سرشناسه : احمدي ميانجي علي 1379 - 1304
عنوان و نام پديدآور : التبرك تاليف علي الاحمدي الميانجي مشخصات نشر : تهران نشر مشعر، 1422ق = 1380.
مشخصات ظاهري : د، ص 388
شابك : 964-6293-89-120000ريال وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي يادداشت : چاپ سوم 1422ق = 25000 :1380 ريال يادداشت : كتابنامه ص 384 - 377؛ همچنين به صورت زيرنويس موضوع : تبرك رده بندي كنگره : BP226/65/الف 3ت 2
رده بندي ديويي : 297/76
شماره كتابشناسي ملي : م 80-3946
ص:1
ص: 1
نحن أمام عبد صالح وعالم جليل وفقيه زاهد تقي وأستاذ أخلاق جدير، ترك بصماته على طلابه ومؤلّفاته .. ومبلّغ صادق وداعية مخلص دؤوب في تربية نفسه وهداية الآخرين، ملئت حياته إيماناً وعلماً وعطاءً، فسيرته عطرة، ومناقبه رفيعة، ومواقفه جريئة، وآراؤه شجاعة بلا تعسّف ولا عناد بل بعلم وحجّة وسداد ...
وسيرته هذه ليست غريبة عن سيرة علمائنا وفقهائنا الصالحين، بل هي حلقة من حلقات هذه السلسلة المعطاء والباهرة بما تحلّوا به وبما اتّصفوا به من صفات عالية وبما حشدوه من جهود قيّمة دفاعاً عن الحقّ ودرء اً للباطل .. فما أن يروا شبهة إلّا و تصدّوا لها غير تاركيها ولا متغافلين عنها وحتّى يغوصوا في استقصاء أدلّة ردّها وبراهين دحضها بحجّة وسلطان مبين .. وتاريخهم- مواقف ومؤلّفات- أمامنا حافل بطريقتهم المثلى هذه وفي كلّ النواحي العقائديّة والفقهيّة والتاريخيّة ..
فقدموا لنا تراثاً جليلًا وعلماً نافعاً وحججاً غنيّة، لا يمكننا الاستغناء عنها في نقاشنا وحوارنا مع الآخر فأحسنوا بذلك صنعاً.
وكتاب (التبرّك) هذا واحد من تلك الأنشطة والجهود العلميّة القيّمة، يقف بقوّة ليدحض كلّ ما جاء حول هذه المسألة من شبهات وإشكالات، قد أُثير بعضها بدوافع صادقة، وبعضها الآخر أثير بدوافع ونوايا أقل ما يقال فيها أنّها غير منصفة إن لم نصفها بأنّها
ص: 2
خبيثة كان لليد المعادية الحاقدة دور خطير في إذكائها لتعميق الفجوة بين أبناء الدين الواحد والملّة الواحدة.
وشيخنا في كتابه هذا كان حريصاً على هداية الآخر وإنارة الطريق أمامه، بكلّ ما يستطيع من جهد وفكر، وصبر عجيب على استقصاء الروايات والأدلّة من مصادر القوم ومنابعهم العلميّة وأقوال أئمّتهم وعلمائهم ورواتهم ..
*** في الرابع من شهر محرّم الحرام سنة 1345 هجري قمري الموافق لسنة 1305 ه. ش.، وفي قرية (پورسخلو) من قرى آذربيجان الشرقيّة، البعيدة عن بلدة ميانة بأربعة فراسخ. ولد سماحة الشيخ علي الأحمدي الميانجي لأمٍّ علويّة، وأبٍ مزارع، عرف بالعلم والعبادة والصلاح، وعدم الحرص على الدنيا وملاذها، لم تشغل الزراعة أباه، مع أنّها كانت مهنته الرئيسيّة، عن دراسته لأحكام الدين ومبادئه ومفاهيمه، فجعلت منه مبلغاً ناجحاً ومرشداً نافعاً وخطيباً من خطباء المنبر الحسيني الذي كان عاشقاً له ومشغوفاً به. وكانت له خصلة أخرى يتمتّع بها وهي حبّه للنّاس من حوله ودفع الضير عنهم وقضاء حوائجهم ..
وكان لهذا كلّه أثره البالغ في تربية ولده عليٍّ ونشأته الدينيّة والعلميّة .. فراح الأب رحمه اللَّه يدرّس ابنه مقدّمات علوم الحوزة وكتباً أخرى تخدمه في توجّهه الحوزوي.
وبعد أن أنهى سماحة شيخنا الأحمدي دراسته هذه صوّب نظره إلى بلدة ميانة حيث حوزتها العلميّة، ليبدأ مشواره العلمي بها عام 1358 ه. ق. فمكث فيها يدرس النحو والمنطق ومعالم الأصول وشرح اللمعة والقوانين، عند سماحة حجّة الإسلام الشيخ أبومحمّد حجّتي؛ لينتقل بعدها إلى مدينة تبريز عاصمة آذربيجان الشرقيّة، مواصلًا دراسته في حوزتها العلميّة، قبل أن يخطو خطوته الأخرى ألا وهي هجرته إلى مدينة العلم والجهاد قم؛ ليكمل دراسته للسطوح العالية وهي مرحلة متقدّمة من مراحل الدراسات الحوزويّة بين أيدي أساتذة كبار منهم آية اللَّه السيد حسين القاضي وآية اللَّه العلّامة الطباطبائي رحمهما اللَّه.
وبعد إكمال سماحته لمرحلة السطوح العالية توجّه لدروس البحث الخارج وهي مرحلة متقدّمة جدّاً في الحوزة العلميّة، فحضر دروس وأبحاث كلٍّ من:
ص: 3
سماحة آية اللَّه العظمى السيد حسين البروجردي، سماحة آية اللَّه العظمى المحقّق الداماد، سماحة آية اللَّه العظمى السيد الگلپايگاني.
فكان حقاً أذناً واعيةً وطالباً فذّاً ثمّ عالماً جيّداً وأستاذاً نافعاً خاصّةً في دروس الأخلاق. فقد كان مؤثراً في طلابه ومستمعيه الذين حضروا دروسه بشغف وحبّ لما أحسّوا فيها من منافع وثمار .. وطالما كان- رحمه اللَّه- يوصيهم بفعل الواجبات وعدم ترك المستحبّات والنوافل .. فكان بحقٍّ مثالًا وأسوةً حسنةً في سلوكه وسيرته حيث اتّصف بالزهد والخلق العالي وعبادته وتهجده.
ولسماحته نشاط كبير كان محبّاً له ودؤوباً عليه وهو التحقيق والتأليف ممّا جعله يترك مؤلّفات قيّمة عديدة وهي:
1- مكاتيب الرسول صلى الله عليه و آله، 4 مجلّدات.
2- مواقف الشيعة، 3 مجلّدات.
3- الملكيّة الفردية، مجلّدان.
4- السجود على الأرض.
5- الأسير في الإسلام.
6- مكاتيب الأئمّة عليهم السلام.
7- التبرّك.
وهو الذي بين أيدي القرّآء الأعزّاء، بعد أن جدّد طبعته مركز أبحاث الحجّ بقم، التابع لممثّلية الوليّ الفقيه لشؤون الحجّ والزيارة، تلبيّةً لرغبة الشيخ نفسه، وكان يأمل رؤيته منقّحاً مصحّحاً إلّاأنّ القدر لم يمهله حتّى يراه في حلّته الجديدة هذه، فقد وافاه الأجل المحتوم. فنسأله تعالى أن يمنّ عليه بالرحمة والرضوان وأن يسكنه الفسيح من جنّاته.
ترك سماحته وصيّةً قيّمةً تتضمن فوائد عديدة، نشير إلى بعض فقراتها:
- ... إنّي لست ذا مالٍ حتّى أوصي به، إلّاالدار التي أسكن فيها، ولزوجتي الحقّ في
ص: 4
الاستفادة منها ومن كلّ الآثاث الموجودة فيها، مادامت هي على قيد الحياة.
- أوصي أولادي وجميع ورثتي وخصوصاً أهل العلم منهم، بالاستفادة من مكتبتي، ولا سمح اللَّه إن لم يكن فيهم من يستفيد منها، فإنّي أهديها إلى أي مكتبة من مكتبات الحوزة العلميّة كمكتبة الفيضيّة أو مكتبة آية اللَّه المرعشي النجفي، فلعلّها تكون لي من الباقيات الصالحات.
- أُحبُّ أن يوجد في أهلي واحد أو أكثر من أهل العلم؛ ليشتغل في تحصيل العلوم الدينيّة، وطالما رجوتُ اللَّه تعالى وتوسّلتُ إليه أن يُيسر ذلك في ذريّتي وأن لا يحرمهم منه إنّه قريب مجيب.
- ترسل جميع كتبي غير المطبوعة إلى المؤسسات لمراجعتها ونشرها، كما أرجو أن يجمع كلّ ما كتبته وهو حصيلة عمري؛ ليكون في متناول أيدي القرّاء وطلبة العلوم الدينيّة.
- أوصي أهلي بأن يتجنّبوا المبالغة في إقامة جلسات الفواتح والإسراف فيها وتزيينها للمباهات، فهو أمر ينفع الأحياء ولا ينفع الأموات، وأن يتركوا التقاليد والأوهام.
- أرجو أن لا ينساني الجميع من الدعاء وأن يستغفروا لي ربّي ...
*** وأخيراً يقدم هذا المركز شكره وتقديره لكلّ من:
1- الشيخ محمّد علي المقدادي.
2- الأستاذ محسن الأسدي.
على جهودهما في مراجعة وتصحيح هذا الكتاب في طبعته الثالثة، ونسأله تعالى أن يوفّقهما لمزيد من الجهود العلميّة النافعة.
معاونيّة شؤون التعليم والبحوث الإسلاميّة
التابعة لممثليّة الولّي الفقيه
لشؤون الحجّ والزيارة
ص: 5
التبرّك
تأليف:
آية اللَّه الشيخ علي الأحمدي الميانجي
الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمّد وآله الطيّبين الطّاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، من الأوّلين والآخرين، إلى قيام يوم الدين.
قال اللَّه سبحانه في كتابه المجيد: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (1)
، وقال تعالى وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (2)
.ومن البديهي: إنّ اللَّه سبحانه يريد للإسلام أن يحكم العالم، ويُهَيمِن على كلّ سلوك ومواقف البشريّة جمعاء بهديهِ وتعاليمه المُعمّقة للإيمان، والمثمرة للعمل الصالح. ولا يختصّ ذلك بأمّة دون أمّة، ولا يقتصر على جيل دون جيل، قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً (3)
.فالإسلام يريد وحدة الأمّة، ووحدة الهدف، ووحدة المصير، وعلى أساس
ص: 6
ذلك تقوم وحدة الرسالة والدعوة.
ولكن ما هو ذلك الرابط الذي يشدّ الأمّة بعضها ببعض، ثمّ يربطها بما سبق وبما يأتي ... وعلى أيّ أساس يقوم ذلك الربط بنظر الإسلام؟
نعم، لابدّ من طرح هذا السؤال أوّلًا، ثمّ الإجابة عنه بوعي وموضوعيّة وعمق، إذ إنّ الإجابة عنه هي التي تحدّد اتّجاه العمل، وبها تنضبط كلّ المواقف والحركات الهادفة، من خلال الإحساس بالمسؤولية الشرعيّة والإنسانيّة والوجدانيّة، حيث تتوجّه الطاقات كلّها نحو تركيز تلك الأسس، وتحقيق هاتيك المنطلقات، التي لابدّ وأن تقوم عليها عمليّة الربط الضرورية التي تحدّثنا عنها.
وفي مجال المساهمة في التعرّف على ما ذكر، فإنّنا نشير إلى ما يمكن أن نعتبره يمثل رأي الإسلام في هذا المجال، بقدر ما تسمح لنا به الفرصة في عجالة كهذه ...
فنقول:
إنّنا إذا رجعنا إلى القرآن الكريم، ثمّ إلى سنّة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله فلسوف نجد أنّ الإسلام يعتبر الأمّة المؤمنة المسلمة بمثابة أسرة واحدة، لها قيّم ومربّ واحد، يشرف على شؤونها، ويدبّر أمورها، وهو النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله ثمّ وصيّه- عليه الصلاة والسلام- وقد روي عنه صلى الله عليه و آله قوله: «أنا وأنتَ يا عليّ أبوا هذه الأمّة». وبهذا المعنى أيضاً روايات كثيرة فلتراجع في مظانّها (1)
ص: 7
أمّا ما يشدّ هذه الأسرة بعضها ببعض، فهو روح الأخوة النبيلة، التي ليس فقط يغمرها العطف والمحبّة والحنان، وإنّما هي اخوّة مسؤولة، تتحمّل مسؤوليّاتها بوعي وحيويّة وعمق، تؤثّر آثارها الإيجابيّة على الصعيد العملي، والواقع الخارجي، كما قال سبحانه: إنّما المؤمنون إخوة، ثمّ فرّع على ذلك قوله:
فأصلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ (1)
.وفي موضع آخر نجده تعالى بعد أنّ قرّر القاعدة الأساسية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، نجده قد فرّع على ذلك قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ (2)
.وعن الصادق عليه السلام: «إنّما المؤمنون إخوة، بنو أبٍ وأمّ، وإذا ضرب على رجل منهم عرق لسهر له الآخرون» (3)
.وعنه عليه السلام: «المؤمن أخو المؤمن؛ عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه، ولا يغشّه ولا يعده فيخلفه» (4)
.وعنه عليه السلام: «المؤمن أخو المؤمن، كالجسد الواحد، إذا اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده» (5)
.وعنه صلى الله عليه و آله: «مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم» (6)
وبمعناه غيره، والروايات التي تدخل في هذا المجال كثيرة، لا مجال لتتبّعها وحصرها.
ص: 8
وبعد كلّ ما تقدّم ... وبعد أن تأكّد لدينا عالميّة الإسلام، وأنّه يسعى لإيجاد وحدة حقيقيّة، تقوم على أساس الأخوّة المسؤولة والواعية ... فإنّنا إذا راجعنا التاريخ الإسلامي، فلسوف نجد أنّ النبي الأعظم صلى الله عليه و آله حينما آخى بين المسلمين في المدينة قد جعل تلك الأخوّة مرتكزة على أمرين اثنين:
الأوّل: الحقّ.
الثاني: المواساة.
فعن طريق الحقّ يحصل التّفاهم، ثمّ الرّضا، ثمّ الثّقة المتبادلة، ثمّ يكون هو الفيصل في كلّ مقام تختلف فيه الأهواء والمصالح ...
فالحقّ هو الأساس الذي تقوم عليه العلاقات، وتبنى عليه المعاملات والمواقف، وليس هو المصالح الشخصيّة، ولا الأهواء والميول، ولا الانفعالات العاطفيّة، ولا هو المصالح القبليّية، أو الإقليميّة أو الفئويّة أو غيرها ...
وإذا جاء الحقّ عن طريق الإحساس بالمسؤولية الشرعيّة والإنسانيّة، وعن طريق الأخوّة والمحبّة والحنان، فإنّ ذلك أضمن لبقائه واستمراره؛ فإنّ الإنسان بطبيعته يخضع للحقّ إذا جاء عن هذا الطريق، بخلاف ما لو جاء عن طريق القهر والتحدّي والقوّة، والتلويح بالعصا، فإنّ علينا أن ننتظر غياب الحقّ بمجرّد غياب تلك العصا وهاتيك القوّة.
وعن طريق المواساة، التي هي في الحقيقة درجة أعلى من العدل؛ لأنّها تعني في أحيان كثيرة البذل والتضحية في سبيل الآخرين، والتخلّي عن كثير ممّا اكتسبه لشخصه عن طريق العدل، الذي يرجع في الحقيقة إلى الحقّ ...
نعم- عن طريق المواساة- تستطيع الأمّة المؤمنة مواجهة الظروف الطارئة، والتقليل من آثارها السلبيّة عليها. وكذلك مواجهة جميع أشكال الضغوط الّتي
ص: 9
يمكن أن يمارسها أعداؤها؛ أعداء اللَّه والإنسانيّة للقضاء عليها، أو على الطّاقة الإيمانيّة فيها مِن سياسيّة واقتصاديّة، وعسكريّة، وغيرها ...
وإذا كانت الوحدة الحقيقيّة التي يريدها الإسلام، هي تلك التي تقوم على أساس الأخوّة، التي ترتكز على الحقّ والمواساة. وهما عنصران واقعيّان يضمنان بقاءها واستمرارها، رغم كلّ ما يمكن أن يعترض مسيرة التكامل الإنساني فيها من مشاكل ومن عقبات.
وإذا كانت هذه الوحدة تحتاج إلى بذل الكثير من الجهد للوصول بالأمّة إلى درجة من النضج الفكريّ والإنسانيّ، ربّما لا يكون متوفّراً في أحيان كثيرة، حتّى إنّ عدم وجود هذه الوحدة يكون دليلًا على عدم النضج في الوعي وفي الالتزام لدى الأمّة المسلمة.
إذا كان كذلك، فتمس الحاجة- مرحلياً- إلى تعامل وحدويّ من أجل دفع الأخطار التي يمكن أن تتعرّض لها الأمّة في مسيرتها سواءٌ كانت أخطاراً طبيعيّة، أو من قبل أعدائها أعداء اللَّه والإنسانيّة.
وذلك لأنّ خطراً كهذا لا يتخيّر طائفة دون طائفة، ولا يختصّ بفريق دون فريق. وهذا يعني أنّ مسؤولية التصدّي له لا تختصّ كذلك بفريق دون آخر، ولا بطائفة دون أخرى
فإنّ وحدة المصير تحتّم وحدة النضال والتصدّي، وإذا استندت وحدة النضال والتصدّي إلى وحدة المنطلقات والأهداف، فإنّها تكون أعظم فعّالية، وأبعد أثراً ... وإلّا فإنّها لا تعدو عن أن تكون عملًا مرحليّاً، يسير معه جنباً إلى جنب العمل على توحيد المنطلقات والأهداف على الأسس الصحيحة والواقعيّة، التي
ص: 10
لابدّ وأن يتمّ التعرّف عليها من مصادرها الحقيقيّة، ثمّ العمل في سبيل تحقيقها والحصول عليها بوعي وجدّية ومثابرة.
فهذا الاتّحاد أو فقل هذا التعامل الوحدويّ، مطلوب إسلاميّاً، ومحبوب بمختلف أبعاده ودرجاته وعلى جميع المستويات. ولكنّه ليس هو كلّ المطلوب، وإنّما هو بديل اضطراري موقّت، لابدّ من القبول والرضا به بانتظار تحقيق الوحدة الحقيقيّة على اسسها الإسلاميّة والإنسانيّة الواقعيّة.
نعم، لابدّ من القبول بهذا البدل الاضطراري، الذي هو مطلوب ومحبوب إسلاميّاً أيضاً، إذ لا يمكن ترك الخطر يجتاح الأمّة الإسلامية ويلتهم كلّ مقدّراتها، ويستأصل شأفة الإسلام والمسلمين، بانتظار تحقيق الوحدة الحقيقيّة، بل لابدّ من التحرّك في المجالين معاً؛ لأنّ أحدهما ضرورة مرحليّة فعليّة، فرضتها الأخطار الجسام التي يتعرّض لها الإسلام والمسلمون، بالفعل، والآخر ضرورة إنسانيّة مصيريّة، ربّما تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، والبحث والتمحيص للحقائق العلميّة، ثمّ إلى تربية نفسيّة لخلق درجة من الاستعداد النفسي والسموّ الإنساني لتحقيقها.
وبديهي أنّ الحقّ واحد، وواحد فقط لا يمكن أن يتغيّر، أو يتبدّل إلّاإذا تغيّرت الظروف والأحوال، التي لابدّ وأن تبرّر وجود حقّ آخر ينسجم مع واقع المتغيّرات والظروف الموضوعيّة الطارئة. أمّا الباطل، فليس إلّاتعبيراً آخر عن العدم والفساد، والنقص في تجلّي الحقّ وحضوره، ولا أثر له إلّاذلك في الواقع على المدى القريب والبعيد على حدٍّ سواء.
وإذا كان كذلك، فإنّه لابدّ من السعي لإحقاق الحقّ؛ لأنّه خير وسعادة
ص: 11
وحياة، وإبطال الباطل؛ لأنّه شرّ وفساد وممات. ولا يختصّ إدراك هذه الحقيقة بأحدٍ دون أحد، ولا بفريق دون آخر. وإن كان النّاس، ربّما يختلفون في تعيين ما هو حقّ وما هو باطل، وذلك تبعاً لاختلافهم في النظرة إلى الكون وإلى الحياة، الذي ينشأ عنه اختلاف في المقاييس والمعايير التي لابدّ من الاستفادة منها في مجال التعرّف على كلّ منهما، وليتّخذ بالتالي موقف الرفض أو القبول على هذا الأساس ...
بل إنّنا يجب أن لا نستغرب كثيراً إذا رأينا؛ أنّه حتّى أولئك الذين يملكون نظرة واحدة، للكون وللحياة، ويتّفقون في تفسيرهم لأحواله، ولظواهره- حتّى هؤلاء- نجدهم يختلفون في كثير من آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم؛ وذلك تبعاً لاختلاف درجة انكشاف واقع الظروف والأحوال المحيطة بهم لديهم ... الأمر الذي يُؤثر- بشكل أو آخر- في ذلك الفكر، أو في ذلك المفهوم، وكذلك تبعاً للتفاوت الحاصل فيما بينهم في قوّة الإدراك، وفي التصرّف في المدركات التي يمكنهم الحصول عليها، وتمحيصها. هذا كلّه ... عدا أنّ اسلوب العرض ربّما يكون غير قادر على توفير الحدّ الأدنى من الإقناع؛ لأنّ منطلقات الإقناع فيه لم تكن تعتمد على قواسم مشتركة، كان لابدّ من تمحيصها، وحسم الأمر فيها مسبقاً ... إلى غير ذلك من أسباب يمكن أن تؤثّر في ذلك بصورة أو بأخرى
بل؛ وليس غريباً أيضاً: أن نجد البعض ينكشف له خطؤه في رأيه، أو في موقفه- ثمّ يصرّ عليه، ولا يتراجع عنه. ولا يخضع للحقّ الأبلج. وقد نتلمس له بعض العذر في ذلك، إذا وجدناه يخضع في ذلك لتأثيرات عاطفيّة، أو واقع اجتماعيّ خاصّ، أو حتّى بسبب النقص في اسلوب إظهار الحقّ له، وعرضه عليه.
أمّا أن نجد البعض يقيم الدنيا ويقعدها، ويرمي هؤلاء وأولئك ممّن لا يتّفقون معه في الرأي بشتّى أنواع التّهم والافتراءات، وحتّى بالزندقة والالحاد والشرك؛
ص: 12
فذلك أمر غير طبيعي، وغير مقبول على الإطلاق.
وأعظم من ذلك، أن نجده يفعل ذلك، وهو يعلم أنّه هو المخطئ، وهم، هم المحقّون؛ فذلك هو الأمر الغريب والعجيب حقّاً.
نقول: هذا، على سبيل ضرب القاعدة، وإعطاء الضابطة فقط. وليس إلّا ...
ولا نريد التعريض بأحد، ولا المسّ بعواطف أيّ كان.
هذا، ومن المضحك المبكي أن نجد المستعمر الكافر ينصب نفسه حكماً في المسائل الإسلامية؛ الاعتقاديّة منها والفقهيّة، فيؤيّد وجهة نظر فريق (وهو الذي يتعامل معه) ضدّ الفريق الآخر، حرصاً منه على زرع الفتنة في الأمّة الإسلامية، ومن أجل الحفاظ على تلك القواعد والمنطلقات الفكريّة، التي سرّبها الأعداء بصورة أو بأخرى إلى أذهان بعض المسلمين؛ لأنّها تخدم مصالحهم، وتمكّن لهم من الحفاظ على الامتيازات التي جعلوها لأنفسهم، وتساعدهم على تنفيذ خططهم الرامية إلى الاستمرار في تأزيم العلاقات فيما بين المسلمين أنفسهم، حتّى لا يمكنهم التفكير بأي مظهر من مظاهر الوحدة، بل الاتّحاد أيضاً. بل هم يعملون على تجنيد الفريق الذي يتعامل معهم لمحاربة أي شكل من أشكال الوحدة أو الاتّحاد في جميع أنحاء العالم، والعمل على أن لا يمرّ ذلك بخيال أيّ إنسان على الإطلاق.
هذا، وإنّ ممّا يؤلم حقّاً أن نجد بعض الذين يحكمون المسلمين باسم الإسلام يوادّون من حادّ اللَّه، ويسيرون في ركاب المستعمر الكافر وهم في نفس الوقت ينصبون العداء لإخوانهم المسلمين، ويحاربونهم بكلّ ما أوتوا من قوّة وحول،
ص: 13
متذرّعين بحجج واهية وأقاويل خاوية أبرزها: أنّ إخوانهم المسلمين لا يقبلون بوجهة نظرهم في بعض المسائل الفرعيّة، أو في بعض التفصيلات العلميّة في بعض المسائل الاعتقاديّة غير مكلّفين أنفسهم عناء البحث في الحجج التي يستندون إليها، ولا ملتمسين لهم أيّ عذر في ذلك على الإطلاق. مع أنّهم يملكون من الحجج القويّة على ما يذهبون إليه الشي ء الكثير. ومع أنّ مسألة الموادّة للمستعمر الكافر تفوق في خطرها على الإسلام وعلى المسلمين كلّ خلاف مذهبي، حتّى في كثير من الاعتقاديّات فضلًا عن خلاف في مسألة فرعيّة، لا خطر لها إطلاقاً بالقياس إلى ذلك الخطر الداهم.
حيث إنّها لا تعدو عن أن تكون خلافاً بين المجتهدين في فهم الإسلام، وهم لا يتحرّون إلّاالحقّ والواقع، ورضا اللَّه سبحانه، ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا؛ فإن أخطأوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران.
فلماذا لا يكون التعامل بهذه الروحيّة، وعلى أساس من أخلاقيّات الإسلام السامية بعيداً عن نزوات الأهواء، وفي منأى من تأثيرات العواطف غير المتّزنة ولا المسؤولة، والتي يكون المستفيد الوحيد منها هو العدو المشترك، المتمثّل بقوى الكفر والاستكبار العالمي؟
ولقد بذل المخلصون من العلماء والمفكّرين على مرّ العصور، محاولات كثيرة للتقريب بين المسلمين، وتفاهمهم، وتقريب وجهات النظر فيما بينهم. ونستطيع أن نذكر كمثال على ذلك في خصوص الآونة الأخيرة مبادرة المرحوم آية اللَّه العظمى السيّد حسين البروجردي- قدّس اللَّه نفسه الزكيّة- إلى تأسيس دارالتقريب، ثمّ كذلك فتوى الشيخ شلتوت بصحّة التعبّد بالمذهب الجعفري. ولابدّ من التخصيص
ص: 14
بالذكر هنا جهود آية اللَّه العلّامة الكبير السيّد عبد الحسين شرف الدين الذي ألّف كتابه الهامّ «المراجعات»، وكذلك كتابه القيّم: «الفصول المهمّة في تأليف الأمّة»، وقد ذكر فيه الكثير الكثير ممّا يساعد على التقريب والتفاهم بين المسلمين، فضلًا عن نبذة هامّة جدّاً من أقوال أشهر أئمّة المذاهب الاعتقادية والفقهية، وجلّة العلماء فيما يتعلّق بالشيعة.
أما .. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فقد كانت الوحدة الإسلامية هي الشغل الشاغل لكلّ المسؤولين فيها. ولعلّ أعظم النّاس إصراراً على هذا الأمر وتأكيداً عليه هو إمام الأمّة، وقائد المستضعفين، آية اللَّه العظمى السيّد الخميني العظيم رضوان اللَّه عليه. وقد بذلت العديد من المحاولات في هذا السبيل. وأعطت نتائج إيجابيّة وطيّبة، رغم المحاولات المستميتة من قبل أعداء الإسلام وأذنابهم في سبيل ضرب كلّ تحرّك في هذا الاتّجاه. وعلى الصعيد الفكري، فإنّ المحاولات كانت كثيرة أيضاً ومتنوّعة، ومنها إقامة العديد من المؤتمرات، وكتابة البحوث الكثيرة وغير ذلك، ولا بأس بالتنويه هنا بعمل جيّد وهامّ بادر إليه بعض الإخوة، حيث قام بجمع الروايات المشتركة لدى أهل السنّة والشيعة على حدّ سواء، ونظّمها وبوّبها وذكر مصادرها، وينشر ذلك على شكل مقالات في مجلّة «التوحيد» التي تصدر عن مؤسسة الإعلام الإسلامي في إيران. وهذه المبادرة تظهر بما لا يدع مجالًا للشكّ: أنّ أكثر من تسعين بالمئة من الروايات التي عند السنّة والشيعة تشترك فيما بينها، إمّا لفظاً، ومعنى أو معنًى على الأقلّ.
وما أروعها- لو أنّ العلماء بادروا إلى تشكيل لجان مشتركة لدراسة الموضوعات المتّفق عليها أوّلًا، وتمييزها، ثمّ دراسة المسائل الخلافيّة، بروح علميّة نبيلة، تهدف إلى رضا اللَّه سبحانه، وخدمة الإنسان والإنسانيّة! فعسى ولعلّ، وما ذلك على اللَّه بعزيز.
ص: 15
ولعلّ أهمّ ما يحتاج إليه أمر كهذا، هو الثقة المتبادلة، والروح العلميّة والرياضيّة المرنة، والإحساس بالمسؤولية الشرعيّة والوجدانيّة، والعواطف الإنسانيّة النبيلة.
وبعد كلّ ما تقدّم، فإنّ بيان الحقائق وتمحيصها، وتهيئة المبرّرات الموضوعيّة لخلق القناعات الكافية، وتوحيد النظرة والفكر والاعتقاد يعتبر من أعظم المساهمات في تحقيق الوحدة؛ لأنّ ذلك من شأنه أن يساهم في إرساء قواعد الحقّ، الذي هو أحد أهمّ عنصرين تقوم عليهما الأخوّة، التي أرادها اللَّه منطلقاً للوحدة الحقيقيّة، وضماناً لاستمراريتها.
وهذا الكتاب «التبرّك، تبرّك الصحابة والتابعين، بآثار الأنبياء والصالحين» فريد في بابه، فذّ في موضوعه، ويستطيع أن يساهم بشكل قويّ في قضيّة الوحدة الإسلامية؛ لأنّه يتكفّل ببيان الحقّ في مسألة طالمادار الجدل حولها. وهو يعتمد البحث العلمي الموضوعي والنزيه أساساً ومنطلقاً في تقييمه للنصوص التي تدخل في إطار البحث الذي هو بصدده. حيث أخذ على عاتقه معالجة موضوع التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين بموضوعيّة وتجرّد وهدوء بعيداً عن أيّ تأثّر أو انفعال.
وإنّ حجم ما يقدّمه هذا الكتاب من موادّ ومصادر لهذا البحث- وهو ضخم وهائل جدّاً- وإن كان ليس هو كلّ ما يمكن تقديمه في هذا المجال، ليعبّر عن مدى ما تحمّله المؤلّف من مشاقّ، وما عاناه من جهد، وما تحلّى به من صبر وأناة في هذا السبيل. فجزاهُ اللَّه أحسن جزاء العالمين العاملين. ونفع اللَّه المسلمين بما كتبه ويكتبه من بحوث وما يقدّمه من خدمات جُلّى للحقّ والخير، وللعلم والفضيلة.
وإنّ هذا الكتاب إن دلّ على شي ء فإنّما يدلّ على إصرار هذه الثلّة من العلماء
ص: 16
المخلصين على تحقيق الوحدة الإسلاميّة الحقيقيّة، وإقامتها على أسسها الموضوعيّة الصحيحة والقويّة.
كما أنّ هذه الكمّية الهائلة من الشواهد والدلائل التي حشدها المؤلّف في هذا الكتاب؛ لتدلّ دلالةً واضحةً على أنّ مسألة التبرّك بآثار الأنبياء والأولياء والصالحين، تكاد تكون من ضروريّات الإسلام الأوّلية، التي لا مجال لأيّ شك أو شبهة فيها. ولأجل ذلك نجد أنّ معظم المسلمين، يمارس هذا الأمر، ويتبرّك بآثار الأنبياء والصالحين، غير أنّ جماعة صغيرة شذّوا عن هذا الأمر ومنعوا من ذلك.
وذلك بفعل الشعارات البرّاقة التي أطلقها بعض علمائهم (1) ومنعتهم من التركيز في البحث، ومن الدقّة في مواقفهم وفي ردود فعلهم تجاه الآخرين.
ونحن لا نريد أن نتّهم أحداً ولا أن نسيئ الظنّ بأحد في كونه يريد التقليل من أهمّية وقدسيّة شخصيّة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله كما كانت سياسة الأمويّين من قبل، فإن جلّ هؤلاء، إن لم يكن الكلّ ينساق وراء تلك الشعارات بدافع إيمانيّ صادق، ومن منطلق الغيرة على الدين وأحكامه.
وقد أظهر عمر بن الخطاب للملإ أنّ هذا بالذات كان هو المنطلق له حينما قطع الشجرة التي بايع المسلمون النبيّ عندها وكانوا يتبرّكون بها، فلقد قال: إنّه خشي أن تصير تلك الشجرة معبوداً يعبد من دون اللَّه سبحانه.
وواضح أنّ ذلك لا يدلّ على أنّه يذهب إلى حرمة التبرّك، ولاسيّما أنّه هو نفسه يتبرّك بتقبيل الحجر الأسود، ويتبرّك بإحضار الإمام الحسن وعبد اللَّه بن عبّاس في الشورى (2)، ويتبّرك أيضاً بتقبيل رجل النبيّ وتقبيل رجل أبي عبيدة، وغير ذلك كثير عنه، مذكور في ثنايا هذا الكتاب عن جملة كبيرة من المصادر.
ص: 17
وحتّى لو فرض أنّه يدّعي ذلك- يعني حرمة التبرّك- فإنّ رأيه هذا لا يمكن أن يقدّم على سنّة النبي صلى الله عليه و آله والتي فعلها وجرى عليها العشرات بل المئات من الصحابة والتابعين.
وبعد، فإنّنا نأمل من هؤلاء ومن كلّ من يختلفون مع غيرهم في الرأي: أن يعطوا الفرصة للآخرين؛ ليقولوا كلمتهم، وأن يسمحوا لأنفسهم بالنظر في تلك الكلمة، وتعقّلها، ومحاكمتها على أسس علميّة صحيحة، فإن وجدوا فيها ما يجدي وما يقنع أفسحوا لها المجال، وإلّا فما عليهم إلّاأن يردّوها بالأسلوب العلمي الهادئ والنزيه.
ونأمل كذلك أن لا يتبعوا أُسلوب فرض الرأي بالقوّة والقهر، فإن من أبسط نتائج ذلك هو أن يؤدّي إلى التشبّث الأعمى فيما يراد الردع عنه، ولا يبقى مجال للمناقشة والحوار، فضلًا عن أنّ ذلك يوجب ردود فعل عنيفة وغير مسؤولة وعن تشنّجات عاطفيّة لا مبرّر لإثارتها.
مع أنّ اللازم، على أولئك الذين ينصبون أنفسهم حكّاماً على آراء الآخرين ومعتقداتهم هو أن يفسحوا المجال لمحاكمة آرائهم ومعتقداتهم أنفسهم، وتقييمها على أسس علميّة موضوعيّة وسليمة.
ويتأكّد ذلك إذا كانت تلك الآراء والأفكار والمعتقدات موضوعة في قفص الاتّهام منذ نشأتها، ويُشكّ كثيراً في صحّتها وسلامتها.
وأمّا أن يتبعوا أسلوب العربدة والتهويش، ثمّ الترديد للشعارات نفسها، مع عدم أخذ الردود العلميّة القويّة الكثيرة بنظر الاعتبار، فذلك يكون أوّل دليل على عجزهم وإفلاسهم على الصعيد العلمي، وعدم قدرتهم على مواجهة المنطق
ص: 18
بالمنطق، والحجّة بالحجّة والبرهان بالبرهان.
فإنّه إذا كانت تلك الردود العلميّة صحيحة، فلماذا العود لتكرار كلام ثبت عدم صحّته منذ مئات السنين؟! وإن كانت باطلة، فلماذا لا يبيّن بطلانها للملإ بالأسلوب العلمي المقنع والهادئ والرصين، لا بأساليب الشتم والسباب، والاتّهام الباطل والزائف؟!
وإنّنا لعلى يقين من أنّه إذا استطاع الأسلوب العلمي أن يفرض نفسه ويهيمن على جميع المواقف، وما ينشأ عنها من ردود فعل. فلسوف يكون من أبسط نتائجه هو أن لا يسمع من هؤلاء نفس الكلام ونفس الشعارات التي لا يزالون يردّدونها منذ مئات السنين، والتي أقام العلماء البراهين العلميّة الكثيرة على زيفها وعدم صحّتها، وعدم انسجامها مع الإسلام والقرآن، وعلى منافرتها لأحكام العقل والوجدان.
وفّقنا اللَّه سبحانه للسير على هدى الإسلام والقرآن، وأعاننا على أنفسنا، وهدانا إلى صراطه القويم، إنّه وليّ قدير، وبالإجابة حريّ وجدير.
23/ جمادى الأولى 1404 ه. ق.
جعفر مرتضى العاملي- نزيل قم المقدّسة
ص: 19
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الحمد للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمّد خاتم النبيّين وآله الطاهرين الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؛ ولا سيّما وليّ اللَّه الأعظم وبقيّة اللَّه في الأرض صاحب الزمان، عجّل اللَّه تعالى فرجه وسهّل مخرجه وجعلنا من شيعته وأعوانه.
واللّعن على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
وبعد: فهذه هي الطبعة الثانية لكتاب «التبرّك» تبرّك الصحابة والتابعين بآثار النبي صلى الله عليه و آله والصالحين، نقدّمها إلى القرّاء الكرام بعد أن نفدت نسخ الطبعة الأولى أو كادت.
وإنّنا إذ نسأل اللَّه تعالى أن ينفع به المسلمين ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، نتمنّى من القرّاء الكرام والعلماء الأعلام والمحقّقين الباحثين أن يتحفونا بملاحظاتهم وآرائهم حول هذا الكتاب نصيحةً للمؤمن وحرصاً على إحياء الحقّ.
كما أنّنا نودّ أن نشير هنا إلى أنّنا وإن كنّا قد ذكرنا في هذا الكتاب مقداراً هائلًا
ص: 20
من النصوص الدالّة على هذا الموضوع، إلّاأنّنا نلاحظ أنّ ما لم نذكره من النصوص والمصادر التي تدلّ على ذلك، أو ترتبط به وتشير إليه ... هو أيضاً مقدار كثير وهائل جدّاً ... حتّى لقد استقرّ في أنفسنا أنّ الإحاطة بكلّ ما يرتبط بذلك، لأمر تضيق عنه القدرة، بل وتعجز عنه العصبة أولو القوّة من المحقّقين والباحثين.
بل ويمكن القول بملاحظة ذلك: إنّ التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين ليعتبر من الأمور التي ربّى الإسلام به أمّته وبنى الإسلام عليه بنيانه، حتّى أصبحت جزء اً من واقعهم وأصلًا من اصول حياتهم، وأصبح لديهم في عداد الضروريّات التي لا مجال للشكّ ولا يمكن الترديد فيها.
ولأجل ذلك ... فإنّنا إذ نطلب من أولئك الذين يمانعون في ممارسة هذا الأمر ويعتبرونه شركاً وكفراً أن يكفّوا عن إهانة المسلمين، وعن محاولاتهم وإجبارهم على أمر يرونه خلاف الشرع والدين، وأن يخضعوا لما ثبت في السنّة من عمل النبيّ صلى الله عليه و آله والصحابة وإن أسلموا فقد اهتدوا.
إنّنا إذ نطلب منهم ذلك، فإنّنا نطالبهم بأن يعيدوا النظر في هذا الأمر، ويقوموا بدارسته من جديد بعقليّة منفتحة وبوجدان حيّ، بعيداً عن مزالق الهوى ودواهي التعصّب البغيض المقيت، وبعيداً أيضاً عن الجوّ الانفعالي الذي تساهم في إيجاده بعض الشعارات البرّاقة التي لم تمحص ولم تدرس، أو لم يمكنهم فهمها فهماً علميّاً صحيحاً.
ويكفي أن نذكّر هؤلاء هنا أنّنا لم نستطع أن نجد التفسير الصحيح والواضح لظاهر مقاومتهم الشديدة لهذا الأمر، وحرصهم الظاهر على منع المسلمين من التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين، وهو الأمر الذي يدعمه هذا القدر الهائل من النصوص التي يتعذّر جمعها والإحاطة بها على الثلّة من العلماء والباحثين في زمان طويل.
ص: 21
مع أنّنا نجدهم في نفس الوقت يتشبّثون بالطحلب (1) لعقائدهم الخطيرة الّتي تخالف العقل والقرآن والإسلام، كعقيدة التجسّم للَّه سبحانه، وعقيدة الموالاة للحاكم الجابر، بل والولاية للمستعمر الكافر أيضاً، وغير ذلك.
ومن الطريف في الأمر هنا، أنّنا نجدهم يعتبرون التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين أمراً منافراً للتوحيد ومبايناً له، وأنّه كفر وشرك وعبادة لغير اللَّه، مع أنّهم نسوا أو تناسوا أو لم يفهموا معنى التوحيد على حقيقته؛ فإنّ المراد منه هو أن يكون كلّ شي ء للَّه ومن أجله وفي سبيله. فإذا كان التبرّك برسول اللَّه صلى الله عليه و آله ووليّه لأجله وعلى طريق الوصول إليه، فإنّه ليس فقط لاينافي التوحيد، وإنّما يؤكّده ويزيده عمقاً وأصالةً وكمالًا.
وقد سمعنا من بعض الفضلاء في بحثه مع بعض هؤلاء قد استدلّ على جواز التبرّك وردّ قول الخصم بأنّ قبر النبيّ صلى الله عليه و آله لا يضرّ ولا ينفع، استدلّ عليه بقوله تعالى بالنسبة لقميص يوسف: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً (2)
، وقال له: قميص يوسف يضرّ وينفع وقبر النبي صلى الله عليه و آله لا يضرّ ولا ينفع؟!! فلم يحر جواباً.
وعلى كلّ حال، فإنّنا نعود ونكرّر القول والدعوة لهؤلاء: أن يراجعوا أنفسهم وكتبهم، وأن يكفّوا عن مضايقتهم للمسلمين وإهانتهم لهم ومخالفتهم للَّه ولرسوله وللصحابة الكرام وجميع علماء الإسلام إلّاشرذمة قليلة، وأن ينتهوا عن متابعتهم لمروان ومن يحذو حذوه من الأمويّين؛ فإنّ في ذلك الخير لهم والسلامة في الدنيا وفي الآخرة؛ وذلك لأنّ خلاف النصوص القطعيّة وإجماع الصحابة وعلماء الإسلام لا يخفى غيّه، ولأنّ حرمة المؤمن عند اللَّه عظيمة بل ولا أعظم منها.
ص: 22
هذا كلّه، عدا أنّ ذلك سوف يساهم- ولا شكّ- في وحدة المسلمين وتآلّفهم أو تقريب قلوبهم وجعلهم يداً واحدة على من سواهم من أعدائهم الذين يتربّصون بهم الدوائر ويبغون لهم العوائل كما قال اللَّه تعالى ... لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ... (1)
.وفّقنا اللَّه للسير على هدى القرآن والإسلام، واللَّه وليّنا وهو الهادي إلى سواء السبيل.
13 محرّم الحرام 1405
علي الأحمدي الميانجي
ص: 23
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الحمد للَّه على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته سيّد المرسلين وخاتم النبيّين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين واللّعن على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد: فقد ابتلي المسلمون، منذ فقدوا نبيّهم محمّداً صلى الله عليه و آله، بافتراق وخلاف، وتحزّب وتشتّت، خلافاً لما أكّده الكتاب والسنّة من الاعتصام بحبل الدين، وحفظ وحدة الإسلام وكيان المسلمين. إذ به عزّهم وشوكتهم وقوّتهم وصولتهم.
فاختلفوا وكان ذلك سبب ذلّهم وذهاب عزّهم وانهدام مجدهم. فصاروا عبيداً لأعدائهم، وخربوا بأيديهم وبأيدي أعدائهم دورهم وديارهم.
ومن المؤسف أنّه كلمّا مرّ عليهم الزمان وقرعتهم سياط العذاب والحدثان وأحاط بهم البلاء وشملهم الذّل والعناء، وفقدوا كلّ نعمة من عزّ ومنعة وهيبة وقدرة، يزداد ابتعادهم عن بعضهم البعض بدل التعاون والتعاطف، ويتفاقم تشتّتهم بدل الوحدة والتعاضد، ويقع بأسهم بينهم رغم اجتهاد المصلحين ونصيحة أولي الألباب المنذرين، وهذا واللَّه البوار والسقوط، وهذا هو ضرب الذلّ عليهم من اللَّه المنتقم جزاءً لأعمالهم القبيحة وعصيانهم وطغيانهم.
ص: 24
ومن المؤسف بل وممّا يزيد ألماً وأسفاً أيضاً أنّهم يجعلون الخلاف في المسائل الفرعيّة في مستوى الخلاف في المسائل الأصوليّة، فيكفّرون من أجلها بعضهم بعضاً وتلعن أمّة أختها، ويتبرّأ جيل من جيل، والأمر كذلك يجري ما جرى الليل والنهار ما دام الحكم للأهواء والاتّباع للعصبيّة العمياء من دون أيّ خضوع للحقّ وتسليم النفس، والأمر للَّه سبحانه.
وممّا يوجب الهمّ والأسى أنّ الخلاف قد يقع في أمور لا أصل لها بل كلّها بهتان وفرية واختلاق وكذب، فيبهت بعضهم بعضاً، ويفتري بعض على بعض، فمن أجل هذه الكذبة وتلك الفرية، يلعنون ويكفّرون دون أن يحملوا فعل أخيهم على الصحة أو يتثبّتوا ويتفحّصوا حتّى يتبيّنوا وينجلي لهم الحقّ ويتّضح لهم الواقع.
وذلك هو ما نقرؤه في الكتب المؤلّفة والمقالات والمنشورات والمجلّات الدينيّة من الفرق المختلفة، فنجد فيها كلّ فرية وبهتان والعزو الباطل والاختلاق المحض يرمي بها بعضهم بعضاً إطفاءً لنار هواه وتشفّياً لغيظه وحنقه وبغضه، وذلك بدلًا عن الالتزام بقوله تعالى أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (1)
.ومن غريب ما شاهدناه في الحرمين الشريفين- مكّة المكرّمة والمدينة الطيّبة- أنّ كلّ فرقة تنظر إلى الأخرى بعين تحقير وتذليل وشزر وتضليل ولا سيّما إلى الشيعة الإماميّة الاثني عشرية أتباع أهل البيت عليهم السلام فإنّهم لا يسلمون من الأذى والتحقير والشتم والبهت والتكفير.
ومن المسائل الفرعيّة التي كانت مثاراً للحوار والجدل والخصام مسألة التبرّك بآثار الرسول الأقدس صلى الله عليه و آله مثل منبره وقبره ومشاهده، وكذا التبرّك بمشاهد الصلحاء، والصلاة والدعاء فيها، وتقبيل القبور والأعتاب، ولمس الضرائح والأبواب، حيث إنّ فرقة قليلة شذّت عن المسلمين، وشرذمة ضلّت عن نهج
ص: 25
الدين، فأضلّت الكثيرين من المسلمين، وتبعهم جمع من الكتّاب والمؤلّفين، فكفّروا المسلمين، وضلّلوهم، وقذفوهم بالشنايع، ورموهم بالقبائح، وبهّتوهم إلى ما لا حدّ له.
وخصّوا من بين المسلمين الشيعة الإماميّة، فقذفوهم بكلّ بهتان، وافتروا عليهم قبائح وخرافات لا أصل لها، حتّى صار الآن شعاراً سياسيّاً لهم، بعيداً عن أيّ رأي دينيّ أو مذهبيّ، مع أنّ علماء الإسلام المحقّقين كتبوا في ذلك كتباً كثيرة وأوضحوا جوازه وبرهنوا عليه بالكتاب والسنّة المتواترة، وأتعبوا أنفسهم في بيان الحقّ وإيضاح المطلب، إن كان هناك آذان تسمع، أو قلوب تعقل وتخضع.
وقد رأيت كتاباً ألّفه بعض علماء الحرم الشريف (مكّة المشرّفة زادها اللَّه شرفاً) وأسماه «تبرّك الصحابة بآثار الرسول» صلى الله عليه و آله فنهج فيه نهجاً بديعاً حيث أورد فيه عمل الصحابة- رضي اللَّه عنهم- وعمل الرسول صلى الله عليه و آله أو تقريره لهم، وأوضح كون التبرّك أمراً مسلّماً عندهم لا شكّ فيه ولا ريب، فجرى ذكر الكتاب مع بعض الأصدقاء المحقّقين والفضلاء المدقّقين حفظه اللَّه تعالى للإسلام والمسلمين، فرغّبني وشوّقني وحثّني على تأليف كتاب يشتمل على تبرّك الصحابة والتابعين- رضي اللَّه عنهم- بآثار الرسول صلى الله عليه و آله، في حياته، وبعد موته، والاستشفاء والاستشفاع به وبآثاره صلى الله عليه و آله، بل بآله وذويه، وسائر الصلحاء والعلماء من المسلمين، وجامع لأوامر النبيّ صلى الله عليه و آله وتقريراته وحثّه وترغيبه في ذلك.
وغرضه هو جمع أخبار وأحاديث تزيد على ما جمعه هذا المؤلّف مع تحقيق وتتبّع أدقّ وأكثر.
فامتثلت أمره وأجبت سؤله، فسبرت كتب الحديث والتاريخ والتراجم، فاجتمع عندي بحمد اللَّه سبحانه وتعالى من الأحاديث والأخبار والمصادر والآثار الشي ء الكثير، فجاءت بهذه الصورة وأهديها إلى القرّاء الكرام وطلّاب الحقيقة
ص: 26
أداءً لواجب الخدمة والنصيحة للإسلام والمسلمين، وإرشاداً إلى الحقّ المبين، وهدايةً إلى الصراط المستقيم.
وأرجو من اللَّه سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ونافعاً حافظاً لوحدة المسلمين ولو في فرع من فروع الدين، وهو من نعم اللَّه سبحانه عليّ، وكم من نعماء له عليّ لا أحصيها، وآلاء لا أقدر على شكرها!
وقد اتّضح لي بعد جمع هذه الأحاديث كون جواز التبرّك بآثار الرسول صلى الله عليه و آله عند الصحابة- رضي اللَّه عنهم- من أوضح الواضحات، وأبده البديهيّات، وأنّ كثيراً منه قد وقع بأمر النبيّ صلى الله عليه و آله، وتضافر ذلك وتواتره يمنع من ردّ وإنكار، ولا مساغ لأيّ مسلم إلّاقبوله والتعبّد به.
وأسأل اللَّه سبحانه أن ينفع به إخواني المسلمين، ويفتح قلوبهم لعرفان الحقّ وقبول الصدق، ويجمع به كلمتهم ويشدّ به عضدهم.
ويتبع الكتاب ما جمعناه من الأحاديث في التوسّل والاستشفاع والاستشفاء بالنبيّ صلى الله عليه و آله، وكذا تقبيل الضرائح والأعتاب، وإن كنّا تعرّضنا لأبحاث التوسّل والاستشفاع والاستشفاء في هذه الوجيزة بمقدار يكفي للمتدبّر المنصف إن شاء اللَّه تعالى
وفي الختام أهدي شكري المتواصل، وثنائي العاطر إلى صديقي العالم الفاضل العلّامة المتتبّع الحجّة السيّد جعفر مرتضى العاملي اللبناني على ما عاناه في سبيل تأليف هذا الكتاب من ترغيب وتشويق وتصحيح وتنظيم وتهيئة مصادر ومطالب. فجزاه اللَّه سبحانه عن الإسلام وأهله خير الجزاء ومتّع اللَّه المسلمين ببقائه إن شاء اللَّه تعالى
مساء 14 شعبان المعظّم 1398 ه.
علي الأحمدي
ص: 27
ص: 28
ص: 29
تبرّك الصحابة بآثار الرسول صلى الله عليه و آله
- تحنيك الأطفال
- مَن حنّكهم الرسول صلى الله عليه و آله أو تفل في أفواههم أو مسح رؤوسهم
- نظرة في الأحاديث
التبرّك بمسّه ومسحه صلى الله عليه و آله
- نظرة في الأحاديث
التبرّك بدمه صلى الله عليه و آله
- نظرات في الأحاديث
ص: 30
ص: 31
تبرّك الصحابة بآثار الرسول صلى الله عليه و آله
التأمّل التامّ في عمل الصحابة- رضي اللَّه عنهم- يمثّل لنا عقيدتهم في النبي صلى الله عليه و آله وفي آثاره، كما أنّ كتب التاريخ والسيرة والحديث تمثّل لنا كيف كانوا يعاشرون الرسول صلى الله عليه و آله ويقدّسونه ويتبركون به في كلّ شؤونه، إذ من المسلّم المقطوع به من أفعال الصحابة الكاشفة عن عقيدتهم في الرسول؛ أنّ كلّ مولود يولد لهم- منذ قدومه صلى الله عليه و آله المدينة الطيّبة- كانوا يأتون به إليه فيحنّكه ويمسح رأسه ويتفل في فيه ويبرّك عليه، يرون أنّه بذلك قد أصبح مباركاً، وكانوايتباهون بذلك ويفتخرون به.
هذا ابن حجر في الإصابة 1: 5، يحكم بأنّ كلّ مولود ولد في حياته صلى الله عليه و آله رآه؛ وذلك لتوفر دواعي إحضار الأنصار أولادهم عند النبيّ صلى الله عليه و آله للتحنيك والتبرّك، ونقل ذلك جمّ غفير من أعلام السنّة والحديث والتاريخ، بل قيل: إنّه لما افتتح مكّة جعل أهل مكّة يأتون إليه (يأتونه- الاستيعاب والإصابة) بصبيانهم يمسح على رؤوسهم ويدعو لهم بالبركة (1)
ص: 32
وقال العلّامة المحقّق محمّد طاهر بن عبد القادر:
«ولا شكّ أنّ آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صفوة خلق اللَّه وأفضل النبيّين، أثبت وجوداً وأشهر ذكراً وأظهر بركةً فهي أولى بذلك- يعني التبرك- وأحرى وقد شهدها الجمّ الغفير من أصحابه وأجمعوا على التبرّك بها، والاهتمام بجمعها، وهم الهداة المهديون والقدوة الصالحون، فتبرّكوا بشعراته وبفضل وضوئه وبعرقه وبثيابه وآنيته وبمسّ جسده الشريف، وبغير ذلك ممّا عرف من آثاره الشريفة التي صحّت به الأخبار عن الأخيار.
فلا جرم كان التبرّك بها سنّة الصحابة- رضي اللَّه عنهم- واقتفى آثارهم في ذلك من نهج نهجهم من التابعين والصالحين.
وقد وقع التبرك ببعض آثاره صلى الله عليه و آله في عهده وأقرّه ولم ينكر عليه، فدلّ ذلك دلالة قاطعة على مشروعيته، ولو لم يكن مشروعاً لنهى عنه وحذّر منه.
وكما تدلّ الأخبار الصحيحة وإجماع الصحابة على مشروعيته تدلّ على قوّة إيمان الصحابة وشدّة محبّتهم وموالاتهم ومتابعتهم للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله على حدّ قول الشاعر:
أمرّ على الدّيار ديار ليلى أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا (1)»
ولنعم ما قال هذا العالم المحقّق. ولكن التبرّك وقع بجميع آثاره- كما يأتي- لا بعضها، وأقرّهم صلى الله عليه و آله على ذلك بل أمرهم ورغّبهم به وحثّهم عليه، واستمرّ عمل الصحابة عليه على وفق ما يعتقدون ويرون.
وما ورد في تحنيك أولادهم- كما أشار إليه ابن حجر- أكبر شاهد على عمل
ص: 33
الصحابة وعمله صلى الله عليه و آله وإقراره إيّاهم عليه.
فهاك نصوص العلماء وألفاظ الأحاديث:
1- قال ابن حجر في ترجمة عتيك بن بلال الأنصاري: «فله على أقل الأحوال رؤية لتوفّر دواعي الأنصار على إحضار أولادهم حين يولدون إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فيحنّكهم ويدعو لهم» (1).
2- وقال: فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه و آله لبعض الصحابة من النساء والرجال ممّن مات صلى الله عليه و آله وهو في دون سنّ التمييز، إذ ذكر أولئك في الصحابة إنّما هو على سبيل الإلحاق لغلبة الظنّ على أنّه صلى الله عليه و آله رآهم لتوفّر دواعي أصحابه على إحضارهم أولادهم عنده عند ولادتهم؛ ليحنّكهم ويسمّيهم ويبرّك عليهم، والأخبار بذلك كثيرة شهيرة (2).
3- عن عائشة: أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يؤتى بالصبيان فيبرّك عليهم (3).
4- وعن عبد الرحمن بن عوف قال: ما كان يولد لأحد مولود إلّاأتى به النبيّ صلى الله عليه و آله فدعا له. الحديث (4).
5- وعن محمّد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن ظئر محمّد بن طلحة قال:
لما ولد محمّد بن طلحة أتيت به النبي صلى الله عليه و آله ليحنّكه ويدعو له، وكذلك كان يفعل بالصبيان (5).
6- عن عائشة: أنّ النبي صلى الله عليه و آله أتي بصبي ليحنّكه فأجلسه في حجره فبال
ص: 34
عليه. الحديث (1).
7- وعنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يؤتى بالصبيان فيحنّكهم ويبرّك عليهم.
الحديث (2).
8- وعنها: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يؤتى بالصبيان فيبرّك عليهم ويحنّكهم (3).
9- وعنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يؤتى بالصبيان فيدعو لهم بالبركة- زاد يوسف- ويحنّكهم ولم يذكر بالبركة (4).
10- كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدعو يوم عاشوراء بالرضعاء فيتفل في أفواههم ويقول للأمّهات: لا ترضعهنّ إلى الليل (5).
11- كان صلى الله عليه و آله يتفل في أفواه الصبيان المراضع فيجزيهم ريقه إلى الليل (6).
12- عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه و آله يؤتى بالصبيان فيدعو لهم (7).
13- وعن هشام بن عروة: أتي النبي صلى الله عليه و آله بصبيّ يحنكه- وفي قصّته- أنّه بال على ثوبه (8).
14- في رواية أم قيس «أنّها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأجلسه في حجره: فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله (9)
ص: 35
قال ابن حجر في شرحه: وفي هذا الحديث من الفوائد: الندب إلى حسن المعاشرة والتواضع والرفق بالصغار، وتحنيك المولود، والتبرك بأهل الفضل وحمل الأطفال إليهم حال الولادة وبعدها.
وروي في هذا الباب مثلها عن عائشة أمّ المؤمنين.
هذه النصوص المتضافرة تدلّ على سيرة الصحابة المستمرّة منذ نزول النبيّ صلى الله عليه و آله بالمدينة المشرفة في تحنيك أولادهم بإتيانهم بالمولود إلى النبيّ صلى الله عليه و آله ليحنكه ويبرّك عليه ويدعو له.
والظاهر أنّ ذلك كان في الأنصار أكثر، واعتقادهم به أعمق وأعرق كما صرّح به ابن حجر، وإن أطلق الكلام في رواية عائشة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما، وإنّ ذلك كان في المدينة غالباً واقتفى أثرهم أهل مكّة بعد الفتح، فكانوا يأتون بأطفالهم إليه صلى الله عليه و آله فيمسح رؤوسهم ويبرّك عليهم.
ويستفاد منها أيضاً: أنّه صلى الله عليه و آله كان يتفل في أفواه الصبيان الرّضع في يوم عاشوراء أو مطلقاً وذلك أيضاً نحو آخر من التبرّك.
هذا عمل الصحابة. وأمّا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فكان يقرهم عليه ولا ينكر عليهم ذلك ويعمل به، فلو كان التبرّك شركاً لما جرت عليه سيرة الصحابة الذين هم دعاة الدين ورعاته، ولما أقرّهم عليه الرسول العظيم صلى الله عليه و آله وبعد هذا فلا يبقى ريب لأيّ متدبّر منصف في ذلك، بل يدرك المتأمّل أنّ ذلك كان من شؤون الإيمان وعلائمه ومظاهر اليقين ومناهجه.
فلنذكر هنا أسماء جمع من الذين حنّكهم النبيّ صلى الله عليه و آله في ضمن النصوص الّتي ذكرها علماء الرجال والتاريخ والسيرة والحديث، تتميماً للفائدة وتحصيلًا لليقين الكامل.
ص: 36
1- منهم عبد اللَّه بن الزبير وهو كما يقولون أوّل مولود ولد في الإسلام من المهاجرين بعد الهجرة، فجاءت به أمّه أسماء بنت أبي بكر إلى النبيّ صلى الله عليه و آله أو جاءت به عائشة أمّ المؤمنين فوضعته في حجره، ثمّ دعا بتمرة فمضغها فتفل في فيه فكان أوّل ما دخل في جوفه ريق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالت: ثمّ حنكه بتمرة ثمّ دعا له وبرّك عليه (1).
2- ومنهم عبد اللَّه بن أبي طلحة الأنصاري، فإنّه لمّا ولد حنكه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالتمر، روي عن أنس بن مالك قال: ذهبت بعبد اللَّه بن أبي طلحة الأنصاري حين ولد ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله في عباءة يهنأ بعيراً له فقال: «هل معكم تمر؟» فقلت: نعم فناولته تمرات فألقاهنّ في فيه فلاكهنّ، ثمّ فغر فاهَ الصبيّ فمجّه في فيه فجعل الصبيّ يتلمّظه فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «حبّ الأنصار التمر» وسمّاه عبد اللَّه (2).
3- ومنهم إبراهيم بن أبي موسى الأشعري، لما ولد أتا به أبوه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فسمّاه إبراهيم وحنّكه بتمرة، وكان أكبر ولده (3).
4- ومنهم المنذر بن أبي أسيد الساعدي- أسيد بالتصغير اسمه مالك بن ربيعة- فعن سهل بن سعد قال: أتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين
ص: 37
ولد، فوضعه النبيّ صلى الله عليه و آله على فخذه وأبوأسيد جالس، فلهى النبيّ صلى الله عليه و آله بشي ء بين يديه، فأمر أبوأسيد بابنه فاحتمل من على فخذ الرسول صلى الله عليه و آله فأقلبوه فاستفاق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: أين الصبيّ؟ فقال أبوأسيد: أقلبناه يا رسول اللَّه، فقال: ما اسمه؟ قال: فلان يا رسول اللَّه، قال: لا ولكن اسمه المنذر فسمّاه يومئذ المنذر (1).
5- ومنهم عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب، وُلد والنبيّ صلى الله عليه و آله وأهل بيته بالشعب من مكّة، فأتي به النبيّ صلى الله عليه و آله فحنّكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين (2).
وفي الإصابة 2: 330- 331، عن ابن عمر أنّه كان يقرّب ابن عبّاس ويقول:
إنّي رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعاك فمسح رأسك وتفل في فيك. الحديث (نقله عن البغوي) وعن ابن عبّاس: دعا لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمسح على ناصيتي وقال: اللّهمّ علّمه الحكمة. الحديث.
وعن عكرمة قال:- في حديث- فدعاه (يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعا ابن عبّاس) فأجلسه في حجره ومسح رأسه ودعا له بالعلم.
ويحتمل أن يكون كلّ ذلك وقع في مقامات مختلفة، وليست قصّة واحدة حتّى يتراء ى فيه الخلاف والتنافي (3).
6- ومنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات اللَّه عليه:
فعن الزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله تولّى تسميته بعليّ، وتغذيته أيّاماً من ريقه المبارك بمصّه لسانه. فعن فاطمة بنت أسد أم عليّ رضي اللَّه عنهما أنّها قالت: لما ولدته سمّاه
ص: 38
عليّاً وبصق في فيه، ثمّ إنّه ألقمه لسانه فما زال يمصّه حتّى نام، فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد، فدعونا له محمّداً صلى الله عليه و آله فألقمه لسانه فنام. الحديث (1).
7- ومنهم عبد اللَّه بن طلحة ذكره في الصارم المنكى: 139 ولكن الظاهر اتّحاده مع عبد اللَّه بن أبي طلحة لكن سقط منه كلمة: «أبي».
8- ومنهم محمّد بن طلحة بن عبيداللَّه، أخرج ابن شاهين في كتاب الصحابة في ترجمة محمّد بن طلحة عن ظئر محمّد قال: لما ولد محمّد بن طلحة أتيت به النبيّ صلى الله عليه و آله ليحنكه ويدعو له، وكذلك كان يفعل بالصبيان (2).
9- ومنهم أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري أبي أمامة، ولد قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله بعامين وأتي به النبيّ صلى الله عليه و آله فحنّكه وسمّاه باسم جدّه لأمّه (3).
وعن أبي داود كما في أسد الغابة أنّه صحب النبيّ صلى الله عليه و آله وبايعه وحنكه وبارك عليه وبيعته له وهو طفل، كما نقل في ترجمة بعض الصحابة أيضاً تكريم وتبرّك آخر.
10- ومنهم عبد اللَّه بن عامر بن كريز القرشي ابن خال عثمان، ولد على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتي به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو صغير، وجعل يتفل عليه ويعوذه، فجعل عبد اللَّه يتسوّغ ريق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (4).
11- ومنهم حشرج غير منسوب، أخذه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ووضعه في حجره
ص: 39
ومسح رأسه ودعا له (1).
12- ومنهم سنان بن سلمة الهذلي، حنّكه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتفل في فيه ودعا له وسمّاه (2).
13- ومنهم سعد بن أبي الغادية المزني، فقد النبي صلى الله عليه و آله أباالغادية في الصلاة فأقبل فقال: ما خلفك؟ فقال: وُلد لي مولود، قال: هل سمّيته؟ قال: لا، قال:
فجئني به، فمسح رأسه بيده وسمّاه سعداً (3).
14- ومنهم عبد اللَّه بن ثعلبة بن صيعر- ويقال له ابن أبي صيعر- العذري، قيل: إنّه وُلد بعد الهجرة بأربع سنين، وقيل: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله توفّي وهو ابن أربع سنين، وقيل: وُلد سنة سبع، وإنّه اتي به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمسح على وجهه ورأسه زمن الفتح (4).
15- ومنهم عبد اللَّه بن الحارث بن عمرو العدوي، ولد على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحنّكه (5).
16- ومنهم عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل الهاشمي، وُلد قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله بسنتين، وأتي به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحنّكه ودعا له (6).
17- ومنهم عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب العدوي وهو ابن أخي عمر بن
ص: 40
الخطاب، أتى به أبولبابة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال له: ما هذا منك يا أبا لبابة؟ قال: ابن بنتي يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قال: ما رأيتُ مولوداً أصغر منه، فحنّكه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومسح رأسه ودعا له بالبركة ... فلمّا توفّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان عمره ستّ سنين (1).
18- ومنهم محمّد بن ثابت بن قيس، وُلد على عهد الرسول صلى الله عليه و آله فأتي به إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فسمّاه محمّداً وحنّكه بتمرة، وقتل يوم الحرّة (2).
19- ومنهم محمّد بن أنس بن فضالة الظفري الأنصاري، قال: قَدم النبيّ صلى الله عليه و آله المدينة وأنا ابن اسبوعين فأتى أبي (بي) إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فمسح على رأسي ... قال يونس: فلقد عمّر أبي حتّى شاب شعره كلّه، وما شاب موضع يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
20- ومنهم محمّد بن نبيط بن جابر، ذكره ابن شاهين في الصحابة عن أبي داود عن ابن القدّاح وقال: حنّكه النبيّ صلى الله عليه و آله وسمّاه محمّداً (4).
21- ومنهم يحيى بن خلاد الزرقي، روَى عن عليّ بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن جدّه أنّه كان اتِيَ به النبيّ صلى الله عليه و آله يوم وُلد فحنكه بتمرة (5).
22- ومنهم النعمان بن بشير، أمّه عمرة بنت رواحة أخت عبد اللَّه بن رواحة، لما ولدت النعمان بن بشير حملته إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدعا بتمرة فمضغها ثمّ ألقاها في فيه فحنّكه بها. الحديث (6).
23- ومنهم الإمام السبط الأكبر الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام روي عن
ص: 41
سوادة، قالت: كنت فيمن شهد فاطمة حين ضربها المخاض ... قالت: فوضعت ابناً فسررته ووضعته في خرقة صفراء، فقال: إيتيني به فلففته في خرقة بيضاء، فتفل في فيه وسقاه من ريقه ... (1).
24- ومنهم الإمام السّبط الأصغر الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام حنّكه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بريقه، وأذّن في أذنه، وتفل في فمه (2).
يستفاد من الروايات المتقدّمة مضافاً إلى أنّ التبرّك كان سيرة مستمرّة منذ البعثة في مكّة ثمّ في المدينة؛ أنّ الصحابة كانوا يفتخرون بذلك، وينقلونه مباهين به، كما أنّ العلماء قد أدرجوه في كتبهم على أنّه من مناقب هؤلاء وفضائلهم، وإيذاناً بأنّ أبويه كانا بهذه المكانة من الإيمان واليقين، وأنّ النبيّ كان بهم رؤوفاً عطوفاً، فكان يبرّك عليهم ويحنّكهم، وأنّ هؤلاء تشرّفوا بذلك وتبرّكوا به وصاروا مبارَكين.
ويستفاد أيضاً: أنّ التبرّك كان تارةً يتحقّق بتحنيكه فقط، بجعله صلى الله عليه و آله التمر في فم الصبي، أو به وبلوك النبيّ صلى الله عليه و آله له في فمه المبارك، وخلطه مع ريقه المبارك، ثمّ حنّكه،
ص: 42
أو بتحنيكه بريقه المبارك من دون تمر، أو بمسحه صلى الله عليه و آله رأس الصبي ووجهه وناصيته أو ببصاقه صلى الله عليه و آله في فمه، أو بمصّ الصبيّ لسانه المبارك بتلقيمه صلى الله عليه و آله لسانه له، أو بتفله في فيه أو بدعائه صلى الله عليه و آله له وتسميته، أو بالتأذين في أذنه، وكلّ ذلك تبريك وتشريف.
وإذا كنّا نرى أنّ بعض من برّك عليهم الرسول صلى الله عليه و آله لا أثر لهذا التبريك فيه، بل نعرف منه ما يخالفه جدّاً فلا مناص إلّاأن يقال: إنّ القصّة ليست بصحيحة، أو أنّ التبريك قد أثّر بمقدار ما في الطفل من الاستعداد، كالمطر في الأرض القابلة والسبخة، أو أنّه لو لم يكن هذا التبريك لكان هذا الشخص أشقى وأسوأ حالًا من الحال التي صار إليها بعد التبريك، أو أنّ التبرّك من أبوي الطفل لم يكن حقيقيّاً، بل كان تظاهراً ورياءً فقط أو ....
وعلى كلّ حال، فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مباركاً أينما كان وكيف كان، جعله الحقّ سبحانه آية ورحمة للعالمين بكلّ وجوده في حياته وبعد موته.
ولعمري فإنّ فيما ذكرنا كفاية لمن تأمّل وأنصف وتدبّر ولم يتعسف، ولكن إن شئت الوقوف على أزيد من ذلك، فعليك بالتدبّر فيما يُتلى عليك من الذين مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رؤوسهم بعد دوران التحنيك أو حينه ممّا حفظه الأعلام الحفّاظ من موارد تبرّك الصحابة- رضي اللَّه عنهم- بمسحه ومسّه صلى الله عليه و آله رؤوسهم ووجوههم، ونقلوه على سبيل المباهاة والافتخار، وقد صرّحوا بالتبريك والتبرّك تارة وأوعزوا إليه تارةً أخرى
وإليك بعض تلك النصوص:
ص: 43
1- منهم أمّ جميل بنت أوس المرئية- بضمّ الميم وكسر الهمزة- قالت: أتيتُ النبيّ صلى الله عليه و آله مع أبي وعليَّ ذوائب وقزعة، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: أحلق عنها زي الجاهليّة وأتني بها، فذهب بي أبي، فحلقه عنّي وردّني، فدعا لي، وبارك عليّ، ومسح على رأسي بيده (1).
2- ومنهم بشر بن معاوية بن ثور من بني البكاء، وفدوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسيّدهم معاوية بن ثور ... فلمّا حضر شخوصهم ودَّعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له معاوية: إنّي أتبرّك بمسّك وقد كبرت وابنيِ بشْر يربى فامسح وجهه، قال: فمسحه وأعطاه أعنزاً عفراً ودعا له بالبركة (2).
3- ومنهم زياد بن عبد اللَّه: وَفَد على النبيّ صلى الله عليه و آله فدخل على ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللَّه هذا ابن اختي، ثمّ خرج حتّى أتى المسجد و معه زياد فصلّى الظهر، ثمّ أدنى زياداً فدعا له ووضع يده على رأسه ثمّ حدرها على طرف أنفه فكانت بنو هلال تقول: ما زلنا نتعرّف البركة في وجه زياد، وقال الشاعر لعليّ بن زياد:
يا ابن الذي مسح النبيّ صلى الله عليه و آله برأسه و دعا له بالخير عند المسجد
أعني زياداً لا أريد سواءَه من غائر أو متهم أو منجد
ما زال ذاك النور في عرنينه حتّى تبؤ بيته في المنجد (3)
ص: 44
4- ومنهم خزيمة بن سواد، مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجه خزيمة بن سواد فصارت له غرّة بيضاء (1).
5- ومنهم السائب بن يزيد: ذهبت به خالته إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللَّه إنّ ابن أختي وَجِعٌ فمسح رأسه ودعا له بالبركة، وتوضّأ فشرب من وضوئه (2).
6- ومنهم حسان بن شدّاد التميميّ الطهوي- بضمّ أوّله وفتح ثانيه- وفدت أمّه به إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، إنّي وفدت إليك بابني هذا؛ لتدعو له أن يجعل اللَّه فيه البركة، قال: فتوضأ وفضل من وضوئه فمسح وجهه، وقال: اللّهمّ بارك لها فيه (3).
طلبت أمّ حسان منه صلى الله عليه و آله الدعاء بالبركة، ولكنّه صلى الله عليه و آله على ما نقله في الإصابة برّكه بفضل وضوئه قبل أن يدعو له. وفي أسد الغابة ذكر المسح من دون ذكر الوضوء.
7- ومنهم السائب بن الأقرع الثقفي، دخلت أمّه تبيع العطر من النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: يا مليكة ألكِ حاجة؟ قالت: نعم، قال: فكلّميني فيها أقضِها لكِ، فقالت: لا واللَّه إلّاأن تدعو لابني، وهو معها وهو غلام، فأتاه فمسح برأسه ودعا له (4).
8- ومنهم يعلى بن مرّة ومن معه قال: كان النبيّ صلى الله عليه و آله يمسح وجوهنا في الصلاة ويبارك علينا، قال: فجاء ذات يوم فمسح وجوه الذين عن يميني وعن يساري
ص: 45
وتركني (1).
يفيد الحديث أنّ هذا كان عملًا مستمرّاً له صلى الله عليه و آله حينما يخرج إلى الصلاة.
9- ومنهم جابر بن سمرة ومن معه من الصبيان- أو الغلمان- قال جابر: صلّيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلاة الاولى ثمّ خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدّي أحدهم واحداً واحداً قال: وأمّا أنا فمسح خدّي، قال:
فوجدت ليده برداً وريحاً كأنّما خرج من جونة عطّار (2).
هذا الحديث أيضاً يفيد كسابقه أنّ الولدان كانوا يصطفّون على يمين الطريق ويساره وهو صلى الله عليه و آله يمسح خدودهم يبرك عليهم وهم يتبرّكون بذلك، وكأنّه كان عملًا مستمراً منهم ومنه صلى الله عليه و آله.
10- ومنهم أبو جحيفة السوائي والنّاس الذين كانوا معه، قال: وقام النّاس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب من رائحة المسك (3).
هذا الحديث يفيد تبرّك الصحابة بأجمعهم في أنفسهم أيضاً لا الولدان فقط ولا الصحابة في أولادهم.
11- ومنهم جابر بن يزيد بن الأسود السوائي عن أبيه: أنّه صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الصبح- إلى أن قال- ثار النّاس يأخذون بيده يمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فمسحت بها وجهي، فوجدتها أبرد من الثلج وأطيب ريحاً من المسك (4)
ص: 46
12- ومنهم حليس- بالتصغير- ابن زيد الضبّي: وفد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله بعد وفاة أخيه الحارث، فمسح وجهه ودعا له بالبركة (1).
13- ومنهم رديح وسمرة ورخ وزبيبا (2)، قالت عائشة: إنّي أريد أن أعتق من ولد إسماعيل قصداً (3) فقال النبيّ صلى الله عليه و آله لعائشة: انتظري حتّى يجي ء سبي العنبر غداً، فجاء فقال لها: خذي أربعة- قال عطاء- فأخذت جدي رديحاً وابن عمّي سمرة وابن عمّي رخا وخالي زبيبا، فمسح النبيّ صلى الله عليه و آله على رؤوسهم وبرّك عليهم (4).
14- ومنهم سالم بن حرملة وفد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فيمن وفد إليه، وهو حدث له ذؤابة وقد كاد أن يبلغ، فتطهّر من فضل وضوء رسول اللَّه فشمت (5) عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ودعا له (6).
15- ومنهم سلمة بن عرادة: نازع عيينية بن حصن فضل وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: دع الغلام يتوضّأ، فتوضّأ ثمّ شرب البقية، فمسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجهه بيده (7).
هذاالحديث يفيد تبرّك الصحابة بماء وضوئه يتوضّأون به وبمسحه صلى الله عليه و آله وجوههم.
16- ومنهم سالم العدوي، وفد على النبيّ صلى الله عليه و آله وهو غلام حدث عليه ذؤابة فشمت عليه ودعا له، وتطهّر سالم بفضل وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (8)
ص: 47
17- ومنهم سمعان بن خالد الكلابي من بني قريظة، دعا له النبيّ صلى الله عليه و آله بالبركة ومسح ناصيته ... في حديث طويل (1).
18- ومنهم سهل بن صخر الليثي، قال: دخلت مع أبي على النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال:
ما اسمك يا غلام؟ قلت: سهل، قال: ادن، فمسح على رأسي (2).
19- ومنهم عبد اللَّه بن جعفر وأخوه: مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأسهما ودعا لهما (3).
20- ومنهم منقذ بن حبان، وفد فيمن وفد من عبد القيس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمسح النبيّ صلى الله عليه و آله وجهه (4).
21- ومنهم عامر بن لقيط العامري: لما وفد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله، قال له: «أنت الوافد الميمون، بارك اللَّه فيك» فصافحه ومسح ناصيته (5).
22- ومنهم سعد بن تميم السكوني، قد أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله ويقال: إنّه مسح رأسه ودعا له (6).
23- ومنهم عبادة بن سعد بن عثمان الأنصاري، لحق برسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأمر أبيه فمسح رأسه ودعا له (7).
24- ومنهم سعد بن حبتة ...، نظر النبيّ صلى الله عليه و آله إليه يوم الخندق يقاتل قتالًا شديداً وهو حديث السنّ، فدعاه فقال له: من أنت يا فتى قال: سعد بن حبتة،
ص: 48
فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: أسعد اللَّه جدّك، اقترب منّي، فاقترب منه فمسح على رأسه (1).
25- ومنهم عائذ بن سعيد ...، قال: وفدنا على النبيّ صلى الله عليه و آله فتقدّم عائذ فقال: يا رسول اللَّه، امسح وجهي وادعُ لي بالبركة، قال: ففعل فكان وجهه يزهو (2).
26- ومنهم عبد اللَّه بن مسعود الصحابي المعروف: مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأسه في قصّة طويلة ذكرها أبوعمر (3).
27- ومنهم عبد اللَّه بن عبدهلال الأنصاري، قال: ما أنسى حين ذهب بي أبي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: يا رسول اللَّه، ادعُ له وبارك عليه، قال: فما أنسى برد يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على يافوخي (4).
28- ومنهم عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وضع يده على رأسي وأجلسني في حجره ومسح على وجهي ودعا لي بالبركة (5).
29- ومنهم عبد اللَّه بن هشام القرشي التيمي، ولد سنة أربع وذهبت به أمّه زينب بنت حميد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقالت: يا رسول اللَّه، بايعه، فقال: هو صغير فمسح رأسه ودعا له (6).
30- ومنهم عبد الرحمن بن أبي قراد- بضمّ القاف وتخفيف الرّاء- الأنصاري ... قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله توضّأ يوماً فجعل النّاس يتمسحون
ص: 49
بعرقوبه (1)، فقال: ما يحملكم على ذلك؟ قالوا: حبّ اللَّه ورسوله، فقال: من سرّه أن يحبه اللَّه ورسوله فليصدق حديثه. الحديث (2).
31- ومنهم عبد الرحمن بن أبي مالك الهمداني- اسم أبي مالك هاني- قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدعاه إلى الإسلام فأسلم ومسح على رأسه ودعا له بالبركة (3).
32- ومنهم عتبان- بكسر العين- ابن عبيد العبدي من عبد القيس، أتى إلى النبي صلى الله عليه و آله وعنده يهودي يخاطبه قال: فدرت خلف ظهره فنظرت إلى الخاتم، فوضع يده فوق جبهتي ومسح رأسي (4).
33- ومنهم أبوبكر بن أبي قحافة: مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صدره (5).
34- ومنهم عمرو بن حريث القرشي المخزومي رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسمع منه ومسح رأسه ودعا له بالبركة (6).
35- ومنهم عمرو بن أخطب بن رفاعة الأنصاري، غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثلاث عشرة غزوة، ومسح رأسه وقال: اللّهمّ جمّله (7).
وزاد في المسند 5: 77- 341 قال: فلقد بلغ بضعاً ومئة سنة، وما في رأسه ولحيته بياض إلّانبذ يسير، ولقد كان منبسط الوجه ولم ينقبض وجهه حتّى مات.
36- ومنهم عمرو بن ثعلبة الجهني: أنّه حين أسلم مسح رسول اللَّه وجهه
ص: 50
ودعا له بالبركة (1).
37- ومنهم رافع بن عمرو المزني كان يفتخر بمسه أخمص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث قال: إنّي لفي حجّة الوداع خماسي أو سداسي، فأخذ بيدي أبي حتّى انتهينا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله بمنى يوم النحر، فرأيته يخطب على بغلة شهباء فقلت لأبي: من هذا؟ قال:
هذا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدنوت منه حتّى أخذت بساقه ثمّ مسحتها حتّى أدخلت كفّي بين أخمص قدمه والنعل (2).
38- ومنهم عياذ- بفتح أوّله وتشديد ثانيه وآخره معجمة- ابن عمرو الأزدي أو السلمي كان يخدم النبيّ صلى الله عليه و آله ... فجلس بين يديه فوضع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يده على رأسه فأمرّها على وجهه وصدره- وفي رواية- فوضع يده على جبهتي ومسح بيده حتّى بلغ حجزة الأزار (3).
39- ومنهم عبد الرحمن بن عبد و عبد اللَّه بن عبد، أتيا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فبرّك عليهما ومسح رؤوسهما، فكانا إذا حلقا رؤوسهما نبت موضع يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل الباقي (4).
40- ومنهم عطاء بن يعقوب مولى ابن سباع: كان النبيّ صلى الله عليه و آله مسح رأسه (5).
41- ومنهم فرقد العجلي، ويقال التميمي العنبري: ذهبت به أمّه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله قال: فمسح يده عليّ وبارك عليّ (6).
42- ومنهم قتادة بن ملحان القيسي: مسح النبيّ صلى الله عليه و آله وجهه ثمّ كبر فبليَ منه كلّ
ص: 51
شي ء غير وجهه (1).
43- ومنهم قيس بن زيد بن جبار الجذامي، قال: أجلسني النبي صلى الله عليه و آله بين يديه ومسح على رأسي ودعا لي وقال: بارك اللَّه فيك يا قيس (2).
44- ومنهم قيس بن عاصم النميري: وفد على النبيّ صلى الله عليه و آله ومسح وجهه (3).
45- قرط- قريط- بن أبي رمثة، قال: وفد أبو رمثة (بكسر أوّله وسكون الميم ثمّ مثلثة) حيان ومعه ابنه قرط- قريط- فلمّا دخلوا على النبي صلى الله عليه و آله، قال: لأبي رمثة ابنك هذا؟ ... ودعا بقرط فأجلسه في حجره ودعا له بالبركة ومسح على رأسه وعممه بعمامة سوداء (4).
46- ومنهم محمّد بن حاطب نقل عن أمّه أم جميل، قالت: خرجت بك من أرض الحبشة، حتّى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طعاماً فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فقدمت المدينة وأتيت بك النبيّ صلى الله عليه و آله، فقلت:
يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذا محمّد بن حاطب وهو أوّل من سمّي بك، فمسح على رأسك ودعا بالبركة ثمّ تفل في فيك وجعل يتفل على يديك ويقول: «أذهب البأس ربّ الناس». فما قمت بك من عنده حتّى برئت يدك (5).
47- ومنهم مالك بن عمير السلمي، قال: قلت: يا رسول اللَّه، فامسح عنّي الخطيئة، قال: فمسح يده على رأسي، ثمّ أمرّها على كبدي، ثم على بطني، حتّى إنّي
ص: 52
لأحتشم من مبلغ يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قال: فلقد كبر مالك حتّى شاب رأسه ولحيته، ثم لم يشبّ موضع يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1).
48- ومنهم أبوسفيان مدلوك الفزاري مولاهم، قال: ذهب بي مولاي (مولاتي ذر) إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فأسلمت، فدعا لي بالبركة ومسح رأسي بيده، فكان مقدّم رأس أبي سفيان أسود ما مسّه النبيّ صلى الله عليه و آله وسائره أبيض (2).
49- ومنهم مرداس بن مالك الغنوي: قدم وافداً على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على وجهه ودعا له بخير (3).
50- ومنهم نعيم بن قعنب، وفد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بصدقته وصدقة أهل بيته، فأعجب ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومسح وجهه (4).
51- ومنهم هاني بن مالك الهمداني: وفد على النبيّ صلى الله عليه و آله من اليمن فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فمسح رأسه ودعا له بالبركة (5).
52- ومنهم هلب بن يزيد بن عدي بن قناقة (كما في الاستيعاب أو قتادة كما في الإصابة أو قنافة كما في أسد الغابة) يقال: إنّ اسمه يزيد، وفد على النبيّ صلى الله عليه و آله وهو أقرع فمسح على رأسه فنبت شعره (6).
53- ومنهم مسرع بن ياسر، قال: إنّ أباه ياسراً حدّثه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعثه
ص: 53
في سرية، فجاءت به أمّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأمرّ يده عليه وقال: اللّهمّ أكثر رجالهم (1) الحديث.
54- ومنهم يزيد بن عباية الباهلي، قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بصدقتي فصدقني ومسح رأسي (2).
55- ومنهم يسار بن أزيهر الجهني، نقل عن بنته عمرة عن أبيها قال: مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على رأسي وكساني بردين وأعطاني سيفاً. قالت: فما شاب رأس أبي حتّى لقي اللَّه عزّوجلّ (3).
56- ومنهم واثلة بن الأسقع، حيث يتبرّك يزيد بن الأسود بيده لموضع كفّه من يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قال حبان بن النضر، قال لي واثلة بن الأسقع: قدمني إلى يزيد بن الأسود، فدخل عليه وهو مقبل فنادوه أن هذا واثلة أخوك فمدّ يده فجعل يمسّ بها فجعلت كفّه في كفّي، فجعل يمرّها على صدره مرّة وعلى وجهه لموضع كفّ واثلة من يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (4).
57- ومنهم أبو أسماء الشامي، قال: وفدت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فبايعته وصافحني، فآليت على نفسي أن لا أصافح أحداً بعده فكان لا يصافح أحداً (5).
58- ومنهم أبو بهيسة- بالتصغير- الفزاري، استأذن النبيّ صلى الله عليه و آله فأدخل يده في قميصه فمسّ الخاتم (6)
ص: 54
59- ومنهم أبو زيد بن أخطب الأنصاري الخزرجي: قال: مسح النبيّ صلى الله عليه و آله يده على وجهي ودعا لي (وفي رواية) قال لي النبيّ صلى الله عليه و آله: أدن منّي امسح ظهري، فمسحت ظهره فوضعت أصابعي على الخاتم (1).
60- ومنهم أبو سنان العبدي: كان في الوفد فمسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجهه بيده فعمّر حتّى بلغ تسعين سنة وهو مؤذّن مسجد بني صباح، وكان وجهه يتلألأ لمسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان شريفاً وجيهاً (2).
61- ومنهم أبو غزوان. قال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: إنّه أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رجلًا فقال: ما اسمك؟ قال: أبو غزوان، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: هل لك أن تسلم؟ قال: نعم، فأسلم فمسح النبيّ صلى الله عليه و آله صدره (3).
62- ومنهم أبو هاني، مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأس أبي هاني ودعا له بالبركة (4).
63- ومنهم جمرة بنت عبد اللَّه التميمية اليربوعية: قالت: ذهب بي أبي إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: ادع اللَّه لبنتي هذه بالبركة، قالت: فأجلسني في حجره، ثمّ وضع يده على رأسي، فدعا لي بالبركة (5).
64- ومنهم عميرة بنت سهل بن رافع الأنصارية، قالت: خرج بها أبوها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: يا رسول اللَّه، إنّ لي إليك حاجة، فقال: وما هي؟ قال: ابنتي هذه تدعو اللَّه لي ولها وتمسح رأسها فإنّه ليس لي ولد غيرها، قالت عميرة: فوضع
ص: 55
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كفّه عليّ، قالت: فأقسم باللَّه لكان برد كفّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على كبدي بعد (1).
65- ومنهم أم أزهر العائشية: حدّثت أنّ أباها ذهب بها إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فمسح يده عليها وبرك عليها فكانت امرأة صالحة (2).
66- ومنهم قيس بن مالك بن سعد الأرحبي، وفد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال النبيّ صلى الله عليه و آله:
نعم وافد القوم قيس، وقال: وفيت وفى اللَّه بك ومسح بناصيته (3).
67- ومنهم وائل بن حجر الحضرمي، وفد على النبيّ صلى الله عليه و آله فمسح وجهه ودعا له ورفّله على قومه (4).
68- ومنهم قرّة بن أياس بن هلال المزني (وهو جدّ إياس بن معاوية بن قرة ابن إياس بن هلال قاضي البصرة) نقل عن معاوية بن قرة قال: جاء أبي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو غلام صغير فمسح على رأسه.
وفي نقل آخر عن معاوية عن قرة، قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في رهط من مزينة فبايعته، وإن قميصه لمطلق، ثمّ أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم (5).
ونقله ابن الأثير بلفظ آخر فراجع.
69- ومنهم يوسف بن عبد اللَّه بن سلام: أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله وهو صغير أجلسه النبيّ صلى الله عليه و آله في حجره ومسح على رأسه وسمّاه يوسف (6)
ص: 56
70- ومنهم أبو محذورة: قال ابن محيريز: رأيت أبا محذورة صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وله شعر، فقلت: يا عمّ ألا تأخذ من شعرك؟ قال: ما كنت لآخذ شعراً مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليه ودعا فيه بالبركة.
وفي لفظ أحمد: كان أبو محذورة لا يجزّ ناصيته ولا يفرّقها؛ لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مسح عليها (1).
وفي لفظ: «ثمّ دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرّة فيها شي ء من فضّة ثمّ وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثمّ أمرّها على وجهه وثدييه، ثمّ على كبده.
71- ومنهم حنظلة بن حذيم الحنفي- حذيم بالحاء المهملة ثمّ الذال المعجمة على وزن درهم- أو التميمي أو الأسدي، وضع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يده على رأس حنظلة ودعا له بالبركة.
فكان يؤتى بالرجل قد ورم وجهه، والشاة قد ورم ضرعها، فيضع محلّ الورم من الوجه والضرع على الموضع الذي مسّه كفّ النبيّ صلى الله عليه و آله فيذهب الورم الذي كان أصابه. وفي الكنز «فيتفل في كفّه ثمّ يضعها على صلعته ثم يقول: بسم اللَّه على أثر يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثمّ يمسح الورم فيذهب».
وفي رواية: قال حنظلة: فدنا بي- يعني أباه دنى به- إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: إنّ لي بنين ذوي لحى ودون ذلك وإنّ ذا أصغرهم، فادع اللَّه له. فمسح رأسه وقال:
بارك اللَّه فيك (2).
72- ومسح النبيّ صلى الله عليه و آله عرق وجه علي عليه السلام فمسح به وجهه (3). أوردنا هذا
ص: 57
الحديث هنا استطراداً، حيث إنّه كان خارجاً عن مورد البحث، ومفاده تبرّك الرسول العظيم صلى الله عليه و آله بعرق وجه وصيّه والولي بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ولابدع في أن يتبرك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأمر اللَّه تعالى بوليّ من أولياء اللَّه تعالى وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلّاوحي يوحى كما يأتي أنّه صلى الله عليه و آله قبّل يد سعد بن معاذ، وقبّل وجه عثمان بن مظعون بعد موته، ولعلّ هذا العمل منه صلى الله عليه و آله كان تعليماً للناس ليتبرّكوا بأمير المؤمنين عليه السلام، كما حثّهم على ذلك في خطابه المشهور «لولا أن يقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالًا لا تمرّ بأحدٍ من المسلمين إلّاأخذوا التراب من أثر قدميك يطلبون به البركة» (1)، كما كان يتبرّك عمر بن الخطاب بالعبّاس عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله، ويتبرّك العبّاس بعلي والحسن والحسين عليهم السلام، وسيأتي تتمّة للبحث فانتظر.
73- ومنهم عمير بن سعد: قال في الشفا: إنّه صلى الله عليه و آله مسح على رأس عمير بن سعد- وضبطه بعض عمر بن سعد- ودعا له بالبركة في عمره وصحبته فمات وهو ابن ثمانين سنة، فما شاب (أي) ببركة مسّ يده الشريفة لم يشبّ رأسه وشعره ولم يهرم (2).
74- ومنهم طلحة بن أمّ سليم: مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ناصية طلحة بن أمّ سليم فكانت له غرّة، ومازال على وجهه نور من آثار أنواره (3).
75- ومنهم عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على رأسه وهو صغير وكان دميماً أي حقيراً، ودعا له بالبركة في خلقته وسائر أموره ففرع
ص: 58
الناس طولًا وتماماً، أي زاد عليهم في الطول وتمام سائر الأعضاء (1).
76- ومنهم أمير المؤمنين عليه السلام، روي عن علي عليه السلام أنّه قال: ما رمدت ولا صرعت منذ مسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجهي وتفل في عيني يوم خيبر (2).
77- ومنهم النبيّ صلى الله عليه و آله، يتبرّك بنفسه الشريفة. روي عن عائشة- رضي اللَّه عنها- قالت: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلمّا ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها (3).
وعن عائشة: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ بالمعوذات ومسح بهما جسده (4).
78- ومنهم النعمان الأنصاري، قال عبد الرحمن بن النعمان: حدّثني أبي عن جدّي: قد أتى به النبيّ صلى الله عليه و آله فمسح على رأسه (5).
79- ومنهم سعد بن أبي وقاص، قال: اشتكيت شكوى لي بمكة، فدخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يعودني، قال: فوضع يده على جبهته فمسح وجهي وصدري وبطني وقال: اللّهمّ اشف سعداً وأتم له هجرته. فما زلت يخيّل إليّ بأنّي أجد برد يده على كبدي حتّى الساعة (6).
80- ومنهم امرأة تبركت بمسحه صلى الله عليه و آله صدر ولدها. قال ابن عبّاس: إنّ امرأة
ص: 59
جاءت بولدها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقالت: يا رسول اللَّه، إنّ به لمما وإنّه يأخذ عند طعامنا فيفسد طعامنا. قال: فمسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صدره ودعا له فتع تعة فخرج من فيه مثل الجرو الأسود فشفي (1).
81- ومنهم أبو أبي أياس، نقل أبو أياس عن أبيه: أنّه أتى النبيّ صلى الله عليه و آله فدعا له ومسح رأسه (2).
والظاهر أنّه قرة بن أياس المتقدّم ذكره تحت رقم 68 فإنّ أحمد قد نقل في المسند 4: 19، عن معاوية أبي إياس عن أبيه ذلك فأبوأياس هو معاوية وأبوه قرّة فراجع وتدبّر.
82- ومنهم عامر المزني، روى هلال بن عامر المزني عن أبيه قال:
رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخطب الناس بمنى على بغلة وعليه برد أحمر، قال:
ورجل من أهل بدر بين يديه يعبر عنه قال: فجئت حتّى أدخل يدي بين قدمه وشراكه (3).
83- ومنهم البراء بن عازب وغيره، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأتينا فيمسح عواتقنا وصدورنا ويقول: لا تختلف صفوفكم (4)
84- ومنهم كردم بن سفيان الثقفي، قالت ميمونة بنت كردم: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمكّة وهو على ناقته وأنا مع أبي وبيد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله درة كدرة الكتاب ... فدنا منه أبي فأخذ بقدمه فأقرّ له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (5).
85- ومنهم التلب بن زيد التميمي قال: قلت: يا رسول اللَّه استغفر لي، فقال
ص: 60
لي: إذا آذن لك أو حتّى يؤذن لك فغبر ما قضى له، ثمّ دعاه فمسح بيده على وجهه ثمّ قال: اللّهمّ اغفر لتلب (1).
86- عن غضيف بن الحارث قال: كنت صبيّاً أرعى نخل الأنصار، فأتوا بي النبيّ صلى الله عليه و آله فمسح برأسي وقال: كُلْ ما يسقط ولا ترم نخلهم (2).
87- عن علي عليه السلام قال: اشتكيت- إلى أن قال- فمسحني- يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- ثمّ قال: اللّهم اشفه أو قال: عافه، فما اشتكيت ذلك الوجع بعد (3).
88- وكان إذا لقاه الرجل من أصحابه مسحه ودعا له (4).
89- وكان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح على رؤوسهم (5).
90- ومنهم أبوهريرة الدوسي، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه و آله يوماً إلى المسجد، فقال:
أين الفتى الدوسي؟ فقيل: هو ذاك يا رسول اللَّه، يوعك في آخر المسجد. فأتاني النبيّ صلى الله عليه و آله، فمسح على رأسي. الحديث (6).
91- عن ابن الطفيل: دخلت يوماً على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعندهم قدر تفور لحماً فأعجبني شحمه، فأخذتها فازدرتها فاشتكيت عليها سنة، ثمّ إنّي ذكرتها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: إنّه كان فيها نفس سبعة أناس فمسح بطني فألقيتها خضراء فوالذي بعثه بالحقّ ما اشتكيت بطني حتّى الساعة (7).
92- كان بوجهه- يعني أبيض بن حمال- حرارة يعني قوباً قد التقمت أنفه،
ص: 61
فدعاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فمسح وجهه فلم يمس (يحر) ذلك اليوم وفي وجهه أثر (1).
93- نقل عن ابن عباس (في قصّة طويلة) فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رجلًا يصرخ أن أسيد بن أبي إياس قد آمن، وقد أمَّنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجهه وألقى يده على صدره، فيقال: إنّ أسيداً كان يدخل البيت المظلم فيضي ء (2).
94- عن أنس، قال: كانت لي ذؤابة فقالت لي أمّي: لا أجزها كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يمدّها ويأخذها (3).
95- عن جحدم بن فضالة: أنّه أتى النبيّ صلى الله عليه و آله فمسح رأسه وقال: بارك اللَّه في جحدم ... (4).
96- عن جرير بن عبد اللَّه قال: كنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فضرب يده على صدري حتّى رأيت أثر يده في صدري، فقال:
اللّهمّ ثبّته واجعله هادياً مهدياً، فما سقطتُ عن فرسي بعد (5).
97- عن حصين بن أوس النهشلي قال: قدمت المدينة بابل ... ثمّ دعاه النبيّ صلى الله عليه و آله فمسح يده على وجهه ودعا له (6).
98- عن عطا مولى السائب بن يزيد قال: كان وسط رأس السائب أسود وبقيّة رأسه ولحيته أبيض، فقلت له، قال: إنّي كنت مع الصبيان ألعب، فمرّ بي النبي صلى الله عليه و آله، فعرضت له، فسلّمت عليه، فقال: وعليك من أنت؟ قلت: أنا السائب ابن يزيد، ابن اخت النمر بن قاسط، فمسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأسي وقال: بارك اللَّه فيك
ص: 62
فهو لا يشيب أبداً (1).
99- عن عبد اللَّه بن بسر أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وضع يده على رأسه وفي لفظ: قال:
هاجر أبي وأمّي إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله مسح بيده رأسي، وقال: ليعيش هذا الغلام قرناً ... (2).
100- عن محمّد بن فضالة، قال: جاءت بي أمّي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فسألته أن يبرّك عليّ. ففعل، ووضع يده في قفاي- قال يونس ابنه- فشابت كلّ شعرة من جسده ورأسه إلّاما مرّت عليه يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
101- عن أبي أسماء قال: ولدت على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فبايعته وصافحني، فآليت على نفسي أن لا أصافح أحداً بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (4).
لعلّه هو أبو أسماء الشامي المتقدّم.
102- عن خلف بن تميم قال: دخلنا على أبي هرمز نعوده، فقال: دخلنا على أنس بن مالك نعوده، فقال: صافحت بكفّي هذه كفّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فما مسست خزّاً ولا حريراً ألين من كفّه عليه السلام أنس قال أبوهرمز: قلنا لأنس بن مالك: صافِحنا بالكفّ التي صافحت بها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فصافَحنا. الحديث (5).
ينبغي مراجعة الحديث وفيه تبرّك المحدثين كذلك.
لا يخفى على المتدبّر المنصف دلالة هذه الأحاديث على تبرّكهم به صلى الله عليه و آله، يتبركون
ص: 63
بمسّه ومسحه صلى الله عليه و آله وقد صرّحوا بذلك في بعض الأحاديث كما في خبر معاوية بن ثور، حيث قال: «أتبرّك بمسّك» وفي رواية زياد بن عبد اللَّه، قال بنو هلال:
«نتعرّف البركة في وجه زياد» حتّى قال شاعرهم في ذلك ما قال، وقد يستفاد ذلك من نقلهم ذلك مباهين ومفتخرين به ثمّ نقل العلماء الحفّاظ ذلك عنهم حفظاً لفضائلهم ومناقبهم ومفاخرهم، إذ لو كان ذلك عملًا طبيعياً لم يكن وجه لنقله وضبطه ولا المباهاة به، بل لو كان عملًا طبيعياً لم يكن وجه لصدوره عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بهذه الكثرة والخصوصيّة، ولا لأمره بذلك، كما في بعض الأحاديث.
ويعلم أيضاً من نقل الصحابة والرواة والعلماء ذلك مشفوعاً ببيان آثار مسّ يده الشريفة المباركة أنّهم كانوا متبركين بذلك، إذ ذكروا أنّ عبد الرحمن كان دميماً فطال وتمّ خلقه، وعَيْنُ أميرالمؤمنين عليه السلام صحّت وعوفيت، ولم يتبيّن الشيب في رأس عمير بن سعد، ويسار، ومالك بن عمير، ومدلوك، وعمرو بن أخطب، وزاد سرعة نبات شعر رأس عبد الرحمن وعبد اللَّه ابني عبد وهلب بن يزيد وعياذ، وظهرت غرّة في وجه طلحة، وكذا بالنسبة لأبي سنان، وزياد بن عبد اللَّه وخزيمة، وذهاب وجع السائب بن يزيد و ....
ويعلم ذلك أيضاً من طلب الناس مسّ خاتم النبوّة، أو أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بذلك، كما في حديث عتبان، وأبي بهيسة، وأبي زيد، وقرّة بن إياس.
وعلى كلّ حال، لا إشكال في دلالة الأحاديث على تبرّكهم رضي اللَّه عنهم بآثار الرسول صلى الله عليه و آله.
ويستفاد أيضاً أنّهم قد كانوا يجتمعون على التبرّك بالمسح، كما في حديث يعلي ابن مرة، وجابر بن سمرة، وأبي جحيفة السوائي، بل قد يبلغ الأمر إلى النزاع في التبرّك كما في رواية نزاع سلمة مع عيينية.
ونجد أيضاً أنّه قد يدعوهم النبي صلى الله عليه و آله، ويمسح وجوههم، أو يأمرهم بمسح
ص: 64
الخاتم بل في روايتين أن مسحهم كان دأبه صلى الله عليه و آله في كلّ من لاقاه من الرجال والصبيان.
وقد يصرحون كما في خبر عبد الرحمن بن أبي قراد بنيتهم، قال: «فجعل النّاس يتمسحون بعرقوبه، فقال: ما يحملكم على ذلك؟ قالوا: حبّ اللَّه ورسوله ...».
ويستفاد من هذه الأحاديث أيضاً جواز التوسّل والاستشفاء كما في حديث امرأة تبرّكت بمسحه صلى الله عليه و آله في شفاء ولدها، وحديث سعد بن أبي وقّاص، وحديث حنظلة بن حذيم، واستشفاء النّاس بموضع كفّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وحديث محمّد بن حاطب بل التبرّك توسّل واستشفاع واستشفاء في الحقيقة، لوضوح أنّ المتبرّك يطلب البركة والرحمة والشفاء بمسّه أو مسحه صلى الله عليه و آله، ولكنّه توسّل بشكل خاصّ لطيف.
ومن النكات البديعة أنّ المسلمين قد يطلبون منه الدعاء، ويصرّحون بذلك وهو صلى الله عليه و آله يمسح ويمسّ أو ينفث ويتفل مشفوعاً بالدعاء أو بدونه، لتنبيههم إلى التبرّك والتوسّل والاستشفاء، وأنّه هو الوسيلة إلى اللَّه تعالى بأيّ نحو يريد ولا تختصّ فيوضاته وبركات وجوده الشريف بالدعاء فقط، ولا تنحصر كما قد يزعمه الزاعمون الجاهلون بمقام النبوّة، وشرافة العبوديّة الحقيقيّة.
شرب جمع من الصحابة دمه صلى الله عليه و آله تبرّكاً، فعلم النبيّ صلى الله عليه و آله بذلك ولم ينكر عليهم، بل ظاهر الأحاديث أنّه أقرّهم على التبرّك، وحثّهم عليه، وإن أنكر عليهم شرب
ص: 65
الدم من حيث حرمته وممنوعيّته، فعليك بالتدبّر فيما سنورده من النصوص، تدبّر منصف متحر للحقائق، وإليك هذه النصوص:
1- شرب مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي والد أبي سعيد الخدري دمه صلى الله عليه و آله يوم أحد حين «مسح الدم عن وجهه ثمّ ازدرده، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:
من أحبّ أن ينظر إلى من خالط دمي دمه، فلينظر إلى مالك بن سنان» (1).
2- شرب أبو طيبة- بالمهملة- مولى بني حارثة من الأنصار دمه صلى الله عليه و آله وتفصيل القصّة:
أنّ أبا طيبة الحجام- اسمه دينار أو نافع أو ميسرة- مولى بني حارثة من الأنصار ثم مولى محيّصة بن مسعود، قال: حجمت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأعطاني ديناراً وشربت دمه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أشربت؟ قلت: نعم، قال: وما حملك على ذلك؟
قلت: أتبرّك به، فقال: أخذت أماناً من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة، واللَّه ما تمسك النار أبداً (2).
3- عن عبد اللَّه بن الزبير، قال: أتيت النبيَّ صلى الله عليه و آله وهو يحتجم، فلمّا فرغ قال: يا عبد اللَّه اذهب بهذا الدم فأهريقه حتّى لا يراك أحد، قال: فشربته، فلمّا رجعت قال: يا عبد اللَّه ... لعلّك شربته، قلت: نعم: قال: ويلٌ للناس منك، وويلٌ لك من النّاس (3)
ص: 66
4- نقل الحلبي في السيرة أنّ عليّاً عليه السلام شرب دم النبيّ صلى الله عليه و آله (1).
5- سالم- أو سالم بن أبي سالم وقال ابن حجر: سالم الحجام- شرب دمه صلى الله عليه و آله، فقال: أما علمت أنّ الدم حرام كلّه؟- أو- ويحك يا سالم، أما علمتَ أنّ الدم كلّه حرام؟ لا تعد (2).
1- ترى أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم ينكر على أيّ منهم فعله في تبرّكه، بل قرّرهم عليه ورغّبهم فيه، فقال لمالك: «من أحبّ أن ينظر إلى من خالط دمه دمي، فلينظر إلى مالك بن سنان» فأثنى عليه لتبرّكه، وكذا قال لأبي طيبة: «أخذت أماناً من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة واللَّه ما تمسّك النار»، فبشره بعافية الدنيا والآخرة بتبركه.
2- شرب الدم حرام، والظاهر أنّهم شربوه جهلًا بالحكم، وقد نقل في كنز العمال وكتاب تبرك الصحابة ص 15: أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال لسالم الحجّام: «أما علمت أنّ الدم كله حرام»، وعلى أيّ حال لم يكن شربهم إلّاناشئاً عن إيمانهم باللَّه ورسوله وتعظيمهم لمقام النبوّة وتبركهم به صلى الله عليه و آله، والأعمال بالنيات ولا يضرّ جهلهم بنيّتهم الخالصة، ومن هنا يتّضح أنّ ما نقله الحلبي من شرب عليّ عليه السلام لدمه صلى الله عليه و آله لا يصحّ لعدم إمكان صدور ذلك منه بعد علمه بحرمته، وهو باب علم النبي ووارثه حيث لا يحتمل في حقّه الجهل بالحكم مع أنّ الحلبي تفرّد بهذا النقل ولم يوافقه أحد في ذلك.
ص: 67
3- الذي يحصل للمتدبّر هو وجود التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله عند الصحابة، وكونه مركوزاً في أذهانهم، ولم يكن يعد ذلك وقتئذ شركاً وكفراً، ولم يردعهم النبي صلى الله عليه و آله ولم ينبّههم إلّاإلى أنّ شرب الدم حرام، بقوله صلى الله عليه و آله: «أما علمت أنّ الدم كله حرام؟» بل صدّق فعلهم في تبرّكهم ورغّبهم وحثّهم عليه، بل هؤلاء الناقلون للأحاديث من العلماء الكبار أيضاً لم يروه كفراً، ولم يتعرضوا للتنبيه على وجود أيّ إشكال فيه، بل رأوه مثالًا لعقيدة الصحابة بالنبيّ صلى الله عليه و آله، وإكرامهم وإكبارهم وإعظامهم له صلى الله عليه و آله.
ص: 68
ص: 69
التبرك بفضل وضوئه وغسله صلى الله عليه و آله.
نظرة في الأحاديث.
تبرّك الصحابة بسؤره في شرابه وطعامه أو ماء مجَّ فيه وتفل.
نظرة في الأحاديث.
تبرّك الصحابة بماء أدخل فيه يده المباركة أو برّكه بشي ء.
تذنيب وتتميم في نقل كلام السمهودي في الآبار المباركات.
ص: 70
ص: 71
يوجد في كتب التاريخ والحديث والسيرة قسم آخر من الأحاديث يمثِّل لنا تبرّك الصحابة رضي اللَّه عنهم بفضل ماء وضوئه، وكانوا يمسحون به، بل كادوا يقتتلون عليه، ويتنافسون فيه، بحيث عجب من فعلهم أبوسفيان بن حرب صباح فتح مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية، فقفل قائلًا لأهل مكّة:
«وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه» وفي فتح مكة أيضاً انتزع العبّاس دلواً من ماء زمزم فشرب منه، وتوضّأ، فابتدر المسلمون يصبّون على وجوههم منه، ولا تسقط قطرة إلّابيد إنسان إن كانت قدر ما يشرب شربها وإلّا مسح بهاجلده.
كان هذا التبرّك من المسلمين بمرأى من المشركين الذين أسلموا، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، حتّى تنازع فيه سلمة بن عرادة مع عيينية بن حصن، فلو كان فيه شائبة الشرك أو كان يشبه الشرك لنهاهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛ حفظاً للتوحيد ونهياً عن الشرك.
كما أنّ الصحابة رضي اللَّه عنهم كانوا يتبرّكون من البئار التي بصق فيها النبي صلى الله عليه و آله
ص: 72
أو مجَّ أو تفل فيها أو شرب منها كبئر زمزم والبئار العديدة التي في المدينة الطيبة المنوّرة.
كما أنّهم كانوا يتبرّكون من سؤره، وقد شربت أمّ هاني بنت أبي طالب رحمها اللَّه تعالى وهي صائمة، فأفطرت (1) لكي تشرب من سؤره صلى الله عليه و آله، ونجد آخر يتأسف من تركه سؤره صلى الله عليه و آله للصوم، ولا يؤثر ابن عبّاس بسؤره أحداً، ولا ترضى المرأة البذيَّة إلّابلقمة من فِيه صلى الله عليه و آله، فلمّا أكلته ذهبت بذاءتها، والمقداد لا يبالي بمن أخطأه إذا أصاب فضل غذائه صلى الله عليه و آله.
كما أنّهم كانوا يتبرّكون بماء غمس فيه يده صلى الله عليه و آله، وكان خدم أهل المدينة يأتون إليه صلى الله عليه و آله بآنيتهم إذا صلّى صلاة الغداة فيدخل يده فيها في الغداة الباردة، كما أنّهم يستشفون بماءٍ مجَّ فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
بل هو صلى الله عليه و آله يبرّك على عليّ عليه السلام وفاطمة عليها السلام بإفراغ ماء وضوئه عليهما أو إفراغ ماءٍ مجَّ فيه عليهما ويتمضمض ثمّ يمجّ في الدلو، ثمّ يأمر بصبّه في البئر في الحديبية، ويبصق في عجين امرأة جابر بن عبد اللَّه الأنصاري في غزوة الخندق، ويأمر هو صلى الله عليه و آله امرأة طلبت منه شفاء ابنها أن تأتي بماء ثمّ يمجّ فيه ثمّ يقول: اسقيه واستشف اللَّه، ويعطي إداوة من فضل طهوره صلى الله عليه و آله لبني حنيفة قائلًا: «اكسروا بيعتكم وانضحوا مكانها بهذا الماء» وأعطى لبني سحيم إداوة من ماء قد تفل أو مجّ فيه، وأمرهم بأن ينضحوا به مسجدهم، وأعطى للسدوسي إداوة فيها ماء قائلًا: «إذا أتيت بلادك رشّ به تلك البقعة واتخذها مسجداً» ويمضغ هو صلى الله عليه و آله قديدة ويناولها لبنات مسعود الأنصاريات. ويشرب من سويق لتحصل البركة ويعطيه لحنش بن عقيل.
وينضح من ماء غسله على وجه زينب بنت أمّ سلمة. ويمجّ في ماء ويأمر بأن تصبّ
ص: 73
في عين فيغتسل منها رجل ذو أدرة.
وبالجملة، الصحابة رضي اللَّه عنهم، كانوا يتبرّكون بفضل وضوئه صلى الله عليه و آله وبماء مجّ فيه أو تفل فيه وبسؤر شربه وبماء مسّ جلده الشريف وهو صلى الله عليه و آله كان يقرّرهم ويحثّهم عليه، بل يأمرهم بذلك، وكفى بذلك دليلًا وبرهاناً وحجّةً بالغةً لمن تعقل وأنصف، بل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يشرب الماء المجتمع في جفونه من ماء غسله حين وفاته ويقول: إنّه علّة كثرة حفظه وفهمه، وهو وليّ اللَّه ووصي رسوله وباب علمه ومقتدى أمّته وأحد الثقلين. وهل يبقى بعد ذلك ريب ومجال للشكّ في جواز التبرّك؟
ولاسيما إذا أضيف إليه ما ثبت في كتب السيرة والتاريخ والحديث، أن قسماً كبيراً من معجزاته وآيات نبوّته صلى الله عليه و آله كان من بركات سؤره وبصاقه ومسّ يده.
ألا ترى أنه نفث على ساق سلمة بن الأكوع، وعلى رأس زيد بن معاذ، ورجل آخر حين أصابهما السيف في قتل كعب بن الأشرف لعنه اللَّه تعالى، ونفث على ساق علي بن الحكم في الخندق، وعلى يد معوذ بن عفراء يوم بدر، وتفل في فم محمد بن حاطب ويده ومسح على ذراعه حين انكفأت القدر على ذراعه، ونفث على عاتق خبيب يوم بدر، وعلى عين رجل ابيضت فأبصر، ونفث على يده الشريفة فدلك بها جسد عتبة بن فرقد ظهراً وبطناً، ونفث في أثر سهم في وجه أبي قتادة في غزوة ذي قرد، وبصق في عيني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو أرمد في خيبر، وبصق في نحر كلثوم بن الحصين وقد رمي بسهم في يوم أحد، وتفل في شجة عبد اللَّه بن أنيس، ومسح مكان الضرع من عناق في الدار فحلبها، وتفل في بئر قوم فانقلب ماؤهم المالح عذباً، ومسح على رأس صبي أقرع فاستوى شعره وذهب داؤه، ومسح على برص معاوية بن عفراء فأذهبه اللَّه، وتفل في حثوة
ص: 74
من الأرض ثمّ أعطاها رسول ابن ملاعب الأسنة فأخذها وأتاه بها فشربها فشفاه اللَّه من الاستسقاء، ومسح على رجل عبد اللَّه بن عتيك وقد انكسرت، ومضمض في ماء وغسل يديه ثمّ أعطاه قوماً فسقوا بها صبياً لا يتكلّم فبرئ وعقل، ومسح كف بعض الصحابة نبتت فيها سلعة فذهبت، ووضع يده على خدّ بعض الصحابة فذهب وجعه (1).
كم من ماء نبع من بين أصابعه! وكم من طعام كثر بمسّ يده المباركة وسبَّح الحصى في يده الكريمة (2)!
وأضف إلى ذلك كلّه أنّه صلى الله عليه و آله نخس بعير جابر حين أعيا فقام وأسرع، ونخس فرس جعيل بن زياد الأشجعي فصار يمشي في أوّل الناس، ومسح ضرع شاة
ص: 75
أمّ معبد فدرّت فحلب ما يكفيه ورفاقه وصاحب البيت، ومسح ضرع شاة عبد اللَّه ابن مسعود وهو يرعى غنم عقبة بن أبي معيط فحلبها، ومسح الدم عن وجه عائذ ابن عمرو يوم حنين، ومسح على رأس الهلب بن يزيد وهو أقرع فنبت شعره (1) إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.
الأمر الذي كان يزيد في إيمان ويقين الصحابة الكرام بأنّه صلى الله عليه و آله مبارك أينما كان، وحيثما حلّ، ومبارك كلّ أثر منه، ومبارك ما مسّه ولمسه أو تفل أو مجّ فيه أو بصق أو نفث فيه، وكلّ ما برَّك عليه بأي نحو كان، فإنّه يكون مباركاً كثيراً خيره بعيداً شرّه وضرّه.
فإذا علم الصحابة رضي اللَّه عنهم ذلك بعين اليقين، فكيف لا يتبرّك بما هو مبارك كلّه وجعله اللَّه سبحانه مباركاً ورحمةً للعالمين؟! فالتبرّك إذن من علائم الإيمان ومحض اليقين وخالص التوحيد، إذ يرى المتبرّك أنّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو الذي شرّفه وجعله مباركاً وفضّله وجعله منبع الخيرات، وكلّ ما يصدر منه أو يشاهد فيه فهو منه تعالى وهو عبده ورسوله، ففي الحقيقة التبرّك به تبرّك باللَّه سبحانه، وتوسل إليه واستمداد منه.
هذا إجمال وسيوافيك التفصيل في النصوص التالية ومصادرها.
1- عن أبي جحيفة قال: أتيت النبي صلى الله عليه و آله وهو في قبّة حمراء من أدم، ورأيت بلالًا أخذ وضوء النبي صلى الله عليه و آله والناس يتبادرون الوضوء؛ فمن أصاب شيئاً تمسّح به ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه.
ص: 76
وفي لفظ «خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضّأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه ويتمسّحون به» (1).
2- عن ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الربيع قال: وهو الذي مجَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في وجهه، وهو غلام من بئرهم وقال عروة عن المسوّر وغيره يصدّق كلّ واحد منهما صاحبه: «وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه» (2).
3- رأى أبوسفيان بن حرب- في فتح مكة- المسلمين يتلقون وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
4- في صلح الحديبية- عند مجي ء عروة بن مسعود الثقفي لمّا رجع إلى قريش قال: لا يتوضّأ وضوء اً إلّاابتدروه، ولا يبصق بصاقاً إلّاابتدروه، ولا يسقط من شعره شي ء إلّاأخذوه- وفي رواية- فواللَّه ما تنخم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نخامة إلّاوقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه (4)
ص: 77
5- وفي فتح مكة انتزع له العبّاس رضى الله عنه دلواً من زمزم فشرب منه وتوضّأ، فابتدر المسلمون يصبّون على وجوههم- وفي لفظ- لا تسقط قطرة إلّافي يد إنسان إن كانت قدر ما يشربها شربها وإلّا مسح بها جلده (1).
6- حنين (مصغراً) مولى لعبّاس بن عبد المطلب، كان غلاماً للنبي صلى الله عليه و آله فوهبه للعبّاس عمّه فأعتقه، وكان يخدم النبيّ صلى الله عليه و آله وكان إذا توضّأ خرج بوضوئه إلى أصحابه، فحبسه حنين، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: حبسته لأشربه، الحديث.
وزاد ابن الأثير في أسد الغابة بعد قوله: «أخرج وضوءه إلى أصحابه» فكانوا إمّا تمسّحوا به وإمّا شربوه قال: فحبس حنين الوضوء، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه و آله فسأله فقال: حبسته عندي فجعلته في جرّة، فإذا عطشت شربت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:
هل رأيتم غلاماً أحصى ما أحصى هذا؟ ثمّ وهبه للعبّاس فأعتقه (2).
7- وفد سالم بن حرملة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فيمن وفد إليه، وهو حدث، وله ذؤابة، وقد كاد أن يبلغ، فتطهّر من فضل وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشمّت عليه ودعا له (3).
8- نازع سلمة بن عرادة بن مالك الضبّي عيينية بن حصن فضل وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: دع الغلام يتوضّأ، فتوضّأ، ثمّ شرب البقية، فمسح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأسه ووجهه بيده (4).
9- أفرغ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ماء وضوئه على عليّ عليه السلام حين أولَم بمناسبة زواجه بفاطمة عليها السلام.
وفي رواية: مجّ في ماء فنضح على عليّ عليه السلام وفاطمة عليها السلام ثمّ قال: اللهمّ بارك فيهما
ص: 78
وبارك عليهما (1).
10- وعن سعد قال: سمعت عدّة من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله فيهم أبو أسيد وأبو حميد وأبو سهل بن سعد يقولون: أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بئر بضاعة، فتوضّأ في الدلو وردّه في البئر، ومجّ في الدلو مرّة أخرى وبصق فيها وشرب من مائها، وكان إذا مرض المريض في عهده يقول: اغسلوه من ماء بضاعة فيغسل فكأنّما حلّ من عقال (2).
11- نضح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجه زينب بنت أمّ سلمة رضي اللَّه عنهما نضحة من ماء، فما كان يعرف في وجه امرأة من الجمال ما كان بها.
وفي لفظ: دخلت زينب رضي اللَّه عنها على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو يغتسل فنضح في وجهها ماءً؛ فلم يزل ماء الشباب بوجهها حتّى كبرت (3).
12- عتبة بن سالم بن حرملة وفد على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتطهّر من فضل وضوئه فشمّت عليه ودعا له (4).
13- أعطى النبي صلى الله عليه و آله لوفد بني حنيفة إداوة من ماء فيها فضل طهوره، فقال:
إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مكانها
ص: 79
مسجداً، الحديث (1).
14- قدم وفد بني عامر بن صعصعة على النبي صلى الله عليه و آله قال أبو جحيفة السوائي:
فوجدناه بالأبطح في قبّة حمراء فسلّمنا عليه فقال: مَنْ أنتم؟ قلنا: بنو عامر بن صعصعة، قال: مرحباً بكم أنتم منّي وأنا منكم، وحضرت الصلاة، فقام بلال، فأذّن وجعل يستدير في أذانه، ثمّ أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بإناء فيه ماء فتوضّأ، وفضلت فضلة من وضوئه، فجعلنا لا نألوا أن نتوضّأ ممّا بقي من وضوئه، الحديث (2).
15- عن طلق بن علي بن طلق السحيمي، قال: قدمنا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فبايعناه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة وقال لنا: إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم وابنوها مسجداً. فقدمنا بلادنا وكسرنا بيعتنا واتخذناها مسجداً ونضحناها بماء فضل طهور رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان عندنا في إداوة تمضمض منها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ومجّ فيها، وأمرنا أن ننضح بها المسجد إذا بنيناها في البيعة ففعلنا ذلك.
وفي الطبقات بعد قوله «وأخبرناه أن بأرضنا بيعة»: واستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء فتوضّأ وتمضمض، ثمّ صبّه لنا في إداوة، ثمّ قال: اذهبوا به فإذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم وانضحوا مكانها من هذا الماء واتخذوها مسجداً قال: فقلنا: يا رسول اللَّه إنّ الحرّ شديد والبلد بعيد والماء ينشف، قال: فامدّوه من الماء فإنّه لا يزيده إلّاطيباً، الحديث (3).
16- عن أنس بن مالك أنّه صلى الله عليه و آله سكب من فضل وضوئه في بئر قبا، فما
ص: 80
نزفت بعد (1).
17- قالوا في باب غسل النبي صلى الله عليه و آله: «كان الماء يستنقع في جفون النبي صلى الله عليه و آله فكان عليّ يحسوه».
وفي لفظ «كان الماء يجتمع في جفون النبي صلى الله عليه و آله وكان عليّ يشربه» وفي شواهد النبوّة «سُئل عليّ رضى الله عنه عن سبب زيادة فهمه وحفظه قال: «لما غسلت النبي صلى الله عليه و آله اجتمع ماء في جفونه فرفعته بلساني وازدردته وأرى قوّة حفظي منه» (2).
18- عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضي اللَّه عنهما يقول: جاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضّأ وصبّ عليّ من وضوئه فعقلت (3).
19- عن عائذ بن عمرو قال: كان في الماء قلّة فتوضّأ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قدح أو جفنة فنضحنا به، والسعيد في أنفسنا من أصابه، ولا نراه إلّاوقد أصاب القوم كلّهم (4).
20- عن عبد الجبّار بن وائل قال: حدّثني أهلي عن أبي قال: أتى النبي صلى الله عليه و آله بدلو من ماء فشرب من الدلو، ثمّ مجّ في الدلو، ثمّ صُبَّ في البئر أو قال: شرب من الدلو ثمّ مجّ في البئر ففاح منها مثل رائحة المسك. الحديث (5).
21- جاء أنّ ابن عبد اللَّه بن أُبي قال: يا رسول اللَّه ذرني أسقي والدي من
ص: 81
وضوئك لعلّ قلبه أن يلين، فتوضّأ صلى الله عليه و آله وأعطاه، فذهب به إلى أبيه إلى آخر ما يأتي (1).
22- روي أنّ قوماً شكوا إليه ملوحة مائهم، فأشرف على بئرهم وتفل فيها، وكانت مع ملوحتها غائرة فانفجرت بالماء العذب، فهاهي يتوارثها أهلها ويعدّونها أعظم مكارمهم، وهذه البئر بظاهر مكّة تسمى الزاهر واسمها العسيلة (2).
23- أتي النبي صلى الله عليه و آله بدلو؛ فتوضّأ منه فمضمض، ثمّ مجّ في الدلو مسكاً، أو أطيب منه، واستنثر خارجاً منه (3).
24- عن حذيفة بن اليمان (في حديث) فقام (يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) يغتسل وسترته ففضلت منه فضلة في الإناء، فقال: إن شئت فارعه وإن شئت فصبّ عليه قلت: يا رسول اللَّه هذه الفضلة أحبّ إليّ ممّا أصبّ عليه. الحديث (4).
25- عن أمّ حكيم عن أمّ إسحاق قالت: هاجرت مع أخي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالمدينة ... فقدمت ودخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يتوضّأ قلت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قتل إسحاق وأنا أبكي وهو ينظر إليّ، فإذا نظرت إليه نكس في الوضوء، فأخذ كفّاً من ماء فنضحه في وجهي.
قالت أمّ حكيم: ولقد كانت تصيبها العظيمة فترى الدموع في عينيها ولا تسيل على خدّها (5).
26- عن جابر بن عبد اللَّه، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله توضّأ في طست فأخذته فصببته في
ص: 82
بئر لنا (1).
27- عن رفاعة بن رافع قال: خرجت أنا وأخي خلاد إلى بدر على بعير لنا أعجف، حتى إذا كنّا بموضع البريد الذي خلف الروحاء برك بعيرنا .. إذ مرّ بنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: ما لكما؟ فأخبرناه أنّه برك علينا، فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتوضّأ ثم بزق في وضوئه، ثمّ أمرنا ففتحنا له فم البعير فصبّ في جوف البكر من وضوئه، ثمّ صبّ على رأس البكر، ثمّ على عنقه ثمّ على حاركه ثمّ على سنامه ثمّ على عجزه ثمّ على ذنبه، ثمّ قال: اللهمّ احمل رافعاً وخلاداً، فمضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقمنا نرتحل.
الحديث (2).
28- قال عمرو بن العاص وأبو الأعور السلمي لمعاوية: إنّ الحسن بن عليّ رجل عيّ، فقال معاوية: لا تقولا ذلك، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد تفل في فيه، ومن تفل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في فيه فليس بعيّ (3).
لا مجال للريب في هذه الأحاديث؛ بعد نقل الحفّاظ الأعلام لها في كتبهم وإخراجها في أسفارهم، سيما الصحاح كالبخاري ومسلم والنسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم، مع تظافرها أو تواترها لفظاً أو معنى.
كما أنّه لا مجال للشكّ في دلالتها؛ لوضوح كون أعمال الصحابة رضي اللَّه عنهم التبركية، وتقرير النبي صلى الله عليه و آله لعملهم بل أمره لهم بذلك كما في حديث طلق بن عليّ وحديث وفد بني حنيفة وترغيبه صلى الله عليه و آله إيّاهم فيه كما في حديث حنين، أو جري
ص: 83
عمله صلى الله عليه و آله على ذلك كما في حديث إفراغ ماء الوضوء على عليّ وفاطمة عليهما السلام كما أن شرب أمير المؤمنين عليه السلام ماء غسل النبي صلى الله عليه و آله من جفونه كعمل النبي صلى الله عليه و آله، وهو كلّ ذلك دليل قاطع على الجواز.
ويستفاد منها أيضاً جواز التوسل والاستشفاء، كما في حديث جابر، وحديث شرب عليّ عليه السلام ما اجتمع في جفونه صلى الله عليه و آله، وحديث سعد عن جمع من الصحابة، بل كلّ تبرّك توسل في الحقيقة، إذ المتبرّك يريد الوصول إلى البركة والرحمة والخير، بسبب المبارك الذي تبرّك به. هذا معنى لطيف في هذه الروايات المتظافرة بل المتواترة، فعليك بالتدقيق والتنقيب في هذا المعنى حتى تستفيد من الأحاديث الآتية أيضاً.
وأوجّه أنظار القرّاء الكرام إلى ما أشرنا إليه سابقاً، من أنّ المسلم كان يأتي ويطلب منه الدعاء، وهو صلى الله عليه و آله يلبّي حاجته بالمسح، والمسّ، وإعطاء سؤره، وفضل وضوئه، أو تفله، وبصاقه، أو بما مجّ فيه، أو تمضمض وتفل فيه مشفوعاً بالدعاء أو بدونه، وهذا من ألطف التنبيهات على عدم انحصار بركات وجوده الشريف بالدعاء فقط، بل هو رحمة كلّه ومنبع كلّ فيض ومنشأ كلّ خير.
1- قال سعيد بن المعلّى: كنت أطلب البئار التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يستعذب منها، والتي برّك فيها وبصق فيها، فكان يشرب من بئر بضاعة وبصق فيها وبرّك (1).
وكان يشرب من بئر مالك بن النضر بن ضمضم، وهي التي يقال لها بئر أبي أنس، وكان يشرب من بئر جنب قصر بني هديلة اليوم، وكان يشرب من جاسم بئر أبي الهيثم بن التيهان، وكان يشرب من بئر السقيا، وكان يشرب من بئر
ص: 84
غرس وبرّك فيها (1).
وكان يشرب من العبيرة، وقف على بئرها فبصق فيها وشرب منها وبرّك، وكان يشرب من بئر رومة بالعقيق.
وقال أنس بن مالك: جئنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبا، فانتهى إلى بئر غرس وأنه ليستقي منها على حمار، ثمّ نقوم عامّة النهار ما نجد فيها ماء، فمضمض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الدلو وردّه فيها فجاشت الرواء.
وعن سعد قال: سمعت عدّة من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله فيهم أبو أسيد وأبو حميد وأبو سهل بن سعد يقولون: أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بئر بضاعة فتوضّأ في الدلو وردّه في البئر ومجّ في الدلو مرّة أخرى وبصق فيها وشرب من مائها، وكان إذا مرض المريض في عهده يقول: اغسلوه من ماء بضاعة، فيغسل فكأنّما حلّ من عقال.
وعن محمود بن الربيع أنه يعقل مجّة مجّها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الدلو في بئر أنس.
عن ابن طوالة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: شرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من بئرنا هذه (2).
2- قال أبو موسى: دعا النبي صلى الله عليه و آله بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه ومجّ فيه، ثمّ قال لهما: اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما.
قال ابن حجر في الفتح: والغرض بذلك- يعني المجّ- إيجاد البركة فيه.
وفي رواية عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه و آله وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبي صلى الله عليه و آله أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشر،
ص: 85
فقال: قد أكثرت عليّ من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال:
رد البشرى فاقبلا أنتما، قالا: قبلنا ثمّ دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجّ فيه ثمّ قال: اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا، فأخذا القدح ففعلا فنادت أمّ سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمّكما فأفضلا لها منه طائفة (1).
3- عن عبد الجبّار بن وائل قال: حدّثني أهلي عن أبي قال: أتى النبي صلى الله عليه و آله بدلو من ماء فشرب من الدلو ثمّ مجّ في الدلو ثمّ صبّ في البئر، أو قال: شرب من الدلو ثمّ مجّ في البئر ففاح منها مثل رائحة المسك.
وفي رواية ابن ماجة: قال رأيت النبي صلى الله عليه و آله أتى بدلو فمضمض منه فمجّ فيه مسكاً أو أطيب من المسك واستنثر خارجاً من الدلو (2).
4- في الحديبية: عن أبي مروان عن رجل من أسلم من ناجية يقول: دعاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين شكوا إليه قلّة الماء، فأخرج سهماً من كنانته ودفعه إليّ ودعاني بدلو من ماء البئر فجئته به فتوضّأ، فقال: مضمض فاه ثمّ مجّ في الدلو ... فقال: إنزل بالماء فصبّه في البئر وأثر ماءها بالسهم، ففعلت (3).
5- عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي عن أمّه، قالت: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند جمرة العقبة راكباً، ووراءه رجل يستره من رمي الناس ... ثمّ انصرف فجاءته امرأة معها ابن لها به مسّ فقالت: يا نبي اللَّه ابني هذا تعني أدع له قال: فأمرها فدخلت بعض الأخبية، فجاءت بتور من حجارة فيه ماء فأخذ بيده
ص: 86
فمجّ فيه ودعا فيه وأعاده وقال: اسقيه اغسليه منه قالت: فتبعتها فقلت: هب لي من هذا الماء فقالت: خذي منه فأخذت منه حفنة فسقيتها ابني عبد اللَّه فعاش، فكان من برئه ما شاء اللَّه أن يكون- الحديث- (1).
6- عن محمود بن الربيع الأنصاري الخزرجي أنه قال: ما أنسى مجّة مجّها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من بئر من دارنا في وجهي. وفي بعض الأسانيد: وأنا ابن خمس سنين (2).
7- عن طاووس قال: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يفيضوا نهاراً، وأفاض في نسائه ليلًا وطاف بالبيت على ناقته، ثمّ جاء زمزم فقال: ناولوني فنوول دلواً فشرب منها ثمّ مضمض فمجّ في الدلو، ثمّ أمر به فأفرغ في البئر يعني (زمزم) (3).
8- وفد الأقعس بن سلمة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في وفد بني سحيم من بني حنيفة ... فردّهم إلى قومهم وأمرهم أن يدعوهم إلى الإسلام، وأعطاهم إداوة من ماء قد تفل فيه أو مجّ وقال: ... فلينضحوا بهذه الإداوة مسجدهم- الحديث- (4).
9- عن عبد اللَّه بن عمير السدوسي قال: حدّثني أبي عن جدّي أنّه جاء بإداوة من ماء من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنّه قال له: إذا أتيت بلادك رشّ به تلك البقعة واتخذها مسجداً (كذا في الإصابة).
وفي لفظ أسد الغابة: أنه جاء بإداوة من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقد غسل النبي صلى الله عليه و آله
ص: 87
فيها ومضمض في الماء، وغسل يديه وذراعيه، ثمّ ملأ الإداوة وقال: لا ترون ماء إلّا ملأت الإداوة على ما بقي فيها فإذا أتيت بلادك- الحديث- (1).
10- دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أمّ هاني بنت أبي طالب قالت: إنّ النبي صلى الله عليه و آله دخل عليها يوم الفتح، فأتته بشراب فشرب منه، ثمّ فضلت منه فضلة فناولها فشربته، ثمّ قالت: يا رسول اللَّه لقد فعلت شيئاً ما أدري يوافقك أم لا، فقال: وما ذاك يا أمّ هاني؟ قالت: كنت صائمة فكرهت أن أردّ فضلك فشربته.
وفي لفظ: فكرهت أن أردّ سؤرك.
وفي لفظ الطبقات: فقالت: لقد شربت وأنا صائمة قال: فما حملك على ذلك؟
قالت: من أجل سؤرك، لم أكن لأدعه لشي ء لم أكن أقدر عليه، فلمّا قدرت عليه شربته (2).
11- عن نضر بن نضلة الغفاري، أن أباه لقي النبي صلى الله عليه و آله بمرس، فهجم عليهم شوائل فحلب لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في إناء فشرب وشربت فضلة إنائه- الحديث- (3).
12- عن أنس بن مالك (رجل من بني عبد اللَّه بن كعب ثمّ أحد بني الحريش من بني عامر بن صعصعة) قال: أغارت علينا خيل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتيت النبي صلى الله عليه و آله وهو يتغدى فقال: ادن فَكُلْ، قال: قلت: إنّي صائم قال: اجلس أحدّثك عن الصوم والصيام ... فيالهف نفسي هلّا كنت طعمت من طعام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (4).
13- عميرة بن مسعود الأنصارية حدّثت أنّها دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هي وأخواتها، وهن خمس يبايعنه فوجدنه وهو يأكل قديداً فمضغ لهن قديدة، ثمّ
ص: 88
ناولهن إيّاها، فقسمنها فمضغت كلّ واحدة منهنّ قطعة، فلقين اللَّه عزّوجلّ، ما وجدن في أفواههن خلوفاً ولا اشتكين من أفواههن شيئاً (1).
14- عن ابن عبّاس قال: دخلت مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنا وخالد بن الوليد على ميمونة بنت الحارث، فقالت: ألا أطعمكم من هدية أهدتها لنا أمّ عقيق؟ فقال:
بلى، فجي ء بضبّين مشويّين فتبزّق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال له خالد بن الوليد: كأنّك تقذره، قال: أجل، قالت: ألا أسقيكم من لبن أهدته لنا؟ قال: بلى، قال: فجي ء بإناء من لبن فشرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنا عن يمينه وخالد عن شماله فقال لي: اشربه هو لك وإن شئت آثرت به خالداً، فعلمت ما كنت لأوثر بسؤرك عليّ أحداً- الحديث- (2) (والصحيح فقلت كما في الترمذي).
15- عن حنش بن عقيل وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله قال: سقاني رسول اللَّه شربة سويق؛ شَرِب أوّلها وشربت آخرها.
يعني أنّه صلى الله عليه و آله شرب أوّلًا لتحصل البركة فيها ثمّ ناوله الإناء فشرب بقيّته قال:
فما برحت أجد شبعها إذا جعت وريّها إذا عطشت (3).
16- روى الطبراني عن امرأة بذيّة اللسان جاءته صلى الله عليه و آله وهو يأكل قديداً فقالت: أفلا تطعمني؟ فناولها من بين يديه، فقالت: لا، إلّاالذي في فيك فأخرجه فأعطاه لها، فأكلته فلم يعلم منها بعد ذلك شي ء ممّا كانت عليه من البذاءة (4)
ص: 89
17- شرب مقداد بن الأسود اللبن ولم يبق لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله شيئاً، ثمّ جاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقام فحلب له مرّة أخرى، فشربه النبي صلى الله عليه و آله ثمّ شرب سؤره فقال:
قلت: يا رسول اللَّه كان منّي كذا وكذا، فقال: ما هذه إلّارحمة من اللَّه لو كنت أيقظت صاحبيك فأصابا منها، فقلت: والذي بعثك بالحقّ ما أبالي إذا أصبتها وأصبت فضلك من أخطأها من الناس.
وفي مسلم ... قال: فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس ..
وفي مسند أحمد ... إذا أصابتني وإيّاك الكرامة فما أبالي من أخطأت (1).
18- وفي الشفا أيضاً وأتاه رجل ذو إدرة- وهي انتفاخ في الخصيتين- فأمره أن ينضحها بماء من عين مجّ فيها، ففعل فبرئ (2).
19- جلس ابن عبد اللَّه بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه و آله فشرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له: باللَّه يارسول اللَّه أما أبقيت فضلة من شرابك أسقها أبي لعلّ اللَّه يطهّر بها قلبه؟! فأفضل له فأتاه بها فقال له عبد اللَّه: ما هذا؟ قال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه و آله جئتك بها تشربها، لعلّ اللَّه يطهر قلبك بها، فقال له أبوه: فهلّا جئتني ببول أمّك فإنّه أطهر منها فغضب، وجاء إلى النبي صلى الله عليه و آله وقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باللَّه أما أذنت لي في قتل أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله: بل ترفق به وتحسن إليه.
وجاء أن ابنه قال: يا رسول اللَّه ذرني أسقي والدي من وضوئك لعلّ قلبه أن يلين! فتوضّأ صلى الله عليه و آله وأعطاه فذهب به إلى أبيه فسقاه وقال له: هل تدري ما سقيتك؟
قال: نعم سقيتني بول أمّك، قال: لا واللَّه لكن سقيتك بول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3)
ص: 90
20- عن أمالي الحاكم: أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يوماً قائظاً (1) فلمّا انتبه من نومه دعا بماء فغسل يديه، ثمّ مضمض ماءً ومجّه إلى عوسجة، فأصبحوا وقد غلظت العوسجة وأثمرت وأينعت بثمر أعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد، واللَّه ما أكل جائع إلّاشبع ولا ظمآن إلّاروي ولا سقيم إلّابرئ ولا أكل من ورقها حيوان إلّادرّ لبنها، وكان الناس يستشفون من ورقها (2).
21- عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه و آله بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره فقال: يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ قال: ما كنت لأؤثر بفضلي منك أحداً يا رسول اللَّه فأعطاه إيّاه (3).
22- عن أنس بن مالك: أنّها حلبت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله شاة داجن وهي في دار أنس بن مالك وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله القدح فشرب منه حتّى إذا نزع القدح من فيه وعلى يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي، فقال عمر: وخاف أن يعطيه الأعرابي أعطِ أبا بكر يا رسول اللَّه عندك، فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه ثمّ قال: الأيمن فالأيمن (4).
لِمَ خاف عمر من أن يعطيه الأعرابي؟ ولِمَ قدّم أبا بكر؟ فهل هذا إلّاتشرّفاً وتبرّكاً بفضله وسؤره صلى الله عليه و آله.
23- عن حكيم بن حزام قال: أتى النبي صلى الله عليه و آله بإناء فيه لبن وعن يمينه رجل من أهل البادية ومن يساره رجل من أصحابه وهو أسنّ منه، فلمّا قضى النبي صلى الله عليه و آله
ص: 91
حاجته من الشراب قال: يا فتى هذا لك، فتأذن لي فأسقيه؟ قال: هو لي؟ قال: نعم قال: لن أعطي نصيبي من سؤرك أحداً فناوله النبي صلى الله عليه و آله فشرب (1).
24- عن عليّ قال: كنت أرمد من دخان الحصن، فدعاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتفل عليه وغمزها باصبعه فما رمدت بعد (2).
25- كانت الأنصار تقول: من أكل الفريكة فضح قومه، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله أتي بفريكة ففركها وتفل فيها من ريقه ثمّ ناولها غلاماً من الأنصار فأكلها (3) (عن أبي هريرة).
يستفاد من الأحاديث المتقدّمة أيضاً اهتمام الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه و آله، ولذلك اهتموا بالآبار التي شرب منها النبي صلى الله عليه و آله أو بصق فيها أو تفل أو مجّ فيها، حتّى ضبطها العلماء الحفّاظ للآثار النبوية، وقد جمع شتاتها وأوضح مجملاتها السمهودي في كتابه القيّم وفاء الوفاء- وسيأتي كلامه مختصراً- بل كانوا يستشفون بتلك الآبار، ومرّ حديث سعد «وكان إذا مرض المريض في عهده (أي عهد النبي صلى الله عليه و آله) يقول:
«اغسلوه من ماء بضاعة فيغسل فكأنّما حلّ من عقال».
وأمر صلى الله عليه و آله بالاستشفاء بماء مجّ فيه ودعا فيه كما في حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص، وكذا أمر وفد بني حنيفة بأن يرشوا مسجدهم بماء وضوئه أو ماء تفل ومجّ فيه أو ماء مضمض فيه وغسل يديه وذراعيه، ومعلوم أنّه أمر بالتبرّك وإلّا فلا
ص: 92
خصوصية لهذا الماء المحمول من المدينة، وإتعاب النفس فيه كما هو واضح.
وهذه الأحاديث كالأحاديث المتقدّمة والآتية، لا يحتاج إلى التدقيق في سندها ونقده لتواترها الإجمالي والمعنوي مضافاً إلى نقل الصحاح قسماً منها.
ويظهر من الأحاديث أيضاً جواز التوسل والاستشفاء والاستشفاع، بل التبرّك في الحقيقة توسل كما تقدّم بيانه، بل السائل كان يطلب الدعاء وهو صلى الله عليه و آله يمجّ في الماء ويعطيه مشفوعاً بالدعاء أو بدونه.
1- عن أنس بن مالك قال: كان- رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- أشدّ الناس لطفاً، واللَّه ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا أمة تأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه (1).
2- عنه أيضاً قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا صلّى جاء خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بماء إلّاغمس يده فيها، فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها (2).
3- قال عابس بن جعدة التميمي: كنت في مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فرشّ على قوم في المجلس ماء، فأصابني من رشّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
4- عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري في غزوة الخندق- في حديث طويل- جاء النبي صلى الله عليه و آله يقدم الناس فأخرجت له عجيناً فبصق فيه وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك (4)
ص: 93
5- مرّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في غزوة تبوك على ماء نزر لا يملأ الإداوة، فسمّى ذلك المكان تبوكاً، ثمّ استخرج مشقصاً من كنانته فقال: انزل فأغرسه، فنزل فغرسه فجاش عليه الماء- وفي هذه القصّة- قال إبراهيم بن بكر: جاء أبو عقال رجل من جذام كان يقال: إنّه من الأبدال فقال: دلوني على هذه البركة التي جاء إليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهي حسى لا تملأ الأدواة، فدعا اللَّه فبجسها فخرجنا به حتى وقف عليها فقال: نعم نعم هي هي واللَّه، إنّ ماءً أنبطه جبرئيل وبرّك فيه محمّد صلى الله عليه و آله لعظيم البركة قال: فلم تزل على ذلك حتى بعث عمر بن الخطّاب ابن عريض اليهودي فطواها.
قال ابن حجر: وفي سند هذا الحديث من لا نعرفه (1).
وعن معاذ بن جبل قال- في غزوة تبوك- ثمّ قال: إنّكم ستأتون غداً إن شاء اللَّه عين تبوك- إلى أن قال- ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلًا قليلًا، حتّى اجتمع في شي ء قال: وغسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه يديه ووجهه ثمّ أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر أو قال: غزير حتى استقى الناس (2).
6- عن ثابت بن قيس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه دخل على ثابت بن قيس.
قال أحمد: وهو مريض فقال: «اكشف الباس ربّ الناس» عن ثابت ابن قيس: ثمّ أخذ تراباً من بطحان، فجعله في قدح ثمّ نفث فيه بماء وصبّه عليه (3).
7- عن البراء بن عازب قال: كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في سفر فأتينا على ركى
ص: 94
ذمة (1) فنزل فيها ستّة أنا سابعهم أو سبعة أنا ثامنهم قال ماحه (2) فأدليت إلينا دلو، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله على شفة الركى فجعلت فيها نصفها أو قراب ثلثها فرفعت الدلو إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قال البراء: وكدت بإنائي هل أجد شيئاً أجعله في حلقي فما وجدت فغمس يديه فيها، وقال ما شاء اللَّه أن يقول، وأعيدت إلينا الدلو بما فيها ولقد أخرج آخرنا بثوب مخافة الغرق ثمّ ساحت (3).
8- عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضي اللَّه عنهما قال: قد رأيتني مع النبي صلى الله عليه و آله وقد حضرت العصر، وليس معنا ماء غير فضلة، فجعل في إناء فأتي النبي صلى الله عليه و آله فأدخل يده فيه وفرّج أصابعه، ثمّ قال: حيّ على أهل الوضوء البركة من اللَّه، فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه فتوضّأ الناس وشربت، فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني فعلمت أنّه بركة.
والمعنى أنه جعل يستكثر من شربه من ذلك الماء لأجل البركة (4).
9- عن عبد اللَّه قال: كنّا نعد الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفاً، كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في سفر فقلّ الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء فجاء وا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء، ثمّ قال: حيّ على الطهور المبارك والبركة من اللَّه فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
وفي الدارمي «فتوضأوا وجعلت لا همَّ لي إلّاما أدخله بطني لقوله والبركة
ص: 95
من اللَّه» (1).
10- روي أن أعرابياً جاء إليه فشكى إليه نضوب ماء بئرهم، فأخذ حصاة أو حصاتين، وفركها بأنامله ثمّ أعطاها الأعرابي وقال: أرمها بالبئر، فلمّا رماها فيها فار الماء إلى رأسها (2).
11- روي عن زياد بن الحارث الصيداوي صاحب النبي صلى الله عليه و آله في حديث «ثمّ قلنا: إنّ لنا بئراً إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليه وإذا كان الصيف قلّ ماؤها .. فادع اللَّه لنا في بئرنا، فدعا بسبع حصيات ففركهن في يده ودعا فيهن ثمّ قال: «اذهبوا بهذه الحصيات، فإذا أتيتم البئر فالقوا واحدة واذكروا اسم اللَّه» قال زياد: ففعلنا ما قال لنا، فما استطعنا إلى أن ننظر إلى قعر البئر ببركة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
هذه الأحاديث أيضاً تفيد تبرّك الصحابة رضي اللَّه عنهم بما مسّ جلده الشريف، بل تفيد أن ذلك كان سيرة مستمرّة لهم حتّى في الغداة الباردة ولا يشكّ في هذا متدبِّر منصف.
إلّا أنّ العجب ممّا في رواية إبراهيم بن بكر من إرسال عمر بن الخطّاب ابن عريض اليهودي لطمس آثار العين المذكورة ومحو أثر ماء أنبطه جبرئيل، وبرّك فيه محمّد صلى الله عليه و آله كما في الحديث. أما كان في وسعه أن يتبرّك به كما كان يتبرّك به
ص: 96
الصحابة الكبار رضي اللَّه عنهم، أو على الأقل يسكت؟ أما شاهد تبرّكهم في مرأى ومسمع من الرسول صلى الله عليه و آله وتقريره لهم وأمره إيّاهم بذلك كما ثبت سابقاً؟ ولِمَ أرسل يهودياً أما كان في المسلمين غنى وكفاية؟ أم كان المسلمون لا يطيعونه في ذلك، أم أن هذا مفتعل عليه، أو هو اجتهاد من الخليفة في مقابل أعمال الصحابة وتقرير النبي صلى الله عليه و آله بل في قبال أوامره الصريحة بذلك، وكلّ ذلك كان بمرأى منه ومسمع.
وهذه المسألة يأتي الكلام حولها في التبرّك بمكان صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إن شاء اللَّه تعالى.
جمع العلّامة السمهودي في كتابه القيم «وفاء الوفاء ج 3 ص 942» أسماء الآبار التي شرب منها النبي صلى الله عليه و آله أو توضّأ أو اغتسل منها أو بزق أو مجّ فيها، ولا بأس بنقل كلامه هنا مختصراً فنقول:
قال السمهودي: إنّ المسلمين كانوا يتبرّكون ببئر أيّوب وقال في تعريف البخبخة: وبئر أيّوب وأن البئر عن يسار الطريق لمن يريد البقيع ويريد قبر عثمان قال: وإن من يريد طريق سيّدنا حمزة في يسار حديقة تعرف بالرباطية وقف رباط اليمنة، بها بئر، قال المراغي: تعرف ببئر أيّوب أيضاً يتبرّك بها الناس وهي بالقرب من الحديقة المعروفة بدار الفحل.
وقال في ج 3 ص 951: وتقدّم في بيان المحل الذي ضرب منه اللِبِنْ للمسجد النبوي أن البئر المعروف اليوم بالرباطية وقف رباط اليمنة في شامي الحديقة المعروفة بالرومية بقرب دار فحل، يتبرّك بها الفقراء كما ذكره الزين المراغي وقال:
إنّها تعرف ببئر أيّوب، وكذلك البئر ذات الدرج التي في شرقيها في الحديقة المعروفة بأولاد المصطفى تعرف ببئر أيّوب أيضاً.
ص: 97
قلت: والمعروف اليوم ببئر أيّوب إنّما هي الثانية والظاهر أنّها بئر أبي أيّوب الأنصاري، وأمّا الأولى فالظاهر أنّها بئر أنس؛ لأنّها في جهة السرب الذي ذكره ابن شبه قرب منازل بني جديلة ولتبرّك الناس بها قديماً ...
وفي ص 953 في بيان الآبار التي أتاها النبي صلى الله عليه و آله وشرب منها وتوضّأ قال:
ومنها بئر أخرى إذا وقفت على هذه يعني بئر السقيا وأنت على جادّة الطريق وهي- يعني السقيا- على يسارك كانت هذه على يمينك ... ولم يزل أهل المدينة قديماً وحديثاً يتبرّكون بها ويشربون من مائها وينقل إلى الآفاق منها كما ينقل من ماء زمزم، ويسمّونها ب (زمزم) أيضاً لبركتها.
ثمّ ذكر في ص 954: بئر البُصَّة، وأنه صلى الله عليه و آله صبّ فيها غسالة رأسه ومراقة شعره.
وأن الفقيه الصالح القدوة أبا العبّاس أحمد بن موسى بن عجيل وغيره من صلحاء اليمن إذا جاء وا للتبرّك بالبصة لا يقصدون إلّاالكبرى القبلية، ثمّ ساق في تعيينها كلاماً طويلًا لا مجال لذكره.
ثمّ قال في ص 956: بئر بضاعة- بضم الموحدة على المشهور وحكى كسرها وبفتح الضاد المعجمة وأهملها بعضهم- بصق صلى الله عليه و آله فيها وبرّك على بضاعة، وكان إذا مرض المريض في أيّامه يقول: اغسلوني من ماء بضاعة، فيغسل فكأنّما ينشط من عقال. قالت أسماء: كنّا نغسل المرضى من بئر بضاعة ثلاثة أيّام فيعافون.
ثمّ ساق الكلام في الآبار التي شرب منها النبي صلى الله عليه و آله أو توضّأ منها فذكر في ص 959: أن بئر جاسوم قد شرب منها النبي صلى الله عليه و آله وفي ص 960: بئر جمل وأن النبي صلى الله عليه و آله توضّأ منها وفي ص 961: بيرحاء كان صلى الله عليه و آله يدخلها ويشرب منها وص 966: بئر ذرع توضأ صلى الله عليه و آله منها وبصق فيها وص 967: بئر رومة وص 971 بئر السقيا، وأطال الكلام فيهما فقال في ص 973: وتقدّم في بئر إهاب: أنّ المطري تردّد في أنّ هذه السقيا لقربها من الطريق أم هي البئر المعروفة اليوم بزمزم، لتواتر
ص: 98
التبرّك بها ...
ثمّ ذكر في ص 978: بئر العهن فقال: لم يذكروا شيئاً يتمسّك به في فضلها ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه و آله، لكن لم يزل الناس يتبرّكون بها، والذي ظهر لي بعد التأمّل أنّها بئر اليسيرة، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله نزل عليها وتوضّأ وبصق فيها.
ثمّ ذكر في ص 978: بئر غرس- بضم المعجمة كما رأيته في خط الزين المراغي- وقال: إنّه صلى الله عليه و آله شرب منها وبصق فيها (ثمّ أطال الكلام فيها).
ثمّ ذكر في ص 981- 982: بئر القراصة في حديقة جابر، وأنّه صلى الله عليه و آله توضّأ منها ثمّ قام إلى المسجد فصلّى ركعتين. وكذا بئر القريصة، وأنّه صلى الله عليه و آله توضّأ منها. وكذا بئر اليسيرة، وأنّه صلى الله عليه و آله بصق فيها وبرّك فيها.
ثمّ ذكر في ص 984: عين كهف بني حرام، وأنّه صلى الله عليه و آله توضّأ منها.
وذكر في ص 943: بئر ريس ونقل سقوط خاتم عثمان فيها، وساق الكلام فقال: في ص 947: أنّه صلى الله عليه و آله تفل فيها ونقل في ص 949: بئر الأعواف أحد صدقات النبي صلى الله عليه و آله، فقال: إنّه صلى الله عليه و آله توضّأ على شفة البئر، فسال الماء فيها ونبتت نابتة على أثر وضوئه صلى الله عليه و آله، ولم تزل فيها حتّى الساعة.
وغرضه من ذكر هذه الآبار، كما في عنوان الفصل، ذكر الآبار المباركات بوقوع بصاقه فيها أو وضوئه أو شربه منها أو مجّه صلى الله عليه و آله فيها، وغرضنا من نقل كلامه بيان كون التبرّك بهذه الآبار شائعاً واضحاً عند الصحابة رضي اللَّه عنهم، وكذا التابعين إلى زمن السمهودي المتوفى سنة 911، من دون أي إنكار من أحد من العلماء وغيرهم، وذلك واضح بعد التأمّل فيما تقدّم ويأتي من الأدلّة.
ص: 99
التبرّك بشعره وتقسيمه صلى الله عليه و آله شعره بينهم
نظرة في الأحاديث
تبرّك التابعين بشعره صلى الله عليه و آله
التبرّك بعرقه وبصاقه ونخامته وظفره صلى الله عليه و آله
نظرة وتحقيق في الأحاديث
ص: 100
ص: 101
بحث إجمالي يوجد هنا قسم آخر من النصوص؛ يدلّ على تبرُّك الصحابة رضي اللَّه عنهم بشعره صلى الله عليه و آله وعرقه وبصاقه ونخامته وظفره، وكانوا يحفظون ويستشفون بشعره، ويحبّون أن يكون شي ء منه عندهم، حتّى لقد قال أبو عبيدة: هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها، وأمّ سلمة أمّ المؤمنين تحفظ شعره، فمن اشتكى من أهل المدينة أرسل إناءه إلى أمّ سلمة فتجعل فيه من شعرات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب الإناء أو يغتسل به استشفاء فيحصل له الشفاء ببركتها.
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نفسه يقسِّم شَعره حينما يحلق رأسه بين أصحابه، ويأمر أبا طلحة أن يقسم شعره بين الناس في حجّة الوداع وعمرة الحديبية، ويطيف به أصحابه، ولا يسقط من شعره شي ء إلّاأخذوه، وما يريدون أن تقع شعرة إلّابيد رجل، ويذهب كلّ منهم بما أصابه من الشعر يحفظه، كما يحفظ صفراءه وبيضاءه، ويتبرّك به ويفتخر بكونه عنده.
وهذه أمّ سليم تدوف عرقه في طيبها، وتجعله في قارورة بل تدوف شعره صلى الله عليه و آله في الطيب.
ص: 102
وهذا خالد بن الوليد يجعل شعره صلى الله عليه و آله في قلنسوته، ويستنصر على الأعداء في الحروب ببركته، ولمّا سقطت قلنسوته يوم اليمامة شدّ على الأعداء، ففرّقهم حتّى أخذها، فأنكر عليه بعض الصحابة ذلك، (قبل علمهم بما فيها من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) لظنّهم أنّه خاطر بنفسه لقلنسوة لا قيمة خطيرة لها، فأخبرهم بما فيها من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأنّه فعل ذلك كراهة أن تقع الشعرة بيد المشركين، فرضوا عنه وأثنوا عليه، بل إنّه هو حينما قسّم شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذه وجعله على عينيه وفمه.
وهذا ابن سيرين يقول: لأن يكون عندي منه شعرة أحبّ إليّ من الدنيا بما فيها.
وهذا معاوية بن أبي سفيان يوصي أن يدفن معه شي ء من شعره صلى الله عليه و آله وظفره، وإن كانت الوصية رياءً أو جلباً لرضا العامّة، وفيهم الصحابي وغيره، إذ يكشف ذلك عن نظر عامّة المسلمين وفيهم الصحابة في التبرّك بآثاره صلى الله عليه و آله.
وهذا الوليد بن أبي الوليد يغسل الشعر ويشربه.
وهذا أنس بن مالك يوصي أن يجعل في حنوطه شعرة من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وهذه عائشة أمّ المؤمنين تحتفظ بشعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتهتم به.
وهذا محمد بن سيرين لمّا مات حنط بسك فيه شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكان يعجبه أن يحنط به.
وهذا يحيى بن خالد يحفظ شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في جلجل، والناس يغسلونه ويتبرّكون به.
وهؤلاء آل أبي عبيدة يحفظون فيما بينهم شعرات من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وهذا عمر بن عبد العزيز يوصي أن يجعل شعره وظفراً من أظفاره صلى الله عليه و آله في كفنه.
وهذا أحمد بن حنبل يوصي أن يجعل شعره صلى الله عليه و آله على عينيه ولسانه.
ص: 103
وبعد هذا كلّه، أفيمكن أن يقال: إنّ الصحابة رضي اللَّه عنهم والتابعين لم يكونوا قائلين بجواز التبرّك أو كانوا بتبرّكهم مشركين- والعياذ باللَّه تعالى- وكان النبي صلى الله عليه و آله يقرّرهم على الشرك أو يأمرهم به؟! حاشا ثمّ حاشا النبي العظيم وصحبه الكرام عن وصمة الشرك وتقريره.
وهل يحتمل مسلم مؤمن باللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله أن يكون النبي صلى الله عليه و آله بتقسيمه الشعر وأمره بالتقسيم، وكذا في إعطائه عرقه لشخص أو ترغيبه فيه معيناً على الشرك والكفر وآمراً بهما؟!
بل كان في التبرّك حقيقة التوحيد وخالص الايمان لايمانهم بأنّ ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه و آله من إعطاء اللَّه سبحانه وفضله عليه وشدّة إيمانهم بأنّه رسول اللَّه وخيرته من خلقه والمقرّب عنده والمطاع في ملكوته، وهو عبده ورسوله ومبارك من عنده وبإرادته.
وها نحن نتلو عليك بعض تلك النصوص كي تتدبّر فيها تدبّر ذي لب سلّم للَّه تعالى نفسه وقلبه.
1- عن أنس: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا حلق رأسه كان أبو طلحة أوّل من أخذ من شعره(1).
2- عن المناسك للكرماني: أنّ النبي صلى الله عليه و آله لمّا رمى جمرة العقبة رجع إلى منزله بمنى ثمّ دعا بذبائح فذبح، ثمّ دعا بالحلّاق فأعطاه شقّه الأيمن فحلقه ثمّ دفعه إلى أبي طلحة ليفرّقه بين الناس، ثمّ أعطاه شقّه الأيسر فحلقه ثمّ دفعه إلى أبي طلحة ليفرّقه بين الناس، قيل: وأصاب خالد بن الوليد شعرات من شعرات ناصيته صلى الله عليه و آله
ص: 104
وفي الشفا كانت شعرات من شعره عليه السلام في قلنسوة خالد، فلم يشهد بها قتالًا إلّا رزق النصر. انتهى من تاريخ الخميس ويأتي عن مسلم (1).
3- عن أنس بن مالك: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أتى مِنى فأتى الجمرة فرماها، ثمّ أتى منزله بِمِنى ونَحَرَ ثمّ قال للحلّاق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن، ثمّ الأيسر، ثمّ جعل يعطيه الناس (2).
4- بهذا الاسناد- قال مسلم: أما أبو بكر فقال في روايته للحلّاق «ها» وأشار بيده إلى الجانب الأيمن هكذا، فقسّم شعره بين من يليه قال: ثمّ أشار إلى الحلاق وإلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه أمّ سليم.
وأمّا في رواية كريب فقال: فبدأ بالشقّ الأيمن فوزّعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثمّ قال: بالأيسر فصنع به مثل ذلك ثمّ قال: هاهنا أبو طلحة، فدفعه إلى أبي طلحة (3).
5- عن أنس بن مالك أيضاً: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رمى جمرة العقبة ثمّ انصرف إلى البدن فنحرها، والحجام جالس، وقال بيده عن رأسه فحلق شقّه الأيمن فقسّمه فيمن يليه، ثمّ قال: احلق الشقّ الآخر، أين أبو طلحة؟ فأعطاه إيّاه (4).
6- عنه أيضاً: لمّا رمى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الجمرة، ونحر نسكه، وحلق، ناول الحلّاق شقّه الأيمن فحلقه. ثمّ دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إيّاه ثمّ ناوله الشقّ الأيسر فقال: احلق، فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس (5)
ص: 105
7- عنه أيضاً قال: لمّا رمى النبي صلى الله عليه و آله جمرة العقبة، ونحر هديه، حجم وأعطى الحجّام- وقال سفيان بن مرّة أحد رواة الحديث- الحجّام وأعطى الحالق شقّه الأيمن فحلقه فأعطاه أبا طلحة، ثمّ حلق الأيسر فأعطاه الناس (1).
8- عنه أيضاً قال: لمّا أراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يحلق الحجام رأسه، أخذ أبوطلحة شعر أحد شق رأسه بيده، فأخذ شعره فجاء به إلى أمّ سليم، فقال:
فكانت أمّ سليم تدوفه في طيبها (2).
9- عن أنس قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والحلّاق يحلقه، وقد أطاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلّافي يد رجل (3).
10- عن ابن سيرين عن أنس قال: لمّا حلق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأسه بِمِنى أخذ شقّ رأسه الأيمن بيده، فلمّا فرغ ناولني، فقال: يا أنس انطلق بهذا إلى أمّ سليم فلمّا رأى الناس ما خصّها به من ذلك، تنافسوا في الشقّ الآخر هذا يأخذ الشي ء وهذا يأخذ الشي ء.
قال محمد: فحدّثته عبيدة السلماني فقال: لَأن يكون عندي منه شعرة أحبّ إليّ من كلّ صفراء وبيضاء أصبحت على وجه الأرض وفي بطنها (4).
11- عن أنس لما حلق صلى الله عليه و آله بدأ بشق رأسه الأيمن فحلقه ثمّ ناوله أبا طلحة قال: ثمّ حلق شقّ رأسه الأيسر فقسّمه بين الناس (5)
ص: 106
12- عن عبد اللَّه بن زيد: «فحلق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأسه في ثوبه فأعطاه فقسم منه على رجال، وقلّم أظفاره فأعطاه صاحبه قال: فإنّه لعندنا مخضوب بالحناء والكتم يعني شعره (1).
13- عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا حلق شعره يوم النحر، تفرّق الناس وأخذوا شعره فأخذ أبو طلحة منه طائفة.
قال ابن سيرين: لَأن يكون عندي منه شعرة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها (2).
14- لما نحر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الهدي دعا الحلّاق، وحضر المسلمون يطلبون من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأعطى الحلّاق شقّ رأسه الأيمن، ثمّ أعطاه أبا طلحة الأنصاري، وكلَّمه خالد بن الوليد في ناصيته حين حلق فدفعها إليه، فكان يجعلها في مقدّمة قلنسوته فلا يلقى جمعاً إلّافضّه (3).
15- عن أبي بكر قال: نظرت إليه يعني خالداً، ورسول اللَّه يحلق رأسه وهو يقول: يارسول اللَّه ناصيتك لا تؤثر بها عليّ أحداً فداك أبي وأمّي فانظر إليه أخذ ناصية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فكان يضعها على عينه وفمه (4).
16- قال: وسألت عائشة من أين هذاالشعرالذي عندكن؟ قالت: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا حلق رأسه في حجّته، فرّق شعره في الناس فأصابنا ما أصاب الناس(5)
.17- بايع جعشم الخير تحت الشجرة وكساه النبي صلى الله عليه و آله قميصه ونعليه وأعطاه من شعره (6)
ص: 107
18- كانت شعرات من شعره صلى الله عليه و آله في قلنسوة خالد، فلم يشهد بها قتالًا إلّا رزق النصر (1).
19- روي في قصّة الحديبية (كما تقدّم)، أنّه لا يسقط شي ء من شعره إلّا أخذوه (2).
20- عن ابن سيرين قال: قلت لعبيدة- السلماني-: عندنا من شعر النبي صلى الله عليه و آله أصبنا من قبل أنس، أو من قبل أهل أنس، قال: لأن تكون عندي شعرة منه أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها (3).
قال في الفتح (4): فيما يستفاد من الحديث «وفيه التبرّك بشعره صلى الله عليه و آله».
21- عن عبد اللَّه بن موهب قال: أرسلني أهلي إلى أمّ سلمة بقدح من ماء وقبض إسرائيل (5)- الراوي عن عثمان بن عبد اللَّه بن موهب عن عبد اللَّه- ثلاث أصابع من قصة (فضة خ د) فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه و آله وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شي ء بعث إليها مخضبة فاطلعت في الحجل فرأيت شعرات حمراً.
قال في الفتح: والمراد أنّه كان من اشتكى أرسل إناءً إلى أمّ سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات، وتغسلها فيه، وتعيده فيشربه صاحب الإناء، أو يغتسل به استشفاءً بها، ليحصل له بركتها (6)
ص: 108
22- عن عبد اللَّه بن موهب قال: دخلت على أمّ سلمة، فأخرجت إلينا شعراً من شعر النبي صلى الله عليه و آله مخضوباً (1).
23- عن ابن موهب: أنّ أمّ سلمة أرته شعر النبي صلى الله عليه و آله أحمر (2).
24- عن أنس: أنّ أمّ سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه و آله نطعاً، فيقيل عندها على ذلك النطع.
قال: فإذا نام النبي صلى الله عليه و آله أخذت من عرقه وشعره، فجمعته في قارورة، ثمّ جمعته في سكك قال: فلمّا حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السكك قال: فجعل في حنوطه (3).
25- عثمان بن عبد اللَّه بن موهب قال: دخلنا على أمّ سلمة، فأخرجت إلينا صرّة فيها شعر من شعر النبي صلى الله عليه و آله مخضوباً بالحناء.
قال عفان ويونس في حديثهما، والكتم (4).
26- لما حضر معاوية الموت، أوصى بأن يدفن في قميص رسول اللَّه وإزاره وردائه وشي ء من شعره (5).
27- عن الوليد بن أبي الوليد: أنّه رأى شعراً من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مصبوغاً
ص: 109
بالحنّاء، وليس بشديد الحمرة، وكان يغسله بالماء ثمّ يشربه (1).
28- جعل في حنوط أنس بن مالك صرّة مسك وشعر من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (2).
29- عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن- قال في حديث:- فرأيت شعراً من شعره صلى الله عليه و آله فإذا هو أحمر، فسألت فقيل: أحمر من الطيب (3).
30- أتى رجل من ولد الأنصار إلى الرضا علي بن موسى عليهما السلام بحقة فضة مقفل عليها، وقال: لم يتحفك أحد بمثلها ففتحها وأخرج منها سبع شعرات وقال: هذا من شعر النبي صلى الله عليه و آله، فميّز الرضا عليه السلام أربع طاقات منها وقال: هذا شعره ... الحديث (4).
31- عن أبي بكر أنه كان يقول: ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عمّا كان بين محمد وربّه ... لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجّة الوداع قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بدنة، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينحرها بيده، ودعا الحلّاق فحلق رأسه، وانظر إلى سهيل يلتقط من شعره وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقرّ يوم الحديبية بأن يكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم .... (5).
لا يخفى على المتدبّر، أنّ الإختلاف في أحاديث شعر النبي صلى الله عليه و آله وقع من جهات،
ص: 110
ففي بعضها: «دعا بالحلّاق فأعطاه شقّه الأيمن فحلقه ثمّ دفعه إلى أبي طلحة ليفرّقه بين الناس، ثمّ أعطاه شقّه الأيسر فحلقه ثمّ دفعه إلى أبي طلحة ليفرّقه بين الناس» وفي رواية: «وأشار إلى جانبه الأيمن ثمّ الأيسر ثمّ جعل يعطيه الناس» وفي رواية:
«أنّه قسّم شعره الأيمن وأعطى أبا طلحة الأيسر» وفي لفظ: «أنه قسّم الأيمن وأعطى الأيسر أمّ سليم» وفي آخر: «أنه أعطى الأيمن أبا طلحة وقسّم الأيسر بين الناس» وفي آخر: «أنّ الأيمن أعطاه أبا طلحة وأما الأيسر فتقاسمه الناس هذا يأخذ شيئاً وذاك يأخذ آخر» وفي رواية: «أنّه حلق رأسه في ثوبه فقسّم منه على رجال».
وللعلماء في هذا الاختلاف كلام يأتي فيما بعد، ولكن التدافع والاختلاف في الخصوصيات إمّا لنسيان أو خطإ أو كذب وافتعال لا يضرّ بالاستدلال على أصل جواز التبرّك، وأنّه صلى الله عليه و آله أمر بالتقسيم أو قسَّم شعره للتبرّك أو تقاسمه الناس أو أعطى أبا طلحة الأيمن أو الأيسر، وذلك للتواتر المعنوي في أصل المطلب، ولا ينافيه الخلاف في الخصوصيات.
وقال في تبرّك الصحابة: فإن قيل في هذه الروايات شبه تدافع فالجواب: أنّه لا تدافع، إذ يجمع بينها بأنّه ناول أبا طلحة كلّاً من الشقّين: فأمّا الأيمن فوزّعه أبو طلحة بأمره بين الناس، وأمّا الأيسر فأعطاه لأمّ سليم زوجته بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً، وزاد أحمد في رواية له: «لتجعله في طيبها» فأمره صلى الله عليه و آله بتفريق شعره بين أصحابه للتبرّك به، وحرصهم على ذلك وازدحامهم عليه حتى ينال أحدهم الشعرة والشعرتين فيه أقوى دليل على أنّ التبرّك بآثاره صلى الله عليه و آله كان أمراً مطرداً شائعاً بين أصحابه رضي اللَّه عنهم شرعاً، لإقرارهم عليه، فلا ينكره إلّامن لم يخالط بشاشية الايمان قلبه (راجع ص 8).
وقال: أيضاً ص 9: وممّا هو معلوم من تبرّك أصحابه صلى الله عليه و آله بشعره الشريف
ص: 111
وبجميع ما خالط جسده الشريف، ما ثبت من جعل خالد بن الوليد بعض شعره في قلنسوته، فكان يدخل بها في الحرب ويستنصر ببركته صلى الله عليه و آله، ولمّا سقطت قلنسوته يوم اليمامة شدّ عليها شدّة حتّى أخذها، فأنكر عليه بعض الصحابة ذلك قبل علمهم بما فيها من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لظنّهم أنّه خاطر بنفسه على قلنسوة لا قيمة لها، فقال خالد: لم أفعل ذلك لقيمة القلنسوة، لكن كرهت أن تقع بأيدي المشركين وفيها من شعر النبي صلى الله عليه و آله فرضوا عنه وأثنوا عليه. انتهى.
لكن جوابه في دفع الاختلاف ليس بصحيح إذ هو جمع بلا دليل، كما أنّه جمع بين بعض الروايات فقط كما لا يخفى.
وقال الحلبي في السيرة ج 3 ص 303: قال في النور: والحاصل أنّ الروايات اختلفت في صحيح مسلم، ففي بعضها أنه أعطاه الأيسر، وفي بعضها أنه أعطاه الأيمن، ورجح ابن القيم: أنّ الذي اختص به أبو طلحة هو الشقّ الأيسر، أقول:
الذي في صحيح مسلم: قال للحلّاق «ها» وأشار بيده إلى جانبه الأيمن فقسّم شعره بين من يليه، وفي رواية فوزّعه الشعرة والشعرتين، ثمّ أشار إلى الحلّاق وإلى جانبه الأيسر فحلقه فأعطاه لأمّ سليم ... والجمع ممكن بين هذه الروايات انتهى. ولم يذكر طريق الجمع، والحقّ هو ما ذكرناه من جواز الاستدلال بما تواتر منها معنًى، وترك ما اختلفت فيه منها على حاله.
وتختص هذه الأحاديث بذكرها أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد باشر بنفسه تقسيم الشعر في عمرة الحديبية أو عمرة القضاء وحجّة الوداع.
ويتبعه عمل الصحابة رضي اللَّه عنهم في تبرّكهم بشعره صلى الله عليه و آله، كما في قصة قلنسوة خالد، ووضعه الشعر على عينيه وفمه، وكما في حديث عبد اللَّه بن موهب الدالّ على مزاولة أهل المدينة للتبرّك والاستشفاء بالشعر الشريف، وإرسالهم الآنية إلى أمّ المؤمنين أمّ سلمة، لترسل لهم ماء مسّ شعره صلى الله عليه و آله، ليتبرّكوا به، وكذا
ص: 112
جعل الشعر في الحنوط، في حديث أنس بن مالك، ووصية معاوية بن صخر (وإن كان رياءً أو تظاهراً).
ويستفاد من هذه الأحاديث أيضاً حكم التوسل والاستشفاء؛ إمّا صريحاً، أو من أنّ حقيقة التبرّك هي التوسّل كما تقدّم بيانه.
ودلالتها على تبرّكهم بالشعر واستشفائهم ممّا لا يخفى على أي إنسان، إذ تقسيمه صلى الله عليه و آله الشعر، وتقاسمهم له، وتنافسهم فيه، وحفظهم له، والإيصاء بالتحنيط به، أو جعله في الطيب، كلّ ذلك إنّما هو للتبرّك به، وأصرح من ذلك عمل أهل المدينة، وأمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي اللَّه عنها.
1- عن عكرمة بن خالد قال: عندي من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مخضوب (1).
2- عن يحيى بن عباد عن أبيه قال: كان لنا جلجل من ذهب، فكان الناس يغسلونه وفيه شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: فتخرج منه شعرات قد غيرت بالحناء والكتم (2).
3- عن عثمان بن حكم قال: رأيت عند آل أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة شعرات من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مصبوغاً بالحناء (3).
4- حينما حضرت عمر بن عبد العزيز- الخليفة الأموي- الوفاة، دعا بشعر من شعر النبي صلى الله عليه و آله، وأظفار من أظفاره، وقال: إذا مت فخذوا الشعر والأظفار، ثمّ
ص: 113
اجعلوه في كفني، ففعلوا ذلك (1).
5- أعطى بعض ولد فضل بن الربيع أبا عبد اللَّه- يعني أحمد بن حنبل- وهو في الحبس ثلاث شعرات، فقال: هذا من شعر النبي صلى الله عليه و آله، فأوصى أبو عبد اللَّه عند موته أن يجعل على كلّ عين شعرة، وشعرة على لسانه، ففعل ذلك به بعد موته (2).
وأضف إلى ذلك ما في كتاب «الآثار النبوية» فقد نقل فيه ما يعلم منه اهتمام المسلمين بشعره صلى الله عليه و آله، وحفظهم إيّاه تبرّكاً به، (ص 81/ 82).
قال ابن العجمي في تنزيه المصطفى، ثبت في الصحيحين بروايات أنه صلى الله عليه و آله حلق رأسه الشريف في حجّة الوداع، وقسّم شعره، أو أمر أبا طلحة وزوجته أمّ سليم بقسمته بين الصحابة الرجال والنساء.
قال ابن حجر فيه: إنّه يسنّ بل يتأكّد التبرّك بشعره صلى الله عليه و آله وسائر آثاره، كما نقل عن العلماء في أحاديث الشعر، وأنه كيف وصل إلى ابن سيرين.
ثمّ قال (في ص 83): كان عند أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر المرشدي المولود سنة 763 والمتوفى سنة 829 شعرة أو شعرتان تلقّاها عن رجل ببيت المقدس.
ثمّ قال: شعرة بتونس بقبر الصحابي الجليل أبي زمعة البلوي أخذها يوم مِنى في حجّة الوداع، ووضعها في قلنسوته إلى أن استشهد في القيروان فدفنت معه.
وقال (في ص 84): نقل ابن حجر الهيثمي: أنّ بمكة شعرة من شعره المكرّم مشهورة تزار، واتّفق الخلف عن السلف أنه من شعره صلى الله عليه و آله.
وقال (ص 85): بدارالأشياخ بتونس شعرات بشعره (كذا) صلى الله عليه و آله وبقبر أبي شعرة.
وقال (ص 86): نقلًا عن ابن حجر العسقلاني: إنّ الخلاطي الحنفي يزعم أن عنده ركاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ومن شعره صلى الله عليه و آله، وعن السخاوي: أن عند شمس الدين
ص: 114
محمد بن عمر، شعرة تنسب إلى النبي صلى الله عليه و آله وكذا بجامع برسباي بالخانقاة.
وقال (ص 89): إنّ بالمسجد الحسيني بالقاهرة شعرات باقية.
وقال (ص 90): إنّ برباط النقشبندية بالقاهرة شعرة.
وقال (ص 91): إنّ بالقسطنطينية شعرات.
وقال (ص 92): إنّ بالمشهد الحسيني بدمشق شعرة.
وقال (ص 93): إنّ بمقام التوحيد بدمشق شعرة.
وقال (ص 94): شعرة ببيت المقدس، وشعرتان بعكا وحيفا، وثلاث شعرات بصفد وطبرية والناصرة موجودة.
وقال (ص 45): إنّ بطرابلس شعرتين وكذا في يهوبال الهند شعرة.
وأضف إلى ما تقدّم من النصوص ما في دلائل النبوّة للبيهقي (1) وصفة الصفوة (2) والوفاء لابن الجوزي (3) وتاريخ الإسلام للذهبي (4) والبداية والنهاية (5) ومسند أحمد (6).
هنا قسم آخر من النصوص الحاكية عن عمل الصحابة رضي اللَّه عنهم في تبرّكهم بعرقه وبصاقه ونخامته وظفره صلى الله عليه و آله.
فهذه أمّ سليم تجمع عرقه صلى الله عليه و آله في قارورة تجعله في طيها، فيقول صلى الله عليه و آله: «ما هذا
ص: 115
الذي تصنعين؟» فتقول: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب نرجو بركته لصبياننا، فيقول: «أصبت».
بل جمعت عرقه وشعره في سكّ، فلمّا مات أنس بن مالك أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السك، واستوهب منه محمد بن سيرين واستوهب منه أيّوب وأوصى محمد بن سيرين أن يحنّط به.
وقد يعيّن صلى الله عليه و آله رجلًا في تزويج ابنته بقارورة من عرقه صلى الله عليه و آله.
ويتبرّكون ببصاقه صلى الله عليه و آله في البئار القليلة الماء، أو التي يكون ماؤها مرّاً، كما أنّهم يتبرّكون ببصاقه للأطفال والمراضع يتفل في أفواههم.
وقد تقدّمت بعض النصوص في ضمن الفصول المتقدّمة، وإليك نبذاً أخرى منها:
1- عن أمّ سليم عن النبي صلى الله عليه و آله كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط له نطعاً فيقيل عندها، وكان كثير العرق، فتجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير، قالت: وكان يصلّي على الخُمْرَة (1).
2- عن أنس قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدخل على أمّ سليم فتبسط له نطعاً فيقيل عليه، فتأخذ من عرقه فتجعله في طيبها وتبسط له الخُمْرَة فيصلّي عليها (2).
3- عنه أيضاً قال: دخل علينا النبي صلى الله عليه و آله فَقالَ عندنا، فعرق فجاءت أمّي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا أمّ سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب (3).
4- عنه أيضاً قال: كان النبي صلى الله عليه و آله يدخل على بيت أمّ سليم فينام على فراشها
ص: 116
وليست فيه.
قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا النبيّ صلى الله عليه و آله نائم على فراشك.
قالت: فجئت وذاك في الصيف فعرق النبي صلى الله عليه و آله حتى استنقع عرقه على قطعة أدم على الفراش، فجعلت أنشف ذلك العرق وأعصره في قارورة، ففزع وأنا أصنع ذلك فقال: ما تصنعين يا أمّ سليم؟ قالت: يا رسول اللَّه نرجو بركته لصبياننا، قال:
أصبت(1)
.وفي لفظ آخر لمسلم ص (1816 ج 4): عن أنس عن أمّ سليم: أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط له نطعاً فيقيل عليه، وكان كثير العرق فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير، فقال النبي صلى الله عليه و آله: يا أمّ سليم ما هذا؟ قالت:
عرقك أدوف به طيبي.
5- عنه أيضاً قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأتي بيت أمّ سليم فينام على فرشها، وليست أمّ سليم في بيتها، فتأتي فتجده نائماً، وكان صلى الله عليه و آله إذا نام ذفَّ عرقاً فتأخذ عرقه بقطنة فتجعله في مسكها» (2).
6- وعنه: أنّ أمّ سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه و آله نطعاً؛ فيقيل عندها على ذلك النطع، قال: فإذا نام النبي صلى الله عليه و آله أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثمّ جمعته في سكّ. قال: فلمّا حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السكّ قال: فجعل في حنوطه (3)
ص: 117
قال ابن حجر في الفتح ج 11 ص 59 بعد ذكره ما نقلناه عن البخاري عن أنس: «إنّ أمّ سليم كانت تبسط للنبي نطعاً فيقيل عندها على ذلك النطع، قال: فإذا نام النبي صلى الله عليه و آله أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثمّ جمعته في سك وهو نائم، قال: فلمّا حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إليَّ أن يجعل في حنوطه من ذلك السكّ. قال: فجعل في حنوطه».
قال: وفي ذكر الشعر غرابة في هذه القصّة، وقد حمله بعضهم على ما ينتشر من شعره صلى الله عليه و آله عند الترجل، ثمّ رأيت في رواية محمد بن سعد ما يزيل اللبس، فإنّه أخرج بسند صحيح عن ثابت عن أنس: «أنّ النبي صلى الله عليه و آله لمّا حلق شعره بِمِنى أخذ أبو طلحة شعرة فأتى بها أمّ سليم فجعلته في سكها، قالت أمّ سليم: وكان يجي ء فيقيل عندي على نطعي، فجعلت أسلت العرق ... الحديث (1).
فيستفاد من هذه الرواية أنّها لمّا أخذت العرق وقت قيلولته أضافته إلى الشعر الذي عندي، لا أنّها أخذت من شعره لما نام ...
7- عن محمد بن سيرين عن أمّ سليم قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقيل في بيتي فكنت أبسط له نطعاً فيقيل عليه فيعرق، فكنت آخذ سكّا فأعجنه بعرقه، قال محمد: فاستوهبت من أمّ سليم من ذلك السك فوهبت لي منه.
قال أيوب: فاستوهبت من محمد من ذلك السك فوهب لي منه فإنّه عندي الآن. قال: فلمّا مات محمد حُنِّط بذلك السك. قال: وكان محمد يعجبه أن يُحنّط الميّت بالسك (2).
8- عن البراء بن زيد: أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال في بيت أمّ سليم على نطع فعرق فاستيقظ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمّ سليم تمسح العرق، فقال: يا أمّ سليم ما تصنعين؟ قال:
ص: 118
فقالت: آخذ هذه البركة التي تخرج منك (1).
9- عن أمّ سليم: كان النبي صلى الله عليه و آله يجي ء يقيل عندي على نطع وكان معراقاً، قالت: فجاء ذات يوم فجعلت أسلت العرق فأجعله في قارورة لي فاستيقظ النبي صلى الله عليه و آله، فقال: ما تجعلين يا أمّ سليم؟ فقلت: باقي عرقك أريد أن أدوف به طيبي (2).
10- عن ثابت عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه و آله يقيل عند أمّ سليم وكان من أكثر الناس عرقاً، فاتخذت له نطعاً فكان يقيل عليه وخطّت بين رجليه خطّاً، فكانت تنشف العرق فتأخذه، فقال: ما هذا يا أمّ سليم؟ قالت: عرقك يا رسول اللَّه أجعله في طيبي، فدعا لها بدعاء حسن (3).
11- تقدّم في تبرّكهم بماء وضوئه صلى الله عليه و آله، أنّ عروة بن مسعود قال: فواللَّه ما تنخّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نخامة إلّاوقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده (4).
12- تقدّم أيضاً في التبرّك بماء وضوئه صلى الله عليه و آله (في قصة الحديبية) عن عروة بن مسعود قوله: «لا يتوضّأ وضوء اً إلّاابتدروه، ولا يبصق بصاقاً إلّاابتدروه، ولا يسقط من شعره شي ء إلّاأخذوه» (5)
ص: 119
13- مرّ ما يدلّ على تبرّك الصحابة رضي اللَّه عنهم ببصاقه صلى الله عليه و آله في النصوص الواردة في تبرّكهم بماء وضوئه وكذا تبرّكهم بتفله.
14- بزق صلى الله عليه و آله على صدر عبد اللَّه بن أبيّ بعد تكفينه (1).
15- وقد مرّ وسيأتي: أنّ معاوية أوصى أن يدفن معه ظفره صلى الله عليه و آله، ويجعل على عينه وفمه ومنخره (2).
16- عن رجل من قيس قال: لمّا مات أبي جاء- يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- وقد شددته في كفنه، وأخذت سلاءة فشددت بها الكفن، فقال: لا تعذّب أباك بالسلا- قالها حمّاد ثلاثاً- قال: ثمّ كشف عن صدره، وألقى السلا، ثمّ بزق على صدره حتّى رأيت رضاض بزاقه على صدره (3).
17- عن أنس قال: ما ورثتني أمّ سليم إلّاببرد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقدحه الذي كان يشرب فيه، وعمود فسطاطه، وصلاية كانت تعجن عليها أمّ سليم الرامك بعرق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يكون في بيت أمّ سليم فينزل عليه الوحي وهو على فراشها، فيجدل كما يجدل المحموم فيعرق، فكانت أمّ سليم تعجن الرامك بعرقه (4).
18- عن عائشة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يقول للمريض ببزاقه باصبعه بسم اللَّه تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربّنا (5).
19- عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه إنّي
ص: 120
زوّجت ابنتي، وأنا أحبّ أن تعينني بشي ء، فقال: ما عندي شي ء، ولكن إذا كان غداً فأتني بقارورة واسعة الرأس وعود شجرة ... فلمّا كان الغداة أتاه بذلك فجعل النبي صلى الله عليه و آله يسلت العرق عن ذراعيه، حتّى امتلأت القارورة ... الحديث (1).
تكرّرت الروايات في أخذ أمّ سليم عرق النبي صلى الله عليه و آله بمضامين مختلفة ففي بعضها:
أنّ سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استقرّت على أن يقيل في بيت أمّ سليم، حتى اتخذت لذلك نطعاً، فكان يقيل عليه، وخطّت بين رجليه خطّاً فكانت تنشف العرق وتأخذه.
وفي بعضها: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يأتي بيت أمّ سليم، فينام فيه، وليست هي في البيت فتأتي وتجده نائماً فتأخذ من عرقه.
وظاهر بعضها أنّها كانت تمسح العرق عن وجهه، كما أنّ في بعضها أنّها كانت تجعل العرق في قارورة، وفي بعضها أنّها أخذت سكاً تعجنه بعرقه، وفي بعضها أنّ أمّ سليم كانت تأخذ العرق حين نزول الوحي على النبي صلى الله عليه و آله.
فهنا عدّة أسئلة تواجهنا:
فلِمَ ترك رسول اللَّه بيوت نسائه وبناته وعمّاته، واستمر عمله على القيلولة في بيت أمّ سليم؟ وقد نقل قيلولته كثيراً عند الشفا بنت عبد اللَّه القرشيّة ... التي كانت من عقلاء النساء وفضلائهنّ ... (2).
وأيّة خصوصية لها (3)، عدا أنّ ابنها كان خادماً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟
ص: 121
وإلى أي حدّ كان صلى الله عليه و آله معراقاً حتّى يجري عرقه على النطع ويستنقع حتّى تنشفه أمّ سليم؟
ثمّ .. كيف رخص صلى الله عليه و آله أمّ سليم، وهي امرأة أجنبية، أن تباشر مسح العرق عن وجهه صلى الله عليه و آله (1)؟
وبأيّ طريق يجمع بين الروايات المختلفة على نحو ما تقدّم؟
هذه أسئلة لا جواب لبعضها، ولكنّها لا تمنع من الاستدلال في مورد الاتفاق وهو جواز التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله.
ودلالتها على التبرّك بمكان من الوضوح، سيما مع تصريح أمّ سليم برجاء البركة. كما أنّ ترغيب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إيّاهم في التبرّك أيضاً لا يخفى على المتدبِّر المنصف، ولاسيما في قصة إعطائه صلى الله عليه و آله عرقه لرجل يريد تزويج ابنته، ويطلب منه صلى الله عليه و آله الإعانة، فهل هذا إلّاطلب البركة وإعانته بذلك إجابة لهذا الطلب؟
ص: 122
ص: 123
بحث إجمالي
تبرّكهم بقدحه صلى الله عليه و آله
تبرّكهم بموضع فمه وآثار أصابعه من الطعام
تبرّكهم بمنبره صلى الله عليه و آله واحترامهم له
كلام السمهودي
تبرّكهم بالدنانير التي أعطاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لبعضهم
الكلام حول الأحاديث
ص: 124
ص: 125
ونعرض هنا للقرّاء الكرام طائفة أخرى من النصوص الدالّة على تبرّك الصحابة رضي اللَّه عنهم بآثار الرسول صلى الله عليه و آله، كي يتدبّروا فيها سنداً ودلالة، تدبّر منصف محقّق سلّم نفسه للَّه تبارك وتعالى، حتى يتبيّن لهم كون التبرّك عند الصحابة أمراً مسلّماً؛ لا مرية فيه ولا ريب يعتريه.
إذ إننا نجد في تلك النصوص: أنّ أمّ سليم تقطع فم القربة التي يشرب منها الرسول العظيم صلى الله عليه و آله، لمسّ فمه فم القربة، وكذلك كبشة بنت ثابت، وكلثم جدّة عبد الرحمن.
ونجد أيضاً أنّ سهل بن سعد الساعدي سقى النبي صلى الله عليه و آله في قدح عنده، فيقول أبوحازم الراوي عنه: فأخرج سهل لنا هذا القدح فشربنا منه ثمّ استوهبه منه الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، فوهبه إيّاه، وكان عمر وقتئذ أمير المدينة.
ومعلوم أنّ كلّ ذلك- كما قال ابن حجر في الفتح- للتبرّك بآثار الصالحين، فكيف التبرّك بالنبي العظيم صلى الله عليه و آله؟!
وأنّ أنس بن مالك كان يحتفظ بقدح النبي صلى الله عليه و آله وقد بقي حتّى رآه البخاري في
ص: 126
البصرة وتبرّك بالشرب منه.
وأنّ أبا أيّوب وأمّه كانا يتبرّكان بموضع أصابع النبي صلى الله عليه و آله من الطعام وقال:
«نبتغي بذلك البركة».
وأنّ عمر بن الخطّاب الخليفة الثاني كان يتبرّك بالشرب في قدح النبي صلى الله عليه و آله وينضح من مائه على وجهه.
وأنّ أمّ عامر أخذت الشجب الذي شرب فيه النبي صلى الله عليه و آله، فدهنته وكانت تسقي فيه المرضى استشفاء، ويتبرّك الناس بالشرب فيه.
وأنّ أسماء كانت تدير الكأس، وتتبع بشفتها لتصيب منه مشرب النبي صلى الله عليه و آله.
وأنّ عبد اللَّه بن سلام يسقي أبا بردة في قدح شرب فيه النبي صلى الله عليه و آله.
والنصوص الدالّة على ذلك كثيرة نذكر منها:
1- قال أبو بردة: قال لي عبد اللَّه بن سلام: ألا أسقيك في قدح شرب النبي صلى الله عليه و آله فيه (1)؟
2- عن سهل بن سعد في حديث قال: فأقبل النبي صلى الله عليه و آله يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثمّ قال: اسقنا يا سهل، فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه (قال الراوي): فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه. قال: ثمّ استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له (2).
قال ابن حجر في الفتح: كان عمر بن عبد العزيز حينئذ قد وُلي إمرة المدينة وليست الهبة هنا حقيقة، بل من جهة الاختصاص.
ص: 127
(يعني من أجل أنّ الآثارالنبوية لا تباع أو لا تملك، بل الذي تكون عنده يكون لهانحواختصاص به، وفي الحديث التبسطعلى الصاحب ... والتبرّك بآثار الصالحين).
3- عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي صلى الله عليه و آله عند أنس بن مالك قد انصدع فسلسله بفضة. قال: وهو قدح جيّد عريض من نضار.
قال: قال أنس: لقد سقيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. قال ابن سيرين: إنّه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال أبو طلحة: لا تغيرن شيئاً صنعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتركه (1).
قال في الفتح: تقدّم في فرض الخمس من طريق أبي حمزة السكري عن عاصم قال: رأيت القدح وشربت منه. وأخرجه أبو نعيم من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة ثمّ قال: قال علي بن الحسن: وأنا رأيت القدح وشربت منه.
وذكر القرطبي في مختصر البخاري أنه رأى في بعض النسخ القديمة من صحيح البخاري: قال أبو عبد اللَّه البخاري: رأيت هذا القدح بالبصرة وشربت منه، وكان اشتري من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف.
أقول: وقال صاحب كتاب تبرّك الصحابة بعد نقل الحديث، ونعم ما قال:
فقد كان هذا القدح محفوظاً عند الصحابة والتابعين للتبرّك بالشرب فيه ولم يسمع من أحد من الصحابة ولا من أئمّة التابعين إنكار ذلك ولا الاستخفاف به، فكيف يتوهّم جاهل بالسنة أن هذا التبرّك وشبهه منهيّ عنه، أو خلاف الأفضل، أحرى أن يوصف فاعله بالضلال، أعاذنا اللَّه منه؟!
4- عن صفية بنت بحرة قالت: استوهب عمّي فراس من النبي صلى الله عليه و آله قصعة رآه يأكل فيها فأعطاها إيّاها. قال: وكان عمر إذا جاءنا قال: أخرجوا لي قصعة
ص: 128
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فنخرجها إليه فيملأها من ماء زمزم فيشرب منها، وينضحه على وجهه (1).
5- عن حجّاج بن حسان قال: كنّا عند أنس فدعا بإناء فيه ثلاث ضبات حديد وحلقة من حديد، فأخرج من غلاف أسود وهو دون الربع وفوق نصف الربع، وأمر أنس بن مالك فجعل لنا فيه ماء، فأتينا به فشربنا وصببنا على رؤوسنا ووجوهنا، وصلّينا على النبي صلى الله عليه و آله (2).
6- عن أنس: أنّ قدح النبي صلى الله عليه و آله انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة. قال عاصم: رأيت القدح وشربت فيه (3).
1- عن أنس قال: حدّثتني أمّي: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخل عليها وفي بيتها قربة معلّقة، قالت: فشرب من القربة قائماً، قالت: فعمدت إلى فم القربة فقطعتها (4).
2- عنه أيضاً: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دخل على أمّ سليم بيتها وفي البيت قربة معلّقة فيها ماء، فتناولها فشرب من فيها وهو قائم، فأخذتها أمّ سليم، فقطعت فمها فأمسكته عنها (5).
3- عن أبي أيّوب الأنصاري قال: وكنّا نضع له العشاء (يعني حين كان صلى الله عليه و آله نازلًا في داره) ثمّ نبعث فإذا رد علينا فضله تيمّمت أنا وأمّ أيوب موضع يده، فأكلنا
ص: 129
منه نبتغي بذلك البركة، حتّى بعثنا إليه ليلة بعشائه، وقد جعلنا له بصلًا وثوماً، فردّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم أرَ ليده فيه أثراً فجئته فزعاً، فقلت: يا رسول اللَّه بأبي أنت وأمّي رددت عشاء ك ولم أرَ فيه موضع يدك، وكنت حينما ترد علينا فضل طعامك أتيمّم أنا وأمّ أيّوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة.
وفي لفظ مسلم (في حديث نزول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أبي أيّوب): فتحوّل النبي صلى الله عليه و آله في العلو، وأبو أيّوب في السفل، فكان يصنع للنبي صلى الله عليه و آله طعاماً، فإذا جي ء به إليه سئل عن موضع أصابعه، فيتبع موضع أصابعه، فصنع له طعاماً فيه ثوم، فلمّا ردّ إليه سئل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه و آله، فقيل: لم يأكل، ففزع وصعد إليه فقال:
أحرامٌ هو؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله: لا ولكنّي أكرهه ... الحديث.
وفي لفظ الإصابة: «قلت: يا رسول اللَّه كنت ترسل إليّ بالطعام، فأنظر فأضع أصابعي حيث أرى أثر أصابعك حتى كان هذا الطعام ... الحديث (1).
قال الدكتور محمد سعيد البوطي (بعد نقل الحديث وبعد أن تكلَّم عن بعض ما يستفيده من الحديث ووصل البحث إلى التبرّك): والذي يهمّنا هنا هو التأمّل في تبرّك أبي أيّوب وزوجه بآثار أصابع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قصّة الطعام، حينما كان يرد عليهما فضل طعامه. إذاً فالتبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله أمر مشروع قد أقرّه صلى الله عليه و آله- ثمّ ذكر الروايات التي نقلها البخاري ومسلم في التبرّك فقال:- فإذا كان هذا شأن التوسّل بآثاره المادّية، فكيف بالتوسل بمنزلته عند اللَّه جلّ جلاله؟ ثمّ علّق على ذلك بقوله:
ص: 130
يرى الشيخ ناصر الألباني: أنّ مثل هذه الأحاديث لا فائدة منها في هذا العصر ...
ونحن نرى أنّ هذا الكلام خطير لا ينبغي أن يتفوّه به مسلم، فجميع أقوال الرسول وأفعاله وإقراراته تشريع، والتشريع باق مستمر إلى يوم القيامة ما لم ينسخه كتاب أو سنّة صحيحة، ومن أهمّ فوائد التشريع ودليله معرفة الحكم والاعتقاد بموجبه، وهذه الأحاديث الثابتة الصحيحة لم ينسخها كتاب ولا سنّة مثلها، فمضمونها التشريع باقٍ إلى يوم القيامة، ومعنى ذلك أنّه لا مانع من التوسل والتبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله فضلًا عن التوسّل بذاته وجاهه ...
4- عن كبشة بنت ثابت قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشرب من فيّ قربة معلّقة قائماً فقمت إلى فمها فقطعته. وفي الاستيعاب «فقطعت فمها فرفعته» (1).
5- عن أمّ عامر- واسمها فكيهة أو أسماء- بنت يزيد بن السكن قالت: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلّى في مسجدنا المغرب فجئت منزلي فجئته بلحم وأرغفة، فقلت:
تعش، فقال لأصحابه: كلوا فأكل هو وأصحابه الذين جاء وا ... قالت: وشرب عندي في شجب فأخذته فدهنته وطويته، وكنّا نسقي فيه المرضى ونشرب منه في الحين رجاء البركة (2).
6- عن عبد الرحمان بن أبي عمرة عن جدّته كلثم قالت: دخل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعندنا قربة معلّقة فشرب منها فقطعت فم القربة ورفعتها تبتغي البركة موضع فيّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3)
ص: 131
7- عن شهر بن حوشب: أنّ أسماء بنت يزيد بن السّكن إحدى نساء بني عبد الأشهل، دخل عليها يوماً (يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) فقرّبت إليه طعاماً فقال: لا أشتهيه فقالت: إنّي قنيت عائشة لرسول اللَّه ثمّ جئته فدعوته لجلوتها فجاء فجلس إلى جنبها فأتى بعسّ لبن فشرب ثمّ ناولها النبي صلى الله عليه و آله فخفضت رأسها واستحييت.
قالت أسماء: فانتهرتها وقلت لها: خذي من يد النبي صلى الله عليه و آله قالت: فأخذت فشربت شيئاً ثمّ قال لها النبي: أعطي تربك. قالت أسماء: فقلت: يا رسول اللَّه بل خذه فاشرب منه ثمّ ناولنيه من يدك، فأخذه وشرب منه ثمّ ناولنيه، قالت أسماء:
فجلست ثمّ وضعته على ركبتي، ثمّ طفقت أديره وأتبعه بشفتي لأصيب منه مشرب النبي صلى الله عليه و آله ... الحديث (1).
قد أسلفنا أنّ هذه الأحاديث بأسرها كما تدلّ على جواز التبرّك أو استحبابه، فكذا هي تدلّ على جواز الاستشفاء والاستشفاع والتوسّل، إذ التبرّك في الحقيقة توسل، فكان المتبرّك يتوسّل بهذا الشي ء المتوسل به إلى الوصول إلى ما يريد، وقد أشار إلى ذلك محمد سعيد البوطي فيما تقدّم من كلامه بقوله: «فإذا كان هذا شأن التوسّل بآثاره المادّية فكيف بالتوسّل بمنزلته عند اللَّه جل جلاله؟!» حيث عبّر عن تبرّك أبي أيّوب الأنصاري وأمثاله من الصحابة الكرام بالتوسل ولنعم ما قال وحقّق.
ويظهر من كلام ابن حجر في شرح الأحاديث الكثيرة استفادة جواز التبرّك أو استحبابه بآثار جميع الصلحاء، وكأنّه استنبطه من هذه الأخبار بإلغاء
ص: 132
الخصوصية، ويشهد له تبرّك الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم بعضهم ببعض أو تبرّكهم بآل الرسول، وتبرّكهم بقبر حمزة سيّد الشهداء رحمه اللَّه تعالى كما سنشير إليه.
1- كان عبد اللَّه بن عمر يتبرّك بمقعد النبي صلى الله عليه و آله من منبره (1).
2- عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القاري: أنّه نظر إلى ابن عمر وضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه و آله من المنبر ثمّ وضعها على وجهه (2).
3- عن يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط قال: رأيت ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله إذا خلا المسجد أخذوا برمانة المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثمّ استقبلوا القبلة يدعون (3).
4- سنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الأيمان على الحقوق عند منبره وقال: من حلف على منبري كاذباً ولو على سواك أراك فليتبوأ مقعده من النار (4).
5- وقال: لا يحلف أحد عند هذا المنبر أو عند منبري على يمين آثمة، ولو على سواك رطب، إلّاوجبت له النار (5)
ص: 133
6- أيما امرئ من المسلمين حلف عند منبري على يمين كاذبة يستحقّ بها حقّ مسلم، أدخله اللَّه النار، وإن كان على سواك أخضر (1) (عن جابر).
7- لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلّاتبوأ مقعده من النار (2) (عن جابر).
8- لا يحلف أحد عند منبري على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلّاوجبت له النار (3) (عن أبي هريرة).
9- من حلف بيمين آثمة عند منبري هذا، فليتبوأ مقعده من النار ولو على سواك أخضر (4) (عن جابر).
10- من حلف على منبري ولو على قضيب سواك أخضر كاذباً كان من أهل النار (5). (عن أبي هريرة).
11- منبري روضة من رياض الجنّة، فمن حلف عنده على سواك أخضر كاذباً فليتبوأ مقعده من النار ليبلغ شاهدكم غائبكم (6) (عن ابن الجوزاء مرسلًا).
12- لا يحلف أحدكم على منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلّا تبوّأ مقعده من النار (7) (عن جابر).
أقول: هل كان هذا إلّابياناًلحرمة منبره، وحفظاًلشؤونه، وإكباراًله، على اعتبار أن الحلف عنده كاذباً فيه هتك لهذه الحرمة وخلاف شأنه وإكباره، مع أنّ المنبر
ص: 134
عود من أعواد الأشجار وشي ء جامد لا وجه لثبوت هذه الحرمة له إلّاانتسابه إلى النبي الأقدس صلى الله عليه و آله، وصيرورته من مختصّاته كلباسه وسيفه وقدحه وشعره وظفره وسؤره وغيرها ممّا يناط به صلى الله عليه و آله، فكلّ ما يرجع إليه ويناط به يصير من شؤونه، ويحترم باحترامه، ويكرم بإكرامه، فيكون إعظامه إعظاماً له، وهتكه هتكاً له كمشاعر اللَّه سبحانه، ومن يعظِّم شعائر اللَّه فإنّها من تقوى القلوب وبهذا البيان يكون الرسول صلى الله عليه و آله وحرمته وإكرامه وإعظامه وإكباره من شؤون الحقّ تبارك وتعالى، ومنوطاً به ومنسوباً إليه، لأنّه رسوله وعبده ووليّه، ومن أجل ذلك يتبرّك به جميع أولياء اللَّه، ويتبرّك بهم وبآثارهم.
13- يتأبى زيد بن ثابت من الحلف على المنبر تعظيماً له. قال البخاري: قضى مروان باليمين على زيد بن ثابت على المنبر فقال: احلف له مكاني فجعل زيد يحلف وأبى أن يحلف عند المنبر فجعل مروان يعجب منه (1).
أقول: جعل ابن حجر في الفتح التغليظ في اليمين: أن يكون في المدينة عند المنبر وفي مكّة وبين الركن والمقام، ثمّ نقل أنّ عثمان أمر شخصاً أن يحلف عند المنبر فأبى أن يحلف. وقال: أحلف حيث شاء غير المنبر، فأبى عليه عثمان أن يحلف إلّاعند المنبر، فغرم له بعيراً مثل بعيره ولم يحلف.
14- قال صلى الله عليه و آله: لا يحلف رجل على يمين آثمة عند هذا المنبر إلّاتبوّأ مقعده من النار، ولو على سواك أخضر (2).
15- ذكر الشيخ أحمد بن عبد الحميد المتوفى في القرن العاشر في كتابه عمدة الأخبار الطبعة الخامسة ص 135: تبرّك الناس بأعواد منبر النبي صلى الله عليه و آله.
16- روي عن مالك ويحيى بن سعيد الأنصاري شيخ مالك وكذا عن ابن عمر
ص: 135
وسعيد بن المسيب جواز مسح رمانة المنبر (1).
17- منبره صلى الله عليه و آله كان بمكانه حتى احترق، وكان لإحراقه في سكّان المدينة الطيّبة وقع أليم، لما فاتهم من مسّ رمّانته التي كان يضع يده المباركة عليها ولمس موضع قدميه الشريفين (2).
18- قال العاقولي بعد ذكره منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ثمّ إنّ هذا المنبر تهافت على طول الزمان، فجدّده بعض خلفاء بني العبّاس، واتخذ من بقايا أعواد منبر النبي صلى الله عليه و آله أمشاطاً للتبرّك بها. ذكره بعض المؤرّخين (3).
كما أنّهم- يعني الصحابة رضي اللَّه عنهم- كانوا يهتمّون بمسّه صلى الله عليه و آله، وقد ذكرنا موارد من ذلك بما لا مزيد عليه (4) وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله جاء إلى السوق فوجد زهيراً- زاهراً-! قائماًيبيع متاعاً فجاء من قبل ظهره وضمّه بيده إلى صدره، فأحسّ زهيربأنّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: فجعلت أمسح ظهري في صدره رجاء حصول بركته.
وفي لفظ أحمد: فأتاه النبي صلى الله عليه و آله يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال الرجل: أرسلني مَنْ هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه و آله فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه و آله حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه و آله يقول: من يشتري العبد؟
فقال: يا رسول اللَّه إذاً واللَّه ستجدني كاسداً. فقال النبي صلى الله عليه و آله: لكن عند اللَّه لست بكاسد أو قال: لكن عند اللَّه أنت غال (5).
19- قال أبو عبد اللَّه الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: «إذا فرغت من الدعاء عند
ص: 136
قبر النبي صلى الله عليه و آله فأت المنبر فامسحه بيدك وخذ برمانتيه، وهما السفلان وامسح عينيك ووجهك به، فإنّه يقال: إنّه شفاء للعين» (1).
ونحن نقول للذين يحسبون أنّ تكريم آثار النبي صلى الله عليه و آله والتبرّك بها والتوسل والاستشفاع بها شرك: هلّا رجعوا إلى الأحاديث المتواترة الدالّة على سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأصحابه رضي اللَّه عنهم وأقواله وأقوالهم؟! هلّا تدبّروا في أنّ التبرّك به وبآثاره صلى الله عليه و آله إنّما هو لانتسابه إلى اللَّه تعالى، فهو في الحقيقة تبرّك بما ينتمي إلى اللَّه تعالى وتوسل إليه سبحانه بما ينسب إليه، ولا يوجد مسلم موحِّد يتبرّك ويتوسّل بالنبي صلى الله عليه و آله مستقلّاً مقطوعاً عن اللَّه سبحانه، حتى يكون مشركاً كافراً؟!
وإذا أحطت خبراً بما تلوناه عليك من الأخبار في تعظيمه منبره صلى الله عليه و آله بجعل الحلف عنده سنّة، أو تغليظاً في الحلف، وكذا في تعظيم الصحابة رضي اللَّه عنهم إيّاه وتبرّكهم به، فلا بأس أن نذكر نبذاً ممّا جاء به السمهودي (2) وما بعدها في شأن المنبر الشريف.
قال (بعد ذكره صنع المنبر وتاريخه وصانعه وكيفيته وعلّة صنعه والشجر الذي صنع منه): إنّ منبر النبي صلى الله عليه و آله جعل عليه منبر كالغلاف، وجعل في المنبر الأعلى طاق ممّا يلي الروضة فَيُدْخِل الناس منها أيديهم يمسحون منبر النبي صلى الله عليه و آله ويتبرّكون بذلك (نقله عن الطراز).
وقال: الذي زاده معاوية ورفع منبر النبي صلى الله عليه و آله تهافت على طول الزمان، وإنّ
ص: 137
بعض خلفاء بني العبّاس جدّده واتّخذ من بقايا أعوادمنبرالنبي صلى الله عليه و آله أمشاطاً للتبرّك (1).
ثمّ قال: قال يعقوب: سمعت ذلك من جماعة بالمدينة ممّن يوثق بهم.
وعن ابن عساكر: وقد احترقت (في حريق الحرم الشريف) بقايا منبر النبي صلى الله عليه و آله القديمة، وفات الزائرين لمس رمّانة المنبر التي كان صلى الله عليه و آله يضع يده المقدّسة المكرّمة عليها عند جلوسه عليه، ولمس موضع جلوسه منه بين الخطبتين وقبلهما، ولمس موضع قدميه الشريفتين بركة عامة ونفع عائد. وفيه عوض من كلّ ذاهب وفائت ... ويؤيّده ما تقدّم عن رحلة ابن جبير وصاحب الطراز (في كلام له حذفناه) بل ظفرنا بما يشهد لصحّة ذلك، فإنّه لمّا أراد متولي العمارة تأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره حفروا على الدّكة التي تقدّم، أنّ المنبر كان عليها فَوُجِدَت مجوّفة كالحوض، وبه عبَّر ابن جبير عنها، فوجدوا فيما يلي القبلة قطعاً كثيراً من أخشاب المنبر المحترق- أعني الذي كان فيه بقايا منبر النبي صلى الله عليه و آله- فوضعها الأقدمون في جوف ذلك المحلّ حرصاً على البركة (2).
ثمّ تكلّم في معنى قوله صلى الله عليه و آله: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» فقال: وتخصيص ما أحاطت به البنية المذكورة بذلك إمّا تعبّد وإمّا لكثرة تردّده صلى الله عليه و آله في بيته ومنبره، وقرب ذلك من قبره الشريف الذي هو الروضة العظمى (3).
وعلى كلّ حال فإنّه جعل سبب كونه روضة هو اكتسابه البركة من قربه من بيته صلى الله عليه و آله، وتردّده فيه كثيراً، ويعلم ممّا نقلناه من كلامه اهتمام المسلمين في جميع القرون من زمن الصحابة وما بعدها بمنبره صلى الله عليه و آله، وتعظيمهم له، وتبرّكهم به، اتباعاً لما سنّه النبي الأقدس من تعظيمه وتكريمه.
ص: 138
1- رووا في حديث شراء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جمل جابر بن عبد اللَّه الأنصاري أنّه قال: فلمّا قدمت المدينة جئت به- أي الجمل- فقال: يا بلال زن له أوقية وزده قيراطاً قال: قلت: هذا قيراط زادنيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يفارقني أبداً حتّى أموت قال: فجعلته في كيس، فلم يزل عندي حتى جاء أهل الشام يوم الحرّة، فأخذوه فيما أخذوه (اللفظ لأحمد).
وفي لفظ البخاري: فلمّا قدمنا المدينة قال: يا بلال اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً. قال جابر: لا تفارقني زيادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلم يكن القيراط يفارق جراب جابر بن عبد اللَّه (1).
2- روى بعضهن- أي بعض النساء اللّاتي خرجن مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى خيبر- قالت: لمّا افتتح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خيبر، رضخ لنا، وأخذ هذه القلادة ووضعها في عنقي، فواللَّه لا تفارقني أبداً وأوصت أنّها تدفن معها (2).
قد عرفت تظافر الروايات بل تواترها معنًى وإجمالًا، فلا ينبغي الارتياب في سندها، كما أنّ دلالتها أيضاً ممّا لا ينبغي الشكّ فيها، إذ من المعلوم أنّ اهتمامهم بحفظ قدحه صلى الله عليه و آله وموضع فمه صلى الله عليه و آله، أو آثار أصابعه، ليس إلّامن أجل التبرّك بها، مضافاً إلى تصريحهم بذلك، كما في حديث أبي بردة وأبي أيّوب وأمّ عامر وعبد الرحمان ابن أبي عمرة، كما استفاده أيضاً القاضي عياض من نقل عمل ابن عمر، والإمام مالك، ويحيى بن سعيد، والعاقولي، والسمهودي، كذا ورواية دحلان في نقل عمل
ص: 139
زهير، ومضافاً إلى أنّ أعمال الصحابة كلّها واضحة الدلالة على التبرّك، كحديث سهل بن سعد وصفية وحجّاج وأنس وكبشة وزيد بن ثابت وغيرهم، مع أنّ جعل الرسول صلى الله عليه و آله منبره محلّاً للأيمان على الحقوق، تعظيم وتكريم له، كما أنّ أمر جعفر الصادق عليه السلام بمسح الرمّانة أمر بالتبرّك.
وقد أسلفنا أنّ هذه الأحاديث كما تدلّ على الرخصة في التبرّك عند الصحابة وشيوعه ووضوحه عندهم، فكذا تدلّ على جواز التوسّل والاستشفاء والاستشفاع، وقد صرّح بذلك في حديث أمّ عامر، فتدبّر في هذا حتّى لا يشتبه عليك الأمر كما اشتبه على بعض الناس.
وزهير الذي تقدّم في حديث الإمام أحمد في مسنده: قد كان رجلًا من البدو وكان يأتي النبي صلى الله عليه و آله بالهدايا، فيجهّزه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا أراد أن يخرج، وكان رجلًا دميماً، راجع المسند (1)
ص: 140
ص: 141
الاستشفاع والاستشفاء بقبره صلى الله عليه و آله
التبرّك بقبره المبارك: بترابه ووضع الخدّ عليه والبكاء عنده
تبرّك الصحابة والتابعين بقبور الصالحين
كلام العلّامة الأميني مختصراً
تبرّك أهل البيت بقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله
نظرة حول الأحاديث
ص: 142
ص: 143
1- روي أن أعرابياً جاء واستشفع بقبره صلى الله عليه و آله مستنداً إلى قوله تعالى: واستغفر لهم الرسول ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
وفي لفظ: عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بثلاثة أيّام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه و آله وحثى من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول اللَّه! قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن اللَّه سبحانه فوعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاء وك ... الآية، وقد ظلمت وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر قد غفر لك (1).
2- روي من أنّ الناس أصابهم القحط في خلافة عمر بن الخطّاب، فجاء بلال
ص: 144
ابن الحارث وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله إلى قبر النبي صلى الله عليه و آله وقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استسق لأمّتك ... فإنّهم قد هلكوا، فأتاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المنام وأخبره أنّهم سيسقون (1).
3- عن أوس بن عبد اللَّه قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه و آله فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا فمطرنا مطراً حتّى نبت العشب وسمنت الإبل (2).
قال السمهودي: قال الزين المراغي: واعلم أنّ فتح الكوة عند الجدب سنّة أهل المدينة، حتى الآن يفتحون كوة في سفل قبّة الحجرة، أي القبّة الزرقاء المقدّسة من جهة القبلة، وإن كان السقف حائلًا بين القبر الشريف وبين السماء.
قلت: وسنّتهم اليوم فتح الباب المواجه للوجه الشريف من المقصورة المحيطة بالحجرة والاجتماع هناك (3).
4- روي أنّ عائشة كشفت عن قبر النبي صلى الله عليه و آله لينزل المطر فإنّه رحمة تنزل على قبره (4).
5- أخرج القاضي عياض بإسناده عن ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر
ص: 145
أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإنّ اللَّه تعالى أدّب قوماً فقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية، وذمّ قوماً فقال: إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات الآية، وإنّ حرمته ميّتاً كحرمته حيّاً، فاستكان له أبو جعفر وقال: يا أبا عبد اللَّه استقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى اللَّه تعالى يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللَّه تعالى، قال اللَّه تعالى: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُ وك فاستغفروا اللَّه الآية (1).
6- كان ابن المنكدر يجلس مع أصحابه قال: وكان يصيبه الصمات فكان يقوم كما هو يضع خدّه على قبر النبي صلى الله عليه و آله ثمّ يرجع فعوتب في ذلك، فقال: إنّه ليصيبني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى الله عليه و آله وكان يأتي موضعاً من المسجد في الصحن فيتمرّغ فيه ويضطجع، فقيل له في ذلك. فقال: إنّي رأيت النبي صلى الله عليه و آله في هذا الموضع يعني في النوم (2).
7- في الصواعق أنّ الإمام محمد بن إدريس الشافعي توسّل بأهل البيت عليهم السلام حيث قال:
آل النبيّ ذريعتي وهم إليه وسيلتي (3)
ص: 146
1- قال السمهودي: كانوا- يعني الصحابة وغيرهم- يأخذون من تراب القبر- يعني قبر النبي صلى الله عليه و آله- فأمرت عائشة فضرب عليهم، وكانت في الجدار كوة، فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوة فسدّت (1).
أقول: ليس ضربها عليهم وسدّها الكوّة لأجل أنّها ترى ذلك شركاً وكفراً، أو معصية وفسقاً؛ لأنّها كما تقدّم قد أمرت بالاستسقاء بقبره الشريف، بل هي استسقت بالقبر الشريف بنفسها، ولأنّ الآخذين من القبر كانوا من الصحابة، وكانوا يأخذون بمرأى من إخوانهم من الصحابة الكرام الآخرين، فلو كان ذلك شركاً لما أمرت بالاستسقاء بالقبر المبارك، ولما كانوا يأخذون التراب، ولنهاهم الآخرون وأنكروا عليهم من بدء عملهم، ولا يتركونهم على شركهم حتى تضرب عليهم هي من دون أي تصريح بكون عملهم شركاً، بل كان الضرب عليهم من أجل أنّ أخذ التراب لو شاع وذاع؛ لأوجب نفاد تراب القبر الشريف، بل أوجب خراب القبّة المباركة.
2- رُويَ أنّ فاطمة سلام اللَّه عليها جاءت فوقفت على قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخذت قبضة من تراب القبر، فوضعت على عينيها فبكت.
وفي لفظ: «فجعلتها على عينيها ووجهها» (2).
3- رُويَ أنّ ابن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف. وأنّ بلالًا وضع خدّه عليه (3)
ص: 147
4- عن داود بن صالح قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلًا واضعاً وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيّوب، فقال: نعم. جئت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم آت الحجر. سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله (1).
قال الأحمدي: هذا عمل الصحابي العظيم أبي أيّوب الأنصاري رضى الله عنه، فهو يتبرّك بوضع وجهه على القبر الشريف، اتّباعاً لسنّة الرسول الأقدس صلى الله عليه و آله وصحبه في التبرّك كما تقدّم، ويأتي بعض الأدلّة المتواترة القطعية.
وهذه فتوى الأموي طريد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وابن طريده، المتضلّع ببغض البيت الرفيع الهاشمي، والحاقد المنافق المتهاون بشأن النبي صلى الله عليه و آله، يعترض على أبي أيّوب بعمله المشروع، وهو يجابهه بقوله: «نعم جئت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ...» الحي المرزوق عند ربّه بصريح القرآن الكريم، ثمّ يعقبه بما يسوؤه من قوله: «سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ...» تعريضاً بما فيه من عدم الأهلية والصلاحية.
فإذاً هنا سنّتان: سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله التي عمل بها الصحابي الجليل، وسنّة الأموي الشانئ لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله الطاهرين، وواضح أنَّ من الواجب على كلّ مسلم هو اتّباع سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وصحبه، دون سنّة طريده.
والرواية صحيحة لا يغمز فيها كما صرّح به الحاكم والذهبي، ويؤيّدها ما تقدّم ويأتي من عمل بلال مؤذِّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ومعاذ بن جبل، وفاطمة عليها السلام.
وفي كلام أبي أيّوب معنى لطيف لا يدرك إلّابالتدبّر فتدبّر.
ص: 148
5- عن عمر بن الخطاب: أنّه خرج يوماً إلى مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فوجد معاذ بن جبل قاعداً عند قبر النبي صلى الله عليه و آله يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني شي ء سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... الحديث (1).
6- روي أنّ بلالًا أتى قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وجعل يبكي عنده، ويمرّغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمّهما ويقبّلهما (2).
7- قال صول ليزيد بن المهلب حين افتتح جرجان: هل في الإسلام من أجلّ منك لأسلم على يده؟ قال: نعم سليمان بن عبد الملك، قال: فسرحني إليه لأسلم على يده ففعل، فلمّا قدم عليه قال له مثل ما قال ليزيد، فقال سليمان: ليس اليوم في المسلمين أحد أجلّ منّي، ولكن لقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الفضل، قال: أسلم هناك، فسرّحه سليمان إلى المدينة فأسلم عند القبر ثمّ انصرف إلى عند يزيد .. (3).
8- نقل السمهودي: أنّ الناس كانوا يتبرّكون بالصلاة إلى القبر قال: عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلّون إلى القبر، فأمر به عمر ابن عبد العزيز، فرفع حتى لا يصل إليه أحد (4).
لم يمنع عمر بن عبد العزيز من التبرّك بالصلاة إلى القبر، وإنّما منع من الوصول
ص: 149
إليه وقد يأتي أنّهم يرون الوصول إليه، واللزوق به، والدنو منه خلاف الاحترام، لا أنّ التبرّك به حرام، فانتظر لما يأتي. وهم يروون أنّ النبي كان يصلّي في مكّة إلى بيت المقدس، لكنّه كان يجعل الكعبة بين يديه.
هنا روايات وردت من طرق أهل البيت عليهم السلام في الاهتمام بزيارة النبي الأقدس صلى الله عليه و آله، والحثّ على زيارة المشاهد وآثار الرسول صلى الله عليه و آله (1)، بل يظهر من حديث رواه الحلبي عن أبي عبد اللَّه جعفر بن محمد صلوات اللَّه عليهما تأسّفه على تغيير آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: هل أتيتم مسجد قبا أو مسجد الفضيخ أو مشربة أمّ إبراهيم؟ فقلت: نعم. فقال: أما إنّه لم يبق من آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شي ء إلّا وقد غيّر.
ولا يخفى على من تدبّر هذه الأحاديث أنّ الترغيب والحثّ على زيارة تلكم المشاهد والمساجد إنّما هو من أجل أنّها آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، يتبرّك بها، لا من أجل كونها مساجد فحسب، ولذلك أكّده بقوله عليه السلام: «أما أنّه لم يبقَ من آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ...» (2).
كما أنّه ورد أيضاً التبرّك بالمعرّس بين مكّة والمدينة (في ذي الحليفة) بأن يأتي المعرّس فيصلّي مكتوبة إن كان في وقتها، أو نافلة إن كان في غير وقت صلاة مكتوبة، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد كان يعرّس فيه ويصلّي فيه. وفي رواية: «والتعريس هو أن تصلّي فيه وتضطجع فيه ليلًا مرّ به أو نهاراً». راجع الوسائل (3) وسيأتي
ص: 150
اهتمام ابن عمر أيضاً بالمعرّس (راجع تبرّك الصحابة) بأماكن مشى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
هذه الأحاديث المتقدّمة تبيّن لنا عقيدة الصحابة رضي اللَّه عنهم في التبرّك والاستشفاء والاستشفاع بقبر النبي صلى الله عليه و آله، من وضع اليد والوجه عليه وتمريغ الوجه في ترابه، أو الأخذ من ترابه ووضعه على الوجه والعين.
وقد اقتفى أثرهم التابعون في التبرّك بقبره صلى الله عليه و آله وقبور الصالحين والاستشفاء والاستشفاع بقبره صلى الله عليه و آله وقبور الصالحين.
وقد أورد السمهودي في وفاء الوفاء موارد كثيرة من تبرّك الصحابة والتابعين بآثاره صلى الله عليه و آله (1).
قال السمهودي بعد ذكر تبرّك المسلمين بتراب المدينة: أنّهم جرّبوا تراب قبر صهيب للحمى. ثمّ قال: وقال الزركشي: استثنى- من عدم جواز حمل تراب المدينة إلى غيرها لكونها حرماً- تربة حمزة رضى الله عنه لإطباق الناس على نقلها للتداوي بها (2).
ثمّ قال: حكى البرهان بن فرحون عن الإمام العالم أبي محمد عبد السلام بن إبراهيم بن مصال الحاحاني قال: نقلت من كتاب الشيخ العالم أبي محمد صالح الهرمزي قال: قال صالح بن عبد الحليم: سمعت عبد السلام بن يزيد الصنهاجي يقول: سألت أحمد بن بكوت عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرّك هل يجوز أو يمنع؟ فقال: هو جائز، وما زال الناس يتبرّكون بقبور العلماء والشهداء
ص: 151
والصالحين، وكان الناس يحملون تراب قبر سيّدنا حمزة بن عبد المطلب في القديم من الزمان. قال ابن فرحون عقيبه: والناس اليوم يأخذون من تربة قريبة من مشهد سيّدنا حمزة، ويعملون خرزاً يشبه التسبيح، واستدلّ ابن فرحون بذلك على جواز نقل تراب المدينة، وقد علمت ممّا تقدّم أن نقل تراب قبر حمزة رضى الله عنه إنّما للتداوي، ولهذا لا يأخذونها من نفس القبر، بل من المسيل الذي عند المسجد (1).
أقول: قد صار التبرّك بقبره الشريف بل بقبور الصالحين سيرة جارية للعلماء والعباد وسائر المسلمين. قال المأمون الخليفة العبّاسي ليحيى بن أكثم: «فطائفة أبوا علينا ما نقول في تفضيل علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وظنّوا أنّه لا يجوز تفضيل عليّ إلّا بانتقاص غيره من السلف. واللَّه ما استحل، أو قال: استجيز أن انتقص الحجّاج فكيف السلف الطيّب؟ وأنّ الرجل ليأتيني بالقطعة من العود أو بالخشبة أو بالشي ء الذي لعلّ قيمته لا تكون إلّادرهماً أو نحوه فيقول: إنّ هذا كان للنبي صلى الله عليه و آله أو قد وضع يده عليه أو بأسافله أو مسّه، وما هو عندي بثقة ولا دليل على صدق الرجل إلّا أنّي بفرط النيّة والمحبّة أقبل ذلك فأشتريه بألف دينار وأقلّ وأكثر، ثمّ أضعه على وجهي وعيني وأتبرّك بالنظر إليه وبمسّه، فأستشفي به عند المرض يصيبني أو يصيب من أهتمّ به، فأصونه كصيانتي لنفسي، وإنّما هو عود لم يفعل هو شيئاً، ولا فضيلة له تستوجب به المحبّة، إلّاما ذكر من مسّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله له ... (2).
وهذه القصّة تحكي لنا حال المسلمين أجمع بالنسبة إلى التبرّك بآثار الرسول صلى الله عليه و آله، فكيف بقبره صلى الله عليه و آله؟! وقد نقل ابن حجر في كتابه «الخيرات الحسان» في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان في الفصل الخامس والعشرين: أنّ الإمام الشافعي حين كان ببغداد كان يتوسّل بالإمام أبي حنيفة. قال: وقد ثبت أنّ الإمام أحمد
ص: 152
توسّل بالإمام الشافعي، حتى تعجب ابنه عبد اللَّه فقال له أبوه: إنّ الشافعي كالشمس للناس. ولما بلغ الإمام الشافعي: أنّ أهل المغرب يتوسّلون بالإمام مالك لم ينكر عليهم، وفي الصواعق أنّ الإمام الشافعي توسّل بأهل البيت عليهم السلام حيث قال:
آل النبي ذريعتي وهم إليه وسيلتي (1)
وقال أبو منصور الكرماني من الحنفية: إن كان أحدٌ أوصاك بتبليغ التسليم تقول: السلام عليك يا رسول اللَّه من فلان بن فلان يستشفع بك إلى ربّك والمغفرة فاشفع (2).
قال السبكي: وبقي قسم (من أقسام الزيارة) لم يذكره- يعني ابن تيمية- وهو أن تكون الزيارة للتبرّك به من غير إشراك به، فهذه ثلاثة أقسام: أوّلها: السلام والدعاء له، وقد سلّم جوازه وأنّه شرعيّ. والقسم الثاني: التبرّك به والدعاء عنده للزائر قال: وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنّه يلحقه بالقسم الثالث- يعني في التحريم- ولا دليل له على ذلك، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه، وأنّ المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرّك ببعض الموتى، فكيف بالأنبياء والمرسلين (3)؟!
وقال إسحاق بن إبراهيم: وممّا لم يزل شأن من حجّ المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و آله، والتبرّك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه، ومواطئ قدميه، والعمود الذي كان يستند إليه، ونزل جبرئيل عليه فيه،
ص: 153
وبمن عمّره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمّة المسلمين والاعتبار بذلك كلّه (1).
ولمّا مات ابن تيمية كان تشييعه حافلًا حتّى ضاقت الطريق لجنازته، وانتهى إليها الناس من كلّ فجٍّ عميق، واشتدّ الزحام وألقوا على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرّك ...، وكسرت أعواد سريره لكثرة تعلّق الناس به، وشربوا ماء غسله للتيمّن به لما اشرب في قلوبهم من حبّه، واشتروا ما زاد من سدره؛ فقسّموه بينهم، ويقال: إنّ الخيط الذي كان عليه الزيبق وعلّق على جسده لدفع القمل، اشتروه بمائة وخمسين درهماً (2).
ومعروف الكرخي المتوفى سنة 200، قبره ظاهر ببغداد يتبرّك به، وكان إبراهيم الحربي يقول: قبر معروف ترياق مجرّب (3).
والناس يزورون قبر إسماعيل بن يوسف المعروف بالديلمي (4)، وإبراهيم الحربي قبره ظاهر نتبرّك به (5).
قال أبو الحسن الدارقطني: كنّا نتبرّك بأبي الفتح القواسي وهو صبي (6).
قال ابن الجوزي في ترجمة عبد الصمد بن عمر بن محمد بن إسحاق: أبو القاسم الواعظ المتوفّى سنة 397 وقبره اليوم ظاهر يتبرّك به بمقبرة الإمام أحمد (7).
ونقل: أنّ أحداً أخذ من تراب سعد- يعني سعد بن معاذ- فذهب بها ثمّ نظر
ص: 154
إليها بعد ذلك، فإذا هي مسك (1).
والناس كانوا يأتون قبر مسروق بن الأجدع ويستسقون فيسقون (2).
ونقل: أنّه لمّا حجّ هارون فورد المدينة فقال ليحيى بن خالد: ارتد لي رجلًا عارفاً بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه و آله، ومن أيّ وجه كان يأتيه وقبور الشهداء؟
فسأل يحيى بن خالد فكلّ دلّه عليّ فبعث إليّ- يعني الواقدي نفسه- فأتيته وذلك بعد العصر فقال لي: يا شيخ إنّ أمير المؤمنين أعزّه اللَّه يريد أن تصلّي العشاء الآخرة في المسجد وتمضي معنا إلى المشاهد ...
فلمّا صلّيت عشاء الآخرة إذا أنا بالشموع، وقد خرجت، وإذا أنا برجلين على حمارين. فقال يحيى: أين الرجل؟ فقلت: ها أنا ذا أتيت به إلى دور المسجد، فقلت: هذا الموضع الذي كان جبرئيل يأتيه، فنزلا عن حماريهما فصلّيا ركعتين ودعوا اللَّه ساعة، ثمّ ركبا وأنا بين أيديهما، فلم أدع موضعاً من المواضع، ولا مشهداً من المشاهد إلّامررت بهما عليه، فجعلا يصلّيان ويجتهدان ... الحديث (3).
قال مجاهد: كانوا- أي الناس- إذا أمحلوا كشفوا عن قبره- يعني قبر أبي أيّوب الأنصاري- فمطروا.
هذه السيرة المستمرّة بين المسلمين في التبرّك بقبره صلى الله عليه و آله وقبور الصالحين أخذها الخلف عن السلف، حتى ينتهي إلى الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، وكفى بذلك
ص: 155
حجّة وبرهاناً؛ لأنّ سيرة الصحابة بل التابعين تكشف عن ترخيص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لهم أو تقريره لعملهم.
وممّا يمثِّل لنا احترام المسلمين لقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتوسّلهم وتبرّكهم به وطوافهم حول قبره صلى الله عليه و آله، ما نقله المبرّد في الكامل من إلحاد الحجّاج وكفره لعنه اللَّه وأخزاه، قال في تفسير رثاء الفرزدق (1) ابني مسمع قال: «وممّا كفّرت به الفقهاء الحجّاج بن يوسف قوله- والناس يطوفون بقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومنبره وإن شئت قلت: يطيفون- إنّما يطوفون بأعواد ورمة» (2).
ومراد هذا الملحد الملعون من الأعواد: المنبر، ومن الرمة: العظام المقدّسة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فيسخر من المسلمين ويهزأ بهم ويوبّخهم في أنّهم يطوفون حول الأعواد والعظام البالية، خلافاً للكتاب والسنّة، وجرأةً على اللَّه ورسوله، واستخفافاً وإهانة بالنبي العظيم صلى الله عليه و آله، ومرادنا من نقله أنّه يعطينا أنّ المسلمين كانوا وقتئذ يطوفون حول القبر الشريف، وعليه جرى سيرتهم وفيهم العلماء والفقهاء- كما يظهر من تكفيرهم للحجّاج وفيهم أيضاً التابعون الكبار، والصحابة الكرام حتى استخف بهم الحجّاج، وختم في أعناقهم (3).
ذكرابن أبي الحديدفي شرحه (4) قال: خطب الحجّاج بالكوفة فذكرالذين يزورون قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالمدينة فقال: تبّاً لهم إنّهم يطوفون بأعواد ورمة بالية، هلّا طافوا بقصر أميرالمؤمنين عبد الملك، ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟!
ص: 156
والمراد أنّ الناس يدورون حول قبره متضرّعاً إلى اللَّه تعالى ومتوسّلًا إلى النبي صلى الله عليه و آله، لا أنّهم يطوفون أشواطاً سبعة، كما يطوفون حول الكعبة.
كان الحجّاج على الحجاز من حين قتل ابن الزبير سنة 73 شهر جمادى الأولى إلى 75 وورد المدينة سنة 74 واستخفّ ببقايا من فيها من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ختم في أعناقهم وأيديهم، وشاهد في هذه المدينة طواف الناس على قبر الرسول صلى الله عليه و آله فلمّا بعثه عبد الملك إلى الكوفة؛ خطبهم وقال لهم ذلك.
وممّا يدلّ على اهتمام الصحابة بقبر النبي صلى الله عليه و آله والتبرّك والتوسّل به «إيصاء الصالحين أن يدفنوا مع النبي صلى الله عليه و آله وقد عدّ دفنهما (أي الخليفة الأوّل والثاني) معه أعظم منقبة لهما، ولو كانت القبور ليس لها حرمة ولا شرف، ولا ترجى بركتها وبركة جوارها، فما الموجب لذلك؟! ولما أراد بنو هاشم تجديد العهد بالحسن بن علي عليهما السلام بجدّه وظنّ بنو أمية وأعوانهم أنّهم يريدون دفنه عند جدّه؛ لبسوا السلاح ومنعوهم أشدّ المنع، قائلين: أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن عند جدّه؟ وإذا لم يكن للقبر شرف ولا بركة ترجى، فلماذا يأتي بنو هاشم بجنازة الحسن ليجدّدوا به عهداً بجدّه بوصيّة منه؟ وهل هذا إلّاعين التوسّل والتبرّك بالنبي وبقبره بعد الموت؟ ...» (1).
للعلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني رحمه اللَّه تعالى كلام في الغدير (2) وما بعدها في زيارة القبر الشريف والتبرّك به، ولقد أجاد فيه وأفاد وجاء بما فوق المراد ونحن نختصر منه ونأتي هنا بمقدار يناسب هذا المقال:
ص: 157
قال: أدب الزائر عند الجمهور: ونحن نذكر نصّ ما وقفنا عليه من المصادر:
1- إخلاص النيّة فإنّما الأعمال بالنيّات (1).
2- أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة الحبيب الشفيع ... إلى أن قال: لزوم الخضوع والخشوع حين يشاهد القبّة مستحضراً عظمتها يمثِّل في نفسه مواقع أقدام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ...
13- إذا شاهد المسجد والحرم الشريف فليزدد خضوعاً وخشوعاً يليق بهذا المقام ...
15- يقف بالباب لحظة لطيفة كما يقف المستأذن في الدخول على العظماء ...
18- ينبغي للزائر أن يكون واقفاً وقت الزيارة كما هو الأليق بالأدب، فإذا طال فلا بأس بالجلوس متأدّباً جاثياً على ركبتيه غاضّاً طرفه في مقام الهيبة والإجلال، مستحضراً بقلبه جلالة موقفه وأنّه صلى الله عليه و آله حي ناظر إليه ومطّلع عليه ...
20- يتوجّه إلى القبر الكريم مستعيناً باللَّه تعالى في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم فيقف ممثلًا صورته الكريمة في خياله بخشوع وخضوع تامّين بين يديه صلى الله عليه و آله.
21- لا يرفع صوته ولا يخفيه بل يقتصد، وخفض الصوت عنده صلى الله عليه و آله أدب للجميع (أخرج هنا مناظرة المنصور الخليفة العبّاسي مع الإمام مالك كما تقدّم) ...
25- ثمّ يرجع الزائر إلى موقفه الأوّل قبالة وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فيتوسّل به في حقّ نفسه ويستشفع إلى ربّه سبحانه وتعالى ويكثر الاستغفار والتضرّع بعد قوله:
يا خير الرسل إنّ اللَّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: ولو أنّهم إذ ظلموا
ص: 158
أنفسهم جاءُ وك فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللَّه توّاباً رحيماً.
وإنّي جئتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربّي ويقول: ونحن وفدك يا رسول اللَّه وزوّارك، جئناك لقضاء حقّك، والتبرّك بزيارتك، والاستشفاع بك إلى ربّك تعالى .. فاشفع لنا إلى ربّك.
قال القسطلاني في المواهب اللدنية: وينبغي للزائر له صلى الله عليه و آله أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفّع والتوسّل به صلى الله عليه و آله، فجدير بمن استشفع به أن يشفعه اللَّه فيه ... ثمّ إنّ كلّاً من التوجّه والاستغاثة والتوسّل والتشفّع بالنبي صلى الله عليه و آله- كما ذكره في تحقيق النصرة ومصباح الظلام- واقع في كلّ حال قبل خلقه وبعد خلقه في مدّة حياته في الدنيا وبعد موته. (ثمّ فصل ما وقع من التوسل والاستشفاع به صلى الله عليه و آله في الحالات المذكورة).
ثمّ نقل عن الزرقاني (1) ما حاصله: وليتوسّل إلى اللَّه بجاهه في التوسل؛ لأنّ بركة شفاعته لا يتعاظمها ذنب، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس اللَّه بصيرته وأضلّ سريرته.
قال الأميني: وهناك جماعة من الحفّاظ وأعلام أهل السنّة بسطوا القول في التوسل، وقالوا: إنّ التوسّل بالنبي جائز في كلّ حال قبل خلقه وبعده مدّة حياته في الدنيا وبعد موته في مدّة البرزخ وجعلوه على ثلاثة أنواع:
1- التوسّل به بمعنى طلب الدعاء منه، وحكموا بأنّ ذلك جائز في الأحوال كلّها.
2- طلب الحاجة من اللَّه تعالى به أو بجاهه أو لبركته، فقالوا: إنّ التوسّل بهذا المعنى جائز في جميع الأحوال.
ص: 159
3- الطلب من النبي صلى الله عليه و آله ذلك الأمر المقصود بمعنى أنّه صلى الله عليه و آله قادر على التسبّب فيه بسؤاله ربّه وشفاعته إليه، فيعود إلى الأوّل في المعنى، غير أنّ العبارة مختلفة وعدُّوا منه قول القائل للنبي صلى الله عليه و آله: أسألك مرافقتك في الجنّة، وقول عثمان بن أبي العاص:
شكوت إلى النبي صلى الله عليه و آله سوء حفظي للقرآن فقال: أدن منّي يا عثمان، ثمّ وضع يده على صدري وقال: أخرج ياشيطان من صدر عثمان، وقال السبكي في شفاء السقام:
والآثار في ذلك كثيرة أيضاً فلا عليك في تسميته توسّلًا أو تشفّعاً أو استغاثة أو تجوهاً أو توجّهاً.
ولا يسعنا إيقاف الباحث على جلّ ما وقفنا عليه من كلمات أعلام المذاهب الأربعة في المناسك وغيرها، وقد بسط القول فيه جمع لا يستهان بهم، منهم:
الحافظ بن الجوزي المالكي المتوفى سنة 597 في مصباح الوفاء، ومحمد بن نعمان المالكي المتوفى سنة 673 في مصباح الظلام، وابن داود المالكي في البيان والاختصار، والسبكي في شفاء السقام، والسمهودي في وفاء الوفاء، والقسطلاني في المواهب، والزرقاني في شرحه، والخالدي البغدادي في صلح الأخوان، والعدوي في كنز المطالب، والغرامي الشافعي في فرقان القرآن.
لم نجد في المقام قولًا بالحرمة فيه لأحد من أعلام المذاهب ممّن لهم ولآرائهم قيمة في المجتمع، وإنّما القائل بالنهي عنه يراه تنزيهاً لا تحريماً، زاعماً أن الدنو من القبر الشريف يخالف الأدب، ويرى أنّ البعد أليق. نعم، هناك أُناس شذّت عن شرعة الحقّ، وحكموا بالحرمة قولًا بلا دليل ولا برهان، وها نحن نقدّم بين يدي القارئ ما يوقفه على الحقيقة:
ص: 160
1- لمّا رمس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جاءت فاطمة رضي اللَّه تعالى عنها، فوقفت على قبره صلى الله عليه و آله، وأخذت قبضة من تراب القبر، ووضعتها على عينيها، وبكت وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد ... الأبيات (1).
2- ذكر قصة بلال كما تقدّمت.
3- ذكر قصة الأعرابي كما أسلفنا.
4- ذكر قصة أبي أيّوب؛ وقد تقدّمت. ثمّ ذكر كلاماً في مروان وما تضلّعه من الأيمان.
5- ذكر قصة ابن المنكدر وقد مضت.
6- قال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويتبرّك بمسّه ويقبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب اللَّه تعالى.
قال: لا بأس (2).
7- أخبر الحافظ أبو سعيد بن العلاء، قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفّاظ: أنّ الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه و آله وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك قال: فأريناه التقي ابن تيمية فصار يتعجّب من ذلك ويقول: عجبت من أحمد عندي جليل هذا كلامه أو معنى كلامه.
ص: 161
قال: وأي عجب في ذلك وقد روينا أنّه غسل قميصاً للشافعي، وشرب الماء الذي غسله به؟ وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم، فما بالك بمقادير الصحابة؟! وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (1)؟!
8- ذكر الخطيب ابن حملة: أنّ عبد اللَّه بن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف، وأنّ بلالًا رضى الله عنه وضع خدّيه عليه أيضاً (2).
9- قال شيخ مشايخ الشافعية في شرح المنهاج: ويكره أن يجعل على القبر مظلّة، وأن يقبّل التابوت الذي يُجعل فوق القبر، واستلامه وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء، نعم إن قصد التبرّك لا يكره كما أفتى به الوالد ...
10- قال أبو العبّاس الرملي: «ولا يستلم القبر ... نعم إن كان قبر نبي أو ولي أو عالم، واستلمه أو قبّله بقصد التبرّك فلا بأس به».
11- قال القاضي عياض في الشفاء: وجدير لمواطن عمرت بالوحي والتنزيل، وتردّد بها جبرئيل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح ... وأوّل أرض مسّ جلد المصطفى ترابها، أن تعظّم عرصاتها، وتنسّم نفحاتها، وتقبّل ربوعها وجدرانها- ثمّ نقل عن الخفاجي: أنّ اللصوق بالقبر ومسّه وتقبيله مكروه؛ لأنّه خلاف الأدب. ثمّ نقل عن ابن أبي ملكة استحباب البعد، وعن ابن أبي الصيف أحد علماء مكّة جواز التقبيل، وعن ابن حجر الاستدلال لجواز التقبيل من مشروعية تقبيل الحجر. وعن أحمد: نفي البأس عن تقبيل المنبر، وعن الزرقاني: كراهة تقبيل القبر الشريف إلّالقصد التبرّك.
ثمّ نقل كلمات علماء المذاهب ولا نطيل بنقلها.
وقد أطلنا الكلام في نقل كلام هذا المحقّق المتتبّع الفقيد رحمه اللَّه تعالى، لما فيه
ص: 162
من كثير الفائدة ومن أراد المزيد منها فعليه بالرجوع إلى كتابه القيّم الفخم «الغدير» وملاحظة ما فيه من مطالب كثيرة لم نذكرها.
ولنختم الكلام في التبرّك بقبر النبي صلى الله عليه و آله بنقل ما ورد من تبرّك أهل البيت عليهم السلام بالقبر الشريف، وقد ورد عنهم عليهم السلام من القول والعمل في ذلك أحاديث كثيرة أخرجها علماء الإمامية رضوان اللَّه عليهم في كتبهم، ونحن نشير إلى موارد منها للتيمّن والتبرّك:
1- لمّا مات الإمام الحسن بن علي السبط الأكبر عليهما السلام أوصى وقال في وصيّته:
«فإذا قضيت نحبي ... وأدخلني على سريري إلى قبر جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأجدّد به عهداً ثمّ ردّني إلى قبر أمّي فاطمة عليها السلام».
وفي لفظ الكافي:
«ثمّ وجّهني إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأحدث به عهداً ثمّ اصرفني إلى أمّي فاطمة عليها السلام ثمّ ردّني إلى البقيع ...» الحديث.
وفي جواب الحسين عليه السلام لعائشة بعد كلام جرى بينهما في تقريب جنازة الحسن عليه السلام من الروضة المباركة الطيّبة: «يا عائشة إنّ أخي أمرني أن أقرّبه من أبيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليحدث به عهداً» (1).
2- عن محمد بن أبي العلاء قال: سمعت يحيى بن أكثم قاضي سامراء بعدما
ص: 163
جهدت به، وحاورته وناظرته وواصلته وسألته عن علوم آل محمد، قال: بينا أنا ذات يوم أطوف بقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فرأيت محمد بن علي الرضا عليه السلام يطوف به ..
الحديث (1).
3- في حديث: أنّ علي بن الحسين عليه السلام كان يلتزق بالقبر (2).
4- عن محمد بن مسعود قال: رأيت أبا عبد اللَّه (الصادق) عليه السلام انتهى إلى قبر النبي صلى الله عليه و آله فوضع يده عليه ... الحديث (3).
5- عن ابن فضال قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام وهو يريد أن يودع للخروج إلى العمرة، فأتى القبر من موضع رأس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد المغرب، فسلَّم على النبي صلى الله عليه و آله ولزق بالقبر ... الحديث (4).
6- لمّا عزم الإمام الحسين بن علي عليهما السلام الخروج من المدينة إلى مكّة بعد موت معاوية، خرج من منزله ذات ليلة وأقبل إلى قبر جدّه صلى الله عليه و آله فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك. ثمّ جعل يبكي عند القبر حتّى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر، فأغفى فإذا هو برسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... الحديث (5).
وفي لفظ ابن أعثم:
خرج الحسين بن علي ذات ليلة وأتى قبر جدّه صلى الله عليه و آله فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه أنا الحسين بن فاطمة أنا فرخك وابن فرختك، وسبطك في الخلف الذي
ص: 164
خلفت على أمّتك، فأشهد عليهم يا نبيّ اللَّه أنّهم قد خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك.
فلمّا كانت الليلة الثانية: خرج إلى القبر أيضاً فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول: اللهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت محمّد، قد حضرني من الأمر ما قد علمت، إنّي أحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك ياذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضا.
قال: ثمّ جعل الحسين يبكي حتّى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة ... الحديث.
7- وقد تقدّم تبرّك فاطمة عليها السلام بتراب قبره صلى الله عليه و آله من أخذها من تراب القبر المبارك، ووضعه على عينيها ووجهها.
8- لمّا ورد البريد بإشخاص الرضا عليه السلام- علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام- كنت- يعني الراوي نفسه وهو مخول السجستاني- بالمدينة فدخل (يعني الرضا عليه السلام) المسجد ليودّع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فودّعه مراراً، كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب (1).
9- عن الدرّ النظيم عن الرضا (علي بن موسى عليهما السلام) في حديث قال: لمّا أردت الخروج من المدينة إلى خراسان، جمعت عيالي فأمرتهم أن يبكوا علي حتى أسمع بكاءهم، ثمّ فرّقت فيهم اثني عشر ألف دينار ثمّ قلت لهم: إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً، ثمّ أخذت أبا جعفر فأدخلته المسجد ووضعت يده على حافّة القبر وألصقته به واستحفظته برسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... الحديث (2).
10- لمّا قبض الرشيد على موسى بن جعفر عليهما السلام، وهو عند رأس النبي صلى الله عليه و آله قائماً
ص: 165
يصلّي، فقطع عليه صلاته وحمل وهو يبكي ويقول: إليك أشكو يا رسول اللَّه ما ألقى ... الحديث (1).
11- عن أبي جعفر (محمد بن علي الباقر) عليه السلام قال (في حديث): فبكى أبي وقال: يا بني إذهب إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فصلِّ ركعتين ثمّ قل: اللّهمّ اغفر لعلي بن الحسين خطيئته يوم الدين ... الحديث (2).
12- عن محمد بن إسحاق قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام: ألا تدلّني على من آخذ منه ديني؟ فقال: هذا ابني علي إنّ أبي أخذ بيدي فأدخلني إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال: يا بني إنّ اللَّه قال: إنّي جاعلك في الأرض خليفة (3).
هذه الأحاديث المتواترة، إجمالًا أو معنًى؛ تدلّ على أنّ الصحابة رضي اللَّه عنهم والتابعين لهم بإحسان كانوا يتبرّكون برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وآثاره؛ يتبرّكون بقبره ويحترمونه ويعظّمونه، وأنّ التبرّك والاحترام والتعظيم لم يكن شركاً عندهم، بل لم يكن يخطر ذلك في بالهم، بل يرون أنّ ذلك من شؤون الإيمان ومظاهره، وأنّ تعظيمه تعظيم وإجلال للَّه سبحانه، والتبرّك به توسّل ببعض شؤون الربّ سبحانه إليه واستشفاع برسوله إليه.
ولكن هذه الأحاديث تدلّ على أمور خاصّة- وإن كانت من مصاديق التبرّك والاحترام-.
منها: الاستشفاع برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو مقبور راحل إلى ربّه تعالى، وهذا
ص: 166
الاستشفاع بمرأى من الصحابة الكرام رضى اللَّه عنهم ومسمع، منهم مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو راوي الحديث الشريف في استشفاع الأعرابي المتمسّك في استشفاعه بالقرآن الكريم، ولم ينكروا عليه بفعل ولا قول؛ مع قدرتهم على النهي، وعندهم العدّة والعدد، فيجوز لكلّ مسلم أن يزور رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويسأله أن يستغفر له، أو يطلب حاجته من اللَّه تعالى أي حاجة كانت.
ومن لطائف الحديث أنّ الأعرابي استشهد في عمله ذاك بقوله تعالى: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُ وك ... الآية، فيفيد ذلك أنّ الأعرابي فهم من ظاهر الآية الكريمة أنّ شفاعة الرسول صلى الله عليه و آله المستفادة من هذه الآية المباركة لا تختص بحال الحياة، بل هي شاملة لحال مماته أيضاً، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة في هذا الاستدلال والاستفادة، فيعلم أنّهم أيضاً كانوا يفهمون من الآية الشريفة هذا المعنى، ويلزم من ذلك أنّ جميع الآيات الدالّة على شأن من شؤون النبي صلى الله عليه و آله تشمل حالتي الحياة والموت، كقوله تعالى: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول الآية (1) و إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات (2)
و لا تقدموا بين يدي اللَّه ورسوله (3)
و لا تدخلوا بيوت النبي إلّاأن يؤذن لكم (4)
و إنّ الذين يؤذون اللَّه ورسوله لعنهم اللَّه في الدنيا والآخرة (5)
وغيرها من الآيات الكريمة.
ومنها: ما ورد من استسقاء بلال بن الحارث برسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقوله:
ص: 167
«يارسول اللَّه استسق لأمّتك»، إذ لم يفرق بين موته وحياته، فاستسقاه وطلب منه الدعاء، ولعلّ على هذا الأصل تمسّك الإمام مالك في احتجاجه على الخليفة العبّاسي أبي جعفر بقوله: «يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإنّ اللَّه تعالى أدّب قوماً فقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية، وذمّ قوماً فقال: إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات الآية، وإنّ حرمته ميّتاً كحرمته حيّاً، فاستكان أبو جعفر» (1) وإن كان يحتمل أن يكون الاستدلال من جهة استفادة الحكم في حال الحياة من الآية الكريمة، وتسريته إلى حال الموت من جهة قاعدة المساواة، ولكن الذي يستفاد ممّا ذكرنا أنّ قاعدة المساواة مستفادة من إطلاق الآية، كما فهمه الصحابة رضي اللَّه عنهم، وفي فهمهم واستدلالهم كفاية.
ومنها: أنّ أمّ المؤمنين عائشة أمرت المسلمين بالاستسقاء بالتوسّل بقبره الشريف، فصار ذلك سنّة لأهل المدينة، وبيّنت ذلك بأن يرفع الحائل بين القبر المبارك وبين السماء حتى ينزل المطر، وفي رواية: أنّ عائشة هي التي فعلت ذلك.
وعلى كلّ حال، فقد صار ذلك سنّة لأهل المدينة في الاستسقاء إلى زمن الزين المراغي.
وليس ذلك طلب دعاء من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى يكون استشفاعاً واستسقاء بالمعنى المتقدّم، بل هو استسقاء بالقبر المبارك، وجعله وسيلة إلى اللَّه تعالى، كما في الرواية: «فإنّه رحمة تنزل على قبره».
وهذا قسم آخر من التوسّل والاستشفاع، كان لكشف قبره أثر معنوي في شمول رحمة اللَّه تعالى ونزولها.
ص: 168
ولعلّ من هذا القبيل كان استشفاء ابن المنكدرأحد أعلام التابعين- حينما كان يصيبه الصمات، حيث كان يضع خدّه على القبر الشريف، وقد تقدّمت الإشارة في توضيح الأحاديث المتقدّمة إلى أن الراوي كان يطلب منه صلى الله عليه و آله الدعاء، وهو صلى الله عليه و آله كان يمسح أو يتفل أو يبصق في الجرح أو المرض، وفي هذا إشارة إلى أنّ شفاعة النبي صلى الله عليه و آله لا تنحصر في الدعاء والطلب منه سبحانه، بل هنا قسم آخر ألطف وأدقّ وهو الاستشفاع بأثر أو عضو منه صلى الله عليه و آله.
ويدلّ على ذلك قوله تعالى: وما كان اللَّه ليعذّبهم وأنت فيهم (1)
وقد وردت أحاديث كثيرة تدلّ على أنّ وجود رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمان من العذاب، وإن شئت الوقوف عليها فراجع الدرّ المنثور، والطبري في تفسير الآية الكريمة.
ومن هذا القبيل استشفاء أهل المدينة بتراب قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكذا تراب قبر حمزة سيّد الشهداء رضوان اللَّه عليه وقبر صهيب كما تقدّم ويأتي، وكذا استشفاء الصحابة رضي اللَّه عنهم بشعره وقدحه وغير ذلك كما سلف في ضمن الأحاديث المتقدّمة.
ولا يمكن ردّ الآية الكريمة والأحاديث الكثيرة المتظافرة أو المتواترة بالأوهام والاستبعادات، مع أنّ الاستبعاد ليس في محلّه كما تقدّم، وسيأتي تفصيله في بيان جواز التوسّل مستقلّاً إن شاء اللَّه تعالى.
ومنها: أنّ الصحابة رضي اللَّه عنهم كانوا يأخذون تراب القبر الشريف ويتبرّكون به، حتّى صار ذلك سنّة فيهم، وطريقاً مألوفاً لديهم، حتى ضربت عليهم عائشة وسدّت الكوة، ولكن لم يصرّح في الحديث بكيفية تبرّكهم هل كان بالحفظ عندهم فقط أو هو مع السجود عليه أو هما مع أكله للاستشفاء والتداوي،
ص: 169
كما حكى ذلك في أخذ التراب من قبر حمزة رحمه اللَّه تعالى، حيث كانوا يأخذونها للتداوي وصنع السبحة، ومن قبر صهيب يأخذونه للحمّى، بل كانوا يأخذون تراب المدينة ويحملونه معهم، وأطبق الناس على نقل تربة قبر حمزة للتداوي، بل كانوا يتبرّكون بقبور العلماء والشهداء والصالحين.
وشاهد الحال يحكي أنّهم كانوا يأخذون ذلك للحفظ وللتداوي والعبادة أيضاً. وقد صرّحوا أنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين كانت تتبرّك بجعله على عينيها ووجهها، وابن عمر كان يتبرّك بوضع اليد على تراب القبر، وأبو أيّوب كان يتبرّك بوضع الوجه على تراب القبر حتى اعترض عليه مروان، وبلال يتبرّك بتمريغ الوجه في تراب القبر والبكاء عنده، كما أنّ معاذاً كان يبكي عنده بمنظر من الخليفة عمر بن الخطّاب ولم يعترض عليه ولم ينكر، وإنّما كان كلام مروان- كما قال العلّامة المحقّق الأميني رحمه اللَّه في الغدير- دليلًا على أنّ «المنع عن التوسل بالقبور الطاهرة إنّما هو من بدع الأمويين وضلالاتهم منذ عهد الصحابة، ولم تسمع أذن الدنيا قط صحابياً ينكر ذلك غير وليد بيت أمية مروان الغاشم، نعم الثور يحمي أنفه بروقه.
نعم لبني أمية عامّة ولمروان خاصّة ضغينة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منذ يوم لم يبق صلى الله عليه و آله في الأسرة الأموية حرمة إلّاهتكها ولا ناموساً إلّامزّقه» (1) حتى نفى مروان وأباه ولعنهما.
بل كان التبرّك بقبر كلّ شهيد وصالح شائعاً عندهم، كما يعلم من التدبّر في الأحاديث المتقدّمة، وكذا كلّ شي ء من الصلحاء، كماء غسله وتراب قبره، حيث أخذوا تراب قبر سعد بن معاذ وحمزة بن عبد المطّلب وصهيب رحمهم اللَّه تعالى، وكانوا يستسقون بقبر أبي أيّوب، ومسروق بن الأجدع، وشربوا ماء غسل ابن
ص: 170
تيمية، وتبرّكوا ببقية سدره وخيط زيبقه، وبرّكوا عمائمهم ومناديلهم بإلقائها على جنازته، وتبرّكوا بقبور تقدّم ذكرها.
ومنها: تبرّك أهل البيت عليهم السلام بقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بإحضار موتاهم عنده حتى يحدثوا به عهداً، وهذا أيضاً استشفاع برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وطلب استغفار منه وتوسل به إلى اللَّه تعالى في غفران الذنوب وستر العيوب، كما أنّهم كانوا يتوسّلون بالبكاء عند القبر الشريف، والصلاة والدعاء عنده تارةً، ويتبرّكون باللزوق به أخرى.
وهذان القسمان داخلان في القسم الثاني من جعل قبره صلى الله عليه و آله أو شي ء منه وسيلة إلى المولى سبحانه يتقرّب به ويتبرّك ويستشفى ويستشفع، ولكنّه من حيث أثر رسول اللَّه وينتهي إلى اللَّه سبحانه، وليس شركاً كما تقدّم.
ص: 171
تبرّكهم بعصاه صلى الله عليه و آله
تبرّكهم بخاتمه صلى الله عليه و آله تبرّكهم بلباسه صلى الله عليه و آله في التكفين وغيره
ملابسه صلى الله عليه و آله عند سائر المسلمين
نظرة وتحقيق حول الأحاديث
ص: 172
ص: 173
هناك أحاديث تدلّ على تبرّكهم بعصاه صلى الله عليه و آله، نذكر منها:
1- قال عبد اللَّه بن أنيس- بعد أن قتل سفيان بن خالد الهذلي ثمّ اللحياني (بكسر اللام وفتحها) بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ورجع إلى المدينة:- فوجدت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المسجد فلمّا رآني قال: قد أفلح الوجه، قلت: أفلح وجهك يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فوضعت رأسه- أي رأس سفيان- بين يديه، وأخبرته خبري فدفع لي عصا ... فكانت تلك العصا عنده، فلمّا حضرته الوفاة أوصى أهله أن يدخلوها في كفنه ويجعلوها بين جلده وكفنه ففعلوا (1).
وفي السيرة الحلبية (2) نقل هذه القصّة لعبد اللَّه بن أنيس، حين قتل أسير بن رزام اليهودي قال: ثمّ أقبلنا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحدّثنا الحديث فقال صلى الله عليه و آله: قد نجاكم اللَّه من القوم الظالمين، وبصق في شجتي فلم تقع عليّ ولم تؤذني. قال: وفي رواية
ص: 174
زيادة على ذلك وهي:
وقطع لي قطعة من عصاه فقال: أمسك هذه علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنّك تأتي يوم القيامة متخصّراً، فلمّا دفن عبد اللَّه بن أنيس جعلت معه على جلده دون ثيابه. انتهى (1).
أقول: تقدّم نظير ذلك لعبداللَّه بن أنيس هذا، حين أرسله صلى الله عليه و آله لقتل سفيان بن خالد الهذلي، وجاء برأسه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيحتمل أنّ هذا وهم من بعض الرواة، ويحتمل تعدّد الواقعة أي أعطاه عصاه أولًا في تلك ... ثمّ أعطاه إيّاها مرّة أخرى ثانياً، ثمّ جعل العصوين بين جلده وكفنه ولا مانع.
2- كان عثمان يخطب وبيده عصا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخذ جهجاه الغفاري العصا من يد عثمان؛ فكسرها يومئذ، ثمّ أخذته في ركبته الآكلة (2).
3- عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك: أنّه كانت عنده عصية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فمات فدفنت معه بين جنبه وقميصه (3).
4- بعث النجاشي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثلاث عنزات، فأمسك النبي صلى الله عليه و آله واحدة لنفسه، وأعطى علي بن أبي طالب واحدة وأعطى عمر بن الخطّاب واحدة، فكان بلال يمشي بتلك العنزة التي أمسكها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لنفسه بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في العيدين، فيركز بين يديه فيصلّي إليها. ثمّ بين يدي أبي بكر ثمّ يمشي بها سعد القرظ بين يدي عمر بن الخطّاب وعثمان ... وهذه العنزة التي يمشي بها اليوم بين يدي الولاة (4)
ص: 175
5- كان له صلى الله عليه و آله قضيب في شوحط يسمّى الممشوق، قيل: هو الذي كان الخلفاء يتداولونه (نقلًا عن الأحكام السلطانية للماوردي) قال: «وأمّا القضيب فهو من تركة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله التي صدقة وقد صار مع البرد من شعار الخلافة».
وكذا عن البداية والنهاية، حيث قال: وكانوا يهتمّون بهما كما يهتمّون بالبيعة وما زالت الشعراء تذكرهما- ثمّ ذكر قسماً من الأشعار في ذلك ... (1).
6- وقال في كتاب الآثار النبوية: فيه (أي في رباط الآثار) قطعة من العنزة.
يعني حفظوا ببعض تلك العنزة، احتراماً لها وتبرّكاً بعنزة الرسول صلى الله عليه و آله (2).
7- عن الزبير قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص ... فحملت عليه بالعنزة، فطعنته في عينه فمات ... فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها، قال عروة، فسأله إيّاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأعطاه، فلمّا قبض رسول اللَّه أخذها، ثمّ طلبها أبو بكر فأعطاه، فلمّا قبض أبو بكر سألها إيّاه عمر فأعطاه إيّاها، فلمّا قبض عمر أخذها ثمّ طلبها عثمان منه فأعطاه إيّاها، فلمّا قتل عثمان وقعت عند مال عليّ فطلبها عبد اللَّه بن الزبير فكانت عنده حتّى قتل (3).
8- جاء أبو حنيفة إليه (يعني إلى الإمام أبي عبد اللَّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام) ليسمع منه، وخرج أبو عبد اللَّه يتوكأ على عصا، فقال له أبو حنيفة:
ياابن رسول اللَّه ما بلغت من السنّ ما تحتاج معه إلى العصا، قال: هو كذلك ولكنّها عصا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أردت التبرّك بها، فوثب أبو حنيفة إليه وقال له: أقبّلها ياابن رسول اللَّه فحسر أبو عبد اللَّه عليه السلام عن ذراعه، وقال له: واللَّه لقد علمت أنّ هذا بشر
ص: 176
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنّ هذا من شعره فما قبّلته وتقبل عصا (1).
9- (همّ المنصور بقتل أبي عبد اللَّه عليه السلام فلمّا منع من ذلك منع الناس عنه) «حتى ألقى اللَّه في روع المنصور أن يسأل الصادق عليه السلام ليتحفه بشي ء من عنده لا يكون لأحد مثله، فبعث إليه بمخصرة كانت للنبي صلى الله عليه و آله طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً، وأمر أن تشق له أربعة أرباع ... الحديث (2).
1- عن ابن عمر: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اتخذ خاتماً من ورق فكان في يده، ثمّ كان في يد أبي بكر بعده، ثمّ كان في يد عمر بعده، ثمّ كان في يد عثمان، حتّى وقع في بئر أريس، نقشه محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
2- ذكر البخاري خاتمه صلى الله عليه و آله، وأنّ أبا بكر كان ختم به الكتاب إلى البحرين ثمّ ذكر نعله وكساءه (4).
وقد ذكر في البداية والنهاية (5) بحثاً حول الخاتم، ونقل هذه الرواية وأطال الكلام في ترك الخاتم، وأنّه كان صنع من ذهب أو ورق أو حديد، وكيف توارثه الخلفاء الثلاثة فراجعه.
ص: 177
لقد أبقى لنا السلف أحاديث كثيرة في التبرّك بلباسه صلى الله عليه و آله، كعمامته وبردته وجبَّته وقلنسوته وقميصه وردائه وإزاره وكسائه ودرعه وغيرها، وكان الصحابة والتابعون ومن بعدهم يحفظونها ويتبرّكون ويستشفون بها، وإليك طائفة من نصوصها، وعليك بالتدبّر فيها والإيمان بما يستفاد منها:
1- عمامته السحاب كانت عند علي عليه السلام ثمّ صارت لبني العبّاس (1).
2- عن سعد قال: رأيت رجلًا ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال: كسانيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (2).
3- لما ولّي عثمان تعمّم بعمامة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
4- عبد اللَّه بن خازم- بالمعجمتين- أبو صالح الأمير المشهور كانت له عمامة سوداء يلبسها في الجمع والأعياد والحرب، فإذا فتح عليه تعمّم بها تبرّكاً بها، ويقول: كسانيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (4).
5- عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضي اللَّه عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه و آله عبد اللَّه ابن أبيّ بعدما أدخل قبره، فأمر به فأخرج، ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه (5).
وفي لفظ أحمد (6):
ص: 178
عن جابر لمّا مات عبد اللَّه بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه إنّ لم تأته لم نزل نعيّر بهذا، فأتاه النبي صلى الله عليه و آله فوجده قد أدخل حفرته فقال: أفلا قبل أن تدخلوه. فَأُخرجَ من حفرته فتفل عليه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه.
6- عن نافع عن عبد اللَّه قال: لمّا توفي عبد اللَّه بن أبيّ جاء ابنه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه أعطني قميصك أكفّنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له، فأعطاه قميصه (1).
وفي لفظ آخر للبخاري (2): وقال أبو هريرة: وكان على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قميصان، فقال له ابنه عبد اللَّه: يا رسول اللَّه ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك. قال سفيان:
فيروون أنّ النبي صلى الله عليه و آله ألبس عبد اللَّه قميصه مكافأة لما صنع، وفي لفظ الطبري:
«وألبسه النبي صلى الله عليه و آله قميصه وهو عرق».
وفي الدرّ المنثور عن دلائل النبوّة للبيهقي عن ابن عبّاس أنّ عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبيّ قال له أبوه: أي بني اطلب لي ثوباً من ثياب النبي صلى الله عليه و آله، فكفّني فيه ومره أن يصلّي عليّ. قال: فأتاه فقال: يا رسول اللَّه قد عرفت شرف عبد اللَّه وهو يطلب إليك ثوباً من ثيابك نكفّنه فيه وتصلّي عليه. فقال عمر: يا رسول اللَّه قد عرفت عبد اللَّه ونفاقه أتصلّي عليه؟ ... الحديث.
ليس في هذه الرواية نصّ على إعطاء القميص، ولكن نقل عن جابر، وفيه: فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: أبي أوصى أن يكفّن في قميصك، فصلّى عليه وألبسه قميصه.
ص: 179
7- عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة ببردة ... قالت: يا رسول اللَّه إنّي نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله محتاجاً إليها، فخرج إلينا وإنّه لإزاره، فجسّها رجل من القوم فقال: يا رسول اللَّه اكسنيها، قال: نعم ... ثمّ رجع فطواها، ثمّ أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت سؤلتها إيّاه، وقد عرفت أنّه لا يرد سائلًا فقال الرجل: واللَّه ما سألتها إلّالتكون كفني يوم أموت. قال سهل:
فكانت كفنه (1).
قال ابن حجر في الفتح في شرح ما يستفاد من الحديث: «وفيه التبرّك بآثار الصالحين» وقال في تعيين الرجل الذي فعل هذا: أفاد المحبّ الطبري في الأحكام له: أنّه عبد الرحمن بن عوف وعزاه للطبراني، ولم أره في المعجم الكبير لا في مسند سهل ولا عبد الرحمن، ونقله شيخنا ابن الملقن عن المحبّ في شرح العمدة، وكذا قال لنا شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي: إنّه وقف عليه لكن لم يستحضر مكانه، ووقع لشيخنا ابن الملقن في شرح التنبيه أنّه سهل بن سعد وهو غلط» ثمّ نقل عن الطبراني، أنّه سعد بن أبي وقاص، وعنه أيضاً في رواية أنّه أعرابي.
8- عن أسماء بنت أبي بكر أنّها أخرجت جبّة طيالسة إليّ ذات أعلام خضر قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يلبسها، فنحن نغسلها ونستشفي بها (2)
ص: 180
9- كان كعب بن زهير شديد الحرص على المحافظة على البردة التي أعطاها له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقصّته مشهورة ومختصرها:
أنّ كعباً كان من فحول الشعراء، وكان ممّن هجا النبي صلى الله عليه و آله قبل الإسلام، فلمّا كان يوم الفتح خرج هارباً ثمّ أسلم أخوه، فهجاه كعب وأهدر دمه لمّا سمع ما قال، فأشفق كعب على نفسه، وقال قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه و آله، ثمّ خرج إلى المدينة يريد الإسلام فنزل على رجل من جهينة، فأتى به إلى المسجد، ثمّ أشار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: هذا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
فقام كعب إلى النبي صلى الله عليه و آله حتى جلس بين يديه فوضع يده في يده، ثمّ قال: يا رسول اللَّه إنّ كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال صلى الله عليه و آله: نعم، فقال: أنا كعب بن زهير فقال صلى الله عليه و آله: مأمون واللَّه وألقى عليه بردته التي كانت عليه صلى الله عليه و آله.
وقد بذل معاوية بن أبي سفيان لكعب في هذه البردة عشرة آلاف من الدراهم فقال كعب: ما كنت لأوثر بثوب رسول اللَّه أحداً، فلمّا مات بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألف درهم فأخذها منهم، وهي البردة التي كانت عند السلاطين وهي التي يلبسها الخلفاء في الأعياد (1).
10- لمّا ثقل معاوية ويزيد غائب، أقبل يزيد ودخل على معاوية، وهو يجود بنفسه، قال معاوية: أي بنيّ إنّ أعظم ما أخاف اللَّه فيه ما كنت أصنع بك، يا بنيّ إنّي خرجت مع رسول اللَّه، فكان إذا مضى لحاجته وتوضّأ أصبّ الماء على يديه، فنظر إلى قميص لي قد انخرق من عاتقي فقال لي: يا معاوية ألا أكسوك قميصاً؟ قلت: بلى، فكساني قميصاً لم ألبسه إلّالبسة واحدة وهو عندي، واجتز ذات يوم فأخذت
ص: 181
جزازة شعره وقلامة أظفاره فجعلت ذلك في قارورة، فإذا مت يا بنيّ فاغسلني ثمّ اجعل ذلك الشعر والأظفار في عيني ومنخري وفمي، ثمّ اجعل قميص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شعاراً من تحت كفني إن نفع شي ء نفع هذا (1).
أقول: في هذه الرواية مواضع للنظر والتأمّل لا تخفى على المتدبّر.
11- عن أمّ عطية الأنصارية رضي اللَّه عنها- اسمها نسيبة بنت الحارث، وقيل بنت كعب، كانت من كبار نساء الصحابة، وكانت تغسل الموتى، وتغزو مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- قالت: دخل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين توفيت ابنته فقال: اغسليها ثلاثاً أو خمساً .. فإذا فرغتنّ فآذنّني، فلمّا فرغنا آذنّاه فأعطانا حقوه، فقال:
اشعرنه إيّاها. تعني إزاره (2).
الحقو: بالفتح ويجوز كسرها وهي لغة هذيل، بعد المهملة قاف ساكنة، والمراد به هنا الإزار.
قال في الفتح: قيل: الحكمة في تأخير الإزار معه إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهنّ إيّاه أوّلًا؛ ليكون قريب العهد من جسده الكريم حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، وهو أصل في التبرّك بآثار الصالحين.
12- عن عائشة أمّ المؤمنين في حديث دفن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالت: «إنّ عبد اللَّه ابن أبي بكر أعطاهم- في تكفين الرسول صلى الله عليه و آله- حلّة حبرة، فأدرج فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثمّ استخرجوه منها، فكفن في ثلاثة أثواب بيض فأخذ الحلّة فقال: لأكفن نفسي
ص: 182
في شي ء مسّ جلد النبي صلى الله عليه و آله، ثمّ قال بعد ذلك: واللَّه لا أكفّن نفسي في شي ء منعه اللَّه عزّوجلّ نبيّه أن يكفّن فيه» (1).
وفي لفظ الإصابة: عن عائشة قالت: كفّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في بردي حبرة حتى مسّا جلده، ثمّ نزعهما فأمسكهما عبد اللَّه ليكفن فيهما. ثمّ قال: وما كنت لأمسك شيئاً منع اللَّه رسوله منه فتصدّق بهما.
13- لمّا ماتت فاطمة بنت أسد؛ أمّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام «ألبسها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قميصه، واضطجع معها في قبرها. فقالوا: ما رأينا صنعت ما صنعت بهذه؟ فقال: إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكتسي من حلل الجنّة واضطجعت معها ليهون عليها» (2).
في البحار (3) «ثمّ قال لعلي عليه السلام: هذا قميصي فكفّنها فيه، فإذا فرغتم فآذنوني، فلمّا أخرجت صلّى عليها النبي صلى الله عليه و آله صلاة لم يصلِّ قبلها ولا بعدها على أحد مثلها، ثمّ نزل على قبرها فاضطجع فيه ... قيل: يا رسول اللَّه لقد صنعت بها شيئاً في تكفينك إيّاها ثيابك ودخولك في قبرها وطول مناجاتك وطول صلاتك ما رأينا صنعته بأحد قبلها؟ قال: أما تكفيني إيّاها فإنّي لما قلت لها يعرض الناس يوم يحشرون من قبورهم فصاحت، وقالت: واسوأتاه فلبستها ثيابي وسألت اللَّه في صلاتي أن لايبلى أكفانها حتى تدخل الجنّة ... الحديث.
ص: 183
وفي لفظ السمهودي: «لمّا فرغ منه نزل فاضطجع في اللحد وقرأ فيه القرآن ثمّ نزع قميصه، فأمر أن تكفّن فيه».
وفي لفظه الآخر:
عن جابر: بينما نحن جلوس مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ أتاه آتٍ فقال: يا رسول اللَّه إنّ أمّ علي وجعفر وعقيل قد ماتت. فقال رسول للَّه صلى الله عليه و آله: قوموا إلى أمِّي؛ فقمنا، وكأنّ على رؤوس من معه الطير، فلمّا انتهينا إلى الباب نزع قميصه فقال: إذا غسلتموها فاشعروها إيّاه تحت أكفانها ... حتى انتهينا إلى القبر فتمعّك في اللحد، ثمّ خرج فقال: ادخلوها باسم اللَّه وعلى اسم اللَّه، فلمّا أن دفنوها قام قائماً فقال: جزاك اللَّه من أمّ وربيبة خيراً، فنعم الأمّ ونعم الربيبة كنت لي.
قال: فقلنا له أو قيل له: يا رسول اللَّه لقد صنعت شيئين ما رأيناك صنعت مثلهما قط، قال: ما هو؟ قلنا: نزعك قميصك وتمعكك في اللحد قال: أمّا قميصي فأريد أن لا تمسّها النار أبداً إن شاء اللَّه تعالى، وأمّا تمعكي في اللحد فأردت أن يوسع اللَّه عليها قبرها.
14- لمّا صار عبد اللَّه بن أبيّ في السياق، جاءه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعاتبه فقال:
يارسول اللَّه ليس بحين عتاب هو الموت، فإن مت فاحضر غسلي وأعطني قميصك أكفّن فيه فأعطاه الأعلى- وكان عليه قميصان- فقال: الذي يلي جلدك فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه (1).
15- عن محمد بن جابر قال: سمعت أبي يذكر عن جدّي أنّه أوّل وفد وفد على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من بني حنيفة، فوجدته يغسل رأسه فقال: اقعد يا أخا أهل اليمامة فاغسل رأسك، فغسلت رأسي بفضلة غسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... فقلت: يا رسول اللَّه
ص: 184
أعطني قطعة من قميصك استأنس بها، فأعطاني. قال محمد بن جابر: فحدّثني أبي أنّها كانت عندنا نغسلها للمريض يستشفي بها (1).
16- لمّا مات عبد شمس بن الحارث بن عبد المطلب القرشي بالصفراء في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، دفنه في قميصه وقال: سعيد أدركته السعادة (2).
17- خرج صيفي بن ساعدة الأنصاري مع النبي صلى الله عليه و آله في بعض المغازي، فتوفي بالكديد، فكفّنه النبي صلى الله عليه و آله في قميصه (3).
18- عبد اللَّه بن ثابت الأنصاري توفي على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكفّنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قميصه (4).
19- عن عبد اللَّه بن ربيعة بن الحارث الهاشمي قال: أرسلته أمّ الحكم بنت الزبير وهو غلام في أثر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو يريد بيت أمّ سلمة فأمرته أن يدرك رسول اللَّه فينزع عنه رداءه، فالتفت إليّ فقال: مَنْ أنت؟ فأخبرته وقلت: أمّي أمرتني بهذا فلفّ رداءه ثمّ أعطانيه وقال: مر أمّك تشقّه فتختمر به هي وأختها (5).
20- جاء قرّة بن هبيرة القشيري إلى النبي صلى الله عليه و آله ... ثمّ قال: يارسول اللَّه أكسني ثوبين قد لبستهما فكساه ... الحديث (6).
21- كان الوليد بن الوليد بن المغيرة محبوساً بمكّة، فلمّا أراد أن يهاجر باع مالًا له بالطائف، ثمّ وجد غفلة من القوم فخرج هو وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام مشاة يخافون الطلب فسعوا حتى تعبوا ... فدخل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا
ص: 185
رسول اللَّه حسرت وأنا ميّت فكفّني في فضل ثوبك، واجعله ممّا يلي جلدك ومات فكفّنه النبي صلى الله عليه و آله في قميصه (1).
22- كانت الشفاء بنت عبد اللَّه القرشية العدوية أمّ سليمان بن أبي حثمة؛ من عقلاء النساء وفضلائهن، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأتيها، ويقيل عندها، وكانت قد اتخذت له فراشاً وإزاراً ينام فيه، فلم يزل ذلك عند ولدها؛ حتى أخذه منهم مروان ابن الحكم (2).
23- لمّا أراد عمر أن يستسقي؛ خرج ذلك اليوم، وعليه برد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
24- مات عبد اللَّه بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم بالصفراء، فدفنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قميصه (4).
25- توفي عبد اللَّه بن سعد الأنصاري منصرفه صلى الله عليه و آله من تبوك، وكفّنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قميصه (5).
26- كانت عائشة تحفظ كساءً ملبداً وإزاراً غليظاً. قالت: قبض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذين.
وفي لفظ: عن أبي بردة قال: دخلت على عائشة؛ فأخرجت إلينا إزاراً غليظاً ممّا يصنع باليمن، وكساءً من التي يسمّونها الملبدة. قال: فأقسمت باللَّه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبض في هذين الثوبين.
وفي رواية عنه قال: أخرجت إلينا عائشة إزاراً وكساءً ملبداً، فقالت: في هذا
ص: 186
قُبض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وفي لفظ البخاري: أخرجت إلينا عائشة كساءً وإزاراً غليظاً، فقالت: قبض روح النبي في هذين (1).
27- عن محمد بن هلال قال: رأيت على هشام بن عبد الملك بردَ النبي من حبرة له حاشيتان (2).
28- عن عروة بن الزبير: أنّ ثوب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي كان يخرج فيه إلى الوفد، رداء حضرمي طوله أربع أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق وطووه بثوب يلبسونه يوم الأضحى والفطر (3).
وقد عقد السيوطي في تاريخ الخلفاء فصلًا في شأن البردة النبوية قال: قال السلفي في الطواريات بسنده إلى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء: أنّ كعب بن زهير رضى الله عنه لمّا أنشد النبي قصيدته- بانت سعاد- رمى إليه ببردة كانت عليه، فلمّا كان زمن معاوية رضى الله عنه كتب إلى كعب: بعنا بردة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعشرة آلاف درهم، فأبى عليه، فلمّا مات كعب بعث معاوية إلى أولاده بعشرين ألف درهم، وأخذ منهم البردة التي هي عند الخلفاء آل العبّاس، وهكذا قال خلائق آخرون.
وأمّا الذهبي فقال في تاريخه: أمّا البردة التي عند الخلفاء آل العبّاس فقد قال يونس بن بكر عن ابن إسحاق في قصة غزوة تبوك: إنّ النبي صلى الله عليه و آله أعطى أهل أيلة
ص: 187
بردة مع كتابه الذي كتب لهم أماناً لهم، فاشتراها أبو العبّاس السفاح بثلاثمائة دينار.
قلت: فكانت التي اشتراها معاوية فقدت عند زوال دولة بني أمية.
أقول: تقدّم ذكر قصّة هذه البردة سابقاً.
29- عن جابر بن عامر، قال: أخرج إلينا علي بن الحسين (بن علي بن أبي طالب زين العابدين عليهم السلام) درع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1).
30- كان متاع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند عمر بن عبد العزيز في بيت ينظر إليه كلّ يوم، وكان إذا اجتمعت إليه قريش أدخلهم ذلك البيت، ثمّ استقبل ذلك المتاع، فيقول: هذا ميراث من أكرمكم اللَّه وأعزّكم به، قال: وكان سريراً مزملًا بشريط ومزققة من أدم محشوة ليفاً وجفنة وقدحاً وثوباً ورحى وكنانة فيها أسهم، وكان في القطيفة أثر رشح عرق رأسه أطيب من ريح المسك، فأصيب رجل فطلبوا أن يغسلوا بعض ذلك الرشح فيسعط به، فذكر ذلك لعمر فسعط به فبرئ (2).
31- إنّ أهل البيت عليهم الصلاة والسلام كانوا يحتفظون بميراثه من لباسه، عن ابن عاصم قال: أخرج إلينا عليّ بن الحسين سيف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإذا قبيعة والحلقتان اللّتان فيهما الحمائل من فضة (3).
32- عن عيسى بن طهمان قال: أمر أنس وأنا عنده فأخرج نعلًا لهما قبالان فسمعت ثابت البناني يقول: هذه نعل النبي صلى الله عليه و آله (4).
33- كان نعلا النبي صلى الله عليه و آله عند فاطمة بنت عبيداللَّه بن عبّاس (5)
ص: 188
34- عن جابر: أنّ محمد بن علي- الباقر عليه السلام- أخرج لهم نعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأراني معقبة مثل الحضرمية له قبالان (1).
35- قال هشام بن عروة: رأيت نعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مخصرة معقبة ملسنة لها قبالان (2).
36- رأى عبد اللَّه بن الحارث الأنصاري نعلي النبي صلى الله عليه و آله كانتا متقابلتين (3).
37- كان أنس يحفظ نعلي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعائشة تحفظ إزاره (4).
38- قال في الآثار النبوية: وأمّا السيف فالمراد به ذو الفقار كان وهبه لعلي عليه السلام ثمّ صار لبنيه، ثمّ كان عند محمد بن عبد اللَّه بن الحسن، فلمّا أحس بالقتل أعطاه التاجر في دين عليه أربعمائة للتاجر، ثمّ اشتراه جعفر بن سليمان العبّاسي بأربعمائة دينار ثمّ أخذه منه المهدي (5).
39- عن ابن سيرين قال: صنعت سيفي على سيف سمرة وزعم سمرة، أنّه صنع سيفه على سيف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان حنفيّاً، وقد صار إلى آل علي سيف من سيوف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا قتل الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما بكربلاء عند الطفّ، وكان معه فأخذه عليّ بن الحسين زين العابدين، فقدم معه دمشق حين دخل على يزيد بن معاوية. ثمّ رجع معه إلى المدينة.
فثبت في الصحيحين عن المسور بن مخرمة: أنّه تلقاه إلى الطريق فقال له: هل لك إليّ من حاجة تأمرني بها؟ قال: فقال: لا، فقال: هل أنت معطي سيف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإنّي أخشى أن يغلبك عليه القوم، وأيم اللَّه، إن أعطيتنيه لا يخلص
ص: 189
إليه حتى يبلغ نفسي ... الحديث (1).
40- عنون البخاري باباً بقوله: باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه و آله وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك، ممّا لم يذكر قسمته ومن شعره ونعله وآنيته ممّا تبرّك أصحابه وغيرهم بعد وفاته (2).
- واتّبعه ابن حجر في الفتح (3) في شرح العنوان فقال: الغرض من هذه الترجمة تثبيت أنّه صلى الله عليه و آله لم يورث ولم يبع موجوده، بل ترك بيد من صار إليه للتبرّك به، ولو كان ميراثاً لبيعت وقسّمت، ولهذا قال بعد ذلك: «ممّا لم تذكر قسمته» وقوله: «ممّا تبرّك أصحابه» أي به وحذف للعلم به.
أقول: قوله صلى الله عليه و آله: «إنّه لم يورث ولم يبع موجوده» فيه خلاف بين أهل السنّة والشيعة، وقد بحثوا فيه بحثاً ضافياً طويلًا، وقد أشرنا إليه في كتاب مكاتيب الرسول صلى الله عليه و آله، ودليلهم على عدم التوريث حديث انفرد به أبو بكر، فراجع وتدبّر.
وعلى كلّ حال: فقد علم من عنوان البخاري وشرحه، كون جواز التبرّك عند الصحابة أمراً مسلماً مفروغاً عنه، فلاحظ.
41- ذكر السمهودي: أنّ سيف عبد اللَّه بن جحش الذي أعطاه له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم أحد؛ لم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمئتي دينار (4).
42- في خبر طويل عن سعيد بن جبير، قال أبو خالد الكابلي: أتيت علي بن الحسين عليهما السلام على أن أسأله هل عندك سلاح رسول اللَّه؟ فلمّا بصر بي قال: يا
ص: 190
أبا خالد أتريد أن أريك سلاح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ قلت: واللَّه ياابن رسول اللَّه ما أتيتك إلّا لأسألك عن ذلك، وقد أخبرتني بما في نفسي. قال: نعم، فدعا بحق كبير وسفط فأخرج لي خاتم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثمّ أخرج لي درعه، وقال: هذا درع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وأخرج إليّ سيفه، وقال: هذا واللَّه ذو الفقار. وأخرج عمامته وقال: هذه السحاب. وأخرج رايته وقال: هذه العقاب. وأخرج قضيبه وقال: هذا السكب.
وأخرج نعليه وقال: هذان نعلا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأخرج رداءه، وقال: هذا كان يرتدي به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويخطب أصحابه يوم الجمعة. وأخرج لي شيئاً كثيراً، قلت: حسبي جعلني اللَّه فداك (1).
43- بلغ عبد الملك أن سيف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنده «أي عند الإمام زين العابدين عليه السلام» فبعث يستوهبه ويسأله الحاجة، فأبى عليه، فكتب إليه عبد الملك يهدّده وإنّه يقطع رزقه من بيت المال فأجابه عليه السلام ... الحديث (2).
44- في حديث احتجاج علي بن الحسين عليهما السلام على محمد بن الحنفية أنّ علي بن الحسين عليهما السلام قال: «وهذا سلاح رسول صلى الله عليه و آله عندي» الحديث (3).
45- عن محمد بن الفضل الهاشمي قال: لمّا توفي موسى بن جعفر عليهما السلام أتيت المدينة، فدخلت على الرضا عليه السلام فسلّمت عليه بالأمر- إلى أن قال:- ثمّ أخرج إليّ جميع ما كان للنبي صلى الله عليه و آله عند الأئمّة، من بردته وقضيبه وسلاحه وغير ذلك.- الحديث (4)-.
46- قال الإمام أبي جعفر عليه السلام: «عندي سلاح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو فينا بمنزلة
ص: 191
التابوت في بني إسرائيل يدور معنا حيث درنا، وهو مع كلّ إمام (1).
47- تقدّم في التبرّك بعرقه صلى الله عليه و آله حديث عن أنس بن مالك وأنّه ورث البردة عن أمّ سليم.
48- عن حازم بن حزام قال: أتيت النبي صلى الله عليه و آله بصيد اصطدته؛ فأهديتها، فقبلها (كذا) رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكساني عصابته وسمّاني حزاماً (2).
49- صلّى الحسين بن علي المقتول بفخ رحمه الله ... فخطب بعد الصلاة وقال:
«... أيّها الناس أتطلبون آثار رسول اللَّه في الحجر والعود وتمسحون بذلك وتضيّعون بضعة منه ...» (3).
50- عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: ألا أريك قميص القائم الذي يقوم عليه؟ فقلت: بلى، فدعا بقمطر ففتحه، وأخرج منه قميص كرابيس فنشره، فإذا في كمّه الأيسر دم، فقال: هذا قميص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي عليه يوم ضربت رباعيته. الحديث- (4).
51- (حديث في شأن القائم عليه السلام) يا أبا محمد! إنّه يخرج موتوراً غضبان أسفاً لغضب اللَّه على هذا الخلق، عليه قميص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي كان عليه يوم أحد، وعمامته السحاب، ودرع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله السابغة، وسيف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذوالفقار ...
الحديث (5).
52- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: كان نعل سيف رسول اللَّه وقائمته فضة، وكان
ص: 192
بين ذلك حلق من فضة، ولبست درع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فكنت أسحبها وفيها ثلاث حلقات من فضّة من بين يديها، واثنتان من خلفها (1).
نقل في كتاب الآثار النبوية بعض الآثار النبوية المحفوظة المتبرّك، بها فقال (2): عن جمع نقلوا النعل التي كانت عند السيّدة عائشة. وقال (3): إنّ نعلًا كان بالأشرفية بدمشق قال (4): وثمّة نعل أخرى بدمشق، وقال (5): وقطعة أخرى كانت عند القاضي عبد الباسط، وقال (6) في عدّة النعال الشريفة النبوية الموجودة: النعل الشريفة التي بدار الشرفاء الطاهرين بفاس (انتهى بتلخيص وتحرير منّا).
وقال في البداية والنهاية (7): اشتهر في حدود سنة 600 وما بعدها عند رجل من التجّار يقال له: ابن أبي الحدرد نعل مفردة، وذكر أنّها نعل النبي صلى الله عليه و آله فسامها الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيّوب منه بمال جزيل، فأبى أن يبيعها، فاتفق موته بعد حين، فصارت إلى الملك الأشرف المذكور، فأخذها إليه وعظّمها، ثمّ لمّا بنى دار الحديث الأشرفية إلى جانب القلعة، جعلها في خزانة منها وجعل لها خادماً، وقرّر له من المعلوم كلّ شهر أربعين درهماً، وهي موجودة الآن في الدار المذكورة.
ص: 193
أقول: قد نقلنا هذه الآثار، لنبيّن مدى اهتمام المسلمين بالآثار النبوية خلفاً عن سلف، وجيلًا بعد جيل، وقرناً بعد قرن، بحيث لا يبقى مجال للشكّ والريب.
هذه الأحاديث واضحة الدلالة على جواز التبرّك، بل رجحانه، ولكن لتأكيد المطلب وإيضاحه نرى أن نعود إلى بيانها مرّة أخرى، فنقول: دلالتها على المطلوب من وجوه:
1- عمل النبي الكريم صلى الله عليه و آله يدلّ على المطلوب كعمله في تكفين ابنته، وكذا في تكفين بعض الصحابة، حيث كفّنهم ببعض ثيابه كقميصه وإزاره وردائه، وأمر باشعار ثوبه للميّت كما في تكفين فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين عليه السلام، معلّلًا بقوله صلى الله عليه و آله: «إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنّة» و «سألت اللَّه في صلاتي أن لا يبلي أكفانها» أي كفّنتها في قميصي لكي تنجو من الحشر هي عارية، وبقوله صلى الله عليه و آله:
«أمّا قميصي فأريد أن لا تمسّها النار أبداً إن شاء اللَّه تعالى» وفي تكفين عبد شمس بن الحارث قال: «سعيد أدركته السعادة».
عمله صلى الله عليه و آله بنفسه يكون طلباً لبركة ثوبه، وبياناً لوجه البركة والفوائد المترتّبة عليها، فلكلّ مسلم به صلى الله عليه و آله أسوة حسنة، وكلّ مؤمن باللَّه تعالى وبنبيّه نبيّ الرحمة يريد أن يكسى من حلل الجنّة، وأن لا تمسّة النار أبداً، وأن لا يأتي عارياً يوم الحشر، وأي وازع وأي مانع من تبرّك المسلم تأسّياً بنبيّه صلى الله عليه و آله وابتغاء لهذه البركات؟
2- عمل الصحابة أيضاً يدلّ على ما ذكرنا، حيث كانوا يحتفظون بملابسه وآثاره متباهين بذلك، وطالبين للبركة، ونستفيد طلبهم للبركة من حفظهم ومباهاتهم، فكان علي عليه السلام يحفظ عمامته، وكان عثمان وعبد اللَّه بن خازم يتعمّمان بها وطلب ابن عبد اللَّه بن أبيّ قميصه صلى الله عليه و آله ليكفّن أباه فيه، أو طلبه عبد اللَّه نفسه، وطلب
ص: 194
أحد الصحابة برده.
أمّا عبد الرحمن بن عوف أو غيره وصرّح بقوله: «واللَّه ما سألتها إلّالتكون كفني يوم أموت» وأسماء بنت أبي بكر تحفظ جبّته، ويحفظ كعب بردته ويشتريها منه معاوية بثمن غالٍ، ثمّ يحفظها الملوك ويلبسونها في الأعياد. ويوصي معاوية أن يكفّن في قميص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائلًا: «اجعل قميص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شعاراً من تحت كفني إن نفع شي ء نفع هذا» وترسل أمّ الحكم بنت الزبير عبد اللَّه بن ربيعة لنزع ردائه عنه صلى الله عليه و آله. وتقول قرّة: «اكسني ثوبين قد لبستهما».
ومعلوم أنّه كان يرى للبسه خصوصية ولا يطلب منه ثوباً فقط. وليس هذا إلّا للتبرّك. ويوصي الوليد بقوله: «فكفّني في فضل ثوبك واجعله ممّا يلي جلدك».
وتحتفظ الشفا بالفراش والإزار، ويبقى عند ولدها حتى أخذه منهم مروان. وتحتفظ عائشة بالكساء والإزار اللذين قبض فيهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويحفظ الخلفاء بردته ويلبسونها في الأعياد وللاستسقاء، وكذا يحفظ عمر بن عبد العزيز المتاع وينظر إليه، وأهل البيت عليهم السلام يحفظون ملابسه صلى الله عليه و آله وعدّة يحفظون نعاله.
وبعد هذا، فلا يبقى ريب للمتدبّر في أنّ هذا كلّه ما كان إلّاللتبرّك، مضافاً إلى الأحاديث الدالّة على التبرّك بعصاه حيث أوصى عبد اللَّه بن أنيس أهله أن يدخلوها في كفنه، بين جلده وكفنه وفي رواية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: امسك هذه علامة بيني وبينك اعرفك بها، فإنّك تأتي يوم القيامة متخصّراً، وأنّ أنساً كانت عنده عصيته فدفنت معه بين جنبه وقميصه، ثمّ كان الخلفاء والولاة يتبرّكون بعصاه فيمشي بها بين أيديهم، بل يهتمّون بالقضيب والبردة كما يهتمّون بالبيعة، وأبو حنيفة يريد أن يقبّل عصا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأبو عبد اللَّه عليه السلام يصرّح بتبرّكه بها.
3- قد صرّح بعض الصحابة والتابعين وأهل البيت بالتبرّك كما في حديث أبي عبد اللَّه جعفر بن محمّد عليهما السلام وعبد اللَّه بن خازم، ووصيّة معاوية، ومحمد بن جابر
ص: 195
وابن عبد اللَّه بن أُبي وعمر بن عبد العزيز وأسماء بنت أبي بكر.
4- بل المستفاد من حديث أسماء أنّهم كانوا يستشفون بغسل الجبّة وشرب غسالتها، وكذا حديث محمد بن جابر وعمر بن عبد العزيز وحديث أسماء نقله أصحاب الصحاح كمسلم وأبي داود، مع أنّ روايات التبرّك نفسها تدلّ على جواز الاستشفاع والاستشفاء؛ لأنّ حقيقة التبرّك هي ابتغاء الوصول إلى البركة بسبب المتبرّك به كما لا يخفى. فالروايات كلّها تدلّ على جواز التبرّك والاستشفاع والاستشفاء والتوسّل.
ولا إشكال في الأحاديث من جهة الصدور لتواترها معنًى وإجمالًا بالنسبة إلى التبرّك والتوسّل.
ص: 196
ص: 197
فتوى الخليفة عمر بن الخطّاب والاعتراض عليه
تبرّكهم بأماكن مشى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله
عود على بدء
المساجد المباركة المعروفة بالمدينة
المساجد المباركة بالمدينة غيرالمعلومة عيناً
الدور المباركات بالمدينة
المساجد المباركة بين مكّة والمدينة
المساجد المباركة بين المدينة وتبوك
المساجد المباركة بين المدينة وخيبر
المساجد المباركة
الكلام حول الأحاديث
ص: 198
ص: 199
بقي هنا طائفة من النصوص الدالّة على تبرّك الصحابة رضي اللَّه عنهم بأماكن صلّى فيها، أو صلّى إليها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، أو مكان مشى فيه وقد ذكرها لنا فطاحل الأعلام من علماء الإسلام وأدرجوها في كتبهم، ونحن نقتفي أثرهم، ونتّبع منهجهم في إيراد ما أوردوه، لما فيه من إيضاح الحقّ وإتمام الحجّة.
فإليك نصوصهم وعليك بالتدبّر فيها:
1- عن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد اللَّه يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها ويحدّث أنّ أباه- عبد اللَّه بن عمر- كان يصلّي فيها، وأنّه رأى النبي صلى الله عليه و آله يصلّي في تلك الأمكنة (1).
قال ابن حجر في الفتح (2) في الذي يستفاد من الحديث: «عرف من صنيع ابن
ص: 200
عمر استحباب تتبّع آثار النبي صلى الله عليه و آله والتبرّك بها».
2- عن نافع عن ابن عمر: أنّه كان يصلّي في تلك الأمكنة ثمّ ذكر تلك الأمكنة التي صلّى فيها ابن عمر بين مكّة والمدينة؛ لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلّى فيها (1).
3- قال أبو بردة: قدمت المدينة فلقيت عبد اللَّه بن سلام فقال: ألا تدخل في بيت صلّى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (2)؟
4- جاء عبد اللَّه بن عمر إلى قرية من قرى الأنصار، فقال: هل تدرون أين صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مسجدكم هذا؟ فقلت: نعم، وأشرت إلى ناحية منه ...
الحديث (3).
وفي لفظ أحمد: عن جابر بن عتيك أنّه قال: جاءنا عبد اللَّه بن عمر في بني معاوية- قرية من قرى الأنصار- فقال لي: هل تدري أين صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مسجدكم هذا؟ فقلت: نعم، فأشرت إلى ناحية منه ... الحديث.
5- نزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في بني عمرو بن عوف على سعد بن خيثمة ثلاث ليال، واتخذ سعد مكانه مسجداً يصلّي فيه ثمّ بناه بنو عمرو بن عوف (4).
6- بنى عمر بن أمية الثقفي عند مصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالطائف، حين كان محاصراً لها، مسجداً (5).
7- كان عبد اللَّه بن عمر كثير الاتّباع لآثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حتى إنّه ينزل منازله ويصلّي في كلّ مكان صلّى فيه، وحتى إنّ النبي صلى الله عليه و آله نزل تحت شجرة فكان ابن
ص: 201
عمر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس (1).
8- عن محمود بن الربيع الأنصاري (2): أنّ عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ممّن شهد بدراً من الأنصار أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه قد أنكرت بصري، وأنا أصلّي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلّي بهم، ووددت يارسول اللَّه أنّك تأتيني فتصلّي في بيتي فأتّخذه مصلّى، قال: فقال له رسول اللَّه: سأفعل إن شاء اللَّه. قال عتبان: فغدا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأذنت له فلم يجلس حتى- حين ذا- دخل البيت ثمّ قال: أين تحبّ أن أصلّي من بيتك؟ قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فكبّر ...
الحديث.
وفي لفظ البخاري (3): عن محمود بن الربيع الأنصاري: أنّ عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنّه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا رسول اللَّه إنّها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصلِّ يا رسول اللَّه في بيتي مكاناً أتخذه مصلّى.
فجاءه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: أين تحبّ أن أصلّي؟ فأشار إلى مكان من البيت فصلّى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
ص: 202
نقله البخاري عن أنس أيضاً مكرّراً وكذا عن محمود بن الربيع تارةً مفصّلًا وأخرى مختصراً، فراجع وكذا نقله الطبقات بسندين.
وقال ابن حجر في الفتح (1) في شرح الحديث: «وإنّما استأذن النبي صلى الله عليه و آله لأنّه دعي للصلاة ليتبرّك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله ليصلّي في البقعة التي يحبّ تخصيصها بذلك ...».
وقال (2): «وقد تقدّم في حديث عتبان وسؤاله النبي صلى الله عليه و آله أن يصلّي في بيته ليتخذه مصلّى وإجابة النبي صلى الله عليه و آله إلى ذلك، فهو حجّة في التبرّك بآثار الصالحين».
وفي مسلم (3): «إنّي أحبّ أن تأتيني فتصلّي في منزلي فأتّخذه مصلّى قال: فأتى النبي صلى الله عليه و آله ومن شاء اللَّه من أصحابه فدخل وهو يصلّي في منزلي وأصحابه يتحدّثون فيما بينهم ...».
وفي لفظ (4): فأرسل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعال فخط لي مسجداً ... الحديث.
وأخرج (5) نصّاً موافقاً لما أخرجناه أوّلًا عن البخاري. والروايات كلّها مع اختلاف ألفاظها مشتركة في الدلالة على تبرّك عتبان بمصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
9- قال أبو سنان: عن عبيد، سمعت عمر- حين كان بالجابية- يقول لكعب:
أين ترى أصلّي؟- فقال عمر- أصلّي حيث صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليلة أُسريَ به فتقدّم إلى القبلة فصلّى (6).
10- عن سيار بن معرور قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: أيّها الناس هذا
ص: 203
المسجد بناه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونحن معه المهاجرون والأنصار فصلّوا فيه (1).
11- روى يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلّي عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت: يا أبا مسلم أراك تتحرّى الصلاة عند هذه الأسطوانة قال: فإنّي رأيت النبي صلى الله عليه و آله يتحرّى الصلاة عندها (2).
وفي الطبقات: «كان يزيد بن أبي عبيد يتحرّى موضع القحف يسبّح فيه، وذكر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يتحرّى ذلك المكان».
12- عن سعيد بن عبيداللَّه بن فضيل قال: مرّ بي محمد بن الحنفية وأنا أصلّي إليها- يعني إلى الاسطوانة التي كان صلى الله عليه و آله يصلّي عندها بالليل- فقال لي: أراك تلازم هذه الأسطوانة هل جاء ك فيها أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها فإنّها كانت مصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الليل. (أخرجه ابن النجار) (3).
13- عن نافع: أنّ عبد اللَّه بن عمر كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريباً من ثلاثة أذرع صلّى يتوخّى المكان الذّي أخبره به بلال، أنّ النّبي صلى الله عليه و آله صلّى فيه (4).
14- عن أنس بن مالك: أنّ أمّ سليم سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يأتيها فيصلّي في بيتها فتتخذه مصلّى، فأتاها فعمدت إلى حصير فنضحه بماء فصلّى عليه وصلّوا معه (5).
15- عن أنس بن مالك قال: صنع بعض عمومتي طعاماً، فقال للنبيّ صلى الله عليه و آله: إنّي
ص: 204
أحبّ أن تأكل في بيتي وتصلّي، قال: فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول فأمر بناحية منه فكنس ورش فصلّى وصلّينا معه.
قال أبو عبد اللَّه بن ماجة: الفحل هو الحصير الذي قد اسودّ (1).
16- عن أنس بن مالك قال: كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال للنبي صلى الله عليه و آله: إنّي لا أستطيع أن أصلّي معك، فلو أتيت منزلي فصلّيت فأقتدي بك، فصنع الرجل طعاماً ثمّ دعا النبي صلى الله عليه و آله، فنضح طرف حصير لهم فصلّى النبي صلى الله عليه و آله ركعتين ... الحديث.
17- عن أبي الشعثاء قال: خرجت حاجّاً فجئت حتى دخلت البيت، فلمّا كنت بين الساريتين مضيت حتى لزقت بالحائط، فجاء ابن عمر فصلّى إلى جنبي أربعاً فلمّا صلّى قلت: أين صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من البيت؟ قال: أخبرني أسامة بن زيد أنّه صلّى هاهنا ... الحديث (2).
18- عن ابن عمر قال: سألت بلال بن رباح أين صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين دخل الكعبة؟ قال: بين الساريتين (3).
19- عن ابن عمر: أنّه سأل بلالًا فأخبره أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ركع ركعتين، جعل الأسطوانة عن يمينه وتقدّم قليلًا وجعل المقام خلف ظهره (4).
20- عن سعيد بن العاص قال: اعتمر معاوية فدخل البيت فأرسل إلى ابن عمر وجلس ينتظره حتى جاءه فقال: أين صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم دخل البيت؟
قال: ما كنت معه ولكنّي دخلت بعد أن أراد الخروج، فلقيت بلالًا فسألته أين
ص: 205
صلّى؟ فأخبرني أنّه بين الاسطوانتين فقام معاوية فصلّى بينهما (1).
21- عن عبد اللَّه بن عمر قال: وكنت رجلًا شابّاً قويّاً، فبادرت الناس فبدرتهم فوجدت بلالًا قائماً على الباب، فقلت: أين صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فقال:
بين العمودين المقدمين، ونسيت أن أسأله كم صلّى» (2).
22- عن طارق قال: انطلقت حاجّاً فمررت بقوم يصلّون فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي صلى الله عليه و آله بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب؛ فأخبرته، فقال: حدّثني أبي أنّه كان فيمن بايع رسول اللَّه تحت الشجرة، قال: فلمّا خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، قال سعيد: إن كان أصحاب محمد لم يعلموها وعلمتموها أنتم (3) (واللفظ للبخاري والطبقات).
23- عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممّن بايع تحت الشجرة بيعة الرضوان، فقال: انطلقنا في قابل حاجّين فعمي علينامكانها، فإن كانت تبيّنت لكم فأنتم أعلم (4).
24- عن طارق بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن المسيب فتذاكروا الشجرة فضحك، ثمّ قال: حدّثني أبي أنّه كان ذلك العام معهم، وأنّه قد شهدها فنسوها من العام المقبل (5)
ص: 206
25- عن نافع أنّه قال: كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول اللَّه تحتها بيعة الرضوان فيصلّون عندها، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها وأمرهم بها فقطعت.
(اللفظ للطبقات).
وفي لفظ ابن أبي الحديد:
كان الناس بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها، فيصلّون عندها، فقال عمر: أراكم أيّها الناس رجعتم إلى العزّى، ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلّاقتلته بالسيف كما يقتل المرتدّ ثمّ أمر بها فقطعت (1).
26- عن معرور قال: خرجنا مع عمر بن الخطّاب رضوان اللَّه عليه في حجّة حجّها قال: فقرأ بنا في الفجر: ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل و لإيلاف قريش فلمّا انصرف فرأى الناس مسجداً فبادروه فقال: ما هذا؟
قالوا: هذا مسجد صلّى فيه النبي صلى الله عليه و آله فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتّخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من عرضت له صلاة فليصلّ ومن لم تعرض له صلاة فليمض (2).
فيستفاد من هذه الأخبار أنّ التبرّك بالصلاة تحت شجرة بيعة الرضوان كان مشهوراً بعد حياة الرسول صلى الله عليه و آله، كما صرّح به في لفظ ابن أبي الحديد، وكذا في سائر الأحاديث، وكان مورد عناية من الصحابة حيث كانوا يتفقّدونها في حياة الرسول صلى الله عليه و آله، كما في الرواية عن سعيد بن المسيب، وإن صرّح هو بأنّ مكان الشجرة
ص: 207
لا يعرفها أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله فكيف بغيرهم؟! فكأنّه ينكر على الذين يصلّون هنا بأنّ المكان غير معلوم، لا أنّ التبرّك غير جائز، ولكن ظاهر عمل المصلّين وفيهم الصحابي وغيره أنّ المكان معلوم، ولذلك لم ينكر عليهم عمر لأجل ذلك، بل أنكره لأجل ما توهّمه من الرجوع إلى العزّى، وإن كان يظهر أنّ عمر لم يعرف المكان، ولذا سأل عنه. ولعلّ التعمية كانت بعد قطع الشجرة ومحو أثرها كما هو الظاهر.
وعلى أي حال فقد رأى الخليفة مبادرة الناس إلى المسجد، فسأل عن المسجد فقيل له: «هذا مسجد صلّى فيه النبي صلى الله عليه و آله» فقال: «أيّها الناس رجعتم إلى العزّى» أو قال: «هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتّخذوا آثار أنبيائهم بِيعاً» فأفتى بكون الصلاة في هذا المسجد شركاً، ودليله على ذلك هو أنّ أهل الكتاب هلكوا كذلك.
ولقد تفرّد الخليفة بهذه الفتوى من بين جميع الصحابة كما تقدّم، ويأتي بما لا يبقى معه ريب في جواز التبرّك برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وآثاره عند جميع الصحابة، إلّاما أسلفناه عن مروان طريد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بل إنّ اجتهاد الخليفة الثاني يخالف نصّ الرسول صلى الله عليه و آله على جواز التبرّك قولًا وعملًا وتقريراً وإشارةً وتصريحاً، كما اتّضح ممّا قدّمنا أيضاً، واجتهد في مقابل النصوص فرأى التبرّك بالإقبال إلى اللَّه سبحانه والصلاة تحت تلك الشجرة رجوعاً إلى العزّى، وموجباً للتعذيب والقتل كما يقتل المرتدّ، وأمر بقلع تلك الشجرة مع كون أعمال الصحابة وأقوال النبي صلى الله عليه و آله بمرأى منه ومسمع.
يرى المسلمين يتبرّكون بماء وضوئه وبماء مجَّ فيه أو بصق أو تفل فيه وبنخامته ودمه.
ويرى تبرّكهم بشعره صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع والحديبية وأمره صلى الله عليه و آله بذلك.
ويرى تبرّكهم به صلى الله عليه و آله في تحنيك أطفالهم ومسحه رؤوسهم.
ص: 208
ويرى تبرّكهم بإدخال يده صلى الله عليه و آله في ظروف مياههم.
ويرى تبرّكهم بسؤره في مطعمه ومشربه وفي ملبسه وقدحه حتى أنّ الخليفة عمر نفسه كان يتبرّك بقدح النبي صلى الله عليه و آله.
ويرى تبرّكهم بآثار أصابعه في الطعام.
ويرى تبرّكهم بموضع صلاته في المساجد وغيرها- كما في قصّة عتبان بن مالك وأمّ سليم- وغيرهما- وأنّه صلى الله عليه و آله أقرّهم على ذلك، بل الخليفة نفسه تبرّك بموضع صلاته حين أسري به صلى الله عليه و آله، وهو نفسه أمر الناس بالصلاة في مسجد بناه النبي والمهاجرون والأنصار.
يرى كلّ ذلك ثمّ يجتهد في مقابل النصوص ويخطئ في اجتهاده.
ولعلّه كان في نفسه شي ء لم يرَ التصريح به صلاحاً إلّاما بدر منه من القول هنا، وبدر منه نظيره في تقبيل الحجر حيث رآه أمراً مستبشعاً لم يكن ليفعله لولا أنّه رأى الرسول صلى الله عليه و آله كان يقبّله، وردّ عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وكذا ما بدر منه في الصلاة إلى أحجار صلّى إليها النبي صلى الله عليه و آله فرآها تارةً شركاً وأخرى أمراً مرغوباً عنه، وكذا في أمره بطمس البئر التي برّكها الرسول صلى الله عليه و آله وكان الناس يتبرّكون بمائها، وكذا في أمره بدفن الجذع الذي كان يخطب النبي مستنداً إليه (1).
هذه موارد خمسة نقلت فيها هذه الفتوى الاجتهادية عن الخليفة بعد تلكم النصوص المتواترة الجليّة على خلافها، ولا غرو فإنّ الإنسان مجبول على الخطإ والنسيان.
قال العلّامة الفقيد الأميني رحمه اللَّه تعالى: ليت شعري ما المانع من تعظيم آثار الأنبياء عليهم السلام وفي مقدّمهم سيّد ولد آدم محمد صلى الله عليه و آله إذا لم يكن خارجاً عن التوحيد
ص: 209
كالسجود إلى تماثيلهم واتخاذها قبلة، ومن يعظّم شعائر اللَّه فإنّها من تقوى القلوب؟! ومتى هلكت الأمم باتخاذ آثار أنبيائهم بيعاً؟! وأيّ مسجد تكون الصلاة أزلف إلى اللَّه سبحانه من مسجد صلّى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟! وأيّ مكان أشرف من مكان حلَّ به النبي الأعظم وبويع فيه بيعة الرضوان وحظي المؤمنون فيه برضى اللَّه عنهم؟! أو لا يكسب ذلك المحلّ كلّه فضلًا يزيد في زلفة المتعبّدين بفنائه؟ وما ذنب الشجرة المسكينة حتى اجتثت أصولها ولا من ثائر لها أو مدافع عنها؟! أوليس ذلك توهيناً للمحلّ ومشرّفه؟!
أيسوغ أدب الخليفة قوله: «أراكم أيّها الناس رجعتم إلى العزّى»؟ والذين يرون حرمة تلكم الآثار ويعظّمونها ويصلّون عندها، إنّما هم حملة علم الدين من الصحابة العدول مراجع الخليفة في الأحكام والشرائع كان يعوّل عليهم حيث أعيته المسائل (1).
وقال ابن حجر (في تبرير عمل الخليفة في أمره بقطع الشجرة ونهيه عن الصلاة تحتها وإيعاد العاملين بذلك وعدّ ذلك رجوعاً إلى العزّى).
قال في الفتح (2) في تفسير ما مرّ من رواية موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه عبد اللَّه بن عمر من تتبعه الأماكن التي صلّى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ومحصلّ ذلك أنّ ابن عمر كان يتبرّك بتلك الأماكن، وتشدّده في الاتّباع مشهور، ولا يعارض ذلك ماثبت عن أبيه أنّه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان، فسأل عن ذلك فقالوا:
قد صلّى فيه النبي صلى الله عليه و آله، فقال: من عرضت له الصلاة فليصلّ وإلّا فلميض، فإنّما هلك أهل الكتاب؛ لأنّهم تتبّعوا آثار أنبيائهم فاتّخذوها كنائس وبيعاً؛ لأنّ ذلك من عمر محمول على أنّه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة أو خشي أن يشكل ذلك على من
ص: 210
لا يعرف حقيقة الأمر فيظنّه واجباً، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر، وقد تقدّم حديث عتبان وسؤاله النبي صلى الله عليه و آله أن يصلّي في بيته ليتّخذه مصلّى وإجابة النبي صلى الله عليه و آله إلى ذلك فهو حجّة في التبرّك بآثار الصالحين.
وقال (1): أعرف من صنيع ابن عمر، استحباب تتبّع آثار النبي صلى الله عليه و آله والتبرّك بها ثمّ قال: «وقد قال البغوي من الشافعية: إنّ المساجد التي ثبت أنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى فيها لو نذر أحد الصلاة في شي ء منها تعين كما تتعيّن المساجد الثلاثة (ثمّ تكلّم عن تعيين هذه المساجد التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه و آله).
أقول: هذه المحامل ما هي إلّاتبرير لعمل الخليفة وفتواه، وإن كان مخالفاً لظاهر الأحاديث المروية في هذه القصّة، إذ في رواية ابن أبي الحديد يصرّح بأنّ الناس كانوا يصلّون فنهاهم عمر، ويصرّح بأنّ اتخاذ آثار الأنبياء بيعاً ومعابد هو الذي أهلك الأوّلين لا زيارة الأماكن.
مع أنّه لو حمل فتواه هنا على هذين المحملين، فعلى ماذا يحمله في قصة البئر التي برّكها الرسول وتبرّك بها الصحابة، وفي الصلاة إلى الأحجار التي صلّى إليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي قصّة الحجر الأسود وفي قصة دفن الجذع؟!
أمّا أنا فلا أرى حملًا أحسن وأوجه من أن يقال: إنّه أخطأ في اجتهاده في مقابل النصوص، وهو قد اعترف بذلك في مسائل كثيرة كما لا يخفى على من له أدنى تتبّع، وقد كان يرى لنفسه الاجتهاد على خلاف النصّ الصريح من الكتاب والسنّة (2).
واحتمال أن تكون هذه الفتوى مختلقة وكذباً على الخليفة بعيد جدّاً بعد أن نقلها عنه أعلام الحديث وصحّحوها.
ص: 211
27- قال السمهودي: روى ابن زبالة عن خالد بن عوسجة: كنت أدعو ليلة إلى زاويةدار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار، فمرّ بي جعفر بن محمد يريد العريض معه أهله، فقال لي: أعن أثر وقفت هاهنا؟ قلت: لا، قال: هذا موقف نبيّ اللَّه بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع (1).
فترى أنّه عليه السلام سأل خالداً عن علّة وقوفه للدعاء في هذا المكان، هل هو عن دليل وأثر فقال: لا أعلم أثراً، ثمّ بيّن له الإمام عليه السلام الأثر، وهو وقوفه في موقف دعاء النبي صلى الله عليه و آله تيمّناً وتبرّكاً بكونه موقف دعائه صلى الله عليه و آله.
قال السمهودي بعد نقله ما تقدّم من كلام الصادق عليه السلام: قال الزين المراغي:
«فينبغي الدعاء فيه. قال: وقد أخبرني غير واحد أنّ الدعاء عند ذلك القبر مستجاب ولعلّ هذا سببه، أو لأنّ عبد اللَّه بن جعفر كان كثير الجود، فأبقى اللَّه قضاء الحوائج عند قبره.
قلت: ولم أقف في كلام المتقدّمين على أصل دفن عبد اللَّه بن جعفر هناك، بل اختلف أنّه دفن بالمدينة أو بالأبواء، والمعتمد في سبب الاستجابة هناك ما ذكر أوّلًا، ولهذا يستحبّ الدعاء في جميع الأماكن التي دعا بها النبي صلى الله عليه و آله، وكلّها مواطن إجابة (2).
أقول: لا ريب أنّ علّة استجابة الدعاء هناك إنّما هو بركة دعاء النبي صلى الله عليه و آله والمستفاد من كلام السمهودي (3): أنّ زاويةدار عقيل كانت تسمّى بيت علي عليه السلام وكانت مقبرة بني هاشم فصارت بعد ذلك مقابر للأئمّة الطاهرين من ولد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: الإمام السبط الأكبر أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام، والإمام
ص: 212
أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، والإمام أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، والإمام أبي عبد اللَّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وكذا دفن فيه العبّاس بن عبد المطلب، وفاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وفاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على قول ضعيف، بل دفنت فيها أمّ سلمة أمّ المؤمنين رحمها اللَّه تعالى على نقل.
وفي جهة القبلة من القبور الطاهرة كان بيت الحزن تجلس فيه فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتبكي على مصائبها التي لو صبّت على الأيّام صرن لياليا، وذلك يظهر أيضاً من كلام السمهودي (1).
ومن المعلوم أنّه يستجاب هناك الدعاء، وتنزل البركات من السماء، وتحفّ الملائكة بالداعي، وتحيط الرحمة به، لكونه مدفن أوليائه وأصفيائه من الأئمّة الطاهرين صلوات اللَّه عليهم.
1- ورد أنّ الصحابة كانوا يتبرّكون بأحجار صلّى إليها الرسول العظيم صلى الله عليه و آله بين مكّة والمدينة (2).
2- عن عائشة: إنّي لأعلم سارية من سواري المسجد، لو يعلم الناس ما في الصلاة إليها لاضطربوا إليها بالسهمان (3).
3- عن مسلم بن أبي مريم وغيره أنه كان بيت فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المربعة التي في القبر. قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنسَ حظّك من الصلاة إليها،
ص: 213
فإنّها باب فاطمة رضي اللَّه عنها الذي كان عليّ يدخل عليها منه (1).
4- عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مسجد الشجرة إلى الأسطوانة الوسطى استقبلها، وكانت موضع الشجرة التي كان النبي صلى الله عليه و آله يصلّي إليها (2).
5- كان أهل البيت عليهم السلام يتبرّكون بحجر كان في بيت فاطمة عليها السلام وقيل: ذلك حجر كان النبي صلى الله عليه و آله يصلّي إليه إذا دخل إلى فاطمة أو كانت فاطمة تصلّي إليه (3).
6- عن الشعبي قال: نزل عمر بالروحاء فرأى ناساً يبتدرون أحجاراً، فقال:
ما هذا؟ فقالوا: يقولون: إنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى إلى هذه الأحجار، فقال: سبحان اللَّه ما كان رسول اللَّه إلّاراكباً مرّ بواد، فحضرت الصلاة فصلّى ثمّ حدّث فقال: ...
الحديث (4).
1- كان ابن عمر يعترض براحلته في طريق عرض رسول اللَّه ناقته فيه، وكان لا يترك الحجّ، فكان إذا وقف بعرفة يقف في الموقف الذي وقف فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (كذا في الإصابة والتبرّك) (5).
ونقل أبو عمر (6) «كان- ابن عمر- رحمه اللَّه كثير الاتّباع لآثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله»
ص: 214
وقال (1): «وكان يتقدّم في المواقف بعرفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي صلى الله عليه و آله وقف بها».
2- كان عبد اللَّه بن عمر كثير الاتّباع لآثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى إنّه ينزل منازله، ويصلّي في كلّ مكان صلّى فيه، وحتى أنّ النبي صلى الله عليه و آله نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهدها بالماء لئلّا تيبس (2).
3- عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه و آله أري وهو في معرّسه من ذي الحليفة في بطن الوادي، فقيل له: إنّك ببطحاء مباركة.
فقال موسى: وقد أناخ بنا سالم بالمناخ الذي كان عبد اللَّه ينيخ به يتحرّى معرّس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... الحديث (3).
وفي لفظ مسلم: فقال موسى: وقد أناخ بنا سالم بالمناخ من المسجد الذي كان عبد اللَّه ينيخ به يتحرّى معرس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... الحديث.
وفي لفظ أحمد (4): عن نافع أن عبد اللَّه بن عمر كان ينيخ بالبطحاء التي بذي الحليفة التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينيخ بها ويصلّي بها.
ولفظ مسلم (5) موافق للفظ أحمد.
4- سيأتي تبرّك عبد اللَّه بن عمر بمنحر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الهدي (6)
ص: 215
تبرّك الصحابة رضي اللَّه عنهم بمكان صلّى فيه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، أو صلّى إليه، أو نزل به، وحثّهم على حفظ هذه الأماكن، وجعلها مساجداً، وكذا دعواتهم إلى تتبّع مواضع صلاته في هذه المساجد، وفي المسجد النبوي، والمكّة المكرّمة، ليس إلّا أنّهم يريدون التبرّك بها والقرب من اللَّه بواسطتها، وقد تقدّم بعض تلكم الآثار وإليك ما بقي منها:
ونحن نلخص للقرّاء الكرام ما كتبه السمهودي في وفاء الوفاء:
كانوا يتحرّون موضع نوافل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مسجده، أو موضع صلاة الليل منه.
قال السمهودي (1): قال ابن القاسم: أحبّ مواضع الصلاة في مسجده صلى الله عليه و آله في النفل العمود المخلق ...
ونقل المرجاني: أنّ في العتيبة ما لفظه: أحبّ مواضع التنفّل في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مصلّاه حيث العمود المخلق ... عن مالك: أنّه سئل عن مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقيل له: أي المواضع أحبّ إليك الصلاة فيه؟ قال: أمّا النافلة فموضع مصلّاه.
وذكر (2) في تعيين اسطوان القرعة أو أسطوان عائشة أو الأسطوان المخلق أو أسطوان المهاجرين فقال: عن عائشة: إنّي لأعلم سارية من سواري المسجد لو يعلم الناس ما في الصلاة إليها لاضطربوا إليها بالسهمان، فخرج الرجلان- مروان ورجل معه- وبقي ابن الزبير عند عائشة، فقال الرجلان: ما تخلّف إلّاليسألها عن السارية، ولئن سألها لتخبرنّه ولئن أخبرته لا يعلمنا، وإن أخبرته عمد لها إذا
ص: 216
خرج فصلّى إليها فاجلس بنا مكاناً نراه ولا يرانا ففعلا، فلم ينشب أن خرج مسرعاً، فقام إلى هذه السارية فصلّى إليها، متيامناً إلى الشقّ الأيمن منها، فعلم أنّها هي، وسمّيت أسطوانة عائشة بذلك، وبلغنا أنّ الدعاء عندها مستجاب.
ثمّ نقل عن الأوسط للطبراني ما يقرب ممّا تقدّم- إلى أن قال-: إنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى إليها بضع عشرة المكتوبة ثمّ تقدّم إلى مصلّاه ... وإنّ أبا بكر وعمر والزبير بن العوّام وعامر بن عبد اللَّه كانوا يصلّون إليها، وإنّ المهاجرين كانوا يجتمعون عندها.
وعن زيد بن أسلم قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي صلى الله عليه و آله.
ثمّ تكلّم عن أسطوانة التوبة فساق الكلام إلى بيان معتكف النبي صلى الله عليه و آله فقال: إنّ مالك بن أنس كان له موضع في المسجد قال: وهو مكان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وهو المكان الذي كان يوضع فيه فراش رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا اعتكف ... كان للنبي صلى الله عليه و آله سرير من جريد فيه سعفة يوضع بين الأسطوانة التي تجاه القبر وبين القناديل، كان يضطجع عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
وقال (1) بعد ذكره اسطوانة المحرس: إنّه كان علي بن أبي طالب يجلس في صفحتها التي تلي القبر ممّا يلي باب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو مقابل الخوخة التي كان النبي صلى الله عليه و آله يخرج منها إذا كان في بيت عائشة إلى الروضة للصلاة، وهي الأسطوان الذي يصلّي عندها أمير المؤمنين يجعلها خلف ظهره، ولذا قال الأقشهري: إنّ أسطوان مصلّى علي كرّم اللَّه وجهه اليوم أشهر من أن تخفى على أهل الحرم، ويقصد الأمراء الجلوس والصلاة عندها إلى اليوم، وذكر أنّه يقال لها مجلس القادة لشرف من كان يجلس فيه.
وظاهر هذا النص هو تبرّكهم بمصلّى أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه أيضاً.
ص: 217
كما أنّه نقل (1) عن مسلم بن أبي مريم وغيره أنّه كان باب بيت فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المربعة التي في القبر. قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظّك من الصلاة إليها، فإنّها باب فاطمة رضي اللَّه عنها الذي كان عليّ يدخل عليها منه.
وظاهره التبرّك بباب فاطمة عليها السلام كذلك.
ونقل ذلك (2) وزاد: «وقد رأيت حسن بن زيد يصلّي إليها».
وذكر (3): اسطوان التهجد وقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخرج حصيراً كلّ ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء بيت علي، ثمّ يصلّي صلاة الليل- وساق الكلام فقال (4):
وحدّثني سعيد بن عبد اللَّه بن فضيل قال: مرّ بي محمد بن الحنفية وأنا أصلّي إليها فقال لي: أراك تلزم هذه الأسطوانة هل جاء ك فيه أثر؟ قلت: لا. قال:
فالزمها، فإنّها كانت مصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الليل.
وقال (5): وقال المطري في بيان موضع هذه الأسطوانة: هي خلف بيت فاطمة رضي اللَّه عنها والواقف إليها يكون باب جبرئيل المعروف قديماً بباب عثمان على يساره ... وقد كتب فيها بالرخام هذا متهجّد النبي صلى الله عليه و آله ... وهذه الأسطوانة آخر الأساطين التي ذكر لها أهل التاريخ فضلًا خاصّاً.
قال ابن النجّار: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي صلى الله عليه و آله يستحبّ الصلاة عندها؛ لأنّه لا يخلو عن أنّ كبار الصحابة صلّوا إليها. انتهى.
أقول: فقد حكم باستحباب وفضل الصلاة عند كلّ اسطوانة؛ لأنّ كبار الصحابة صلّوا عندها، وهذا معنى كون جواز التبرّك أمراً ظاهراً عند جميع
ص: 218
المسلمين منذ زمن الصحابة والتابعين إلى الآن (إلّا شرذمة لا يعبأ بها)، حتى لقد تبرّكوا بأماكن صلاة الصحابة رضي اللَّه عنهم فضلًا عن أماكن صلاة الرسول صلى الله عليه و آله.
ولذلك اهتمّوا بالأماكن التي صلّى فيها الرسول، أو أعاظم الصحابة، فذكروا كلّ مكان صلّى فيه بين مكة والمدينة وبين المدينة وخيبر وبين المدينة وبين تبوك، وذكروا أنّ المسلمين جعلوا هذه الأمكنة مساجد يصلّى بها تبرّكاً بمكان صلاة النبي صلى الله عليه و آله، ولقد أطال البخاري الكلام عن هذه المساجد، فراجع صحيحه (1) وابن حجر في فتح الباري (2) والسمهودي في وفاء الوفاء (3).
ونحن نلخّص للقرّاء الكرام ما قالوه في ذلك، مقتفين أثر السمهودي في وفاء الوفاء، فقد قال في ص 797 وما بعدها: (بعد ذكره فضل مسجد قباء وشرفه وفضل الصلاة فيه) قال في تعيين مصلّى النبي صلى الله عليه و آله في مسجد قبا: روى ابن زبالة: أنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى إلى الأسطوان الثالثة في مسجد قبا التي في الرحبة- وساق الكلام في ذلك- وقال: فينبغي أن يتبرّك بالصلاة عند محراب القبلة، وعند المحلين من الاسطوانتين المذكورتين (أي الأسطوانة المخلقة الخارجة في رحبة المسجد وهي التي كان ابن عمر يصلّي إليها، وهذه الأسطوانة كانت مصلّى رسول اللَّه قبل تحويل القبلة، وأمّا مصلّاه بعد تحويل القبلة فقد كان إلى الأسطوانة التي في صفّ هذه الأسطوانة ممّا يلي القبلة وهي الثالثة من اسطوانة الرحبة) وقد اقتصر يحيى في بيان مصلّى النبي صلى الله عليه و آله على الأسطوان التي في الرحبة فذكر رواية ابن زبالة.
ثمّ روي عن معاذ بن رفاعة قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي إلى الأسطوانة الخارجة، وهي في صفّ المخلّقة وإنّما كان موضعها يومئذ كهيئة العريش. ثمّ ذكر أنّ
ص: 219
موسى بن سلمة حدّثه أنّه رأى أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يصلّي إلى هذه الأسطوانة الخارجة. ثمّ قال: قال يحيى: ورأيت غير واحد من أهل بيتي منهم عبد اللَّه وإسحاق ابنا موسى بن جعفر، وحسين بن عبد اللَّه بن حسين، يصلّون إلى هذه الأسطوانة الخارجة إذا جاء وا قبا ويذكرون أنّه مصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:
ورأيت من أهل بيتي من يأتي قبا، فيصلّي إليها ممّن يقتدى به ممّن لا أبالي أن لا أرى غيره في الفقه والعلم.
ثمّ قال- بعد كلام له-: وأمّا الحظيرة التي بصحن المسجد فلم أرَ في كلام المتقدّمين تعرّضاً لذكرها، والشائع على ألسنة أهل المدينة أنّها مبرك ناقة النبي صلى الله عليه و آله، وبه جزم المجد تبعاً لابن جبير في رحلته، فقال: وفي وسط المسجد مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه و آله وعليه حظيرة قصيرة شبه روضة صغيرة يتبرّك بالصلاة فيه.
ثمّ قال (1): كان النبي صلى الله عليه و آله نزل بقباء على كلثوم بن الهدم وأخذ مربده فأسّسه مسجداً وصلّى فيه، ولم يزل ذلك المسجد يزوره النبي صلى الله عليه و آله ويصلّي فيه أهل قباء، فلمّا توفي صلى الله عليه و آله لم تزل الصحابة تزوره وتعظّمه.
ثمّ قال (2): في جملة ما ينبغي أن يزار بقباء: إنّ النبي صلى الله عليه و آله اضطجع في دار سعد بن خيثمة يدخله الناس للزيارة ويسمّونه مسجد علي رضى الله عنه.
ثمّ ذكردار كلثوم بن الهدم وقال: وهي إحدى الدور التي قبلي المسجد أيضاً يدخلها الناس للزيارة والتبرّك.
ثمّ شرع السمهودي في ذكر المساجد المعلومة المعيّنة في زمانه في أواخر القرن التاسع (لأنّه توفي سنة 911 من الهجرة) وأوائل القرن العاشر فقال:
ص: 220
اعلم أنّ الاعتناء بهذا الغرض متعيّن، فقد قال البغوي من الشافعية: المساجد التي ثبت أنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى فيها لو نذر أحد الصلاة في شي ء منها تعين، كما تتعيّن المساجد الثلاثة. واعتناء السلف بتتبّع آثار النبي معلوم- سيما ما جاء في ذلك عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما- وقد استفرغنا الوسع في تتبّعها (1).
ومراده ذكر المساجد التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه و آله، حتّى يتبرّك بالصلاة فيها، تبعاً للسلف الصالح سيّما الصحابة رضي اللَّه عنهم.
فقال: منها: مسجد الجمعة وهو الذي أقام صلى الله عليه و آله فيه صلاة الجمعة وهي أوّل جمعة صلّاها بالمدينة.
ومنها: مسجد الفضيخ- بفتح الفاء وكسر الضاد المعجمة بعدها مثناة تحتية وخاء معجمة- ويعرف اليوم بمسجد شمس صلّى صلى الله عليه و آله فيه حين حاصر بني النضير (2).
ومنها: مسجد بني قريظة: صلّى صلى الله عليه و آله في بيت إمرأة حين حاصر بني قريظة، فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة، وكان ذلك المكان شرقي بني قريظة عند موضع المنارة التي هدمت، فينبغي الصلاة في مسجد بني قريظة ممّا يلي محلّ المنارة في شرقي المسجد (3).
ومنها: مشربة أمّ إبراهيم: روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى في مشربة أمّ إبراهيم (4).
ومنها: مسجد بني ظفر: وروي عن محمد بن مسلمة: أنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى في مسجد بني معاوية، وبني ظفر. وعن إدريس بن محمد بن يونس بن محمد المظفري عن جدّه: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جلس على الحجر الذي في مسجد بني ظفر. وأنّ زياد
ص: 221
ابن عبيداللَّه كان أمر بقلعه حتى جاءته مشيخة بني ظفر، وأعلموه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جلس عليه فردّه. قال: فقلّ امرأة نزر ولدها تجلس عليه إلّاحملت. قال يحيى بن عقبة: مسجد بني ظفر دون مسجد بني عبد الأشهل قال: وأدركت الناس بالمدينة يذهبون بنسائهم، حتى ربما ذهبوا بهنّ في الليل فيجلسن على هذا الحجر.
قلت: ولم يزل الناس يصفون الجلوس على ذلك الحجر للمرأة التي لا تلد، ويقصدون ذلك المسجد لأجله (1).
ومنها: مسجد الإجابة وهو مسجد بني معاوية بن مالك قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين ... وفي الموطأ عن عبد اللَّه بن جابر بن عتيك قال: جاءنا عبد اللَّه بن عمر في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار، فقال: أتدرون أين صلّى النبي صلى الله عليه و آله في مسجدكم هذا؟
فقلت: نعم، وأشرت إلى ناحية منه- الحديث-.
قلت: فينبغي أن يتحرّى بالصلاة ذلك المحلّ، وأن يكون الدعاء فيه قائماً بعد الصلاة للرواية المتقدّمة (2).
ومنها: مسجد الفتح والمساجد حوله في قبلته: قال: وروينا في مسند أحمد برجال ثقات عن جابر بن عبد اللَّه، أنّ النبي صلى الله عليه و آله دعا في مسجد الفتح ثلاثاً: يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيبت له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البِشر في وجهه وقال جابر: فلم ينزل أمر مهمّ غليظ إلّاتوخيت تلك الساعة- الحديث.
ثمّ نقل حديثاً حذفناه رعاية للاختصار، ثمّ قال: ويستفاد منه أنّ الصلاة والدعاء هنالك يتحرّى بهما وسط المسجد في الرحبة ممّا يلي سقفه ... قال يحيى:
ص: 222
فدخلت مع الحسين بن عبد اللَّه مسجد الفتح، فلمّا بلغ الأسطوانة الوسطى من المسجد قال: هذا موضع مصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان يصلّي فيه إذا جاء مسجد الفتح. وعن معاذ بن سعد، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلّى في مسجد الفتح الذي على الجبل وفي المساجد التي حوله.
وفي قبلة المسجد المعروف بمسجد أمير المؤمنين جانحاً إلى جهة المشرق يلحق طرف جبل سلع الذي في قبلة المساجد رضم من الحجارة، رأينا الناس يتبرّكون بالصلاة بينها (1) وما بعدها.
وذكر السمهودي حول هذه المساجد أحاديث كثيرة وبحوثاً؛ حذفناها مخافة التطويل فراجع.
ومنها: مسجد بني الحرام، قال (2): وينبغي لقاصد مساجد الفتح أن يزور مسجد بني الحرام، وقد روى رزين عن يحيى بن قتادة عن مشيخة من قومه: أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يأتي دور الأنصار فيصلّي في مساجدهم.
ومنها: مسجد القبلتين قال: ونقل مشيخة بني سلمة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلّى في مسجد القبلتين (3).
ومنها: مسجد السقيا: صلّى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما عرض المسلمين بالسقيا التي بالحرّة متوجّهاً إلى بدر (4).
ومنها: مسجد الذباب ويعرف بمسجد الراية. قال: صلّى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (5).
ومنها: مسجد القبيح، وهو المسجد اللّاصق بجبل أحد والنبي صلى الله عليه و آله صلّى فيه
ص: 223
الظهر والعصر يوم أحد بعد انقضاء القتال (1).
ومنها: مسجد في ركن جبل عينين، قال المطري: إنّه الموضع الذي طعن فيه حمزة رضي اللَّه تعالى عنه.
ومنها: مسجد العسكر في شمالي المسجد المذكور: وذكر المطري أنّه يقال: إنّه مصرع حمزة رضى الله عنه (2).
ومنها: مسجد أبي ذر الغفاري مسجد صغير جدّاً (3).
ومنها: مسجد أبيّ بن كعب على يمين الخارج من البقيع: عن يحيى بن سعيد قال: كان النبي يختلف إلى مسجد أبيّ فيصلّي فيه غير مرّة (4).
هذه المساجد المعلومة المعروفة في عهد المؤلف بالمدينة الطيّبة، كان المسلمون يتبرّكون بالصلاة والدعاء فيها.
قال السمهودي (5): المساجد التي علمت جهتها، ولم تعلم عينها بالمدينة المشرّفة، وذكروا أنّه صلى الله عليه و آله صلّى بها ثمّ شرع في عدّها وتسميتها كما يأتي. قال:
1- منها مسجد بني جديلة.
2- ومنها مسجد بني حرام من بني سلمة بن الخزرج.
3- ومنها مسجد الخربة لبني عبيد (6)
ص: 224
4- ومنها مسجد جهينة وبلّي (1).
5- ومنها مسجد بني غفار (2).
6- ومنها مسجد بني زريق (3).
7- ومنها مسجد بني ساعدة (4).
8- ومنها مسجد بني خدّارة (5).
9- ومنها مسجد راتج (6).
10- ومنها مسجد واقم (7).
11- ومنها مسجد القرصة (8).
12- ومنها مسجد الشيخين (9).
13- ومنها مسجد حارثة (10).
14- ومنها مسجد بني دينار (11).
15- ومنها مسجد بني عدي (12)
ص: 225
16- ومنها مسجددار النابغة (1).
17- ومنها مسجد بني مازن (2).
18- ومنها مسجد بني عمرو (3).
19- ومنها مسجد بقيع الزبير (4).
20- ومنها مسجد صدقة الزبير (5)
21- ومنها مسجد بني حذرة من الخزرج (6)
22- ومنها مسجد بني الحارث (7).
23- ومنها مسجد الشنح (8).
24- ومنها مسجد بني الحبلي (9).
25- ومنها مسجد بني بياضة (10).
26- ومنها مسجد بني حظمة (11).
27- ومنها مسجد العجوز (12)
ص: 226
28- ومنها مسجد بني أميّة الأوسي (1).
29- ومنها مسجد بني وائل (2).
30- ومنها مسجد بني واقف (3).
31- ومنها مسجد بني أنيف (4).
32- ومنها مسجددار سعد بن خيثمة (5).
33- ومنها مسجد التوبة (6).
34- ومنها مسجد النور (7).
35- ومنها مسجد عتبان (8).
36- ومنها مسجد ميثب (9).
37- ومنها مسجد المنارتين (10).
38- ومنها مسجد فيفاء الخبار (11).
39- ومنها مسجد الجثجاثة (12)
ص: 227
1- ثمّ ذكر السمهودي الدور التي صلّى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كدار الشفا بنت عبد اللَّه القرشية العدوية (وقد تقدّم ذكرها في التبرّك بملابسه صلى الله عليه و آله).
2- دار عمر بن أميّة.
3- دار بسرة.
4- دار أمّ سليم.
5- دار أمّ حرام (1).
6- الدار التي ولد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيها بمكّة، وصارت بعد لمحمد بن يوسف أخي الحجّاج، وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب، ولم تزل بيده ثمّ بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف بمئة ألف دينار، فأدخلها في داره، وسمّاها البيضاء، وكانت الدار البيضاء عند الصفا. ثمّ بنتها زينب المعروفة بزبيدة زوجة الرشيد وأمّ الأمين مسجداً لمّا حجّت، حيث أخرجت تلك الدار من دار ابن يوسف وجعلتها مسجداً، وقيل: إنّ التي فعلت ذلك هي الخيزران أمّ الرشيد أو بنتها إحداهما وعمّرتها الأخرى، كما أنّ دار خديجة التي هي مولد فاطمة عليها السلام صارت مسجداً يصلّى فيه بناه معاوية أيّام خلافته، قيل: وهي أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام واشتهر المسجد بمولد فاطمة عليها السلام لشرفها سلام اللَّه عليها (2).
وكان الناس يتبرّكون بمولده صلى الله عليه و آله ويصلّون في المسجد، ولمّا أخذ الوهابيون مكّة في عصرنا هذا هدموه، ومنعوا من زيارته على عادتهم في المنع من التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين، وجعلوه مربطاً للدواب (3)، ثمّ صيّروه مكتبة عامة يدخلها
ص: 228
غير المطهّرين من الجنابة وغيرها على ما حكاه لي بعض العلماء.
سبحان اللَّه كيف خربوا المسجد وتصرّفوا فيه وأخرجوه عن المسجدية؟! وكيف جعلوه مربطاً للدّواب (1)؟! أليس هذا تصرّفاً في الوقف والمسجد وهو حرام؟! أليس هذا إهانة للمسجد وإهانة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟!
نعم، لقد حُكِيَ عنهم ما هو أفظع وأكبر، إذ هم الذين خربوا مسجد الطائف ومنعوا من زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله والصلاة عليه، وإذا أردت الوقوف على أعمالهم الشنيعة، وعقائدهم السخيفة، فراجع كتاب التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله لأبي حامد بن مرزوق، والدرر السنية للسيد أحمد بن زيني دحلان، وشفاء السقام للسبكي، وتطهير الفؤاد للشيخ محمد المطيعي، والمنحة الوهبية لحسين حلمي، والبصائر لحمد اللَّه الداجوي، وكلّ هؤلاء من علماء أهل السنّة، وراجع كشف الارتياب للعلّامة السيّد الأمين رحمه اللَّه تعالى، ولعلّنا نتعرّض فيما بعد لعقائدهم في التوسّل وتقبيل الضرائح إن شاء اللَّه تعالى
ولكن الذي نستفيده من الأخبار والآثار: أنّ هذه سيرة أمويّة موروثة وبدعة مروانيّة منذ استووا على كرسي الرئاسة، وقعدوا على سرير الخلافة، فشرعوا في الاستخفاف بمقام النبوّة، والحطّ من كرامة الرسالة، والاعتداء على حدود اللَّه سبحانه، وليس ذلك إلّامن أجل محق الدين، ومحو آثار سيّد المرسلين يريدون ليطفئوا نور اللَّه بأفواههم واللَّه مُتِمُّ نوره ولو كره الكافرون.
وإليك النصوص التي تدلّ على هذه الخطوط العريضة في طول التاريخ، فاقرأها وتدبّرها، ثمّ قسها بما صدر من هؤلاء الوهابية من الإهانة لقبره صلى الله عليه و آله والاستخفاف بسائر المشاعر ذلك ومن يعظّم شعائر اللَّه فإنّها من تقوى القلوب.
ص: 229
1- تقدّم قول مروان للصحابي العظيم أبي أيّوب الأنصاري حين رآه واضعاً وجهه على قبر النبي صلى الله عليه و آله: «أتدري ما تصنع؟». فأجابه أبو أيّوب: «نعم، جئت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم آتِ الحجر، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله».
2- وهذا معاوية يهزأ بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويرى في الربا والخمر والجمع بين الأختين، وغير ذلك ممّا هو خلاف الحكم المنصوص ممّا جمعه العلّامة الأميني رضوان اللَّه عليه في الغدير (1).
وللعلّامة المحقّق المفضال السيّد جعفر مرتضى، كلام في رسالة «حديث الإفك» وكتاب: ما هو الصحيح في سيرة النبي صلى الله عليه و آله فأتى به بطوله بألفاظه، قال:
3- إنّهم يذكرون: أنّ زيد بن علي عليه السلام يقول: إنّه شهد هشام بن عبد الملك والنبي صلى الله عليه و آله يُسبّ عنده، فلم ينكر ذلك، ولم يغيره (2).
4- ما ذكروه في ترجمة خالد بن سلمة المخزومي، المعروف بالفافاء: أنّه كان مُرجئاً، ويبغض علياً. وأنّه كان يُنشد بني مروان الأشعار التي هجا بها المصطفى، وأنّه يروي عنه أصحاب الصحاح الست ما عدا البخاري (3).
5- وعمرو بن العاص أيضاً لا يرضى بضرب نصراني شتم النبي صلى الله عليه و آله (4).
6- وتفاخر أموي وأنصاري، فذكر له الأموي الأمويين الذين توفي النبي صلى الله عليه و آله وهم عمّال له، فقال الأنصاري: صدقت، ولكنّهم حالفوا أهل الردّة على هدم
ص: 230
الإسلام، فكأنّما ألقمه حجراً (1).
7- قول الكميت: أنّه كان إذا مدح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اعترض عليه جماعة في ذلك، ولا يرضون به، يقول الكميت:
إلى السراج المنير أحمده لا يعدلني عنه رغبة ولا رهب
عنه إلى غيره ولو رفع الناس إليّ العيون وارتقبوا
وقيل: أفرطّت بل قصدت، ولو عنّفني القائلون، أو ثلبوا
إليك يا خير من تضمّنت الأرض وإن عاب قولي العيّب
لجّ بتفضيلك اللسان، ولو أكثر فيك اللجاج واللجب
ولعلّ الكميت قد أحسّ أنّ وراء هذه الأمور أمراً عظيماً حيث يقول:
رضوا بخلاف المهتدي وفيهم مخبأة أخرى تصاب وتحجب
وتفسير هذا البيت بأنّ المخبأة هي تفضيل الخليفة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في غير محلّه، إذ إنّ ذلك لم يكن مخبأً، بل صرّح به عمّال الأمويين، مثل: خالد القسري والحجّاج بن يوسف، فلابدّ وأن تكون هذه المخبأة هي لطمس دين اللَّه (2) أو تشويه صورة النبي صلى الله عليه و آله الحقيقية في أذهان الناس، ومن ثمّ طمس معالم الشخصية النبوية نهائياً ... أو هذا كلّه (3).
8- حديث مطرف بن المغيرة: أنّ معاوية قال للمغيرة- بعد أن ذكر ملك أبي
ص: 231
بكر وعمر وعثمان، وأنّهم هلكوا فهلك ذكرهم-: وأنّ أخا هاشم يصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات: «أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه» فأي عمل يبقى مع هذا لا أمّ لك واللَّه إلّاذفا ذفّا (دفناً دفناً- شرح النهج) (1).
ويقال: إنّ السبب في نداء المأمون بلعن معاوية في سنة 212 ه هو هذه القضية بالذات (2).
9- روى أحمد بن أبي طاهر في كتاب: «أخبار الملوك» أنّ معاوية سمع المؤذِّن يقول: أشهد أنّ محمداً رسول اللَّه، فقال: للَّه أبوك ياابن عبد اللَّه لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلّاأن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين (3).
10- عن سلمة بن كهيل (4) قال: اختلفت أنا وذرّ المرهبي (من عبّاد أهل الكوفة، وأحد رجال الصحاح الستّ) في الحجّاج: فقال: مؤمن، وقلت: كافر.
قال الحاكم: وبيان حجّته: ما أطلق فيه مجاهد بن جبير رضى الله عنه فيما حدّثناه من طريق أبي سهل أحمد القطان عن الأعمش، قال: واللَّه لقد سمعت الحجّاج بن يوسف يقول: يا عجباً من عبد هذيل (يعني عبد اللَّه بن مسعود) يزعم أنّه يقرأ قرآناً من عند اللَّه. واللَّه ما هو إلّارجز من رجز الأعراب، واللَّه لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه.
11- وقال الجاحظ: خطب الحجّاج بالكوفة، فذكر الذين يزورون قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالمدينة، فقال: تبّاً لكم، إنّما يطوفون بأعواد ورمّة بالية، هلّا طافوا
ص: 232
بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟
وعند المبرد: أنّ ذلك ممّا كفّرت به الفقهاء الحجّاج، وأنّه قال ذلك والناس يطوفون بالقبر (1).
12- وقضية تفضيل الحجّاج الخليفة على الرسول بحجّة أنّ خليفة الرجل في أهله خير من رسوله في حاجته. هذه القضية معروفة ومشهورة (2).
13- وقد روى عبد الرزاق، عن الثوري عن مغيرة عن أبيه، قال: رأيت الحجّاج أراد أن يضع رجله على المقام، فيزجره عن ذلك ابن الحنفية وينهاه عن ذلك (3). انتهى ما نقلناه عن الرسالة والسيرة.
14- وذبح الحجّاج ابن الزبير في داخل مسجد الكعبة- لا رحم اللَّه الحجّاج- (4) فترى مدى احترامه لبيت اللَّه الحرام، ومقدار مبالاته بالمشاعر لعنه اللَّه تعالى، وهذا بعد أن خرب الكعبة بالأحجار الملقاة بواسطة المنجنيق!
15- الحجّاج يرى عبد الملك معصوماً في كتابه إليه: «لعبد اللَّه عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين المؤيّد بالولاية المعصوم من خطل الفعل، وزلل القول ...» (5).
16- عن ابن عياش قال: كنّا عند عبد الملك بن مروان، إذ أتاه كتاب من
ص: 233
الحجّاج يعظّم فيه أمر الخلافة، ويزعم: أنّ السماوات والأرض ما قامتا إلّابها، وأنّ الخليفة عند اللَّه أفضل من الملائكة المقرّبين، والأنبياء المرسلين، وذلك أنّ اللَّه خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنّته، ثمّ أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رسلًا إليه، فأعجب عبد الملك بذلك وقال: لوددت أن عندي بعض الخوارج فأخاصمه بهذا الكتاب (1).
17- عن الربيع قال: قال الحجّاج في كلام له: ويحكم أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله إليهم؟ قال: ففهمت ما أراد، فقلت له: للَّه عليّ ألّا أصلّي خلفك صلاة أبداً، ولئن وجدت قوماً يقاتلونك لقاتلتك (2).
18- وعبد الملك هو الذي بنى القبّة على الصخرة، الأمر الذي لم يكن المسلمون يعرفونه، نعم لقد عظّم عبد الملك شأن الصخرة بما بناه عليها، وجعل عليها الكسوة في الشتاء والصيف، ليكثر قصد الناس للبيت المقدّس، فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير والناس على دين ملوكهم. وقال عبد الملك في الصخرة:
«هذه صخرة الرحمن التي وضع عليها رجله» (3) فمنع الناس الحجّ، فبنى القبّة على الصخرة والجامع الأقصى ... وكانوا يقفون عند الصخرة، ويطوفون حولها، كما يطوفون حول الكعبة، وينحرون يوم العيد، ويحلقون رؤوسهم (4)
ص: 234
19- هذا يزيد بن معاوية يعلن بكفره وزندقته بقوله:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحيٌ نزل (1)
وكذا الوليد بن يزيد الذي أمر ابن عائشة أن يغنّيه بهذه الأبيات (2) وقرأ هو ذات يوم: واستفتحوا وخاب كلّ جبّار عنيد* من ورائه جهنّم ويسقى من ماء صديد فدعا بالمصحف فنشبه غرضاً وأقبل يرميه، وهو يقول:
أتوعد كلّ جبار عنيد فها أنا ذا جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر فقل ياربّ خرّقني الوليد (3)
وقال الوليد أيضاً:
تلّعب بالخلافةِ هاشميّ بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقل للَّه يمنعني طعامي وقل للَّه يمنعني شرابي (4)
وكُفر أبي سفيان ونفاقه أظهر من الشمس، وقد كان يبديه في كلماته حيناً ويكتمه حيناً خوفاً (5).
20- قال الحجّاج: لا أجد أحداً أخذ بقراءة ابن أم عبد- يعني ابن مسعود- إلّا ضربت عنقه، ولاحكّنها من المصحف ولو بضلع خنزير (6)
ص: 235
وقال في خطبة له حين أراد الخروج من المدينة: الحمد للَّه الذي أخرجني من أم نتن، أخبث بلد، وأغشّه للخليفة، واللَّه لولا ما كانت كتبه فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار، وأعواداًيعوذون بها، ورمة قد بليت يقولون: منبر رسول اللَّه وقبر الرسول (1).
21- كان الوليد بن يزيد يصلّي إذا صلّى أوقات إفاقته إلى غير القبلة، فقيل له، فقرأ: فأينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه (2)
.22- أنفذ الوليد إلى مكّة بنّاءً مجوسياً ليبني له على الكعبة مشربة (3) وحينما ولّاه هشام الحجّ حمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة؛ ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمراً وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة ويجلس فيها ... (4).
وفي الأغاني نقل قصة للوليد، لا تليق كتابتها هنا، فإذا أردت فراجع (5).
23- كان خالد القسري يهدم المساجد، ويبني البيع والكنائس، ويولّي المجوس على المسلمين، ويُنكِحُ أهل الذمّة المسلمات (6).
24- قال ابن حنظلة، غسيل الملائكة: واللَّه ما خرجنا على يزيد بن معاوية حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء: إنّ رجلًا ينكح الأمّهات والأخوات والبنات، ثمّ ذكر قذفه الكعبة بالمنجنيق في محاصرة ابن الزبير، وإحراقه البيت، وإحراق قرني الكبش الذي فدى اللَّه به إسماعيل وكانا في السقف (7)
ص: 236
وكان كلامه ذلك قبل وقعة الحرّة، وإباحة يزيد لأهل الشام دماء أهل المدينة، وأموالهم وأعراضهم ثلاثة أيّام، فوقع منهم ما سوّد وجه التاريخ، من هتك حرمة روضة النبي صلى الله عليه و آله ومسجده، أمر معروف ومسطور في التواريخ، فراجع.
ثمّ قس ما صدر من هؤلاء في القرن الأخير بالنسبة إلى مكان ولادته صلى الله عليه و آله وإلى قبور الأولياء والصالحين ومسجد الطائف، والمساجد التي كانت بنيت على قبور الشهداء.
وممّا يكشف عن عقيدتهم الفاسدة، ما نقله في خلاصة الكلام (1) قال: كان محمد بن عبد الوهّاب يقول عن النبي صلى الله عليه و آله: إنّه طارش، وأنّ بعض أتباعه كان يقول:
عصاي هذه خير من محمد، لأنّه ينتفع بها في قتل الحيّة ونحوها، ومحمد قد مات، ولم يبق فيه نفع، وإنّما هو طارش، ومضى (2).
قال في تاريخ الخميس: واختلف أيضاً في مكان ولادته صلى الله عليه و آله: قيل ولد بمكة في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجّاج، ويقال: بالشعب، ويقال:
بعسفان كذا في المواهب اللدنية، وسيرة مغلطاي.
وقال غيره: وتلك الدار في زقاق مكة معروف بزقاق المولد في شعب مشهور بشعب بني هاشم من الطرف الشرقي لمكّة تزار ويتبرّك بها إلى الآن، وكان صلى الله عليه و آله ورث تلك الدار فوهبها لعقيل بن أبي طالب زمن الهجرة، فلم تزل في يد عقيل حتى
ص: 237
توفي، وبعد وفاته باعها أولاده من محمد بن يوسف الثقفي أخي الحجّاج بن يوسف وأدخل ذلك البيت- أي مولد النبي صلى الله عليه و آله- في داره التي يقال لها البيضاء، ولم تزل كذلك حتى حجّت خيزران جارية المهدي أمّ هارون الرشيد، فزارت ذلك البيت وأخرجته عن تلك الدار، وجعلته مسجداً يصلّى فيه (1).
وفي تاريخ مكة للأزرقي: أنّ الخيزران أخرجته من الدار، وأشرعته في الزقاق الذي في أصل تلك الدار، يقال له: زقاق المولد، وأنّ ذلك لا خلاف فيه عند أهل مكّة، ثمّ نقل تبرّك الذين كانوا يسكنون البيت فأخرجوا منها.
وفي المواهب اللدنية في بيان تاريخ ولادته صلى الله عليه و آله قال: «وقيل لاثني عشر (من شهر ربيع الأوّل) وعليه يحمل عمل أهل مكّة في زيارتهم موضع مولده في هذا الوقت».
وفي الكافي «ولادته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف في الزاوية القصوى عن يسارك، وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيّرته مسجداً يصلّي الناس فيه».
وفي أخبار مكّة للأزرقي: ومنزل خديجة بنة خويلد زوج النبي صلى الله عليه و آله وهو البيت الذي يسكنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخديجة، وفيه ابتنا بخديجة وولدت فيه خديجة أولادها جميعاً، وفيه توفيت خديجة فلم يزل النبي صلى الله عليه و آله ساكناً فيه حتى خرج إلى المدينة مهاجراً، فأخذه عقيل بن أبي طالب ثمّ اشتراه منه معاوية، وهو خليفة فجعله مسجداً يصلّى فيه (2).
أقول: يحتمل أن يكون المراد من الشعب موضعاً خاصّاً لبني هاشم، وهو ما
ص: 238
يسمّى بشعب أبي طالب، وكان عند الصفا قريباً من المسجد، وهو غير الشعب الذي حبس فيه بنو هاشم ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله فذاك بالحجون وعليه فيجمع بذلك بين الروايات ولا منافاة كما أشار إليه في تاريخ الخميس.
والغرض من بيان هذه التواريخ إيضاح كون التبرّك بمحلّ ولادة النبي صلى الله عليه و آله هو من السنّة الجارية عند المسلمين من دون نكير، حتى ظهرت سلطة الوهابيين فكفّروا المسلمين وصيّروا السنّة بدعة.
ذكر السمهودي المساجد التي بين مكّة والمدينة، وقال: وفي الأخبار أنّ من أدب الزائر للمساجد التي بين الحرمين أن يصلّى فيها وهي عشرون موضعاً:
1- مسجد الشجرة، ويعرف بمسجد ذي الحليفة، وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال:
صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مسجد الشجرة إلى الأسطوانة الوسطى استقبلها، وكانت موضع الشجرة التي كان النبي صلى الله عليه و آله يصلّي إليها. وعن ابن عمر أنّه أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة وصلّى بها (1).
2- مسجد آخر بذي الحليفة (2).
3- مسجد المعرس، وهو دون مصعد البيداء من ذي الحليفة، وعن ابن عمر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجّته حين حجّ تحت سمرة في موضع المسجد وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو حجّ أو عمرة هبط بطن وادي، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرس ثمّ حتى يصبح: وكان ثم خليج يصلّي عبد اللَّه عنده. ثمّ ذكر
ص: 239
السمهودي الأخبار في ذلك عن ابن عمر (1).
4- مسجد شرف الروحاء، وكان عبد اللَّه بن عمر يعلم المكان الذي صلّى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (2).
5- مسجد عرق الظبية، وكان فيه مشاورة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لقتال أهل بدر (3).
6- مسجد آخر بالروحاء.
7- مسجد المنصرف.
8- مسجد الرويثة.
9- مسجد ثنية ركوبة.
10- مسجد الأثاية.
11- مسجد العرج (4).
12- مسجد المنبجس.
13- مسجد لحي جمل.
14- مسجد السقيا.
15- مسجد مدلجة تعهن.
16- مسجد الرّمادة.
17- مسجد الأبواء.
18- مسجد البيضة (5).
19- مسجد حرش عقبة حرش.
ص: 240
20- مسجد الجحفة.
21- مسجد غدير خم.
22- مسجد طرف قديد.
23- مسجد حرّة خليص.
24- مسجد خليص (1).
25- مسجد بطن مرّ الظهران.
26- مسجد سرف.
27- مسجد التنعيم.
28- مسجد عائشة.
29- مسجد ذي طوى (2).
30- موضع بدبّة المستعجل وشعب سير.
31- مسجد ذات اجدال.
32- مسجد الجيزتين.
33- مسجد ذفران، قال: ومسجد ذفران يتبرّك به على يسار من سلكه إلى ينبع فأظنّه مسجد ذفران، ورأيت قبل الوصول إلى طرف ذفران الذي يلي الصفراء على يمين السالك في طريق مكة يريد الصفراء، رأيت عليها مسجداً مبنياً بالجصّ، مرتفعاً عن الطريق يسيراً يتبرّك الناس بالصلاة فيه، وليس بقربه مساكن.
فالظاهر أنّه أحد المساجد المذكورة .. ولعلّه قبر عبيدة بن الحارث (3).
34- مسجد الصفراء.
ص: 241
35- مسجد مبرك (1).
36- مسجد بدر، وكان العريش الذي بني لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنده.
37- مسجد العشيرة.
38- مساجد الفرع (بضم الفاء).
39- مسجد الضيقة (2).
40- مسجد مقمل (3)
41- مسجد تبوك.
42- مسجد ثنية مدران.
43- مسجد بذات الذرَّاب.
44- مسجد بالأخضر.
45- مسجد بيألى.
46- مسجد بطرف البتراء.
47- مسجد بشق تاراء.
48- مسجد بذي الحليفة.
49- مسجد بالشوشق.
50- مسجد بصدر حوضي.
51- مسجد بالحجر.
ص: 242
52- مسجد بوادي القرى.
53- مسجد بقرية بني عذرة.
54- مسجد بالرقعة.
55- مسجد بذي المروة.
56- مسجد بالفيفاء.
57- مسجد بذي خشب (1).
58- مسجد العصر.
59- مسجد الصهباء.
60- مسجدان قرب خيبر.
61- مسجد بين الشق والنطاة.
62- مسجد شمران، صلّى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما سار إلى خيبر (2).
63- موضع مصلّاه صلى الله عليه و آله بنخل.
64- مسجد على ميل من الكديد (3).
65- مسجد الشجرة بالحديبية.
66- مسجد ذات عرق.
67- مسجد الجعرانة، أحرم منه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
ص: 243
68- مسجد ليّة.
69- مسجد الطائف.
قال السمهودي (1): «وأمّا قبر حمزة فإنّه اليوم مبني مجصّص بالقصة لا خشب عليه، وفي أعلاه من ناحية رأسه حجر فيه بعد البسملة إنّما يعمر مساجد اللَّه من آمن باللَّه واليوم الآخر هذا مصرع حمزة بن عبد المطلب عليه السلام ومصلّى النبي صلى الله عليه و آله.
وفي تاريخ الخميس (2): ويستحبّ أن يؤتى مسجد قبا ... يؤتى جميع المشاهد والمساجد بالمدينة، وهي ثلاثون موضعاً يعرفها أهل المدينة، ويقصد الآبار التي كان النبي صلى الله عليه و آله يتوضّأ منها ويغتسل ويشرب اتباعاً لفعله عليه السلام، وطلباً للشفاء والبركة، وهي سبع آبار يعرفها أهل المدينة.
هذه الأحاديث والآثار دالّة على جواز التبرّك والاستشفاع بآثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بل رجحانه، وأنّ الصحابة رضي اللَّه عنهم والتابعين وسائر المسلمين كانوا يعملون بذلك وكان الجواز عندهم من الوضوح بمكان لا يخفى على أي إنسان متدبِّر منصف.
ومن المعلوم تواتر هذه الأحاديث، أو تظافرها إجمالًا أو معنًى، فلا مجال للإشكال في صدورها، مضافاً إلى أنّ قسماً منها نقله أصحاب الصحاح والمسانيد، وأمّا دلالتها فهي أيضاً كذلك، إذ دلالتها على المطلوب يظهر من اهتمام الصحابة بحفظها ونقلها والمباهاة بها، ولا خفاء في الاهتمام بحفظ هذه الأماكن ونقلها وضبطها.
ص: 244
ولا شكّ في اهتمام ابن عمر وابنه سالم وعبد اللَّه بن سلام وغيرهم بحفظها وليس ذلك إلّاللتبرّك بهذه الأماكن، ولا يكون إلّاإذا كان ذلك جائزاً، ولا يمكن أن يقال بشرك الصحابة، أو ارتكابهم الحرام عمداً، ولا يحتمل في حقّهم الجهل بهذه المسألة، مع كثرة الابتلاء بها، وكونها بمرأى من النبي العظيم صلى الله عليه و آله ومسمع، من دون أيّ نكير منه صلى الله عليه و آله، بل نجد الصحابي كعتبان وغيره يطلب منه صلى الله عليه و آله أن يصلّي في بيته حتى يتّخذه مسجداً، فكيف يمكن أن يكون ذلك شركاً، والحال أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يجيبهم إلى ما يريدون فيأتي ويصلّي في بيوتهم؟!
ولذا استفاد ابن حجر في الفتح من هذه الأحاديث: استحباب تتبّع آثار النبي صلى الله عليه و آله والتبرّك بها، كما اعترف بذلك في غير هذه الأحاديث ممّا تقدّم أيضاً.
ص: 245
نظرة تحقيق في الأحاديث
تبرّك الصحابة والتابعين بما عبدوا اللَّه فيه
تبرّكهم بآل الرسول صلى الله عليه و آله
الأحاديث المرغبة في التبرّك
تبرّك المسلمين بالصلحاء من الصحابة وغيرهم.
ص: 246
ص: 247
بقي من الأحاديث التي حفظها الأعلام في كتبهم وأسفارهم؛ طائفة تدلّ على المطلوب من جواز التبرّك أو رجحانه ونحن نذكرها هنا تأييداً لما تقدّم، وإيضاحاً للحقّ، وأداءً للواجب.
وهي:
1- عن معاوية قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يمصّ لسانه أو شفته- يعني الحسن ابن علي رضي اللَّه عنهما- وأنّه لن يعذب لسان أو شفتان مصّهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1).
2- عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمود بن الربيع، قال: وهو الذي مجّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في وجهه، وهو غلام من بئرهم (2).
قال ابن حجر (3): «وفعله النبي صلى الله عليه و آله مع محمود إمّا مداعبة معه أو ليبارك عليه
ص: 248
بها، كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة».
وقال (1): «والغرض بذلك إيجاد البركة بريقه المبارك».
أقول: تقدّم هذا الحديث في التبرّك بسؤر وضوئه صلى الله عليه و آله.
والغرض هنا: التبرّك بمجّه صلى الله عليه و آله في وجهه، وقد مضى نظائره كثيراً، فراجع.
3- عن عبد اللَّه بن ثابت الأنصاري، أنّه دعا بنيه فقال: ادهنوا رؤوسكم بهذا الزيت، فامتنعوا، فأخذ عصا فضربهم، وقال: أترغبون عن دهن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (2)؟!
4- عن أبي وائل، قال: كان عند عليّ مسك، فأوصى أن يحنّط به، قال: وقال علي: هو فضل حنوط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).
5- كان ابن عمر يخبر: أنّ النبي صلى الله عليه و آله جلس تحت السمرة- بتلعات بين مكة والمدينة- وأنّ ابن عمر كان يصبّ الإداوة تحتها في أصل السمرة يريد بقاءها (4).
6- وروي أنّ سلمان أتاه صلى الله عليه و آله فأخبره أنّه قد كاتب مواليه على كذا وكذا وديّة وهي صغار النخل كلّها تعلق ..، قال الراوي: ثمّ قام عليه السلام [كذا في البحار] وغرسها بيده، فما سقطت واحدة منها، وبقيت علماً معجزاً يستشفى بتمرها (5).
7- عن نافع، أنّ عبد اللَّه بن عمر رضى الله عنه كان ينحر في المنحر قال عبيد اللَّه: منحر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
عن نافع: أنّ ابن عمر كان يبعث بهديه من جمع آخر الليل حتى يدخل به
ص: 249
منحر النبي صلى الله عليه و آله من حجّاج فيهم الحرّ والمملوك (1).
قال ابن حجر في الشرح: قال ابن التين: منحر النبي صلى الله عليه و آله عند الجمرة التي تلي المسجد ... وللنحر فيه فضيلة على غيره، لقوله صلى الله عليه و آله: هذا المنحر وكلّ منى منحر.
انتهى.
والحديث المذكور أخرجه مسلم من حديث جابر ... وهذا ظاهره أنّ نحره صلى الله عليه و آله في ذلك الموضع وقع عن اتفاق، لا لشي ء يتعلّق بالمنسك، ولكن ابن عمر كان شديد الاتباع.
أقول: كونه عن اتّفاق لا ينافي التبرّك، بل يؤيّد تعميم المنحر لكلّ منى.
8- في كتاب الآثار النبوية: وأمّا سريره إنّما كان له سرير ينام عليه، قوائمه من ساج بعث به إليه أسعد بن زرارة، وكان الناس يحملون عليه موتاهم تبرّكاً به، كما في سيرة ابن سيد الناس (2).
9- أوصت زينب بنت جحش: أن تحمل على سرير رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويجعل عليه نعش، وقبل ذلك حمل عليه أبو بكر الصدِّيق، وكانت المرأة إذا ماتت حملت عليه، حتى كان مروان بن الحكم فمنع أن يحمل عليه إلّاالرجل الشريف (3).
10- قال: وفي رباط الآثار، قطعة خشب وحديد. يقال: إنّها من آثار الرسول صلى الله عليه و آله، وهي به اليوم يتبرّك الناس بها ويعتقدون النفع بها (4).
11- قال: وفيه قطعة من العنزة، وقطعة من القصعة، والمرود وملقط ومخصف ومكحلة وميل ومشط (5)
ص: 250
12- وقال: وكان الناس يقصدون الرباط بسبب الزيارة في كلّ يوم أربعاء.
ونقل عن نور النبراس حاشية ابن سيد الناس: أنّ مؤلفه زار هذه الآثار، نقله عن رحلة ابن بطوطة (1).
13- ذكر في كتاب الآثار النبوية عدّة من آثاره صلى الله عليه و آله، ونحن نذكرها هنا باختصار، قال (2): سن من الأسنان النبوية.
نعلان نبّويان.
البردة.
حجر عليه أثر القدم الشريف.
السجّادة النبوية.
قبضة من سيف النبي صلى الله عليه و آله.
القوس النبوية.
اللواء النبوي.
ماء من الغسل النبوي.
ميزاب من ذهب كان بالكعبة المعظّمة.
غطاء باب التوبة.
حلية كانت بمقام إبراهيم عليه السلام بالحرم المكّي.
قطعة من الخزف.
سجّادة الصدِّيق.
عمائم الخلفاء الأربعة، وسيوفهم، وسبحاتهم.
ص: 251
قبضات ستّة سيوف من سيوف العشرة المبشَّرة.
رايتا الحسن والحسين.
سيف جعفر الطيّار.
سيف خالد.
سيف شرحبيل بن حسنة.
سيف معاذ.
تاج أويس القرني.
مصحف يزعمون أنّه بخط الإمام علي عليه السلام.
مصحف يزعمون أنّه بخط عثمان.
وقال (1): إنّ في مصر لواءً سمّوه أنّه البيرق النبوي.
قال ابن كثير: وقد بلغني أنّ بالديار المصرية مزاراً فيها أشياء كثيرة من آثار النبي صلى الله عليه و آله، اعتنى بجمعها بعض الوزراء المتأخّرين، فمن ذلك مكحلة وقيل مشط وغير ذلك (2).
قال الأحمدي: إنّما نقلنا هذه الآثار مع خروجها عن شرط هذه الوجيزة، ومع عدم ثبوت نسبة هذه الآثار إلى النبي صلى الله عليه و آله لكي يعلم القارئ أنّ التبرّك والاحتفاظ بآثار الرسول صلى الله عليه و آله كان أمراً مسلماً مفروغاً عنه عند جميع المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا شكّ فيه لأحد، ولم يكن يعد عندهم شركاً، بل يعدّونه تعظيماً وتكريماً للنبي صلى الله عليه و آله، وعلامة قوّة الإيمان واليقين، حتى إنّهم كانوا يتبرّكون بآثار العلماء والصلحاء من الصحابة وغيرهم، كالخلفاء والعشرة المبشّرة، وقد نقلنا تبرّكهم بقبور الصلحاء كأبي أيّوب وغيره.
ص: 252
14- ينبغي لقاصد (مسجد بني حرام) أن يزور كهف بني حرام قرب شعبهم، لما عن عبد الملك بن جابر بن عتيك: أنّ النبي صلى الله عليه و آله توضّأ من العينية التي عند كهف بني حرام، وسمعت بعض مشيختنا يقول: قد دخل النبي صلى الله عليه و آله ذلك الكهف (1).
15- كان الصحابة رضي اللَّه عنهم، يتبرّكون بعود كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يضع يده المباركة الشريفة عليه، وإليك ألفاظ الروايات:
قال السمهودي: التنبيه الثاني في العود الذي كان في المصلّى الشريف: روينا في كتاب يحيى عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي كان في مقام النبي صلى الله عليه و آله فلم نقدر على أحد يذكر لنا فيه شيئاً، قال مصعب: حتى أخبرني محمد بن مسلم السائب صاحب المقصورة، قال: جلس إليّ أنس بن مالك، فقال: أتدري لِمَ صُنع هذا العود- وما أسأله عنه؟- فقلت: لا واللَّه ما أدري لِمَ صنع؟ فقال أنس: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يضع عليه يمينه ثمّ يلتفت إلينا فيقول: استووا واعدلوا صفوفكم.
وعن أنس بن مالك قال: لما سرق العود الذي كان في المحراب، فلم يجده أبو بكر، حتى وجده عمر رضى الله عنه عند رجل من الأنصار بقباء، قد دفن في الأرض أكلته الأرضة، فأخذ له عوداً فشقّه فأدخله فيه، ثمّ شعبه فردّه في الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة، وهو الذي في المحراب باق (2).
روى ابن زبالة عن عمرو بن مسلم، قال: كان النبي صلى الله عليه و آله حين أسن قد جعل له العود الذي في المقام إذا قام في الصلاة توكّأ عليه قال: ثمّ ألصق إليه عوداً معه.
روى هو أيضاً ويحيى من طريقه عن مسلم بن خباب قال: لمّا قدم عمر رضى الله عنه القبلة، فقد العود الذي كان مغروساً في الجدار فطلبوه، فذكر لهم أنّه في مسجد بني عمرو بن عوف، أخذوه فجعلوه في مسجدهم، فأخذه عمر فردّه إلى المحراب،
ص: 253
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا قام إلى الصلاة أمسكه بكفّه يعتمد عليه. الخبر (1).
16- يظهر من السمهودي: أنّ الناس كانوا يتبرّكون بجذعة كانت في المحراب القبلي المقابل للمصلّى الشريف وأنّها أزيلت منه. قال: وكان يحصل بتلك الجذعة فتنة كبيرة وتشويش على من يكون بالروضة الشريفة من المجاورين وغيرهم.
وذلك: أنّه كان يجتمع إليها الرجال والنساء ويقال: هذه خزرة فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكانت عالية لا تنال بالأيدي، فتقف المرأة لصاحبتها، حتى ترقى على ظهرها وكتفيها حتى تصل إليها، فربّما وقعت المرأة وانكشفت عورتها.
فلمّا كان سنة إحدى وسبعمائة، جاور الصاحب زين الدين أحمد بن محمد بن المعروف بابن حنا المصري، فرأى ذلك فاستعظمه وأمر بقلع الجزعة فقلعت قال:
وهي الآن في حاصل الحرم (2).
أقول: لم يكن الاستنكار والاستعظام من جهة كون ذلك شركاً أو أنّ التبرّك حرام، بل من أجل ما يقع من الأمور المستلزمة للمنكرات كما ذكره السمهودي من كشف العورات (3).
17- وقال أيضاً: إنّ في الاسطوانة التي هي علم لمصلّى النبي صلى الله عليه و آله خشبة ظاهرة، مثبتة بالرصاص سدادة لموضع كان في حجر من حجارة الاسطوانة مفتوح قد حوط عليه بالبياض والخشبة ظاهرة، تقول العامة: هذا الجذع الذي حنّ إلى النبي صلى الله عليه و آله، وليس هو كذلك، بل هو من جملة البدع يجب إزالتها؛ لئلّا يفتن بها الناس، كما أزيلت الجذعة التي في المحراب القبلي.
وقال المجد: إنّ الخشبة المذكورة كان يزدحم على زيارتها والتمسّح بها، ويعتقد
ص: 254
الناس عامّة أنّها الجذع، فظنّ بعض أنّ هذا من المنكر الذي يتعيّن إزالته وصرّح بهذا في كتبه إلى أن وافق على ذلك شيخنا العزّ بن جماعة فأمر بإزالتها.
قلت: والذي يظهر، أنّ هذه الخشبة كانت من العود الذي كان النبي صلى الله عليه و آله يضع يده عليه ويقول: عدّلوا صفوفكم (1).
وقال (2): وشيوع أنّ تلك الخشبة من الجذع قديم، فقد قال ابن جبير في رحلته: إنّ بإزاء الروضة (يعني المصلّى الشريف منها) لجهة القبلة عموداً مطبقاً يقال: إنّه على بقية الجذع الذي حنّ للنبي صلى الله عليه و آله وقطعة منه وسط العمود ظاهرة يقبّلها الناس، ويبادرون للتمسّك بلمسها، ومسح خدودهم فيها».
أقول: إنّ هذا الإنكار في نظر هذا الفقيه لعلّه من أجل أنّ النسبة كانت مكذوبة مفتعلة، لا أنّ التبرّك حرام؛ لأنّ من راجع كتاب السمهودي هذا، يرى أنّ جواز التبرّك عند جميع المسلمين كان أمراً شائعاً لا ينكره أحد، ولا يخطر ببالهم إنكاره؛ ولذلك قال (3): «إنّ الاسطوانة التي هي علم للمصلّى الشريف كان بها خشبة ظاهرة محكمة بالرصاص، يقول الناس: إنّها من الجذع الذي حنّ للنبي صلى الله عليه و آله. وأنّ المطري قال: إنّ الأمر ليس كذلك، وإنّ العزّ بن جماعة أمر بإزالتها، فأزيلت عام خمسٍ وخمسين وسبعمائة. قال المجد: ورأى بعض العلماء أنّ إزالتها كانت وهماً منهما وذلك أنّ إتقان هذه الخشبة وترصيصها بين حجارة الأسطوان وإبرازها لم يكن سدًى، وإنّما شاهد الحال يشهد بأنّه كان من عمل عمر بن عبد العزيز، فالظاهر أنّه كان من الجذع.
فترى أنّ النزاع كان في صحّة كونها من الجذع أم لا، ولم يكن النزاع في
ص: 255
مورد التبرّك.
18- ذكر السمهودي: أنّه بعد احتراق الحرم النبوي الشريف بقي من أطراف الخشب الذي احترق الشي ء الكثير، فقال: «وأخذ الناس كثيراً من تلك الأخشاب، واتخذ متولّي العمارة وغيره منها سبحاً كثيرة» (1).
19- وقال السمهودي في بيان عمارة الحجرة الشريفة: وأمّا تأذير الحجرة بالرخام، فليس له ذكر في كلام ابن زبالة، وله ذكر في كلام يحيى فإنّه روى ما حاصله: أنّ بيت فاطمة الزهراء لمّا أخرجوا منه فاطمة بنت حسين وزوّجها حسن بن حسن، وهدموا البيت، بعث حسن بن حسن ابنه جعفراً، وكان أسنّ ولده فقال له: اذهب ولا تبرحن حتى يبنوا، فتنظر الحجر الذي من صفته كذا وكذا هل يدخلونه في بنيانهم، فلم يزل يرصدهم حتى رفعوا الأساس، وأخرجوا الحجر فجاء جعفر إلى أبيه فأخبره فخرّ ساجداً وقال: ذلك حجر كان النبي صلى الله عليه و آله يصلّي إليه إذا دخل إلى فاطمة، أو كانت فاطمة تصلّي إليه. الشكّ من يحيى.
وقال علي بن موسى الرضا: ولدت فاطمة عليها السلام الحسن والحسين على ذلك الحجر.
قال يحيى: ورأيت الحسين بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الحسين، ولم أرَ فينا رجلًا أفضل منه إذا اشتكى شيئاً من جسده كشف الحصى من الحجر فيمسح به ذلك الموضع، ولم يزل ذلك الحجر نراه حتى عمّر الصانع المسجد، ففقدناه عندما أزر القبر بالرخام، وكان الحجر لاصقاً بجدار القبر قريباً من المربعة (2).
فترى فيما نقله أنّهم يتبرّكون بحجر صلّى إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو صلّت إليه فاطمة صلوات اللَّه عليها. أو ولدت الحسن والحسين عليهما السلام عليه ويستشفون بمسّه.
ص: 256
20- يروي السمهودي: أنّ عمر بن الخطّاب كان يتبرّك بحصى وادي العقيق.
قال: تقدّم أنّ عمر رضى الله عنه قال: احصبوا هذا المسجد- يعني مسجد النبي صلى الله عليه و آله- من هذا الوادي المبارك- أي وادي العقيق- وقال أبو غسّان: أخبرني غير واحد من ثقات أهل المدينة، أنّ عمر رضى الله عنه كان إذا انتهى إليه أنّ وادي العقيق قد سال، قال:
اذهبوا بنا إلى هذي الوادي المبارك، وإلى الوادي الذي لو جاءنا جاء من حيث جاء لتمسّحنا به (1).
فترى الخليفة يرى أنّه لا بأس بالتبرّك بحصا العقيق، ويتمسّح بمائه السائل يتبرّك به، فيعلم أنّ التبرّك والتمسّح كان عنده من الواضحات المفروغ عنها.
21- قال السمهودي: قال المطري: ورأيت بالطائف شجرات من شجر السدر يذكر أنّهن من عهد رسول اللَّه، ينقل ذلك خلف أهل الطائف عن سلفهم ...
رأيتها قائمة سنة 796 وأكلت من ثمرها وحملت منه للبركة (2).
22- وقال أيضاً: ذكر بعضهم: أنّه لمّا مات الحسن بن علي أوصى أن تحمل جنازته، ويحضر بها قبر النبي صلى الله عليه و آله، ثمّ يرفع، ويقبر في البقيع، فلمّا أراد الحسين أن يجيز وصيّته ظنّ طائفة أنّه يدفن في الحضرة فمنعوه (3).
وقد تقدّم في (التبرّك بقبره الشريف) أنّه كان ذلك للتبرّك بقبر النبي صلى الله عليه و آله وتجديد العهد به.
23- وقال أيضاً في بيان بناء المقصورة المحيطة بالروضة الشريفة: «وتحقّق بسبب ذلك تعطيل لتلك البقعة، وحرم الناس التبرّك بأسطوان السرير فإنّ محلّه في شرقي اسطوانه كما تقدّم ... وكذلك التبرّك بمربعة القبر ومقام جبرئيل كما قدّمناه
ص: 257
وبيت فاطمة رضي اللَّه عنها، فإنّ ذلك كلّه في جوف المقصورة.
وغرضنا من نقل ذلك إيضاح كيفية تبرّك الناس بالروضة الشريفة، قبل بناء المقصورة (1).
24- ذكر أيضاً شيخنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن محمد: أنّ تمرة من غرس النبي صلى الله عليه و آله بيده ممّا دفعه النبي صلى الله عليه و آله إلى عبد اللَّه بن عبّاس، ودفعه عبد اللَّه إلى ابنه علي، ودفعه علي إلى ابنه سليمان، ودفعه سليمان إلى ابنه جعفر، ثمّ إلى سعيد، ثمّ إلى أحمد، ثمّ إلى والدي محمد، ثمّ إلى أخي أحمد، ثمّ إليّ.
وقال شيخنا أبو محمد: ومن العجب من هذه التمرة أنّه إذا كان أيّام الرطب ترطّبت هذه التمرة، وهي ملفوفة في حريرة حمراء، فيسيل الدبس منها في الحريرة حتّى ترطبت الحريرة منها (2).
25- في حديث: ألقى اللَّه عزّوجلّ في روع المنصور أن يسأل الصادق عليه السلام ليتحفه بشي ء من عنده، لا يكون لأحد مثله، فبعث إليه بمخصرة كانت للنبي صلى الله عليه و آله طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً، وأمر أن تشقّ له أربعة أرباع، وقسّمها في أربعة مواضع ... الحديث (3).
26- عن الحسن: أنّ سائلًا أتى النبي صلى الله عليه و آله فأعطاه تمرة، فقال الرجل: سبحان اللَّه نبيّ من الأنبياء يتصدّق بتمرة، فقال له النبي صلى الله عليه و آله: أوما علمت أنّ فيها مثاقيل ذرّ كثير؟! فأتاه آخر فسأله فأعطاه تمرة فقال: تمرة من نبيّ من الأنبياء لا تفارقني هذه التمرة ما بقيت، ولا أزال أرجو بركتها، فأمر النبي صلى الله عليه و آله له بمعروف، وما لبث الرجل أن استغنى (4)
ص: 258
27- تقدّم عن أنس بن مالك أنّه ورث البردة والقدح وعمود فسطاطه صلى الله عليه و آله وصلايةً كانت تعجن فيه أمّ سليم الرامك بعرق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنها. فراجع تبرّك الصحابة بعرقه صلى الله عليه و آله.
28- عن أبي وائل بن سعد قال: كان عند عليّ مسك، فأوصى أن يحنّط به وقال عليّ: هو فضلة حنوط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1).
29- عن حبّة العرني، عن عليّ بن أبي طالب، أنّ أبا بكر أوصى إليه أن يغسله بالكفّ الذي غسّل به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... (2).
30- الجذع الذي كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يسند إليه ظهره حين يخطب قبل أن يصنع له المنبر أخذه أبيّ رضى الله عنه، فكان عنده إلى أن أكلته الأرضة، وعاد رفاتاً (3).
الأحاديث المذكورة بكثرتها وورودها في صحيح البخاري ومستدرك الحاكم وفتح الباري وغير ذلك لا تحتاج إلى التدقيق في صحّتها سنداً.
وأمّا دلالتها على تبرّك الصحابة رضي اللَّه عنهم، وسائر المسلمين بآثار الرسول صلى الله عليه و آله، فممّا لا إشكال فيه؛ لأنّ معاوية بن أبي سفيان يقول: «لن يعذّب لسان أو شفتان مصّهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» ببركة مصّه، وعبد اللَّه بن ثابت يضرب بنيه بعصاه؛ لامتناعهم من الإدّهان بدهن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعليّاً عليه السلام يوصي أن يحنّط بفضل حنوط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وابن عمر يريد إبقاء تلك السمرة احتفاظاً بآثاره صلى الله عليه و آله،
ص: 259
والمسلمين يستشفون بتمر شجرة غرسها الرسول صلى الله عليه و آله، وابن عمر يتقيّد بأن ينحر في منحر الرسول صلى الله عليه و آله، وزينب توصي أن تحمل على سرير الرسول صلى الله عليه و آله، والصحابة كانوا يتبرّكون بالعود الذي كان النبي صلى الله عليه و آله يضع يده المباركة عليه، حتى بحث فيه العلماء بحثاً ضافياً، وكذا تبرّكهم بالجذع، والمسلمين يصنعون من أخشاب المسجد سبحاً كثيرة و ...
فهل ترى ريباً في أنّ ذلك كلّه كان تكريماً للنبي صلى الله عليه و آله وتبرّكاً بآثاره صلى الله عليه و آله واستشفاعاً بها إلى رحمة اللَّه تعالى وبركاته؟ فهل هنا وجه آخر تؤوّل به هذه الأحاديث؟
1- أوصى سعد بن أبي وقّاص، بأن يكفّن في ثوب لقي فيه المشركين يوم بدر وقال: إنّما كنت أخبوها لذلك (1).
قال ابن الأثير: ولمّا حضرته الوفاة دعا بخلق جبّة له من صوف فقال: كفّنوني فيها، فإنّي كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر وهي عليّ «وإنّما كنت أخبوها لهذا» (أخرجه الثلاثة).
2- روى هارون بن سعيد: أنّه كان عنده سكّ أوصى أن يحنّط به وقال: فضل من حنوط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (2).
3- أوصى يوسف بن ماهك، حين حضره الموت، أن يكفّن في ثيابه، وكان يجمّع فيها، وأن لا يجعلوا على وجهه حنوطاً (3)
ص: 260
4- عن أمّ عثمان أمّ ولد لعليّ عليه السلام، قالت: كانت لآل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسادة عليها يجلس جبرئيل عليه السلام لا يجلس عليها غيره، فإذا عرج رفعت، وكان إذا عرج انتفض فسقط من زغب ريشه، فتقوم فاطمة فتتّبعه، فتجعله في تمائم الحسن والحسين عليهما السلام (1).
5- روي أنّ جرير بن عبد اللَّه أمر أهله أن يتوضأوا بفضل سواكه (2). قال ابن حجر في الفتح (3): هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عنه.
وفي بعض ألفاظ الحديث: كان جرير يستاك ويغمس رأس سواكه في الماء، ثمّ يقول لأهله: توضأؤا بفضله.
6- أوصى القاسم بن محمد بن أبي بكر أن يكفّن في ثيابه، قال: كفّنوني في ثيابي الّتي كنت أصلّي فيها: قميصي وإزاري وردائي (4).
7- روى جابر عن محمد بن علي- أبي جعفر الباقر عليه السلام-: أنّه أوصى أن يكفّن في قميصه الذي كان يصلّي فيه (5).
8- كان أبو جعفر الباقر عليه السلام يحفظ قميص عليّ عليه السلام الذي قتل فيه، وفيه أثر دمه (6).
9- أوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد، وأمره أن يكفّنه في برده الذي كان
ص: 261
يصلّي فيه يوم الجمعة، وأن يعمّم بعمامته (1).
10- إنّ علي بن الحسين عليهما السلام كان يلبس الكساء الخز في الشتاء، فإذا جاء الصيف باعه، وتصدّق بثمنه، وكان يقول: إنّي لاستحيي من ربّي أن آكل ثمن ثوب قد عبدت اللَّه فيه (2).
أقول: الثياب التي عبد اللَّه تعالى فيها إمّا بالصلاة، أو العمرة والحجّ، أو قراءة القرآن، أو الجهاد، أو الشهادة في سبيل اللَّه، حصل لها انتساب إليه سبحانه، وصار لها شرف وفضل وبركة بهذا الانتماء، كثياب الكعبة، وأبواب المساجد، وغلاف القرآن وثياب النبي صلى الله عليه و آله، وسائر ما هو منسوب إليه، فكأنّ هذه النسبة تجعلها منه ومن شؤونه، بحيث تكون إهانتها إهانة له، وتكريمها تكريماً له، والتبرّك بها تبرّكاً به، وذلك كهدي البيت أو سائر المشاعر.
فالتبرّك بهذه الثياب ليس تبرّكاً بغير الحقّ سبحانه وتعالى، والاستشفاع بها ليس استشفاعاً بدونه، ولا يخفى ذلك على من تدبّر في الإضافات العرفية في المجتمع الإنساني، إذ من استشفع بابن الأمير فقد استشفع به، ومن أهان غلامه فقد أهانه نفسه، بل من أهان شيئاً ينتمي إليه فقد أهانه في الاعتبار العقلائي، ومن أكرمه فقد أكرمه، وهذا أمر واضح لا ارتياب فيه.
1- عن مسلم بن أبي مريم وغيره: أنّه كان بيت فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المربعة التي في القبر. قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظّك من الصلاة
ص: 262
إليها، فإنّه باب فاطمة رضي اللَّه عنها الذي كان عليّ يدخل عليها منه (1).
2- لمّا خطب عمر بن الخطّاب أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: إنّي أحبّ أن يكون عندي عضواً من أعضاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (2).
3- كان أهل البيت عليهم السلام يتبرّكون بحَجَر في بيت فاطمة عليها السلام، وعن علي بن موسى الرضا عليه السلام: أنّه ولدت فاطمة عليها السلام الحسن والحسين على ذلك الحجر. أو كانت فاطمة تصلّي إليها (3).
4- كان الناس يتبرّكون بمولد فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما تقدّم في بيان الدور المباركات عن الحلبي في السيرة والأزرقي في أخبار مكّة فراجع.
5- روى عبد اللَّه بن مسعود: أنّ عمر بن الخطّاب خرج يستسقي بالعبّاس فقال: اللهمّ إنّا نتقرّب إليك بعمّ نبيّك وقفية آبائه وكبر رجاله فإنّك قلت وقولك الحقّ: وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة الآية، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللَّه نبيك بعمّه، فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين ...
الحديث (4).
وفي لفظ: وروينا من وجوه عن عمر: أنّه خرج يستسقي، وخرج معه العبّاس فقال: اللّهمّ إنّا نتقرّب إليك بعمّ نبيّك صلى الله عليه و آله ونستشفع به. فاحفظ فيه لنبيّك كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما، وأتيناك مستغفرين ومستشفعين.
ثمّ أقبل على الناس فقال: استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً- إلى أن قال- فنشأت طريرة من سحاب فقال الناس: ترون ترون ثمّ تلاء مت واستتمّت ومشت فيها ريح
ص: 263
ثمّ هزّت ودرّت، فواللَّه ما برحوا حتى اعتقلوا الجدر، وقلصوا المآزر، وطفق الناس بالعبّاس يمسحون أركانه، ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين (1).
وفي لفظ ابن الأثير:
واستسقى عمر بن الخطّاب بالعبّاس رضي اللَّه عنهما عام الرمادة، لما اشتد القحط، فسقاهم اللَّه به، وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا واللَّه الوسيلة إلى اللَّه والمكان منه.
وقال حسّان بن ثابت:
سئل الإمام وقد تتابع جدبنا فسقى الغمام بغرّة العبّاس
عمّ النبي وصنو والده الذي ورث النبيّ بذاك دون الناس
أحيا الإله به البلاد فأصبحت مخضرّة الأجناب بعد الياس
ولمّا سقى الناس طفقوا يتمسّحون بالعبّاس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين، وكان الصحابة يعرفون للعبّاس فضله ويقدّمونه ويشاورونه.
وفي لفظ للاستيعاب: روى ابن عبّاس وأنس بن مالك: أنّ عمر بن
ص: 264
الخطّاب رضى الله عنه كان إذا قحط أهل المدينة استسقى بالعبّاس.
قال أبو عمر: وكان سبب ذلك أنّ الأرض أجدبت إجداباً شديداً على عهد عمر زمن الرمادة، وذلك سنة سبع عشرة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين إنّ بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر: هذا عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وصنو أبيه وسيّد بني هاشم فمشى إليه عمر، وشكا ما فيه الناس من القحط، ثمّ صعد المنبر ومعه العبّاس فقال:
اللّهمّ إنّا قد توجّهنا إليك بعمّ نبيّنا وصنو أبيه، فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ... فقال عمر رضى الله عنه: هذا واللَّه الوسيلة إلى اللَّه عزّوجلّ والمكان منه.
ثمّ نقل بيتين من الأشعار المتقدّمة لحسّان.
ثمّ قال: وقال الفضل بن عبّاس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمّي سقى اللَّه الحجاز وأهله عشيّة يستسقي بشيبته عمر
توجّه بالعبّاس في الجدب راغباً فما كرّ حتى جاء بالمدينة المطر
وفي كشف الارتياب بعد أن أخرج الخبر من طرق متعدّدة قال: بل في المواهب اللدنيّة للعلّامة القسطلاني: «إنّ عمر استسقى بالعبّاس قال: يا أيّها الناس إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يرى للعبّاس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا به في عمّه العبّاس واتّخذوه وسيلة إلى اللَّه ...».
وكذا نقله فتح الباري عن الزبير بن بكّار عن ابن عمر وزيد بن أسلم عن أبيه.
ثمّ قال: ويستفاد من قصّة العبّاس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة.
أقول: قد أسلفنا أنّ الأخبار الدالّة على التبرّك كلّها تدلّ على جواز التوسّل ورجحانه، إمّا صريحاً أو التزاماً، ولكن ابن حجر زاد استحباب الاستشفاع بكلّ
ص: 265
أهل الخير والصلاح إلغاءً للخصوصية، والحقّ معه، إذ حقيقة التوسّل بأولياء اللَّه تعالى هو الاستشفاع بما ينسب إلى اللَّه تعالى إليه، ويرجع في الحقيقة إلى التوسّل باللَّه إلى اللَّه، ولا فرق فيه بين الأفراد التي تنسب إلى اللَّه سبحانه تعالى كنبيّه الأقدس وآله الكرام، أو بيته المطهّر، أو مشاعره العظام، أو أوليائه الصالحين.
وقد نقل الحلبي في السيرة هذه القصة بنحو آخر في السيرة. قال بعد نقله ما تقدّم عن الاستيعاب: وذكر ابن حجر الهيثمي في الصواعق عن تاريخ دمشق: أنّ الناس كرّروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة، فلم يسقوا. فقال عمر رضى الله عنه: لأستسقينّ غداً بمن يسقيني اللَّه به، فلمّا أصبح غدا للعبّاس رضي اللَّه تعالى عنه فدقّ عليه الباب فقال: مَنْ؟ قال: عمر. قال: ما حاجتك؟ قال: اخرج حتى نستسقي اللَّه بك. قال: اقعد. فأرسل إلى بني هاشم أن تطهّروا والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه، وأخرج طيباً وطيّبهم، ثمّ خرج وعليّ أمامه بين يديه، والحسن عن يمينه، والحسين عن يساره، وبنو هاشم خلف ظهره، وقال: يا عمر لا تخلط بنا غيرنا ثمّ أتى المصلّى فوقف- الحديث-.
ونقله أيضاً في ينابيع المودّة (1) عن تاريخ دمشق وروي عن أنس: أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطلب رضى الله عنه فقال: اللهمّ كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا صلى الله عليه و آله فاسقنا (2) وفي لفظ الطبقات في بعض طرقه:
«هذا عمّ نبيّك عليه السلام، جئنا نتوسّل به إليك فاسقنا، فما رجعوا حتى سقوا» وفي
ص: 266
لفظ: «اللّهمّ إنّا نستشفع بعمّ رسولك إليك».
وفي الحديث الشريف إثبات لصحّة التوسّل والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه و آله، وفيه أيضاً توسّل واستشفاع بالآل، حيث توسّل عمر بن الخطّاب بالعبّاس، وتوسّل العبّاس بأمير المؤمنين، والحسن والحسين عليهم السلام وبسائر بني هاشم، ثمّ هو يطلب من عمر أن لا يخلط بهم غيرهم.
6- لمّا خرج الحسين بن علي من المدينة يريد مكّة، مرّ بابن مطيع؛ وهو يحفر بئره، فقال له: أين؛ فداك أبي وأمّي؟ قال: أردت مكّة ... (وذكر أنّه كتب إليه شيعته بالكوفة) فقال له ابن مطيع: فداك أبي وأمّي متّعنا بنفسك ولا تسر إليهم، فأبى حسين. فقال له ابن مطيع: إنّ بئري هذه قد رشحتها، وهذا اليوم أوان ما خرج إلينا في الدلو شي ء من ماء، فلو دعوت اللَّه لنا بالبركة، قال: هات من مائها، فأتى من مائها فشرب منه، ثمّ مضمض ثمّ ردّه في البئر، فأعذب وأمهى (1).
قد تقدّم سابقاً أنّ أحدهم كان يأتي إلى الرسول صلى الله عليه و آله ويطلب منه الدعاء وهو صلى الله عليه و آله يتفل أو يمسح أو يمجّ هداية للسائل، إلّاأنّ نبيَّ اللَّه بركة كلّه، ورحمة كلّه، يؤثر مسحه وتفله ومجّه كما يؤثر دعاؤه صلى الله عليه و آله، وكذلك كان عمل الحسين صلوات اللَّه عليه، حيث يطلب منه ابن مطيع الدعاء له بالبركة في بئره، وهو عليه السلام يشرب من مائها ويمضمض ويردّها في البئر بياناً لحقيقة خفيّة ولطف إلهيّ في أوليائه وأصفيائه.
نعم، إنّ الإنسان التقيّ العارف باللَّه قد يصل إلى مرتبة كاملة من القرب إلى الحقّ تبارك وتعالى فيرتّب الأثر على إرادته ومسّه ومجّه ودعائه ونظره، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولذلك فليعمل العاملون.
ص: 267
7- لمّا بلغ الرضا (علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم السلام) نيسابور، واجتمع الناس حول دابّته، وأخرج رأسه من المحمل وشاهده الناس، فهم بين صارخ وباك، وممزّق ثوبه، ومتمرّغ في التراب، ومقبِّل لحافر بغلته، أو مقبّل لحزام بغلته (1).
وذلك في حديث طويل ينبغي مراجعته.
8- الحسن بن أبي الحسن البصري، حنّكه عمر بيده، وكانت أمّه تخدم أمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله، فربّما غابت فتعطيه أمّ سلمة ثديها تعلّله بها إلى أن تجي ء أمّه فيدرّ عليه ثديها فيشربه، فكانوا يقولون: فصاحته ببركة ذلك (2).
9- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا فرغت من التسليم على الشهداء، أتيت قبر أبي عبد اللَّه (الحسين بن علي عليهما السلام) ثمّ تجعله بين يديك، ثمّ صلِّ ما بدا لك (3).
10- عن أبي اليسع قال: سأل رجل أبا عبد اللَّه عليه السلام- وأنا أسمع- عن الغسل إذا أتى قبر الحسين عليه السلام قال: قال: اجعله قبلة إذا صلّيت قال: تنح هكذا ناحية. قال:
آخذ من طين قبره ويكون عندي أطلب بركته؟ قال: نعم أو قال: لا بأس بذلك (4).
11- ... عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت: إنّا نزور قبر الحسين عليه السلام كيف نصلّي عليه؟ قال: تقوم خلفه عند كتفيه ... الحديث (5).
12- الريان بن الصلت قال: كنت بباب الرضا عليه السلام بخراسان، فقلت لمعمر: إن
ص: 268
رأيت أن تسأل سيدي أن يكسوني ثوباً من ثيابه، ويهب لي من الدراهم التي ضربت باسمه (1) ... الحديث.
13- عن أبي حبيب النباجي أنّه قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المنام وقد وافا النباج، ونزل بها في المسجد الذي ينزله الحاجّ في كلّ سنة، وكأنّي مضيت إليه وسلّمت عليه، ووقفت بين يديه ووجدت عنده طبقاً من خوص نخل المدينة، وفيه تمر صيحانيّ، فكأنّه قبض قبضة من ذلك التمر ... فلمّا كان بعد عشرين يوماً كنت في أرض بين يدي تعمر للزراعة، حتى جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا عليه السلام من المدينة ... فمضيت نحوه فإذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت فيه النبي صلى الله عليه و آله، وتحته حصير مثل ما كان تحته، وبين يديه طبق خوص فيه تمر صيحاني ... فناولني قبضة من ذلك التمر ... الحديث (2).
14- أنشد دعبل الخزاعي قصيدته للرضا، فبعث إليه بدراهم رضوية فردّها، فقال: خذها فإنّك تحتاج إليها قال: فانصرفت إلى البيت، وقد سرق جميع مالي، فكان الناس يأخذون منها درهماً ويعطون دنانير فغنيت بها (3).
15- لمّا نزل الرضا عليه السلام في نيسابور بمحلّة فوزا، أمر ببناء حمّام، وحفر قناة، وصنعة حوض من فوقه مصلّى، فاغتسل من الحوض، وصلّى في المسجد، فصار ذلك سنّة (4).
16- عن ياسر الخادم عن الرضا عليه السلام في حديث قال: يا ياسر لا تفتصد قال:
فافتصدت فورمت يدي واحمرّت، فقال لي: يا ياسر ما لكَ؟ فأخبرته فقال: ألم
ص: 269
أنهك عن ذلك؟ هلمّ يدك فمسح يده عليها وتفل فيها- الحديث- (1).
17- عن أبي واسع محمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق النيسابوري قال:
سمعت جدّتي خديجة بنت حمدان بن پسنده، قالت: لمّا دخل الرضا عليه السلام نيسابور، نزل محلّة الغربي ناحية تعرف ب «لاش آباد» في دار جدّتي پسنده، وإنّما سمّي پسنده؛ لأنّ الرضا عليه السلام ارتضاه من بين الناس ... فلمّا نزل عليه السلام دارنا زرع لوزة في جانب من جوانب الدار، فنبتت وصارت شجرة، وأثمرت في سنة، فعلم الناس بذلك، فكانوا يستشفون بلوز تلك الشجرة، فمن أصابته علّة تبرّك بالتناول من ذلك اللوز مستشفياً به فعوفي، ومن أصابه رمد جعل ذلك اللوز على عينه فعوفي، وكانت الحامل إذا عسر عليها ولادتها تناولت من ذلك اللوز فتخفّ عليها الولادة وتضع من ساعتها ... الحديث (2).
18- إنّ الرضا عليه السلام دخل نيسابور نزل في محلّة يقال لها الغرويني، فيها حمّام ...
فدخله الرضا عليه السلام واغتسل فيه، ثمّ خرج منه فصلّى على ظهره، والناس ينتابون ذلك الحوض، ويغتسلون فيه، ويشربون منه التماساً للبركة، ويصلّون على ظهره، ويدعون اللَّه عزّوجلّ في حوائجهم فتقضى، وهي العين المعروفة بعين كهلان، يقصدها الناس إلى يومنا هذا (3).
19- فلمّا فرغ (دعبل الخزاعي) من إنشادها (يعني القصيدة) قام الرضا عليه السلام فدخل إلى حجرته، وبعث إليه خادماً بخرقة خز فيها ستمائة دينار، وقال لخادمه:
قل له: استعن بهذه في سفرك واعذرنا، فقال له دعبل: لا واللَّه ما هذا أردت، ولا له خرجت، ولكن قل له: اكسني ثوباً من أثوابك وردّها عليه، فردّها الرضا عليه السلام فقال
ص: 270
له: خذها وبعث إليه بجبّة من ثيابه، فخرج دعبل حتى ورد قم، فلمّا رأوا الجبّة معه أعطوه فيها ألف دينار فأبى عليهم فقال: لا واللَّه ولا خرقة منها بألف دينار.
ثمّ خرج من قم، فاتّبعوه فقطعوا عليه الطريق، وأخذوا الجبّة، ورجع إلى قم فكلّمهم فيها (1).
20- مرض عليّ بن عبيداللَّه بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فعاده أبو الحسن (الرضا) عليه السلام وأنا (يعني الراوي سليمان بن جعفر) معه، فجلس حتى خرج من كان في البيت، فلمّا خرجنا أخبرتني مولاة لنا أنّ أمّ سلمة امرأة علي بن عبيداللَّه كانت من وراء الستر تنظر إليه، فلمّا خرج خرجت وانكبت على الموضع الذي كان أبو الحسن فيه جالساً تقبّله وتتمسّح به، قال سليمان: ثمّ دخلت على عليّ بن عبيداللَّه فأخبرني بما فعلت أمّ سلمة، فخبرت به أبا الحسن عليه السلام قال: يا سليمان إنّ علي بن عبيداللَّه وامرأته وولده من أهل الجنّة ... الحديث (2).
21- عن عمران بن محمد الأشعري قال: دخلت على أبي جعفر الثاني عليه السلام وقضيت حوائجي، وقلت له: إنّ أمّ الحسن تقرئك السلام، وتسألك ثوباً من ثيابك تجعله كفناً لها ... الحديث (3).
22- عن محمد بن سهل بن اليسع قال: كنت مجاوراً بمكة، فصرت إلى المدينة فدخلت على أبي جعفر الثاني عليه السلام، وأردت أن أسأله عن كسوة يكسونيها، فلم يتّفق أن أسأله حتى ودّعته ...
وخرجت من المدينة فبينما أنا كذلك، إذ رأيت رسولًا ومعه ثياب في منديل
ص: 271
يتخلّل القطار، ويسأل عن محمد بن سهل القمّي حتى انتهى إليّ، فقال: مولاك بعث إليك بهذا، وإذا ملاءتان. قال أحمد بن محمد: فقضى اللَّه أنّي غسلته حين مات فكفّنته فيهما (1).
23- عن ابن حديد قال: خرجت مع جماعة حجّاجاً، فقطع علينا الطريق، فلمّا دخلت المدينة لقيت أبا جعفر عليه السلام في بعض الطريق، فأتيته إلى المنزل فأخبرته بالذي أصابنا، فأمر لي بكسوة وأعطاني دنانير.- الحديث- (2).
24- عن أبي هاشم الجعفري، قال: بعث إليّ أبو الحسن عليه السلام في مرضه، وإلى محمد بن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة، فأخبرني محمد: ما زال يقول: «ابعثوا إلى الحير» ... فقال عليّ بن هلال: ما كان يصنع الحير هو الحير ... ذكرت له قول عليّ بن هلال فقال لي: ألا قلت له: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يطوف بالبيت ويقبِّل الحجر؟ الحديث (3).
المراد من الحير حائر الحسين عليه السلام، أي ابعثوا رجلًا يدعو في الحائر تبرّكاً به، وشبهه عليه السلام بالبيت والحجر.
25- خطب الحسين بن علي المقتول بفخ فقال: «أيّها الناس أتطلبون آثار رسول اللَّه في الحجر والعود تمسحون بذلك، وتضيّعون بضعة منه (4)؟!
26- المحراب الذي كانت فاطمة رضي اللَّه عنها (بنت موسى بن جعفر عليهما السلام) تصلّي فيه موجود إلى الآن في دار موسى (بن الخزرج) ويزوره الناس (5).
27- عن إبراهيم بن عبد الحميد (في حديث قال): فأتاني رسول من
ص: 272
أبي عبد اللَّه (الصادق) عليه السلام فقال: يقول لك أبو عبد اللَّه عليه السلام: أقبل. فقمت مسرعاً، فسلّمت عليه فقال: تحبّ أن نعطيك بردة تكون كفنك؟ وأمر غلامه فأتاني ببردة، فقال: خذها (1).
28- عن هشام بن أحمر قال: كتب أبو عبد اللَّه رقعة في حوائج لأشتريها ...
وأخذت الرقعة فأدخلتها في زنفيلجتي وقلت أتبرّك بها.- الحديث- (2).
29- عن أبي جعفر- محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام- قال: دخل عليّ جابر بن عبد اللَّه وأنا في الكتاب، فقال: اكشف عن بطنك، قال:
فكشفت له فألصق بطنه ببطني- الحديث- (3).
30- جاء أبو حنيفة إليه (يعني جعفر بن محمّد عليهما السلام) ليسمع منه، وخرج أبوعبد اللَّه يتوكّأ على عصا، فقال له أبو حنيفة: يا ابن رسول اللَّه ما بلغت من السنّ ما تحتاج معه إلى العصا، قال: هو كذلك، ولكنّها عصا رسول اللَّه أردت التبرّك بها، فوثب أبو حنيفة إليه، وقال له: أقبّلها ياابن رسول اللَّه، فحسر أبو عبد اللَّه ذراعه وقال له: واللَّه لقد علمت أنّ هذا بشر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأنّ هذا من شعره فما قبّلته وتقبّل عصا (4).
31- وردت أحاديث كثيرة في التبرّك والاستشفاء بتربة الحسين بن علي عليهما السلام وفي السجود عليها، وأكلها للاستشفاء، وفي تجهيز الميت ودفنه، ونحن نورد هنا ما وقفنا عليه منها:
1- عند رأس الحسين عليه السلام لتربة حمراء، فيها شفاء من كلّ داء إلّاالسام (عن
ص: 273
أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام) (1).
2- عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: يأخذ الإنسان من طين قبر الحسين عليه السلام فينتفع به، ويأخذه غيره فلا ينتفع به، فقال: لا واللَّه لا يأخذه أحد وهو يرى أنّ اللَّه ينفعه به إلّانفعه به (2).
3- إنّ اللَّه جعل تربة الحسين عليه السلام شفاءً من كلّ داء، وأماناً من كلّ خوف، فإذا أخذها أحدكم فليقبّلها وليضعها على عينه، وليمرّها على جسده- الحديث (3)- (عن الصادق عليه السلام).
4- عن اليقطيني قال: بعث إليّ أبو الحسن الرضا عليه السلام رزم ثياب وغلماناً- إلى أن قال- فلمّا أردت أن اعتبئ الثياب، رأيت في أضعاف الثياب طيناً، فقلت للرسول: ما هذا؟ فقال: ليس توجّه بمتاع إلّاجعل فيه طيناً من قبر الحسين عليه السلام ثمّ قال الرسول: قال أبو الحسن عليه السلام: هو أمان بإذن اللَّه- الحديث (4)-.
5- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: في طين قبر الحسين عليه السلام الشفاء من كلّ داء، وهو الدواء الأكبر (5).
6- حنّكوا أولادكم بتربة الحسين فإنّها أمان (6) (عن الصادق عليه السلام).
7- عن بعض أصحابنا قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي رجل كثير العلل والأمراض، وما تركت دواء إلّاتداويت به، فقال: وأين أنت عن طين قبر
ص: 274
الحسين عليه السلام فإنّ فيه الشفاء من كلّ داء، والأمن من كلّ خوف؟- الحديث-.
8- في طين قبر الحسين عليه السلام: شفاء من كلّ داء، وهو الدواء الأكبر (1) (عن الصادق عليه السلام).
9- إنّ طين قبر الحسين عليه السلام شفاء من كلّ داء (2) (عن الصادق عليه السلام).
10- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: من أصابه علّة فبدأ بطين قبر الحسين عليه السلام، شفاه اللَّه من تلك العلّة إلّاأن تكون علّة السام (3).
11- عن محمد بن مسلم في حديث: أنّه كان مريضاً، فبعث إليه أبو عبد اللَّه عليه السلام بشراب فشربه، فكأنّما نشط من عقال فدخل عليه، فقال: كيف وجدت الشراب؟ فقال: لقد كنت آيساً من نفسي، فشربته فأقبلت إليك، فكأنّما نشطت من عقال، فقال: يا محمد إنّ الشراب الذي شربته كان فيه من طين قبور آبائي وهو أفضل ما تستشفي به، فلا تعدل به، فإنّا نسقيه صبياننا ونساءنا، فنرى منه كلّ خير (4).
12- عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه عليهما السلام يقولان: إنّ اللَّه عوّض الحسين عليه السلام من قتله أنّ الإمامة في ذريّته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره (5).
13- عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه أخبر بقتل الحسين عليه السلام- إلى أن قال- ألا وإن الإجابة تحت قبّته، والشفاء في تربته، والأئمّة من ولده (6) ... الحديث.
14- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: يؤخذ طين قبر الحسين عليه السلام من عند القبر على سبعين ذراعاً (7)
ص: 275
15- إنّ لموضع قبر الحسين عليه السلام حرمة معروفة، من عرفها واستجار بها اجير ... الحديث (1) (عن أبي عبد اللَّه عليه السلام).
16- عنه عليه السلام قال: التربة (البركة خ د) من قبر الحسين عليه السلام على عشرة أميال (2).
17- عن الكاظم عليه السلام في حديث: ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبرّكوا به فإنّ كلّ تربة لنا محرّمة، إلّاتربة جدِّي الحسين بن علي عليهما السلام، فإنّ اللَّه عزّوجلّ جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا (3).
18- عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عن الطين الذي يؤكل، فقال: كلّ طين حرام كالميتة والدم وما أهلّ لغير اللَّه به، ما خلا طين قبر الحسين عليه السلام، فإنّه شفاء من كلّ داء (4).
19- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: لو أنّ مريضاً من المؤمنين يعرف حقّ أبي عبد اللَّه (الحسين بن علي) عليه السلام وحرمته وولايته، وأخذ من طين قبره مثل رأس أنملة، كان له دواء (5).
20- سأل رجل أبا عبد اللَّه عليه السلام قال: آخذ من طين قبر الحسين، يكون أطلب بركة؟ قال: لا بأس بذلك (6).
21- إنّ اللَّه عوّض الحسين عليه السلام من قتله أربع خصال: جعل الشفاء في تربته،
ص: 276
وإجابة الدعاء تحت قبّته (1) ...- الحديث-.
22- إنّ الصادق عليه السلام مرض، فأمر من عنده أن يستأجروا له أجيراً يدعو عند قبر الحسين عليه السلام، فوجدوا رجلًا فقالوا له ذلك، فقال: أنا أمضي ولكن الحسين إمام مفترض الطاعة، وهو إمام مفترض الطاعة، فرجعوا إلى الصادق عليه السلام وأخبروه، فقال: هو كما قال، ولكن ما عرف أنّ للَّه بقاعاً يستجاب فيها الدعاء، فتلك البقعة من تلك البقاع (2).
23- عن يزيد بن عبد الملك، عن أبيه عن جدّه قال: دخلت على فاطمة عليها السلام فبدأتني بالسلام ثمّ قالت: ما غدا بك؟ قلت: طلب البركة، قالت: أخبرني أبي وهو ذا (هو) أنّه من سلّم عليه وعليّ ثلاثة أيّام، أوجب اللَّه له الجنّة، قلت له: في حياته وحياتك؟ قالت: نعم وبعد موتنا (3).
24- وردت الأحاديث في التبرّك بقبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالصلاة عنده، ووضع الخدّ عليه (4)، كما أنّه وردت بالتبرّك بقبر الحسين بن علي عليهما السلام وسائر الأئمّة عليهم السلام (5).
25- قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: الطين حرام كلّه ... إلّاطين القبر (قبر الحسين عليه السلام) فإنّ فيه شفاءً من كلّ داء، ومن أكله لشهوة لم يكن فيه شفاء (6).
26- عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الطين فقال: أكل الطين حرام، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، إلّاطين الحائر، فإنّ فيه شفاءً من كلّ داء،
ص: 277
وأمناً من كلّ خوف (1).
27- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في حديث، أنّه سئل عن طين الحائر، هل فيه شي ء من الشفاء؟ فقال: يستشفي ما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال، وكذلك قبر جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكذا طين قبر الحسن وعلي ومحمد فخذ منها، فإنّها شفاء من كلّ داء وسقم (2) ... الحديث.
28- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: أكل الطين حرام على بني آدم ما خلا طين قبر الحسين عليه السلام، من أكله من وجع شفاه اللَّه (3).
29- عنه عليه السلام أنّه قال: من أكل من طين قبر الحسين عليه السلام غير مستشف به، فكأنّما أكل من لحومنا (4).
30- إنّ رجلًا سأل الصادق عليه السلام فقال: إنّي سمعتك تقول: إنّ تربة الحسين عليه السلام من الأدوية المفردة، وإنّها لا تمر بداء إلّاهضمته، فقال: قد قلت ذلك فما بالك ...
الحديث (5).
31- كتبت إلى الفقيه أسأله عن طين القبر يوضع مع الميّت في قبره، هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب: ... توضع مع الميت في قبره، ويخلط بحنوطه (6).
32- عن الصادق عليه السلام أنّه قيل له: تربة قبر الحسين عليه السلام شفاء من كلّ داء، فهل هي أمان من كلّ خوف؟ فقال: نعم (7)
ص: 278
3333- في حديث: وخذ طين قبر أبي عبد اللَّه عليه السلام واعجنه بماء السماء، واجعل فيه شيئاً من العسل والزعفران، وفرِّقه على الشيعة ليداووا به مرضاهم (1).
34- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: طين قبر الحسين شفاء من كلّ داء، وإن أخذ على رأس ميل (2).
35- وعنه عليه السلام: إنّ في طين الحير الذي فيه الحسين عليه السلام شفاء من كلّ داء، وأماناً من كلّ خوف (3).
36- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: يؤخذ طين قبر الحسين عليه السلام من عند القبر سبعين باعاً في سبعين باعاً (4).
37- عن أبي جعفر عليه السلام يقول: طين قبر الحسين عليه السلام شفاء من كلّ داء، وأمان من كلّ خوف، وهو لما أخذ له (5).
38- عن الكاظم عليه السلام: لا تستغني شيعتنا عن أربع ... وسبحة من طين قبر أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام- الحديث (6)-.
39- عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام قال: إنّ فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانت سبحتها من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات، وكانت عليها السلام تديرها بيدها تكبّر وتسبّح، حتى قتل حمزة بن عبد المطلب، فاستعملت تربته، وعملت التسابيح، فاستعملها الناس، فلمّا قتل الحسين صلوات اللَّه عليه عدل بالأمر إليه،
ص: 279
فاستعملوا تربته لما فيه من الفضل والمزيّة (1).
40- تقدّم تبرّك المسلمين واستشفاؤهم بتربة حمزة رحمه اللَّه تعالى في التبرّك بقبور الصالحين.
41- إنّ أبا عبد اللَّه عليه السلام سئل عن استعمال التربتين من طين قبر حمزة وقبر الحسين عليه السلام والتفاضل بينهما، فقال عليه السلام: السبحة التي هي من طين قبر الحسين عليه السلام تسبح بيد الرجل من غير أن يسبِّح- الحديث (2)-.
42- كان لأبي عبد اللَّه عليه السلام خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد اللَّه عليه السلام، فكان إذا حضرت الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه، ثمّ قال: السجود على تربة الحسين عليه السلام يخرق الحجب السبع (3).
43- عن أبي الحسن عليه السلام يقول: ما على أحدكم إذا دفن الميّت ووسّده بالتراب أن يضع مقابل وجهه لبنة من طين الحسين عليه السلام ولا يضعها تحت رأسه (4).
44- عن الصادق عليه السلام من أدارالحجير من تربة الحسين عليه السلام فاستغفرمرّة واحدة، كتب اللَّه له سبعين مرّة، وإن مسك السبحة ولم يسبِّح بهاففي كلّ حبّة منهاسبع مرّات (5).
45- وأخيراً فقد أوردنا أحاديث كثيرة في رسالة السجود على الأرض، تدلّ على استحباب السجود على تربة الحسين عليه السلام. وراجع البحار (6).
هذا قسم من الروايات الكثيرة الواردة في التبرّك بتربة الحسين عليه السلام، فمن أراد الإكثار فعليه بكتب الفقه والحديث، وفيما ذكرنا كفاية لمن أنصف وتدبّر.
ص: 280
كان الصحابة والتابعون وسائر المسلمين سلفاً عن خلف يعرفون أنّ لآل الرسول صلى الله عليه و آله ميزة اختصّوا بها، وهي انتماؤهم وانتسابهم إليه صلى الله عليه و آله وهم ولده، وهو أبوهم، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة عن النبي الأقدس صلى الله عليه و آله وامتلأت بها الكتب والطوامير (1).
وهم مطهّرون يجب مودّتهم وحبّهم بنص من اللَّه جلّ وعزّ حيث يقول: قل لا أسألكم عليه أجراً إلّاالمودّة في القربى وقال عزّ من قائل: إنّما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً (2)
.وأنّ لحمهم لحمه، ودمهم دمه، وحربهم حربه، وسلمهم سلمه، وأنّه يحبّهم ويحبّ من يحبّهم، ويحسن إليهم، إلى غير ذلك من الفضائل الكثيرة الثابتة لهم بالكتاب والسنّة المتواترة أو المتظافرة (3)
ص: 281
ولذلك كان الناس يحبّونهم، ويتودّدون إليهم، ويتبرّكون بهم، ويحترمونهم ويعلمون أنّ التبرّك بلحم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبضعة منه أولى من التبرّك بعصاه وسؤره ولباسه وآثاره، كما قال الصادق عليه السلام لأبي حنيفة، وقال الحسين شهيد فخ في خطبته.
فتبرّكَ الصحابة المؤمنون باللَّه ورسوله بالصلاة إلى المربعة التي فيها بيت فاطمة عليها السلام، وكانوا يتبرّكون بتقبيل حافر بغلة علي بن موسى الرضا عليهما السلام، وبقبر أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والحسين والأئمّة من ولده عليهم السلام، ويتبرّكون بدراهم أعطاها الرضا عليه السلام لأحدهم، وبمحلّ اغتسل أو صلّى فيه، وبلوزة غرسها بيده المباركة، ويتبرّكون بلباس أعطاه الإمام أبو عبد اللَّه الصادق والرضا وغيرهما من أئمّة أهل البيت عليهم السلام. ويتبرّكون ويستشفون بتربة قبر الحسين عليه السلام بالسجود عليها، والأكل منها، والوضع لها مع الميت في قبره، وصنع السبحة منها.
وبعد ذلك كلّه ترى الخليفة عمر بن الخطّاب يعلّل تزويجه ببنت أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (1) «أمّ كلثوم» بأنّه: «أحبّ أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» ويعلّله في روايات أُخر بأني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّاسببي ونسبي».
وأهل البيت يتبرّكون بحجر صلّت إليه فاطمة عليها السلام، أو ولدت عليه الحسن
ص: 282
والحسين عليهما السلام، ويستشفون به.
والناس يتبرّكون بمكان ولادتها صلّى اللَّه عليها.
وعمر بن الخطّاب يستسقي بالعبّاس عمّ النبي صلى الله عليه و آله ويستشفع به، ويتقرّب به إلى اللَّه تعالى، معلّلًا ذلك بأنّه عمّ النبي صلى الله عليه و آله، وصنو أبيه، وسيّد بني هاشم، وأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يرى للعبّاس ما يرى الولد لوالده فاقتدوا به، (بعد قول كعب: إنّ بني إسرائيل إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء).
فكانت هذه العلل كلّها كافية في التبرّك والتوسّل وحدها، فلا إشكال في الدلالة (بعد تواتر الحديث كما تقدّم) سيما بعد قول عمر: «هذا واللَّه الوسيلة إلى اللَّه عزّوجلّ والمكان منه».
وهنا لطيفة أخرى وهي توسّل العبّاس رحمه اللَّه تعالى بعلي والحسنين عليهم السلام وسائر بني هاشم، وقوله لعمر: «لا تخلط بنا غيرنا» لإفادته ميزة خاصة لبني هاشم على غيرهم، ولإظهار فضل لعلي وولديه عليهم السلام على كلّ الناس، وهو الحقّ الذي لا ريب فيه لأي عاقل متدبّر منصف.
أضف إلى ذلك كلّه تبرّك الناس بأمّ سلمة أمّ المؤمنين رحمها اللَّه تعالى، وتمسّح الناس بأركان العبّاس وتبرّكهم به.
ومن الواضح تقرير آل النبي صلى الله عليه و آله ذلك، بل أمرهم به وحثّهم عليه وترغيبهم فيه وعدّهم ذلك من علائم الإيمان وثمرات اليقين، كما يظهر من عمل الحسين عليه السلام في بئر ابن مطيع، ومن تبرّكهم بحجر موجود في بيت فاطمة عليها السلام، وترغيبهم في الاستشفاء بتربة قبر الحسين عليه السلام، والسجود عليها، وأخذ السبحة منها، ودفنها مع الميّت، وجرى عملهم على ذلك، وتبرّكهم بحرم الحسين عليه السلام، وإرشادهم إلى استجابة الدعاء عنده، وإرسالهم شخصاً للدعاء فيه، وأخذ فاطمة عليها السلام السبحة من طين قبر حمزة عليه الرحمة والرضوان، وتبرّكهم بمسّ قبر
ص: 283
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقبر أميرالمؤمنين والحسين عليهما السلام، واللزوق به، والصلاة عنده، والاستغاثة والاستجارة به.
وقد مرّ في فصل التبرّك بمسّ النبي صلى الله عليه و آله تبرّك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعرق وجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
لقد ورد في الأحاديث وكتب التاريخ والتراجم تبرّك بعض المسلمين ببعض، وقد تقدّم تبرّكهم بقبور الصالحين، وما ينتسب إليهم، والآن نورد هنا بعض ما يدلّ على تبرّكهم بالأحياء، فنقول:
1- كان زياد يتبرّك ويتيمّن بمعقل بن يسار، لصحبته لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1).
2- وأحمد بن حنبل يبعث بثوب له إلى رجل مع مال يردّه عليه ولا يقبله منه.
قال صالح: فبلغني أنّ الرجل اتخذه كفناً (2).
3- ذكر لأحمد بن حنبل صفوان بن سليم وقلّة حديثه، فقال: هذا رجل إنّما كان يستشفى بحديثه، ويستنزل القطر بذكره (3).
4- روي أنّ سائلًا سأل أحمد بن حنبل، فأعطاه الإمام قطعة، فقام رجل إلى السائل فقال: هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها ما يساوي درهماً، فأبى فرقاه إلى خمسين درهماً وهو يأبى، وقال: إنّي أرجو من بركتها ماترجوه أنت من بركتها (4).
5- كان الناس يتزايدون في بطيخة؛ لأنّ بشر الحافي لمسها حتى اشتراها
ص: 284
أحدهم بعشرين درهماً (1).
6- كان الرشيد يقول: إنّه يتبرّك بأن يحمل المسيب بن زهير الحربة بين يديه (2).
7- وفي قصة استسقاء سليمان والد أبي طيبة يقول: «ففشا في المدينة أنّ اللَّه سقاهم الغيث بسليمان، فكان الناس يختلفون إليه ويتبرّكون به، فأنكر ذلك والٍ عليهم يقال له أبو الهفت، فحبس سليمان في السجن فهاج أهل المدينة وأنكروا ذلك من فعاله، وأخرجوا واليهم عن مدينتهم، وأطلقوا سليمان من السجن، وقالوا لأبي الهفت: عمدت إلى رجل سقانا اللَّه به فحبسته وأردت هلاكنا، فضمن لهم أن لا يعود إلى مثلها فأعادوه والياً عليهم» (3).
8- عن كهيل الأزدي وكانت له صحبة قال: أصيب الناس يوم أحُد وكثر فيهم الجراحات فأتى رجل النبي صلى الله عليه و آله، فقال: إنّ الناس قد كثر فيهم الجراحات.
قال: انطلق فقم على الطريق فلا يمرّ بك جريح إلّاقلت: بسم اللَّه ثمّ تفلت في جرحه ... الحديث (4).
9- عن بشر بن قحيف قال: شهدت عمر بن الخطّاب وهو يطعم، فجاءه رجل فقال: إنّي أريد أن أبايعك، فقال: أوما بايعت أميري؟ قال: بلى. قال: إذا بايعت أميري فقد بايعتني. قال: إنّي أريد أن تمسّ يدي يدك فأخذ عظماً وقال: يا عباد اللَّه ... الحديث (5).
10- قال الصولي (في حديث): وما رأيت امرأة قط أتمّ من جدّتي هذه عقلًا
ص: 285
ولا أسخى كفّاً، وتوفيت سنة 270، ولها نحو من مئة سنة، وكان جدّي عبد اللَّه يتبرّك بجدّتي هذه ... الحديث (1).
11- عن أبي عبد اللَّه محمد بن الحسن بن إسحاق بن الحسين بن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنّه قال:
حججت في سنة ثلاثة عشر وثلاثمائة، وفيها حجّ نصر القشوري ... فدخلت مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في ذي القعدة فأصبت قافلة المصريين، وبها أبو بكر محمد بن علي المادرائي، ومعه رجل من أهل المغرب، وذكر أنّه رأى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاجتمع عليه الناس وازدحموا، وجعلوا يمسحون به، وكادوا يأتون على نفسه ...
الحديث (2).
وردت أحاديث كثيرة عن الرسول الأقدس صلى الله عليه و آله وأئمّة العترة الطاهرة، في التبرّك بأشياء مختلفة ترغيباً فيه، وتشويقاً إليه، فنحن نذكر منها ما عثرنا عليه.
منها: ما ورد في التبرّك والاستشفاء بماء زمزم، والاهتمام به، حتى جعل التضلّع منه وعدمه علامة الإيمان والنفاق، وحتى استهداه النبي صلى الله عليه و آله من سهيل بن عمرو، فكان يحمل ماء زمزم من مكة إلى المدينة، وكذا عائشة أمّ المؤمنين تحمل ماء زمزم، وتخبر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يحمله في الأداوي والقِرب، وكان يصبّ على المرضى ويسقيهم، وإليك نصوص الأحاديث:
1- عن ابن عبّاس قال: استهدى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سهيل بن عمرو من ماء زمزم.
ص: 286
لفظ الإصابة:
كتب إلى سهيل بن عمرو: إن جاء ك كتابي ليلًا فلا تصبحنّ أو نهاراً فلا تمسينّ حتى تبعث إليَّ مزادتين من زمزم.
لفظ الوسائل:
كان النبي صلى الله عليه و آله يستهدي من ماء زمزم وهو بالمدينة، والظاهر كما تشهد به الأحاديث الأُخر، أنّ استهداءه صلى الله عليه و آله ماء زمزم ليس لخصوصية طبيعية وآثار كيماوية طبّية، بل للتبرّك به فحسب، إمّا لنفسه، أو لأهل بيته الكرام، أو آله وقرابته (1).
2- عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ماء زمزم دواء لما شرب له (2).
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام الاطلاع في بئر زمزم يذهب الداء، فاشربوا من مائها ممّا يلي الركن الذي فيه الحجر الأسود ... (3).
4- عن الصادق (جعفر بن محمد) عليهما السلام: زمزم شفاء من كلّ داء وأظنّه قال:
كائناً ما كان (4).
5- عائشة كانت تحمل ماء زمزم، وتخبر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يفعله (5)
ص: 287
6- عائشة كانت تحمل ماء زمزم، وتخبر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يفعله، وحمله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الأداوي والقرب، وكان يصبّ على المرضى ويسقيهم (1).
7- عن ابن عبّاس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ماء زمزم لما شرب له، فإن شربته تستشفي شفاك اللَّه، وإن شربته مستعيذاً أعاذك اللَّه، وإن شربته ليقطع ظمأك قطعه (2).
8- جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: من أين جئت؟ فقال: شربت من زمزم.
فقال له ابن عبّاس: أشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف ذاك يا ابن عبّاس؟ قال:
إذا شربت منها فاستقبل القبلة، واذكر اسم اللَّه، وتنفّس ثلاثاً، وتضلّع منها، فإذا فرغت منها فاحمد اللَّه، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: آية ما بيننا وبين المنافقين أنّهم لا يتضلّعون من زمزم (3). هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
9- (في ماء زمزم) أنّها طعام طعم، وشفاء سقم (4).
10- عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: التضلّع من ماء زمزم براءة من النفاق (5).
11- كان إذا أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم (6).
12- عن ابن المعزى (المغرى خ ل) قال: كنّا عند ابن عيينة، جاء رجل فقال:
ص: 288
يا أبا محمد ألستم تزعمون أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: ماء زمزم لما شرب له؟ قال: بلى.
قال: فإنّي شربته لتحدّثني بمئتي حديث قال: اقعد فحدّثه بها. قال: وسمعت ابن عيينة يقول: قال عمر بن الخطّاب: اللّهم إنّي أشربه لظمأ يوم القيامة (1).
13- عن ابن عبّاس ضع دلوك من قبل العين التي تلي البيت أو الركن، فإنّها من عيون الجنّة (2).
14- عن أمّ معبد قال (كذا): مرّ بي بخيمتي غلام سهيل أزيهر معه قربتا ماء فقلت: ما هذا؟ قال: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كتب إلى مولاي زهير يستهديه ماء زمزم، فأنا أعجل لكي لا تنشف القرب (3).
15- إنّها مباركة، إنّها طعام طعم، يعني زمزم. (عن أبي ذرّ) (4).
16- إنّها مباركة، وهي طعام طعم، وشفاء سقم. (عن أبي ذر) (5).
17- ماء زمزم لما شرب له، من شربه لمرض شفاه اللَّه، أو لجوع أشبعه اللَّه، أو لحاجة قضاها اللَّه. (عن جابر) (6).
18- عن ابن عبّاس: خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم وشفاء من السقم (7).
19- عن جابر، عن النبي صلى الله عليه و آله: ماء زمزم لما شرب له، وهو ذا أشرب هذا لعطش يوم القيامة (8)
ص: 289
20- إنّ ماءها يذهب بالصداع، وإن الاطلاع فيها يجلو البصر ... (1)
وإن شئت الوقوف على الأحاديث الواردة في ماء زمزم وبركتها أزيد ممّا ذكرنا، فراجع الدر المنثور (2)، والوسائل (3) والمستدرك للنوري (4) والمستدرك للحاكم (5) والبحار (6) وكنز العمّال (7)، تجد أحاديث كثيرة في ذلك، وفي آداب شربها، والدعاء عند شربها.
ولا ريب في دلالة الأحاديث على المطلوب، سيّما مع التعليق على القصد، إذ لو كانت آثاراً طبيعية كيماوية، لما توقّف التأثير على القصد، ولا سيّما مع ترتّب بعض الآثار المعنوية كالعلم والإيمان والجنّة و ... إذ الآثار المعنوية ليست آثاراً طبيعية مترتّبة على ذات الشي ء ولو من دون قصد ونيّة.
فبأي قصد شرب ماء زمزم نفع من الجهة المقصودة، وهذا تدلّ عليه جميع الروايات، وهذا هو معنى التوسّل والاستشفاع والتبرّك والاستشفاء، وقد صرّح فيها بأنّه شفاء من كلّ داء، وشفاء السقم، وأنّه مبارك.
وتفيد الأخبار ترغيب النبي صلى الله عليه و آله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام في التبرّك بالشرب منه والتضلّع بقصد التبرّك والاستشفاء، وقيد بأنّه لا ينفع مع عدم القصد.
وتفيد بأنّ عمل الصحابة وسائر المسلمين جرى على التبرّك، حتى نقل أنّ
ص: 290
عمر بن الخطّاب كان يشرب ويقول: أشربه لظمأ يوم القيامة، وكذا غيره فبه أمروا، وعليه عملوا، وجرت به السنّة.
ومنها: ما ورد في ماء ميزاب الكعبة من الاستشفاء به للمريض:
فقد روى ابن جبلة قال: اشتكى رجل من إخواننا حتى سقط للموت، فلقيت أبا عبد اللَّه عليه السلام في الطريق. فقال: يا صارم ما فعل فلان؟ قلت: تركته بحال الموت.
فقال: أما لو كنت مكانك لأسقيته من ماء الميزاب. قال: فطلبنا عند كلّ أحد، فلم نجده فبينما نحن كذلك إذ ارتفعت سحابة، ثمّ أرعدت وأبرقت وأمطرت، فجئت إلى بعض من في المسجد فأعطيته درهماً وأخذت قدحاً، ثمّ أخذت من ماء الميزاب فأتيته وأسقيته، فلم أبرح من عنده حتى شرب سويقاً وبرّاً (1).
ويستفاد من الحديث: أنّ الاستشفاء بماء الميزاب كان أمراً متعارفاً عندهم، يأخذونه ويحفظونه ويدّخرونه ويتبرّكون به؛ ولذلك كان الإمام حثَّ عليه، وهو صار يطلبه عند الناس، إذ لو كان أمراً بدعيّاً غير معروف عند الناس، لم يكن وجه لطلبه منهم.
ومنها: ما ورد في التبرّك بكسوة الكعبة:
1- عن عبد اللَّه بن عتبة قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عمّا يصل إلينا من ثياب الكعبة، هل يصلح لنا أن نلبس منها شيئاً؟ قال: يصلح للصبيان والمصاحف والمخدّة يبتغي بذلك البركة إن شاء اللَّه تعالى (2).
2- عن مروان بن عبد الملك قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل اشترى من كسوة الكعبة شيئاً، فاقتضى ببعضه حاجته، وبقي بعضه في يده هل يصلح بيعه؟
ص: 291
قال: يبيع ما أراد، ويهب ما لم يرد ويستنفع به ويطلب بركته ... الحديث (1).
ومنها: ما ورد في الاستشفاء بغبار المدينة وشجرها:
1- «غبار المدينة شفاء من الجذام» (2).
2- «غبار المدينة يبرئ الجذام» (3).
3- «غبار المدينة يطفئ الجذام» (4).
4- «إنّ في غبارها شفاءً من كلّ داء» (5).
5- «والذي نفسي بيده إنّ تربتها لمؤمنة، وإنّها شفاء من الجذام» (6).
6- «مالكم يا بني الحارث روبى؟ قالوا: أصابتنا يارسول اللَّه هذه الحمى، قال: فأين أنتم عن صعيب؟ قالوا: يارسول اللَّه! ما نصنع به؟ قال: تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثمّ يتفل عليه أحدكم ويقول: بسم اللَّه تراب أرضنا بريق بعضنا شفاء لمريضنا بإذن ربّنا. ففعلوا فتركتهم الحمى» (7).
قلت: نقل السمهودي بعد نقله هذا الحديث: أخذ الناس من تراب صعيب، وجرى عملهم على ذلك. وأطال الكلام فيه.
7- «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح، قال بإصبعه هكذا، ووضع سبّابته بالأرض، ثمّ رفعها، وقال: بسم اللَّه تربة أرضنا بريق
ص: 292
بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا» (1).
8- «إنّ رجلًا أتى به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبرجله قرحة، فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله طرف الحصير ثمّ وضع إصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعدما مسّها بريقه وقال:
بسم اللَّه ريق بعضنا بتربة أرضنا ليشفي سقيمنا بإذن ربّنا. ثمّ وضع إصبعه على القرحة فكأنّما حلّ من عقال» (2).
أقول: ونقل السمهودي التبرّك بتمر المدينة، فراجع: وفاء الوفاء (3).
9- عن أنس مرفوعاً: أُحُد جبل يحبّنا ونحبّه، فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه (4).
10- وعن زينب بنت نبيط- وكانت تحت أنس بن مالك- أنّها كانت ترسل ولائدها فتقول: اذهبوا إلى أُحُد فأتوني من نباته، فإن لم تجدن إلا عضاها فائتنّني به، فإنّ أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللَّه يقول: هذا جبل أحُد يحبّنا ونحبّه، قالت زينب: فكلوا من نباته ولو من عضاهه. قالت: فكانت تعطينا منه قليلًا قليلًا نمضغه (5).
ومنها: ما ورد في التبرّك بماء الفرات وسؤر المؤمن:
1- قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: في سؤر المؤمن شفاء من سبعين داءً (6).
2- من شرب سؤر المؤمن تبرّكاً به، خلق اللَّه بينهما ملكاً يستغفر لهما حتى
ص: 293
تقوم الساعة (1).
3- سؤر المؤمن شفاء (2).
4- ما أخال أحداً يحنّك بماء الفرات إلّاأحبّنا أهل البيت ... الحديث (3).
5- أما إنّ أهل الكوفة لو حنّكوا أولادهم بماء الفرات لكانوا شيعة لنا (4).
6- الشرب من فضل وضوء المؤمن فيه شفاء من سبعين داءً أدناها الهمّ (5).
7- كان يبعث إلى المطاهر، فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين (6).
8- لو علم الناس ما فيه (يعني الفرات) من البركة، لضربوا الأخبية على حافتيه (7).
9- من شرب من ماء الفرات وحنّك به فإنّه يحبّنا أهل البيت (8).
10- لو أن بيننا وبين الفرات كذا وكذا ميلًا لذهبنا إليه واستشفينا به (9).
ومنها: ما ورد في التبرّك بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما ورد أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يتبرّك بالتمسّح بعرق وجهه ومرّ منّا الكلام في ذلك.
قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام- في حديث-: «والذي نفسي بيده لولا أن يقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك مقالًا لا تمرّ
ص: 294
بأحد من المسلمين إلّاأخذوا التراب من أثر قدميك يطلبون به البركة».
وفي لفظ الينابيع وعن أرجح المطالب:
«إلّا أخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك يستشفون به» (1).
ومنها: ما ورد في تتريب الكتاب وأنّه مبارك وأنّه أنجح للحاجة:
1- إذا كتب أحدكم فليترّبه فإنّه أنجح للحاجة (2).
2- ترّبوا صحفكم، فإنّ التراب مبارك (3).