والُمحالف (2) وغيره وهو أن يُقسم باللَّه أن يؤدي الحج للَّه.

4- النيابة: وهو أن يؤدي شخص الحج عن شخص آخر في شروط خاصة.

5- الاستئجار: وهو إعطاء بدل مالي مقابل الحج نيابةً عن شخص آخر.

6- الإفساد: وهو بطلان الحج بترك ركن من أركان الحج أو غير ذلك.

والحج الذي وجب على المكلف بالنذر وغيره مما ذكرناه، لا يجزئ عن حجة الإسلام، فواجبه وفرضه يبقى عليه، وإذا قُيد النذر وغيره في سنة معينة وحصلت الاستطاعة ل (حجة الإسلام) في تلك السنة، يُقدم النذر وغيره على حجة الإسلام وتبقى الاستطاعة إلى السنة الثانية.

والسبب في تقديم النذر و غيره على حجةالإسلام، لأنّ النذر أصبح مانعاً شرعياً، و بما أنّ المانع الشرعي لا فرق بينه وبين المانع العقلي، فقد حجب حجة الإسلام في سنة النذر؛ لذلك تؤجل حجة الإسلام إلى سنة أخرى مع بقاء الاستطاعة (3).

أنواع الحج في الإسلام

الحج لكلّ المسلمين، فريضة أوجبها اللَّه تعالى عليهم، وفي الوقت نفسه راعى عباده في ممارسته وبعض شعائره، فنوّعه عليهم، مراعاة القرب والبعد من الكعبة... فالذين جاوروا الكعبة لهم نوع معين من الحج، والذي يبعد عنها له نوع


1- 1 المصدر السابق: 350.
2- 2 المفردات: 552.
3- 3 اللمعة الدمشقية، باب الحج: 164.

ص: 178

آخر... وهكذا...

هناك ثلاثة أنواع للحج في الإسلام، ولكنها تقع ضمن إطار واحد، فالحج واحد في أصله، ومكانه، وزمانه إلّابعض ممارساته التي تتبع الجغرافية فقط، وهو ليس اختلافاً في الأصل ولا في الطبيعة الواحدة كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما هو اختلاف يتعلق بمكان القاصد للحج (أي بُعد منزله عن الكعبة) لا أكثر ولا أقل، وعلى هذا فسندخل في بيان أنواع الحج في الإسلام وهي:

1- حج الأفراد.

2- حج القران.

3- حج التمتع.

1- 2- حجُّ الإفراد والقران يجبان على أهل مكة، أو من يبعد عنها ستة عشر فرسخاً أي حوالى (86) كم، ويجب في حج الإفراد والقران تقديم الحج على العُمرة.

وسمي (حجُّ قران) لأنَّ الحاج معه الهدي، وينفرد القران بالتخيير في عقد إحرامه بين الهدي والتلبية، واما الإفراد فبهما معاً (1).

وصورة الإفراد: أن يحرم من الميقات أو من دويرة أهله إن كان منزله دون الميقات، ثم يمضي إلى عرفات فيقف بها، ثم يمضي إلى المشعر فيقف به، ثم إلى مِنى فيقضي مناسكه بها، ثم يطوف بالبيت ويصلي ركعتيه، ويسعى بين الصفا والمروة، ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتيه، وعليه عُمرة مفردة بعد الحج والإحلال منه، ويأتي من أدنى الحِل. ويجوز وقوعها في غير أشهر الحج وشروطه النية (2).

أما القارن (حج القرآن) فأفعاله وشروطه كالمُفرد، غير أنه يتميز عنه بسياق


1- 1 انظر اللمعة الدمشقية، باب الحج 1: 172، وشرائع الإسلام، باب الحج ج 1.
2- 2 شرائع الإسلام: 238- 239.

ص: 179

الهدي عند إحرامه. ويجوز للمفرد إدا دخل مكة أن يعدل بنيته إلى التمتع ولا يجوز ذلك للقارن.

3- حج التمتع: وهو فرض من نأى منزله عن مكة أي على ما يزيد بُعده عنها أكثر من (86) كم. ويجب في هذا الحج تقديم العُمرة على الحج.

وسمي بحج التمتع لأن الحاج يتمتع بفترة تحلل، بين العُمرةِ والحج يُباح له فيها ما يحرم على المحرم. ويتكون هذا الحج من عبادتين واجبتين هما (1):

أ- عُمرة التمتع.

ب- حجّ التمتع.

وصورة (حج التمتع): أن يُحرم من الميقات بالعُمرة المتمتع بها، ثم يدخل بها مكة. فيطوف سبعاً بالبيت، ويصلي ركعتيه بالمقام (2)، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعاً... ويُقصر.

ثم يُنشئ إحراماً آخر للحج من مكة يوم التروية على الأفضل، وإلّا بقدر ما يعلم أنه يدرك الوقوف بالمشعر الحرام، ثم يأتي عرفات فيقف بها إلى الغروب، ثم يفيض إلى المشعر فيقف به بعد طلوع الفجر، ثم يفيض إلى مِنى فيحلق بها يوم النحر، ويذبح هديه، ويرمي جمرة العقبة... (3) وحج التمتع أفضل الحج كما سيأتي تفصيله إن شاء اللَّه ونذكر قول الإمام الصادق عليه السلام هنا: «قال: الحج ثلاثة أصناف:

حج مفرد، وقِران، وتمتع بالعُمرة إلى الحج، وبها أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والفضل فيها ولا نأمر الناس إلّابها» (4).


1- 1 انظر اللمعة الدمشقية، باب الحج، أنواع الحج، حج التمتع.
2- 2 المقصود به مقام إبراهيم عليه السلام.
3- 3 شرائع الإسلام، المحقق الحلي، باب الحج: 236.
4- 4 وسائل الشيعة 2: 148.

ص: 180

وقال الفيض الكاشاني: «والتمتع فرض من نأى عن مكة بثمانية وأربعين ميلًا، وليس لهؤلاء غير التمتع عند أصحابنا لنصّ القرآن والصحاح المستفيضة عن أهل البيت عليهم السلام إلّامع الاضطرار كضيق أو طرء الحيض ونحو ذلك. والآخران فرض أهل مكة ومن بينه وبينها دون المسافة المذكورة على التخير بينهما، ولا يجوز لهم العدول إلى التمتع على الأصح إلّامع الاضطرار، فالمتطوع يتخير بين الأنواع الثلاثة، إلّاأنّ الأفضل له التمتع، وكذا الناذر إذا لم يعيّن أحدها، وكذا من له منزلان بمكة وغيرها يتساويان في إقامته فيهما، فإن غلب أحدهما عليه لزمه فرضه، ومن أقام بمكة سنتين فهو من أهل مكة لا متعةَ له» (1).

أفضل الحج

كثرت الأحاديث والروايات والأخبار عن أفضل الحج، نذكر منها ما جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

«أفضل الحج التمتع بالعُمرة إلى الحج، وهو الذي نزل به القرآن الكريم، وقام بفضله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان قد ساق الهدي في حجة الوداع، فلما انتهى إلى مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة نزل عليه ما نزل عليه، فقال: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أسق الهدي ولجعلتها متعةً، فمن لم يكن معه هدي فليحل، فحلَّ الناس وجعلوها عمرةً إلّامن كان معه هدي، ثم أحرموا للحج من المسجد الحرام يوم التروية، فهذا وجه التمتع بالعُمرة إلى الحج لمن لم يكن من أهل الحرم كما قال اللَّه تعالى لأن أهل الحرم يقدرون على العمرة متى أحبّوا، وإنما وسّع اللَّه عزّوجلّ في ذلك لمن أتى من أهل البلدان، فجعل لهم في سفرةٍ واحدةٍ حجةً وعمرةً


1- 1 المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني ج 2، باب الحج: 162.

ص: 181

رحمةً من اللَّه لخلقه ومنّاً عليهم وإحساناً إليهم» (1).

وسُئلَ عليه السلام عن اختلاف الناس في الحج فبعضهم يقول: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مُهلًا بالحج، وقال بعضهم: مُهلًا بالعُمرة، وقال بعضهم: خرج قارناً، وقال بعضهم: خرج ينتظر أمر اللَّه عزّوجل...

فقال أبو عبداللَّه (الصادق) عليه السلام عَلِمَ اللَّه عزّوجلّ أنها حجة لا يحج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعدها أبداً، فجمع اللَّه عزّوجلّ له ذلك كلّه في سفرة واحدة؛ ليكون جميع ذلك سُنّة لأمّته.

فلما طاف بالبيت وبالصفا والمروة أمره جبرئيل عليه السلام أن يجعلها عُمرة إلّامن كان معه هدي، فهو محبوس على هديه، ولا يحلّ لقوله عزّوجل: حتى يبلغ الهدي محله (2)

فجمعت له العُمرة والحجّ.

وكان قد خرج على خروج العرب الأول؛ لأنّ العرب كانت لا تعرف إلّاالحج وهو في ذلك ينتظر أمر اللَّه عزّوجل، وهو يقول: الناس على أمر جاهليتهم إلّاما غيّره الإسلام، وكانوا لا يرون العُمرة في أشهر الحج، فشقّ على أصحابه حين، قال: اجعلوها عمرة؛ لأنهم كانوا لا يعرفون العُمرة في أشهر الحج (3).

أفعال الحج في الإسلام

وللحج في الإسلام أفعال خاصة وشعائر معينة، علّمها ربّ العزّةِ والجبروت لعباده المؤمنين به، الطائعين له عن طريق حبيبه خاتم الأنبياء... وأفعال الحج عند المسلمين وعلى جميع المذاهب هي كالآتي:


1- 1 البحار 99: 138، ودعائم الإسلام 1: 300.
2- 2 البقرة: 196.
3- 3 علل الشرائع: 414.

ص: 182

يُحرِم الحاج البعيد عن مكة من الميقات الذي مرّ به، أو بما يحاذيه، ويشرع بالتلبية، لا فرق في ذلك بين معتمر بعمرة مفردة، أو متمتع، أو مفرد، أو قارن، أما أهل الحرم فيحرمون من منازلهم.

فإذا رأى الحاج البيت الحرام كبّر وهلل- استحباباً-.

وإذا دخل مكة اغتسل- استحباباً أيضاً-.

ثم يدخل البيت، ويستلم الحجر الأسود، ويقبله إن استطاع، وإلّا أشار إليه بيده، ويطوف طواف القدوم- استحباباً- إن كان مفرداً، أو قارناً، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يستلم الحجر، إن استطاع، ويخرج من البيت، ثم يقيم بمكة باقياً على إحرامه، فإذا جاء يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة خرج إلى عرفة، وإن شاء خرج قبله بيوم.

وإن كان معتمراً بعمرة مفردة، أو حاجاً حج التمتع طاف- وجوباً- وصلّى ركعتي الطواف، ثم سعى بين الصفا والمروة، ثم حلق أو قصّر.

ويتحلل حينئذٍ من إحرامه ويُباح له كلّ شي ء حتى النساء.

ثم ينشئ المتمتع إحراماً آخر من مكة في وقت يمكنه فيه أن يدرك الوقوف بعرفة حين الزوال من اليوم التاسع من ذي الحجة، والأفضل الإحرام يوم التروية، وأن يكون تحت الميزاب.

ويتجه الحاج متمتعاً كان أو قارناً أو مفرداً إلى عرفة ماراً بمنى ويبدأ وقت الوقوف بعرفة من زوال اليوم التاسع حتى فجر اليوم العاشر عند الحنفية والشافعية والمالكية.

ومن زوال التاسع إلى غروب شمسه عند الإمامية وللمضطر إلى فجر اليوم العاشر. ومن فجر التاسع إلى فجر العاشر عند الحنابلة.

ويدعو الحاج بعرفة، ويلح بالدعاء والبكاء حين الدعاء- استحباباً- ثم يتجه

ص: 183

الى المزدلفة يصلي فيها صلاة المغرب والعشاء ليلة العيد جامعاً بينهما- استحباباً- باتفاق جميع المذاهب الإسلامية.

ويجب على الحاج المبيت في هذه الليلة بالمزدلفة عند الحنفية والشافعية والحنابلة ولا يجب عند الإمامية والمالكية، ولكنه الأفضل، وفيها يجب الوقوف بالمشعر الحرام بعد طلوع الفجر عند الإمامية والحنفية، ومن المزدلفة يأخذ الحاج سبعين حصاة- استحباباً- ليرمي الجمرات في منى.

ثم يتجه الحاج إلى منى قبل طلوع الشمس من يوم العيد، فيرمي جمرة العقبة متمتعاً كان، أو قارناً، أو مفرداً، ويرميها بين طلوع الشمس وغيابها، ويكبّر، ويسبّح عند الرمي- استحباباً-.

ثم يذبح، إن كان متمتعاً، غير مكي بالاتفاق، ولا يجب على المفرد بالاتفاق، ولكن يستحب، أما القارن فيجب عليه الذبح عند الأربعة (1)، ولا يجب عليه عند الإمامية إلّاإذا صحب معه الأضحية وقت الإحرام، وإذا تمتع المكي وجب عليه الذبح عند الإمامية، ولا يجب عند بقية المذاهب.

ثم يُحلق أو يُقصّر- متمتعاً كان أو قارناً أو مفرداً- ويحلّ له بالحلق والتقصير ما حرم عليه إلّاالنساء عند الحنابلة والشافعية، وإلّا النساء والطيب عند الإمامية والمالكية.

ثم يعود إلى مكة في نفس اليوم، أي يوم العيد، فيطوف طواف الزيارة، ويصلي ركعتيه، ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثمّ يطوف طواف النساء ويؤدي ركعتيه، وبه تحلّ النساء، وهو ما عليه الإمامية.

ثم يعود إلى مِنى في نفس اليوم العاشر، ليبيت فيها ليلة الحادي عشر، ويرمي


1- 1 نقصد المذاهب الإسلامية الأربعة غير الإمامية وهي: الشافعية والمالكية والحنبلية والحنفية.

ص: 184

الجمار الثلاث عند زوال الشمس إلى غروبها.

ثم يفعل في اليوم الثاني عشر ما فعل بالأمس.

وله أن يترك مِنى قبل غروب هذا اليوم بالاتفاق، وإن دخل الغروب، وهو فيها وجب عليه المبيت ليلة الثالث عشر، ورمي الجمار الثلاث في هذا اليوم، وبعد الرمي يعود إلى مكة ويطوف طواف الوداع (1).


1- 1 راجع، اللمعة الدمشقية، كتاب الحج، افعال الحج 1: 179 فما بعدها. وكتاب الحج على مختلف المذاهب، محمد جواد مغنية: 149- 155، وشرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلي ج 1، كتاب الحج، باب أفعال الحج والعمرة.

ص: 185

الحجر الأسود في الركن

ص: 186

أفعال الحج الإسلامي

اشارة

تُقسّم أفعال الحج في الإسلام إلى واجبات والى أركان:

فالواجبات، هي:

1- الإحرام: ولابدّ فيه من النيّة وهو أن يقصد بقلبه إلى أمور أربعة: ما يحرم به، من حجّ أو عمرة متقرباً.. ونوعه من تمتّع أو قِران أو إفراد.. وصفته من وجوب أو ندب.. وما يحرم له من حجة الإسلام أو غيرها (1).

2- الوقوف بعرفات من زوال اليوم التاسع حتى الغروب.

3- المبيت بالمشعر الحرام: ينصرف من عرفة بعد غروب الشمس ليلة العيد، الى المشعر مقتصداً في سيره داعياً إذ بلغ الكثيب الأحمر، ويكون بالمشعر ليلًا إلى طلوع الشمس، واقفاً أم نائماً، ويستحب إحياء تلك الليلة (2).

4- مناسك مِنى ويكون يوم العيد؛ ليقوم بالمناسك الخاصة بمِنى وهي ثلاثة واجبات: الرمي والذبح والحلق أو التقصير. ويجب عليه المبيت في منى ليلتي أو ثلاثة ليالٍ، مقروناً بالنية المشتملة على قصده في النسك المعيّن بالقربة بعد تحقّق الغروب... ويرمي الحجرات الثلاث نهاراً في كلّ يوم يجب مبيت ليلته، ولو بات بغير الرمي فعن كلّ ليلة شاة (3).

* الرمي: وهي من الواجبات ومن مناسك مِنى ويكون البدء بجمرة العقبة؛ ويكون الرمي بالحصى التي جمعها من المشعر (4).

* ذبح الهدي: وتقسيمه ثلاثة أقسام، يجب التصدق بثلثه لبعض المؤمنين،


1- 1 شرائع الإسلام 1: 245.
2- 2 اللمعة الدمشقية، كتاب الحج: 191.
3- 3 اللمعة الدمشقية: 200، وشرائع الإسلام: 274 وما بعدها.
4- 4 المصدر السابق: 195.

ص: 187

وإهداء ثلثه لبعضٍ آخر، ويأكل من الثلث الأخير، وذبح الهدي واجبٌ على المتمتع ولا يجب على غيره (1). ووقته بمنى أربعة أيام أولها يوم النحر (2).

* حلق الرأس أو التقصير: فإذا فرغ من الذبح، فهو مخيّر، إن شاء حلق، وإن شاء قصّر، والحلق أفضل للرجل في حج الصرورة وللمرأة التقصير. ويجب تقديم الحلق أو التقصير على زيارة البيت لطواف الحج والسعي. ولو قدّم ذلك عامداً، جبره بشاة (3).

5- طواف الحج وهو سبعة أشواط.

6- صلاة ركعتي الطواف.

7- السعي سبعة أشواط بين الصفا والمروة.

8- طواف النساء: وطواف النساء واجب في الحج والعمرة المفردة دون المتمتع بها، وهو لازم للرجال والنساء والصبيان والخناثى (4). وهو سبعة أشواط حول البيت الحرام (5).

9- صلاة ركعتي طواف النساء: وهي كركعتي الطواف الركني، في الصورة والكيفية. ويأتي بها بعد الطواف. ولا تصح قبله.

وأما الأركان فهي:

1- الإحرام 2- التلبية 3- الوقوف بعرفة 4- الوقوف بالمشعر الحرام 5- الطواف 6- السعي 7- الترتيب بين الأفعال (6).


1- 1 اللمعة الدمشقية، مصدر سابق، وشرائع الإسلام، مصدر سابق: 259، وما بعدها.
2- 2 شرائع الإسلام: 294.
3- 3 المصدر السابق: 264 وما بعدها، واللمعة الدمشقية: 198.
4- 4 شرائع الإسلام: 271.
5- 5 المصدر السابق.
6- 6 انظر المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني ج 2، باب الحج: 161.

ص: 188

يقول المحقق الحلي: «وأيُّ ركن من هذه الأركان من تركهُ عامداً بطل حجّه، ومن تركه ناسياً قضاه، ولو بعد المناسك» (1).

فالأركان إذن هنّ أساس صحة الحج، وأي خطأ أو إشكال أو تقصير أو نسيان وغيره يوجب على الحاج إما الاستئناف أو القضاء، وهنا نحاول تفصيلها قدر الإمكان:

1- الإحرام وهو لبس اللباس الخاص بالحج، أي الزي الموحد للمسلمين في

هذا الموسم، وهو عبارة عن ثوبين غير مخيطين مما يجوز لبسه في الصلاة يأتزر بأحدهما ويشتمل بالآخر بالنسبة للرجال، أما للنساء فيجوز لهن لبس المخيط مما يستر البدن جميعاً عدا الوجه والكفين، ويكون الإحرام من أحد المواقيت، أي الأماكن التي عينها الرسول صلى الله عليه و آله لأهل المدن القادمين لأداء فريضة الحج، ولا يجوز الإحرام قبل المواقيت أو بعدها إلّافي حالات استثنائية كالنذر ونحوه، وتشير الى هذا رواية الإمام الصادق عليه السلام: «ليس ينبغي أن يحرم دون الوقت الذي وقّته رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأن يخاف فوت الشهر في العُمرة» (2).

فإذا تعدى الميقات دون أن يُحرم منه «لم يصح إحرامه، حتى يعود إلى الميقات ويحرم منه، ولو افترض أن تعذر عليه الرجوع والإحرام من الميقات بعد أن تركه عمداً لم يصح إحرامه وفاقاًللمشهور، بل ربما يفهم من غير واحد عدم الخلاف فيه» (3).

والمواقيت التي وقتها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والتي لا يجوز للحاج تعديها إلّاوهو (مُحرم) هي:


1- 1 علل الشرائع، المحقق الكاشاني 1: 202.
2- 2 التهذيب 1: 461.
3- 3 الجواهر 18: 102.

ص: 189

* ميقات وادي العقيق: ويبعد عن مكة (100) كم تقريباً، وهو ميقات أهل العراق، ونجد، وكلّ من كان طريقه به إلى مكة.

* ميقات يلملم: ويبعد عن مكة (94) كم، وهو ميقات أهل اليمن ومن مرّ به.

* ميقات قرن المنازل: ويبعد عن مكة (94) كم، وهو ميقات أهل الطائف، ومن مرّ به.

* ميقات الجحفة: ويبعد عن مكة (187) كم، وهو ميقات أهل مصر والشام ولمن مرَّ به.

* ميقات ذو الحليفة: وهو مسجد الشجرة، ويبعد عن مكة (492) كم وهو ميقات أهل المدينة، ولمن مرَّ به.

* أما الذي كان منزله في مكة أو من مكان بين الميقات وبين مكة فميقاته من منزله، أي يحرم من منزله (1).

2- التلبية: وهي الركن الثاني من الأركان، حيث لا ينعقد الإحرام لمتمتع

2- التلبية: وهي الركن الثاني من الأركان (2)، حيث لا ينعقد الإحرام لمتمتع

ولا لمُفرد إلّابها، وبالإشارة للأخرس مع عقد قلبه. والقارِن بالخيار، إن شاء عقد إحرامه بالتلبية، وإن شاء قلّد أو أشعر على الأظهر، و بأيهما بدأ كان الآخر مستحباً (3).

وصورةالتلبية: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك» وقيل يضيف الى ذلك، «إنّ الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك» وقيل بل يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك لبيك» والأول الأظهر (4).


1- 1 انظر شرائع الإسلام، باب الحج، المواقيت، واللمعة الدمشقية، باب الحج، المواقيت.
2- 2 المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني 2: 161.
3- 3 المصدر السابق: 245- 246.
4- 4 المصدر نفسه.

ص: 190

3- 4- الوقفان: وهما ركنان واجبان بالاتفاق:

أ- الوقوف بعرفة

وعرفات جبل، وحدوده من بطن عرنة وثوبة ونمرة إلى ذي المجاز، وهذه هي أسماء الأماكن الجغرافية المحيطة بعرفات. ويجزي الوقوف في هذه الحدود الجغرافية بالاتفاق، ففي صحيحة معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقف بعرفات في مسيرة الجبل، فلما وقف جعل الناس يبتدرون اخفاف ناقته فيقفون إلى جانبه، فنحّاها، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيها الناس إنه ليس موضع اخفاف ناقتي الموقف، ولكن هذا كلّه موقف، وأشار بيده إلى الموقف (أي جبل عرفات) وفعل مثل ذلك في المزدلفة» (1).

ب- الوقوف في المشعر الحرام

ويسمى «المزدلفة» وأجمع الفقهاء على وجوب الوقوف فيه؛ لقوله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين* ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللَّه إنّ اللَّه غفورٌ رحيم (2)

.ويقع المشعر أو المزدلفة ما بين المارين إلى وادي محسر، وهو أقرب من عرفات إلى مكة، وكلّ هذه المساحة من الأرض موقف واحد. ويكون الوقوف الشرعي في المشعر الحرام بالتواجد في ذلك المكان مع نية القربة لوقت شرعي محدد. ويقسّم الفقهاء الوقت الشرعي إلى قسمين:

الأوّل: الوقت الاختياري، وهو لغير النساء والصبيان ممن لا عذر له في التأخير، ويتحدد ما بين الطلوعين من يوم العيد وهو اليوم العاشر من ذي الحجة،


1- 1 الكافي 1: 293.
2- 2 البقرة: 198- 199.

ص: 191

أي طلوع الفجر وطلوع الشمس، بشرط أن يستوعب الوقوف هذه الفترة بكاملها.

والثاني: الوقت الاضطراري، وهو وقت النساء والصبيان، ولمن له عذر يمنعه من الوقوف بين الطلوعين، ويمتد من طلوع الفجر إلى زوال الشمس في يوم العيد.

ويستحب التقاط حصى الجمار من المشعر، والاحتفاظ بها إلى مِنى عند الرمي وعددها سبعون حصوة (1).

5- الطواف: والطواف ركن من أركان الحج المهمة لقوله تعالى وليطوفوا

بالبيت العتيق (2)

. وقوله تعالى أيضاً: وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (3)

.ومن سنن الطواف: الاغتسال، وتطيب الفم بالأذخر وهو نبات طيب الرائحة، ودخول المسجد الحرام من باب شيبة، ورفع اليدين عند رؤية البيت، والتكبير والتهليل والدعاء بالمأثور. وقد ورد في الروايات: «من دخل مكة بسكينة غفر له ذنبه» (4).

ويكون الطواف ابتداءً بالحجر الأسود والاختتام به، وأن يجعل البيت على يساره حال الطواف، لا على يمينه، غير مستقبل أو مستدبر، ولو في خطوة واحدة، وأن يُدخِل في الطواف حجر اسماعيل، ويتم سبعة أشواط بلا زيادة و لا نقصان، إجماعاً وللنصوص المستفيضة بل المتواترة (5).


1- 1 اللمعة الدمشقية، كتاب الحج: 192 ج 1، والمحجة البيضاء، كتاب الحج الوقوف بالمزدلفة.
2- 2 الحج: 29.
3- 3 الحج: 26.
4- 4 من لا يحضره الفقيه 1: 73.
5- 5 الجواهر 19: 295.

ص: 192

وعند الانتهاء من الطواف ينبغي للحاج أن يصلي ركعتي طواف الفريضة خلف مقام إبراهيم عليه السلام، للنصّ القرآني: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (1)

.وبذلك «يستدل على أنّ صلاة الطواف فريضة مثل الطواف؛ لأنّ اللَّه أمر بذلك، والأمر في الشرع يقتضي الايجاب، وليس ههنا صلاة يجب أداؤها عنده غير هذه» (2).

6- السعي بين الصفا والمروة: ويأتي بعد الطواف وركعتيه في العمرة

والحج بأنواعهما الثلاثة، والسعي بين الصفا والمروة من شعائر اللَّه تعالى، حيث قال جلّ قوله: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّفَ بهما ومن تطوّع خيراً فإنَّ اللَّه شاكرٌ عليم (3)

.وجاء في صحيحة معاوية بن عمار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: «إذا فرغت من الركعتين فاتِ الحجر الأسود، فقبله واستلمه وأشر إليه، فإنه لابد من ذلك. وإن قدرت أن تشرب من ماء زمزم قبل أن تخرج إلى الصفا فافعل...» (4).

«... ثم اخرج إلى الصفا عن الباب الذي خرج منه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو الباب الذي يقابل الحجر الأسود حتى تقطع الوادي وعليك السكينة والوقار...» (5).

ويتحقق السعي بنية القربة إلى اللَّه تعالى أولًا، ثم الابتداء بجبل الصفا، ثم الاختتام بجبل المروة، ويكون السعي بينهما سبعة أشواط أي أن يكون ذهابه شوطاً، وعوده شوطاً آخر. ولا تجب الموالاة بين الأشواط، فيجوز الاستراحة


1- 1 البقرة: 125.
2- 2 فقه القرآن، الراوندي 1: 273.
3- 3 البقرة: 158.
4- 4 الكافي 1: 284.
5- 5 التهذيب 1: 284.

ص: 193

قبل إتمام السعي، أو الصلاة الواجبة أو نحوها. ويجوز السعي ماشياً أو راكباً (1).

السعي بين الصفا والمروة

7- الترتيب بين الأفعال: اعتبره بعضهم ركناً واجباً من أركان الحج

كالفيض الكاشاني وغيره (2)، والترتيب: هو أن يأتي بكل فعل من أفعال الحج حسب ما عينه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لا يقدم ولا يؤخر، أي لا يأتي مثلًا بالسعي بين الصفا والمروة قبل الوقوفين أو الطواف وهكذا...

تروك الإحرام للحج


1- 1 اللمعة الدمشقية، باب الحج، السعي.
2- 2 وكذلك جاء في اللمعة الدمشقية، مراعاة الترتيب، أي يبدأ بطواف الحج وركعتيه، ثم السعي، ثم طواف النساء، ثم ركعتيه، وهكذا، راجع اللمعة الدمشقية، كتاب الحج: 200.

ص: 194

يترتب على الإحرام للحج (1) تروك، منها محرمات ومنها مكروهات، أما المحرمات فهي عشرون أمراً، وأما المكروهات فعشرة (2). وبيانها كالآتي:

1- 2- حرمة الفسوق والجدال، لقوله تعالى: فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (3)

. 3- حرمة الجماع والاستمتاع بشتى أنواعه، لقوله تعالى فلا رفث.

4- حرمة التطيب وشم الطيب.

5- حرمة الاكتحال بالسواد.

6- حرمة صيد البر.

7- حرمة لبس السلاح.

8- حرمة قص الاظفار.

9- حرمة قطع الشجر والحشيش.

10- حرمة إزالة الشعر، قليله وكثيره. ومع الضرورة لا إثم.

11- حرمة التظليل للرجال وجوازه للنساء.

12- حرمة قتل هوام الجسد، كالقمل والقراد وغيرها.

13- حرمة إخراج الدم إلّاعند الضرورة، وقيل: يكره، وكذا قيل: في حك الجلد المفُضي إلى إدمائه، وكذا في السواك، والكراهية أظهر.

14- وحرمة استعمال دهن فيه طيب، قبل الإحرام وبعده.

15- حرمة عقد الزواج لنفسه ولغيره.


1- 1 وكذلك العُمرة.
2- 2 شرائع الاسلام، مصدر سابق: 248.
3- 3 البقرة: 197.

ص: 195

16- حرمة لبس المخيط للرجال وفي النساء خلاف، والأظهر الجواز.

17- حرمة لبس الخفين وما يستر ظهر القدم. فإن اضطرّ جاز وقيل: يشقها.

18- النظر في المرآة، على الأشهر.

19- وكذلك يحرم لبس الخاتم للزينة، ويجوز للسُنة. ولبس المرأة الحليّ للزينة. وما لم يُعتد لبسه منه على الأولى، ولا بأس بما كان معتاداً لها، لكن يحرُم عليها إظهاره لزوجها.

20- يُحرم تغسيل الُمحرم لو مات بالكافور (1).

هذا بالنسبة للمحرمات على الُمحرم، أما المكروهات فهي ما يلي:

1- الإحرام في الثياب المصبوغة بالسواد والعُصفُر وشبيهه، ويتأكّد في السواد.

2- يكره النوم فيها.

3- ويكره الإحرام في الثياب الوسخة وإن كانت طاهرة.

4- يكره لبس الثياب المُعلَمة.

5- يكره استعمال الحنّاء للزينة.

6- يكره النقاب للمرأة على تردد.

7- يكره دخول الحمام.

8- يكره تدليك الجسد في الحمام.

9- يكره تلبية من يناديه.

10- يكره استعمال الرياحين (2).


1- 1 شرائع الإسلام، كتاب الحج: 249- 251، واللمعة الدمشقية. ج 1: 181/ ط مكتب الاعلام الإسلامي 1371.
2- 2 المصدر السابق: 251- 252، واللمعة الدمشقية 1: 181.

ص: 196

ص: 197

ص: 198

ص: 199

الفصل الثامن: أهمية الحج في الإسلام وأفضليته

أ- أهمية الحج في الاسلام

اشارة

للحج في الاسلام أهمية عظمى، وهو فريضة وركن من أركان الدين الإسلامي الحنيف، وركنيته ثابتة في جميع المذاهب الإسلامية، فقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه و آله: «بُني الإسلام على خمس: شهادة لا إله إلّااللَّه وأنّ محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (1). وقد جاء عن الامام الصادق عليه السلام قال: «بُني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم والولاية...» (2).

ولهذا فقد حظي هذا الركن بأهمية بالغة وعظيمة في كلّ أبعاده المادية منها والمعنوية، الروحية والعملية، في كلّ أحكامه ومناسكه ومعارفه وآثاره النفسية- الفردية والاجتماعية- ولذا فإنّ الدين الإسلامي يحتم على المسلم في قبول حجّه، أن لا يكتفي بمعرفة أحكام الحج ومناسكه ومواقفه وكيفيته فحسب، بل


1- 1 صحيح مسلم، بشرح الامام النووي 1: 177.
2- 2 وسائل الشيعة 1: 13.

ص: 200

ينبغي له التعرف على ما يترتب على تلك المناسك من التزامات روحية وأخلاقية لنفسه ولغيره، وعندئذ سيكون الحج مظهراً يجسد الايمان الحقيقي عبادةً وعملًا وقولًا، وصورةً رائعةً من صور الكمال الايماني والجمال الروحي، التي لو طبقها الانسان المسلم في كلّ لحظات حياته لأصبح من عباد اللَّه الُمخلصين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

إذن، فالحج يصنع من الانسان عبداً متكاملًا صافياً نقياً، فهو:

1- يعمق ارتباط العبد باللَّه تعالى.

2- وهو عبادة وتربية.

3- وهو مؤتمر عالمي يلتقي فيه المسلمون على ما بينهم من اختلافات.

4- والحج باب لطف لغفران الذنوب.

5- وهو يحقق المساواة.

ومع كلّ ذلك، فالحج يرسم لنا صورة مصغرة ليوم الحشر، وصورة لمناسك الحياة بشكل عام... ويرسم لنا جملة من الفرائض المتعددة الأبعاد ترتبط بالحياة الفردية والسلوكيات الاجتماعية التي تؤثر في النفس والفكر الانساني وتهبه، لو أدّاها على أكملها، سمة كمالية تميزه في أبعاد حياته الخاصة والعامة.

إضافة إلى ذلك، فالحجّ فيض هدى ورشاد، وسيل فوائد ومنافع، وسياج عزة ومنعة، وتجسيد وحدة الانسانية، وتحقق أسمى ما تصبو إليه البشرية، وأعلى ما تسعى إليه، من تطبيقات التحرر والمساواة، والعدالة والأمن والرخاء، والاستقرار والازدهار.

وقد جاء في الحديث عن أهل البيت عليهم السلام: «من أراد دنيا وآخرة، فليؤم هذا البيت» (1).


1- 1 غوالي اللّآلئ العزيزية، ابن أبي جمهور الاحسائي 1: 427، مطبعة سيد الشهداء، قم، ايران.

ص: 201

الحجّ يعمّق الارتباط باللَّه

قيمة الحج الكبرى أنه يربط الانسان باللَّه تعالى ربطاً لا مثيل له، فهو في بيته، بين يديه، تحت رحمته...

وقيمته الكبرى أيضاً، إنما يُذكر الإنسان، هذا المخلوق الغارق في مشاغل الدنيا، يُذكره بيوم الحشر، يوم يجتمع الناس ضعافاً شاخصين إلى ربّ عظيم، يرجون رحمته...

فالحاج يرى هذه الجموع الغفيرة، خائفةً جميعاً من بارئها، بسبب ما ارتكبته من المعاصي والذنوب، وهي الآن في بيته، تطلب العفو والتوبة، هذه الجموع التي هي ضيوف خالق الخلق بارئ الكون فتأخذها الرهبة والخوف، يزيدها المنظر خوفاً ورهبةً وارتباطاً وإيماناً وقرباً من اللَّه تعالى ..

لقد جاءت هذه الجموع برحلة الروح والجسد، زادها التقوى التي أمر بها اللَّه تعالى .. أولي القلوب الواعية والعقول الفذة، وقد وصفهم اللَّه تعالى بأنّهم: الذين يخشونَ ربّهم ثم تلين جلودُهم وقلوبُهم إلى ذكر اللَّه ذلك هُدى اللَّه يهدي به من يشاء (1)

.فالحاج بمجرّد أن يحسّ أنه في بيت اللَّه، بيت خالقه وبارئه، يكفيه أن يعيش القرب الإلهي، ثم أصوات الملبين والمكبرين والمهللين، تجعله يخشى ويلين، والآية أعلاه تقول ذلك هو الهدى أن يتأثر الانسان بموقف الجموع الغفيرة التي تعبُد اللَّه وحده مخلصين له الدين، تنادي باسمه وتناجي للوصول إلى قربه، تطلب التوبة والغفران والعفو بأصوات عالية، وقلوب وجلة ودموع هامرة، هذا المنظر المهيب


1- 1 الزمر: 23.

ص: 202

يجعل في شعوره عظمة اللَّه وجلاله، ويجره إلى القرب من الخالق العظيم الكامل المتعال؛ ليستمد منه القوة والكمال لروحه وبدنه في هذه الرحلة السنوية أو رحلة العمر...

فالحج ليس مجرّد حركات وأعمال وألفاظ يؤديها الحاج، بل هي تقرب الحاج الى صاحب البيت، إلى المضيّف الكامل والاتصال الروحي والنفسي والمعنوي به «إنّ فلسفة الحج هي رؤية صاحب البيت، ولابُدَّ من أن يوجّه الحركات والأعمال التي تؤدى هناك في هذا السبيل» (1).

صورة للطائفين والخاشعين

قال تعالى ويذكروا اسم اللَّه في أيام معلومات (2)


1- 1 ميقات الحج، مجلة اسلامية، العدد الأول: 71.
2- 2 الحج: 28.

ص: 203

وقال تعالى وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (1)

.والحج إضافةً إلى ما ذكرنا يصقل النفوس ويعلمها التواضع ويزيل عنها ال (أنا)، يقول الإمام الصادق عليه السلام:

«ما للَّه عزّوجلّ منسك أحبّ إلى اللَّه من موضع السعي وذلك أنه يذل فيه كلّ جبّار عنيد» (2).

الحج عبادة وتربية

الحج في الإسلام ليس مجرّد عبادة وارتباط باللَّه تعالى فقط، وإنما هو إضافة الى ذلك، سبيل إلى السلوك القويم والتربية الصالحة التي تصبّ في طريق اللَّه القويم...

وهو تربية لسلوك الفرد وتهذيب نوازعه، ففي الحج يتعود الحاج الصبر، وتحمل المشاق، وحسن الخلق، والتواضع، واللين، وحسن المحادثة، والكرم، والتعاطف، والامتناع عند الكذب والغيبة والخصومة والجدال والتكبر وغيرها، وتنمو عند الحاج الروح الاجتماعية... قال تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (3)

.فكما جعل اللَّه تعالى الكعبة قياماً للناس، فكذلك جعل لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الإحرام إليها... «وترك الرفث والفسوق والجدال كما نطق به القرآن، والرفث اسم جامع لكلّ لغو وخنى وفحش من الكلام ويدخل فيه مغازلة النساء (4) ومداعبتهنّ والتحدث بشأن الجماع ومقدماته، فإن ذلك يهيج داعية


1- 1 الحج: 26.
2- 2 وسائل الشيعة، العاملي 2: 329.
3- 3 البقرة: 197.
4- 4 الخنى: الفُحش، والمغازلة: المحادثة والمراودة.

ص: 204

الجماع المحظور والداعي إلى المحظور محظور، والفسوق اسم جامع لكلّ خروج عن طاعة اللَّه، والجدال هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ويفرق في الحال المهمة ويتناقض وحُسن الخُلق، وقد جُعل في الحديث طيب الكلام مع إطعام الطعام من برّ الحج، والمماراة تناقض طيب الكلام، فلا ينبغي أن يكون كثير الاعتراض على رفيقه وجمّاله وعلى غيرهما من أصحابه، بل يلين جانبه، ويخفض جناحه للسائرين إلى بيت اللَّه، ويلزم حُسن الخُلق، وليس حُسن الخلق كفّ الأذى بل احتمال الأذى وقيل: سمّي السفر سفراً؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال، ولذلك قيل لمن زعم أنه يعرف رجلًا: هل صحبته في السفر؟ فقال: لا، فقال: ما أراك تعرفه» (1).

وقال اللَّه تعالى جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس (2)

.فالدين الإلهي متبلور في المجاهدة لا غير، وجهاد الأعداء قيام، والتسليم لهم أو الفرار منهم قعود وعجز، فالقيام في هذه الآية يعني المقاومة والاستقامة، لا الانتصاب البدني... فجعل اللَّه تعالى العامل الهام لقيام الناس هو جعل الكعبة يُستقبل إليها، ويحجّ بمناسكها ويُطاف حولها و «النظرُ إلى الكعبةِ عبادة» (3).

ويعدّ الحج ميثاقاً وعهداً إلهيّاً يتشرف به العبد، حيث الدعوة من اللَّه على لسان خليله ابراهيم عليه السلام وحبيبه محمد صلى الله عليه و آله، والتلبية لهذه الدعوة تكون من العبد المطيع للَّه وللرسول، فالحج بماله من أسرار ورموز عظيمة يورث الخلق العظيم، ومن هذه الأسرار والرموز، الدعوة للضيافة لبيت اللَّه من الرب إلى العبد، والتلبية من العبد إلى الربّ، ثم المراسم الخاصة والعامة التي يقوم بها العبد التي يعلم سرّها


1- 1 المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني ط بيروت 2: 191- 192.
2- 2 المائدة: 97.
3- 3 وسائل الشيعة 8: 40.

ص: 205

ويثيب على رمزها ومعانيها خالق العباد...

يقول الراغب الأصفهاني: جعل اللَّه الكعبة قياماً أي قواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم» (1).

ويُقال: إنّ من علامة قبول الحج ترك ما كان عليه من المعاصي، وأن يستبدل بإخوانه البطّالين إخواناً صالحين، وبمجالس اللّهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة (2).

الحج مؤتمر عالمي كبير

لكي يكون المسلمون كتلة واحدة، كتلة قوية متماسكة، لابدّ من اجتماع كبير يجمع القاصي والداني، والغني والفقير، والعالم والجاهل، فالاجتماع على هذه الصورة الضخمة يعطي صورة كبيرة ومهمة، وجليلة لقوة الإسلام والمسلمين، وكلّ الاجتماعات الأخرى كاجتماع صلاة الجمعة والعيدين وغيرها من المناسبات لا تعادل ذلك الاجتماع الكبير العام، اجتماع الناس في مكة المكرمة والكعبة الشريفة «بيت اللَّه» في يوم الحج الأكبر.

إنّه يوم عظيم وفرصة نادرة ومزيدة لالتقاء المسلمين على اختلاف مللهم ونحلهم على أرض واحدة، وأي أرض؟! أرض مكة وفي بيت اللَّه بالذات، ولا يمكن تصور هذه الحالة إلّامؤتمراً عالمياً شاملًا كبيراً...

ولا شك أنّ لهذا المؤتمر الضخم دوراً آخر غير الأدوار المحلية الكثيرة، التي يعيشها المسلم ويمارسها في حياته العامة، فمن خلاله يستطيع أن يرفع ظلاماته أمام الآخرين، أمام المسلمين أنفسهم، وأمام العالم كلّه في الوقت نفسه...


1- 1 المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني: 417.
2- 2 المحجة البيضاء، مصدر سابق: 196.

ص: 206

وكمثل على ذلك، القضية الفلسطينية ومأساتها الكُبرى وعبث الصهاينة في مقدسات المسلمين، فأي مكان أفضل من مكة والكعبة الشريفة أن تحمل هذه القضية وتنطلق منها إلى كلّ العالم؟! وأيُّ مكان أفضل من مكان الحج لعرض المسلمين مشاكلهم وتداولها من واحد إلى آخر؟!

وفي هذه الفرصة السنوية المقدسة يستطيع المسلمون طرح وجهات النظر الفكرية، والاجتهادات العبادية، وحلّ الخلافات الداخلية للتقريب بين المذاهب، ووجهات النظر المختلفة في سبيل خلق أمة متحابة متعاونة على البر والتقوى

ولذلك فستكون كلمة الحاج أقوى وأكثر تأثيراً في النفوس من أي كلمات انطلقت من مؤتمرات أو مناسبات أخرى .. وهذا ما يضفي على عمومية الحج نوعاً من الشمولية والعالمية والخصوصية ما لم نجدها في أي مؤتمر في الدنيا... فهو- مؤتمر الحج- فريد في نوعه وفي شعائره وأهدافه وغاياته ورموزه ومغازيه...

الحج باب لطف للتوبة وغفران الذنوب

ألطاف اللَّه تعالى أكثر من أن يتصورها إنسان، وأن يستوعبها عقله القاصر... وهنا نقف على بابٍ عظيم من أبوابه وهي: باب غفران الذنوب، وباب التوبة، وإحدى جادات هذا الباب وأعظمها هي جادة الحج الأكبر، وقد كثرت الأحاديث والروايات عن الرسول صلى الله عليه و آله وعن آله الأطهار في هذا المجال، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه و آله، أنه قال: «أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفة، وظنَّ أنّ اللَّه لم يغفر له» (1).

هذا الحديث يؤكّد حتمية غفران ذنوب من دعا اللَّه الغفران على أرض وجبل عرفات.


1- 1 الفقيه 2: 137 ح 587، والوسائل 13: 547، ح 18407.

ص: 207

وقال الإمام علي عليه السلام في حتمية غفران ذنوب الحاج في الحج: «من حجَّ ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (1).

وعن الرسول صلى الله عليه و آله يبين أقل ما يحصل عليه الحاج، يقول صلى الله عليه و آله: «من أيسر ما يعطى مَنْ ينظر إلى الكعبة أن يعطيه اللَّه نظرة حسنة وتمحى عنه سيئة، وترفع له درجة» (2). وأيضاً: «لا يزال على الحاج نور الحج ما لم يذنب» (3).

وعن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى ففروا إلى اللَّه إنّي لكم منه نذير مبين قال عليه السلام: يعني: «حجّوا إلى اللَّه» (4). واستغفروا ذنوبكم، وقال الإمام علي عليه السلام: «ما من مُهلٍّ بالتلبية إلّاأهلَّ من عين يمينه من شي ء إلى مقطع التراب ومن عن يساره إلى مقطع التراب، وقال له الملكان ابشر يا عبداللَّه وما يبشّر اللَّه عبداً إلّا بالجنة، ومن لبّى في إحرامه سبعين مرّةً إيماناً واحتساباً أشهد اللَّه له ألف ملك ببراءة من النار وبراءة من النفاق، ومن انتهى إلى الحرم فنزل واغتسل وأخذ نعليه بيده، ثمَّ دخل الحرم حافياً تواضعاً للَّه عزّوجلّ محا اللَّه عنه مائة ألف سيئة، وكتب اللَّه له مائة الف حسنة، وبنى له مائة ألف درجة، وقضى له مائة الف حاجة، ومن دخل مكة بسكينة غفر اللَّه له ذنبه، وهو أن يدخلها غير متكبر ولا متجبر، ومن دخل المسجد حافياً على سكينة ووقار وخشوع غفر اللَّه له، ومن نظر إلى الكعبة عارفاً بحقها غفر اللَّه له ذنوبه وكفى ما أهمّه» (5).

وهناك روايات كثيرة تؤكد أنّ الحج هو خير مكان لغفران الذنوب ومحوها،


1- 1 غوالي اللّآلئ العزيزية، ابراهيم الاحسائي 1: 426 ح 113، مطبعة سيد الشهداء، قم، ايران، والمستدرك، كتاب الحج، باب 24 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
2- 2 وسائل الشيعة 9: 365.
3- 3 سفينة البحار 1: 211، الشيخ عباس القمي.
4- 4 المصدر نفسه.
5- 5 المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني 2: 148.

ص: 208

يطيل بنا الحديث لذكرها...

وما أحوجنا- نحن البشر المذنبين- إلى اللجوء إلى هذا المكان العظيم الذي يطهرنا ويزكينا... إلى المكان الذي تظلِلُهُ القدسية والنفحات السماوية... وأبواب اللطف الإلهية، نتقرب فيها ونطلب العفو والتوبة والغفران ونتوجه ونتوسل وندعو ونلحُ بالدعاء في فرصة العُمر الثمينة.

الحج مظهر لوحدة الأُمة وأخوّتها

الحاج يشعر أنه يتقرب إلى اللَّه تعالى بعبادة جماعية مع إخوانه المسلمين التي تربطه وإياهم رابطة الدين والانسانية، وهذا يعني أنّ الحج يلغي الامتيازات والمفاخرات الشخصية والقومية، ويجمع الأمة في إطارٍ واحدٍ، ويظهرهم بمظهرٍ واحدٍ وأفعالٍ واحدةٍ وأعمالٍ مشتركةٍ، وتحت لواءٍ واحدٍ، لواء التوحيد والعبودية للَّه الواحد لا شريك له، فكلّهم يرددون: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».

وهذه العبادة الجماعية والشعبية تجمع الملك والخادم، السيد والعبد، الغني والفقير، الأبيض والأسود، الطويل والقصير، تجمعهم كلّهم تحت راية لا إله إلّااللَّه محمد رسول اللَّه والقرآن كتاب اللَّه... كلّ هذه المشتركات تجمعهم في أحبّ بقاع اللَّه إلى اللَّه تعالى «إن الأرض برحبتها مسجد طهور... وكان الانسان من أقدم الدهور يعبد اللَّه سبحانه في أي قطر من أقطار الأرض كان، إلّاأنّ أول موضع اختصّ للتعبد الشعبي والخضوع الجماعي للَّه هو البيت الذي قد أُسس في مكة المكرمة على التوحيد، حيث قال تعالى إنّ أول بيت وضع للناس......» (1).


1- 1 الحج حكمة ورموز، تحقيق: مظفر الاسلام خان، المعهد الاسلامي- لندن: 33، بحوث الندوة الدولية عن الحج، عام 1982.

ص: 209

وعلى هذا يكون مكان الحج الإسلامي من أفضل المقدسات الاسلامية لاجتماع الأخوة والغرباء والبعداء المسلمين؛ لأنّ مناسكه وشعائره وتعاليمه تساوي فيما بينهم، وتجعلهم كتلة واحدة في الحقوق والواجبات... و «الإطار الاجتماعي لأعمال الحج ومناسكه، يدفع الأفراد نحو التماسك والتعاون الذي يتحول لاحقاً لبنةً من لبنات الدولة الإسلامية العالمية، ولا شك أنّ النشاطات الشرعية للحج الإسلامي إنما تساعد جميع الأفراد على كسر طوق الانعزال الاجتماعي والغربة الانسانية التي نلاحظ مساوئها النفسية في عالم اليوم...» (1).

ومناسك الحج هي مناسك الحياة، وعلى الأُمة الإسلامية بمختلف قومياتها أن تصبح إبراهيمية؛ لتلتحق بركب أُمة محمد صلى الله عليه و آله وتكون واحدة ويداً واحدة (2).

فالحج الإسلامي يولد شعوراً لدى الفرد الإسلامي الحاج المندمج بمناسكه وأفعاله بالوحدة الكونية للخلق والمخلوقات، ويشعره أنّ الخلق كلّهم خلقوا لهدف واحد وغاية واحدة، عندما يرى الكلّ يطوف ويدور ويسعى وينحر ويتحرك طائعاً لخالقه، وكأن الموقف يوحي إليه أنّ خلق اللَّه قد حشروا جميعهم للحساب والجزاء.

الحج يحقق المساواة

خُلق الانسان اجتماعياً، يحب أبناء جنسه، فهو اجتماعي بالفطرة، يحب الاختلاط مع نظائره، ولا يتحقق هذا الأمر إلّابسقوط الفوارق الوضعية، وبسقوطها يأنس مع من تساوى معهم في الملبس والمنطق والدين والعقيدة، ويأنس أكثر عندما يتساوى معهم بالغُربة عن الأهل والوطن، بعيداً عن تربته


1- 1 الأبعاد الاجتماعية لفريضة الحج د. زهير الأعرجي: 141.
2- 2 ميقات الحج/ مجلة إسلامية العدد 1: 71.

ص: 210

ومأواه، يلقى الذي يناظره، متجهاً إلى مقصدٍ يقصده هو أيضاً، مدعواً من قِبل ربّ العزةِ والجبروت، خالق الخلق، جبار السموات والأرض، إلى بيته؛ ليساويهم في المظهر والجوهر، ليغفر ذنوبهم ويكفّر عنهم سيئاتهم ويجعل فيهم القوة والغلبة أمام أعدائه وأعدائهم، ولينصرهم أمام شياطين الإنس والجن...

والحج خير دورة تدريبية إنسانية، تدرب المسلم على روح المساواة والشعور بالتواضع، والتخلي عن الأنا، فهو في هذه الدورة لا يلبس ملبساً أفضل من ملبس اخوانه المسلمين، ولا يتحدث بألفاظ أفضل وأبلغ منهم، فالذكر والتلبية يتلفظها الجميع بلغة واحدة، ولا ينظر إلى فخامة بيته وسيارته فهو يهرول على رجليه، حاله حال البقية، بعيداً عن الكرسي والمنصب والجاه والأموال والبنين والزخارف وما إلى ذلك مما يميزه عنهم... ها هو يتساوى معهم، ويا ليته يتخرّج من هذه الدورة المكثفة في تعاليمها وتربيتها، وهو يحمل روح العمل والتطبيق بما أخذ من المفاهيم في (الدورة الإلهية)، هذا ما يقرّره الحاج نفسه أن يختار تطبيق تعاليمها أو يضربها عرضاً كأنّ شيئاً لم يكن، يخرج منها صفر اليدين، ويرجع إلى ما فرضته الحياة عليه من المغريات واللذات، وما كان عليه قبل أدائه لهذه الفريضة العظيمة... وما كان عليه من التكبر والغرور والتمييز والعنصرية وما إلى ذلك...

وفي الحج يتحقق مفهوم الآية الكريمة: يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللَّه اتقاكم (1)

.وعلى هذا تتحقق المساواة الحقيقية في الحج، ولعلّه أفضل مكان لهذه المساواة التي تفتقر إليها كثير من الشعوب، فالحاج المسلم يشعر بأروع مظاهر المساواة والتواضع والأخوة والإنسانية بإلغاء الفوارق والأزياء وخلع أسباب الظهور الاجتماعي، والظهور باللباس العبادي الموحد، حيث يحسّ الجميع بوحدة النوع


1- 1 الحجرات: 13.

ص: 211

الانساني، وإسقاط الحدود التي صنعتها الأنانيات والأطماع البشرية: الإقليمية، والقومية، والعنصرية، فهم اليوم متساوون في كلّ شي ء، في التكاليف والواجبات، وفي كلّ الفعاليات لا فرق بينهم، سوى القبول وعدم القبول التابع لنية الحاج وقصده في الحج.

ب- أفضلية الحج في الإسلام

اشارة

على الرغم من أنّ الحج فريضة من الفرائض الإسلامية الكبيرة، وفرع ضمن عدد من فروع الدين العديدة، من يؤده يؤدِ واجباً إسلامياً عظيماً، يكسب به جنان اللَّه تعالى ومرضاته، ومع كلّ ذلك، يمتاز الحج على غيره من الفرائض والفروع بمميزات كثيرة ذكرنا بعضها في فصول سابقة، وستأتي أيضاً في ثنايا الفصول اللاحقة بإذنه تعالى ..

وقد وردت روايات وأحاديث شريفة كثيرة تفضله على كثير من الفرائض...

روايات في أفضليته على أهم فريضتين إسلاميتين هما الصلاة والصوم، وروايات وأحاديث أخرى تؤكد أن الذي يحج إلى بيت اللَّه العتيق، تعتق رقبته من نار جهنم وما أدراك ما نار جهنم، وإنّ هذه الفريضة... إضافة إلى الثواب الأخروي تضع المكلف في موضع كريم في الحياة الدنيا، فتخرجه من حالة الفقر، الحالة التي قد تؤدي إلى الكفر كما ورد في الروايات الشريفة، تُخرجه إلى حالة الغنى ..

وبالتالي فالحج كما ورد في الروايات أفضل تجارة يتاجر بها الانسان مع ربّه ليشتري بها الدنيا والآخرة، وأي تجارة أفضل من التجارة مع اللَّه عزّوجلّ؟! وأي ربح سيقدمه الباري تعالى إلى الذاهب لبيته الطالب عفوه ورضوانه وجنته ونعيمه الأبدي الخالد؟!

ص: 212

الحج تجارة حقيقية... بل هو أعظم فرصة لمن يريد التجارة، ويريد المزيد...

فهي تجارة أخروية تبعده عن مشاكل التجارة الدنيوية وحلالها وحرامها ومشاكلها وشبهاتها التي لم يسلم منها تاجر دنيوي طالب لها حتى وإن جهد في تجنب مزالق الخطأ والحرام... إنّ طمع الدنيا قريب من القلوب يجرّ الإنسان جرّاً إليه، ويبعده عن ربّه...

فما بالنا وباب التجارة مع اللَّه العلي القدير مفتوح على مصراعيه؟! وما بالنا لا ندخله، من خلال الذهاب إلى بيته وحضرته وألطافه التي لا تُعدّ ولا تُحصى !

لقد جاء الحج رحمة إلى عباد اللَّه... فهو دنيا وآخرة... وهو حقّ ونور وأفضل من كثير من عبادات اللَّه تعالى بل يجمع بين كلّ العبادات المكلف بها الإنسان في حياته، وقد ثبت ذلك فعلًا وعملًا، وبالنصوص والروايات والأحاديث الكثيرة الواردة الينا وليس ذلك كلاماً خرافياً...

ومن هنا تميز الحج عن غيره من العبادات، ومن هنا جاءت أفضليته وفضيلته وإشعاعه الوهاج الذي غطّى على كثير من الفرائض الإسلامية والواجبات الدينية فهو:

1- أفضل من الصلاة والصوم، كما نصّت الروايات على ذلك.

2- وهو يعتق الرقبة من النار.

3- ويُخرج المكلف من الفقر وآفاته.

4- وهو أفضل تجارة يتاجر بها العبد مع ربّه وخالقه.

وسنأتي على تفصيلها واحدة واحدة إن شاء اللَّه...

الحج أفضل من الصلاة والصوم

الصلاة والصوم من الأركان المهمة في الإسلام ومن مباني الدين الإسلامي

ص: 213

وقواعده، فقد جاء في الأحاديث الشريفة والروايات عن الصلاة، أنها عمود الدين وعصام اليقين وسيدة القربات وغُرّة الطاعات إن قُبلت قُبِلَ ما سواها وإن رُدت رُدّ ما سواها، وجاء عن الصيام أنه تميز بخاصية النسبة إلى اللَّه تعالى من بين سائر الأركان الدينية الإسلامية، إذ قال اللَّه تعالى فيما حكاه عنه نبيه محمد صلى الله عليه و آله: «كلّ حسنة بعشرِ أمثالها إلى سبعمائه ضعف إلّاالصيام فإنه لي وأنا أُجزي به» (1).

وهناك الكثير جدّاً من الآيات والروايات والأحاديث الشريفة التي تؤكّد وتبين فضيلة هذين الركنين المهمين في الإسلام، لا يسعنا ذكرها، بل نستفيد منها كيف صار الحج أفضل بعد (23) عاماً من تَعبد المسلمين بالصوم والصلاة، حتى جاء الإذن بالحج في عام (10) ه، ليكون أفضل من هاتين العبادتين!

الحديث الشريف يقول: «إنّ الحج أفضل من الصلاة والصيام» (2) نتساءل هنا لماذا هو أفضل منهما؟ يجيبنا الحديث الشريف: «لأنّ المصلي إنما يشتغل عن أهله ساعة، وأنّ الصائم يشتغل عن أهله بياض يوم، وأنّ الحاج يشخص بدنه، ويضحي نفسه، وينفق ماله، ويطيل الغيبة عن أهله ولا في مالٍ يرجوه ولا إلى تجارة» (3).

ونضيف إلى ذلك أنّ عبادة الحج عبادة جماعية والعبادات الجماعية أفضل من العبادات الفردية في كثير من الأحيان، كصلاة الجماعة وصلاة الجمعة وصلاة العيدين، والدعاء مع الجماعة وغيرها.

الحج يُخرج المكلف من الفقر

من شروط الحج: الاستطاعة المالية، وعُشاق بيت اللَّه الحرام في سعيٍ دائم وراء توفير تلك الاستطاعة، وهم يعلمون أنّ اللَّه تعالى من خلال حجّهم لبيته


1- 1 المحجة البيضاء، مصدر سابق 2: 121.
2- 2 الفقيه: 209، تحت رقم 70.
3- 3 المصدر نفسه.

ص: 214

الحرام سيخرجهم من الفقر والعوز إلى غِنى الدُنيا والآخرة.

وإنَّ رمز ومغزى الاستطاعة المالية، تشجع الأفراد على العمل الجاد من أجل التحصيل المالي والاكتفاء، وهذا يكسبهم مَلكة العمل ويبعدهم عن الكسل والخمول والاعتماد على الغير، بل يكون محفزاً ومشجعاً للعمل الجاد في سبيل توفير ما يتطلبه الحج والسفر إلى بيت اللَّه الحرام...

وقد جاء في الحديث الشريف: «إنّ من حجَّ ثلاث حجج لم يصبهُ الفقر أبداً، وأيما بعير حجَّ عليه ثلاث سنين جُعل من نعم الجنة- روي سبع سنين-» (1).

والحج سببٌ في قضاء الدَّيْن، فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن رجل ذي دَيْن، يستدين ويحجُّ؟ فقال عليه السلام: نعم هو أقضى للدين» (2).

وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

الحجُّ والعُمرة ينفيان الفقر كما ينفي الكير خبث الحديد، قال معاويه: فقلتُ: حجّةٌ أفضل أو عتق رقبة؟ قال: حجّةٌ أفضل، قلتُ: فثنتين؟ قال حجّةٌ أفضل، فلم أزل أزيد ويقول: حجّةٌ أفضل حتى بلغتُ ثلاثين رقبة، فقال حجّةٌ أفضل» (3).

ومما يدلُ على أنّ الحج يخرج الانسان من الفقر إلى الغنى حديث الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن إسحاق بن عمّار...

قال إسحاق بن عمّار قُلتُ لأبي عبداللَّه الصادق عليه السلام: إني وطّنتُ نفسي على لزوم الحج كلّ عام بنفسي أو برجل من أهل بيتي بمالي، فقال وقد عزمتَ على ذلك؟ قلتُ: نعم، قال: إن فعلتَ ذلك فأيقن بكثرة المال وأبشر بكثرة المال» (4).


1- 1 المحجة البيضاء نقلًا عن الفقيه: 208 تحت رقم 48 و 49.
2- 2 المصدر السابق نفسه، نقلًا عن الفقيه: 262 تحت رقم 5.
3- 3 التهذيب 1: 448.
4- 4 المحجة البيضاء، مصدر سابق، نقلًا عن الفقيه: 208 رقم 52.

ص: 215

الحج يعتق الرقبة من النار

الانسان ملي ءٌ بالذنوب نتيجة ما يرتكبه من المعاصي والآثام، وقد قيدت هذه الذنوب رقبته بسلاسل من نار جهنم التي أُعدت للمذنبين، لكنَّ اللَّه تعالى الرؤوف الرحيم جعل مقابل هذا باب لطفٍ ورحمة وهي بابُ غُفران الذنوب والتوبة والعفو كما ذكرنا سابقاً، وإذا تاب اللَّه عزّوجلّ عن عبده المذنب حُلّتْ رقبته من النار، وخير مكانٍ وأفضل فرصة لهذا العبد أن يحلَّ رقبته في موسم الحج إلى بيت اللَّه العتيق الذي يعتق الرقاب من النار كما جاء في معنى البيت العتيق على لسان أهل اللغة (1).

قال الإمام الصادق عليه السلام: «من حجَّ حجّة الإسلام فقد حلَّ عقدة من النار من عنقه، ومن حجَّ حجتين لم يزل في خير حتى يموت، ومن حجَّ ثلاث حجج متوالية ثم حجَّ أو لم يحج فهو بمنزلة «مُدّ» من الحج» (2).

وعنه عليه السلام أيضاً انه قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها إلّا الوقوف بعرفة» (3).

وفي فضيلة النظر إلى الكعبة في أداء الحج والعُمرة ومحو السيئات والذنوب، قال عليه السلام أيضاً: «إنّ من نظر إلى الكعبة لم يزل يُكتب له حسنة ويمحى عنه سيئة حتى يصرف ببصره» (4).

وجاء في الدعاء عن رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله وأهل بيته الأطهار: «فإذا بلغت مقابل الميزاب قل: اللهم أعتق رقبتي من النار، ووسّع عليَّ من الرزق الحلال،


1- 1 البيت العتيق: قالوا ضمن سبب التسمية: لأنه أقدم بيت، ولأنه يعتق الرقاب من النار.
2- 2 المحجة البيضاء: 149، مصدر سابق، وعن الفقيه: 208 تحت رقم 48 و 49.
3- 3 المصدر السابق نفسه.
4- 4 الكافي، الكليني 4: 240 تحت رقم 4.

ص: 216

وأدرِئ عنّي شر فسقه العرب والعجم، وشرَّ فسقةِ الجنّ والانس» (1) فإنّ الدعاء يستجاب حتماً (2).

الحج أفضل تجارة

قال اللَّه تعالى في محكم كتابه الكريم: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تُنجيكم من عذاب أليم* تؤمنون باللَّه ورسولِهِ وتجاهدون في سبيل اللَّه بأموالكم وانفسكم ذالكم خيرٌ لكم ان كنتم تعلمون* يغفر لكم ذُنوبكم ويُدخلكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنّات عدن ذلك الفوز العظيم* وأُخرى تُحبّونها نصرٌ من اللَّه وفتح قريب وبشّر المؤمنين (3)

.وخير تجارة يتاجرها العبد المكلف مع ربّه، طاعةٌ وإيمان وجهاد بالمال والنفس. وأفضلُ ما يُرضي اللَّه تعالى حجُّ بيته الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدًى ورحمة للعالمين، فهو خير مكان يُطاع فيه اللَّه ويُعبد ويُبذل فيه المال والنفس.

جاء في الصحيح عن أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لقيهُ اعرابيٌ فقال: يا رسول اللَّه إنّي خرجتُ أُريد الحج ففاتني وأنا رجلٌ ميّلٌ (أي كثير المال) فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج، قال: فالتفت إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: انظر إلى أبي قبيس فلو أنّ أبا قبيس لك ذهبة حمراء انفقته في سبيل اللَّه ما بلغت ما يبلغ الحاج، ثم قال: إنّ الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّا كتب له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، فإذا


1- 1 المحجة البيضاء، مصدر سابق 2: 170.
2- 2 أكدت الروايات عن الرسول صلى الله عليه و آله حتمية استجابة الدعاء تحت الميزاب وعلى عرفة.
3- 3 الصف: 10- 13.

ص: 217

ركب بعيره لم يرفع خفاً ولم يضعه إلّاكتب اللَّه له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه [قال: فعدّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاجُّ خرج من ذنوبه ، ثم قال: أنى لك أن تبلغ ما يَبلغهُ الحاج؟

قال أبو عبداللَّه عليه السلام: ولا يكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، ويكتب له الحسنات إلّا أن يأتي بكبيرة» (1).

ويا لَها من تجارة، أن تكون بين العبد القاصر والخالق الكامل، العبد الفقير والخالق الغني، العبد الذي لا يملك شيئاً والخالق المالك لكلّ شي ء..!

وهذا الإمام الرضا عليه السلام يبين لنا: المتاجرُ بالحجّ مع ربّه صاحب الحج وصاحب البيت يقول:... مَن حجَّ أربع حجج لم تصبه ضغطة القبر أبداً، وإذا مات صوّر اللَّه عزّوجلّ الحجج التي حجّها في صورة حسنة أحسن ما يكون من الصور بين عينيه تصلّي في جوف قبره حتى يبعثه اللَّه عزّوجلّ في قبره، ويكون ثواب تلك الصلاة لهُ. واعلم أن الركعة من تلك الصلاة تعدل ألف ركعة من صلاة الآدميين. ومن حجَّ خمس حجج لم يعذبه اللَّه أبداً، ومن حجَّ عشر حجج لم يحاسبه اللَّه أبداً. ومن حجَّ عشرين حجّة لم ير جهنّم ولم يسمع شهيقها ولا زفيرها، ومن حجَّ أربعين حجة قيل له: اشفع فيمن أحببت، ويفتح له من أبواب الجنّة، يدخل منه هو ومن يشفع له، ومن حجَّ خمسين حجّة بنى له مدينة في جنّة عدن فيها ألف قصر، في كلّ قصر ألف حوراء من حور العين، وألف زوجة، ويُجعل من رفقاء محمد والأوصياء صلوات اللَّه عليهم، وكان ممن يزوره اللَّه تبارك وتعالى كلّ جمعة، وهو ممن يدخل جنّة عدن التي خلقها اللَّه تعالى بيده، ولم ترها عين، ولم يطّلع عليها مخلوق، وما من


1- 1 التهذيب 1: 447.

ص: 218

أحد يكثر الحج إلّابنى اللَّه عزّوجلّ له بكلّ حجة مدينة في الجنّة فيها غُرف في كلّ غرفة منها حوراء من حور العين، مع كلّ حوراء ثلاثمائة جارية لم ينظر الناس إلى مثلهن حسناً وجمالًا» (1).


1- 1 المحجة البيضاء، مصدر سابق، نقلًا عن الفقيه: 208، رقم 51.

ص: 219

ص: 220

ص: 221

الفصل التاسع: الكعبة في التاريخ

اشارة

لا أعتقد أنّ أحداً يجهل قِدم الكعبة الشريفة، فلهذا البيت الشريف تاريخ طويل وتاريخ عريق موغل في القِدم، فهو- كما ذكرنا- أول بيت وضع للناس ليعبدوا فيه اللَّه سبحانه، من هنا جاءت تسمية «بيت اللَّه العتيق».

ولا أظنّ أحداً يجهل القداسة التي تمتع بها هذا البيت الشريف، الذي حاز من الشرف في امتداد تاريخه الطويل، أن يُعتق زائره وقاصده، من ذنوبه وآثامه ومعاصيه، ويخرج منه كيوم ولدته أُمه، ويحصل على مراده في الدعوة فيه، إضافة الى ذلك فقد كان مركزاً لحج الملائكة قبل آدم عليه السلام بألفي عام، ثم حج إليه أبو البشر آدم عليه السلام وولده من بعده...

ولماجاءزمن نوح عليه السلام و الطوفان الكبير الذي حدث في أيامه، زالت معالم البيت، وقيل رُفع إلى السماء، وبقي أثره على الأرض فقط، حيث كان أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول. والناس يعرفون أنّ هذا المكان هو موضع بيت اللَّه الكريم، وكان يزوره المظلوم والهارب من جور الأرض وظلمها، فيدعو اللَّه فيه فيستجاب له، حتى بوّأه اللَّه تعالى لإبراهيم الخليل عليه السلام، ومَنَّ مرةً أخرى على عباده بالحج لهذا

ص: 222

البيت الشريف المقدس والعبادة فيه والدعاء وطلب الحاجة من اللَّه تعالى فيه للدنيا والآخرة ...

أما الموقع الجغرافي للكعبة الشريفة: فهي في منتصف الجزيرة العربية الغربي، على بُعد ثمانية وأربعين ميلًا من البحر الأحمر في وادٍ غير ذي زرع، تحيطها جبالٌ جرداء تكادُ تُطبقُ عليها من جميع الجهات، صيفها حار لا يُطاق. وموقعها هذا جعلها محطة صالحة في طرق القوافل الطوال التي تجمع في بعض الأحيان ألف جمل بعضها وراء بعض، والتي تحمل المتاجر بين جنوبي بلاد العرب (ومن ثم بين الهند وافريقية الوسطى وبين مصر، وفلسطين، وبلاد الشام. وكان التجار أصحاب هذه التجارة يؤلفون فيما بينهم شركات محاصة، ويسيطرون على أسواق عُكاظ (1).

ويقومون بالشعائر الدينية المجزية حول الكعبة وحجرها الأسود المقدس (2).

وقد وصف الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة الكعبة، بقوله: «أَلا ترونَ أنّ اللَّه سبحانه اختبر الأولين من لدُن آدم- صلوات اللَّه عليه- إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضر ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلَّ نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قُطراً، بين جبالٍ خشنة ورمالٍ دَمِثة، عيون وشلة، وقُرًى منقطعة، لا يزكو بها خُفّ، ولا حافر ولا ظلف؟» (3).

ثم بيّن عليه السلام قِدم الكعبة بقوله: «ثم أمر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة. من


1- 1 أسواق عُكاظ: أسواق تجارية مهمة، تدر بالأرباح المالية الهائلة خصوصاً في موسم الحج قبل الاسلام وبعده.
2- 2 قصة الحضارة، وِل ديورانت مج 1، ج 1: 18.
3- 3 نهج البلاغة، الخطبة 192 القاصعة: 293 منشورات دار الهجرة إيران. قم

ص: 223

مفاوزِ قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحارٍ منقطعة حتى يهزّوا مناكبهم ذُللًا، يُهلّلون للَّه حوله، ويرملون على أقدامهم شُعثاً غُبراً له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم و... الخ» (1).

وعن تاريخ بناء الكعبة وإعادة البناء وتجديدها يحدثنا ولِ ديورانت قائلًا: «إنّ الكعبة بُنيت ثم أُعيد بناؤها عشر مرات، فقد بناها في فجر التاريخ ملائكة السماء، وبناها في المرة الثانية آدم أبو البشر، وفي المرة الثالثة ابنه شيث ثم بناها في المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل... وبناها في المرة السابعة قُصي زعيم قبيلة قريش، وبناها في المرة الثامنة كِبارُ قُريش في حياة محمد صلى الله عليه و آله عام (605) م وبناها المرتين التاسعة والعاشرة زُعماء المسلمين في عامي 681 و 696 م والكعبة كما بُنيت في المرة العاشرة هي كعبة هذه الأيام في معظم أجزائها» (2).

وفي بيان قِدم الكعبة يقول الإمام الباقر عليه السلام: «لما أراد اللَّه تعالى أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجاً، ثم أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جبلًا من زبد، ثم دحا الأرض من تحته وهوقول اللَّه عزّوجل:

إن أول بيت... فأول بيت خُلق من الأرض الكعبة، ثم مدت الأرض منها» (3).

هذا موجز سريع استعرضتُ فيه تاريخ الكعبة؛ ليكون مدخلًا ومقدمة لقراءتها من التاريخ وتمهيداً للتفصيلات اللاحقة...

هبوط آدم عليه السلام وبناء الكعبة

آدم عليه السلام، الكعبة الشريفة، قَدِما الينا من أعماق التاريخ، قَدِما مجملين، فقد ورد ذكر آدم عليه السلام ضرباً في القرآن الكريم ووردت قصته وأمر خلقه وهبوطه الأرض،


1- 1 الخطبة نفسها.
2- 2 قصة الحضارة، وِل ديورانت مج 7، 1: 18.
3- 3 الكافي، الكليني 1: 189.

ص: 224

ووردت الكعبة كمركز مقدس هام في القرآن الكريم أيضاً... ولكن متى بُنيت؟

وهل كان آدم عليه السلام فعلًا هو بانيها أم هناك غيره؟ فذلك ما حدثتنا بها الروايات، والروايات في هذا الموضوع كثيرة تحكي صراحةً بأنّ باني الكعبة الأول هو آدم، ومن هذه الروايات الكثيرة في بناء آدم عليه السلام الكعبة حين هبوطه إلى الأرض، نذكر ما ذكره الأزرقي في كتابه «أخبار مكة»:

فقد ورد عنه: «وحدثني جدي قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن الزهري، عن عبداللَّه بن عبداللَّه عتبةبن مسعود، عن ابن عباس رضوان اللَّه تعالى عليه قال: كان آدم عليه السلام أول من أسس البيت، وصلى فيه حتى بعث اللَّه الطوفان ...» (1).

وفي الروايات الأخرى تفصيلات يطول ذكرها... ولكن الحقيقة أنّ القراءة الدقيقة والتفصيلية، لا مجال لها في هذا الموضوع، وإنما أردنا مجرد ذكر ما ورد في تاريخ بناء الكعبة، وهذه رواية أخرى عن ابن عباس ونكتفي بها؛ لأن ما جاء في هذا الأمر روايات يشابه بعضها الآخر.

يقول ابن عباس: «لما أهبط اللَّه تعالى آدم من الجنة كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض وهو مثل الفلك في رعدته، قال: فطأطأ اللَّه عزّوجل منه ستين ذراعاً، فقال يا رب مالي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟ قال: خطيئتك يا آدم ولكن اذهب فابن لي بيتاً فطف به واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، قال: فأقبل آدم عليه السلام يتخطا، فطويت له الأرض وقبضت له المفاوز فصارت كلّ مفازة يمرّ بها خطوة وقبض له ما كان من مخاض ماء أو بحر فجعل له خطوة، ولم تقع قدمه في شي ء من الأرض إلّاصار عمراناً وبركة حتى انتهى مكة فبنى البيت الحرام، وإنّ جبرئيل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أسٍ ثابت


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 40.

ص: 225

على الأرض السُفلى فقذفت فيه الملائكة من الصخر ما لا يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلًا، وإنه بناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطور سيناء، والجودي، وحواء، وطور زيتا حتى استوى على وجه الأرض» (1).

فإن صحت هذه الأخبار والروايات التي وصل إلينا منها الحشد الكثير، فيكون الباني والمؤسس والحاج الأول للكعبة الشريفة هو أبو البشر آدم عليه السلام، ولكن القرآن الكريم لم يخبرنا بهذه التفاصيل إنما جاءت قصة آدم عليه السلام مجملة مختصرة...

إنّ ارتباط آدم عليه السلام بالكعبة الشريفة، ووجودها في زمانه، وفي عمق التاريخ يعطيها أهمية كُبرى فوق أهميتها الذاتية الحقيقية، التي أعطاها اللَّه تعالى ونسبها اليه عزّوجل...

لقد كرّمها اللَّه تعالى يومَ خُلقت، ويوم حجّها أول إنسان، والى اليوم ما زالت ذلك الصرح الإلهي المقدس العظيم...

زوال معالم الكعبة في الطوفان

كلّ شي ء آيل إلى التغير والتبدل والزوال، على مستوى الدنيا، ولا يبقى سوى اللَّه تعالى كلّ شي ء هالك إلّاوجهه (2) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام (3)

.ولكن عين اللَّه تعالى التي لا تنام، حارسة لمن تحب وما تحب وما تريد أن يبقى الى قيام الساعة.

فحين غضب اللَّه تعالى على قوم نوح عليه السلام وطغى الطوفان الكبير على سطح


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 36- 37.
2- 2 القصص: 88.
3- 3 الرحمن: 27.

ص: 226

الكرة الأرضية، لم تكن الكعبة المشرفة بمنأى عن هذا الطوفان، فغرقت ضمن ما غرق من موجودات الكرة الأرضية، ولكونها مركزاً إلهيّاً مقدساً لم تكن كساير أشياء الأرض التي غرقت وانتهى كلّ شي ء، وإنما أراد اللَّه لها شيئاً آخر، أراد لها اللَّه بقاءً أبدياً إلى قيام الساعة؛ لتكون نقطة الاتصال المركزية بين العبد وربّه، من هنا ومن خلال اللطف الإلهي الشامل لكلّ الوجود، قيض اللَّه لها نبياً من عظماء الأنبياء ألا وهو إبراهيم الخليل عليه السلام وابنه الحليم اسماعيل عليه السلام ليعيدا بناءها من جديد، وليرفعا قواعد البيت... وهكذا بلغ أمر اللَّه وتربعت الكعبة على سطح الكرة الأرضية؛ لتكون شامخة وعالية، وامتداداً بين السماء والأرض.

والقرآن الكريم لم يتحدث عن الطوفان بشكل مفصل، وكيف كانت الكعبة وكيف زالت (1)، وإنما ذكر الموضوع بشكل مجمل، تعرض بشكل أساس عن العبرة والموعظة دون التفاصيل والجزئيات والأجزاء والأماكن.

أما الروايات التي تحكي حال الكعبة الشريفة في الطوفان الكبير فهي كثيرة جدّاً، لا يسعنا سوى ذكر واحدة أو اثنين ونكتفي بها.

عن ابن عباس رضوان اللَّه عليه قال: «فكان أول من اسس البيت وصلّى فيه وطاف به آدم عليه السلام حتى بعث اللَّه تعالى الطوفان: وكان غضباً ورجساً. قال: فحيث ما انتهى الطوفان ذهب ريح آدم عليه السلام قال: ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند، قال: فدَرَسَ موضع البيت في الطوفان حتى بعث اللَّه تعالى ابراهيم واسماعيل فرفعا قواعده وإعِلامه...» (2).

وفي رواية مجاهد قال الأزرقي: قال: «بلغني أنه لما خلق اللَّه عزّوجل السماوات


1- 1 ليس من اختصاصات القرآن الكريم ذكر التفاصيل في طرح التاريخ وغيره، وانما يُشيرُ إليها بماينسجم والعبرة والبيان، والتفاصيل تأخذ من الأحاديث الشريفة والأخبار والروايات.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 1: 37.

ص: 227

والأرض كان أول شي ء وضعه فيها البيت الحرام وهو يومئذ ياقوتة حمراء جوفاء لها بابان أحدهما شرقي والآخر غربي فجعلهُ مستقبل البيت المعمور، فلما كان زمن الغرق رُفع في ديباجتين فهو فيهما إلى يوم القيامة، واستودع اللَّه عزّوجل الركن أبا قبيس قال: وقال ابن عباس: كان ذهباً فرفع زمان الغرق فهو في السماء. وعن سعيد عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه و آله في حديث حدّثَ به آدم عليه السلام قال: أي ربّي إنّي أعرف شقوتي، إني لا أرى شيئاً من نورك يعبد، فأنزل اللَّه عزّوجلّ عليه البيت المعمور على عرض هذا البيت في موضعه من ياقوتة حمراء، ولكن طوله كما بين السماء والأرض، وأمره أن يطوف به، فأَذهبَ اللَّه عنه الغم الذي كان يجده قبل ذلك، ثم رُفع على عهد نوح عليه السلام» (1).

ابراهيم عليه السلام يجدد بناء الكعبة

وجاء النبي العظيم أبو الأنبياء خليل الرحمن ابراهيم عليه السلام، جاء ليعيد مجد الكعبة الشريفة التي درسها الفيضان والطوفان النوحي، ولكن من أين بدأ؟ وأين كان مكانها؟ وفي أية بقعة من بقاع الكرة الأرضية؟ إنّ موضع الكعبة كان قد خُفي ودرس في زمن الغرق فيما بين عهد نوح عليه السلام وابراهيم عليه السلام، وقد ذكر مجاهد، كان موضع الكعبة أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول غير أنّ الناس يعلمون أنّ موضع البيت فيما هنالك ولا يثبت موضعه، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض ويدعو عنده المكروب، فقلَّ من دعا هنالك إلّااستجيب له، وكان الناس يحجون الى موضع البيت حتى بوأ اللَّه تعالى مكانه لإبراهيم عليه السلام لما أراد من عمارة بيته وإظهار دينه وشرائعه، فلم يزل منذ أهبط اللَّه تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض معظماً محرماً بيته تتناسخه الأُمم والملل أمة بعد أمة وملّة بعد ملّة، قال: وقد كانت


1- 1 المصدر السابق: 50- 51.

ص: 228

الملائكة تحجهُ قبل آدم عليه السلام (1).

وقد ذكرنا في الفصل الثالث، كيفية بناء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام البيت الحرام، والكعبة الشريفة بالتفصيل، وهنا نضيف كيفية مجي ء ابراهيم عليه السلام إلى هذا المكان المقدس، كيف كان والى اين آل.

ابراهيم عليه السلام يسري بزوجه هاجر وابنه اسماعيل صوب بيت اللَّه الحرام


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 52- 53.

ص: 229

ام اسماعيل تسعى بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء، ومنبع الماء يظهر تحت قدمي اسماعيل عليه السلام

فقد خرج ابراهيم عليه السلام من الشام، أو من مدينة أورشليم «بيت المقدس» يحمل هاجر زوجه المظلومة (1) وولده الوحيد اسماعيل عليه السلام، فخرج بهم ومعه جبرئيل عليه السلام يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، يقول محمد بن إسحاق: «فخرج وخرج معه


1- 1 أقول هنا مظلومة: لأنها ظُلمت بغيرة سارة منها.

ص: 230

لا يمرّ ابراهيم عليه السلام بقرية من القرى إلّاقال: يا جبرئيل أبهذا أُمرت؟ فيقول له جبرئيل عليه السلام: أمضه حتى قدم مكه وهي إذ ذاك عضاة من سلم وسمر، وبها ناس يُقال لهم العماليق خارجاً من مكة فيما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال ابراهيم عليه السلام لجبريل: أهاهنا أُمرتُ أن أضعهما؟ قال: نعم! قال: فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أمّ اسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً ثم قال: ربنا إنّي أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع (1)

ثم انصرف إلى الشام وتركهما عند البيت الحرام (2)، في رعاية اللَّه ورحمته.

وقال ابن جريج: «وبلغني أنّ جبرئيل عليه السلام حين هزم بعقبة في موضع زمزم قال لأُم اسماعيل:.. وأشار لها إلى موضع البيت- هذا أول بيت وضع للناس، وهو بيت اللَّه العتيق، وأعلمني أنّ ابراهيم واسماعيل يرفعانه للناس ويعمرانه فلا يزال معموراً، محرماً، مكرماً إلى يوم القيامة، ويضيف ابن جريج: أنّ أمّ اسماعيل ماتت قبل أن يرفعه ابراهيم وإسماعيل، ودُفنت في موضع الحجر» (3).

زواج إسماعيل عليه السلام وولاية أبنائه الكعبة

ليس من المحتم أن ندرك حكمة اللَّه تعالى للوهلة الأولى فقد يأمر اللَّه أمراً يبدو في الظاهر غيرمناسب، ولكن مناسبته وأهميته تظهر أخيراً، وقدأشارالقرآن الكريم إلى هذه الحالة الإنسانية، إلى استعجال الانسان في الأمور وطلب الحقيقة فوراً دون تأنٍ، قال تعالى خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون (4).


1- 1 إبراهيم: 37.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 1: 54.
3- 3 المصدر السابق: 56.
4- 4 الأنبياء: 37.

ص: 231

وهذا ما حدث لهاجر زوجة النبي ابراهيم عليه السلام المؤمنة باللَّه الطائعة لأمره وأمر نبيه، والدة اسماعيل عليه السلام الحليم الممتثل لأوامر اللَّه تعالى وصاحب تلك الاطاعة المثالية في الذبح وبناء الكعبة وغيرها من الأمور...

ولمثالية النبي اسماعيل عليه السلام وسلوكه القويم منحه اللَّه تعالى ولاية أقدس بقعة من بقاع الأرض، وأحبّ بقاع الأرض إلى اللَّه، الكعبة الشريفة ومن بعده ولاية أبنائه عليها...

وإذا رجعنا إلى قصة ابراهيم عليه السلام وزوجه هاجر ووحيدهما اسماعيل عليه السلام والمكان المقفر الذي أُنزلوا فيه، فسنجد الحكمة والموعظة والمعجزة.

لقد استجاب النبي ابراهيم عليه السلام لأمر ربه الكريم، إذ أخذ هاجر وطفلها الرضيع اسماعيل من الشام إلى أرضٍ قفراء خالية بعيدة عن العمران، ولا ماء ولا غذاء، فأنزلهما وقفل راجعاً، تبعته هاجر ملتاعة وقالت له، إلى أين تذهب؟

ولمن تتركنا بهذا الوادي الموحش المقفر؟ قالت له ذلك مراراً خائفة وجلة، مستعطفة، وهو يمضي في سبيله، عندئذ قالت: اللَّه آمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت:

إذن لا يضيعنا اللَّه، وحُسن ظنها وإيمانها باللَّه تعالى طمأن قلبها، وقيل: إن جبرئيل عليه السلام طمأن قلبها، أن أخبرها أنّ هذا المكان سيكون مكان خير وبركة ومهوى الأفئدة.

وقد خطهُ اللَّه تعالى لها ولابنها أن جعل البركة في إسماعيل وحيدها، وجعله أمة، وجعل ذلك المكان المفقر تهوي إليه أفئدة الناس، وجعل الخير والبركة والأمن والأمان فيه.

عن ابن عباس قال: لما أخرج اللَّه تعالى ماء زمزم لأم إسماعيل، فبينا هي على ذلك إذ مرَّ ركب من جرهم قافلين من الشام في الطريق السفلى فرآى الركب الطير على الماء، فقال بعضهم: ما كان بهذا الوادي من ماء ولا أنيس، يقول ابن عباس،

ص: 232

فأرسلوا رجلين لهم حتى أتيا أمّ اسماعيل فكلّماها ثم رجعا إلى ركبهما، فأخبراهم بمكانها، قال: فرجع الركب كلّهم حتى حيّوها فردت عليهم وقالوا: لمن هذا الماء؟

قالت أم اسماعيل: هو لي، قالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل معك عليه؟ قالت: نعم! (1)

ويضيف ابن عباس قائلًا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: القى ذلك أمّ اسماعيل وقد أخبت الأنس، فنزلوا وبعثوا إلى أهاليهم، فقدموا إليهم وسكنوا تحت الدوح، واعترشوا عليها العرش فكانت معهم هي وابنها، حتى ترعرع الغلام وأنفسوا فيه وأعجبهم، وتوفيت أم اسماعيل، فلما بلغ أنكحوه جارية منهم (2).

وقد ذكر المفسرون والمؤرخون، أنّ اسماعيل عليه السلام طلّقَ زوجته الأولى (تلك الجارية) بطلب من ابراهيم عليه السلام (3)، وتزوج بأخرى بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولدت له اثني عشر رجلًا. وقد ذُكرت أسماؤهم وأحوالهم في كتب الصحاح وأخبار مكة وغيرها من كتب الخاصة والعامة. وجاء ما يشابه ذلك من الأسماء في التوراة. والذي يهمنا من ولد اسماعيل عليه السلام «نابت» و «قيدار» كبار ولد اسماعيل ومنهما نشر اللَّه العرب، وبعد وفاة اسماعيل عليه السلام تولى نابت إمارة البيت المعمور، وبعد أن توفي نابت بن اسماعيل عليه السلام وليَ أمرها- أمر الكعبة- جده لأمّه (مضاض بن عمرو الجرهمي) وضمَّ بني نابت وبني اسماعيل عليه السلام إليه فصاروا مع جدهم أبي أمهم ومع أخوالهم من جرهم.


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 57، وصحيح البخاري، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 انظر، الأزرقي، أخبار مكة، ج 1، وكتب الصحاح، وتفاسير القرآن الكريم، والتوراة، سفرالتكون وفي التوراة جاءت قصة اسماعيل وهاجر مع زيادات ونقصان كثير وكذب وتحريف أشهر من نارٍ على علم.

ص: 233

وهكذا توارث آل اسماعيل (وهم في الحقيقة آل ابراهيم عليه السلام) الكعبة البيت الحرام. وهكذا كرّم اللَّه تعالى ابراهيم واسماعيل عليهما السلام.

جُرهم وولايتها الكعبة

بعد وفاة اسماعيل عليه السلام وابنه نابت نصّبت قبيلة جُرهم (الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي) (1) ملكاً عليهم، وفي نفس الوقت ضعنت قبيلة قطورا (وهم من العماليق) من اليمن إلى مكّة فولّوا عليهم (السميدع) (2) ملكاً، فلما نزلوا مكة رأوا بلداً طيباً وماءً وشجراً فأُعجبوا بها، فكان الحارث بن مضاض ومن معه قد نزلوا أعلى مكة وقعيقعان، ونزل السميدع ومن معه أسفل مكة وأجياد، وكان (الحارث) يعشّر (3) من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشّر من يدخل مكة من أسفلها، لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه، ثم إنّ جرهماً وقطوراً بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها واقتتلوا بها حتى نشبت الحرب بينهم على المُلك وولاة الأمر بمكة، وصارت ولاية البيت إلى العماليق، ثم كانت لجُرهم عليهم، وأقامت جُرهم بولاية البيت نحو ثلاثمائة سنة، وكان آخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر بن عمرو بن الحارث بن مضاض الأكبر وزادوا في بناء البيت، ورفعته على ما كان عليه من بناء ابراهيم واسماعيل عليهم السلام (4).

وقال ابن اسحاق: ثم نشر اللَّه تعالى بني اسماعيل بمكة، وأخوالهم من جُرهم إذ ذاك حكّام بمكة وولاة البيت، وكانوا كذلك بعد نابت بن اسماعيل عليه السلام، فلما ضاقت عليهم مكة وانتشروا بها، انبسطوا في الأرض وابتغوا المعاش والتفسح


1- 1 قال الأزرقي ونصبت قبيلة جُرهم مضاض بن عمرو في أخبار مكة، أما المسعودي فقد ثبتَ عنده أنه الحارث بن مضاض في مروج الذهب 2: 54.
2- 2 السميدع: هو ملك العماليق، وهو ابن هوبر بن لاوي بن قيطور بن كركر بن حيدلا، مروج الذهب، المصدر السابق.
3- 3 التعشير: هو ضريبة تعادل عُشر قيمة البضاعة يدفعها المار من الناس والتّجار لسيد الأرض، مروج الذهب، المصدر السابق.
4- 4 انظر أخبار مكة، للأزرقي 1: 90- 93 منشورات الشريف الرضي، ومروج الذهب 2: 54.

ص: 234

في الأرض، فلا يأتون قوماً ولا ينزلون بلداً إلّاأظهرهم اللَّه عزّوجل عليهم بدينهم فوطئوهم، وغلبوهم عليها حتى ملكوا البلاد ونفوا عنها العماليق، ومن كان ساكناً بلادهم التي كانوا اصطلحوا عليها من غيرهم، وجُرهم على ذلك بمكة ولاة البيت لا ينازعهم إياه بنو اسماعيل لخولتهم وقرابتهم وإعظام الحرم أن لا يكون به بغي أو قتال (1).

أما المسعودي فيقول: «وكثر ولد إسماعيل وصاروا ذوي قوة ومَنَعَة فغلبوا على أخوالهم جُرهم وأخرجوهم من مكة، فلحقوا بجُهينة، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم، وكان الموضع يُعرف (بإضم) وقد ذكر ذلك أمية بن أبي الصّلت الثقفي في شعر له فقال:

وجُرهم دفنوا تُهامة في الد هر فسالت بجمعهم إضَمُ (2)

خُزاعة وولاية الكعبة

حكمت جُرهم فترة طويلة في مكة كما ذكرنا سابقاً مع ولايتها على الحرم والكعبة «ولما طالت ولايتهم استحلوا من الحرم أموراً عظاماً، ونالوا ما لم يكونوا ينالون، واستخفوا بحرمة الحرم، وأكلوا مال الكعبة الذي يُهدى إليها سِراً وعلانية، وكلّما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم مَنْ يمنعه ويدفع عنه، وظلموا من دخلها من غير أهلها» (3).

ويذكر المؤرخون والرواة أنّ جرهم بعد أن صاروا أكثر سُكان مكة رجالًا وأموالًا وسلاحاً وأعزهم عزة، طغوا وتنازعوا أمرهم بينهم واختلفوا، وضعفوا


1- 1 انظر أخبار مكة، 1: 80- 90.
2- 2 مروج الذهب 2: 55.
3- 3 أخبار مكة 1: 90.

ص: 235

بعد ذلك، فقام (مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض الجُرهمي) ناصحاً لهم (1). ولم ينفع النصح فيهم، فدخل عمرو بن عامر نازحاً من اليمن مع أهله وأمواله وكاهنة لهم تُدعى (طريفة الكاهنة) مُطاعٌ أمرُها عندهم، فكانوا لا يطأون بلداً إلّاغلبوا عليه وقهروا أهله حتى قاربوا مكة واقتتلوا مع جُرهم ثلاثة أيام فانتصروا وانهزمت جُرهم، فلم ينفلت منهم إلّاالشريد، وكان مضاض بن عمرو ابن الحارث قد اعتزل جرهماً ولم يعنِ في ذلك، فرحل هو وولده وأهل بيته حتى نزلوا قنونا وحّلى أودية على ساحل البحر الأحمر.

وتشتت جُرهم، وفُنيت البقية الباقية بالسيف، وجاء دور خزاعة في ولاية الكعبة، فحازت أمر مكة وصاروا أهلها، وجاءهم بنو اسماعيل فسألوا السكنى مع خزاعة فأذنوا لهم. فلما رأى ذلك (مضاض بن عمرو بن الحارث) أرسل خزاعة يستأذنها في الدخول عليهم والنزول معهم بمكة في جوارهم ومتَّ إليهم برأيه وتوديعه قومه عن القتال وسوء السيرة في الحرم واعتزاله الحرب، فأبت خزاعة أن تقررهم ونفتهم عن الحرم كلّه ولم يتركوهم ينزلون معهم، فقال عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر لقومه: من وجد منكم جرهمياً قد قارب الحرم فدمهُ هدر (2).

وبذلك سيطرت خزاعة على مكة وأخرجت جُرهم منها ونفتهم عن آخرهم الى اليمن، وحزنت جُرهم حزناً شديداً، وندموا على ما فعلوا في مكة ندماً ذريعاً، وبكوا على مكة وألفوا الأشعار فيها (3).

هذا... وحازت خزاعة ولاية البيت الحرام والكعبة الشريفة، وحُكم مكة،


1- 1 يذكر الأزرقي خطبتهُ لهم في كتابه أخبار مكة 1، انظر 90- 103.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 أخبار مكة 1: 105.

ص: 236

ثلاثمائة عام، وقد تعرضت مكة إلى عدوان أرادوا تخريبها وهدمها، ودافعت خزاعة دفاعاً عظيماً، وقاتلت دونها قتالًا شديداً... وقيل: إن عمرو بن لحي الخزاعي كان يلي البيت وولده بعده خمسائة سنة حتى كان آخرهم حليل ابن حبشة بن سلول بن كعب بن عمرو، الذي تزوج قصي بن كلاب ابنتهُ «حُبى (1).

وقال المسعودي: كان أول من ولي البيت من خزاعة عمرو بن لُحي، واسم لحي حارثة بن عامر، فغيّر دين إبراهيم وبَدّله، وبعث العرب على عبادة التماثيل، حين خرج إلى الشام ورآى قوماً يعبدون الأصنام، فأعطوه منها صنماً فنصبه على الكعبة، وقويت خزاعة، وعمَّ الناس ظلم عمرو بن لُحي (2).

ولمّا أكثر عمرو بن لحي من نصب الأصنام حول الكعبة، وغلب على العرب عبادتها، وانمحت الحنيفية منهم إلّالمعاً، قال في ذلك شحنة بن خلف الجرهمي:

يا عمرو، إنك قد أحدثت آلهةً شتى بمكة حول البيت أنصابا

وكان للبيت رَبٌّ واحدٌ أبداً فقد جعلتَ له في الناس أربابا

لتعرفَنّ بأنّ اللَّه في مَهَل سيطفي دونكم للبيت حُجّابا (3)

ولاية قصي بن كلاب الكعبة

تذكر كتب التاريخ عن قصي عندما توفي والده كلاب كان طفلًا رضيعاً فتزوجت أمّه (فاطمة بنت عمرو) ربيعة بن حزام، فخرجت معه من مكة إلى بلاده


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 مروج الذهب، المسعودي 2: 61.
3- 3 المصدر السابق.

ص: 237

أرض عذرة من أشراف الشام وحملت معها قصيّاً لصغر سنه، فولدت من ربيعة «رزاح» (1) ولما شب قصي حدث بينه وبين رجل من قضاعة شي ء، فقال له القُضاعي: ألا تلحق بنسبك وقومك فإنك لست منا؟ فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له، فقالت: واللَّه أنت يا بني خيرٌ منه وأكرم، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقومك عند البيت الحرام وما حوله. فأجمع قصي للخروج قومه واللحاق بهم وكره الغُربة في أرض قُضاعة (2).

دخل قصي مكة في شهر الحج أحد الأشهر الحُرم، وكان رجلًا جليداً حازماً بارعاً، فلما أنهى حجهُ دخل على حليل الخُزاعي خاطباً ابنتهُ «حُبى ، فلما عرف حليل نسب قُصي رغب فيه وزوجه، وحليل يومئذ وليُ أمر الكعبة ومكة. ولما حضرت حليل الوفاة نظر إلى قصي والى ما انتشر له من الولد من ابنته، فرآى أن يجعل إمارة الكعبة وحكمها في ولد ابنته فدعا قصياً، فجعل له ولاية البيت وسلّم إليه مفتاح الكعبة (3).

وقال حليل لقصي: إنها لا تقوم بفتح الباب وغلقه (4)، فجعل ولاية البيت إليها وفتح الباب وغلقه إلى رجل من خزاعة يُعرف بأبي غبشان الخزاعي، فباعه أبو غبشان إلى قصي ببعير وزق خمر، فأرسلت العرب ذلك مثلًا، فقالت: «أخسرُ من صفقة أبي غبشان» وفي بيعه لولاية البيت ببعير وزق من الخمر، ونقله ولاية البيت من قومه من خُزاعة إلى قُصي بن كلاب، يقول الشاعر:


1- 1 انظر أخبار مكة، الأزرقي 1: 104.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 المصدر السابق 1: 107.
4- 4 أي «حُبى» لأن فتح الباب وغلقه تحتاج إلى قوة رجل أما الولاية فلها بالوراثة.

ص: 238

أبو غبشان أظلم من قصيٍّ وأظلم من بني فِهْرٍ خُزاعة

فلا تَلحوا قصياً في شِراهُ ولوموا شيخكم إذ كان باعهْ (1)

ولما مات حليل الخزاعي، أبت خُزاعة أن يكون قصي ولي أمر الكعبة ومكة المكرمة، فأخذت المفتاح منه، فاستنصر قصي قريشاً وبني كنانة فأجابوه النصر، وأرسل إلى أخيه لأمه «رزاح» فخرج رزاح واخوته لأبيه في حاج العرب مجتمعين لنصر قصي والقيام معه، فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة إلى خُزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قصي ما جعل له حليل، وعظموا عليهم القتال في الحرم، وحذرهم الظلم والبغي بمكة، وذكروهم ما كانت فيه جُرهم، وما صارت إليه حين ظلموا وبغلوا فيها، فأبت خزاعة ذلك واقتتلوا قتالًا شديداً. آلَ الأمر بالنهاية أن يحكموا لقصي بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة وأسلمت خزاعة لقصي، وتملك على قومه فملكوه، وكان قصي أو رجل من بني كنانة أصابَ ملكاً وأطاع له به قومه، فكانت له الحجابة، والرفادة، والسقاية، والندوة، واللواء، والقيادة. وجمع قريشاً بمكة وسُمي بذلك مجمعاً أو قرشياً (2). وقصي الجد الخامس للنبي محمد صلى الله عليه و آله وهو من بني اسماعيل النبي عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام (3).

وقد كانت ولاية البيت في خُزاعة ثلاثمائة سنة، واستقام أمر قصي، وعشّر من دخل مكة من غير قريش، وبنى الكعبة، ورتب قريش على منازلها في النسب بمكة، وبيّن الأبطحيَّ من قريش، وهم الأباطح، وجعل الظاهري ظاهرياً.

ظهور قريش واستيلاؤها على الكعبة


1- 1 مروج الذهب، المسعودي 2: 63.
2- 2 أخبار مكة 1: 107.
3- 3 معجم الحضارات السامية: 688.

ص: 239

ظهرت قريش في عهد قصي كما ذكرنا، وكان السبب في تسميتهم لأن تفسير ذلك الأمن، وتقرّشت، والتقرش: الجمع، ومنه قول ابن حِلِّزة اليشكري:

إخوة قَرَّشوا الذُنوب علينا في حديث من دَهرِنا وقديم (1)

وكانت قريش قبائل متفرقة جمعها قصي بن كلاب، فسميت قريشاً، فالتجمع في بعض كلاب العرب يعني التقرش، ويُقال: كان يُقال لقصي القرشي ولم يسم قرشي قبله، ويُقال أيضاً: إنّ النضر بن كنانة كان يُسمى القرشي وقد قيل: إنما سميت قريش قريشاً؛ لأنها كانت تجاراً تكتسب وتتجر وتحترش فشبهت بحوت في البحر تسمى «قريشاً» (2).

وظهرت قريش على ساحة مكة، فلما حاز قصي بن كلاب شرف مكة، وأنشأ دار الندوة، كانت قريش تقضي فيها أمورها، ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلّاابن أربعين للمشهورة، وكان يدخلها ولد قصي كلهم، وحلفاؤهم، فلما كبر قصي ولّى ولديه عبدالدار وعبدمناف أمور الكعبة، فأعطى عبدالدار السدانة وهي الحجابة، ودار الندوة، واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة.

وبعد وفاة عبدالدار جعل الحجابة بعده إلى ابنه عثمان بن عبدالدار، وجعل دار الندوة إلى ولده عبدمناف بن عبدالدار، ثم ولي أمورها عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار وجاء بعده عثمان، ثم وليها عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار،


1- 1 مروج الذهب 2: 65.
2- 2 أخبار مكة 1: 109.

ص: 240

ثم وليها طلحة بن عبداللَّه بن عبدالعزى ثم وليها ولده حتى كان فتح مكة، فقبضها رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله بن عبداللَّه بن عبدالمطلب (1) وحطّم أصنام الكعبة، وولي الأمور كلّها؛ ليعيد الحج الإبراهيمي الأصيل فيها بعد أن حُرّف وتغيرت معالمه.

عبادة الأصنام في الكعبة الشريفة

اتفق المؤرخون والرواة، أنّ أول من نصب الأصنام في الكعبة «عمرو بن لحي» وهو ربيعة بن حارثة بن عمر بن عامر من خزاعة وكان زعيماً لها، وقد نقل فكرة الوثنية من بلاد الشام التي زارها، ورأى وثنية أهلها، فتأثر بها وغيّبَ معالم التوحيد ودنّس البيت الحرام. وجاء بالصنم الكبير «هُبل» من هيت (2)، من أرض الجزيرة فنصبه في بطن الكعبة، فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو أول من غيّر الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل، فقد كان أمره عند عرب مكّة مطاعاً لا يُعصى وقد ذكرنا سابقاً أنه زعيم خزاعة، وانتصرت بقيادته على قبيلة جُرهم، وبلغ بمكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية.

ذكر الأزرقي في أخبار مكة عن هذا الرجل وتأكيده على الأصنام قائلًا: «إنّ جرهماً لما طغت في الحرم، دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة ففجر بها، ويقال:

إنما قبّلها فيها فمسخا حجرين اسم الرجل أساف بن بغاء، واسم المرأة نائلة بنت ذئب، فأخرجا من الكعبة، فنصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة، وإنما نصبا هنالك ليعتبر بهما الناس، ويزدجروا عن مثل ما ارتكبا... فلما كان عمرو بن


1- 1 المصدر السابق: 110.
2- 2 هيت: بلدة في العراق.

ص: 241

لحي (قد ولي الكعبة) أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما» (1) (2).

وظلَّ الحجاج من أهل مكة ومن غيرهم يعبدون هذين الصنمين المذكورين، ويتمسكون ويتمسحون بهما ويقدمون لهما النذورات والذبائح وينحرون لهما حتى جاء قصي بن كلاب، فصارت إليه الحجابة وأمر مكة، فنقلهما من الصفا والمروة، وجعل أحدهما بلصق الكعبة، وجعل الآخر في موضع زمزم، وكان أهل الجاهلية يمرون بأساف ونائلة ويتمسحون بهما، وكانوا إذا طافوا بالبيت يبدأون بأساف فيستلمه الحاج، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، فكانا كذلك حتى كان يوم الفتح، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فكسّرهما، وحين دخل الرسول صلى الله عليه و آله والمسلمون فاتحين مكة المكرمة، كان عدد الأصنام فيها «ثلاثمائة وستين صنماً» وقد كسرها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جميعاً (3).

وفي ذلك يقول فضالة بن عمير بن الملوح الليثي في ذكر يوم الفتح:

أوما رأيت محمداً وجنوده بالفتح يوم تكسر الأصنام؟!

لرأيت نور اللَّه أصبح بيننا والشرك يغشى وجهه الاظلام (4)

حادثتا (تبع) و (الفيل) ومنزلة الكعبة

للكعبة الشريفة منزلة عظيمة عند اللَّه تعالى فقد حفّها برعايته، وخصّها بكرامات سجّلها التاريخ، منها صيانتها من الشر والخراب، فقد تشتت قوم جُرهم


1- 1 انظر أخبار مكة 1: 119- 120.
2- 2 وذكر المسعودي في مروج الذهب 2: 55، الخبر نفسه وأضاف وقيل: بل هما حجران نحتا ومُثّلا بمن ذكرنا وسميا بأسمائهما أساف ونائلة.
3- 3 أخبار مكة 1: 121.
4- 4 المصدر نفسه.

ص: 242

لظلمهم فيها وطغيانهم، وخزاعة هي الأخرى وكذلك قريش وكلّ من يحاول الاعتداء عليها أو الاستخفاف بها، فقد قضت حُرمة الكعبة على قوم تبّع وأصحاب الفيل، أما تُبّع فهو اسم لأحد ملوك اليمن، والتبابعة لقب ملوك اليمن، وكان للتبابعة دولة وصولة في اليمن وغيره، وكانوا أحسن حالًا وأكثر مالًا من قريش، ولما عتو عن أمر ربّهم أخذهم بالهلاك والدمار.

قال تعالى أهم خير أم قوم تبّع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (1)

.والتبابعة الذين أرادوا هدم الكعبة وتخريبها ثلاثة، وقد كان قبل ذلك منهم من يسير في البلاد، فإذا دخل مكة عظم الحرم والبيت.

وتُبّع الثالثة التي صممت على هدم البيت الحرام كانت بالدّفِ من جمدان بين أمج وعسفان، دفت بهم دوابهم، وأظلمت الأرض عليهم، فدعا- تُبع ملكهم- أحباراً كانوا معه من أهل الكتاب، فسألهم فقالوا: هل هممتَ لهذا البيت بشي ء؟

قالَ: أردتُ أن أهدمه. قالوا: فانوِ له خيراً أن تكسوه، وتنحر عنده، ففعل، فانجلت عنهم الظلمة (وإنما سُمي الدف من أجل ذلك)، فسار وتكررت الحالة ثلاثِ مرات، فقال الأحبار له: واللَّه ما أرادت هذيل (2) في دفعك بهذا إلّاهلاكك وهلاك قومك، إنّ هذا بيت اللَّه الحرام ولم يرده أحد قط بسوء إلّاهلك... فضرب تُبّع أعناق الهذليين وصلبهم، فرآى في المنام أنه يكسي الكعبة، فكساها كسوة كاملة، كساها العصب، وجعل لها باباً يُغلق بضُبة فارسية. قال ابن جريج: كان


1- 1 الدخان: 37.
2- 2 هذيل: قبيلة عربية كبيرة قطنت شمالي الجزيرة، فريقٌ منهم حثَّ تُبّعاً على هدم الكعبة حسداًلقريش على ولايتها البيت. لكنهم دافعوا عن الكعبة وقاتلوا قتالًا شديداً حينما همَّ إبرهة الحبشي بهدم الكعبة، انظر معجم الحضارات السامية هنري س. عبودي: 882.

ص: 243

تُبّع أول من كسا البيت كسوة كاملة (1).

وقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه و آله قال: «لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم» (2).

وروي عن الصادق عليه السلام قال: «إن تُبعاً قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبيّ، أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجتُ معه» (3).

هذا ما كان لقوم تُبّع، أما قوم إبرهة الأشرم أو الحبشي (أصحاب الفيل) فقد ذكرهم القرآن الكريم وكيفية هلاكهم عن آخرهم نتيجة ما كانوا يكيدون للكعبة وتدميرها، وملخص ما جاء من أمرهم في تفاسير القرآن الكريم: أنّ الأحباش بعد أن انتصروا على ملك اليمن، وتسلط إبرهة الأشرم على اليمن، بنى القليس بناءً من الذهب والفضة محكماً يضاهي الكعبة، ودعا الناس للحج إليه بدل الكعبة، وانتشر خبره في العرب، فدعا رجل من بني مالك بن كنانة رجلين من العرب ليذهبا ويحدثا فيه، فدخل إبرهة البيت فرأى أثرهما فيه، فغضب وأقسم على هدم الكعبة، وتخريبها، فسار مع جيشه يتقدمهم فيل أو أكثر حتى وصلوا إلى مكان بالقرب من مكة يُقال له: «المغمّس» فنزلوا فيه، وأرسل إبرهة إلى قريش مَن يخبرهم بأنه لم يأتِ لحربهم، وإنما لهدم البيت والحرم، فإن لم يعرضوا له بحرب فلا حاجة له بدمائهم. وما أن همَّ إبرهة بهدم البيت أرسل اللَّه عليه وعلى جيشه أسراباً من الطير ترميهم بحصى صغيرة لا تصيب أحداً منهم إلّاهلك، ومات وتناثر لحمه، فذعر الجيش وصاحبه، وفرّوا هاربين ومات إبرهة بعد أن وصل صنعاء، وسقط لحمه قطعة قطعة إلى أن انتهى (4).


1- 1 أخبار مكة 1: 133- 134.
2- 2 الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي 18: 154.
3- 3 المصدر السابق نفسه.
4- 4 انظر الكاشف مج 7: 609- 610، والميزان، ومروج الذهب ج 2، وأخبار مكة 1: 134- 154، والطبري وغيرها من كتب التاريخ والتفسير.

ص: 244

قال تعالى أَلم ترَ كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل* أَلم يجعل كيدهم في تضليل* وأرسل عليهم طيراً أبابيل* ترميهم بحجارة من سجيل* فجعلهم كعصفٍ مأكول (1)

.يقول د. طه حسين في كتابه «مرآة الإسلام»: «وفي هذه الموقعة أظهر عبدالمطلب من الصبر والجلد، ومن الشجاعة والثقة ما لم يظهره غيره من أشراف قريش، ذلك أنه قد أشار على قريش أن تخلي مكة، فسمع له قومه، وأقام هو بمكة لم يعتزلها، وإنما أقام عند الكعبة يدعو اللَّه ويستنصره. ويقول الرواة: إنّ الجيش أغار على إبل قريش فاحتازها، وجاء عبدالمطلب إلى إبرهة، ولما دخل عليه لم يكلمه إلّافي إبلٍ له، فصغر في نفس إبرهة وقال له: كنتُ أظن أنك تكلمني في شأن مكة، وشأن هذا البيت الذي تعظمونه. قال عبدالمطلب: إني أكلمك في مالي الذي أملكهُ، أما البيت فإنّ له ربّاً يحميه إن شاء. فأرسل اللَّه على إبرهة وجيشه من تلك الطير، التي ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصفٍ مأكول، وعادت قريش إلى مكة، فازداد إكبارهم لعبدالمطلب وشجاعته وثقته وثباته» (2).

وبذلك حمى اللَّه تعالى بيته من إبرهة ومن كلّ من نوى لها سوءاً. وهكذا صمدت الكعبة الشريفة في وجه أكبر الحوادث التاريخية حيث فشلوا في خرابها والقضاء عليها.

بعثة محمد صلى الله عليه و آله وفريضة الحج

ولد محمد بن عبداللَّه بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن حكيم (كلاب) بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن


1- 1 الفيل: 1- 5.
2- 2 نقله محمد جواد مغنية في تفسير الكاشف 7: 610، عن مرآة الاسلام، د. طه حسين.

ص: 245

خزيمة بن مدركة بن اللياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد، وينتهي نسبهُ الشريف إلى اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام (1)، ولد في مكة وهي أشرف بقاع العالم، ولم يولد نبيّ قبله ولا بعده- حسب اطلاعنا- في هذه البقعة المباركة الشريفة إلّا هو، وقد شرّفه اللَّه تعالى وكرّمه وجعله سيد البشر وسيد الأنبياء وخاتمهم وجعل تابعيه خير أمّة أخرجت للناس، وبعثه في عامه الأربعين في محل ولادته نبياً للناس كافة، قال تعالى

وما أرسلناك إلّاكافةً للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون (2)

.بُعث صلى الله عليه و آله في قوم يعبدون الأصنام في البيت الحرام، وكانت أصنامهم أساس الحياة خصوصاً عند قريش زعيمة العرب في مكة آنذاك، إذ كانت القرابين تقدم لهذه الأصنام، وفي ذلك مصلحة اقتصادية وأدبية لقريش التي كانت تحمي الدار، فالقضاء على «الدين الوثني» يعني القضاء على منافع قريش وزعامتها.

لذلك كانت مهمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في نشر الدين الجديد مهمة شاقة جدّاً، كمهمة أبيه ابراهيم عليه السلام، فقد ندّد بالوثنية والمعتقدات التي لا تتلاقى مع وحدانية اللَّه، وأظهر فساد نظمهم الاجتماعية، مما أثار غضب قريش عليه ومقاومتها إياه مقاومة شديدة حتى قال صلى الله عليه و آله: «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت».

ومضى محمد صلى الله عليه و آله يواصل الدعوة بثقة، ومضت الصفوة من الدعاة تواصل السير معه وتترسم خطاه المباركة، وقد أعيى قريشاً إصرارُ محمد صلى الله عليه و آله وأصحابه على تحدّيها فراحت تجدُّ في تحطيم دعوته وتعذيب المؤمنين به، مما اضطره للهجرة


1- 1 الاعلام، الزركلي.
2- 2 سبإ: 28.

ص: 246

إلى يثرب، بعد أن هاجر مئتا مسلم بإذنٍ منه صلى الله عليه و آله قبل هجرته بشهرين، قسمٌ منهم هاجر إلى الحبشة، وقسمٌ آخر إلى المدينة. ثم استقر الجميع في المدينة التي كانت تسمّى ب «يثرب» (1) قبل هجرته صلى الله عليه و آله وتشرّفها به فسمّيت «مدينة الرسول».

وحين وصول النبيّ الأكرم إليها شرع ببناء الدولة الإسلامية حيث توفرت له عناصرها- الأرض، الأمة، السلطة السياسية المتمثلة بقيادته الحكيمة-، فأسس المسجد؛ ليكون منطلقاً للقيادة ومركزاً لبناء الدولة إلى جانب مهام المسجد العبادية والفكرية، وقد تمثل بناء الدولة في الخطة الحكيمة التي وضعها رسول اللَّه في بناء الجبهة الداخلية بمؤاخاة المهاجرين والأنصار، والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات، وعقد معاهدة مع اليهود بعدم الاعتداء، ثم تكوين الجيش المسلم والقوة المسلحة للجهاد في سبيل اللَّه، وبناء جهاز إداري متين، وعلاقات خارجية ببعث رسائل إلى بعض الملوك والحكام وغيرها من الأمور.

والذي يهمنا هنا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله أصبح قوة لا تستطيع قريش مقابلتها، فجهّز جيشاً من عشرة آلاف مقاتل وسار سرّاً ليباغت قريشاً، وليصادر إمكانية الدفاع من يدها، ولئلا يقع قتال في مكة الأمن والسلام.

وتحرك جيش محمد صلى الله عليه و آله صوب مكة في العاشر من رمضان سنة ثمان للهجرة، واستخدم حرباً نفسية بإشعال النيران في الصحراء على مقربة من مكة؛ ليُشعر قريشاً بقوة الجيش الإسلامي، ويثير الرعب في نفوس طغاتها، ويحملهم على الاستسلام والخضوع من غير قتال (2).

وهكذا دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- الذي خرج من مكة مستخفياً يطارده كفارها-


1- 1 يثرب: مدينة زراعية تقع على بُعد أربعمائة وخمسين كيلومتراً إلى الشمال من مكة المكرمة.
2- 2 راجع تاريخ الطبري، ومروج الذهب، وقصة الحضارة وغيرها من كتب التاريخ في فتح مكّة.

ص: 247

دخل فاتحاً محطّماً أعظم حصون الشرك والجاهلية، ولم يستطع الذين حاربوه طوال واحد وعشرين عاماً أن يصمدوا أمام قوة الإيمان الزاحفة، فاستسلموا، وأتوا إليه مذعنين، ودفعوا إليه الجزية التي فرضها عليهم صاغرين منكسرين.

وبهذا ثبتت الدولة والدعوة وأركانها في الجزيرة وتحقق الفتح المبين، واستلم الرسول صلى الله عليه و آله ولاية الكعبة وحطّم أصنامها، وصار يُطافُ بها كما طاف ابراهيم وابنه اسماعيل عليهم السلام من قبل حوالى خمسة آلاف من السنين، واستُجيبت دعوة ابراهيم عليه السلام: ربّنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويُعلمهم الكتاب والحكمة ويُزكّيهم... (1)

.وأذّن محمد صلى الله عليه و آله بالناس للحج، كما أذّن جده ابراهيم ودعاهم إليه، وعادت مناسك الحج الإبراهيمي كما خطّها جبرئيل لإبراهيم عليه السلام بإذن السماء...

الكعبة أحبّ بقاع الأرض إلى اللَّه

لقد ورد في الروايات الشريفة، عن خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه و آله وعن آله الأطهار: أنّ أحبّ بقاع الأرض إلى اللَّه تعالى هي الكعبة الشريفة. إضافةً إلى ما أشارت إليه الآيات القرآنية كما ذكرنا سابقاً...

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين هجرته إلى يثرب ملتفتاً وراءه ناظراً إلى الكعبة الشريفة مناجياً إياها: «واللَّه إنّك لأحبّ البقاع إلى اللَّه، ولولا أنّي أُخرجتُ منك ما خرجت» (2).

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أحبّ الأرض إلى اللَّه عزّوجلّ مكة، ما


1- 1 البقرة: 129.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 1: 5، ونقلتها بعض كتب التفسير منه كالكاشف والميزان وغيرها.

ص: 248

تربة أحبُّ إلى اللَّه عزّوجلّ من تربتها، ولا حجر أحبُّ إلى اللَّه عزّوجل من حجرها، ولا شجر أحبُّ إلى اللَّه عزّوجل من شجرها، ولا جبال أحبُّ إلى اللَّه عزّوجل من جبالها، ولا ماء أحبُّ إلى اللَّه عزّوجل من مائها» (1).

وقال عليه السلام أيضاً: «ما خلق اللَّه تبارك وتعالى بقعةً في الأرض أحبّ إليه منها- وأومأ بيده نحو الكعبة- ولا أكرم على اللَّه عزّوجلّ منها، لها حرّم اللَّه الأشهر الحُرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض» (2).

وهناك روايات أخرى نستغني عن ذكرها ونكتفي بما ذكرنا، ويكفي أن نستنتج حبّ اللَّه تعالى للكعبة الشريفة ممّا يعطيه لزائرها وللحاج إليها... فقد جاء في الصحيح:

«الحاج ثلاث أصناف: صنفٌ يُعتقُ من النار، وصنفٌ يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وصنفٌ يُحفظ في أهله وماله وهو أدنى ما يرجع به الحاج» (3).

الحج بين ابراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه و آله

ومما تقدم يتضح أن ليس هناك فرقٌ بين حج أبي الأنبياء الخليل إبراهيم عليه السلام وحج خاتم الأنبياء الحبيب محمد صلى الله عليه و آله؛ وهو حجّ واحد أصيل... بعيد كلّ البعد عن الإضافات البشرية والزوائد واللواحق الخارجة عن الحج الحقيقي...

ولكن للزمان معاوله وأنيابه، وللإنسان أهواؤه ورغباته الدنيوية... وقد لعبت في الأصول والمقدسات فحرفتها وأخرجتها في أحيان كثيرة عن خطّها الطبيعي الذي وضعه اللَّه تعالى ..


1- 1 المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني 2: 152، والفقيه: 215 تحت رقم 8.
2- 2 المصدر السابق نقلًا عن الكافي، الكليني 4: 253، والتهذيب 1: 248.
3- 3 المصدر السابق نقلًا عن الكافي، الكليني 4: 253، والتهذيب 1: 248.

ص: 249

فقد شَوَّه أو حَرَفَ هذا الخط الإلهي (الحج) كثيرٌ من ولاة الكعبة الشريفة وغيرهم ممن جاؤوا (1) بعد النبي ابراهيم عليه السلام فجعلوه مجرد طقوس خاوية وأفعال مادية جسدية محدّدة، وأخرجوه من معناه الروحي والقدسي الذي أراده اللَّه تعالى ..

فلم تعد الكعبة ذلك الصرح الإلهي العظيم الذي أقامه النبي إبراهيم الخليل عليه السلام ووضع قواعده، والهدف الإلهي الذي استهدفه من تأسيسها...

وإنما أصبحت مركزاً ومقراً للأفكار والأوضاع التي حملها العرب في العصر الجاهلي بما يحملون من روح وثنية من خلال إدخالهم الأصنام فيها وعبادتهم لها، والتقرب من خلالها إلى اللَّه زلفاً، أو مركزاً للأعاجم من فرس وغيرهم ممن لم يؤمنوا إيماناً صحيحاً، وإنما جاؤوا لإحياء ذكريات أو لأغراض أخرى غير دينية ولا إلهية من قبيل التجارة أو الترويح عن النفس، أو لقضاء الحاجة من خلال تقديم النذور والقرابين مما ورثوه من عادات وعقائد...

وهكذا ابتعد الحج عن أهدافه السامية الأولى الروحية والمعنوية، وصار مجرّد شكل ومظهر مادي لا مضمون فيه ولا روح...

وبُعث النور الأعظم، النبي محمد صلى الله عليه و آله وغيّر الدنيا، وغيّر المجتمع، وإذا بالكعبة والحج الأصيل نفسه يعيد مجده السالف التليد الذي أرساه النبي ابراهيم الخليل عليه السلام وأبناؤه وأحفاده المخلصون...

جاء محمد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله ليضع الحج في موقعه المناسب، الحج الأبدي، ما دام الإنسان حيّاً يجري على سطح الأرض...


1- 1 نقصد بالذين جاؤوا بعد النبي ابراهيم عليه السلام في منطقة الجزيرة من السدنة والولاة والحكام، وليس الأنبياء بين ابراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه و آله؛ لأنهم حجوا إليها كما حج ابراهيم عليه السلام وهو ما مرّ علينا سابقاً.

ص: 250

جاء الحج في لمساته الأخيرة ركناً مرتبطاً كامل الارتباط بالخالق البارئ عزّوجلّ، وممتداً امتداداً طويلًا إلى كلّ إنسان يجري في المعمورة؛ ليصوغ منه شخصية اجتماعية تستمد من الحج (ذلك الاجتماع الكبير) مفاهيم صادقة وقيماً عالية، تنظر إلى الآخرين نظرتها إلى نفسها... باعتباره عبداً من ملايين العبيد للَّه عزّوجل...

وهكذا عاد الحج الإبراهيمي على يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد أن ابتعد عن ابراهيم عليه السلام رويداً رويدا وخلف عن سلف كما قال تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً (1)


1- 1 مريم: 59.

ص: 251

ص: 252

ص: 253

الفصل العاشر: الحج في النظرية والتطبيق والمشتركات والاختلافات

اشارة

الحج في الإسلام لا يتكامل أساساً إلّامن خلال عدد من الممارسات والأفعال الميدانية الخاصة، يستمد قوته وتكامله من مصدر غيبي إلهي يتمثّل بالقرآن الكريم والسُنة النبوية الشريفة، ومصادر التشريع الإسلامي الأخرى ..

وهو على هذا الأساس المبين يصبح كياناً مقدساً له أهميته في الشريعة الإسلامية وحياة المسلمين.

ولا شك أنّ الحج في الديانات الأخرى إذا خضع لضوابط ذلك الدين وشعائره وممارسته التي استمدها من مصدر إلهي يكون- وبالطبع في وقته، قبل الديانات الناسخة، وقبل مجي ء الدين الإسلامي- شرعياً ومرضياً للَّه عزّوجلّ ومبرئاً للذمة.

من هنا تكون نقطة الالتقاء بين الحج في الدين الإسلامي المجيد والحج في الديانات السماوية الأخرى أما الديانات الوضعية فلا لقاءَ بينها وبين الحج الإسلامي أبداً؛ لأنها غير إلهية وغير شرعية في الأساس.

والحقيقة التي لابد من تأكيدها هي: أنّ الحج حاجة فطرية شرعها اللَّه تعالى

ص: 254

استجابة للفطرة التي فطر الناس عليها. وقد كان معروفاً في الأديان ومارسه الأنبياء جميعاً، منذ آدم عليه السلام حتى خاتمهم كما ذكرنا سابقاً، وفي الوقت نفسه مارسته الأديان الوضعية والجاهلية كما ذكرنا أيضاً لحاجتها النفسية إليه، ومن هنا جاء الفارق الكبير بين الحج السماوي والوضعي، فهو في الحالة الوضعية لم يجعله الواضع موافقاً لحاجة الإنسان الفطرية بالشكل المتكامل؛ لأنّ الواضع قاصر ومحدود.

وكما ذكرنا سابقاً أنّ الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية وجدنا حجّها قد تعدد فيه الزمان والمكان، واختُلقت طقوس خاصة بين المذاهب المتعددة، كلٌ حسب توجهاته واعتقاداته، وألزموا أنفسهم بحجٍّ حرفه الأسلاف أو بالأحرى ابتدعه الأسلاف، أما الدين الإسلامي فقد جعل من هذه الفريضة كمال الدين ووحدة المسلمين ووحدة الزمان والمكان، وبكلمة أخرى فالحج الإسلامي، الحج الأكمل والأصفى والمتعالي على الزمان والمكان، صلح لأبناء الإسلام، أمام الدعوة الإسلامية الأولى وهو اليوم كذلك وسيكون للأجيال المستقبلية القادمة أيضاً كما بدأ أول مرّة. وهذا هو الفارق الأساس بين الحج الإسلامي وغيره.

ويظهر الفارق جلياً عندما تحسُّ النفس أنّ الطقوس التي تمارسها مستمدة من المطلق ومرتبطة بالغيب، وسيحصل القائم بها على خير الدنيا والآخرة، أو أنها مجرد سفرة مريحة للنفس مرفهة لها عن همومها وآلامها بمسكن موقت مرتبط بالأرض.

وعلى هذا يمكن القول: إنّ الحج في الإسلام هو رمز نموذجي جاء لتلبية الحاجة النفسية الروحية الملحة داخل الانسان، والتي تندك فيها الفكرة والمضمون فيصيران كلًا واحداً، لا يتحملان الفصل والافتراق والتباعد، فالفصل بينهما يحوّل الشعيرة الإلهية إلى طقس مجرّد، وعادة فارغة من المضمون والروح، عادة لا تتجاوز ذاتها ولا تشع بأي إيحاء، كما نشاهد ذلك عند غير المسلمين في حجهم

ص: 255

واكتضاض طقوسهم ورموزها الخالية المجردة، والتي هي أقربُ إلى الترفيه والترويح عن النفس منها إلى الحج الحقيقي الأصيل الذي يدور محوره حول الانسان نفسه وسلوكه ومرضاة اللَّه.

وبناءً على هذا الفهم يمكننا أن نصنف الدلالات الحقيقية للحج والممارسات اللازمة له، ويمكننا أيضاً أن نبين نقاط الاشتراك والاختلاف بين الحج في الإسلام والحج عند غير المسلمين بصورة عامة:

فقد اشتركوا واتفقوا مع الحج الإسلامي في نقاط، واختلفوا وتباعدوا وافترقوا في نقاط أخرى يمكننا أن نعرض بعضاً منها:

نقاط الإشتراك

1- تلبية حاجة انسانية ضرورية

الانسان فقير وبحاجة إلى غني، وناقص وبحاجة إلى كامل، وضعيف وبحاجة الى قوي يسنده. فالمسلمون عرفوا الغني الكامل والقوي واتجهوا إليه، ولبّوا ما شرعه لهم و فَفروا إلى اللَّه (1)

ليغرس في نفوسهم الأمن والأمان والطمأنينة والسلام والحرية والكمال، فاتجهوا نحو الكعبة بيته العتيق ليستمدوا فيض هدًى منه ورشاد وسيل فوائد ومنافع دنيوية وأخروية، ويصبح لهم- الحج- سياج عزة ومنعة أمام أعدائهم...

أما غير المسلمين، أصحاب الديانات المحرفة والوضعية فقد أحسّوا بهذه الحاجة الفطرية واتجهوا إلى ما صوره خيالهم أنه هو الحق؛ ليكملوا نقصهم به ويغنوا فقرهم بطلب جماعي يشعرهم بالقوة والطمأنينة؛ لوجودهم معاً في مكان


1- 1 الذاريات: 50.

ص: 256

مقدس يشعرهم بالراحة النفسية والشفافية الروحانية بعيداً عن المطالب المادية المنهكة للنفس...

وقد اتفقت البشرية في كلّ زمان ومكان على أهمية هذه الزيارة الجماعية السنوية للفرد والمجتمع، وما لها من أثر على الفرد نفسه وعلى مجتمعه...

يقول د. حسن ظاظا: «ومن المؤكد أنّ الانسان في العصور السحيقة قبل التاريخ، كان يرتاد بقاعاً من الأرض يجد لها رهبة، أو راحة نفسية، أو شفافية روحانية، يحلق بها في آفاق أسمى من المطالب المادية التي تحاصره. ثم تبلور هذا الشعور في العصور التاريخية القديمة... الخ» (1).

والحج في الواقع حالة تعبّر عمّا يموج في نفس الانسان من الحاجة إلى سمو النفس وترفعها عن الحياة المادية إلى الحياة المعنوية والروحية.. وعن الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية التي تزيد النفس قوة واطمئناناً وراحة، ثم خروج الهموم والغموم من داخل الانسان من خلال البوح بها إلى معبوده المتكامل، وأمور أخرى نفسية واجتماعية، بالرغم من الصعاب والمشاق التي يواجهها الحاج خلال سفره إلى الحج.

هذه الحالة، هي صفة انسانية مشتركة... وهي صفة أساسية تنبع من الفطرة كما ذكرنا في مقدمة الفصل؛ لذلك وجدنا الحج في كلّ زمان ومكان في الديانات السماوية الأخرى والأخرى الوضعية يحتاجه صاحب النفس الصادقة، والقلقة على السواء، المتدين وغير المتدين، وبكلمة واحدة: إنّ الحج هو تلبية روحية مزيدة تشبع النفس وتروي الروح، ومن ذهب إلى الحج ومارس شعائره، يبقى يعيش في هذه التلبية بكلّ معانيها...


1- 1 الفيصل، طقوس الحج عند اليهود، مقال د. حسن ظاظا، العدد 210: 9.

ص: 257

2- القصد والزيارة

يتفق حج غير المسلمين مع المسلمين في القصد والزيارة إلى أماكن معينة في وقت محدد؛ لأنّ للحج نية في القصد لارتياد تلك البقعة أو ذلك المكان إضافةً إلى الأعمال المقدسة فيه.

والحج ليس حالة سائبة وإنما تنظيم شعائري وعقيدي يرمز لأصحابه ومعتقديه والقائمين به.

والقصد والزيارة إلى أماكن الحج من المشتركات في كلّ أنواع الحج في موكب الحضارات والأُمم والأديان المختلفة، وهذا القصد لا يكون فردياً، بل من شروطه الجماعة والمكان والزمان والطقس أو الشعيرة، وإن لم تتحقق هذه اللوازم للحج لا يكون حجّاً، بل زيارات عادية من الممكن أن تحصل في أي وقت والى أي مكان...

الحقيقة أنّ الفرق بين الحالتين، هو الفرق بين قانون أو ناموس قد يكون إلهيّاً وقد يكون من وضع البشر، وبين حالة بشرية عادية غير مرتبطة بناموس أو مصدر قانوني محدد...

إنّ الصفة الأولى ثنائية الزمان والمكان والجماعة أو الطقس والشعيرة وهي ما يعبر عنها (بالحج) والصفة الثانية هي انعدام هذه اللوازم وهي ما يعبر عنها (بالزيارات العادية).

إذن فالحج عند الجميع إضافةً إلى قدسيته وأهميته العقائدية والدينية، هو حالة شعائرية مؤطرة بإطار يميزها عن كثير من العبادات التي يتميز الكثير منها بعدم القيود والأطر الخاصة.

فالانفراد مثلًا في أي مكان مقدس مسجداً كان أو مزاراً أو كنيسة أو معبداً أو بيتاً مقدساً أو جبلًا أو... لا يمكن أن نطلق عليه حاجاً، وإن بذل العابد فيه كلّ

ص: 258

طاقاته وكلّ ما يملك في ذلك المكان...

إذن، فارتياد مكان في زمان متفق عليه مع الجماعة التي تربطها رابطة العقيدة والدين وممارسة شعائر ذلك المكان، من مشتركات الحج عند المسلمين وغيرهم.

3- الطقوس والشعائر

يتميز الحج عن غيره من العبادات الكثيرة أنه عمل ذو فعاليات عديدة ومتنوعة خلافاً لكثير من العبادات المحدودة. ومن لم يمارس هذه الفعاليات على أصولها الشرعية وأحكامها الدقيقة التي شرعها الشارع المقدس أو وضعها الواضع الأرضي، لا يمكن أن يُطلق عليه اسم (الحج) بأي حال من الأحوال.

والمقصود بالممارسة هي أداء فعل معين محدد على وفق ما وضحه الدين (1) للناس، والذي لا يمكن التلاعب به وتغييره إلّافي حدود ما يسمح به ذلك الدين.

وممارسة الطقوس والشعائر تتمثل بأعمال متنوعة حسب طبيعة ذلك الحج وموقعه في دينه أو حضارته، فهناك إحرام، ولباس معين، وذبائح، وطواف، ونزول أماكن معينة في وقت خاص، وعدم ممارسة فعل من المباحات التي يجوز الإتيان بها في أيام غير أيام الحج، أما في الحج فتصبح حراماً، وما إلى ذلك من الأعمال التي وردت في الدراسات التي تناولت الحج في التاريخ.

ويمكن أن نستشهد بنقطة اشتراك أساسية في الحج عند أغلب الأمم والأديان: الطواف وتقديم القرابين والأضاحي اللّذان يعتبران عمودين من أعمدة الحج، بل يمكن القول: إنهما قوام الحج عند مختلف الأديان والأمم.

وبالطبع طقوس الحج وشعائره مرّةً تكون حقيقية أصلية، ومرةً تكون


1- 1 نقصد بالدين هنا: أي المعتقد إن كان سماوياً أو غير سماوي.

ص: 259

مقتبسة، وتارةً أخرى تكون ابتداعية مختلفة، وفي كلّ الأحوال، يمكن القول: إنَّ من أساسيات الحج هو ممارسة أفعال وشعائر وطقوس، وبها يصبح الحج حجّاً، من حيث الشكل والمسمى وهذه من مشتركات الحج عند الجميع عبر التاريخ البشري...

4- الدعاء وطلب الحاجة والغفران

ما أضعف الانسان!

ما أضعفهُ تجاه كلّ شي ء، وتجاه قوى الطبيعة، تجاه نفسه، تجاه ما حوله..!

فكيف به تجاه المطلق خالق كلّ شي ء، قوى الطبيعة والحيوانات و... والكون كلّه. وقد صدق القرآن المجيد حين قال: خلق الإنسان ضعيفاً (1)

؟!

إذن فالانسان كائن ناقص ضعيف، وفي الوقت نفسه يمكن القول: إنه كائن خائف، إن انفرد وحده دون قوة تدعمه وتحميه، وكان الانسان القديم يخاف قوى الطبيعة، الأشجار، الجبال، النجوم، الكواكب... ولعله عبدها خوفاً من قوتها ولضعفه تجاهها.

وقد ورد في القرآن الكريم هذا المعنى فقد داوى الاضطراب والخوف بالاستناد إلى اللَّه تعالى إلى القوة المطلقة العظمى حيث عالج كلّ ذلك بذكر اللَّه تعالى قال عزّوجل: ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب (2)

والاطمئنان حاجة نفسية كبرى ..

وهذه الفريضة الجماعية في الاسلام، أو هذا الموقف أو الحالة الجماعية التي يلجأ إليها الانسان في الأديان الأخرى ماذا تعني؟ لا شك أنها تعني أنّ هناك


1- 1 النساء: 28.
2- 2 الرعد: 28.

ص: 260

حاجة نفسية فطرية أولًا- كما ذكرنا- ونواقص بشرية كثيرة يحاول الانسان أن يسدّها بمختلف الأسباب والأعمال والجهود لحبّه الفطري للكمال، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد سعى الانسان ومنذ القدم، منذ عرف الحج أن يطلب ممن يقصده ويعتقد بقدسيته أن يقضي حاجاته ويغفر ذنوبه وسيئاته ويرزقه ما يسعده، إضافةً إلى حاجاتٍ كثيرة لا تنقضي بالحالات الاعتيادية والطاقات المحدودة.

فالنفس صاغية إلى ربّها والى معتقدها، وأي مطلب أهم من أن تطلب حاجاتها؟ فهذه الصفة مشتركة ومهمة أساسية من أساسيات الحج عبر القرون الطويلة والتاريخ الانساني المديد...

5- التقرب للمعبود

إذا أحبّ الانسان شخصاً أياً كانت درجته، نوعه، غناه، فقره، يحاول التقرب إليه والتحبب إلى حضرته بشتى السبل، ببذل المال، ببذل النفس، ببذل الجهد...

بكلّ إمكاناته المتوافرة بين يديه، ولا شك أن درجة التقرب تعتمد أساساً على قيمة ذلك المُتقرب إليه... فعلى قدر مستواه، تأتي درجة التقرب، فالانسان الطيب النفس يُتقرب له بدرجة معينة، والوالي الكريم بدرجة أكبر، والأنبياء والرسل لا شك تكون درجة التقرب لهم أكبر وأعظم... وهكذا...

فكيف بنا- نحن البشر- إن كان المُتقرب إليه هو اللَّه تعالى خالقنا وبارئنا ومانحنا الحياة والوجود، وكلّ هذه النعم الظاهرية والباطنية؟!

إنها الدرجة الكبرى الدرجة المطلقة من التقرب؛ لأنه مطلق لا حدود لكرمه ونعمه.

ولكن أين يتقرب العبد إلى ربّه وخالقه...؟ لا شك أنه يتقرب إلى أحبّ شي ء

ص: 261

إليه وأحبّ مكان إليه، وأحبّ مكان إلى اللَّه عزّوجلّ منذ أن دحا الأرض- كما ذكرنا- هي بيته الحرام الذي جعله مثابةً للناس وقياماً لهم... هذا بالنسبة لمن أطاع ابراهيم عليه السلام وحفيده محمداً صلى الله عليه و آله وامتثل لأمر السماء وسُنة الأنبياء كما لاحظنا سابقاً.

أما حال غير المسلمين فهو مشابه إلى هذا، فلو رجعنا إلى اليهود مثلًا نجدهم يتقربون إلى اللَّه تعالى في حجهم، رغم بِدعتهم للمكان والزمان، والنصارى كذلك، أما الأغلبية من النصارى فقد جعلوا مريم عليها السلام والسيد المسيح عيسى عليه السلام واسطةً بينهم وبين اللَّه وهو ما ذكرناه، كما فعلت بعض القبائل العربية في الجاهلية بوضعهم الأصنام والأوثان واسطة بينهم وبين اللَّه...

أما غير الديانات السماوية فقد تقربوا في حجهم إلى آلهتهم المختارة... وبذلك يكون من أساسيات الحج التقرب إلى المعبود سواء كان معبوداً حقيقياً أم خيالياً أو مصنوعاً.

وهذه النقطة الحساسة من مشتركات الحج عند الجميع مع فارق واسع بينهم وبين المسلمين.

فالحج عند المسلمين يأتي قمة التقرب إلى المعبود (اللَّه عزّوجل)، فهو- التقرب في الحج- تجسيد لأحوال الحاج الباحث عن ربّه المتوجّه إليه أينما حلَّ وارتحل، يلتمس سبيل الوصول إليه ويتعرض لأنفاس رحمته، فالحاجّ منذ اللحظات الأولى التي ينوي فيها الحج ويرحل عن الأهل والدنيا وينقطع عن كلّ ما يجذبه إلى الدنيا، حتى الإحرام من الميقات فالطواف فالوقوف فالرمي، وفي كلّ حالٍّ ومرتحل له يبحث عن اللَّه ويطلب الزلفى إليه والقرب منه، فهو ضيفه الذي لبّى دعوة التوحيد كما لبت الأنبياء والرسل في أعماق التاريخ، وحجت إلى البيت الحرام والكعبة الشريفة.

ص: 262

6- القرابين والأضاحي

عادة القرابين والأضحية، عادة بشرية قديمة، عرفها الانسان منذ عرف العبادة، فكانت إحدى أهم وسائل التقرب إلى المعبود، أياً كان نوعه... والحقيقة نحن لا نعرف البداية الأولى للأضاحي البشرية...

لكنّا نعرف أنّ كلّ الحضارات مارست هذا الطقس لتفتدي الأحياء الباقين من البشر، وقد كانت أبشع الأضاحي والقرابين تلك القرابين البشرية التي كان يذبح فيها الضحية فداءً لإله مادي حجراً كان أو شجراً أو ظاهرةً كونيةً طبيعيةً، وقد كانت هذه الحالة على أشدّها في حضارة أمريكا الوسطى (المايا والأزتك) فكان الكهنة في هذه الحضارة يأخذون الضحية إلى قمة هرم المعبد، فيتقربون به إلى الإله (1).

وكانت بداية فكرة القربان، هي الخوف من الموت الجماعي: فأخذ الإنسان البدائي يضحي بالانسان كحلّ لهذه الاشكالية العقلية، حتى جاء دور إسماعيل الولد الوحيد والحبيب لنبي اللَّه إبراهيم عليه السلام، فتأمر السماء إبراهيم عليه السلام أن ينحر ولده في موسم الحج، وعندما عزم صادقاً من أعماق قلبه راضياً بقضاء اللَّه تعالى بالتضيحة بولده، وتلّه للجبين ممراً المدية على نحر ولده، نوديَ: أن يا إبراهيم* قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين* إنّ هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بِذَبح عظيم (2)

.وجاء الإعلان بالفداء الحقيقي أو التضحية الواقعية وهي ذبح الأنعام في حالة


1- 1 انظر الفيصل، د. خالص جلبي، مقال: يوم الحج الأكبر، يوم ميثاق السلام العالمي، العدد 258: 22- 25.
2- 2 الصافات: 104- 107.

ص: 263

التقرب والفداء، وكان هذا درساً للبشرية، درساً عظيماً، لكنَّ أكثر الناس لا يعلمون هذا المعنى وبقي أكثر الناس على حاله في التضحية البشرية، وغلب عليهم عنادهم وشيطانهم على مدى الحضارات- كما ذكرنا سابقاً-، يقدمون الضحايا البشرية تقرباً للمعبود وحتى إنّ بعض المنتمين إلى الأديان السماوية كاليهود والنصارى يمارسون هذه العادة السيئة والبشعة لفترة طويلة من الزمن.

ولما جاء دور (الضحية) في الاسلام وجاء معه الإعلان القرآني بإيقاف «القربان البشري» في أي صورة هو، في تضاعيفه إعلان ضمني للسلام العالمي، وإذا كان ولابدّ فليضحَّ بالحيوان كرمز للقربان القديم، وتذكيره بالمرض القديم، مرض التضحية بالإنسان في أي صورة من الصور (1).

إذن، فالكلّ يضحي في الحج إن كان بالانسان أو الحيوان، وهذه عادة قديمة جدّاً، بل من أساسيات الحج، ولم نقرأ حجّاً في التاريخ لم يكن ضمن تعاليمه الضحية والقربان. وهذه نقطة أخرى من المشتركات بين أنواع الحج في التاريخ.

7- التعظيم للشعائر

الشعيرة في اللغة: هي العلاقة (2)، وهي هوية الجماعة وبيان انتمائها وتميزها عن الجماعات الأخرى والحقيقة أن الشعائر هي تعبير عن المظهر الخارجي للجماعة التي تربطها مصالح أو عقيدة أو فكرة مما تتبناه، فالشعائر إحدى الوسائل التي اعتمدها الانسان للتعبير عن عقائده، وقد ولدت بمولد الانسان على هذه الأرض، وارتبطت به، ورافقته خلال مراحل حياته المختلفة، وجمعت بين الايجابي


1- 1 الفيصل، د. خالص جلبي، مصدر سابق.
2- 2 لسان العرب، ابن منظور، مادة شعر، قم. منشورات أدب الحوزة. ايران.

ص: 264

والسلبي، بين المفيد وغير المفيد، والمعقول وغير المعقول. فقد كانت الشعائر قبل الاسلام موزعة على عقائد شتى وكانت حصيلة ما يعتقد به الانسان حول الكون والحياة والآخرة والآلهة والأرض و...

وقد اشترك الناس في تعظيمهم لشعائرهم في موسم الحج؛ لأنه مصدر إعلامي للمعتقد، ومصدرٌ يبرز فيه الانسان محبته ومدى تقربه وتقواه لمعتقده، وفيه مآربُ أخرى نستغني عن ذكرها هنا...

وقد تكون أصل الشعيرة سماوية ويقتبسها دين وضعي ويتبناها لينسبها إليه، وبمرور الزمن تفقد الشعيرة معناها ومغزاها، حتى يأتي أمر السماء ثانية في تثبيتها، كما حصل ذلك عند المسلمين حين ظنوا أنّ الصفا والمروة من أفعال الجاهلية؛ لأنّهم في الجاهلية كانوا يسعون ويطوفون بهما مع وجود الأصنام عليهما. فأنزل اللَّه تعالى

إنَّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه (1)

و من يعظّم شعائر اللَّه فإنها من تقوى القلوب (2)

؛ ليبين للمسلمين أنها ليست من بدع الجاهلية، وإنما اقتبست من الحج الابراهيمي الأصيل، ونُسبت لأفعال الجاهلية.

فجاء الاسلام بدستوره العظيم- القرآن الكريم- ليبين أنّ هناك نوعين من الشعائر، منها للَّه ومنها لغير اللَّه، فميز التي كانت للَّه وعدّها من تقوى القلوب، وصار للشعائر في الحج وظائف خاصة منبثقة من عقيدة التوحيد، وقائمة عليها، وأصبحت ممارستها وتعظيمها يجسّد تقوى الفرد وإيمانه ومدى ارتباطه باللَّه تعالى على العكس من شعائر غير اللَّه التي تكون إما اقتباساً- كما ذكرنا سابقاً- أو بدعة يبتدعها انسان، وبمرور الزمن تتحول إلى عقيدة، وتثبت لتتعامل معها الأجيال اللاحقة المقلدة للسلف، وتكون عقيدة راسخة لا تنفك عن الدين المتبع.


1- 1 الحج: 32.
2- 2 الحج: 32.

ص: 265

إذن، فهذه نقطة اشتراك بين الحج الإسلامي وغير الإسلامي، ويمكن القول:

إنّ تعظيم الشعائر من صميم فكرة الحج وأفعاله، فكلّ الأمم والأديان تعظم شعائرها، وتبرز عقائدها من خلال الحج.

نقاط الاختلاف

اشارة

ومما سبق عرفنا المشتركات بين الحج الإسلامي والحج عند الأمم والأديان الأخرى والآن نستعرض نقاط الاختلاف بين الاثنين:

1- الانحراف عن خط الأنبياء والرسل

عرفنا مما سبق أنّ الأنبياء جميعاً وبدون استثناء توجهوا إلى الكعبة الشريفة في حجهم، ولم يرد نصّ واحد يذكر أنّ نبياً من الأنبياء اتخذ له وجهة أخرى في حجّه غير الكعبة، كالبيت المقدس مثلًا أو أي مكانٍ آخر...

وعلى هذا فإن حج غير المسلمين انحراف عن خط الأنبياء، وطريقهم الذي لا ريب فيه ولا شك. ومن الواضح أنّهم بُعثوا لخير البشر وهدايتهم ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام، ولفهم هذا الأمر بشكل واضح يكفينا قراءة هذه الآية الشريفة:

وما أرسلنا من قبلك من رسول إلّانوحي إليه أنّه لا إله إلّاأنا فاعبدون (1)

.وفي هذه الآية نجد توضيحاً جلياً لمهمة الأنبياء في إزالة مظاهر الشرك بأنواعه في كلّ آنٍ ومكان...


1- 1 الانبياء: 25.

ص: 266

وعلى هذا الأساس فالانحراف عن خط الأنبياء والرسل هو الضلال المبين والتيه والضياع والانحراف عن جادة الحق.

وقد انحرف أكثر البشر في الحج- كما رأينا ذلك في الفصول السابقة- انحرفوا عن الخط الصحيح؛ خط الأنبياء والرسل في التوجه في الحج إلى بيت اللَّه الحرام، واتخذوا لهم وجهات متعددة وأماكن مختلفة كما قرأنا ذلك في الفصول السابقة في حج الأمم والحضارات وحج اليهود والنصارى كلّ ذلك يُعدُّ ابتعاداً وانحرافاً عن الخط الذي رسمه اللَّه تعالى للأنبياء، والذي أمرهم بتبليغه للبشر، فمن لم يمتثل لهم فقد ضلَّ ضلالًا بعيداً وانحرف انحرافاً كبيراً، ولعلّ هذه أهم نقطة اختلاف بين الحج عند المسلمين والحج عند غيرهم.

2- التقليد الأعمى

وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللَّه قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون (1)

.«الإلفاء، الوجدان أي وجدنا عليه آباءنا... وبيانه أنه قول بغير علم ولا تبيّن، وينافيه صريح العقل فإنّ قولهم: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، قول مطلق، أي نتبع آباءنا على أي حال وعلى أي وصف كانوا، حتى لو لم يعلموا شيئاً ولم يهتدوا ونقول ما فعلوه حقّ، وهذا هو القول بغير علم، ويؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له ولو كانوا اتبعوا آباءهم فيما عملوه واهتدوا فيه وهم يعلمون: أنهم علموا واهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم» (2).


1- 1 البقرة: 170.
2- 2 الميزان في تفسير القرآن 1: 418.

ص: 267

إن اتباع السلف بدون تفكير وتعقل لا شك يؤدي إلى الانحراف والابتعاد عن الحقيقة؛ لأنّ في السلف الغث والسمين والصحيح والخطأ. وعليه فالحكمة والطريق الصحيح هو انتقاء الصحيح والمناسب الذي يُرضي اللَّه تعالى ويحقق المصلحة والإيمان الذي أمر به اللَّه عزّوجلّ، وإلّا عاش الانسان الجهل والخرافة كما عاش الأجداد، وبالنتيجة فهو بعيد عن الخط الصحيح الذي يرضي اللَّه تعالى والأنبياء والرسل عليهم صلوات اللَّه وسلامه.

وهذه نقطة مهمة أيضاً من نقاط الاختلاف بين حج المسلمين وحج غير المسلمين، حيث إنّ المسلمين اتبعوا سُنة محمد صلى الله عليه و آله في الحج، وغيرهم اتبعوا آباءهم وأجدادهم في الضلال والانحراف، واعتبروا سُنة الاجداد والآباء سُنة الحق والصواب، واتخذوا بيوتاً لهم غير بيت اللَّه، وحجوا وطافوا، وقدموا القرابين والأضاحي، وأتعبوا أنفسهم بأمور لا تضر ولا تنفع، بل في أحيان كثيرة تضرّ دنيا الانسان الطالب لها بالاضافة إلى آخرته.

3- البِدع والخرافات

البِدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين (1).

الخرافة: اعتقاد أو فكرة لا تتفق مع الواقع الموضوعي بل تتعارض معه (2).

والخرافة مفهوم عام يشمل عدداً من الأفكار غير العلمية، يشمل الشعوذات والأساطير والأوهام والفأل، ويرتبط بالخيال والكذب والابتعاد عن الواقع الموضوعي (3).


1- 1 البِدعة، د. الشيخ جعفر الباقري: 136.
2- 2 التفكير الخرافي بحث تجريبي، منصور ابراهيم: 18.
3- 3 مكانة الفلك والتنجيم، عبدالأمير المؤمن: 280.

ص: 268

ولو رجعنا إلى الفصول السابقة واستقرأنا خزعبلات الأمم السابقة في الحج فلا نراها إلّامجموعة من البِدع والخرافات والاساطير والألاعيب والأكاذيب، وأحكام لم ينزل اللَّه بها من سلطان. وبهذا تحدث البدعة.

قال النبي صلى الله عليه و آله: «لا يذهب من السُنة شي ء، حتى يظهر من البِدعة مثله، حتى تذهب السُنة، تظهر البِدعة، حتى يستوفي البِدعة من لا يعرف السُنة» (1).

وقال صلى الله عليه و آله أيضاً: ما من أُمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بِدعة، إلّاأضاعت مثلها من السُنة» (2).

كما قال الإمام علي عليه السلام: «ما أحدثت بِدعة إلّاتُرك بها سُنة» (3).

وقد مرَّ علينا ابتداع سُنة الحج إلى بيت المقدس وغيره عند اليهود والنصارى وأسباب نشوئها، وذكرنا أنها إما اسطورة خيالية أو خرافية أو نتيجة أوهام وكذب أو لمصلحة سياسية أو اجتماعية أو عنصرية، وما إلى ذلك من الخزعبلات...

يقول العلامة الطباطبائي: «وربما هيّج الخيال حسن الدفاع عن الانسان أو يضع أعمالًا لدفع شر هذا الموجود الموهوم ويحث غيره على العمل بها؛ للأمن من شره فيذهب سُنة خرافية. ولم يزل الانسان منذ أقدم أعصار حياته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم، وليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين، فهي موجودة بين الغربيين مثلهم لو لم يكونوا أحرص عليها منهم» (4).

إذن فالحج عند غير المسلمين هو مجموعة من الخيالات والبِدع والخرافات


1- 1 كنز العمال، علاء الدين الهندي 1: 222. ح 1119.
2- 2 المصدر السابق: 319، ح 101.
3- 3 نهج البلاغة، الخطبة 145.
4- 4 الميزان في تفسير القرآن 1: 422.

ص: 269

يدخل فيها عامل العنصرية؛ ليكون حجّاً مستقلًا عن بيت اللَّه الحرام الذي فرض حجه منذ زمن آدم عليه السلام.

4- الشرك باللَّه ومعصيته

الحج في نظر الاسلام إعلان العبودية والولاء للَّه وحده لا شريك له، والتحرر من كلّ آثار الشرك والجاهلية، بطريقة جماعية حركية، تؤثر في النفس، وتشبع المشاعر والأحاسيس بمستوحيات الايمان، ومداليل التوحيد، وإذا خالف الحج هذا الإعلان فلا يمكن أن يسمى حجّاً، بل إجهاد النفس في مقابل اللاشي ء، كما يقول القرآن الكريم: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبُهُ الضمآنُ مآءً حتى إذا جآءَهُ لم يجدهُ شيئاً ووجد اللَّه عنده فوفّاه حِسابَهُ واللَّه سَريع الحساب (1)

.فأصحاب الأديان الوضعية أشركوا باللَّه في حجّهم وأتعبوا أنفسهم وبذلوا أموالهم في سبيل أحجار صامتة لا تنفع ولا تضر، وأصحاب الديانات السماوية كاليهود والنصارى جعلوا واسطة بينهم وبين اللَّه عزّوجلّ وجعلوها تقربهم إليه، والنصّ التوراتي التالي يؤيد كلامنا:

«فأقبل رؤساء اليهود وسجدوا للملك، فأقرّهم على ذلك، ثم تركوا (بيت الرب) إله آبائهم وعبدوا عشتروت وسائر الأصنام، فحلّ غضبٌ على يهوذا وأورشليم لأجل معصيتهم هذه، فأرسل إليهم أنبياء ليردوهم إلى الرب. وأشهدوا عليهم فلم يسمعوا. وفاض روح اللَّه على زكريا بن يوياداع الكاهن. فوقف أمام العشب وقال لهم: هكذا قال اللَّه: لِمَ تتعدون وصايا الربّ؟ إنكم لا تفلحون لأنكم


1- 1 النور: 39.

ص: 270

تركتم الربّ، فترككم. فتجمعوا عليه ورجموه بالحجارة بأمر الملك وفي داخل بيت الرب» (1).

والقرآن الكريم يبين أنّ بعض الناس يأخذون إحدى مخلوقات اللَّه تعالى من ناس أو حجارة أو غير ذلك ويحبونها ويجعلونها نِدّاً للَّه تعالى ويتقربون إليها كأنها خالقهم وصاحب نعمتهم.

يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم: ومن الناس من يتخذ من دون اللَّه أنداداً يحبونهم كحب اللَّه والذين آمنوا أشدُّ حُباً للَّه ولو يرى الذين ظلموا إذ يرونَ العذاب أنّ القُوةَ للَّه جميعاً وأنّ اللَّه شديدُ العذاب (2)

.والندُّ هنا: يعني الشريك والمماثل، وتصف الآية الكريمة الذين يجعلون ندّاً للَّه، بالظالمين، يطيعون الند ويثقون به ويتوكلون عليه، ويتصورون أنه دفع عنهم الشر ويأتيهم بالخير.

والآية الكريمة أعلاه تبين أنّ هناك فريقاً آخر آمنوا باللَّه وكان حبّهم للَّه أشدَّ من حب الظالمين للشركاء.

وهذا فرقٌ كبير بين الحج عند المسلمين وحجِّ من أشرك باللَّه تعالى من خلال هذه العبادة الجماعية الكبرى وفرقٌ عظيم؛ لأنّ الحج هو العبادة الخالصة للَّه، وحجّ هؤلاء يفتقد لهذا الشرط العظيم...

5- الازدواجية في ممارسة طقوس الحج

أصل الحج تشريع إلهي، وشاع في زمن النبي ابراهيم عليه السلام، ومن الصعب الوصول عبر النصوص أو الوثائق الباقية أو الآثار إلى ما يمكن رسم حقيقة ما


1- 1 سفر أخبار الأيام الثاني، الاصحاح 24، الفقرات 17- 21.
2- 2 البقرة: 165.

ص: 271

مارسه الأنبياء من أفعال قبل الخليل ابراهيم عليه السلام وبعده، وكلّ ما وصل إلينا بالشكل الواضح وعن طريق القرآن الكريم والسُنة الشريفة هو الحج الإبراهيمي وما بقي من آثاره عند الجاهلية ثم الحج المحمدي.

والثابت عندنا أنّ جميع الأمم والأديان مارست الحج رغم ابتعادها وانحرافها عن سُنة الأنبياء، مارسته بالشكل الذي حلى لها... فكان في بعض الأحيان يتخلله رقص وموسيقى ويقارن الذهاب إلى المكان المقدس شرب الخمر والفساد الأخلاقي وغيرها...

ولو استقرأنا طقوس الحج عند المنحرفين عن خط الأنبياء والرسل؛ لوجدنا الازدواجية في ممارسة طقوس الحج واضحة، أوضح من نارٍ على علم، وإن دلَّ هذا على شي ء، فإنما يدل على قصر الإنسان حين يُشرّع أمراً هو للَّه وحده في الأصل باعتباره عبادة يتقرب بها العبد إلى ربّه.

يقول د. حسن ظاظا في وصفه طقوس الحج عند اليهود: «ويبدو أنّ وصول بني إسرائيل إلى أماكن الحج كان مصحوباً برقص جماعي، وموسيقى إيقاعية احتفالًا بالوصول إلى المكان المقدس عندهم، بل كثيراً ما كانوا يشربون الخمر إلى درجة السكر البيّن» (1).

6- تعدد المكان والزمان

لو قارنا أماكن الحج عند غير المسلمين وعند المسلمين لاتضح لنا الفارق بين هؤلاء وأولئك، فالمسلمون يقطعون آلاف الأميال ويخترقون كلّ حواجز الحدود، ويجتازون كلّ الموانع التي صنعها الإنسان على أرض اللَّه سبحانه... استجابةً لنداء


1- 1 الفيصل، طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، العدد 210: 7.

ص: 272

العقيدة، وتلبيةً لهتاف الإيمان... فهم يستشعرون وحدة الأرض، ووحدة الزمان، ووحدة البشر، ويمثلون عملية إسقاط الحدود التي صنعتها الأنانيات والأطماع البشرية: الإقليمية، والقومية، والعنصرية، وغيرها...

أما غيرهم فقد تعددت عندهم الأماكن، كأن يحج قوم في سنة واحدة إلى عدّة أماكن، أو قوم ينتمون إلى دين واحد، ولكن كلٌ يتخذ له وجهة خاصة به وهكذا... فاليهود مثلًا حين تعددت فرقهم كلٌ اتخذ له وجهة خاصة، وفي بعض الأحيان خالف الفرقة الأخرى وعاداها، واعتبر وجهة نظره هي الأفضل والأصح... والنصارى كذلك وغيرهم أيضاً كما ذكرنا سابقاً-.

يقول د. حسن ظاظا عن أماكن الحج عند اليهود: «إنّ أماكن الحج عندهم تتغير مع الزمن. فإبراهيم عليه السلام كان يقيم عند سنديانة قمرا بالقرب من مدينة الخليل، ثم توقف يعقوب عند جبل جرزيم بالقرب من نابلس، وبنى هناك معبداً اشتهر باسم «بيت اللَّه» وبالعبرية «بيت إيل»، فصار حرماً له وللأسباط. وتوقف موسى عند نبع عين قديس (قادش) فصار مكان حج أيضاً، وتبرك اليهود بنخلة دبورة البنية، وبجبل سعير في إقليم غزة، ثم بقبور السلف الصالح في الخليل إلى أن تمَّ تشييد هيكل سليمان بالقدس. ومع ذلك ما زال اليهود يحجون إلى قبر العُزير في العراق، وقبر المتصوف اليهودي أبي حصيرة في دمنهور، وقبر فقيههم عَمْرام في المغرب بالقرب من وزّان، بل قبر المتصوف بَعَلْ شِمْ طُوف في فلنيوس بليتوانيا» (1).

وهذا فارقٌ كبير بين حج المسلمين على اختلاف مذاهبهم وثنائية الزمان والمكان التي التزموا بها وبين حج غير المسلمين.


1- 1 طقوس الحج عند اليهود، الفيصل، مقال د. حسن ظاظا، العدد 210: 8.

ص: 273

7- الانصهار في الهوى

وينحرف الإنسان أحياناً نتيجة لاستسلامه لضغوط قوة الهوى عليه، وقد يندفع كذلك إلى ما هو أبشع من ذلك، تلبيةً للنزعات الأنانية الكامنة في نفسه، أي أنه يعرف الحق ولا يتبعه، ويحرف تعاليم السماء وهو يعلم أنها الحق، يحرفها وفق أهوائه وميوله الخاصة لكي يُتبع ويضل الآخرين ليبرز عليهم، فيردى ويُردي الآخرين إلى هاوية الضلال...

قال تعالى ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هُدًى مِنَ اللَّه (1)

.فالنفس الإنسانية تتجاذبها تيارات وشهوات متعددة، وهي تنساق مع مغريات الحياة وملاذّها، وتستعصي على الحق، وتأبى قبوله، والسير على هداه؛ لما فيه من منعٍ للنفس عن أهوائها، ومشتهياتها الفانية...

قال الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً (2)

قال عليه السلام:

«هم النصارى والقسيسون، والرهبان، وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة، والحرورية، وأهل البدع» (3).

وعنه عليه السلام أيضاً في قوله تعالى والذين كسبوا السيئات جزاء سيئةٍ بمثلها وترهقهم ذِلةٌ ما لهم من اللَّه من عاصم (4)

قال عليه السلام: «هؤلاء أهل البدع والشبهات والشهوات، يسوّد اللَّه وجوههم، ثم يلقونه» (5).


1- 1 القصص: 50.
2- 2 الكهف: 103- 104.
3- 3 تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي 2: 46.
4- 4 يونس: 27.
5- 5 تفسير القمي 1: 311.

ص: 274

فإذا تمكنت الأهواء من الانسان وتحكمت الشهوات عليه وخضع واستسلم لها عرضته للسقوط والانحراف عن جادة الاستقامة، وتحول الانسان حينئذ مصدراً للشر في علاقاته وحياته، وحتى علاقته مع خالقه. فالهوى حرف كثيراً من البشر عن جادة الحق في الحج.

خاتمة

وفي نهاية المطاف، وبعد جولة سريعة في رحاب فريضة إلهية متميزة، تمتاز على غيرها بمواصفات خاصة أهمها اجتماعيتها والتقاء أكبر عدد من المسلمين في عمل واحد وهدف واحد وروح واحدة و...

بعد هذه الجولة، لابدّ من القول: ما هي غايتنا من هذا الدخول في طقوس الحج عند الحضارات والأُمم المختلفة؟ هل لمجرّد استعراض تاريخ جزء من دياناتهم وأفكارهم وسلوكهم، وبالتالي يصبح خزينُنا من التاريخ كبيراً وشاملًا؟ هل لمجرّد إشباع حبّ الاستطلاع الملحّ داخل العقل والنفس؟ هل لشي ء أو أشياء أخرى

بالتأكيد أنّ هذا الذي أوردناه داخلًا في غايتنا وهدفنا من هذه الدراسة المتواضعة، ولكنْ هناك هدف آخر أكبر داخل في طبيعة تفكيرنا الاسلامي المتميز بالصدق والعلمية والمنهجية.

هدفنا هو محاولة معرفة الحج الحقيقي الصحيح بين أنواع الحج الكثيرة، معرفة علمية برهانية، نقرأها قراءة من خلال التاريخ وما فيه من تنوعات، وإلّا فليس هنا شك في أن الحج الحقيقي هو الذي أتى به الاسلام ضمن الدين الإسلامي، وجعله ركناً غاية في الأهمية ضمن دين اللَّه الحنيف الذي هو الاسلام.

قال تعالى إنّ الدين عند اللَّه الاسلام.

ص: 275

إنّ أنواع الحج الأخرى الكثيرة، سواء منها الحج المحرّف في الديانات السماوية أو أنواع الحج الوضعية التي تفرضها الفطرة الانسانية، هي التي تضع أصابعنا على الحج الحقيقي، من باب التضاد، فمن خلال الخطإ نعرف الصواب، وممَّا تمجهُ النفس نحس بما تحبه الروح وهكذا...

من هنا تتضح الغاية الأساسية من هذا البحث، تتضح بشكل جلي وواضح، ينعزل فيه الباطل عن الحق، والخطأ عن الصحيح.

وهكذا يتبين الحج الذي جاء به الدين الإسلامي، بأعلى درجات الوضوح... يتبين من خلال طقوس وعادات وأهواء الآخرين... يتبين حجّاً إلهياً كبيراً كبر الدين الإسلامي وأهدافه العظمى التي انفردت وتعالت على كلّ الأديان.

فأين هو من حج أولئك الذين صنعوا لأنفسهم حجّاً خاصاً غذّوه من خرافاتهم وخزعبلاتهم وأوهامهم، فبنوا بأيديهم أماكن خاصة مُلئت بطقوس وأعمال ما أنزل اللَّه تعالى بها من سلطان.

المحصلة النهائية من كلّ ما ذكرنا، ومن دراسة كلّ أنواع الحج الأخرى وأشكاله، هو أنّ الحق والصدق في الحج الإسلامي... الحج الذي أجمله القرآن الكريم وفصلته سُنة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وآل بيته الكرام، وأخيراً لابدّ وأن نقرأ الآية المباركة الآتية ونلتزم بها:

ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (1)


1- 1 آل عمران: 85.

ص: 276

ص: 277

مصادر الكتاب

1- القرآن الكريم.

2- الكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد.

الكتب العربية

3- إبراهيم أبوالأنبياء، عباس محمود العقاد، منشورات المكتبة العصرية، بيروت- صيدا.

4- أخبار مكة، محمد بن عبداللَّه المعروف بأبي الوليد الأزرقي المكي، تحقيق رشدي صالح ملحس، دار الأندلس، بيروت 1983 ط 3.

5- أصول الكافي، محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني.

6- الأبعاد الاجتماعية لفريضة الحج، د. زهير الاعرجي، ط: أمير- قم، الطبعة الأولى

7- الاسلام في مسائل الحلال والحرام، كتاب الحج، المحقق الحلي.

8- الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، القاضي مجير الدين الحنبلي.

9- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، الطبعة البيروتية.

10- البدعة، د. الشيخ جعفر الباقري، ط: أمير- قم، الطبعة الأولى

11- البيان والتبين، الجاحظ.

ص: 278

12- تاريخ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.

13- تاريخ اليعقوبي، أحمد بن إسحاق اليعقوبي.

14- ترتيب القاموس، مادة حجّ.

15- تفسير في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، طبعة عام 1998.

16- تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي.

17- تفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، دار العلم للملايين، بيروت.

18- الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، الطبعة البيروتية.

19- التفكير الخرافي في بحث تجريبي، منصور إبراهيم.

20- التهذيب، الشيخ الطوسي.

21- الجواهر، محمد حسن النجفي.

22- الحجّ عبادة وتربية، منشورات دار التوحيد، الكويت، الطبعة الأولى 1978 م.

23- الحجّ حكمة ورموز، تحقيق ظفر الاسلام خان، المعهد الاسلامي، لندن 1982 م.

24- الحجّ على مختلف المذاهب، محمد جواد مغنية، ط: سپهر- إيران، عام 1979 م.

25- الحجّ وآثاره على الحياة الاجتماعية، الشيخ التسخيري والشيخ محمود قالصنوة ط:

سپهر- ايران.

26- الحجّ ودوره الهام في حياة الانسان، ط: سپهر- ايران 1997 م، رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية.

27- حجّة الوداع، ابن حزم.

28- حقائق وأباطيل، محمد فوزي، دار الصفدي- دمشق، سوريا.

29- الروضة البهية في شرح (اللمعة الدمشقية)، الشهيد الأول- محمد بن جمال الدين المكي العاملي، ج 1، باب الحجّ، الطبعة السادسة، مكتب الإعلام الإسلامي.

30- زوال إسرائيل حتمية قرآنية، أسعد بيوض التميمي، منشورات أوپن پرس المحدودة، لندن، عام 1984 م.

ص: 279

31- سفينة البحار، شيخ عباس القمي.

32- سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني، ابن ماجة.

33- شرايع الاسلام، المحقق الحلّي، باب الحجّ، منشورات الأعلمي- طهران.

34- الطبقات الكبرى ابن سعد.

35- صحيح مسلم، أبو الحسن مسلم بن الحجاج القشيري، شرح النووي.

36- غوالي اللئالي العزيزية، إبراهيم الإحساني ج 1، مطبعة سيد الشهداء- قم.

37- عقائد الإسلام، السيد مرتضى العسكري.

38- العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية.

39- الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم الأندلسي.

40- فقه القرآن، للراوندي.

41- الفقيه، للشيخ الصدوق.

42- قصص الأنبياء، عبدالوهاب النجار، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

43- الكافي، الكليني.

44- الكامل في التاريخ، ابن الأثير ج 1.

45- كتاب التعريفات، الجرجاني.

46- كتاب الأصنام، أبو منذر هشام بن محمد الكلبي.

47- نهج البلاغة، الخطبة 192 (القاصعة).

48- لسان العرب، ابن منظور، منشورات أدب الحوزة، قم، مادة (شعر).

49- اللمعة الدمشقية، العاملي، باب الحجّ.

50- المحجّة البيضاء، الفيض الكاشاني، مؤسسة الأعلمي- بيروت.

51- المختصر النافع في فقه الإمامية، المحقق الحلي، ت 676 ه، منشورات المكتبة الاسلامية الكبرى وقسم الإعلام الخارجي للمؤسسة طهران- إيران.

ص: 280

52- المستدرك، كتاب الحجّ، باب 24، من أبواب الحجّ وشرائطه- حديث 22.

53- مسند أحمد، أحمد بن حنبل.

54- المصباح المنير، الفيومي، منشورات دار الهجرة- ايران- قم. معالم المدرستين، العلّامة مرتضى العسكري، المجمع العلمي الإسلامي، ط: الكليني.

55- مع الأنبياء، عفيف عبدالفتاح طبارة، انتشارات الشريف الرضي- قم.

56- معجم البلدان، ياقوت الحموي، مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

57- المعجم الوسيط، دار إحياء التراث العربي- بيروت- لبنان.

58- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، دعاء السمات، الطبعة الإيرانية.

59- المفردات، الراغب الاصفهاني، ت 502 ه، دفتر نشر الكتاب- ايران.

60- مروج الذهب، المسعودي ج 1.

61- الملل والنحل، الشهرستاني، ت 548 ه، منشورات الشريف الرضي- قم.

62- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق.

63- الموسوعة العربية الميسرة، إشراف محمد شفيق غربال، الطبعة الثانية، دار الشعب، القاهرة، عام 1972 م.

64- موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد علي التهانوني ج 1.

65- مهذب الأحكام، السيد السبزواري، ج 14، الفائدة الثالثة.

66- ميزان الحكمة، محمد محمدي ري شهري، مكتب الإعلام الإسلامي.

67- الوثنية في الأدب الجاهلي، د. عبدالغني زيتونة.

68- وسائل الشيعة، العاملي.

69- اليهود واليهودية، د. علي عبدالواحد وافي، دار نهضة مصر للطبع والنشر.

الكتب المترجمة إلى العربية

70- بابل تاريخ مصور، جون اوستي، ترجمة: سمير عبدالرحيم الحلبي، دائرة الآثار

ص: 281

والتراث 1990، ط. دار الشؤون الثقافية- بغداد- العراق.

71- تاريخ الحضارات العام، موسوعة، منشورات عويدات- بيروت.

72- دائرة المعارف الإسلامية، ج 7، باب الحاء، ط: دار المعرفة.

73- عظمة بابل، د. هادي شاكر، ت: د. عامر سليمان إبراهيم، ط: مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر- العراق.

74- قصة الحضارة، ول وايرئيل ديوارنت، دار الفكر.

75- معجم الحضارات السامية، هنري س. عبودي، جروس برس- طرابلس- لبنان.

76- المنجد، لويس معلوف، دار الشروق، بيروت، لبنان.

77- موسوعة علم الآثار، كليني دانيال، ت: ليون يونس، ط: دائرة الاعلام بغداد، سلسلة المأمون.

78- موسوعة المورد، منير البعلبكي، دار العلم للملايين.

المجلات العربية

79- إكتوبر، الصادرة عام 1976 م، الجمهورية العربية المصرية.

80- الطاهرة، العدد 70، طهران- ايران.

81- العربي، العدد 343، الكويت، الصادرة 1987 م.

82- الفيصل، العددان 210 و 258، المملكة العربية السعودية، الصادرة عام 1998 م و 1996 م.

83- الهلال، العدد 5، الجمهورية العربية المصرية، الصادرة عام 1975 م.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.