التبرك و التوسل و الصلح مع العدو الصهيوني في رسالتين

اشارة

سرشناسه : نجارزادگان، فتح الله، 1337 - ،گردآورنده.

سقاف، حسن

سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : التبرك والتوسل والصلح مع العدوالصهيوني: علي ضوء آراء: 1- محمد واعظ زاده الخراساني. 2- عبدالعزيزبن عبدالله بن باز. 3- حسن بن علي السقاف. 4- جعفر السحابي/اعداد و تنظيم فتح الله بن تقي النجار.

مشخصات نشر : تهران: مشعر، 1386.

مشخصات ظاهري : 215 ص.

شابك : 8500 ريال 978-964-540-032-1:

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : دو مبحث آخر كتاب حاضر نقدي بر "التبرك و التوسل..." واعظ زاده خراساني و ابن باز است.

يادداشت : كتابنامه: ص. 209 - 215؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 - -- دفاعيه ها و رديه ها.

موضوع : ابن باز، عبدالعزيز، 1912 - 1999م. -- نامه ها.

موضوع : واعظ زاده خراساني، محمد، 1304 - -- نامه ها.

موضوع : سقاف، حسن، -- دفاعيه ها و دريه ها.

موضوع : واعظ زاده خراساني، محمد، 1304 - .التبرك والتوسل والصلح مع العدوالصهيونيستي -- نقد و تفسير.

موضوع : ابن باز، عبدالعزيز، 1912 - 1999م.التبرك والتوسل و الصلح مع العدوالصهيونيستي -- نقد و تفسير.

موضوع : تبرك.

موضوع : توسل.

موضوع : صلح -- جنبه هاي مذهبي -- اسلام

موضوع : اسلام و صهيونيسم.

شناسه افزوده : Saggaf, Hasan ibn Ali

شناسه افزوده : واعظ زاده خراساني، محمد، 1304 - .التبرك و التوسل و الصلح مع العدوالصهيونيستي.

شناسه افزوده : ابن باز، عبدالعزيز، 1912 - 1999م Ibn Baz, Abd al-Aziz ibn Abdallah. التبرك والتوسل و الصلح مع العدو الصهيونيستي.

رده بندي كنگره : BP226/65/و2ت2084

رده بندي ديويي : 297/468

شماره كتابشناسي ملي : 1048882

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

تقديم

تبودلت منذ أمد رسالتان بين الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والشيخ عبد العزيز ابن عبد اللَّه بن باز، الرئيس العام لإدارةالبحوث العلمية والإرشاد والدعوة الإسلامية والمفتي العام بالمملكة العربية السعودية. الرسالة الأولى بعثت من مكّة المكرمة، أيّام الحج في 11 ذي الحجة الحرام 1413 ه. ق، والرسالة الثانية، صدرت إجابة للأولى من مكتب المفتي العام في 6 من جمادى الثاني 1416 ه. ق، رقم 1665/ 1، أي بعد ما يقارب سنتين وبضعة شهور.

تناولت الرسالة الأولى مسألتين مهمتين شغلتا ولا

ص: 6

تزالان الأوساط الدينيّة؛ ودور العلم في البلاد الإسلامية بل المجتمعات الاسلامية عامة على صعيدي الثقافة والسياسة.

الأولى: مسألة التبرك والتوسل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وبالأولياء في حياتهم ومماتهم. وهذه المسألة أحدثت ضجّة بين المسلمين منذ قرون بين موافق أو مخالف لها إطلاقاً، أو مفصِّل بين ما إذا خلصت من شائبة الشرك فتجوز، وإلّا فلا، وقد نشرت حولها مئات الكتب وآلاف الخطابات والبحوث.

والأستاذ الخراساني طرح المسألة على أساس أنّها مسألة خلافية بين المسلمين وحتى بين الصحابة أنفسهم، مشيراً إلى بعض ما يدعم رأيه، مؤكّداً على أنّ مثل هذه المسألة الخلافية سواء أجزناها أو رفضناها، لا ينبغي أن تكون مدعاة لتهمة الشرك ولا رمي القائلين بها إلى اعتقاد الشرك والخروج عن ربقة الإسلام.

المسألة الثانية: حول الصلح مع العدو الصهيوني، الذي أجازه الشيخ بن باز في بعض بحوثه إذا لم يكن في إمكان المسلمين الحرب مع هذا الكيان، وإحقاق حقوق الشعب الفلسطيني من خلال القتال، استناداً إلى صلح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مع المشركين في الحديبيّة. وقد شغل بحث الأستاذ

ص: 7

الخراساني حول هذه المسألة قسطاً كبيراً من رسالته، مركزاً على وجود فرق واضح بين صلح الحديبيّة وبين الصلح مع الكيان الصهيوني من نواحٍ شتى (1).

أجاب الشيخ بن باز عن المسألة الأولى مصرّحاً بوجود الخلاف فيها بين بعض الصحابة، ومفرّقاً في التبرك بآثار النبيّ، بين ما مسّ بدنه في حياته وبين غيره بعد وفاته، فجوّز الأوّل استناداً إلى شواهد كثيرة، ومنع الثاني لعدم الدليل على جوازه، وقد أطال البحث حول هذه المسألة وما شابهها مستنداً إلى ابن تيمية وغيره. ولكن الشيخ بن باز أمسك في رسالته عن الإجابة عن المسألة الثانية رغم أهميّتها القصوى في حياة المسلمين.

وقد كتب الأستاذ حسن بن علي السقاف تعليقاً على الرسالتين، وجاءت أكثر تعليقاته على رسالة الشيخ بن باز، أوضح فيها أنّ الشيخ بن باز لم يتعرّض لجميع جوانب المسألة، كما لم تكن الأدلّة التي أوردها في منع التبرّك بآثار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والتوسّل بالأولياء، تامّة. وأشار الشيخ السقاف أيضاً إلى عدد من الأحاديث الصحيحة المنقولة عن


1- راجع أيضاً بحث الأستاذ الدكتور عبد الهادي الفضلي، تحت عنوان: الرأي الفقهي في السلام مع إسرائيل، مجلة رسالة التقريب، العدد 15.

ص: 8

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، والآثار الثابتة عن الصحابة الدالّة على جواز التوسّل والتبرّك مطلقاً. كما ذكر أيضاً في أثناء البحث إقرار جمع من أئمة السلف والحفّاظ على جواز تلك الأمور.

ثم نعيد نشر هذه الرسائل الثلاثة مرفقة برسالة رابعة للأستاذ الفاضل الشيخ جعفر السبحاني تحت عنوان «حوارات عقائدية معاصرة» مع شرح وتفصيل فذكر خلاصة كلام المفتي الشيخ بن باز في مقاطع مختلفة ثمّ يعرّج عليه بالتحليل الواسع والدراسة الشاملة.

ونحن إذ نشكر الأساتذة لهذه الروح الأخويّة والحوار العلمي الذي جرى بينهم في المسألتين- رغم البون الشاسع في وجهات النظر- بروح طيّبة واحترام متبادل، كما كانت عليه سيرة السلف الصالح من الصحابة الكرام وكثير من التابعين وجلّ العلماء والعظام، رأينا أن نضع نص الحوار بين أيدي الباحثين ليكون نموذجاً للروح العلميّة الموضوعيّة المتوخّاة في مثل هذه المسائل الخلافيّة، علماً بأنّ مجلة «رسالة التقريب» (1) نشرت رسالة الأمين العام الشيخ محمّد


1- «رسالة التقريب» مجلة يصدرها المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، فصليّة متخصصة تعنى بقضايا التقريب بين المذاهب ووحدة الأمّة الإسلامية.

ص: 9

واعظزاده ورسالة المفتي العام الشيخ بن باز في العدد السادس عشر 1418 ه. ونشرت تعليق حسن بن عليّ السقاف في العدد السابع عشر 1418 ه.

وقد نقلنا من هذه المجلة كلتا الرسالتين مع تعليقة الشيخ السقاف وأضفنا تعليق الاستاذ الشيخ جعفر السبحاني وجمعناها في كراس صغير اشتمل على بعض الإضافات التي أوردناها على التعليقة، وتتضمن استخراج المصادر، وإيراد الشواهد، وبعض التوضيحات المناسبة في الحاشية. سائلين المولى تعالى أن يستفيد من هذا الكراس جميع المؤمنين والمؤمنات الذين يسعون دائماً للعمل بواجباتهم الشرعية عن فهم وتحقيق لا عن تقليد وتعصّب أعمى. واللَّه المعين وله الحمد في الآخرة والأولى.

ص: 10

ص: 11

التبرّك والتوسّل والصلح مع العدو الصهيوني

اشارة

بقلم:

الشيخ محمّد واعظزاده الخراساني

في حوار له مع الشيخ عبدالعزيز ابن باز

ص: 12

ص: 13

رسالة الأستاذ الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. سماحة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز المحترم/ الرئيس العام لإدارة البحوث العلميّة والإفتاء والدعوة والإرشاد.

السلام عليكم ورحمة اللَّه، وبعد:

لاحظت تركيزكم على مسألة التوحيد في عدد من أعداد مجلة البحوث الإسلامية، كما سمعتكم في جلستين وفقت لزيارتكم، تؤكدون تأكيداً متواصلًا على إرشاد الناس إلى التوحيد الخالص للَّه ربّ العالمين. ولا شك أنّه الأساس القويم، والركن الركين لهذا الدين الحنيف، بل هو

ص: 14

محور كل أحكامه وشرائعه. وهذه ميزة لمستها في سماحتكم مشكورين.

ومع احترامي وتقديري لجهودكم في هذا السبيل، خطر ببالي بعض الملاحظات، أحببت أن أبديها لكم راجياً أن يكون فيها خير الإسلام والمسلمين، والاعتصام بحبل اللَّه المتين في سبيل تقارب المسلمين ووحدة صفوفهم في مجال العقيدة والشريعة.

أوّلًا: لاحظتكم تعبّرون دائماً عن بعض ما شاع بين المسلمين، من التبرك بآثار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبعض الأولياء، كمسح الجدران والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره، شركاً وعبادة لغير اللَّه، وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم، ودعائهم، وما إلى ذلك.

إنّي أقول: هنا فرق بين ذلك، فطلب الحاجات من النبيّ ومن الأولياء، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون اللَّه أو مع اللَّه، فهذا شرك جليّ لا شك فيه، لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، والتي لا ينهاهم عنها العلماء في شتّى أنحاء العالم الإسلامي من غير فرق بين مذهب وآخر، ليست هي في جوهرها طلباً للحاجات من النبيّ والأولياء، ولا اتخاذهم أرباباً من دون اللَّه، بل مردّ ذلك كلّه(لو

ص: 15

استثنينا عمل بعض الجهّال من العوام) إلى أحد الأمرين:

التبرّك والتوسّل بالنبيّ وآثاره، أو بغيره من المقرّبين إلى اللَّه عزّ وجلّ.

فالتبرّك بآثار النبيّ من غير طلب الحاجة منه ولا دعائه، فمنشؤه الحبّ والشوق الأكيد رجاء أن يعطيهم اللَّه الخير بالتقرّب إلى نبيّه وإظهار المحبة له (1)،


1- وقد أحسن الذهبي وأجاد في كتابه «سير أعلام النبلاء» عند ترجمةالحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ج 4، ص 483- 484، الرقم/ 185) استطراداً للردّ على شيخه ابن تيمية حيث قال: «فَمَنْ وَقَفَ عند الحُجرة المقدّسة ذليلًا مُسَلِّماً، مُصلِّياً على نبيّه فيا طوبى له، فقد أَحْسَنَ الزيارة وأَجْمَلَ في التذلل والحُبّ وقد آتى بعبادة زائدة على من صَلّى عليه في أرضه أو في صلاته إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه والمُصَلّي عليه في سائر البلاد له أجرُ الصلاة فقط فمن صلّى عليه واحدة صلّى اللَّه عليه عشراً ولكنّ من زاره- صلوات اللَّه عليه- وأساءَ أدب الزيارة أو سَجَدَ للقبر أو فَعَلَ ما لا يُشرع، فهذا فَعَلَ حسناً وسَيِّئاً فَيُعَلَّم برفق واللَّهُ غفور رحيم؛ فواللَّه ما يحصل الانزعاج لمسلم والصِّياح وتقبيل الجُدران وكثرة البكاء إلّاوهو مُحِبٌّ للَّه وللرسول فَحُبّه المعيار والفارق بين أهل الجنّة وأهل النار فزيارة قبره من أفضل القرب وشدّ الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء ولئن سَلَّمنا أنّه غير مأذونٍ فيه لعموم قوله صلوات اللَّه عليه: «لا تشدُّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد» فَشَدُّ الرحال إلى نبيّنا صلّى اللَّه عليه وسلّم مستلزم لِشَدِّ الرحال إلى مسجده وذلك مشروع بلا نزاع إذ لا وصول إلى حُجرته إلّابعد الدخول إلى مسجده فليبدأ بتحيّة المسجد ثمّ بتحيّة صاحب المسجد رزقنا اللَّه وإيّاكم ذلك آمين». أوردنا تمام كلامه تتميماً للفائدة.

ص: 16

وكذلك بآثار غيره من المقرّبين عند اللَّه.

وإنّي لا أجد مسلماً يعتقد أن الباب والجدار يقضيان الحاجات، ولا أنّ النبيّ(أو الوليّ) يقضيانها، بل لا يرجو بذلك إلّااللَّه إكراماً لنبيّه أو لأوليائه أن يفيض اللَّه عليه من بركاته.

والتبرّك بآثار النبي كما تعلمون- ويعلمه كلّ من اطّلع على سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم- كان معمولًا به في عهد النبيّ، فكانوا يتبركون بماء وضوئه وثوبه وطعامه وشرابه وشعره، وكلّ شي ء منه ولم ينههم النبيّ عنه ولعلّكم تقولون: أجل، كان هذا، معمولًا به بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء والأتقياء- كما شاهدت أصحابكم يتبركون بطعامكم- وأنّه خاص بالأحياء، دون الأموات، لعدم وجود دليل على جوازه إلّافي حال الحياة بالذات. فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أنّ الصحابة قد تبرّكوا بآثار النبيّ بعد مماته، فعن عبد اللَّه بن عمر رضى الله عنه أنّه كان يمسح منبر النبيّ تبركاً به. وهناك شواهد، على أنّهم كانوا يحتفظون بشعر النبيّ، كما كان الخلفاء العباسيون، ومن بعدهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبيّ تبركاً به، ولا سيما في الحروب، ولم يمنعهم أحد العلماء الكبار والفقهاء المعترف بفقههم ودينهم.

ص: 17

وهنا يُعجِبني أن ألخص لسماحتكم كلام الأستاذ الدكتور سعيد رمضان العالم البوطي في هذا المجال نقلًا عن كتابه فقه السيرة النبوية(ص 354) فإنّه بعد ما أشار إلى شطر ممّا يدل على جواز التوسل بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبآثاره قال:

«وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته أو بعد وفاته.

فآثار النبيّ لا تتصف بالحياة مطلقاً» سواء تعلّق التبرك والتوسّل بها في حياته أو بعد وفاته، كما ثبت في صحيح البخاري في باب شيب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ومع ذلك، فقد ضلّ أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبّة رسول اللَّه، وراحوا يستنكرون التوسّل بذاته بعد وفاته، بحجّة أنّ تأثير النبيّ قد انقطع بوفاته، فالتوسل به، إنّما هو توسل بشي ء لا تأثير له البتة.

وهذه حجة تدل- كما ترى- على جهل عجيب جداً، فهل ثبت لرسول اللَّه تأثير ذاتي في الأشياء حال حياته، حتى نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته؟ إن أحداً من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد جلّ جلاله ومن اعتقد خلاف هذا يكفر باجماع المسلمين كلّهم.

فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره ليس هو أسناد أي تأثير إليه، والعياذ باللَّه، وإنّما المناط كونه أفضل الخلائق

ص: 18

عند اللَّه على الإطلاق وكونه رحمة من اللَّه للعباد، فهو التوسّل بقربه إلى ربّه وبرحمته الكبرى للخلق.

وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره من دون أن يجدوا فيه أي إنكار. وقد مرّ في هذا الكتاب(أي فقه السيرة) بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره، وإن ذلك ممّا أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة الحنبلي والصنعاني وغيرهم.

والفرق بعد هذا بين حياته وموته خلط عجيب غريب في البحث لا مسوّغ له «انتهى موضع الحاجة».

هذا كلّه بالنسبة إلى التبرك بآثار النبيّ حيّاً وميّتاً، وأمّا التوسّل بذاته أو بأحد من أهل بيته فهو كذلك، كما رأينا في كلام الدكتور البوطي، وكان معمولًا به حتى بعد وفاته كما استسقى الخليفة عمر رضى الله عنه متوسّلًا بعمّ النبيّ العباس من دون أن ينكر عليه أحد من الصحابة، ومن دون أن يكون لحياة النبيّ وموته تأثير عنده في جواز التوسّل به.

ومردّ ذلك أنّ التبرّك بآثار النبيّ والتوسّل به وبآثاره وبذريّته وبالأتقياء من أتباعه ليس معناه طلب الحاجة منهم، ولا أن في شي ء منها بما في ذلك ذات النبيّ تأثيراً في

ص: 19

رفع الحاجات ودفع الملمات أو أنّه يضرّ وينفع، كما ورد في كلامكم في صدد النهي عنه(أنّه لا يضر ولا ينفع)، فهذا تحويل للمسألة عن جوهرها، بل كل ذلك يُعَدُّ للنبي وغيره من المقربين استجلاباً لرحمة اللَّه تبارك وتعالى، لما نعلم من منزلتهم عند اللَّه، استناداً إلى سيرته وسيرة المسلمين، فلا يقاس هذا بعمل المشركين في شأن آلهتهم، حيث كانوا يعتقدون فيها التأثير في دفع الملمات ورفع الحاجات، إمّا مباشرة أو بالاشتراك مع اللَّه.

كما لا ينبغي الاستشهاد على حرمة التبرّك والتوسّل(بالمعنى المذكور) وكونهما شركاً بما ورد من الآيات إدانة للمشركين، فإن ذلك ليس منه في شي ء، والفرق بينهما واضح جليّ، فهذا مظهر من مظاهر الشرك، وذلك مظهر من مظاهر التوحيد وحب اللَّه وأوليائه.

بقي هنا أمران؛ الأوّل: أن يقول قائل: نحن نسلّم بجواز التبرك والتوسّل للعلماء الذين فهموا جوهر الدين، إلّا أنّ ذلك ممنوع على العوام لأنّهم سوف يحولونهما إلى الشرك، حيث يعتقدون للنبي وآثاره وللأولياء تأثيراً ذاتياً في رفع الحاجات أو دفع المضرّات، فيجب المنع عنهما سدّاً للذرائع.

ص: 20

وهذا ما سمعنا به من الأستاذ الدكتور محمد بن سعد شُوَيعر يوم حضرنا عندكم وجلسنا على مائدتكم مشكورين.

والجواب على هذا الكلام سهل، فإنّه إذا ثبت جواز عمل بل استحبابه بدليل قطعي فلا يجوز المنع عنه بقول مطلق، خوفاً من الجُهّال أن يحولوه إلى ما فيه لون من الشرك، وإلّا كان ينبغي للرسول صلى الله عليه و آله و سلم نهي الناس عن التبرك بآثاره سداً للذريعة، كما كان ينبغي له أن يمنع الناس عن زيارة القبور حذراً من أنّ الجُهّال يتّخذونها صنماً يعبد، أو يمنع من استلام الحجر لنفس السبب، هذا ليس هو الطريق الوحيد والقول السديد لسد الذرائع، بل الطريق هو مراقبة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء والذين هم أمناء اللَّه على حلاله وحرامه، فإنّهم أمروا بحفظ الناس عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين كما جاء في الحديث(الكافي: ج 1، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ص 32) من غير أن يحرّموا حلالًا أو يحلّلوا حراماً، ويفرّقوا في حكم واحد بين العوام والخواص.

الأمر الثاني: إنّ من يجوّز التبرك والتوسّل هم جمهور

ص: 21

العلماء (1) في قبال جماعة أقل منهم بكثير لا يجوّزونهما، ولا ريب أن المجوزين اختاروا الجواز بعد الوقوف على الآراء، وبعد البحث والفحص عن الأدلّة، والإطلاع على ما أبداه الشيخان السلفيّان الشيخ ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهّاب وأتباعهما، فهؤلاء لم يقتنعوا طوال هذه القرون السبعة إلى يومنا هذا بحجج مخالفيهم، فهم مجتهدون، ولكلّ مجتهد مصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد، كما هو ثابت عند الفقهاء فالمسألة بعد أن عادت خلافية اجتهاديّة، فهل تسمحون في مثل هذه المسألة التي جلُّ العلماء على جوازها وقليل منهم على حرمتها، نسبة الكفر والشرك بل الفسق والضلال إلى هؤلاء الجمّ الغفير المعترف بفقههم وتقواهم؟

فما هو الفارق إذاً بين القطعيّات والظنيّات؟ سواء في حقل العقيدة أو في حقل الشريعة؟ إنّما الحكم بالكفر ثابت فيمن أنكر ضرورياً من ضروريات الدين ليس إلّا، دون مسألة خلافيّة؛ هي معترك الآراء بين الفقهاء.

فأقلّ ما يقال في مثل هذه المسألة الخلافية هو الاحتياط بالإمساك عن التقوّل فيهم، حتى ترجع المسألة


1- انظر: كتاب تقي الدين السبكي «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» لا سيماالباب الرابع، الباب السابع فإنّه أورد سرد فتاوى كثير من العلماء في المقام.

ص: 22

قطعيّة، والاكتفاء لمن لا يجوّزه بالوعظ والإرشاد، إذا رآه شركاً أو بدعة أو ضلالًا، فهذا منتهى المطاف في أداء الواجب من مثله. وقد مرّ بنا أن استهللنا كلامنا بالتقدير لجهودكم في سبيل إرساء أمر التوحيد، وهذا بنفسه سعي مشكور أغتبطكم عليه، لولا أن ينضمّ إليه إطلاق القول بالشرك أو الكفر فيمن جوّز هذا العمل عن اجتهاد ونظر، من دون تقليد أعمى، ولا جهل بالكتاب والسنّة وبآراء الفقهاء، الموافق منهم والمخالف.

ثانياً: أحببت الإشارة إلى مسألة أخرى لها أهميّتها، وهي ما أفتيتم بشأن مسألة فلسطين، حيث تقولون:

«إنّه يجب على المسلمين وعلى الدول الإسلاميّة والأغنياء والمسؤولين أن يبذلوا جهودهم ووسعهم في جهاد أعداء اللَّه اليهود، أو فيما تيسر من الصلح إن لم يتيسر الجهاد، صلحاً عادلًا يحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم على أرضهم، وسلامتهم من الأذى من عدو اللَّه اليهود، مثلما صالح النبيّ أهل مكّة، وأهل مكّة في ذلك الوقت أكثر من اليهود الآن، وإن المشركين والوثنيين أكثر كفراً من أهل الكتاب، فقد أباح اللَّه طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم، ولم يبح طعام الكفار من

ص: 23

المشركين، ولا نساءهم وصالحهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، وكان في هذا الصلح خير عظيم للمسلمين، وإن كان فيه غضاضة عليهم بعض الشيّ. لكن رضيه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للمصلحة العامة.

فإذا لم يتيسر الاستيلاء على الكفرة، والقضاء عليهم، فالصلح جائز لمصلحة المسلمين، وأمنهم واعطائهم بعض الحقوق...»(مجلة البحوث الإسلامية (1): رقم 35، ص 24).

وهذه الفتيا منكم إنّما صدرت ولا شك إخلاصاً للإسلام والمسلمين، وحرصاً على إرشاد الأمّة إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، إلّاأنّ فيها بعض الملاحظات، فهي تحتوي شطرين:

الشطر الأوّل: وجود حرب اليهود وبذل الجهود في جهاد أعداء اللَّه اليهود. وهذا ما يوافقكم عليه علماء الإسلام جميعاً شيعة وسنّة، ولعلّكم لمستم موقف الشيعة، في مكّة المكرّمة عبر شعاراتهم، أو سمعتم به عن طريق المذياع


1- مجلة البحوث الإسلامية؛ مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء- الرياض.

ص: 24

أو قرأتم عنه في الجرائد، أنّهم أشدّ الناس على الكفّار ولا سيما على اليهود. فهذا حق صريح، ورأيكم حجة على جميع المسلمين حكومات وشعوباً، جزاكم اللَّه عنهم خير الجزاء، وشكر مساعيكم، فقد أديتم واجبكم أمام اللَّه تبارك وتعالى وأمام المسلمين قاطبة.

وأمّا الشطر الثاني وهو ما تيسر من الصلح إن لم يتيسر الجهاد صلحاً عادلًا إلى آخر ما أبديتم من الرأي باخلاص فيجب الوقوف عنده طويلًا.

لا ريب أنّ المسألة لو كانت كما اقترحتم وكانت القيود والشروط محقّقة بالشكل الذي قيّدتم، فالحكم هو ما صرحتم به، إلّاأنّ المسألة مع الأسف الشديد ليست بهذه السهولة، ومغزى كلامي أنّ البحث ليس في الكبرى من الدليل، وإنّما هو في الصغرى، وتوضيحها كما يأتي:

أوّلًا: إنّ الجهاد مع اليهود ميسور وبابه مفتوح بمصراعيه أمام المسلمين، إلّاأنّ حكّام المسلمين لم يقفوا يوماً ولا يريدون أن يقفوا أمام العدوّ بكل جهودهم وإمكانياتهم، فإنّ العرب طرحوا القضيّة منذ أربعين سنة ولحد الآن قضية عربيّة، وليست إسلاميّة، وهذه أوّل ضربة وجهوها إلى القضية، حيث أبعدوا بهذا المشروع العنصري

ص: 25

معظم المسلمين عن ساحة المعركة، ولا أقل من أنّ ذلك أصبح عذراً لأولئك الحكام الذين لا علاقة لهم بشؤون المسلمين، فكانوا يقولون كما سمعت مراراً من أعوان الشاه في إيران: «هذه مشكلة العرب مع اليهود لا شأن لنا فيها» فلم يكونوا يسمعون صرخات المسلمين والعلماء من أنّها إسلاميّة، بحجّة أنّ العرب يعدّونها مسألة عربيّة.

وأمثال هؤلاء الحكّام من العرب وغيرهم يطيقون استماع صرخات هؤلاء الشباب والأطفال المحاربين بالحجارة داخل الأرض المحتلة وهتافاتهم: «اللَّه أكبر» «نحن مسلمون» ولا أن يروا في التلفزة صلاتهم حول المسجد الأقصى، لأنّ ذلك سوف يمثل إسلاميّة القضيّة فتأخذ العذر من أيديهم.

ثانياً: حتى العرب أنفسهم الذين احتكروا المسألة بحجّة أنّها عربيّة، وأنّها مسألتهم دون سائر المسلمين لا يتفقون على كلمة واحدة، ولم يجهزوا إمكانياتهم أمام العدوّ، ولم يقفوا صفّاً واحداً، فبدلًا من ذلك كلّه، افترقوا أحزاباً وشعوباً يهاجم بعضهم بعضاً، عسكرياً وإعلامياً، لا شي ء إلّا لصالحهم ولصالح العدوّ، فلم يجهزوا أنفسهم للمعركة لا هم ولا سائر المسلمين ولم يمتثلوا أمر ربّهم: «وأعدّوا لهم

ص: 26

ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ اللَّه وعدوّكم»(الأنفال/ 60) فعندهم البترول الذي هو شريان حياة الأعداء، فلم يستفيدوا من هذه القوّة الهائلة التي هي أقوى بكثير من رباط الخيل ومن أي قوّة توجد في العالم.

كما أنّهم لم يهتموا بقول ربّهم: «يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء»(المائدة/ 51) وما بمعناه في الكتاب والسنّة.

فمن منهم لا يتّخذ أعداء اللَّه أولياء، ولا يميل إلى اليمين والشمال(وقد سقط بحمد اللَّه) ولا يعتمد ولا يستنصر بالأعداء(سوى النزر اليسير)، ولا يركع لصنم منهم ولا يسجد؟ وبعضهم لا يأكل ولا يشرب إلّابأذنه؟

ومن خفى عليه هذا فليس له الدخول في المعارك السياسية وإظهار الرأي فيها.

والعجب كلّ العجب صمتُ بعض العلماء عن هؤلاء الحكام الركع السجود أمام الأصنام الطواغيت، ثم ينادي ويحكم بكفر وشرك أولئك المسلمين المساكين، الذين بذلوا كل ما عندهم، وتحمّلوا المشاق، وجاؤوا من كلّ فجّ عميق، حتى نالوا زيارة النبيّ، وقلوبهم ملئت بحبّه، فقبّلوا الباب والشُبّاك حبّاً له، رجاء التقرّب إلى اللَّه بحبّه، ويرون هذا

ص: 27

منتهى أملهم من الحياة، فإذا بعالم أو مسؤول سكت عن ذلك الشرك الكبير وعن هؤلاء الأبالسة الكبار، يضربه بالسياط ويشتمه باللسان، ويكرر عليه: «هذا شرك، هذا كفر»، أليس هذا إبعاد المسلمين المخلصين عن الدين، وعن ساحة القتال مع اليهود ومع سائر أعداء الدين؟ فإنّه إذا كان كافراً ومشركاً فلماذا يضحي بنفسه في المعركة في سبيل الإسلام؟

وأنا أقول بصراحة: لو أنّ العلماء ومن وراءهم(بل ومن فوقهم!) الحكّام لم يخطئوا الطريق، واستقروا على الصراط القويم، لأمكن لهم تجهيز الملايين من الشبّان المسلمين الغيارى على الإسلام ضد اليهود، ولو تحقّق هذا الحلم يوماً ما فإنّا نرى أن كلمة اللَّه هي العليا، وأنّ اللَّه يحقق وعده: «إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبّت أقدامكم»(محمّد/ 7).

ثالثاً: الاستشهاد للصلح مع اليهود بمثل ما صالح النبيّ أهل مكّة والمشركين عجيب فهو قياس مع الفارق، وفيه وجوه من الخلط والتمويه:

1- إنّ النبيّ صالح أهل مكّة من موقف القوّة دون الضعف كما قال تعالى: «وهو الذي كفّ أيديهم عنكم

ص: 28

وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم، وكان اللَّه بما تعملون بصيراً»(الفتح/ 24) مع أنّ حكّام العرب حينما يريدون أن يساوموا على الصلح مع العدو، إنّما هم في منتهى الضعف(ولا سيّما بعد حرب الخليج) سياسياً وعسكرياً والشيطان الأكبر الحامي لإسرائيل، رست أقدامه على أرضهم بكل ما له من العدّة والعدد، وله حق الحياة والبقاء على جملة من الحكام، فهم عبيد في قبضته، يحق لهم أن يركعوا ويسجدوا أمامه آناء الليل وأطراف النهار وأنّهم ليبذلون أموال المسلمين ويعرضون شعوبهم المساكين إلى الكفّار بالمجّان، لا لشي ء سوى للاحتفاظ على منصبهم، فهم متسلطون على أعناق الشعوب، راكعون أمام الأعداء.

«أُسد عليَ وفي الحروب نعامة». وفي مثل هذه الحالة يريدون أن يجلسوا مع العدوّ حول طاولة المفاوضات للسلام(العادل)!!

ومن الدليل على ضعف المشركين وقوّة المسلمين في الحديبيّة قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لرسول المشركين عنده(بُدَيلُ بنُ وَرقاءَ الخُزاعِيُّ):

«... إنّ قريشاً قد نَهِكَتْهُم (1) الحَرْبُ، وأضَرَّت بهم


1- نهكتهم: بكسر الهاء وفتحها: ضعفتهم.

ص: 29

فإن شاؤوا مادَدْتُهم (1) مُدَّةً ويُخَلُّوا بَيني وبين الناس... إلى أن قال: وإن هُم أبَوا فَوَالّذي نفسي بِيَدِه لأقاتلَنَّهُم عَلى أمري هذا حَتّى تَنْفَرِدَ سالِفَتي وَلِيُنَفِذَنَّ (2) اللَّهُ أمرَه».

وإن مبايعته المسلمين على الحرب والتضحية بالنفس والمال كان استعداداً كاملًا للحرب ثم إن عروة بن مسعود رسول المشركين الآخر لديه حينما رجع إلى المشركين قال لهم: «فَوَاللَّهِ ما تَنَخَّمَ رسولُ اللَّهِ نُخامَةً إلّاوَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلَكَ به وجهَهُ وجِلْدَه، وإذا أَمَرَهُم بأمرٍ ابْتَدروا أَمرَه وإذا تَوَضَّأَ كادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلى وُضُوئِه وإذا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصْواتَهم عِندَه وما يُحِدُّونَ النَّظَرَ إليهِ تَعظيماً لَه، أي قوم، وَاللَّهِ لَقَد وَفَدتُ عَلَى المُلوكِ وَوَفدتُ على قَيْصَر وكِسرَى والنَّجاشِي، وَاللَّهِ إنْ رأيتُ مَلِكاً يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعَظِّمُ أصحابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم مُحَمَّداً... وإنَّه قَد عَرَضَ عليكم


1- ماددتهم: صالحتهم.
2- ولينفذنّ: من الإنفاذ بمعنى الإمضاء.

ص: 30

خُطَّةَ رُشْدٍ فَأقْبَلُوها...» رواه: البخاري وغيره بتفاوت(صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام: ج 3، ص 253- 255). وقد أورد المحققون لمسند أحمد مصادر تلك الرواية(انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج 31، ص 243، الرقم 18928).

2- إنّ اليهود ليسوا وحدهم الذين يحاربون شعب فلسطين، بل وقف إلى جنبهم طواغيت العالم الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة في أرض الإسلام وهم الذين يحاربون الإسلام والمسلمين، فندخل في الصلح معهم، لأنّهم أقل من المشركين؟

وليس هؤلاء الطواغيت، ولا حتى اليهود الذين استولوا على أرض فلسطين بأهل كتاب، وإنّما هم ملاحدة، دينهم الدولار، وأمنيتهم الاستيلاء على ثروات الأرض، فإنّ اليهود في فلسطين معظمهم صهاينة ليسوا بأهل كتاب ولا أهل دين، بل هم حزب سياسي عنصري.

على أنّ اليهود في العالم يعدّون بعشرات الملايين، وكلّهم مع يهود فلسطين، وبيدهم ثروات هائلة، وفي قبضتهم السوق العالمي والمصانع والسفن والأسلحة، ووسائل الإعلام العالمي؛ فكيف يجوز أن يقال: أنّ اليهود اليوم أقل من أهل مكة في ذلك اليوم؟

فيجب إذاً أن نضع هذه الأشياء في الميزان ثم نحكم

ص: 31

بالصلح، وبدونها لم يتحقق صلح عادل.

3- إنّ الصلح كان مع أهل مكّة بأمر من اللَّه دون مشورة المؤمنين بل أكثرهم قاوموا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أمام عقد الصلح وعند بعض بنوده، حتى أنزل اللَّه سورة الفتح وكشف النقاب عن وجه الصلح، وعدّه فتحاً مبيناً، ومع ذلك لم يعترف كثير منهم في صميم قلوبهم وباقتناع نفسي منهم بأنّه كان خيراً، حتى رأوا النتيجة ماثلة أمامهم بعد مدّة.

4- كانت هناك حِكَم وأسباب جاءت في سورة الفتح تصريحاً أو إيماء، كالحفاظ على المؤمنين والمؤمنات القاطنين بمكّة يومئذ الذين لم يعرف أشخاصهم، وكالحصول على الأرضيّة المناسبة لاختلاط المسلمين بالمشركين، وتبيين الإسلام لهم واكتساب قلوبهم صوب المسلمين، وغير ذلك ممّا صرحتم به في مقالكم، ويعلم بالتدبر في سورة الفتح وفي الحوادث التي حدثت عقيب الصلح، ولا يوجد شي ء من هذه الحِكَم والأسباب في الصلح مع اليهود الآن، بل الأمر بالعكس كما سنوضح.

5- اليهود الآن بما أعدوا واستعدّوا للمعركة الحاسمة، معتمدون على تلك القوى العالميّة الشيطانية، قادرون على

ص: 32

أن يقضوا على الشعب الفلسطيني، ومن جاورهم من الشعوب، ولا سيما القاطنين في أرض الجزيرة العربيّة التي لليهود فيها مطامع تاريخية؛ كأراضي بني النضير وبني قريظة وأراضي خيبر وغيرها، في طرفة عين، ولعلّهم يفعلونها يوماً من الأيّام(لا قدر اللَّه هذا اليوم). فهم حينما يفاوضون العرب من أجل السلام، لم يقصدوا السلام، ولم يكن خوفاً من العرب، إنّما يريدون أن يسيطروا على أراضيهم وثرواتهم برفق وبرضاً منهم أو من حكّامهم، ليتدخلوا في شؤونهم ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، فيكونوا أحراراً فيما يعملون في تلك البقاع، ويتخذوا من تلك الشعوب أداة لبسط سلطانهم عليهم وعلى العالم الإسلامي كلّه، ويتعاملوا معهم معاملة السيد مع عبيده، والملك مع رعيّته طوال الدهر.

ويرون أن الصلح المنشود هو الطريق الوحيد للوصول إلى مطامعهم، حتى أنّهم يمهلون أمر الصلح عمداً، ويسوّفونه قصداً، لإرضاء النفوس شيئاً فشيئاً، حتى يقتنعوا بأنّه لا طريق للخلاص سوى الصلح والسلام.

مع أنّ مثل هذا الصلح هو الرصاصة الأخيرة لسقوط هذه الشعوب ثم لسقوط العالم الإسلامي والمسلمين في

ص: 33

أيدي اليهود. فأين الصلح العادل؟ ليس هذا سوى الاستسلام المطلق دون السلام العادل.

ثمّ إنّ اليهود، متى التزموا بعهودهم طوال دهرهم وخاصة في مسألة فلسطين لكي نثق بهم؟ وأخيراً؛ لو فرضنا حصول كل هذه الشروط والقيود، فإنّ الحكّام لا نثق بهم وسوف يتخذون من هذه الفتيا ذريعة لالتباس الأمر على الشعوب، وسيفاوضون العدو في صالحهم أكثر من صالح الشعوب، وسيكون هذا الحكم من سماحتكم مبدأ شرعية اليهود وشرعية عمل الحكام الذين أجروا عقد الصلح ومفاوضة السلام معهم.

فأيّاكم أن تجعلوا رقبتكم قنطرة لهؤلاء، والصواب هو الاكتفاء منكم بالشطر الأوّل من الفتيا، والإنصراف عن الشطر الثاني رأساً، والمرجو منكم أن تأخذوا هذه السطور بعين الاعتبار، ثم الإجابة عليها، فإنّي ما أردت إلّا الإصلاح ما استطعت، واللَّه من وراء القصد، والسلام عليكم ورحمة اللَّه.

محمد واعظ زاده الخراساني

مكّة المكرمة 11 ذي الحجة الحرام

سنة 1413 هجرية

ص: 34

ص: 35

أجوبة

رسالة الأستاذ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز

ص: 36

ص: 37

الشيخ عبدالعزيز بن عبداللَّه بن باز

عن رسالة التبرّك والتوسّل للشيخ محمّد واعظزاده الخراساني

من عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز إلى حضرة المكرم الشيخ محمد واعظزاده الخراساني منحني اللَّه وإياه الفقه في الدين، وأعاذنا جميعاً من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين.

سلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، أمّا بعد.

فقد وصلني كتابكم وصلكم اللَّه بحبل الهدى والتوفيق وجميع ما شرحتم كان معلوماً.

وقد وقع في كتابكم أمور تحتاج إلى كشف وإيضاح، وإزالة ما قد وقع لكم من الشبهة عملًا بقول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

«الدين نصيحة» (1)

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من دلّ على خير فله مثل


1- مسند أحمد: 5/ 318/ 3281 وبهامشه ثبت لمصادر أخرى.

ص: 38

أجر فاعله» (1)

وغيرهما من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.

وقد أرشد إلى ذلك مولانا سبحانه في قوله عزّ وجلّ:

«وتعاونوا على البر والتقوى»(المائدة/ 3) وقوله سبحانه: «أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن»(النحل/ 125).

فأقول: ذكرتم في كتابكم ما نصّه: «ومع احترامى وتقديري لجهودكم في هذا السبيل خطر ببالي بعض الملاحظات، أحببت أن أبديها لكم راجياً أن يكون فيها خير الإسلام والمسلمين، والاعتصام بحبل اللَّه المتين في سبيل تقارب المسلمين، ووحدة صفوفهم في مجال العقيدة والشريعة».

أوّلًا: لاحظتكم تعبّرون دائماً عن بعض ما شاع بين المسلمين، من التبرك بآثار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبعض الأولياء، كمسح الجدران والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره،


1- مسند أحمد: 28/ 313/ 17084 ومصادر أخرى ثبت في هامشه.

ص: 39

شركاً وعبادة لغير اللَّه، وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم، ودعائهم، وما إلى ذلك.

إنّي أقول: هنا فرق بين ذلك، فطلب الحاجات من النبيّ ومن الأولياء، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون اللَّه أو مع اللَّه، فهذا شرك جليّ لا شك فيه، لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، والتي لا ينهاهم عنها العلماء في شتّى أنحاء العالم الإسلامي من غير فرق بين مذهب وآخر، ليست هي في جوهرها طلباً للحاجات من النبيّ والأولياء، ولا اتخاذهم أرباباً من دون اللَّه، بل مردّ ذلك كلّه(لو استثنينا عمل بعض الجهّال من العوام) إلى أحد أمرين:

التبرّك والتوسّل بالنبيّ وآثاره، أو بغيره من المقرّبين إلى اللَّه عزّ وجلّ.

فالتبرّك بآثار النبيّ من غير طلب الحاجة منه ولا دعائه، فمنشؤه الحبّ والشوق الأكيد رجاء أن يعطيهم اللَّه الخير بالتقرّب إلى نبيّه وإظهار المحبة له، وكذلك بآثار غيره من المقرّبين عند اللَّه.

وإنّي لا أجد مسلماً يعتقد أن الباب والجدار يقضيان الحاجات، ولا أنّ النبيّ(أو الوليّ) يقضيانها، بل لا يرجو بذلك إلّااللَّه إكراماً لنبيّه أو لأوليائه أن يفيض اللَّه عليه من بركاته.

والتبرّك بآثار النبي كما تعلمون- ويعلمه كلّ من اطّلع على سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم- كان معمولًا به في عهد النبيّ، فكانوا

ص: 40

يتبركون بماء وضوئه وثوبه وطعامه وشرابه وشعره، وكلّ شي ء منه ولم ينههم النبيّ عنه ولعلّكم تقولون: أجل، كان هذا، معمولًا به بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء والأتقياء- كما شاهدت أصحابكم يتبركون بطعامكم- وأنّه خاص بالأحياء، دون الأموات، لعدم وجود دليل على جوازه إلّافي حال الحياة بالذات. فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أنّ الصحابة قد تبرّكوا بآثار النبيّ بعد مماته، فعن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه عنهما- أنّه كان يمسح منبر النبيّ تبركاً به. وهناك شواهد، على أنّهم كانوا يحتفظون بشعر النبيّ، كما كان الخلفاء العباسيون، ومن بعدهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبيّ تبركاً به، ولا سيما في الحروب، ولم يمنعهم أحد العلماء الكبار والفقهاء المعترف بفقههم ودينهم، انتهى المقصود من كلامكم.

والجواب أن يقال: ما ذكرتم فيه تفصيل:

فأمّا التبرك بما مسّ جسده- عليه الصلاة والسلام- من وضوء أو عرق أو شعر ونحو ذلك. فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة- رضي اللَّه عنهم- وأتباعهم بإحسان.

لما في ذلك من الخير والبركة. وهذا أقرهم النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم.

ص: 41

فأمّا التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فبدعة لا أصل لها، والواجب تركها لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلّاما أقرّه الشرع لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1)

متفق على صحته. وفي رواية لمسلم، وعلّقها البخاري رحمه الله في صحيحه جازماً بها:

«من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (2)

.

وفي صحيح مسلم عن جابر رضى الله عنه، قال كان النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة:

«أمّا بعد فإن خير الحديث كتاب اللَّه وخير الهدى هدى محمّد صلى اللَّه عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» (3)

.

والأحاديث في ذلك كثيرة. فالواجب على المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه اللَّه كاستلام الحجر الأسود وتقبيله،


1- صحيح مسلم: 3/ 1343/ 1718.
2- صحيح البخاري ص 43 في باب «خلق أفعال العباد» وصحيح مسلم: 3/ 1344/ 1718. وانظر مصادر أخرى للحديث في هامش مسند أحمد: 42/ 62/ 25128.
3- صحيح مسلم: 2/ 592/ 867(43).

ص: 42

واستلام الركن اليماني. ولهذا صح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنّه قال لما قبل الحجر الأسود:

«إنّي أعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم يقبلك ما قبلتك» (1).

وبذلك يعلم أن استلام بقية أركان الكعبة، وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يفعله ولم يرشد إليه ولأنّ ذلك من وسائل الشرك وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولى لأن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم لم يشرع ذلك ولم يرشد إليه ولم يفعله أصحابه- رضي اللَّه عنهم-.

وأمّا ما نقل عن ابن عمر- رضي اللَّه عنهما- من تتبع آثار النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم واستلامه المنبر فهذا اجتهاد منه رضى الله عنه، لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم. وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعملهم موافق لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر رضى الله عنه، الشجرة التي بويع تحتها النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم في الحديبية، لما بلغه أنّ بعض الناس يذهبون إليها ويصلون


1- مسند أحمد: 1/ 282/ 131.

ص: 43

عندها خوفاً من الفتنة بها، وسداً للذريعة.

وأمّا دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر وهو الذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند اللَّه، وتقربهم إليه زلفى، ولم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم، كما بين اللَّه سبحانه ذلك عنهم في قوله سبحانه: «ويعبدون من دون اللَّه مالا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه»(يونس/ 18)، فرد عليهم سبحانه بقوله: «قل أتنبئون اللَّه بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون»(يونس/ 18).

وقال عزّ وجل في سورة الزمر: «فاعبد اللَّه مخلصاً له الدين ألا للَّه الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلّاليقربونا إلى اللَّه زلفى، إن اللَّه يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن اللَّه لا يهدي من هو كاذب كفار»(الزمر/ 3) فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أنّ الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجهم وإنّما أرادوا منهم أنّهم يقربونهم إلى اللَّه زلفى،

ص: 44

فأكذبهم سبحانه ورد عليهم قولهم بقوله سبحانه: «إن اللَّه لا يهدي من هو كاذب كفار»(الزمر/ 3) فسماهم كذبة وكفاراً بهذا الأمر.

فالواجب على مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاؤه ما يستحق من العناية. ويدل على كفرهم أيضاً بهذا الاعتقاد، قوله سبحانه: «ومن يدعُ من دون اللَّه إلهاً آخر لا برهان له به فإنّما حسابه عند ربّه إنّه لا يفلح الكافرون»(المؤمنون/ 117) فسماهم في هذه الآية كفاراً وحكم عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير اللَّه من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم.

ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه في سورة فاطر:

«ذلكم اللَّه ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير* إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير»(فاطر/ 13- 14) فحكم سبحانه بهذه الآية على أنّ دعاء المشركين لغير اللَّه، من الأنبياء والأولياء، أو الملائكة أو الجن، أو الأصنام أو غير ذلك بأنّه شرك (1)، والآيات في هذا المعنى لمن تدبر كتاب اللَّه كثيرة.


1- من المناسب هنا وفي مقام المقارنة بين عمل المسلمين في التبرّك والتوسّل وبين عمل المشركين، أن نلفت نظر القراء الكرام إلى عدد من النقاط المهمة، حتّى لا نتهم أحداً أو نَصِف عملًا بالشرك اعتباطاً وبلا دليل:

ص: 45

ص: 46

وننقل لك هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى:(ص 157، ج 1) ما نصه:

ص: 47

«والمشركون الذين وصفهم اللَّه ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم، وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة، وإن كانوا في الحقيقة إنّما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم، ويرضون بشركهم، قال اللَّه تعالى: «ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون* قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون»(سبأ/ 40- 41).

والملائكة لا تعينهم على الشر، لا في المحيا ولا في الممات، ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين، فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم أنا المسيح، أنا محمّد أنا الخضر أنا أبو بكر أنا عمر، أنا عثمان أنا علي أنا الشيخ فلان، وقد يقول بعضهم عن بعض هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، ويكون اولئك كلهم جنّاً، يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس. فمنهم الكافر، ومنهم الفاسق،

ص: 48

ومنهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخاً فيتزي في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاماً ويسقيه شراباً أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل، أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته، وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته، وإنّما يكون ذلك جنيّاً، فإنّ الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان. وقد قال اللَّه تعالى: «قُل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلًا* أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربّك كان محذوراً»(الإسراء/ 56- 57) قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين اللَّه تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد اللَّه. كما أن الذين يعبدونهم عباد اللَّه، وبين أنّهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين.

والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنّا نستشفع بهم، أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا فإذا صورنا

ص: 49

تمثاله- والتماثيل إمّا مجسّدة وإمّا تماثيل مصوّرة كما يصورها النصارى في كنائسهم- قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل نذكر أصحابه، وسيرهم ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى اللَّه فيقول أحدهم: يا سيدي فلان، أو يا سيد جرجس أو بطرس، أو يا ستي الحنونة مريم أو يا سيدي الخليل أو موسى بن عمران أو غير ذلك اشفع لي إلى ربّك.

وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك، أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضراً حياً وينشدون قصائد بقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حبك أنا في جوارك أشفع لي إلى اللَّه، سل اللَّه لنا أن ينصرنا على عدونا، سل اللَّه أن يكشف عنا هذه الشدّة أشكو إليك كذا وكذا فسل اللَّه أن يكشف هذه الكربة، أو يقول أحدهم: سل اللَّه أن يغفر لي.

ومنهم من يتأول قوله تعالى: «ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك، فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللَّه تواباً رحيماً»(النساء/ 64). ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة. ويخالفون بذلك الاجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين، فإن

ص: 50

أحداً منهم لم يطلب من النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم بعد موته أن يشفع له، ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم وإنّما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضى الله عنه، سيأتي ذكرها، وبسط الكلام عليها إن شاء تعالى.

فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين، من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به اللَّه تعالى، قال تعالى: «أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به اللَّه»(الشورى/ 21).

إلى آخر ما ذكره رحمه الله في رسالته الجليلة المسماة(القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة) قد أوضح فيها أنواع الشرك فراجعها إن شئت.

وقال أيضاً رحمه الله في رسالته إلى أتباع الشيخ عدي بن مسافر ص 31 ما نصّه:

«فصل: وكذلك الغلو في بعض المشايخ إمّا في الشيخ عدي، ويونس القني أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي

ص: 51

ابن أبي طالب رضى الله عنه ونحوهم، بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل عليّ رضى الله عنه أو عدي أو نحوه، أو في من يعتقد فيه الصلاح كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القني، ونحوهم وجعل فيه نوعاً من الألوهيّة مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة باسم سيدي. أو يعبده بالسجود له، أو لغيره أو يدعوه من دون اللَّه تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلّاللَّه تعالى، فكلّ هذا شرك وضلال يستتاب صاحبة فإن تاب وإلّا قتل. فإنّ اللَّه إنّما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد اللَّه وحده لا شريك له ولا نجعل مع اللَّه إلهاً آخر.

والذين كانوا يدعون مع اللَّه آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسراً، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق أو أنّها تنزل المطر أو أنّها تنبت النبات وإنّما كانوا يعبدون

ص: 52

الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون إنّما نعبدهم ليقربونا إلى اللَّه زلفى. ويقولون هم شفعاؤنا عند اللَّه، فأرسل اللَّه رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. قال تعالى: «قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلًا* أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربك كان محذوراً»(الإسراء/ 56- 57).

قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فقال اللَّه لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إليّ، كما تتقربون ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.

وقال تعالى: «قل أدعوا الذين زعمتم من دون اللَّه لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير* ولا تنفع الشفاعة عنده إلّالمن أذن له»(سبأ/ 22- 23) فأخبر سبحانه. أن ما يدعا من دون اللَّه ليس له مثقال ذرة في الملك ولا شرك في الملك وأنّه ليس له في الخلق عون يستعين به وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلّابأذنه». إلى أن

ص: 53

قال رحمه الله: «وعبادة اللَّه وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث اللَّه به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى: «واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون»(الزخرف/ 45) وقال تعالى: «ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولًا أن اعبدوا اللَّه واجتنبوا الطاغوت»(النحل/ 36) وقال تعالى: «وما أرسلنا من قبلك من رسول إلّانوحي إليه أنّه لا إله إلّا أنا فاعبدون»(الأنبياء/ 25).

وكان النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل: ما شاء اللَّه وشئت. فقال: «أجعلتني للَّه نداً؟ بل ما شاء اللَّه وحده» وقال: «لا تقولوا ما شاء اللَّه وشاء محمد ولكن ما شاء اللَّه ثم ما شاء محمد» ونهى عن الحلف بغير اللَّه تعالى فقال: «من كان حالفاً فليحلف باللَّه أو ليصمت» وقال: «من حلف بغير اللَّه فقد أشرك» وقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وإنّما أنا عبد اللَّه فقولوا عبد اللَّه ورسوله».

ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها. ونهى النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه له نهي عن ذلك وقال: «لا يصلح السجود إلّاللَّه» وقال: «لو كنت آمراً

ص: 54

أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» وقال لمعاذ بن جبل رضى الله عنه: «أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟» قال: لا، قال: «فلا تسجد لي» ونهى النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وقال في مرض موته «لعن اللَّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

إلى أن قال رحمه الله:

«ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنّه لا يشرع بناء مساجد على القبور ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة».

إلى أن قال- رحمه اللَّه تعالى-:

«وذلك إن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كانت تعظيم القبور بالعبادة ونحوها، قال اللَّه تعالى في كتابه: «وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً»(نوح/ 23) قال طائفة من السلف: كانت هذه الأسماء لقوم صالحين فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها.

ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم عند قبره أنّه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها».

ص: 55

انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

وقال العلّامة ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي:(ص 197- 198) ما نصّه:

«فصل: ويتبع هذا الشرك الشرك به سبحانه في الأفعال والأقوال والإرادات والنيات. فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره والطواف بغير بيته وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمين اللَّه في الأرض وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها وقد لعن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم من اتّخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى للَّه فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثاناً يعبدها من دون اللَّه. ففي الصحيحين عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنّه قال: «لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي الصحيح عنه: «إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» وفي الصحيح أيضاً عنه: «إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك».

وفي مسند الإمام أحمد رضى الله عنه وصحيح ابن حبان عنه

ص: 56

صلى اللَّه عليه وسلم قال: «لعن اللَّه زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج». وقال: «اشتد غضب اللَّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

وقال: «إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللَّه يوم القيامة» فهذا حال من سجد للَّه في مسجد على قبر فكيف حال من سجد للقبر نفسه، وقد قال النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد» انتهى كلامه رحمه الله.

وبما ذكرنا في صدر هذا الجواب، وبما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه العلّامة ابن القيم رحمه الله يتضح لكم ولغيركم من القراء أن ما يفعله الجهال من الشيعة وغيرهم، عند القبور من دعاء أهلها والاستغاثة بهم والنذر لهم والسجود لهم وتقبيل القبور طلباً لشفاعتهم أو نفعهم لِمَن قَبّلها، كل ذلك من الشرك الأكبر لكونه عبادة لهم والعبادة حق اللَّه وحده كما قال اللَّه سبحانه: «واعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئاً»(النساء/ 36) وقال سبحانه: «وما أمروا إلّا ليعبدوا اللَّه مخلصين له الدين حنفاء»(البيّنة/ 5).

وقال عزّ وجل: «وما خلقت الجن والإنس إلّا

ص: 57

ليعبدون»(الذاريات/ 56) إلى غير ذلك من الآيات التي سبق بعضها.

أمّا تقبيل الجدران، أو الشبابيك أو غيرها، واعتقاد أن ذلك عبادة للَّه، لا من أجل التقرّب بذلك إلى المخلوق.

فإنّ ذلك يسمى بدعة لكونه تقرباً لم يشرعه اللَّه فدخل في عموم قول النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» (1)

وفي قوله صلى اللَّه عليه وسلم:

«إياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (2)

.

وأمّا تقبيل الحجر الأسود، واستلامه واستلام الركن اليماني فكل ذلك عبادة للَّه وحده واقتداء بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم لكونه فعل ذلك في حجة الوداع وقال: «خذوا عني مناسككم» وقد قال اللَّه عزّ وجل: «لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة»(الأحزاب/ 21) الآية.

وأمّا التبرك بشعره صلى اللَّه عليه وسلم ووضوئه، فلا حرج في ذلك كما تقدم لأنّه- عليه الصلاة والسلام- أقر الصحابة عليه ولما جعل اللَّه فيه من البركة، وهي من اللَّه


1- صحيح مسلم: 3/ 1343/ 1718.
2- مسند أحمد: 28/ 373/ 17144- 1715 وبهامشه ثبت لمصادر كثيرة.

ص: 58

سبحانه، وهكذا ما جعل اللَّه في ماء زمزم من البركة حيث قال صلى اللَّه عليه وسلم عن زمزم إنّها مباركة وإنّه طعام طعم وشفاء سقم.

والواجب على المسلمين الاتباع والتقيد بالشرع، والحذر من البدع القولية والعملية. ولهذا لم يتبرك الصحابة- رضي اللَّه عنهم- بشعر الصديق رحمه الله، أو عرقه أو وضوئه ولا بشعر عمر أو عثمان أو علي أو عرقهم أو وضوئهم... ولا بعرق غيرهم من الصحابة، وشعره ووضوئه لعلمهم بأن هذا أمر خاص بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلم ولا يقاس عليه غيره في ذلك، وقد قال اللَّه عز وجل:

«والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللَّه عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم»(التوبة/ 100).

وقال كثير من الصحابة- رضي اللَّه عنهم-: اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.

وأمّا توسل عمر رضى الله عنه والصحابة بدعاء العباس في الاستسقاء وهكذا توسل معاوية رضى الله عنه في الاستسقاء بدعاء يزيد بن الأسود فذلك لا بأس به لأنّه توسل بدعائهما

ص: 59

وشفاعتهما ولا حرج في ذلك. ولهذا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه: أدع اللَّه لي وذلك دليل من عمل عمر والصحابة- رضي اللَّه عنهم- ومعاوية رضى الله عنه على أنّه لا يتوسّل بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلم في الإستسقاء ولا غيره بعد وفاته صلى اللَّه عليه وسلم ولو كان ذلك جائزاً لما عدل عمر الفاروق والصحابة- رضي اللَّه عنهم- عن التوسل به صلى اللَّه عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس ولما عدل معاوية رضى الله عنه التوسل به صلى اللَّه عليه وسلم إلى التوسل بيزيد بن الأسود وهذا شي ء واضح بحمد اللَّه.

وإنّما يكون التوسل بالإيمان به صلى اللَّه عليه وسلم ومحبّته والسير على منهاجه وتحكيم شريعته وطاعة أوامره، وترك نواهيه. هذا هو التوسل الشرعي به صلى اللَّه عليه وسلم بإجماع أهل السنة والجماعة وهو المراد بقول اللَّه سبحانه «لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة».

وبما ذكرنا يعلم أن التوسل بجاهه صلى اللَّه عليه وسلم أو بذاته من البدع التي أحدثها الناس ولو كان ذلك خيراً لسبقنا إليه أصحاب النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم لأنّهم أعلم الناس بدينه وبحقه صلى اللَّه عليه وسلم ورضي اللَّه عنهم.

وأمّا توسل الأعمى به صلى اللَّه عليه وسلم إلى اللَّه

ص: 60

سبحانه في رد بصره إليه فذلك توسل بدعائه وشفاعته حال حياته صلى اللَّه عليه وسلم. ولهذا شفع له النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم ودعا له.

واللَّه المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يمنحني وإيّاكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم وأن يوفق جميع حكام المسلمين للفقه في الدين والحكم بشريعة اللَّه سبحانه والتحاكم إليها وإلزام الشعوب بها والحذر ممّا يخالفها عملًا بقول اللَّه عزّ وجل: «فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم* ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلموا تسليماً»(النساء/ 65) وبقوله سبحانه: «أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من اللَّه حكماً لقوم يوقنون»(المائدة/ 50) أنّه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته...

مفتي عام المملكة العربية السعودية

ورئيس هيئة كبار العلماء وادارة البحوث العلمية والافتاء

***

ص: 61

تعليقات

اشارة

السيّد حسن بن علي السقاف

على أجوبة الشيخ عبدالعزيز ابن باز

حول التبرّك والتوسّل

ص: 62

ص: 63

تعليق على الرسالتين

الأستاذ حسن بن علي السقاف (1)

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي اللَّه عن صحابته المتقين.

أما بعد: فقد قرأت ذلك الكتيب الذي حوى رسالتين: إحداهما لفضيلة الشيخ العلّامة محمد واعظ زاده الخراساني والثانية للشيخ العلّامة بن باز، وكان الشيخ


1- الاستاذ حسن بن علي السقّاف، شافعي المذهب، وُلد في سنة 1961 م في الأردن وله نحو ثمانين مؤلّفاً منه «صحيح شرح العقيدة الطحاويّة»، «عقيدة أهل السنّة والجماعة»، «الإغاثة بأدلّة الاستغاثة»، «بهجة الناظر في التوسل بالنّبي الطاهر»، «تناقضات الألباني الواضحات» و... انظر: seyed

ص: 64

واعظزاده الخراساني قد بدأ فوجّه رسالة إلى الشيخ بن باز ناقشه بأدب جم في قضيتين:

الأولى: قضية التعبير في مسألة التوسل والاستغاثة واستلام الجدران والأبواب بأنّها وسيلة للشرك.

الثانية: في قضية إفتاء الشيخ بن باز بجواز الصلح مع اليهود!!

وقد أرسل فضيلة الخراساني رسالته للشيخ بن باز سنة 1413 ه ولم يجب عليها الشيخ بن باز إلّابعد سنتين وبضعة أشهر بعد أن نشر الشيخ الخراساني رسالته!! فأجاب الشيخ بن باز على القضيّة الأولى وسكت عن الثانية فلم يجب عليها!! وقد طبعت الرسالتان ووصلتني نسخة منها، وبعد قراءتها أحببت التعليق والتعقيب على بعض ما جاء في رسالة الشيخ ابن باز، واللَّه الهادي إلى الصواب:

فأقول:

أقرّ فضيلة الشيخ بن باز في مقدّمة كلامه بعد أن ذكر شيئاً من كلام فضيلة الشيخ الخراساني أن التبرك بما مسّ جسده- عليه الصلاة والسلام- من وضوء أو عرق أو شعر أو نحو ذلك أمر معروف وجائز عند الصحابة رضي اللَّه

ص: 65

تعالى عنهم وأتباعهم.

وأقرّ أيضاً بأنّ استلام الحجر الأسود وتقبيله واستلام الركن اليماني كذلك.

وهنا ننبه على شيئين:

الأوّل: أنّه بذلك ثبت إقراره بأن التمسح بالحجارة في هذين الموضعين دون غيرهما والتي وصفها بأنّها لا تضر ولا تنفع هو إقرار بقاعدة عظيمة وهي أنّ التمسح والتبرك إذا لم يقترن معه اعتقاد تأثير الممسوح والمستلَم لم يكن شركاً ولا كفراً ولا بدعة ولا يجب سد الذريعة فيها!! ولا يتحوّل ذلك إلى كفر وشرك إلّاإذا قارن ذلك أن أضيف له اعتقاد التأثير، أي الضر والنفع!!

وهنا نسأل الشيخ بن باز مؤكدين هذه القضية: هل تعتبر شرعاً من استلم هذين الحجرين معتقداً أنّهما يضران وينفعان من دون اللَّه تعالى ويؤثران بنفسهما كافراً مشركاً أم لا؟

ثم يثبت بإقراره الأوّل المتقدّم أن مسح الشي ء ليس كفراً إن كان مشروعاً لكن هو بدعة ومن وسائل الشرك إن لم يكن مشروعاً.

والأمر الثاني: أنّه عبّر عن التبرك بما مسّ جسده

ص: 66

الشريف صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه أمر معروف و جائز عندالصحابة- رضي اللَّه عنهم- وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وأستغرب أنا من هذا التعبير!!(عند الصحابة ومن تبعهم بإحسان) وكان اللائق أن يقول:(إنّه معروف وجائز شرعاً) لا سيما وأن في الصحابة من يخالف ذلك كما اعترف الشيخ وأقر بذلك في سيدنا ابن عمر- رضي اللَّه تعالى عنهما- حيث كان يستلم منبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم!!

وقول الشيخ:(لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره) غير صحيح، إذ لم يثبت نهي أبيه له أو نهي الصحابة- رضي اللَّه عنهم- له عن فعله ذلك (1)!! ثم لم يثبت ما أورده الشيخ من أن سيدنا عمر رضى الله عنه قطع الشجرة(شجرة بيعة الرضوان) بل المعروف عند علماء السلف ومنهم ابن جرير الطبري أن سيدنا عمر رضى الله عنه ذهب يسأل عنها ولم يجدها!! ففي تفسير الإمام الحافظ الطبري السلفي(13/ 87) عند تفسير الآية الكريمة التي ذكرت فيها الشجرة فقال:


1- بل تدلّ بعض الروايات على أنّ نفراً من الصحابة غير عبد اللَّه مسحوا رُمانةالمنبر ودعوا، أخرج ابن أبي شيبة(ج 3، ص 1435، الرقم 15876) بسنده عن يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: «رأيتُ نفراً من أصحاب النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رُمانة المنبر القرعا فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك».

ص: 67

«وزعموا أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت، فجعل بعضهم يقول هنا، وبعضهم يقول هاهنا، فما كثر اختلافهم قال: سيروا هذا تكلّف، فذهبت الشجرة وكانت سمراء، إمّا ذهب بها سيل وإما شي ء سوى ذلك».

فلو كان سيدنا عمر رضى الله عنه قطعها لما قيل ذلك ولما خفي الأمر على مثل الحافظ ابن جرير ولكان نبّه عليه!!

وعلى كل الأحوال؛ فالأصل في ذلك ليس فعل الصحابة، وإنّما هو نصوص الشرع؛ القرآن والسنة، وهي تفيد أن ذلك ليس كفراً ولا شركاً بدليل جواز التمسح أو استلام الحجر الأسود والركن اليماني والملتزم.

وقد سئل الإمام أحمد كما هو ثابت في كتاب «العلل»(كتاب العلل ومعرفة الرجال: ج 2، ص 492، الرقم 3243) المروي عنه عن تقبيل قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك (1).


1- والسائل ابنه عبد اللَّه قال: «سألته عن الرجل يمس منبر النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ويتبرّك بمسِّه ويقبّله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرّب إلى اللَّه جلّ وعزّ، فقال: لا بأس بذلك»(كتاب العلل: ج 2، ص 492، الرقم/ 3243). وقال العيني عن شيخه زين الدين أخبر الحافظ أبوسعيد ابن العلائي قال رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر و غيره من الحفاظ أنّ الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه و سلم وتقبيل منبره فقال لا بأس بذلك(عمدة القاري، ج 9، ص 241، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الاسود.

ص: 68

وأنتم تعلمون ذلك!!

فلو كانت هذه الأمور ذرائع للشرك والكفر لما شُرِع استلام الحجر الأسود وتقبيله ولا الركن اليماني ولا التبرك بعرق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وشعره وثوبه وغير ذلك، إذ يستحيل شرعاً وعقلًا أن لايكون في هذه الأمور شرك أوذريعة للشرك وفي غيرها شرك!!

وقول الشيخ بن باز:

«وأما ما نقل عن ابن عمر- رضي اللَّه عنهما- من تتبع آثار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم واستلامه المنبر فهذا اجتهاد منه رضى الله عنه، لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهم أعلم بهذا الأمر وعملهم موافق لما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر رضى الله عنه، الشجرة التي بويع تحتها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلّون عندها خوفاً من الفتنة وسداً للذريعة».

ص: 69

فهذا القول غير صحيح من أوجه:

منها: أنّ ابن عمر مجتهد، وأبوه عمر مجتهد أيضاً- رضي اللَّه تعالى عنهما- وقول المجتهد لا ينقض بقول مجتهد آخر كما هو مقرر في علم الأصول!!

ثم هذا على فرض صحة ثبوت عدم موافقة سيدنا عمر لما فعله ابنه، وهذا لم يثبت!! على أنّ الحافظ ابن حجر أجاب على هذا على فرض ثبوته إذ قال:

«لأن ذلك من عمر محمول على أنّه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة أو خشي أن يشكل ذلك على من لا يعرف حقيقة الأمر فيظنه واجباً، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر... فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين» (1).

وما كتبه المعلق هناك على ذلك الكلام هو محض اجتهاد لا يصمد أمام النصوص التي ستأتي بعد قليل إن شاء اللَّه تعالى في الكلام على أسطورة قطع سيدنا عمر للشجرة!!

هذا؛ ولم يثبت أن سيدنا عمر وغيره من الصحابة- رضى اللَّه عنهم- لم يوافقوا ابن عمر على ما فعله البتة


1- الفتح: 1/ 569.

ص: 70

وهو محض تقوّل لا دليل عليه ونحن نطالب الشيخ ببيان ذلك!! وإن لم يجب ولم يتبيّن بأنّ ذلك ثابت بسند صحيح لا علة له، تبيّن صحّة قولنا بعدم ثبوت ذلك عنه! وإذا ثبت ذلك فإنّه لا ينقض اجتهاد سيدنا ابن عمر لا سيّما والأدلّة الشرعية والعقل السليم موافق لما فعل ابن عمر- رضي اللَّه عنه وعن أبيه-!! فيكون بين الصحابة خلاف في ذلك!! فلا يكون ذلك كفراً ولا ذريعة للشرك والكفر؛ بل ليس ذلك ببدعة طالما أن له دليلًا وعمل به الصحابة والسلف وأفتى الإمام أحمد بأنّه لا بأس به!!

وإنني هنا لا أودّ عرض جميع النصوص التي تثبت متابعة ابن عمر وإثبات التبرك عن غيره من الصحابة واستقصاء ذلك!! بل أكتفي أن أقول: بأن الدارمي روى في «سننه» (1) بسند صحيح عن أبي الجوزاء أوس بن عبد اللَّه قال:

«قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت:

انظروا قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فاجعلوا منه كوىً إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من


1- ج 1، باب «ما أكرم اللَّه نبيّه صلى اللَّه عليه وسلّم بعد موته، ص 43.

ص: 71

الشحم فسمي عام الفتق» (1).

أمّا قوله:(وقد قطع عمر رضى الله عنه الشجرة... وسداً للذريعة) فهذا غير صحيح ولا ثابت!! وذلك لأن هذه القصّة رواها ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (2) عن نافع، وإسنادها صحيح إلى نافع كما قال ابن حجر في «الفتح» (3) لكنها منقطعة بين نافع وسيدنا عمر!! لأن نافعاً لم يدرك سيدنا عمر ولم يرو عنه، وقد صرّح الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (4) في ترجمة نافع أن الإمام أحمد بن حنبل قال:

«نافع عن عمر منقطع».


1- إسناده صحيح، أبو النعمان هو محمد بن الفضل السدوسي الملقب بعارم، إمام ثقة، قال الدارقطني: لم يظهر له بعد اختلاطه حديث منكر. وسعيد بن زيد: ثقة، قال ابن معين وابن سعد والعجلي وسليمان بن حرب: ثقة، وقال البخاري والدارمي: صدوق حافظ. وصحح له ابن القيم في كتاب «الفروسية» ص(20) وقال صديقكم الألباني عنه في «إرواء الغليل»(5/ 338): «لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن إن شاء اللَّه تعالى». وعمرو بن مالك النكري ثقة، أنظر «تناقضات الألباني الواضحات»(2/ 70).(هذا التعليق من الشيخ السقاف).
2- 2/ 100.
3- 7/ 448.
4- 10/ 370.

ص: 72

وقد توفى نافع سنة 120 ه وهذا ممّا يؤكد أنّه لم يدرك ذلك. وكان ينبغي له أن يصرح بذكر اسم شيخه في هذه الرواية!! وكان أحياناً يجتهد في إبداء بعض الآراء ويخطئ في ذلك كما سيتبين بعد قليل إن شاء اللَّه تعالى. ونحن وإن صححنا السند إلى نافع فإنّه لا بدّ من التنبيه على أن في سند هذه القصة عبد الوهاب بن عطاء، وليس هو بالقوي عند أبي حاتم وغيره كما يجد ذلك من يطالع ترجمته في مثل «تهذيب الكمال» (1) وغيره.

فالمعروف المقرر عند أهل الحديث أن مثل هذا القول المنقطع ليس بحجّة!! لا سيّما وقد صرّح بعض الحفاظ كالإسماعيلي بأن هذا ومثله هو من قول نافع ولا يعتبر مسنداً (2) ولا سيما قد ثبت عنه وعن سيدنا ابن عمر ما يخالفه!! كما ثبت عن غير سيدنا ابن عمر بإسناد صحيح ماهو ضده أيضاً!!

أمّاثبوت مايخالف هذاعنه: فروى ابن سعد (3) قال:

«أخبرنا علي بن محمد عن جويرية بن أسماء عن نافع


1- ج 18/ 509، رقم 3605.
2- أنظر «الفتح»(6/ 117/ 2958) وشرح ذلك ص(118) هناك.
3- 2/ 105.

ص: 73

قال: خرج قوم من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد ذلك- أي بعد نزول الآية التي ذكرت فيها الشجرة- بأعوام فما عرف أحد منهم الشجرة واختلفوا فيها، قال ابن عمر:

كانت رحمة من اللَّه».

فهذا النص يبين أنّهم لم يكونوا يعرفونها بعد ذلك، فكيف يقطع سيدنا عمر ما ليس بمعلوم ولا معروف؟! ولو فرضنا أنّه قطع شجرة- وليس هذا بصحيح ولا ثابت- فمعناه أنّه قطع شجرة أخرى ادّعى بعض الناس أنّها شجرة بيعة الرضوان ويؤكد ما قررناه ويبطل أسطورة قطع سيدنا عمر للشجرة ما رواه نافع نفسه بسند صحيح عنه عن عبد اللَّه بن عمر!!

فقد روى البخاري في «الصحيح» من طريق نافع قال: قال ابن عمر:

«رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من اللَّه، يقول راوي الحديث: فسألنا نافعاً على أي شي ء بايعهم، على الموت؟ قال: لا، بل بايعهم على الصبر» (1).


1- 6/ 117/ 2958.

ص: 74

أقول: أما قوله في هذا الأثر:(رجعنا) يعني هو وبعض الصحابة الآخرين ومنهم المسيب والد سعيد بن المسيب حيث جاء عنه كما في البخاري أن سعيداً قال:

«حدثني أبي أنّه كان فيمن بايع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم تحت الشجرة قال: «فما رجعنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها» (1).

وفي الرواية الأخرى:

«فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا».

وهذا في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقبل خلافة سيدنا عمر بدهر طويل، وتقدّم نقلًا من تفسير الحافظ ابن جرير: أنّ عمر بن الخطاب مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، والظاهر أن ذلك كان في خلافته فقال:

«أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول هنا: وبعضهم يقول:

هاهنا، فلمّا كثر اختلافهم قال: سيروا هذا تكلّف، فذهبت الشجرة وكانت سمراء؛ إمّا ذهب بها سيل وإمّا شي ء


1- 7/ 447/ 163 و 4164.

ص: 75

سوى ذلك» (1).

فكيف بعد هذا يقال: إنّ سيدنا عمر قطعها، أي في خلافته؟!!!

وأمّا قول ابن عمر:(كانت رحمة من اللَّه) فيه قولان ذكرهما في «الفتح» الصحيح منهما عندنا للقرائن هو قوله هناك:

«ويحتمل أن يكون معنى قوله: رحمة من اللَّه، أي: كانت الشجرة موضع رحمة اللَّه ومحل رضوانه لنزول الرضا عن المؤمنين عندها» وهذا لا شك فيه (2)!!»

وقوله:(فسألنا نافعاً على أي شي ء بايعهم... قال: بل بايعهم على الصبر) مردود وغير صحيح البتة!! لأن البخاري روى بعد هذا حديثين أثبت فيهما تصريح صحابيين بأنّهم كانوا يبايعون على الموت!!

فيدلّ هذا على أن مالم يسنده نافع لا حجة فيه، وهذا أوضح مثال على ذلك فتدبّر!! لا سيّما وأن البخاري والأئمة لم يعوِّلوا على ما ينقل بإسناد منقطع عن سيدنا عمر، بل


1- 13/ 87.
2- 6/ 171.

ص: 76

قاموا بسرد كثير من الأحاديث والآثار المروية عن ابن عمر والتي كان يتتبع فيها المواضع التي كان قد صلى النبيّ فيها ليصلي فيها، ثم جاء سالم بن عبد اللَّه بن عمر بعد ذلك فاقتدى بأبيه، فكان يتتبع المواضع التي صلى فيها أبوه وأخبره أن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يصلي فيها!! ولو كان قد ثبت عن عمر شي ء في هذا لأورده وهو والدهم مع كون اجتهاده لا ينقض اجتهادهم!! وقد عقد البخاري في «صحيحه» (1) باباً سمّاه:(باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم) أورد فيه تسعة نصوص تدل على أن هذا التبرك والتتبع هو مذهب الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين!! وليس كما يقول المعلّق على «الفتح» (2) في الحاشية هناك بكل جرأة غريبة من أن ذلك من ذرائع الشرك!! كبرت كلمة لا دليل عليها لا سيما وأن فيها تسفيه صريح لفعل الصحابة والتابعين والأئمة ونبذ أقوالهم وأفعالهم لرأي ليس له دليل معتبر وإنّما هو قائم على الخيالات والأوهام البعيدة عن النصوص الثابتة الشرعيّة!! لا سيما والحافظ ابن حجر يقول هناك:

«وقد تقدّم حديث عتبان وسؤاله النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يصلّي في بيته ليتخذه مصلّى وإجابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى ذلك، فهو حجة


1- 1/ 567/ 483- 491.
2- 1/ 569.

ص: 77

في التبرك بآثار الصالحين» (1).

وقد ذكر الحافظ نحو هذا الكلام أيضاً في «الفتح» (2) وحاول أن يرد عليه المعلّق هناك بكلام لا دليل عليه وإنّما يقوم على الرأي المخطئ الصريح!!

وقد روى البخاري عن موسى بن عقبة أنّه قال:

«رأيت سالم بن عبد اللَّه يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها ويحدّث أن أباه كان يصلي فيها، وأنّه رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الأمكنة» (3).

وبذلك يتلخص أن قضية قطع سيدنا عمر لشجرة بيعة الرضوان غير صحيحة ولا يتصوّر أن يفعل ذلك سيدنا عمر رضى الله عنه، ويثبت بما قدمناه أن من الأمور المستحبة عند الصحابة رضي اللَّه عنهم أيضاً استلام الأشياء المتعلّقة بالأنبياء والصالحين وأنّها ليست من الشرك في شي ء.

ثم ذكر الشيخ بن باز أن دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم من الشرك الأكبر!!


1- 1/ 569 الفتح.
2- 1/ 522.
3- 1/ 567/ 483.

ص: 78

وأقول: لنا رسالة مستقلة في هذا الموضوع أسميناها «الأغاثة بأدلّة الاستغاثة» أثبتنا فيها جواز الاستغاثة بالأحاديث والآثار الصحيحة الثابتة وأن ذلك ليس شركاً ولا كفراً!! ومن ذلك ما رواه البخاري في «صحيحه» عن ابن عمر- رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

«إنّ الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك إذ استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق» (1).

قال الحافظ ابن حجر عند شرح مثل هذا الحديث في «الفتح»:

«وفيه: إنّ الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى اللَّه في حوائجهم بأنبيائهم» (2).

وقد ثبت أيضاً في البخاري (3) وغيره أن الناس يلجأون إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عند القحط ليدعو اللَّه له في إنزال الغيث، ولم يقل لهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إن المطر بيد اللَّه وليس بيدي


1- 3/ 338/ 1474.
2- 11/ 441/ 6571.
3- 2/ 501/ 1013.

ص: 79

وعليكم أن تدعو اللَّه أنتم لقوله تعالى: «وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان» (1)

.

فإذا قال الشيخ:(بأن هذا توسل واستغاثة بالحي وكلامنا في الميت)!!

قلنا: الجواب على هذا من وجهين:

الأوّل: إنّ الشرك شرك؛ سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، وسواء كان المستغاث أو المتوسّل به إلى اللَّه تعالى حيّاً أو ميتاً، لأن الكفر كفر في جميع الأحوال طالما أنّك لا تنظر إلى الاعتقاد والنية والقصد!! وعمومات مثل هذه النصوص تكفي أن تشمل الاستغاثة بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل وفاته وبعد وفاته وفي الآخرة!!

الثاني: أنّه قد ثبتت نصوص غير هذه تثبت الاستغاثة به صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاته (2)، فحديث الدارمي الصحيح


1- البقرة/ 186.
2- ولعلّ هذا الأمر كان سائداً بين الصحابة، فقد كانوا يأتون قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يبثون شكاواهم وأحزانهم عنده، كما كانوا يفعلوه والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حيّ بين ظهرانيهم، فقد أخرج الحاكم في المستدرك(باب الفتن والملاحم: ج 4، ص 12) بسند صحيح على شرط الشيخين وأقرّه الذهبي في تلخيصه عن داود بن أبي صالح، قال: «أقبل مروان يوماً فوجد رجلًا واضعاً وجهه على القبر فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع، قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري رضى الله عنه، فقال: جئت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم آت الحجر، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله».

ص: 80

الذي تقدّم في مسألة التبرك وفتح الكوى وإمطارهم، وما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح كما تعلمون (1) فيما ذكره الحافظ ابن حجر في «الفتح» من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار الذي كان خازن سيدنا عمر رضى الله عنه حيث قال:

«أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا رسول اللَّه استسق لأمتك فإنّهم قد هلكوا...» (2).

وقد أقرّه سيدنا عمر ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فصارت المسألة جائزة على الإجماع السكوتي!! فلو كان ذلك شركاً أو كفراً لما وسع سيدنا عمر والصحابة- رضي اللَّه عنهم- السكوت والإقرار على ذلك!!

وليس المقام هنا مقام حصر للأدلّة، ومن أراد أن يتتبعها فعليه برسالتنا «الإغاثة» وغيرها من كتب


1- المصنّف: ج 6/ 359، الرقم 31993. فعلى هذا ما قاله ابن تيمية ونقل عنه الشيخ بن باز بأن هذه الرواية حكاية مكذوبة ليس بصحيح.
2- 2/ 495.

ص: 81

أهل العلم!! لكن يكفي أن أقول هنا أن إمام الشيخ ابن باز وهو الإمام أحمد بن حنبل جوّز الاستغاثة بغير اللَّه تعالى:

فقد روى الإمام الحافظ البيهقي في «شعب الإيمان» (1) وابن عساكر من طريق عبد اللَّه ابن الإمام أحمد، بإسناد صحيح اعترف بصحته حتى الألباني المتناقض!! في ضعيفته (2) وهو في كتاب «المسائل» لعبد اللَّه ابن الإمام أحمد قال: سمعت أبي يقول:

«حججت خمس حجج منها ثنتين راكباً وثلاثة ماشياً، أو ثنتين ماشياً وثلاثة راكباً، فَضَلَلْتُ الطريقَ في حجة وكنت ماشياً فجعلتُ أقول: يا عباد اللَّه دلّونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعتُ على الطريق» (3).

وهذا تطبيق لحديث سيّدنا عبداللَّه بن مسعود رضى الله عنه المرفوع:

«إذا ضلّ أحدكم شيئاً أو أراد غوثاً وهو بأرض ليس بها


1- ج 6، ص 128، الرقم 7697.
2- 2/ 111.
3- 217.

ص: 82

أنيس فليقل: يا عباد اللَّه أغيثوني، يا عباد اللَّه أغيثوني، فإنّ للَّه عباداً لا نراهم» (1).

وهذه استغاثة صريحة بغير اللَّه تعالى!! وللحديث عدّة ألفاظ تجدها في رسالتنا «الإغاثة» (2).

وقد نص جماعة من أهل الحديث على أن ذلك جرّب فتحقق، منهم:

الحافظ الطبراني عقب روايته لهذا الحديث (3)، والحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4) والإمام النووي في «الأذكار» (5) وذكر أنّ بعض شيوخه الكبار فعل ذلك (6)، وقد حسّن هذا الحديث الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» (7)


1- ولحديث شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه الحافظ البيهقي في شعب الإيمان(ج 6، ص 128، الرقم 7697).
2- ص 22.
3- ورواه الطبراني بسنده عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم انظر:(المعجم الكبير: ج 17، ص 117- 118، الرقم 290).
4- 10/ 132.
5- ص 21.
6- وبعض آخر كالشوكاني في «تحفة الذاكرين»(ص 46) وابن الجزري في «الحصن الحصين»(انظر: تعليق على سير أعلام النبلاء: ج 10، ص 107).
7- أنظر شرح العلامة ابن علان على الأذكار(5/ 151).

ص: 83

وقال: هو مجرب (1) واعترف بحسنه الألباني في ضعيفته حيث قال هناك:

«وبعد كتابة ما سبق وقفت على إسناد البزار في «زوائده»... قلت: وهذا إسناد حسن كما قالوا...» (2).

وهذا كلّه وغيره كثير يثبت أن ما ذكره الشيخ بن باز من قوله: إنّ ذلك شرك أكبر، ليس بصحيح!! بل ليس شركاً أصغر، وإنّما هو من الأمور المستحبات التي وردت في الأحاديث الثابتة واستعملها السلف الصالح!! لكن أباها الشيخ هداه اللَّه تعالى!!

وأُذكّر القارئ هنا بأن الحافظ المحدث الذهبي نقل عبارات عديدة عن السلف تفيد بكل صراحة بأن هذه الأمور ليست شركاً بل هي من الأمور المشروعات أو المستحبات، فمن ذلك قول الذهبي في «سير أعلام النبلاء» قال إبراهيم الحربي:


1- انظر: شرح العلّامة ابن علان(الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية: ج 5، ص 151).
2- 2/ 111.

ص: 84

«قبرُ معروفٍ الترياقُ المجرَّب. يريد إجابة دعاء المضطر عنده لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء» (1).

وقال الذهبي في «السير» أيضاً في ترجمة السيدة نفيسة:

«والدعاء مستجاب عند قبرها، بل وعند قبور الأنبياء والصالحين» (2).

أمّا الآيات الكريمة التي أوردها الشيخ فإنّها لا تدل على ما يريد!! وذلك لأنّه ليس كل دعاء عبادة ومعنى حديث «الدعاء هو العبادة» أي دعاء اللَّه تعالى من جملة عبادة اللَّه أو من أعظم العبادات كما قال ذلك المناوي في «الفيض» (3)!! لا أن كل دعاء عبادة البتة!! وتدل على ذلك النصوص مثل قوله تعالى: «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً» (4)

وقد توسعت في شرح ذلك وبيانه و ما يتعلّق به في كتابي «التنديد بمن عدّد التوحيد» (5) فليراجع!!


1- 9/ 343.
2- 10/ 107.
3- 3/ 540.
4- النور/ 63.
5- 30/ 42.

ص: 85

والعجب أن الشيخ أورد قوله تعالى: «ويعبدون من دون اللَّه مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه...» (1)

وأن اللَّه تعالى ردّ عليهم!!

وأقول مجيباً: لا يمكن تطبيق هذه الآية على المسلمين المؤمنين الموحدين (2) الذين يتوسلون ويستغيثون


1- يونس/ 18.
2- بل لا يجب أبداً تطبيق أيّ من الآيات الصادرة حول المشركين، على المؤمنين وعقائدهم؛ لأنّه لا يمكن أبداً مقارنة ما يتوهّمه المشركون مع عقائد المؤمنين الحقّة، ومن جملتها:

ص: 86

ص: 87

بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وغيره من عباد اللَّه الصالحين!! وذلك لأن معنى الاستغاثة أن زوار الأنبياء وقبور الأولياء يطلبون منهم أن يدعوا اللَّه لهم في قضاء حوائجهم، ولا يعبدونهم ولا يعتبرونهم آلهة ويعتقدون أنهم لا يستقلّون من دون اللَّه تعالى بالضر والنفع، ولا يسجدون لهم!! خلافاً لأولئك الكفار الذين نزلت فيهم هذه الآية وغيرها من الآيات الكريمة حيث كانوا يسجدون لتلك الأصنام ويعبدونها من دون اللَّه تعالى!! أما قولهم: «هؤلاء شفعاؤنا عنداللَّه» فمثل هذه المقالة منهم هي محض كذب منهم عند محاججة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لهم وإقامة الحجة عليهم فلا يذعنون ولا ينقادون للأنبياء ولا يدرون بماذا يجيبون فيقولون هذه الجمل التي لا يعتقدونها ولا يؤمنون حقيقةً بمضمونها، فهي كذب بحت منهم، وقد بيّن اللَّه تعالى لنا أنّ هذه الجمل هي محض كذب

ص: 88

منهم حيث قال في الآيات الأخرى التي أوردها الشيخ مفسراً لها على غير ما قررناه وهي قوله تعالى:

«... والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلّاليقربونا إلى اللَّه زلفى إنّ اللَّه يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن اللَّه لا يهدي من هو كاذب كفار»(الزمر/ 3) فبين اللَّه تعالى لنا أن هؤلاء الكفار كاذبون فيما زعموه لأنّهم لا يعرفون اللَّه ولا يريدون السجود له ولا يعترفون ولا يؤمنون به والدليل على ذلك وهو الذي لا يختلف فيه اثنان قوله تعالى: «وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً»(الفرقان/ 60)، وقوله تعالى: «... وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربّي...»(الرعد/ 30)، وقال تعالى: «وضرب لنا مثلًا ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم* قُل يُحييها الذي أنشأها أوّل مرّة...»(يس/ 78- 79)، وقال تعالى: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللَّه فيسبوا اللَّه عدوا بغير علم...»(الأنعام/ 108)، فهذه الآيات جميعها تثبت خطأ الاستدلال بالآيات الأخرى التي ذكرناها على أن الاستغاثة ومطلق الدعاء شرك!! لأن هذه الآيات تثبت أن أولئك ما كانوا يؤمنون باللَّه تعالى مطلقاً فضلًا عن أن يعتقدوا بأنّ أولئك الأصنام

ص: 89

وغيرها ممّن اتخذوها آلهة من دون اللَّه تعالى ما هي إلّا وسيلة تقربهم للَّه تعالى وتشفع لهم عنده!! فلو كان كذلك لعظموا اللَّه تعالى، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن، لذلك قال اللَّه تعالى عنهم: «... إنّ اللَّه لا يهدي من هو كاذب كفّار»(الزمر/ 3) وبذلك ينهدم كلام الشيخ واستدلاله بتلك الآيات الكريمة.

وهنا نعيد له كلامه الذي ردده هناك بعد هذا البيان الواضح ونقول له:

(فالواجب على مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاؤه ما يستحق من العناية)!!

وما أورد الشيخ هناك(ص 5) في مقالته من آيات فسرها كما يريد على أن دعاء غير اللَّه من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم شرك!! فلا يتم له بها الاستدلال لأننا قدّمنا ما هو الصحيح من معناها لا سيما وقد خالفه في الملائكة في هذه القضية الشيخ الألباني حيث استثنى الملائكة لحديث حسن أورده في ضعيفته هناك إذا قال:

«فهذا الحديث إذا صح يعيّن أن المراد بالحديث الأوّل(يا عباد اللَّه) إنّما هم الملائكة، فلا يجوز أن يلحق بهم

ص: 90

المسلمون من الجن أو الإنس ممّن يسمونهم برجال الغيب» (1).

ثم اعترف بعد ذلك بأسطر بأنّه وقف على إسناد الحديث في زوائد البزار وأنّه حسن كما قال الحفاظ!!

ملاحظة: ثم ألف نظر الشيخ هنا إلى مسألة الاستغاثة بالأنبياء، أي سؤالهم عند الوقوف على قبورهم وخاصة سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم أن يدعو اللَّه لنا في قضاء الحاجات كما نص على ذلك جمع من الأئمة منهم الإمام الحافظ النووي في المجموع «شرح المهذب» (2) في باب ما يستحب أن يقول عند الزيارة- أنّ الأنبياء أحياء وكذا الشهداء: «ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون»(آل عمران/ 169) ولا نحتاج لتأويل كلمة أحياء وإخراجها عن المعنى الذي نفهمه والذي تدل عليه اللغة العربية التي نزل بها القرآن إلى معنى لا نفهمه، لأنّ اللَّه تعالى يخاطبنا في هذه الآية بما نفهم ونعقل!! فإذا كانوا أحياء (3)


1- 2/ 111.
2- 8/ 274.
3- كما إنّنا نفهم معنى «أمواتاً» في الآية ولا نحتاج لتأويلها، وقدجعل اللَّه تعالى كلمة «أحياء» هنا في قبال كلمة «أموات» ومعناهما معلوم في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم؛ بل توجد روايات كثيرة تدلّ على أنّ جميع «الأموات» يدركون- حسب مراتبهم- أموراً كثيرة، ولا تنقطع علاقتهم بالدنيا بشكل كامل.

ص: 91

ص: 92

ص: 93

وبعد سلام الزائر عليهم خاطبهم ليدعوا اللَّه له في قضاء حاجته فما هو المانع من ذلك وما هو الشرك في هذا؟!!

لا سيما وابن قيّم الجوزية يقول في كتابه «الروح»(انظر: الروح، ص 47) كما نقل المحدّث الكتاني عنه في «نظم المتناثر من الحديث المتواتر»(حديث رقم 115).

«صحّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وأنّه صلى الله عليه و آله و سلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء... وقد أخبر بأنّه ما من مسلم يسلّم عليه إلّارد اللَّه عليه روحه حتى يردّ عليه السلام (1) إلى غير ذلك ممّا يحصل من جملته القطع بأن


1- وقال السيوطي في «مرقاة الصعود» أحاديث حياة الأنبياء في قبورهم، متواترة وقال في «أنباء الأذكياء بحياة الأنبياء» ما نصه: «حياة النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في قبره وسائر الأنبياء معلومة عندنا علماً قطعياً، لما قام عندنا من الأدلّة في ذلك وتواترت به الأخبار الدالّة على ذلك وقد ألّف الإمام البيهقي رحمه الله جزءاً في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم»(انظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر، ص 35، تعليق حديث رقم 115) وقد تقدّم رأي الذهبي بقوله: «فمن وقف عند الحجرة المقدسة ذليلًا مُسَلِّماً مصلّياً على نبيّه فيا طوبى له فقد أحسن الزيارة وأجملَ في التذلل والحُبّ وقد أتى بعبادة زائدة على من صلّى عليه في أرضه...»(سير أعلام النبلاء: ج 4، ص 483، الرقم 185) وأخرج الهيثمي عن عبد اللَّه بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إن للَّه ملائكة سيّاحين يبلِّغون عن أمتي السلام...» رواه البزار ورجاله رجال الصحيح»(مجمع الزوائد: ج 9، باب ما يحصل لأمّته من الاستغفار بعد وفاته، ص 24) وروى أبو داود بسند صالح والبيهقي كما نقل عنهما الشيخ منصور علي ناصف في كتابه «التاج الجامع للأصول»(كتاب الحج، ج 2، باب زيارة قبر النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم) وعن أبي هريرة عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم قال: «ما من أَحَدٍ يُسَلِّم عَليَّ إلّاردّ اللَّه عليَّ روحي حتّى أردّ عليه السلام» ونقل أيضاً عن أبي داود بسند صالح والضياء عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «... وصلّوا عليَّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم»(نفس المصدر) كما أورد القاضي عيّاض(م/ 544) فصلًا في كتابه «الشفاء بتعريف حقوق المصطفى، ص 666- 678) وبعد أن ذكر في بداية الفصل: «وزيارة قبره صلّى اللَّه عليه وسلّم سُنّة من سنن المسلمين مُجتَمعٌ عليها وفضيلة مرغَّبٌ فيها»، أورد شطراً من الروايات في ذلك الباب. كما يذكر تقي الدين السبكي بالتفصيل(م/ 756) روايات كثيرة في هذا الباب في كتابه المعروف: «شفاء السقام في زيارة خير الأنام»، وبعد ذكره بعض المتابعات والشواهد حول هذه الروايات يبدأ ببحث وتحليل سندها ودلالتها ثمّ يعمد إلى دفع الشبهات والإشكالات.

ص: 94

موت الأنبياء إنّما هو راجع إلى أن غُيِّبوا عنا بحيث لا ندركهم (1) وإن كانوا أحياء موجودين كالملائكة فإنّهم


1- ويؤيّده ما رواه الهيثمي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الأنبياء أحياء في قبورهم يُصَلّون» قال الهيثمي: ورواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى ثقات(مجمع الزوائد: ج 8، باب ذكر الأنبياء صلّى اللَّه عليهم وسلّم، ص 211) وانظر أيضاً سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني(ج 2، ص 187- 192) قال: «وقد كنت برهة من الدهر أرى أنّ هذا الحديث ضعيف لظني أنّه ممّا تفرّد به ابن قتيبة- كما قال البيهقي- ولم أكن قد وقفت عليه في «مسند أبي يعلى» و «أخبار اصبهان» فلمّا وقفت على إسناده فيهما تبيّن لي أنّه إسناد قوي وأنّ التفرّد المذكور غير صحيح...».

ص: 95

أحياء موجودون ولا نراهم».

انتهى ما أردنا نقله، فتأمّل!!

ثم نقل الشيخ كلاماً لابن تيمية لم يخرج ما فيه من الكلام عن ما ذكرناه وفند من أقوال لا دلالة فيها وإنّما هو إعادة الكلام وإبدائه فيما لا تحقيق فيه!!

ونلفت النظر هنا إلى أنّ كلام ابن تيمية لا قيمة له عندنا لأنّه هو الأساس في كل الخصومة بينه وبين باقي المسلمين فلا يجوز أن نأتي بكلام الخصم سواء، الفتاوي أو من رسالته إلى أتباع الشيخ عدي بن مسافر فنورده على أنّه حجة أو كلام من شخص معتبر!! فإنّ الشيخ العلّامة الخراساني لو جلب للشيخ كلام أحد أئمة الإمامية لم يقبل منه الشيخ ذلك ولقال له هذا لا يعترف به عندنا فلا فائدة من إيراد كلامه هنا!!

فكذلك ابن تيمية لا قيمة ولا اعتبار له عند جمهور

ص: 96

علماء أهل السنة (1) من غير المتمسلفين في القديم والحديث، وكم لهم عليه وعلى أفكاره من ردود يعرفها الشيخ!! وكذا لا قيمة له عند الإمامية والزيدية والأباضية وغيرهم من المسلمين الموحدين. فكلام ابن تيمية لا يصح إيراده وهو غير مقبول ومن كانت لديه حجة فليوردها بعيداً عن ابن تيمية. والمناظرة أو المباحثة والمناقشة يجب أن تكون الأدلّة والأقوال التي يتم الحوار بناء عليها متفقاً عليها أو معترفاً بها عند طرفه وإلّا كان إيرادها من العبث الذي لا قيمة له.

وبقي شيئان في كلام الشيخ يجب الجواب عليهما


1- انظر على سبيل المثال كلام تقي الدين السبكي في مقدمة كتابه «الدرالمضيئة في الرد على ابن تيمية» والذهبي في رسالته «بيان زغل العلم والطلب»(وهذه الرسالة ثابتة عن الذهبي وذلك لأنّ الحافظ السخاوي قد نقل عنه هذه العبارة في كتابه «الإعلان بالتوبيخ» قال: «قد رأيت له- للذهبي- عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة.» انظر: الإعلان بالتوبيخ، ص 77) وابن حجر العسقلاني في «لسان الميزان»(ج 7، ص 1530، الرقم 9465) وابن حجر الهيثمي في «الفتاوي الحديثة»(ص 144) وكتابه الآخر «الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم»(ص 12) وتاج الدين السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى: ج 10، ص 400، الرقم 1417) وتقي الدين الحصني في «دفع الشبهة عن الرسول والرسالة»(ص 83) ومحمود بن عبد اللَّه الآلوسي في «روح المعاني»(ج 1، ص 36) ومحمد زاهد الكوثري في «السيف الصيقل».

ص: 97

باختصار، وإذا لم يقتنع بذلك فإننا سنطيل تفصيله والاستدلال عليه، وهما:

الأوّل: اعتباره أن تقبيل الشي ء واستلامه نوع من أنواع العبادة!!

والجواب عليه: إن الأمر ليس كذلك، فقد قبّل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وجه الصحابي الجليل عثمان بن مظعون وهو ميت وقبّل ما بين عينيه!! أنظر «مجمع الزوائد»(3/ 20) وغيره.

ومن ذلك تقبيل يد الوالدين واستلامهما مع تعظيمهما واحترامهما لا يعتبر عبادة بالاتفاق.

فاستلام الشي ء لا يعتبر من العبادات حتى يحكم بذمه وأنه من الشركيات والبدع المذمومات!!

والثاني: أن حديث «لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» لا يصح وإن رواه الشيخان لأنّ معناه مصادم لما جاء في القرآن كما سنبين وليس هذا بعجب!! فقد أمر الإمام أحمد بالضرب على أحاديث وقد خرجها فيما بعد الشيخان!! منها حديث «يهلك أمتي هذا، الحي من قريش قالوا ما تأمرنا يا رسول اللَّه؟ قال: لو أن

ص: 98

الناس اعتزلوهم» (1)

.

قال عبداللَّه بن الإمام أحمد في «المسند» عقبه مباشرة:

«قال أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث فإنّه خلاف الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يعني قوله:

اسمعوا وأطيعوا» (2).

وهذا الحديث الذي فيه اتخاذ اليهود والنصارى قبور أنبيائهم مساجد فيه بكل صراحة تعظيم أنبيائهم!! لكن القرآن الكريم بين أن اليهود لم يكونوا يحترمون الأنبياء بل كانوا يكذبونهم ويقتلونهم!! قال تعالى:

«... أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون»(البقرة/ 87)، وقال تعالى:

«... قُل فلم تقتلون أنبياء اللَّه من قبل إن كنتم مؤمنين»(البقرة/ 91).

ولذلك أورد هذا الحديث المحدث الشريف عبد اللَّه بن الصديق الغماري- أعلى اللَّه درجته- في كتابه «الفوائد


1- انظر: البخاري مع الفتح، ج 6، ص 1612، الرقم 3604؛ ومسلم: ج 4، كتاب الفتن وأشراط الساعة، ص 2226، الرقم 2917.
2- 2/ 301 والطبع المحقق: 13/ 383.

ص: 99

المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة».

وأورد السيد المحدث الغماري هناك: أنّ اللَّه تعالى أثبت في القرآن الكريم أذية اليهود لنبيهم الأكبر سيدنا موسى- عليه الصلاة والسلام- في عدة آيات، منها قوله تعالى: «وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول اللَّه إليكم فلما زاغوا أزاغ اللَّه قلوبهم واللَّه لا يهدي القوم الفاسقين»(الصف/ 5) هذا ولا يعلم أنّهم أقاموا لأكبر وأعظم أنبيائهم سيدنا موسى قبراً يزورونه ويعظمونه حتى الآن!! فكيف يقال بعد ذلك إنّهم عظموا قبور أنبيائهم واتخذوها مساجد؟!!

وأمّا النصارى فليس لهم إلّانبي واحد!!

وأمّا إنكار الشيخ التوسل بالأنبياء في آخر جوابه أو مقاله، فجوابه أن الأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع كثيرة جداً أفردت بتصنيفات مستقلة معلومة عندكم فيها أحاديث كثيرة صحيحة، منها حديث عثمان بن حنيف في قصّة الأعمى الذي علّمه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يقول:

«اللهم إنّي أتوجّه إليك بنبيك محمّد نبي الرحمة...».

رواه الترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم وصححه

ص: 100

الأئمة (1)، وفي رواية ابن أبي خيثمة في تاريخه بإسناد صحيح زيادة: «وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك» وكذا علّم سيدنا عثمان بن حنيف رضى الله عنه- راوي هذا الحديث- رجلًا بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم أن يدعو بمثل هذا الدعاء، وهو صحيح رغم محاولات بعضهم لتضعيفه، وتجد تفنيد أقوال من يحاول تضعيفه والكلام على تلك الروايات وعلى سندها وتحقيق ذلك في كتاب المحدّث الغماري «إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي» أن ابن تيمية أقرّ أخيراً بجواز التوسل وأصر وبقي منكراً للأستغاثة (2)!!

والأصل في ذلك كلّه قوله تعالى: «وابتغوا إليه الوسيلة»(المائدة/ 35) وقوله تعالى: «يبتغون إلى ربّهم الوسيلة»(الإسراء/ 57).

هذا؛ ونسأل اللَّه تعالى أن يمنحنا وإياكم وسائر


1- انظر: التعليق على مسند أحمد: ج 28، ص 478، الرقم 17240؛ والجامع الصغير للسيوطي: ج 1، ص 94، الرقم 1508؛ وفيض القدير للمناوي: ج 2، ص 169- 170، الرقم 1508.
2- قال المناوي بعد شرحه للحديث: «قال السبكي ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبيّ إلى ربّه ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا من الخلف حتّى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم قبله وصار بين أهل الإسلام مثلة»(فيض القدير: ج 2، ص 169- 170، الرقم 1508).

ص: 101

المسلمين الرجوع للحق وتقوى اللَّه تعالى في السر والعلن وأن يكرمنا جميعاً بالتفقه في دينه والثبات على التوحيد الخالص وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يكرمهم بالفقه في الدين والحرص على الخيرات وترك المنكرات (1) وأن يولي عليهم خيارهم ليحكموا بشرع اللَّه تعالى انصياعاً لقوله جلّ جلاله: «فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً»(النساء/ 65) ولقوله تعالى:

«أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من اللَّه حكماً لقومٍ يوقنون»(المائدة/ 50) اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين ورضوان اللَّه تعالى على صحابته المتقين وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.


1- وفي الختام وبعد أن اطّلع القراء الكرام على أدلة جواز التوسل والتبرك والزيارة والتقبيل، وعلموا أنّ علماء كبار أمثال: أحمد بن حنبل، والذهبي، والسبكي، وابن حجر، والنووي والمناوي و... يقولون بجواز هذه الأمور. نودّ أن نلفت نظرهم إلى أنّ أمثال هؤلاء العلماء والحفّاظ قد أفتوا وصرحوا بجواز هذه الأمور بعد بحث وتحقيق وإقامة الدليل، لا عن حدس وتقليد. وعلى هذا، إذا اعتبرنا هذه الأمور شركاً باللَّه تعالى، فلا بدّ أيضاً اعتبار أمثال هؤلاء العلماء العظام مشركين أو كفّار. ونحن نترك لكم الحكم والقضاء في تصور العواقب والتأثيرات التي يمكن أن يتركها مثل هذا الأمر.

ص: 102

ص: 103

التبرّك والتوسّل على ضوء الكتاب والسنّة

اشارة

ملاحظات و تعليقات على أجوبة الشيخ عبدالعزيز بن باز بقلم:

آية اللَّه الشيخ جعفر السبحاني

ص: 104

ص: 105

تعليق آخر (حوارات عقائديّة معاصرة)

اشارة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أما بعد:

فقد وقفت على رسالة لسماحة الشيخ الجليل محمد واعظ زاده الخراساني كتبها إلى المفتي العام للملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن باز بتاريخ 11 ذي الحجة الحرام عام 1413 ه. وقد صدرت اجابة من مكتب المفتي بتاريخ 6 جمادى الأُخرى عام 1416 ه، برقم 11651، واشتملت الرسالة الأُولى على أمرين:

الأوّل: مسألة التبرك والتوسل بالنبي وبالأولياء في حياتهم ومماتهم.

الثاني: مسألة الصلح مع العدو الصهيوني الّذي أجازه

ص: 106

الشيخ ابن باز في بعض بحوثه، إذا لم يكن بإمكان المسلمين الحرب مع هذا الكيان، استناداً إلى صلح النبي مع المشركين في الحديبية.

ولكن المفتي أجاب عن المسألة الأُولى ولم يجب شيئاً عن المسألة الثانية بتاتاً.

ثم إني قد وقفت على تعقيب على الرسالتين للأُستاذ حسن بن علي السقاف، والرسائل الثلاث منتشرة في كتيب بعنوان «التبرك والتوسل والصلح مع العدو الصهيوني».

وقد طلب مني بعض الاعزاء ان اعلّق على رسالة المفتي ببعض ما يمكن اعتباره جواباً عنها، وأُبيّن موقف الشريعة الإسلامية من هذه المواضع على ضوء الكتاب والسنة.

وقد كتبت فيما مضى رسائل وبحوثاً حول هذه المواضيع، والّذي يورث الاسف ان المفتي وتلامذته ومن على منهجه يقلّدون منهج استاذهم محمد بن عبد الوهاب كما أنّه قلد استاذ منهجه- أحمد بن تيمية. ويشهد على ذلك انّه ملأ رسالته بكلام ابن تيمية واعتمد عليه كليّاً غاضاً الطرف عن الكثير من الردود الاتي دونها لفطاحل من علماء المسلمين في بيان نقاط الخلل في فكره ومجانبته للحقيقة.

ص: 107

وبما أن مسألة التبرك والتوسل صارت ذريعة لرمي جماهير غفيرة من المسلمين بتهمة البدعة والشرك فلم أجد بداً من أيضاح الموضوع، لعل اللَّه يحدث بعد ذلك أمراً.

وربّما يوجد في الجيل المعاصر من يؤثر الحق على التعصب المقيت والتقليد الأعمى.

وها نحن نذكر خلاصة كلام المفتي في مقاطع مختلفة، ثم نعرج عليه بالتحليل والدراسة.

1. التبرك بالآثار

فرّق الشيخ المفتي في رسالته بين التبرك بما مسّ جسده صلى الله عليه و آله و سلم فافتى بجوازه وما لم يمس جسده فافتى بانّه بدعة لا أصل لها، فقال:

فأما التبرك بما مسّ جسده- عليه الصلاة والسلام- من ماء وضوء اوعرق أو شعر ونحو ذلك، فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة- رضي اللَّه عنهم- وأتباعهم بإحسان، لما في ذلك من الخير والبركة.

وعلى هذا أقرّهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فامّا التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي فبدعة لا أصل

ص: 108

لها والواجب تركها لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلّاما أقرّه الشرع لقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ». (1) يلاحظ عليه أوّلًا: بانّه جمع في كلامه بين أمرين، فتارة وصف التبرك بما لم يمس بدنه صلى الله عليه و آله و سلم بكونه بدعة لا أصل لها، وأُخرى بكونه عبادة غير واردة في الشرع، وان العبادات توقيفية، مع أن الجمع بينهما في هذا الموضع أمر غير صحيح، لأن التبرك بما مس جسده الشريف، إذا لم يكن عبادة للنبي، لا يكون التبرك بما لم يمس جسده الشريف عبادة له أيضاً، بل أقصى ما يمكن أن يقال- حسب زعمه- أنّه بدعة.

وإذا كان التبرك بالآثار في حد ذاته شركاً وعبادة لصاحب الأثر فلا يخرج عن كونه شركاً وعبادة إذا مسّ جسد النبي وذلك لأن الشرك شرك لا يتبدل ولا يتغير عن واقعه بمسّه جسد المعصوم.

وثانياً: إن ظاهر كلامه: إن لجسده صلى الله عليه و آله و سلم تأثيراً في ذلك الشي ء الّذي يتبرك به، مع أن هذا مخالف لأُصول أهل السنّة إذ لا مؤثر في الكون إلّااللَّه سبحانه وأنّه ليس لشي ء


1- صحيح مسلم: 3/ 1343/ 1718.

ص: 109

من الأشياء أيّ تأثير في شي ء، ومنطقهم هو البيت التالي:

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة فذاك كفر عند أهل الملّة

يقول الزبيدي: كل من أثبت مؤثراً غير اللَّه من علّة أو طبع أو ملك أو أنس أو جنّ فقد قال بمقولة المجوس. (1) وثالثاً: إن البدعة تتقوّم بالقيود الآتية:

1. ادخال شي ء في الدين عقيدة أو حكماً أو عملًا بزيادة أو نقيصة.

2. ان تكون هناك إشاعة ودعوة.

3. أن لا يكون هناك دليل في الشرع يدعم جوازها لا بالخصوص ولا بالعموم.

اما القيدان الأوّلان، فلا حاجة إلى البحث فيهما، إنما الكلام في القيد الثالث وهو أن مقوّم البدعة عدم وجود أصل لها في الدين، لا خصوصاً ولا عموماً.

وهذا ممّا أطبق عليه كبار أهل السنة، قال ابن رجب:

المراد بالبدعة ما أحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، امّا ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة


1- اتحاف السادة: 2/ 135.

ص: 110

شرعاً وإن كان بدعة لغة. (1) وقال ابن حجر العسقلاني: ما أحدث وليس له أصل في الشرع يسمّى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة. (2) وقال أيضاً «البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة.

والتحقيق أنها ان كانت ممّا تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وان كانت ممّا تندرج تحت مستقبح فهي مستقبحة. وإلّا فمن قسم المباح. (3) وعلى ضوء ذلك إن التمسح بما لم يمس جسده صلى الله عليه و آله و سلم له أصل في الدين وأن المسلمين ينطلقون في جوازذلك من مبدأين:

المبدأ الأوّل: مبدأ الحب والودّ والتعزير والتكريم، إذ لا شكّ أن الشرع دعا إلى حب النبي وودّه وتكريمه وتعزيره.

قال سبحانه: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ


1- جامع العلوم والحكم: 289.
2- فتح الباري: 5/ 158.
3- فتح الباري: 4/ 25، كتاب صلاة التراويح، ذيل الحديث برقم 2010.

ص: 111

وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (1).

ويقول أيضاً في مدح الذين يوقرون النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويحترمونه:

«فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (2).

روى البخاري عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «فوالّذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده».

وروى عن أنس قال: قال النبي: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين». (3) وقد عقد مسلم باباً باسم: «باب وجوب محبة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم» ونقل في ذلك أحاديث عدة.

والروايات الحاثة على حب النبي كثيرة اقتصرنا


1- التوبة: 24.
2- الاعراف: 157.
3- صحيح البخاري، كتاب الإيمان، برقم 14 و 15.

ص: 112

فيها بما ذكرنا ومن أراد التفصيل فليرجع إلى جامع الأُصول. (1)

مظاهر الحب في الحياة

اشارة

إن للحب مظاهر متعددة في الحياة، إذ ليس الحبّ شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على اعمال الإنسان وتصرفاته، بل إن من خصائص الحبّ أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامح وجهه، وعلى قوله وفعله بصورة مشهودة وملموسة، ومن مظاهره:

1. الاتباع

إن حبّ الرسول الكريم لا ينفك عن اتباع دينه والاستنان بسنّته والإتيان بأوامره والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محبّاً للرسول أشدّ الحب، ومع ذلك فهو يخالفه ويرتكب ما يبغضه ولا يرضيه.

ويقول: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» (2).


1- جامع الأُصول: 1/ 239.
2- آل عمران: 31.

ص: 113

2. حبّ ما يمتّ إليه بصلة

اشارة

إن للحبّ مظاهر أُخرى غير الاتباع، في حياة المحبوب وبعد مماته، اما في حياته فالمحبّ يزور محبوبه ويكرمه ويعظمه ويقضي حاجته ويدفع عنه كل مكروه، ويهيى ء له ما يريحه.

فاذا توفي المحبوب، حزن عليه أشدّالحزن، وحفظ آثار، كما انّه يحترم ابناءه واقرباءه ودياره ومثواه وكل ما يمّتَ إليه بصلة.

وعلى ضوء ذلك فمن يتمسح بالأبواب والجدران والشبابيك في حرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يُعد عمله هذا من مظاهر حبه لرسول اللَّه فلما لم يتمكن من أن يقبل الرسول ويتمسح به مباشرة اتجه ليقبّل ويتمسّح بما يمتّ إليه بصلة، وهذا أمر رائج بين العقلاء وداخل في حبّ النبي وتكريمه.

ولذلك نرى أنّه سبحانه يأمرنا برفع بيوت الأنبياء والأولياء ويقول: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ» (1).


1- النور: 36.

ص: 114

وحيثما نزلت هذه الآية على قلب سيّد المرسلين وهو صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد الشريف، قام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ قال: «بيوت الأنبياء»، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول اللَّه: أهذا البيت منها؟ مشيراً إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام، قال: «نعم ومن أفاضلها». (1) ومن الواضح أن تكريم هذه البيوت لا لأجل أن جسد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو الولي مس جميع اجزائها من الجدران والسقف وإنّما لأجل انتمائها إلى رجال جاء ذكرهم في الآية التالية بقوله تعالى: «... يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ» (2).

فكلّ ما يمتُّ إلى أولياء اللَّه بصلة يكون دافع المسلم إلى لمسه وتقبيله هو حبّه لصاحبه ليس إلّا، فإظهار هذا الحب المكنون في القلب ليس بدعة لأن له أصلًا في القرآن.

المبدأ الثاني: ان الصحابة كانوا يتبركون بكل ما يمتُّ إلى النبي بصلة وإن لم يمس جسده ونذكر في ذلك قليلًا من كثير حتّى يعلم أن تفريق الشيخ بين ما مسّ جسده ومالم يمسّه ليس له أصل شرعي بل هو اجتهاد خاطئ.

قال الذهبي بعد التصريح بمشروعية زيارة قبر


1- الدر المنثور: 6/ 303؛ روح المعاني: 18/ 174.
2- النور: 36- 37.

ص: 115

النبي صلى الله عليه و آله و سلم: فواللَّه ما يحصل الانزعاج لمسلم، والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلّاوهو محبّ للَّه وللرسول فحبّه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار فزيارة قبره من أفضل الُقُرب. (1)

1. التبرك بقبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند الجدب

إليك بعض ما نقل:

1. عن اوس بن عبداللَّه قال: قحط أهل المدينةقحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فاجعلوامنه كوّة إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقف. قال: ففعلوا فمطرنا مطراً حتّى نبت العشب وسمنت الأبل (2).

وروى ابن تيمية: أن عائشة كشفت عن قبر النبي لينزل المطر فانّه رحمة تنزل على قبره. (3) ومن المعلوم أن التراب الّذي وارى قبره الشريف لم


1- سير أعلام النبلاء: 4/ 483- 484، ترجمة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، برقم 185.
2- السنن للدارمي: 1/ 43- 44، وقال: اسناده صحيح؛ اقتضاء الصراط المستقيم: 338 و انظر أيضاً: التعليق السقاف: ص 71
3- اقتضاء الصراط المستقيم: 338.

ص: 116

يمس جسد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ولم يظهر سوى ظاهر قبره للسماء، فالتفصيل بين ما مس جسده، وما لم يمسه يضادّ هذا الأثر الذي روي بإسناد صحيح.

2. التبرك بالمواضع الّتي صلّى فيها النبي صلى الله عليه و آله و سلم

عقد البخاري باباً باسم «باب المساجد الّتي على طرق المدينة والمواضع الّتي صلى فيها النبي صلى الله عليه و آله و سلم» ونقل فيه عن موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبداللَّه(ابن عمر)- يتحرى اماكن من الطريق فيصلّي فيها ويحدّث أن أباه كان يصلّي فيها وأنّه رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم يصلّي في تلك الأمكنة ثم ذكر اسماء المساجد الّتي كان يصلّي فيها ابن عمر ثم ابنه سالم. (1) وعندئذ نسأل الشيخ: فما هو الوجه في المواظبة على الصلاة في مساجد صلّى فيها النبي صلى الله عليه و آله و سلم؟ ولماذا كان ابن عمر يداوم على الصلاة فيها؟ فهل كان جسد النبي مس عامّة اجزاء تلك المساجد؟ وهل بقيت الرمال والتراب على حالها بعد مضي سنين طويلة من رحيله صلى الله عليه و آله و سلم؟


1- البخاري: 1/ 492، الحديث 483،(باب المساجد الّتي على طرق المدينة).

ص: 117

كل ذلك يدلّ على أن التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه و آله و سلم سواء مسّت جسده أو لا، أمر مشروع بين الصحابة والتابعين.

3. تبرك الصحابي بقبر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عند الزيارة

أخرج الحاكم عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلًا واضعاً وجهه على القبر فأخذ برقبته فقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم.

فاقبل عليه فاذا هو أبي ايوب الأنصاري رضى الله عنه فقال:

جئت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم آت الحجر، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا تبكوا على الدين، إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله». (1) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرّجاه.

وقد أقرّه الذهبي في تلخيصه للحاكم، فقال: صحيح.

هذا عمل الصحابي العظيم أبو أيوب الانصاري رضى الله عنه فهو تبرك بوضع وجهه على القبر اتّباعاً لسنة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وصحبه في التبرك كما تقدم.

وهذه فتوى الأموي طريد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وابن


1- المستدرك على الصحيحين: 4/ 515؛ مسند أحمد 5/ 422؛ والسند في المسند صحيح، رواه عن أبي عامر عبدالملك بن عمر العقدي عن كثير بن زيد عن داوود بن أبي صالح.

ص: 118

طريده المشهورين ببغض البيت الهاشمي الرفيع، والحاقد المنافق المتهاون بشأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم يعترض على أبي أيوب على عمله المشروع وهو يجابهه بقوله: نعم جئت رسول صلى الله عليه و آله و سلم الحي المرزوق عند ربّه بصريح القرآن ثم يعقبه بما يسوؤه من قوله: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ... تعريضا بما فيه من عدم الأهلية والصلاحية.

والذهبي يُعرف مروان بقوله «له اعمال موبقة نسأل اللَّه السلامة، رمى طلحة بسهم وفعل ما فعل (1)».

4. التبرك بمنبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم

التبرك بمنبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان أمراً رائجاً بين أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقد أقرّه أحمد بن حنبل ففي كتاب «العلل»: سأل عبداللَّه أباه(أحمد بن حنبل) قال: سألته عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويتبرّك بمسه ويقبّله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى اللَّه جلّ وعز؟ فقال: لا بأس بذلك. (2) وجاء في عمدة القارئ: قال شيخنا زين الدين


1- ميزان الاعتدال: 4 رقم الترجمة 8422.
2- كتاب العلل ومعرفة الرجال: 2/ 492، الرقم 3243.

ص: 119

أخبرني الحافظ أبو سعيد بن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خطّ ابن ناصر وغيره من الحفاظ: إن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك. (1) قال: فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت، أحمد عندي جليل يقوله [كذا] هذا كلامه أو معنى كلامه، وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد انّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به، وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (2) والعجب أن ابن تيمية أثبت ذلك في «الجواب الباهر» (3).

ومن المعلوم أن فتوى الإمام أحمد بجواز التبرك بمنبر النبي بالمس ليس إلّاعلى السيرة السائدة بين المسلمين


1- عمدة القارئ: 9/ 241، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود.
2- عمدة القارئ: 9/ 241؛ ابن الجوزي في مناقب أحمد: 455؛ تاريخ ابن كثير: 10/ 331.
3- الجواب الباهر لزوّار المقابر: 31.

ص: 120

حيث كانوا يتبركون بمنبر الرسول ويدل على ذلك ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب، قال حدثني أبو مودود، قال: حدثني يزيد بن عبدالملك بن قسيط، قال:

رأيت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك، وهذا كان لما كان منبره الّذي لامس جسمه الشريف (1).

فهل كان المنبر الّذي أفتى الإمام أحمد بمسّه والتبرك به هو نفسَ المنبرِ الموجود في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم؟ أو أن حوادث الدهر بدّلته وجاءت بغيره مكانه؟

والعجب أن محقّق كتاب «العلل ومعرفة الرجال» لمّا وقف على النص الأوّل من إمامه أحمد ورأى أن ذلك لا يوافق رأيه أخذ بتأويله وقال: وهذاكان لما كان منبره الّذي لامس جسمه الشريف، وامّا الآن بعد ما تغيّر، لا يقال بمشروعية مسّه تبركاً به. (2) وكأنّ القوم لما فوجئوا بهذا الكم الهائل من الأحاديث الدالّة على التبرك بآثار النبي من غير فرق بين مس جسده


1- المصنف: 2/ 1435 برقم 15876.
2- العلل ومعرفة الرجال: 2/ 492، التعليقة.

ص: 121

الشريف وغيره أخذوا بالتأويل والتفصيل بين ما مس جسده وغيره، فهدموا ما بنوه في مجال التوحيد حيث قالوا بأن مقتضى توحيد الربوبية خلع الأشياء عن التأثير، ذاتياً وتبعيّاً.

5. تبرك ريحانة الرسول بقبر أبيها

ذكر جمع من المؤرخين أن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام حضرت عند قبر أبيها وأخذت قبضة من تراب القبر تشمه وتبكي قائلة:

ماذا على من شم تربة أحمد ألّا يشمّ مدى الزمان غواليا؟

صبّت عليّ مصائب لو أنها صبّت على الأيام صرن لياليا (1)

إن عمل السيدة الزهراء المعصومة هذا لا يدلّ إلّاعلى جواز التبرّك بقبر رسول اللَّه وتربته الطاهرة.


1- رواه غير واحد من المؤرخين والمترجمين. لاحظ: القسطلاني، ارشاد الساري: 2/ 390؛ والسمهودي في وفاء الوفاء: 2/ 444. ونقله أيضاً في ج 4/ 1405 عن تحفة ابن عساكر.

ص: 122

6. تبرّك الشيخين بتربة قبره
اشارة

لقد استأذن الشيخان بالدفن في حجرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ليصبحا ضجيعيه في قبره الشريف، فهل النقطة الّتي دفن فيها كل من الشيخين مست جسد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، أو أن الشيخين اكتفيا بالانتماء بالقرب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم؟

وهذا أمر معروف في التاريخ ومشهود لكل عارف لايحتاج إلى ذكر مصدر. (1) إلى هنا تبيّن أنّه لا فرق في التبرك بآثار النبي في كل ما ينتمي إليه ويمّت إليه بصلة من غير فرق بين ما مسّ جسده الشريف وبين غيره، وهلم معي إلى دراسة بقية كلامه.

استلام الحجر الأسود

قال الشيخ: والأحاديث في ذلك كثيرة، فالواجب على المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه اللَّه كاستلام الحجر الأسود وتقبيله،


1- نكفتي بالقليل عن الكثير ومنه، صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، برقم 7328.

ص: 123

واستلام الركن اليماني، فلهذا صحّ عن عمر بن الخطاب أنّه قال لمّا قبل الحجر الأسود: اني اعلم أنك حجر لا تضّر ولاتنفع ولولا اني رأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقبلّك ما قبلتك. (1) وبذلك يعلم أن استلام بقية اركان الكعبة، وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يفعله ولم يرشد إليه، ولأن ذلك من وسائل التبرك، وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولى، لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يشرع ذلك ولم يرشد إليه ولم يفعله أصحابه.

يلاحظ عليه: أن ما نقل عن عمر بن الخطاب، وإن كان مشهوراً لكن المظنون أنّه نقل مبتوراً، وقد روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّه بعدما قال عمر بن الخطاب ما قال، قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: كيف يابن الخطاب فواللَّه ليبعثنّه يوم القيامة وله لسان وشفتان فيشهد لمن وافاه، وهو عين اللَّه عزّوجل في أرضه يُبايع بها خلقُه،


1- صحيح مسلم: 3/ 1343/ 1718.

ص: 124

فقال عمر: لا أبقانا اللَّه في بلد لا يكون فيه علي بن أبي طالب. (1) وجاء في(عمدة القارئ) بعد كلام عمر: قال عليٌّ رضى الله عنه:

انّه يضرّ وينفع .. إلى أن قال: واني أشهد لسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان زلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع، فقال عمر: اعوذ باللَّه من قوم ليس فيهم أبو الحسن.

ونقل عن ابن عباس ان هذا الركن الاسود هو يمين اللَّه في الأرض يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه. (2) ولا بأس فيما روي لأنّه سبحانه يُنطقه كما انّه يُنطق كل الأشياء ويُنطق جوارحنا على اعمالنا. قال سبحانه:

«وَ قَالُوا لجُلُوِدِهمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الذِي


1- الصدوق: علل الشرائع: 426. والمستدرك للحاكم: 1/ 458، كتاب المناسك وضعفه الذهبيّ في تلخيصه لوقوع أبي هارون العبدي في سنده وتبعه ابن حجر في فتح الباري: 3/ 463، والعيني في عمدة القارئ: 9/ 240. وليس له أي ذنب سوى كونه شيعيّاً مع ان الذهبي نفسه قال في ترجمة ابان بن تغلب الشيعي: لو ردّ حديث هؤلاء(الشيعة) لذهب جملة من الآثار النبويّة وهذه مفسدة بيّنة. ميزان الاعتدال: 1/ 5.
2- عمدةالقارئ: 9/ 240.

ص: 125

أَنْطَقَ كُلَّ شَي ءْ» (1).

وقد روى معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا دنوتَ من الحجر الأسود، فارفع يديك وأحمد اللَّه وأثن عليه وصلّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم واسأل اللَّه أن يتقبل منك، ثم استلم الحجر وقبّله فان لم تستطع أن تقبله فاستلمه بيدك، فإن لم تستطع أن تستلمه بيدك فأشر إليه، وقل: «اللهم أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدتهُ، لتشهد لي بالموافاة، اللهم تصديقاً بكتابك وعلى سنة نبيك، أشهد ان لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله آمنت باللَّه، وكفرت بالجبت والطاغوت وباللات والعزّى وعبادة الشيطان وعبادة كل ندّ يُدعى من دون اللَّه» (2).

ثم إن في كلام عمر بن الخطاب دليلًا واضحاً على أن من مسح وتبرك بشي ء من دون أن يعتقد تأثير الممسوح والمستلم فيه أمر جائز، وأنّ من فعل ذلك لا يرمى بالشرك ولا بالبدعة إذا لم ينسبه إلى الدين، ولذلك فإن عمر بن الخطاب قبّل الحجر الأسود معتقداً بأنّه لا ينفع ولا يضرّ إلّا باذن اللَّه.


1- فصلت: 21.
2- التهذيب للطوسي: 5/ 101/ 329.

ص: 126

وامّا تبرير عمله بفعل النبي لأجل أنّه استلم الحجر بما أنّه أحد آداب الزيارة، فلم يجد بداً من ان يذكر دليلًا لما أتى به مع العلم بأنّه لا ينفع ولا يضرّ فقال: لولا أني رأيت أن رسول اللَّه قبلك ما قبلتك.

فعلى ضوء هذا فليس لأحد أن يمنع احداً من تقبيل الجدران والشبابيك والأبواب للحجرة النبوية إذا لم يعتقد فيمايقبله أي نفع ولا ضرر ولم يجعل عمله جزءاً من الدين ولم ينسبه إلى النبي وإنّما دفع إليه حبُّه وشوقُه لصاحب هذا المقام، أو ان يمنع من استلام بقية أركان الكعبة إذا لم يكن بدافع أنها تضر وتنفع ولا أن ذلك جزء من الدين والشريعة بل كان الدافع حبّه لهذه المواقع والمشاهد المباركة بما أنها مطاف الملائكة ومحلّ نزول الرحمة.

على انَّ استلام سائر الاركان مختلف فيه بين الصحابة قال ابن حجر «روى ابن المنذر وغيره استلام جميع الاركان عن جابر وانس، والحسن والحسين من الصحابة وعن سويد بن أبي غفلة من التابعين (1).


1- لاحظ فتح الباري: 3/ 462 برقم 1597، و ص 473 برقم 1608؛ و عمدة القارئ: 9/ 241.

ص: 127

3. عبداللَّه بن عمر وتتبع آثار النبي صلى الله عليه و آله و سلم

قال الشيخ: واما ما نقل عن ابن عمر من تتبع آثار النبي صلى الله عليه و آله و سلم واستلامه المنبر فهذا اجتهاد منه لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبي، وهم أعلم بهذا الأمر وعملهم موافق لما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة، وقد قطع عمر الشجرة الّتي بويع تحتها النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها خوفاً من الفتنة بها وسداً للذريعة.

إن كلامه هذا يشتمل على أمرين:

1. إن عبداللَّه بن عمر هو الوحيد في تتبع آثار النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمنبر الّذي جلس عليه وأنّه لم يوافقه عليه أبوه ولاغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

2. إن عمر بن الخطاب لمّا بلغه أن بعض الناس يذهبون إلى الشجرة قطعها.

وإليك الكلام في الأمر الأوّل:

يلاحظ عليه أوّلًا: اذاكان التبرك بما مس جسد النبي أمراً مشروعاً وجائزاً ودارجاً بين الصحابة لم يكن عمل ابن عمر خارجاً عن هذه القاعدة حيث كان يقتصّ آثار النبي

ص: 128

ويتتبّع ما مس جسده الشريف كالمساجد الّتي صلّى فيها واستلام المنبر وغير ذلك، فبذلك ظهر ما في قول الشيخ:

«فهذا اجتهاد منه لم يوافقه عليه أبوه ولاغيره من أصحاب النبي وهم أعلم بهذا الأمر». فان عمله كان على اساس رصين دارج بين الصحابة حيث كانوا يتبرّكون بما مس جسده الشريف، وكان عبداللَّه بن عمر في غنى عن موافقة أبيه ولا موافقة غيره إذا كانت سيرة جمهرة الصحابة مصدِّقة لعمله.

وثانياً: نفترض أنّ عمله كان خارجاً عن تلك القاعدة فما هو المبرّر في تقديم اجتهاد الوالد على الولد مع انهما مجتهدان للمصيب اجران وللمخطئ اجر واحد.

وثالثاً: لو كان عمل ابن عمر بدعة أو شركاً اوذريعة للشرك كان على الصحابة أن يمنعوهُ وينصّوا على ذلك أو يبدوا مخالفتهم، ولم يرد في ذلك أي ردّ ولا نقد ولا منع، بل كان سكوتهم تقريراً لعمله ومع ذلك كيف يقول الشيخ: لم يوافقه عليه أحدٌ.

هذا كان حول الأمر الأوّل، وإليك الكلام في الأمر الثاني.

ص: 129

قصة قطع الشجرة

اما ما ذكره من أن عمر بن الخطاب لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها قطعها خوفاً من الفتنة بهاوسدّاً للذريعة، ففيه مجال للبحث والنقاش.

أما أوّلًا: فقد نقل هذه القصة ابن سعد في طبقاته في احداث غزوة الحديبية عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة الّتي يقال لها شجرة الرضوان فيصلون عندها، قال:

فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت. (1) يلاحظ عليه:

أوّلًا: ان السند منقطع ولم يسنده نافع إلى شيخ من مشايخه فلايحتج بالسند المقطوع.

وثانياً: أن هناك دلائل واضحة على أن الشجرة صارت مجهولة لأصحاب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في العام التالي فكيف يمكن أن تعرف في عهد عمر حتّى يأتي الناس إليها ويصلون تحتها حتّى يأمر بقطعها، ويدل على ذلك أمران:

1. ما رواه البخاري قال: قال ابن عمر: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة الّتي بايعنا


1- الطبقات الكبرى: 2/ 100، ط دار صادر.

ص: 130

تحتها، كانت رحمة من اللَّه، فسألت نافعاً على أي شي ء بايعهم؟ على الموت؟ قال: لا، بايعهم على الصبر. (1) وقدعلل ابن حجر في فتح الباري خفاء الشجرة بقوله: ان الحكمة في ذلك لا يحصل بها افتتان ثم قال: وإلى ذلك اشار ابن عمر بقوله: «كانت رحمة من اللَّه».

ثم قال: ويحتمل ان يكون معنى قوله: «رحمة من اللَّه» أي كانت الشجرة موضع رحمة ومحل رضوانه لنزول الرضا على المؤمنين عندها (2).

أقول: ان التفسير الثاني هوالصحيح وذلك لتأنيث الفعل فالضمير(ت) في «كانت» يرجع إلى الشجرة لا إلى الخفاء.

وعلى كل تقدير فالحديث يدل على خفاء الشجرة في العام التالي.

2. ان ابن سعد ينقل أيضاً نفس هذا الموضوع ويذكر استنكار سعيد قول من إدعى بقاءها وتعرفه عليها. فروى عن طارق قال: انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلّون فقلت:

ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي صلى الله عليه و آله و سلم، بيعة الرضوان؛ فأتيت سعيد بن المسيّب فاخبرته، فقال:


1- البخاري: رقم الحديث 2958، طبع دار الفكر.
2- فتح الباري: 6/ 89، طبع دار إحياء التراث.

ص: 131

حدّثني أبي أنّه كان في من بايع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم تحت الشجرة، فقال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. قال سعيد: إن كان أصحاب محمد لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم. (1) فقوله: «إن كان أصحاب محمد لم يعلموها ...» استنكار لادعائهم، فإذا كان أصحاب رسول اللَّه غير عارفين بها، فالأولى أن يكون المتأخرون غير عارفين بها.

ان هذه الروايات تدلّ على أن جمعا من الصحابة والتابعين كانوا يأتون الشجرة، ويحسبون أنها هي الشجرة الّتي تمت البيعة تحتها فيتبركون بها ولم يمنعهم سائر الصحابة ولا غيرهم فيدل على جواز التبرك بما لم يُمسّه جسده الشريف.

وكفانا في المقام عن استرسال الكلام ما حقّقه الأُستاذ حسن السقاف في مقاله فراجعه.

التوسل بالأنبياء والأولياء

اشارة

قال الشيخ: واما دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك


1- الطبقات الكبرى ابن سعد: 2/ 99. ط دار صادر.

ص: 132

الأكبر، وهو الّذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عنداللَّه، وتقربهم إليه زلفى، ولم يعتقدوا أنها هي الّتي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم كما بيّن اللَّه سبحانه ذلك عنهم في قوله سبحانه: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ» (1)

فرد عليهم سبحانه بقوله: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (2)

.

وقال عزوجل في سورة الزمر: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ* أَلَا للَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» (3)


1- يونس: 18.
2- يونس: 18.
3- الزمر: 2- 3.

ص: 133

فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أنّ الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجهم وإنّما أرادوا منهم أنهم يقربونهم إلى اللَّه زلفى، فأكذبهم سبحانه وردّ عليهم قولهم بقوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» فسماهم كذبة وكفاراً بهذا الأمر.

انتهى.

أقول: ما ذكره الشيخ في المقام قد سمعنا مثله من كافة من سلك مسلك ابن تيمية ويعتقد منهج تلميذه ابن عبدالوهاب. فهم جميعاً يستدلون بهذه الآيات على أن دعاء الأنبياء والأولياء عبادة لهم نظير دعاء المشركين الهتهم المزعومة حيث كان دعاؤهم لها عبادة لهم.

وهذا هو بيت القصيد ومفترق الطرق بين منهج أحمد بن تيمية ومنهج الآخرين.

ولو بُذلت الجهود في تنقيح الأمرين التاليين لقصرت الفاصلة بين المنهجين، ولكن مع الاسف ان الشي ء الّذي لم يركزوا عليه منذ أن ظهر هذا المنهج في القرن الثامن إلى

ص: 134

يومنا هذا، هو ما سنذكره في التالي:

1. تعريف العبادة وتحديد معناها.

2. عرض التمسح والتوسل على الضابطة.

3. عقيدة المشركين في دور معبوداتهم في قضاء الحوائج.

ولو أُقيم مؤتمر حول هذه الأُمور على نحو يميز الإنسان بين العبادة والتكريم ويتبين مبادئ الدعاء بين الفريقين لسقط عامة ما يستدلون به من الآيات على أن دعوى الأنبياء والأولياء والتوسل بهم شرك وبدعة، وعلى ضوء ذلك فسنركز جهدنا في شرح كلا هذين الأمرين، مبتدئين بالمورد الأوّل:

1. تعريف العبادة وتحديد معناها

ان أصحاب المعاجم وان فسروا العبادة بالخضوع والتذلل أو الطاعة (1). لكن تفسيرها بها تفسير بالأعم وليس تعريفاً دقيقاً جامعاً مانعاً، بشهادة ان القرآن الكريم يحث بصراحة على الخضوع للوالدين أوّلًا، ويقول سبحانه:

«وَاخْفِضْ لَهُمَا جُنَاحٌ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» (2)

، ويأمر الملائكة


1- لسان العرب؛ مفردات الراغب؛ القاموس المحيط؛ مقاييس اللغة: مادة «عبد».
2- الاسراء: 24.

ص: 135

بالسجود لآدم، ثانياً، ويقول: «وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا» (1)

، ويحكي عن أن نبي اللَّه يعقوب وزوجته واولادهما سجدوا ليوسف، ثالثاً، ويقول سبحانه: «وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا» (2)

، فالسجود من أعلى مظاهر الخضوع ومنتهاه مع أنّه لم يكن عبادة لآدم ولا ليوسف.

ومن المعلوم أن السجود لو كان عبادة للمسجود له فلا يخرج عن كونه عبادة بأمره سبحانه، فالعبادة عبادة سواء أمر بها أو لم يؤمر.

كل ذلك يدفعنا إلى تعريف العبادة تعريفاً دقيقاً حتّى تخرج هذه الموارد من تحتها.

فنقول: إن العبادة تتقوم بعنصرين ولا يغني احدهما عن الآخر:

الأوّل: الاعتقاد الخاص في حق المعبود، أعني


1- البقرة: 34.
2- يوسف: 100.

ص: 136

الاعتقاد بأنّه رب اوبيده مصير العابد عاجلًا وآجلًا في تمام شؤون الحياة أو بعضها، فلو كان الخضوع والتذلل مجرّداً عن هذا الاعتقاد لا يُعدّ العمل عبادة.

نعم يمكن أن يكون حراماً موجباً للعقاب لا لأنه عبادة، بل لكونه عملًا محرماً كسائر المحرمات كما هو الحال في السجود في الشريعة الإسلامية لغير اللَّه إذ انّه يحرم حتّى وان كان عارياً عن ذلك الاعتقاد، للنهي عنه لغيره سبحانه.

الثاني: العمل الحاكي عن الخضوع، ويكفي في ذلك ابسط الخضوع إلى اعلاه سواء أكان باللفظ والبيان أم بسائر الجوارح.

فإذا كان الخضوع نابعاً عن الاعتقاد الخاص في حق المخضوع له يوصف العمل بالعبادة.

اما العنصر الثاني فلم يختلف في وجوده اثنان، إنما الكلام في مدخلية العنصر الأوّل في صدق العبادة ودخوله في واقعها، وهذا يُعلم من دراسة عبادة الموحدين والمشركين.

لم يكن الموحِّد والمشرك منفكَّيْن- في عبادتهما- عن اعتقاد خاص لمعبودهم، وهو الّذي كان يدفعهم إلى الخضوع والتذلل، ولولاه لما سجدوا وما خضعوا وما تذلّلوا.

كانوا يرون أن العزة والذلة والنصرة والهزيمة وما يفيد وما يضر الإنسان في حياته بيد معبوداتهم.

غير أن الموحّد كان يؤمن بأن هذه الأُمور بيد اللَّه

ص: 137

تعالى الّذي اعطى كل شي ء خلقه ثم هدى، ولكن المشرك يعتقد بأن هذه الأُمور فوَّضت إلى آلهتهم المزعومة. وهذا ما تشرحه لنا الآيات التالية.

1. الموحد يعبد اللَّه سبحانه لان العزة والذلة بيده سبحانه قال تعالى: «فَللهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» (1).

ويقول: «وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ» (2).

واما المشرك فهو يعبد الآلهة المزعومة باعتقاد أن العزة بيدها كما يحكي عنهم سبحانه ويقول: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» (3).

2. الموحد يعبد اللَّه سبحانه لان النصر بيد اللَّه سبحانه كما يقول تعالى: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (4).

واما المشرك فهو يعبد الاصنام منطلقاً من أن النصر بيدهم كما يحكيه سبحانه ويقول: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» (5).


1- فاطر: 10.
2- آل عمران: 26.
3- مريم: 81.
4- آل عمران: 126.
5- يس: 74.

ص: 138

3. ان الموحد يعبد اللَّه سبحانه منطلقاً من ان الشفاعة بيد اللَّه سبحانه وانّه لا يشفع احد إلّابأذنه.

قال سبحانه: «قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ» (1).

ولكن المشرك يعتقد بأن الالهة المزعومة تملك الشفاعة وانهم يشفعون لعبدتهم، ولذلك يرد سبحانه على عقيدتهم بأنّه: «مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» (2).

4. ان الموحد يعبد اللَّه سبحانه بحجة ان مصدر النعم والنقم هو اللَّه سبحانه، وهذا هو منطق الموحد الّذي يحكيه سبحانه عن النبي إبراهيم الخليل عليه السلام: «الذِي خَلَقَني فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالذِي هُوَ يُطْعِمُني وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالذِي يُمِيتُني ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (3).

ان إبراهيم عليه السلام- بطل التوحيد- ينسب إلى اللَّه الواحد


1- الزمر: 44.
2- يونس: 3.
3- الشعراء: 78- 82.

ص: 139

الأحد الأفعال التالية: الهداية، الإطعام والسقي، الشفاء من المرض، الموت والحياة، وغفران الذنوب. وبما أنّه عليه السلام في مقام الرد على مشركي عصره في مدينة(بابل) يظهر لنا وبجلاء- من خلال عنصر المقابلة- أنّهم كانوا يعتقدون أن تلك الأفعال والنعم بيد آلهتهم الباطلة، إذ بإمكانها أن تهديهم وتطعمهم وتسقيهم وتشفيهم من الأمراض وتميتهم وتحييهم و ... ومن هنا خضعوا لها وعبدوها.

5. ان الموحد يعتقد بأنّه ليس للَّه سبحانه ند ولا مثل لا في الذات ولا في الصفات ولا في الافعال، وان الأنبياء والأولياء عباد للَّه لا يملكون لانفسهم ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً غير انّه سبحانه أكرمهم واعزهم وجعل لكل منهم مقاماً معلوماً يستجاب دعاؤهم، وتنزل الرحمة بطلبهم.

واما المشرك فهويعتقد بان الاصنام والاوثان انداد للَّه سبحانه، قال سبحانه: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ» (1)

والانداد لغة جمع «ند» بمعنى المثل والنظير، بمعنى أنهم يعتقدون أنّ الهتهم تناظر اللَّه وتشابهه في القدرة على القيام بالأفعال الّتي يقوم بها سبحانه من الاحياء والاماتة والرزق والشفاء والهداية وغفران الذنوب وحطّ الخطايا.


1- البقرة: 165.

ص: 140

6. ان الموحد يعتقد بأن اللَّه سبحانه لا يماثله ولا يساويه ولا يدانيه شي ءٌ من المخلوقات. اخذاً بقوله:

«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَي ءٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (1)

وقوله تعالى:

«لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَي ءْ عَلِيمٌ» (2).

أمّا المشرك فهو يعبد الاصنام وينطلق من عقيدة خاصة فيها وهي التسوية بينه سبحانه وبين الآلهة، ولما يتبين له جهله وبطلان عقيدته فسوف يظهر الندامة ويندد بآلهته ويخاطبهم يوم القيامة بقوله: «قَالُوا وَ هُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ* تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ» (3).

فالمراد من التسوية هي التسوية في الربوبية وتدبير العالم والشفاعة وغيرها وحتّى ولو فُسّرت بالمساواة في العبادة فهو يلازم عقيدة خاصة في حق الاصنام وهي صفات الالوهية إذ لا يعبد إنسان شيئاً إلّالمن يعتقد استحقاقه لها بشي ء من الأُمور الغيبية.


1- الشورى: 11.
2- الشورى: 12.
3- الشعراء: 96- 98.

ص: 141

فالآية تنادي: أنهم كانوا يعتقدون فيها ضرباً من المساواة للحق تعالى عما يقولون.

فالموحد والمشرك وان كانا يصدران عن مبدأين مختلفين ولكن الجميع يشهد بأن العبادة لا تنفك إلّاعن عقيدة خاصة بالنسبة إلى المعبود غير أن تلك الخصيصة عند الموحد للَّه سبحانه ولكنها لدى المشركين في آلهتهم وأصنامهم وأوثانهم.

وعند ذلك نخرج بالنتيجة التالية بأن مقوم العبادة أمران وان لها عنصرين أحدهما يتقوم باعمال العابد وفعله والثاني يرتبط باعتقاده ومنطلقه.

وعلى ضوء ذلك فلو اردنا ان نعرّف العبادة تعريفاً جامعاً فلنا أن نقول: العبادة هي الخضوع بين يدي من يعتبره رباً. أي مالكاً لمصير العابد في الدنيا والآخرة. فإذا اعتقد إنسان بربوبية المخضوع له فما يصدر عنه من الخضوع لفظاً وعملًا فهوعبادة، ولذلك نرى ان المسيح عليه السلام عندما يأمر بعبادة اللَّه سبحانه يعلقها بعنوان الربوبية، كما حكاه عنه: «وَ قَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» (1).


1- المائدة: 72.

ص: 142

وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ» (1).

وربّما يعتبر القرآن العبادة من شؤون الخالقية قال سبحانه: «ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَي ءْ فَاعْبُدُوهُ» (2).

فلو كان الخضوع نابعاً عن تلك العقيدة فهوعبادة للمخضوع له وإن لم يبلغ غايته. واما إذا كان نابعاً عن غير تلك العقيدة مثلًا بما انّه عالم خادم للأُمة فلا يعد عبادة وأن لم يبلغ غايته، ولنفسر ذلك بالمثال التالي:

انظر إلى نفسك فانّه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك و احترامك له أن لا تسمح لنفسك بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها، و لا يكون ذلك منك عبادة له، لماذا؟ لأنّه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شي ء من خصائص الربوبية فيه. و تقف في الصلاة قدر الفاتحة و تجلس فيها قدر التشهد و هو قدر دقيقة أو


1- آل عمران: 51.
2- الانعام: 102.

ص: 143

دقيقتين فيكون ذلك منك عبادة لمن صلّيتَ له، و سرّ ذلك هو أنّ هذا الخضوع المتمثل في قيامك و قعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعتَ له عزّوجل.

وتدعو رئيسك في عمل من الأعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك أو يغنيك من أزمة نزلت بك و أنت معتقد فيه انّه لا يستقل بجلب نفع أو دفع ضر، و لكن اللَّه جعله سبباً في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء تفضلًا منه سبحانه، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعوّ، و أنت على ما وصفنا، فإن دعوتَه و أنت تعتقد فيه أنّه مستقل بالنفع، أو الضرّ، أو نافذ المشيئة مع اللَّه لا محالة، كنت له بذلك الدعاء عابداً، وبهذه العبادة أشركته مع اللَّه عزّوجلّ، لأنّك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية، فانّ الاستقلال بالجلب أو الدفع و نفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية، والمشركون إنّما كفروا بسجودهم لأصنامهم و نحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع، أو الضرّ ونفوذ مشيئتهم لا محالة مع اللَّه تعالى، و لو على سبيل الشفاعة عنده، فانّهم يعتبرونه الربّ الأكبر ولمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيته، و بمقتضى ما لهم من الربوبية وجب لهم نفوذ المشيئة معه لا محالة.

وبالامعان فيما ذكرنا يتبين لك صدق أمرين:

الأوّل: ان العنصر المهم في صدق العبادة هو الاعتقاد

ص: 144

بأن المخضوع له يتمتع بقدرة غيبية وراء القدرة العادية الموجودة في عامة الناس والّتي يقوم بها بقضاء حاجة من يعبده. وقد عرفت أن الفريقين الموحدين والمشركين كانا متفقين على ذلك، وان كانا مختلفين فيمن يتمتع بهذه القدرة.

الثاني: ان الاعتقاد بالقدرة الغيبية في المعبود هو عبارة أُخرى عن الاعتقاد بكونه ربّاً بيده مصير العابد إما في كل الأُمور كما هو الحال في عقيدة المؤمن باللَّه سبحانه، أو في بعض الأُمور كالاعزاز والاذلال والنصر والخذلان والشفاعة ومغفرة الذنوب وغير ذلك من الأُمور كما هو الحال في عقيدة المشرك، فكان العابد على الاطلاق ينطلق من الاعتقاد بربوبية المعبود.

ويؤيد ذلك ان سيدنا المسيح يدعو بني إسرائيل إلى عبادة اللَّه سبحانه ويقول: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ» (1)

، وفي آية أُخرى: «إِنَّ اللهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ» (2)

نرى أنّه- صلوات اللَّه عليه- يعلق الحكم على عنوان الرب في كلتا الآيتين، وهو يدلّ على أن الموحدين والمشركين متفقون في هذا الأصل


1- المائدة: 72.
2- آل عمران: 51.

ص: 145

وهو أن العبادة من شؤون الربوبية فمن كان رباً فهو مستحق للعبادة دون غيره، لكن المشرك خاطئ في الصغرى أي في الاعتقاد بربوبية معبوداته، ولذلك نرى يوسف يتكلم بلسان القوم ويصف الهتهم بالربوبية ويقول: «أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» (1).

إلى هنا تم تحديد العبادة تحديداً منطقياً معتمداً على الكتاب وما درج عليه العُبّاد في عباداتهم سواء أكان المعبود مستحقاً للعبادة أم غير مستحق. فهلمّ معي، نعرض ما يقوم به المسلمون في الحرمين الشريفين على الضابطة.

2. عرض التمسح والتوسل على الضابطة

وعلى ضوء ذلك نعرض على هذه القاعدة الاعمال الّتي يقوم بها عشاق الحرم النبوي أو الحرم المكي من التمسح بالجدران وتقبيل الشبابيك وغير ذلك، فقد وصفها الشيخ بكونها شركاً وعبادة لغير اللَّه، كما عدّ طلب الحاجات منهم ودعاءَهم كذلك.

كان على الشيخ ان يُفرّق بين أمرين- فهو قد رمى


1- يوسف: 39.

ص: 146

الجميع بسهم واحد- وهو هل المتبرك والمتمسح والداعي يعتقد في الأبواب والجدران والشبابيك واركان الكعبة والنبي والأولياء قدرة غيبية خارقة للعادة يقدر بها المعبود على إنجاز حاجته، أو أنّه يتمسح ويقبل ويتبرك حباً بالنبي وآثاره من دون أن يعتقد أي تأثير غيبي فيها.

لا أظن أن الشيخ يجد على اديم الأرض أو في الحرمين الشريفين من يقوم بهذه الاعمال، فعامة المسلمين من كل الطوائف لا ينطلقون إلّامن مبدأ الحب والتكريم لا غير.

كما أن دعاءهم والاستغاثة بهم ليس إلّالأجل طلب الدعاء منهم، فهم ينطلقون بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم عما كانوا ينطلقون في حياته، فقد أمر اللَّه سبحانه المؤمنين بالتوسل بدعاء النبي فقال: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (1).

فلوكان طلب الدعاء من النبي بعد رحيله شركاً وعبادة له يكون الطلب منه في حال حياته شركاً وعبادة له أيضاً إذ الحياة والموت ليسا ملاكين للتوحيد والشرك، بل اقصى ما


1- النساء: 64.

ص: 147

يمكن ان يقول القائل بأنهما ملاكان للجدوى وعدمها.

وكلامنا في المقام في كون الدعوة شركاً وعدمه، وأما كونها مفيدة أو لا، فهو أمر ثان يطلب لنفسه مجالًا آخر.

3. عقيدة المشركين في دور معبوداتهم في قضاء الحوائج

لم يزل اساتذة الشيخ من أولهم إلى آخرهم يستدلون على أن التوسل بالأنبياء والأولياء وعلى رأسهم النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم شرك بالآيتين التاليتين:

الأُولى: قال تعالى: «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (1).

الثانية: قال تعالى: «أَلَا للَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» (2).


1- يونس: 18.
2- الزمر: 3.

ص: 148

اما الآية الأُولى فقد ذكر الشيخ في كيفية الاستدلال بها أنّ عمل المسلمين كعمل بقية المشركين، فقال: إن المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند اللَّه وتقربهم إليه زُلفى ولم يعتقدوا انها هي الّتي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم كما بين اللَّه سبحانه ذلك عنهم في قوله: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ» (1).

يلاحظ عليه:

أوّلًا: هناك فرق بين عمل المشركين والموحدين فإن المشركين يقومون بعملين مختلفين:

1. يعبدون أصنامهم وآلهتهم المزعومة كما قال سبحانه: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ».

2. يعتقدون بأن آلهتهم شفعاؤهم كما يقول:

«وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ» (2).


1- يونس: 18.
2- يونس: 18.

ص: 149

وهذا يدل على أن ملاك شركهم هو عبادة غير اللَّه سبحانه، لا قولهم بأن الآلهة شفعاؤهم عند اللَّه.

وعند ذلك فكيف يصح حمل عمل الموحدين على المشركين، أفيصح أن يعطف من يعبد اللَّه سبحانه على مَنْ يعبد الاصنام والأوثان بمجرد اشتراكهما في الاعتقاد بالشفعاء؟

ثانياً: ان المشركين كانوا يعتقدون بقدرة غيبية في أصنامهم وأوثانهم وأن الهتهم يقومون بقضاء حاجاتهم مستقلين عن اللَّه سبحانه، وقد مرّت الآيات الّتي تؤكد أنهم كانوا يعتقدون أن العزة والذلة والنصر والخذلان بأيديهم، كما كانوا يعتقدون أنهم يملكون مقام الشفاعة ويشفعون لعبادهم، واين هذا من عمل الموحد الّذي يعتقد بأن العزة والذلة والنصر والخذلان والشفاعة وغيرها بيد اللَّه سبحانه؟!

فمجرد إشتراكهم بالاعتقاد بالشفاعة لا يجمعهم تحت خيمة واحدة مع أن شفعاءَهم شفعاء غير واقعيين بخلاف شفعاء الموحدين كالنبي ومن نص الكتاب والسنة على قبول شفاعتهم.

ومع هذين الأمرين كيف يقول الشيخ: «لم يعتقدوا انها هي الّتي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم؟!».

ص: 150

افيصح أن نجعل في صف واحد مَنْ يسوي بين الاصنام ورب العالمين ويصورها نداً للَّه سبحانه ومَنْ يعبد اللَّه سبحانه ولا يرى له نداً ولا مثلًا ويتلو كل يوم وليلة قوله سبحانه: «قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَي ءْ قَدِيرٌ» (1).

وقد روى ابن هشام في سيرته ان عَمرو بن لُحيّ كان أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون بقوله: ما هذه الأصنام الّتي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلاتعطوني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صَنما يقال له هُبَل، فقدم به مكَّة، فنصبه وأمرَ الناس بعبادته وتعظيمه. (2) فمع هذه القصة والآيات الّتي تلوناها عليك كيف يقول الشيخ: بأنهم لم يعتقدوا بأن الهتهم هي الّتي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم؟!


1- آل عمران: 26.
2- السيرة النبوية: 1/ 76- 77.

ص: 151

وأما الاستدلال بقوله سبحانه: «مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ» فهو تنديد من اللَّه سبحانه بهم، ونقد لعقائدهم حيث كانوا يعتقدون بان اصنامهم تضرهم وتنفعهم لا أنّه من كلامهم ولا يعبر عن عقائدهم.

إلى هنا تم الكلام حول الآية الأُولى الّتي أوردها الشيخ وانها لا تصلح لاثبات مدعاه، لو لم تكن دليلًا على خلافه.

وإليك الكلام في الآية الثانية:

يقول الشيخ في ذيل هذه الآية: إن الكفار لم يقصدوا من الهتهم أنهم يشفون مرضاهم أو يقضون حوائجهم وإنّما أرادوا منهم أنهم يقربونهم إلى اللَّه زلفى.

يلاحظ عليه:

أوّلًا: ان قوله سبحانه: «إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» دليل على أن قولهم: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» لم يكن أمراً متفقاً عليه وإنّما هو كلام بعضهم لا كلهم.

فكيف يمكن ان يكون ذلك منطق عامة الوثنيين، مع أن قسماً كبيراً منهم إذا دُعُو إلى عبادة اللَّه اخذهم الكبر كما

ص: 152

يقول سبحانه: «إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ» (1)

فلو كان الداعي إلى عبادة الالهة المزعومة، مجرد انهم يقربونهم إلى اللَّه زلفى وكان التقرب إليه سبحانه هو الغاية القصوى لما وجدوا في انفسهم حرجاً وتكبراً إذا دُعوا إلى عبادته.

كل ذلك يدل على ان المشركين لم يكونوا متفقين على أن عبادتهم للاصنام لأجل تحصيل التقرب إلى اللَّه تعالى.

ثانياً: ان ذيل الآية وهو قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» يشهد بأن ما لهجوا به كان غطاءً لعقيدتهم الحقيقية وانهم كانوا يكذبون في قولهم: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى»، بل كانوا يعتقدون بأن لآلهتهم قدرة غيبية على قضاء حوائجهم وأنهم أرباب بيدهم مصيرهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة.

وبعبارة أُخرى: لما واجه المشركون إحتجاج الموحدين على سفاهة عقولهم واحلامهم في الاعتقاد بأن آلهتهم تضر وتنفع، حاولوا تصحيح عملهم بأنهم لا يعبد عن اعتقاد بأن بيدها الخير والشر وإنّما يعبدونها لأجل أمر واحد، وهو ان عبادة الالهة تقربهم إلى اللَّه زلفى فقط،


1- الصافات: 35.

ص: 153

وعندئذ فضحهم سبحانه وكذبهم فقال: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ».

هل الدعاء والعبادة مترادفان؟

اشارة

لم نزل نسمع من الشيخ ابن باز وأساتذته ومبتكري منهجه أنهم يستدلون بالآيات الّتي نزلت في حق المشركين على اعمال المسلمين مع البون الشاسع بين عقيدتي الطائفتين وعملهما، ومن هذا القبيل أنهم يستدلون بالآيات الّتي ورد فيها النهي عن دعاء غير اللَّه على شرك من دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: «يا رسول اللَّه اشفع لي عند اللَّه»، بتصور أن خطابه هذا يكون دعاءً لغير اللَّه ولأجل قلع هذه الشبهة وتفنيدها نذكر كلام الشيخ أوّلًا ثم نذكر موقف الكتاب والسنة في هذا الموضوع:

يقول الشيخ: فالواجب على مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاؤه ما يستحق من العناية. ويدل على كفرهم أيضاً بهذا الاعتقاد، قوله سبحانه:

«وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ» (1)

فسماهم


1- المؤمنون: 117.

ص: 154

في هذه الآية كفاراً وحكم عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير اللَّه من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم.

ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه في سورة فاطر: «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ* إِنْ تَدْعُوهُمْ لَايَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» (1).

فحكم سبحانه بهذه الآية على أنّ دعاء المشركين لغير اللَّه، من الأنبياء والأولياء، أو الملائكة أو الجن، أو الأصنام أو غير ذلك بأنّه شرك، والآيات في هذا المعنى لمن تدبر كتاب اللَّه كثيرة.

يلاحظ عليه بالنقض أوّلًا بأنّه لو كان مطلق الدعاء سواء أكان المدعوّ حيّاً أم ميتاً شركاً وعبادة له لزم أن


1- فاطر: 13- 14.

ص: 155

لا يوجد على وجه البسيطة أي موحد يعبد اللَّه وحده فإن الناس جميعاً يتعاونون ويدعو بعضهم بعضاً حتّى أنّه سبحانه لم يحرم دعاء الرسول في حال حياته وإنّما حرّم أن يكون دعاؤه مع دعاء الغير على صعيد واحد حيث كانوا يقومون وراء الحجرات ويقولون يا محمد أخرج فوافاهم النهي وقال: «لَاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا» (1).

يقول ابن كثير في تفسير الآية: كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم اللَّه عزوجل عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم قال: فقولوا يا نبي اللَّه يا رسول اللَّه. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر اللَّه أن يهاب نبيه صلى الله عليه و آله و سلم وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود.

وقال مقاتل في قوله: «لَاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا» يقول: لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عبداللَّه ولكن شرفوه يا نبي اللَّه يا رسول اللَّه.

وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله: «لَاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا» قال أمرهم اللَّه أن يشرفوه، هذا قول وهو الظاهر من السياق. (2)


1- النور: 63.
2- تفسير ابن كثير: 3/ 306.

ص: 156

ويقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» (1)

.

ولو قال القائل: إن دعاء الحي في انجاز الأُمور الدنيوية والأخروية ليس بشرك وإنّما الشرك هو دعاء الميت لأمر من الأُمور.

يلاحظ عليه: بأن لازم ذلك أن يكون عامة المسلمين مشركين حيث يسلمون عليه في صلواتهم ويدعونه وأي دعاء أوضح من قولهم: السلام عليك(أيها النبي).

كل ذلك يبعثنا إلى دراسة معنى الدعاء في الآيات الّتي يستدل بها على ان دعاء غيره سبحانه شرك، فنقول:

إن المراد من الدعاء فيها ليس مطلق الدعوة وإنّما المراد منه العبادة، ويشهد على ذلك أن المراد من الدعوة فيها هو العبادة هو قوله تعالى: «ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (2)

فالمراد من الدعوة في صدر الآية هي العبادة ولذلك ختمت الآية


1- الحجرات: 4.
2- غافر: 60.

ص: 157

بلفظ العبادة.

وعلى ضوء ذلك فمعنى قوله سبحانه: «فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا» (1)

أي لا تعبدوا مع اللَّه أحداً، وليس للنهي عن المعيّة سبب سوى كون دعاء الغير في الآية عبادة. وبذلك تعرف مفاد سائر الآيات، فإن نهي المشركين عن دعوة غير اللَّه سبحانه إنّما هي لأجل أن دعوتهم كانت عبادة للاصنام حيث كانوا يعتبرون الاصنام آلهة تملك مصير العباد كلا أو جزءً، عاجلًا وآجلًا، ولذلك يندد القرآن بدعائهم لأجل أنهم عاجزون عن قضاء حوائجهم، ويقول:

«وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لَا أَنْفُسَهُمْ» (2)

، ويقول أيضاً: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ» (3).

فخلاصة القول: إن المشركين كانوايعتبرون أصنامهم آلهة صغاراً، وأنّ أفعال اللَّه تعالى مفوضّة إليها بشكل مطلق أو بشكل جزئي. لكن طلب الشفاعة والدعاء من إنسان منحه اللَّه الكرامة والمنزلة فاقد لهذه الخصائص والشروط.

فأين اعتقاد المشركين في حقّ أصنامهم من اعتقاد المسلمين في حقّ أوليائهم.


1- الجن: 18.
2- الأعراف: 197.
3- الأعراف: 194.

ص: 158

وعلى ضوء ذلك فلو أردنا أن نحدد مفهوم العبادة والدعاء تحديداً منطقياً فيجب أن نقول: يوجد بين المفهومين عموم وخصوص من وجه:

1. إذا كان دعاء الغير مقروناً بالاعتقاد بأن له قدرة غيبية يستطيع بها قضاء حاجته فهو دعاء وفي الوقت نفسه عبادة، ففي هذا المقام يجتمعان.

واما موضع الافتراق: فلو دعا صالحاً طلب منه الدعاء سواء أكان حياً أم ميتاً دون أن يعتقد فيه القدرة الغيبية، أو كونه مالكاً لمصيره وانجاز عمله فهو دعاء وليس بعبادة.

3. إذا كان معتقداً بأن المخضوع له رب ومالك يملك قضاء حاجته فخضع له بالجوارح فهو عبادة وليس دعاء.

ثم إن الشيخ بعد ذلك يستدل بآيتين كريمتين على أن دعاء غير اللَّه شرك وكفر، وإليك الآيتين:

الآية الأُولى:

«وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ» (1).


1- المؤمنون: 117.

ص: 159

وقال في كيفية الاستدلال بهذه الآية على أن عمل المسلمين شرك: «فسماهم في هذه الآية كفاراً وحكم عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير اللَّه في الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم».

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين المدعوّين فإن المدعوّ في الآية هو الإله الّذي له- في عقيدة الداعي- قدرة التصرف في الكون أو في مصير الداعي كلًا أو جزءاً، والمدعو عند الطائفة الثانية هو العبد الصالح الّذي يستجاب دعاؤه باذن اللَّه سبحانه، فعطف الطائفة الثانية على الأُولى من قبيل عطف المباين على المباين وبالتالي جعل المشرك والمسلم في صف واحد!! والشاهد على ذلك أنّه يصف مدعوّ المشركين بقوله: «إلهاً آخر لا برهان له» وهذا التعريف لا ينطبق إلّاعلى مدعوّ المشركين، ولا صلة له بمدعوّ الموحدّين ويشهد على ذلك قوله سبحانه في آية أُخرى: «أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (1).


1- النمل: 64.

ص: 160

وعلى ضوء ما ذكرنا فوصفهم بالكفر وعدّهم كفاراً ليس «لمجرد دعاء الغير» كما هو صريح عبارة الشيخ، بل لأجل ان دعاءهم نابع من الاعتقاد بان المدعوّ إله وان له قدرة غيبية يتصرف في الكون وبيده مصير الداعي كلًا أو جزءاً ولو في مجالي الشفاعة وغفران الذنوب، فكيف يستدل بآية لا مساس لها بعمل جمهرة المسلمين؟!

يقول ابن كثير: في تفسير هذه الآية: يقول تعالى متوعداً من أشرك به غيره وعبد معه سواه ومخبراً أن من أشرك باللَّه لا برهان له أي لا دليل له (1).

الآية الثانية:

«ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ* إِنْ تَدْعُوهُمْ لَايَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» (2).

قال الشيخ في كيفية الاستدلال: «حكم سبحانه في هذين الآيتين على أن دعاء المشركين لغير اللَّه من الأنبياء والأولياء أو الملائكة أو الجن أو الاصنام أو غير ذلك بأنّه شرك».


1- تفسير ابن كثير: 3/ 259.
2- فاطر: 13- 14.

ص: 161

يلاحظ عليه: بأن وزان هذه الآية وزان الآية السابقة وكلتاهما تصبّان في مورد واحد وليس الموضوع «دعاء المشركين لغير اللَّه» كما زعمه الشيخ وإنّما الموضوع دعاء المشركين أربابَهم وآلهتهم الذين يعتقدون فيهم قدرة التأثير ويملكون شيئاً من مصير العابد، وليس الموضوع مطلق دعوة الغير حتّى فيما إذا كان العابد معتقداً بأن المدعو عبد صالح لا يملك شيئاً غير أن له مقاماً عند اللَّه يستجاب- لأجله- دعاؤه باذن اللَّه تعالى.

ولذلك تركّز الآية على عجز الهتهم وتندد باعتقادهم بأن هؤلاء الآلهة واربابهم- على خلاف ما يزعمون- لا يملكون من قطمير، والقطمير عبارة عن اللفاقة الّتي تكون على نواة التمر. (1) فكيف يستطيعون انجاز دعوتكم وقضاء حاجتكم فاين دعوة المسلمين المتوغلّين في التوحيد واستغاثتهم بالنبي في حياته ومماته، من عمل المشركين المتوغلين في عبادة آلهتهم: «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (2)

.


1- القطمير: هو القشرة الرقيقة بين النواة والتمرة؛ المنجد: 642.
2- الزمر: 45.

ص: 162

وإن كان الشيخ ومن على منهجه في شك ممّا أقول فليتدبروا في كلام ابن كثير ذلك التفسير الّذي يعد مرجعا لابناء جلدته، يقول: «والذين تدعون من دونه» أي من الاصنام والانداد الّتي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين «ما يملكون من قطمير» أي لا يملكون من السماوات والأرض شيئاً «إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم» يعني الالهة الّتي تدعونها من دون اللَّه لا تسمع دعاءكم لانها جماد لا أرواح فيها ...» إلى آخر ما ذكره. (1) وقد ذكرنا أن لصدق العبادة مقومين؛ أحدهما يرجع إلى الاعتقاد القلبي والآخر إلى ابراز تلك العقيدة بقول أو فعل. والمسلم والمشرك وإن كانا يشتركان في المقوم الثاني حتّى أنّ أعمال الحج من الطواف والسعي والرمي والذبح كلها أعمال تعرب عن خضوع الحاج، ولكن يفترقان في العنصر الأوّل، وقد اوضحنا ذلك فيما سبق.

كلام لابن تيمية


1- تفسير ابن كثير: 3/ 551.

ص: 163

ان الشيخ ابن باز ومن على منهجه ومسلكه حتّى مشايخه يستدلون بكلام ابن تيمية ولذلك ملأ الشيخ رسالته بكلام ابن تيمية فنقل كلاماً مفصلًا منه، ولم يقتصر على ذلك ثم نقل مثله أيضاً من كتابه الآخر. ولأجل ذلك نشير إلى نماذج من كلامه مع تحليلها:

1. قال: ويقولون(المتوسلون بالنبي) إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة. ويخالفون بذلك الاجماع من الصحابة والتابعين لهم باحسان، وسائر المسلمين، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد موته أن يشفع له، ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين في كتبهم وإنّما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء.

يلاحظ عليه: أنّه كيف يدعي أن أحداً من المسلمين لم يطلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد موته ان يشفع له ولا سأله شيئاً، مع أن في غضون التاريخ والحديث شواهد كثيرة والمجموع يثبت أنّ السؤال والتوسل بعد رحيله كان أمراً مسلماً، وإليك نماذج من ذلك:

1. روى مفتي مكة المشرّفة زيني دحلان في سيرته قال: ان أبا بكر دخل حجرة النبي- بعدما توفي صلى الله عليه و آله و سلم وقال:

طبت حيّاً وميتاً، وانقطع بموتك ما لم ينقطع للأنبياء قبلك،

ص: 164

فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أن موتك كان اختياراً لجُدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن على بالك. (1) 2. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام عندما ولي غسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «بأبي انت وأمي يا رسول اللَّه لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء- إلى أن قال-: بأبي انت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك» (2).

3. روى الطبرانيّ عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف، أنَّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه في حاجةٍ له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكى ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: إئت الميضأة فتوضأ ثمّ إئت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثمّ قل: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم نبيّ الرحمة يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي


1- سيرة زيني دحلان، بهامش السيرة الحلبية: 3/ 391، طبع مصر.
2- نهج البلاغة: الخطبة 235، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي: 13/ 24(رواه عن محمد بن حبيب المتوفى 245 ه)؛ المفيد عن ابن عباس في اماليه: 103، المجلس الثاني عشر.

ص: 165

فتقضي لي حاجتي» فتذكر حاجتك ورُحْ حتّى أروحَ معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان رضى الله عنه فجاء البوّاب حتّى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان رضى الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها له ثمّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتّى كان الساعة. وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك اللَّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتّى كلّمتَه فيّ، فقال عثمان بن حنيف: واللَّه ما كلّمته، ولكنّي شهدتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وأتاه ضريرٌ فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: فتصبر؟ فقال: يا رسول اللَّه ليس لي قائدٌ فقد شقّ عليّ.

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أئت الميضأة فتوضأ ثمّ صلِّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.

قال ابن حنيف: فواللَّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط (1).


1- المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني(360) 9: 16- 17، باب ما أُسند إلى عثمان بن حنيف برقم 8310 والمعجم الصغير له أيضاً 1: 183- 184. والرواية تصلح للتأييد ويعاضدها سائر الروايات.

ص: 166

4. ما أخرجه الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي في تلخيص عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلًا واضعاً وجهه على القبر فأخذ برقبته فقال أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فاقبل عليه فإذا هو أبو ايوب الانصاري، فقال: جئت رسول اللَّه فلم آت الحجر. (1) وقد تقدم نقله أيضاً في مسألة التبرك.

5. ما رواه الحافظ ابن حجر في الفتح، قال: روى ابن أبي شيبة باسناد صحيح من رواية أبي صالح السمّان عن مالك الداري وكان خازن عمر قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا رسول اللَّه استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا. (2) والسند كما وصفه ابن حجر صحيح: قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الداري وفيه(مالك الدار) مكان(مالك الداري).


1- المستدرك باب الفتن والملاحم: 4/ 12.
2- فتح الباري: 2/ 495، ولاحظ المصنف لابن أبي شيبة: 7/ 482.

ص: 167

ثم قال ابن حجر: وقد روى سيف في الفتوح ان الرجل هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة. (1) ذكر تقي الدين السبكي في شفاء السقام والسمهودي في وفاء الوفا قالا: روى سفيان بن عنبر عن العتبي- وكلاهما من مشايخ الشافعي وأساتذته- أنّه قال: كنتُ جالساً عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه، سمعتُ اللَّه يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (2)

وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي».

ثم بكى وأنشأ يقول:

يا خير من دُفنت في القاع أعظمُهُ فطاب من طيبهن القاعُ والأكُمُ

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنُه فيه العَفافُ وفيه الجودُ والكَرمُ

ثم استغفر وانصرف (3).


1- المصدر نفسه.
2- النساء: 64.
3- وفاء الوفاء: 4/ 1361؛ الدرر السنّية لأحمد دحلان: 21.

ص: 168

ويروي أبو سعيد السمعاني عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن أعرابياً جاء بعد ثلاثة أيام من دفن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فرمى بنفسه على القبر الشريف وحثا من ترابه على رأسه وقال: «يا رسول اللَّه قلت فسمعنا قولك، ووعيتَ عن اللَّه ما وعينا عنك، وكان فيما أنزله عليك: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...» وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي إلى ربي» (1) 6. انشدت صفية بنت عبد المطلب بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في رثائه وقالت:

ألا يا رسول اللَّه انت رجاؤنا وكنت بنا برّاً ولم تكُ جافيا

وكنت بنا بَرّاً رؤوفاً نبيّنا لِيَبْك عليك اليوم من كان باكيا (2)

سواء أكان الصحيح «انت رجاؤونا» أو الصحيح «كنت رجاؤنا» فإن الجملتين تشتركان في دعاء الميت دعاء


1- الجوهر المنظّم لابن حجر وذكره السمهودي في وفاء الوفاء 2/ 612؛ وزيني دحلان في الدرر السنية: 21.
2- ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: 421؛ مجمع الزوائد: 9/ 36.

ص: 169

من يرجو أن يستمر رجاؤه أيضاً بعد وفاته، وهذا يكشف انّه لم يكن معروفاً بين الصحابة ان مثل هذا النوع من الدعاء إذ لو كان دعاؤه شركاً لما اقدمت عليه عالمة أهل البيت عمّة رسول اللَّه(رضي اللَّه عنها).

7. سأل المنصور الدوانيقي العباسي، مالك بن أنس- إمام المالكية- وهما في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا أبا عبداللَّه أستقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول اللَّه؟

فقال مالك: لِمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللَّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعّك اللَّه. (1) وهذه الروايات يعاضد بعضها بعضاً وتفيد الاطمئنان بجريان السيرة على طلب الدعاء عن الرسول بعد رحيله وان كان البعض غير نقيّ السند.

وفي الختام نقول:

لا يصح لباحث أن يرفض هذه الروايات بمجرد أنها لا توافق رأي ابن تيمية ومن نهج منهجه مع أن فيها الصحيح والمعتبر، ومضمونها متواتر إجمالًا يعبر عن تسالم الأُمّة على جواز التوسل بالنبي بعد رحيله.


1- وفاء الوفاء: 4/ 1376.

ص: 170

ولكنا نتنازل ونفترض أن هذه الروايات أحاديث مختلقة مكذوبة على أصحابها ومع ذلك كله ففي هذه الروايات الّتي يصفها المخالف بالكذب شهادة واضحة على تسالم الأُمّة على صحة التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، إذ لو كان هذا العمل شركاً وبدعة وخروجاً عن الدين لما وضعها الوضاعون ولا لهج بها لسان القصاصين لأن الغاية من نشر هذه الروايات إمالة قلوب الناس إلى ما يروون ويحدثون به، ومن المعلوم أن تلك الغاية لا تتحقق فيما لو كذبوا و اختلقوا أموراً لا يقبلها الناس حسب فطرتهم ومستوى فهمهم، فلو كان المضمون شركاً لردّه السامع عند الوهلة الأُولى لمواجهة الراوي بالتحديث والرواية.

ومن هذه النماذج يُعلم عدم صحة قول الشيخ: «من أن أحداً من الصحابة لم يطلب من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً».

كيف يقول ذلك: وما ذكرنا من الصحابة والتابعين دليل واضح على أنهم طلبوا من النبي بعد موته الشفاعة وسألوه شيئاً.

وانت إذا أحطت بما ذكرنا من الأحاديث والآثار تقدر على تقييم ما ذكره ابن تيمية حيث قال:

ص: 171

ان مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به اللَّه تعالى قال تعالى: «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ» (1).

وقد عرفت ان التوسل بالنبي والأئمة من أهل بيته ليس عبادة لعدم توفر العنصر الثاني في صدق العبادة فكيف يقول «أحدثوا من الشرك والعبادات». ثم إن هذه الاعمال لو افترضنا أن المسلمين يقومون بها بعنوان أنها جزء من الدين فقد أذن اللَّه بها على ضوء ما تلوناه عليك من الروايات والاثار.

كلام آخر لابن تيمية

اشارة

ثم ان الشيخ ابن باز أورد كلاماً آخر لابن تيمية نقله عن رسالته إلى أتباع الشيخ علي بن مسافر(ص 32) وممّا جاء فيها قوله: والذين كانوا يدعون مع اللَّه ألهة أُخرى مثل الشمس والقمر و ... لم يكونوا يعتقدون انها تخلق الخلائق اوانها تُنزل المطر أو انها تنبت النبات وإنّما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة أو يعبدون قبورهم ويقولون إنّما نعبدهم ليقربونا إلى اللَّه زلفى ويقولون هم شفعاؤنا عند اللَّه،


1- الشورى: 21.

ص: 172

فأرسل اللَّه رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. قال تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا* أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً» (1).

يلاحظ عليه:

ان ما نقله ابن باز عن ابن تيمية أمر مستدرك لا حاجة له لأنّه ذكره في كلامه السابق والفرع مطابق للأصل تماماً وقد عرفت سقوط الاستدلال وذلك.

أوّلًا: وجود الفرق بين المسلمين والمشركين فالطائفة الأُولى يوحدون اللَّه تعالى ولا يرون له ندّاً ذاتاً وصفاتً وافعالًا، بخلاف المشركين فيجعلون له «أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ» ويسوون بينهم وبين اللَّه سبحانه كما مرّ، ولذلك كان دعاؤهم واستغاثتهم عبادة لالهتهم المزعومة بخلاف دعاء المسلمين وطلبهم الّذي هو توسل بأفضل خليقته وطلب الدعاء منه لأن له مقاماً عند اللَّه لا يرد دعاؤه.

وثانياً: نسب إلى المشركين بأنهم ما كانوا يعتقدون


1- الاسراء: 56- 57.

ص: 173

بأن الهتهم «تخلق الخلائق أو انها تنزل المطر أو انها تنبت النبات».

يلاحظ عليه: بأن المشركين لم يكونوا على منهج واحد محدد لا ينقص ولا يزيد بل كانوا مختلفين في درجات الشرك فقد عرفت أنهم كانوا يعتقدون ان العزة والنصر بيد الهتهم كما كانوا يعتقدون بأن الشفاعة والمغفرة حق طبيعي لهم، وقد مرّ أن عمرو بن لحي هو الّذي ادخل الوثنية إلى مكة وجاءهم ب «هبل» من بلاد الشام وأمر الناس بعبادته وتعظيمه، وما جاء به إلّابعد أن رأى أن أهل الشام يستمطرون به عند الجدب ويستنصرون به عند الشدّة، ومع ذلك كيف يصح لابن تيمية أن يجمع بين الموحدين والمشركين؟!

ثالثاً: قد تقدم ان المشركين في عهد الرسالة وان كانوا يقولون إنّما نعبدهم ليقربونا إلى اللَّه زلفى ولكنهم كانوا كاذبين في هذا القول وقد ذكره سبحانه في آخر الآية وقال:

«إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ»، بل هم يعبدونها لا لمجرد التقرب إلى اللَّه سبحانه بل لاعتقادهم بالربوبية فيها وان كانت دائرة الربوبية تختلف حسب اختلاف دائرة الشرك.

ص: 174

رابعاً: أن الآية المباركة: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا» (1)

لا تمس المقام أصلًا إذ الآية صريحة بأنهم كانوا يدعون آلهتهم لكشف الضر عنهم واللَّه سبحانه ردهم بأن هؤلاء أعجز من أن ينجزوا لكم طلباتكم، واما الموحد فهو يعتقد أن كشف الضر بيد اللَّه وأن قضاء الحوائج بيده لا غير وإنما يلتجأ إلى النبي طالباً منه الدعاء ليكشف اللَّه سبحانه بدعائه الضر عنهم كما كانوا يلتجأون إلى النبي في حال حياته لكي يكشف اللَّه ضرهم بدعائه.

وقد امتلأت الصحاح والمسانيد بالروايات الّتي تشير إلى طلب الناس الاستسقاء من النبي والخليفة وغير ذلك.

وان كنت في شك فيما ذكرنا حول الآية فانظر إلى ما ذكره ابن كثير حول تفسير الآية، قال: «يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير اللَّه من الأصنام والانداد فارغبوا إليهم فانهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية، ولا تحويلًا أي بأن يحولوه إلى غيركم، والمعنى أن الّذي يقدر على ذلك هو اللَّه وحده لا شريك له له الخلق


1- الاسراء: 56.

ص: 175

وله الأمر.» (1) وبذلك يظهر ما تهدف إليه الآية الثانية الّتي استشهد بها ابن تيمية على حرمة مطلق الدعاء قال سبحانه: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَايَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» (2).

فالآية تندد بعمل المشركين الذين يعتقدون في أصنامهم قدرة غيبية يقضون بها حوائج عَبّادهم دون أن يستمدوا من اللَّه سبحانه بشي ء وبذلك رد عليهم بقوله: «لَايَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ» كما كانوا يعتقدون أنهم يملكون مقام الشفاعة وانها فوضت إليهم فرد اللَّه سبحانه عليهم بقوله: «وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» واين هذا من دعاء الموحدين الذين يعتقدون بأن عباد اللَّه لا يملكون شيئاً في قضاء حوائجهم وانجاز طلباتهم وانّه سبحانه هو قاضي الحاجات ومنجز الدعوات لا غير.

قال ابن كثير: «بين اللَّه تبارك وتعالى ان الاله الواحد الأحد الفرد الصمد هو المستقل بالأمر وحده من غير


1- تفسير ابن كثير: 3/ 46.
2- سبأ: 22- 23.

ص: 176

مشارك ولا منازع ولا معارض فقال: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي من الآلهة الّتي عبدت من دونه «لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ» كما قال تبارك وتعالى.» (1) فما ذكره ابن كثير هو نفس ما يعتقده الموحدون ويتلونه كل يوم «قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَي ءْ قَدِيرٌ».

أُمور أربعة في كلام ابن تيمية:

1. ان النبي يحقق التوحيد ويسلمه أُمته حتّى انّه لمّا قال له رجل: ما شاء اللَّه وشئت قال: اجعلتني للَّه ندّاً! قل: ما شاء اللَّه وحده، وقال: لا تقولوا ما شاء اللَّه وشاء محمد ولكن: ما شاء اللَّه ثم ما شاء محمد.

2. نهى عن الحلف بغير اللَّه قال: من كان حالفاً فليحلف باللَّه أو فليصمت، وقال: من حلف بغير اللَّه فقد اشرك.

3. لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنّما انا عبداللَّه وقولوا عبداللَّه ورسوله.


1- تفسير ابن كثير: 4/ 536.

ص: 177

4. ونهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد وقال في مرض موته: «لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أنّه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة وذلك أن من أكبر اسباب عبادة الاوثان كان تعظم القبور بالعبادة ونحوها.

هذه أُمور أربعة ختم بها ابن تيمية كلامه، وفي كلامه ملاحظات ستمر عليك فأقرأها بامعان ثم اقض بوجدان الحرّ.

الأمر الأوّل: الفصل بين مشيئة اللَّه ومشيئة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ب «ثم»

ان مقتضى التوحيد في التدبير أو مقتضاه في الأفعال أن كل ما يحدث في الكون يكون مسبوقاً بمشيئة اللَّه سبحانه وإرادته: «سبحان من لا يوجد في ملكه إلّاما شاءه وأراده»، قال سبحانه: «وَ مَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ» (1).

فمشيئة الإنسان مسبوقة بمشيئة اللَّه تعالى، فلذلك


1- الإنسان: 30.

ص: 178

نهى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عن قول القائل ما شاء اللَّه وشاء محمد، وأمره بان يقول ما شاء اللَّه ثم ما شاء محمد. وهذا صحيح بلا كلام. إلّاأن الشيخ ومن على منهجه اتخذ ذلك النهي ضابطة كلية في عامة الموارد الّتي يعطف فيها الرسول على اللَّه سبحانه فيقولون بوجوب الفصل بينهما ب «ثم» مع أنّه قياس مع الفارق أوّلًا. وعلى خلاف صريح الذكر الحكيم ثانياً:

قال سبحانه: «وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ» (1).

قال سبحانه: «وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ» (2).

قال سبحانه: «وَ مَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ» (3).

قال سبحانه: «وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ» (4).

إلى غير ذلك من الآيات الّتي عطف فيها الرسول على اللَّه بلا فصل.


1- النساء: 13.
2- النساء: 14.
3- التوبة: 74.
4- التوبة: 59.

ص: 179

الأمر الثاني: الحلف بغير اللَّه تعالى

اشارة

ان اللَّه سبحانه أقسم في القرآن الكريم بأشياء غير ذاته يربو عددها على الأربعين نذكر منها: التين، الزيتون، طور سينين، البلد الأمين، الليل، النهار، الفجر، الليالي العشر، الشفع، الوتر، الطور، الكتاب المسطور، البيت المعمور، السقف المرفوع، البحر المسجور، وأخيراً فقد حلف سبحانه بعمر النبي حيث قال: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» (1)

ثم ان الغاية من الحلف بهذه الموجودات أحد أمرين:

1. حث الإنسان وتحفيزه للاهتمام بتلك الموجودات والتفكير فيها ودراستها وما فيها من الأسرار والقوانين ولذلك يقول سبحانه: «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ» (2)

.

2. إظهار منزلة المقسم به الّتي يتمتع بها عند اللَّه سبحانه كما هو الحال في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم ان وجود هذا الكم الهائل من الاقسام في القرآن يدل على جواز الحلف بها، خصوصاً إذا كانت الغاية


1- الحجر: 72.
2- يونس: 101.

ص: 180

هي ابراز المنزلة والفضيلة للمقسم به، فلو كان الحلف أمراً قبيحاً ومستهجناً أو كان شركاً لما حلف سبحانه بها، ولا أقل يذكر شيئاً في القرآن من أن الحلف بها من خصائصه سبحانه.

والعجب العجاب هو ان المخالف بعد أن واجه هذا المنطق القويم حاول الهروب من المأزق وقال ان المقسم به في هذه الاقسام هو الرب فيعود معنى قوله سبحانه:

«وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا» (1)

هو: رب الشمس، ورب ضحاها، كما يرجع معنى الحلف بحياة النبي إلى الحلف برب حياة النبي، فيكون معنى قوله: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ» أي «لرب عَمرك انهم ...»، وليس هذا إلّاتأويلًا بلا دليل وتفسيراً بالرأي واخراجاً للقرآن عن ذروة البلاغة.

الحلف بغير اللَّه في الصحاح

لقد ورد الحلف بغير اللَّه سبحانه في كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم وغيره أكثر من مرةٍ، ونحن نذكر هنا قليلًا من هذه الموارد، ونترك الباقي للآخرين:

روى مسلم في صحيحه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم


1- الشمس: 1.

ص: 181

فقال: يا رسول اللَّه، أيّ الصدقة أعظم أجراً؟

فقال: «أما وأبيك لتنبأنّه، أن تُصدّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء». (1) وهناك حديث آخر رواه مسلم أيضاً في باب ما هو الإسلام؟ (2) وإليك نصّه:

«جاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ اللَّه- مِنْ نَجْدٍ- يَسْألُ عَنِ الإسلام، فَقالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: خَمْسُ صَلَوات فِي الْيَوم وَاللَّيلِ.

فقال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرَهُنَّ؟

قال: لا ... إلّاأن تطوَّعَ، وصيامُ شَهْرِ رَمَضان.

فَقالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟

قالَ: لا ... إلّاأنْ تَطَوّعَ، وذكَرَ له رَسُول اللَّه الزَّكاة.

فقال الرَجُلُ: هَلْ عليَّ غيره؟

قال: لا ... إلّاأنْ تَطوَّع.

فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّه لا أزيدُ عَلى هذا ولا أنْقُصُ مِنْهُ.


1- صحيح مسلم: 3/ 94، باب أفضل الصدقة من كتاب الزكاة.
2- صحيح مسلم: 1/ 32.

ص: 182

فَقالَ رَسُولُ اللَّه: أفْلَحَ- وأبيه- (1) إن صدَقَ. (2)- أو قال-: دَخَلَ الجَنَّةَ وأبيه- إنْ صَدَقَ. (3) وروى أحمد هذا الحديث في مسنده وفي آخره أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لهذا الرجل «فلعمري لأن تكلم بمعروف وتنهى عن معروف خير من أن تسكت». (4) امّا فقهاء المذاهب الأربعة فلم يجمعوا على حرمة الحلف بغير اللَّه، فقد قال فقهاء الحنفية والشافعية بأنّه مكروه، واما المالكية فإن لهم فيه قولين أحدهما الحرمة والآخر الكراهة. (5) بقي الكلام فيما استدل به على الحرمة بحديثين:

1. قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من كان حالفاً فليحلف باللَّه أو يسكت».

2. قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من حلف بغير اللَّه فقد أشرك».

اما الحديث الأوّل: فقد حذف صدره، فقد روى أصحاب السنن أن رسول اللَّه سمع عمر وهو يقول «وأبي»


1- أي: قَسَماً بأبيه: فالواو واو القَسم.
2- صحيح مسلم: 1/ 32، باب ما هو الإسلام.
3- صحيح مسلم: 1/ 32، باب ما هو الإسلام.
4- مسند أحمد: 5/ 225.
5- للتفصيل راجع كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 75؛ طبع مصر.

ص: 183

فقال: إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف باللَّه أو يسكت». (1) والجواب: ان النهي عن الحلف بالآباء لأجل أنهم كانوا في ذلك الزمان مشركين وعبدة للاوثان، فلم تكن لهم حرمة ولا كرامة حتّى يحلف أحدٌ بهم.

وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» (2)، وجاء أيضاً قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بامهاتكم ولا بالأنداد» (3).

فاقتران «الطوغيت» و «الانداد» بالآباء لدليل واضح على أنّ الآباء كانوا يعبدونها.

ومع وجود هذه القرائن الواضحة، كيف يمكن أن يقال بأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن الحلف بالمقدسات كالكعبة والقرآن وأولياء اللَّه تعالى- مع العلم أنّ النهي خاصٌ بمورد معيّن، وأن النبي بنفسه كان يحلف بغير اللَّه؟

وأما الحديث الثاني: أعني قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من حلف بغير اللَّه فقد أشرك».


1- سنن ابن ماجة: 1/ 277.
2- سنن النسائي: 7/ 8.
3- مسند أحمد: 2/ 34.

ص: 184

فيظهر المراد منه بنقل الرواية كاملة وهي: جاء ابنَ عُمر رجلٌ فقال: أحِلف بالكعبة؟ قال له: لا، ولكن أحلف بربّ الكَعبة، فإنّ عمر كان يحلف بأبيه فقال له رسولُ اللَّه: «لا تَحِلف بأبيك فإنّ من حَلف بغير اللَّه فقد أشرك». (1) والحديث- كما ترى- مؤلف من مقاطع، هي:

أ. جاء رجل ابن عمر، فسأله هل يحق له الحلف بالكعبة؟ فنهاه ابن عمر.

ب. انّ عمر كان يحلف بأبيه عند رسول اللَّه فنهاه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك.

ج. القاعدة الكلية الّتي ذكرها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وهي:

«من حلف بغير اللَّه فقد أشرك». (2) والقدر المتيقّن من كلام الرسول ما إذا كان المحلوف به شيئاً غير مقدّس كالكافر والصنم، بشهادة انّ النبي ذكر ذلك عندما حلف عمر بأبيه الّذي كان كافراً، ولا يمكن انتزاع ضابطة كلية تعمّ الحلف بالكافر والمؤمن. ولكن ابن عمر اجتهد بأنّ قول النبيّ «مَن حلف بغير اللَّه فقد أشرك» الّذي


1- سنن النسائي: 7/ 8.
2- السنن الكبرى: 10/ 29؛ مسند أحمد: 1/ 47، 2/ 34، 67، 78، 125.

ص: 185

ورد في الحلف بالمشرك- و هو الخطّاب الذي هو والد عمر- اجتهد بأنّه يشمل الحلف بالمقدّسات أيضاً كالكعبة، مع العلم بأنّ كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد ورد في الحلف بالمشرك.

واجتهاده حجة على نفسه لا على غيره مع العلم بخطئه في تطبيق الكبرى على غير موردها.

الأمر الثالث: قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنّما انا عبداللَّه، فقولوا عبداللَّه ورسوله»

ما نقله الشيخ حق لا مرية فيه، ولكن لا يوجد على أديم الأرض وتحت قبة السماء موحد بعد وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم يطري النبي صلى الله عليه و آله و سلم كإطراء النصارى والكل يشهدون له بالرسالة والعبودية ويقولون «اشهد أن محمداً عبده، ورسوله» فما معنى إقحام ذلك الأمر في ثنايا كلامه، فهل يريد بذلك اتهام الموحدين المسلمين بالشرك وانهم يعتقدون بالوهية النبي الأكرم أو ربوبيته؟!

الأمر الرابع: نهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن اتخاذ القبور مساجد

روى البخاري في كتاب الجنائز عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور

ص: 186

أنبيائهم مساجد» (1).

في البدأ لابد من دراسة الحديث من جانبين:

الأوّل: في صحة مضمونه.

الثاني: ما هو المقصود من الحديث على فرض الصحة.

أما الأوّل: فالحديث وإن رواه البخاري لكن ليس كل ما في البخاري صحيحاً قطعياً لا يمكن تطرق الخطأ إليه مع أنّه ومن روى عنه فرد غير معصوم، ولذلك نحن نشك في صحة الحديث من جانب التاريخ وبشهادة القرآن على سيرة اليهود، وذلك لأن سيرة اليهود كما هو معروف هي القسوة مع الأنبياء وانهم كانوا يقتلون أنبياءهم واحداً بعد الآخر فكيف يحترمون أنبياءهم ويتخذون قبورهم مساجد وهذا هو القرآن الكريم يصفهم بقوله: «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقَ* ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ


1- صحيح البخاري: 2/ 111.

ص: 187

كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (1)

. كل ذلك يورث الشكّ في صحة مضمونه.

وأما الجانب الثاني: فلو افترضنا صحة المضمون لكن التعرف على مغزى هذا الحديث يتوقف على معرفة ما كان يقوم به اليهود والنصارى عند قبور أنبيائهم، ذلك لأن النبي عليه السلام إنّما نهى عن القيام بما كان يقوم به اليهود والنصارى، فإذا عرفنا عملهم، عرفنا بالتبع الحرامَ المنهيّ عنه.

الثاني: الحديث احتمالات ثلاثة يُحتمل ان يكون هي المراد لا مجرد الصلاة عند قبور الأنبياء للَّه سبحانه:

1. اتخاذ قبور الأنبياء قبلة لهم يصدّهم عن التوجه إلى القبلة الواجبة.

2. يجعلون انبياءهم شركاء مع اللَّه سبحانه في العبادة.

3. يعبدون أنبياءهم بجوار قبورهم يدل أن يعبدوا اللَّه الواحد القهار.

ويدل على أن المراد أحد هذه الاحتمالات الثلاثة ما رواه مسلم عن زوجتي النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أم حبيبة وأم سلمة بأنهما رأتا تصاوير في احدى كنائس الحبشة قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:


1- آل عمران: 181- 183.

ص: 188

«إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك التصاوير ...». (1) فالهدف من وضع صور الصالحين بجوار قبورهم إنّما كان لأجل إتّخاذ القبر والصورة قبلة لهم، أو كانتا كالصنم المنصوب يُعبدان ويُسجد لهما.

إن هذا الاحتمال- اللائح من الحديث- ينطبق مع ما عليه المسيحيون من عبادة المسيح ووضع التماثيل والتماثيل المجّسمة له وللسيدة مريم عليهما السلام.

ومع هذا المعنى فلا يمكن الاستدلال بهذه الأحاديث على حرمة بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها واقامة الصلاة فيها من دون أن يكون في ذلك أيّ شي ء يوحي بالعبودية، كما عليه المسيحيون.

قال القسطلاني: إنّما صوّر أوائلهم الصُّور ليستأنسوا بها ويتذكّروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدوا اللَّه عند قبورهم، ثمّ خَلَفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أنّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويُعظّمونها، فحذَّر النبي عن مثل ذلك.

إلى أن يقول عن البيضاوي:


1- صحيح مسلم: 2/ 66، كتاب المساجد.

ص: 189

قال البيضاوي: لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم و يجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها واتّخذوها أوثاناً، مُنع المسلمون عن مثل ذلك، فأمّا من اتّخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرُّك بالقرب منه- لا للتعظيم ولا للتوجّه إليه- فلا يدخل في الوعيد المذكور. (1) وليس القسطلاني منفرداً في هذا الشرح، بل ذهب إلى ذلك السندي- شارح السُّنن للنسائي- حيث يقول:

«اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أي: قبلة للصلاة يُصلّون إليها، أو بنوا مساجد عليها يُصلّون فيها. ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يُفضي إلى عبادة نفس القبر. (2) ويقول أيضاً:

يُحذّر(النبي) أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتّخاذهم تلك القبور مساجد، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها، أو بجعلها قبلة يتوجّهون في


1- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 1/ 430. وقد مال إلى هذا المعنى ابن حجر- في فتح الباري: 3/ 208 حيث قال: إنّ النهي إنّما هو عمّا يؤدّي بالقبر إلى ما عليه أهل الكتاب، أمّا غير ذلك فلا إشكال فيه.
2- السنن للنسائي: 2/ 21، مطبعة الأزهر.

ص: 190

الصلاة إليها. (1) واما إذا خلت الصلاة عند قبورهم عن هذه الصفة، تصبح الصلاة عند قبورهم بلا اشكال.

والمسلمون يصلون في المسجد النبوي عبر قرون، وفيه قبر النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم، دون ان يتخذه أحد منهم قبلة، أو يسجد له، أو يعبده، فما هذه الهمهمة والدمدمة حول مثوى خير البشر!!

الاستشهاد بكلام ابن القيّم

ان الشيخ ابن باز استشهد أوّلًا بكلام لابن تيمية ثم استشهد مرة أُخرى بكلام تلميذه ابن القيم، وكأنّه لم يجد بين العلماء من يدعم كلامه إلّاهذين الشخصين أحدهما مؤسس المنهج والثاني تلميذه، وليس في ما نقله عن الثاني شي ء جديد بل لا صلة له بالموضوع، حيث قال:

والشرك في الافعال كالسجود لغيره والطواف بغير بيته وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره، وتقبيل الاحجار غير الحجر الأسود الّذي هو عين اللَّه في الأرض وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها.


1- نفس المصدر السابق.

ص: 191

وانت خبير انّه ليس بين المسلمين من يسجد لغير اللَّه سبحانه أو يطوف بغيربيته وقد افتى العلماء بحرمة السجود لغيره حتّى وان كان احتراماً وتعظيماً واما تقبيل الاحجار فقد علمت أنّه ليس إلّامن باب الشوق إلى الحبيب وتكريمه وتعزيره، وهي حالة فطرية يتمسك بها بنو البشر إذ عندما يريدون ان يبرزوا حبهم لأحد من الناس فليس بالضرورة أن يكرموه بعينه مباشرة بل يكتفون بتكريم مايحيط به وينتسب إليه كالدار والجدران كما قال قيس صاحب ليلى العامرية:

امر على الديار ديار ليلى اقبل ذا الجدار ولا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

ثم انّ ابن القيمّ نقل في كلامه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: لعن اللَّه زوّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُرج.

فلو صحّ الحديث فهو محمول على النساء اللواتي يتركن وظيفتهن الأساسية المتعلقة بالبيت والزوج ويقمن بالاختلاف إلى المقابر، كما أن ذيله محمول على من اسرج

ص: 192

بلا فائدة منه الّذي يُعدّ إسرافاً. ولو اسرج سراجا لقراءة القرآن لصاحب القبر فهو عمل مبارك على أن الرواية ناظرة إلى مطلق القبور ولا صلة لها بقبر اشرف الخليقة وأولاده الطاهرين الذين اذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وقد دعى النبي الناس إلى زيارة قبره وقال أن من حج ولم يزرني فقد جفاني، وهذه الرواية اخرجها غير واحد من أئمة الحديث.

يقول ابن حجر: اختلف في النساء فقيل دخلن في عموم الأذن وهو قول الأكثر ومحله ما إذا آمنت الفتنة ثم قال ويؤيد الجواز حديث الباب(باب زيارة القبور) وقال القرطبي: هذا اللعن إنّما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك فقد يقال: إذا امن جميع ذلك فلا مانع من الأذن .... (1) وقد افتى الفقهاء في المذاهب الأربعة بأن زيارة قبر النبي من أفضل المندوبات واما الحديث فقد فصّل الكلام فيه السبكي في طرقه في «شفاء السقام». فمن اراد التوسع والوقوف على الروايات الواردة في استحباب زيارة


1- فتح الباري: 3/ 149، باب زيارة القبور؛ وعمدة القارئ: 8/ 69- 70.

ص: 193

النبي صلى الله عليه و آله و سلم فليرجع إلى «شفاء السقام» للسبكي (1)، وحظ أيضاً؛ «وفاء الوفاء» للسمهودي، و «إحياء العلوم» للغزالي، و «شرح الشفاء» للقاضي، إلى غير ذلك من الكتب المؤلفة في هذا المجال.

استنتاج الشيخ

ان الشيخ بعد أن نقل كلام الرجلين خرج بالنتيجة التالية قائلًا:

يتضح لكم ولغيركم من القراء أن ما يفعله الجهال من الشيعة وغيرهم عند القبور من دعاء أهلها والاستغاثة بهم والنذر لهم والسجود لهم وتقبيل القبور طلباً لشفاعتهم، ونفعهم لمن قبّلها، كل ذلك من الشرك الأكبر لكونه عبادة لهم والعبادة حق اللَّه وحده كما قال اللَّه تعالى:

«وَاعْبُدُوا اللهَ وَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» (2).

يلاحظ عليه: انه نسب إلى الشيعة الأُمور التالية:

أ. دعاء أهل القبور والاستغاثة بهم.


1- شفاء السقام: 65- 115، الطبعة الرابعة المحققة.
2- النساء: 36.

ص: 194

ب. النذر لهم.

ج. السجود لهم.

د. تقبيل القبور طلباً لشفاعتهم.

ثم وصف الكل بالشرك الأكبر الّذي هو عبارة أُخرى عن الارتداد والخروج عن الدين.

اما الأمر الأوّل: فقد عرفت الادلة الكافية من أنّه لا مانع من دعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم والاستغاثة به لأجل طلب الدعاء منه لأن له عند اللَّه مقاماً محموداً يُقبل دُعاؤه وتُستجاب دعوته خصوصاً إذا استغفر للمستغيث قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (1).

نعم: الاستغاثة بالنبي بما أنّه إله ورب وبيده مصير الداعي كلّاً أو جزءً، هو عبادة له، ولكن لا يوجد بين المسلمين من يعتقد بهذا.

وأما الثاني: أعني النذر لهم فقد خفي عن الشيخ حقيقة النذر حيث تصور انهم ينذرون للنبي مكان النذر للَّه مع أنهم ينذرون للَّه سبحانه وإنّما يهدون ثواب عملهم للنبي والأئمة عليهم السلام.


1- النساء: 64.

ص: 195

من الأُمور الرائجة بين المسلمين انهم يقومون بالنذر للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ويقول الناذر للَّه عليّ إذا شفى اللَّه مريضي أن اذبح شاةً للنبي، وقد زعم الشيخ ان النذر للنبي شرك لأنّه عبادة له ولكنه غفل عن مفاد الصيغة ولأجل ايضاحها نقول:

ان اللام في قوله «للَّه عليّ» يراد بها الغاية الّتي نتيجتها التقرب إلى اللَّه سبحانه، ولكن اللام الثانية في قوله:

«للنبي» للانتفاع واهداء الثواب إليه.

وعند ذلك كيف يكون هذا القول شركاً وعبادة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ونحن نرى مثل ذلك الاستعمال في الذكر الحكيم فتارة يذكر القرآن الكريم عن أم مريم قولها: «إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا» (1)

، وفي الوقت نفسه يذكر في حكم الصدقات ويقول: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ» (2)

.

وعلى ضوء ذلك فاللام في قوله «للَّه عليّ» مثل اللام في قوله: «إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ»، كما أن اللام في قوله «للنبي» مثلها في: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ» ولا أظن فيمن تدبر فيما ذكرنا أن يعتبر النذر للنبي شركاً.

وقد ورد نظير ذلك فيما صحّ عن سعد أنّه سأل النبي


1- آل عمران: 35.
2- التوبة: 60.

ص: 196

قال: يانبي اللَّه ان أمي افتلتت [أي ماتت] وأعلم أنّها لو عاشت لتصدقت، أفإن تصدقت عنها أينفعها ذلك؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: نعم.

فسأل النبي: أي الصدقة انفع يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؟

قال: الماء. فحفر بئراً وقال: هذه لأُم سعد. (1) فالمسلمون بعملهم هذا سعديون لا وثنيون. لا يريدون عبادة المولى بل يريدون ايصال الثواب إليهم كما فعل سعد.

واما الأمر الثالث: أعني السجود للنبي والأئمة فلا أقول فيه شيئاً إلّاكونه على خلاف الواقع.

واما ما ربما يشاهد من بعضهم السجود في المشاهد فما هو إلّاسجود للَّه شكراً له لتوفيقه لزيارة النبي وخلفائه.

كان المترقب من المفتي العام أن لا ينسب شيئاً إلى أُمة كبيرة إلّاأن يتحقق منه بواسطة من يثق به.

واما الأمر الرابع: اعني تقبيل القبور طلباً لشفاعتهم أو نفعهم لمن قبلها فهو تفسير بما لا يرضى به صاحبه إذ ليس التقبيل لغاية طلب شفاعتهم بل لأجل التكريم


1- سنن أبي داود: 2/ 130 برقم 1681، باب في فضل سقي الماء؛ السيرة الحلبية: 2/ 583.

ص: 197

والتعزيز فقط، وأمّا طلب الشفاعة فهو أمر صحيح يقوم به كل من يعترف بانّ النبي الكريم هو الشفيع الاعظم فيطلب منه الشفاعة بمعنى انّه يطلب منه الدعاء كما كان يطلبه منه حيّاً، فاذا كان طلب الشفاعة بهذا المعنى في حالة الحياة جائزاً ولم يكن شركاً فهو كذلك بعد رحيله إذ لا تختلف حقيقة الأمر بالحياة والموت.

ثم ان الشيخ رتب على هذه الأُمور الأربعة بأنّها الشرك الأكبر وهو استنتاج باطل لا يقوم على دليل إذ كيف تكون هذه الاعمال عبادة لهم مع أن العبادة تتقوم بعنصرين احدهما الاعتقاد بربوبية من يدعوه اويستغيث به وليس بين المسلمين من يعتقد بذلك.

واما الاستشهاد بقوله تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» (1)

فهو في غير محله لما عرفت من أنّه ليس كل تعظيم شركاً. وليس كل تكريم عبادة لغيره سبحانه.

التوسل بعم النبي

قال الشيخ: واما توسل عمر والصحابة بدعاء العباس في الاستسقاء وهكذا توسل


1- النساء: 36.

ص: 198

معاوية في الاستسقاء بدعاء يزيد بن الأسود فذلك لا بأس به لأنّه توسل بدعائهما وشفاعتهما ولا حرج في ذلك. ولهذا للمسلم أن يقول لأخيه:

أدع اللَّه لي وذلك دليل من عمل عمر والصحابة ومعاوية على أنّه لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم في الاستسقاء ولا غيره بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم ولو كان ذلك جائزاً لما عدل عمر الفاروق والصحابة عن التوسل به صلى الله عليه و آله و سلم إلى التوسل بدعاء العباس ولما عدل معاوية التوسل به صلى الله عليه و آله و سلم إلى التوسل بيزيد بن الأسود وهذا شي ء واضح بحمد اللَّه.

روى البخاري قال: كان عمر ابن الخطاب إذا قُحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضى الله عنه فقال: اللهم انا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وانا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيسقون. (1) والحديث صريح في أن عمر توسل بذات العباس ومكانته وجعله الوسيلة بينه وبين اللَّه ولما كان ظاهر الحديث مخالفاً لما عليه الشيخ من تحريم التوسل بذات الشخص حاول ان يؤوّل الحديث في كلامه، وقال: بأن


1- صحيح البخاري: 2/ 32، باب صلاة الاستسقاء.

ص: 199

الخليفة توسل بدعاء العباس لا بشخصه ومنزلته.

لا أظن أن أحداً يحمل شيئاً من الانصاف يسوّغ لنفسه أن يفسّر الحديث بما ذكره لأنّه خلاف ما فهمه الآخرون من الحديث وخلاف القرائن الموجودة في الحديث، اما الأوّل: فهذا هو الرجالي الكبير ابن الأثير يقول: واستسقى عمر بن الخطاب بالعباس، في عام الرّمادة لما اشتد القحط، فسقاهم اللَّه تعالى به وأخصب الأرض، فقال عمر: هذا- واللَّه- الوسيلة إلى اللَّه والمكان منه. (1) وقال حسّان الشاعر:

سأل الإمامُ وقد تتابع جد بنا فسقى الغمام بغُرّة العباس

عمِّ النبي وصنو والده الذي وَرث النبي بذاك دون الناسِ

أحبى الإلهُ به البلادَ فأصبحت مُخضرَّة الأجناب بعد الياس

ولمّا سُقي الناس طفقوا يتمسّحون بالعباس ويقولون هنيئاً لك ساقي الحرمين.


1- اسد الغابة: 3/ 111.

ص: 200

إن التأمل في هذه القضية التاريخية والّتي ذكر بعضاً منها البخاري في صحيحه، يؤكد على أن من مصاديق «الوسيلة» هو التوسل بأصحاب الجاه والمنزلة عند اللَّه، حيث ينتج منه التقرّب إلى اللَّه وتكريم الداعي والمتوسل.

وأي تعبير أوضح من قوله «هذا- واللَّه- الوسيلة إلى اللَّه والمكان منه».

يقول القسطلاني(ت 923 ه):

«إن عمر- لما استسقى بالعباس- قال: «أيها الناس إن رسول اللَّه كان يرى للعباس ما يرى الولَدُ للوالدِ، فاقتدوا به في عمّه واتخذوه وسيلةً إلى اللَّه تعالى».

وفي ذلك يقول العباس بن عتبة بن أبي لهب:

بعمي سقى اللَّه الحجاز وأهله عشية يستسقي بشيبته عمر

توجه بالعباس في الجدب راغباً إليه فما إن رام حتّى أتى المطر

ومنا رسول اللَّه فينا تراثه فهل فوق هذه للمفاخر مفتخر (1)


1- المواهب اللدنيّة: 4/ 277، تحقيق صالح أحمد التاجي.

ص: 201

ان الاحتجاج بترك الصحابة عملًا من الاعمال وانهم مثلًا:(لم يتوسلوا بالنبي بعد رحيله وإنّما توسلوا بعم النبي العباس) من غرائب الكلام، إذ لم يقل أحدٌ بإن ترك الصحابة فعلًا من الافعال. دليل على حرمته، وإنّما يحتج بفعلهم على جوازه، لا بتركهم.

فإذاً فما معنى قول الشيخ بأن الصحابة لم يتوسلوا بالنبي بعد رحيله، مضافاً إلى أنهم توسلوا به بعد رحيله كما تقدم ذكره.

الأمر الثاني: أعني لو كان التوسل بالنبي- بعد رحيله- جائزاً لما عُدِل إلى التوسل بالعباس فقد خفي على القائل وجه العدول وليس هو إلّاأن الخليفة حاول ان يوسط بين المستسقين وربّهم إنساناً مقرباً يكون شريكهم في الحياة ومثيلهم في المصير، واما النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فهو وان ذا مكانة عالية لكنه لأجل رحيله لم يكن(في زمان الاستسقاء) شريكهم وكأن المتوسلين بالعباس يقولون بلسان الحال: ربنا وسيدنا ان لم نكن أهلا للرحمة فعم النبي أهلًا لها فانزل رحمتك الواسعة لأجله، ومن المعلوم ان

ص: 202

الرحمة إذا نزلت فهي ستشمل العام والخاص ومن سأل ومن لم يسأل.

تعليم النبيّ التوسل بشخصه

اشارة

ان النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو الّذي علّم التوسل بمكانه وشخصه وذلك في الدعاء الّذي علمه صلى الله عليه و آله و سلم للضرير، وإليك نص الحديث فليتأمل القارئ فيه فهل ان النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان قد أمر الضرير أن يتوسل بدعاء النبي أم أنّه قد أمره بالتوسل بشخص النبي ومقامه وشخصيته. ومن المعلوم ان شخصه ومكانته عند اللَّه، محفوظة حيّاً وميتاً وإليك الحديث:

1. روى أكثر من واحد من المحدثين «1» كالنسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم- وقد اتفقوا على صحة الحديث-: أن رجلًا ضريراً أتى إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

ادع اللَّه أن يعافيني.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: ان شئت دعوتُ، وإن شئت صبرت وهو خير؟

ص: 203

قال: فادعُهُ، فأمره أن يتوضأ فيُحسن وضوءهُ ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني اسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد اني اتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، اللهم شفعه فيّ».

ان الدعاء الّذي علمه النبي صلى الله عليه و آله و سلم تضمّن التوسل بذات النبي بصراحة تامة.

فيكون ذلك دليلًا على جواز التوسّل بالذات، وقداسته محفوظة وهو حيّ عند اللَّه كحياة الشهداء.

وإليك الجمل والعبارات التي هي صريحة في المقصود:

1. اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك

إنّ كلمة «نبيّك» متعلّقة بفعلين، هما: «أسألك» و «أتوجّه إليك»، والمراد من النبي صلى الله عليه و آله و سلم نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاؤه.

وتقدير كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيك» حتّى يكون المراد هو «أسألك بدعاء نبيّك، أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك» تحكّم وتقدير بلا دليل، وتأويل بدون مبرّر، ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهمية والقدريّة.

ص: 204

2. محمد نبي الرحمة

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من اللَّه بواسطة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وشخصيته فقد جاءت بعد كلمة «نبيك» جملة «محمد نبي الرحمة» لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأكثر ما يمكن.

3. يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي

إنّ جملة «يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» تدلّ على أنّ الرجل الضرير- حسب تعليم الرسول- اتّخذ النبي نفسه، وسيلة في دعائه أي أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائه صلى الله عليه و آله و سلم.

4. وشفّعه فيّ

إنّ قوله: «وشفّعه فيّ» معناه يا رب اجعل النبي شفيعي، وتقبّل شفاعته في حقّي، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي، فإنّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتّى يكون معنى هذه الجملة: استجب دعاءه في حقّي، ولو كان هناك دعاء من النبي لذكره الراوي؛ إذ ليس دعاؤه صلى الله عليه و آله و سلم من الأُمور غير المهمة حتّى يتسامح الراوي في حقّه. وحتّى لو فرضنا أنّ معناه «تقبّل دعاءه في حقّي» فلا يضر ذلك

ص: 205

بالمقصود أيضاً، إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان:

دعاء الرسول ولم يُنقل لفظه، والدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، وقد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبي وشخصه وصفاته، وليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاء.

وأخيراً نقول: كيف يقول الشيخ بن باز في رسالته مخاطباً للشيخ واعظزاده: «والواجب على المسلمين الاتباع والتقيّد بالشرع، والحذر من البدع القولية والعمليّة ولهذا لم يترك الصحابة- رضي اللَّه عنهم- بشعر الصديق أو عرقه أو وضوئه ولا بشعر عمر أو عثمان أو علي أو عرقهم أو وضوئهم ... ولا بعرق غيرهم من الصحابة وشعره ووضوئه لعلمهم بأنّ هذا أمر خاص بالنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم ولا يقاس عليه غيره في ذلك.» ثمّ نَسي بأنّ جمعاً من الناس في مشهده ومرآه يتبرّكون بفضول طعامه وقد أقرّ الشيخ نفسه بترك هؤلاء الناس من فضول طعامه في رسالته؟!» (1) إلى هنا تمت مناقشة المواضع الرئيسية في رسالة الشيخ ابن باز.


1- انظر: ص 16 و 40 س هذا الكتاب.

ص: 206

اسأل اللَّه سبحانه ان ينور قلوبنا بنور الإيمان ويجعلنا اخوانا يسدّد بعضنا البعض الآخر، ويرزقنا فهم الدين واخلاص العمل، والتحرز عن الخوض في دماء المسلمين برمي البعض بالشرك تارة وبالبدعة أُخرى، وان يكون المعيار في الدخول إلى حظيرة الإسلام والخروج عنها قول نبينا صلى الله عليه و آله و سلم: «من شهد أن لا اله إلّااللَّه واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم». (1) وان نجعل نصب اعيننا قول نبينا صلى الله عليه و آله و سلم كما أخرج مسلم عن نافع عن ابن عمر:

ان النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما. (2) واخيراً أقول أنّه ليس ممّا يرتضيه اللَّه ورسوله أن يُرمى المسلمون الأخيار، الطافحة قلوبهم بأنوار التوحيد، والمفعمة افئدتهم بمحبة اللَّه ومودة رسوله، بالشرك والكفر، لا لشي ء إلّالشبهة أو شبهات حصلت للرّامين، من دون أن


1- جامع الأُصول لابن الأثير: 1/ 158.
2- صحيح مسلم: 1/ 56، باب من قال لاخيه المسلم يا كافر، من كتاب الإيمان.

ص: 207

يحققوا في الأمر، أو يستمعوا إلى أدّلة الطرف الآخر أو يعيروا الكتاب والسنة وسيرة السلف والخلف من الصحابة والتابعين والعلماء والمجاهدين الاهتمام الكافي والعناية المناسبة اللازمة.

والحمد للَّه رب العالمين

جعفر السبحاني

قم المقدسة

17/ صفرالمظفر/ 1428 ه

ص: 208

ص: 209

فهرس المصادر

1- الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار، يحيى بن شرف النوري، بيروت، دار الكتاب العربي، ط. الرابعة، 1404 ق.

2- الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ، محمّد بن عبد الرحمن السخاوي، مطبعة الترقي، دمشق، 1349 ه.

3- الأمالي، محمّد بن النعمان(الشيخ المفيد)، تحقيق على أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين، قم 1403.

4- بيان زغل العلم والطلب، محمّد بن محمّد الذهبي، مطبعة توفيق، دمشق.

5- التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، منصور علي ناصف، دار إحياء التراث العربي، ط. الرابعة، 1406.

6- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، بيروت، دار الكتاب العربي، 1409 ق.

ص: 210

7- تفسير القرآن العظيم، اسماعيل بن كثير، بيروت، دار المعرفة، 1402 ه.

8- تهذيب الأحكام في شرح المقنعه، محمّد بن الحسن الطوسي، تهران دار الكتب الاسلامية، 1390 ه.

9- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، جمال الدين يوسف المزي، تحقيق: بشار عوّاد معروف، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1413.

10- تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق:

مصطفى عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، 1415.

11- جامع الاصول في أحاديث الرسول، محمّد ابن الاثير الجزري، تحقيق عبدالقادر الارناؤوط، بيروت، دار الفكر، 1403 ق.

12- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، بيروت، دار الفكر، 1408 ه.

13- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، جلال الدين السيوطي، بيروت، دار الكتب العلمية.

14- جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلى، بيروت، دارالجيل، 1407 ه.

15- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن قيم الجوزية، تحقيق: ابن عالية، بيروت، دار الكتاب العربي، ط.

ص: 211

الرابعة، 1412 ق.

16- الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم، على بن أبي بكر الهيثمي، القاهرة، نشر دار جوامع الكلم.

17- دفع الشبهة عن الرسول والرسالة، أبو بكر محمد بن عبد المؤمن الحصني، تحقيق: جماعة من العلماء، بيروت، دار إحياء الكتاب العربي، ط. الثانية، 1418.

18- ذخائر العقبى، محب الدين الطبرى، تحقيق اكرم البوشى، مكتبة الصحابة، جدّة، 1415 ه.

19- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود الآلوسي، تصحيح: محمد حسن العرب، دار الفكر، 1417 ق.

20- الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من 21- الكتاب والسنّة والآثار وأقوال العلماء، ابن قيّم الجوزية، تحقيق: محمد علي القطب، المكتبة العصرية، بيروت، 1422 ه.

22- سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، بيروت، المكتب الإسلامي، ط. الرابعة، 1405.

23- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة المعارف، ط. الخامسة، 1412.

24- سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزوينى، تحقيق محمّد فؤاد

ص: 212

عبدالباقي.

25- سنن الدارمي، أبو محمد عبد اللَّه بن بهرام الدارمي، دار إحياء السنّة النبوية.

26- سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، باشراف: شعيب الأرنؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط. الرابعة، 1406.

27- السيرة النبوّيّة، ابن هشام، تحقيق مصطفى السقّا وغيره، بيروت، دار احياء التراث العربي.

28- شرح نهج البلاغة، ابن ابى الحديد، تحقيق محمّدابوالفضل ابراهيم، دار احياء الكتب العربية، 1387 ه.

29- شعب الإيمان، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق:

محمد السعيد زغلول، بيروت، دار الكتب، 1410 ق.

30- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، قاضي عياض، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الكتاب العربي.

31- شفاء السقام في زيارة خير الأنام، تقي الدين السبكي، الطبعة الرابعة، 1419 ق.

32- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

33- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

ص: 213

34- طبقات الشافعية الكبرى، عبد الوهاب بن علي السبكي، تحقيق: محمد الحلو، بيروت 2، دار إحياء الكتاب العربي.

35- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، بيروت، دار صادر.

36- علل الشرايع، محمّد بن علي الصدوق، قم، مكتبة الداوري، 1385 ه.

37- العلل ومعرفة الرجال، أحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق:

وصي اللَّه عباس، المكتب الإسلامي، بيروت، 1408 ه.

38- عمدة القارئ شرح صحيح البخاري، البدر العيني، بيروت دار الفكر.

39- الفتاوى الحديثة، على بن أبي بكر الهيثمي، بيروت، دار المعرفة.

40- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر، باشراف: محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت.

41- الفتوحات الربّانية على الأذكار النواوية، محمد بن علّان، المكتبة الإسلامية.

42- فقه السيرة النبوية، سعيد رمضان العالم البوطي، دمشق، دار الفكر، ط. العاشرة، 1411 ق.

43- فيض القدير، شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، محمد عبد الرؤوف المناوي، تصحيح: أحمد السلام،

ص: 214

بيروت، دار الكتب العلمية.

44- الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، تصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، ط الثالثة، 1388 ه.

45- الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر عبد اللَّه بن أبي شيبة، تصحيح: محمد عبد السلام شاهين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1416 ق.

46- لسان الميزان، أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، تحقيق:

بإشراف محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث، ط. 1416 ق.

47- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1402 ق.

48- المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، القاهرة، مكتبة ابن تيمية.

49- المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللَّه الحاكم النيسابوري، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، بيروت، دار المعرفة.

50- مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: بإشراف الدكتور عبداللَّه بن عبد المحسن التركي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1420 ق.

51- نظم المتناثر من الحديث المتواتر، محمد بن أبي الفيض

ص: 215

الشهير بالكتّاني، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. الثانية، 1407.

52- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، علي بن أحمد السمهودي، تحقيق محمّد محي الدين عبدالمجيد، بيروت، دار الكتب، العلمية، ط. الرابعة، 1404 ه.

***

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.