سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711
الاهداء:
إلى الذين أحبّوا القرآن
إلى الذين يريدون أن ينهلوا المزيد من معين الحياة الصافي
إلى الذين يتوقون إلى معرفة القرآن وفهمه أكثر فأكثر.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 4
بمساعدة العلماء الأفاضل وحجج الإسلام السادة:
محمّد رضا الآشتياني
محمّد جعفر الإمامي
عبدالرسول الحسني
محمّد الأسدي
حسين الطوسي
سيّد شمس الدين الروحاني
محمّد محمّدي الاشتهاردي
نفحات القرآن، ج 1، ص: 5
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
1- أنواع التفسير.
2- ما هو التفسير الموضوعي؟
3- ما هي المشكلات التي يمكن حلُّها بواسطة التفسير الموضوعي؟ (و كيفية الاستفادة من هذا النوع من التفسير).
4- تاريخ التفسير الموضوعي.
5- الاسلوب الأمثل في التفسير الموضوعي.
6- العقبات التي تعترض التفسير الموضوعي.
7- لماذا لم يتطور هذا اللون من التفسير؟
عندما نريد الحديث عن تفسير القرآن الكريم يتبادر إلى الذهن التفسير المتعارف (التفسير الترتيبي) حيث تجري عملية بحث آيات القرآن الكريم بالترتيب ويتمّ توضيح مضمونها وماهيتها، وهو الاسلوب المتَّبع في تفسير القرآن منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، وقد قام علماء الإسلام بتأليف مئات أو آلاف الكتب تحت عنوان «تفسير القرآن الكريم» على هذه الطريقة.
وهناك نوع آخر من التفسير الرائج إلى حدّ ما والذي يهدف إلى تفسير «مفردات القرآن»
نفحات القرآن، ج 1، ص: 6
أي أنّه يتناول كلمات القرآن كلُّ على حدة وبالتسلسل حسب الحروف الأبجدية وعلى هيئة مُعْجم، ومن أبرز نماذج هذا التفسير هو كتاب «مفردات الراغب» و «وجوه القرآن» و «تفسير غريب القرآن» للطريحي، وأخيراً كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» و «نثر طوبى» أو «دائرة معارف القرآن الكريم».
بينما توجد هناك أنواع اخرى من تفسير القرآن منها «التفسير الموضوعي» الذي يحقق ويبحث آيات القرآن الكريم على أساس مختلف المواضيع المتعلقة باصول الدين وفروعه والامور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية.
وهناك نوع آخر من التفسير نطلق عليه «التفسير الإرتباطي» أو التسلسلي، حيث يتناول مواضيع القرآن المختلفة من حيث علاقتها ببعضها.
فعلى سبيل المثال، بعد بحث موضوع «الإيمان»، و «التقوى و «العمل الصالح» كلٌّ على حدة في التفسير الموضوعي تتمّ عملية بحث علاقة هذه المواضيع الثلاثة ببعضها من خلال الإعتماد على الآيات والملاحظات الواردة في ذلك، ومن المسلَّم أنّ حقائق جديدة سوف تنكشف لنا عن كيفية
ارتباط هذه المواضيع ببعضها تكون بالغة الأهمية والفائدة.
إنّ أفضل طريقة للبحث حول عالم الخلقة والتكوين وما يتضمنه ويحويه من كائنات هو دراسة العلاقة بين هذه الكائنات التي تؤلف هذا العالم، ففي الحقيقة أنّ الشمس والقمر والأرض والإنسان والمجتمعات البشرية هي موجودات لا تنفصل عن بعضها البعض وهي تشكِّل في مجموعها كياناً واحداً مترابطاً، والاسلوب الصائب في دراستها هو أن نبحثها من حيث ارتباطها مع بعضها.
وهكذا الأمر في كتاب «التدوين» أي القرآن الكريم، فهنالك علاقات دقيقة وظريفة بين مواضيع القرآن الكريم، ولابدّ من تفسيرها من حيث ارتباطها مع بعضها.
النوع الآخر من التفسير هو «التفسير العام» أو «الرؤية الكونية للقرآن» وهنا يتناول المفسّر جميع مضمون القرآن فيما يتعلق بعالم الوجود، وبتعبير أكثر وضوحاً: يربط كتاب «التكوين» مع كتاب «التدوين» وينظر إليهما معاً، وتتم دراستهما من حيث ارتباطهما ببعضهما.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 7
وعلى هذا الأساس فإنّ هناك خمسة أنواع من التفاسير:
1- تفسير مفردات القرآن.
2- التفسير الترتيبي.
3- التفسير الموضوعي.
4- التفسير الإرتباطي.
5- التفسير العام، أو النظرة الكونية للقرآن.
والمشهور والمعروف من بين هذه الأنواع الخمسة هو النوع الأوّل والثّاني، وإلى حدٍ ما النوع الثالث، أي أنّ التفسير الموضوعي لا زال يسير في مراحله الأولية، على أمل أن يقطع مراحله التكاملية تدريجياً من خلال الإهتمام الذي أولاه علماء الإسلام به مؤخراً ومن خلال المزيد من الجد والمثابرة، وأن يحتل مكانه اللائق في المستقبل القريب.
أمّا النوع الرابع والخامس من تفسير القرآن فلم يحظيا باهتمام المفسّرين بعد، وهذا العمل يقع على عاتق الجيل الحاضر وأجيال المستقبل بأن يتناولوا هذا الباب بعد تكامل التفسير الموضوعي بما فيه الكفاية، ويقوموا باداء حقّهِ بالقدر المستطاع.
قبل الإجابة على هذا السؤال لابدّ من طرح سؤال آخر وهو: لماذا
لم يُرتب القرآن باسلوب موضوعي يشبه الكتب المتداولة؟ بل أنّه جمع بشكل يختلف عنها جميعاً.
والجواب هو: إنّ المؤلف أو المؤلفين يأخذون بنظر الاعتبار مختلف المواضيع المتشابهة في حقل واحد من أجل اعداد الكتب المتداولة، فمثلًا في علم الطب يؤخذ بنظر الاعتبار «مختلف الأمراض التي ترتبط بمسألة صحة الإنسان» ثمّ تُقسم المسائل المتعلقة بهذه المواضيع على فصول وأبواب (أمراض القلب، الأمراض العصبية، أمراض الجهاز الهضمي، أمراض جهاز التنفس، الأمراض الجلدية وسائر الأمراض).
ومن ثمّ يبحثون كلَّ فصلٍ وكلَّ بابٍ من خلال الاعتماد على المقدّمات ونتائجها وبهذا
نفحات القرآن، ج 1، ص: 8
النحو يتمّ تأليف كتاب باسم كتاب «الطب».
بيد أنَّ القرآن ليس كذلك، فهذا الكتاب نزل على مدى 23 سنة وفقاً للحاجات والظروف الاجتماعية المختلفة والوقائع المتباينة، والمراحل التربوية المتفاوتة، وكافة شؤون حياة المجتمع الإسلامي، وفي نفس الوقت لم يتعلق بزمانٍ ومكانٍ معينين!
ففي وقت تدور كافة بحوث القرآن حول محور مقارعة الوثنية والشرك وبيان التوحيد بكل فروعه، والسّور والآيات النّازلة في هذه المرحلة كلّها في المبدأ والمعاد: (كالسور التي نزلت في مكّة خلال السنوات الثلاث عشرة الاولى من البعثة).
وفي زمان آخر نرى محور البحث والحديث ساخناً وقوياً حول الجهاد وكيفية مواجهة الأعداء في الداخل والخارج والمنافقين.
وعندما تقع غزوة الأحزاب فتنزل سورة الأحزاب، وما لا يقل عن 17 آية منها تتحدث عن هذه المعركة والتجارب والقضايا التربوية فيها ووقائعها.
وحينما جرت واقعة صلح الحديبية نزلت سورة الفتح وبعدها فتح مكّة وغزوة حنين نزلت سورة الإخلاص وآيات اخرى.
والخلاصة، فتزامناً مع انتشار الإسلام والتحرك العام للمجتمع الإسلامي كانت تنزل الآيات المناسبة وتصدر الأوامر اللازمة، وهذا ما كان يكمّل المسيرة التكاملية للإنسان.
واستناداً إلى ما ذكرنا آنفاً، يتضح المغزى من التفسير الموضوعي وهو جمع الأحداث والوقائع
المتعلقة بذلك الموضوع وترتيبها لتتجلى وجهة نظر القرآن الكريم بشأن ذلك الموضوع وأبعاده.
فمثلًا، تُجمع الآيات المتعلقة ببراهين معرفة اللَّه كالفطرة، وبرهان النظم وبرهان الوجوب والإمكان وباقي البراهين، وحيث إنّ القرآن يفسّر بعضُه بعضاً تتضح أبعاد هذا الموضوع «1».
______________________________
(1). لقد رويت عبارة «القرآن يفسّر بعضه بعضاً» عن ابن عباس، وليس من المستبعد أن يكون قد أخذها عن النبي صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام نتيجة لعلاقته القوية معهما في مسائل القرآن، كما ورد مضمونها في نهج البلاغة حيث يقول: «وَذَكرت أنّ الكتاب يصدّقُ بعضُه بعضاً» (نهج البلاغة، الخطبة 18) وقد أورد بعض العلماء في كتبهم جملة «القرآن يفسر بعضه بعضاً» على أنّها حديثٌ، كما في صفحه 106 من كتاب (تنزيه التنزيل) للمرحوم الشهرستاني، إذ وردت هذه العبارة باعتبارها رواية بدون أن ترد عليها مؤاخذة، كما تُلاحظ في نهج البلاغة إشارة اخرى إلى هذا الأمر، حينما يقول بشأن القرآن الكريم: «وينطقُ بعضه ببعض ويشهد بعضُه على بعض» (نهج البلاغة، الخطبة 133).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 9
وهكذا بالنسبة للآيات المتعلقة بالجنّة أو النار، والصراط وصحيفة الأعمال، والآيات المتعلقة بالقضايا الأخلاقية والتقوى وحسن الخلق والشجاعة، و ... والآيات المتعلقة بأحكام الصلاة والصوم والزكاة والخمس والأنفال، والآيات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وجهاد الأعداء وجهاد النفس و ...
والمسلّم به أنّ هذه الآيات التي نزلت في مناسبات مختلفة، عندما تُجمع كلُّ طائفةٍ منها على حدةٍ وتنظم وتُفسَّر فسوف تنكشف عنها حقائق جديدة، ومن هنا تتّضح أهميّة التفسير الموضوعي، حيث سيأتي الكلام عنه في البحث الآتي إن شاء اللَّه.
إنّ الجواب على هذا السؤال واضحٌ للغاية من خلال ملاحظة ما مرَّ ذكره آنفاً، ولكن للمزيد من التوضيح ينبغي الالتفات إلى هذا الأمر وهو:
إنّ
الكثير من آيات القرآن الكريم تتناول بُعداً واحداً من أبعاد موضوع ما، فمثلًا، فيما يخص مسألة «الشفاعة» فقد ورد في بعض الآيات أصل إمكان الشفاعة.
وفي البعض الآخر «شروط الشفاعة» (سبأ 23، مريم 78).
وفي بعضها شروط «المشفَّع لهم» (الأنبياء 28، غافر 18).
وفي بعضٍ تُنفى الشفاعة عن الجميع ما عدا اللَّه تعالى (الزمر 44).
وفي بعض آخر ثبتت الشفاعة لغير اللَّه (المدثر 48).
نجد أنَّ حالةً من عدم الوضوح تحيط بأُمور الشفاعة بدءً من حقيقة الشفاعة وحتى سائر الشروط والخصوصيات الاخرى ولكن عندما نأخذ آيات الشفاعة من القرآن
نفحات القرآن، ج 1، ص: 10
ونضعهاجانب بعضها ونفسّرها على ضوء بعضها البعض يرتفع هذا الغموض ويحلّ الابهام على أحسن وجه.
وكذلك الآيات المتعلقة بالجهاد، أو فلسفة أحكام وتعاليم الإسلام، أو الآيات المتعلقة بالبرزخ، أو مسألة علم اللَّه، وكذلك موضوع علم الغيب، وهل أنّ العلم بالغيب ممكنٌ لغير اللَّه أم لا؟ فلو وُضعت آيات كل موضوع في جانبٍ فمن الممكن أداء حق هذا الموضوع وحل الإشكالات الموجودة عن طريق التفسير الموضوعي.
وعلى هذا الأساس فإنّ الآيات المتعلقة ب «المحكم» و «المتشابه» والتي تدعو تفسير «المتشابهات» بالاستعانة «بالمحكمات» يعدُ نوعاً من التفسير الموضوعي.
ومن هنا يبدو أنّه من خلال تفسير الآيات المتعلقة بموضوع ما بالاستعانة بالآيات الاخرى تنبثق عنها معارف وعلوم جديدة، هذه العلوم تكمن فيها معارف القرآن والحلول لكثير من المعضلات العقائدية وأحكام الإسلام.
من هذا الباب يُمكن تشبيه آيات القرآن بالكلمات المتفرقة، حيث إنَّ لكلٍّ منها مفهوماً ذاتيّاً، ولكن حينما تُرتَّبُ وتجمع في جمل مفيدة فهي تُعطي مفاهيم جديدة.
أو تشبيهها بالعناصر الحياتية مثل «الاوكسجين» والهيدروجين» التي حينما تتفاعل مع بعضها ينتج عنها الماء الذي هو عنصر حياتي آخر.
خلاصة القول إنّه لا يمكن حلّ الكثير من اسرار
القرآن إلّاعن هذا الطريق، ولا يُمكن النفوذ إلى مكنوناتها إلّامن خلال هذا السبيل، ونعتقد بأنّ هذا القدر كافٍ لتوضيح أهميّة التفسير الموضوعي.
وباختصار يمكن تلخيص فوائد التفسير الموضوعي في النقاط التالية:
1- إزالة الإشكالات التي تبرز في بعض الآيات للوهلة الولى وحلّ أسرار وأَلغاز المتشابه في القرآن.
2- الاطّلاع على خفايا ودقائق وعلل وأسباب ونتائج المواضيع والقضايا المختلفة الواردة في القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 11
3- الحصول على معلومات جامعه لمواضيع مختلفة مثل «التوحيد» و «معرفة اللَّه» و «المعاد» و «العبادات» و «الجهاد» و «الحكومة الإسلامية» وعلوم مهمّة اخرى
4- كشف أسرار وخفايا جديدة من القرآن من خلال الجمع بين الآيات.
يمكننا ملاحظة نماذج من التفسير الموضوعى للقرآن الكريم في نفس آيات القرآن الكريم حيث أمرت هذه الآيات بتفسير المتشابه منها بالمحكم، ويعد هذا الاسلوب نوعاً من التفسير الموضوعى.
وفي كلام أئمّة الهدى عليهم السلام أمثلة كثيرة تهدينا إلى اسلوب جمع الآيات المتعلقة بموضوع معين وترتيبها ثم الاستفادة منها، ولأجل إثبات هذا الأمر نكتفي بذكر عدد من الأمثلة:
1- في الرواية المعروفة «1» بعنوان وصيّة النبي صلى الله عليه و آله وموعظته لعبداللَّه بن مسعود المذكورة في بحار الأنوار- وهي رواية طويلة وكثيرة المضامين، وفيها أمثلة كثيرة بنحو يمكن القول أنّ الرواية تدور حول محور التفسير الموضوعي- عندما يتكلم صلى الله عليه و آله عن ذم الدنيا حيث يقول: «يا ابن مسعود إنّ الأحمق من طلبَ دنيا زائلة»، ثم يستدل على هوانِ الدنيا وزخارف هذا العالم بالآيات التالية:
«اعلَمُوا أَنَّما الحَيَاةُ الدُنيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ...». (الحديد/ 20)
«وَلَوْ لَاأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِم
أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . (الزخرف/ 33 و 34)
«مَنْ كَانَ يُريدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيْهَا مَا نَشاءُ لِمَنْ نُّريدُ ثُمَّ جَعَلنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً». (الاسراء/ 18)
وفي محل آخر يتحدث عن (القول بغير علم)، ويقول صلى الله عليه و آله: يا ابن مسعود لا تقل شيئاً
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 74، ص 94.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 12
بغير علم ولا تتفوه بشي ء ما لم تسمعه وتراه، ثم يذكر آيات عديدة حول هذا الموضوع:
قال تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا». (الاسراء/ 36)
وقال تعالى: «سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ . (الزخرف/ 19)
وقال تعالى: «مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». (ق/ 18)
وقال تعالى: «وَنَحْنُ اقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)
وكذلك ذكرت الرواية ابحاثاً حول الذكر والإنفاق في سبيل اللَّه، ومكارم الاخلاق وغيرها اعتماداً على جمع الآيات وتبويبها.
2- جاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين علي عليه السلام تقسيم لمعنى «الكفر في القرآن المجيد»:
إنّ الكفر في القرآن على أربعة أقسام:
الأوّل: الكفر بمعنى الجحود والانكار، وهو على قسمين:
أ) إنكار اصل وجود اللَّه والجنّة والنار والقيامة كما يحكي القرآن عن لسانهم «وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ». (الجاثيه/ 24)
ب) الكفر المقارن للمعرفة واليقين كما جاء في القرآن:
«وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً». (النمل/ 14)
الثاني: الكفر بمعنى المعصية وترك الطاعة كما أخبر اللَّه سبحانه عن قوم من بني اسرائيل يؤمنون ببعض الكتاب ويكذبون ببعض اذ يقول سبحانه: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرونَ بِبَعْضٍ . (البقرة/ 85)
الثالث: الكفر بمعنى البراءة والتنصُّل كما قال سبحانه عن لسان ابراهيم عليه السلام لعبدة الأصنام «كَفَرْنَا بِكُمْ . (الممتحنة/ 4)
وقال سبحانه أيضاً «يَوْمَ القيامَةِ يَكْفُرُ بعْضُكُمْ بِبَعْضٍ . (العنكبوت/
25)
الرابع: الكفر بمعنى عدم شكر النعمة كما قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُم لَأَزِيدَنَّكُم وَلَئِنْ
نفحات القرآن، ج 1، ص: 13
كَفَرْتُمْ انَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ». (ابراهيم/ 7)
ثم يجمع عليه السلام الآيات الواردة في الشرك وأقسامه في القرآن فيقسمها إلى الشرك في العقيدة، والشرك في العمل، والشرك في الطاعة، وشرك الرياء، ويوضح كلًا منها بذكر الآيات القرآنية «1».
وكما تلاحظ فإنّ الإمام عليه السلام بتقسيمه لآيات الكفر والشرك يلقي نظرة كلية على هذا الموضوع، ويوضح بأنّ لهذين المصطلحين مفهوماً واسعاً شاملًا، فالكفر يشمل كل اخفاء للحق سواء كان في العقائد أو في العمل أو في المواهب الإلهيّة، والشرك يعني أن نجعل للَّه شريكاً أو نداً سواءً كان في العقائد أو في العمل أو الطاعة للقوانين، ويتضح جيداً بهذا العرض الجميل للتفسير الموضوعي في المثالين المذكورين لكلمات الإمام عليه السلام الدور الكبير لهذا التفسير في سعة ذهنية الإنسان والفهم العميق للآيات القرآنية.
والنموذج البديع الآخر ما ورد في كلام الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مع هشام بن الحكم.
فالإمام عليه السلام وفي مقام بيان منزلة العقل يذكر الآيات المرتبطة ب «اولي الألباب» ويجمعها كلها ويقول لهشام: «أنظر كيف أنّ اللَّه سبحانه وصف اولي الأَلباب على أحسن وجه وزينهم بأفضل لباس»، ثم يذكر سبع آيات من القرآن المجيد تتكلم عن منزلة اولي الألباب وهي (البقرة/ 269- آل عمران/ 7- آل عمران/ 9- المؤمن/ 54) «2».
فالقيام بجمع هذه الآيات والنظر اليها منضمة بعضها إلى البعض يعطي للإنسان رؤية عميقة يستطيع معها فهم معنى اولى الألباب ومقامهم ومنزلتهم، وهذا عمل لا يتمّ إلّاعن طريق التفسير الموضوعي.
هذه نماذج من اصول التفسير الموضوعي في كلمات قادة الإسلام العظام، النبي صلى الله عليه و آله وأئمّة الهدى عليهم السلام،
وهناك نماذج عديدةٌ اخرى لم نذكرها تجنباً للاطالة.
ج ج
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 69، ص 100- 120 (خلاصة الحديث).
(2). اصول الكافي، ج 1، ص 15 كتاب العقل والجهل.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 14
لم يكن التفسير الموضوعي متداولًا إلّافي فترات محدودة وحول موضوعات خاصة، إلّا أنّه ورد كثيراً على ألسنة العلماء السابقين، ولكن يجب الاعتراف بأننا لا نعرف أحداً منهم تناول التفسير الموضوعي في جميع المجالات.
ومن الروّاد الأوائل في هذا المضمار، العلّامة المجلسي قدس سره حيث نراه قد تصدى لجمع كل الآيات ذات العلاقة بالموضوع عند دخوله في كل فصل من فصول بحار الأنوار، ثم يلقي عليها نظرة شاملة وينقل أحياناً آراء المفسرين، ويسعى لتوضيح ما يذكره من الآيات.
فنرى مثلًا في الجزء 67 عندما يتكلم حول «القلب» والسمع» والبصر» ومعنى كلٍّ منها في القرآن الكريم، يجمع عشرات الآيات ثم يذكر رواية من الكافي ثم يقوم بذكر بيان جامع لها، فيستغرق بحثه في هذا المجال عشر صفحات تقريباً «1».
وفي الجزء 58 في باب حقيقة الرؤيا وتعبيرها يذكر أولًا أكثر من عشر آيات من القرآن حول هذا الموضوع ثم يبحث في تفسيرها عدة صفحات «2».
وفي الجزء 22 في الباب الأول يبحث عن ما جرى لليهود والنصارى والمشركين بعد الهجرة، فيذكر عشرات الآيات من مختلف السور حول هذا الموضوع ثم يقوم بتفسيرها «3».
وقد اتبع هذا المحقق العظيم نفس الاسلوب في الفصول الاخرى من الكتاب.
ومن الأمثلة الاخرى للتفسير الموضوعي في كلمات المتقدمين، الكتب المؤلفة تحت عنوان آيات الأحكام، ففي هذه الكتب ذكرت الآيات المتعلقة بالأحكام الفقهية، مثل الآيات التي لها ارتباط بأجزاء وشروط الصلاة وأقسام وشروط الصوم، والحج والنكاح والطلاق وأحكام الحدود والديات والقضاء وغيرها، حيث جمعت الآيات وتمّ بحثها على نحو
موضوعي بالاستعانة ببعضها الآخر.
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 67، ص 27 إلى 43.
(2). المصدر السابق، ج 58، ص 151 إلى 158.
(3). المصدر السابق، ج 22، ص 1 إلى 62.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 15
ويبدو أنّ أوّل كتاب أُلّفَ في هذا المجال هو كتاب (أحكام القرآن) تأليف (محمد بن صاحب الكلبي)، وهو من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والمتوفى سنة 146 ه فهو سابق حتى للشافعي الإمام المعروف المتوفى سنة 204 ه بتأليف كتاب في هذا المجال.
وبعده تصدى العديد من الفقهاء والعلماء لتأليف الكتب في مجال آيات الأحكام (تارة بهذا الاسم وتارة بأسماء اخرى وقد ذكر المرحوم المحدّث الطهراني في كتاب «الذريعة» ثلاثين كتاباً من هذه السلسلة «1»، واشهرها بين العلماء والفقهاء المعاصرين كتاب آيات الأحكام للمحقّق الأردبيلي قدس سره المسمى «زبدة البيان»، وآيات الأحكام للفاضل المقداد المسمى (كنز العرفان).
وجاء في الكتاب الأخير أنّ مِن المشهور بين العلماء أنّه توجد خمسمائة آية في القرآن المجيد حول الأحكام الفقهية، إذا أخذنا في الحسبان الآيات المتكررة في هذا المجال وإلّا فالعدد أقل من ذلك «2».
وقد كُتب في هذا المجال كتاب «إعجاز القرآن في العلوم المعاصرة» وفيه الآيات ذات العلاقة بالاكتشافات العلمية المعاصرة، والتي تعدّ من المعجزات العلمية للقرآن، وكتاب «المجتمع والتاريخ» و «الحقوق في القرآن المجيد»، وكلها تعبير عن السعي المستمر في التأليف في حقل التفسير الموضوعي.
كما ألفت كتب حول قصص القرآن تمّ فيها توضيح الوقائع الواردة في قصص الأنبياء بواسطة جمع آيات القرآن.
ولكن مع هذا يجب الإذعان بأن كل هذه المحاولات ناظرة للتفسير الموضوعي في مجال معين وزاوية محددة، وهى ليست بصدد تفسير جامع وشامل لكل موضوعات القرآن، وفي الفترة الأخيرة بذلت محاولات وجهود لتفسير
القرآن تفسيراً موضوعياً واسعاً، وهذه الجهود تستحق كل تقدير.
______________________________
(1). الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 1، ص 40- 44.
(2). كنز العرفان، ج 1، ص 5.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 16
ومن جملة هذه الكتب يمكن ذكر كتاب «مفاهيم القرآن» وقد صدر عدد من أجزائه بالفارسية والعربية وهو كتاب قيِّم.
ولكن مع هذه المساعي التي تستحق التقدير يجب الاعتراف بأَنَّ مسألة التفسير الموضوعي للقرآن لا زالت في مرحلة البداية، وتحتاج إلى زمان كي تحتل المكانة المناسبة لها كالتفسير الترتيبي، وهذا لا يتم إلّابالسعي المستمر الدائب للعلماء والمفسرين، وبالاستفادة من تجارب الماضين وتنميتها وايصالها إلى درجة الكمال المطلوب.
وما تراه في هذا الكتاب هو حلقة من هذه السلسة التي نأمل لها أن تنضمَّ إلى الحلقات المعتبره الاخرى والمهم أن يتجنب أصحاب النظر والمعرفة الأعمال المكررة في هذا المجال، وأن يبادر كل منهم إلى الإبداع والتجديد حتى نتمكن تحت ظل هذه الإبداعات أن نطوي هذا الطريق الطويل.
يوجد اسلوبان للتفسير الموضوعي:
الاسلوب الأول: الذي اختاره بعض المفسرين في عملهم، وهو أنّهم يتناولون المواضيع المختلفة كالموضوعات العقائدية (التوحيد والمعاد و ..) والموضوعات الأخلاقية (التقوى حسن الخلق و ...)، وبعد ذكر بحوث فلسفية وكلامية أو أخلاقية يذكرون بعض الآيات القرآنية المرتبطة بالموضوع بعنوان الشاهد على ذلك.
الاسلوب الثاني: وهو الذي يتمّ فيه قبل كل شي ء جمع الآيات الواردة حول الموضوع من جميع أجزاء القرآن، وقبل أيّ حكم أو ابداء نظر يتمّ جمع الآيات وتفسيرها مجتمعة، وبجمعها وملاحظة العلاقة فيما بينها نحصل منها على الصورة الكاملة.
وهنا لا يملك المفسّر شيئاً من عنده مطلقاً، ويسير كالظل خلف آيات القرآن فيفهم كل شي ء من القرآن، ويكون كل همّه كشف محتوى الآيات، وإذا أراد الإِستعانة بآراء الآخرين
نفحات القرآن، ج 1، ص:
17
بل حتى بالأحاديث، فذلك في المرحلة الثانية وبصورة مستقلة.
وقد إخترنا هذا الاسلوب في (نفحات القرآن) حيث جمعنا كل الآيات الواردة في كل موضوع وجعلناها في مقدمة كل بحث، وجعلنا كل مسائل البحث تسير تحت ظل الآيات، ونعتقد أن هذا هو السبيل الأمثل لإيصالنا إلى حقائق القرآن.
وهذان الاسلوبان متبعان في التفسير المعتاد (التفسير الترتيبي حسب السور والآيات) فجماعة يحملون آيات القرآن على آرائهم وجماعة اخرى يجعلون آراءهم تابعة لآيات القرآن، ومن الواضح أنّ الاسلوب التفسيري الصحيح هو الثاني.
القرآن (نور وكتاب مبين) فهو يبين كل الحقائق المرتبطة بسيادة الإنسان: «قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . (المائدة/ 15)
يواجه المفسّر في طريقه ثلاث عقبات مهمّة.
1- ليس التفسير الموضوعي بأن تجعل فهارس الآيات أمامك وتجمع الآيات التي ورد فيها ذكر لكلمات المواضيع التي تريد البحث فيها، مثل الجهاد والتقوى لأنّ الكثير من الآيات تتكلم حول هذه المواضيع بدون أن تُذكر فيها كلمة التقوى أو الجهاد، ولا بأس هنا أن نذكر مثالًا واحداً، نحن نعلم أنّ اللَّه سبحانه «رحمن» و «رحيم» و «أرحم الراحمين» وهذا المعنى وارد، في الكثير من آيات القرآن، ولكن توجد آيات تبيّن هذه الحقيقة بدون استعمال مادة «رحم»، منها: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» «1». (النحل/ 61)
______________________________
(1). لابدّ من الإشارة إلى أنّ الآية الاولى تشير إلى ظلم الناس وفي الآية الثانية جاء بدل الظلم الاكتساب، ومن جمع الآيتين معا يظهر أنّ الكثير من الأعمال التي تصدر من الناس ليست خالية من نوع مِن أنواع الظلم.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 18
ونفس هذا المعنى مع اختلاف يسير ذكر في الآية 45 من سورة فاطر: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ
عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ».
هاتان الآيتان تشيران إلى رحمة اللَّه ولطفه المطلق على عباده من غير أن تُستعمل مادة (رحم) في الآيتين.
2- العقبة الاخرى التي تعترض التفسير الموضوعي مشكلة جمع الآيات وأخذ النتيجة منها، فهذه العملية تحتاج إلى دقة وظرافة وذوق ووعي كامل واحاطة تامّة بالآيات القرآنية والتفاسير، وعندما تكون الآيات المرتبطة بموضوع ما كثيرة ويكون لكل منها بعدٌ خاصٌ بها فإنّ الجمع سيكون أكثر تعقيداً.
مضافاً إلى ذلك فإنَّ التفسير الموضوعي لا يزال يخطو خطواته الاولى ولم يُبذل في هذا النطاق جهد وسعيٌ حثيث، وهذا يجعل الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً بالنسبة للمبتدئين ويختلف كثيراً عن التفسير المعتاد المتّبع منذ نزول القرآن.
3- العقبة الكبيرة الثالثة: إنّ موضوعات القرآن الكريم، هذا الكتاب الإلهي العظيم لا حدّ لها ولا حصر، ففيه المسائل العقائدية والعلمية، وفيه المسائل الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وآداب العشرة وأحكام الحرب والسلم وتاريخ الأنبياء وامور الكون و .. الخ.
وفي كل واحدة من هذه الامور موضوعات كثيرة بحثها القرآن، ومناقشة كل هذه المسائل تحتاج إلى وقت طويل وصدر واسع.
وأحياناً تبحث الآية الواحدة في التفسير الموضوعي أبحاثاً عديدة من جهات مختلفة، وفي كل بُعد من أبعادها يجب بحث فصل خاص به، في حين تفسر الآية في التفسير الترتيبي تفسيراً واحداً فقط.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 19
يبدو أنّ جواب هذا السؤال قد اتّضح من الأبحاث السابقة، فالمشكلات الكثيرة التي تواجه التفسير الموضوعي، قد منعت من تطوره خاصة، وأنّ التفسير الموضوعي يحتاج إلى معاجم دقيقة وجامعة بحيث يمكن استخراج الآية منها بسهولة ولم تكن توجد في السابق، ولكنها اليوم بحمد اللَّه في متناول الأيدي.
ومن الطريف ما جاء في مقدمة المعجم القرآني المعروف ب «المعجم المفهرس لألفاظِ القرآن الكريم» حيث قال:
(إنّ المتقدمين اهتموا كثيراً بالعلوم القرآنية ولكن لم يهتموا باعداد معجم دقيق لتعيين آيات القرآن، والسبب في ذلك أنّ أغلبهم كان من حفظة القرآن)!
ولا نعلم مدى صحة هذا الرأى، ولو افترضنا كون الإنسان حافظاً للقرآن فهذا لا يجعله مستغنياً عن المعجم، الذي هو وسيلة لابدّ منها من أجل تسهيل عملية التفسير الموضوعي (وإن كانت بوحدها ليست كافية)، وهذا العمل لم يتم في السابق إلّابنحو ناقص ودون الطموح أحياناً.
ولابدّ من الإشارة إلى مسألة هنا وهي أن جمعاً من المفكرين الغربيين والأجانب المحبين للقرآن المجيد بذلوا جهوداً من أجل إعداد معاجم لهذا الكتاب السماوي ومن نماذجها المعتبرة كتاب «نجوم الفرقان في اطراف القرآن» إعداد المستشرق الالماني «فلوگل» وتأليفات اخرى قام بها المسلمون مثل «مفتاح كنوز القرآن» وكتاب «فتح الرحمن».
وبناءً على ما ورد في مقدمة «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» فإنّ هؤلاء هم الذين مكنوا المؤلف من إعداد هذا المعجم الغني البديع وجعلهِ في متناول أيدي علماء الإسلام.
وآخر ما نقوله هنا هو أنّه على الرغم من جميع المشكلات والمعوقات الموجودة في طريق التفسير الموضوعي، فإنّ بركاته ومعطياته كثيرة وبنفس النسبة وخاصة بالنسبة للعلماء والمحققين، حيث تنكشف لهم في ضوئه الحقائق التي تزيدهم إيماناً وقوة ونشاطاً
نفحات القرآن، ج 1، ص: 20
لمواصلة العمل، وتؤجج في قلوبهم نار الشوق والمحبة حيث إنّ مَثَل الآية القرآنية عندما تتحدث حول موضوع ما لوحدها، كمثل النقطة التي إذا اجتمعت مع نقاط اخرى ورتبت كونت شكلًا جذاباً وصورة بديعة لم تكن موجودة من قبل، وهذا أمر مهمّ جدّاً ويبعث على النشاط والاشتياق، وكما ذكرنا فإنّ النبي صلى الله عليه و آله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، أرشدونا منذ البداية إلى التفسيرالموضوعي ووردت في كلامهم نماذج مختلفة
جميلة وجذابة وقد أشرنا إلى البعض منها.
ج ج
وحيث ننتهي من هذه المقدّمة نجد أنفسنا أمام هذا العمل العظيم المملوء بالمصاعب، ولا ريب في أننا لا نستطيع- اعتماداً على أنفسنا- أن نحمل هذه الأمانة ونوصلها إلى الهدف إلّابلطف اللَّه وعونه وعنايته، ونحن هنا بكامل وجودنا نتوجه إلى اللَّه سبحانه وتعالى ونمد إليه أيدينا قائلين.
إلهنا! خذ بأيدينا في هذا الطريق، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، احفظنا في هذا الطريق الكثير المزالق من السقوط في وادي الضلالة، وتفضل علينا بالتوفيق لإتمام هذا العمل على النحو الأحسن.
آمين يا رب العالمين
قم- الحوزة العلمية- ناصر مكارم الشيرازي
26/ محرم الحرام/ 1408 ه
نفحات القرآن، ج 1، ص: 21
علّمنا القرآن الكريم في بداية كل سورة (عدا سورة التوبة) وفي آيات كثيرة اخرى أن نبدأ عملنا باسم اللَّه وأن نعطّر أجواء قلوبنا وأرواحنا بطيب اسمه.
باسم «اللَّه» وهو الجامع للصفات الكمالية.
باسم «الرحمن» و «الرحيم».
باسمه الذي هوعلى كل شي ء قدير.
باسمه الذي هو بكل شي ء عليم.
إنّ هذا الاسم المقدّس ينوّر القلب ويهب للروح الصفاء والقوة والنشاط.
ذِكر رحمته الخاصّة والعامّة تبعث في الإنسان عالماً من الأمل.
ذكر قدرته وجبروته يبعث في الإنسان الجرأة لمواجهة المصاعب.
ذكر علمه واحاطته بكلِّ فرد وبكل شي ء يُطمئِنُ الإنسان بأنّه ليس لوحده.
فإذا بدأنا عملنا بهذه الروح فاننا سنصل إلى الغاية المطلوبة بلا شك، وكل سعي وجهاد يبذل وفق هذا المنهج فسوف تكون نتيجته الموفقية والفلاح.
لذلك فقد ارتأينا أن أفضل ما نبدأ به بحثنا في هذا الكتاب هو موضوع (بداية كل عمل باسم اللَّه).
فنبدأ أولًا بمناقشة الآيات ذات العلاقة بهذا المعنى ثم نقوم بعملية التفسير والجمع، وفي المرحلة الأخيرة نذكر بحوثاً مكملة تحت عنوان «توضيحات» وسنواصل اتباع هذا الأسلوب بالترتيب المذكور إلى آخر الكتاب
إن شاء اللَّه.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 22
الآيات:
1- «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . (كل سور القرآن عدا سورة براءة)
2- «إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ . (العلق/ 1)
3- «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحيمٌ . (هود/ 41)
4- «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى الْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ* انّهُ مِنْ سُلَيَمانَ وَانَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ . (النمل/ 29- 31)
ج ج
«الاسم»: يعتقد الكثير من علماء اللغة أنّ هذه الكلمة في الأصل مشتقة من مادة «سمو» (على وزن علو) بمعنى الارتفاع، وحيث إنّ التسمية سبب للمعرفة والظهور وعلو المنزلة لكل شي ء استخدمت كلمة اسم في هذا المعنى «1».
«الرحمن» و «الرحيم»: كلمتان مشتقتان من مادة «رحمة» والمعروف أنّ (الرحمن) يعني ذو الرحمة العامة الشاملة للجميع، و (الرحيم) يوصف بها ذو الرحمة الخاصة، وعلى هذا رحمانية اللَّه جعلت فيضه ونعمته شاملة للعدو والصديق والمؤمن والكافر، ولكن رحيميته أوجبت للمؤمنين مواهب خاصة في الدنيا والآخرة في حين أنّ هذه المواهب محرّمة على الغافلين والبعيدين عن اللَّه.
والشاهد على هذا الاختلاف ما يلي:
1- «الرحمن» صيغة مبالغة والرحيم صفة مشبهة، وصيغة المبالغة تفيد معنى التأكيد
______________________________
(1). البعض يرى أنّ الاسم من مادة (وَسْم) بمعنى (العلامة) ولكن يبدو أنّ هذا غير تام لأنّ جمعه على هيئة أسماء وتصغيره ب (سُمّي) و (سمّيه) يدل على عدم وجود (الواو) في أصله والبعض يعتبره مشتقاً من كلمة (شما) وهي اصطلاح عبري وعند التعريب صارت بهيئة اسم وسماء (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) ولكن هذا مستبعد أيضاً ولا شاهد عليه، والشاهد الآخر على عدم كون الاسم مشتقاً من مادة (وسم) أنّ الهمزة في اسم تسقط عند وصل الكلام ولو كانت من مادة
(وسم) فالهمزة بدلًا عن الواو ولا ينبغي أن تسقط.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 23
بنحو أكثر وتدل على سعة هذه الرحمة، ولكن البعض يرى أنّ كليهما صفة مشبهة أو أنّ كليهما صفة مبالغة، ولكن مع ذلك صرحوا بأنّ الرحمن تفيد معنى المبالغة الكثيرة «1».
2- وقال البعض: إنّ الرحيم صفة مشبهة وتُفيد الإستمرار والثبات، لذلك هي مختصة بالمؤمنين، لكن الرحمن صيغة مبالغة ولا تدل على المعنى المذكور.
3- «الرحمن» اسم خاص باللَّه ولا يطلق على غيره، في حين أنّ الرحيم يقال للَّه ولغيره، وهذا دليل على أنّ مفهوم الرحمن يدل على رحمة أوسع.
4- هناك قاعدة معروفة في الآدب العربي وهي: (زيادة المباني تدل على زيادة المعاني)، يعني أنّ الكلمة التي حروفها أكثر فإنّ مفهومها يكون أكبر وحيث إنّ (رحمن) خمسة أحرف و (رحيم) أربعة أحرف فمفهوم (رحمن) أوسع «2».
5- كما أنّ البعض استفاد هذا المعنى من آيات القرآن حيث إنَ (الرَّحمن)، ذكر غالباً بنحو مطلق، في حين أنّ (رحيم) ذكر مقيداً في كثير من الموارد، مثلًا، قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ . (البقرة/ 143)
وقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً». (النساء/ 29)
أمّا الرحمن فذكر من غير قيود فهو يدل على عموم رحمته.
6- وتشهد بعض الروايات على هذا الاختلاف، ففي حديث ذي مغزى ومعانٍ عن الإمام الصادق عليه السلام نقرأ: «الرحمن اسمٌ خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة» «3».
ولكن مع هذا لا يمكن أن ننفي استخدام الكلمتين في معنى واحد، كما ورد في دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة: «يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما» ويمكن أن يعدّ هذا استثناءً فلا ينافي الاختلاف المذكور.
«مجراها» و «مرساها»: كلتا الكلمتين اسم زمان أو اسم مكان بمعنى مكان الحركة
______________________________
(1).
راجع تفاسير مجمع البيان وروح المعاني والميزان، ج 1، ص 20 و 55 و 16 على التوالي.
(2). تفسير شبرّ، ص 38؛ روح المعاني، ج 1، ص 56.
(3). تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 21.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 24
وزمانها، أو مكان التوقف وزمانه «1».
الاولى مشتقة من مادة (جريان) والثانية من مادة (رسو) على وزن (رَسم) بمعنى الثبات والاستقرار، لذلك يقال للجبال (الرواسي) جمع (راسية) لأنّها ثابتة ومستقرة.
في الآية الاولى (بسم اللَّه الرحمن الرحيم) التي تصدرت كل سور القرآن (ما عدا سورة براءة) يعني نعلمكم أن تبدأوا عملكم باسم اللَّه الرحمن الرحيم وتستعينوا به في أداء عملكم وتنفيذ خططكم «2».
إنّ أعمالنا مهما تكن فهي فانية زائلة وصغيرة محدودة، أمّا عندما ترتبط بالذات القدسية الباقية الخالدة التي لا حدّ لها ولا نهاية، فانّها ستصطبغ بصبغته وتستلهم من عظمته وازليته.
قدراتنا مهما تكن فهي ضعيفة لا تمثل إلّاقطرة في بحر، لكن عندما ترتبط تلك القطرات بالبحار العظيمة للقدرة الإلهيّة فانّها ستجد العظمة وتكتسب روحاً جديدة وهذا كله سرُ بسم اللَّه في بداية كل عمل.
ج ج
في الآية الثانية كلام عن خطاب جبرئيل الأمين في بداية البعثة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما احتضن النبي وضمه وقال: «إِقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ .
وبهذا فقد بدأ جبرئيل منهاج رسالته عند بعثة النبي صلى الله عليه و آله باسم اللَّه.
ج ج
______________________________
(1). قال بعض المفسرين إنّها اسم زمان فقط كما في (مجمع البيان) والبعض اعتبرها اسم مكان فقط كما في (الميزان) والبعض اعتبرها اسم زمان ومكان كما في (تفسير شبّر).
(2). البعض يعتقد أنّ هناك جملة محذوفة وهي (ابتدي ء)، والبعض قال هي (استعينُ)، نعم في صورة كون الجملة عن اللَّه سبحانه (كما في جميع السور
عدا الحمد) فحينئذ يتعيّن المعنى الأول ولكن في خصوص سورة الحمد حيث إنّ الجمله تعبير عن لسان العباد فيكون فيها المعنى الأول أو الثاني أو كلاهما وعلى هذا فإنّ (ب) في بسم اللَّه إمّا بمعنى الاستعانه أو بمعنى الإِبتداء (تأمل جيداً).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 25
الآية الثالثة تتحدث عن قصّه نوح عندما حلت لحظة الطوفان والجزاء الإلهي الشديد على قومه الكفرة والطغاة، وعندما استعدت السفينة للحركة وصدر الأمر لأصحاب نوح الذين لم يتجاوز عددهم الثمانين بأن يركبوا في الفلك قال (بسم اللَّه مجريها ومرسها) ثم استعان بمغفرة اللَّه ورحمته وقال: «إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .
ج ج
وفي الآية الأخيرة كلام عن كتاب سليمان إلى ملكة سبأ بعد أن أخبره الهدهد عن قوم سبأ وعبادتهم للاصنام.
وعندما تناولت ملكة سبأ الكتاب جمعت أعوانها وافراد البلاط وقالت: «يَا أَيُّهَا المَلَؤُا إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ* إِنَّهُ مِنْ سُلَيَمانَ وانَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ .
ج ج
من مجموع الآيات الأربع المذكورة ندرك جيداً أنّ ابتداء كل عمل يجب أن يكون ب (بسم اللَّه)، سواء كان في التعليم والهداية مثل سور القرآن أو كان دعاءً من العباد مع الذات القدسية مثل سورة الفاتحة، أو بداية البعثة والرسالة وأول نداء للوحي مثل بداية سورة العلق، أو أنّه بداية الحركة للنجاة من الأخطار والطوفان وبداية توقف السفينة والنزول منها للابتداء بالمنهج الجديد كما في قصة نوح، أو ابتداء الكتاب المرسل من أجل الدعوة للتسليم إلى الحق كما في كتاب سليمان لملكة سبأ.
وخلاصة الكلام أنّ العمل سواء كان من اللَّه سبحانه أو من الخلق أو من جبرئيل أو من الأنبياء مثل نوح وسليمان أو من عامة الأفراد، يجب أن يبدأ ب (بسم اللَّه)
ويرتبط بالذات المقدَّسة ويستمد منه القوّة والعلم والإدراك.
وهذا هو معنى الحديث المعروف للنبي صلى الله عليه و آله: «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم اللَّه فهو ابتر» «1».
______________________________
(1). سفينة البحار، ج 1 مادة (سما).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 26
والأمر الذي ينبغي ملاحظته أنّ الصفات التي ذكرت بعد بسم اللَّه في الآيات المذكورة تناسب العمل الذي بدأ ب (بسم اللَّه) ففي قصة نوح جاء ذكر (غفور رحيم) وهو إشارة شمول الرحمة الإلهيّة لأصحاب نوح، وفي قصة نزول أول آية جاء ذكر صفة الربوبية والخالقية ونحن نعلم أنّ مسألة الوحي بداية لعمل تربوي وعلى هذا فإنّ التربية التشريعية تقترن بالتربية التكوينية.
وبهذا نعلمُ أنّ الاستفادة من ذكر الصفات المناسبة هو بمثابة درس للجميع حول كيفية ابتداء أعمالهم ب (بسم اللَّه).
ج ج
نلمس في الروايات الإسلامية أهميّة كبيرة لهذه الآية المباركة وأنّها في درجة (اسم اللَّه الأعظم)، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللَّه الأعظم من ناظر العين إلى بياضها» «1».
وفي حديث آخر عن الإمام الرضا عليه السلام: «أقرب من سواد العين إلى بياضها» «2».
إنّ ل (بسم اللَّه) أهميّة بالغة إلى درجة بحيث أنّ بعض الروايات ذكرت أنّ في تركها تعريض النفس للعقاب الإلهي، كما ورد في رواية أنّ عبداللَّه بن يحيى دخل في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام وكان أمامه سرير فأمره الإمام أن يجلس عليه فتحطم السرير فجأة ووقع عبداللَّه على الأرض وجرح رأسه وخرج منه الدم فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بماء فغسلوا الدم ثم وضع الأمير يده على الجرح فأحس عبد اللَّه بألم شديد في أوّل الأمر ثم بري ء جرحه فقال الإمام عليه السلام: «الحمد
للَّه الذي يغسل ذنوب شيعتنا ويطهرها بالحوادث المؤلمة».
______________________________
(1). تفسير البرهان، ج 1، ص 41، ح 2.
(2). المصدر السابق، ح 9.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 27
فقال عبد اللَّه: يا أمير المؤمنين لقد نبهتني، أخبرني أي ذنب ارتكبته حتى أصاب بهذا الحادث المؤلم كي لا أعود إلى ذنبي فإنّ ذلك يسعدني.
فقال عليه السلام: «عندما جلست على السرير لم تقل: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم) ألم تعلم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال عن لسان ربِّه: (إنّ كل عمل ذي بال لم يبدأ فيه ببسم اللَّه فهو أبتر ولا ثمرة فيه)».
فقال عبد اللَّه: فديتك لا أدعها بعد هذا أبداً.
فقال الإمام عليه السلام: «إذن ستكون سعيداً» «1».
ولكن من الواضح أنّ الاسم الأعظم أو بسم اللَّه الذي هو أقرب ما يكون إليه ليس المقصود منه جريان ألفاظه على اللسان، فالتلفظ لوحده لا يحل العقد المستعصية ولا يفتح أبواب الخيرات والبركات ولا ينتظم به شتات الأمور، بل المراد هو التخلق به.
يعني أنّ مفهوم بسم اللَّه يجب أن يذوب في روح الإنسان وباطنه، وعندما يتلفظ بها بلسانه يشعر أنّ كامل دقائق وجوده قد دخل في الحِمى الإلهيّة وصار من أعماق وجوده يستمد من ذاته المقدّسة.
وينبغي الانتباه إلى أنّ التأكيد على الابتداء ببسم اللَّه ليس فقط في الكلام وإنّما في الكتابة أيضاً كما في كتاب سليمان عليه السلام إلى بلقيس.
في حديث الإمام الصادق عليه السلام: «لا تدع البسملة ولو كتبت شعراً» ثم ذكر الإمام عليه السلام أنّهم كانوا يبدأون رسائلهم قبل الإسلام بعبارة (بسمك اللهم).
ولما نزلت الآية الكريمة «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وإِنَّه بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، بدأوا رسائلهم بعبارة (بسم اللَّه).
وفي حديث آخر نقرأ أنّ الإمام الهادي عليه السلام وصى أحد وكلائه
وهو داود الصرّمي الذي قال: أمرني عليه السلام بحوائج كثيرة فقال لي: قل كيف تقول؟، فلم أحفظ مثل ما قال لي، فمدّ الدواة وكتب «بسم اللَّه الرحمن الرحيم اذكر إن شاء اللَّه والأمر بيد اللَّه، فتبسمت، فقال: «ما
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 73، ص 305 مع التلخيص.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 28
لك» قلت خير. فقال: «أخبرني». قلت: جعلت فداك ذكرت حديثاً حدثني به رجل من أصحابنا عن جدك الرضا (عليه السلام) إذا مرّ بحاجة كتب: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم اذكر إن شاء اللَّه فتبسمت، فقال لي: «يا داود لو قلت إنّ تارك التسمية كتارك الصلاة لكنت صادقاً» «1».
إنّ لبسم اللَّه أهميّة بالغة وعظيمة بحيث نقرأ في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذا قال المعلّم للصبي بسم اللَّه الرحمن الرحيم (ويكرر الطفل ذلك) كتب اللَّه براءة للصبي وبراءة لأبيه وبراءة للمعلِّم» «2».
ونختم هذا الكلام، بمقالة مشهورة بين جماعة من المفسرين وهي:
إنَّ معاني كل الكتب الإلهيّة مجموعة في القرآن.
ومعاني كل القرآن مجموعة في سورة الحمد.
ومعاني كل سورة الحمد في بسم اللَّه.
ومعاني بسم اللَّه مجموعة في الباء «3».
وتمركز جميع مفاهيم القرآن والكتب الإلهيّة في باء بسم اللَّه يمكن أن يكون لكون أن كل المخلوقات في عالم التكوين، وكل التعليمات في عالم التشريع تستمد وجودها من الذات المقدّسة حيث إنّها علة العلل لجميع الكائنات، ونعلم أن باء بسم اللَّه هي الوسيلة للاستعانة وطلب النصرة من اللَّه وهذه مسألة جديرة بالدقة والتأمل.
لم يعدّ المفسرون وعلماء العلوم القرآنية البسملة من آيات السور عند حسابهم للآيات القرآنيه إلّافي سورة الفاتحة، التي أجمع الفقهاء واتفقوا على أنّ البسمله جزء منها ولذلك
______________________________
(1). سفينة البحار، ج 1، ص 663،
مادة (سما).
(2). تفسير البرهان، ج 1، ص 43، ح 32.
(3). تفسير روح المعاني، ج 1، ص 37.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 29
فقد ذكروا أنّ آياتها سبع ومنها البسملة.
وكذلك فإنَّ أحد الأسماء المعروفة لهذه السورة هو «السبع المثانى» لأنّها سبع آيات «مثاني»، لأنّها نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مرتين نظراً لاهميّتها.
ولكن مع هذا فإنّ كتابة البسملة في جميع المصاحف القديمة والجديدة دليل قاطع على جزئيتها للسور.
روى عن عبد اللَّه بن عمر، أنّه كان إذا بدأ الصلاة بعد التكبير قرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم، وكان يقول إذا لم تقرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم فلماذا كتبت في القرآن؟! «1».
واورد السيوطي في المجلد الأول في تفسيره الدر المنثور وهو عالم معروف من أهل السنة روايات كثيرة حول جزئية بسم اللَّه لسورة الحمد.
وهناك روايات كثيرة من طرق أئمّة الهدى وأهل البيت عليهم السلام وردت في جزئية بسم اللَّه لسورة الفاتحة ولبقية سور القرآن الكريم، لذلك فإنّ علماء الشيعة متفقون ومجمعون على جزئيتها في جميع الموارد «2».
ونذكر مثالًا على الأحاديث الواردة من طرق أهل السنة ما ورد عن «جابر بن عبد اللَّه» أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال له: «إذا قمت للصلاة فكيف تقرأ؟» فقال جابر: أقول الحمد للَّه ربّ العالمين (أي بدون بسم اللَّه) فقال له النبي صلى الله عليه و آله قل: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» «3».
ومن أجل رفع سوء الفهم والتوهم أصرَّ النبي صلى الله عليه و آله أن يجهر بالبسملة في كثير من الصلوات، تقول عائشة: «ان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم» «4».
وفي حديث آخر يقول أحد أصحاب النبي صلى الله عليه و آله: كنت
اصلّي خلف النبي صلى الله عليه و آله وكان
______________________________
(1). سنن البيهقي، ج 2، ص 43- 47.
(2). راجع كتب الخلاف للشيخ الطوسي، ج 1، ص 102 مسألة 82؛ سنن البيهقي، ج 2، ص 44- 45- 46؛ تفسير در المنثور، ج 1، ص 7- 8؛ البيان في تفسير القرآن، ص 552.
(3). تفسير در المنثور، ج 1، ص 8.
(4). المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 30
يجهر ببسم اللَّه في صلوات المغرب والعشاء والصبح وصلوة الجمعة خاصة «1».
والملفت للنظر ما رواه البيهقي من أنّ معاوية صلى بأهل المدينة فتلا: بسم اللَّه الرحمن الرحيم في أوّل سورة الحمد، ولكن لم يقرأ بسم اللَّه للسورة التي بعدها ولم يكبر حتى ذهب للركوع، فعندما سلّم للصلاة اعترض عليه جماعة من المهاجرين وقالوا: أسرقت من الصلاة أم نسيت؟ فكان معاوية بعد ذلك يقرأ بسم اللَّه للسورة بعد الحمد أيضاً «2».
ولكن مع ذلك فإنّ جماعة من علماء السنة لا زالوا يتركون البسملة في الصلاة وحتى في سورة الحمد أو يقرأونها اخفاتاً!، ومما يلفت النظر أنّ الفخر الرازي ذكر في تفسيره تسعة عشر دليلًا على إثبات أنّ بسم اللَّه الرحمن الرحيم جزء من سورة الحمد وأكثرها روايات عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.
الآلوسي مفسّر القرآن المعروف ناقش هذه الادلة في تفسيره (روح البيان)، ولكنه يصرّح بأنّ البسملة آية مستقلة في القرآن وإن كانت ليست جزءً من سورة الحمد «3»!
فهو يعترف بأنّ البسملة جزء من القرآن، لكن لا نعلم لماذا يصر على أنّها آية مستقلة وليست جزءً من سورة الحمد؟
ومهما كان فلا يخفى أنّ البسملة موجودة في جميع المصاحف طوال التاريخ الإسلامي في بداية جميع السور إلّاسورة البراءة، ومن المسلَّم أنّ هذا بأمر من
النبي صلى الله عليه و آله ولا يمكن أن نعقل أنّ النبي صلى الله عليه و آله أمر أن يكتب في القرآن شي ء ليس منه، وعلى هذا فلا حجّة لنا إذا فصلنا البسملة من السور لأنّ هذا نوع من أنواع التحريف للقرآن الكريم.
ولهذا يقول الإمام الباقر عليه السلام في مثل هؤلاء: «سرقوا أكرم آيةٍ في كتاب اللَّه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم» «4».
______________________________
(1) تفسير در المنثور، ج 1، ص 8.
(2) ذكر «الحاكم» هذه الرواية في المستدرك، ج 1 ص 233 واعتدَّ بسندها، وورد نفس هذا المضمون بتفاوت ضئيل في تفسير درالمنثور، ج 1، ص 8؛ وتفسير روح المعاني، ج 1، ص 39.
(3) تفسير روح المعاني، ج 1، ص 37.
(4) تفسير البرهان، ج 1، ص 42، ح 15.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 31
ويضيف الإمام الصادق عليه السلام: «ما لهم قاتلهم اللَّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللَّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها وهي بسم اللَّه الرحمن الرحيم» «1»!
ولهذا فقد ورد عن الأئمّة عليهم السلام الاصرار على الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم خاصة وفي جميع الصلوات الليلية والنهارية لأجل القضاء على هذه البدعة الموروثة.
وخلاصة الكلام أنّ أهميّة البسملة بين آيات القرآن أوضح من أن تحتاج إلى البحث ولذلك يجب أن نعطيها أهميّة كبيرة، ومن المؤسف أنّ البعض من فاقدى الذوق السليم وخشية من أن تقع كتاباتهم بأيدي الأفراد غير المتوضئين أو أن تُداس بالأقدام أو تقع في الأزقة والأسواق، يمتنعون من كتابة البسملة في رسائلهم وكتاباتهم، ويضعون محلها عدداً من النقاط غافلين عن أنّ سيئة ترك بسم اللَّه أشدّ بكثيرٍ من هذه المساوي ء.
نحن مأمورون بأن نكتبها، وأن نسعى من أجْلِ المحافظة عليها واحترامها، وإذا لم يراع الآخرون الحرمة
اللازمة فلسنا مسؤولين عن أعمالهم، ولا ينبغي لنا أن نترك البسملة لهذا العذر لأنّ الضرر الذي يصيبنا سيكون أكبر.
لذلك ينقل لنا التاريخ أنّ أول سكة ضربت في الإسلام كانت في زمان «عبد الملك بن مروان» وبأمرٍ من الإمام الباقر عليه السلام وكتب على أحد وجهيها «لا اله إلّااللَّه» وعلى الوجه الآخر «محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله»، ومن الواضح أنّ هذه السكة تقع في أيدي عامة الناس حتى غير المسلمين الذين كانوا يعيشون في محيط الإسلام، فلم تكن مراعاة هذا الأمر مانعة من ضرب السكة والشعارات الإسلامية الحية ولا ينبغي لها أن تكون «2».
الجواب على هذا السؤال ورد صريحاً في حديث روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لم تُنَزَل بسم اللَّه الرحمن الرحيم على رأس «سورة براءة» لأنّ بسم اللَّه للأمان والرحمة، ونزلت
______________________________
(1) تفسير البرهان، ج 1، ص 42.
(2) تاريخ التمدن الاسلامي، جرجي زيدان، ج 1، ص 143.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 32
براءة لرفع الأمان وبالسيف» «1» يعني رفع الأمان عن الكفار الناكثين للعهود.
ويعتقد جماعة بان هذه السورة تتمة لسورة الأنفال لأنّ سورة الأنفال تتكلم عن العهود ولهذا لم يذكر بينهما «بسم اللَّه الرحمن الرحيم».
وهذا المعنى ذكر في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: «الأنفال والبراءة واحدة» «2».
واحتُمل أيضاً أنّ اللَّه سبحانه ومن أجل أن يبيّن حقيقة أنّ البسملة جزء في جميع سور القرآن لم يذكرها في بداية هذه السورة.
والجمع بين هذه الأقوال الثلاثة ممكن.
وهناك آيات متعدّدة حول البسملة في القرآن وخصوصاً في مورد ذبح الحيوانات، والكلام عنها ينبغي أن يكون في محل آخر.
إنّ القادر المطلق والرحيم الحقيقي هو الذات الإلهيّة المقدّسة سبحانه وتعالى.
وما عالم الوجود إلّامائدة من موائد احسانه، وكل ما لدنيا منه فيجب طلب الحاجة والعون منه والابتداء باسمه، والآيات المتعلقة «ببسم اللَّه» والروايات الواردة في هذا المجال كلها تؤكّد على هذا المعنى
ولهذا فإنّ الذين يقرنون مع اسم اللَّه اسم غيره كالطواغيت الذين يضعون أسماء السلاطين المتجبرين والمتكبرين إلى جنب اسمه سبحانه ويفتتحون بها ويبدأون بها، أو الأشخاص الذين يبدأون أعمالهم باسم (اللَّه) و «الشعب»، كل هؤلاء في الحقيقة مصابون بنوع من الشرك، وحتى اسم النبي صلى الله عليه و آله لا ينبغي أن يُقرن إلى جنب اسم اللَّه في هذا المجال فلا يقال بسم اللَّه ونبيّه.
ففي حديث ورد في تفسير الإمام الحسن العسكري
(عليه السلام): «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان
______________________________
(1). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 2 وهذا الحديث ذكره الفخر الرازي عن ابن عباس عن علي عليه السلام مع اختلاف يسير وقال عليه السلام هناك: لأنّ بسم اللَّه الرحمن الرحيم أمان وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود وليس فيها أمان.
(2). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 1.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 33
جالساً يوماً مع أمير المؤمنين على عليه السلام فسمعا شخصاً يقول «ماشاء اللَّه وشاء محمد» وآخر يقول «ما شاء اللَّه و شاء علي».
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لا تقرنوا محمداً ولا علياً باللَّه عزّ وجلّ».
ثم اضاف: «ولكن إذا أردتم فقولوا ما شاء اللَّه ثم شاء محمد، ما شاء اللَّه ثم شاء علي»، يعني اعلموا أنّ مشيئة اللَّه قاهرة وغالبة على كل شي ء فليس لها في الوجود من مساوٍ أو نظير أو قرين، وما محمد في دين اللَّه وأمام قدرة اللَّه إلّاكطير يحلِّق في فضاء هذا الكون الواسع وكذلك علي «1».
______________________________
(1) إثبات الهداة، ج 7، ص 482، ح 79 (مع قليل من التلخيص).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 35
إنَّ أول قضية تواجه الإنسان في ابحاثه العلمية هي قضية المعرفة، وأول أسئلة تنقدح في ذهن الإنسان هي:
1- هل هناك عالَم موجود خارج وجودنا أم أنّ ما نسمعه ليس إلّاكالرؤيا والأحلام التي نراها في منامنا وأنّ ما وراء الطبيعة ما هو إلّاوهم وخيال؟
2- إذا كان هناك عالم ما وراء الطبيعة فهل بامكاننا إدراكه ومعرفته؟
3- إذا وجد عالم في الخارج وأمكننا معرفته، فما هي الطرق التي يجب أن نسلكها للوصول إلى معرفته وما هي مصادر معرفته؟
هل أنّ طريق الاستدلالات العقلية كاف لذلك، أم عن
طريق التجربة والعلوم التجريبية الطبيعية؟
أم عن طريق الوحى أو بواسطة طرق اخرى وأيّ هذه الطرق أفضل وأكثر اعتماداً؟
4- أضف إلى ذلك ما هي الوسائل التي نستطيع بها معرفة العالم؟
5- وبعد قبول المسائل المذكورة يطرح هذا السؤال وهو: ما هي الأمور التي تؤدّي إلى تقوية وتوسيع مجالات وآفاق المعرفة عند الإنسان، وتجعل روحه وقلبه أكثر استعداداً لتلقي المعارف؟
وما هي الموانع والعقبات التي تقف حائلًا بين الإنسان والمعارف الحقيقية لعالم الوجود، وتجره إلى الحيرة والضلال؟
نفحات القرآن، ج 1، ص: 36
حول هذه المسألة الأُولى انقسم الفلاسفة إلى قسمين:
1- «الواقعيون» (رئاليسم).
2- «المشككون أو المثاليون أو التصوريون» (أيدياليسم).
والقسم الثاني في الواقع هم فرع من السوفسطائيين المنكرين للحقائق بل إنّ البعض يعتقد أنّ السوفسطائيين هم أنفسهم المثاليون الذين يعترفون بوجود أنفسهم وأذهانهم ويعتبرون ما سواه وهماً وخيالًا، وإلّا فكيف يمكن لعاقل أن ينكر كل شي ء حتى وجود نفسه إلّاأن يكون مصاباً بخلل عقلي.
وعلى أيّة حال فإنّ أفضل الطرق لإدراك ما وراء الطبيعة هو ايكال الأمر إلى الوجدان، الوجدان العام لكل الناس ولجميع العقلاء، بل حتى وجدان المثاليين أنفسهم شاهد على هذا المدّعى
لأنّ كل المخلوقات عندما تشعر بالعطش تقوم بالبحث عن الماء، فالعطش والماء وتأثير الماء في رفع العطش امور يدركها حتى الأطفال والحيوانات، والسوفسطائيون أيضاً لا يختلفون في عملهم عن الآخرين، فعندما يريد الإنسان أن يعبر شارعاً مزدحماً يقف جانب الشارع قبل كل شي ء وينظر يميناً وشمالًا، وينتظر حتى يخلو الشارع من السيّارات فيعبر الشارع مع الاحتياط، خشية أن تدهسه سيارة فيصاب بأذىً أو جراح.
هذا العمل يتساوى فيه الواقعيون والمثاليون فالكل يعترف بوجود الشارع والسيارات وخطر الدهس والاصطدام والأمور الاخرى، وكلهم يعبرون الشارع مع الحيطةِ والتحفظ.
وهكذا عندما يمرض الإنسان ويرى الآثار
غير العادية للمرض في نفسه، فيراجع الطبيب فيأمره الطبيب بان يجري له التحليل وبعد ذلك يكتب له الطبيب وصفة الدواء، ويحدد له الغذاء المناسب واوقات تناول الدواء والغذاء ومقاديره، فيرى المريض نفسه مكلفاً بأن يمتثل لهذه الأوامر كي يستعيد صحته السابقة.
وفي كل ذلك لا فرق بين الواقعيين والمثاليين، فالكل يستجيبُون للمرض بواسطة
نفحات القرآن، ج 1، ص: 37
ادراكهم الوجداني ويعترفون بالعشرات من الحقائق العينية، من آثار المرض إلى وجود الطب والطبيب والمختبرات والدواء والغذاء.
وبهذا الدليل نقول «ان المثاليين في الحقيقة واقعيون»!
وان المشككين عندما يردونَ ميدان الحياة يتناسون كلامهم ويرون أنفسهم امام الواقع العيني فيتعاملون معه وفق ما يقتضيه.
وقد أيّد القرآن الكريم في آياته الكريمة صحة هذا المعنى فكلّ آيات القرآن تخبر عن الحقائق والواقع العيني الخارجي، من سماوات وأرض وملائكة وبشر وعالم الطبيعة وما وراءه والدنيا والآخرة.
وإنّ هذا الأمر في القرآن بدرجة من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى بحث أكثر، لذلك ننهي هذه المسألة وننتقل إلى مسألة إمكان المعرفة «1».
ج ج
______________________________
(1). نؤكّد هنا مرّة اخرى بأنّ هدفنا في جميع مباحث هذا الكتاب ليس متابعة الآراء الفلسفية أو التاريخية أو ... بل هدفنا في الأصل التفسير الموضوعي يعني متابعة البحث من نظر القرآن ومدى انعكاس الموضوع في الآيات المختلفة ... وإذا وجدت ضرورة للبحوث الفلسفية وغيرها فسنفرد لها بحوثاً منفصلة بعنوان توضيحات في الخاتمة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 39
القرآن و ضرورة المعرفة
40 ملاحظة قرآنية حول أهميّة العلم والمعرفة
نفحات القرآن، ج 1، ص: 41
لم يعتبر القرآن الكريم مسألة معرفة الإنسان لماوراء الطبيعة أمراً ممكناً فحسب بل اعتبرها من أهم الضرورات.
فالقرآن يدعو إلى معرفة أسرار عالم الوجود وحل رموز الكون والمخلوقات، ويستخدم القرآن في دعوته لأتباعه- للتزود بالعلم- الأساليب الصريحة والظاهرة
المباشرة وغير المباشرة.
والبحث فيما صرح به القرآن في هذا المجال يفتح أمام أعيننا افقاً جديداً، ويرينا أنّ أمر المعرفة من الواجبات المؤكّدة وبمستوى عال جدّاً من الأهميّة.
والطريف: إنَّ هذه الدعوة قد جاءت في زمان ومكان كانت قد غطت الافق فيه سحب الجهل الظلماء، حقّاً إنّ عمق وسعة ماورد في القرآن يدل قبل كل شي ء على عظمة القرآن وصدق المبعوث به.
ومن أجل ذلك نطالع آيات القران ونبحث عن ماورد من تعابير مختلفة في هذا المجال.
هذه الدعوة لها وجوه متنوعة وبشكل كامل، وقد جمعنا (أربعين أنموذجاً) من الآيات المختلفة وكل واحد منها ينظر إلى هذه المسألة المصيرية من زاوية خاصة.
وفي الضمن ذكرنا في الحواشي الروايات المعتبرة المتناسبة مع الآيات، ليتضح التنسيق والسنخية الكاملة بين الكتاب والسنة.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 42
وردت في (27) آية من القرآن المجيد دعوة صريحة للتزود بالعلم، والاستفادة من جملة «اعلموا» إليكم نماذج منها:
1- «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . (البقرة/ 209)
2- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ . (البقرة/ 231)
3- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (البقرة/ 233)
4- «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا». (الحديد/ 17)
5- «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرونَ . (البقرة/ 203)
6- «فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . (المائده/ 92)
7- «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمتُم مِّنْ شَى ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ . (الأنفال/ 41)
8- «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ». (الحديد/ 20)
ج ج
الآيات الاولى والثانية والثالثة تنظر إلى الذات الإلهيّة المقدّسة وإلى صفاته الأعم من «صفات الذات» و «صفات الفعل».
الآية الرابعة تشير إلى الحياة والخلق.
الآية الخامسة تتحدث عن القيامة والحشر.
الآية السادسة تتكلم عن النبوة وسالة النبي صلى الله عليه و آله.
الآية السابعة تبين الأحكام العملية الإسلامية.
والآية الثامنة ترينا الوجه الحقيقي للدنيا
وتظهر لنا تفاهتها، كأسلوب للدعوة إلى الزهد والتقوى والنجاة من حُبّ الدنيا وما يترتب عليه من ذنوب.
وبهذا نستنتج أنّ كل ما يرتبط بالعقائد والأعمال ومنهج الحياة قد ورد مشفوعاً بكلمة (اعلموا) وهي تتضمّن دعوة للتسلّح بالوعي والمعرفة في كلّ هذه المجالات «1».
______________________________
(1). ورد أيضاً التأكيد الكثير في الروايات الإسلامية على طلب العلم، والحديث المعروف (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) المروي عن النبي صلى الله عليه و آله شاهد واضح على هذا المعنى، بحار الأنوار، ج 6، ص 117، والإمام الصادق عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل حال»، ج 2، ص 172.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 43
تارة يقول سبحانه: «أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ . (الأنعام/ 50)
وتارة يقول بعد بيان الآيات الإلهيّة المختلفة الأعم من التكوينية والتشريعية: «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . (البقرة/ 219) و (الاعراف/ 176)
وأحياناً يقول: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا». (الروم/ 8)
كل هذه الآيات تدلّ على ضرورة التفكر، وهذه الضرورة في التفكر تدلّ على إمكان المعرفة «1».
جاء في سورة التوبة:
«فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّيْنِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ . (التوبة/ 122)
هذه الآية الكريمة لا تؤكد على تعلّم الدين الإلهي فحسب بل تحث على تعليمه ونشره بعد تعلمه أيضاً.
والتعبير ب (نفر) تطلق على الخروج إلى ميدان الجهاد وقد استعمل في الآيات القرآنية الاخرى بهذا المعنى وعلى هذا فإنّ أفراد الأُمة الإسلامية في غير الحالات الضرورية لا يجوز لهم الخروج بأجمعهم إلى ساحة القتال، بل ينبغي على مجموعة منهم أنْ تبقى في المدينة لتتعلم الأحكام الإلهيّة وتعلّمها للآخرين بعد رجوعهم.
______________________________
(1). جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه و آله: «اغدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محبّاً ولا تكن الخامس» المحجة، ج 1، ص 22.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 44
والتفسير الآخر للآية هو: أنّ المسلمين يجب أن ينقسموا إلى قسمين: قسم يبقى في المدينة ليحافظ عليها، وقسم يذهب إلى ميدان الجهاد ليُشاهدَ آثار العظمة الإلهيّة والمعجزات والامدادات الغيبية والنصر الإلهي، ثم وبعد رجوعهم يُخبروا سائر الناس بذلك.
وهناك احتمال ثالث في تفسير الآية وهو ضرورة نفير بعض سكان ضواحي المدينة إليها ليتفقهوا في أحكام الدين وتبليغها للآخرين عند الرجوع، ومكث البعض الآخر في تلك المناطق لحفظ نظام الحياة هناك «1».
ولكلِّ تفسير ميزة لا توجد في التفسير الآخر «2».
ولكنْ بغضّ النظر عن الاختلاف في التفاسير، فإنّ ما نسعى لإثباته-
وهو وجوب التعلم والتعليم- ثابت بلا منازع، وتأكيد القرآنِ على هذين الواجبين دليل واضح على إمكان وضرورة المعرفة «3».
ج ج
«اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَموَاتٍ وَمِنَ الْارْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْامْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَىْ ءٍ قَديرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عِلْماً». (الطلاق/ 12)
لقد شرحنا المراد من السماوات السبع والأرضين ما فيه الكفاية في التفسير «الأمثل» «4».
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 16، ص 225؛ تفسير الميزان، ج 9، ص 427؛ تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 83.
(2). في التفسير الأول مرجع الضمير في جملة (ليتفقهوا) و (لينذروا) اسم محذوف والتقدير هو «وتبقى طائفة»، وهذا فيه حذف، والحذف يعتبر خلاف الظاهر. بينما (نفر) جاء بمعنى الجهاد هنا، هذه نقطة قوة التفسير الأول. في التفسير الثاني مرجع الضمير مذكور وهو (طائفة)، لكنّ الثاني ضعيف لأنّ ميدان الجهاد ليس محلًا للتعلم إلّابالتوجيه الذي ذكر، وفي التفسير الثالث يقدر المحذوف، لكنه يتفق مع الروايات التي تفسر النفير (بالهجرة للتفقه في الدين). «ذكر في تفسير الثقلين 9 روايات في هذا المجال».
(3). يقول الإمام الصادق عليه السلام: «لوددتُ أن اصحابي ضربتُ رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا» (اصول الكافي، ج 1، ص 31).
(4). بالنسبة للسموات السبع يرجع إلى ذيل الآية 29 من سورة البقرة وبالنسبة للارضين السبع إلى ذيل الآية 12 من سورة الطلاق.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 45
وكيفما كان فإنّ الآية تبين بوضوح حقيقة أنّ أحد أهداف الخلق هو العلم والمعرفة، وتعريف الإنسان بعلم اللَّه وقدرته وصفاته وذاته، وهذه الآية صريحة في بيان إمكان المعرفة إلى حدٍ بعيد «1».
إنّ القران الكريم ذكر هذه المسألة بشأنِ الرسول الكريم صلى الله عليه و آله عدة مرّات، من جملتها ما جاء في سورة البقرة:
«كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ويُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ . (البقرة/ 151)
وقد جاء
هذا المعنى في كلّ من الآيات 129 من سورة البقرة و 164 من سورة آل عمران و 2 من سورة الجمعة.
فإذا كانت المعرفة غير ممكنة،: فكيف أمكن أن تشكل المعرفة أحد الأهداف المهمّة لبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «2».
«كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أوُلُوا الْالْبَابِ . (ص/ 29)
«أَفَلَا يَتَدَبَّروُنَ الْقُرآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا». (سورة محمد/ 24)
______________________________
(1). جاء في حديث أنّ الإمام الحسين بن علي عليه السلام خاطب أصحابه قائلًا: «أيّها الناس إنّ اللَّه جلّ ذكره ما خلق العباد إلّاليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه» (بحار الأنوار، ج 50، ص 312).
(2). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «كفى بالعلم شرفاً أن يدَّعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمّاً أنْ يبرأ منه مَن هو فيه» (بحار الأنوار، ج 1، ص 185).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 46
مادتها (دُبُر) وتعني ظهر الشي ء، ومن ثم استعملت بمعنى التفكّر والتفكير بعواقب الامور، وذلك لأنّ عواقب الامور ونتائجها تتّضح بالتفكّر.
إنّ الآية الاولى أوضحت أنّ التدبر هو هدف نزول القرآن كي لا يقتنع الناس بقراءة الآيات ككلمات مقدسة فحسب وينسوا الهدف الأخير منها.
والآية الثانية اعتبرت ترك التدبر دليلًا على أقفال القلوب وتعطيل الحس.
وعلى أيٍّ فإنّ هاتين الآيتين دعوة عامة للتدبر، دعوة تثبت بوضوح إمكانية المعرفة «1».
«سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». (الاسراء/ 1)
ونفس معنى الآية هذه ورد في سورة النجم، حيث تحدثت عن المعراج بأسلوب آخر، والآية هي:
«لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرى . (النجم/ 18)
تبين هاتانِ الآيتان- على الأقل- أحد الأهداف المهمّة لمعراج النبي صلى الله عليه و آله وهي قضية رؤية آيات الحق الكبرى الرؤية التي تعتبر أهم مصادر المعرفة «2».
«إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم . (العلق/ 1- 5)
إنّ هذه الآيات التي تعتبر أول أنوار الوحي التي شعّت في قلب الرسول الطاهر صلى الله عليه و آله في
______________________________
(1). يقول الإمام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم: «ما بعث اللَّه أنبياءه إلى عباده إلّاليعقلوا عن اللَّه فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة». (أصول الكافي، ج 1، ص 16).
(2). للتفصيل راجع التفسير الأمثل، ذيل الآيه 18 من سورة النّجم.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 47
غار «حراء» في جبل «ثور»، بدأت بقضية المعرفة وختمت بها.
إستهلّت الآيات بِحَث الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله على القراءة التي هي احدى وسائل المعرفة، وختمت بالبحث عن المعلِّم الأعظم للكون أي اللَّه الذي يُعتبر الإنسان تلميذه المُبْتَدِى ء.
أليست هذه كلها دلائل واضحة على إمكانية المعرفة؟!
ج ج
«قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ». (الرعد/ 16)
«وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ». (فاطر/ 19 و 21)
إنّ هذه الآيات جعلت الظلمات في عداد العمى والنور في عداد البصر، وهي إشارة إلى أنّ العلم نور وضياء، والجهل يساوي العمى وهي من أجمل التعابير للتشجيع على المعرفة «1».
«وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ . (الروم/ 22)
«وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ . (العنكبوت/ 43)
في الآية الأولى عُدَّ إدراك اسرار كتاب التكوين خاصاً بالعلماء وفي الثانية عُدَّ فهم كتاب التدوين خاصاً بهم كذلك.
وهذا تشجيع لطلب العلم والمعرفة من جهة، ودليل على مسألة المعرفة من جهة أخرى
ج ج
______________________________
(1). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «العلم نور يقذفه اللَّه في قلب من يريد أن يهديه». (الوافي، ج 1، ص 7).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 48
«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا». (البقرة/ 31)
«الْرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرآنَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ . (الرحمن/ 1- 4)
«الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . (العلق/ 4)
«عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَم يَعْلَمْ . (العلق/ 5)
إنّ معلم الكون العظيم تارة يعلم آدم الأسماء، وتارة اخرى يعلم الإنسان ما يحتاجه ومالم يعلمهُ (بواسطة التكوين والتشريع).
وتارة يوعز للإنسان بتناول القلم لِتَعلّمِ الكتابة، وتارةً اخرى يجري على لسانه حرفاً أو حرفين ويعلمه الكلام، وهذا يكشف عن احدى صفاته عزوجل هي تعليم العباد، التعليم الذي هو وسيلة للمعرفة.
ج ج
«قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا انْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ اقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْارْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . (البقرة/ 33)
إنّ هذا الخطاب الذي ورد في الآية كان موجهاً للملائكة بعد أن أمرهم بأن يسجدوا ويخضعوا لخليفته (آدم) عندما خلقه، لكي يوقروه بعد علمهم بمكانته وتفوقه عليهم، وقد فهم الملائكة أهلية آدم عليه السلام لخلافة اللَّه سبحانه وتعالى في الأرض بعد أن وجدوا فيه القابلية والاستعداد لتقبل العلم والمعرفة بأقصى درجاتهما، كما أعربوا عن شديد أسفهم وندمهم حيال ما ساورهم من تردد أو استفسار عن أهليته للخلافة الإلهيّة في بادى ء الأمر «1».
ج ج
______________________________
(1). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً وأقل الناس قيمة أقلهم علماً». (بحارالأنوار، ج 1، ص 164).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 49
«يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ . (المجادلة/ 11)
بدأت الآية بالحديث عن الاصول الأخلاقية في آداب المجلس، ثم عن درجات العلماء والمؤمنين بعنوان النتيجة والجزاء لعملهم بهذه الاصول الأخلاقية.
«الدرجات» جمع «درجة» وهي تستعمل للسلم عندما يرتفع إلى الأعلى تقابلها «الدركات» جمع «دركة» التي تستعمل لنفس السلم عندما ينزل إلى الأسفل كسلم السرداب (الطابق الأسفل).
إنّ استعمال «درجات» نكرةً ايحاءٌ إلى عظمة تلك الدرجات، واستعمالها جمعاً لا مفرداً يمكنه أن يكون إشارةً إلى اختلاف درجات العلماء.
بالطبع أنّ الرفع هنا لم يقصد به الرفع المكاني، بل السمو في طريق القرب من الساحة الربانية.
استنتج العلّامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير (الميزان) أنّ المؤمنين قسمان:
قسم (المؤمنون العالمون) وقسم (المؤمنون غير العالمين)، والمؤمنون العالمون أفضل درجة من المؤمنين غير العالمين ثم استدل بالآية: «هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذينَ لَا يَعْلَمُونَ . (الزمر/ 9)
ويحتمل أنّ
الآية تشير إلى علاقة الإيمان بالعلم «1»، وسنشير إلى هذه الآية تفصيلًا إن شاء اللَّه «2».
«وَقُلْ رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً». (طه/ 114)
______________________________
(1) تفسير الميزان، ج 19، ص 216.
(2). جاء في حديث الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ الثواب بقدر العقل». (بحار الأنوار، ج 1، ص 84).
نفحات القرآن ج 1 100
نفحات القرآن، ج 1، ص: 50
إنّ الآية الكريمة تخاطب الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وتدعوه إلى طلب العلم بالرغم من أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يحضى بمقام علمي شامخ وعظيم، وهذا يكشف عن أنّ الإنسان لا تقتصر عملية طلبه للعلم على مرحلة من المراحل، بل إنّ طريق العلم مستمر وليس له نقطة انتهاء.
«قَالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً». (الكهف/ 66)
فموسى عليه السلام بالرغم من أنّه من اولي العزم وبالرغم من انشراح صدره بمقتضى الآية:
«رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى . (طه/ 25)
وبمقتضى الآية «ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً». (القصص/ 14)
وبالرغم من هذا المقام العلمي الرفيع، إلّاأنّه كان مطالباً بأن يخضع أمام «الخضر» ويتعلم منه كالتلميذ.
وعلى أي حالٍ، فإنّ هذه الآيات أدلة واضحة على إمكانية وضرورة طلب العلم، والسعي المستمر في طريق التعلم والمعرفة «1».
«قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنى وَفُرَادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا». (سبأ/ 46)
إنّ خطاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذه الآية موجه لأعدائه المنغمسين في الكفر والشرك، ومختلف أنواع الفساد الأخلاقي.
وقد بيّن لهم أنّ مفتاح نجاتهم من هذا المستنقع الخطر هو التفكّر والعلم الذي هو طريق وسبيل المعرفة.
وعلى هذا الأساس بالامكان معرفة جذور أي ثورة وأي تحول أساسي في المجتمعات البشرية من خلال معرفة ثوراتهم الفكرية والثقافية.
______________________________
(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة». (بحار الأنوار، ج 1، ص 185).
نفحات القرآن، ج 1،
ص: 51
فلو كانت المعرفة غير ممكنة فلماذا التفكير؟ بالخصوص بعد حصر الموعظة بالتفكّر وذلك باستعمال «إنّما» التي تفيد الحصر، وهنا يثبت أنّ مفتاح النجاة هو المعرفة فقط!
لكن هذا التفكر سواءاً كان- جماعياً أو فردياً- ينبغي أن يكون متزامناً مع القيام للَّه وفي سبيله، ولهذا يقول «انْ تَقومُوا للَّه أي بعيداً عن التعصب والعناد، والهوى النفساني الذي سيأتي شرحه في موانع المعرفة إن شاء اللَّه.
وقد أكّد النبي يوسف عليه السلام على هذا الموضوع، وقال عند جلوسه على عرش السلطة في مصر:
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالْارْضِ أَنْتَ وَلِىِّ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ . (يوسف/ 101)
من الملفت للنظر هنا هو أن علم تعبير المنام من العلوم ذات الأهميّة القليلة، وبالرغم من ذلك فإنّ قصة يوسف عليه السلام في القرآن تكشف بوضوح عن أن علمه بتعبير الرؤيا أدّى إلى إنقاذه من سجن عزيز مصر، كما أدى إلى إنقاذ مصر من القحط والمجاعة، لأنّ العزيز رأى مناماً عجيباً عجز المفسرون عن تأويله، إلّاأنّ أحد السجناء الذين قد أُطلق سراحهم وسبق ليوسف انْ فَسَّرَ رؤياه في السجن كان حاضراً في البلاط آنذاك فقال: إنّي أعرف من يفسّر الرؤيا جيداً، وعندما فسّر يوسف عليه السلام له ما رآهُ في منامه الذي يتعلق بالامور الاقتصادية لسبع سنوات مقبلة، أطلق سراحه وتهيَّأت مقدمات حكومته من جهة، ومن جهة اخرى استطاع أن يضع برنامجاً دقيقاً لانقاذ أهل مصر من المجاعة خلال سنوات القحط المقبلة.
إنّ الآية السابقة التي تحدثت عن علم تأويل الأحاديث (في المنام) بعد حديثها عن ملك يوسف (حكومته)، يمكن أنّها تشير إلى العلاقة بين هذين الاثنين.
وكيفما كان فإنّ هذه الآية توحي بأنّ مفتاح النجاة
هو العلم والمعرفة.
وحتى أنّ أبسط العلوم يمكن أن يكون سبباً لانقاذ دولة «1».
ج ج
______________________________
(1). يقول الإمام علي عليه السلام مخاطِباً كميل: «يا كميل ما من حركة إلّاوأنت محتاج فيها إلى معرفة» (تحف العقول، ص 19).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 52
«وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤمِنِينَ* وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا ايُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَىْ ءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ . (النمل/ 15 و 16)
بالرغم من ملك وعظمة «سليمان» و «داود» اللذيْن لم يكن لهما مثيل بل ويحتمل عدم قيام حكومة كحكومتهما على مرّ التاريخ كما في الآية 35 من سورة (ص) «وَهَبْ لِى مُلْكاً لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى خصوصاً وأن حكومتهما لم تخص الانس، بل امتدت حتى شملت الجنّ والحيوانات وحتى القوى الطبيعية كالريح، مع هذا كله فاللَّه عندما يَهَبُ نعمه إلى الوالد وولده، يبدأ بنعمة العلم والمعرفة، لذا كانا يشكرانه لما فضّلهما على كثير من عباده (يحتمل أن يكون الشكر بهذا الاسلوب) «على كثير من عباده» لا غير لأنّه كان هناك من أُتُوا علماً أوفر مما أوتيَ سليمان وداود)، والجدير بالذكر هو أنّ (سليمان) بالرغم من ملكه العظيم «بحيث إنّ كل من شك في ذلك ضحكت على عقله الطيور والأسماك»، رغم هذا، فانه كان يفتخر بعلوم قليلة الأهميّة مثل معرفته بلغة الطيور قبل افتخاره بملكه وحكومته ومواهبه الإلهيّة الاخرى.
إنّ هذه النصوص الجميلة تُبيّنُ عظمة مقام العلم بجميع أبعاده، وهو بنفسه دليل واضح على إمكانية وضرورة المعرفة «1».
عندما اقترح على يوسف التصدي لمسؤولية مهمة في حكومة مصر، قال:
«إِجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ . (يوسف/ 55)
عندما أعلن بنو اسرائيل عن استعدادهم لمقارعة الملك الظالم آنذاك «جالوت» الذي شردهم، طالبوا نبيّهم بأن يعين لهم قائداً كي يجاهدوا «جالوت» الظالم، تحت رايته، قال لهم النبي:
______________________________
(1). جاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام: «العلم أصل كل حال سني ومنتهى كل
منزلة رفيعة» (المحجة البيضاء، ج 1، ص 68).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 53
«انَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادهُ بَسطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . (البقرة/ 247)
والجدير بالذكر إنّ «طالوت» الذي كُلِّفَ بمهمة قيادة بني اسرائيل لمقارعة الملك القوي والظالم، كان قروياً مجهولًا يعيش في احدى القرى الساحلية وكان يرعى مواشي أبيه ويزرع!
لكنّه كان ذا قلبٍ واعٍ، وجسم قوي، ومعرفة دقيقة وعميقة بكثير ممّا يجري حوله، ولهذا عندما رآه النبي «اشموئيل» عينّه قائداً على بني اسرائيل ولم يعبأْ باعتراضاتهم على تعيينهِ، تلك الاعتراضات الناشئة عن معايير وهمية في انتخاب القائد كامتلاك الثروة والأموال الطائلة والسمعة والتقاليد الموروثة من الآباء، حيث كانوا يعترضون بأنّه مع ما عندنا من أشخاص ذوي سمعة وثروة، وهم أجدر من طالوت لهذه المسؤولية، فكان يجيبهم النبي: إنّ هذا الاختيار هو انتخاب الهيّ، والكل يجب أن يسلّم لأمره.
إنَّ هاتين الآيتين تدلان بوضوح على أنّ المعرفة والعلم من عناصر القيادة والإدارة، وتؤكدان ما قلناه عن المعرفة حتى الآن «1».
«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». (سبأ/ 6)
«إِنَّ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِنَا لَمَفعُولًا». (الاسراء/ 107- 108)
«فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسى . (طه/ 70)
«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ...».
(الحج/ 54)
______________________________
(1). يقول الإمام الصادق عليه السلام: «الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك».
نفحات
القرآن، ج 1، ص: 54
«... وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقوُلُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ . (آل عمران/ 7)
إنَّ الآية الأخيرة تلقي الأضواء على العلاقة الوثيقة بين العلم والإيمان، وتبيّن بأنّ المطلع والمتبحر هو الأرسخ في الإيمان والتسليم «1».
إنَّ هذه الآيات تبين بوضوح أن المعرفة هي إحدى السّبل المؤدية إلى الإيمان، والإيمان الذي ينبع منها سيكون راسخاً قوياً ومتجذراً إلى مستوىً بحيث نقرأ في قصة موسى عليه السلام السحرة في عصر فرعون، أنّ إيمانهم بموسى عليه السلام كان بسبب معرفتهم بأنّ ما جاء به موسى عليه السلام لم يكن سحراً، فما كان من فرعون إلّاأنْ هدّدهم بشدّة قائلًا لهم: «آمنتُم لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟!» فالطغاة يريدون التحكم حتى بعقول الناس وإيمانهم القلبي وفهمهم ولا يتصرف أحدٌ بأي شي ء إلّاباذنٍ منهم، وقد جاء في تهديد فرعون لهم أنّه قال:
«فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ...». (طه/ 71)
لكنهم كانوا بدرجة من الصمود بحيث كانوا يقولون له:
«لَنْ نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ». (طه/ 72)
وفعلًا فقد نفّذ فرعون وعيده الذي قطعهُ على نفسه بالإنتقام من السحرة المؤمنين، واستشهدوا من أجل المعتقد الذي ذابوا فيهِ عشقاً ونالوا مبتغاهم الاسمى وهو الشهادة.
يقول المفسر الكبير المرحوم الطبرسي إنّهم: «كانوا في أول النهار كفاراً سحرة وفي آخر النهار شُهَداء بَرَرَةٌ».
إنَّ ثمرات العلم له تنحصر بالإيمان فحسب بل تشمل الإستقامة والصمود أيضاً. «2»، «3»
______________________________
(1) ما ذكرناه حقيقة لا تنكر سواء قلنا بأن كلمة «الراسخون» معطوفة على «اللَّه»، أو قلنا بأنها مبتدأ وخبرها الجملة اللاحقة، لأنّه على كلا الفرضين، الضمير في «يقولون» يرجع إلى «الراسخون في العلم» وبه تتّضح العلاقة
بين الإيمان والعلم في الآية.
. (2) يعتقد البعض أنّ «العلم» والإيمان» شي ءٌ واحد. فإذا كنا نعلم بأنّ هناك خالقاً لهذا العالم وهو قادر وعالم، فنفس هذا العلم إيمان به، لكن المحققين يقولون بفصل الإيمان عن العلم، لأنّ الإيمان يمكن أن يكون ثمرة من ثمار العلم (وليس الثمرة الضرورية والدائمية) لكنه ليس عين العلم والإيمان التسليم القلبي والقبول والاعتراف الرسمي، بينما كثيراً ما يحصل أن يعتقد الإنسان بشي ء ولم يسلم به، كما يحكي القرآن عن البعض في سورة النمل الآية 14 «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وعُلُوّاً» ..
(3) يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «العِلمُ حياة الإسلام وعماد الإيمان». (كنز العمال، ج 10، ص 181).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 55
«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ». (فاطر/ 28)
يقول الراغب في مفرداته «الخشية هي الخوف الذي يكون متزامناً مع التعظيم، وغالباً ما ينشأ عن العلم».
«وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْالْبَابِ . (البقرة/ 197)
إذ لم تكن هناك علقة بين «العلم» و «التقوى لم يخاطب اللَّه سبحانه وتعالى «أولو الألباب» داعيهم للتقوى في الآية، وهذا الخطاب دليل على هذه العلقة المباركة.
«فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . (المائده/ 100)
«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . (البقرة/ 187)
إنَّ هذا التعبير في الآية الأخيرة يدل بوضوح على أنّ اللَّه تعالى يبين الآيات كمقدمة لإيجاد الوعي لدى الناس، والوعي يكون أحد سُبل التقوى
بالطبع ليس كلما كان العلم كانت التقوى لأنّ هناك علماء غير عاملين، لكن المتيقن أنّ العلم مقدمة وأرضية خصبة للتقوى ويعتبر من المصادر الأساسية للتقوى وَالتقوى غالباً ما تكون قرينة العلم، العلم الذي يكون مقروناً بالإيمان سيكون منشأً للتقوى كذلك.
والعكس بالعكس، فالجهل غالباً ما يؤدى إلى نفي التقوى
والورع «1».
«وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . (القصص/ 80)
______________________________
(1) يقول أمير المؤمنين عليه السلام «أعظم الناس علماً أشدّهم خوفاً من اللَّه». (غرر الحكم، الحكمة 326).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 56
أشارت هذه الآية التي جاءت في أواخر سورة القصص إلى قصة (قارون) ونقلت نصيحة علماء بني اسرائيل لكافة الناس، الذين تمنوا امتلاك ثروة قارون عند استعراضه لثروته.
فعندما شاهد أهل الورع من علماء بني اسرائيل تَعَلُّقَ الناس بالدنيا وحبهم الشديد لها وارتباطهم الوثيق بها خاطبوهم قائلين: ويلكم يا عبدة الدنيا! لا تخدعكم الثروة وبهارج الدنيا، فالجزاء الإلهي خير لكم في الدنيا والآخرة إن عملتم صالحاً وكنتم مؤمنين، لكن لا ينالُ هذا الثواب الإلهي إلّاالصابرون الرافضون الظلم والاغراءات المادية.
إنّ عبارة (اوتوا العلم) تدل بوضوح على وجود علاقة بين (الورع والزهد) من جهة والعلم والمعرفة) من جهة اخرى، وأنّ العارفين بزوال الدنيا وحقارة الثروات المادية في قبال الجزاء الإلهي وخلود الآخرة، فانّهم لا ينخدعون بالماديات ولم يتمنوا ثروة قارون «1».
«قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِى . (القصص 78)
الكلام الذي ورد في الآية الكريمة قاله قارون الغني والمغرور والأناني عندما نصحه علماء قوم موسى أَن استثمر ثروتك في مجال منافع العباد ولا تنسَ نصيبك من الدنيا، وأحسن لعباد اللَّه كما أحسنَ اللَّه اليك ولا تتخذ ثروتك وسيلة للفساد.
لكنه أجاب قائلًا: إنّي جمعت هذه الثروة بفضل علمي ومعرفتي.
والذي ينبغي ذكره هنا هو أنّ اللَّه لم ينفِ ادّعاءهُ هذا.
بل يقول تعالى «اوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً». (القصص/ 78)
______________________________
(1). يقول الإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ ممّا خاطب اللَّه به موسى بن
عمران قال: إنّ عبادي الصالحين زهدوا فيها بقدر علمهم بي». (بحار الأنوار ج 18، ص 339).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 57
إنَّ هذا التأييد الضمني يكشف أنّ لقارون علماً تمكن بواسطته أن يجمع ثروته العظيمة (سواء كان ذلك العلم هو علم الكيمياء- كما يدعي بعض المفسرين أو كان معرفته لقواعد وفنون التجارة والأعمال).
إنَّ المسلَّم به هو أنّ ادعاء قارون لم يصلح حجة لمنع انتفاع الناس بثروته، وذلك أنّ الإنسان مهما كانت لديه من مؤهلات وقابليات، لا يمكنه لوحده أن يكسب ثروة بهذا الحجم فلابدّ أنّه قد استفاد من الآخرين في سبيل تحصيلها، لذا فهو مَدينٌ للمجتمع ولتعاونهم معه.
وعلى أي حالٍ، فإنّ ما تبينه هذه الآية هو وجود علاقة بين «العلم المادي» والتطور المادي»، وهذا ما نشاهده بوضوح في عصرنا الحاضر، حيث إنّ أقواماً تقدموا مادياً في مجال الصناعة والحضارة المادية وذلك بفضل علومهم وتقنيتهم وصناعاتهم «1».
«قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى . (النمل/ 40)
هذه الآية لها علاقة بقصة سليمان وملكة سبأ، فعندما أراد سليمان أن يأتي بعرشها، تعهد عفريتٌ من زعماء الجنّ بأن يأتي به قبل أن يقوم سليمان من مجلسه، لكن وزير سليمان «آصف بن برخيا» الذي كان عنده علم من الكتاب، والذي كان علمه يمكنه من القيام بأعمال خارقة للعادة قال لسليمان: إنّي استطيع أن آتي به قبل أن يرتد إليك طرفك وفعل ما قال، فشكر سليمان ربّه على الفضل الذي آتاه إيّاه من الأنصار والأعوان والأصدقاء.
وهذه الآية وإن جاءت في مورد خاص، لكنها تكشف بوضوح عن العلاقة الموجودة بين العلم والقوّة، وترغب وتشجع على كسب العلم
«2».
______________________________
(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «لا غنى أخصب من العقل ولا فقر أحط من الحمق». (اصول الكافي، ج 1، ص 29).
(2). يقول الإمام الصادق عليه السلام: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». (اصول الكافي، ج 1، ص 290).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 58
«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . (البقرة/ 129)
ما ورد في الآية الكريمة الذي يعد بمثابة دعاءٍ دَعا به «إبراهيم» و «إسماعيل» عليهما السلام في ضمن أدعية دعيا بها اللَّه، يكشف بوضوح عن العلاقة الوثيقة بين «العلم والحكمة» من جهة، و «التزكية والتربية» من جهة اخرى وقد تقدم العلم هنا على التزكية.
لكن في الآيتين التاليتين واللتين تناولتا منهج الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بعد البعثة، تقدمت التزكية على العلم فيهما، حيث يقول اللَّه تعالى هناك:
«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبينٍ . (آل عمران/ 164)
كما أنّ الآية الثانية من سورة الجمعة تشبه الآية المتقدّمة مضموناً.
الظاهر أنّ الاختلاف في التعبير حين يقدم العلم على التزكية تارة والتزكية على العلم تارة اخرى ناشى ءٌ من التأثير المتبادل بين هذين الاثنين، فإنّ العلم مصدر التربية الأخلاقية، والتربية الأخلاقية تصلح لأنّ تكون في- بعض مراحلها- مصدراً للعلم.
وعلى هذا، فكل منهما يهيى ء الأرضية للآخر، وهذا هو معنى التأثير المتبادل للعلم والتزكية (وسيأتي شرح هذا الموضوع في بحث مؤهلات المعرفة إن شاء اللَّه) «1».
«وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً». (الكهف/ 68)
هذا الحديث نطق به العالم الرباني (الخضر) مخاطباً به موسى بن عمران، عندما سأله أن
______________________________
(1). يقول أمير المؤمنين في حديث له حول العلم: «ومن ثمراته التقوى واجتناب الهوى ومجانبة الذنوب». (بحار الأنوار، ج 78، ص 6).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 59
يعلمه من علومه، فاجابه الخضر: إنّك لم تَحُط بأسراري وألغاز أعمالي، ولن تتحملها وذلك لقلّة احاطتك ومعرفتك.
وهذا التعبير يبين
بوضوح أنّ عدم العلم والمعرفة يؤدّي إلى نفاد صبر الإنسان.
بالطبع أنّ الصبر قد يكون مصدراً لزيادة العلم والمعرفة، وعليه فهذان الإثنان بينهما تأثير متبادل كما يصرح بذلك القرآن في عدد من الآيات:
«إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».
(ابراهيم/ 5)، (لقمان/ 31)، (سبأ/ 19)، الشورى 33)
ومن الواضح أن طريق العلم والمعرفة طريق صعب ملي ءٌ بالمنغّصات، ولا يمكن أن يدرك العلم إلّابالصبر والتحمل والصمود، وأنّ العلماء والمخترعين والمكتشفين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلّابالمثابرة والصبر.
«يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْراً كَثيراً». (البقرة/ 269)
وكلمة «الحكمة» مشتّقة من مادة «حَكْم» على وزن (خَتْم) وتعني الصدّ والمنع بهدف الإصلاح ولهذا يقال لزمام الحيوان «حَكَمَة» على وزن (شَجَرة)، وبما أنّ العلم والمعرفة يحول دون اتخاذ الإنسان سلوكاً مشيناً، فلهذا سميت «حكمة».
كما أنّ «العقل» يعني الامساك والحفظ، ولهذا قيل للحبل الذي تُربط به رِجلا الجمل «عقال»، فالعقل قيل له عقلًا لأنّه يصون الإنسان من الانحراف عن جادة الصواب.
وعلى أيّة حال، فإنّ القرآن الكريم وصف العلم بأبلغ وأجمل توصيف حيث قال (خيراً كثيراً)، وهذا التعبير يشمل جميع النِعَم والمواهب الإلهيّة المادية منها والمعنوية.
إنَّ المستخلص من خمسة وعشرين عنواناً ذكر حتى الآن حقيقة بيّنه واضحة وهي: إنّ القرآن وبالاستعانة بعبارات شيقة ولطائف البيان يحثّ الإنسان على طلب العلم والمعرفة
نفحات القرآن، ج 1، ص: 60
ويعدّهما أفضل موهبة ونعمة إلهية، ويستفاد من التعبيرات السابقة بالدلالة الالتزامية أنّ طريق العلم مفتوح للجميع، ولا شي ء أنفع منه، وهذا هو الشي ء الذي نحن بصدده «1».
والآن ننتقل إلى عناوين اخرى تدور حول محور «الجهل» وبملاحظة آثاره السلبية والمدمرة، نشق طريقنا نحو العلم والمعرفة وما ينتح عنهما من آثار إيجابية وحيوية.
«وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ والْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ . (الاعراف/ 179)
إنَّ كلمة «ذرأ» مأخوذة من مادة ذَرْء على وزن (زَرْع) وتعني الخلق، لكن المستخلص من «مقاييس اللغة» أنّ أصلها يعني «نثر البذور».
ويحتمل لهذا السبب ذكر الراغب في «مفرداته» أن معناها الأصلي هو «الاظهار والايضاح»، بينما قال البعض كما في «التحقيق في كلمات القرآن»: إنَّ معناها الأصلي هو «النثر والنشر».
فإذا
أُريد منها الخلق فيكون معنى الآية: إنَّ أولئك الذين وهب اللَّه لهم السمع والبصر والفؤاد ... (وسائل المعرفة) ولم يستفيدوا منها لا مصير لهم غير جهنم، وإذا كانت «ذرأ» بمعنى النشر والنثر، فالآيةُ تُشير إلى أنّ أشخاصاً كهؤلاء سينثرون في جهنم.
وعلى أيّة حال فهذه الحقيقة تكشف عن أنّ عاقبة الجهل وتعطيل وسائل المعرفة ليست سوى نار جهنم.
«وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ* فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ». (الملك/ 10 و 11)
______________________________
(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «لا كنز أنفع من العلم». (بحار الأنوار، ج 1، ص 183).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 61
نعم إنَّ ذنبهم العظيم هو أنّهم لم يستفيدوا من عقولهم وعطلوها عن النهوض بمهامها، ولم يصغوا لقول الحق وبهذا أغلقوا أبواب المعرفة والعلم، وفتحوا أبواب جهنم ليدخلوها داخرين.
إنّ سياق الآية الثانية التي تنسب الإثم إلى أصحاب السعير وهم يعترفون بأنّ مصيرهم ما كان هذا لو أنهم استفادوا من عقولهم، وهذا الاعتراف الكاشف عن الندم، دليل على أنّ سلوكهم لهذا الطريق كان باختيارهم، وإذا زعم بعض المفسّرين كالفخر الرازي عند تفسيره للآية الاولى أنّها دليل على الجبر، فإنّ الثانية تنفي مزاعمه وتصلح لأنّ تكون مفسرةً للاولى لأنّ «القرآن يفسر بعضه بعضاً».
وعلى أيّة حال فإنّ العلاقة بين «جهنم» و «الجهل» لاجدال فيها في القرآن وسوف تتضح في الأبحاث القادمة أكثر «1».
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ . (الأنفال/ 22)
إنَّ هذه الآية والتي قبلها تُشيران إلى موضوع واحد لكن الأخيرة تشير له صراحة والسابقة تلميحاً، والموضوع هو: إنّ الإنسان متى ما ترك الاستعانة بوسائل المعرفة التي منحها اللَّه له فانّه سينحط ويسقط إلى مستوى يجعله أضل من جميع الدواب
التي على وجه الأرض، ولَم لا يكون كذلك مَن بإمكانه أن يصل إلى أعلى عليين في جوار ربّ العالمين، وأن يصل إلى مقام «لا يرى به إلّااللَّه»، ولكن بتركه جميع المواهب والمِنَح الإلهيّة فإنّه سيسقط إلى أسفل سافلين.
إضافةً إلى هذا، فإنّ الإنسان الذي لا يسير في جادة الخير والهداية، فانه ربّما يستخدم تلقائياً جميع المواهب والقابليات الإلهيّة في طريق الشر، وسيرتكب جرائم مفجعة ويخترع
______________________________
(1). في حديث للرسول صلى الله عليه و آله يقول فيه: «إنّ اللَّه أوحى إليَّ أنَّه مَن سلك مسلكاً يطلب فيه العلم سهلت له طريقاًالجنة». (بحار الأنوار، ج 1، ص 173).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 62
وسائل رهيبة لم يدنُ إلى مستوى وحشيته أيٌّ من الحيوانات المفترسة، كما نشاهد نماذجه في عصرنا الحاضر عند أُناس بعيدين عن اللَّه والبشرية «1».
«افَمَنْ يَعْلَمُ انَّمَا انْزِلَ الَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ اعْمَى انَّمَا يَتَذَكَّرُ اولُوا الْالْبَابِ .
(الرعد/ 19)
تضع الآية الكريمة العلماء وذوى الفكر في مقابل العُمي، والتقابل هذا يكشف عن أنّ العمى والجهل سواء، وقد جاء هذا المعنى في آيات اخرى بأسلوب آخر:
«وَمَا يَسْتَوِى الْاعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلا الظِّلُّ وَلَاالحَرُورُ* وَمَا يَسْتَوِى الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ...» «2». (فاطر/ 19- 22)
«وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ...». (الحجّ/ 5)
وقد جاء في سورة النحل الآية 70 نفس ما جاء في هذه الآية من معنىً مع اختلاف ضئيل.
إنَّ كلمة «أرذل» مشتقة من مادة «رذل» وتعني الموجود الضال، كما في كثير من معاجم اللغة مثل «المقاييس» و «صحاح اللغة» و «المفردات» وغيرها، وبتعبير آخر الشي ء الذي لا يُعتنى به أو لا قيمة له.
______________________________
(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «الجهل مطية شموس من ركبها زلَّ ومن صحبها ضلَّ». (غرر الحكم، ج 1، ص 85).
(2). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «من لم يصبر على ذلّ التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً». (بحار الأنوار، ج 1، ص 177).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 63
وعليه فالمراد من «أرذل العمر» أيّام وساعات من العمر التي تقلّ قيمةً عن بقية أيّام العمر، وقد نعت القرآن الأيّام الأخيرة من الشيخوخة التي تتزامن مع نسيان العلوم وفقدانها ب «أرذل العمر»، وعليه فأفضل أيّام العمر وساعاته هي الأيّام والساعات التي تكون مقرونه بالعلم والمعرفة «1».
«وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . (الأعراف/ 138)
إنَّ ما يثير العَجب هو أنّ بنى اسرائيل شاهدوا بأم أعينهم الإعجاز والعظمة الإلهيّة في غرقِ الفراعنة، ونجاتهم عندما عبروا النيل، وبالرغم من ذلك كله يقترحون على موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه.
لكن موسى أجابهم أنَّ جهلكم دعاكم إلى عبادة الأصنام.
وفي الحقيقة أنّ عبادة الأصنام دائماً تنشأ عن الجهل، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن يعبد ما يصنع بيده؟ وكيف له أن يطلب حل المعضلات والمشاكل الكبرى التي تعتري
حياته من قطعة من خَشب أو معدن؟!
إنَّ تاريخ عبادة الأصنام يكشف عن أنّ هذا العمل القبيح نَما وتطور تحت ظلِّ من الخرافات والأوهام، وكلما تقدمت الشعوب في مجال العلوم والتقنية كلما تراجع الشرك وعبادة الأصنام وازدادت أنوار التوحيد ضياءً:
إنَّ النبي العظيم «هود» كان يصرح لقوم «عاد» بهذا الأمر إلّاأنّه عندما شاهد فيهم الإصرار على عبادة الأصنام طلب من اللَّه سبحانه أن يُنزل العذاب عليهم قال:
«إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَاللَّهِ وَأُبَلّغُكُم مَّا أُرسِلْتُ بِهِ وَلكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ .
(الاحقاف/ 23)
______________________________
(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «الجهل في الإنسان أضرّ من الأكلة في الأبدان» (غرر الحكم).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 64
إنَّ التعبير ب «تجهلون» أي بصيغة المضارع الذي عادة ما يدل على الاستمرار، يوضح أنّ «الجهل المستمر» كان منبع الشرك وعبادة الأصنام، وفي الحقيقة إنَّ تعاضد ثلاثة أنواع من الجهل ولدت هذه الحالة الاجتماعية، وهي: الجهل باللَّه وبأنّه لا كفو ولا مثيل له، والجهل بمقام الإنسان وأنّه أشرف المخلوقات، والجهل بالطبيعة وأنّه لا قيمة للجمادات في قبال موجود كالإنسان.
ترى كيف سمح الإنسان لنفسه أنْ يجعل قطعة من الحجر اقتطعت من الجبل تارة في درجات السلّم في منزلة يسحقها بأقدامه، وتارة يصنع منها صنماً يركع ويسجد له ويطلب منها حل مشكلاته الكبرى ، يعدون هذا جهلًا «1»؟
«يَا ايُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنينَ عَلَى الْقِتَالِ انْ يَكُنْ مِّنْكُمْ عِشْرونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِأَتَيْنِ وَانْ يَكُنْ مِّنْكُمْ مِأَةٌ يَغْلِبُوا الْفاً مِّنَ الَّذينَ كَفَرُوا بِانَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ . (الأنفال/ 65)
الظاهر أنّ الآية ناظرة إلى معركة «بدر» وعدم تساوي عدد المشركين والمؤمنين فيها، وهي تنفي اسطورة توازن القوى كإيعاز إسلامي إلهي تأمر الآية بعدم التراجع في المعركة حتى لو كان عدد جنود الإسلام عُشْرَ جنود العدوّ!
لكن الذي يسدُّ النقص الكمي في القوات الإسلامية- كما تصرح الآية- هو شيئان: الأول هو الصبر والاستقامة والثبات عند المؤمنين، والثاني هو جهل وحماقة الأعداء.
وهذا يدل بوضوح على أنّ الاستقامة والصبر هما الطريق للنصر، وأنّ الجهل هو سبب الخسران والفشل.
الجهل بالقابليات والطاقات الإلهيّة المودعة في ذات الإنسان.
______________________________
(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «الجاهل لا يرتدع، وبالمواعظ لا ينتفع». (غرر الحكم، ج 1، ص 68). ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «ليس بين الإيمان والكفر إلا قلّة العقل». (اصول الكافي، ج 1، ص 28).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 65
الجهل بقدرة اللَّه عزّ وجلّ وعظمته.
الجهل بتقنيات وقواعد المعركة، وأنواع اخرى من الجهالة «1».
«أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . (النمل/ 55)
إنّهم قوم لايؤمنون باللَّه يجهلون بهدف الخلق وقوانينه، ويجهلون الآثار السيئة لهذا الإثم والعار يعني «اللواط»
إنّ هذا الحديث الذي نطق به النبي العظيم «لوط» يشير بوضوح إلى أنّ ميل أولئك القوم إلى هذا العمل البشع والقبيح (اللواط) نشأ عن الجهل وعدم المعرفة.
والنبي يوسف عليه السلام يُشير إلى هذا المعنى باسلوب آخر:
«قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِّنَ الْجَاهِلينَ . (يوسف/ 33)
إنَّ ذكر النساء بصيغة الجمع يدل على أنّ نساء مصر كُنَّ يُردنَ أن يُخرجنَ يوسف عن جادة العفاف وليس امرأة عزيز مصر (زليخا) فقط، ويوسف عليه السلام كان مستعداً لتقبل السجن برحابة صدر على الابتلاء بحبِّ نساء مصر له.
إنَّ الجملة الأخيرة من الآية السابقة تُشير إلى أنَّ العشق الملوّث بالإثم والانحرافات الجنسية (على الأقل في كثير من الموارد) ناشي ءٌ عن الجهل، الجهل بالقيم المجبول عليها الإنسان، الجهل بالآثار القيمة للعفاف والطهارة والنزاهة، والجهل بمردودات
الإثم، وأخيراً الجهل بالأوامر والنواهي الإلهيّة.
وكما نرى في قصة يوسف بوضوح أنّ السبب الأساسي في ارتكاب الجريمة من قِبَلِ
______________________________
(1). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يصلح». (مشكاة الأنوار، ص 135).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 66
إخوانه هو الجهل وعدم معرفتهم:
«قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ انْتُمْ جَاهِلُونَ . (يوسف/ 89)
نعم أنتم الذين عذبتم أخاكم أولًا، ثم ألقيتموه في الجب عن جهل ثانياً! أنتم الذين كذبتم على أبيكم ذلك الشيخ العجوز وأَدْمَيْتُمْ قلبه عندما أخفيتم ابنه عنه، وفي النهاية بيعه بعدة دراهم بخسة كما يُباع الرق ولم تفوا بعهدكم الذي عاهدتم به أباكم تجاه الأخ الآخر «بنيامين» عندما اتُّهِمَ بالسرقة فتركتموه وحيداً.
وجهلكم هو وحده منشأ جميع هذه الأفعال «1».
«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ...». (الفتح/ 26)
إنَّ كلمة «حمية» مشتقة من مادة «حَمْي» على وزن «حَمْد»، وكما يذكر الراغب في «مفرداته» أنّ معناها الأولي هو الحرارة الناشئة من أشياء مثل النار والشمس والقوة الباطنية في جسم الإنسان (الحرارة الذاتية والباطنية للأشياء)، ولهذا يقال لارتفاع درجة حرارة المريض (حُمّى على وزن (كُبْرى ، وبما أنَّ التعصب والغضب يولدان حرارة وحرقة في باطن الإنسان قيل «حمية»، وقد جاء في كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» أنّ «الحمية» هي شدة الحرارة والعلاقة والتعصب في الدفاع عن النفس «2».
إنَّ هذه الآية نزلت في حوادث صلح الحديبية وتوضيح قصة سبب النزول: أنَّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قصد مكة للحج في السنة السادسة من الهجرة، إلّاأنّ المُشركين منعوا المسلمين من دخول مكّة تعصباً لجاهليتهم، مع
أنَّ السماح بزيارة مكة كان مباحاً للجميع
______________________________
(1). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «فقيه واحد أشدُّ على إبليس من ألف عابد». (بحار الأنوار، ج 1، ص 177).
(2). «هي شدة الحرارة، والعلاقة والتعصب في الدفاع عن نفسه والتعفّف والترفع». (مادة حمى .
نفحات القرآن، ج 1، ص: 67
حسب قوانينهم وسننهم المتعارفة، فهم بهذا انتهكوا حرمة الحرم الإلهي، ونقضوا سنتهم، إضافة إلى أنّهم وضعوا حائلًا ضخماً بينهم وبين الحقائق.
إنّ إضافة «الحمية» إلى «الجاهلية» من قبيل إضافة «السبب» إلى «مسببه»، التعصب والعناد والغضب ينشأُ عن الجهل دائماً، لأنّ الجهل لا يسمحُ للإنسان أن يفكر بعواقب أعماله، ولا يسمحُ له قبول أن فكرته قد تكون خاطئة، وأنَّ هناك علماً أوسع وأكبر من علمه، ولهذا نرى أنّ شدّة عناد وتعصّب الأقوام الجاهلة أكثر منها في الأقوام الاخرى، ولهذا السبب نجد أن الأنبياء والرسل عندما يبعثون إلى قوم بالرسالات والأَنوار الإلهيّة الساطعة، يواجهون مقاومة عنيفة، ويتهمون بمختلف التهم، وقد أورد القرآن الكريم نموذجاً من ذلك:
«وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ وَقالَ الكَافِرونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذا لَشَى ءٌ عُجَابٌ* وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَى ءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ . (ص/ 4- 7)
حيث ترى أنّ حديثهم مملوء بالعناد، الناشي ءُ عن الجهل والغرور «1».
«وَقَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَاْتِينَا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . (البقرة/ 118)
هناك قضية تتكرر دائماً في تاريخ الأنبياء والرسل وهى أنّ الجاهلين والمعاندين يختلقون الحجج الواهية من أجل الهروب من الإيمان بالأنبياء والرسل والتسليم للحق الذي يرونه بأم
أعينهم من خلال المعاجز الإلهيّة ووسائل الاقناع التي يأتي بها الرسل فتراهم تارة يقولون لِمَ بَعثَ اللَّهُ بشراً رسولًا؟ لِمَ لَمْ يأت مَلَك محله؟
______________________________
(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «العلم أصل كل خير والجهل أصل كُل شر». (غرر الحكم، ص 20 و 21).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 68
وتارة يقولون: لِمَ لم ينزل علينا كتاباً نقرأُه؟
و أُخرى يقولون: لن نؤمن ما لَمْ نرَ اللَّهَ والملائكة جهرة.
وتارة اخرى يقولون: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، كما في سورة (الإسراء) في الآيات 90، 93.
كما أنّ هناك أمثلة ونماذج اخرى ذكرت في القرآن الكريم.
في الحقيقة أنّ ذوي العلم يكتفون بدليل منطقي واحد، وإذا تعددت الأدلة عندهم ازدادوا رسوخاً وإيماناً.
لكن المتعصبين والجاهلين المعاندين غير مستعدين للتخلي عن عقائدهم وخرافاتهم، فيتمسكون كل يوم بحجّة في سبيل الهرب من الحقيقة، وإذا ما دُحِضَتْ حجتهم تركوها وتمسكوا بحجة اخرى، ذلك لأنّ هدفهم ليس طلب الحقيقة بل التملص منها «1».
«إِذْ قَالَ لِابيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى انْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنا لَهَا عَابِديِنَ* قَالَ لَقَدْ كُنْتُم انْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبينٍ . (الأنبياء/ 52- 54)
إنَّ كلمة «التماثيل» جمع «التمثال» والتي تعني الموجود الذي له وجه، وتطلق على التماثيل المنحوتة والرسوم.
وكلمة «عاكفون» مشتقة من مادة «عكوف» وتعني التوجه المستمر نحو شي ءٍ والمتزامن مع التعظيم، واصطلاح «اعتكاف» يطلق على العبادة الخاصة المعروفة التي تقام في المسجد وهي مشتقة من نفس المادة.
نعم، إنَّ عبدة الأصنام لم يكن لهم دليل منطقيٌّ على عملهم القبيح هذا، وغالباً ما كانوا
______________________________
(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «الجاهل صغير وإن كان شيخاً كبيراً والعالم كبير وإن
كان حدثاً». (بحار الأنوار، ج 1، ص 183).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 69
يقتنعون بتقليدهم الأعمى ولهذا نعتهم ابراهيم عليه السلام بأنهم وآباءهم في ضلالٍ مبينٍ.
إنّ ابراهيم عليه السلام في بقية محاكمته التاريخية لعبدة الأصنام في بابل يقول: «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ ؟! ثم يضيف «أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . (الأنبياء/ 66- 67)
يعني أنّ هذا التقليد الأعمى ناشي ءٌ عن عدم التعقل والتأمل وهو نابع من الجهل، ودليله واضح، فإنّ ذوي العلم يتمتعون باستقلال فكري، واستقلالهم الفكري هذا لا يسمحُ لهم بالتقليد الأعمى بينما الجاهلون تراهم مرتبطون بهذا وذاك وبشكل أعمى فيتبعون الآخرين على غير بصيرة.
«لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَميعاً الّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ اوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِانَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَعْقِلُونَ . (الحشر/ 14)
إنَّ كلمة «قرى تعني جمع «قرية» ومعناها الأماكن المعمورة أعم من الأرياف والمدن، وقد تطلق على مجموعة يسكنون في مكانٍ ما، و «قرىً محصَّنةٍ» تعني المناطق الآمنة من العدو بسورٍ أو ابراج أو خنادق أو غيرها.
إنَّ هذه الآية تتحدث عن طائفة «بني النضير» (إحدى ثلاث طوائف يهودية تقطنُ المدينة) حيث تكشف عن فزعهم وخوفهم الباطني واختلافهم وفرقتهم، فتصرح الآية للمسلمين: إنّكم تحسبونهم جميعاً ومتحدين لكنّ الواقع أنّ شملهم متفرق بسبب جهلهم وعدم معرفتهم.
إنّ الاختلاف ينشأ عن الجهل، والاتحاد ينشأ عن المعرفة دائماً، فالجاهلون لا يجهلون الأخطار الجسيمة للفرقة، ولا يجهلون فوائد الاتحاد وبركاتِهِ فحسب، بل يجهلون اسس التعايش السلمي، واسلوب التعاون وشروط النشاطات المشتركة، وهذه المسألة أدّت بهم إلى الاختلاف والفرقة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 70
إنّ المتعصبين والمعاندين والمتكبرين والحاقدين والسفهاء، لا يمكنهم الاتحاد مع الآخرين، لأنّ كلًا من
هذه الصفات تكون مانعاً كبيراً امام الوحدة، ويجب أن نعلم بان منشأ جميع هذه الرذائل هو الجهل «1».
«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ...». (آل عمران/ 154)
تحدثت هذه الآية عن الليلة المضطربة والملتهبة التي عاشها المسلمون بعد معركة أُحُد، حيث احتمل بعض المسلمين هجوم قريش في تلك الليلة مرّة اخرى لتدمير آخر ما تبقى من مقاومة المسلمين بعد ما أُنهكوا في المعركة نهاراً.
في هذه الأثناء أنزل اللَّه على المسلمين نعاساً مهدئاً لهم، إلّاأنّ ضعيفي الإيمان قد تاهوا في أفكارٍ رهيبة فما استطاعوا النوم آنذاك، وكانوا يتساءلون: يا ترى هل أن وعود الرسول حقّةٌ؟ هل أننا سننتصر في النهاية مع ما حصل لنا في أحد؟ هل سننجو من هذه المهلكة؟ أو أنّ كل ما قيل لنا كان كذباً؟ وما إلى ذلك من الوساوس وإساءة الظن الجاهلي.
لكن الحوادث التي حصلت فيما بعد بينت لهم خطأهم الفاحش، وأنّ كافة الوعود الإلهيّة حقة، ولو أنّهم انفصلوا عن أفكار الجاهلية تماماً لَما أساءوا الظن باللَّه ورسوله.
والتعبير في الآية يوحي بأنّ الجهل هو أحد أسباب إساءة الظن، وأنّ عدم قدرتهم على التحليل الصحيح للحوادث جعلهم يسيئوون الظن، ولو كانت لهم القدرة الكافية على تحليل الحوادث وفهمها لما وقعوا في شباك سوء الظن.
ج ج
______________________________
(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «لو سكت الجاهل ما اختلف الناس». (بحار الأنوار، ج 78، ص 81).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 71
«انَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ . (الحجرات/ 4)
كان البعض يضايق الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث كانوا يقفون عند باب بيته منادين بصوت عالٍ: «يا محمد!» «يا محمد! اخرج إلينا» فكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتأذى من اسلوبهم هذا، ولكنّه كان يكظم
غيظه وذلك لما كان يتصف به من خُلُقٍ عظيم، إلى أن نزلت هذه الآية، فعلمتهم أدب الحديث مع الرسول ومحاطبتِهِ (في سورة الحجرات).
والتعبير ب «أكثرهم لا يعقلون» إشارة جميلة إلى أنّ سوء الأدب غالباً ما ينشأ عن الجهل فكلما فُقِد العلم حل سوء الأدب مكانه، وكلما تواجد العلم تواجد الأدب معه.
«وَاذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ انَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ انْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ انْ اكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . (البقرة/ 67)
إنَّ الآية تتعلق بقضية قتلٍ حدثت في بني اسرائيل كادت أن تجر إلى معارك كبيرة بين قبائل بني اسرائيل لجهلهم بالقاتل: فأمر اللَّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بقسمٍ منها المقتول كي ينطق ويُعرفهم قاتله.
وبما أنّ هذه القضية كانت معجزة ومدهشة للغاية بالنسبة لبني اسرائيل، فقد قالوا لموسى ابتداءً: أتتخذنا هزواً؟
فأجاب موسى عليه السلام: أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين أي أنّ الاستهزاء من معالم الجهل ودليل على العجب والتكبر والغرور، فإنّ الذين يتمتعون بهذه الصفات يتخذون الآخرين هزواً كي يحقّروهم، ونعلم أن التكبر والعجب ينشآن عن الجهل حتى أن كثيراً من الجاهلين يستهزئون بالعلماء «1».
«يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ان جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَاٍ فَتَبَيَّنُوا انْ تُصِيْبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى
______________________________
(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم». (بحار الأنوار، ج 78، ص 81).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 72
مَا فَعَلْتُمْ نَادِمينَ . (الحجرات/ 6)
إنَّ هذه الآية تمثل قاعدة أساسية تأمر المسلمين بأنْ يتبيّنوا ويتأكّدوا من كون الرواة ناقلي الأخبار من الثقات ويحققوا في الخبر الذي وصلهم من فاسق أو شخص لا يُعتمد عليه فلا يستعجلوا باتخاذ الإجراءات على ضوء ما نُقِلَ لهم من خبر، لأنّه قد يوجب لهم كثيراً من الندم
والمشاكل والمصائب الاجتماعية.
فمن البديهي أنَّ الجاهلَ لا يُمكنه أنْ يتّخذ موقفاً صحيحاً تجاه مختلف القضايا، وعدم معرفته هذه تؤدّي به إلى كثير من المآسي والمشاكل الاجتماعية والتي نهايتها النّدم.
«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُو شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمْ وَانْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ . (البقرة/ 216)
إنَّ نشاطات الإنسان وفعالياته تنسجم دائماً مع القيم التي يعتقد بها، ومعرفة هذه القيم لها دور أساسي في تبلور وتوجيه نشاطات الإنسان وفعالياته.
فالجهلُ وعدم المعرفة قد يؤدي به إلى الوقوع في الخطأ عند التمييز بين (القيم) وبين (أضدادها)، أي أنْ يشخص ما هي القيم التي تكون سبباً في التقدّم والخير والبركة، ويفرق بينها وبين ما هو عامل الشرّ والشقاء والانحطاط.
إنّ الآية السابقة تقول: إنّ للجهاد في سبيل اللَّه قيمة- فهو سبب للعزة وصيانة ماء الوجه والفخر والموفقية-، لكنكم تكرهونه لجهلكم وعدم معرفتكم بآثاره، وتعتبرون القعود وترك الجهاد قيمةً وعاملًا للسلامة والسعادة، لكنه عامل وسبب لشقائكم.
وعلى هذا، فالجهل هو سبب الخطأ في تمييز القيم، وهو عامل اتخاذ المواقف غير الصحيحة وغير المدروسة تجاه القضايا المختلفة والحوادث المتنوعة التي تحدث في الحياة اليرمية وعامل للافراط والتفريط «1».
______________________________
(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «لا ترى الجاهل إلَّا مفْرِطاً أو مُفَرِّطاً». (نهج البلاغة الكلمات القصار، الكلمة 70).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 73
إنّ المستخلص من البحوث القرآنية السابقة والتي دُرجت تحت أربعين عنواناً، ولربّما تكون أكثر حيث (لا ندعي تحديدها بهذه العناوين أبداً) والتي تحثُ على طلب العلم والمعرفة، تمثل اهتمام القرآن البالغ بمسألة المعرفة في جميع المجالات، سواء في مجال معرفة الذات والصفات الإلهيّة، أو في مجال معرفة الكون والسماوات والأرض وجميع الكائنات والإطّلاع على أسرار المخلوقات الأرضية والسماوية الطبيعيّة أو ما وراء الطبيعة، ومعرفة النفس والأِلمام بمختلفِ العلوم.
ومن خلال البحث في الآيات السابقة نستخلص بوضوح الأُمور التالية:
1- إنَّ طريق العلم والمعرفة ميسر
للناس كافة، وكلٌّ حسب استعداده وسعيه يستطيع أن يطوي ما أمكنه منه، وبدون ذلك فالدعوة للعلم والتأكيد على أهميته لا معنى لها.
2- إنَّ قيمة الإنسان لها علاقة مباشرة بمقدار معرفته للَّه وأسرار عالم الوجود.
3- إنَّ أكبر مفخرة وموهبة للإنسان هو قابليته واستعداده لتقبل المعارف بالرغم من ضعفه الجسماني.
4- إنَّ طلب العلم هو طريق الانتصار والغلبة على مختلف المشاكل: وهو طريق تزكية النفس.
5- من أجل مواجهة الشقاء ومختلف المفاسد نحتاج إلى العلم والمعرفة قبل أي شي ءٍ آخر.
نؤكّد أنَّ هذه الآيات نزلت في زمان خيمت فيه غيوم الجهل السوداء، وغطت أفق المنطقة بل العالم ظلاماً، في حين أنّ شمس العلم قد غابت وغرق الناس في أمواج الجهل.
حقّاً إنَّه لشي ءٌ عجيب أن تكون مثل هذه البيئة مهداً لهذه الرسالة ذات التعاليم السامية أن يكون إنساناً امياً رسولًا لمثل هذه المدرسة العظيمة مدرسة الإسلام الخالد وهذا دليل حي على حقانية القرآن.
إنَّ الملفت للنظر هو احصاء سبعمائة آية من قبل بعض المحققين تتحدث عن العلم
نفحات القرآن، ج 1، ص: 74
والمعرفة وأرضياتها ومصادرها، وبالقياس إلى آيات الأحكام والتي تقدر بخمسمائة آية، نستطيع أن نستنتج أن القرآن أولى أهميّة كبرى للعلم والمعرفة فاقت الأهميّة التي أَوْلاها للأحكام الشرعية.
ج ج
إنَّ وجود عالم خارج الذهن أمر مسلم وبديهى لايحتاج إلى برهان، ويعترف بهذا عملياً حتى السوفسطائيون أو المثاليون الذين ينكرون وجود الأعيان الخارجية.
لكن البحث ينصب في هل من سبيل إلى معرفة هذه الواقعيات؟
وإذا كان الجواب بالايجاب فما هي سُبُل المعرفة ووسائلها؟
وبتعبير آخر، هل يمكن تبديل الواقعيات الخارجية إلى حقائق ذهنية، أي انعكاس صورة ما في الخارج عيناً في الذهن أم لا؟ إنَّ جميع تعاريف المعرفة والاختلافات الحاصلة حول ذلك ترجع إلى هذا الموضوع «1».
ومن جهة اخرى فإنّ جذور جميع العلوم والمعارف البشرية تكمن في الإجابة عن هذا السؤال.
وبالرغم من أنّ أغلب الفلاسفة (سواء الماديين منهم أو الإلهيين) يؤيدون إمكانية معرفة الواقعيات الخارجية، إلّاأنّ البعض منهم لا يعتقد بإمكانيتها، وقد ذكرت أربعة أدلة لإثبات مرادهم:
______________________________
(1). وعلى هذا يكون تعريف المعرفة عبارة عن: تبديل الواقعيات الخارجية إلى حقائق ذهنية، وانعكاسها في مرآة الذهن كما هي.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 75
1- إنّ الحواس هي أهم وسائل المعرفة، والبصر يقع في الدرجة الاولى من حيث الأهميّة، لكننا نجد الكثير من الأخطاء تصدر عن هذه الحاسة!
فالشهاب المشتعل في المساء نراه كخط من النور الممتد، بينما هو عبارة عن نقطة ضوئية متحركة لا أكثر!
وإذا كنّا نمشي في شارع مُشجّر الطرفين، وابتعدنا عن الأشجار رأيناها تقترب من بعضها البعض، وتتصل وتشكل زاوية في نقطة بعيدة عنّا بينما الأشجار لم تلتقِ على طول الطريق ولم تُشكل أية زاوية، والفاصلة بينها متساوية في جميع نقاط الشارع.
وإذا كانت احدى يديك باردة والاخرى حارة ووضعتهما في ماء دافي ء، فانّك تحس بالحرارة باليد الباردة، وبالبرودة باليد الحارة، فيرتسم في الذهن إحساسان متضادان اتجاه الماء في آن واحد.
ولدينا الكثير من الأمثلة عن عدم إمكان الاعتماد على حاسة البصر
وبقيّة الحواس (اللامسة وغيرها).
ومع وجود هذا النقص فكيف نعتمد على حواسنا؟! بل إنَّ عالم الخارج يمكن أن يكون وهماً أو أضغاث أحلام ولا غير، وهل أنّ الذي نراه في الرؤيا ونعتبره حقيقة في ذلك الحين، يُمثل الحقيقة؟
2- لا نكاد نرى اثنين من العلماء أو المفكرين في هذا العالم يتفقان في جميع المسائل، وما هذه الاختلافات بين العلماء إلّادليلًا على فقداننا الطريق الذي يهدينا إلى معرفة الحقائق.
فالذي رأه واقعاً عينياً قد يكون برأي الآخرين وهماً وخيالًا لا أكثر والعكس صحيح.
وحتى الإنسان الواحد قد تتغير رؤيته وأفكاره تجاه قضية معينة تحت ظروف مختلفة، وهذا يزلزل أسس قضية المعرفة.
3- إنّ الموجودات في العالم كلّها في حركة مستمرة، وينتج عن هذه الحركة تحول أوضاع الموجودات وحتى أفكارنا ومعارفنا وعلومنا خاضحة لهذه الحركة، فكيف يمكن
نفحات القرآن، ج 1، ص: 76
أن تحصل لنا معرفة حقيقية لهذه الموجودات والعلاقات بينها، مع أنّ المعرفة تستدعي الاستعاذة بأمرِ ثابت.
4- نعلم أنّ العالم يُمثل نظاماً موحداً ومترابطاً، ومعرفة جزء منه تستدعى معرفة الكل، وعليه، فإنّ فقدان حلقة من السلسلة المترابطة للعالم يُخلّ بمعرفتنا ويحول دون معرفة أي جزء منه.
ومن جهة اخرى فإنّ الواقعيات التي لايمكن للبشر إدراكها كثيرة ولا يحصى عددها بالقياس إلى حجم المعلومات البسيطة.
وعلى هذا، فكيف يمكن لنا أن نعد معرفة العالم أمراً متيسراً؟ إذن يجب الاعتراف بأنّ ما في أذهاننا مجرّد تصورات لها قيمة علمية فقط، وليست لها أية قيمة واقعية.
ج ج
الجواب:
يمكن الإجابة على هذه الاستدلالات بثلاث طرق:
1- إنّ جميع الذين يقولون بعدم إمكان المعرفة الواقعية، يؤمنون بالكثير من المسائل الواقعية، فهم يمسكون بأقلامهم ليبرهنوا ويستدلوا في مؤلفاتهم على صحة ما ذهبوا إليه وخطأ مخالفيهم، ومن خلال انكارهم فانّهم عرفوا المئات من المسائل
الواقعية، ومن خلال هذه المعرفة دقوا طبول الحرب ضد مخالفيهم واستفادوا في حربهم هذه من الكثير من الامور الواقعية مثل، القلم، والورق، الخطوط، الكلمات، الجمل والعبارات، الكتب، دور الطبع والنشر والمكتبات، المخالفين أنفسهم، المخاطبين، الأمواج الأثيرية، النور وغيرها، كل ذلك يمثل اموراً واقعية استفادوا منها في معرفتهم ليشنوا بها حرباً على المعرفة، فلقد استعانوا بالمعرفة ضد المعرفة وهو خطأ فاضح يستدعي الدقة والتأمل.
2- إنَّ خطأهم الكبير هو عدم تمييزهم بين مسألة كون معرفة الإنسان محدودة وبين أصل مسألة المعرفة، فأن استدلالاتهم لا تنفي إمكانية المعرفة مطلقاً، غاية الأمر أنّها تثبت
نفحات القرآن، ج 1، ص: 77
أنّ معرفة الإنسان محدودة أو مقرونة بالاخطاء أحياناً.
أَجَل، لا يمكنهم إنكار وجود «الشهاب» بل إنّ ما يقولونه في هذا المجال هو أنّ الخط النوراني الذي نراه ليس خطاً نورانياً بل نقطةٌ نورانيةٌ، والتصور الخاطى ء هذا نشأ عن خطأٍ في حاسة البصر، إذ ليس الخطأ في وجود نفس الشهاب بل في تصور خطٍ ممتدٍ ملتهبٍ.
كما أنّ الخطأ ليس في نفس وجود الشارع والأشجار على طرفيه بل الخطأ في أنّ الأشجار كلما ابتعدنا عنها اقتربت من بعضها البعض في أبصارنا، وكذا الأمر بالنسبة للماء الدافي ء، فليس الخطأ في نفس وجود الماء ودرجة حرارته المعينة، بل في تمييز درجة الحرارة.
ولكنّا- كما سبقت الإشارة- لا ندعي إدراكنا لجميع حقائق الوجود، كما لا ندعي أن معرفتنا منزهة عن أي خطأ، بل ما نريد إثباته هو إمكانية المعرفة على سبيل القضية الجزئية، وقد نشأ خطأ أصحاب الرأي القائل بعدم إمكان المعرفة من ادعائهم القاطع الجازم بعد وجود المعرفة.
والملفت للنظر هو أن ما ذكره مخالفو إمكانية المعرفة من أدلة يمكن أن يستخدم كدليل ضدهم، لأنّهم عندما يبحثون مسألة
خطأ الحواس، فإنّ مفهوم ادعائهم أن هذه الحقيقة اكتشفناها بحواسنا الاخرى أو بطرق عقلية، فندرك خطأ الحاسة المعيَّنة في ذلك المورد، وهذا اعتراف صارخ بصحة بعض المعارف.
فعندما نقول مثلًا: إنّ الخط الملتهب الممتد الذي نراه عند ظهور الشهاب في السماء خطأٌ، فذلك بسبب إنا لاحظنا بحواسنا الاخرى إنَّ الشهاب قطعة حجر تحترق عند وصولها إلى الأرض وذلك لسرعتها واحتكاكها بطبقة الهواء، وعندما تبدو لنا كالنقطة النيرة، وبما أنّها تتحرك بسرعة هائلة فتخطأ العين في التمييز ونراه خطاً ممتداً وملتهباً، مستقيماً منحنياً.
كذلك الأمر بالنسبة للخطين المتوازيين عندما نراهما متقاطعين من بعيد، بينما رأيناهما من قريب متوازيين فعند مقارنة المعلومات التي حصلنا عليها من بعيد ومن قريب نعترف بخطأ أبصارنا من بعيد.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 78
إذن يجب القول بأنّ أي حكم بخطأ بعض المعلومات، دليل على معرفة كثيرٍ من الحقائق (دقّق النظر في ذلك).
3- إنّهم في الحقيقة لم يميزوا جيداً بين «البديهيات» و «النظريات» ولا بين «المعرفة الإجمالية» و «المعرفة التفصيلية» ولا بين «الامور المطلقة» و «الامور النسبية»، ولأجل عدم معرفتهم الدقيقة وتمييزهم لهذه المواضيع الثلاثة وقعوا فيما وقعوا فيه من خطأ.
ج ج
إنّ هناك حقائق لا يشك بها أحد إلّاالسوفسطائيون وكما قلنا سابقاً أنّهم ينكرون الحقائق بالسنتهم ويعتقدون بها في قلوبهم وهي الحقائق التي لا حاجة إلى التفكير في إثباتها، فالكل يعرف مثلًا أنّ اثنين زائداً اثنين يساوي أربعة، وأنّه لا يمكن أن يحصل الليل والنهار أو الصيف والشتاء في آن ومكان واحد، أو شخصاً واحداً يكون في مكة والمدينة في آن واحد وحتى أولئك الذين يعدّون اجتماع النقيضين أو الضدين ممكناً، فانّهم يتلاعبون بالألفاظ فقط، ويذعنون لهذه الحقائق قلبياً، فمثلًا بالنسبة ل «اجتماع الضدين» يقولون بإمكان
أن يكون الجو ممطراً في ساعة ومشمساً في ساعة اخرى، إذن اجتماع الضدين أمر ممكن، أمّا إذا سألناهم هل يمكن أن يكون الجو ممطراً ومشمساً في ساعة ومكان واحد؟ فسيجيبون: لا.
وفي مقابل هذه المعلومات البديهية هناك قسم آخر من المعلومات وهي «المعلومات النظرية» التي تحتمل الخطأ والترديد، وما ذكره المنكرون من عدم إمكانية المعرفة فانّه يتعلق بهذا النمط من المعلومات.
كما أنّ هناك مجموعة من الحقائق مطلقة ولا نسبية فيها كالأمثلة السابقة (العلاقات الرياضية بين الأعداد وامتناع اجتماع النقيضين والضدين).
ولكن لا يمكن إنكار أنّ هناك مجموعة من المفاهيم النسبية التي تتغير بتغير الظروف،
نفحات القرآن، ج 1، ص: 79
فمثلًا الحرارة والبرودة أمران نسبيان، فكل شي ءٍ حرارته أكثر من حرارة جسم الإنسان فهو حار، وكل شي ءٍ حرارته أقل من حرارة جسم الإنسان فهو بارد، فإذا ما تغيرت درجة حرارة أجسامنا تتغير مفاهيم الحرارة والبرودة عندنا، ولهذا قد يجلس شخصان في غرفة يشعر أحدهما بالبرودة فيطلب تشغيل المدفئة والآخر يشعر بالحرارة فيطلب فتح الأبواب.
بالطبع، في هذا المجال توجد حقيقتان وهما درجة حرارة الجسم ودرجة حرارة الغرفة وتصورنا عن الحرارة والبرودة ينشأ عن المقارنة بين هاتين الحقيقتين فيختلف الحكم تجاه المسألة.
كما أنّ في العالم هناك حقائق ثابتة وحقائق متغيرة، والأمثلة التي ذكرناها سابقاً وما شابهها تدخل تحت عنوان الحقائق الثابتة، وحتى الماركسيون القائلون بتغير وتبدل الحقائق في العالم يستثنون حقيقة التحول والتغير كقانون ثابت، ويعتقدون أنّ كل ما في العالم في تحولٍ وتغيّر مستمر إلّانفس قانون التحول والتغير فانّه ثابت دائماً (بالطبع هناك مجموعةً اخرى من القوانين يفرضون ثباتها اضافةً إلى هذا القانون).
وإذا تجاوزنا الأمر السابق فإنّ هناك «معرفةً إجماليةً» ومعرفةً تفصيليةً» هناك حقائق لا نعرف عنها إلّاشيئاً إجمالياً، فلا معرفة
لنا بخصائصها وعلاقاتها بالأشياء الاخرى في العالم تفصيلًا، لكن عدم معرفتنا التفصيلية عنها لا يعني نفي المعرفة الإجمالية عنها.
فمثلًا العين جزء من الجسم، وما لم نعرف الجسم بجميع أعضائه جيداً لا نتمكن من معرفة علاقة العين بأعضاء الجسم الاخرى، لكن عدم معرفتنا للعين تفصيلًا لا يمنع من معرفتنا لها إجمالياً وأنّها تقع في الرأس وتحت الجبين، ولها سبع طبقات، وكل طبقة مهمّة خاصة بها، وفائدتها رؤية المناظر واللقطات المتنوعة.
وبالنظر لما تقدم يتضح أنّ أدلة المخالفين لنظرية المعرفة نشأت من عدم دقتهم في التقسيمات السابقة، فعندما يقولون: إنّ العالم كتلة واحدة، وعدم معرفتنا لمفردة من مفرداته يفقدنا المعرفة بأي جزء منه، فقولهم هذا خلطٌ في الحقيقة بين المعرفة التفصيلية والإجمالية، لأنّا إذا أردنا معرفة جزءٍ ما في العالم بجميع علاقاته بباقي أجزاء العالم يجب
نفحات القرآن، ج 1، ص: 80
علينا معرفة جميع أجزاء العالم بدقّة، فهذه معرفة تفصيلية، بينما المعرفة الإجمالية لا تستدعي ذلك كله، ومعرفتنا للأرض والسماء وأفراد البشر والكائنات التي من حولنا هي كلها من هذا القبيل من المعرفة «1».
وهناك ايضاحات أكثر في هذا المجال سنعرض لها في الفصل اللاحق إن شاء اللَّه تعالى
ج ج
1- «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ امْرِ رَبّى وَمَا اوتِيتُمْ مِّنَ العِلْمِ الَّا قَلِيلًا».
(الاسراء/ 85)
2- «... وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِاىِّ ارْضٍ تَمُوتُ ...».
(لقمان/ 34)
3- «وَانْ مِّنْ شَىْ ءٍ الَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَّاتَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ ...». (الاسراء/ 44)
4- «وَعَسَى انْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَانْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ . (البقرة/ 216)
5- «لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْارْضِ اكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ .
(غافر/ 57)
6- «... لَاتَدْرِى لَعَلَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ امْراً». (الطلاق/ 1)
7- «قُلْ لَّاامْلِكُ لِنَفْسى نَفْعاً وَلَا ضَرّاً الَّا مَا شآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ ...». (الاعراف/ 188)
8- «... آبَائُكُمْ وَابْنَائُكُمْ لَاتَدْرُونَ ايُّهُمْ اقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ...». (النساء/ 11)
9- «وَلَوْ انَّمَا فِى الارْضِ مِنْ شَجَرَةٍ اقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ ابْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه انَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ . (لقمان/ 27)
______________________________
(1). قد يقال إنّ منكري المعرفة لا ينكرونها كلياً، وعلى هذا فالنزاع بينهم وبين المؤيدين لنظرية المعرفة يكون نزاعاً لفظياً.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 81
إنّ كلمة «روح»- وكما جاء في قواميس اللغة- في الأصل اشتقت من مادة «ريح» ويطلق على التنفس كذلك، وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بين التنفس وبقاء الحياة ونفس الإنسان استعملت الروح بمعنى النفس، ومن ثم بمعنى تلك الحقيقة المجرّدة التي يتوقف بقاء الإنسان عليها.
إنّ «روْح» على وزن (لَوْح) تعني النسيم البارد، وكذلك اللطف والرحمة، ومنه اشتُقّت كلمة «الرائحة» و «المروحة».
وَإنّ كلمة «تفقهون» مشتقة من مادة «فقه» وقد جاءت- كما في لسان العرب- بمعنى الاطلاع على شي ءٍ وفهمه، لكنها تطلق اطلاقاً خاصاً على علم الدين (أو علم الأحكام)، وذلك لرفعة وأهميّة هذا العلم، والراغب في مفرداته يقول: «الفقه يعني الاطلاع على شي ء خفي بواسطة الاطلاع على أمرٍ ظاهر ومكشوف» وعلى هذا مفهومه أخص من مفهوم العلم.
وَمعنى كلمة «غَيْب»- وكما جاء عن ابن منظور في لسان العرب- هو «الشك» ويطلق على كل شي ءٍ خفي عمله عن الإنسان، (ولعل ذلك بسبب أنّ الأشياء الخفية غالباً ما تقع مجالًا للشك).
يقول الراغب عند تفسيره لجملة «يؤمنون بالغيب»: إنّ الغيب شي ء خارج عن دائرة الحس والعقل الابتدائي ويعرف بواسطة إخبار الأنبياء.
وكلمة «نفدت» أُخذت
من مادة «نَفَدَ» على وزن (حَسَدَ)، «والنفاد» كما يستخلص من المفردات ولسان العرب- يعني الفناء والدمار، و «مُنَافِد» تُطلق على الشخص القوي للغاية في استدلالاته بحيث يدحض جميع حجج خصمه، و «نفاد» جاءت بمعنى نضوب ماء البئر.
كان عدد من المشركين أو أهل الكتاب يسألون النبي صلى الله عليه و آله عن «الروح»، فأمر اللَّه سبحانه الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وكما جاء ذلك في الآية الاولى أن يجيبهم بأنّ «الروح» من أمر ربي
نفحات القرآن، ج 1، ص: 82
ويضيف لهم بأنهم ما أُوتوا من العلم إلّاقليلًا، ولهذا فلا قابلية لهم لإدراك حقيقة «الروح» «1».
وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى كون العلم البشري محدوداً (وذلك لأنّ الروح المقصودة فيها هي روح الإنسان) وهي أقرب شى ء إلى الإنسان وذلك لأنّ الإنسان ما استطاع الاحاطة علماً بجوهر روحه التي هي أقرب إليه من الحقائق والموجودات في الكون، وأنّ ما يعرفه عنها هو معرفة سطحية وإجمالية، فكيف يمكنه معرفة حقائق العالم الاخرى !
ج ج
أمّا الآية الثانية والتي هي آخر آية من سورة لقمان، تكشُف عن علوم خاصة باللَّه تعالى وأشارت إلى خمسة منها: قيام الساعة، نزول المطر، الجنين الذي في رحم الام، الحوادث المستقبلية التي تتعلق بأعمال الإنسان والمكان الذي يموت فيه الإنسان، وقد أُشير إلى هذه العلوم الخمسة في الروايات تحت عنوان «مفاتيح الغيب الخمسة» التي لا يعرف عنها أحد إلّا اللَّه «2».
وقد يعلم الإنسان علماً إجمالياً عن هذه الأمور الخمسة بالاستعانة بالقرائن، إلّاأنّ الجزئيات لا تتضح لأحد أبداً، فلا يعلم- مثلًا- ما هي قابليات الجنين الجسمية والروحية وهل هو جميل أم قبيح وأنّه سليم أم سقيم، وحتى جنسه (المذكر والمؤنث) لا يمكنه معرفته إلى مراحل متأخرة
من حياته في الرحم.
إنَّ القرآن يخاطب الإنسان في هذه الآية ويقول: يا أيّها الإنسان أنّك لا تعلم عن غدك شيئاً ولا تعلم في أي أرض تموت، وعليه فكيف تتوقع أن تعرف عن جميع ما في العالم وعلمك محدود؟!
______________________________
(1). إنّ جملة «ما أُوتيتم من العلم إلا قليلًا» فُسّرت من قبل أغلب المفسرين بكونكم أُوتيتم قليلًا من العلم، إلّاأنّ البعض فسّرها بأنّ قليلًا منكم أُوتي علماً، إلّاأنّ هذا التفسير الأخير يتنافى مع ظاهر الآية التي تجعل المشركين وأهل الكتاب السائلين عن الروح مخاطباً لها فتأمل.
(2). تفسير مجمع البيان، ج 8، ذيل الآية 34 من سورة لقمان.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 83
وقد تحدثت الآية الثالثة عن تسبيح وحمد جميع الكائنات للَّه، فجميعها بلسان حالها وبالنظام الدقيق والعجيب الذي يهيمن عليها- تحمد وتثني على اللَّه وتشهد بنزاهته عن أي نقص وعيب، وتملأ العالم بلسان حالها- أو بقولها إضافة إلى لسان حالها- بهمهمة التسبيح والتحميد، وكل ذرة في هذا العالم بلا استثناء لها عقل وعرفان وشعور خاص بها، تحمد اللَّه وتثني عليه بمعرفة، وقد شرحنا هذين الرأيين في التفسير الأمثل «1».
وعلى أيّة حال، فنحن لا نستطيع فهم لسان حال الموجودات لأننا لا نعرف كل شي ء عن أسرار هذا العالم ونظامه، كما لا نستطيع فهم ما تقول أيضاً.
و من هنا يتّضح أنّ العالم ملي ءٌ بالهمهمة والألحان الإلهيّة ونحن غافلون عن ذلك لأننا لم نحط به خبراً، وهذا دليل واضح على كون علمنا البشري محدوداً.
ج ج
وتحدثت الآية الرابعة عن «الجهاد» وتقول للذين يكرهون الجهاد: أنتم تجهلون «الخير» و «الشر» ولا تميزون بينهما، فانّكم أحياناً ما تكونون في حرب مع مصالحكم وقد تتقدمون نحو الشر حبّاً ورغبةً فيه، وهذا دليل واضح على علمكم المحدود حيث
إنّكم لا تميزون أحياناً بين ما هو شرٌ لكم وما هو خيرٌ لكم، إلّاأنّ اللَّه يعلم ذلك وقد اوضح بواسطة الوحي (الذي هو أحد مصادر المعرفة) وبيّنَ لكم ما فيه خير وما فيه شر.
إنّ الآية الخامسة مع إشارتها إلى عظمة خلق السموات والأرض أشارت إلى حقيقة أن خلقهما أعظم وأهم من خلق الإنسان، وأشارت أيضاً إلى عدم معرفة أكثر الناس لهذه القضية، هذا في الوقت الذي كانت فيه معلومات الإنسان بصورة عامة وفي الحجاز بصورة خاصة محدودة تجاه خلق السموات والأرض، ولعلهم كانوا يتصورون النجوم آنذاك مسامير فضية في كبد السماء، واليوم حيث توسعت معلوماتنا تجاه خلق السموات والأرض، فانّها لا زالت محدودة.
______________________________
(1). التفسير الأمثل، ذيل الآية 44 من سورة الاسراء.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 84
والآية السادسة بعد أن أشارت إلى قضية الطلاق والعدّة وضرورة بقاء المطلقة في بيت الزوج عند إعتدادها بالعدة الرجعية، تقول: قد يحدث اللَّه أمراً جديداً في هذه الأثناء أي اثناء مجاورتها لزوجها السابق، الأمر الذي قد يؤدّي إلى الصلح بينهما.
والملفت للنظر هنا هو أنّ مخاطب الآية نفس الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله فإذا كان الرسول صلى الله عليه و آله مع علمه الواسع يُخَاطَب بخطاب كهذا فما حال باقي أفراد البشر؟!
وهذا دليل على قصور العلم البشري إلى مستوى بحيث لا يستطيعون أن يعلموا بمستجدات يومهم اللاحق.
ج ج
وفي الآية السابعة يؤمر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بأن يقول: إنّي لا أملكُ لنفسي نفعاً ولا ضرّاً، وأن يعترف:
إنّي لا أعلمُ الغيب (إلّا ما علمني اللَّه) واني لو كنت أعلمُ الغيب لاستكثرت وازددتُ من الخير لنفسي وما مسني ضرٌّ وما حصلت لي مشكلةٌ.
إنّ هذا الحديث قاله الرسول صلى الله عليه و
آله عندما كان أهل مكة يسألونه عمّا إذا كان يوحى إليه فلِمَ لا يعلم ما سيؤول إليه امر ارتفاع وانخفاض اسعار السِّلع أو الجفاف وهطول الغيث في المناطق المختلة كي يستزيد من الخير وينتفع أكثر، فأجابهم: إنّ عالم الغيب هو اللَّه وهو صاحب العلم غير المحدود.
عندما يعترف الرسول صلى الله عليه و آله مع علمه الواسع حيث يقول اللَّه تعالى فيه «... وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ ...». (النساء/ 113)
بأني لا أعلم من الغيب (وهو الأمر الخارج عن الحس) إلّا ما علمني اللَّه فكيف حال بقيّة البشر؟
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 85
والآية الثامنة بعد أن بينت أحكام إرث الأولاد والأب والأم في حالات مختلفة ذكرت:
حتى أنفسكم لا تعلمون أيّاً من الأب والأم أو الأولاد أنفع لكم؟ وأيهم أحق بأموالكم كي يخصص له سهم أكثر.
نعم، لستم على بينة بمصالحكم الشخصية، لهذا السبب لا تستطيعون أن تسنّوا قوانين دقيقة تليق بمقام الارث وغيره، إنّ المُقنّن يجب أن يكون الهاً محيطاً بِكل أسرار الوجود، نعم، إنّ قصور علم البشر بدرجة لا يستطيع أن يسن قوانين تحافظ على مصالحه، ولهذا نرى أنّ القوانين البشرية في حالة تغيير دائمي، فإذا كان الإنسان يجهل مصيره إلى هذا الحد، فكيف به تجاه الموجودات الاخرى الموجودة في الكون؟
وأخيراً، فإنّ الآية التاسعة والأخيرة في البحث هذا تحدثت عن العلم الإلهي اللامتناهي، وصوّرت اللانهاية في الأذهان بحيث يستطيع حتى الذي لم ينل من العلم إلّا القليل بل وحتى الأُمي أن يرسم في ذهنه صورة عنها، بالرغم من صعوبة تصور اللانهاية حتى للعلماء، حيث قالت: لو أنّ ما في الأرض من شجر يصير أقلاماً رغم أن الأشجار قد يصل عددها إلى مليارات (بل قد يُصنع الملايين من
الأقلام من شجرة واحدة: وبالرغم من أنّ حوضاً صغيراً قد يملأ الملايين من الدواة فكيف بالمحيطات والبحار، وإضافة إلى هذا كله، لو اجتمعت الملائكة وكُتاب الانس والجن على أن يكتبوا بهذه الأقلام وهذا الحبر كلمات اللَّه وعلمه ما استطاعوا وسوف تنصرم الأقلام وينتهي الحبر وما زالت كلمات اللَّه جلّ جلاله وعلومه في بداية الدفتر، هذا من جهة.
ومن جهة اخرى فأنّنا نعلم أنّ المراد من كلمات اللَّه هو الكائنات الموجودة في العالم، وعلى هذا فالآية دليل واضح على سعة العالم وقصور علم البشر.
ج ج
إنّ ما يستخلص من الآيات السابقة هو أنّ معرفة الإنسان وعلومه رغم سعتها بحدّ ذاتها
نفحات القرآن، ج 1، ص: 86
ورغم أنّ علوم ومعارف البشر في حالة ازدياد في كل يوم بل كل ساعة ولحظة، ورغم امتلاء الدنيا بالمدارس والجامعات والمكتبات ومراكز التحقيق، رغم هذا كله فإنّ هذه المعلومات بالقياس إلى المجهولات كالقطرة بالنسبة للبحر.
إذا لم يكن الإنسان عارفاً بخيره وشرّه ونفعه وضره ولا بِكُنْهِ روحه التي هي أقرب إليه من أي شي ءٍ آخر، ولا بالحوادث المقبلة عليه، ولا بساعة موته، فكيف يمكنه أن يعرف ما يدور في الكواكب البعيدة في العالم اللا متناهي.
ومما لا شك فيه أنّ جهل الإنسان بهذه الامور لا لعجزه بل لسعة الكون، وقد يكون انكار البعض لنظرية إمكان المعرفة نشأ من خلطهم بين هذه المسألة ومسألة قصور العلم البشري واقترانه بالاخطاء.
إنّ القرآن كما يدعو إلى العلم والمعرفة ويؤكّد على أن باب العلم مفتوح للجميع، يصرح بقصور العلم البشري، هذا النقص والقصور اللذان يدعوانه إلى الاعتراف بعظمة الكون وخالقه وبحاجته إلى الرسل وأصحاب الوحي.
ونختم هذا الحديث بمقطع من دعاء الإمام الحسين عليه السلام المعروف بدعاء يوم عرفة، حيث يقول:
«إلهي أنا الفقير
في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، الهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولًا في جهلي».
ج ج
إنّ كون علم البشر محدوداً أمرٌ مسلم به وبديهي ولا يحتاج إلى دليل أو برهان لإثباته، إلّا أنّه بالالتفات إلى النقاط التالية يتّضح لنا الأمر أكثر:
1- إنّ قدرة حواس الإنسان محدودة، فالعين رغم أنّها أهم وسيلة للمعرفة في الامور الحسية فهي لا تستطيع رؤية شي ءٍ من بعيد، إضافة إلى أنّ عدد الألوان التي يشاهدها
نفحات القرآن، ج 1، ص: 87
الإنسان محدودٌ جدّاً لأنّ الألوان ما فوق البنفسجية وما تحت الحمراء بالرغم من كثرتها فلا قدرة للعين على رؤيتها.
كذلك بالنسبة للاذن فانّها لا تسمع كل شي ءٍ بل تسمع أمواجاً صوتية محدودة، وبمجرّد ارتفاع أو هبوط درجة تردد الأمواج فسوف لا تسمع شيئاً، وكذا الحال في بقية الحواس.
إنّنا بالعين المجرّدة نستطيع رؤية عدّة آلاف من النجوم في السماء فقط، بينما هناك المليارات من النجوم موجودة في السماء.
صحيح أنّ الوسائل العلمية ضاعَفَت من قدرة الحواس، إلّاأنّها هي بدورها محدودة القدرة أيضاً.
2- إنّ قدرة إدراكاتنا وأفكارنا محدودة وما وراءها فهو مجهول عندنا على الاطلاق، وهذا الأمر يصدق حتى بالنسبة إلى أكثر الناس علماً وذكاءً فإنّ قدرة فكره وإدراكه تكون محدودة أيضاً.
3- من جهة اخرى فإنّ العالم واسع بدرجة لا يمكننا استيعابه، ونستطيع أن نقول: إنّ علمنا كلما إزداد، ازدادت عظمة العالم في أذهاننا.
ولإدراك عظمة هذا العالم (إلى المستوى الذي يصل إليه فكرنا) يكفي أن نعرف أنّ المنظومة الشمسية والنجوم التي نشاهدها حولنا جزء من المجرّة التي تسمى بدرب التبّانة (المجرّات أو مدن النجوم مجموعة ضخمة من النجوم التي تشكل عالماً خاصاً بحد ذاتها).
وفي هذه المجرة- على ما يقول العلماء- يوجد أكثر من
مائة مليارد نجمة! والشمس بالرغم من عظمتها ونورانيتها فانّها تعتبر من النجوم المتوسطة الحجم في هذه المجرة.
ونفس هؤلاء العلماء يقرّون- وبالاستعانة بالتلسكوب والحسابات الكمبيوترية- أنّ هناك مليارد مجرة في هذا العالم تقريباً! «1»
______________________________
(1). جاء في كتاب (هل وكيف ولماذا) أنّ الفكليين يعتقدون بوجود عدد كبير وهائل من المجرات قرب مجرتنا وبعضها أكبر والبعض الآخر أصغر حجماً وقد كشفت التلسكوبات القوية والحاسوبات العادية للنجوم عن وجود مليارد مجرة تقريباً في هذا العالم.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 88
إنّ ذكر هذه الأرقام سهل على اللسان لكن ما أصعب تصورها؟! وينبغي أن لا ننسى أنّ معلوماتنا عن هذه المجرات والنجوم الهائلة تدور حول محور الأرض فكيف بنا إذا تجاوزنا هذا المحور؟!
4- ومن جهة ثانية فإنّ عالمنا هذا له بداية ونهاية فلا يعلم أحد عن المليارد سنة الماضية ولا عن المستقبل شيئاً، فهو كالسلسلة بدايتها الأزل وتمتد إلى عمق الأبد، وما نعرفه هو حلقة واحدة من هذه السلسلة وهي الحلقة التي نعيش فيها، وما ماضيها أو مستقبلها إلّاكشبح مرسوم في أذهاننا.
صحيح أن الإنسان- وبدافع من فطرته- في سعي مستمر لتحصيل علم أكمل وأشمل عن نفسه وعن العالم، وأنه قد جمع خلال آلاف السنين الماضية معلومات كثيرة ادخرها في خزائن مكتبات العالم الكبيرة والصغيرة.
وصحيح أنّ بعض المكتبات كبيرة إلى مستوى بحيث يصل مجموع طول رفوف الكتب فيها إلى مائة كيلومتر (كما هو الحال بالنسبة لمكتبة المتحف الانجليزي)! وقد يصل عدد الكتب في بعضها إلى ستةُ ملايين كتاباً (كما هو الحال بالنسبة لمكتبة باريس)، بل قد يصل عدد الكتب في بعضها إلى خمسة وعشرين مليوناً (كما هو الحال بالنسبة للمكتبة الأمريكية المعروفة)، وقد تصل فهارس الكتب فيها إلى حجم مكتبة كبيرة، وقد يصل
الأمر بالبعض أن يستعمل وسائل النقل للتنقل فيها من مكان إلى آخر! لكن بالرغم من كل هذه المعلومات عن العالم وأسراره، فإنّ مجموعها لا يشكل إلّاكقطرةٍ من محيط كبير للغاية.
ج ج
ولا بأس أن نشير هنا إلى شهادات بعض العلماء في هذا المجال كي يعرف القارى ء أنّ ما ذهبنا إليه معترف به عند الجميع.
1- يقول «كريس موريس» الطبيب والعالم النفساني في كتابه «سر خلق الإنسان»:
«عندما نفكر بالفضاء اللامتناهي، أو الزمان السرمدي، أو الطاقة العجيبة المودعة في
نفحات القرآن، ج 1، ص: 89
الذرة، أو بالعوالم غير المحدودة والتي تسبح فيها كواكب كثيرة، أو بقدرة تشعشع بعض الكواكب، أو بقوة جاذبية الأرض، أو بالقوانين الاخرى التي يرتبط قوام العالم بها، عندما نفكر بهذه ندرك مدى ضعفنا ونقصان علمنا» «1».
2- ويذكر الدكتور «الكسيس كارل» في كتابه «الإنسان ذلك المجهول»:
«إنَّ المساعي التي بذلت في العلوم التي اطلع عليها الإنسان لم تصل إلى نتيجة مطلوبة، ومعرفتنا لأنفسنا ما زالت ناقصة إلى حدٍ كبيرٍ» «2».
ولهذا السبب جعل «الإنسان ذلك المجهول» عنواناً لكتابه القيّم، فإذا كانت معرفة الإنسان عن نفسه محدودة إلى هذه الدرجة، فواضح حال معرفته عن الأكوان والعوالم الاخرى.
3- ويقول العالم المعروف «وليام جيمس»:
«علمنا قطرة، وجهلنا بحر عظيم».
4- ويقول الفكلي المعروف «فلا ماريون»:
«أستطيعُ أن أهيي ء أسئلة ولمدة عشر سنوات عن مجهولات لا تستطيعون الإجابة عليها» «3»!
5- ويضيف في كلام آخر له:
«نحن نفكر لكن ما هو فكرنا؟ ونمشي، لكن ما هو عملنا العضلي هذا؟ لا أحد يعلم بذلك.
أرى أنّ إرادتي قدرة غير مادية، لكنني عندما أريد أن أرفع يدي أرى أنّ الإرادة غير المادية تحرك يدي والتى هي عضو مادي، كيف يحصل هذا؟ وما هي الواسطة التي تحول
______________________________
(1). سرّ خلق الإنسان، ص 87
(بالفارسية).
(2). الإنسان ذلك المجهول، ص 5.
(3). على اطلال المذهب المادي، ص 138.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 90
الطاقة غير المادية إلى مادية؟ لا يوجد من يجيب على هذا السؤال» «1».
إذا كانت معلوماتنا تجاه أوضح وأبسط الامور العادية هكذا، فما هو الحال بالنسبة للقضايا المعقدة أو البعيدة عن متناول أيدينا زماناً ومكاناً.
6- يقول (انشتاين» الرياضي المعروف والمكتشف للنظرية النسبية والبُعد الرابع، في أحد كتبه:
«لقد علّمنا كتاب الطبيعة الذي نقرأه الكثير من الأمور وقد عَرفْنَا أُسس لغة الطبيعة ...
لكن رغم قراءتنا للمجلدات وفهمنا لها فإنّنا مازلنا بعيدين عن كشف أسرار الطبيعة» «2».
وينبغي هنا اضافة هذه الجملة على الشهادات السابقة:
من العجيب حقّاً أن كل اكتشاف جديد يحصل في هذا العالم يزيد من مجهولات الإنسان، وبعبارة اخرى إنّ اكتشافات العلماء في مختلف المجالات كاكتشاف مكتبة جديدة، أو اكتشاف كنز قيم في نقاط مختلفة من الأرض.
وبديهي فإننا إذا اطلعنا على وجود مكتبة في احدى المدن، أو كنز قيم في خربةٍ فقد أزلنا النقاب عن مجهول واحد، لكن الآلاف من المجاهيل تكشف عن نفسها من خلال هذا الاكتشاف، مثل عدد الكتب ومحتواها وكُتّابها وشخصياتهم وقضايا اخرى من هذا القبيل، كذا الحال بالنسبة للكنز فإذا اطلعنا على وجوده تبلورت في أذهاننا مجاهل اخرى عنه مثل نوعيته ومحتواه ....
ولا نذهب بعيداً، فإنّ عالم الكائنات المجهرية (المكروبات والبكتريا والفايروسات) كان في يوم ما مجهولًا كلياً، وعندما خطا (باستور) الخطوة الاولى عند كشفه لبعضٍ من هذه الكائنات تجلى أمامه عالم كبير من المجهولات.
إنّ اكتشاف الكواكب «اورانوس» و «نبتون» و «بلوتون» في المنظومة الشمسية وكذا
______________________________
(1). على اطلال المذهب المادي، ص 138.
(2). خلاصة الفلسفة النسبية.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 91
كشف المجرات الجديدة كلها من قبيل كشف (باستور) لعالم الكائنات المجهرية،
ومن هنا يجب الاذعان والاعتراف بأنّ العلوم البشرية كنور شمعةٍ وان حقائق هذا العالم العظيم كنور الشمس بل أعظم من ذلك!
ومن هنا ينبغي القول: «سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلّا مَا عَلَّمْتَنا». (البقرة/ 32)
ونختم هذا الحديث بكلام عظيم لمتكلم عظيم ألا وهو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يقول في خطبة الأشباح:
«واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَدِ المضروبة دون الغيوب، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح اللَّه- تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك ولا تُقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين»! «1».
ج ج
إنّ الالتفات إلى كون علم البشر محدوداً لهُ آثار ونتائج إيجابية بنّاءة، نذكرها هنا:
1- الحد من الغرور العلمي: نعلم أنّ البشر قد واجه مصائب كثيرة من جراء الغرور العلمي، ومثاله ما ظهر في حدود القرن الثامن عشر الميلادي في اروبا فعندما حصلت قفزة في العلوم الطبيعية آنذاك، تصور بعض العلماء أنّ جميع ألغاز الكون قد حلت وأنّ أسراره قد كُشفت، ولهذا أنكروا كل شي ء يكمن وراء معلوماتهم، بل سخروا من جميع الامور التي لا تدخل في اطار معلوماتهم، وقد وصل انكارهم إلى حدٍ سخروا من وجود الروح حيث قال بعضهم: لا نؤمن بوجود الروح مالم نشاهدها تحت سكاكين الجراحة في غرفة العمليات، أو بما أنّ اللَّه لا يدرك بالحس فلا وجود له!
إنّ هذا النوع من الغرور خلق مشاكل كثيرة، والأمر الوحيد الذي يمكنه أن يحطم هذا
______________________________
(1). نهج البلاغة، الخطبه 91.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 92
الغرور العلمي هو الالتفات إلى ضآلة العلوم البشرية بالقياس إلى المجهولات، طبقاً للأدلة
التي ذكرت سابقاً.
إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة هو الذي جعل العلماء المتعمقين يعترفون بما قاله أحدهم:
«إنّ علمي وصل إلى مستوىً بأنّي أعلم أنّي لا أعلم» و «معلوماتي صفر والمجهولات بالقياس لها غير متناهية».
2- الحركة العلمية الأسرع: إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة يسوق الإنسان نحو السعي الحثيث والجهاد المخلص والمتواصل لحل ألغاز عالم الوجود، خاصة وأنّه يرى أنّ أبواب العلم مفتوحة أمامه، ولا ييأس من الحصول على علوم أكثر.
وَمن الواضح أنّ الإنسان لا يسعى وراء الكمال مالم يشعر بالنقص، ولا يبحث عن الدواء ما لم يحس بألم المرض، ولهذا يقال: إنّ الاحساس بالألم احدى نِعَم اللَّه العظيمة، وان أسوء الأمراض هي تلك التي لا يصحبها الألم لأنّ المريض لا يطّلع على المرض إلّابعد أن ينقض عليه ويهلكه.
إنّ الالتفات إلى ظئالة العلم البشري يخلق عند الإنسان ردّ فعل إيجابيّ يدفعه نحو التحقيق والتفحص أكثر فأكثر، وقد يكون هذا الأمر هو أحد أهداف القرآن الكريم عند تأكيده على نقصان العلم البشري.
3- الالتفات إلى مبدأ أسمى من الآثار الإيجابية التي يتركها الاحساس بالنقص العلمي عند كل فرد هو أن الإنسان شاء أم أبى يجد نفسه بحاجة إلى مبدأ أعظم تكون عنده جميع أسرار العالم مكشوفة، وألغازه محلولة، إنّ هذه القضية تهيي ء الأرضية لقبول دعوة الأنبياء، وتفتح أمامه سبلًا للاهتمام بالمصادر والطرق العلمية التي تفوق علم البشر.
على أيّة حال، إنّ الالتفات إلى كون علم البشر محدوداً مع غض النظر عن كونه حقيقة، له آثار تربوية وإيجابية جمة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 93
(مصادر المعرفة الستة)
الحس والتجربة
العقل والتحليل المنطقي.
التاريخ و الآثار التاريخية.
الفطرة والوجدان
الوحي السماوي
الكشف والشهود
نفحات القرآن، ج 1، ص: 95
بعد ما ثبت لنا إمكان المعرفة وإمكانية الوصول إليها إجمالًا، جاء الدور للبحث عن سبل المعرفة، وبتعبير آخر عن مصادرها ومنابعها التي تمكننا من معرفة الحقائق الموجودة في العالم، لأنّنا بالاستعانة بهذه السُبُل يمكننا تبديل «الواقعيات» إلى «حقائق»، بواسطة هذه المعالم وذلك لأنّ كلًا من هذه السُبلُ معلم وهادٍ يرفع الحجاب عن أسرار العالم ومجهولاته.
وقبل كلّ شي ء ينبغي معرفة رأي القرآن في هذه المسألة، لأنّ محور دراستنا هذه هو التفسير الموضوعي والتحقيق حول تعليمات القرآن الكريم.
وقد وصلنا بالتحقيق والتتبع الدقيق في الآيات المختلفة والمنتشرة في القرآن الكريم إلى هذه النتيجة وهي أنّ طرق المعرفة ومصادرها في القرآن الكريم تتلخص في ستة أمور:
1- الحس والتجربة (الطبيعة).
2- العقل والتحليل المنطقي.
3- التاريخ والآثار التاريخية.
4- الفطرة والوجدان.
5- الوحي السماوي.
6- الكشف والشهود.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 97
لنمعن النظر خاشعين في البداية إلى الآيات الكريمة التالية:
1- «افَلَمْ يَنْظُرُوا الَى السَّمَاءِ فَوقَهُم كَيْفَ بَنَينَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَها مِنْ فُرُوجٍ . (ق/ 6)
2- «اوَ لَمْ يَنْظُروا فِى مَلَكُوتِ السَّموَاتِ وَالارْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَى ءٍ ...». (الاعراف/ 185)
3- «افَلَا يَنْظُرُونَ الَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَالَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعتْ* وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَالَى الارْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ . (الغاشية/ 17- 20)
4- «فَانْظُر الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مُوتِها ...». (الروم/ 50)
5- «فَلْيَنْظُرِ الْانْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَّاءٍ دافقٍ . (الطارق/ 5- 6)
6- «فَلْيَنْظُرِ الْانْسَانُ الَى طَعامِهِ* انَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبّاً* ثُمّ شَقَقْنَا الْأَرضَ شَقّاً* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً* وَعِنَباً وَقَضْباً». (عبس/ 24- 28)
7- «اوَ لَمْ يَرَوا الَى الْارْضِ كَمْ انْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ . (الشعراء/ 7)
8- «اوَ لَمْ يَرَوا انَّا نَسُوقُ المَاءَ الَى الارْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تأْكُلُ
مِنْهُ انْعَامُهُم وَ انْفُسُهُمْ افَلَا يُبْصِرُونَ . (السجدة/ 27)
9- «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ انَّهُ الحَقُّ ...». (فصلت/ 53)
10- «اوَ لَمْ يَرَوا الَى الطَّيرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ انَّهُ بِكُلِّ شَى ءٍ بَصِيرٌ». (الملك/ 19)
11- «وَفِى الارْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِى انْفُسِكُمْ افَلَا تُبْصِرُونَ .
(الذاريات/ 20- 21)
نفحات القرآن، ج 1، ص: 98
12- «وَاللَّهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالابْصَارَ وَالْأَفئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشكُرُونَ . (النحل/ 78)
ج ج
إنَّ الآيات الواردة في هذا المجال كثيرة جدّاً، وما ذكر هنا نماذج واضحة في مجالات مختلفة «1».
إنَّ كلمة «ملكوت»- على ما يقوله الراغب في مفرداته- مصدر «مَلَك» وقد اضيفت لها التاء، وتستعمل في الإشارة إلى (ملك اللَّه) فقط دون غيره، بينما جاء في «مجمع البحرين» و «لسان العرب» أنّ الملكوت يعني «العزة والسلطنة»، ويقول البعض: إنّها اشتقت من «مُلك» على وزن «حُكْم» وتعني «الحكومة والملكية»، واضيفت لها التاء والواو للمبالغة.
وكلمة «قضب» على وزن (جَذْب)- وكما جاء في لسان العرب- في الأصل تعني «قطع» بحيث قال بعض المفسرين: إنّها تعني الخضروات التي تُحصد في فصول مختلفة «2».
وكلمة «جُرُز» تعني الأرض الفاقدة للنباتات، أو الأرض التي لا ينبت فيها نبات، و «جَرَزَ» على وزن (مَرَض) وتعني القَطع ونقل صاحب «لسان العرب» عن بعض أئمّة اللغة أنّ الأرض الجرز تطلق على الأرض التي قلع نباتها أو انقطع عنها المطر.
______________________________
(1). يمكن الرجوع إلى الآيات التالية: الاعراف، 185؛ ويوسف، 109؛ الروم، 9؛ غافر، 6؛ النحل، 79؛ الشعراء، 7؛ الاحقاف، 33؛ الملك، 19؛ يس، 77؛ الأنعام، 6؛ النحل، 78؛ المؤمنون، 78؛ ق، 37؛ الاحقاف، 26؛ هود، 24؛ غافر، 21؛ محمد، 10.
(2). تفسير الميزان، ج 2، ص 316؛ تفسير
مجمع البحرين، ج 10، ص 440. نُقِلَ عن ابن عباس أنّ المراد من «القضب» في الآية هو «الرُطَب» الذي يقتطف من النخيل لكن بالنظر إلى الآية الاخرى التي أشارت إلى نفس الكلمة فإنّ هذا التفسير بعيد. وقال البعض: يحتمل أن يكون المراد منها هو فواكه الشجيرات مثل الخيار والرقي، أو جذور بعض المزروعات مثل الجزر والبطاطس.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 99
وأمّا كلمة «افئدة» جمع «فؤاد» وتعني القلب- كما يقول الراغب- إلّاأنّ الفؤاد يطلق على القلب الذي له حالة إنارة وإضاءة، وهذا أمرٌ ملفت للنظر حيث يعد اللَّه القلب المنَّور والمنير من مواهبه، وجدير بالذكر أنّ صاحب «لسان العرب» ذكر أنّ أصلها جاء من «فأد» على وزن (وَعْد) ويعني المشوي، وعلى هذا تكون كلمة «فؤاد» إشارة إلى العقول التي تتحلى بالأفكار الناضجة!
ج ج
في الآية الاولى يدعو اللَّه الإنسان إلى الالتفات إلى السموات والأرض وجمالهما وكيفية بنيانهما والنظام الذي يتحكم بهما وإحكامهما واتقانهما وخلوهما من العيب.
وفي الآية الثانية يدعو اللَّه الناس إلى مشاهدة نظام السموات والأرض والكائنات، وذلك لإيقاظ القلوب للسير في طريق التوحيد ومعرفة الخالق.
والآية الثالثة تلقي نظرة من السماء إلى الأرض حيث تلفت نظر الإنسان إلى شيئين:
أحدهما خلق الإبل وعجائب هذا الخلق (بالخصوص لُاناس يعيشون في محل نزول القرآن).
والآخر تسطيح الأرض بحيث تصلح الحياة عليها، ويعتبر القرآن المشاهدة في جميع هذه المراحل منبعاً مهماً للمعرفة.
وفي الآية الرابعة والتي يخاطب اللَّه فيها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يلفت نظره إلى مسألة نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها ويقول له: «فانظر إلى آثار رحمة اللَّه كيف يحيي الأرض بعد موتها».
وفي الآية الخامسة يشير اللَّه إلى مبدأ خلق الإنسان وأنّه يجب أن ينظر من أي شي ءٍ خُلِقَ؟
قد خلق من ماء دافق، ويذكر المشاهدة هنا كوسيلة للمعرفة كذلك.
وفي الآية السادسة يأمر اللَّه الإنسان بأن ينظر إلى غذائه وطعامه كيف نبت وشق الأرض
نفحات القرآن، ج 1، ص: 100
وخرج النبت من التربة بواسطة نزول المطر فصارت الحبوب والفواكه والخضروات، فإذا نظرنا إليها ودققنا في كل ورقة من أوراقها لوجدناها كتاباً وسفراً يحكي لك عن معرفة اللَّه.
ج ج
والآيات الست السابقة تدعو إلى «النظر» بينما الآيات الخمس التي بعدها تدعو إلى «الرؤية» بالرغم من أنّ كلًا من هذين الاصطلاحين في كثير من الأحيان يستعملان بمعنى واحد، إلّاأنّه كما يستفاد من قواميس اللغة المعروفة- يطلق «النظر» على حركة العين والتفحص والدقة في مشاهدة شي ءٍ، بينما تطلق «الرؤية» على نفس المشاهدة «1»، بالطبع أنّ كلا المفردتين تستعملان بمعنى المشاهدة الحسية تارة وبمعنى المشاهدة الذهنية والفكرية تارة اخرى، إلّاأنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ المعنى الأولي لهما هو المشاهدة الحسية.
وعلى أيّة حال، فإنّ الآية السابعة تدعو المشركين لمشاهدة مختلف النباتات التي تنبت أزواجاً أزواجاً في أرجاء المعمورة.
والآية الثامنة تدعو المشركين كذلك إلى رؤية مياه البحار ومصدرها تلك القطرات العالقة في الغيوم وهطولها منها على الأرض اليابسة وخروج الزرع الذي يستفيدون منه هم وأنعامهم.
وقد أشارت الآية التاسعة إلى جميع آيات «الآفاق» و «الأنفس»، وهي آيات اللَّه في هذا العالم العظيم وفي العالم الصغير وهو وجود الإنسان، وقالت: نحن نريكم آيات الآفاق والأنفس كي يتبين لكم الحق ويتضح.
والآية العاشرة دعت إلى مشاهدة الطيور وكيفية طيرانها في السماء، فتارة صافّات اجنحتها وتارة اخرى قابضات، وهذا الأمر هو الذي يجعلها تطير في السماء خلافاً لجاذبية الأرض، كما أنّ طيرانها بسرعة تارة بصف الأجنحة واخرى بقبضها، وكأنّ هناك قدرة خفية تدفعها إلى الأمام، ولكلٍ من الطيور
شكلها الخاص بها والوسائل الضرورية لحياتها.
______________________________
(1). يراجع مفردات الراغب ولسان العرب مادة «نظر».
نفحات القرآن ج 1 149
نفحات القرآن، ج 1، ص: 101
والآية الحادية عشرة لفتت الأنظار إلى مسألة خلق الأرض ومن ثم خلق الإنسان الذي يعتبر خلقة عالَماً عظيماً مليئاً بالضجيج رغم صغر حجمه، وأنبّت الذين لا يبصرون رغم أنّهم قادرون على الإبصار بخطاب «أفلا يبصرون».
(ينبغي الالتفات إلى أنّ «البصيرة» جاءت من مادة «بصر» الذي يعني «العين» إنّ «بصر العين»، ورغم استعمالها بمعنى «النظر» و «الرؤية» إلّاأنّها تختلف عنهما بالتأكيد على عضو البصر وقوته، لكنها كالمفردتين السابقتين قد تستعمل بمعنى المشاهدة الباطنية والفكر).
وأخيراً، فإنّ الآية الثانية عشرة تؤكد على الأعضاء الثلاثة أى الأذن والعين والقلب والتي تعتبر ثلاثة أعضاء أساسية للمعرفة وهذا دليل واضح على اعتبار المشاهدة والحس من المصادر الأساسية للمعرفة.
إنّ الآيات السابقة والتي غالباً ما تحدثت عن قضية التوحيد ومعرفة اللَّه، أمرت الناس بأن يفتحوا أعينهم أثناء سلوك طريق المعرفة والتوحيد من أجل الوصول إلى الهدف، عندها سيرون اسم «اللَّه» على جبين كل موجود في هذا العالم، ويشاهدون الأنظمة الدقيقة والغريبة التي تتحكم بالعالم، ومن ثم يصلون- بواسطة برهان النظم- لا إلى معرفة ذات اللَّه فحسب، بل صفاته وتوحيده وتدبيره وقدرته وعلمه اللامتناهي.
وبالنظر إلى أنّ أهم مسألة في الإسلام هي مسألة التوحيد ومعرفة اللَّه، وأنّ أهم دليل في القرآن على المعرفة هو برهان النظم، وأهم منبع لبرهان النظم هو الطبيعة والمخلوقات فمن هنا تتضح أهميّة الحس والمشاهدة والتجربة من وجهة نظر القرآن الكريم.
وقد استعان القرآن كثيراً ب «المشاهدة الحسية» ليس في مسألة التوحيد فحسب بل في مسألة المعاد أي ثاني أهم مسألة في الإسلام أيضاً، وقد صوّر لنا لقطات من المعاد بالاستعانة
بنفس الطبيعة المشهودة لنا، كما جاء ذلك في سورة (ق) حيث يقول تعالى
نفحات القرآن، ج 1، ص: 102
«وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً مُّبارَكاً فَأَنْبَتنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* ... وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الخُرُوجُ : أي في يوم القيامة. (ق/ 9 و 11)
كما- وأنّه للكشف عن عاقبة الظلم والجور وأهلهما- دعا اللَّه الناس لمشاهدة ما خلَّف هؤلاء من آثار ومشاهدة مدنهم الخربة.
هذا كلّه تأكيد من القرآن على ضرورة الاستعانة ب «الحس والمشاهدة» كمصدر للمعرفة.
هناك اختلاف كبير في وجهات نظر الفلاسفة فيما يخص قضية اطّلاعنا على العالم الذي يحيط بنا وما هي المراحل التي نطويها للوصول إلى هذه المعرفة؟ ومن أي مصدر تصل أذهاننا؟ إنّ أكثر الفلاسفة عدّوا الحس أحد مصادر المعرفة رغم ظهور قطبين على طرفي الإفراط والتفريط في هذا المجال.
1- «الحسيون» حيث يعتبرون الحس الطريق الوحيد للمعرفة وينكرون المصادر الاخرى كالعقل.
«إنّ هؤلاء الذين ظهروا في القرن السابع عشر أنكروا قيمة البرهان القياسي العقلي، واعتبروا اسلوب التجربة الاسلوب الوحيد والسليم والمعتمد عليه في هذا المجال، وتعتقد هذه المجموعة بعدم أصالة وتجذر الفلسفة النظرية العقلية المستقلة عن العلوم التجريبية، ويعدون العلم ثمرة الحواس فقط، والحواس لا تتعلق إلّابظاهر وعوارض الطبيعة، إذن لا اعتبار للمسائل الفلسفية الأولية، وذلك لأنّها نظرية وعقلية بحتة وتتعلق بالامور غير المحسوسة، ولا يدرك الإنسان هذه المسائل نفياً أو إثباتاً» «1».
______________________________
(1). اصول الفلسفة والمنهج الواقعي للشيخ المطهّري، ج 1، ص 6 (مع تلخيص قليل).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 103
إنّ الماديين ومن ضمنهم أتباع المذهب «الديالكتيكي» من المتحمسين لهذه النظرية، فهم يقولون:
«إذا انقطعت جميع قنوات التأثير الخارجي عن حسّنا، فهذا يعني أنّا سوف لا نعرف شيئاً، وسيعجز الذهن عن جميع نشاطاته، وتبقى معرفة الواقعيات أمراً
محالًا، وعلى هذا فالحس منشأ المعرفة ومبنى أحكامنا اتجاه أي مسألة، فينبغي القول أنّ الحس منبع المعرفة بل منبعها الوحيد» «1».
2- المجموعة الاخرى هي التي تقع في الطرف المقابل للمجموعة الاولى تماماً وهي التي لا تولي أي أهميّة للحس في مجال المعرفة.
يقول «ديكارت»: «لا نستطيع الوثوق بالمفاهيم التي وصلتنا من الخارج بواسطة الحواس الخمسة بأنّ لها مصداقاً خارجياً أم لا، وإذا كان لها مصداق فلا يقين لنا بتطابقه مع الواقع» «2».
مسار الحكمة في اوربا: «يعتقد (ديكارت) أنّ محسوسات الإنسان لا تتطابق مع الواقع، وأنّ الحس هو وسيلة ارتباط بين جسم الإنسان والخارج، ويرسم لنا صورة كاذبة عن العالم، فهو يعتقد أن المفاهيم النظرية هي أساس العلم الواقعي» «3».
والخلاصة: أنّ هذه المجموعة تعتقد أن المعقولات فقط لها قيمة علمية يقينية، أمّا المحسوسات فلها قيمة علمية غير يقينية «4».
إنّ المجموعةَ الاولى تستند إلى أخطاء العقل النظري والاختلاف الفاحش بين العلماء في المسائل العقلية، بينما تستند المجموعة الثانية إلى أخطاء الحواس، حيث يذكرون أعداداً لا تحصى من أخطاء حاسة البصر التي تعتبر أهم وأوسع حس للإنسان.
______________________________
(1). المادية الديالكتيكية «نيك آئس»، ص 302، (ملخص)- بالفارسية-.
(2). مسار الحكمة في اوربا، ج 1، ص 172 (مع تلخيص)- بالفارسية-.
(3). المصدر السابق.
(4). اصول الفلسفة، المقالة الرابعة (قيمة المعلومات).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 104
لكن ممّا لا شك فيه أنّ كلتا المجوعتين خاطئتان، ونوضح ما ندعيه بصورة مركزة فنقول:
بالنسبة للحسيين يمكن حصر أهم إشكالاتهم في النقاط التالية.
1- إنّ كلّ إنسان عند مشاهدته للموجودات الخارجية يواجه مجموعة من الحوادث والقضايا الجزئية لا يمكن الاستفادة منها للاستدلال، لأنّ كل استدلال يجب أن يستند إلى قضية كلية.
ومن هنا تبدأ مسؤولية العقل، حيث يقوم بصياغة قضايا كلية من هذه الجزئيات،
فمثلًا نلاحظ أن قطعة الحجر تكسر الزجاج العادي في ظروف مختلفة، فهذه الحوادث الجزئية الحاصلة بالحس تنتقل إلى العقل، فيصوغ العقل قاعده كلية تجاه هذه المسألة، وكذلك الأمر بالنسبة للتجربة في الظروف والازمنة والأمكنة المختلفة التي تكشف عن أن الضوء ينتشر بصورة خط مستقيم، فالعقل يصوغ قاعدة كليّة من هذه الحوادث الجزئية لا وجود لها في الخارج والموجود في الخارج هو مصاديقها لا ذاتها.
وعليه فالإدراكات الحسية كالمواد الخام التي قد «تتحلل» وقد تتركب في مختبر العقل، ومن خلال هاتين العمليتين نحصل على المفاهيم الكلية التي يستفاد منها في المنطق والاستدلال.
2- ممّا لا شك فيه أنّه ينبغي الاستفادة من العقل لإصلاح الأخطاء الناشئة من خطأ الحواس، فعندما نقول:
فإذا اخطأ البصر في رؤية الأشجار المتوازية متقاطعة من بعيد فإنّ المعيار في تشخيص و إدراك الخطأ هذا هو العقل.
صحيح أن تمييزنا لهذا الخطأ يستند إلى الحس أيضاً حيث إننا ندرك خطأ بصرنا من بعيد لأنا طوينا الشارع من اوله إلى آخره عدة مرّات وشاهدنا الأشجار في طول الشارع متوازية ولم تلتقِ في مكانٍ، لكن هذا الاستدلال الذي يستند إلى الحس يقوى عندما يقول لنا العقل إنّ اجتماع النقيضين محال، ويقول بامتناع أن تكون الأشجار متوازية ثم تلتقي في
نفحات القرآن، ج 1، ص: 105
نقطة واحدة، فاستدلالنا بهذا الشكل يثبت لنا خطأ ما نشاهده من بعيد. في الحقيقة إن قضية امتناع اجتماع النقيضين التي تدرك بالعقل تشكل حجر الأساس لجميع الاستدلالات، وعليه فلا يؤخد بالدليل الحسي دون الاستناد إليها.
3- فضلًا عما سبق، فإنّ ما ندركه بالحس هو ظاهر الأشياء، وما نرى من الجسم بالحس مجرد مظهره لا شي ء آخر، وعليه فبدون تدخل الإدراكات العقلية لا نستطيع معرفة حقيقة الجسم.
قد يقال:
إنّ الحواس لا دور لها لوحدها بل يجب الاستعانة بالإدراكات العقلية حتى في العلوم التجريبية، لكن ينبغي الاذعان إلى هذه الحقيقة- وهي أنّ جميع الإدراكات العقلية حصلت بواسطة الحواس وكما يقول «جان لاك» الفيلسوف الانجليزي المعروف: «لا شي ء في العقل لم يوجد قبله في الحس».
إنّ هذه الجملة التي أصبحت مثلًا وبقيت ذكرى منه تدل على أنّ الذهن كان كاللوحة البيضاء في البداية وقد ينقش عليها بعد ذلك بواسطة الحواس، وأن لا وظيفة للعقل غير «التجريد» و «التعميم» أو «التحليل» و «التركيب» لمدركات الحواس.
لكن هذا خطأ فظيع، وذلك لأنّ علمنا بأنفسنا (الذي هو علم حضوري) لم يحصل بواسطة الحواس، كذلك علمنا بوجود الحواس، أو علمنا باستحالة اجتماع النقيضين لم يحصل عن طريق الحواس، فنحن ندرك محالة أن نكون موجودين ومعدومين في آن واحد وإن لم نملك حواساً، كذا الأمر بالنسبة لقضايا أخرى لا حاجة فيها إلى الحواس.
وتوجد أبحاث كثيرة في هذا المجال لو أسهبنا فيها لابتعدنا عن هدف هذا الكتاب، وتَطَرُّقُنا لبعضها هنا كان بهدف توضيح نظريتي «الحسيين» و «العقليين» الذين حصروا سبل المعرفة في بُعد واحد، وأن نظريتيهما سقيمتان وأن كلًا من «الحس» و «العقل» يشكلان منبعاً ومصدراً للإدراك، كما انعكس ذلك في القرآن المجيد.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 107
في القرآن الكريم تعابير كثيرة استعملت للإشارة إلى هذا المصدر كما يشاهد الكثير من الآيات التي تدعو الناس إلى المعرفة بالاستعانة ب «التفكير».
ونذكر هنا بعض تلك التعابير التي استعملت للإشارة إلى هذا المصدر المهم للمعرفة:
1- العقل.
2- اللب (وجمعه ألباب).
3- الفؤاد.
4- القلب.
5- النُهى
6- الصدر.
7- الروح.
8- النفس.
كما أنّ هناك تعابير استعملت في القرآن لبيان مهمة العقل مثل:
9- الذكر.
10- الفكر.
11- الفقه.
12- الشعور. نفحات القرآن، ج 1، ص: 108
13- البصيرة.
14-
الدراية.
والآن نبحث كلًا من العناوين السابقة في ضمن بحثنا عن الآيات التي وردت فيها تلك التعابير «1».
ج ج
لنمعن خاشعين أولًا في الآيات التالية:
1- «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . (البقرة/ 242)
2- «انَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ والنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّاولِى الْالبَابِ .
(آل عمران/ 190)
3- «وَاللَّهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْابصَارَ وَالْأَفئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . (النحل/ 78)
4- «وَكَمْ اهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ قَرْنٍ هُمْ اشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِى البِلَادِ هَل مِنْ مَّحِيصٍ* انَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ اوْ الْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ». (ق/ 36- 37)
5- «كُلُوا وَارْعَوا انْعَامَكُمْ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّاوْلِى النُّهَى . (طه/ 54)
6- «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجحَدُ بِآيَاتِنَا إلَّاالظَّالِمُونَ .
(العنكبوت/ 49)
7- «فَاذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيه مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ».
(الحجر/ 29) و (ص/ 72)
______________________________
(1). إضافة إلى العناوين والتعابير السابقة التي اشير إليها، هناك تعابير استعملت في القرآن وأريد بها مراحل الإدراك مثل: الظن والزعم والحسبان واليقين، وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، والتي تبدأ بمرحلة هشة ومتزلزلة من الإدراك وتنتهي باليقين الذي هو أعلى مراحل الإدراك ولا يتصور درجة ومرحلة أعلى منه.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 109
8- «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا». (الشمس/ 7- 8)
9- «... وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون . (البقرة/ 221)
10- «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ افَلَا تَتَفَكَّرُونَ . (الأنعام/ 50)
11- «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ . (الأنعام/ 65)
12- «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ امْوَاتٌ بَلْ احياءٌ وَلَكِنْ لَّاتَشْعُرُونَ .
(البقرة/ 154)
13- «انَّ الّذِينَ اتَّقَوا اذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَاذَا هُمْ مُّبْصِرونَ .
(الاعراف/ 201)
14- «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا
تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ .
(لقمان/ 34)
«العقل» كما جاء في لسان العرب ومفردات الراغب- من العقال أي الحبل الذي يُشدْ به ساق البعير لمنعه من الحركة وبما أنّ العقل يردعُ الإنسان عن القيام بالأعمال المشينة اطلقت هذه المفردات عليه.
وقد ذكر صاحب الصحاح أنّها تعني «الحُجْر» «المنع» بينما قال البعض كصاحب القاموس: إنّها تعني «العلم بصفات الأشياء كالحسن والقبح والكمال والنقص»، أمّا صاحب مجمع البحرين فقد فسر العاقل بانه: «الذي يستطيع أن يسيطر على نفسه ويتغلب على أهوائه وميوله».
ويظهر أنّ معناه الأولي هو الصد والمنع ولهذا يقال لمن امتنع لسانه عن النطق «اعتقل لسانه» كما يقال «للدية» «عقل» لأنّها تحول دون إهراق دماءٍ أكثر، ويقال للمرأة العفيفة والمحجبة والطاهرة «عقيلة».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 110
يقول «الخليل بن أحمد» في كتابه «العين»: إنّ العقل يطلق على القلعة والحصن أيضاً.
كما نلاحظ هنا فإنّ مفهوم الحجر والمنع متضمّن لجميع هذه المعاني، وعليه فإن أصلهُ يعني المنع.
أمّا كلمة «اللب» وجمعها «الألباب»- كما يقول كثير من أهل اللغة- يعني الخالص والصفوة من كلّ شي ء، ولهذا يطلق على المرحلة الرفيعة من العقل «اللب»، فإنّ كل لبٍ عقلٌ لكن ليس كل عقلٍ لُباً، لأنّ اللب هو العقل في مراحله الرفيعة والخالصة، ولهذا السبب نُسِبَتْ امورُ القرآن الكريم إلى «أُولي الألباب» لا تدرك إلّابالمراحل الرفيعة من العقل، كما يطلق اللب على باطن كثير من الفواكه لأنَّه خالص من القشر «1».
وإنّ كلمة «الفؤاد»- كما أشرنا سابقاً- من مادة «فأد» على وزن (وَعْد) وفي الأصل معناه وضع الخبز على الرماد أو الحصى الحارة، كي يُخبز جيداً، كما يطلق على طبخ وشوي اللحم «2».
وعلى هذا فالعقل عندما ينضج يطلق عليه «فؤاد» وجمعهُ «أفئدة».
ويضيف الراغب
في مفرداته: إنّ «الفؤاد» يعني القلب مع زيادة وهي الإنارة واللمعان.
إنّ «القلب»- كما جاء في القاموس والمفردات والعين ولسان العرب- في الأصل يعني تغير الشي ء وتحوله، وغالباً ما يستعمل بمعنيين، فتارة يطلق على العضو الذي يتكفل بضخ الدم إلى جميع أعضاء البدن، وتارة اخرى يستعمل فيرادُ به الروح والعقل والعلم والفهم والشعور، وجاء هذا الاطلاق من حيث إنّ القلب الجسماني والقلب الروحي في حركة وتغيّر مستمرين، وكما يقول بعض أهل اللغة:
ما سمي القلب إلّامن تقلبه والرأي يصرف بالإنسان اطوارا!
كما أنَّ كلمة «القلب» تطلق على مركز كل شي ء مثل: قلب العسكر، لأنّ القلب مركز جسم وروح الإنسان، وقد جاء في القاموس أنّ خالص كلّ شي ءٍ يقال له «قلب».
______________________________
(1). لسان العرب والمفردات ومجمع البحرين.
(2). لسان العرب وتاج العروس ومفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 111
وكلمة «النُهى تَعني «العقل» ومن مادة «نهي» على وزن (سَعْي) ويعني المنع من شي ء مأخوذ، وقد صرح كثير من أئمة اللغة (كصاحب المفردات ومجمع البحرين ولسان العرب وشرح القاموس) أنّ هذه التسمية جاءت من حيث إنّ العقل ينهى عن الأعمال المشينة.
وَ «الصدر» في الأصل يعني القسم الأمامي الذي تحت الرأس (في الجسم) ومن ثم اطلق على القسم الأعلى والمقدم لأي شي ءٍ، مثل صدر المجلس أي أعلاه، وصدر الكلام أي بدايته، وصدر النهار أي أوله (كما جاء ذلك في المفردات ولسان العرب).
إلَّا أنّه قد يستفاد من بعض الكلمات معنى المقدمية والبداية لكل شي ء، وعلى كل حال، بما أنّ العقل عضو مهم ويقع في الجزء الأعلى من البدن أُطلق عليه صدر، خاصة وأنّ القلب الجسماني يقع في وسط الصدر (العضو المعروف من البدن)، وسنذكر فيما بعد أنّ هناك علاقة وثيقة بين انقلاب القلب العضوي والانقلابات العقلية.
أمّا كلمة
«الروح» في الأصل تعني التنفس، وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بين التنفس وبقاء الحياة، استعملت بمعنى النفس ومركز العقل وفهم الإنسان.
وقد صرح البعض أن كلمتي «الروح» و «الريح» اشتقتا من أصل واحد، وإذا سميت الروح- التي هي وجود مجرّد ومستقل- روحاً فذلك من حيث إنّ الروح كالريح توجد الحيوية والحركة من دون أن تُرى
وَكلِمة «النفس»- وكما يقول الراغب وصاحب القاموس ولسان العرب وكتاب العين- تعني الروح التي هي مركز إدراكات الإنسان، إلّاأنّ القرآن الكريم ذكر مراحِلَ النفس:
«فالنفس الامارة» هي النفس التي تأمر الإنسان بالمعاصي وترغبه بها، و «النفس اللوامة» وهي التي تندم على المعاصي التي ارتكبها الإنسان وتوبخه عليها، و «النفس المطمئنة» وهي التي تتحكم بجميع الشهوات والميول وقد وصلت إلى مرحلة الاطمئنان.
من مجموع ما سبق، يتبين لنا أنّ القرآن المجيد استعمل مفردات كثيرة للإشارة إلى العقل، وكلٌّ من هذه المفردات تشير إلى جانب من جوانب هذا الوجود النفساني، وبتعبير آخر كلٌّ منها يتعلق ببعد من أبعاد العقل.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 112
وبما أنّ هذه القدرة الغامضة تردع الإنسان عن الأعمال المشينة وتمنعه عنها قيل لها عقل ونُهى
وبما أنّه في حال انقلاب وتحول دائم قيل له «قلب»، وبما أنّه في القسم الأعلى من بدن الإنسان قيل له «الصدر».
وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بينه وبين الحياة قيل له «روح» و «نفس»، وعندما يصل إلى مرحلة الإخلاص ويصفو من الشوائب يقال له «لُبّ»، وأخيراً عندما تنضج أفكاره يطلق عليه «فؤاد».
نستنتج من هذا البيان أنّ استعمال هذه المفردات المتنوعة في القرآن لم يكن اعتباطاً بل كان منسجماً ومتماشياً مع الموضوع الذي في الآية، وهذا من عجائب القرآن التي يدركها الإنسان عند تتبعه لآيات القرآن وتفسيره لها موضوعياً.
ج ج
إنَ «الذكر» يمثل الاصطلاح المقابل للنسيان، وكما يقول الراغب: إنّه حالة في الإنسان تمكنه من حفظ ما أدرك واستحضاره في الذهن عند الحاجة، وهذا المعنى قد يتم بالقلب وقد يحصل باللسان.
وإنّ «الفكر» يعني فعالية العقل، وعلى ما يقوله الراغب: إنّه قوة تسوق العلم إلى المعلومات، ويعتقد بعض الفلاسفة: أنّ حقيقة الفكر تتركب من حركتين: حركة نحو المقدمات، ثم حركة من المقدمات إلى النتيجة، ومجموع هاتين الحركتين اللتين تؤدّيان إلى العلم والمعرفة يقال لهما «الفكر».
و «الفقه» يعني «الفهم» بصورة عامة- كما جاء ذلك في لسان العرب- إلّاأنّ الراغب في مفرداته يقول: إنّه بمعنى الاطلاع على أمرٍ خفي بالاستعانة بأمرٍ ظاهر وجلي، وعليه فالفقه علم يحصل بالأدلة (بالطبع إنّ الفقه المصطلح فعلياً هو علم الأحكام الإسلامية).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 113
أمّا «الشعور» فيعني العلم والمعرفة- كما يقوله بعض من أئمّة اللغة كصاحب القاموس ولسان العرب ومقاييس اللغة وغيرهم- إلّاأنّ الراغب قال في مفرداته: يعني «الاحساس»، وإذا كان المقصود هو الاحساس الباطني فلا اختلاف مهم بين ما قاله الراغب وما قاله الآخرون في شرح معنى الشعور، وقد جاء الشعور في كثير من آيات القرآن وأُريد به (العلم)، إلّاأنّه استعمل في موضع آخر وقصد به الاحساس الخارجي.
إنَّ كلمة «البصيرة» اشتقت من البصر، وقد جاءت- كما يقول الراغب- بثلاثة معانٍ:
بمعنى العين، وبمعنى قوة العين، وبمعنى قوة الإدراك والعلم.
وقد قال البعض: إنّ معناها في الأصل هو العلم سواء حصل بالمشاهدة الحسية أو بالعقل «1».
وتستعمل مفردة «البصيرة» بالخصوص في «الإدراك القلبي والعلم»، ولهذا جاء في لسان العرب أنّها تعني الاعتقاد القلبي، وقد فسرها البعض بالذكاء الذهني.
وقد استعملت بالمعنى الأخير في القرآن الكريم حيث يقول: «قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِى «2». (يوسف/ 108)
وكلمة «الدراية» تعني العلم والخبرة بصورة عامة، أو العلم والخبرة في الامور الخفية والمستترة، كما قد جاءت بمعنى «الكياسة»، كما يستفاد من قواميس اللغة أنّها في الأصل تعني الالتفات إلى شي ءٍ ثمّ استعملت وأُريد منها الخبرة بشي ءٍ، وقد استعملت في القرآن الكريم مراراً وقصد بها مفهوم «العلم»، ويستخلص من هذا القسم من بحثنا أنّ الألفاظ التي استعملت للتعبير عن العقل وأريد منها مفهوم العلم والإدراك ألفاظ متنوعة، وكلٌّ منها تُعبّر عن بُعد وجانب من أبعاد وجوانب العقل، وقد استعملت كلٌّ في موردها!
فعند البحث عن الخبرة مع الدقة استعملت «الدراية»، وعند البحث عن التحليل والعقل
______________________________
(1). التحقيق في كلمات القرآن الكريم مادة (بصر).
(2). وقد جاءت في آيات اخرى واريد منها نفس المعنى كما في الآيات: القيامة 14؛ و الأنعام 104؛ الأعراف 203؛ الاسراء 102.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 114
استعمل «الفكر»، وعند البحث عن أمرٍ خفي ومعرفته بالاستعانة بأمرٍ محسوس استعمل «الفقه»، وعند البحث عن الخبرة المقترنة بالحفظ والحضور بالبال استعمل «الذكر»، وعلى هذا السياق تستعمل كل مفردة في محلها وكل لفظ في مقامه.
وينبغي الالتفات هنا إلى هذه النقطة وهي أنّ التعبيرات التي استعملت في القرآن لبيان مهام العقل لها مراحل ورتب، تبدأ ب «الشعور» ويراد منه الإدراك البسيط، ثم مرحلة «الفقه» والذي يعني إدراك المسائل الخفية من المسائل الجليّة، وبعدها تأتي مرحلة «الفكر» ويُراد منه التحليل العقلي، ثم تأتي مرحلة «الذكر» أي الحفظ في الذهن والحضور في البال، ثم مرحلة «النُهى التي تعني الإدراك العميق لحقائق الامور، وتنتهي هذه المراحل بمرحلة «البصيرة» التي تعني النظر الذهني العميق.
وهذا هو معنى البلاغة والفصاحة!
ج ج
إنَّ أول آية تناولناها بالبحث هنا تؤكد بان الهدف من نزول الآيات
هو العقل والتفكير لدى الإنسان، وتكشف عن هذه الحقيقة بالتعبير ب (لعلَّ) التي تفيد بيان الهدف في موارد كهذا المورد.
وقد أكدت بعض الآيات على هذا الموضوع وذهبت إلى ابعد من ذلك حيث وبّخت الناس على عدم تفكرهم وتعقلهم وآخذتهم بعبارةٍ كهذه: «أَفَلَا تْعقِلُونَ «1».
وقد تكرر هذا المضمون بصيغة جملة شرطية، حيث يقول تعالى «قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . (آل عمران/ 118)
______________________________
(1). آل عمران، 65؛ الأنعام، 32؛ الاعراف، 169؛ يونس، 61؛ هود، 51؛ يوسف، 109؛ الأنبياء، 10 و 67؛ المؤمنون، 80؛ القصص، 10؛ الصافات، 138.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 115
إنّ هذه التعابير المختلفة: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أَفَلا تَعْقِلُونَ، إنْ كُنْتُم تَعْقِلُونَ تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة وهي: إنّ اللَّه وهب الإنسان العقل كي يستعين بقدرته على إدراك الحقائق وفهمها، ويستحق اللوم والتوبيخ إذا ترك الانتفاع بهذه القدرة.
والآية الثانية ومن خلال اشارتها إلى آيات اللَّه في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار صرحت: إنّ إدراك هذه الآيات أمر يسير لأُولي الألباب.
وكما أشرنا سابقاً، فإنّ (اولي الألباب) هم العلماء الذين خلصت عقولهم من جميع ترسبات الأوهام، فهم يدركون وقائع نظام الخلق، ويرون جمال الخالق من خلالِ المخلوقات، وهذا يكشف عن أهميّة العقل كطريق لمعرفة الحق جل وعلا.
ج ج
أمّا الآية الثالثة، فبعد أن أشارت إلى خروج الإنسان من بطن امّه لا يعلم شيئاً شرحت وسائل المعرفة، فبدأت بحاسة «السمع» الذي تُعرف علومه ب «العلوم النقلية»، من خلال الاصغاء إلى أقوال الآخرين، ثم ذكرت «البصر» الذي تميز به الأشياء بعد مشاهدتها ثم ختمت ب «الفؤاد» الذي تُدرك به الحقائق غير المحسوسة، وقد قلنا سابقاً: إنّ الفؤاد هو العقل عند نضوجه، فهو أعلى درجة من العقل.
ج ج
والآية الرابعة بعد إشارتها إلى الأقوام
السالفة المقتدرة والتي أُبيدت واهلكت بسبب، وقد أُهلكوا لطغيانهم وفسادهم، ولم يستطيعوا الفرار والنجاة، قالت: «إنَّ في ذلِكَ (في سيادتهم ثم إبادتهم) لَذِكْرِى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ (أي عقل) أَوْ الْقَى السَّمْعَ (أي يصغي للنصائح)»!
والآية الخامسة بعد الإشارة إلى إحياء الأرض الميتة وانبات الزرع فيها الذي يمثل غذاء الإنسان ودوابّه، صرحت: إنّ هذه الامور آيات يدركها أصحاب النهى
وكنّا قد أشرنا إلى أنَّ النهى هو العقل بما هو ناهٍ عن فعل الأفعال القبيحة.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 116
أمّا الآية السادسة فبعد أن أشارت إلى الآيات العظيمة والبيّنة للقرآن، قالت: إنّ هذه الآيات في صدور (قلوب) الذين أُوتوا العلم، وكما بيّنا من قبل فانَّ الصدر يعني الجزء المقدم والأعلى من كل شي ء، وهذا يبيّن أنّ العقل الذي يعتبر من المصادر المهمّة للمعرفة، يشكل أشرف جزء في الإنسان.
والآية السابعة بعد أن ذكرت قصة خلق آدم عليه السلام خاطبت الملائكة بالقول: «فَاذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِديِنَ . (29/ حجر) و (ص/ 72)
وهذه (الروح الإلهيّة) هي (جوهر العقل)، وقد اضيفت إلى اللَّه لأهميتها (ويقال لهذه الإضافة اضافة تشريفية) لأنّ اللَّه لا روح له ولا جسم، ولأجل هذه الروح الإلهيّة سجد جميع الملائكة المقربين لآدم عليه السلام، وإلّا فالطين والتراب لا قيمة لهما، وهذا تأكيد شديد على أهميّة وقيمة العقل.
ج ج
والآية الثامنة تشير إلى خلق (النفس) أي الروح والعقل، وتُقسم بخالق النفس، ثم تضيف: إنّ اللَّه ألهم وكشف للنفس طريقي الفجور والتقوى بعد أن أوضح لها هذين الطرِيقَيْن، وهذا تلميح جميل إلى الإدراكات الفطرية التي جُبِلَ عليها الإنسان منذ أن بدأ حياته.
كان هذا مجموع العناوين والمفردات الثمانية التي استعملت في القرآن وأريد بها الإشارة في كل مفردة منها
إلى جانب وبُعد من جوانب وأبعاد جوهر العقل، وقد بينت هذه العناوين الأبعاد المختلفة لهذا المصدر المهم للمعرفة.
ج ج
إنَّ ما ذكر سلفاً كان بحثاً في جوهر العقل، أمّا بالنسبة لنشاط ووظيفة العقل، فهنالك تعابير عديدة في القرآن كانت قد اختصت بهذا الموضوع وكلٌّ منها تبيّن جانباً من جوانب وأبعاد نشاط العقل، وهي كالتالي:
نفحات القرآن، ج 1، ص: 117
الآية التاسعة بحثت التذكر واعتبرته الهدف من بيان آيات اللَّه، والتذكّر هو الحفظ والخطور في الذهن وهو أحد أهم وظائف العقل، وإذا لم يكن التذكر حاصلًا عند الإنسان ما استفاد الإنسان من علومه شيئاً.
وفي هذا المجال نرى تعبيرات مختلفة في القرآن، فقد يذكر الموضوع الاستعانة بالأداة (لعل) التي تفيد بيان الهدف في موارد كهذا المورد، وتارةً اخرى يعبر عن الموضوع باسلوب التوبيخ واللوم مثل «أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ «1».
وقد يبين الموضوع باسلوب التوبيخ لأولئك الذين لا ينتفعون بالعقل والفكر، فلا يحفظون الحقائق ولا يتذكرونها، كما هو الأمر في: «قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُون .
(الاعراف/ 3) و (النمل/ 62).
ج ج
وقد تحدثت الآية العاشرة عن (التفكر) بعد استفهام استنكاري: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَىْ وَالْبَصِير»؟ وقد وجهت اللوم بقولها: «أفلا تتفكرون»، وكما أشرنا سابقاً إلى أنَّ التفكير يعني تحليل وتجزئة المسائل للوصول إلى حقائقها، وهو سبيل للفهم الأكثر والأفضل.
وقد تنوّعت تعبيرات القرآن في هذا المجال، فتارةٌ يكون الاسلوب هكذا «لَعَلَّكُمْ تَتَفكَّرُون . (البقرة/ 219)
وتارة يكون: «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون . (يونس/ 24)، و (الرعد/ 3)، و (النحل/ 11)
وتارة اخرى يكون: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ . (الروم/ 8)
ج ج
وتحدثت الآية الحادية عشرة عن «الفقه» الذي يعني الفهم العميق، حيث قالت: «انظر
______________________________
(1). كما في سور الأنعام، 80؛ هود، 24؛ النحل، 90؛ المؤمنون، 85؛ الصافات، 155.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 118
كيف نصرّف الآيات» بأنواع من
البينات «لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ فقهاً عميقاً.
وقد جاءت العبارة هنا بصيغة: «لَعَلَّهُم يَفقهُونَ . (الانعام/ 65)
كما قد جاءت في مكان آخر بصيغة: «لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ . (الأنعام/ 98)
وفي آية اخرى باسلوب: «لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ . (التوبة/ 81)
وفي اخرى: «بَلْ كَانُوا لَايَفْقَهُونَ الَّا قَليلًا». (الفتح/ 15)
وكلها تبين الأهميّة القصوى للفهم والإدراك العقلي.
وكما قلنا سابقاً، فإنّ كلمة «الفقه» تعني إدراك الامور الخفية بالاستعانة بمشاهدة الامور الجلية، وهذا الإدراك هو أحد أبعاد الإدراك العقلي.
وتحدثت الآية الثانية عشرة عن «الشعور»، فبعد أن نهت المؤمنين عن نعت الشهداء بالأموات قالت: إنّهم أحياء ولكن لا تشعرون أي لا تدركون.
وقد يراد بالشعور هنا معنى الاحساس الظاهري، أو الاحساس الباطني، وقد استعمل بكلا المعنيين في القرآن المجيد.
وقد ذمّ القرآن في موارد مختلفة، أولئك الذين لا يشعرون ولا يستخدمون شعورهم «1».
ج ج
وقد تحدثت الآية الثالثة عشرة عن «البصيرة» بعد ما أشارت إلى المتقين، حيث قالت:
إنَّ المتقين إذا ما ابتلوا بوساوس الشيطان تذكروا اللَّه وأبصروا وادركوا الحقيقة فنجوا من شباك الشياطين.
إنّ «البصيرة» و «الأبصار» هو الرؤية وقد تتم الرؤية بواسطة العين الظاهرة فيكون بصراً حسياً، وقد تتم بواسطة العين الباطنية أي العقل فذلك «الإدراك العقلي»، والمراد من البصيرة في هذه الآية هو المعنى الثاني.
______________________________
(1). كما في الآيات الآتية، الشعراء، 113؛ الحجرات، 2؛ البقرة، 9؛ آل عمران، 69؛ الأنعام، 36 و 123؛ المؤمنون، 56.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 119
إنّ الإنسان على نفسه بصيراً: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ». (القيامه/ 14)
والرسول وأتباعه على بصيرة فيما يدعون إليه: «قُلْ هَذِهِ سَبِيِلى أَدْعُو الَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى . (يوسف/ 108)
وقد استعملت البصيرة في جميع هذه الموارد بمعنى المعرفة الحاصلة عن طريق العقل قطعاً.
ج ج
وقد تحدثت الآية الرابعة عشرة والأخيرة عن «الدراية» التي
تعني الذكاء والخبرة والاحاطة بالمسائل الخفية أو غير المحسوسة، حيث قالت: «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ . (لقمان/ 34)
وقد استعملت الدراية في القرآن بصيغ السلب دائماً، ويفيدنا في هذا أنّ الدراية مرحلة عميقة من الفهم والإدراك لا تحصل لِكلِّ إنسان.
ج ج
نستنتج من الآيات السابقة النتائج الآتية:
1- إنَّ القرآن يعتبر العقل من المصادر الأصلية للعلم والمعرفة، وقد أولاه أهميّة قصوى
2- القرآن يدعو الجميع للتعقل والتفكّر في جميع الامور.
3- التفت القرآن التفاتاً خاصاً إلى ماهيّة الروح الإنسانية وأبعادها المختلفة، وأكّد على كلٍ من هذه الأبعاد.
4- عبر القرآن عن نشاطات الروح في مجال إدراك الواقعيات تعبيرات مختلفة، وقد استخدم واستفاد من كل تعبير في محله.
إلّا أنّ القرآن ذكر موانع عديدة تحول دون الإدراك الصحيح للعقل، سنبحثها في فصل (حجب المعرفة) إن شاء اللَّه.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 120
بالرغم من أنّ أغلب الفلاسفة يعتبرون الإدراك العقلي أحد المصادر المهمّة للعلم والمعرفة، إلّاأنّ الفلاسفة الحسيّين يخالفون هذا الأمر، ولا يعيرون للإدراكات العقلية أهميّة واعتباراً- كما أشرنا إلى ذلك سابقاً- ويحصرون طرق المعرفة بالتجارب الحسية متذرّعين بالحجج الواهية الآتية:
1- اختلاف الفلاسفة في المسائل العقلية، فإنّ كلَّ طائفة منهم قدّمت أدلة ظاهرها يوحي بأنّها منطقية لإثبات مدعاها.
2- وقوع كثير من العلماء بأخطاء معتقداتهم بحيث يضطر البعض في مواقع عديدة للاعتراف بخطئه ويسعى لتصحيحه.
3- كما يجب إضافة أمر آخر إلى الأمرين السابقين وهو: إنّ التقدم والتطور السريع للعلوم الطبيعية في القرون الأخيرة حلَّ الكثير من ألغاز العالم وأسراره عن طريق التجربة الحسية، وهذا الأمر قَوّى فكرة الاستناد إلى التجربة الحسية (في مجال المعرفة) فقط، وألغى بقيّة الطرق.
ونقرأ في «تاريخ الفلسفة»: إنّ موضوعاً كهذا الموضوع سبب انكار
الحقائق (الحسية وغير الحسية) من قبل السوفسطائيين في اليونان القديمة، فمن جهة نظروا إلى اختلاف الفلاسفة، ومن جهة اخرى نظروا إلى عوام الناس، فبعضهم يؤيدون ادّعاء وكيلي المتنازعين في المحكمة، ويعطون الحق لكلٍ من الطرفين وكأن كلا الطرفين على حق، ولهذا قويت عندهم فكرة أن لا حقيقة واقعاً.
وهنا ينبغي الالتفات إلى عدة امور لرفع هذه الالتباسات:
الأمر الاول: هو وجوب فصل «الإدراكات البديهية» عن «النظرية» عند التحقيق في مسألة الإدراكات العقلية، وذلك لأنّ الاخطاء لا تحصل في البديهيات، فلا يشك أحد في أنّ الاثنين نصف الأربعة، أو أن شيئاً لا يمكن أن يكون موجوداً ومعدوماً في آن واحد ومكان
نفحات القرآن، ج 1، ص: 121
واحد، وإذا شاهدنا أشخاصاً يشككون في هذا الأمر أو يعتقدون، بخلاف ما هو بديهي فهم في الواقع يتلاعبون بالألفاظ لا أكثر، فيفسرون (النقيضين) أو «الضدين» بمعانٍ غير تلك المعاني المتعارف عليها، والّا فلا خلاف في اصل الموضوع.
الامر الثاني: لا يخطأ الاستدلال إذا استند إلى مقياس دقيق، فالخطأ ينشأ عندما يستند الدليل إلى مقاييس غير دقيقة، ولهذا لا نشاهد اختلافاً في مسائل الرياضيات وقوانينها، لأنّها تعتمد على أسسٍ دقيقة، ونمتلك معايير واضحة لمعرفة صحة أو خطأ النتيجة لأي مسألة، والنتائج تكون قطعية كذلك.
الأمر الثالث: إنّ قولنا بوجود أخطاءٍ في الإدراكات العقلية، دليل على قبولنا للإدراكات العقلية لا على نفيها، وذلك لأنّ مفهوم حديثنا عن الأخطاء في الإدراكات هو أننا نقلب بعض الحقائق ونخطّي ءُ عقائد الآخرين على أساس تلك الحقائق المقبولة لدينا.
مثلًا عندما حكمنا بصحة أحد آراء الفلاسفة المختلفين، فانّنا نعلم أنّ صحة اعتقادين متضادين محال، وهذا إدراك عقلي بديهي، وقضية القائلين: «إنّ الحس لا اعتبار له لأنّه يُخطِى ءُ» تماثل هذه القضية، وكما ذكرنا سابقاً،
فان تخطئتنا للباصرة في إدراكها لخط دائري ممتد ناشئة عن معرفتنا بأن هذا الخط نقطة نورانية متحركة، وبما أنّ «النقطة» تضاد «الخط» حكمنا بخطأ الباصرة في إدراكها للخط الممتد، وهذا اعتراف ضمني يوجد حقائق وإمكانية إدراكها.
وآخر الحديث، نقول: في الحقيقة إنّ جميع المنكرين للإدراكات العقلية يريدون إثبات مدعاهم بنفس الإدراكات، أي أنّهم ينقضون مدعاهم عملياً، وقد هبوا لحرب الإدراكات العقلية بواسطة الإدراكات العقلية.
أكّدت الروايات الإسلامية على أنّ للعقل أهميّة قصوى أكثر مما هو متوقع، وأشادت به
نفحات القرآن، ج 1، ص: 122
بعناوين مختلفة مثل: أساس الدين، وأكبر غنىً، وأفضل رأس، واعلى قضية، وأفضل صديق، وأخيراً المقياس والمعيار للتقرب إلى اللَّه ونيل الثواب الإلهي.
ونكتفي هنا بذكر اثنتي عشرة رواية فقط من بين عشرات بل مئات الروايات المأثورة والمنقولة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، والأئمّة عليهم السلام.
ففي هذا المجال:
1- قال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله: «قِوامُ المرءِ عَقلُه، ولا دينَ لِمن لا عقلَ لهُ» «1».
2- قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل» «2».
3- وقال في حديث آخر: «إنَّ اللَّه تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر عقولهم» «3».
4- وجاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ الثواب على قدر العقل» «4».
5- كما جاء في حديث للرسول صلى الله عليه و آله: «ما قسَّم اللَّه للعباد شيئاً أفضل من العقل ... وما أدّى العبد فرائض اللَّه حتى عَقَلَ عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل» «5».
6- وجاء في حديث أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام خاطب هشام بن الحكم قائلًا: «يا هشام! ما بعث اللَّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلّاليعقلوا عن اللَّه، فاحسنهم استجابة أحسنهم
معرفة، وأعلمهم بأمر اللَّه أحسنهم عقلًا، وأكملهم عقلًا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة» «6».
7- وقال الرسول صلى الله عليه و آله في حديث آخر: «لكل شي ء آلة وعُدّة، وآلة المؤمن وعدَّته العقل، ولكلِ شي ء مطية ومطية المرء العقل، ولكلّ شي ء غاية وغاية العبادة العقل» «7».
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 1، ص 94، ح 19.
(2). نهج البلاغة الكلمات القصار، الكلمة 54.
(3). بحار الأنوار، ج 1، ص 106، ح 2.
(4). اصول الكافي، ج 1، ص 12، ح 8 (كتاب العقل والجهل).
(5). المصدر السابق، ص 12، ح 11.
(6). المصدر السابق، ص 16.
(7). بحار الأنوار، ج 1، ص 95، ح 34.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 123
8- وجاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام: «إذا أراد اللَّه أن يزيل من عبد نعمة كان أول ما يغير منه عقله» «1».
9- ويقول الإمام علي عليه السلام في هذا المجال: «العقل صاحب جيش الرحمن، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبة بينهما، فأيّهما غلب كان في حيّزه» «2».
10- ويقول في حديث آخر: «العقول أئمّة الأفكار والأفكار أئمّة القلوب، والقلوب أئمّة الحواس، والحواس أئمّة الأعضاء» «3»، (وبهذا فإنّ أعضاء الإنسان تستند إلى حواسه وحواسه تستعين بعواطفه، وتعتمد عواطفه على أفكاره، وأفكاره على عقله).
11- وجاء في حديث للرسول صلى الله عليه و آله: «إنَّ الرجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصلاة والصيام، وممَّن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يُجزى يوم القيامة إلَّاعلى قدر عقله» «4».
12- وقال الإمام الباقر عليه السلام: «لا مصيبة كعدم العقل» «5».
إنَّ لهذا الجوهر الإنساني (العقل) شأناً رفيعاً وصفات إيجابية كثيرة جداً، والملفت للنظر حقاً أنّه بالرغم من اتصاف العقل بهذه الصفات وامتلاكه هذه المكانة المرموقة نجدُ مَنْ يذمّونه وَمَن يتأسفون لأنّهم
عقلاء، والأغرب من ذلك أنّهم يمتلكون الحجج- حسب زعمهم- على ادّعاءاتهم الجوفاء!
______________________________
(1). بحار الانوار، ج 1، ص 930، ح 20.
(2). غرر الحكم.
(3). بحار الأنوار، ج 1، ص 96، ح 40.
(4). تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 324.
(5). بحار الأنوار، ج 71، ص 165.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 124
فتارة يقولون: إنَّ العقل يحد من تصرفات الإنسان ويسلبه حرّيته، حيث يجعل أمامه موانع تحول بينه وبين ما يريد أن يقوم به من عمل حراماً كان أو حلالًا حسناً أو قبيحاً خيراً أو شرّاً، فلو لم تكن لنا عقول لكنّا أحراراً.
وتارة يقولون: إنّه يسلب راحة الإنسان حيث نرى العقلاء والأذكياء من الناس لا راحة لهم، إلّاأنّ البسطاء من الناس فرحون وسعداء دائماً لانعدام تأثير العقل عليهم.
وإذا قرأنا أشعاراً مفادها ذمُّ العقل أو الانتقاص منه أو الاستهانة به فمن الواضح كونها مزاحاً أو سفسطة أو كناية عن مفاهيم اخرى ويستبعد أن يكون مرادهم ذم العقل، بل إنّهم يقصدون أنّ هناك اموراً مؤلمة تحيطهم، والناس في غفلة عنها.
أو أنّ قصدهم من الجنون المذكور في بعض الأشعار كصفة للعقل، هو الجنون العرفاني والمراد منه العشق الإلهي، والتضحية بكل شي ء في سبيله.
وعلى أيّة حال، صحيح أنّ العقل يقيد حرية الإنسان وبعض تصرفاته،
إلّا أنّ هذا فخر له، لأنّه يرشدهُ نحو التكامل، إنَّ هذا الادّعاء يُشْبِهُ ادعاء من قال: «إنّ الاحاطة بعلم الطب يحد من انتخاب الإنسان لأنواع الأطعمة ومن امور اخرى»، وهل هذا نقص؟! أم أنّه ينقذ الإنسان من الاصابة بالامراض وفي بعض الأحيان من التسمم القاتل.
أمّا القول بأن العقل يزيد من هموم الإنسان وأحزانه، فهذا يرفع من منزلة الإنسان، العاقل من يتحسّس آلام المضطهدين والمظلومين ويتألم من سلوك المعاندين وبالتالي فهو دليلٌ على
الكمال، وكما جاء في المثل: (إمّا أن يكون ضعيفاً ونحيفاً كسقراط في زهده أو سميناً وبديناً كالخنزير).
نعم، إذا غفلنا عن مسألة التكامل الإنساني واعتبرنا الأصل في الحياة هو اللذّة المادية، فان ما يتفوه به بعض المؤيدين لأصالة اللذة المادية صحيح، لكن هذا الحديث مضحك ولا قيمة له من وجهة نظر الإنسان الموحّد الذي يؤمن بالرسالة والهدف وتكامل الإنسان.
إضافة إلى هذا، فإنّ المؤيدين لأصالة اللذة مضطرون لأنّ يسلموا ويخضعوا لكثير من القوانين الاجتماعية الحادة من حرياتهم وتصرفاتهم، وأن يفرضوا على أنفسهم العناء من
نفحات القرآن، ج 1، ص: 125
هذه الناحية، ومن هنا ندرك كيف أنّ الإنسان يسقط في الهاوية عند ابتعاده عن تعاليم الوحي والأنبياء.
إلى هنا ننهي البحث عن المصدر الثاني من مصادر المعرفة (العقل) وننتقل إلى المصدر الثالث بالرغم من بقاء بحوث كثيرة لم تطرح في هذا الفصل.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 127
تعرَّض القرآن للقضايا التاريخية باسلوبين:
1- الاسلوب المدوّن، أي أنّ القرآن المجيد يَسردُ للمسلمين بعض الحوادث التاريخية للأقوام السالفة بألفاظ وعبارات شيقة ودقيقة، ويبين الامور الغامضة والمشرقة من تاريخهم، ويشير إلى عواقب أعمالهم، وذلك لتوعية المسلمين وتعريفهم بالقضايا المختلفة، ولكي يرى الناس حقائق من حياتهم في مرآة تاريخ السالفين.
2- الاسلوب الثاني، التكويني، أي كشف القرآن عن الآثار التاريخية التي خلفتها الأقوام الغابرة، الآثار الصامتة ظاهراً والتي تمثل عالماً صاخباً ومثيراً، الآثار التي يمكنها أن تصوّر لنا التاريخ الغابر، الآثار التي تعتبر مرآة أمام الإنسان يرى فيها وجه حياته في الحاضر والمستقبل.
ج ج
نبدأ أولًا بقراءة نماذج من كلا القسمين في الآيات التالية:
1- «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبرَةٌ لِّأُوْلِى الْأَلبَابِ . (يوسف/ 111)
2- «فَاقصُصِ القَصَصَ لَعلّهُم يَتَفَكَّرُون . (الاعراف/ 176)
3- «ذَلِكَ مِنْ أَنباءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنهَا قَائمٌ
وَحصِيدٌ». (هود/ 100)
4- «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بمَا أَوحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرآنَ وَإنْ كُنتَ مِنْ قَبلِهِ
نفحات القرآن، ج 1، ص: 128
لَمِنَ الغَافلين . (يوسف/ 3)
5- «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبرَةً لِّمَنْ يَخْشَى .
(النازعات/ 25- 26)
6- «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسمَعُونَ بِهَا ...».
(الحج/ 46)
«افَلَم يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا». (محمد/ 10)
8- «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ .
(آل عمران/ 137)
9- «قُلْ سِيرُوا فِى الأَرضِ فَانْظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِى ءُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (العنكبوت/ 20)
10- «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ . (البقرة/ 258)
11- «أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ». (الفجر/ 6- 7)
12- «أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ . (الفيل/ 1)
1- إنَّ كلمة «قصص» تعني التتبع لآثار شي ءٍ ما «1»، وقد سمّيت القصة قصة لأنّ فيها تتبعاً للأخبار والحوادث المختلفة، وعليه فالقصّة لا تعني الرواية فحسب، بل تعني- لغوياً- التتبع لآثار الأشياء.
كما تطلق «القصص» على كل شي ء متتابع ومتسلسل.
______________________________
(1). ينبغي الالتفات إلى أنّ (قصص) كما هي مصدر لقصَّ يقصّ، هي جمع (قصة)، والمراد منها في سورة يوسف في الآيتين 3 و 111 هو المعنى الثاني.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 129
وبما أنّ (المِقَصّ) يقص الشعر على التوالي قيل له (مِقَصّ)، والقُصّة، على وزن «غُصّة» وتعني مجموعة الشعر الإمامي «1».
2- أمّا كلمة «عِبْرة» فاشتقت من مادة (عبور) و (عَبْر) وتعني الانتقال من حالة إلى حالة اخرى، و «العبور» في الأصل- يعني عبور الماء
سباحة أو بالزورق أو على الجسر وأمثال ذلك، وقد استعملت هذه المفردة بمعنى أوسع وهو الانتقال من حالة إلى حالة اخرى، ويقال لقسم من الحديث (عبارة) لأنّها تمثل العبور من لسان المتكلم إلى اذن السامع.
أمّا (العبرة) فهي الحالة التي يتوصل بها من معرفة المُشاهدِ إلى ما ليس بِمُشاهَدٍ «2».
وقد ذكر البعض أن «العبرة» تعني الدلالة التي توصل الإنسان إلى مراده «3».
كما جاءت هذه المفردة بمعنى التعجب «4» (وقد يكون هذا الاطلاق الأخير لأنّ كثيراً من الامور التي يكتشفها الإنسان عن طريق الحوادث المهمّة والجلية تثير العجب).
3- كلمة «السير» تَعني الحركة على الأرض، وإذا قيل (سيروا في الأرض) فإنّ القيد الأخير تأكيد للسير، وقد قال الراغب في مفرداته: ذُكِرَ معنيان للسير في الأرض: أحدهما الحركة الجسمانية على الأرض (ومشاهدة الكائنات وآثارها المختلفة)، والثاني هو الحركة الفكرية ودراسة الكائنات، وقد صرح البعض: إنّ السير يعني العبور المستمر في جهة واحدة «5».
أمّا كلمة «السيرة» فتعني الطريقة والأسلوب، واستعمالها إشارة إلى تاريخ حياة الأشخاص، وقد أخُذت من هذا المعنى
4- أمّا «الرؤية» فقد جاءت بمعنيين، أحدهما المشاهدة بالعين، والآخر العلم والمعرفة
______________________________
(1). لسان العرب، ومفردات الراغب، ومجمع البحرين.
(2). مفردات الراغب.
(3). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 271.
(4). لسان العرب.
(5). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 268.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 130
أو المشاهدة الباطنية «1»، وقد استعملت في القرآن الكريم في موارد كثيرة بالمعنى الثاني أي بمعنى العلم والاطلاع، وأمّا «الرأي» فيعني الاعتقاد القلبي والنظرية سواء كان اعتقاداً يقينياً أو ظنياً، وأمّا «الرويّة» و «التروّي» فيعنيان التفكير أو السعي والبحث للحصول على النظرية.
5- كلمة «نظر» في الأصل تعني دوران العين أو حركة الفكر لإدراك أمرٍ ما، أو مشاهدته، وجاء أيضاً بمعنى البحث
والتفحص وتارة جاء بمعنى المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وقد ذكر صاحب مجمع البحرين ثلاثة معانٍ للنظر: 1- مشاهدة الشي ء، 2- التدقيق في الشي ء بواسطة العين؛ 3- التفكير للحصول على العلم أو الظن «2».
أمّا صاحب لسان العرب فقد شرح النظر بأنّه المشاهدة بالعين والثاني المشاهدة بالقلب، والمفيد أنّه استشهد بعد ذلك بحديث للرسول صلى الله عليه و آله حيث قال فيه: «النظر إلى وجه علي عبادة»، وفي تفسير هذا الحديث ينقل عن ابن الأثير أنّه قال: معنى الحديث هو أن الناس حينما كانت أعينهم تقع على علي غ عليه السلام كانوا يقولون:
«لا إله إلّااللَّه ما أشرف هذا الفتى لا إله إلَّااللَّه ما أعلم هذا الفتى ...» «3».
بعد أن أشارت الآية الاولى إلى المصير المؤلم لبعض الأمم السالفة قالت: «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِم عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلبَابِ فالتفكير في مصير هؤلاء يُعد الاسلوب الأَمثَل لأُولي الألباب لمعرفة عوامل السعادة والشقاء، وتمييز طريق الهلاك عن طريق النجاة.
______________________________
(1). وفعلها يتعدى لمفعول واحد على المعنى الأول، ومفعولين على المعنى الثاني (لسان العرب والمفردات).
(2). مفردات الراغب مادة (نظر).
(3). لسان العرب، مادة (نظر).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 131
ج ج
والآية الثانية خاطبت الرسول قائلة ذكرهم بتاريخ ومصير الامم السالفة من أجل أن تبعث فيهم روح التفكير والتأمل: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُم يَتَفَكَّرُون وهذا يدل على أنّ البيان الصحيح لتاريخ السالفين موجب لصحوة الأفكار ومصدراً للمعرفة.
ج ج
والآية الثالثة بعد أن بيّنت مصير بعض الأقوام السالفة مثل قوم نوح وشعيب وفرعون ولوط وعاد وثمود، قالت: «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنهَا قَائمٌ وَحَصِيدٌ» (أي من القرى من هو باق لحدّ الآن ومنها من زال وفنى «مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ . (هود/ 101)
ثم أضافت في النهاية «إِنَّ في ذَلِكَ
لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرةِ». (هود/ 103)
ج ج
و الآية الرابعة التي جاءت في بداية سورة يوسف، هَيَّأَتْ أَذهانَ المخاطبين في البداية لتلقي وإدراك ما سَيُقال لهم فقالت: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ احْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا الَيْكَ هَذَا الْقُرآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ .
(يوسف/ 3)
فقد استندت الآيات الأربع إلى موضوع «القصة» والقصص» كوسيلة للمعرفة.
ج ج
والآية الخامسة بعد اشارتها إلى تعذيب فرعون قالت: «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالاولى إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى .
إنَّ هذه الآية ذكرت (العبرة) التي تعني الانتقال والعبور من حالة قابلة للمشاهدة إلى حقائق غير قابلة للمشاهدة واعتبرتها وسيلة للمعرفة.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 132
وقد أكدت الآية السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة على مسألة «السير في الأرض»، ودعت الناس إليه باساليب خطابية مختلفة، فمرة خاطبتهم ب: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنْظُروا كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ومرة «فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبينَ بعد ما ذمتهم لعدم سيرهم في الأرض.
وفي آيات أُخَر خُوطِبَ جميع الناس أو المسلمين بالقول: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبينَ .
وفي آية اخرى هناك دعوةٌ للناسِ لأنّ يسيروا في الأرض للبحث عن بدء الخلق والاستفادة من ذلك للعلم بكيفية النشأة الآخرة.
ج ج
وقد أكدت الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة على مسألة المشاهدة و «الرؤية» ليس بالعين الباصرة، بل بالعقل والبصيرة.
إنّ الخطاب في الآيات الثلاث في الظاهر موجَّهٌ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلَّاأنّ المراد بها جميع المؤمنين، بل الناس كافة، والخطاب بصيغة استفهام تقريري، حيث خاطبه اللَّه تارة بالنحو الآتي:
ألم ترَ إلى الذي (أي نمرود ذلك السلطان الطاغي المغرور) حاجّ ابراهيم في ربّه، وإلى أيّ نهاية انتهى به المطاف؟ وتارة يخاطبه بهذا
الخطاب: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد».
وخاطبه تارة اخرى بنحو آخر قائلًا له: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيْلِ ، مذكّراً بقصة أصحاب الفيل الذين قدموا من اليمن لهدم الكعبة فانزل اللَّه عليهم طيوراً- بالرغم من ضعفها- ترميهم بحجارة من سجيل تحملها بمناقيرها فهلكوا بهذه الأحجار الصغيرة.
ومن المسلم به أنّه لا الرسول ولا غيرَه من المسلمين رأى إبراهيم ونمرود وسمعَ
نفحات القرآن، ج 1، ص: 133
محاجتهما، وكذا الأمر بالنسبة لقوم عاد، فلم يروهم ولم يروا مدنهم العامرة يومذاك، وحتى بالنسبة لأصحاب الفيل فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله وُلِدَ في السنة التي هجم فيها (ابرهة) طبقاً للرواية المشهورة، فلم يرَ شيئاً من الحادث وكذا أكثر المسلمين، وعلى هذا فالمراد من الرؤية هو التدقيق في تاريخهم.
إنّ ما يلفت النظر هنا هو أنّ الآيات الخمس الاولى ركّزت بحثها على التاريخ المدوّن أي ما جاء في صفحات الكتب التاريخية بينما ركزت الآيات الاربع الأخيرة بحثها على التاريخ التكويني الحي أي الآثار الباقية عن الأقوام الغابرة في بقاع مختلفة من العالم.
من الممكن أن تكون الآيات الثلاث الأخيرة فيها إشارة إلى التاريخ المدون أو التاريخ الخارجي أو كليهما، ويتضح من مجموع هذه الآيات (وأمثالها في القرآن الكريم) الأهميّة القصوى التي أولاها القرآن لقسمي التاريخ كمصدر للمعرفة والعلم.
إنَّ اللَّه عزّ وجلّ يدعو الناس تارةً لأنّ يشاهدوا بأم أعينهم قصور الفراعنة وآثار دمار مدن عاد وثمود وقصور نمرود وأعوانه والبلاد التي جُعِلَ عاليها سافلها التابعة لقوم لوط لكي يعرفوا أنَّ مَصير المتجَبّرين سيؤول إلى هذه النهاية.
وتارة نجد القرآن نفسه يشرح بدقة هذه الحوادث ويسلط الأضواء عليها ويعدُّ العِبَر بعد العِبَر ذاكراً عاقبة (المكذبين) و (الظالمين) و (الكافرين) و
(المفسدين) في ضمن بحوثه التاريخية هذه.
في الحقيقة إنّ القرآن تارة يأخذ بأيدي الناس إلى «مصر» ويريهم الآثار التاريخية ويصور لهم الراقدين تحت التراب ويضع أمام أعينهم العروش التي عصفت بها الرياح، وتارة اخرى يريهم الذين أُركسوا في العذاب وهُدّمت عروشهم، والخلاصة: فإنّ القرآن يريهم ما خفي عن العيان من قصص الأسلاف.
إنّه يمضي بهم إلى المدن المُخربة كمدينة (سدوم) مركز قوم لوط ليشاهدوا عن كثب ما حلّ بها ومن هناك إلى جنة شداد، وبلاد بابل، (مركز حكومة نمرود)، ومناطق اخرى.
إنّه يجعل من ايوان كسرى في المدائن وزخارف كل قصر عبرة لمن اعتبر ونصيحة جديدة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 134
والخلاصة: إنّ القرآن يستند كثيراً في مجال التعليم والتربية والتوعية إلى التاريخ المدون في الكتب، وما موجود على وجه الأرض، وهذه، مسألة جديرة بالاهتمام كثيراً.
ج ج
إنّ أهم ما يحصل عليه الإنسان في حياته هو تجاربه الشخصية، التجارب التي تفتح له بها آفاق جديدة وواسعة من أجل حياة أفضل وجهاد اكثر ليسعى جاهداً للوصول إلى التكامل الأمثل.
لكن ما هو مقدار التجارب التي يستطيع الإنسان الحصول عليها خلال عمره القصير البالغ مثلًا عشرين سنةً أو خمسين أو ثمانين؟
هذا إذا قضى عمره في ميادين التجربة ولم يِقضِهِ على وتيرة واحدة.
إننا، لو استطعنا أن نجمع تجارب جميع من عاش في عصر واحد، أو تجارب جميع من عاش في القرون والعصور الماضية، لَحَصَلْنا على تجارب كثيرة، وستكون تلك التجارب مصدراً مهماً لمعرفتنا وخبرتنا.
إنّ التاريخ- إذا تمّ تدوينه بالطريقة الصحيحة والكاملة- فسوف يقدم للباحثين والدارسين تجارب البشر على مرّ القرون، وحتى إذا كان ناقصاً فانّه يضم بعض تجارب العصور الغابرة.
ومن هنا تبدو أهميّة التاريخ حيث إنّ ما يحدث الآن قد تكرر نموذج أو نماذج منه
في التاريخ سابقاً، وما يقال عن التاريخ من أنّه «يعيد نفسه» حقيقة لا تنكر وقد تستثنى موارد منه إلّاأنّ اكثر الحوادث داخلة في اطار هذا القانون.
وقد أشار الإمام علي عليه السلام لهذا الموضوع بوضوح في خطبةٍ له، حيث قال فيها: «عباد اللَّه
نفحات القرآن، ج 1، ص: 135
إنّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين» «1».
وقد جاء في حديث شريف أنّ ما يجري في الامة الإسلامية قد جرى مثله في بني اسرائيل.
ومن هنا تتضح أهميّة ودور التاريخ في مجال المعرفة والفكر، ونستطيع القول بتحدى:
إنّه بالتحليل والدراسة الدقيقة لتاريخ البشر نجد:
عوامل الفشل والسقوط.
وعوامل الانتصار والفوز.
وعوامل إزدهار الحضارات.
وعوامل سقوط وانقراض الحكومات (الدول).
وعاقبة الظلم والاستبداد.
وعاقبة العدل والانصاف.
ونتائج وحدة الكلمة والحركة والسعي.
ودور العلم والمعرفة.
وعواقب الجهل والبطر والكسل، كلها قد انعكست في مرآة التاريخ.
وإن أراد أحد أن يمنحه اللَّه حياة ثانية فحريٌّ بنا أن نقول له: إنّك إذا درست التاريخ بدقة لوجدت إنّك لم تمنح حياة ثانية فحسب، بل وُهِبَت الآلاف المضاعفة.
وما أجمل ما خاطب به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ولدَهُ الاكبر الإمام الحسن عليه السلام: «أي بني إنّي وإن لم أكن عُمّرتُ عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهِم وسرتُ في آثارهم، حتى عُدْت كأحدهم، بل كأني بما انتهى الىَّ من امورهم قد عمِّرتُ مع أولهم إلى آخرهم» «2».
______________________________
(1). نهج البلاغة، الخطبة 157.
(2). نهج البلاغة، وصيته للإمام الحسن المجتبى عليه السلام.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 136
ومع أنّنا لا ننكر النواقص والإشكالات على التاريخ المتداول بين أيدينا، ولكن رغم هذه النواقص- التي سنشير اليها فيما بعد- فهو غني بالعلم والمعرفة.
لِمَ كان التاريخ معلماً؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة، وذلك لإمكانية تشبيه التاريخ بالمختبر الكبير الذي تخضع فيه
قضايا حياة الإنسان المختلفة للتحليل.
وعلى هذا الأساس، فكما أنّ العلوم التحليلية حلت الكثير من مسائلها وقدّمت الكثير من البراهين الحية لإثبات الواقعيات بالاختبار، كذلك التاريخ ذلك المختبر العظيم حيث تختبر فيه الكثير من القضايا والمسائل، حيث يميز فيه الذهب الخالص من الذهب غير الواقعى، وبه تزول الأوهام عن الأذهان.
إذا حللت ظواهر الأجسام أو تركيباتها في مختبرات الكيمياء والفيزياء، فانّك في مختبر التاريخ تحلل أسرار انتصار وفشل الأقوام السالفة، وسبب سيادة وتطور أو انحطاط الحضارات، وردود الفعل وصفات ومعنويات الأقوام والأشخاص، واسلوب عملهم بجاذبية وجمال فائق.
وبذلك يكون التاريخ وسيلة مناسبة لدراسة عوامل السعادة وشقاء البشر.
وإذا شاهدنا في القرآن الكريم تأكيداً على تاريخ الامم السالفة، وشاهدنا فيه من السور الدالّة على المباحث التاريخية حتى أنّ بعض السور تدور معظم آياتها أو كلّها حول تاريخ الأقوام السالفة فذلك كله ناشي ء من هذه الملاحظة التي أشرنا اليها.
وقد ينكر المعاندون بعض المسائل النظرية، إلّاأنّه لا يمكنهم انكار واقعيات التاريخ القطعية، وبالخصوص الحوادث التي أشار اليها القرآن حيث نراه يأخذ بأيدي الناس إلى ما خلّفته الأقوام الغابرة، ويروي قصصهم على قبورهم وقمم مدنهم الخربة.
إنّ التاريخ- في الحقيقة- فرع من المسائل التجريبية، وبتعبير آخر يمكن ادغامه في مصدر «الحس والتجربة» إلّاأنّه يختلف عن الحس والتجربة اختلافاً طفيفاً فالحس والتجربة يتعلقان بالحاضر لكن التاريخ يتعلق بالماضي، وأنّ الحس والتجربة قد يتعلقان بذات الفرد فقط بينما التاريخ يتعلق بجميع ذوات البشر.
ولكن الأهميّة الفائقة لهذا الفرع من التجربة تفرض علينا دراسته كمصدر مستقل للمعرفة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 137
بالرغم من أنّ التاريخ مرآة كبيرة وجميلة تعكس الواقعيات إلّاأنّ المؤسف فيه هو وجود أيادٍ ملوَّثة سعت وتسعى دائماً لتغيير وتشويه الوجه الناصع لهذه المرآة، ولهذا السبب
فإنّ هناك كثيراً من الشوائب في التاريخ تحول دون معرفتنا للحقيقة ودون تمييزنا الصادق من الكاذب منه.
إنّ سبب التشويه واضح، حيث لم يكن المؤرخون محايدين دائماً، بل كثيراً ما يؤرخون التاريخ بالشكل الذي يتناسب مع دوافعهم الشخصية والفئوية، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ جبابرة كل عصر سعوا لإِغراء المؤرخين وجذبهم ليكونوا تحت سيطرتهم ونفوذهم، ليملوا عليهم ما يحلو لهم فيكتبوا ما يريد هؤلاء الجبابرة.
وبالرغم من المساعي التي تُبذل بعدَ زوال كلٍّ من الحبابرة والظالمين وتوفر أجواء حرة أكثر في سبيل إصلاح الأخطاء، وتصحيح ما لحق بالتاريخ من فساد، إلّاأنّ المؤرخين قد لا يوفّقون في هذا المجال لإصلاح الخطأ، أو تكون إصلاحاتهم غير كافية.
والملفت للنظر أنّ قضايا التاريخ تتبدّل كلما تبدلت الحكومات المستبدة ذات الميول والإتّجاهات المتضاربة، ف «بنو امية» مثلًا حرفوا التاريخ الإسلامي بشكل، و «العباسيّون» حرفوه بشكل آخر، كما أنّ الذين خلفوا العباسيين صاغوه بشكل آخر.
إنَّ (استالين) كتب في زمن ما تاريخ الثورة الشيوعية في روسيا بشكل، وقد دُرِّس هذا التاريخ في جميع المدارس آنذاك، والذين خلفوه كانوا يعتبرونه جلاداً مصاصاً للدماء فجمعوا تلك الكتب ودوّنوا تاريخ الثورة بصيغة اخرى، وهكذا فعل كل من خلف الحكومة في الاتحاد السوفيتي فكتب التاريخ بما يتناسب مع ميوله الشخصي والمذهبي.
ولهذا السبب، فإنّ البعض أساء الظن بالتاريخ وقال فيه- مبالغةً- هذه العبارة: «إنّ التاريخ مجموعة حوادث لم تحدث أبداً، وأقوام لم توجد أبداً»!!
إلّا أنّ الانصاف يفرض علينا أن نعدّ التاريخ أحد مصادر المعرفة بالرغم من الغبار الذي غطّاه، وذلك لأنّ التاريخ كأي خبر آخر منه «المتواتر» ومنه «الموثوق» ومنه «الضعيف» ومنه «المجهول».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 138
ولا يمكن انكار ما تواتر في التاريخ عن جُند المغول وجيش
هتلر والحوادث المفجعة في «الاندلس»، والمئات من هذه الحوادث، والذي يصلح للنفي والإثبات والإشكال هو جزئيات التاريخ، وهي بدورها إذا ثبتت باخبار الثقات أصبحت صالحة للاعتماد عليها.
بالطبع فإنّ الأخبار الضعيفة في هذا المجال ليست قليلة.
و هذا حكم عادل بحق التاريخ، فينبغي عدم الأخذ بكل ما جاء في التاريخ، كما لاينبغي نبذ كل ما ورد فيه.
وقد سَلِمَ قسمان من التواريخ من أي تحريف وتلويث وهما:
التواريخ التي ظلّت في صورة آثار تكوينية في الخارج، فلا يمكن تحريفها ببساطة، وقد أكد القرآن المجيد على هذا القسم كثيراً، وآيات «السير في الأرض» بهدف التعرف على تاريخ الامم السالفة ناظرة إلى هذا القسم منه.
والأكثر من ذلك التواريخ التي وصلتنا عن طريق «الوحي» مثل تواريخ القرآن التي تعتبر أصيلة وخالصة من جميع الرغبات والنزعات، فكما أن اللَّه عزّ وجلّ أفضل مقنّن فهو أفضل مؤرخ كذلك، لأنّه خبير بجميع الجزئيات ومنزه عن الإتّجاهات الفردية والجماعية، ومع توفر هذين الشرطين فهو أفضل مؤرخ روى لنا التاريخ.
وقد يتعجب البعض ويسأل: لماذا يعيد اللَّه تعالى قصة نوح أو موسى أو فرعون أو مواجهة الأنبياء للمستكبرين والجبابرة عدّة مرّات؟
لقد غفلوا عن أن كل حكاية ناظرة إلى الحادث من زاوية واحدة فقد يكون لكل حدث تاريخي زوايا وجوانب متعددة، فقد ينظر- مثلًا- إلى تاريخ بني اسرائيل من حيث مواجهتهم لطاغوت زمانهم، وقد ينظر لتاريخهم من حيث عنادهم لأنبيائهم، وقد ينظر لتاريخهم من حيث عواقب الاختلاف والتشتت وعدم الاتحاد، أو من حيث آثار ونتائج نكران النِعَم، والخلاصة: إنّ كثيراً من الحوادث التاريخية كالمرآة ذات الأبعاد المختلفة، يسلط كلُّ بعد من ابعادها الأضواء على جانب من الجوانب (وسيأتي شرح هذا بالتفصيل في بحث تواريخ القرآن).
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 139
إنّ المهم في التاريخ هو العثور على «جذور» و «نتائج» الحوادث التاريخية.
فإذا حصلت ثورة في بقعة ما من العالم- مثلًا- ينبغي أولًا دراسة العوامل التي أدت هذه الثورة والتحقق منها بدقة.
ثانياً النظر في نتائج هذه الثورة، وهذان الأمران هما اللذان يخرجان التاريخ عن كونه مجرد حكايات مسلّية، ويبدلانه إلى مصدرٍ مهم للمعرفة.
لكن يؤسفنا أن يكتفي المؤرخون بذكر الحوادث التاريخية، في مرحلة تبلورها فقط، وقلّما يتجهون نحو جذور وعلل الحوادث ونتائجها، ولم يتركوا في مجال تحليل القضايا التاريخية آثاراً تُذكر.
إلّا أنّ القرآن قرن تدوين الحوادث مع البحث عن أُصولها ونتائجها فتارة بعد ذكره لمقطعٍ تاريخي يقول:
«فَانْظُرُوا كَيفَ كانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ . (آل عمران/ 137)
وتارة يقول: «وَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ . (الاعراف/ 86)
وتارة يقول: «فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبةُ الْمُجْرِمِينَ . (النمل/ 69)
وتارة يقول: «انَّ اللَّهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتّى يُغيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ . (الرعد/ 11)
والجدير بالذكر أن للتاريخ فروعاً عديدة أهمّها تاريخ الإنسان والمجتمعات البشرية، وتاريخ الحضارات، وتاريخ العلوم والفنون البشرية، وهي تواريخ محورها الأساس ومحرك عجلتها هو الإنسان.
يالهم من بسطاء أولئك الذين يظنون أن التاريخ- بالرغم من كل فروعه وتشعباته- نتاج قسري للقضايا الاقتصادية وخاصةً وسائل الانتاج، أي أنّ التاريخ خلقته وسائل الانتاج واجهزته التي صنعها الإنسان بنفسه!
وعلى هذا الأساس يمكننا القول: إنّ هؤلاء بتصورهم الخاطى ء وتفكيرهم الشاذ لم يعرفوا الإنسان ولا التاريخ أبداً.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 140
قسم أحد العلماء المعاصرين التاريخ- من وجهة نظر وزاوية خاصة- إلى ثلاثة أقسام:
1- التاريخ النقلي: وهو عبارة عن مجموعة من الحوادث الجزئية المعينة التي حدثت في الماضي، وهو أشبه ما يكون بالفلم الذي يصور حادثة أو حوادث، لهذا فانه جزئي دائماً وليس كلياً، ويتحدث عمّا كان لا عمّا
يكون، ويتعلق بالماضي لا بالحاضر، ونقلي لا عقلي.
وهذا الفرع من التاريخ يمكنه- عن طريق المحاكمات- أن يكون معلماً مفيداً، وعبرة من أناس ذلك الزمان، وهو أشبه بتأثّر الإنسان بجليسه، وأشبه بالاسوة التي يذكرها القرآن للناس ليعتبروا منها ويقتدوا بها.
2- التاريخ العلمي: وهو التاريخ الذي يتحدث عن قواعد وسنن الامم السالفة التي تُستنبط من دراسة وتحليل حوادث العصور السابقة، وفي الحقيقة فإنّ التاريخ النقلي كالمادة الخام لهذا التاريخ.
ومن ميزات هذه السنن هي إمكانية تعميمها، وكونها علمية، وإمكانية جعلها مصادِر للمعرفة، وإحاطة الإنسان- عن طريقها- بالمستقبل.
وبالرغم من أنّ هذا النوع من التاريخ كلي وعقلي، فانّه علم بما كان لا بما يكون.
3- فلسفة التاريخ: وهو علم يتحدث عن تحول المجتمعات من مرحلة إلى أُخرى أو بتعبير آخر: هو علم بما يكون لا بما كان.
ويمكن توضيح هذا بالمثال الآتي:
إنّ «علم الأحياء» علم يبحث عن القواعد الكلية التي تحكم حياة الموجودات الحية، إلّا أنّ نظرية «تكامل الأنواع» إذا قلنا بها- تبحث عن كيفية تحول وتبدل نوع من الحيوانات إلى نوع آخر، إذن، موضوع البحث في فلسفة التاريخ هو كيفية حركة وتكامل التاريخ، إنّ هذا الفرع من التاريخ يتسم بجانب كلي وعقلي، ورغم ذلك فانّه ناظر إلى مجريات التاريخ من الماضي إلى المستقبل وفائدة هذا النوع من التاريخ لا تخفى على أحد «1».
______________________________
(1). ملخص من كتاب فلسفة التاريخ تأليف الشهيد المطهري.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 141
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ما ذكرناه في شروحنا للاقسام الثلاثة كان صحيحاً وإن لم يتفق شيئاً ما مع الاستعمالات العصرية لمفردتي «العلم» و «الفلسفة» وأنّ المراد كان ايصال المفهوم إلى أذهان القراء فقط.
فضلًا عما ذُكر سابقاً نضيف هنا القول بامكانية ادغام القسم الثاني والثالث في قسم
واحد، ذلك لأنّ القوانين الكلية التي رسمت التاريخ وتُستخرج وتُستنبط من التاريخ النقلي، تارة تكون ناظرة إلى الوضع الراهن للمجتمعات، وتارة اخرى تكون ناظرة إلى تحول وتكامل المجتمعات.
والمهم هنا هو أنّ القرآن المجيد لم يقتنع بالسرد المجرد لحوادث التاريخ بل أشار أيضاً إلى السنن والقوانين الكلية التي حكمت المجتمعات، القوانين التي يمكنها أن تزيل القناع عمّا كان ويكون، أو عن أي تغير وتحول تاريخي كأيّ تقدمٍ أو سقوطٍ أو فشلٍ حصل للمجتمعات.
يشير القرآن- مثلًا- إلى هذه السنة: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ . (الأنفال/ 53)
وينبغي الالتفات إلى أنّ القرآن ذكر هذه السنة بعد ما أشار إلى قصة قوم فرعون وعذابهم بسبب ذنوبهم.
ويقول في آيات اخر (بعد اشارته إلى تاريخ الأقوام القويّة التي أُهلكت بسبب تكذيبهم الرسل وشركهم وذنوبهم وظلمهم): «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ ايمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ . (المؤمن/ 85)
نعم تنبغي الوقاية قبل العلاج، وهذا قانون كلي، لأنّ الإنسان لو ابتلي بجزاء أعماله فلا فرصة حينئذٍ لجبران الماضي.
قد يُقال إنّ قبول وجود قانون كلي في تاريخ الإنسان يجسد مفهوم الجبر في تاريخ
نفحات القرآن، ج 1، ص: 142
البشر ولا ينسجم وحرية الإرادة والاختيار.
لكن الالتفات إلى نقطة في هذا المجال يرفع الإشكال بالكامل والنقطة هي:
إنَّ قولنا بوجود قوانين وسنن كلية معناه أن أعمال البشر الاختيارية (سواء الفردية منها أو الجماعية) لها مردودات وانعكاسات قهرية، فمصير الأمم الصامدة والعارفة والمثابرة- مثلًا- هو النصر، ومصير الأمم المشتتة والجاهلة هو السقوط والفشل.
هذه سنة تاريخية، فهل أنّ مفهوم هذا القانون الكي هو أنّ الإنسان مجبور، أم إنَّه تأكيد لتأثير ونفوذ إرادة الإنسان في تعيين مصيره؟
وهذا
الأمر أشبه ما يكون بقولنا: إنّ الإنسان يموت إذا تناول سُمّاً، وهذا المردود قهري ولا يتنافى واختيار الإنسان وأصل إرادته.
بما أنّ نهج البلاغة كتاب عظيم ذا محتوى تربوي غني جدّاً، وبما أنّ التربية بلا معرفة، والمعرفة بلا تربية أمر محال، فقد أكد هذا الكتاب على القضايا التاريخية كثيراً.
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عند حديثه عن الحوادث التاريخية يصورها وكأنّه يأخذ بأيدي الناس إلى مكان الحدث ويريهم فرعون وجنوده ويقتفون آثار مستضعفي بني اسرائيل ومن ثم يشاهدون غرقهم في نهر النيل.
إنّه يصور قوم نوح وقوم عاد وثمود تحت تأثير الدمار الشامل الذي خَلَّفَهُ الطوفان والصواعق والزلازل والحجر الذي أُمطروا به، والناس يشاهدون أخذ هذه الامم الطاغية واللاهية مع قصورهم ومدنهم وبطغيانهم وهلاكهم في طرفة عين بحيث لم يبق إلّاآثار الخراب والصمت القاتل المهيمن عليها، وكل من سَاحَ في نهج البلاغة مرَّ بهم ورجع بكنزٍ هائل من العلم والمعرفة والخبرة، إنّ قدرة نهج البلاغة في تصوير الحوادث قدرة عجيبة حقاً، وكذا الأمر عند بيانه لفلسفة التاريخ.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 143
وقد شرحنا سابقاً كلام الإمام علي عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام حول تأثير التاريخ على طول عمر الإنسان، طول يمتد بامتداد أعمار جميع البشر من حيث المعرفة والتجربة.
وهناك عبارات جميلة له عليه السلام حول جريان السنن التاريخية حيث يقول:
«عباد اللَّه إنَّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، يعود ما قد ولّى منه، ولا يبقى سرمداً ما فيه، آخر فعاله كأوّله، متشابهة اموره، متظاهرة أعلامه» «1».
وفي تفسيره للإيمان باعتباره ذا أربعة أعمدة الصبر واليقين والعدل والجهاد)، يقول:
«اليقين منها على أربع شُعَب، على تبصرة الفطنة وتأوّل الحكمة، وموعظة العبرة وسنة الأولين» «2».
ويقول عليه السلام في موضع آخر:
«واعلموا عباد اللَّه
أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور المشيدة، والنمارق الممهدة، الصخور والأحجار المسندة، والقبور اللاطئة المُلْحَدة التي بُني على الخرب فناؤها وشيّد بالتراب بناؤها» «3».
ويقول في خطبة اخرى:
«فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم، من بأس اللَّه وصولاته ووقائعه ومثلاته، واتّعظوا بمثاوى خدودهم ومصارع جنوبهم» «4».
كما يقول في نفس الخطبة:
«فانظرو كيف كانوا حيث كانت الأولاد مجتمعة والأهواء مؤتلفة، والقلوب مهتدلة.
______________________________
(1). نهج البلاغة، الخطبة 157.
(2). المصدر السابق، الكلمات القصار، الكلمة 31.
(3). المصدر السابق، الخطبة 226.
(4). المصدر السابق، الخطبة 192، (الخطبة القاصعة).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 144
والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة والغرائم واحدة، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين؟ وملوكاً على رقاب العالمين؟! فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر امورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتّت الألفة، واختلفت الكلمة، والافئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، قد خلع اللَّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين» «1».
ويقول في خطبة اخرى:
«وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة! أين العمالقة وابناء العمالقة! اين الفراعنة وأبناء الفراعنة «2»! اين أصحاب مدائن الرّس «3» الذين قتلوا النبيين، واطفئوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين؟ اين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا الألوف، وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن؟» «4».
كما أنّ الروايات الإسلامية أولت عناية كبيره لهذه المسألة، واعتبرتها أحد المصادر المهمّة للمعرفة وبالأخصّ للمسائل الأخلاقية، وتهذيب النفوس، والالتفات إلى واقعيات الحياة.
وقد جاء في رواية أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عندما كان في طريقه مع عسكره إلى صفين وصل إلى مدينة (ساباط) ثم إلى مدينة (بهرسير) «5»
(المناطق التي كانت مركزاً لحكومة الساسانيين) التفت أحد صحابته فجأة إلى آثار كسرى (والملك الساساني
______________________________
(1). نهج البلاغة، الخطبة 192، (الخطبة القاصعة).
(2). العمالقة: أقوام قوية ومتمكنة وجبارة وظالمة كانوا في شمال العراق، وقد فتحوا «مصر» وحكموها لفترة في عهد الفراعنة.
(3). يعتقد الكثير أنّ أصحاب الرس قوم سكنوا اليمامة جنوب الحجاز، وكان لهم نبي باسم حنظلة، وقال البعض أنّهم قوم شعيب، ويعتقد بعض آخر أنّ مدنهم كانت بين الشام والحجاز (يراجع التفسير الأمثل، ذيل الآيه 38 من سورة الفرقان).
(4). نهج البلاغة، الخطبة 182.
(5). يقول البعض إنّها مشتقة من الأصل الفارسي أي (بوارد شير) أو (دهار دشير) وهي إحدى المدائن السبعة التي كانت تقع غرب نهر دجلة (معجم البلدان، ج 1، ص 515).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 145
المعروف) وانشد البيت:
جرت الرياحُ على مكان ديارهم فكأنّهم كانوا على ميعاد
فقال الإمام عليه السلام: «لِمَ لم تقرأ، هذه الآيات: «كَمْ تَرَكَوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنِعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذلِكَ وَاورَثْنَاهَا قَوماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيهِمُ السَّمَاءُ وَالْارْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ » «1».
وقد جاء في حديث الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ داود عليه السلام خرج من المدينة وهو يقرأ (الزبور)، وما من جبل أو حجر أو طير أو حيوان وحشي إلّاويقرأ معه، وهو مستمر في طريقه حتى وصل إلى جبل، يعيش على قمته نبي عابد اسمه (حزقيل)، أدرك مجي ء داود عندما سمع ترتيل الجبال والطيور والوحوش، وعندما سأل داود النبيَّ: هل تأذن لي بالصعود إليك؟ فأجابَهُ النبي العابد: لا، فبكى داود، فأوحى اللَّه إلى (حزقيل) بأن لا يوبّخ داود، وأن يطلب من اللَّه تعالى حسن العاقبة، فقام حزقبل وأخذ بيد داود وجاء به إلى محله.
فسأله داود: هل عزمت على الذنب يوماً؟
فاجاب:
لا.
ثم سأل: هل حصل عندك الغرور والعجب لكثرة عبادتك؟
أجابه: لا، ثم سأله: هل رغبت في الدنيا وهل أحببت شهواتها ولذاتها؟
أجاب: نعم، نعم قد يخطر هذا في قلبي.
فسأله: ماذا تفعل آنذاك؟ أجاب: أدخل في هذا الوادي واعتبر بالذي فيه.
فدخل داود الوادي، فرأى أريكة من حديد وعليها جمجمة متآكلة وعظاماً رميمة ولوحة مكتوبة، فعرف داود: أن ذلك يتعلق بملك مقتدرٍ حكم سنينَ طويلة وبنى مدناً كثيرة.
وقد بلغ به الأمر إلى ما تراه ...» «2».
ج ج
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 68، ص 327.
(2). المصدر السابق، ج 14، ص 22 (ملخص الحديث).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 146
إنَّ ما ذكرناه عن التاريخ كمصدر للمعرفة والعلم مشروط بالامور الآتية:
أولًا: أن لا يدرس الإنسان التاريخ للتسلية.
ثانياً: أن يدرس العلاقة الحقيقية بين القضايا التاريخية وأعمال الإنسان، ولا يحُلل القضايا التاريخية على أساس التبريرات الوهمية كالحظ والصدفة، أو المصير المحتوم أو القضاء والقدر (على التفسير الذي يعتقد به الجاهلون، والذي تُسلب على أساسه قدرة الإنسان في الاختيار).
ثالثاً: أن يستنبط القوانين التاريخية الكلية من الحوادث الجزئية، وأن يحقق في اصول ونتائج كل حادثة ثم يجعل نفسه مصداقاً لهذه القوانين ويخرج بالنتيجة.
رابعاً: أن لا يسعى ليجرّبَ الحوادث (التي جربت قبله) بنفسه، وذلك لكي لا يكون مصداقاً لهذا الحديث «من جرّب المجرَّب حلّت به الندامة».
خامساً: أن يكون ناقداً للحوادث التاريخية ومميزاً للمسلَّمات من المشكوكات والأساطير من الواقعيات.
وخلاصة الحديث هو أن يتلقى التاريخ كمصدرٍ مُلْهِم للمعرفة والخبرة في حياته، وليس بشكله المحرَّف.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 147
عندما يصل الإنسان إلى سنّ الرشد، يتعرف على بعض الحقائق من دون الحاجة إلى معلم كاستحالة اجتماع الضدين أو النقيضين حيث تكون واضحة عنده.
و يدرك حسن وقبح كثير من الامور، مثل: قبح الظلم وحسن العدل والاحسان.
و عندما يقوم بعمل مشين، يناديه صوت الوجدان الرادع الباطني يؤنبه على عمله، وعندما يأتي بعمل حسن يشعر بالطمأنينة والرضا النفسي.
يستأنس بالجمال ويحب العلم والمعرفة.
يحس في باطنه ارتباطاً بمبدأ مقدس، وبتعبير آخر: إنّ في باطنه ما يجرّه ويجذبه إلى اللَّه عزّ وجلّ.
وهذا يكشف عن وجود مصدرٍ للمعرفة في باطن الإنسان غير المصادر التي قرأنا عنها سابقاً، يطلق عليه «الفطرة»، وتارة «الوجدان» واخرى «الشعور الباطني».
ولتعيين حدود العقل وحدود الفطرة نتأمل الايضاحات الآتية:
إنّ روح الإنسان تمثل ظاهرة عجيبة ذات جوانب وأبعاد متعددة، ندرك بعضها، ونجهل الآخر، كما أن لها نشاطات مختلفة
بمحاذاة جوانبها المختلفة.
وإنّ العقل يشكل قسماً من الروح، ووظيفته التفكير، كما أنّ هناك قسماً آخر وهو الحافظة ووظيفتها حفظ المعلومات وخزنها وتقسيمها وتبويبها واستخراج المراد والمطلوب منها- بشكل معجز- من بين الملايين من المفاهيم والحوادث والذكريات.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 148
والقسم الآخر هو العواطف أو مركز الحب والعشق والعداء والخصومة والبغضاء.
والقسم الآخر هو الأعمال الباطنية كالاختيار والإرادة والعزم والتصميم.
والخلاصة ينبغي القول: إنّ الروح بحر عظيم ملؤُهُ العجائب والغرائب، وإنّ القوانين التي تحكمها قوانين متنوعة ومعقدة للغاية.
إلّا أنّه يمكن تقسيم الروح إلى قسمين كليين:
1- القسم الذي يتعلق بالتفكير والإدراكات النظرية، أي ما يكتسبه الإنسان عن طريق الاستدلال.
2- القسم الذي يتعلق بالإدراكات البديهية الضرورية، أي ما هو حضوري ومعلوم عند الإنسان بلا دليل أو برهان.
وكلما تحدثنا عن الفطرة والوجدان، فإنّ مرادنا هو القسم الأخير من الإدراكات.
«الفطرة»: وتعني الخلقة الاولى أي خلق الروح والنفس ممتزجة مع مجموعة من المعلومات الفطرية.
و «الوجدان»: ما يجده الإنسان في نفسه من دون حاجة لتعلمه.
و «الشعور الباطني»: الإدراك الباطني للإنسان الذي يستلهم منه الإنسان، وعلى أيّة حال، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذا الشعور أحد مصادر العلم ومعرفة الحقائق، الذي قد يعبر عنه ب «القلب» وهو يختلف بوضوح عن «العقل» الذي هو مركز الإدراكات النظرية بالرغم من أنّهما فروع لشجرة واحدة وثمرتان لروح الإنسان (فتأمل).
بالطبع، ليس كل ما قيل هنا متفق عليه من قبل الفلاسفة جميعهم، بل أردنا الإشارة إلى هذا الموضوع، وسنعيد الإشارة إليه مرّةً اخرى بشكلٍ استدلالي إن شاء اللَّه.
وبعد الالتفات إلى هذه الملاحظة، نتأمل في القرآن لنرى كيف يكشف لنا عن هذا المصدر.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 149
نفحات القرآن ج 1 192
1- «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَالهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا». (الشمس/ 7-
8)
2- «فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . (الأنبياء/ 64)
3- «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ والْأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ . (لقمان/ 25)
4- «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ . (العنكبوت/ 65)
5- «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ . (البقرة/ 138)
6- «خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ البَيانَ . (الرحمن/ 3- 4)
7- «عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ . (العلق/ 5)
8- «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون . (الروم/ 30)
ج ج
إنَّ كلمة «الهمها» مأخوذة من مادة «الإلهام» أي- كما يصرح به كبار اهل اللغة- الشي ء الذي يقع في قلب الإنسان، ويقول الراغب في مفرداته: «الإِلهام: إلقاء الشي ء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة اللَّه وجهة الملأ الأعلى ، والروع يعني القلب، أمّا الرَّوْع فيعني الخوف والانبهار.
ثم استشهد بالآية «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» كدليل على ما قاله.
وقد جاء في لسان العرب: أنّها من مادة (لَهْم) وتعني البلع، والالهام يعني التلقين الإلهي، وهو نوع من أنواع الوحي (الوحي بمعناه العام).
ومع الالتفات إلى أصل هذه الكلمة يمكن العثور على سبب الاطلاق، وكأن الروح تفتح فم الإنسان وتلقي فيه حقيقة بواسطة التعليم الإلهي فيمضغها فمه.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 150
«الفطرة»: جاءت من مادة فَطْر، ويعتقد البعض أنّها في الأصل تعني «البَقْر» وهو الشقّ «1»، بينما يعتقد البعض الآخر أنّها تعني الشق طولًا، ثم استعملت بمعنى الخلق، وكأنّ ستار العدم يُبْقر ويُمزّق فتخرج منه الموجودات الحية، كما يقال للعمل المنافي للصوم كتناول الطعام (إفطار)، فيقال: إنّ ذلك بسبب بِقْر شي ء ممتد ومتصل.
ويقال للنبات الذي يفطر الأرض ويبقرها
«فُطر» لأنّه يبقر الأرض ويخرج منها، وقد يطلق على حلب الثدي بالأصابع «فَطْر».
كما أنّ العجين إذا اختمر وصُيِّرَ خبزاً اطلق عليه «فَطْر» «2».
وعلى كل حال، فإنّ المراد من هذه المفردة في الآيات هو الخلقة الإلهيّة الاولى والهداية التكوينية نحو حقائق مودعة في روحِ الإنسان وهو مجبول عليها.
وأمّا كلمة «النفس»- وكما أشرنا سابقاً- فتعني «الروح» وقد يطلق على ذات الشي ء «نفس الشي» كما جاء ذلك في القرآن الكريم (ويحذّركم اللَّه نفسه) كما قد جاءت هذه المفردة بمعنى «الدم» و «العين» و «الشخص» «3».
كما أنّها قد تطلق اطلاقاً خاصاً على «النفس الامارة» إلّاأنّها جاءت في الآيات هنا بمعنى «الوجدان» الذي يشكل قسماً من روح الإنسان.
وكلمة «صِبْغَة» مشتقة من مادة «صَبَغَ» أي طلى لوناً، ويطلق على نتيجة العمل «صبغة»، و «صِبْغ» يعني الطعام الذي يؤكل مع الخبز بحيث يكون الخبز كالصبغة لذلك الطعام، وادعى البعض أنّه يعني زيت الزيتون الذي يغمس فيه الخبز ويؤكل.
ويقول الراغب: إنّ «الصبغة» المذكورة في الآية إشارة إلى العقل الذي جُبِلَ عليه الإنسان وميّزه عن الدواب، وهو كالفطرة «4».
______________________________
(1). لسان العرب.
(2). كتاب العين، ولسان العرب، ومفردات الراغب.
(3). مجمع البحرين الطريحي، مادة (نفس)، ومفردات الراغب.
(4). مفردات الراغب، مادة (صبغ).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 151
إنّ التعبير بالصبغة، كما يقول عدد من أئمة اللغة- قد يكون بسبب أنَّ «النصارى يغسلون الوليد بعد اليوم السابع بماء ممزوج بمادة صفراء اللون (غسل التعميد) معتقدين أنّ هذا الصبغ يطهره وينزهه، والقرآن يصرح لهم: إنّ صبغة الإسلام والتوحيد أحسن من هذه الصبغة وأشرف.
وعلى هذا، فالتعبير بالصبغة يتناسب كثيراً مع الفطرة والخلقة الاولى خاصة وأنّ بعض الروايات فسرت الصبغة ب «الإسلام والولاية» «1».
في الآية الاولى بعد أن أقسم اللَّه بالنفس وبالذي سوّاها
وما فيها من قابليات، أشار إلى المصدر المُلْهِم للمعرفة وهو «الوجدان الأخلاقي»، وقال: إنّ اللَّه ألهم الإنسان المعرفة في مجال التقوى والفجور.
وقد جاء في آية اخرى ما يماثل مفاد هذه الآية، فبعد إشارته إلى خلق الإنسان قال:
وهديناه النجدين.
وينبغي الالتفات هنا إلى أن «نجد»- في الأصل- المكان المرتفع ويقابله «تَهَامة» أي الأرض المنخفضة، إلّاأنّ النجد هنا- بقرينة ما قبل وما بعد الآية، وبقرينة بعض الروايات التي فسرت النجد- كناية عن الخير والشر وعوامل السعادة والشقاء «2».
كما أنّ الآية: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرَاً وإِمَّا كَفُوراً». (الإنسان/ 3)
قد تشير إلى نفس المعنى، أو على الأقل تندرج «الهداية الفطرية» في المفهوم العام للهداية التي جاءت في هذه الآية.
ج ج
______________________________
(1). تفسير البرهان، ج 1، ص 167- 158.
(2). تفسير القرطبي، ج 10، ص 7155؛ تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 494.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 152
والآية الثانية ناظرة إلى تحطيم الاصنام من قبل بطل التوحيد ابراهيم الخليل عليه السلام:
ومحاكمة عبدة الأصنام له في بابل، فعندما سُئِلَ: «أَأَنْتَ فَعلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْراهِيمُ ؟ (الانبياء/ 62)
اجابهم عليه السلام: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونْ . (الانبياء/ 63)
ثم قالت الآية: «فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم وربّهم وخالقهم الذي يغدق عليهم النعم.
يعتقد بعض المفسرين: أنّ عبارة: «فَرَجَعُوا الَى انْفُسِهِمْ تعني لوم احدهم الآخر، إلّاأنّ هذا خلاف ظاهر الآية، فالتفسير الأول أصح.
نعم، إنّه الضمير الذي يجعل عبدة الأصنام المغرورين يلومون أنفسهم ويوبّخونها.
إنّ التعبير ب «النَّفْس اللَّوّامَة» في الآية الشريفة: «وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ».
(القيامة/ 2) خاصة وأنّ اللَّه قرنها بيوم القيامة، إشارة واضحة إلى هذه المحكمة الباطنية والوجدان الفطري.
والآية الثالثة تشير إلى أمر المشركين، حيث يعرضون عن اتباع آيات
اللَّه عندما يُدعون إليها ويصرون على اتباع ما كان عليه آباؤهم، فيقول اللَّه في هذا المجال: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ، وبالرغم من ذلك لم يخضعوا للَّهِ تعالى بل لأصنامهم التي صنعوها بأيديهم لجهلهم: «الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ اكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ . (لقمان/ 25)
وجوابهم على هذا السؤال عن خلق السموات والأرض، يمكن أن يكون نابعاً عن «الفطرة»، ويوضّح حقيقة أنّ الأنوار الإلهيّة متأصّلة في الإنسان منذ تكوينه فطرياً ولكن الناس غافلون عن هذا الحكم الفطري، فيذهبون عنهُ شططاً.
ج ج
وتشير الآية الرابعة إلى نفس المفاد الذي جاء في الآية الثالثة، فقد وضّحت التوحيد الفطري الذي يتجلى في باطن الإنسان عندما يمرّ بالأزمات والشدائد، ومثال ذلك أنّ الناس
نفحات القرآن، ج 1، ص: 153
عند ركوبهم السفينة ومواجهتهم الأمواج المتلاطمة والزوابع والعواصف يذكرون اللَّه، لأنّهم لا يجدون أحداً يستطيع انقاذهم آنذاك من الشدائد غير اللَّه.
فعندما تُرفع ستائر التقاليد الخرافية والأوهام والتعاليم الخاطئة وتتجلى فطرة البحث عن اللَّه، يذكرونه ويدعونه بإخلاص كامل.
وما أن يهدأ البحر أو يصلوا إلى الساحل، حتى تساورهم الأفكار الملوثة بالشرك مرّة اخرى وتستعيد الأصنام وجودها في قلوبهم وتسدل ستاراً على فطرتهم مرّة ثانية؟
ج ج
والآية الخامسة، بعد ما عَدَّتْ التوحيد دين وملة إبراهيم وانبياء عظام آخرين كإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى عليهم السلام قالت: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ .
إنَّ النصارى الذين يعتقدون بالتثليث، ويغسلون أولادهم بغسل التعميد، ويضيفون- احياناً- مادة صفراء إلى الماء الذي يُغسل به، ويقرنون عملهم هذا باسم «الأب» و «الابن» و «روح القدس» يعتبرون هذا العمل مطهراً لهم من الذنوب التي ورثوها من آدم عليه السلام «1».
إنَّ القرآن أبطل هذه الأفكار جميعها وصرح: إنّ صبغة اللَّه أحسن من
هذه الصِبَغ الخرافية، فسلموا لهذه الصبغة لتطهر أرواحكم من كل شرك وإثم وعبادة للأصنام.
وقد جاء في الروايات- كما قلنا سابقاً- أنّ المراد من الصبغة هو الإسلام والولاية «2»، وهذا تأكيد على وجود إلهامات فطرية في ذات الإنسان.
ج ج
______________________________
(1). لقد جاء في قاموس الكتاب المقدس: أنّ غسل التعميد أحد القواعد المقدّسة التي كانت معروفة قبل ظهور المسيح عليه السلام، وهو من فرائض الكنيسة، ويستعملون فيه الماء ويثلثون عليه، ويعتبرونه مطهراً من النجاسات ويعتقد الكثير من المسيحيين أنّ الغسل هذا وجب على أولاد المؤمنين (القاموس، ص 257- 258).
(2). تفسير الميزان، ج 1، ص 316؛ تفسير الدر المنثور، ج 1، ص 141.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 154
والآية السادسة والسابعة تحدثنا بعد الإشارة إلى خلق الإنسان عن تعليمه البيان وما لم يعلم.
«الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . (العلق/ 4)
وعلى هذا فهو معلم البيان كما هو معلم بالقلم، وهو معلم الإنسان ما لم يعلم، وهذه التعاليم قد تكون تلميحاً إلى التعاليم الفطرية المودعة في باطن الإنسان بشكل معلومات ملخصة وأولية، وقد تكون تلميحاً للوسائل والأسباب والمقدمات التي جعلها اللَّه في الإنسان، والتي تمكنه من اختراع اللغة والخط واكتشاف واقعيات الكون الاخرى.
وعلى المعنى الأول تكون الآيات شاهداً على بحثنا.
ج ج
أمّا الآية الثامنة في البحث فقد تحدثت عن دين الفطرة وأمرت الرسول بأن: «أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حِنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه .
الجميل هنا أن القرآن لم يذكر كون معرفة اللَّه فطرية فحسب، بل إنّ الدين بجميع أبعاده وجوانبه فطري.
والأمر كذلك بالضرورة، وذلك لتنسيق الموجود بين جهاز «التكوين» وجهاز «التشريع» أي أنّ ما جاء مفصلًا في عالم التشريع، جاء بصورة مجملة في عالم التكوين، وعندما يتفق نداء الفطرة مع نداء الأنبياء والشريعة، فإنّ
هذا الاتفاق يجعل الإنسان في طريق الهدى
وسنخوض تفصيلًا في هذا الموضوع عند بحثنا في التوحيد الفطري في المجلد الثاني إن شاء اللَّه.
طبقاً لما قرأناه، فإنّ القرآن المجيد يعتبر «الفطرة» أو «الوجدان» مصدراً غنياً للمعرفة، وقد دعا الجميع- بتعابير مختلفة- للالتفات إلى هذا المصدر لأهميّته البالغة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 155
إنَّ المعلومات الفطرية والوجدانية لها فروع مختلفة وأهمّها الفروع الأربعة التالية، والملفت للنظر أنّ كل آية من الآيات التي جاءت في أوّل البحث أشارت إلى فرعٍ من هذه الفروع، وهي:
1- إدراك الحسن والقبح- أي الأخلاق التي يطلق عليها- احياناً- «الوجدان الأخلاقي»، وتعني أن الإنسان ومن دون الحاجة إلى استاذ أو معلم يعتبر كثيراً من الصفات حسنةً مثل «الاحسان» و «العدل» و «الشجاعة» و «الايثار» و «العفو» و «الصدق» و «الأمانة» وغير ذلك من الصفات.
وفي مقابل هذه الصفات، صفات قبيحة مثل «الظلم والجور» و «البخل» و «الحسد» و «الضغينة» و «الكذب» و «الخيانة» وأمثالها.
والآية: «فَالْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» تشير إلى هذا النوع من التعاليم الفطرية.
2- إدراك البديهيات العقلية: التي تعتبر أُسس الاستدلالات النظرية، ولا يمكن اقامة البرهان في أي موضوع من دون الاستناد اليها.
وتوضيح ذلك: أنّ في الرياضيات مجموعة من القضايا البديهية تنتهي إليها جميع الاستدلالات الرياضية وهي وجدانية، مثل (الكل أكبر من الجزء)، وإذا تساوى أحد شيئين متساويين مع شي ء آخر، تساوى كلٌّ منهما مع ذلك الشي ء، أو إذا أنقصنا مقدارين متساويين من شيئين متساويين أو اضفنا ذلك المقدار إلى كلٍّ منهما فالنتيجة تساويهما كذلك.
وكذلك الأمر بالنسبة للاستدلالات العقلية الفلسفية، فلا يمكن الاستدلال من دون الاستناد إلى قضية استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين وغير ذلك.
ويستخدم القرآن- احياناً- هذه الاصول المسلّم بها لاثبات قضايا مهمة، كما في قوله:
«قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ . (الزمر/ 9)
ويقول في آية اخرى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ امْ هَلْ تَستَوى الظُّلُمَاتُ
وَالنُّورُ». (الرعد/ 16)
نفحات القرآن، ج 1، ص: 156
3- الفطرة المذهبية- أنّ الإنسان يتعلم بعض القضايا والمسائل العقائدية من دون الاستعانة بمعلم أو استاذ كمسألة معرفة اللَّه والمعاد وقضايا عقائدية اخرى يأتي شرحها في المجلد الثاني إن شاء اللَّه.
والآية: «فَاذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصيِنَ لَهُ الدِّينَ تشير إلى هذا القسم من المعرفة الفطرية.
ولهذا السبب نرى الإيمان بمبدأ مقدس موجوداً على مرِّ العصور، كما أنّ لدينا قرائن تثبت تجذّر هذا الإيمان عند الإنسان البدائي كذلك ولا يمكن اتساع هذا المعتقد واستمراره عند البشر عبر مرّ العصور إلّاإذا كان متأصلًا في فطرة الإنسان.
4- محكمة الوجدان: توجد في باطن الإنسان محكمة عجيبة يمكن تسميتها «القيامة الصغرى ، تحاكم الإنسان على أعماله، فتشجعه على الحسنات، وتوبخه على السيئات، ونجد هذه التشجيعات والعقوبات في باطننا جميعاً (بالطبع مع وجود اختلاف)، وهي نفسها التي نقول عنها تارة: (إنّ ضميرنا راضٍ)، وتارة: (إنّ ضميرنا يؤنبنا) إلى حدٍ حيث يسلب منا النوم، بل قد يؤدّي- احياناً إلى نتائج مأساوية مثل الانتحار والجنون والابتلاء بأمراض نفسية، والآية: «فَرَجَعُوا الَى انْفُسِهِمْ تشير إلى هذا القسم.
بالرغم من أنّ الجميع يشعرون بشكل عام بوجود هذا المصدر في ذواتهم، أي يشعرون بوجود مجموعة من الخطابات والالهامات، أو بتعبير آخر وجود إدراكات لا تحتاج معلماً أو استاذاً، إلّاأنّ بعضاً من الفلاسفة شكك في هذا المصدر، وعلى العموم توجد ثلاث نظريات في هذا المجال:
أ) نظرية الذين يعتقدون أن كل ما لدى الإنسان من معلومات موجود في باطنه، وما يتعلمه في الدنيا، يتذكره في الحقيقة، لا أنّه يتعلمه من جديد! هذا ما نقل عن افلاطون واتباعه «1».
______________________________
(1). يقول افلاطون: إنّ الروح قبل حلولها في البدن ودخولها في العالم المجازي كانت
في عالم المعقولات والمجردات و «المُثل»، أي أنّها أدركت الحقائق ونسيتها بمجرّد دخولها في عالم الكون والفساد، إلّاأنّها لم تنمحِ عنها بالكامل، فالإنسان كالظل والشبح فما هو في «المُثل» يتذكره بمجرّد الالتفات إليه، فكسب العلم والمعرفة تذكر في الحقيقة، وإذا كان الإنسان جاهلًا منذ البدء فلا يمكنه تحصيل العلم (مسير الحكمة في اروبا ج 1، ص 23- نظريات افلاطون).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 157
ب) نظرية أولئك الذين يدّعون أنّ المعرفة بجميع أقسامها عند الإنسان فطرية، بالرغم من اذعانهم لِقابلية الإنسان على إدراك القضايا المختلفة، ويتصورون أنّ إدراكهُ الفطري انعكاس لتجاربه وحاجاته والضرورات الاجتماعية.
اعتبر «فرويد» عالم النفس المعروف «الوجدان الأخلاقي» مجموعة من النواهي الاجتماعية والميول المكبتوتة في ضمير الإنسان، يقول: إنّ «الوجدان الأخلاقي» لا يمثل سلوكاً ذاتياً وعميقاً لروح الإنسان، بل إنّه رؤية باطنية بسيطة للنواهي الاجتماعية، ولا يوجد في تاريخ المجتمع ولا تاريخ الفرد تصورات بدائية عن حسن الأشياء وقبحها، وقد تولدت هذه التصورات من البيئة الاجتماعية وتشعبت عنها «1».
وقد فسر أتباع المذهب المادي (الديالكتيك) الإدراكات الفطرية على أساس مقولتهم المعروفة «كل شي ء وليد الظروف والاوضاع الاقتصادية»، فانكروا وجودها.
ج) نظرية أولئك الذين يرون أن قسماً من معلوماتنا فطرية والقسم الآخر مُكتسب، والمعلومات المكتسبة تنتهي إلى تلك المعلومات الفطرية وهي أساسها.
وقد أثبتت الأدلة المنطقية العقلية، والأدلة النقلية من الآيات والروايات هذه النظرية وذلك للاسباب الآتية:
أولًا: أننا نعتقد بوجود قضايا بديهية مُسَلّمٌ بها في الرياضيات وبدون تلك البديهيات لا يمكن اثبات أيّة قضية رياضية، كذلك الأمر بالنسبة للقضايا الاستدلالية الاخرى، فلابد من اعتمادها على قضايا بديهية مسلّم بها تكون الأساس لكلِّ استدلال.
وبعبارة اخرى: لو أنكرنا القضايا الفطرية بالكامل لأَنكرنا جميع معارفنا، لأنّ جميع القضايا العقلية ستكون مرفوضة، وسنسقط
في النهاية في وأدّي السفسطة.
______________________________
(1). أفكار فرويد، ص 105؛ ومجموعة ماذا أعلم- للأمراض اخر الروحية-، ص 64 (بالفارسية).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 158
وإذا أثبتنا- مثلًا- بالحس والتجربة أو بدليل عقلي وجود أمر ما، فإذا كنّا غير واثقين بقضية «استحالة اجتماع النقيضين» التي تعتبر من القضايا البديهية جدّاً، فعندئذٍ يمكننا التشكيك بالأمر، والقول بإمكانية عدم وجود الأمر الذي أثبتنا وجوده!
وإذا أردنا إثبات هذه الاصول البديهية بالتجربة والاستدلال فسينتهي الأمر بنا إلى الدور والتسلسل ولا تخفى سلبيات هذا الأمر على أحد.
ثانياً: فضلًا عمّا سبق، فكما نعترض على السفسطائيين (الذين ينكرون كل شي ء) وكذا المثاليين (الذين ينكرون الحقائق الخارجية، ويعتقدون بالامور الذهنية فقط) وبالاستناد إلى الوجدان نقول: إنّ الوجدان يشهد ببطلان مثل هذه العقائد، لأننا ندرك أنفسنا والعالم الخارجي الذي يحيط بنا بوضوح، فكذلك الأمر هنا، لأنّ هذه الضرورة الوجدانية دليل على وجود كثير من الإدراكات الباطنية.
وكما أننا نحس بحاجات جسمية وروحية كثيرة (الحاجات الجسمية مثل الأكل والشرب والنوم، والروحية مثل الميل إلى العلم والاحسان والجمال والعبادة والقداسة) ويقول بعض علماء النفس: (إنّ هذه المقتضيات تشكل الأبعاد الأربعة لروح الإنسان).
فهذا الوجدان ذاته يصرح لنا بحسن الاحسان والعدالة وقبح الظلم والاعتداء، وفي هذه الإدراكات لا نحتاج إلى مصدر اجتماعي أو اقتصادي أو غير ذلك بل يكفينا الوجدان.
إنَّ حجة أمثال «فرويد» و «ماركس» واضحة، حيث أنّهم يعتقدون بأصل واحد وهو رجوع كل قضية اجتماعية وفكرية إلى الجنس أو الاقتصاد، ويصرون على توجيه كل شي ء على ضوء هذا الأصل.
ثالثاً: إنّ الموضوع واضح من جهة نظر توحيدية، لأنا إذا سلّمنا أنّ الإنسان خُلِقَ للتكامل على أساس سنة إلهية، فلا ينبغي الشك في أنّ وسائل ودوافع مثل هذا التكامل يجب أن تكون مهيئة في
ذاته، وموجودة، وأنّ ما جاء به الأنبياء وما ورد في الكتب
نفحات القرآن، ج 1، ص: 159
السماوية متناسب وهيئة الإنسان التكوينية.
وعليه، فحاكم التكوين والخلقة متناسب وفي تناسق كامل مع عالَم التشريع.
أو بتعبير آخر، فإنّ خلاصة هذه التعليمات مودعة في ذات الإنسان وأنّ ما جاء في الشرائع السماوية هو شرح مفصل لهذه الخلاصة من التعليمات.
ولهذا، فلا يمكن التشكيك في التعاليم الفطرية التي يؤيدها العقل والرؤية الكونية التوحيدية.
سؤال:
لقد صرّح القرآن بقوله عز من قائل: «وَاللَّهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْابْصَارَ والْافْئِدَةَ». (النحل/ 78)
ألا يستفاد من هذه الآية أن لا وجود للمعلومات الفطرية أبداً؟
الجواب:
أولًا: إنّ الإنسان في ساعات ولادته لا يعلم شيئاً قطعاً، وحتى المعلومات الفطرية ليست فعالة، وعندما يعرف نفسه ويصبح مميزاً يتحسس المعلومات النظرية ويدركها بلا معلم أو استاذ أو حسٍ أو تجربة، وإلّا فكيف يمكن القول بأنّ الإنسان يعلم كل شي ء حتى بوجوده الذاتي- بالتجربة وأمثالها «1».
ثانياً: ألَمْ نقل بأنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً؟
حيث إنّ آياتٍ مثل: «فَالْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» و «فِطْرَتَ اللَّه الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها»
______________________________
(1). نقلت عبارة معروفة عن (ديكارت) قال فيها: «كنتُ شاكاً حتى في نفسي، ثم رأيت أني افكر، فأدركتُ أني موجود» إنّها عبارة مليئة بالأخطاء، لأنّ الذي يقول: أنا أُفكر فانّه يعترف بال (أنا) قبل اعترافه بالتفكير، لا أنّه يعترف بالتفكير قبل الأنا.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 160
التي جاءت في أول البحث تفسر الآية: «وَاللَّهُ اخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُم لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً»، فتكون المعلومات الفطرية مستثناة من هذه الآية.
سؤال آخر:
وقد يطرح هنا سؤال آخر عكس السؤال الأول وهو: أنّ القرآن الكريم في الكثير من الآيات أطلق مفردة «التذكير» على علوم الإنسان، مثل: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لِقوْمٍ يَذَّكَّرُونَ».
(النحل/ 13)
ويقول في آية اخرى: «وَمَا يَذَّكَّرُ الّا اولُوا الْأَلْبَابِ . (آل عمران/ 7)
وفي اخرى أيضاً: «وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلّنَاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . (البقرة/ 221)
ألَمْ يكن المراد من هذه الآيات وهو نفس ما ذهب إليه افلاطون، أي أنّ العلوم عبارة عن تذكير لما هو موجود في سريرة الإنسان، وحاصل عنده منذ القدم؟
الجواب:
إنّ «التذكير» من مادة «ذكر» ومعناه الأولي- كما يقول أئمّة اللغة- هو الحفظ، وكما يقول الراغب في مفرداته: الذكر قد يطلق على حالة نفسية تُعين الإنسان على حفظ العلوم والمعارف، وقد يقال لحضور الشي ء في القلب، أو البيان، وما جاء في لسان العرب قريب لما جاء في المفردات، حيث قال: الذكر، يعني الحفظ كما يعني الموضوع الذي جرى على الألسن.
وعلى هذا، فالذكر والتذكر لا يعني حضور الشي ء في القلب بعد النسيان أو استعادة الذكرى فقط، بل يشمل جميع المعلومات.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 161
لقد أُشير في الروايات الإسلامية إلى هذا المصدر كثيراً ونذكر هنا نماذج من تلك الروايات:
1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث معروف له: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصّرانه» «1».
يدل هذا الحديث بوضوح على أن التوحيد، بل حتى الاصول الأساسية للإسلام مودعة في فطرة الإنسان «2».
2- وقد جاء في حديث أنّ شخصاً سأل الإمام الصادق عليه السلام عن الآية: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»، فأجاب الإمام عليه السلام: «التوحيد» «3».
3- وفي حديث آخر أجاب عن نفس السؤال بهذا الجواب: «هي الإسلام» «4».
4- وقد قال الإمام عليه السلام في حديث آخر في هذا المجال: «فَطَرَهُمْ على المعرفة» «5».
5- وقد جاءت روايات عديدة عن الإمام الصادق عليه السلام فسرت الآية: «صِبْغَةَ اللَّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّه صِبْغَةً» بالاسلام «6».
6- وقد جاء في حديث قدسي: «خلقتُ عبادي حُنَفَاء»، وقال صاحب مجمع البحرين بعد ذكره لهذا الحديث يعني مؤهلين لقبول الحمد، ثم اعتبر معنى الحديث نفس معنى الحديث المعروف «كل مولود يولد على الفطرة».
وهناك ملاحظة جديرة بالذكر وهي: إنّ الروايات الإسلامية عبرت عن الأعمال الحسنة
______________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 281.
(2) يأتي شرح هذا الحديث مفصلًا في، المجلد الثاني من هذا التفسير.
(3) اصول الكافي، ج 2، ص 12، باب فطرة الخلق على التوحيد، ح 1.
(4) المصدر السابق، ح 2.
(5) المصدر السابق، ح 4، والروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة ويمكن الرجوع إلى المصادر التالية: بحار الأنوار، ج 3 باب 11 من أبواب التوحيد.
(6) بحار الأنوار، ج 3، ص 280.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 162
بالمعروف وعن الأعمال السيئة والقبيحة بالمنكر وتطلق هذه المفردة على الأمر المجهول، فقد يُثْبِتُ هذا الاطلاق أنّ الأعمال الحسنة سلوكات تعرفها الروح وتستأنس بها وتسكن إليها أمّا الأعمال القبيحة والسيئة فهي ممارسات تتنفر منها الروح، ومجهولة عندها.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 163
توجد آيات كثيرة في القرآن الكريم حول الوحي، بل إنّ بحثه طرح في جميع الكتب السماوية، وفي الحقيقة فأَن أتباع الأديان السماوية يعتبرون «الوحي» أهم مصدرٍ للمعرفة، لأنّه ينهل من العلم الإِلهي الواسع، في حين أنّ المصادر الاخرى تتعلق بالإنسان نفسه، وهي محدودة جداً بالنسبة لهذا المصدر.
إنّ الرؤية الكونية الإلهيّة تقول: إنّ اللَّه عزّ وجلّ (ولأجل هداية البشر (أي بيان الطريق له) أوحى إلى رجال الوحي (أي الرسل العظام) بكل ما يحتاجه الناس في سبيل اجتياز الطريق إلى التكامل والسعادة.
وفي الحقيقة، إنّ العقل إذا كان سراجاً منيراً قويا فإنّ الفطرة والوجدان والتجربة بمنزلة سراجٍ من نوع آخر، و
«الوحي» بمنزلة الشمس الساطعة، الأكبر والأعظم من السراجين المذكورين.
وعلى هذا فيُعدُّ الوحي- من وجهة نظر الإلهيين- أهم وأغنى مصدر للمعرفة.
والآن نقرأ خاشعين الآيات الآتية.
1- «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الَّا وَحْياً اوْ مِنْ وَراءِ حِجَابٍ اوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ . (الشورى 51)
2- «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى انْ هُوَ الَّا وَحْىٌ يُوحَى . (النجم/ 3- 4)
3- «قُلْ انَّمَا انَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى الَىَ . (فصلت/ 6)
نفحات القرآن، ج 1، ص: 164
4- «ذَلِكَ مِمَّا اوْحَى الَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ...». (الاسراء/ 39)
5- «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ ...». (البقرة/ 97)
6- «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَىْ ءٍ». (النحل/ 89)
7- «وَكَذَلِكَ اوْحَيْنَا الَيْكَ رُوحاً مِّنْ امْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى الَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
(الشورى 52)
8- «وَمَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ الَّا رِجَالًا نُّوحِى الَيهِمْ . (النحل/ 43)
9- «لَقَدْ ارْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وَانْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...». (الحديد/ 25)
10- «انَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . (الحجر/ 9)
11- «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ انْ كُنْتُمْ تَعقِلُونَ . (آل عمران/ 118)
12- «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً». (النساء/ 164)
1- «الوحى» استعمل هذا الاصطلاح في القرآن والروايات والأدب العربي بمعانٍ كثيرة، إلّا أنّ المعنى الأولي للوحي- كما يقول الراغب في مفرداته- هو «الإشارة السريعة»، ولذا يقال للأعمال السريعة «وحي»، كما يقال «وحي» للحديث الرمزي المتضمن كتابات، والذي يُتبادل بسرعة، والذي قد يحصل بالكتابة أو الإشارة، ثم اطلقت هذه المفردة على المعارف الإلهيّة التي تقذف في قلوب الأنبياء والأولياء.
وللوحي أشكال متعددة، فتارة يكون بمشاهدة ملك من
الملائكة واستماع حديثه، كما هو الحال بالنسبة لجبرئيل عليه السلام حيث كان اللَّه يُوحي إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بواسطته.
وتارة باستماع صوته فقط دون مشاهدته كما كان يوحى إلى موسى عليه السلام.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 165
وتارة يُوحى بالألقاء بالقلب فقط.
وتارة يوحي اللَّه بالالهام فقط كما هو الحال بالنسبة لأُم موسى عليه السلام.
وتارة بالمنام (كالرؤيا الصادقة) «1».
ذكر الخليل بن أحمد في كتاب العين: إنّ أصل معنى «الوحي» هو «الكتابة»، وقال ابن منظور في لسان العرب: إنّ الوحي يعني «الإشارة» و «الكتابة» و «والرسالة» و «الالهام» و «والحديث الخفي» و «كل خطاب يُلقى على شخص آخر».
ومن مجموع ما تقدم نستشف أنّ «الوحي» في الأصل يعني الإشارة السريعة والحديث الرمزي والخطاب الخفي المتبادل بالرسائل أو الإشارات، وبما أنّ التعاليم الإلهيّة أوحيت إلى الأنبياء بشكل غامض، أطلقت مفردة «الوحي» عليها، لأنّ الألفاظ التي نستعملها وضعت لمستلزمات حياتنا اليومية، فإذا أردنا أن نستعملها في الامور الخارجة عن مستلزمات حياتنا اليومية، فينبغي توسيع معانيها، أو تجريدها أو استعمالها في مناسبات خاصة.
يقول الشيخ المفيد قدس سره في «شرح الاعتقادات»: إنّ أصل الوحي يعني الكلام الخفي، وقد أطلق على كل شي ء القصد منه تفهيم المخاطب بشكل يخفى عن الآخرين، وإذا نسب الوحي إلى اللَّه عزّ وجلّ فالمراد به التعاليم والأوامر الإلهيّة التي يُخاطب بها الأنبياء والرسل «2».
2- أمّا «الانزال» و «التنزيل» فاشتقتا من مادة «نزول» وتعني- في الأصل- الهبوط والمجي ء من المكان العالي إلى المكان الداني، وفرقهما عن النزول أنّهما مصدران لفعلين متعديين في حين أنّ النزول مصدر لفعل لازم.
وقد يكتسب الانزال معنىً حسياً مثل ما جاء في هذه الآية: «وَانْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً». (الفرقان/ 48)
______________________________
(1). مفردات الراغب مادة
(وحي).
(2). سفينة البحار، ج 2، ص 638.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 166
وقد يكون بمعنى موهبة تُؤهب من صاحب مقامٍ عالٍ إلى صاحب مقامٍ دانٍ: «انْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ ازْوَاجٍ . (الزمر/ 6)
وقد يكون الانزال بمعنى إِلقاء المعارف الإلهيّة من قِبَلِ اللَّه، وقد استعمل هذا المعنى في القرآن كثيراً، وهناك بحث لأئمة اللغة في كون الانزال والتنزيل بمعنى واحد، أو أنّ لكلٍ معنى يختص به، فبعض يقول: إنّه لا اختلاف في المعنى بينهما غير أنّ التنزيل يفيد الكثرة فقط «1»، بينما يعتقد بعض آخر: أنّ «التنزيل» يفيد التدريج، و «الانزال» يفيد التدريج والدفعي، واعتمد الراغب في تفريقه هذا على الآية:
«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَولَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَاذَا انْزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنْظُرُونَ الَيْكَ نَظرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ . (محمد/ 20)
فالآية تحدثت أولًا عن طلب المؤمنين لنزول آيات الجهاد تدريجياً، ثم أشارت إلى نزول حكم الجهاد بصورة قاطعة وجامعة، وعندها ينظر المنافقون إلى الرسول نظر المغشي عليه من الموت.
3- إنّ «تبيين» اشتقت من مادة «بَينْ» أي المسافة الفاصلة بين الشيئين، ثم جاءت بمعنى «الايضاح» و «الفراق»، وذلك لأنّ الفصل بين الشيئين يستدعي هذين الأمرين، ثم استعملت بعد ذلك لكلٍ من المعنيين بصورة مستقلة، فتارة تعني «الفراق» واخرى «الايضاح».
وقد جاء في «صحاح اللغة» أن «بين» تأتي بمعنيين متضادين هما، الفراق والآخر الاتصال، ويظهر أنّ معناهما في الأصل- كما جاء في غير صحاح اللغة- هو الفراق، إلّاأنّ الفراق قد يؤدّي إلى الاتصال بشي ء آخر فاستعمالها في الاتصال لأنّه يلازم الفراق.
وعلى أيّة حال فإنّ مفردة (تبيين» جاءت في كثير من آيات القرآن بمعنى الظهور والانكشاف والوضوح، ولهذا يقال للدليل الواضح والمنكشف «بيّنة» سواء
كان عقلياً أو محسوساً، فيطلق «البينه» على الشاهدين العادلين (اللذين يعتبران بينة محسوسة)، كما
______________________________
(1). وهذا رأي صاحب لسان العرب، حيث نقله عن ابي الحسن.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 167
تطلق «البينة» على معاجز الأنبياء، و «البيان» يعني رفع ستار الأبهام عن شي ءٍ، سواء كان بالنطق أو بالكتابة أو بالإشارة.
4- «التكليم» و «تكَلُّم» من مادة «كلم»، وفي الأصل- كما يقول الراغب- يعني التأثير الذي يُرى أو يُسمع، فالذي يُرى كجُرح الآخرين، والذي يُسمع فهو الحديث الذي نسمعه من الآخرين.
يذكر الخليل بن أحمد في كتابه «العين»: أن أصل التكليم يعني «الجرح»، وعلى هذا فاطلاقه على النطق كان بسبب التأثير العميق الذي يتركه الحديث في قلوب المستمعين له، بل قد يكون تأثير الكلام أشد من تأثير السيف والخنجر، وكما يقول الشاعر العربي المعروف:
جراحات السنان لها التئامٌ ولا يلتامُ ما جرح اللسانُ
ويستفاد من بعض العبارات أنّ «التكليم» و «التكلم» لهما معنى واحد، وكلاهما بمعنى النطق والحديث، ولهذا عدت «متكلِّم» احدى صفات اللَّه، في حين إِذا أردنا التقيد بالآية:
«وَكَلَّمَ اللَّه مُوسى تَكْلِيما» ينبغي القول أن اللَّه «مُكلِّم».
ولا يستبعد احتمال استعمال مفردة «التكلّم» في موارد حيث يحدّث شخصٌ شخصاً آخرَ، إلّاأن «التكليم» مثل «المكالمة» تطلق على الحديث المتبادل بين طرفين، وكلام اللَّه مع موسى عليه السلام في جبل طور من هذا القبيل.
ومن هنا يطلق «علم الكلام» على علم العقائد، لأنّه يذكر أنّ أول بحث بُحث فيه بعد الإسلام هو كلام اللَّه (القرآن)، حيث كان البعض يعتقد أنّه أزلي، والبعض الآخر: أنّه حادث.
وقد أدّى الخلاف في هذه المسألة في القرون الاولى من عهد الإسلام إلى شجار ونزاعات شديدة، حدثت بين المسلمين آنذاك «1».
ونعلم الآن أنّ ذلك النزاع لم يكن له أساس ولا نتيجة، لأنّه
إِذا اريد من القرآن محتواه،
______________________________
(1). ذكر هذا الاحتمال في دائرة معارف القرن العشرين كأول احتمال في مجال التسمية هذه، دائرة معارف القرن العشرين، فريد وجدي، ج 8 مادة (كلم).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 168
فالمسلم أنّه كان مع علم اللَّه أزلياً، وإذا كان المراد منه ألفاظه وكتابته ونزوله بواسطة الوحي، فهذا حادث في زمن بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بلا شك، وعلى أية حال، فالهدف من هذا الحديث كان بيان وجه تسمية «علم العقائد» ب «علم الكلام».
لقد انعكس صدى الوحي في القرآن الكريم بشكل واسع.
حيث أشارت مئات الآيات إلى الوحي كمصدرٍ عظيم للعلم والمعرفة، وأشارت بعضها إليه بهذا العنوان «الوحي» وبعضها ب «التنزيل» و «الانزال» وبعضها ب «تبيين الآيات الإلهيّة» وبعضها ب «تكليم اللَّه للرسل»، وبمصطلحات اخرى.
وأفضل تعبير يُذكر في هذا المجال أن يقال: إذا كان العقل في المنظار القرآني بمثابة «مصباح» شديد الاضاءة لكونه مبيناً للحقائق، فإنّ الوحي «كالشمس» الساطعة التي تضي ء أرجاء المعمورة».
اشير في الآية الاولى إلى ثلاثة طرق من طرق اتصال الأنبياء باللَّه عزّ وجلّ، حيث قالت:
«وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الَّا وَحْياً اوْ مِنْ وَراءِ حِجَابٍ او يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ فالطريق الأول هو الايحاء، والثاني هو التكلم من وراء الحجاب كما تكلم اللَّه مع موسى في جبل طور سيناء، والطريق الثالث هو إرسال رسول لابلاغ الخطاب الإلهي إلى النبي، كما كان يهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه و آله لإبلاغه الخطابات الإلهيّة.
وعلى هذا، فالالهام القلبي وايجاد الأمواج الصوتية وهبوط ملك مكلف بنقل الوحي، ثلاثة طرق لاتصال الأنبياء بعالم ما وراء الطبيعة.
والآية الثانية بعد أن أقسمت بالنجم قالت: «وَمَا يَنْطِقُ
عَنِ الْهَوَى انْ هُوَ الَّا وَحىٌ يُوحَى .
نفحات القرآن، ج 1، ص: 169
إنّ القسم (بالنجم إِذا هوى يعنى النجم في حالة الأفول قد يكون إشارة إلى غروب وافول نور الإيمان والهداية عن الوجود في عصر الجاهلية، الغروب الذي كان مقدمة لطلوع آخر، أي طلوع شمس الوحي على لسان الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله.
وعلى هذا الأساس، فالآية أدرجت كلام الرسول صلى الله عليه و آله تحت أصلٍ كليٍّ ناتج عن الوحي والإرتباط الغيبي.
ج ج
والآية الثالثة أمرت الرسول بأن يتخذ موقفاً تجاه طلبات بعض المشركين العجيبة وغير المألوفة، ويقول لهم: إِني لستُ ملكاً من ملائكة اللَّه ولا موجوداً أعلى من البشر ولا ابن اللَّه، ولا شريكه، «إنّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم يُوحَى إِلَىَ وهذا (الإيحاء) هو الذي يمثل الاختلاف بيني وبينكم.
وعلى هذا، فالرسول يمتاز عن بقية البشر بميزة خاصة وهي اختصاصه بمصدر المعرفة هذا وهو (الوحي).
ج ج
والآية الرابعة، بعد ما ذكرت ستة من أحكام الإسلام المهمّة (حرمة قتل الأولاد وحرمة الزنى وقتل النفس والتصرف في مال اليتيم ووجوب الوفاء بالعهد وايفاء الكيل) خاطبت الرسول صلى الله عليه و آله قائلة: «ذَلِكَ مِمَّا اوْحى الَيكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ».
وطبقاً لهذه الآية، فإنّ الأحكام الجزئية شأنها شأن اصول الدين والعقيدة توحى إِلى الرسول صلى الله عليه و آله.
ج ج
والآية الخامسة نزلت لتجيب على أولئك اليهود الذين قالوا: إنّ جبرئيل عدونا عندما سمعوا أنّه يأتي الرسول بتعاليم الإسلام، حيث أمرته بأن يقول لهم: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً
نفحات القرآن، ج 1، ص: 170
لِّجِبْرِيلَ فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ .
والتعبير في هذه الآية يكشف عن أن جبرئيل عليه السلام كان يُنزل- أحياناً- آيات القرآن على قلب الرسول مباشرة في حين أنّ بعض الروايات تشير إلى أنّ
جبرئيل كان يأتي للرسول صلى الله عليه و آله على هيئة إنسان أحياناً ويقوم بابلاغه الخطاب الإلهي بهذا الطريق «1».
ج ج
والآية السادسة وضحت الحقيقة الآتية: إنّ القرآن الذي أنزلناه على الرسول فيه تبيانٌ لكلِّ شي ء وحاملًا للهداية والرحمة والبشارة إلى جميع المسلمين، وعليه فإنّ جميع هذه المعارف تصدر عن هذا المصدر العظيم أي الوحي.
بديهي أنّ المراد من «كل شي ء» هو جميع القضايا التي تتعلق بسعادة الإنسان، فتعلم أنّ اسس جميع هذه القضايا قد جاءت في القرآن (سواء المادية منها أو المعنوية) في صورة قوانين كلية.
ج ج
وقد صرحت الآية السابعة بأنّ القرآن روح نزلت على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من قِبَل اللَّه عزّ وجلّ، ولم يكن يدري ما الكتاب ولم يكن يدري ما الإيمان، وقد قيل للقرآن «روح» لأنّه يبعث الحياة في قلوب المجتمع البشري، وهذا حديثٌ يذهب إليه كثير من المفسرين «2».
والمراد ب: «ما كنت تدري ما الكتاب» هو أنّ الرسول لم يكن عارفاً بمحتوى الآيات قبل البعثة، وهناك شواهد تاريخية وروائية تكشف عن سبق معرفته باللَّه قبل البعثة.
______________________________
(1). أصرَّ الفخر الرازي على تأويل الآية بما يتناسب مع ما ذهبت إليه الروايات من أن جبرئيل عليه السلام كان يتمثل امام الرسول صلى الله عليه و آله في صورة إنسان، وبما أن القلب هو مركز حفظ الآيات عبر اللَّه بهذا التعبير «فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ» (تفسير الكبير، ج 3، ص 196)، لكننا لا نرى ضرورة لتأويل الآية بالشكل الذي قاله الفخر الرازي، بل يمكن القول بأن اتصال جبرئيل عليه السلام بالرسول كان يتم بطريقين: جسماني وروحي.
(2). يقول الراغب: «سمي روحاً لكون القرآن سبباً للحياة الاخروية».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 171
وعلى أيّة حال إنّ هذا تأكيد آخر
على قبول «الوحي» كأهم مصدر للمعرفة، لأنّ القرآن عُدَّ هنا «روحاً و «نوراً» و «هداية».
والآية الثامنة بعد ما تجاوزت نبوة الرسول صلى الله عليه و آله أشارت إلى الأنبياء من قبله وقالت:
«وَمَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ الَّا رِجَالًا نُّوحِى الَيهِمْ فَاسْئَلُوا اهْلَ الذِّكْرِ» فهم على ارتباط وعلم بمنبع المعرفة هذا.
ج ج
وتحدثت الآية التاسعة عن «البينات» ونزول الكتب السماوية وقوانين الحق والعدالة على الرسل، وقالت: إنّا أنزلنا الرسل وزودناهم بمعاجز من جهة، وبكتب وقوانين حقة من جهة اخرى لكي يقوم الناس بالقسط والعدول عن الظلم، وهذه كلها امور ملهمة من مصدر الوحي.
ج ج
وقد تحدثت الآية العاشرة عن انزال «الذكر» أي الآيات التي تكون سبباً لتذكر الناس ووعيهم، في الوقت نفسه فإنّ اللَّه يعد الناس في هذه الآية بحفظ هذا القرآن من أي نقص أوزيادة أو تلف أو تحريف، فالوحي- إذن- هو عامل يقظة الناس، وبما أنّ اللَّه له حافظ، فسيحفظه كمصدر مهم للمعرفة.
ج ج
وتقول الآية الحادية عشرة: «قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الآيَاتِ انْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وهذا دليل واضح على أنّ الآيات الإلهيّة سبب ليقظة العقول ونشاطها.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 172
وأخيراً، فقد تحدثت الآية الثانية عشرة عن تكليم اللَّه لموسى عليه السلام، وقد كان الكلام هذا مصدراً لمعرفة موسى الإلهيّة، وهو نوع من الوحي.
هذه نماذج من آيات القرآن التي صرحت- رافعةً لأي ابهام وشبهة- بأنّ الوحي مصدر وأساس للمعرفة.
هذا في وقت ينكر فيه الفلاسفة الماديون هذا المصدر على الاطلاق، ويفسرونه بتفاسير نقرأُها في البحوث القادمة.
وبعدما اتّضح أصل هذا المصدر، نذهب إلى بحث قضايا مختلفة تحوم حوله.
ج ج
من خلال ملاحظتنا لآيات القرآن فقد استعملت مفردة «الوحي» في القرآن المجيد في عدة معانٍ، بعضها تكوينية واخرى تشريعية، وبصورة عامه فانّها مستعملة في سبعة معان:
1- «الوحي
التشريعي» وهو الذي يهبط على الرسل، وقد جاءت في أول البحث نماذج من الآيات التي استعملت فيها هذه المفردة بهذا المعنى
2- «الالهامات التي توحى لغير الأنبياء» كما هو الأمر بالنسبة لأم موسى «وَاوْحَيْنَا الَى امِّ مُوسَى انْ أَرْضِعِيهِ ...». (القصص/ 7)
وهناك إلهام يماثل هذا إلّاأنّه يختلف عنه شكلياً، كالذي حدث لمريم، حيث تمثل لها الوحي وبشرها بولادة عيسى (مريم/ 17- 19).
3- «وحي الملائكة» أي الخطابات الإلهيّة التي توجه إِليهم، كما جاء ذلك في قصة غزوة بدر الكبرى في سورة الأنفال الآية 12: «اذْ يُوحِى رَبُّكَ الَى الْمَلَآئِكةِ أنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا».
4- «الخطاب مع الإشارة» كما جاء ذلك في قصة حديث زكريا مع قومه: «فَخَرَجَ عَلَى
نفحات القرآن، ج 1، ص: 173
قَوْمِهِ مِنَ الِمحْرَابِ فَأَوْحَى الَيْهِم انْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً». (مريم/ 11)
5- (الالقاءات الشيطانية الغامضة» كما جاء في الآية: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعضُهُمْ الَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً». (الأنعام/ 112)
6- «تقدير القوانين الإلهيّة في عالم التكوين» كما في الآية: «وَاوْحَى فِى كُلِّ سَمَاءٍ امْرَهَا». (فصلت/ 12)
وما جاء في شهادة الأرض يوم القيامة: «يَومَئِذٍ تُحَدِّثُ اخْبَارَهَا* بِانَّ رَبَّكَ اوْحَى لَهَا».
(الزَّلْزَلَةِ/ 4- 5)
قد يكون تلميحاً لهذا المعنى من الوحي.
وقد جاءت مفردة الوحي بمعنى «خلق الغرائز» كما في الآية: «وَاوْحَى رَبُّكَ الَى النَّحلِ انِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . (النحل/ 68)
ومن جهة اخرى فإنّ هبوط الوحي على الرسل جاء على أربع صورٍ على الأقل، كما جاء ذلك في القرآن المجيد، وهي:
1- صورة ملك يشاهده الرسول.
2- وسماع صوت الوحي دون رؤيته.
3- وفي صورة إِلهام قلبي.
4- وفي صورة رؤيا صادقة، كما جاء ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام عندما أمره
اللَّه أن يذبح ابنه إسماعيل (الصافات/ 102)، أو ما حصل للرسول صلى الله عليه و آله عندما بشره اللَّه- بالرؤيا- بدخول المسلمين الكعبة آمنين (الفتح/ 27).
وقد جاء في رواية أنّ أحد الصحابة سأل الرسول صلى الله عليه و آله: كيف ينزل عليك الوحي؟
فأجابه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «يأتيني أحياناً مثل صلصلة الجَرس، وهو أشدُّهُ عليّ، فيفصم عني وقد وعيتُ ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول» «1».
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات:
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 18، ص 260.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 174
فنبيّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم تبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط عليه السلام ونبيٌّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس عليه السلام ...
والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم وقد كان إبراهيم عليه السلام نبياً وليس بإمام حتى قال اللَّه «انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى» فَقَالَ اللَّهُ: «لَايُنَالُ عَهْدِى الظَّالِميِنَ» من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً» «1». (البقرة/ 124)
لقد قرأنا وسمعنا الكثير عن حقيقة الوحي، لكن رغم ذلك كله، فإنّ معرفتنا لحقيقته غير ممكنة، لعدم ارتباطنا بهذا العالم الغامض، وحتى لو فسّره لنا الرسول بنفسه، فانّه لا ينطبع شي ء في أذهاننا عنه سوى شبح.
ومثل ذلك كمثل شخص بصير يريد أن يصف أشعة الشمس الجميلة، وأمواج البحر الهائجة وأجنحة الطاووس الملوّنة والمنظر الخلّاب للورد وبراعم الحديقة الخضراء.
لشخص ولد أعمى وقد تحصل
صور مبهمة ومشوشة لهذه المخلوقات عند الأعمى إلّاأنّ إدراك صورها الحقيقية فهو أمر مستحيل.
لكننا نستطيع توضيح الوحي عن طريق آثاره وأهدافه ونتائجه، ونقول: إنّ الوحي هو الالقاء الإلهي الذي يتمّ بهدف تحقيق النبوة والتبشير والانذار، أو نقول: إنّه نور يهدي به اللَّه من يشاء، أو نقول: إنّه وسيلة الإرتباط بعالم الغيب وإِدراك معارف ذلك العالم، ولهذا السبب نرى القرآن يتحدث عن آثار الوحي لاعن حقيقته.
و ينبغي أن لا نعجب من هذا الأمر، وأن لا نتخذ عدم إدراك حقيقة الوحي دليلًا على عدم الوجود، أو نفسره بتفاسير مادية جسمية، فإنّ في عالم الحيوانات التي نعدها في مستوى
______________________________
(1). اصول الكافي ج 1، باب طبقات الأنبياء.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 175
أدنى من مستوانا فضلًا عن عالم النبوّة، تُشاهد آثار أحاسيس وإدراكات يعجز البشر عن إدراكها، فبعض الحيوانات تضطرب قبل حدوث الزلزلة وتصرخ بصورة جماعية أحياناً، وتارة تحدث أصواتاً مروعة حاكية عن قرب وقوع حدث مفجع، هذا كله بسبب تحلّيها بحاسة تستطيع بواسطتها أن تكشف قرب وقوع الزلزلة، الأمر الذي تعجز عن كشفه أحدث تكنولوجيا في العصر الحاضر.
أو أنّ بعض الحيوانات تتنبأ بتغييرات الأحوال الجوية للأشهر القادمة، فتبني بيوتها وفقاً لتلك الأحوال في الأشهر المقبلة عليها، وتعد الطعام الذي يتناسب مع طول فصل المطر والشتاء، فإذا كان طويلًا- مثلًا- يختلف مقداره عمّا لو كان قصيراً!
كما أنّ بعض الطيور قادرة على الهجرة الجماعية من المناطق القطبية إلى الاستوائية أو بالعكس، وقد يتمّ ذلك في الليل وفي سماءٍ ملبدة بالغيوم، مع أنّ الإنسان لا يمكنه السير في هذا الطريق وينجح باجتياز واحد بالمائة منه، إلّابالاستعانة بالوسائل الدقيقة، وكذا الأمر بالنسبة لبعض الحيوانات حيث تطلب صيدها في ظلام الليل الدامس، وأحياناً تحت
أمواج المياه وغير ذلك من الأمثلة التي يصعب على الإنسان تصديقها، إلّاأنّ العلم أثبت صحتها.
إنّ هذه الواقعيات التي تثبت بالعلم والتجربة تكشف عن وجود إدراك وشعور خاص لتلك الحيوانات لا يوجد مثله عند الإنسان، بالطبع إنّ الاطلاع الكامل على عالم حواس الحيوانات الغامض أمر محال، إلّاأنّه لا يمكن إِنكار هذه الحقائق «1».
فبالرغم من أنّ حواس الحيوانات لها ابعاد مادية وطبيعية وهذا أمر طبيعي ولا يمثل جانباً غيبياً، إلّاأننا لا نعرف حقيقة هذه الحواس، فكيف يمكن لنا أن ننكر عالم الوحي الغامض أو نشكك فيه بسبب عدم إدراكنا له؟
لم نقصد من حديثنا هذا الاستدلال على ثبوت مسألة الوحي، بل أردنا أن نرد على الذين ينكرون وجوده بسبب عدم إمكان إدراك حقيقته.
ولنا طرق واضحة لإثبات قضية الوحي منها:
______________________________
(1). يراجع كتاب عالم حواس الحيوانات الغريب (بالفارسية).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 176
1- نشاهد من جهة رجالًا يدعون النبوة جاءوا بكتب وتعاليم تفوق قدرة البشر الفكرية، فالرسول الامي- مثلًا- كيف أمكنه الاتيان بكتاب ذي محتوى مجيد بالرغم من كونه قد نشأ وترعرع في مجتمع الحجاز المتأخر للغاية في عصر الجاهلية؟!
2- ومن جهة اخرى فإنّ دعوة الرسل مقترنة دائماً مع معاجز تفوق قدرة البشر، وهذا يكشف عن ارتباطهم بعالم ما وراء الطبيعة.
3- ومن جهة ثالثة، فإنّ الرواية الكونية التوحيدية تقول لنا: إنّ اللَّه خلقنا للتكامل والسير نحو ذاته المقدّسة الأبدية، وبديهي أن سلوك هذا الطريق أمر غير ممكن لكثرة مصاعبه وانعطافاته وتعرجاته ومشاكله وأخطاره لأننا نشاهد عجز العقل وضعفه عن إدراك كثير من الحقائق، والدليل على ذلك، الاختلافات الكثيرة بين العلماء والمفكرين، وكذلك مصير الأمم التي وضعت قوانينها بالاعتماد على العقل والقوانين الوضعية وذلك لإدارة شؤون حياتهم الفردية والاجتماعية.
وعلى هذا، فإنا نقطع
بأن اللَّه لم يترك الإنسان لوحده، فبالإضافة إلى عقله أمده بقادة يرتبطون بعالم الغيب، ويستفيضون من بحر العلم الإلهي، وهذا هو الذي يعينه لاجتياز الطريق والوصول إلى الأهداف المقصودة.
وبهذه القرائن الثلاث يمكننا إدراك العلاقة بين عالم الإنسانية وعالم ما وراء الطبيعة، وكذلك الإيمان بالوحي رغم أننا لم نتعرف على حقيقته وماهيته، وبتعبير آخر: إن علمنا بالوحي علم إجمالي وليس علماً تفصيلياً.
سعى كثير من فلاسفة الشرق والغرب في العهد القديم والجديد إلى فتح الطريق أمامهم نحو أسرار عالم الوحي وسعوا إلى تفسيره بما يتناسب مع مبانيهم الفلسفية، إلّاأنّ دراسة بحوثهم في هذا المجال تكشف عن ضياعهم في متاهات الطريق، إلّاالبعض منهم، ولم
نفحات القرآن، ج 1، ص: 177
ينجلِ لذلك البعض إلّاشبح عن ذلك العالم.
يقول أحد العلماء:
كان الفلاسفة الغربيون- إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم الأخرى- يؤمنون بالوحي، وذلك لأنّ كتبهم كانت حافلة بالاخبار عن الأنبياء، وعندما ازدهرت العلوم الجديدة «الطبيعية والتجريبية» واخذت تفسر كل القضايا على اسس مادية، تراجع فلاسفة الغرب عن آرائهم وأخذوا ينكرون الوحي، وتجاوزوا إلى أبعد من ذلك بأن اعتبروا الوحي مجموعة من الأساطير والخرافات التي عفا عليها الدهر، وتبعاً لذلك فقد أنكروا وجود اللَّه وعالم ماوراء الطبيعة والروح، وامتد بهم الأمر إلى أن يفسروا الوحي بمجموعة من التخيلات أو الأمراض العصبية.
واستمر هذا التوجه حتى أواسط القرن التاسع عشر إلى أن تمّ اكتشاف عالم الأرواح بالطرق العلمية والتجريبية، وأصبح عالم ماوراء الطبيعة في قائمة القضايا التجريبية، وقد كتبت حول ذلك المئات بل الآلاف من المقالات.
ومن هنا أخذت مسألة الوحي طابعاً جديداً لدى هؤلاء وخطوا خطوات جديدة في هذا المضمار، على الرغم من أنّهم لم يفسروا هذه الظاهرة كما فسرتها الأديان الاخرى وبالأخص المسلمون
من السائرين على خطى القرآن المجيد، وبشكل عام فإنّ هناك نظريتين مختلفتين لدى مجموعة من الفلاسفة القدماء والمتأخرين لتفسير ظاهرة الوحي، ولكن الفريقين لم يصلا إلى حقيقة الوحي حسب ما ورد في القرآن الكريم، والنظريتان هما:
1- يعتقد عدد من الفلاسفة المتقدمين أن منشأ الوحي هو «العقل الفعّال»، والعقل الفعّال وجود روحي مستقل عن وجودنا، وهو قرينة، ومصدر لجميع علوم البشر ومعارفه، كما يعتقدون بأنّ الأنبياء كانت لهم علاقة وثيقة مع هذا العقل الفعّال، وكانوا يستلهمون منه، وما حقيقة الوحي إلّاهذه العلاقة.
وفي الحقيقة، لا دليل لهؤلاء لاثبات مدعاهم القائل بأنّ الوحي هو عبارة عن الإرتباط والعلاقة مع العقل الفعّال، إضافة إلى هذا، فإنّه لا دليل على وجود ما يزعمون وجوده أي
نفحات القرآن، ج 1، ص: 178
«العقل الفعّال» كمصدر مستقل للعلوم، كما ذكر ذلك في المباحث الفلسفية.
وعلى هذا، فالنظرية المذكورة عبارة عن احتمال مبني على احتمال، وفرضية مستندة إلى فرضية، ولم تثبت أي من الفرضيتين، كما أنّه لا حاجة لفرض «العقل الفعّال» بل يكفينا القول بأنّ الوحي عبارة عن اتصال بعالم ما وراء الطبيعة والذات المنورة، أمّا كيف وبأي شكل يتم ذلك؟ فهذا لم يتضح لنا.
نحن شاهدنا آثاره فآمنا بوجوده، دون أن نعرف حقيقته، وكثير من حقائق هذا العالم حالها كحال الوحي.
2- يعتقد عدد من الفلاسفة المعاصرين أنّ «الوحي» هو تجلِ «علم اللاشعور» أو العلاقة الغامضة مع حقائق هذا العالم التي قد تنشأ من «النبوغ الباطني» تارة، وتارة اخرى من «الرياضة الروحية» وعن مساعٍ من هذا النوع، وقد عَدَّ علماء النفس شخصيتين للإنسان:
«الشخصية الظاهرة والإرادية» وهي جهاز الإدراك والتفكير والمعلومات الحاصلة بالحواس العادية، والشخصية الاخرى هي «الشخصية غير المرئية واللا إرادية» التي قد يعبر عنها ب «الوجدان
الخفي» أو «الضمير الباطني» أو «علم اللاشعور» ويعتبر علماء النفس أنّ حلَّ كثيرٍ من المشاكل الروحية كامن في هذه الشخصية.
إنّهم يعتقدون أن مجالات فاعلية ونشاط الشخصية الثانية اوسع بكثير من مجالات نَشاط وفاعلية الاولى
وقد كتب أحد علماء النفس في هذا المجال:
يمكننا تشبيه الشخصية بقطعة ثلج عائمة في الماء، وعادة ما يكون تُسْعُها خارج الماء، وهذا المقدار الخارج هو الشخصية الظاهرة أو عالم الشعور، ويقابلها الشخصية اللاإرادية إلى عالم اللاشعور، حيث إنّ القسم الأعظم من النشاط الذهني لم نُحط به علماً ويحصل بشكل غير إرادي، وهو بمثابة الأجزاء الثمانية من قطعة الثلج تحت الماء «1».
لا شأن لنا فيمن كشف الشخصية الثانية للإنسان، «فرويد» أم غيره، كما لا شأن لنا في أنّ
______________________________
(1). معرفة النفس ترجمة (الدكتور ساعدي)، ص 6 و 7 مع إيضاح بسيط (بالفارسية).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 179
كلام المتقدمين فيه إِشارة إلى ما ذهب إليه المعاصرون أم لا، المهم بالنسبة لنا هو أنّ كثيراً من علماء النفس، بعد اكتشاف عالم اللاشعور وحل بعض المعضلات الروحية عن طريق هذا الاكتشاف، سعى لتبرير ظاهرة الوحي بما يتناسب ويتفق مع هذا الاكتشاف، حيث ادعوا أنّ الوحي هو ترشحات عالم اللاشعور التي تظهر عند الأنبياء على شكل طفرات فكرية بالصدفة.
وقد ساعد الأنبياء في ذلك أحياناً- أمران: الأول النبوغ الفكري، والثاني هو الترويض والتفكير المستمر.
وطبقاً لهذه الفرضية، فإنّ علاقة «الوحي» بعالم ما وراء الطبيعة ليست علاقة من نوع خاص ومغايرة للعلاقات الفكرية والعقلية لبقية أفراد البشر، وأنّ هذا لا يتم عن طريق وجودٍ روحي مستقل باسم «الوحي»، بل هو انعكاس لضمير الأنبياء الخفي، وهذه الفرضية كالسابقة القائلة بأنّ الوحي هو الاتصال بالعقل الفعال، تفتقد الدليل، وقد يكون المراد بهذا
من هذا الكلام ليس إثبات حقيقة الوحي، بل مرادهم إنّ ظاهرة الوحي لا تتنافى مع العلوم الحديثة، ويمكن تجلّي عالم اللاشعور لدى الأنبياء.
وبتعبير أوضح، فإنّ العلماء يصرون على تفسير جميع ظواهر العالم طبقاً للقوانين الطبيعية والاصول العلمية التي اكتشفوها، ولهذا فإنّهم بمجرّد مشاهدتهم لظاهرة جديدة، يسعون إلى تحليلها في إطار العلم الحديث، وإذا افتقدوا الدليل في هذا المجال اكتفوا بالفرضيات.
لكن تلقي ظواهر العالم بهذا الشكل ليس صحيحاً، وهذا هو خطأ العلماء الطبيعيين، مفهوم كلامهم هذا هو: إننا فهمنا الاصول والقوانين الاساسية للعالم، ولا توجد ظاهرة خارجة عن اطُر هذه القوانين والاصول.
وهذا ادّعاء محض ولا دليل له، بل لنا دليل على العكس، حيث نشاهد بمرور الزمن اكتشاف اصول وقوانين جديدة لنظام هذا العالم، ولدينا قرائن تثبت أنّ نسبة ما نعلمه عن هذا العالم إلى ما لا نعلمه كنسبة القطرة إلى البحر.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 180
لقد عجزنا عن المعرفة الدقيقة لحواس الحيوانات الغامضة، بل وحتى عن معرفة أسرار وجودنا، لذا لا يمكننا سوى ادعاء معرفة قسم من هذه الأسرار فقط.
فلماذا- إذن- هذا الاصرار كله على تبرير ظاهرة الوحي في اطُر القوانين العلمية المكتشفة، بل ينبغي القول: إنّ الوحي حقيقةٌ شاهدنا آثارها ولم نطلع على ذاتها وحقيقتها.
طرح بعض المفكرين الإسلاميين المتأثرين بأفكار العلماء الغربيين فرضية اخرى في مجال الوحي تختلف في الظاهر عن الفرضيتين السابقتين إلّاأنّها تتفق معهما جوهرياً.
وقد بُنيت هذه الفرضية على الاصول الآتية:
1- إنّ «الوحي» لغة يعني النجوى بهدوء، واستعملت في القرآن بمفاهيم عدة تشمل أنواع الهدايات الغامضة، بدءً بهداية الجمادات والنباتات وانتهاءً بهداية الإنسان عن طريق الوحي.
2- إنّ الوحي نوع من أنواع الغريزة، وهداية الوحي ليس إلّاهداية غريزية.
3- إنّ الوحي هداية الإنسان من وجهة
نظر جماعية، أي أنّ المجتمع الإنساني بما هو كتلة واحدة، له مسير وقوانين وحركة، فيحتاج للهداية، ودور «النبي» في هذا المجال كدور الجهاز المتسلِم الذي يتسلم ما يحتاجه نوع البشر بشكل غريزي.
4- إنّ الأحياء تهتدي في مراحلها الاولى بواسطة الغريزة، وكلما تكاملت ونما حس التصور والفكر عندها، كلما نقصت قدرة الغريزة فيها، وفي الحقيقة فإنّ الحس والتفكير يستخلفان الغريزة، وعلى هذا الأساس فالحشرات لها غرائز أكثر وأقوى والإنسان أقل غرائزاً بالقياس إلى الحيوانات الاخرى.
5- إنّ المجتمعات البشرية (من وجهة نظر اجتماعية) تسير دائماً في طريق التكامل وتتّجه نحوه، فكما أنّ الحيوانات في مراحل حياتها الابتدائية كانت تستند إلى الهداية
نفحات القرآن، ج 1، ص: 181
الغريزية بالكامل، ثم اعتمدت تدريجياً على حواسها وتخيلها وأحياناً تفكيرها، وعندما نما عندها التفكير والحواس تدريجياً، استخلفت الغريزة، كذلك المجتمع البشري، فبنموه وتكامل عقله ضعفت غريزة الوحي عنده.
6- إنّ للعالم البشري عهدين، عهد هداية الوحي، وعهد هداية التعقل والتفكير في طبيعة التاريخ.
7- إنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الذي ختمت به النبوة رسول للعهد القديم والحديث، فانّه من حيث مصدر الالهام الذي كان يستفيض منه (لا مصدر التجربة الطبيعية والتاريخ) فهو يتعلق بالعهد القديم، ومن حيث روح تعاليمه التي تدعو إلى التفكر والتعقل ودراسة الطبيعة والتاريخ (التي ينتهي عمل الوحي بمجيئها) فهو يتعلق بالعصر الحديث «1».
إنّ المستخلص من هذه الفرضية أنّ الوحي نوع معرفة لا إِرادية تشبه الغرائز وهي دون المعرفة الإرادية التي تحصل عن طريق الحواس والتجربة والعقل، وتضعف هذه القدرة «الوحي» كلما تكامل جهاز العقل والفكر، فيستخلف العقل حينئذٍ الوحي، ومن هذا الباب ختمت النبوة.
بالرغم من أَنّ هذه الفرضية- صدرت عن مفكر إسلامي- إلّاأنّها أضعف في بعض جوانبها من
الفرضيات التي قدمها علماء وكُتّاب غربيون في هذا المجال، على الرغم من التشابه من حيث فقدان الدليل، ويمكن القول: إنّ هذه النظرية أسوأ نظرية طُرحت في هذا المجال لحد الآن، وذلك للامور الآتية:
أولًا: إنّ العلماء الغربيين عدوا الوحي شيئاً فوق الإدراك الحسي والعقلي للإنسان، بينما عُدَّ في هذه النظرية شيئاً دون ذلك، وهذا تفكير عجاب!
ثانياً: لم يَعِدَّ المفكرون الغربيون الوحي نوعاً من أنواع الغرائز الحيوانية، في حين عُدَّ في هذه النظرية من هذا القبيل.
______________________________
(1). مقدمة في الرؤية العالمية الإسلامية، للشهيد المطهري رحمه الله (وقد ذكر الشهيد المرحوم النقاط السبع السابقة التي تعكس رأي اقبال اللاهوري في كتابه «احياء الفكر الديني في الإسلام» بشكل ملخص ونقدها).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 182
ثالثاً: إنّ أمر الوحي واضح بالكامل للمسلم الملم بمفاهيم القرآن حيث يُعتبر نوعاً من الاتصال بالعالم الإلهي، وتلقي معارف عظيمة وجليلة للغاية من هذا العلم لم يستطع الإنسان أن يصل إليها بالعقل.
إنّ الوحي من وجهة نظر القرآن الكريم هداية إِرادية بالكامل وهو أسمى بكثير من «الهداية العقلية»،- وكما قلنا سابقاً- فإنا إذا شبهنا العقل بنور مصباح نيّر فإنّ الوحي بمثابة الشمس الساطعة.
يخاطب القرآن الناس- من جهة- قائلًا: «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ الَّا قَلِيلًا». (الاسراء/ 85)
ومن جهة اخرى يصف اللَّه علمه ويقول: «وَلَوْ انَّمَا فِى الْارْضِ مِنَ شَجَرَةٍ اقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ ابْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ انَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . (لقمان/ 27)
فوحي النبوة ارتباط بهذا العلم اللامتناهي، ولهذا يصرح القرآن الكريم أنّ اللَّه هو معلم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.
«وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ . (النساء/ 113)
إنّ العقل والعلم البشري مهما تقدما وتكاملًا أضعف من أن يقودا
الإنسان إلى طريق السعادة من دون توجيه وارشاد الوحي، والدليل الحي لهذا الكلام هو مذاهب الفلاسفة وانحرافاتهم العجيبة، والحقيقة أنّ الذين عُرفوا كمفكرين اسلاميين هم مفكرون غربيون في واقع أمرهم، وأفكارهم اتخذت صبغة الأفكار الغربية، ولهذا سعوا دائماً لذكر تبريرات طبيعية للُامور غير الطبيعية.
إنّ الغربيين إذا اصروا على ذكر تبريرات طبيعية للُامور الغيبية، فذلك لانكارهم عالم الغيب، فلا ينبغي لأي مسلم اقتفاء أثرهم في ذكر تبرير طبيعي لمسألة كهذه.
من المؤسف أنّ الآثار السيئة لهذا التقليد نجدها في كثير من كتب أولئك المفكرين الذين غالباً ما درسوا في الغرب، ومعلوماتهم عن الإسلام قليلة جدّاً.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 183
إنّ هذا السؤال من جملة الأسئلة التي طرحت حول مسألة الوحي، كيف علم الرسول بأنّ الوحي من اللَّه وليس إِلقاءً شيطانياً؟ وبتعبير آخر: ما هو مصدر هذا العلم واليقين؟
إنّ الجواب عن هذا السؤال واضح، فاضافة إلى أنّ الفرق بين الالقاءات الرحمانية والالقاءات الشيطانية كالفرق بين السماء والأرض، فإنّ محتوى كلٍّ منهما يعرف نفسه، وينبغي القول: إنّ الرسول عندما يتصل بالوحي يذعن بحقيقته بالنظر الباطني، وأمره كالشمس الساطعة نهاراً، فلا نعتني بالذي يشكك بوجودها ويقول: يُحتمل أن تكون وهماً لا أكثر، وذلك لأنّ احساسنا بها قطعي ولا يقبل الشك.
يقول العلّامة الطباطبائي قدس سره في تفسيره للآية: «فَلَمَّا أتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى إِنَّى أَنَا رَبُّكَ ...». (طه/ 11- 12)
وهذا حال النّبي والرسول في أوّل ما يوحى إليه بالنبوّة والرسالة، لم يختلجه شك ولم يعتره ريب في أنّ الذي يوحي إليه هو اللَّه سبحانه، من غير أن يحتاج إلى إمعان نظر أو التماس دليل، أو إقامة حجة، ولو افتقر إلى شي ء من ذلك كان اكتساباً بالقوة النظرية، لا تلقياً من الغيب، من
غير واسطة «1».
ومن هنا يتّضح عدم صحة ما جاء في بعض الروايات من أنّ الوحي عندما نزل لأول مرّة على الرسول في غار «حراء» ذهب إلى بيت خديجة وقصّ عليها ما جرى واضاف: إِني أخاف على نفسى (أي أخاف أن تكون الايحاءات شيطانية لا إِلهية) فطمأنته خديجة، ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل (ابن عم خديجة) الذي كان يدين بالمسيحية في عهد الجاهلية، وكان يجيد القراءة والكتابة العربية والعبرية، فطلب من النبي أن يشرح ما جرى له .. وبعد ما قصَّ الرسول صلى الله عليه و آله ما جرى له، قال ورقة: إنّه هو الوحي الذي كان يهبط على موسى عليه السلام وأضاف: ليتني أكون حياً كي أرى كيف يخرجك قومك من هذه المدينة «2».
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 14، ص 138.
(2). نقل هذا المضمون كثير من المحدثين والمفسرين من أهل السنة منهم «البخاري في صحيحه» و «مسلم» و «سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن في بداية سورة العلق» كما ورد في «دائرة معارف القرن العشرين، مادة (وحي)».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 184
وكون هذا الحديث مختلق أمر لا ريب ولا شك فيه، إذ كيف يحتاج الرسول الذي ارتبط بعالم الغيب وكل وجوده يشعر بهذه الرابطة، إلى ورقة بن نوفل الكاهن النصراني؟ وكيف يمكن الاعتماد على مثل هذا الوحي؟
لماذا لم يشك به موسى بن عمران عندما نزل عليه أوّل مرّة في طور سيناء؟ بالرغم من أنّ موسى سمع صوته فقط ولم يشاهده، أليس هذا دليلًا على وجود أيادٍ خفية تهدف من وراء تلفيق هذه الخرافات إلى النيل من الوحي والنبوة وتضعيف أسس الدين الإسلامي؟
نستمر في بحثنا هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ القرآن الكريم يمثل
المصداق البارز للوحي طبق ماورد عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام، كي يكون تأكيداً لأصل وموقعية القرآن كمصدرٍ عظيم للمعرفة، كما يكون جواباً لأولئك الذين يذهبون شططاً ويعدون الوحي من «الغرائز الحيوانية» وأدنى من الإدراكات العقلية، ويعتقدون أنّ الإنسان استغنى عن الوحي والمعارف التي تنشأ منه بعد تكامله العقلي!
- قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله مخاطباً المسلمين: «إِذا التبست عليكم الامور كقِطّع الليل المُظلم فعليكم بالقرآن ... مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خَلفَهُ ساقه إلى النار، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل، مَنْ قال به صدق، ومَن عمل به اجرَ، ومَن حَكَمَ به عَدَلَ» «1».
2- ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في احدى خُطب نهج البلاغة: «ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لاتطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك مقره، ومنهاجاً لا يضل نهجُه، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبيانياً لا تُهدم أركانه، وشفاءً لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تُهزم أنصاره، وحقاً لا تُخذل أعوانه».
______________________________
(1). نقل المرحوم العلّامة المجلسي هذه الخطبة في بحار الأنوار ج 74، ص 177 عن أبي سعيد الخدري من جملة خُطَب الرسول التي نقلها.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 185
«فهو معدنُ الإيمان وبحبوحته وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه» «1».
3- ويقول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: سأل رجل الإمام الصادق عليه السلام: «ما بالُ القرآن لا يزداد على النَّشر والدرس إلّاغضاضة»؟ فقال الإمام: «لأن اللَّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كلَّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة» «2».
والأحاديث الواردة في هذا المجال كثيرة في مصادر السنة والشيعة، وقد ذكرنا
ثلاثة فقط، أحدها للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والآخر لأمير المؤمنين عليه السلام وحديثاً للإمام الصادق عليه السلام.
كما ذكرنا في بداية البحث أنّ للوحي معانِي كثيرة، منها «وحي النبوة والرسالة»، وهناك قسم آخر من الوحي وهو «الالهام» الذي يُلقى في قلوب غير الأنبياء، أو خطاب يُبلَّغ به غير الأنبياء.
ومثاله ما جاء عن ام موسى حيث يقول القرآن في هذا المجال: «وَأَوْحَيْنَا الَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَالْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنى ...». (القصص/ 7)
وقريب من هذا ما جاء عن الحواريين، حيث يقول اللَّه تعالى «وَاذْ أَوْحَيْتُ الَى الْحَوَارِيِّينَ انْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِانَّنَا مُسْلِمُونَ . (المائدة/ 111)
كما قال اللَّه في يوسف قبل أن يبعثه نبيّاً، عندما أراد اخوته أن يلقوه في اليم:
«... وَأَوْحَيْنَا الَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِامْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَايَشْعُرُون . (يوسف/ 15)
وهذا الوحي ليس هو نفس وحي النبوة، بل وحي إلهامي، بقرينة الآية 22 من نفس
______________________________
(1). نهج البلاغة، الخطبة 198.
(2). بحار الأنوار، ج 89، ص 15.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 186
السورة، حيث جاء فيها أنّ اللَّه ألهم نبيّهُ (يوسف) كي يدرك بأنّه ليس وحيداً بل اللَّه يحفظه ويرزقه نصيباً من القدرة ويصل الأمر إلى أن يندم اخوته على فعلهم، وهذا الوحي هو الذي جعل الأمل ينبعث في قلب يوسف.
يذكر «الفخر الرازي» ستة احتمالات في ذيل الآية (38) من سورة طه، وأغلبها خلاف الظاهر، لأنّ ظاهر الآية هو الالقاء في القلب، أو سماع صوت ملك الوحي الذي يتناسب والمعنى اللغوي للوحي «1».
ومثال القسم الثاني هو الخطاب الذي أبلغه أحد الملائكة لمريم والذي كان يتعلق بولادة عيسى عليه السلام، وقد حكى القرآن حوار مريم مع الملك
الذي تمثل في صورة إنسان وسيم.
وأوضح مثال للوحي الالهامي هو الذي كان يُقذف في قلوب الأئمّة المعصومين عليهم السلام والذي اشير إِليه كثيراً في الروايات.
وعندما سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن مصدر علم الأئمّة قال: «مَبْلَغُ علمنا ثلاثة وجوه:
ماض، وغابر، وحادث، فأمّا الماضي فمُفَسَّرٌ وَأمّا الغابر فمزبور، وأمّا الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبيَّ بعد نبيّنا» «2».
وقد جاء في حديث آخر للإمام الرضا عليه السلام يقول فيه: «وأمّا النكت في القلوب فهو الالهام وأمّا النقر في الأسماع فحديث الملائكة، نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم» «3».
وبصورة عامة، فإنّ علوم الأئمّة عليهم السلام تحصل من عدة طرق: العلوم التي ورثوها عن الرسول والأئمّة الذين سبقوا، على شكل وصايا وقواعد مدوّنة توضع في متناول أيديهم والتي قد يطلق عليها في بعض الأخبار «الجامعة»، وعندما يحصل لهم أمر مستحدث لا وجود له في المصادر التي في أيديهم، يوحي اللَّه اليهم إلهاماً قلبياً أو نقراً في أسماعهم يسمعون به صوت الملائكة «كما هو الحال بالنسبة لمريم عليها السلام».
______________________________
(1). راجع التفسير الكبير، ج 22، ص 51.
(2). بحار الأنوار، ج 26، ص 50.
(3). إرشاد المفيد، ج 2، ص 80؛ بحار الأنوار، ج 26، ص 18.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 187
لكن المسلَّم به أنّ هذا الوحي لا علاقة له بوحي النبوة، وهو من قبيل وحي الحواريين وأمثال ذلك، وفي الواقع، أنّ الاصطلاح العصري للوحي يطلق على وحي النبوة الذي يسمى «إِلهاماً»، وقد قال العلامة الطباطبائي في هذا المجال: حبذا لو أطلقنا عليه إِلهاماً لأنّه يتفق والأدب الديني «1».
يراجع- للتفصيل- المجلد 26 من بحار الأنوار، باب علوم الأئمّة عليهم السلام، كما يراجع المجلد الأول من اصول الكافي باب أنّ
الأئمّة عليهم السلام محدَّثون.
كما قلنا سابقاً، إنا لا ندرك حقيقة الوحي، وهي من المجهولات عندنا، لأنّ إدراكها شي ءٌ خارج عن اطار الحس والعقل، بل ندرك آثار الوحي فقط، والأثر يدلّ على المؤثِّر، وعلى هذا فمن العبث الدخول في عالم الوحي الغامض إلّاأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام عندما كانوا يُسألون عن كيفية الايحاء، يجيبون جواباً وافياً بحيث يرسم في الذهن عن الوحي تصوراً لا غير!
ذكر الشيخ الصدوق قدس سره في كتابه «الاعتقادات» حول نزول الوحي حديثاً لابدّ أن استخلصه من الروايات حيث قال فيه:
«اعتقادنا في ذلك أنّ بين عيني اسرافيل لوحاً، فإذا أراد اللَّه عزوجل أن يتكلم بالوحي ضرب اللوح جبين اسرافيل، فنظر فيه فقرأ ما فيه، فيلقيه إلى ميكائيل عليه السلام، ويلقيه ميكائيل عليه السلام إلى جبرائيل عليه السلام ويلقيه جبرائيل عليه السلام إلى الأنبياء عليهم السلام، وأمّا الغشية التي كانت تأخذ النبي صلى الله عليه و آله حتى يثقل ويعرق فإنّ ذلك كان يكون منه عند مخاطبة اللَّه عزوجل إيّاه فأمّا جبرائيل فانّه كان لا يدخل على النبي صلى الله عليه و آله حتى يستأذنه إكراماً له، وكان يقعد بين يديه قعدة العبد» «2».
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 12، ص 312.
(2). اعتقادات الصدوق، ص 100.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 188
وقد جاء في الروايات مضمون هذا الحديث إجمالًا «1».
ونقرأ في حديث آخر أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عندما كان يوحى إليه يسمع صوتاً هادئاً قرب وجهه.
وقد جاء في حديث آخر: إنّ الوحي عندما كان ينزل على الرسول صلى الله عليه و آله يبدأ جبينه يتصبب عرقاً وإن كان الجو بارداً «2».
وبصورة عامة فإنّ الوحي كان يهبط على
رسول اللَّه باشكال مختلفة، ولكل شكل آثاره الخاصة به.
كما يستفاد من الروايات أن جبرئيل كان يهبط على الرسول أحياناً- بشكله الحقيقى الذي خلقه اللَّه عليه، ويحتمل أنّه هبط بهذا الشكل مرتين فقط طوال عمر الرسول (كما أشير إلى ذلك في بعض تفاسير سورة النجم) «3»، كما أنّه قد يهبط متمثلًا في صورة «دحية الكلبي» «4»، «5».
قلنا سابقاً أنّ للوحي مفهوماً واسعاً سواء في آيات القرآن أو في كتب اللغة، كما قلنا إنّ أحد مصاديقه هو الإدراك الغريزي عند الحيوانات، ولا يمكن تحليله بأي تحليل مادي، بل وجوده في الحيوانات دليل على وجود ذلك المصدر الغني والعظيم للعلم والمعرفة فيما وراء الطبيعة.
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 18، ص 254، ح 9.
(2). بحار الأنوار، ج 18، ص 261.
(3). في ظلال القرآن، ج 7، ص 306.
(4). بحار الأنوار، ج 18، ص 267، ح 29.
(5). إنّ دحية بن خليفة الكلبي هو أخو الرسول الرضاعي، وكان من أجمل الناس آنذاك، فكان يتمثل في صورته جبرئيل عندما يريد الهبوط على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله (مجمع البحرين مادة وحي). وكان من مشاهير صحابة الرسول صلى الله عليه و آله ويُعرف بحسن الوجه، أرسله الرسول صلى الله عليه و آله بالرسالة إلى قيصر الروم «هرقل» في السنة السادسة أو السابعة من الهجرة، وكان حياً حتى خلافة عمر (قاموس دهخدا بالفارسية).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 189
وقد أشار القرآن المجيد إلى هذا الأمر العجيب بالنسبة للنحل في الآيات 68 و 69 من سورة النحل.
لقد اتّضح لنا- بعد التحقيقات التي اجريت على هذه الحشرة في العصر الحاضر- أنّ النحل يعيش حياة اجتماعية وتمدناً عجيباً يفوق تمدن الإنسان في بعض نواحيه، فالعمران والبناء يتمّ عنده
بدقّة كاملة وطبقاً للمواصفات الهندسية، وكيفية تجميع العسل وتهيئته وادخاره وحفظه من التلوث، وكيفية تربية الصغار، والتعذية الخاصة للملكة، والتحقق من عدم تلوث بعض النحل بالزهور الملوثة، وكيفية الدفاع ضد العدو، وكيفية إخبار أعضاء الخلية عن الزهور بواسطة النحل المكلّف بالبحث، وإعطاء المواصفات الدقيقة من حيث المسافة والانحراف وذلك للحركة الجماعية نحو ذلك المصدر، وغير ذلك من الامور العجيبة التي لا يمكن تفسيرها إلّابالقول بأنّ لها إلهاماً غريزياً.
ويقال: إنّه تم التعرف على 4500 نوع من أنواع هذه الحشرة، والعجيب في الأمر أنّ جميعها تتبع طريقة واحدة في كيفية البناء والمَصّ والتغذية من الزهور «1».
إنّ البحث يستدعي عدم الخروج عن صلب الموضوع كثيراً، وإلّا فالحديث عن الحياة الغامضة للنحل طويل، ويكفينا منه الحديث عن بنائه لبيت سداسي الاضلاع مع زوايا هندسية دقيقة.
يقول العلماء في هذا المجال: إنّ البيوت المبنية من قبل النحل بنيت بدقّة وظرافة بحيث لا تحتاج إلى مواد أوليه كثيرة للبناء، رغم سعة محتواها، لوجود ثلاثة أشكال فقط من بين الأشكال الهندسية المتعددة- يمكن بناء البيوت على أساسها من دون حصول فراغ بينها والأشكال هي، المثلث متساوي الأضلاع والرباعي، والسداسي، وقد كشفت الدراسات الهندسية أن سداسي الأضلاع يتطلب مواد بناء أقلّ مع شدّة مقاومته، ولهذا السبب رجحه النحل على الشكلين الآخرين.
من أين حصلت له هذه الالهامات الغريزية؟ وفي أي مدرسة تعلم هذه التعاليم؟
______________________________
(1). اول جامعة،، ج 5، ص 55 «بالفارسية».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 190
لا يقتصر هذا الالهام الغريزي على النحل فحسب، بل نجده في كثير من الحيوانات تفوق عجائب كلٍّ منها الاخرى، نذكر لذلك الأمثلة الآتية:
يقول أحد العلماء في كتاب له باسم «البحر بيت العجائب»:
«إنّ الحركات التي تقوم بها بعض الأسماك تعتبر من غرائب
الطبيعة ولا أحد يستطيع أن يكشف أسرار هذا السلوك، فهناك نوع من الأسماك يسمى «النُقْط» يغادر البحر المالح الأنهر العذبة وهي الأماكن التي ولدت فيها نفسها، وقد يقتضي ذلك أن تسير عكس اتّجاه حركة المياه، أو تصعد الشلالات من أسفلها إلى أعلاها، وقد يبلغ عددها حداً بحيث تملأ النهر، وعندما تصل إلى المحل المقصود تضع بيوضها ثم تموت!
يا تُرى كيف تستطيع هذه الأسماك أن تختار المياه المناسبة لها؟ إنّه أمر عجيب، والأعجب، لأنّها تفتقد الخارطة، كما أنّ بصرها تحت الماء محدود، ولم يدلها أحد على الطريق، وبالرغم من ذلك فهي تصل إلى المكان المقصود والمناسب».
ويضيف في نفس الكتاب: «إنّ الأعجب من ذلك هو سلوك الأسماك الانجليزية «سمك يشبه الحيّة» فحين تبلغ ثمان سنوات تغادر النهر أو المستنقع الذي كانت تعيش فيه، وتزحف ليلًا على الأعشاب المتشابكة حتى تصل إلى شاطى ء البحر، ثم تجتاز المحيط الأطلسي عرضاً حتى تصل إلى المياه القريبة من «برمودا»! وتغوص في المحيط آنذاك وتضع البيوض ثم تموت ... إنّ صغار هذه الأسماك تطفو على سطح البحر وتبدأ سفرها عائدة إلى وطنها، وتستغرق هذه السفرة سنتين أو ثلاثاً حتى تصل إلى المحل الذي كان فيه أسلافها.
كيف وجدت هذه الأسماك طريقها رغم أنّها لم تسلكه سابقاً؟ إنّه سؤال لا يمكنك الإجابة عنه، كما لا يستطيع أعلم العلماء الإجابة عنه، إنّه سرّ، ولا أحد يعرفه» «1»!
وكثير من الطيور المهاجرة تجتاز طرقاً ومسافات طويلة، وبعضها يجتاز طريق «اوربا» إلى «أفريقيا الجنوبية» دون خطأ في الاتّجاه، ولم نكتشف كيفية اهتداء هذه الطيور إلى
______________________________
(1). البحر بيت العجائب، ص 116 و 117 (بالفارسية).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 191
الطريق حتى فترة ليست ببعيدة.
وقد أثبت بعض العلماء- بعد التحقيق والتجارب
على هذه الطيور- أنّها تهتدي الطريق بواسطة مواقع النجوم، وأثبتت التجارب أنّها تعرف مواقع النجوم غريزياً، وتعلم تغير مواقعها حسب فصول السنة، وحتى عندما تتلبد السماء بالغيوم، فإنّ وميض بعضٍ من النجوم يكفيها للاهتداء إلى الطريق، كما أثبتت تجارب اخرى أنّها ورثت معرفتها عن الفلك ومواقع النجوم، أي أنّها تعلم كل شي ء عن السماء ومواقع النجوم وإن لم تشاهد السماء سابقاً، بالطبع لم تُكتشف كيفية انتقال هذه المعلومات التفصيلية لهذه الطيور بالوراثة، خاصة وأنّ السماء تتغير أشكالها بمرور الزمان، ثم: من أين حصل الجيل القديم على هذه المعلومات؟! «1».
و النموذج الآخر لهذه الغريزة هو سلوك طير باسم «آكسك لوب» عندما تضع البيوض، فيقول العالم الفرنسي «وارد» حول هذا الحيوان:
«إني درست حالات هذه الطيور، فوجدت من خصائصها أنّها تموت بعد أن تبيض، ولا ترى أفراخها أبداً، كما أنّ الأفراخ لا ترى امهاتها، وعندما تفقس البيوض تخرج كالديدان بلا أجنحة ولا ريش، ولا قدرة لها على تحصيل الطعام، ولا قدرة لها للدفاع عن نفسها من الحوادث والمخاطر التي تهدد حياتها، ولهذا ينبغي أن تبقى في مكان محفوظ فيه طعام يكفيها لمدّة سنة، ومن بعدها تقوم الام- عندما تشعر أنّها على وشك أن تبيض- بالبحث عن قطعة من خشب ثم تثقبها ثقباً عميقاً، وتجمع فيها المؤونة الكافية، فتجمع أولًا أوراق الأشجار ما يكفي لفرخ واحد لمدّة سنة وتلقيها في نهاية الثقب العميق، ثم تضع عليها بيضة وتبني عليها سقفاً محكماً من عجينه خشبية، ثم تبدأ ثانياً في جمع مؤونة فرخ آخر لمدّة سنة وبعد جمعها المؤونة ووضعها على سطح الغرفة الاولى تضع بيضة ثانية عليها وسقفاً
______________________________
(1). حواس الحيوانات الغامضة، تأليف (ويتوس دروشر)، ترجمة لاله زاري، ص 167- 71
(ملخص) «بالفارسية».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 192
آخر، وهكذا تبني الغرفة بعد الغرفة حتى تموت «1».
من الذي علم هذا الطير هذا الحجم من المعلومات رغم أنّه لم ير امه ولا أفراخه؟ لا جواب لأحدٍ على هذا السؤال إلّاالقول، بأنّها الهامات غريزية من قبل الخالق العظيم.
______________________________
(1) المتلبسون بالفلسفة، ص 229، «بالفارسية».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 193
نفحات القرآن ج 1 222
القسم السادس والأخير من مصادر المعرفة هو «الشهود القلبي والمكاشفة».
وقبل كل شي ء ينبغي تعريف هذا المصدر المجهول لدى أكثر الناس، كي يتضح فرقه عن «الوحي» و «الالهام» و «الفطرة» و «الإدراكات العقلية»، ولكي لا يحملُهُ غير المطلعين على «اتباع الظن».
ومن جهة اخرى، لكي نحول دون استغلال هذا العنوان من قبل البعض، والنظر إليه نظرة تشاؤمية من قبل البعض الآخر.
إنّ الكائنات في هذا الوجود تنقسم إلى قسمين:
1- الكائنات التي يمكن إدراكها بالحواس وهي «العالم المحسوس».
2- الكائنات غير المحسوسة وهي «عالم الغيب».
لكن الإنسان- أحياناً- ينفتح أمامه طريق باتجاه عالم الغيب يمكّنه من معرفة بعض الحقائق الغيبية (حسب قابليته)، وبتعبير آخر، تتكشف له بعض حقائق عالم الغيب فيشاهد تلك الحقائق كما يشاهد حقائق العالم المحسوس، بل أوضح وأوثق.
ويقال لهذه الحالة «المكاشفة» أو «الشهود الباطني».
وقد اشير إلى هذا العلم في الآيتين: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ! (التكاثر/ 5- 6)
وقد ورد في المصادر الإسلامية المختلفة: إنّ «المجرمين» و «المؤمنين» تحصل لديهم
نفحات القرآن، ج 1، ص: 194
هذه الحالة عند الاحتضار، فيشاهد المؤمنون عندها ملائكة اللَّه أو الأرواح القدّسية لأولياء اللَّه بينما يعجز الجالسون حولهم عن مشاهدة ذلك.
كما حصل هذا الأمر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في غزوة الخندق عندما ضرب الرسول صلى الله عليه و آله الصخرة ثلاثاً وكان يظهر
بريق في كل ضربة وعند سؤال المسلمين عن هذا البريق قال:
أضاءت الحيرة وقصور كسرى في الاولى وفي الثانية أرض الشام والروم وفي الثالثة قصور صنعاء ... وسيأتي تفصيل الحديث «1».
كما أنّه قد حصل هذا لآمنة ام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما كانت حاملة بالرسول صلى الله عليه و آله حيث قالت: رأيت نوراً خرج مني شاهدت به قصور بلاد «بصرى في «الشام»، وهناك كثير من النماذج جاءت في الآيات والروايات نشير إليها فيما بعد، إن شاء اللَّه، فهذه كلها لا وحي ولا إلهام قلبي، بل نوع من المشاهدة والإدراك تختلف عن المشاهدة والإدراك الحسي.
وعلى هذا، فالكشف والشهود- اختصاراً- عبارة عن: الدخول في عالم ما وراء الحس ومشاهدة حقائق ذلك العالم بالعين الباطنية، كالمشاهدة الحسية بل أقوى أو سماع تلك الحقائق باذن روحانية.
بالطبع لا يمكن تصديق كل من يدعي أنّه وصل إلى هذه الملكة، إلّاأنّه ينبغي الاذعان بأصل وجود مصدر المعرفة ونتحدث أولًا عن هذا الأمر، ثم عن كيفية الوصول إليه، ثم طريق تمييز المدعين الصادقين من الكاذبين، وبعد هذا التمهيد، نمعن خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ .
(الأنعام/ 75)
2- «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ الَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . (التوبة/ 105)
3- «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى
______________________________
(1). الكامل في التاريخ،، ج 2، ص 179.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 195
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . (النجم/ 11- 14)
4- «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ . (التكاثر/ 5- 6)
5- «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً».
(الفرقان/ 22)
6- «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
وَقَالَ لَاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَانِّى جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَائَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّنْكُمْ انِّى أَرَى مَا لَاتَرَوْنَ انِّى أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ . (الأنفال/ 48)
7- «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ .
(يوسف/ 94)
8- «فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا الَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً».
(مريم/ 17)
إنَ «ملكوت» اشتقت في الأصل من مادة «المُلْك» والتي تعني الملكية والحكومة، واضيفت لها «الواو» و «التاء» للتأكيد والمبالغة، أمّا مَلْكُوَة فتعني الحكومة والعزة.
يقول الطريحي في «مجمع البحرين»، إنّ ملكوت جاءت بمعنى العزة والسلطنة والمملكة، وادعى بعض أئمّة اللغة أنّها تعني «الحكومة العظيمة» وهو يتفق مع ما قاله الراغب في مفرداته، ويقول صاحب الميزان: «كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية» «1».
إنَ «فؤاد»- كما بينا معناه بالتفصيل سابقاً- تعني القلب والروح عندما ينضجان ويتكاملان، وهو مشتق من مادة «فأْد» التي تعني النضج.
وإنّ «أجد» من مادة «وجود» ويعني الحصول، فقد يكون الحصول عن طريق احدى
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 7، ص 171.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 196
الحواس الظاهرية، مثل الرؤية بالعين، والسماع بالاذن، أو بواسطة الحاسة الشامة، وقد يحصل عن طريق الحواس الباطنية مثل الاحساس بالجوع أو الشبع والهم والغم، وقد يحصل عن طريق العقل مثل وجدان اللَّه بالاستدلال العقلي والبراهين المختلفة.
كلمة «تمثّل» من مادة «مُثُول» ويعني الوقوف أمام شخصٍ أو شي ءٍ، ويقال مُمَثَّل بشخصٍ أو شي ءٍ أي ظهر في صورة شخص أو شي ءٍ آخر، وقد تكرر موضوع التمثل في الروايات الإسلامية والتواريخ، منها ظهور ابليس في «دار الندوة» أمام المشركين وهم يخططون لقتل الرسول متمثلًا في شكل رجلٍ صالح وخير.
ومنها تمثل الدنيا في صورة
امرأة جميلة وفاتنة أمام الإمام علي عليه السلام وعدم استطاعتها من النفوذ في قلبه الطاهر وقصتها معروفة، ومنها تمثل أعمال الإنسان أمامه في القبر ويوم القيامة، كلٌّ بشكله المناسب له حيث عبرت الروايات الإسلامية عن هذا الأمر بالتمثل، ومفهوم التمثل في جميع هذه الموارد هو ظهور شخصٍ أو شي ءٍ في صورة شخص أو شكل آخر من دون تغير في باطنه وماهيته «1».
إنّ الآية الاولى بعد إشارتها إلى جهاد إبراهيم عليه السلام بطل التوحيد ضد الشرك وعبادة الأصنام، تحدثت عن المنزلة الرفيعة لإيمانه ويقينه، وكمكافئة لهذه المكانه فإنّ اللَّه أراه ملكوت السموات والأرض، فأصبح من أهل اليقين أي وصل إلى درجة عين اليقين وحق اليقين، جزاءً لما عاناه من جراء جهاده ضد الشرك وعبدة الأصنام، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ «السموات» تفيد العموم هنا (لأنّها جاءت جمعاً لا مفرداً ومعرفة لا نكرة)، نستنتج أنّ اللَّه أطلع إبراهيم على سلطانه في السموات المتمثل بالكواكب والنجوم والمجرات وغيرها، كذلك سلطانه على الأرض ما ظهر منها وما بطن، وقد عبّر القرآن عن هذا الأمر بهذا التعبير «نُريَ ابراهيم ...».
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 14، ص 37.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 197
ومع الأخذ بنظر الاعتبار إلى أنّ الإنسان لا يمكنه رؤية هذه الحقائق بعينه الظاهرية واستدلالاته العقلية، ندرك أنّ اللَّه أراه هذه الحقائق عن طريق الشهود الباطني وإزالة الحجب التي تحول دون مشاهدة الإنسان الحقائق الغيبية.
وقد ذكر الفخر الرازي احتمالين في تفسيره ل «الإرائة»، أحدهما: «أنّها حسية، والثاني:
أنّها إرائة عن طريق الاستدلال العقلي، ثم اختار الاحتمال الثاني، وذكر تسعة أدلة عليه» «1».
لكن- كما قلنا سابقاً- فالإنسان عاجز عن الاحاطة الكاملة بأسرار سلطان اللَّه على العالم سواء كان عن طريق الحس أو
عن طريق العقل، وتحتاج الاحاطة هذه إلى طريق إدراك آخر، وهو الشهود الباطني، ولهذا السبب يذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن»:
«أنّ المراد من الآية إخبار ابراهيم عن أسرار الخلق الخفية ورفع الحجاب عن آيات كتاب الخلق التي نشرت كي يصل ابراهيم إلى درجة اليقين الكامل» «2».
و بتعبير آخر: إنّ ابراهيم اجتاز مراحل التوحيد الفطري والاستدلالي- في البداية- من خلال مشاهدته لطلوع الشمسُ وغروبها وطلوع النجوم وافولها، وجاهد المشركين واجتاز درجات التوحيد في ظل هذا الجهاد العظيم، الواحدة تلو الاخرى، إلى أن بلغ مرحلة كشف اللَّه له فيها الحقائق، وهي مرحلة الشهود الباطني.
وهناك حديث للإمام الصادق عليه السلام في هذا المجال يشير فيه إلى هذا المعنى حيث يقول:
«كُشِط لإبراهيم السموات السبع حتى نظر ما فوق العرش، وكشط له الأرضون السبع، وفُعِل لمحمد صلى الله عليه و آله مثل ذلك ...» «والأئمّة من بعده قد فُعل بهم مثل ذلك» «3».
وقد ذكر صاحب البرهان الكثير من الأحاديث في تفسيره، كلها تكشف أنّ الإدراك هذا ليس هو نفس الإدراك العقلي أو الحسي، بل- وكما صرح صاحب الميزان وأشرنا إليه سابقاً- إنّ الملكوت هي مجموعة الامور التي لها ارتباط بالذات المقدّسة الإلهيّة من حيث
______________________________
(1). التفسير الكبير، ج 13، ص 43.
(2). في ظلال القرآن، ج 39، ص 291.
(3). تفسير البرهان، ج 1، ص 531، ح 2 (ومضمون الحديث الثالث والرابع قريب من مضمون هذا الحديث).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 198
انتمائها إلى تلك الذات، وهذا ما شاهده إبراهيم وعن هذا الطريق استطاع أن يصل إلى التوحيد الخالص «1».
وهناك روايتان ذكرت في تفسير «الدر المنثور» إحداهما عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والاخرى عن ابن عباس تبينان أنّ اللَّه رفع الحجب
عن إبراهيم وأراه ملكوت السموات والأرض أي أسرار قدرته، وحاكميته على الكون والوجود «2».
ج ج
والآية الثانية بعد ذكرها لأحكام «الزكاة والصدقة والتوبة» خاطبت الرسول قائلة:
«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ الَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . (توبه/ 105)
وممّا لا شك فيه أنّ المراد من رؤية الأعمال من قبل اللَّه سبحانه وتعالى هو رؤية اللَّه لجميع أعمال الناس سواء الصالحة منها أو غير الصالحة وما ظهر منها وما بطن «بقرينة وحدة السياق» وينبغي القول بأنّ مشاهدة الرسول مثل مشاهدة اللَّه، لأنّ الآية مطلقة ولم يقيدها شي ء، وأمّا المؤمنون، فالمراد منهم خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله المعصومون بحسب القرائن المختلفة «لا جميع المؤمنين».
ومع الالتفات إلى أنّه لا يمكن مشاهدة اعمال كافة الناس مشاهدة حسية أو استدلالية عقلية، ينبغي القول: إنّ الآية بينت حقيقة وهي أنّ الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام بإمكانهم المشاهدة بشكل يختلف عن المشاهدة الحسية المتعارفة، يشاهدون بها جميع أعمال المؤمنين.
وقد ذهب الفخر الرازي إلى أنّ المراد من الآية جميع المؤمنين لا الأئمّة، وعندما وقع في إشكال أنّ المؤمنين لا يطلع أحدهم على أعمال الآخر، أجاب: إنّ المراد أنّهم يُخبرون بها.
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 7، ص 178.
(2). در المنثور، ج 3، ص 24.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 199
وهذا تكلّف بلا نتيجة، وتبرير خلاف الظاهر.
كما أنّه نقلت روايات عديدة في ذيل هذه الآية بينت أنّ أعمال العباد تُعرض كل صباح (بعض الروايات ليس فيها قيد الصباح) على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام فيرونها ويفرحون بها إن كانت طاعاتٍ، ويتألمون إن كانت معاصياً «1».
و يمثل هذا الحجم الكبير من الروايات في تفسير هذه
الآية درس كبير لجميع سالكي طريق الحق والهداية، حيث إنّ هناك مراقبين أجلّاء يراقبون أعمالهم، والإيمان بهذه الحقيقة لها مردودات تربوية جمة، وقد نقل هذا المضمون في ضمن روايات كثيرة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول في أحدها: «إذا صار الأمر إليه جعل اللَّه له عموداً من نورٍ يُبصِرُ به ما يعمل به أهل كل بلدة» «2».
ج ج
والآية الثالثة إشارة إلى ما يعتقده البعض من مشاهدة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لجبرئيل عليه السلام في شكله الحقيقي، وقد شاهده بهذا النحو مرتين، المرة الاولى في بداية بعثته حيث ظهر (عليه السلام) في الافق وغطى الشرق والغرب، وكان بدرجة من الجلالة والعظمة حيث اضطرب الرسول حينها اضطراباً شديداً، والمرة الثانية هي عند معراجه صلى الله عليه و آله، وقد اشير في سورة النجم لكلا اللقائين.
وهناك تفسير آخر وهو أنّ المراد من الرؤية في الآية هو حصول الشهود الباطني له، الشهود للذات الإلهيّة المقدّسة، وهو شهود بالعين الباطنية لا الظاهرية، وهو مصداق واضح ل «لقاء اللَّه» في هذا العالم، وقد جاء شرح ذلك مفصلًا في تفسير الأمثل في ذيل الآيه 18 سورة النجم.
______________________________
(1). جاء في تفسير البرهان في ذيل الآية المذكورة، وفي بحار الأنوار، ج 33، ص 326 فما بعد، عشرات الروايات المنقولة في هذا المجال، ويمكن القول: إنّها وصلت إلى مستوى التواتر، و من اصول الكافي ج 1 باب «عرض الأعمال» جاء ذلك مفصلًا.
(2). منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 200 (لقد جمع في هذا الكتاب روايات عديدة بهذا المضمون) وقد ذكر بعضاً منها البحراني في تفسيره «البرهان».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 200
وعلى أيّة حال فإنّ الآية تصرح: إنّ ما رآه الرسول
صلى الله عليه و آله بقلبه قد حدث بالفعل، وقلبه صادق بما شاهده وغير كاذب.
والتعبير هذا شاهد على مسألة الكشف والشهود الباطني الذي يعتبر أحد مصادر المعرفة للإنسان، إنسان مثل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، وقد جاء في تفسير الميزان:
ولا بدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك باحدى الحواس الظاهره والتخيل والتفكر بالقوى الباطنة كما أننا نشاهد من أنفسنا أننا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية ابصاراً بالبصر ولا معلوماً بفكر، وكذا نرى من أنفسنا أننا نسمع ونشم ونذوق ونلمس ونشاهد أننا نتخيل ونتفكر وليست هذه الرؤية ببصر أو بشي ء من الحواس الظاهرة أو الباطنة فإنا كما نشاهد مدركات كل واحدة من هذه القوى بنفس تلك القوة كذلك نشاهد إدراك كل منها لمدركها وليس هذه المشاهدة بنفس تلك القوة بل بأنفسنا المعبر عنها بالفؤاد «1».
وقد صرّح المفسرون: إنّ المراد من الرؤية في الآية هو المشاهدة بالقلب.
وقد جاء في حديث أن سأل أحد صحابة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام:
هل رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ربّه عزّ وجلّ؟ فاجابه عليه السلام «نعم بقلبه، أما سمعت اللَّه عزّ وجلَّ يقول:
ما كذب الفؤاد ما رأى لم يَرَه بالبصر ولكن رآه بالفؤاد» «2».
بديهي، أنّ المراد من «الرؤية القلبية» ليس هو الفكر والاستدلال العقلي، لأنّ هذا أمر لا يختص بالرسول صلى الله عليه و آله بل يحصل لجميع المؤمنين والموحدين.
ج ج
وقد خاطبت الآية الرابعة المؤمنين كافة قائلةً: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الجَحيم ثم تضيف: «ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ .
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 19، ص 29.
(2). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 153،
ح 34.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 201
وهناك بحث بين المفسرين في أنّ الرؤية هذه تقع في الدنيا أم في الآخرة؟ أو أنّ الاولى في الدنيا والثانية في الآخرة؟ لكن ظاهر الآية يدل على أنّ الثانية تقع في الآخرة، بقرينة «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ وذلك لأنّه لا سؤال في الدنيا، وعلى هذا فالرؤية الاولى «رؤية الجحيم» تقع في الدنيا.
وقد جاء في تفسير الميزان: إنّ ظاهر الآية يدل على وقوع رؤية الجحيم قبل يوم القيامة، بالطبع رؤية قلبية والتي تعد من ثمار الإيمان واليقين، كما هو الأمر في قصة إبراهيم ورؤيته لملكوت السموات والأرض.
وقد تقدّم أنّ البعض يرى أنّ الرؤية في كلا الموردين تتعلق بيوم القيامة، ولهذا تكلفوا كثيراً عند بيانهم للفرق بين الرؤيتين، كما يُشاهد ذلك في كلام المفسر الفخر الرازي «1».
وعلى أيّة حال، فإنّ الآية تأكيد في ظاهرها على أنّ الإنسان- في بعض الحالات- تُرفع عن قلبه الحجب فيتمكن من رؤية بعض حقائق عالم الغيب.
ج ج
والآية الخامسة أشارت إلى طلب الكافرين المُلِح، حيث كانوا يسألون: لِمَ لَمْ يُنزَّل علينا ملائكة؟ أو لِمَ لَمْ نَرَ اللَّه جهرةً؟ «2».
ويجيبهم القرآن: «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً». (22/ فرقان)
وهناك خلاف بين المفسرين في المراد من «يوم» في الآية، فأي يوم هو؟ يعتقد البعض أنّ المراد منه هو يوم القيامة لكن البعض يعتقد- مع الالتفات إلى الآيات التي تحدثت عن (ملائكة الموت» ومن ضمنها الآية التالية: «وَلَوْ تَرَى اذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ ...». (93/ الأنعام)
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 32، ص 80.
(2). الفرقان، 21.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 202
إنّ المراد منه هو لحظات الموت، أو بعد الموت وقبل يوم القيامة.
وقد نقل هذا الرأي عن
ابن عباس «1»، في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام: «فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره (قيل اخرجوا أنفسكم اليوم تُجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على اللَّه غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) وذلك قوله «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ » «2».
وطبقاً لهذا التفسير، فإنّ الإنسان عندما يكون على وشك الموت تُرفع عن قلبه الحُجُب، فتحصل له حالة الكشف والشهود، فيرى الملائكة.
ج ج
والآية السادسة تحدثت عن معركة بدر وأنّ الشيطان زيّن للمشركين أعمالهم وصوَّرها لهم وكأنّهم يحسنون صنعاً، وذلك كي يكونو أكثر تفاؤلا واملًا بما يقومون به.
ومن جهة اخرى فإنّ عدد وعدة جيش المشركين الذي يقدر بعدة أضعاف المسلمين آنذاك اصطفوا أمام المسلمين، والشيطان يوسوس لهم وبشكل مستمر بانهم بهذا الجيش المجهز سوف ينتصرون ولا تستطيع أية قوّة أنّ تغلبهم: «لَاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَانِّى جَارٌ لَّكُمْ .
وعندما اشتعلت الحرب ونزلت الملائكة لنصرة المسلمين بأمر اللَّه، تراجع الشيطان، وقال لهم: «انِّى بَرِى ءٌ مِّنْكُمْ انِّى أَرَى مَا لَاتَرَوْنَ انِّى أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَديدُ الْعِقَابِ لأنّه رأى الامدادات الغيبية وآثار رحمة اللَّه!
و حول هذه الآية انقسم المفسرون إلى قسمين:
القسم الأول يرى أنّ الشيطان متجسم وظهر أمام هؤلاء بصورة إنسان وأخذ يوسوس لهم.
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 24، ص 70.
(2). تفسير البرهان، ج 3، ص 158،، ح 1.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 203
وأمّا القسم الثاني فانّهم يرون أنّ الشيطان نفذ في باطن المشركين كما هو المتعارف واحدث أثراً في قلوبهم.
و قد اختار كثير من المفسرين الرأي الأول، وهناك روايات معروفة تؤيد هذا الرأي، حيث قالت: إنّ الشيطان تمثَّل لهم في صورة «سراقة بن مالك» الذي يعتبر من أشراف «بنى كنانة» وقد حصل هذا الأمر «التمثل» عندما
هاجر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، حيث اشترك الشيطان آنذاك في شورى المشركين في «دار الندوة» متمثلًا في صورة رجل كبير السن من أهالي «نجد» وليس محالًا أن يتمثل في صورة إنسان، لأنّ هذا ممكن بالنسبة للملائكة (كما هو منقول في قصة ابراهيم ومريم).
والبحث الآخر هو: هل أنّ الشيطان رأى الملائكة حقاً يساندون جند الإسلام؟ أم عندما رأى آثار الانتصار غير المرتقب تيقن بنزول الملائكة والامدادات الغيبية؟ هناك نظريتان في هذا المجال:
يعتقد كثير من المفسرين أنّ المراد رؤيتهم حقيقةً، ويؤيد ذلك ظاهر الآيات اللاحقة التي تحدثت عن دخول الملائكة ساحة بدر.
وعلى هذا، فما كان المؤمنون ولا المشركون يرون تواجد الملائكة في بدر، بينما كانت الحجب مرفوعة عن الشيطان، فكان يرى الملائكة.
وهذا نوع من الكشف والشهود منحه اللَّه للشيطان لأهداف معينة.
ج ج
والآية السابعة أشارت إلى قصة يوسف عليه السلام، فعندما خرج أولاد يعقوب عليه السلام مع القافلة فرحين من مصر، وكانوا قد شاهدوا يوسف على عرش السلطة رجعوا حاملين قميص يوسف لتقرَّ عين أبيهم وليرجع نظره إليه ثانية، وعندما تحركت القافلة من مصر، قال يعقوب لمن حوله في بلاد كنعان: إنّي أشم رائحة يوسف إذا لم ترموني بالكذب والجهل، إنّ ما قاله يعقوب كان صدقاً لأنّه لم يشم الرائحة بالشامة الطبيعية التي يمتلكها جميع الناس ولهذا لم
نفحات القرآن، ج 1، ص: 204
يصدقه أحد ممن كان حوله فنسبوا الضلالة إلى الشيخ الكنعاني ذلك النبي العظيم حيث قالوا له: «تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيم . (يوسف/ 95)
وقد تبين صدق شيخ كنعان عند رجوع الاخوة إلى كنعان.
وقد عُدَّت المسافة بين مصر وكنعان بعشرة أيّام في بعض الروايات، وبثمانية أيّام في بعضها الآخر وفي روايات اخرى بثمانين فرسخاً «1».
ولا
دليل على حمل الآية على المعنى المجازي والقول بأن شم رائحة القميص كناية عن قرب لقائه بيوسف حيث ألهم الأب بذلك اللقاء (مثل قولنا نشم رائحة انتصار المسلمين على الأعداء)، وذلك لأنّه مع امكان حمل الألفاظ على الحقيقة لا يمكن الحمل على المجاز.
وفي النهاية نستنتج أنّ مكاشفة حصلت ليعقوب ورفعت عنه الحجب، وباحساس يفوق الاحساس الظاهري استطاع أن يشم رائحة قميص ابنه من بعيد.
ج ج
وقد تحدثت الآية الثامنة والأخيرة عن قصة تمثّل الملك الإلهي لمريم حيث يقول القرآن في هذا المجال بصراحة:
لقد انفصلت مريم عن أهلها في الضفة الشرقية من «بيت المقدس»، واتخذت حجاباً بينها وبين الناس (وهذا الحجاب إمّا أن يكون لأجل التفرغ للعبادة والنجوى أكثر، أو أن يكون لأجل التطهر والغسل)، وأيّما كان فإنّ اللَّه أرسل إليها روحه، فتمثل لها بشراً وإنساناً سويّاً أي كاملًا من دون عيب وذا قامة ووجه جميل، ففزعت مريم في الوهلة الاولى لكنها اطمأنت عندما قال لها: «إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبّكِ لِاهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً» أي عيسى عليه السلام. (مريم/ 19)
______________________________
(1). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 262؛ تفسير الكبير، ج 18، ص 207.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 205
واستمر الحديث بينهما طويلًا، وقد ذكر في سورة مريم «1».
و قد ادعى البعض أنّ الملك تمثل لمريم في حس الباصرة فقط، (وليس في الخارج)، لكن هذا خلاف الظاهر ولا دليل عليه، والقرائن على أنّ هذا الشهود قد حصل لمريم فقط، ويحتمل أنّه إذا كان أحد معها ما كان قادراً على الرؤية، وعليه فالآية قرينة اخرى على مسألة إمكانية الشهود حتى لغير الأنبياء.
نستنتج ممّا تقدم أنّ هناك مصدراً للمعرفة غير المصادر التي قرأنا عنها إلى الآن، وهو مصدر مبهم وغامض بالنسبة لنا،
لن يستفاد وجوده من آيات القرآن بوضوح، وهو لا يختص بالأنبياء والأئمّة، بل قد يحصل لغيرهم أيضاً، وإذا شككنا في بعض الآيات في مجال استفادة هذا المصدر منها، فإنّ هذا المصدر يُستشف من مجموع الآيات.
بالطبع، إنّ هذا الحديث لا يعني فسح المجال أمام كل من يدعي الكشف والشهود، بل إنّ لهما علائم سنشير إليها فيما بعد إن شاء اللَّه.
إنَّ الروايات التي كشفت عن مصدر المعرفة ليست بالقليلة وقد وصلت إلى حد «الاستفاضة» حسب تعبير علماء الحديث، وقد أوردنا هنا نماذجاً من هذه الروايات:
1- ذكر في تاريخ معركة الأحزاب أنّ المسلمين عند حفرهم للخندق حول المدينة
______________________________
(1). راجع تفسير الأمثل، ذيل الآيه 19 من سورة مريم.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 206
(كوسيلة دفاعية أمام العدو) خرجت عليهم صخرة كسرت المعول، فأعلموا النبي صلى الله عليه و آله، فهبط إليها ومعه سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، فكبر رسول صلى الله عليه و آله والمسلمون، ثم الثانية كذلك، ثم الثالثة، ثم خرج وقد صدعها، فسأله سلمان عمّا رأى من البرق، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاولى وأخبرني جبرئيل أنّ امتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أن امتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون» «1».
لم يصدق المنافقون هذه البشارة التي ساقها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وأخذوا يستهزئون بقولهم: يا للعجب كيف رأى قصور الحيرة وقصور ملوك ايران والروم واليمن من المدينة وكيف بشر بالانتصار على هؤلاء ونحن الآن محاصرين من قبل
مجموعة من جيش اعراب مكة؟ إنّ هذا الكلام لا أساس له ولا حقيقة.
إلّا أنّ الحوادث المستقبلية أثبتت صحة ما قاله الرسول صلى الله عليه و آله.
وقد يحمل البعض الشهود هنا على معنىً مجازي، لكن لا مبرر لهذا الحمل مع إمكان الحمل على المعنى الحقيقي.
2- لقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام حول معركة مؤتة (التي وقعت بين المسلمين والروم الشرقية في شمال الجزيرة): «أنّ المسلمين عندما ذهبوا للقتال بقيادة جعفر بن أبي طالب، فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يوماً في المسجد وقد تسطحت له الجبال والارتفاعات فشاهد جعفراً يقاتل الكافرين ثم قال: قتل جعفر» «2».
وقد جاءت تفاصيل اخرى عن هذا الموضوع في روايات اخرى حدث أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ارتقى يوماً المنبر بعد صلاة الصبح، فصوَّر للمسلمين ساحة المعركة في مؤتة بدقة، وتحدّث بالتفصيل عن شهادة «جعفر» و «زيد بن حارثة» و «عبداللَّه بن رواحة» وكأنّه يرى المعركة بأم عينيه، والجدير بالذكر أنّ التواريخ المعروفة- عند ايرادها لهذه القصة-
______________________________
(1). الكامل في التاريخ، ج 2، ص 179.
(2). بحار الأنوار، ج 21، ص 58، ح 9.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 207
نقلت هذا الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ الشهداء الثلاثة حُملوا إلى السماء على سررٍ من ذهب ورأيت نقصاً في سرير «عبداللَّه بن رواحة» قياساً لسريري الشهيدين الآخرين، فسِئل عن سبب هذا؟ قال: مضيا، وتردد بعض التردد ثم مضى ، فالتعبير بالرؤية في الرواية له معنىً عميق وهو نموذج من نماذج الشهود.
3- وهناك حديث في تفسير الآية: «وَانَّ مِنْ اهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا انْزِلَ الَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ الَيْهِمْ . (آل عمران/
199)
يقول: إنّ سبب نزول الآية هو النجاشي ملك الحبشة، فانه عندما توفي أخبر جبرئيل الرسول بالأمر، فدعا الرسول المؤمنين لأنّ يصلُّوا على أحد اخوتهم، فسألوا: من هو؟
أجاب: النجاشي.
ثم جاء الرسول إلى مقبرة البقيع، فتجلت له بلاد الحبشة وتابوت النجاشي من المدينة، فصلّى عليه «1».
4- وقد جاء في تاريخ ام الرسول آمنة عليها السلام، أنّها نزل عليها ملك عندما كان الرسول في رحمها وقال لها: إنّ في رحمك سيد هذه الامّة فقولي عند ولادته: إني أعوذ باللَّه الأحد من شرِّ الحاسدين، وسمّيه «محمداً»، وقد شاهدت عند حملها أنّه خرج منها نور أضاء لها قصور بُصْرى من أرض الشام! «2».
وهذا الحديث يكشف عن إمكان حصول حالة الشهود لغير الأنبياء والأئمّة.
5- وفي الحديث المعروف: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان في بعض حيطان فدك وفي يده مسحاة فهجمت عليه امرأة من أجمل النساء فقالت: يا ابن أبي طالب إن تزوجتني أغنك عن هذه المسحاة وأدلك على خزائن الأرض ويكون لك الملك ما بقيت، قال لها: «فمن أنتِ حتى أخطبك من أهلكِ؟».
قالت: أنا الدنيا: فقال عليه السلام: «ارجعي فاطلبي زوجاً غيري فلست من شأني فأقبل على مسحاته وأنشأ».
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 8، ص 411.
(2). سيرة ابن هشام، ج 1، ص 166.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 208 لقد خاب من غرّته دنيا دنيةٌوما هي إن غرت قروناً بطائلِ
اتتنا على زي العروس بثينةٌوزينتها في مثل تلك الشمائلِ
... الخ «1».
وقد حمل البعض الرواية على «التشبيه» و «التمثيل» و «المجاز» لكنا إذا أردنا حفظ الظاهر، فمفهومها هو أنّ الدنيا تمثلت للإمام علي عليه السلام في عالم المكاشفة في صورة امرأه جميلة وأجابها عليه السلام بالسلب.
وقد نقل تمثل الدنيا للمسيح عليه السلام كذلك
في صورة امرأة مخادعة مع اختلاف بسيط عمّا نقل عن الإمام علي عليه السلام «2».
6- وقد جاء في أحوال الإمام السجاد عليه السلام (وعندما كانت فتنة عبداللَّه بن الزبير في الحجاز مستعرة والكل كان يترقب نهاية الأمر) أنّ الإمام عليه السلام قال: «خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهي ثم قال: يا علي بن الحسين ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ أعلى الدنيا؟ فرزق اللَّه حاضر للبر والفاجر، قلت:
ما على هذا أحزن وأنّه لكما تقول، قال: فعلى الآخرة؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر- أو قال قادر- قلت: ما على هذا أحزن وأنّه لكما تقول: فقال: مم حزنك؟ قلت: ممّا نتخوف عليه من فتنة ابن الزبير وما فيه الناس قال: فضحك ثم قال: يا علي بن الحسين هل رأيت أحداً دعا اللَّه فلم يجبه؟ قلت: لا، قال: فهل رأيت أحداً توكل على اللَّه فلم يكفه؟ قلت: لا، قال: فهل رأيت أحداً سأل اللَّه فلم يعطه؟ قلت: لا، ثم غاب عني» «3».
7- وفي حديث آخر للإمام نفسه عليه السلام يقول فيه: «كأنّي بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين عليه السلام وكأنّي بالأسواق قد حفت حول قبره فلا تذهب الأيّام والليالي حتى سار إليه
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 40، ص 328، ح 10.
(2). بحار الأنوار، ج 70، ص 126 باب حب الدنيا و ذمها، ح 120.
(3). اصول كافي، ج 2 باب التفويض إلى اللَّه، ح 2.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 209
من الآفاق وذلك عند انقطاع ملك بني مروان» «1».
8- جاء في أمالي الصدوق عن أحوال الحر بن يزيد الرياحي:
لما خرجت من الكوفة نوديت أبشر يا حُر بالجنة.
فقلت: ويلٌ للحر
يبشر بالجنة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟! «2»
9- وقد جاء في حديث معروف دار بين ام سلمة زوجة الرسول صلى الله عليه و آله والإمام الحسين عليه السلام أنّ الإمام عليه السلام أراها كربلاء ومحل شهادته «3».
10- وقد نقلت حكايات متعددة عن العلماء العظام والمتقين والمؤمنين الصادقين في مجال المكاشفات وذكرها هنا يطيل بحثنا- إلّاأنّه ينبغي القول بانها خرجت عن فحوى الخبر الواحد ووصلت إلى درجة الاستفاضة ويمكنها أن تكون مؤيداً جيداً لموضوعنا.
إضافة إلى الأحاديث السابقة التي تمثل نماذج عملية لمسألة الكشف والشهود، هناك تعابير في الروايات تدل على أنّ الإنسان كلما ازداد إيمانه ويقينه زالت عنه الحُجُب والصفات الذميمة (التي اصطنعها الإنسان نفسه بذنوبه) عن قلبه وتكشفت له حقائق أكثر عن الكون إلى درجة تمكنه من النظر إلى ملكوت السموات والأرض كما نظر إبراهيم الخليل.
إنّ قلب الإنسان وروحه كالمرآة التي حال غبار المعصية والصدأ الذي تراكم عليها من انعكاس الحقائق، لكنها عندما تُجلى بماء التوبة، ويزول غبار المعاصي عنها، ويطهرُ القلب جيداً، فإنّ الحقائق ستسطع فيها ويكون صاحبها أمين أسرار اللَّه، فيسمع نداءاته التي لا
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 98، ص 114، كتاب المزار، ح 36.
(2). أمالي الصدوق، ص 93، مجلس 30.
(3). مدينة المعاجز، ص 224.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 210
يسمعها إلّامن اؤتمن.
ويمكن أن نجعل الأحاديث التالية شواهداً على ما قلناه!
1- يقول الرسول صلى الله عليه و آله في ضمن حديث له: «لولا أنّ الشياطين يحومون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت» «1».
2- وقد جاء في خبر آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً: «ليس العلم بكثرة التعلّم، وإنّما العلم نور يقدفه اللَّه
في قلب من يحب، فينفتح له، ويشاهد الغَيب، وينشرح صدره فيتحمّل البلاء، قيل: يا رسول اللَّه هل لذلك من علامة؟ قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله» «2».
3- وقد وصف نهج البلاغة حُجَجَ اللَّه على الناس في الأرض هكذا: «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين، واستدانوا ما استعوره المُترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها مُعلَّقة بالمحلِّ الأعلى أولئك خلفاء اللَّه في أرضه والدعاة إلى دينه» «3».
4- وقد جاء في حديث «ذعلب اليماني» الخطيب النبه الذي كان من صحابة الإمام علي عليه السلام: سأل الإمام يوماً هذا السؤال: «هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين»؟
أجاب الإمام: «أفأعبد ما لا أرى ؟!
فقال: «وكيف تراه»؟
فقال الإمام: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» ثم أضاف: «قريبٌ من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مباين» «4».
ليس مراد الإمام من إدراك اللَّه إدراك بالاستدلال العقلي، وهذا واضح، لأنّ هذا الأمر حاصل لجميع الموحدين وحتى لتلك العجوز صاحبة الغزل المعروفة، فانّها تستدل على
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 59، ح 39، باب القلب وصلاحه.
(2). تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص 267.
(3). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.
(4). نهج البلاغة، الخطبة 179.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 211
وجود اللَّه بحركة آلة الغزل التي تحتاج إلى محرك، فكيف بالفلك العظيم والسموات والأرضين.
فالمراد- إذن- إدراك للَّه يفوق الإدراك الطبيعي، أي الشهود الباطني، فانّه يرى اللَّه به واضحاً بدرجة وكأنه يراه بعينيه. (فدقق).
5- وقد جاء في حديث معروف للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً» «1».
أي أنّي أرى جميع الحقائق من وراء ستار الغيب، أراها بالشهود الباطني،
وبصيرتي تشق حاجز الغيب وتنفذ فيه.
6- قال الإمام علي بن الحسين عليه السلام: «ألا إنّ للعبد أربع أعيُن: عينان يُبصر بهما دينه ودنياه، وعينان يُبْصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد اللَّه بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته» «2».
وقد جاءت روايات عن الشيعة الصادقين يشبه مضمونها مضمون هذا الحديث «3».
7- ونقرأ في حديث الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ الرسول صلى الله عليه و آله رأى يوماً الصحابي «حارثة» فسأله عن حاله».
فاجابه حارثة: «يا رسول اللَّه مؤمن حقّاً»!
فقال رسول صلى الله عليه و آله: «لكلِّ شي ءٍ حقيقةٌ فما حقيقة قولك؟».
فأجابه حارثة: «يا رسول اللَّه عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري وكأنّي انظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب وكأني انظر إلى أهل الجنه يتزاورون في الجنة وكأنّي اسمع عواء اهل النار في النار».
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «عبدٌ نوّر اللَّه قلبه أبْصَرْتَ فاثبت».
______________________________
(1). غرر الحكم.
(2). خصال الصدوق، ص 265، ح 90.
(3). بحار الأنوار، ج 67، ص 58، ح 35.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 212
فقال حارثة: «يا رسول اللَّه ادعُ اللَّه لي أن يرزُقني الشهادة معك».
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اللهُمَّ ارزق حارثة الشهادة».
ولم تمضِ أيّام كثيرة حتى أرسل الرسول فريقاً لاحدى المعارك وكان معهم حارثة فقاتل وقَتل ثمانية أو تسعة من الأعداء ثم قُتِلَ شهيداً «1».
8- وقد جاء في حديث للرسول صلى الله عليه و آله نقل في كتب أهل السنة: «لولا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع» «2».
إنّ هذه الأحاديث وأحاديث اخرى من هذا النوع، وضحت العلاقة بين الكشف الروحاني والإيمان واليقين، وبينت امكانية حصول الإنسان-
بالتكامل المعنوي- على هذا الإدراك الذي لا نعلم عنه غير أنّه موجود فحسب.
تعتبر «الرؤيا الصادقة» احدى فروع الشهود والكشف، والمنامات الصادقة هي التي تتحقق وتطابق الواقع، فتُعد منامات كهذه نوعاً من الكشف.
إنّ الفلاسفة الروحيين- خلافاً للفلاسفة الماديين الذين يعتقدون بأنّ الرؤيا هي وليدة النشاطات اليومية أو الآمال غير المتحققة أو الخوف من الامور المختلفة- وهولاء يعتقدون أنّ الرؤيا تنقسم إلى الأقسام التالية:
1- الرؤيا التي تتعلق بالذكريات والميول والآمال.
2- الرؤيا غير المفهومة والمضطربة ويعبر عنها ب «أضغاث أحلام» وهي نتيجة قوة الوهم والخيال.
3- الرؤيا التي تتعلق بالمستقبل وترفع الستار عن بعض أسرار الإنسان، وبتعبير آخر أنّها شهود يحصل للإنسان وهو نائم.
______________________________
(1). اصول الكافي، ج 2، ص 54 باب حقيقة الإيمان واليقين، ح 3.
(2). تفسير الميزان، ج 2، ص 292.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 213
لا دليل للفلاسفة الماديين على نفي القسم الثالث، بل لدينا قرائن كثيرة تثبت واقعية هذا القسم من الرؤيا، وقذ ذكرنا عدّة نماذج حية لا تقبل الخطأ والمناقشة في التفسير الأمثل «1».
والجدير ذكره أنّ القرآن ذكر سبعة موارد على الأقل من موارد الرؤيا الصادقة، وذكرها هنا يناسب تفسيرنا الموضوعي:
1- تحدث القرآن في سورة الفتح عن الرؤيا الصادقة للرسول، حيث رأى نفسه مع أصحابه يدخلون مكة لأداء مناسك العمرة وزيارة بيت اللَّه الحرام، فأفصح الرسول عن منامه هذا للمسلمين ففرحوا، إلّاأنهم تصوروا أن الرؤيا هذه تحققت في السنة السادسة عندما حصل صلح الحديبية، ولم يحصل الفتح يومذاك، إلّاأنّ الرسول طمأنهم بأنّ الرؤيا صادقة وستتحقق يوماً ما.
وقد أجاب القرآن أولئك الذين شككوا في صدق الرؤيا بقوله:
«لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا
فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتَحاً قَرِيباً».
(الفتح/ 27)
تحقق المنام بجزئياته في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة، وقد عرفت العمرة في تلك السنة ب «عمرة القضاء» لأنّ المسلمين كانوا قاصدين أداءها في السنة السادسة، لكن قريش منعتهم منها.
رغم أنّ المسلمين دخلوا مكة (التي تعتبر مركزاً لقدرة المشركين وسلطانهم) من دون سلاح، إلّاأنّ ابهتهم كانت مشهودة للأعداء، وقد صدق عليهم تعبير «آمنين» و «لا تخافون» بالكامل فأدوا مراسم زيارة بيت اللَّه وبه تحقق منام الرسول صلى الله عليه و آله بجميع خصوصياته رغم أن تخمين وقوع أمرٍ كهذا كان شبه مستحيل، وهذا من عجائب تاريخ الإسلام.
2- وقد أشير في سورة الاسراء إلى رؤيا اخرى للرسول صلى الله عليه و آله إشارة عابرة وقصيرة حيث قال تعالى:
______________________________
(1). التفسير الأمثل، ذيل الآيه 60 من سورة الإِسراء.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 214
«وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً». (الاسراء/ 60)
وقد نقل مفسرو الشيعة والسنة حديثاً معروفاً جاء فيه: أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله رأى في المنام قروداً ترتقي منبره وتنزل منه، فحزن الرسول من جراء هذا الأمر، لأنّه يحكي عن الحوادث المفاجئة في قيادة المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه و آله (إنّ الكثير فسّرَ المنام بحكومة بني امية، حيث خلفوا الرسول- ظلماً- واحداً بعد الآخر وأفسدوا في الخلافة، وكانوا فاقدي الشخصية واتبعوا ما كان عليه آباؤهم في الجاهلية) «1».
وادعى البعض أنّ هذه الرؤيا هي نفس رؤيا دخول مكة، بينما سورة الاسراء نزلت بمكة، والرؤيا كانت في المدينة وقبل واقعة صلح الحديبية في السنة السادسة الهجرية.
وقد رجح البعض مثل الفخر الرازي أن تكون الرؤيا بمعنى المشاهدة في
حالة اليقظة، والآية تشير إلى مسألة المعراج «2».
لكن هذا التفسير ضعيف لأنّ المعنى الأصلي واللغوي للرؤيا هو المشاهدة عند النوم لا في اليقظة، وعليه فالصحيح هو التفسير الأول.
أمّا المراد من «الشجرة الملعونة»، فقد ادعى البعض: إنّها هي «شجرة الزقوم» التي تنبت في قعر جهنم طبقاً للآيه 64 من سورة الصافات، وهي طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون طبقاً للآيات 46 و 47 من سورة الدخان.
وادعى بعض آخر: إنّها كناية عن اليهود العصاة، فانّهم كالشجرة مع ما فيها من غصون وأوراق إلّاأنّهم ملعونون عند اللَّه.
إلّا أنّها فُسِّرت في كثير من كتب الشيعة والسنة ببني امية، وقد نقل الفخر الرازي هذا
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 20، ص 236.
(2). جاءت هذه الرواية في تفسير القرطبي ومجمع البيان والصافي والكبير، وقد قال الفيض الكاشاني: إنّها من الروايات المشهورة عند العامة والخاصة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 215
التفسير عن ابن عباس المفسّر الإسلامي الكبير «1»، وهذا التفسير يتفق مع رؤيا الرسول صلى الله عليه و آله بالكامل.
قد يقال: لِمَ لم يُشِر القرآن إلى الشجرة الملعونة في القرآن المجيد؟ إلّاأنّ هذا الإشكال يُحلُ بالالتفات إلى لعن المنافقين بشدّة في سورة محمد صلى الله عليه و آله الآية 23، وبني امية من طلائع النفاق في الإسلام.
إضافة إلى هذا، فإنّ تعبير القرآن «نُخَوِّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيرَا» يصدق عليهم بالكامل.
وقد جاء في رواية أن عدداً من صحابة الإمام الصادق عليه السلام سألوه نفسه أو أباه عليه السلام عن المراد من الشجرة الملعونة في الآية، فأجابهم: «بني امية» «2».
وقد نقل نفس المضمون عن أمير المؤمنين عليه السلام وكذلك عن الإمام الباقر عليه السلام، وقد ذكر علي بن ابراهيم الروايات الثلاث في تفسيره «3».
وقد نقل السيوطي في
تفسيره «الدر المنثور» روايات كثيرة عن الشجرة الملعونة، ورؤيا الرسول صلى الله عليه و آله، حيث فُسِّرت الشجرة الملعونة في بعضها ببني امية وفي بعضها ببني الحكم وبني العاص، وكلهم من شجرة خبيثة واحدة «4».
وعلى أيّة حال، فإنّ رؤيا الرسول صلى الله عليه و آله تحققت بعد رحيله، وخلفته الشجرة الملعونة نسلًا بعد نسل، وكانوا بلاءً عظيماً على المسلمين، وامتحاناً كبيراً لهم.
3- والرؤيا الصادقة الاخرى هي رؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام فيما يخص ذبح اسماعيل عليه السلام، فانّه كان محلًا لامتحان عظيم للوصول إلى مقام الإمامة وقيادة الامة الرفيع،
______________________________
(1). نقلها القرطبي عن ابن عباس في تفسيره، ج 6، ص 3902؛ ونقلها الفخر الرازي عنه أيضاً في التفسير الكبير، ج 20، ص 237.
(2). تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 180، ح 278.
(3). تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 180 و 181، ح 282 و 283 و 286.
(4). تفسير الميزان، ج 13، ص 175.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 216
فقد أُمر بذبح ابنه العزيز «اسماعيل»، رغم أنّ الأمر أوحي إليه وهو نائم، أي أنّ الايعاز كان مناماً لا شيئاً آخر، ولنقرأ ما يقوله القرآن في هذا المجال:
«فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . (الصافات/ 102)
إنّ التعبير ب «أرى الذي هو فعل مضارع يفيد الاستمرار يدل على أنّ ابراهيم عليه السلام كان يرى الرؤيا كراراً، بحيث حصل له اطمئنان بأنّ الأمر من اللَّه، ولهذا أجابه اسماعيل بهذا الجواب: «يَا أَبتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ .
ولهذا السبب نفسه جاء في الآيتين: «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا
إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا».
(الصافات/ 104- 105)
والحادث هذا، دليل واضح لأولئك الذين يقولون بامكانية عد الرؤيا الصادقة نوعاً من أنواع الوحي للانبياء والرسل، كما أنّه قد جاء في بعض الروايات: «إنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءً من النبوة» «1».
وقد شكك بعض الاصوليين في مسألة نسخ الحكم قبل العمل به إلّاأنّ كلامهم- وكما ذُكِرَ في محله- يختص بالأوامر غير الامتحانية، أمّا في الامتحانية فهو غير صادق، والتعبير ب «قد صدَّقَتْ الرؤيا» دليل على أنّ إبراهيم عليه السلام قد أدى ما عليه بما جاء به من تهيئة المقدمات لهذا الإيثار الكبير.
4- ومن الرؤى الصادقة في القرآن، هي رؤيا يوسف في بيت أبيه، حيث أشارت إليها الآيات الاولى من سورة يوسف:
«إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ . (يوسف/ 4)
تنبأ يعقوب مستقبل يوسف والحوادث المقبلة عليه فبشره: «يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ... وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ . (يوسف/ 6)
يعتقد بعض المفسرين أنّ يوسف رأى هذا في المنام وهو في الثانية عشرة من عمره، وقد
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 58، ص 167 و 177 و 178.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 217
تحقق منامه بعد أربعين سنة حيث جلس على عرش الحكومة في مصر، وجاءه اخوته مع أبويه خاضعين له، أو ساجدين للَّه شكراً، كما أُشير إلى ذلك في نهاية السورة:
«وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقّاً». (يوسف/ 100)
إنّ هذا الحديث يحكي بوضوح عن إمكانية تحقق أحلامٍ صادقة انعكست من قلب طاهر قبل أربعين سنة رغم أنّه لم يُذكر العدد 40 سنة في آيات القرآن، إلّاأنّ المستفاد من قرائن الآيات أنّ الفاصل بين
المنام وتحققه كان طويلًا جداً.
وجدير بالذكر هنا أنّ من ضمن البشائر التي بشر يعقوب بها يوسف هذه البشرى
«وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَاديثِ . (يوسف/ 6)
وهذه الجملة (سواء عنت علم تعبير المنام كما يعتقده كثير من المفسرين أو عنت مفهوماً أوسع من ذلك ليشمل الخبرة والإحاطة باصول وأسباب الحوادث ونتائجها) «1»، فانّها على كل حالٍ دليل واضح على امكانية صدق بعض الرؤى وتحققها عيناً وواقعاً في الخارج.
5 و 6- المنامان اللذان رآهما صاحبا يوسف في السجن عندما كان مسجوناً بذنب طهارته، فيحكي اللَّه قصتهما في نفس السورة ويقول:
«وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ انِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الُمحْسِنِينَ .
(يوسف/ 36)
فدعاهما يوسف للتوحيد وعبادة اللَّه قبل أن يُأوّل ما رأيا، ثم قال للذي رأى أنّه يعصر خمراً أي عنباً: إنّك تخرج من السجن، وقال للذي رأى فوق رأسه خبزاً يأكل منه الطير:
إنّك ستحكم بالإعدام وقد تحقق المنامان (من المتعارف في بيئة فاسدة وحكومة جبارة مثل بيئة وحكومة مصر آنذاك حيث يحكم على يوسف بالسجن بذنب العفة والطهارة، أن يطلق سراح الذي يسالم الحكومة ويحضر الخمر لطغاتها، أمّا الذين يتحلون بروح الدفاع
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 11، ص 86.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 218
عن المستضعفين ويعطون خبزاً للطيور فيحكم عليهم بالاعدام).
وعلى أيّة حال، فإنّ هاتين الرؤيتين اللتين حكاهما القرآن بصراحة يكشفان عن امكان اعتبار الرؤيا كمصدر للمعرفة، بالطبع لا كل رؤيا ولا كل معبّر ومفسر لها.
7- رؤيا سلطان مصر التي جاءت في نفس السورة، وهي نموذج واضح آخر للرؤيا الصادقة، يحكي القرآن هذه الرؤيا قائلًا:
«وَقَالَ الْمَلِكُ انِّى أَرَى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ
عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ واخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاىَ انْ كُنْتُم لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ . (يوسف/ 43)
وبما أنّ حاشية الملك لم يكونوا خبراء بتعبير الرؤيا، قالوا له: «أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين».
يحتمل أنّهم أرادوا طمأنة سلطان مصر بحديثهم هذا (ينبغي الالتفات إلى أنّ ملك مصر وفرعونها هو الحاكم العام لمصر، بينما عزيز مصر هو- كما يقول بعض المفسرين- وزير الخزينة، واسم فرعون المعاصر ليوسف هو «ريان بن وليد» واسم عزيز مصر «قطفيرعطفير» «1».
فتذكَّر عندها ساقي الملك الذي اطلق سراحه من السجن بعد أن رأى الرؤيا وأولها يوسف، فحكى القصة للملك فبعث الملك شخصاً إلى يوسف كي يأوّل المنام، فأوله هكذا:
«قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَآ حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ الَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ الّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ .
(يوسف/ 47- 48)
وقد تحقق المنام بعد ذلك، وعندما شاهدوا الصدق والمعرفة في يوسف عليه السلام، أطلقوا سراحه، وقد أدى به الأمر أن أصبح عزيز مصر ووزير الخزينة، ثم من بعده أصبح ملك مصر كلها مع سعتها وعمرانها.
______________________________
(1). نقل هذا المضمون في التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 18، ص 108 (وللتفصيل يراجع «اعلام القرآن»، ص 673، كما قد صرّح «ابو الفتوح الرازي» أن نهاية يوسف وصوله إلى سلطة مصر» تفسير روح الجنان، ج 6، ص 401.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 219
يستفاد من الآيات السابقة إمكانية كون بعض الرؤى مصدراً لإدراك بعض الحقائق، وبتعبير آخر، فإنّ مسألة الكشف والشهود يمكنها أن تحصل في المنام كما تحصل في اليقظة، وهذه الرؤى على ثلاثة أقسام (طبقاً للآيات السابقة):
1- بعض الرؤى تتحقق في الخارج عيناً من دون أي
تغيير، مثل رؤيا الرسول، زيارته مع الصحابة لبيت اللَّه الحرام التي جاءت في سورة الفتح.
2- منامات تتحقق وهي بحاحة إلى تفسير وتعبير، وتتحقق بتفسيرها لا بعينها، ولا يفسرها إلّاالخبير بها، مثل المنامات الأربعة التي حصلت ليوسف ولصاحبيه في السجن ولملك مصر، وقد ذكرت كلها في سورة يوسف.
3- الرؤيا التي فيها جانب حكم وإيعاز، وتُعدُّ نوعاً من الوحي يحصل عند النوم مثل رؤيا إبراهيم عليه السلام.
بالطبع ليس مفهوم الكلام هذا أنّ كل منام يُعدُّ كشفاً أو شهوداً، بل إنّ كثيراً من المنامات تُعدُّ أضغاث أحلامٍ، وتفتقد لأي معنىً، وهي رؤى ناتجة عن نشاط قوّة الوهم، أو عن الحرمان والكبت والمآسي وعدم الراحة والأذى
ج ج
سؤال:
قد يسأل البعض عن المنامات التي تتعلق بحوادث المستقبل، فهل هي نوع من العلم؟
أم هي (كما يعتقد فرويد العالم النفساني المعروف) لا شي ء سوى إرضاء للشهوات والميول المكبوتة والحرمان الحاصل للإنسان، فتتجلى له في المنام مع تغيّر وتبدّل لخداع «الأنا» ولإرضاء الشهوة المكبوتة فإنّ الحلم إشباع خيالي لها، وقد ينعكس هذا الميل بنفسه عيناً في الحلم (مثل رؤية عاشق لمعشوقته الفقيدة عيناً) وقد ينعكس في منامه مع تغيير وتبديل، فيحتاج حينها إلى تعبير وتفسير.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 220
الجواب:
إنّ ما يقوله فرويد هو فرضية لا أكثر، وفي الحقيقة لا دليل على ما يدعيه أبداً، فقد تكون بعض المنامات مصداقاً لما يدعيه، أمّا كون الأحلام كلها من هذا القبيل فهذا ما لا دليل له عليه «1».
نحن نعتقد أن للمنامات أقساماً، وقسم منها هو الرؤيا الصادقة، ونعدها وسيلة للكشف أي كشف بعض الحقائق، وهذه حقيقة استفدناها من القرآن (الذي هو وحي الهي) بالدرجة الاولى وبالدرجة الثانية من التجارب التي حصلت في هذ المجال، ليس المراد تلك الحكايات
التي لا سند لها، بل المراد الحوادث التي وقعت لشخصيات كبيرة ومعروفة في عصرنا أو في العصور الماضية، وقد نقلوا هذه المنامات في كتبهم (وقد أشرنا إلى بعض من نماذجها الواضحة في الجزء التاسع من التفسير الأمثل).
ومن هنا يعرف أنّه لا يمكن عدّ الرؤيا لوحدها مصدراً للمعرفة، ولهذا يقال بعدم حجية الرؤيا، بل ينبغي ضم قرائن من الخارج موضحة ولا تقبل النفي، لتصبح الرؤيا مصدراً مقبولًا للمعرفة.
قد نستغني عن التذكير بأنّه كما يوجد كشف وشهود واقعي يحصل تارة بالإيمان واليقين الكامل، وتارة اخرى بالرياضات النفسية، فانّه يوجد كشف وشهود وهمي كثير، فقد يحصل هذا الكشف بسبب التلقينات المكررة وانحراف الذهن والفكر عن جادة الصواب، وتارة بسبب الالقاءات الشيطانية، فتتمثل في ذهن الإنسان صور وحوادث لا واقع لها، إنّها
______________________________
(1). لم يكتشف العلماء منشأ النوم (لا المنام) بعد، فلا يعلمون هل أنّ منشأه نشاط فيزيائي أم كيميائي أم كلاهما، أَم ناشي ء عن نشاط الجهاز العصبي، فإذا كان النوم نفسه لغزاً لم يُحل بعدُ، فكيف يمكن القول بحل مسألة المنام التي هي أعقد من مسألة النوم أضعافاً مضاعفة!
نفحات القرآن، ج 1، ص: 221
مجموعة أوهام لا أكثر، ومن هذا القبيل الكشف والشهود الذي يدعيه كثير من «الصوفية»، فإنّ المريد البسيط يعتقد في بداية عمله (من جراء الإعلام والدعاية التي يتلقاها من البعض) أنّه ينبغي له أن يرى مرشده الحقيقي في المنام، وتقوى هذه الفكرة عنده كل يوم، فيتوقع في كل يوم رؤية جمال مرشده ومراده في عالم الرؤيا يزوره ويرشده (غالباً ما يضع أشخاصاً معينين نصب عينيه لهذا المنصب، وإذا لم يعينهم بالدقة فانّه يعين صفات ومميزات خاصة لهم).
قد يفقد هذا الصوفي توازن فكره الطبيعي من جراء الرياضات الروحية
الشاقة وانحراف المزاج، فتزداد قدرة الوهم عنده، فيرى في المنام يوماً أشخاصاً قريبين- من حيث الصفات والميزات- من الأشخاص الذين رسمهم في ذهنه، وقد يتطابقون في الصفات بالكامل، وقد يحصل هذا في عالم اليقظة، لأنّ عيني هذا السالك البسيط انّشدت إلى الطريق، واذنيه صاغيتان إليه دائماً فهو يتنظر دائماً أن ينفتح له باب من ذلك العالم: فتنمو هذه الفكرة عنده ليلًا ونهاراً، وقد تصنع قوة الوهم عنده- لا إرادياً- صوتاً ينقر اذنه، أو تتمثل أمامه صورة، فيتخذها أساس اعتقاده.
كما أنّ الاستماع إلى المواضيع المؤنسة والمنشطة (التي قد تبين في اطار إشارات جميلة وتتزامن مع ألحان مخدِّرة، يزيد من تأثير التلقينات عليه أضعافاً مضاعفة.
إنّ تلك الفرقة من الصوفيين الذين يؤيدون «الوجد والسماع» «1»، يذوبون فيهما بشكل حيث يفقدون توازنهم، ويُعطَّل العقل عندهم، فيتركون الساحة فارغة لقوة الوهم، وأولئك الغارقون في وهم الكشف والشهود ومشاهدة عالم الغيب يسيرون في عوالم خيالية تتوقف سعتها على شدّة الوهم والخيال عندهم، فتتمثل أمامهم صور مثل بحار النور، وجبل الطور، والسموات السبع والأرضين السبع، وكلما مالت قوة الوهم عندهم إلى شكل أو صورة، تمثل ذلك الشكل أو تلك الصورة أمام أعينهم.
______________________________
(1). المراد من السماع، الألحان الموسيقية أو نغمات المطربين الدارجة في بعض مجالس الصوفيين، والمراد من الوجد، الذوق والشوق واللهفة التي تحصل للصوفيين الذين يحسنون السماع ويقترن مع حركات تشبه الرقص.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 222
إنّهم يفرحون لهذه اللحظات كثيراً، وكأنّهم التقوا بالمراد وعانقوه، فيصرحون وتعلو أصواتهم، مما يزيد ويفاقم هذه الحالة عندهم، ثم يرمون بحالة شبيهة بالاغماء، وبعدما يصحون ويهدءون من هذه الحالة، يحكون للناس ما رأوا ظناً منهم أنّه كشف.
إنّهم في الحقيقة يسعون نحو السراب ظناً منهم أنّه ماء، ورغم عدم
وصولهم إلى شي ء، يبتلون بأمور بعيدة عن الحق والحقيقة.
وبعبارة مختصرة: لا يمكننا تصديق كل من ادعى الكشف والشهود، وكذا لا يمكننا اعتبار كل تمثل وكل نداء إلهياً واقعياً، وذلك لأنّ هناك كشفاً شيطانياً.
وقد جاء في حديث للإمام علي عليه السلام مع الحسن البصري: أنّ الإمام عليه السلام مر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن اسبغ الوضوء، فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس اناساً يشهدون أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس، ويسبغون الوضوء، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا، فقال: واللَّه لأصدقنّك يا أميرالمؤمنين لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليّ سلاحي وأنا لا أشك في أنّ التخلف عن أم المؤمنين عائشه هو الكفر، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد «يا حسن إلى اين ارجع فإنّ القاتل والمقتول في النار» فرجعت ذعراً وجلست في بيتي، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أنّ التخلف عن ام المؤمنين عائشه هو الكفر، فتحنطت، وصببت عليّ سلاحي وخرجت اريد القتال، حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: «يا حسن إلى اين مرةً بعد اخرى القاتل والمقتول في النار» قال علي عليه السلام: صدقك افتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا، قال عليه السلام:
ذاك أخوك ابليس، وصدقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار، فقال الحسن البصري: الآن عرفت يا أميرالمؤمنين أنّ القوم هلكى «1».
إنّ نداءات كهذه أشير إليها في القرآن بصفة وحي الشياطين، حيث يقول تعالى في الآية:
«وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ الَى بَعْضٍ زُخْرُفَ
______________________________
(1). احتجاج الطبرسي، ج
1، ص 250.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 223
نفحات القرآن ج 1 269
الْقَوْلِ غُرُوراً». (الانعام/ 112)
إنّها نوع من الامتحان للتمييز بين صفوف المؤمنين وغيرهم، فقد جاء في الآية: «وَانَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ الَى أَوْلِيَائِهم . (الانعام/ 121)
وبناءً على ما تقدم، نرى كتب الصوفية مليئة بهذا النوع من المكاشفات، مكاشفات غريبة وموحشة، ومردوداتها السلبية كثيرة، نشير إلى بعضٍ منها هنا بشكل مختصر:
1- ورد في كتاب «صفوة الصفاء» في شرح أحوال الشيخ صفي الدين الأردبيلي، بقلم أحد مريديه ما مضمونه: أنّ رجلًا من ذوى المكاشفات أخبر الشيخ بأنّه رأى في عالم الرؤيا أنّ أكمام الشيخ امتدت من العرش إلى الثرى فقال له الشيخ: إنّ رؤياك هذه تتناسب مع طول أناتك وصبرك!
2- كتب محي الدين بن عربى في كتابه «مسامرة الأبرار» إنّ الرجبيين لأشخاص مرتاضون برياضات خاصة، ومن صفاتهم أنّهم يرون الرافضين (الشيعة) في حالة الكشف في صورة خنازير.
3- وكتب الشيخ عطار في كتابه «تذكرة الأولياء» عن «با يزيد البسطامي»: طِفْتُ البيت فترة، وعندما وصلت إلى الحق، رأيت أنّ الكعبة تطوف حولي! ... إنّ اللَّه بلغ بي إلى درجة حيث أستطيع أن أرى الخلق جملة بين اصبعي!! «1».
4- وقد جاء في نفس الكتاب، أنّ با يزيد قال: عرض عليَّ الحقُ الفي مقامٍ عنده وفي كل مقام سلطان، وما قبلتُ «2».
إنّ هذه ادّعاءات لم تُسمع من نبيٍ مرسل ولا من إمام معصوم، بل إنّ أدعيتهم ومناجاتهم في جنب بيت اللَّه التي تكون في غاية التذلل والتواضع تكشف عن أن كشفاً كهذا إن لم يكن فهو- قطعاً- أوهام وتخيلات شيطانية ترتسم في أذهان البعض، لأسباب وعوامل مختلفة،
______________________________
(1). تذكرة الأولياء، ص 102.
(2). المصدر السابق، ص 101.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 224
أشرنا إلى بعضها سابقاً،
وإنّ سعة هذه الأوهام تتوقف على مدى وطول آمال الشخص وتخيلاته.
سؤال:
ثمة سؤال يطرح نفسه هنا، وهو: هل من طريق لتمييز المكاشفات «الرحمانية» من «الشيطانية» و «الحقيقية» من «الوهمية» أم لا؟
الجواب:
نعم توجد ثلاث علامات يمكن من خلالها التمييز- الإجمالي- للمكاشفات الشيطانية من الرحمانية، وهي: إنّ الرحمانية اضافة إلى كونها يقينية وقطعية تقترن بمستوى عالٍ من الإيمان واليقين والمعرفة والاخلاص والتوحيد والعمل الصالح، بينما تفتقد المكاشفات الشيطانية هذه المواصفات، وعلى هذا الأساس فلا اعتبار لقول من يدعي المكاشفات الرحمانية وهو يفتقد هذه المواصفات.
ولقد قرأنا في رواية مضت أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال: «العلم نورٌ يقذفه اللَّه في قلب من يحب، فينفتح له، ويشاهد الغيب، وينشرح صدره فيتحمل البلاء، قيل: يا رسول اللَّه وهل لذلك من علامة؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله» «1».
ثم إنّ المكاشفات الحقيقية تتفق دائماً مع الكتاب والسنة، وفي نفس الاتّجاه الذي يتجه إليه كلام اللَّه والمعصومين عليهم السلام، ولا تميل قيد أنمله عن جادة الاطاعة الربانية، وغير ملوّثة بأدنى إثم أو ذنب.
______________________________
(1). تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص 267.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 225
وثالثاً، إنّ محتوى المكاشفات الحقيقية يتفق دائماً مع العقل اتفاقاً كاملًا، وتكون بعيدة عن الامنيات والأوهام غير المعقولة، فالذي يقول: «إني رأيت الرافضية- مكاشفة- كالخنازير»، في الحقيقة رأى نفسه في مرآة ذاته، والذي يقول: «عندما وصلت إلى الحق، فرأيت بيت اللَّه يطوف حولي» فانّه مُصاب بوكع في رأسه، وشخصاً كهذا يرى نفسه مستغنياً عن الطواف، ويرى الطواف أدنى من شأنه، بينما الرسول صلى الله عليه و آله بعظمته لم ير نفسه مستغنياً عن ذلك، وقد حج حتى في آخر سنة من
عمره الشريف وأدى المناسك.
وآخر الحديث في الكشف والشهود هو هذا:
لا يمكن عدّ الكشف والشهود كمصدرٍ عامٍ للمعرفة مثل «العقل» و «الحس» و «التاريخ» بل إنّه مصدر خاص، وله شروط ومواصفات صعبة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 227
حُجُب المعرفة وآفاتها
نفحات القرآن، ج 1، ص: 229
في بحثنا حول طرق العلم والمعرفة تمكّنا من اجتياز قسم من محطات هذه الطرق وقد سلمنا بوجود واقعيات خارج إطار الذهن، وقلنابان امكانية إدراك تلك الواقعيات لدى الإنسان هو شى ء معقول إلى حدٍ ما، وقد عرفنا بدقة مصادر المعرفة الستة.
كما علمنا أن خمسةً من مصادر المعرفة أي «الحس» و «العقل» و «الفطرة» و «التاريخ» و «الوحي» عامة ويستطيع الجميع الاستعانة بها للوصول إلى المعرفة المرادة، إلّاأنّ المصدر السادس وهو الشهود الباطني مصدر خاص بفريق من المؤمنين وأولياء اللَّه، ولا يتمتع بها الجميع.
بقي محطتان ينبغي العبور منهما للوصول إلى المراد، الاولى «موانع طرق المعرفة»، والاخرى «ممهدات المعرفة»، والبحث هنا ينصب على الموانع.
فمما لا شك فيه: أنّ العين لوحدها لا تكفي لرؤية الموجودات والأشخاص، بل ينبغي أن لا يكون هناك حجاب أو مانع يحول دون الرؤية، فلو كان هناك دخان أسود أو غبار أو ضباب غليظ يحول بيننا وبين الشي ء المراد رؤيته فانّا لا نرى الشى ء الذي أمامنا وحوالينا مهما كان قربه منّا، فضلًا عن البعيد، فالشمس التي تنير كل ارجاء العالم بنورها الساطع تُحجب رؤيتها عنا إذا حالت الغيوم بينها وبيننا.
فإذا استفاد شخص من نظارة سوداء قاتمة السواد، فطبيعي أنّه لا يرى شيئاً، وإذا استفاد من نظارة ملونة فانّه سيرى الأشياء ملونة (حسب لون نظارته)، وإذا كانت عدستا نظارته
نفحات القرآن، ج 1، ص: 230
غير مصقولتين جيداً فانّه سيرى الأشياء معوجة، وإذا كان مبتلياً بمرض اليرقان
فانّه سيرى الأشياء صفراء، وإذا كان أحولًا فانه سيرى صوراً لا تتطابق مع الواقع.
وأمثال هذه الموانع بالضبط قد تحصل للعقل والفطرة، وقد تحصل موانع في فهم التاريخ وحتى الوحي وكلمات المعصومين عليهم السلام، فقد يُساء فهمه لنفس الموانع والحجب التي تحصل للإنسان في مصادر المعرفة الاخرى، ومن هنا نفهم أهميّة بحث موانع المعرفة وندرك أهميّة العلم بها للوصول إلى المعرفة.
وبما أنّ القرآن منطلق بحثنا في التفسير الموضوعي، فنسعى لمعرفة الموانع والحجب التي ذكرت فيه بالدرجة الاولى
لقد ورد البحث في القرآن حول موانع المعرفة بنحوين: الأول بحوث كلية و «منذرة» والثاني: بحوث جزئية و «تعليمية»، ولنتناول الآن البحوث الكلية.
نُمعن خاشعين أولًا إلى الآيات التالية:
1- «افَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً». (فاطر/ 8)
2- «وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . (الأنعام/ 43)
3- «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ». (آل عمران/ 7)
4- «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . (المطففين/ 14)
5- «لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِيْنَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ . (الحج/ 53)
6- «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرَاً». (الاسراء/ 46)
7- «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَّعَنَهَمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُون . (البقرة/ 88)
8- «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِم فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ . (الأعراف/ 100)
9- «وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ . (التوبة/ 87)
نفحات القرآن، ج 1، ص: 231
10- «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ». (البقرة/ 7)
11- «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً». (الجاثية/ 23)
12- «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا». (محمد/ 24)
13- «فَإِنَّهَا لَاتَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ». (الحج/
46)
14- «لَهُمْ قُلُوبٌ لَّايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لّايُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ اضَلُّ اولئِكَ هُمُ الْغَافِلونَ . (الأعراف/ 179)
قبل كل شي ء ينبغي الخوض في البحث عن المفردات المختلفة والظريفة التي استعملت في الآيات السابقة التي أشارت إلى حجب المعرفة وحرمان الإنسان منها، كلُّ منها تشير إلى مرحلة من مراحل انحراف ذهن الإنسان وحرمانه من المعرفة، فتبدأ بالمراحل الأضعف، وتنتهي بمراحل أشد وأقوى من الحرمان بحيث تسلب الإنسان قدرته على التمييز، بل تصوّر له الحقائق بالعكس فيرى الشيطان- من جرائها- مَلَكاً بريئاً، والقُبح حُسناً، والباطل حقاً!
ج ج
إنّ «زيغ» تعني- كما يقول كثير من أئمة اللغة- الانحراف، أو الانحراف عن الحق والصواب، ولهذا جاء في القرآن: «رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا». (آل عمران/ 8)
و «رَانَ» من مادة «رَيْن» (على وزن عَين) وهو الصدأ الذي يصيب بعض الفلزات. هذا ما قاله الراغب في مفرداته، وقد قال بعض أهل اللغة: «إنّه قشر أحمر يترسب من الهواء ويظهر على سطح بعض الفلزات مثل الجديد»، وهذا الصدأ علامة للإستهلاك والتلف وزوال
نفحات القرآن، ج 1، ص: 232
شفافية ولمعان الفلز.
وقد فسّر البعض هذه المفردة ب «غلبة أمر على أمرٍ آخر» أو «الوقوع فيما لا مخرج منه».
وقد قيل للشراب المسكر «رَيْنه» لأنّه يتغلب على العقل «1».
«الوَقْر»: على وزن (عَقل) هو الثقل في السمع بدرجة يصعب السمع بها.
أمّا «الوِقْر» على وزن (فِكر) فهو الثقل الذي يوضع على ظهر الإنسان أو رأسه، كما يقال «وِقْر» للحمل الثقيل، ولهذا قيل لصاحب العقل «ذي وقار».
«الغشاوة»: تطلق على كل شي ءٍ غطّى شيئاً آخر، ومن هذا الباب قيل للستارة غشاوة، وقد اطلق، لفظ «غاشية» على يوم القيامة من حيث إنّ الخوف الناشي ء منها يغطي جميع الناس
ويخيّم عليهم، وقد اطلقت هذه المفردة على الليل الأظلم كذلك لأنّه كالستار يغطي الأرض، كما اطلقت على «الخيمة» كذلك.
«أكِنة»: جمع كِنان، وفي الأصل تعني غطاء يُستر به شي ء، و «الكِنّ» على وزن (جِن) يعني الوعاء الذي تحفظ به الأشياء، وقد أطلقت هذه المفردة على البيت أو على أي شي ءٍ يحفظ الإنسان من الحرارة والبرودة، وجعل الأكِنة على القلوب يعني: سلب قدرتها في التمييز.
«الغُلْف»: على وزن (قفل) جمع «أغلُف» ومن مادة «غِلاف» وتعني غلاف السيف أو غلاف أي شي ء آخر، و «قلوب غلف» تعني قلوباً لا تفهم ولا تعي الحقيقة، وكأنها مُغلَّفة.
«قَسَتْ» من مادة «قَسْوَة» على وزن (مرْوة)، وَالقساوة تعنى الصلابة والغلظة وفقدان المرونة، ويقال للفضة غير الخالصة «قسّي»، والقلوب القاسية هي غير اللينة والغليظة تجاه الحق والعدالة.
و «نَطْبع»: من مادة «طَبْع» ويعني الختم أو النقش، ومن هذا الباب تستعمل المفردة هذه في مجال المسكوكات الذهبية والفضية، ويقال للخاتم الذي تُختم به الكتب والرسائل
______________________________
(1). تفسير الفخر الكبير ذيل الآية 14 من سورة المطففين والمنجد مادة (رين).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 233
طابع، وعندما تستعمل هذه المفردة في مجال العقل فتعني أنّه مُغطَّى ومختوم عليه فلا يفهم ولا يعي شيئاً، وكأنّ أبوابه مغلقة ومختوم عليها، أمّا مفردة «طَبَع» فتعني الصدأ الذي يعلو السيف كما تطلق على المعاصي والذنوب التي تعلو القلب وتغطيه.
و «الخَتْم»: يعني الانتهاء والفراغ من الشي ء، وبما أنّ الرسائل تختم عند الفراغ منها، قيل لوسيلة الختم خاتم، وفي الماضي كان كثير من الناس ينقشون أسماءَهم على فصوص ما يتختمون به، فيختمون بها الرسائل، ولهذا اطلق على خاتم اليد خاتماً.
وكان وما زال العرف (إذا أرادوا أن يغلقوا بيتاً أو صندوقاً بحيث لا يفتحه أحد) يغلقون الباب أولًا
بحبل أو قفل، ثم يصبون مادة لصقة أو طين لزج على القفل أو الحبل ثم يختمون على تلك المادة، بحيث إذا أراد شخصٌ فتح الباب أو الصندوق اضطرَّ لأنّ يكسر الختم.
إنّ استعمال القرآن لهذه المفردة في مجال العقول، إشارة إلى أنّها عقول مقفلة ومختوم عليها ولا تعي شيئاً بدرجة لا يمكن أن تحصل على بصيص للوصول إلى طريق العلم والمعرفة.
(الانحرافات والرين والأمراض والأكنة والأقفال):
كما قلنا سابقاً: إنّ أهميّة بحث «موانع المعرفة» تستدعي عرض الموضوع في مرحلتين:
المرحلة الاولى ونبحث فيها- إجمالًا- عن وجود الموانع والحجب وكيفية تأثيرها على العقل، وكيفية تلوث مصادر المعرفة بها تدريجياً، إلى درجة تنتهي إلى تعطيلها.
المرحلة الثانية: ونبحث فيها عن جزئيات وخصائص كلٍ من هذه الموانع والآفات، وللقرآن بحث واسع تربوي وجذّاب في هذا المجال.
ولنبدأ أولًا من المرحلة الاولى فممّا تجدر الإشارة إليه، هو أنّ القرآن تحدث عن موانع
نفحات القرآن، ج 1، ص: 234
المعرفة والآفات ونفوذها التدريجي والغامض، بشكلٍ عرّف سالكي طريق العلم، والمعرفة بها تعريفاً كاملًا، وأنذرهم كراراً بأن لا يفنوا عمرهم في السعي نحو السراب ظناً منهم أنّه ماء، وبعد سنوات من السعي الحثيث من أجل الوصول إلى الحقيقة ينتهون إلى الباطل.
ج ج
والآن نبحث معاً الآيات المذكورة:
الحديث في الآية الاولى والثانية يدور حول تزيين الأعمال، فتارة يزينها الشيطان للإنسان (كما جاء ذلك في الآية الثانية) وتارة تكون ذهنيات الإنسان ونفسه أو عوامل اخرى هي التي تزين للإنسان سوء أعماله (كما جاء ذلك في الآية الاولى، حيث إنّ الفعل فيها مبني للمجهول) فقالت: «افَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فإِنَّ اللَّهَ يُضلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» فإنّ الأول يتجه نحو الهاوية والثاني نحو الصراط المستقيم، وإذا ما صدر منه
عملٌ سي ءٌ أسرع إلى التوبة وجبران ما عمل.
وتضيف الآية الثانية: إنّ قلب الإنسان يقسو في المرحلة الاولى ثم يتأهل لتقبل وسوسة الشيطان فتتمثل الأعمال السيئة حسنةً أمامه، ومن هنا نرى بعض الناس غير نادمين على أعمالهم السيئة، بل قد يفرحون ويتباهون بها، ويصرون على منطقيتها وصحتها.
وقد حصل هذا الأمر لأخوة يوسف، فعندما ألقوه في البئر وجاءوا أباهم بقميصه ملطخاً بدم كاذب ادعوا أكل الذئب له، وأنّهم صادقون في كلامهم.
فأجابهم أبوهم: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً». (يوسف/ 18)
أي ظننتم أنّكم أحسنتم عملًا بهذه الجريمة، وانكم ستحلون محل يوسف في قلبي، وأنّ يوسف انتهى أمره إلى الأبد، غافلين عن أنكم توطئون بعملكم هذا مقدمات عزه وسلطانه، وأنّ مكانه سيبقى فارغاً في قلبي حتى أرى الفقيد مرة اخرى
وممّا يستحق الإشارة إليه هو أنّ القرآن ينسب تزيين الأعمال تارة للشيطان وتارة
نفحات القرآن، ج 1، ص: 235
لنفس الإنسان، وتارة يأتي التزيين في صيغة فعل مبني للمجهول وتارة ينسبه إلى اللَّه تعالى كما جاء ذلك في الآية: «انَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ اعمَالَهُمْ . (النمل/ 4)
هذه ترجع إلى أنّ مقدمات هذا الأمر تبدأ من نفس الإنسان، فيتمسك بها الشيطان ويفعل فعلته، وبما أنّ اللَّه مسبب الأسباب وخالق العلل والمعلولات فتنسب إليه نتيجة الأعمال، وتقتضي حكمته بأن يبتلي البعض بمصير كهذا وما أسوء حال الذي تتمثل السيئات أمامه حسنات!
ج ج
وقد تحدثت الآية الثالثة عن المراحل الاولى لانحراف القلب، وبعد تقسيمها للآيات إلى محكمات (وهي ذات المفاهيم الواضحة) ومتشابهات (وهي ذات المعاني المعقدة) قالت: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وَابْتِغَاءَ تَأْويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا»، فالراسخون في
العلم يفسرون المتشابهات بالمحكمات، واما الذين في قلوبهم زيغ فيأخذون بالمتشابهات ويفسرونها برأيهم ابتغاء الفتنة.
إنّهم يتمسكون بما تشابه من القرآن لتبرير نواياهم غير الخالصة، ولهذا نرى كثيراً من المنافقين وأصحاب البدع وأتباع المذاهب المنحرفة يستغلون صفاء قلوب المخلصين والمؤمنين بآيات اللَّه بالكامل، ويبررون بدعهم بالاستعانة ب «التفسير بالرأي» والاستعانة بالآيات المتشابهة، وبتعبير آخر: بما أنّ قلوبهم وأفكارهم منحرفة فيرون آيات اللَّه منحرفة أيضاً، كالمرآة المعوجة تنعكس فيها الصور معوجة.
ج ج
والآية الرابعة تشير إلى الصدأ والرين الذي يعلوا القلوب، إنّه الغبار الذي يعلو القلوب بسبب الذنوب والمعاصي، فيتراكم الغبار عليها حتى تتحجر، ويغطي الصدأ القلب كله،
نفحات القرآن، ج 1، ص: 236
حيث قالت الآية: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون فلا عجب في عدم تمكّنهم من رؤية الحقيقة.
ج ج
وتحدثت الآية الخامسة عن تفاقم الحالة السابقة بحيث تتبدل إلى مرض روحي، فبعد إشارتها إلى الالقاءات والوساوس الشيطانية حتى للأنبياء والمرسلين قالت: «لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ .
نعم، إنّ هذه القلوب التي لا تستلذ بطعم الحقيقة، بسبب مرضها، وحلاوة الحقيقة عندها كالمرارة، على استعداد لقبول وسوسة الشياطين.
وممّا يلفت النظر هنا أن جملة «فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ ، تكررت اثنا عشر مرّة في القرآن، ممّا يكشف الأهميّة التي أولاها اللَّه لهذه المسألة، مع الالتفات إلى أنّ أغلب هذه الآيات عنت المنافقين وصُرّح بذلك في عدد منها «1».
إلّا أنّ المرض جاء في بعض من هذه الآيات بمعنى «الشهوات والميول والهوى ، كما هو الحال في الآية: «فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَولِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ . (الاحزاب 32)
وعلى أيّة حال، فإنّ المستفاد من الآيات هو أنّ الإنسان كما يصاب جسمه بامراض، كذلك روحه فانّها قد تصاب بامراض سببها «النفاق» تارة
و «الأهواء والميول» تارة اخرى، وتغيّر عند عروضها- ذائقة روح الإنسان بالكامل، كما نرى ذلك في أمراض الجسم فقد تُغير مزاجه بشكل تجعله يستلذ بالأغذية الشاذة والكريهة ولا يستلذ بالأكلات اللذيذة والمفيدة، فإنّ إنساناً كهذا غير قادر على إدراك الحقائق ووعي الامور وفهمها.
ومن المؤسف أنّهم كلما استمروا في طريقهم كلما تفاقم عندهم المرض، فإذا كانوا في مرحلة الشك، فسيتفاقم عندهم ويشتد ويصل تدريجياً إلى مرحلة الانكار ومن الانكار
______________________________
(1). الأنفال، 49، والأحزاب، 12 و 32.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 237
إلى مرحلة أخطر وهي الاستهزاء ومخالفة الحق، يقول القرآن في هذا المجال: «فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ . (البقرة/ 10)
ج ج
تحدثت الآية السادسة عن جعل الأكنة والحجب على القلوب، وليس حجاباً واحداً بل حُجب وأكنة وذلك للحيلولة دون فهمهم القرآن، حيث جاء فيها: «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِم وَقْرَاً».
ذكر بعض المفسرين أنّ التعبير بالأكنة يدلّ على تعدد الكِنان «1»، وممّا لا شك فيه أنّه لم يجعل وقر في آذانهم الظاهرية بل الروحية كي لا يسمعون من الحق شيئاً، كما لم تجعل الأكنة على القلوب التي هي وسيلة لضخّ الدم في الأوعية، بل جعلت الأكنة على أرواحهم وعقولهم.
وقد وقع كثير من المفسرين- عند الإجابة عن هذه المسألة- في إشكال، فتارة قالوا: إنّها معجزة حيث كان الرسول صلى الله عليه و آله يختفي عن انظار اعدائه المعاندين، فلا يكادون يسمعون شيئاً من كلامه، وذلك كي لا يؤذوه صلى الله عليه و آله، وتارة قالوا، إنّ اللَّه يمنع لطفه عن أشخاصٍ كهؤلاء فيتركهم لحالهم، وهذا هو معنى جعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان.
إلّا أنّ ظاهر هذه الآية (التي تماثل آيات اخرى
من القرآن) شي ء آخر، وفي الحقيقة أنّ هذه استعمالات مجازية في حق المعاندين والمتعصبين والمغرورين والغارقين في الإثم، وبتعبير آخر: أنّ حرمانهم من إدراك الحقيقة بسبب صفاتهم الرذيلة وأفعالهم القبيحة، فقد جعل اللَّه هذه الميزة في هذه الأعمال، فهي كخاصية القتل بالنسبة للسم، فلا يُلام صانع السم وشاعل النار إذا تناول شخص ما سماً أو ألقى نفسه في النار فمات، فانّه في مورد كهذا ينبغي لوم الذي القى نفسه في النار والذي تجرع السم فقط.
وقد نقلت الآية السابعة ما كان يقوله اليهود للرسول صلى الله عليه و آله أو الأنبياء الآخرين، حيث كانوا
______________________________
(1). تفسير روح المعاني، ج 15، ص 82.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 238
يقولون: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُون ، نعم لعنهم اللَّه بكفرهم، وأبعدهم عن رحمته، وأنّ أشخاصاً كاليهود كيف يمكنهم أن يذوقوا حلاوة الحقيقة.
قد يكون التعبير ب «الغلاف» يختلف عن التعبير ب «الأكنة»، وذلك لأنّ الغلاف يستر المغلَّف ويغطيه من جميع الجهات، بينما يغطي الستار جهة واحدة من المستور، وبتعبير آخر: تارة تصيب الموانع مصدراً واحداً من مصادر المعرفة كالفطرة لوحدها أو العقل لوحده، وتارة اخرى تعطل جميع المصادر وتجعلها في غلاف يحول دون المعرفة.
نعم، كلما تلوّث الإنسان بالذنوب والفساد أكثر ابتعد قلبه وروحه من المعرفة وحُرِم منها اكثر.
ج ج
وتحدثت الآية الثامنة والتاسعة عن الطبع على القلوب الذي يحول دون المعرفة، وقد اعتبرت الآية الثامنة الطبع سبباً لعدم السمع «فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ ، واعتبرت الآية التاسعة الطبع سبباً لعدم الفقه والفهم «فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ ، والمراد في الموردين واحد، فكما قلنا: إنّ المراد من عدم السمع هو عدم الإدراك والوعي والفهم.
وهذه المرحلة أشدّ من المراحل السابقة، فالمرحلة الاولى هي جعل الأكنة
على القلوب، ثم الغلاف عليها، وفي النهاية يطبع عليها للحيلولة دون نفوذ أي شي ء فيها، كما ذكرنا ذلك في بحث شرح المفردات.
طبعاً: إنّ ابتلاءهم بهذا المصير ليس اعتباطياً، بل لأسباب أشارت إليها الآية السابقة حيث قالت: «وَ اذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنوُا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ . (التّوبه/ 86- 87)
إذن إعراضهم عن الجهاد وتخلفهم عنه هو السبب في الطبع على القلوب.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 239
وآية اخرى أشارت إلى سبب آخر من أسباب الطبع، حيث قالت: «أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَّو نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِم . (الاعراف/ 100)
أي أنّهم يذنبون رغم رؤيتهم وعلمهم بأحوال السابقين وابتلائهم بالعذاب الإلهي من جراء ذنوبهم، فطبع على قلوبهم.
وممّا يذكر هنا أنّ الطبع جاء في الآية الثامنة بصيغة المضارع «نطبع» وفي التاسعة بصيغة الماضي «طبع» وهذا تلميح إلى أنَّ الطبع نتيجة سوء أعمالهم وتصرفاتهم.
يقول بعض المفسرين: إنّ المراد من «الطبع» في مثل هذه الآيات هو نفس السبك والنقش الذي يستخدم للدراهم والمسكوكات، وهو نقش ثابت وباقٍ، لا يتغير بسهولة «1»، فانَّ نَقْشَ الكفر والنفاق والإثم نُقِشَ على قلوبهم فلا يمحى بسهولة.
ج ج
وتحدثت الآية العاشرة والحادية عشرة عن «الختم» وكما قلنا سابقاً في شرح المفردات: إنّ الختم يعني الانتهاء والفراغ من شي ء، وبما أنّ الرسائل تختم عند الفراغ منها استعملت هذه المفردة هناك أيضاً، وختم الشي ء قفله وشده بحيث لا يمكن لأحد فتحه، والمراد من الختم على القلوب والأسماع والابصار في الآيات، هو سلب قدرتها عن التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر وذلك بسبب أعمال أصحابها وتصرفاتهم، ولهذا يذكر القرآن
في الآية السابقة: «انَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . (البقرة/ 6)
المسلم به هو أنّ هذا الخطاب لا يعم الكافرين كلهم بل يخص المتعصبين والمعاندين منهم، أي أولئك الذين غرقوا بذنوبهم إلى درجة حيث أصبحت قلوبهم ظلماء، وإلّا فالنبي أُرسل مبشراً ومنذراً للكافرين والمنحرفين.
والجدير ذكره هنا هو أنّ الآيات تحدثت عن الختم على الأبصار والسمع كما تحدثت
______________________________
(1). تفسير المنار، ج 9، ص 33.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 240
عن الختم على القلوب، وهذا تلميح منها إلى أن السمع والبصر قد يتعطلان، أي قد يتعطل الإدراك الحسي كما يتعطل العقلي، وكما تعلم أنّ أغلب العلوم البشرية تحصل بواسطة هذين الإدراكين، وحتى حقانية الوحي ودعوة الأنبياء تكتشف بهما، ومع تعطلهما فإنّ طرق الهداية والنجاة ستغلق أمامهم، وهذا من سوء أعمالهم وهذا ما أرادوه لأنفسهم، ولا يستلزم جبراً كما يدعيه بعض الظانين.
وقد جاء هذا التعبير في مجال الطبع كذلك، حيث يقول تعالى في الآية: «اولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ . (النحل/ 108)
والآية التي سبقت الأخيرة أشارت إلى أن هذا الأمر ليس عاماً وشاملًا لجميع الكفار، بل يختص بمن شرِح صدره للكفر، حيث يقول تعالى «وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً».
(النحل/ 106)
ج ج
وقد تحدثت الآية الثانية عشرة عن أقفال القلوب التي قد تكون أشد من الختم «1»، حيث قالت: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» أي أن آيات القرآن تنفذ في القلوب ولو من نوافذ صغيرة، وذلك لأنّ منطق القرآن هو البيان البديع، والبلاغة في التعبير، والعمق والدقة في التحليل، وهو نور وضياء خاص ينفذ في قلب كل مؤهل ولو بأقلٍّ تأهيل، ويستحوذ على القلوب ويهز الضمائر، رغم هذا فانه لا ينفذ في
قلوب هؤلاء ولا يهز ضمائرهم أبداً، وذلك لانغلاق قلوبهم.
إنّ «أقفال» جمع «قفل» ومن مادة «قُفول» ويعني الرجوع، وبما أن كلَّ من أتى باباً مقفولة رجع، استعملت هذه المفردة في هذا المجال.
إنَّ التعبير ب «الأقفال» قد يكون إشارة إلى تعدد أقفال القلب بحيث إذا ما فتح قفل بقيت اقفال اخرى، وهذه في الحقيقة أسوأ مرحلة وأشدها من مراحل حرمان إدراك الحقائق.
______________________________
(1). وقد أشار الفخر الرازي في تفسيره الكبير إلى هذا الأمر.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 241
ويلاحظ هنا عدم اضافة «قلوب» إلى الأقفال بل جاءت بصيغة النكرة، وكأن هذا إشارة إلى أن هذه القلوب ليست لهم، والأعجب من هذا هو إضافة «الأقفال» إلى «القلوب» وكأنّ قلوبهم أهل للأقفال فقط لا لشي ء آخر.
ج ج
وفي الآية الثالثة عشرة تعبير يهز الضمائر حيث يقول تعالى «انَّهَا لَاتَعَمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعَمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ». (الحج/ 46)
أي أنّ الحاسة الباصرة إذا فقدت فهذا ليس بعمى لإمكان أن يسد العقل اليقظ فراغها، وإنّما الشقاء والبؤس والتعاسة في القلوب إذا عميت، فعمى القلوب أكبر حاجب عن إدراك الحقيقة، والإنسان بنفسه يُعمي قلبه، ولقد أثبتت التجربة أنّ الإنسان إذا ما جعل عصابة على عينيه أو مكث في ظلام لمدّة طويلة، فإنّه سيفقد باصرته تدريجياً، كذلك الأمر بالنسبة للذين يغمضون عيون قلوبهم عن الحقائق، أو يمكثون مدّة طويلة في ظلمات الجهل والغرور والإثم فإنّ قلوبهم ستعمى، وتكون غير قادرة على إدراك أي حقيقة.
يُشكِكُ البعض أنّه لا يمكن أن يراد من القلب (الذي في الصدر ويضخ الدم إلى جميع أعضاء البدن) بل المراد العقل والروح.
إلّا أنّه بملاحظة استعمال «الصدر» بمعنى الذات والفطرة يتضح لنا أنّ المراد من «القلُوبُ الِّتِى فِى الصُّدُورِ» هو الإدراك العقلي المودع في طبيعة الإنسان.
إضافة
إلى هذا، فإنّ القلب أول عضو في بدن الإنسان يتأثر بعواطف وأحاسيس وإدراكات الإنسان، نلاحظ أنّ اتخاذ قرار مهم، أو حصول حالة غضب شديدة، أو الاحساس بالحب القوي تجاه شخص ما يُزيد من دقات القلب، فإذا استعمل القلب الظاهري كناية عن العقل، فلأجل العلاقة الوثيقة التي بينه وبين الروح «1».
ج ج
وقد تحدثت الآية الرابعة عشرة والأخيرة عن آخر مرحلة لحرمان الإنسان من المعرفة،
______________________________
(1). للمزيد من العلم راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 7 من سورة البقرة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 242
والتي يتعطّل فيها العقل والفطرة والعين والاذن عن العمل بالكامل، فيهوي الإنسان إلى مستوى الأنعام بل أضلّ.
والآية تلميح إلى فريق من أهل النار وكأنهم خلقوا لأجلها لا لشي ء آخر: «لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّايُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ اضَلُّ اولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .
وعليه، فانهم فقدوا «هويتهم الإنسانية»، وأغلقوا أبواب الرجوع على أنفسهم، فهووا من قمم السعادة السماوية المعدة لهم إلى شقاء جهنم التي أُعدت لأولئك الذين غلقوا جميع أبواب المعرفة على أنفسهم، وهو مصير صنعتهُ نفوسهم وذنوبهم وعصيانهم.
إنّ في القرآن الكريم نماذجاً كثيرة تشبه الآيات الأربع عشرة التي ذكرناها في أول هذا الفصل، وانتخبنا هذه الأربع عشرة للمواصفات التي تتحلى بها، وقد انتهينا إلى حقيقة واضحة وهي أنّه قد تعرض آفات لمصادر المعرفة بالخصوص العقل والفطرة والحس، وبعض تلك الآفات خفيفة طفيفة، وبعضها شديدة، وبعضها بدرجة من الشدة حيث تترك الإنسان في ظلمات مطلقة تمنعه من استيعاب أوضح الحقائق الحسية.
وقد سعينا لمتابعة هذا الانحراف التدريجي لجميع مراحله مع الاستشهاد بآيات القرآن، ولا ندعي أنّ الترتيب الطبيعي لهذا الانحراف هو نفس الترتيب الذي جاء في الآيات عيناً، بل نقول: إنّ
الآيات المذكورة قد بيّنت نفوذ الآفات في جميع المراحل.
وما أجمل تعبير القرآن في هذا المجال، وما أدقه؟ فتارة يتحدث عن العوامل الخارجية مثل «تزيين الشيطان» و تارة يتحدث عن انحراف القلب والفكر، وأُخرى عن صدأ القلوب، وحيناً عن تحول هذا الانحراف إلى مرضٍ مزمن.
وحيناً عن الأكنة المجعولة على القلوب.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 243
وتارة عن تغلُّف القلوب بالكامل.
وتارة عن الطبع على القلوب والنقش عليها.
و اخرى عن وضع القلوب في أوعية وختم تلك الأوعية.
و احياناً عن تجاوز الأكنة القلوب لتشمل السمع والبصر.
و احياناً اخرى عن تقفل القلوب.
وتارة عن العمى الكامل.
وأخيراً عن سلب الإنسان هويته الإنسانية وإسقاطه نفسه إلى درجة الأنعام بل إلى درجة أدنى من ذلك.
أما دواعي هذه المآسي والمصائب؟ فهو ما نتناوله في بحثنا اللاحق، لأنّ الهدف من بحثنا الماضي كان التعريف بالآفات والحجب وتوضيح أمرها بصورة إجمالية.
ثم نصل إلى مرحلة علاج هذه الأمراض وكيفية رفع الأكنة ومسح الصدأ والرين والوقاية من الوصول إلى مرحلة لا مخرج ولا نجاة منها.
وننهي بحثنا هذا بحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ لك قلباً ومسامع وإنّ اللَّه إذا أراد أن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإذ أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبداً وهو قول اللَّه عزَّوجلَ «عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»» «1».
ج ج
______________________________
(1). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 41.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 245
حُجُب المعرفة وآفاتها
«بالتفصيل»
1- الصفات التي تحول دون المعرفة
2- الأعمال التي تحجب عن المعرفة
3- الحُجُب الخارجية
نفحات القرآن، ج 1، ص: 247
كان الحديث في البحث السابق عن انسداد أبواب المعرفة وطرقها بالاجمال.
وحديثنا الآن عن «العلل والعوامل» المسببة لهذه الظاهرة المؤلمة التي يمكنها أن تؤدّي بالإنسان إلى السقوط إلى درجة الأنعام والبهائم.
حديثنا عن الامور التي تسبب ظهور الصدأ
على قلب الإنسان، وجعل الوقر في الاذان، والعمى في القلب، واختلال توازن العقل، واخيراً تسبب عدم رؤية الحق أو رؤيته معكوساً!
تابع القرآن هذه المسألة المهمّة في آيات عديدة وبيّن العلل الأساسية لهذه الظاهرة، ويمكن تلخيص العلل في ثلاثة أقسام:
1- الصفات التي تحول دون المعرفة أى الصفات والأخلاقيات التي يمكنها أن تكون حاجباً عن الرؤية الروحية.
2- الاعمال التي تحجب عن المعرفة أى السلوك والأعمال التي تسوّد مرآة العقل.
3- الحجب الخارجية أى العوامل الخارجية التي تؤثر على فكر الإنسان وعقله وعواطفه وفطرته.
وسنبحث هذه العناوين الثلاثة كلًا على حده (وأؤكد هنا على أننا نطرح العلل التي وردت في القرآن الكريم بوضوح فقط).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 249
إنّ هذه الصفات التي ذكرت في القرآن بصراحة تارة وبالكناية تارة اخرى عبارة عن:
قبل كل شي ء نُمعن خاشعين للآيات التالية:
1- «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُون . (الجاثيه/ 23)
2- «... كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرْيقاً يَقْتُلُون* وَحَسِبُوا أَلَّا تكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيْرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصيْرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ . (المائدة/ 70- 71)
3- «وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ الَيْكَ حَتَّى اذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ مَاذا قَالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ . (محمد/ 16)
«الهوى بمعنى رغبة النفس وميلها إلى الشهوات ويقال إنّها مشتقة من «الهوي» الذي يعني السقوط من الارتفاع، وذلك لأنّ الهوى يسبب سقوط الإنسان في المصائب في الدنيا، وابتلاءه بالعذاب في الآخرة، ومن هنا قيل لجهنم «هاوية» لأنّ قعرها منحفض للغاية.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 250
وقد ذكر البعض معنيين لهذه المفردة: (الصعود والارتفاع) و (السقوط)، وذكر بعض آخر معنى واحداً لها وهو (الارتفاع والسقوط إلى الأسفل) وهذا في الحقيقة تركيب من المعنيين السابقين.
وقال البعض: إنّ الهُوىّ يعني «السقوط» والهَويّ يعني «الصعود» «1».
ج ج
تحدثت الآية الاولى عن اتخاذ الهوى إلهاً واتباعه، والتضحية لأجله بكل ما يملك، وكل من كان كذلك فسوف يختم على قلبه وعلى سمعه ويجعل على بصره غشاوة، فلا يهتدي بعد ذلك، فلنقرأ الآية: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ ...».
ج ج
والآية الثانية تحدثت عن فريق من اليهود المعاندين حيث كلما جاءتهم رُسُل اللَّه وأتوا بما يخالف أهواءهم، قاموا بتكذيب بعضهم وقتل البعض الآخر، إنّ عنادهم هذا جعل حجاباً بينهم وبين الحقائق، فيرون أنفسهم آمنين من عذاب اللَّه، حيث تاب اللَّه عليهم، وشملتهم رحمته الواسعة في المرة الاولى لكن في المرة الثانية شملتهم نقمته، وذلك لنقضهم عهدهم وطغيانهم، فعموا وصمّوا.
وهذه من المردودات السلبية لاتباع الهوى حيث يهرقون دماء الأنبياء ولا يدركون قبح عملهم.
إنّ التعبير ب «يقتلون» بصيغة المضارع يدل على أن ديدن هذا الفريق من اليهود هو قتل الأنبياء لما يأتون به من الشرائع المخالفة لأهوائهم.
______________________________
(1). راجع مفردات الراغب، ومجمع البحرين، وكتاب العين، واقرب الموارد، والمنجد.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 251
والآية الثالثة تشير إلى فريق من المنافقين الذين يستمعون للنبي صلى الله عليه و آله، وبمجرّد ابتعادهم عنه استهزئوا به أمام المؤمنين.
يقول القرآن عن هذا
الفريق من المنافقين: «أُولئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُم .
إنّ هذه الآيات الثلاث تبيّن بوضوح العلاقة بين اتباع الهوى وفقدان قدرة التمييز.
لِمَ لا يكون اتباع الهوى مانعاً عن إدراك الحقيقة وقد استحوذ حبه على جميع جوانب الإنسان، فلا يرى شيئاً غيره ولا يفكر إلّابه؟ وقد سمعنا قول الرسول كثيراً حيث يقول فيه:
«حُبُّكَ لُلشَّي ء يُعْمِي وَيُصِمُّ» «1».
كما سمعت في هذا المجال حديثاً آخر نقل عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وعن أميرالمؤمنين:
«أمّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق» «2».
إنّ هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّها أصبحت مثلًا في كلام العرب: «صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلّاحاجته» «3».
إنّ الإنسان الذي خسر قلبه وروحه في حب الجاه والمال والشهوة، وعبّأ كل رأس مال وجوده في هذا المجال، لا يرى شيئاً في الدنيا غير هذا الحب، وقد جعل هذا الحب ستاراً سميكاً حجب عقله وفكره.
وما أجمل ما قاله علي عليه السلام في إحدى خطبه: «مَنْ عشقَ شيئاً أعشى بصره» «4».
وقد نقلت الرواية التالية في شأن نزول الآية 23 من سورة الجاثية التي أشرنا إليها سابقاً:
إنّ أبا جهل طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة (فقد كانت الكعبة محترمة في
______________________________
(1). روضة المتقين، ج 13، ص 21.
(2). بحار الأنوار، ج 7، ص 75؛ ونهج البلاغة الخطبة 42.
(3). تفسير المراغي، ج 5، ص 157.
(4). نهج البلاغة، الخطبة 109.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 252
الجاهلية أيضاً ومحلّا للطواف) فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه و آله، فقال أبوجهل: واللَّه إنّي لأعلم أنّه صادق. فقال له: مَهْ، ومالك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنّا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تمّ عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن؟ واللَّه إنّي
لأعلم أنّه صادق. قال:
فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحَدث عني بنات قريش أنّي اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا، فنزلت «وختم على سمعه وقلبه» «1».
وما أجمل ما قاله علي عليه السلام عن الهوى «آفة العقل الهوى ، كما قال في محلٍ آخر:
«الهوى آفة الألباب» «2».
يقول القرآن في هذا المجال:
«ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِيْنَ* أُولئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .
(النحل/ 107- 108)
إنّ الآية تشير إلى قوم أسلموا رغبة في الإسلام، ثم ارتدوا عنه، فلمحت الآية إلى أن ارتدادهم لم يكن لرؤيتهم ما يخالف الحق في الإسلام، بل لأنّهم فضلوا الحياة الدنيا على الآخرة، ورجحوها عليها، فانسلخوا عن الإسلام واتجهوا نحو وادي الكفر تارة اخرى، فلم يهدهم اللَّه بعد كفرهم لانهم لم يكونوا أهلًا لذلك، وذلك لحبهم الحياة الدنيا، فطبع اللَّه على
______________________________
(1). تفسير المراغي، ج 25، ص 157.
(2). غرر الحكم.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 253
قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأغلق عليهم أبواب المعرفة فأصبحوا من الغافلين.
إنّ حبّ الدنيا سواء كان في مجال حب المال والثروة أو في حقل حب الجاه والمقام، أو في مجال حبّ الشهوات المختلفة، فإنّ هذا الحبّ كالريح العاصف يهب في باطن الإنسان فيفقده توازن عقله بالكامل.
نعلم أنّ الميزان الدقيق يُجعل في محفظة تحول دون تأثير النسيم عليه، وحتى الوزّان ينبغي له حبس أنفاسه حتى الانتهاء من الوزن، وذلك للحيلولة دون تأثير امواج الهواء الخارجة من رئتيه على تعادل الميزان، فما فائدة ميزان كهذا عند هبوب ريح عاصف؟
إنّ حبّ الدنيا سواء كان بشكلها القاروني أو الفرعوني أو السامري أو غير ذلك، لا يعطي الإنسان الحرية في أن يحكم على الامور بشكل صحيح أو يفكر تفكيراً سليماً، وإذا صرح اللَّه تعالى في الآية السابقة بأنّه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فالطبع هذا يمثل حب الدنيا، وبما أنّهم يتجهون نحو السبب فيبتلون بالمسبَّب.
ويشاهد في الأحاديث الإسلامية تعابير جميلة في هذا المجال، يقول الإمام الباقر عليه السلام:
«مثلُ الحريص على
الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت من القز على نفسها كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً» «1».
كما نُقل حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه: «الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ» «2».
ويقول الإمام نفسه في رسالة كتبها لأحد أصحابه ينصحه فيها ويقول: «فارفض الدنيا فإنّ حب الدنيا يُمر، ويُصم ويبكم ويُذلُّ الرِّقاب فتدارك ما بقي من عمرك ولا تقل غداً أوْ بعد غدٍ فانّما هلك من كان قبلك باقامتهم على الأماني والتسويف» «3».
ج ج
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 23، ح 13.
(2). نهج البلاغة.
(3). بحار الأنوار، ج 70، ص 75؛ اصول الكافي، ج 2، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح 23.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 254
1- «الَّذِيْنَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقَتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِيْنَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ». (غافر/ 35)
2- «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِيْنَ لَايُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيْدٍ». (فصلت/ 44)
الجبارون والمغرورون لا يدركون الحق!
تحدثت الآية الاولى عن كلام «مؤمن آل فرعون» صاحب الضمير الحي الذي كان في بلاط فرعون يؤيد موسى بن عمران ويؤمن به سراً، فقالت: «الَّذِيْنَ يُجَادِلُونَ فِى آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقَتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِيْنَ آمَنوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ».
نعم، إنّ عناد الحق والاصرار في ذلك العناد يجعل حجاباً قاتماً على فكر الإنسان ويسلبه قابلية التمييز و حسن المعرفة، فيبلغ به الأمر إلى أن يصبح قلبه كالوعاء المغلق لا يخرج محتواه الفاسد ولا ينفذ فيه المحتوى السليم والمفيد.
يقول البعض في الفرق بين «الجبّار» و «المتكبر» أنّ «التكبر» يقابل «الخضوع للحق» و «الجبروت» يقابل «الشفقه والمحبة للخلق»، فالظَّلَمَة المغرورون لا يخضعون للحق ولا يرحمون ولا يشفقون على الخلق.
ج ج
والآية الثانية نقلت أقوال فريق من المتكبرين المعاندين حول القرآن حيث كانوا
نفحات القرآن، ج 1، ص: 255
يقولون: لِمَ لَمْ ينزّل القرآن أعجمياً كي نهتم به أكثر وكي يفهمه غير العرب؟ (قد يكون مرادهم هو الحؤول دون فهم الناس له).
فأجابهم القرآن: لو نزّل القرآن أعجمياً لأشكلتم إشكالا آخر وهو «لولا فصلت آياته» أي أنّ محتواه معقد ومبهم ولا نعي شيئاً منه، ثم قلتم، عجيب أن يكون القرآن أعجمياً ونازلًا على عربي؟!
ثم أمر اللَّه رسوله بأن يقول لأولئك المغرورين:
«هُوَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِيْنَ
لَا يُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيْدٍ».
وواضح أنّ الذي ينادى من مكان بعيد لا يسمع ولا يرى
إذا أنكرت أعينهم نور شمس القرآن الساطعة فذلك لرمدها، وإذا أنكرت آذانهم نداء الحق المدوّي فذلك للوقر الذي فيها.
1- جاء في حديث للإمام الباقر عليه السلام: «ما دخل قلب امرى ءٍ شي ء من الكبر إلّانقص من عقله ما دخله من ذلك قلَّ ذلك أو كثر» «1».
2- وقد خاطب أمير المؤمنين عليه السلام فريقاً من المنحرفين في كلماته القصار قائلًا: «بينكم وبين الموعظة حجاب من العزّة» «2».
عندما يتمحور حبّ الذات في نفس الإنسان، يسعى الإنسان لأنّ يجمع كل شي ءٍ في نفسه، وعندما يصل إلى مستوى «العجب» يرى نفسه أعلى وأرفع من أي إنسان آخر، وعندما يصل إلى مستوى «الأنانية» يرى نفسه المقياس الوحيد للقيم والجمال.
وهذه الحالات تجعل ستاراً عجيباً على عقله تحجب الحقيقة عنه، فيرى جميع القيم
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 75، ص 186 باب وصايا الإمام الباقر عليه السلام، ح 26.
(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 282.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 256
منحسرة في نفسه، وينسى غيره.
ولهذا، فإنّ أول خطوة في مجال تهذيب النفس هو الترفع عن «الكبر والغرور»، ولا يتأهل الإنسان للقرب من اللَّه من دون ذلك.
3- وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين عليه السلام: «شرّ آفات العقل الكبر» «1»، كما جاء في كلام آخر له: «العجب آفة» «2».
ج ج
1- «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِيْنَ لَايَعْلَمُونَ . (الروم/ 59)
2- «لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أُنْذِرَ آبَاءُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ» «وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ* وَسوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . (يس/ 6 و 9 و 10)
أكدت الآية الأولى على أنّ اللَّه ضرب للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل، فتارة بآيات الآفاق والأنفس وتارة بالوعد والوعيد، وتارة بالأمر والنهي، وتارة بالبشرى والانذار، وتارة بالسبل العاطفية والفطرية، وتارة بالاستدلال، ورغم هذا البيان فإنّ فريقاً من الجاهلين والغافلين يجحدون بآيات اللَّه ويقولون: أنتم مبطلون أي على باطل، ويضيف اللَّه في الآية: هذا كله لأجل أنّ اللَّه طبع على قلوبهم وذلك بجهلهم.
إنّ الآية- في الحقيقة- تشير إلى أسوأ أنواع الجهل وهو «الجهل المركب» الجهل الذي
______________________________
(1). غرر الحكم.
(2). المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 257
يحسبه صاحبه علماً، ولا يصغي لمن أراد ايقاظه من غفلة الجهل هذه، ولهذا فإنّ شخصاً كهذا يظلُّ جاهلًا جهلًا مركباً إلى أبد الدهر.
إذا كان الخطاب موجهاً لجاهلٍ «جهلًا بسيطاً» أي لا يعلم ويعلم أنّه لا يعلم، ومستعد في نفس الوقت لقبول نداء الحق والهداية، فإنّ الأمر اتجاهه بسيط، والحجاب المانع يطبع على القلب عندما يكون الجهل مركباً وممتزجاً بروح العناد وعدم التسليم لنداء الحق.
وقد نقل في بعض التفاسير شعر جميل لشاعر عربي يقول فيه:
قال حمار الحكيم يوماًلو تنصفوني لكنتُ أركب
لأنّني جاهل بسيطوصاحبي جاهل مركب «1»
ج ج
وتشير الآية الثانية إلى فريق من الغافلين الذين صدر حكم العذاب بحقهم وذلك لجهلهم وعنادهم وأنّهم ليسوا أهلًا للهداية.
ثم صوّر القرآن الحُجُب التي قد تحيط العقل تصويراً عجيباً حيث قال: «إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِم أَغْلَالًا فَهِىَ الى الْاذْقَانِ فَهُمْ مُّقْمَحُونَ*
وَجَعَلْنَا مِنْ بَينِ أَيدِيهِم سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُم فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ . (يس/ 8- 9)
إنَ عبارة «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً» إشارة إلى الحجب التي تحول دون رؤية آيات الأفاق والكون.
إنّ الأغلال التي جاءت في الآية قد تكون إشارة إلى الحجب التي تحول دون رؤية آيات الأنفس، والأسوأ من هذا كله هو جعل الغشاوة على الأبصار بحيث لا إمكان للرؤية، وهي ستار الغفلة والجهل والغرور.
وبديهي أنّ أشخاصاً كهؤلاء مع كل هذه الحجب، سواء أنذرهم الرسول أم لم ينذرهم وسواء سمعوا آيات القرآن من شفاه محمد صلى الله عليه و آله الطاهرة أم لم يسمعوا، فهُم لا يؤمنون ولا
______________________________
(1). تفسير روح المعاني، ج 21، ص 55 ذيل الآية 59 من سورة الروم. نفحات القرآن، ج 1، ص: 258
يهتدون، إنّهم رهائن لا لغلٍ واحدٍ، بل لأغلالٍ عديدة (فالأغلال جاءت بصيغة الجمع لا المفرد)، وقد فسر البعض السد (الذي يجعل امام الشخص) بالحجب التي تحرم الإنسان من الهداية النظرية والاستدلال، والسد (الذي يجعل من الخلف) بالحجب التي تمنع من الهداية الفطرية والرجوع إليها «1».
1- قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن الجهل: «الجاهل ميت بين الأحياء» «2».
2- كما قال في محل آخر: «الحمق من ثمار الجهل» «3».
واضح، كما أنّ الميت فاقد الإدراك والاحساس كذا الجاهل العنود، لا نتوقع منه الفهم الحقيقي للُامور.
3- من خصائص الجاهلين بالجهل المركب أنّهم يعدون العلماء الحقيقيين ضالين، ولهذا جاء في حديث الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: «تعجب الجاهل من العاقل أكثر من تعجب العاقل من الجاهل» «4».
4- ننهي البحث بحديث للإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول فيه: «إنّ قلوب الجُهّال تستفزها الأطماع وترتهنها الُمنى وتستعلقها الخدايع» «5».
و لا
عجب أن تحجب الحقائق عن قلب كهذا،
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 26، ص 45 ذيل الآيات المذكورة في بحثنا.
(2). غرر الحكم، ص 99.
(3). المصدر السابق، ص 41.
(4). سفينة البحار، ج 1، ص 199.
(5). أصول الكافي، ج 1، ص 23، كتاب العقل والجهل، ح 18.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 259
1- «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ الَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليِمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ .
(البقرة/ 9- 10)
2- «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُماتٍ لَّايُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَايَرْجِعُونَ .
(البقرة/ 17- 18)
3- «اذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِيْنَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلآءِ دِيْنُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَانَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيمٌ . (الأنفال/ 49)
4- «وَاذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِيْنَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الَّا غُرُورًا». (الأحزاب/ 12)
إنّ في أوائل سورة البقرة ثلاث عشرة آية تحدثت عن النفاق والمنافقين، وقد صورتهما بدقة متناهية وبتعابير وافية، والآية الاولى هي من ضمن الآيات التي جاءت هناك.
يقول القرآن في هذه الآية: إنّ أحد أخطاء المنافقين أنّهم يخادعون اللَّه وكذا المؤمنين، وفي الحقيقة لا يخادعون إلّاأنفسهم وهم لا يشعرون ولا يعلمون، وذلك لأنّ النفاق قد غطّى قلوبهم بستاره السميك، ثم يضيف القرآن: «فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً».
من الواضح، أنّ المراد من المرض في الآية هو «مرض النفاق» الذي يتغلب على قلوبهم، فالإنسان المريض لا يستطيع أن يفكر تفكيراً سليماً (لأنّ العقل السليم في الجسم السليم)، وكذلك حواسه الظاهرية، ولهذا نرى بعض المرضى تبدو ألذ الأغذية عندهم كريهة الطعم، وبعض الأغذية كريهة الطعم لذيذة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 260
وقد شبهت الآية الثانية المنافقين بالذي ضلَّ متورطاً في ظلمات الليل، ثم استوقد ناراً ليرى مما حوله، فجاء ريح عاصف وأطفأ ما استوقده فبقي في الظلمات تارة اخرى، فلا يبصر ولا يسمع ولا ينطق شيئاً، ولا طريق له للرجوع.
قد يكون المراد من النور الذي جاء في الآية هو نور الإيمان الظاهري الذي يراه
المنافق ويستضي ء به ما حوله ويحفظ نفسه وماله تحت ضيائه.
أو أنّ المراد منه هو نور الفطرة الذي جُبل عليه الإنسان، والمنافقون يستثمرون هذا النور في البداية، ولا يمضي زمن طويل حتى تأتي زوبعة النفاق فتطفئه.
و تحدثت الآية الثالثة والرابعة عن المنافقين مرضى القلوب، وبقرينة الآيات السابقة ندرك أنّ المراد من «الذين في قلوبهم مرض» هو نفس المنافقين وأنّ العطف عطف تفسيري «1»، إلّاأنّ الآية الثالثة تحدثت عن موقفهم في معركة بدر، والرابعة عن موقفهم في معركة الأحزاب، والفرق هو أنّهم كانوا في «بدر» في صفوف المشركين لأنّ المشركين يوم ذاك كانوا القوة الراجحة، وفي معركة الأحزاب كانوا مع المسلمين.
كانوا يقولون: «اغترَّ هؤلاء المسلمون بدينهم، وقد خطوا هذه الخطوة الخطيرة (الجهاد) رغم قلة العدّة والعدد ظناً منهم بالنصر، أو بالشهادة التي مصيرها الموت»!
بالطبع، إنّهم غير قادرين- بسبب المرض الذي في قلوبهم- على الإدراك الصحيح لعوامل النصر الحقيقية أي الإيمان والثبات والفتوة التي هي وليدة الإيمان فما كانوا يدركون أن من يتوكّل على اللَّه القادر فهو حسبه وهو ناصره، والشاهد على هذا الحديث هو ما حصل
______________________________
(1). لقد جاء في تفسير الميزان، ص 164 و 302؛ وكذلك تفسير الكبير، ج 15، ص 176، أنّ المراد من الذين في قلوبهم مرض هم ضعيفو الإيمان وهم غير المنافقين. لكن لا يتناسب ضعف الإيمان مع المرض في القلب، إضافة إلى أن الآيات الثلاثة عشرة التي جاءت في أوائل سورة البقرة استعملت هذا التعبير في حقهم. كما يبدو بُعد الرأي الذي يفسر المرض بالترديد والشك، لأنّ المرض نوع من الانحراف، بينما الشك نوع من الفقدان.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 261
في صدر الإسلام، حيث إنّ بعض المسلمين رفض الهجرة إلى المدينة، والعجيب في الأمر
أنّ قريشاً عندما تحركوا نحو بدر لقتال المسلمين، اصطف هؤلاء المسلمون (المنافقون) في صفوفهم، وكانوا يحدثون أنفسهم أنّهم سيلتحقون بجيش محمد إذا كان جيشه ذا عدد كبير، وسيبقون مع جيش قريش إذا ما كان عدد المسلمين قليلًا «1».
وهل للنفاق مفهوم غير هذا الذي تجسد في هذه المجموعة؟ وإذا لم يكونوا منافقين، فمن هم المنافقون؟
وقد حصل هذا الأمر بالذات في معركة الأحزاب فإنّ شخصيات كثيرة من المنافقين كانت قد حشرت نفسها مع المسلمين، وعندما شاهدوا كثرة الأحزاب قالوا بصراحة: ما وعدنا الرسول إلّاكذباً وباطلًا.
وهذا هو حجاب النفاق الذي لا يسمح لهم من إدراك الحقائق، رغم أنهم شاهدوا بأم أعينهم أن النصر ليس بكثرة العدد، بل بالإيمان والثبات الناشي ء عنه.
سؤال:
يطرح سؤال هنا وهو: كيف يكون النفاق حجاباً يحجب عن الحقائق؟
الجواب:
يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بالالتفات إلى ملاحظة في هذا المجال وهي: إنّ روح النفاق تستلزم أن يتحرك الإنسان مع كل التيارات وأن يكون مع جميع الفرق، وأن يتخذ صبغة المحيط الذي يعيش فيه، فيفقد في النهاية أصالته واستقلاله الفكري، إنّ طريقة تفكير إنسان كهذا تكون متطابقة دائماً مع طريقة تفكير الفريق الذي يكون معهم، فلا عجب أن يكون حكمه غير صحيح.
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 15، ص 176 ذيل الآية 49 من سورة الأنفال.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 262
وقد جاء في بعض التفاسير: إنّ التعبير ب «في قلوبهم مرض» يصدق في موارد كهذه الموارد، من حيث إنّ غاية القلب (العقل) الخالص هو معرفة اللَّه وعبوديته، وكل صفة منعت وحجبت عن غاية القلب هذه، قيل لها مرض (لأنّها تحجب الهدف وتمنعه من الظهور) «1».
ولهذا جاء في الآية 7 سورة المنافقين: «وَلكِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ لَايَفْقَهُونَ .
كما قد جاء في حديث الإمام الباقر
عليه السلام: «إنّ القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان وقلب منكوس وقلب مطبوع وقلب أزهر أجرد» فقلت ما الأزهر؟ قال: «فيه كهيئة السراج، فأمّا المطبوع فقلب المنافق، وأمّا الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صَبَر، وأمّا المنكوس فقلب المشرك» «2».
وننهي حديثنا هذا بكلام للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «النفاق على أربع دعائم على الهوى والهوينا والحفيظة والطمع» «3».
ونعلم أنّ كلًا من هذه الامور الأربعة تشكل حجاباً سميكاً أمام نظر العقل.
1- «وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ الَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَانْ يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لَّايُؤْمِنُوا بِهَا حَتّى اذَا جاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا انْ هَذَا الَّا أَسَاطِيْرُ الْأَوَّلِيْنَ . (الأنعام/ 25)
2- «وَاذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً* وَجَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَاذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا». (الاسراء/ 45- 46)
3- «فَانَّكَ لَاتُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ اذَا وَلَّوْا مُدْبِرِيْنَ* وَمَا
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 2، ص 64 ذيل الآية 10 من سورة البقرة.
(2). اصول الكافي، ج 2، ص 442 باب في ظلمة قلب المنافق، ح 1.
(3). اصول الكافي، ج 2، ص 393 باب صفة المنافق والنفاق،.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 263
أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْىِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ان تُسْمِعُ الَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ».
(الروم/ 52- 53)
4- «وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا القُرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَروا انْ أَنْتُمْ الَّا مُبْطِلُونَ* كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ .
(الروم/ 58- 59)
5- «وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا الَيْهِ وَفِى آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بِيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ انَّنَا عَامِلونَ . (فصلت/ 5)
حضر عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ابو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأبو جهل وأفراد آخرون واستمعوا إلى حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟
(وكان النضر تاجراً يسافر إلى ايران وله اطّلاع واسع بالأساطير والقصص التاريخية الايرانية) فقال: لا أدري ما يقول لكنّي أراه يحرك شفتيه ويتكلّم بأساطير الأولين كالذي كنت احدثكم به عن أخبار القرون الاولى وقال أبوسفيان: إنّي لا ارى بعض ما
يقول حقاً.
فقال أبوجهل: كلا، فانزل اللَّه تعالى «وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ اكِنَّهً انْ يَفْقَهُوهُ» «1».
وقال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أنّهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه فصار عدو لهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان «2».
ولهذا نزلت هذه الآية وقالت بصراحة: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ الَيْكَ ...».
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 12، ص 186.
(2). المصدر السابق، ص 187.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 264
وقد قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية:
«وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً»: إنّ عناد هؤلاء الكفرة واصرارهم في معاداة الحق، يجعل ستاراً على قلوبهم يحول دون إيمانها «1».
وقد تحدثت الآية الثانية عن الحجاب الذي كان يُجعل بين الرسول صلى الله عليه و آله وبين فريق من المنافقين عندما كان يتلو القرآن الكريم.
وقد فسر البعض هذا الحجاب بستار حقيقي كان يجعله اللَّه بين الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وبينهم بحيث لا يرونه، إلّاأنّه مع الالتفات إلى الآيات التي لحقت هذه الآية من نفس السورة، يتضح لنا أنّ الحجاب لم يكن سوى «حجاب التعصب والعناد والغرور والجهل» الذي كتم حقائق القرآن عن عقولهم وإدراكهم.
والشاهد على ذلك هو قوله تعالى «وَاذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا» فالمستفاد من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يصغون في البداية إلى حديث الرسول صلى الله عليه و آله ثم يولون مدبرين لعدم سماح العناد لهم لإدراك القرآن، وإدراك حديث التوحيد.
ونشاهد في نفس السورة تعابير اخرى تحكي روح العناد المتجسمة فيهم، ومع هذا، فهل يمكنهم إدراك حقيقة ما؟
وخاطبت الآية الثالثة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قائلة له: إنّك لا تُسمع الموتى ولا الصم عندما يولون مدبرين، كما أنّك لا
تستطيع هداية العمى وانقاذهم من الهلاك، فما يسمع كلامك إلّاالذين آمنوا بآيات اللَّه وسلموا للحق (أي الذين تتلهف قلوبهم للحق، فإنّ قلوباً
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 12، ص 187.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 265
كهذه كالأرض المعدَّه للزرع، تسطع عليها الشمس، وتقطر السماء عليها قطرات الحياة، فتنمو فيها البذور بسرعة، وأمّا القلوب التي عطّلتها حُجب التعصب والجهل فانّها محرومة من هذه الحقائق) «1».
والآية الرابعة تحدثت عن أولئك الكفار الذين وقفوا أمام الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عناداً، وخالفوا كل ما جاء به، فكانوا يرمون الرسول والقرآن بالباطل تارة، وتارة اخرى يقولون:
إنّ ما جاء به الرسول سحر وأساطير الأولين ولا مجال للحق فيه: فتحدث في هذه عن هؤلاء وقال: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِيْنَ لَايَعْلَمُونَ . لأنّهم لا يعلمون شيئاً عن هذا الكتاب السماوي الذي هو مصدر للحقائق.
كما أنّ الآية توضح العلاقة بين «الجهل» و «العناد».
وعكست الآية الخامسة النموذج الكامل من العناد، فما قيل إلى الآن كان خطاباً بين اللَّه ورسوله، أمّا هنا فهم يعترفون بأنفسهم بأنّ على قلوبهم أكنة، وفي آذانهم وقراً، وبينهم وبين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حجاب لا يسمح لهم إدراك ما يقول والتسليم له، فاعمل على شاكلتك ونحن عاملون على شاكلتنا.
إنّ هذه التعابير تبين بوضوح ما هو العامل الأساسي لهذه الحجب وما هو السبب الرئيسي للوقر الذي يجعل في الاذن؟ إنّها عبارات يقطر منها التعصب والعناد وتبين سبب شقائهم وتعاستهم.
كما أنّ «التعصب» مشتق من مادة «عصب» وهو في البدن خلايا تسبب اتصال العضلات إحداها بالاخرى أو بالعظام، والعصب بمثابة الوسيلة لنقل الايعاز إلى المخ، وبما
______________________________
(1). وقد جاء في سورة النمل الآية 11 مضمون يشبه مضمون هذه الآية.
نفحات القرآن، ج 1،
ص: 266
أنّ له بنياناً قوياً ومحكماً استعملت هذه المفردة بمعنى الشدة والاستحكام، ويوم عصيب يعني يوم شديد وصعب، ولهذا يطلق «التعصب» على حالة الإرتباط الشديد بشي ء، كما أن «العُصْبة» على وزن أسوة تعني جماعة من الرجال (المقتدرين) الذين لا يقلون عن عشرة، وأمّا «عَصَبة» فتعني أقارب الرجل من جهة الأب «1».
إنّ «اللجاجة» وهي من مادة «لجّ» هي التمادي في العناد، وملازمة أمر ما وعدم الانصراف عنه، و «اللجّة» تعني حركة أمواج البحر، أو التباس ظلمات الليل، و «البحر اللّجي» هو البحر الواسع والمتلاطم، والتلجلج في الكلام هو التردد فيه، أو اختلاط الأصوات «2».
إنّ التعصب واللجاجة والعناد يتلازم أحدها الآخر، لأنّ الارتباط الشديد بشي ء يدعو الإنسان إلى الالحاح والعناد والدفاع عنه بدون قيد أو شرط.
بالطبع قد يستعمل التعصب بمعنى الانحياز والإرتباط بالحق، إلّاأنّ الاستعمال الغالب له هو الإرتباط بالباطل.
إنّ منشأ التعصب واللجاجة والعناد- بجميع أشكالها- هو الجهل والقصور الفكري، لأنّ صاحب التعصب واللجاجة يظن أنّه إذا تخلى عن عقيدته ورأيه فهذا يعني تخليه عن كلِّ شي ءٍ، أو أنّ هذا إهانة لشخصيته.
وقد يكون منشأه هو التكبر والغرور اللذين يمنعانه من الخضوع أمام الحق والتسليم له، وقد يكون منشأه عوامل أخرى
إنّ التعصب واللجاجة يجعلان ستاراً قاتماً على العقل لا يسمح للإنسان أن يرى
______________________________
(1). كتاب العين، والمفردات، ومجمع البيان، ولسان العرب.
(2). المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 267
الحقائق، حيث نرى البعض غير مستعدين للتخلي عن عقائدهم بأي شكل كان رغم وجود الأدلة القطعية على بطلانها، وإنّ أشخاصاً كهؤلاء لو أقمنا لهم ألف دليل ودليل على أنّ للدجاج رجلين، قالوا: كلا، بل رجل واحدة! ولو أخذناهم بأيدينا تحت نور الشمس الساطعة وقلنا لهم: إنّه نهار، قالوا: لا بل
ليل!
لقد عكست الآيات التي ذكرناها في بداية البحث هذه الحقيقة بوضوح، واعتبرت هؤلاء صُمّاً وعمياً وأمواتاً، وطبع على قلوبهم، أو أنّ قلوبهم مغلقة فلا يفقهون شيئاً.
وقد جاء في الروايات الإسلامية مضامين تستند إلى نفس المضمون الذي جاء في الآيات المذكورة، وفيها توبيخ لأهل اللجاجة والعناد.
منها قول أمير المؤمنين عليه السلام: «اللجوج لا رأيَ له» «1».
ومنها قوله عليه السلام كذلك: «اللَّاجُ يُفسد الرأي» «2».
وكذا قوله عليه السلام: «ليس للجوجٍ تدبير» «3».
وقال الإمام عليه السلام نفسه في الخطبة القاصعة: «فاللَّه اللَّه في كِبْر الحَمية وفخر الجاهلية فإنّه ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان، التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية حتى أعنقوا في حنادس جهالته ومهاوي ضلالته» «4».
ننهي حديثنا بكلام آخر لنفس الإمام العظيم، في جواب له على رسائل أهالي مدن مختلفة حول حوادث صغيرة: «مَنْ لَجّ وتمادى فهو الراكسُ الذي رانَ اللَّهُ عَلى قلبه وصارت دائرة السوء على رأسه» «5».
بالطبع- وكما قلنا سابقاً- إنّ الاصرار والالحاح في الحق ليس تعصباً، وإذا أطلقنا عليه تعصباً فهو «تعصب ممدوح»، ولهذا جاء في حديث للإمام علي بن الحسين عليه السلام عندما سُئِل
______________________________
(1). غرر الحكم.
(2). المصدر السابق.
(3). المصدر السابق.
(4). نهج البلاغة الخطبة 192.
(5). المصدر السابق الرسالة 85.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 268
عن مفهوم التعصب: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجلُ شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يُحب الرجلُ قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم» «1».
نُمعن خاشعين أولًا في الآيات التالية:
1- «قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِيْنَ* انْ هَذَا الَّا خُلُقُ الْأَوَّلِيْنَ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِيْنَ . (الشعراء/ 136- 138)
2- «وَاذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا الى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَالَى الرَّسُولِ
قَالُوا حَسْبُنَا مَاوَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ .
(المائدة/ 104)
3- «وَاذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ انَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ . (الأعراف/ 28)
4- «وَاذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ الى عَذَابِ السَّعِيْرِ». (لقمان/ 21)
5- «وَكَذَلِكَ مَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّنْ نَّذِيْرٍ الَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا انَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَانَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ . (الزخرف/ 23)
ج ج
رغم أنّه لم ترد مفردة «التقليد» عيناً في الآيات السابقة بل جاءت مفردة الاقتداء أو
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 73، ص 288.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 269
الاهتداء أو اتباع ما كان عليه الآباء والاسلاف وامثال هذه المفردات، إلّاأنّه من المستحسن ايضاح مفهوم هذه المفردة جيداً.
إنّ هذه المفردة مشتقة من مادة «قَلْد»، وتعني في الأصل- كما ورد عن الراغب في المفردات- فتل الحبل، وقيل للقلادة «قلادة» من حيث إنّ حبالًا كانت تُفتل وتعلق في العنق، «والقلائد» جمع قلادة، استعملها القرآن وأراد بها الأنعام التي تُعدّ للأضحية في مناسك الحج، فانّها تُقلَّد لتتميز عن غيرها من الأنعام (الآية الثانية من سورة المائدة)، كما أنّ اطلاق التقليد على اتباع الآخرين، من حيث إنّ المقلِّد يجعل كلام المقلَّد كالقلادة في عنقه، أو من حيث إنّه يلقي المسؤولية على عاتق المقلَّد.
أمّا «مقاليد»- وكما يقول كثير من اللغويين- فجمع «مقليد» أو «مِقْلد»، إلّاأنّ الزمخشري ادّعى في كشافه: عدم وجود مفرد لهذه الكلمة.
وأمّا «مقليد» و «اقليد»، فبمعنى المفتاح، وقد نقل ابن منظور في لسان العرب: إنّ أصل هذه المفردة هو كلمة «كليد» الفارسية والتي تعني مفتاح كذلك، واستعملت في
العربية بنفس المعنى وتستعمل «مقاليد» بمعنى الخزائن أيضاً، وذلك من حيث إنّها تقفل ولا طريق لها إلّابالمفتاح.
إذن، لا علاقة بين مفردة «مقاليد» مع مادة «التقليد» و «القلادة» «1».
إلّا أنّه يحتمل رجوع كلا المفردتين إلى مادة واحدة من حيث إنّ كثيراً من الناس يجعلون المفاتيح في فتائل ويقلدون بها أعناقهم «2».
ج ج
إنّ الآية الاولى أشارت إلى حديث قوم «عاد» مع رسولهم ذي القلب العطوف
______________________________
(1). مفردات الراغب؛ مجمع البحرين؛ لسان العرب؛ البرهان القاطع وكتب اخرى.
(2). وقد اعتبر البعض «اقليد» مفردة يمنية أو رومية (مجمع البحرين ولسان العرب- مادة قلد-).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 270
نفحات القرآن ج 1 299
الرحوم «هود»، فعندما دعاهم إلى التوحيد وترك الظلم والاجحاف والترف أجابوه: «سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الوَاعِظِينَ وبهذا كشفوا عن تحجرهم وصلابتهم تجاه كلام النبي المنطقي، وذلك لعدم سماح حجاب التقليد لهم بقبول الحقيقة.
ج ج
وقد كشفت الآية الثانية عن مواقف مشركي العرب عندما كانوا يُدعون إلى ما أنزل اللَّه، وإلى ترك عبادة الأصنام، وترك البِدَع في تحريم كثير من الامور الحلال، وكان جوابهم آنذاك: «حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا» فيظنون أنّ هذا يغنيهم عن القرآن هادياً!!
إلّا أنّ القرآن أراد ايقاظهم من غفلتهم هذه وأراد تمزيق حجاب التقليد عندهم فأجابهم:
«أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُم لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ وهل يجوز تقليد الجاهل الضالّ:؟!
ج ج
والآية الثالثة أشارت إلى مشركي العرب أيضاً (أو فريق من ذوي الصفات الشيطانية) فانهم إذا ما سُئِلوا عن سبب إتيانهم الفاحشة والعمل القبيح؟ أجابوا: «وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا» ولا يكتفون بهذا بل قد يضيفون: «وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا».
فينفي القرآن هذه التهمة الكبيرة ويقول: «انَّ اللَّهَ لَايَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ .
يعتقد كثير من المفسرين أنّ المراد من «الفحشاء»
في الآية الكريمة هو طوافهم رجالًا ونساءً عراة في عصر الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون: أنّ الملابس التي ارتكب بها ذنب ليست أهلًا لأنّ يُطاف بها حول بيت اللَّه الحرام.
وعلى هذا المنوال، كان ينتقل عملهم القبيح هذا من نسل إلى نسل بالتقليد الأعمى وما كان التقليد يسمح لهم لأنّ يدركوا قبح هذا الفعل.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 271
إنّ رابع وخامس آية أشارتا إلى موقف وكلام فريق من المشركين في عهد الرسول صلى الله عليه و آله أو العهود التي سبقت عهده تجاه دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو الأنبياء السالفين، حيث كانوا يقولون: «انَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَانَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ .
وهكذا توارثت الأجيال بعد الأجيال الكفر وعبادة الأصنام والآثام والعادات والسنن القبيحة، وقد نسجت روح التقليد حجاباً سميكاً على عقولهم لا يسمح لهم لقبول أي حقيقة، فيقول القرآن عن هؤلاء تارة: «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ .
(المائدة/ 104)
ويقول تارة اخرى: «أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ الَى عَذَابِ السَّعِيْرِ».
(لقمان/ 21)
واخرى: «قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ .
(الزخرف/ 24).
ج ج
إنّ تقليد الآخرين، سواء كان تقليداً لحيٍ أو ميت، أو تقليداً لشخص أو فريق لا يخرج عن صورٍ أربع:
1- تقليد الجاهل للعالم: أي تقليد الجاهل بشي ء لمن له تخصص أو خبرة بفنٍ أو علم، مثل مراجعة المريض للطبيب الخبير بعلم الطب.
2- تقليد العالم للعالم: أي مراجعة أهل العلم أحدهم للآخر واتباع كلٌّ منهم للآخر.
3- تقليد العالم للجاهل: أي يترك الإنسان علمه وخبرته، ويتبع الجاهل ويقلده عشوائياً.
4- تقليد الجاهل للجاهل: بأن يتخذ قوم جُهّال عادات وتقاليد ومعتقدات ليست
نفحات القرآن، ج 1، ص: 272
قائمة على دليل أو مستندة إلى شي ء، ويقوم قوم آخرون باتباع
أولئك القوم وتقليدهم فيها، وهذا هو أكبر عامل لانتقال المعتقدات الفاسدة والتقاليد الخاطئة من قوم إلى آخر، وهذا النوع من التقليد استهدفته أكثر الآيات التي ذمّت التقليد.
واضح أن القسم الأول من التقليد هو القسم المنطقي الوحيد، وقد اعتمدت حياة الناس على ذوي الاختصاصات وعلى هذا النوع من التقليد المنطقي، لأنّ الإنسان حتى لو كان نابغة زمانه لا يمكنه التخصص في جميع الاختصاصات والفروع العلمية، خصوصاً، وأنّ العلم- في هذا العصر- أصبحت له فروع وتشعبات لا تُعد ولا تُحصى، ومن المحال أن يتخصص إنسان في فروع علمٍ أو فنٍ واحدٍ، فضلًا عن جميع العلوم والفنون.
وعلى هذا، فكل إنسان يمكنه أن يكون مجتهداً في فرع من فروع العلوم، أمّا في الفروع الاخرى التي لم يجتهد فيها، فلا طريق له إلّاالرجوع إلى المتخصصين فيها.
إنّ المعمار يراجع الطبيب إذا مرض، والطبيب يراجع المعمار إذا أراد بناء عمارة، أي أنّ كلًا منهما «مجتهد» في تخصصه و «مقلِّد» في التخصص الآخر، وهذا (رجوع الجاهل إلى العالم وغير المجتهد إلى المجتهد وغير المتخصص إلى المتخصص) أصل عقلائي كان ولا يزال متعارفاً ودارجاً بين الناس، بل إنّ عجلة الحياة تسير على هذا النوع من التقليد، بالطبع أنّ هناك شروطاً ينبغي توفرها في المجتهد الذي يُرجع إليه، سنتعرض لها بعد ذلك.
وهذا التقليد هو الذي أشار إليه البارى تعالى في القرآن الكريم وعنونه ب «أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ». (الأحزاب/ 21)
كما جاء في الآية: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِةْ». (الانعام/ 90)
ورغم أنّ الخطاب موجه للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، لكن لا يبعد أن يكون المخاطب به الامة بأجمعها.
أمّا الأقسام الثلاثة الباقية من التقليد فكلّها باطلة ولا أساس منطقي لها، فتقليد (العالم للجاهل) و (الجاهل للجاهل)
حالهما واضح، وأمّا تقليد (العالم للعالم) فان كان من باب مراجعة أحدهما الآخر للتشاور وتكميل المعلومات، فلا يُعدُّ هذا تقليداً بل هو نوع من «التحقيق».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 273
إنّ التقليد هو غض الطرف عن التخصص الذي يمتلكه الإنسان واتباع شخص آخر اتباعاً بدون قيد أو شرط، فالمسلّم أنّ التقليد من قبل شخصٍ قادرٍ على التحقيق والاجتهاد أمر مذموم وغير صحيح، ولهذا لم يُجِزْ الفقه الإسلامي للمجتهدأن يكون مُقلِّداً.
ويتضح مما قلنا فلسفة تقليد المجتهدين في المسائل الفقهية من قبل غير المجتهدين، ومثل هذا دارج في جميع الفروع العلمية، وبما أنّ الفقه الإسلامي واسع إلى درجة حيث لا يمكن للناس جميعاً أن يجتهدوا، فجميع أبوابه والتحقيق فيها تعيّن على فريق منهم الاجتهاد بالفقه، وعلى الناس اتباعهم، إلّاأنّ الأمر يختلف عنه في اصول الدين، فيتعين التحقيق والاجتهاد فيها على كل مسلم، وذلك لإمكانية ذلك، فلا يجوز التقليد فيها.
ج ج
عادة ما يقال في تعريف «التقليد» أنّه عبارة عن قبول كلام الآخرين بلا دليل، وتارة يوسعون المفهوم ويعتبرون الاتباع العملي تقليداً من دون الالتزام بحديث أو كلام للآخرين، وتارة يعدون التأثيرات اللا إرادية (التي تتركها أعمال وسلوك وصفات الآخرين عند الإنسان) قسماً من التقليد.
بالطبع أنّ القسم الأخير من التقليد (الذي يتحقق بشكل غير ارادي) خارج عن موضع بحثنا، أمّا القسم الثاني والثالث، فيمكن أن يكونا ممدوحين إذا ما توفر شرطان في «المقلَّد»- أو مرجع التقليد- وهما: الخبرة والصدق، أي كونه من أهل العلم أولًا، وينقل ما يوحي إليه علمه بصدقٍ ثانياً، وإذا ما انتفى هذان الشرطان دخل التقليد القسم المذموم.
ومن جهة اخرى، ينبغي أن يكون موضوع التقليد من مواضيع الاختصاصات كي يباح التقليد فيه، أمّا إذا كان من المسائل العامة
التي يمكن للناس كافة الخوض والتحقيق فيها (مثل اصول الاعتقادات وبعض المسائل الأخلاقية والاجتماعية غير ذات الجانب
نفحات القرآن، ج 1، ص: 274
الاختصاصي) فانه يتعين على كل إنسان التحقيق فيها والوصول إليها بنفسه.
ومن جهة ثالثة، فإنّ المقلِّد ينبغي أن لا يكون قادراً على الاستنباط، فإذا ما قدر على ذلك في مسألةٍ ما، مُنع من التقليد فيها.
ومن هنا تتّضح حدود التقليد الممدوح والتقليد المذموم من الجهات الثلاث (أي شروط المرجع وشروط المقلِّد) وشروط الموضوع المقلِّد فيه).
ننهي كلامنا هذا بحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:
قال رجل للصادق عليه السلام: إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّابما يسمعونه من علمائهم فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلّدون علماءهم، فقال عليه السلام: «بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهه وتسوية من جهة أمّا من حيث الاستواء فإنّ اللَّه ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم، وأمّا من حيث افترقوا فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام واضطرّوا بقلوبهم إلى أن من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللَّه ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللَّه فلذلك ذمهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذي ذمّهم اللَّه بالتقليد لفسقة علمائهم فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» «1».
ج ج
التقليد الأعمى أو بتعبير آخر: (تقليد الجاهل للجاهل) والأسوء منه (تقليد العالم للجاهل)، دليل على الإرتباط الفكري، وله عوامل عديدة، نتعرض لبعضها بالإجمال هنا:
______________________________
(1). الوسائل الشيعة، ج 18، ص 94.
نفحات
القرآن، ج 1، ص: 275
1- عدم النضج الفكري: إنّ أشخاصاً قد ينضجون ويبلغون جسمياً، إلّاأنّ فكرهم لا يستقل ولا يبلغ إلى آخر العمر، ولهذا يظلون من أتباع هذا وذاك، ولا يفكرون يوماً في مسألة ما ولا يحللونها باستقلال.
إنّ أنظار هؤلاء تترصد الآخرين دائماً، فيرددون ما يتفوه به الآخرون، وكأنهم خُلِقوا بلا إرادة، ولهذا قد يغيرون اتّجاههم بالكامل إذا ما تغيرت بيئتهم أو تغير محيطهم.
إنّ طريق مكافحة هذا النوع من التقليد الأعمى هو رفع المستوى الثقافي للمجتمع والسعي لإزدهار الأفكار والقابليات.
2- التأثر بشخصية: وهي أَنْ يتأثَّرَ الإنسان بشخصية ما ويجعلها أسوة له بحيث لا يرى نفسه أهلًا لإبداء الرأي أمام صاحبها، فيتبعه بكل معنى الكلمة ويسير خلفه وإن لم تكن تلك الشخصية أهلًا للاتباع والتقليد.
3- التعلق الشديد بالأسلاف: والتعلق هذا قد يصنع منهم أناساً مقدسين وإن لم يكونوا أهلًا لذلك، فتتبعهم الأجيال اللاحقة عشوائياً، ومع أنّ الأجيال اللاحقة التي ترث علوم السالفين وتضيف اليها علوماً اخرى تكون أكثر وعياً بطبيعة الحال، لكنها مع ذلك تبتلى بالتقليد العشوائي.
4- التحزّب أو التعصّب الطائفي: إنّ تعصباً كهذا يدفع بفريق من الناس لاتباع حزب أو طائفة والسير خلفهما والتمسّك بترديد ما يتبناه ذلك الحزب أو تلك الطائفة، بحيث لا يسمح الإنسان لنفسه بالتفكير باستقلال والعمل خارج اطار الحزب أو الطائفة.
إنّ هذه العوامل الأربعة وعوامل اخرى سببٌ لانتقال كثير من الخرافات والأوهام والعقائد الباطلة والتقليد والعادات الخاطئة والسنن الجاهلية والأعمال القبيحة من قوم إلى قوم آخرين ومن نسل إلى نسل آخر.
وبتعبير آخر، فإنّ الميول الخاطئة تجعل حجاباً على فكر الإنسان تحول دون معرفته للحق.
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 276
في البدء نتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَاذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا
مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يُكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ . (التوبة/ 86- 87)
2- «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِيْنَ يَسْتَأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ . (التوبة/ 93)
ج ج
أشارت الآية الاولى إلى أولئك الذين لم يستعدوا لتنفيذ الأوامر الإلهيّة في مجال الجهاد، فبالرغم من اقتدارهم الجسمي والمالي للحضور في سوح القتال لكنهم انضموا إلى صفوف القاعدين وغير القادرين على الجهاد، وقد ألحوا على الرسول صلى الله عليه و آله بأن يذرهم ويجعلهم مع القاعدين والخوالف.
و «القاعدين» جمع «قاعد» وهم المعذورون عن الجهاد.
و «الخوالف» جمع «خالفة» ومن مادة (خَلْف) ومعناها يقابل الأمام، ولهذا يقال «خالفة» للنساء اللاتي يبقين ماكثاتٍ في بيوتهنَّ عند خروج رجالهن، ولا يبعد أن يكون مفهوم هذه المفردة أعم من النساء، بحيث يشمل جميع العاجزين عن الجهاد والمعذورين عن الالتحاق بساحات القتال من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى
يقول الراغب في مفرداته: إنّ «خالفة» عمود يجعل في نهاية الخيمة وتطلق- كناية- على النساء الماكثات في البيوت، ويقول البعض: إنّ «خالف» من تخلّف كثيراً «1».
______________________________
(1). تفسير المنار، ج 10، ص 572.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 277
وتستعمل هذه المفردة- أحياناً- بمعنى «كريه الرائحة» من باب أنّ الرائحة الكريهة تستخلف الرائحة الجيدة إذا ما ذهبت.
وقال البعض: إنّها بمعنى الانحطاط والميل إلى الامور الدنيئة لانَّ هذا المَيْل يدلّ على التخلف «1»، إلّاأنّ المعنى الأول أنسب من بقيّة المعاني.
وعلى أيّة حال، فإنّ محبي الرفاه وطلاب العافية غير مستعدين للايثار والتضحية عند الأزمات والكوارث الاجتماعية، وهم مستعدون لأنّ يُجعلوا في صفوف الأطفال والمرضى دون أن يلتحقوا بصفوف المجاهدين، ويقول القرآن فيهم، في نهاية
الآية نفسها:
«وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ .
نعم، إنّ حبّ الراحة والرفاه كالحجاب الذي يمنع من الرؤية الفكرية الصحيحة، فهؤلاء لا يدركون أنّ السعادة ليست بالأكل والشرب، بل قد تكون في الحضور في ميادين الجهاد، وفي التخضب بالدماء، وبلقاء اللَّه، إلّاأنّ الذي لا يفهم هذه الامور يستهزئ بها.
ج ج
وتشير الآية الثانية إلى المعذورين عن الجهاد مثل الضعفاء والمرضى والذين لا يملكون الوسيلة للقيام بهذا الأمر، بينما تشتاق إليه قلوبهم، وتصب دموعهم لعدم اقتدارهم على الانفاق، يقول اللَّه فيهم: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِيْنَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ .
ثم يضيف: «وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ وذلك لأنّ الميل إلى الراحة جَعَلَ حجاباً سميكاً على قلوبهم فلا يكادون يفقهون شيئاً، إنّ كلتا الآيتين توضح حقيقة واحدة وهي العلاقة بين «التخلف عن الجهاد لأجل الراحة والصحة» و «عدم إدراك الحقائق».
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 16، ص 163.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 278
1- «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ قَالُوا بَلى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ».
(الحديد/ 14)
إنّ «الأماني» جمع «أمنية» وتطلق على الحالة النفسية التي تعرض للإنسان من جراء تمنيه لشي ءٍ ما «1»، والجدير بالذكر أنّ الأماني المعقولة والمنطقية ليست نقصاً، بل هي عامل لتقدم البشر وبناء مستقبل أفضل لهُ من الحاضر، إنّما النقص في الآمال البعيدة وغير المنطقية، ولهذا يفسرون الأماني في موارد كهذه بالمعنى الثاني، حيث تجعلُ الإنسان في غفلة وتسدل حجاباً من الظلمة على قلبه.
ويقول ابن الأثير: إنّ التمني يعني تشهّي حصول الأمر وكذلك يطلق على ما يخطر على النفس بالنسبة للمستقبل، كما أنّ «مُنْية» و «الامْنيّة» وردتا بمعنى واحد «2»، إلّاأنّ بعضاً فسّر «الأمنية» بالكذب، ذلك لأنّ الكاذب يُقدّر أمراً في قلبه ثم يحدّث به «3».
يقول الراغب: لما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له صار التمني كالمبدأ للكذب فصحّ أن يُعبّر عن الكذب بالتمنّى.
وادّعى البعض: أنّ معنى هذه المفردة في الأصل هو التقدير والفرض والتصوير «4»،
______________________________
(1). مفردات الراغب، وينبغي الالتفات إلى أن الأماني جمع أمنية، أمّا مُنى فجمع منية.
(2). لسان العرب.
(3). المنجد مادة (مني).
(4). مجمع البحرين للطريحي.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 279
وقد قيل للأماني أماني لأنّ الإنسان يقدرها ويصورها في ذهنه.
وعلى أيّة حال، فإنّ المؤمنين عندما يجتازون المحشر نحو الجنّة بسرعة في ظل الإيمان يصرخ المنافقون والمنافقات: «أُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُم»، فيجيبهم المؤمنون:
«ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ» الدنيا «فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَينَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الْرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ . (الحديد/ 13)
وعندها يصرخ المنافقون: «أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ في الدنيا في مجتمع واحد وقد كنا في بعض الطريق معكم؟ فما الذي حصل حيث انفصلتم عنا واتجهتم
نحو رحمة اللَّه وتركتمونا في العذاب؟
فيجيبهم المؤمنون «بلى كنا معكم في مجتمع واحد، في الزقاق وفي السوق، وفي السفر والحضر، وكنا جاراً لكم، بل عشنا في بيت واحد، ولكنكم أخطأتم خمسة أخطاء فاحشة، الأوّل: أنّكم سلكتم طريق الكفر والنفاق ففتنتم أنفسكم: «وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ .
وثانياً: أنّكم «تَرَبَّصْتُمْ وترصدتم فشل المسلمين، وموت الرسول صلى الله عليه و آله، وتحججتم في كل عمل خير.
وثالثاً: «وَارْتَبْتُم وترددتم خاصة في مسألة المعاد، وحقانية الإسلام.
ورابعاً: «وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُ التي نسجت حجاباً ضخماً على عقولكم وأفكاركم «حَتّى جاءَ أَمرُ اللَّهِ .
وخامساً: «وَغَرّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» أي غركم الشيطان بعفو اللَّه ووعدكم بألّا يَنالَكُمْ عذابه.
نعم، إنّ هذه العوامل معاً أوجدت المنظر الذي صوره القرآن لنا، وهي التي سببت خلق سورٍ عازل بين المؤمنين والمنافقين.
إنّ شاهد حديثنا هو الجملة الرابعة، حيث جاء فيها «وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِىُ ، الأماني قد تصل إلى درجة بحيث تشغل فكر الإنسان بالكامل، فيغفل عن كلّ شي ء، ويظل في
نفحات القرآن، ج 1، ص: 280
عالم الوهم والظن، فتعمى عيناه، ويثقل سمعه، ويفقد وعيه (إذا كان واعياً)، ويظلّ في الظلمات التي وضعها بنفسه تائهاً.
إنّ سعة الأماني قد تصل إلى درجة يرسم صاحبها خططاً لنفسه لا يمكن تطبيقها حتى لو كان كنوحٍ عليه السلام في العمر، وقد يقوم بمقدّمات امنية، الكلُّ يعلم بعدم امكانها حتى لو كان قد بدأ بها منذ قرون، وهذا هو حجاب الأماني الذي يحول دون المعرفة.
وقد نقل بعض المفسرين خمسة أقوال في تفسير الأماني إضافة إلى الآمال البعيدة، والأقوال هي:
(تمني فشل المؤمنين وضعتهم، وإغواء الشيطان، والدنيا، وتوقع استغفار الرسول للمنافقين، وتذكّر الحسنات ونسيان السيئات) «1»، وقد فسرها البعض ب «الأباطيل».
إنّ مسألة (الآمال الطويلة والأوهام البعيدة عن الواقع، وأنّها تجعل حجاباً
على عقل الإنسان وشعوره) لم يشر اليها في القرآن الكريم فحسب، بل لها شواهد كثيرة في الروايات الإسلامية والتواريخ أيضاً، ففي حديث مشهور للإمام علي عليه السلام يقول فيه: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان، إتّباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة» «2».
ويقول في كلماته القصار: «الأماني تُعمي أعين البصائر» «3».
ونقرأ في حديث آخر لنفس الإمام عليه السلام: «جماع الشرّ في الاغترار بالمُهل والاتكال على الأمل» «4».
______________________________
(1). تفسير القرطبي، ج 6، ص 6417.
(2). نهج البلاغة، الخطبة 42.
(3). نهج البلاغه الكلمات القصار، الكلمة 275.
(4). غرر الحكم (حرف ج رقم 55).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 281
كما نقل عن نفس الإمام في هذا المجال أنّه قال: «غرورُ الأملِ يفسدُ العلم» «1».
والخلاصة أنّ من يريد الاطلاع على جمال الحقيقة كما هي ويصل إلى ينبوع المعرفة الصافي، ينبغي له أن لا يغطي عقله بحجاب الأماني السميك، وأن لا يضل في متاهات طريقها.
ونختم هذا البحث بحديث آخر للإمام أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول فيه: «واعلموا أن الأمل يُسهي العقل ويُنسي الذكرَ فاكذبوا الأمل فإنّه غرورٌ وصاحبه مغرور» «2».
ج ج
______________________________
(1). غرر الحكم (حرف ج، رقم 55).
(2). نهج البلاغة، الخطبة 86.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 283
نتأمل خاشعين معاً في الآيات التالية:
1- «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَومِ الدِّينِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ الَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيْمٍ* اذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ* كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . (المطففين/ 11- 14)
2- «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُوْلئِكَ الَّذِيْنَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ . (محمد/ 22- 23)
3- «أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِيْنَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِم وَنَطْبَعُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُم لَا يَسْمَعُونَ . (الأعراف/ 100)
4- «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِيْنَ أَسَاؤُا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ . (الروم/ 10)
أشارت الآية الاولى إلى أولئك الذين أنكروا القيامة بالكامل، وأضافت: أنّ القيامة لا ينكرها إلّاالمعتدون والآثمون، فانّهم لا يخضعون أمام الحق ولا يسلمون إليه أنفسهم أبداً، ولهذا إذا تُليت عليهم آيات اللَّه قالوا: أساطير الأولين.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 284
وَيصرح القرآن: أنّ الأمر ليس كما يتوهم هؤلاء، وقولهم هذا سببه الصدأ الذي أحاط قلوبهم وحال دون أن يعقلوا شيئاً.
لقد استخدمت مفردة «رَيْن» في هذه الآية الكريمة، وقد قلنا سابقاً: أنّ لها معاني ثلاثة (على ما يدعيه أئمّة اللغة) الأول: الصدأ الذي يعلو الأشياء القيّمة، الثاني: الصدأ الذي يعلو الفلزات وهو علامة تآكل وفساد ذلك الفلز، الثالث: كل شي ءٍ غلب على شي ءٍ آخر، ولهذا تستعمل هذه المفردة في مجال غلبة الشراب المسكر على العقل وغلبة الموت على الأحياء، وغلبة النوم على العيون «1».
وبالطبع يمكن جمع هذه المعاني الثلاثة في مفهوم واحد وهو الصدأ الذي يستحوذ على الأشياء ويعلوها، ثم اطلقت هذه المفردة على غلبة كل شي ءٍ على شي ءٍ آخر.
ونستشف من هذه الآية أنّ الإثم يعكر صفاء القلب بحيث يمنع انعكاس الحقائق في هذه المرآة الإلهيّة، وإلّا فإنّ آيات اللَّه خصوصاً في مسألة المبدأ والمعاد واضحة ولا تقبل الانكار.
ولهذا فقد قال بعض المفسرين: يظهر من هذه الآية أولًا: أنّ الأعمال القبيحة تُوجِد نقوشاً وصوراً في نفس الإنسان، وثانياً: أنّ هذه الصور والنقوش تحول دون إدراك الحق.
وثالثاً: إنّ روح الإنسان- وحسب طبيعتها الأولية- صافية وشفافة، وتدرك الحقائق كما هي، وتميز بين الحق والباطل وبين التقوى والفجور، كما جاء ذلك في الآيات «وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» «2».
(الشمس/ 7- 8)
وقد حلل مفسرون آخرون المسألة بشكل ملخص آخر.
عندما يكرر الإنسان عملًا ما فإنّ ملكة نفسانية لذلك العمل ستحصل عنده تدريجياً، كالقراءة والكتابة، ففي البداية يشق عليه الأمر، وبعد الممارسة يتمكن منهما بدرجة لا يحتاج فيهما إلى فكر ودراسة.
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 31، ص 94؛ تفسير روح المعاني، ج 3، ص 72.
(2). تفسير الميزان، ج 20، ص 349.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 285
وكذلك الأمر بالنسبة للذنوب، فبالاصرار عليها وارتكابها مرات عديدة تحصل هذه الملكةُ عند الإنسان، ونعلم أنّه لا حقيقة للذنب غير إشغال القلب بغير اللَّه، والتوجه لغير اللَّه ظلمة، وعندما تتراكم الظلمات على القلب تسلبه صفاءَه وشفافيته، وإنّ لهذه الظلمات درجات ومراحل، المرحلة الاولى هي مرحلة «الرَيْن» أو الصدأ، والمرحلة الثانية هي مرحلة «الطبع» والمرحلة الثالثة هي مرحلة «الأقفال» وهي أشد المراحل.
ج ج
والآية الثانية ناظرة إلى المنافقين الذين يَدّعون الإيمان، فإذا ما نزلت آية في الجهاد تمارضوا وتذرّعوا بذريعة من هو على وشك الموت، فيخاطبهم القرآن قائلًا، إنّ استمراركم في مخالفتكم هذه وإعراضكم عن العمل بكتاب اللَّه، سيؤدي بكم إلى أن تفسدوا في الأرض، وأن تقطعوا أرحامكم، ولا يأمن شركم حتى أرحامكم، ثم يضيف:
«أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ (بذنوبهم فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ فما كادوا يسمعون الحق ولا يرونه.
وقد كشفت هذه الآيات عن أنّ النفاق حجاب للقلب والروح من جهة، ومن جهة اخرى عن التأثير السلبي للذنوب خصوصاً (الفساد في الأرض) و (قطع صلة الرحم) و (الظلم والجور) على إدراك الإنسان وتمييزه بين الحق والباطل.
ولقد فسّر البعض عبارة «إن توليتم» بالاعراض، وفسرها بعض آخر بالولاية والحكومة، أي أنَّ مقاليد الامور إذا أصبحت بأيديكم فستفسدون وتريقون الدماء وتقطعون الأرحام «1»، ولهذا جاء عن أميرالمؤمنين عليه السلام: أنّ الآية
نزلت في بني امية «2»، وهذا تلميح إلى أنّهم عند استلام زمام الامور والحكومة الإسلامية سوف لا يرحمون صغيراً ولا كبيراً، ولم يسلم من ظلمهم أحد حتى أقاربهم وذووهم.
______________________________
(1). ورد كلا التفسيرين في تفاسير روح المعاني ومجمع البيان والميزان في ذيل الآيات المذكورة في البحث.
(2). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 40، ح 59.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 286
وسواء كان معنى «التولي» هنا هو الإعراض عن الجهاد أو استلام مقاليد الامور في الحكومة والفساد في الأرض، فإنّ ذلك لا يضر ببحثنا، لأنّ الآية على أيّة حال تبين أنّ الذنوب حجاب للقلوب.
ج ج
وقد أشارت الآية الثالثة إلى أولئك الذين ورثوا الاسلاف من دون أن يعتبروا بمصيرهم الذي ابتلوا به، فخاطبتهم: «لو نَشآءُ أَصَبْناهُم بِذُنوبِهِمْ ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُم لَا يَسْمَعُونْ .
عطف العقاب على الذنوب مع الطبع على القلوب والآذان، تلميح إلى العلاقة بين هذين الاثنين.
ويقول البعض: إنّ اللَّه إذا شاء عذّبهم بأحد العذابين: إِمّا بإهلاكهم بسبب ذنوبهم، وإمّا بإبقاءهم أحياء مع سلب قدرة تمييز الحق عن الباطل منهم، وهذا عذاب أتعس من عذاب الهلاك الإلهي.
إلّا أنّه بالالتفات إلى مجي ء «أصبناهم» بصيغة الماضي و «نطبع على قلوبهم» بصيغة المضارع، نفهم أنّ الجملة الثانية مستقلة وليست عطفاً على ما قبلها، فيكون معنى الآية هكذا: (سواء عجلنا بعذابهم أم لم نعجل فَنحن نطبع على قلوب هؤلاء ونلقي حُجباً عليها) «1».
ج ج
أشارت رابع وآخر آية إلى عاقبة الذين يرتكبون الأعمال السيئة فقالت: «ثُمَّ كَانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ أَساؤا السُّوأَى أنَ كَذَّبُوا بآياتِ اللَّهِ لِمَ لا يكون مصيرهم هذا والذنب كالمرض الذي ينقض على روح الإنسان فيتآكل الإيمان من جرائه؟ ولِمَ لا يكون هكذا
______________________________
(1). جاء هذا كاحتمال في تفسير الكبير، في ذيل نفس الآية، إلّاأنّ
صاحب تفسير الميزان عَدَّ الجملة الثانية معطوفة على «أصبناهم» التي تفيد الاستقبال، لكن الظاهر أنّ التفسير الأول أنسب.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 287
وهو كالحجاب الذي يغطي القلب ويعميه؟ والأسوأ أنّه لا يكفر فحسب، بل يفتخر بكفره، وقد شهد التاريخ الكثير من هؤلاء.
وخلاصة الحديث، إنّ القرآن يعدُّ الذنوب والمعاصي من موانع المعرفة، وهذه حقيقة ملموسة ومجربة عند كثير من الناس، فبمجرّد صدور ذنب أو معصية منهم يشعرون بظلمات خاصة في قلوبهم، وإذا ما مالوا إلى الطهارة والتقوى يشعرون بأنوار ترتاح لها قلوبهم.
ج ج
لقد انعكست هذه الحقيقة في الروايات الإسلامية بشكل واسع نذكر هنا نماذج منها:
1- جاء في حديث للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يقول فيه:
«إنّ العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر اللَّه وتاب صَقُل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الرّان (الرين) الذي ذكر اللَّه في كتابه: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ » «1».
2- ونقرأ في حديث الإمام الصادق عليه السلام: أنّه قال فيه:
«كان أبي يقول: ما من شي ء أفسدُ للقلب من خطيئة، إنّ القلب لَيُواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله» «2».
بديهي أنّ المراد من (أعلاه أسفله) تغير قدرة الإنسان على التمييز- بسبب الانس بالذنوب- حيث يرى الحسن قبحاً والقبح حسناً، وهي أخطر مرحلة.
3- وقد جاء في حديث آخر للإمام الصادق عليه السلام أيضاً يقول فيه:
______________________________
(1). تفسير القرطبي، ج 10، ص 7050، روح المعاني، تفسير ج 3، ص 73، وتفسير الكبير، ج 31، ص 94.
(2). اصول الكافي، ج 2 باب الذنوب، ح 1.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 288
«إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فان تاب
انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يُفلحُ بعدها أبداً» «1».
واضح، أنّ الشرط الأول للفلاح هو إدراك الحقائق، فالذي تعطّل قلبه (عقله) عن العمل كيف يمكنه الوصول إلى السعادة والفلاح؟!
وقد جاء نفس المضمون في رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الآية «كَلّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، وتم التعبير فيه بالنكتة السوداء والنكتة البيضاء حيث تتغلب السوداء- نتيجة تراكم الذنوب- على البيضاء النورانية وتغطيها «2».
4- وفي حديث آخر للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله يقول فيه:
«كَثْرَةُ الذُنُوبِ مُفْسِدةٌ لِلْقَلْبِ» «3».
5- وقد نقل في كتاب الخصال حديث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله جاء فيه:
«أربع خصال يُمتن القلب: الذنب على الذنب ...» «4».
ولهذا، فإنّا أُمرنا- لمحو آثار الذنوب- قراءة ودراسة أحاديث الأئمّة إضافة إلى التوبة، كما نقل ذلك في نور الثقلين عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:
«تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب وَإنّ القلوب لترين كما يرين السيف، وجلاءه الحديث» «5».
6- وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام لهذه الحقيقة في خطبة له مخاطباً بها بعض عمي القلوب:
«قد خرقتِ الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه فهو عبد لها» «6».
______________________________
(1). اصول الكافي، ج 2 باب الذنوب، ح 13.
(2). المصدر السابق، ح 20، وقد نقل نفس المضمون في مجمع البحرين في مادة (ارين) أيضاً.
(3). تفسير در المنثور، ج 6، ص 326.
(4). الخصال، ج 1، ص 252، ح 65، وقد جاء مضمون يشبه هذا في تفسير در المنثور، ج 6، ص 326.
(5). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 531، ح 23.
(6). نهج البلاغة، الخطبة 103.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 289
7- وقد نقل الإمام الصادق عليه
السلام عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال:
«إذا ظهر العلم واحترز العمل وائتلفت الألسن واختلفت القلوب وتقاطعت الأرحام هنالك لعنهم اللَّه فأصمهم وأعمى أبصارهم» «1».
8- وقد صُرّح بهذا الأمر بالنسبة لبعض الذنوب كما جاء ذلك في حديث لأميرالمؤمنين عليه السلام مخاطباً به أولئك الذين تركوا الجهاد:
«ألبسه اللَّه ثوبَ الذل ... وضُرب على قلبه بالأسهاب وأُديل الحق منه بتضييع الجهاد» «2».
في البداية نمعن خاشعين في الآيات الكريمة التالية:
1- «تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ .
(الأعراف/ 101)
2- «فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِّيْثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ الَّا قَلِيلًا».
(النساء/ 155)
3- «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ انَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ اكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَانْ تَدْعُهُمْ الى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً». (الكهف/ 57)
4- «وَالَّذِيْنَ لَايُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِم وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ». (فصلت/ 44)
______________________________
(1). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 41، ح 63.
(2). نهج البلاغة، الخطبة 27.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 290
إنَّ الآية الاولى بعد إشارتها إلى تاريخ وقصص خمسة أقوام من الأقوام السالفة وهم (قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب) حيث نزل عليهم العذاب الإلهي لتكذيبهم آيات اللَّه، قالت: «تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ ...».
إنّ جملة «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرينَ لا تشير إلى أي كافر كان، وذلك كثيراً من المؤمنين كانوا في صفوف الكفار والتحقوا بصفوف المؤمنين بعد سماعهم لدعوة الأنبياء، فالمراد- إذن- ذلك الفريق من الكافرين الذين ألحوا وأصروا على كفرهم، فان كفرهم هذا يحول دون معرفتهم ورؤيتهم للحق.
والشاهد على هذا الكلام هو قوله: «فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أي أنّ تعصبهم بلغ درجةً لا تسمح لهم بتغيير طريقتهم والرجوع عن الباطل إلى الحق، وقد ذكرت خمسة وجوه في تفسير هذه الجملة في تفسير الميزان والفخر الرازي «1»، إلّاأنّ أظهرها هو ما تقدم اعلاه.
والآية الثانية بعد ما أشارت إلى سلوك فريق من
اليهود وعدائهم للأنبياء قالت: «فَبَما نَقْضِهِمْ مِّيْثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ ...».
يقول القرآن: إنّهم لا يفقهون شيئاً وذلك لكفرهم فطبع اللَّه على قلوبهم من جراء ذلك.
بديهي أنّ المراد من الكفر هنا هو الكفر المتزامن مع العناد، والكفر المتزامن مع العداء للأنبياء، والكفر المتزامن مع نقض المواثيق باستمرار والاستهزاء بآيات اللَّه، ومسلم أن كفراً كهذا يجعل حجاباً على عقل الإنسان لا يسمح لصاحبه أن يدرك الحقائق، وهذا شي ء صنعته أيديهم ولا جبر في البين.
ويظهر أنّ مرادهم من «قلوبنا غلف» هو الاستهزاء بآيات اللَّه وبشخصية موسى بن عمران، لا أنّهم يعتقدون أنّ قلوبهم خُلِقت مغلَّفةً لا تفهم الحقائق (كما جاء ذلك في بعض
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 8، ص 215؛ تفسير الكبير، ج 14، ص 186.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 291
التفاسير) «1»، إلّاأنَّ اللَّه أخذ كلامهم بالجد وأجابهم: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ ...».
وهناك احتمال آخر وهو أنّ مرادهم من الجملة هو أن قلوب كلٍّ منهم كالوعاء الملي ء بالعلم والغمد الذي فيه السيف فلا تحتاج لعلوم الآخرين «2»، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد جداً.
وعلى هذا، فهناك ثلاثة احتمالات في تفسير الآية والأول أنسب من الآخرين، وقد نقل في بعض التفاسير حديث ذا مغزىً عميق عن الرسول صلى الله عليه و آله يقول فيه: «الطابَعُ مُعَلّق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعُمِل بالمعاصي واجتُري ء على اللَّه تعالى بَعَثَ اللَّه تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئاً» «3».
والجدير بالذكر هو أنّ «طابع» اسم فاعل للطبع و «طابَع» اسم آلة الطبع، ويظهر في الحديث أنّ الكلمة الاولى بالفتح والثانية بالكسر.
وهذا الحديث يؤكد بوضوح الحقيقة التالية: أنْ لا جبر هنا، وأنّ حجب القلوب نتيجة لأعمال الإنسان نفسه.
ج ج
وَطرحت الآية الثالثة
سؤالًا تقريرياً حيث قالت: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ ...».
إنّ دليل اعتبار القرآن هؤلاء أظلم الناس واضح لأنّهم ظلموا أنفسهم كما ظلموا الآخرين كذلك فإنّ ظلمهم هذا وقع في محضر الساحة القدسية الإلهيّة مع وجود تعاليمه الحقة، وعليه فالآية لا تدل على عدم الجبر فحسب، بل تدل على اصالة الاختيار.
وما يلفت النظر هنا هو أنّ الفخر الرازي بالرغم من كونه من القائلين بالجبر، لكنهُ
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 5، ص 38؛ تفسير القرطبي، ج 3، ص 2004.
(2). لقد جاء هذا الاحتمال في التفاسير التالية: في تفاسير الكبير، ج 11، ص 87؛ والقرطبي، ج 3، ص 2004؛ و روح المعاني، ج 6، ص 8.
(3). تفسير روح المعاني، ج 6، ص 8.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 292
عندما يصل إلى هذه الآية يقول: إنّ آخر الآية دليل لمؤيدي الجبر، بينما صدرها دليل لمؤيدي الاختيار! ثم يضيف: قلّما نجد آية في القرآن تؤيد أحد الفريقين، وإذا ما وجدنا آية مؤيدة لفريق وجدنا قبالها آية تؤيد الفريق المقابل، والتجربة شاهد على ما نقول، وهذا امتحان صعب من اللَّه للعباد، وذلك لكي يتميز الراسخون في العلم عن المقلِّدين «1»! ياله من اعتراف عجيب؟!
ونضيف إلى ما قاله الفخر الرازي: أنّ كلًا من آيات القرآن لا يمكن دراستها وملاحظتها لوحدها من دون ملاحظة ودراسة الآيات الاخرى فضلًا عن صدر وذيل الآية الواحدة، كما نقول: إنّ الآية بصدرها وذيلها دليل على مسألة الاختيار لا شي ء آخر، وذلك لأنّ صدرها يقول: إنّ الإعراض عن آيات اللَّه واقتراف الذنوب من أفعال الإنسان وهو فاعلها باختياره، بينما ذيل الآية يقول: إنّ اللَّه يعاقب المُصرّين على السير في هذا الطريق، وعقابهم هو جعل الأكنة على قلوبهم.
وبتعبير آخر: إنّ اللَّه جعل
لهذه الذنوب آثاراً ومردودات، وهذه الآثار تعكّر صفاء القلب، وتسلب قدرة التمييز عند الإنسان، فأيّ جبر في هذا الحديث؟!
مثله كمثل الخبير الذي يعلم بأن السم قاتل، وبالرغم من ذلك يتناوله، فهل هذا التأثير القهري للسم جبر؟!
ج ج
وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المعاندين الذين يختلقون الحُجج ويسألون- أحياناً- هذا السؤال: لِمَ لَمْ ينزل القرآن أعجمياً كي نعيره أهميّة أكبر ولكي لا ينحصر في العرب؟
(قد يكون غرضهم الأساسي من هذا هو عدم فهم عامة الناس له والاقبال عليه إذا ما كان أعجمياً).
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 21، ص 142، والعجيب أنّ الآلوسي في روح المعاني عندما نقل عبارة الفخر الرازي ادعى أنّ الفخر الرازي قال: إنّ هذه الآية من أدلة القائلين بالجبر والآية التي قبلها من أدلة القائلين بالاختيار. وقد نقل صاحب الميزان العبارة من روح المعاني، بينما مراد الفخر الرازي صدر وذيل الآية نفسها (تأمل جيداً).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 293
فأجابهم القرآن في صدر الآية: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْ لَافُصِّلَتْ آيَاتُهُ . (فُصّلت/ 44)
أي لأشكلتم اشكالًا آخر وهو: أنّ القرآن مبهم وغامض، ثم يضيف القرآن: «ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌ أي هل يصحّ لنبي عربي أن يأتي بقرآن أعجمي؟
ثم أمر اللَّه الرسول صلى الله عليه و آله بأن يجيبهم هكذا: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشَفَاءٌ وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِم وَقرٌ وَهوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنادَونَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ».
وقد بيّنت الآية بوضوح أنّ اختلاق الحجج والعناد والإصرار على الكفر يجعل حجاباً على القلوب يمنعها عن الإدراك والفهم «1».
«ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا الَى قَومِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِيْنَ . (يونس/ 74)
بيّنت الآيات السابقة لهذه الآية من سورة يونس قصة نوح، حيث كان يدعو قومه للَّه ويسعى لهدايتهم وانذارهم من عذاب اللَّه، إلّاأنّهم كذبوه، فاغرقهم اللَّه بطوفانه وأهلكهم، وأنقذ المؤمنين منهم بالسفينة فورثوا الأرض.
ثم يضيف اللَّه في الآية: إنا أرسلنا- بعد نوح- رسلًا كلًا إلى قومه مع معاجز وأدلة واضحة ومنطقية ورسائل يشهد محتواها على أحقيتهم، إلّاأنّهم لم يخضعوا للحق واستمروا في تكذيبهم.
______________________________
(1). فسّر البعض عبارة: «وهو عليهم عمىً» بأنّ القرآن سبب لعمى هذا الفريق، بينما قال ابن منظور في لسان العرب والراغب في المفردات: إنّ جملة (عمى عليه) تعني اشتبه عليه حتى صار كالأعمى (تأمل جيداً).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 294
ويقول اللَّه في ذيل الآية: «كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ، وهذه إشارة إلى أنّ الاعتداء والعدوان يترك حجاباً في القلب يحول دون معرفة القلب لآيات اللَّه وتمييزه بين الحق والباطل.
إنّ الطبع الإلهي على القلوب بالاضافة إلى كونه عقاباً إلهيّاً للمعتدين، كذلك يكون أثراً من آثار الاستمرار في الاعتداء، والمراد من الاعتداء هنا هو الاعتداء في الساحة الإلهيّة واستمرار المعصية واقتراف الذنوب ومعاداة الرسل.
إنّ جملة: «فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ إشارة إلى أن بعض الرسل جاءوا أقوامهم فكذبوهم، ثم أرسل اللَّه إليهم رسلًا آخرين مع أدلة واضحة فما آمنوا بهم أيضاً، وذلك لأنّ عنادهم نسج حاجباً سميكاً على عقولهم فأصبحوا لا يفقهون شيئاً ولا يعقلون.
ويقول البعض: إنّ المراد من المكذبين في الآية قوم نوح الذين أُغرقوا بالطوفان، والمراد من القوم الذين لم يؤمنوا الأقوام التي جاءت بعد قوم
نوح وقد سلكوا مسلك قوم نوح في الاعتداء على الرسل وتكذيبهم «1».
ويبدو هذا التفسير بعيداً عن الواقع لأنّه لازمه اختلاف مرجع الضميرين في (كذّبوا) و (ليؤمنوا)، ولهذا فالافضل هو التفسير الأول.
ويحتمل أن يكون المراد هو: الأقوام التي جاءت بعد نوح والتي قد نُقِلت لها حقائق عن دعوة الأنبياء السالفين فكذبوا تلك الحقائق، ثم جاءتهم رسل فكذبوهم كذلك، وعلى هذا فالتكذيب الأول يتعلق بما نُقِلَ وحُكِي لهم، والتكذيب الثاني يتعلق بالامور التي شاهدوها من الأنبياء بأُم أعينهم «2» ويبدو أنّ هذا التفسير مناسب، ولا يبعد الجمع بين التفسيرين.
ج ج
______________________________
(1). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 125.
(2). تفسير روح المعاني، ج 11، ص 143.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 295
1- «وَيَدْعُ الْانْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا». (الإسراء/ 11)
2- «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا». (محمد/ 24)
في الآية الاولى يذكر اللَّه سبحانه وتعالى أحد أسباب الكفر وعدم الإيمان باللَّه وهو عدم دراسة الامور بدقّة وتبحر، ويقول: إنّهم وبسبب إضطرابهم وتسرعهم يتجهون أحياناً نحو الشر بشكل وكأنهم يتجهون نحو الخير والسعادة، ويتجهون نحو الهاوية بشكل وكأنّهم يتجهون نحو مكان آمن ويتجهون نحو الذل والعار كما لو كانوا يتجهون نحو طريق الفخر والعز.
أي أنّ تفكيرهم السطحي وتركهم التدبر يجعل حجاباً على عقولهم يحول دون إدراكهم الصحيح، فيرون- لأجل ذلك- الشرّ خيراً والشقاء سعادة، والضلال صراطاً مستقيماً.
وقد جاء في تفسير الميزان: أنّ المراد بكون الإنسان عجولًا هو: أنّه لا يأخذ بالاناة إذا أراد شيئاً حتى يتروى ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه ويسعى إليه، بل يستعمل هواه في طلبه بمجرد تعلقه به فربّما كان شراً فتضرر به، لكن جنس الإنسان عجول لا يفرق بين الخير والشر بسبب عجلته، بل يطلب كل ما لاح له ويسأل كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير والشر «1».
أمّا المراد من «يَدْعُ» هنا؟ فيقول البعض: أنّه الطلب سواء كان في صورة دعاء أو طلب
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 13، ص 49 (ملخص).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 296
من اللَّه أو كان بصورة طلب عملي أي، السعي لتحصيل الشي ء وبذل الجهود لِنَيْلِهِ «1».
إلّا أنّ المستفاد من بعض التفاسير أنّ المراد هو الدعاء اللفظي والطلب من اللَّه، ولهذا قيل في شأن نزول الآية: إنّها نزلت في حق النضر بن الحارث وهو من مشركي العرب المعروفين حين قال: «اللَّهُمَّ انْ
كَانَ هَذَآ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ»، فاستجاب اللَّه هذا الدعاء وأهلكه «2».
وقد ذكر المرحوم الطبرسي كلا التفسيرين في مجمع البيان ويظهر أنّ معنى الآية يسع كلا التفسيرين.
وقد جاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام في تفسيره لهذه الآية قال فيه: «وَاعْرِفْ طَرِيْقَ نَجاتِك وَهَلَاكِكَ، كَيْلا تَدْعُو اللَّهَ بِشَي ء عَسى فِيْهِ هَلاكُكَ وَأَنْتَ تَظنُّ أَنَّ فِيْهِ نَجاتكَ، قالَ اللَّهُ تَعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا»» «3».
وقد جاء في حديث آخر أنّ آدم نصح أولاده وقال لهم: «كُلُّ عَمَلٍ تُريدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا فَقِفُوا لَهُ ساعةً فَانِّي لَوْ وَقَفْتُ ساعةً لَمْ يَكُنْ أصابَنِي ما أَصابَنِي» «4».
ومن هذا الباب اطلق العرب عبارة «ام الندامات» اسماً للعجلة، كما قيل: أنّ العجلة من الشيطان إلّافي ستة موارد: أداء الصلاة في وقتها، دفن الميت، تزويج البنت الباكر عند بلوغها، أداء الدين عند حلول وقته، إطعام الضيف عندما يحلّ، والتوبة عند اقتراف الذنب.
أمّا ما المراد من الآية «و كان الإنسان عجولًا» وأمثالها الذي ورد في القرآن الكريم والتي تعبر عن نقاط الضعف المهمّة في طبيعة الإنسان؟ وكما ذكرنا في التفسير الأمثل أنّ المراد بالآية الإنسان الذي لم يتخلق باخلاق اللَّه ولم يتربَّ على أساس التربية الرسالية والدينية، لا الإنسان المهذب.
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 13، ص 50، وبما أنّ الباء في «بالخير وبالشر» باء صلة فيكون معنى الجملة هكذا: «يدعو الشر كدعائه الخير».
(2). تفسير القرطبي، ج 6، ص 3841؛ و تفسير الكبير، ج 20، ص 162.
(3). تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 141.
(4). تفسير روح البيان، ج 5، ص 137.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 297
ج ج
وتحدثت الآية الثانية عن فريق من المنافقين المعاندين حيث أُشير إليهم في الآيات
السابقة بصفة عمي القلوب، وإذا تسلموا زمام الحكم ما رحموا صغيراً ولا كبيراً، واعتبرهم اللَّه الملعونين والمطرودين من رحمته، وقال فيهم هنا: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» لا قفل واحد بل أقفال، فكيف يمكنهم إدراك الحقائق؟ (محمّد/ 24)
هناك بحث بين المفسرين في أنّ «أم» متصلة أو منفصلة «1»، فاذا كانت متصلة يكون المعنى هكذا: أفلا يتدبرون القرآن أو أن هناك اقفالًا على قلوبهم؟ وأما إذا كانت منفصلة فالمعنى هكذا: أفلا يتدبرون القرآن؟ كلا، بل إنّ اقفالًا على قلوبهم.
وعلى كلا المعنيين فالآية دليل على وجود تضاد بين «التدبر» و «الحجاب على القلوب»، ويمكن القول: إنّ الآية تشير إلى حجاب ترك التدبر.
وقد جاء في تفسير (في ظلال القرآن): «تدبر القرآن طبقاً لهذه الآية يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب نور المعرفة على القلوب، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير ويجدد الروح ويجعلها اكثر صفاءً واشراقاً» «2».
وقد جاء بعض المفسرين بدليلين لذكر القلوب نكرة في الآية، الأول: أنّها ذكرت نكرة لبيان حال قلوبِهم المروّع، وأنّها قلوب مجهولة مليئة بالقساوة والظلمات.
الثاني: إنّ المراد هو بعض القلوب لا كلها، لأنّ بعضهم لم يصلوا إلى تلك الدرجة من الظلمات بحيث تقفل قلوبهم وتتوقف عن إدراك الحقائق.
وذكر الأقفال بصيغة الجمع إشارة إلى الحجب المختلفة التي تجعل على قلوبهم مثل حجاب النفاق والعناد والغرور وحب النفس وغيرها.
كما ينبغي الإشارة إلى هذه النقطة وهي: إنّ بين «ترك التدبر» و «حجاب القلب» تأثيراً متبادلًا، فكلٌّ منهما يمكنه أن يكون علة للآخر في مرحلة ومعلولًا له في مرحلة اخرى،
______________________________
(1). ينقل الآلوسي في روح المعاني عن سيبويه أنّها متصلة، بينما ينقل عن ابي حيان وفريق آخر أنّها منفصلة (ج 26، ص 67).
(2). تفسير في ظلال القرآن،
ج 7، ص 462.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 298
فتارة ترك التدبر ينشأ عن ظلمات القلب، وتارة اخرى ظلمات القلب تنشأ عن ترك التدبر.
وننهي حديثنا هذا برواية عن الإمام الباقر عليه السلام جاء فيها: «قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدرّ به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده واقامه إقامة القدح فلا كثّر اللَّه هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله واظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع اللَّه العزيز الجبار البلاء وبأولئك يديل اللَّه عزّ وجلّ من الأعداء وبأولئك ينزل اللَّه عزوجل الغيث من السماء فواللَّه لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر» «1».
في البداية نتأمل خاشعين في الآية الكريمة التالية:
«اتَّخَذُوا ايْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ انَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ بِانَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ .
(المنافقون/ 2- 3)
إنّ هذه الآية ناظرة إلى المنافقين، وبالرغم من أنّ النفاق حجاب مستقل بحد ذاته إلَّا أنّ القرآن هنا يذكر موضوعاً آخر في هذا المجال حيث يقول: «بِانَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ .
يعتقد بعض المفسرين: أنّ الأشخاص المعنيين في هذه الآية هم فريق آمنوا ظاهراً وظلّوا كفّاراً باطناً.
______________________________
(1). اصول الكافي، ج 2، باب 13 النوادر، ص 627، ح 1.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 299
إلّا أنّ ظاهر الآية يكشف عن أنّهم في البداية آمنوا حقاً، ثم كفروا بعد ايمانهم، وكان كفرهم هذا متزامناً مع النفاق، لأنّ التعبير ب «ثم» يدل على أن كفرهم حصل بعد الإيمان لا أنّه كان متزامناً مع الإيمان ليكون أحدهما ظاهراً والاخر خفياً، وعلى هذا فالآية تتحدث عن حجاب الارتداد.
ولا عجب في أن يطبع اللَّه على قلب من آمن وذاق طعم الإيمان وحلاوته، وشاهد أنوار الرسالة، ثم كفر كفراً تزامن مع النفاق.
إذا التبس الحق على شخص منذ البداية فعذره يمكن أن يكون وجيهاً، أمّا إذا ارتد عن الإيمان بعد ما عرف الحق وآمن به، فهذا غالباً ما يكشف عن حالة العناد عند هذا الشخص، واللَّه يسلب نعمة المعرفة عن أشخاص كهؤلاء ويطبع على قلوبهم.
بالطبع لا دليل لنا على أنّ كل المنافقين كانوا غير مؤمنين منذ البداية، بل إنَّ فريقاً منهم آمنوا في البداية حقاً ثم ارتدوا كما جاء ذلك في الآية: «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسلامِهِمْ .
(التوبة/ 7)
و هذا النفاق المتزامن مع العناد هو الذي يجعل حجاباً على القلوب.
ونؤكد تارة
اخرى أنّ هذا الحديث لا يدل على الجبر اطلاقاً، لأنّ مقدّمات هذا الحرمان أوجدها المنافقون بأنفسهم.
في البداية نلاحظ خاشعين الآيات الكريمة التالية:
1- «الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ اوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ الَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الَّا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ .
(آل عمران/ 23- 24)
2- «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا انْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَافْئِدةً
نفحات القرآن، ج 1، ص: 300
نفحات القرآن ج 1 349
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَآ ابْصَارُهُمْ وَلَا افْئِدَتُهُمْ مِّنْ شَىْ ءٍ اذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ . (الأحقاف/ 26)
ج ج
يقول بعض المفسرين في شأن نزول الآية الاولى
إنّ رجلًا وامرأة من اليهود زنَيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى الله عليه و آله بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: بيني وبينكم التوراة فإنّ فيها الرجم فمن أعلمكم؟
قالوا: عبداللَّه بن صوريا الفدكي، فأتوا به واحضروا التوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام الذي كان على ملة اليهود وأسلم.
قد جاوز موضعها يا رسول اللَّه، فرفع كفّه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلى الله عليه و آله برجمهما فرجما، فغضبت اليهود لعنهم اللَّه لذلك غضباً شديداً فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية «1».
يقول القرآن في هذا المجال: «الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ اوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ الى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيْقٌ مِنهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ .
ثم يضيف: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الَّا ايَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ .
«يفترون» من
مادة «الافتراء» ومن أصل «فري» الذي يعني القطع وشق الجلد بهدف الإصلاح، إلّاأنّه قد تستعمل في صيغة «الافراء» فتعني القطع بهدف الافساد، و «الافتراء» معناه واسع، أي القطع سواء كان بهدف الإصلاح أو الافساد، بالرغم من استعماله في أغلب
______________________________
(1). تفسير الكبير، ج 7، ص 232.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 301
الأحيان في مجال الافساد والتخريب، كما استعملت هذه المفردة في مجال الكذب والشرك والظلم «1».
أمّا «غرّهم» فمن مادة «غرور» ومشتقة من «غُر» بمعنى ظاهر الشي ء، ولهذا قيل للأثر الظاهر في جبين الحصان «غُرة»، كما تستخدم في القماش إذا طُوي بشكل حيث تظهر عليه آثار الطوي، كما تستعمل هذه المفردة بمعنى الخداع، وكأنّ الطرف المخدوع يُطوى كالقماش «2».
أما «غَرُور» فيعني الشخص والشي الذي يخدع الإنسان، كما تطلق على الشيطان الخادع «3».
وقد قيل في كيفية أن الكذب والافتراء يخدعان الإنسان ويحجبان عنه المعرفة وما ذكر صاحب الميزان:
«إنّ الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به، كما أنّ المدمن على استعمال المواد المخدرة ونحوها يستعملها وهو يعلم أنّها مضرّة غير لائقة بشأنه وذلك لأنّ حالته وملكته النفسانية زيّنت له هذه الامور واضفت عليها نوعاً من الجاذبية بحيث لم تدع له مجالًا للتفكر والاجتناب.
وبعبارة اخرى أنّهم كرروا الكذب ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى اذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم للَّه والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه «4».
______________________________
(1). مفردات الراغب مادة (فري).
(2). مفردات الراغب مادة (غرور).
(3). لسان العرب مادة (غرور).
(4). تفسير الميزان، ج
3، ص 125.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 302
إنّ هذا مجربٌ، فتارة يتفوه الإنسان بحديث كذب ويعلم أنّه كذب وافتراء، وعلى ضوءِ اعادة الحديث يقع في شك منه، ثم يعيده مرات اخرى فيصدق به، حتى يبلغ درجة الاعتقاد بالرغم من عدم واقعيته، فيصير حجاباً أمام رؤيته العقلية السليمة.
وعلى هذه فلا مجال للقول بأنّ الكذابين هم فريق من اليهود وأنّ المخدوعين يمثلون فريقاً آخر.
ج ج
وقد أشارت الآية الثانية إلى قوم عاد، وهم قوم ذو قدرة، كانوا يعيشون في الاحقاف (جنوب أو شمال الجزيرة العربية)، وابتلوا بالريح العاصف إثر تكذيبهم لرسولهم «هود» وإثر ظلمهم وفسادهم في الأرض.
فالآية تقول: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيْمَا انْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيْهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً ... وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ .
إنّ الآية تؤكد أن تكذيبهم المتوالي لآيات اللَّه سبَّب سلب إدراكهم ومعرفتهم، فابصارهم ترى وآذانهم تسمع وأفكارهم تعقل ظاهراً، إلّاأنّ الستار الحاجب حال دون استعانتهم بوسائل المعرفة هذه فابتلوا بعذاب اللَّه.
«يجحدون» من مادة «جحود» ويعني في الأصل نفي شي ء تيقن الإنسان من وجوده أو إثبات شي ءٍ يؤمن الإنسان بعدمه، وبتعبير آخر: الجحود يعني انكار الواقعيات عمداً وعن معرفة «1».
إنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا ما استمر في انكار الحقيقة، فستصبح القضايا التي يؤمن بها بشكل قطعي مورد شك وبشكل دائم، وإذا استمر الانكار أكثر فإنّ قدرته على التمييز تتبدل بحيث يرى الحق باطلًا والباطل حقاً.
______________________________
(1). مفردات الراغب مادة (جحد)، كما يقول الجوهري: إنّ الجحود هو الانكار مع العلم. كما ذكر ذلك صاحب مجمع البحرين في مادة (جحد).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 303
وهناك أسباب وعلل لهذا العمل (أي انكار الواقعيات مع العلم والمعرفة)، فتارة ينشأ عن العناد، وتارة اخرى عن التعصب، وتارة عن الكبر والغرور، وتارة يقدم
الإنسان عليه حفاظاً على مصالحه المادية التي تتعرض للخطر إذا ما كشف عن الحقائق، وتارة لأجل شهوات اخرى، وعلى أيّة حال فإنّ لهذا العمل مردودات سلبية، وهو حدوث حجاب على العقل والفطرة فتنقلبُ قدرة التمييز عند الإنسان رأساً على عقب.
ج ج
إنّ اتباع الظنون والخيالات الباطلة يغير العقل تدريجياً ويحرفه عن جادة المعارف الأصيلة، ويجعل حجاباً أمام عينيّ الإنسان واذنيه.
في البداية نقرأ معاً خاشعين الآية الكريمة التالية:
«وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيْرٌ مِّنْهُم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ . (المائدة/ 71)
إنّ هذه الآية ناظرة إلى فريق من اليهود الذين عاهدوا اللَّه على أن يتبعوا دعوات الأنبياء ويخضعوا لها، إلّاأنّهم كلما جاءهم رسول يأمرهم بما يخالف أهواءهم النفسية نهضوا ضده أو قتلوه.
ثم تضيف الآية: إنّهم حسبوا أن لا تكون فتنة ولا عذاب، وهذا ظن باطل نشأ عن حب الدنيا والكبر والغرور، ظن باطل تدعو إليه الشياطين والأهواء النفسية، وهذا الظن هو الذي ألقى بحجابه على أفئدتهم وأبصارهم وسمعهم فحال دون أن يعقلوا شيئاً، فلم تعد أبصارهم تدرك الآثار المتبقية من المصير المؤلم للاقوام السالفة ولم تعد آذانهم تمتلك
نفحات القرآن، ج 1، ص: 304
قدرة سماع ما يُنقل عنهم، وبهذا فقدوا هاتين الوسيلتين المهمتين للمعرفة- السمع والبصر- من الناحية العملية وظنوا أنّهم في أمان من عذاب اللَّه، وقد حصل لهم هذا الظن من خِلال السير في الأرض ودراسة التاريخ والأقوام السالفة، فما سمعوا عن تلك الأقوام بآذانهم، ولا شاهدوا بأعينهم، بل إنّ ابصارهم وآذانهم وأفئدتهم عاطلة عن العمل فحسبوا أن لا عذاب لهم.
إلّا أنّه بعد انقضاء وطر من الزمن أدركوا خطأهم والتزموا طريق التوبة، وقد وسعتهم رحمة اللَّه فقبل توبتهم.
ومرة اخرى خدعتهم ظنونهم الباطلة فظنوا أنّهم شعب اللَّه المختار في أرضه (بل أبناء اللَّه)، فأسدلت ستائر العمى والصم والجهل على ابصارهم وسمعهم وطُردوا من رحمة اللَّه تارة اخرى.
إنّ هذه الآية تبين بوضوح أنّ الظنون الباطلة وخاصة ظن الأمان من عذاب اللَّه
يجعل غشاوة على الباصر والمسع ويعطلهما عن العمل.
وعلى هذا، فالمراد من «فعموا وصموا» هو أن أعينهم ما بصرت آيات اللَّه والآثار الباقية من الأقوام السالفة، وأنّ آذانهم ما صغت لمواعظ الرسل.
وبديهي أنّ اتباع الظن الباطل لمرة أو مرات لا يترك هذا المردود السلبي لدى الإنسان، بل الاستمرار عليه هو السبب في ذلك.
وهناك أقوال في سبب عطف الجملة الثانية على الاولى ب «ثم» التي تدل على الفاصل الزمني.
فقال البعص: إنّ استعمالها للاشارة إلى مصيرين مختلفين لليهود، أحدهما عندما هاجمهم أهل بابل، والثاني عندما هاجمهم الإيرانيون والروميون وأسقطوا حكومتهم «1»، وقد جاء شرح ذلك في التفسير الأمثل في بداية سورة بني اسرائيل.
وقال البعض: إنّ الجملة الاولى إشارة إلى عهد زكريا ويحيى وعيسى حيث خالفهم
______________________________
(1). تفسير المنار، ج 6، ص 481.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 305
اليهود آنذاك، والعبارة الثانية إشارة إلى عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله حيث أنكروا نبوته ورسالته «1».
وقال البعض: إنّ العبارة الاولى تبين أنّ اللَّه لعنهم وطردهم من رحمته وأعماهم وأصمهم لأجل ظنهم الباطل من أنهم شعب اللَّه المختار، وقد شملتهم رحمة اللَّه بعد ذلك فتاب عليهم ورفع عن قلوبهم ذلك الظن الباطل، فأبصرهم وأسمعهم تارة اخرى كي يلتفتوا إلى حقيقةٍ هي: عدم وجود فرق بينهم وبين غيرهم إلَّابالتقوى
إلّا أنّ حالة الوعي واليقظة هذه لم تستمر عندهم، وتورط بعضهم بنفس الحسبان الخاطي ء القائم على أساس التفرقة العرقية تارة اخرى، فأعماهم وأصمهم اللَّه ثانية «2».
والجمع بين هذه التفاسير ليس متعذراً، ونتيجتها جميعاً واحدة وهي: إنّ الظن الباطل (كظن اليهود أنّهم شعب اللَّه المختار) يمنع الإنسان تدريجياً عن الإدراك والفهم ويحرفه عن جادة الصواب، وإذا كان هذا الظن في بدايته فيقظة العقل محتملة،
ورجوعه عن هذا الحسبان ممكن، أمّا إذا تفاقمت الظنون وتأصلت في ذاته فيصبح الرجوع عنها أمراً غير ممكن.
ج ج
______________________________
(1). وقد ذكر هذا التفسير كاحتمال في تفسير الكبير، ج 12، ص 516 وكذا في تفسير روح المعاني، ج 6، ص 184.
(2). تفسير الميزان، ج 6، ص 71.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 307
إنّ الحجب الخارجية هي الحجب التي تكمن وراء أعمال الإنسان وصفاته وتؤثر على العقل والإدراك والشعور وملكة التمييز وتحول دون معرفة الحقائق، وهي عديدة تشكل مساحة واسعة، وقد أشار اليها القرآن بأساليب متعددة وجميلة.
1- «وَقَالُوا رَبَّنَا انَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَظَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً». (الأحزاب/ 67- 68)
2- «... وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا انْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ اذْ جَاءَكُم بَلْ كُنْتُمْ مُّجْرِمِينَ . (سبأ/ 31- 32)
3- «قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى اذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ اخْراهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هؤُلَآءِ اضَلُّونَا فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَّا تَعْلَمُونَ . (الأعراف/ 38)
نفحات القرآن، ج 1، ص: 308
إنّ الآية الاولى تبيّن حال فريق من الكفار عندما يرون نتيجة أعمالهم عند اللَّه، فيقولون: «رَبَّنَا انَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَظَلُّونَا السَّبِيلَا»، فما كنا نُبتَلى بهذا المصير لولاهم، ثم يقولون: «رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ (عذاباً لكفرهم وعذاباً لأنّهم أضلونا) «وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً».
فهم لا يريدون سوى تبرير أعمالهم بكلامهم هذا، صحيح أنّ لرؤسائهم دوراً في انحرافهم، لكن هذا الأمر لا يسلب عنهم المسؤولية تجاه أعمالهم.
وصحيح أنّ وسوسة القادة المفسدين والزعماء الضالين والمضلين جعلت حجاباً على عقولهم وأفكارهم فحال دون تفكيرهم الصحيح، إلَّاأنّ مقدّمات هذا الأمر هم هيأوها بأنفسهم لأنّهم سلموا أنفسهم عشوائياً إلى هؤلاء من دون احراز أهليتهم للقيادة.
وهناك خلاف بين المفسرين في الفرق بين سادتنا وكبراءنا، أو بالأحرى هل هناك فرق بينهما أم
لا؟
يعتقد البعض أنّ «سادتنا» إشارة إلى ملوك وسلاطين المدن والدول، و «كبراءنا» إشارة إلى الرؤساء المحليين، حيث عُدت طاعة السادة مكان طاعة اللَّه، وطاعة الكبراء مكان طاعة الرسول، فقدرة وصلاحية الفريق الأول أكثر من الفريق الثاني ولهذا قُدِّم.
ويعتقد البعض أنّ السادة إشارة إلى الملوك وأصحاب القدرة، والكبراء إشارة إلى كبار السن، ولهذا يتبعهم بعض الناس.
ويعتقد آخرون أنّ كليهما بمعنى واحد وأنّهما قد وردا للتأكيد «1».
ويبدو أنّ المعنى الأخير أنسب من جميع المعاني السابقة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ «سادة» جمع «سيد» والسيد يعني رئيس السواد (أي الجمع الغفير من الناس، وقد اطلق عليه سواداً من باب أنّه يبدو أسود اللون من بعيد) ثم اطلقت
______________________________
(1). راجع تفسير روح المعاني، ج 22، ص 87؛ تفسير الميزان، ج 16، ص 369؛ الكبير، ج 25، ص 232.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 309
هذه المفردة على كل رجلٍ كبير.
وقد تحدثت الآية الثانية عن الكفار الظالمين الذين إذا ما رأوا نتيجة أعمالهم في الآخرة سعى كلٌّ منهم لإلقاء ذنبه على الآخر، فيقول حينها المستضعفون (أي المغفّلون) للمستكبرين (أي الظلمة وأصحاب السلطة الذين أضلوا الآخرين بأفكارهم الشيطانية):
لولا وساوسكم المغرية والشيطانية لَكُنّا في صفوف المؤمنين، لقد غسلتم أدمغتنا، واتّبعناكم جهلًا، وجعلتمونا آلة بأيديكم لتحقيق مآربكم الشيطانية، وقد فهمنا الآن أنا كنّا على خطأ.
بالطبع لم يخرس المستكبرون عندها، بل يجيبون: «أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ اذْ جَاءَكُم الرسل بالبينات والحجج الكافية؟ إنّكم مخطئون ونحن غير مسؤولين عن ضلالتكم، «بَلْ كُنْتُمْ مُّجْرِمِينَ ومذنبين لأنّكم تركتم ما دعتكم إليه الرسل واتبعتم الأقاويل الباطلة بالرغم من إرادتكم واختياركم.
ج ج
وقد أشارت الآية الثالثة إلى شجار «القادة» و «الأتباع» الضالين في جهنم، فكلما دخلت امّة لعنت الاخرى واعتبرتها هي المسؤولة عن شقائها وعذابها
في الآخرة، ويقول الأتباع يومذاك: «رَبَّنَا هؤُلَاءِ اضَلُّونَا فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» عذاباً لأنّهم ضالّون وعذاباً لأنّهم أضلونا وأغوونا.
فيجيبهم اللَّه: «لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِن لَّاتَعْلَمُونَ .
إنّ مضاعفة العذاب لقادة الباطل أمر متوقع وليس عجيباً، إلّاأنّ مضاعفة العذاب لأتباعهم أمر قد يبدو غريباً للوهلة الاولى لكنا إذا دققنا في الأمر نجد ضرورة مضاعفة العذاب لهم، عذاب: لأجل أنّهم ضالون، وعذاب: لأجل اعانتهم أئمّة الكفر والذود عنهم والقتال دونهم، كما جاء ذلك في حديث للإمام الصادق عليه السلام عندما جاءه أحد أصحابه مُعلناً توبَتُه عمّا قدمة لبني أمية من خدمات، يقول فيه:
نفحات القرآن، ج 1، ص: 310
«لَوْلا أَنَّ بَنِي اميَّةَ وَجَدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُم ويُجْبِي لَهُمْ الفَي ءَ وَيُقاتِلُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ جَماعَتَهُمْ لَما سَلَبُونا حَقَّنا» «1».
تحدث القرآن المجيد مراراً عن المستكبرين «والمستضعفين» وهو موضوع مهم وجدير بالانتباه ويمكن أن يشكل أحد المباحث المستقلة في التفسير الموضوعي، إلّاأنّه ينبغي هنا الإشارة إليه بصورة عابرة مع بيان الآيات التي وردت في هذا البحث.
يقول الراغب في مفرداته: إنّ الكبر والتكبر والاستكبار لها معانٍ متقاربة، ثم يضيف: إنّ للاستكبار معنيين أحدهما: أن يتحرّى الإنسان ويطلب أن يصير كبيراً وذلك متى كان على ما يجب وفي المكان الذي يجب وفي الوقت الذي يجب والثاني أن يتشبّه فيظهر من نفسه ما ليس له وهذا هو المذموم وعلى هذا ما ورد في القُرآن، وهو قوله تعالى «أبَى وَاسْتَكْبَرَ». (البقرة/ 34)
ثم يضيف الراغب: قابلَ المستكبرين بالضعفاء تنبيهاً إلى أنّ استكبارهم كان بما لهم من القوة من البدن والمال «2».
إنّ الاستضعاف يقابل الاسكتبار وهو يعني طلب الضعف وقلة الحيلة، لكن بما أنّ هذه المادة غالباً ما تستعمل في القرآن بصفة (فعل مبني للمجهول) أو (اسم مفعول)، فتعني
الضعف الذي فرض عليهم من قبل المستكبرين.
وقد استعملت في القرآن بصيغة الفعل المبني للمعلوم كما جاء ذلك في فرعون الذي استضعف بني اسرائيل:
«انَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُم .
(القصص/ 4)
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 72 (75)، ص 375؛ سفينة البحار، ج 2، ص 107 مادة (ظلمة).
(2). مفردات الراغب، مادة (كبر).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 311
كما ينبغي ذكر هذه النقطة وهي: أنّ القرآن استعمل مفردة (مُستضعَف) بمعنيين: الأول المظلومون في الأرض، وهم المشمولون بألطاف اللَّه، كما جاء ذلك بالنسبة إلى مستضعفي بني اسرائيل حيث قال اللَّه فيهم:
«وَنُرِيدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ . (القصص/ 5)
والمعنى الثاني وهو المستعمل غالباً في القرآن المجيد: الضعفاء فكرياً بسبب جهلهم وتقليدهم الأعمى وتعصبهم، فيتبعون الظلمة والقادة الضالين عشوائياً، وهؤلاء هم الذين أشارت الآيات المذكورة في أول البحث إلى شجارهم مع المستكبرين في يوم القيامة وصرحت أنّهم يستحقون العذاب المضاعف كالمستكبرين: عذاباً لأجل أنّهم ضالون وعذاباً لاجل أنّهم ساهموا في تثبيت اسس حكومة الجبارين.
لقد جاء في حديث للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «الناس بامرائهم أشبه منهم بآبائهم» «1».
إنّ هذا الشبه يمكن أن يكون من حيث إنّ فريقاً من الناس يتبعون الامراء ويقتدون بهم جهلًا وغفلة ويجعلون قلوبهم ودينهم رهناً لإشارات هؤلاء الامراء وايعازاتهم، ولهذا اشتهر الحديث «الناس على دين ملوكهم».
إنّ هؤلاء الامراء في رأي بعض الناس أبطال وقدوات نموذجية واسوات حسنة وأرفع شأناً من أن يُنتقدوا، وقد يقلّد البعض أنفسهم مناصب مقدسة فيغرروا ببعض الجهلة والعوام، ويجعلوا حجاباً أمام أفكارهم وعقولهم.
ومن المتعارف أنّ هناك فريقاً يعتبر «القدرة» دليلًا على «الحقانية»، ويعتبر المنتصر هو المحق فرداً كان أو جماعة، وهذا الاسلوب من
التفكير جعلهم فريسة للكثير من الأخطاء
______________________________
(1). بحار الأنوار، ج 75، ص 46 كتاب الروضة كلمات علي عليه السلام، ح 57.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 312
والانحرافات في حساباتهم الاجتماعية.
إنّ الملوك والقادة الجبارين أينما دخلوا أفسدوا، وذلك لاستغلال الضعف والعجر الفكري لدى بعض الناس، كما جاء ذلك في القرآن على لسان ملكة سبأ: «قَالَتْ انَّ الْمُلُوْكَ اذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ اهْلِهَا اذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ . (النمل/ 34)
وبالرغم من أنّ هذا الحديث تفوهت به ملكة ظالمة، إلّاأنّ ذكره في القرآن من دون أي نقدٍ من جهة، وصدوره من شخصية ظالمة وخبيرة بما عليه الظّلَمَة من أمثالها من جهة اخرى دليل على واقعية هذا الحديث الشبيه بالاعتراف.
ولهذا أرادت ملكةُ سبأ أن تختبر سليمان هل هو ملك أو نبي حقاً؟ فأرسلت إليه هدايا كي تعرف ردّ فعله تجاهها، وذلك لأنّها تعرف أنّ أفكار الملوك وقلوبهم رهن الهدايا والذهب والفضة والشأن والمقام، بينما الأنبياء لا يهمهم شي ءٌ سوى صلاح الامم.
«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ اذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولا». (الفرقان/ 27- 29)
إنّ هذه الآيات تشرح مشهداً من مشاهد يوم القيامة، وهي لحظات تأسف الظالمين وتأثرهم من أعمالهم إلى درجة حيث يعضون على أيديه.
إنّ تعبير «يعضّ» من مادة «عضّ» ومعناها واضح، والتعبير ب (يعضّ) في العربية
نفحات القرآن، ج 1، ص: 313
وكذا في الفارسية كناية عن شدة التأسف والانزجار، وقد شوهد أنّ كثيراً من الناس إذا ما واجهوا مصيبة عظيمة ناشئة عن سوء عملهم وجهلهم عضّوا على أيديهم أو أصابعهم أو ظاهر أكفّهم، وكأنّهم يريدون عقاب أيديهم لأجل قيامها بهذا العمل.
إلّا أنّ المصيبة إذا لم تكن شديدة جدّاً اكتفوا بعضّ أناملهم كما قال القرآن حاكياً حال الكفار في الآية 119 سورة آل عمران: «وَاذَا خَلَوا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ»، أو اكتفوا بعضّ ظهر احدى اليدين، أمّا اذا كانت المصيبة شديدة جدّاً فتارة يعضّون أيديهم اليسرى واخرى أيديهم اليمنى والذي جاء في الآية الكريمة هو «يَدَيْه» وهذا يكشف عن أنّ المصيبة عظيمة للغاية يوم القيامة، وغالباً ما يقترن العضّ بالتفوه بجمل وأقاويل مفهومها التوبيخ للنفس، ويتحد حينها الكلام مع السلوك في ابراز الغضب.
ويقولون عندها: «لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ معَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ اذْ جاءَنِى إلّاأنّ هذا الخليل ما سمح لهم باليقظة.
وعلى هذا، فهم يعدّون الخليل الضال هو السبب الأساسي لشقائهم، حيث جعل حجاباً أمام أفكارهم وعقولهم حال دون رؤيتهم لجمال الحق.
وهنا أقوال في المراد من «فلان»:
احتمل البعض أنّه الشيطان، حيث ينتخبه الإنسان- أحياناً خليلًا، وذلك بقرينة قوله
في ذيل الآية: «وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا».
ويقول البعض: إنّ المراد منه هو نفس الشخص الذي نزلت في شأنه الآية، أي «عقبة» وهو أحد الكفار المعروفين، أَسْلَمَ وارتد عن الإسلام وتخلى عن الرسول لأجل خليله «أبي»، وقتل في معركة بدر، بينما قُتِل أبي في معركة أُحد «1».
لكن الظاهر أنّ مفهوم الآية- كما يقول البعض- كلّي شامل لجميع الأصدقاء الضالين والموسوسين، وأنّ شأن النزول لا يُخصّصُ الآية أبداً، خصوصاً وأنّ لمفردة
______________________________
(1). تفسير مجمع البيان، ذيل نفس الآية مورد البحث ويقول البعض: إنّ «أُبي» الإنسان الوحيد الذي قتله الرسول بيده طيلة عمره الشريف (تفسير روح البيان، ج 6، ص 205).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 314
«الشيطان» معنى واسعاً يشمل شياطين الجن والانس، كما أنّ ذكر كلمة «فلان» وبصيغة النكرة قرينة واضحة على اطلاق المفهوم «1».
وقد قيل في تفسير «شركاء المشركين» الذين ذُكروا في الآية 137 من سورة الأنعام:
«وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِيْنَهُمْ ، أنّهم المتولون لمعابد الأصنام، حيث كانوا يغوون الناس ويغرونهم لتضحية أولادهم للاصنام، وبهذا التبس عليهم الحق، والقي حجاب على عقولهم وأفكارهم.
وعلى هذا التفسير، فإنّ الآية تُعدُّ شاهداً واضحاً على بحثنا أي أنّ الأصدقاء المضلين يشكلون حجاباً للعقل يمنعه عن المعرفة.
ج ج
يشاهد في الروايات الإسلامية تعابير كثيرة في هذا المجال، تكشف عن أنّ الأصدقاء المنحرفين والمستشارين الضالين يمكنهم السيطرة على فكر الإنسان وتغيير موازين عقله وإغلاق طريق الحق عليه، ونذكر هنا نماذج من الروايات التي تشير إلى ذلك:
1- نصح الإمام علي عليه السلام ابنه الحسن يوماً قائلًا له:
«يا بُني إياك ومصادقة الأحمق فانّه يريد أن ينفعك فيضرك ... وإياك ومصادقة الكذاب فانه كالسراب يُقرّبُ عليك البعيد ويُبعِد عليك القريب» «2».
2- وقد
جاء في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر حول المستشارين:
«ولا تُدْخلن في مشورتك بخيلًا يعدل بك عن الفضل وَيعِدك الفقر ولا جباناً
______________________________
(1). تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 156.
(2). نهج البلاغة الكلمات القصار الكلمة 38.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 315
يُضعفك عن الامور ولا حريصاً يزين لك الشرَه بالجور» «1».
ويستفاد من التعبير الأخير أنّ المستشارين المنحرفين يمكنهم التأثير في فكر الإنسان ويحولون دون الإدراك والمعرفة.
3- وقد جاء في حديث آخر للإمام على عليه السلام:
«مجالسة الأشرار تُورَثُ سوء الظن بالأخيار» «2».
4- وقد جاء في حديث للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:
«المرءُ على دين خليله وقرينه» «3».
وبهذا يتضح تأثير الصديق الصالح أو غير الصالح على كيفية المعرفة واسلوب التفكير.
ج ج
في البداية نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية:
1- «قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَومَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرىُّ* ... فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَآ الهُكُمْ وَالهُ مُوسَى فَنَسِىَ . (طه/ 85- 88)
2- «فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِى زِيْنَتِهِ قَالَ الَّذِيْنَ يُريدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ انَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . (القصص/ 79)
3- «قَالَ أَلْقُوْا فَلَمَّا الْقَوا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ . (الأعراف/ 116)
4- «وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِى انْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
______________________________
(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.
(2). سفينة البحار، ج 1، ص 168.
(3). اصول الكافي، ج 2، ص 375، باب مجالسة أهل المعاصي، ح 3.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 316
النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . (آل عمران/ 72)
5- «أَمْ انَا خَيْرٌ مِّنْ هذَا الَّذِىْ هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُم كَانُوا قَوْماً
فَاسِقِينَ . (الزخرف/ 52- 54)
إنّ الآية الاولى أشارت إلى قصة السامري طالب الشأن والمقام، الذي استغل غيبة موسى عليه السلام اثناء ذهابه إلى طور سيناء (للقاء ربه) لمدّة أربعين يوماً، فجمع ذهب وحُلي بني اسرائيل وصنع منها صنماً في صورة عجل! ويظهر أنّه وضعه باتجاه الريح بحيث يُخرج صوتاً كرُغاءَ البقرة عند هبوب الرياح، وقد عبر القرآن عن هذا الصوت ب «خوار» أي صوت البقرة البطي ء.
إنّه انتهز الفرصة بأُسلوب خاص، حيث قام بعمله هذا بعد مضي خمسة وثلاثين يوماً من غيبة موسى أي عندما أخذت أنوار التبليغ التوحيدي تتضاءل في قلوب بني اسرائيل، حيث كان المفروض أن يَرجِعَ موسى من طور سيناء بعد ثلاثين يوماً، إلّاأنّ اللَّه اخّر ميعاده لامتحان بني اسرائيل فاتمهن أربعين يوماً.
يقول القرآن في هذا المجال: «قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَا قَومَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرىُ .
وعلى أيّ حال فإنّ انحراف بني اسرائيل (الذين ينقل أنّ عددهم بلغ الستمائة ألف) عن طريق التوحيد الخالص إلى الشرك والكفر وعبادة الأصنام ليس بالأمر الهين، إنّ الآيات التي جاءت في هذا المجال في سورة «طه» وغيرها من السور وكذا التواريخ والتفاسير تكشف عن أنّ السامري كان يستعين بأسلوب خاص من الاعلام والتبليغ للإستحواذ على أفكار الناس وغسل أدمغتهم، بحيث جعل حجاباً على عقولهم، فظنوا (بسبب ذلك
نفحات القرآن، ج 1، ص: 317
الحجاب) أنّ هذا العجل هو إله موسى !
والعجيب هنا أنّ الأمر بلغ ببني اسرائيل إلى حَدٍّ حيث رددوا ما قاله السامري: «هذا إله موسى ، والتعبير ب «قالوا» شاهدٌ على هذا.
والتعبير الأخير دليل واضح على تأثير إعلام السامري الشديد، إنّه كان يستثمر إعلامه في الجهات التالية:
1- انتهاز فرصة غيبة موسى
2- تمديد غيبته إلى
أربعين يوماً.
3- الاستعانة بالذهب والحلي التي كانت ثمينة بالنسبة لبني اسرائيل.
4- استثمار الأرضية المساعدة والنمحرفة مثل طلبهم من موسى جعل صنمٍ إلهاً عندما نجوا من الغرق في النيل، ومرّو بقوم يعبدون الأصنام: «قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ». (الأعراف/ 138)
5- مكانته الاجتماعية عند بني اسرائيل واعتمادهم عليه إلى حدٍ حيث كانوا يولون له قدسية خاصة ويعدونه ربيب جبرئيل «1»!
6- حب ضعفاء الفكر لألهٍ محسوس، وعدم التفاتهم إلى أنّ اللَّه بعيد عن التجسيم والصفات الجسمانيه، حيث بلغ بهم الأمر أن طلبوا من موسى رؤية اللَّه جهرة كما عكس القرآن ذلك في الآية الخامسة والخمسين من سورة البقرة.
إنّ هذه الامور واموراً اخرى سببت انحراف بني اسرائيل عن جادة التوحيد بالكامل، واغواءهم بتبليغ السامري واعلامه وفي النهاية عبادتهم للأصنام.
ولهذا، عندما رجع موسى وعلم بهم، وبيّن القبح الشديد لعملهم هذا، استيقظوا من غفوتهم وصرخوا قائلين: ندمنا! ندمنا! واستعدوا لأجل قبول توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً كفارة لذنبهم العظيم (البقرة/ 54).
______________________________
(1). تفسير روح الجنان، ج 7، ص 482؛ تفسير روح البيان، ج 5، ص 414؛ دائرة المعارف- دهخدا- مادة (ساري)، (بالفارسية).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 318
وعلى أيّ حال، فإنّ الآية دليل واضح على حجاب الاعلام المضلل.
ج ج
وتحدثت الآية الثانية عن «قارون» الغني والمعروف في بني اسرائيل الذي قام يوماً باستعراضٍ لثروته أمام بني اسرائيل.
لقد نُقِل في التواريخ قصص كثيرة في هذا المجال، فكتب بعضهم: ظهر قارون مع فريق يُعدّ بأربعة آلاف رجل وامرأة من الخدم والحشم والجاريات، فالرجال على خيولٍ أَصيلة، بألبسة حمراء، والجاريات على بغال بيض سروجها من ذهب، والجميع مزينون بالحلي والحلى والذهب والمجوهرات «1».
وقد قدر البعض عدد أفراد قارون بسبعين ألفاً، وإذا لم نعتبر هذه الأرقام
واقعية، فتعبير القرآن: «فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِى زِيْنَتِهِ يكشف عن عظمة تلك اللقطة، وقد يكون عمله هذا من أجل تحدي واغضاب موسى عليه السلام، أو تثبيتاً لقدرته في بني اسرائيل، أو أنّه جنون عرض القوة والثروة اللتين يُبتَلى بهما كثير من المتمولين والأغنياء، وعلى أيّ حال، فإنّ تلك اللقطات والاعلام المتزامن معها كان بدرجة من العظمة سلبت عقول الكثير من بني اسرائيل وَأَلْقَتْ بستار على أرواحهم حتى جعلتهم يتمنون أن تكون لهم ثروتهُ وقدرته، ويعدونه سعيداً و «ذو حظٍ عظيم».
وبعد ما جاء ذلك اليوم الذي خسف اللَّه الأرض بقارون وثروته بسبب جرائمه وأعماله المشينة، وعلم الجميع بما حَلَّ بِهِ استيقظوا من غفلتهم وأبدوا سرورهم من حيث إنّهم لم يكونوا مثل قارون.
إنّ تأثير الاعلام لا ينحصر على ذلك الزمان فحسب، بل يشمل في كل عصر وهذا أمرٌ لا يُنكر، وان كثيراً من جبابرة الماضي والحاضر يستعينون باستعراض قوتهم وامكانياتهم كاستعراض قارون لأجل تخدير أفكار الناس، وتسخيفها، وسحر أعينهم، وقد
______________________________
(1). راجع تفاسير الكبير والقرطبي وروح المعاني في ذيل الآيات في سورة القصص.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 319
جَنَوا ثمار مثل هذه الاستعراضات ولا يزالون، وإنَّ العلماء والمفكرين الراسخين هم فقط القادرون على رفع هذه الحجب عن أفكارهم وأفكار غيرهم، وتبيان الوجوه الحقيقية لهؤلاء الجبابرة.
ج ج
و قد بينت الآية الثالثة جانباً من جوانب مقارعة موسى للسحرة، الذين دعاهم فرعون من جميع أرجاء مصر واغراهم بالكثير من الوعود، والذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف من السحرة طبقاً لبعض الروايات، وبخمسة عشر الف ساحر طبقاً لرواياتٍ اخرى (يحتمل أن يكون هذا العدد متعلقاً بنفس السحرة وأعوانهم وعمالهم، كما ينبغي الالتفات إلى أنّ السحر كان رائجاً في ذلك العصر بكثرة).
وقد اجتمع لأجل ذلك جمعٌ غفير
من الناس عند الضحى في يوم كان عندهم عيداً (كما عبّر عنهُ القرآن «يوم الزينة» و «ضحى في الآية 59 من سورة طه، وقد كشفت القرائن عن أنّ فرعون كان واثقاً من انتصار السحرة على موسى عليه السلام، وذلك لأنّه كان قد سخر جميع وسائل الاعلام لخدمة هذه القضية.
تقول الآية: «فَلَمَّا الْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ .
وينبغي هنا معرفة مفردتي «الاسترهاب» و «السحر» جيداً لفهم الآية.
جاء «السحر»- لغة- بمعنيين، الأول هو الخدعة، والثاني هو الشي ء الذي غمضت عوامله وكانت غير مرئية، وقد أرجع البعض كلا المعنيين، إلى معنى واحد وقالوا:
إنّ حقيقة السحر هي قلب الشي ء من حقيقته إلى شكل آخر «1».
و كما قلنا في المجلد الأول من التفسير الأمثل عند تفسير الآية 102 من سورة البقرة:
أنّ السحر غالباً ما يعتمد على الخواص الكيمائية والفيزيائية للمواد التي لم يعرفها الناس إلّا أنّ السحرة يعرفونها جيداً وقد اعتمدوا عليها كلياً، كما أنّه جاء في التفاسير حول قصة
______________________________
(1). راجع قاموس اللغة، ومفردات الراغب، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم، وتاج العروس.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 320
مقارعة موسى عليه السلام للسحرة، إذ يحتمل أنّ ما جاء به السحرة هو مجموعة من العصي والحبال الجلدية الجوفاء والمليئة بمادة الزئبق الفرّار، وبما أنّ الحركة والتمدد الشديد من خواصه عند ارتفاع درجة حرارته، فعندما ألقوا هذه العصي والحبال بدأت بالحركة والقفز والتقلص والانبساط بفعل حرارة الشمس أو الحرارة المنبعثة من المكان الذي يحتمل وجود مصدر حرارتي تحته «1».
وقد يستعين السحرة في عروضهم- أحياناً- بالشعوذة وخفة اليد، فيرى الناسُ أشياءً لا واقع لها، وقد شاهد كثير من الناس نماذج من هذه العروض، وقد ينشرون مواد كيميائية خاصة عن طريق العطور وتبخير اعشاب
معينة بحيث تؤثر على الحاسة الباصرة وحاسة السمع بل وحتى على اعصاب الحضور لتمثيل صورٍ غير واقعية أمامهم.
كما يحتمل أنّهم يستعينون بالتنويم المغناطيسي والتلقين بحيث تتمثل صور غير واقعية أمام الناس.
بالطبع هناك قسم آخر من السحر يحتمل استعانة السحرةُ به وهو تسخير الجن أو بعض الأرواح (وهذه خمسة طرق رئيسية للسحر).
وقد يطلق السحر على معنى أوسع من المعاني السابقة، فيقال لمن حسن بيانه «له بيان ساحر» كما جاء في الحديث: إنّ الفتنة سحر، لأنّها تفرق بين الأحبّة، إلَّا أن الذي جاء في الآية هو «سحروا أعين الناس» وهو التلاعب بباصرة الحضور بحيث يجعلهم يرون اموراً لا واقع لها، فيرون حية تسعى وإن لم يكن هناك حية أبداً، والشاهد على هذا الحديث هو الآية: «فَإِذا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ الَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى .
(طه/ 6)
(مع أنّها لا تسعى ولا تتحرك لكن الزئبق- احتمالًا- هو الذي جعلها تبدو هكذا).
وأمّا «استرهبوا» فمن مادة «رَهْب» وهو الخوف المتزامن مع التحفظ والاضطراب (كما
______________________________
(1). راجع تفسير روح المعاني، ج 9، ص 22؛ التفسير الكبير 14، ص 203؛ تفسير روح البيان، ج 3، ص 213؛ تفسير المنار، ج 9، ص 66 وتفاسير اخرى.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 321
يقول الراغب في مفرداته) وقد فسر كثير من المفسرين الاسترهاب بالارهاب أي ايجاد الخوف والاضطراب، والتعبير هذا يكشف بوضوح عن استعانتهم بوسائل الاعلام والتلقين إضافة إلى سحر (وغالباً ما يستعين السحرة بهذين الأمرين، بل القسم الأعظم من موفقيتهم يرجع اليهما وإلى حسن القيام بهما).
وقد نقل أنّ مساحة المحل الذي عُدَّ لهذا الأمر كان ميلًا في ميل «1»، كما نقل أيضاً أنّهم أعدوا جبلًا من الحبال والعصي التي تبدو وكأنّها أفاعي تسعى «2».
ثم خاطب السحرة الناس بأقاويل
مثل: أيها الناس ابتعدوا عن الساحة لكي لا تمسكم الأفاعي بضرر لأنّها خطرة ومخيفة! وأمثال هذه التعابير التي أُشير إليها في بعض التفاسير «3»، وقد تأثر بهم الناس كثيراً لأنّهم سحروا أعينهم وقلوبهم، وبهذا ألقوا بحجبهم على حواس الناس وعلى عقولهم للحيلولة دون إدراك الحقائق والواقعيات.
ج ج
لقد كشفت الآية الرابعة عن احدى المؤامرات الاعلامية التي حاكها اليهود ضد الإسلام، والتي كان هدفها تضعيف عقيدة المسلمين بالإسلام، وقصتها: أنّ فريقاً منهم أسلموا وآمنوا ظاهراً في النهار وارتدوا عن الإسلام في الليل، وعندما سئلوا عن سبب رجوعهم عن الإسلام قالوا: إنا لاحظنا صفات محمد صلى الله عليه و آله من قريب فوجدناها لا تتطابق مع كتبنا الدينية وأحاديث علمائنا فرجعنا عنه.
إنّ هذه الحملة الاعلامية سببت في ارتداد قوم من المسلمين عن الإسلام، إذ قالوا:
إذا ارتدّ عن الإسلام أهل الكتاب الذين هم أفهم منّا ويعرفون القراءة والكتابة، فلابدَّ وأنّ الدين باطل ولا أسس قوية له، وبهذا استطاعوا أن يشوشوا على أفكار البسطاء من الناس
______________________________
(1). تفسير روح المعاني، ج 9، ص 22.
(2). تفسير المنار، وقد نقل هذا الحديث عن مفسر باسم ابن اسحاق، ج 9، ص 66.
(3). التفسير الكبير، ج 14، ص 203.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 322
ويلقوا بحجاب فتنتهم على عقولهم.
إنّ مفردة «طائفة» في عبارة «وقالت طائفة» من مادة «طواف» وتعني فريقاً من الناس بشكل حلقة، وكأنّهم يطوفون حول موضوع ما، والمراد منها على ما يقول بعض المفسرين: هو الاثنا عشر يهودياً من يهود خيبر أو المدينة أو نجران، حيث تألموا كثيراً عند تغير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فحاكوا هذه المؤامرة «1».
إنّ التعبير ب «وجه النهار» إشارة إلى بداية النهار لأنّ الوجه أول شي ء يواجهه الإنسان، وهو
أشرف عضو، بالطبع أنّ الآية حكت المسألة كاقتراح اقترحه البعض ولم تتكلم عن تنفيذ هذا الاقتراح، إلّاأنّ القرائن أثبتت أنهم نفذوا مؤامرتهم بعد ما حاكوها، وإلّا فيُستبعد أن يذكره القرآن باهتمام بالغ، والآيات اللاحقة تحكي عن هذه الأهميّة.
لكننا نعلم على أيّة حال، أنّ خطتهم الإعلامية هذه لم تترك أثراً ملحوظاً في قلوب المؤمنين الذين طهُرت قلوبهم.
ج ج
إنّ الآية الخامسة والأخيرة بيّنت كذلك جانباً من جوانب مقارعة موسى عليه السلام لفرعون، فعندما اتّجهت الأنظار إلى موسى وكادت القلوب أن تهتدي والأفكار أن تُصحح، قام فرعون بحملةٍ اعلامية شديدة سعياً منه لحرف الناس عن اتجاههم نحو دين موسى وقد انعكس في هذه الآية جانب من جوانب الاعلام الفرعوني المضلل.
اعتمد اعلامه في البداية على ذكر شرفه العائلي ونسبه، وقال: «أنا خير من هذا الشخص مشيراً إلى موسى» الذي ينحدر من عائلة فقيرة حيث يعمل راعياً وعبداً من عبيد بنى اسرائيل.
و هو لا يملك قدراً من الفصاحة وأنا افصح منه.
وفضلًا عن ذلك «فلو لا القي عليه اسورة من ذهب» أي لِمَ لم يكن له سوار من ذهب
______________________________
(1). التفسير الكبير، ج 8، ص 85؛ تفسير روح المعاني، ج 3، ص 176؛ تفسير القرطبي، ج 2، ص 1354.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 323
الذي كان يُعد علامة وبيان لشخصية صاحبه.
ثم انّه إذا كان صادقاً لِمَ لم يأتِ بملائكة معه كي تكون شاهداً وعلامة على صدق كلامه؟
وبهذه الحجج الأربع ادّعى بطلان نبوة موسى عليه السلام.
يقول القرآن في هذا المجال: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فأَطَاعُوهُ .
إنّ «استخف» من مادة «خفيف» والمراد منه هنا هو أنّ فرعون سعى لأنّ يستخف عقول قومه، جاء في تفسير مجمع البيان: إنّ فرعون استخف عقول قومه فأطاعوه فيما دعاهم إليه لأنّه احتج
عليهم بما ليس بدليل وهو قوله: أليس لي ملك مصر ... الخ «1» (واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لاغرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولًا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ولا يعودون يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادتهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين) «2».
والجدير بالذكر أنّ القرآن يقول في نهاية الآية: إنّهم أطاعوه واستسلموا لإعلامه، وذلك لأنّهم مذنبون وفاسقون، وهو يشير بذلك إلى أنّ المؤمن الهادف والواعي لا يكون عرضة لظاهرة غسل الأدمغة، بل الفسق والذنوب هي التي تهيى ء الأرضية لتقبل إعلام باطل كهذا.
وبتعبير آخر: فإنّ «النفس الامارة» من الداخل، و «الوساوس الشيطانية» من الخارج يتعاضدان فيكتمان المعرفة عن الإنسان.
ج ج
______________________________
(1). تفسير مجمع البيان، ج 9،، ص 51.
(2). تفسير في ظلال القرآن، ج 7، ص 340.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 324
إنّ هذه القضية في عصرنا الحاضر أوضح من أن تبحث أو تُناقش، كما أنّها لم تخفَ على الناس في العهود الغابرة.
إنّ الجبابرة الذين أرادوا فرض إرادتهم وحاكميتهم على الناس، توسلوا بوسائل إعلامية مختلفة لغسل أدمغة الناس، بدءً بالمكاتيب القديمة وانتهاءً بالمحاريب والمنابر، وأخذاً برواة القصص والأساطير في المقاهي، وانتهاءً بالكتب العلمية.
والخلاصة: إنّهم استعانوا بجميع الوسائل المضلِّلة للوصول إلى مآربهم، من تحريف التاريخ، وأشعار الشعراء، وثناء المداحين، ومراكز التقديس والاحترام عند الناس، واختلاق الأساطير والكرامات والقيم غير الواقعية، وغيرها من الوسائل، فانّهم يستطيعون بوسائل الاعلام هذه أن يصوروا الشيطان ملكاً أو إنساناً محترماً، وذلك كله من أجل الوصول إلى مآربهم.
وقد جاء في بعض التواريخ الإسلامية المعروفة أن طاعة أهل الشام لمعاوية بلغت درجة عجيبة، وننقل هنا عبارة
المسعودي في هذا المجال:
«لقد بلغ من أمرهم في إطاعتهم له أنّه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء» «1».
والقصة التالية قصة معروفة (وَلَوْ لَمْ تكن مرويّةً في كتب التاريخ لكان قبولها صعباً)، حيث إنّ رجلًا من أهل الكوفة قدم دمشق راكباً جملًا في وقت كان أهل الشام يرجعون من صفين، فرآه رجل دمشقي فقال له: إنّ هذه الناقة لي وأنت أخذتها مني في صفين، فتنازعا فاشتكى الشامي عند معاوية (وكأنّها اتخذت صبغة سياسية) وجاء بخمسين شاهداً على أنّ هذه الناقة له، فقضى له معاوية على أساس الشهود.
فصرخ الكوفي قائلًا لمعاوية: إنّ هذا جمل وليس ناقة (انثى الجمل)، وطلب منه أن
______________________________
(1). مروج الذهب، ج 2، ص 72.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 325
يلاحظها بنفسه، فأدرك معاوية صدق الكوفي فيما يقوله، لكن رغم ذلك قال له: إنّ الحكم صدر وانقضى وبعد ما تفرّق الناس أرسل معاوية رجلًا إلى الكوفي، فأتاه وأعطاه ضعف قيمة جمله، وقال له: «أبلغ علياً أنّي اقابله بِمِائةِ ألفٍ ما فيهم من يُفرق بين الناقة والجمل» «1».
وخلاصة القول: إنّ في التاريخ شواهد ونماذج كثيرة تكشف عن كيفية إغواء الطغاة والساسة لأُمم عظيمة وغسل أدمغتهم بحيث ضلوا حَيارى في متاهات الدروب، وابتلوا بمصائب كثيرة، وعند استتباب الأوضاع ورجوعها إلى حالتها الطبيعية، وعند سقوط الجبار المضل، وارتفاع حجب الاعلام، يستيقظ بعض الناس وينتبهون لماضيهم فيتأسفون ويندمون كثيراً.
وفي العصر الحاضر اكتسب الاعلام قدرة عظيمة بدرجة انَّ في بعض الدول المتقدمة- اصطلاحاً- تأخذ وسائل الاعلام بأيدِ الشخصيات العلمية والمفكرين الواعين نسبياًصناديق الاقتراع ليصوتوا للشخصيات التي تدعو إليها وسائل الاعلام تلك، وقد يتصور أنّهم احرار على الاطلاق، بينما لا خيار لهم من جراء وسائل الاعلام تلك.
إنّ اتساع
وسائل الاعلام المسموعة والمرئية واستعانتها بفنون علم النفس يزيد في تأثير الاعلام على النفوس بدرجة يَحارُ فيها الخارجون عن دائرة الاعلام والمتمكّنون من متابعة الامور من دون رأي مسبق فيها.
إنّ هذا الأمر لم ينحصر في الامور السياسية فحسب، بل في الامور الاقتصادية كذلك، فإنّ وسائل الاعلام يمكنها بحملة إعلامية أن تسوق المجتمع نحو استهلاك سلعة قد تكون اعتباطية أو مضرة أحياناً، وبهذا يُفرض على المجتمع اقتصادٌ سقيم.
إنّ الاستعانة بعناوين وقيم كاذبة مثل الاستعانة بعنوان «موديل» أحد أوسع وأعقد الطرق للوصول إلى هذه الأهداف غير المشروعة.
كما أنّه يستعان بالاعلام الثقافي الغامض لفرض المذاهب الفكرية المختلفة على الشعوب، فتارة يُفرض مذهب باطل وعارٍ عن الاسس المنطقية، وكأنه مذهب فلسفي منطقي إنساني.
______________________________
(1). مروج الذهب، ج 2، ص 72؛ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج 4، ص 956.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 326
وعلى أيّة حال، فمما لا شك فيه أنّه ينبغي رفع هذه الحجب عن المجتمع وتصحيح اتّجاه المعرفة فيه، كما ينبغي عدم ترك وسائل الاعلام أن تفكر وتقرر بدلًا عن المجتمع، بل يحدد عملها في توعية الناس، وتهيئة الأرضية لهم لاتخاذ القرارات الصحيحة.
ينبغي أن لا يكون هدف وسائل الأعلام الجماعية هو وضع الحجب على عقول الناس والتعتيم عليهم، بل ينبغي أن يكون الهدف هو رفع حجب التعصب والجهل والغفلة والتقليد العشوائي عن العقول، وهذا هو البرنامج الراقي لوسائل الاعلام في مجتمع رشيد ونموذجي، والمؤسف في عصرنا الحاضر هو قلة مثل هذه المجتمعات.
إنّ النقص في وسائل الاعلام هو أنّها بيد الساسة، والأسوء من ذلك أنّها بيد العمالقة الاقتصاديين الذين يوجهون الناس أين ما شاءوا.
ج ج
في البداية نتمعن خاشعين في الآيات الشريفة التالية:
1- «فَلَوْلَا اذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . (الأنعام/ 43)
2- «وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَايَهْتَدُونَ . (النمل/ 24)
3- «وَعَاداً وَثَمُودَا وَقَدْ تَّبَيَّنَ لَكُمْ مِّنْ مَّساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ . (العنكبوت/ 38)
4- «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَانَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ . (الزخرف/ 36- 37)
5- «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ الى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً». (الأنعام/ 112)
6- «انَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى ادْبَارِهِمْ مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ
نفحات القرآن، ج 1، ص: 327
وَأَمْلَى لَهُمْ . (محمد/ 25)
7- «يَا ايُّهَا النَّاسُ انَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَاتَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ». (فاطر/ 5)
كلمة «الشيطان» خلافاً لما يظنّ البعض- ليس اسماً خاصاً بابليس وعلماً له، بل له مفهوم عام، وعلى ما يُصطلح عليه فهو «اسم جنس» يشمل كل موجود متمرد وباغ ومخرّب، سواء كان من الجن أو الانس أو شيئاً آخر.
وهنالك قولان في أصل هذه المفردة:
القول الأول هو القائل بأنه من مفردة «شُطُون» أي البُعد، ولهذا قيل للبئر العميق والبعيد قعره عن متناول الأيدي «شَطون»، ويقول «خليل بن أحمد»: إنّ شَطَن تعني الحبل الطويل، وبما أنّ الشيطان بعيد عن الحق وعن رحمة اللَّه استعملت هذه المفردة فيه.
والقول الثاني هو القائل بأنه من مادة «شَيْط» ويعني الالتهاب والاحتراق غضباً، وبما أنّ الشيطان خلق من نار واشتعل غضباً عندما أُمر بالسجود إلى آدم عليه السلام أطلقت هذه المفردة عليه وعلى الموجودات الاخرى من أمثاله «1».
«الغَرور»: من مادة «غُرور» أي الخدعة والحيلة والغفلة عند اليقظة، وقد
اطلقت هذه المفردة على الشيطان لأنّه يغرّ الناس بخدَعِه وحِيَله ويخرجهم عن الطريق الصواب، ويغيّر رؤيتهم للحق والباطل.
«الغَرور»: كل شي ء يغرّ ويخدع، وهو أعمّ من المال والمقام والشهوة والشيطان، وإذا فسّر أحياناً بالشيطان فقط فذلك لأنّه أخبث الخادعين والماكرين.
أمّا «التسويل» فمن مادة «سُؤْلَ» وفي الأصل يعني الحاجة والامنية التي ترغب النفس
______________________________
(1). التحقيق في كلمات القرآن الحكيم؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب ومجمع البحرين مادة (شيطان).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 328
فيها، والتسويل يعني تزيين الشي ء بشكل حيث تشتاق إليه النفس، كما جاء بمعنى تزيين الأشياء القبيحة.
هذا التفسير ذكره الراغب في مفرداته، إلَّاأنّه يستفاد من صِحاح اللغة وكتاب العين، أن معناها في الأصل هو الاسترخاء المتزامن مع الغرور والغفلة، ولهذا اطلقت هذه المفردة على تزيين الامور غير السائغة واظهار عكس ما هي عليه وبشكل سائغ، بحيث يُخدع الإنسان من جرائها ويسترخي.
وعلى أيّة حال، فإنّ المراد من تسويلات الشيطان في الآيات هو إظهار القبح حسناً بشكل يخدع الإنسان ويحرفه.
تحدثت الآية الاولى عن فريق من الأقوام السالفة الذين أُرسل إليهم رسلٌ ليؤمنوا ويسلموا أنفسهم للحق، إلّاأنّهم اعرضوا عن ذلك، فأنزل اللَّه عليهم بأسه، فابتلاهم بمختلف المشاكل والمصائب والحوادث الصعبة، والفقر والمرض والقحط وغير ذلك، كي يوقظهم من غفلتهم، ولكي يخضعوا للحق، إلّاأنّهم اتخذوا السبيل المنحرف بدل سبيل الرشاد والرجوع إلى الحق والتوبة.
يقول القرآن في هذا المجال: لماذا لم يتضرعوا بالرغم من مجي ء بأسنا لهم؟ ثم يعدُّ أسباب هذا الأمر ويقول: الأول هو «قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فما كادت تخضع للحق.
والثاني هو: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، بحيث أصبحوا يرون المعاصي صواباً والقبح جمالًا، وقد نفذ الشيطان هنا من طريق عبادة الهوى
وبتعبير آخر: لم تؤثر فيهم لا مواعظ الأنبياء
اللفظية، ولا مواعظ اللَّه العملية والتكوينية، وعامل هذا الحجاب هو قسوة القلوب من جهة، ومن جهة اخرى تزيين الشيطان لهم، بحيث سلب منهم روح التضرع والخضوع.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 329
هناك بحث بين المفسرين في المراد من «تزيين الشيطان»، فيقول البعض: إنّه الوساوس الشيطانية التي تبدو المحاسن فيها قبائحاً والقبائح فيها محاسناً، أو العوامل الخارجية التي تزين للإنسان سوءَ أعماله، كما تُجعل المواد السامة في غلاف مُغرٍ وجميل، وكما يُدعى للانحرافات الكبيرة تحت غطاء التمدن والأفكار النيرة والحرة.
وتحدثت الآية الثانية عن هدهد سليمان عندما قدم من رحلته إلى بلاد الملكة سبأ، فبعد حكايته لقصة سبأ وحضارة بلادها العظيمة قال: «وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ .
إنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الهدهد بالرغم من محدودية عقله وذهنيته الخاصة به وبعالمه يدرك بالاجمال حجب المعرفة، ويعرف أنّ الشيطان يجعل ستاراً على فكر الإنسان يحول دون تمكنه من إدراك الحقائق ويغلق أبواب المعرفة عنه ويحول دون وصول الإنسان إلى مراده المنشود.
وقد بحثنا امكانية اطلاع الحيوانات على عالم الإنسان، كما بحثنا مدى معرفتها لهذا العالم في تفسير الأمثل ذيل الآية 18 من سورة النمل، وفي ذيل الآية 38 من سورة الأنعام.
كما تحدثنا في ذيل الآية نفسها عن كيفية طي الهدهد المسافة الطويلة بين الشام واليمن ووصوله إلى بلاد سبأ.
ج ج
وقد تحدثت الآية الثالثة عن قوم عاد وثمود وطغيانهم وعصيانهم ثم هلاكهم، كما عرضت على عرب الحجاز مدنهم الخربة التي يمرون بها عند رحلاتهم إلى الشام واليمن كعبرة لهم، ثم أشارت إلى السبب الأساسي في إهلاكهم وهو تزيين الشيطان لأعمالهم بحيث ما كادوا يبصرون شيئاً ولا يعقلون رغم امتلاكهم للابصار والعقول، وقد قالت
الآية: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ .
إنّ عبارة «وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ - كما يقول كثير من المفسرين- تعني غفلتهم وعدم
نفحات القرآن، ج 1، ص: 330
تدبرهم في الحقائق بالرغم من امتلاكهم للعقول والحواس واقتدارهم على الاستدلال والتمييز بين الحق والباطل «1».
وقد جاء في تفسير الميزان: «إنّهم كانوا يعرفون طريق الحق بفطرتهم إلّاأنّ الشيطان زيَّن لهم أعمالهم فمنعهم عنه» «2».
ويقول البعض: إنّ المراد من العبارة هو معرفتهم للحق بواسطة دعوة الأنبياء وتعاليمهم «3».
إنّ الآية بجميع تفاسيرها (سواء قبلنا أحدها أو قبلنا الجميع لعدم المنافاة بينها) شاهد على ما قلناه من أن تزيين الشيطان يجعل حجاباً على عقل الإنسان وفكره.
ج ج
وقد بينت الآية الرابعة بصورة عامة مصير الذي يعشو عن ذكر اللَّه ويغفل عنه وقالت:
«وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمانِ ... وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .
ذَكر المفسرون وأئمة اللغة معنيين لفعل «يَعْشُ»، فقال بعض: إنّه ظلام خاص يحلُّ في ا لعين يفقد الإنسان من جرائه بصره ويكون أعمى أو أعشى (أي لا يرى في الليل) وهو من مادة «عَشَى ، كما يقال «عشواء» للجمل الذي لا يرى أمامه ويخطأ عند المشي، وعبارة «خبط عشواء» إشارة إلى هذا المعنى
وعلى هذا فيكون معنى الآية الشريفة هو: إنَّ الذي لا يرى آيات اللَّه في الكون بعينه، ولا يسمع من انبيائه، فانه سيقع في فخّ الشيطان وتسويلاته.
وقال بعض آخر: إنّها من مادة «عَشْو»، وعندما تستعمل مع «إلى فتعني الهداية ببصر ضعيف، وعندما تستعمل مع «عن» فتعني الإعراض «4».
______________________________
(1). تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 283؛ تفسير روح البيان، ج 6، ص 468، كما نقل هذا عن بعض المفسرين في تفسير القرطبي.
(2). تفسير الميزان، ج 16، ص 131.
(3). التفسير الكبير، ج 25، ص
66.
(4). يقول بعض المفسرين: إنّ هذه المفردة إن كانت من مادة (عَشَا، يَعْشو)، فتعني التعامي من دون أن تكون علة في بصره، أمّا إذا كانت من مادة (عَشَى يَعْشا)، فتعني حصول علة في بصره، تفسير روح البيان، ج 8، ص 368، وينبغي الالتفات هنا إلى أنّها في الآية من باب (عَشَا، يَعْشو).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 331
وعلى هذا فيكون المراد من الآية هو: إنّ الذين يعرضون عن ذكر اللَّه فَنُقَيِّضُ ونسلط الشيطان عليهم «1».
إنّ «نُقَيّضُ» من مادة «قَيْض» وتعني قشر البيض ثم استعملت بمعنى الاستيلاء، واستعمال هذه المفردة في الآية أمرٌ مثير، حيث يكشف عن أنّ الشيطان عندما يَنْقَضُّ على الإنسان يحيط به من جميع الجهات، ويقطع اتصاله بالخارج بالكامل كما تفعل قشرة البيض بالبيض، وهذا أسوء أنواع حجب المعرفة التي يُبتَلى بها الإنسان، كما أنّ هناك مثلًا عند العرب يقرب معنى الآية للأذهان «استيلاء القيض على البيض».
والأسوء من هذا هو أنّ احاطة الشيطان بالإنسان واستيلاءه عليه ومقارنته له تستمر إلى درجة تجعله يفتخر بضلالته ويحسب أنّ طريقه هو طريق الحق والهداية «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .
ج ج
وقد تحدثت الآية الخامسة عن شياطين الانس والجن الذين نصبوا العداء للأنبياء والذين أعدوا أنفسهم لابطال فاعلية تعليم الأنبياء، ويوحي بعضهم إلى بعض أقاويل مزخرفةً باطلةً لا أساس لها من الصحة، كما يعلّم بعضهم البعض طرق المكر والخداع، وذلك لاغفال الناس وكتم الحقائق وجعل الحجب عليها، وإبعاد الناس عن تعاليم الأنبياء.
وينبغي ذكر هذه النقطة هنا وهي: إنّ العدو ذكر بصيغة المفرد، بينما الشياطين بصيغة الجمع، وهذا قد يكون من حيث إنّ الشياطين متحدون ومتفقون في سبيل إغفال الناس وخداعهم وكأنّهم عدو واحد.
ويقول البعض: إنّ «عدو» هنا بمعنى أعداء أي بمعنى الجمع
«2».
______________________________
(1). راجع لسان العرب ومفردات الراغب و تفاسير القرطبي وروح البيان والميزان.
(2). تفسير روح المعاني، ج 8، ص 4.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 332
كما صرح بعض آخر: إنّ «العدو» تطلق على المفرد والمثنى والجمع «1».
والآية السادسة هي من آيات سورة محمد صلى الله عليه و آله التي أُشير فيها إلى حجب متعددة من حجب المعرفة، فتارة تعدّ الفساد في الأرض وقطع صلة الرحم سبباً للعمى الباطني لهم الآية 23، وتارة اخرى تعد ترك التدبر في القرآن بمثابة الأقفال على القلوب.
والآية المذكورة تعدُّ تزيين الشيطان وتسويلاته سبباً لارتداد الضالين، حيث يتبين لهم الحق ويؤمنون به أولًا، ثم ينحرفون عنه من جراء تسويلاته وتزيينِهِ لهم إلى درجة يفتخرون فيها بضلالتهم الأخيرة.
من هم المشار إليهم في الآية؟
هذا ما بحثه المفسرون وانقسموا من جرائه إلى فريقين، فبعض يقول: إنّهم اليهود، حيث كانوا مؤمنين بالرسول صلى الله عليه و آله قبل ظهوره وذلك لوجود العلامات المذكورة في كتبهم عن ذلك الرسول، ثم سلكوا سبيل العناد والمخالفة له بعد ظهوره، ويُعدُّ هذا نوعاً من الارتداد.
وبعض يقول: إنّها تشير إلى المنافقين الذين آمنوا في البداية ثم ارتدوا بعد ذلك، أو أنّهم آمنوا ظاهراً وهم كافرون باطناً، لكن مع الالتفات إلى كون الآيات التي سبقت هذه الآية والتي تليها ناظرة إلى المنافقين، لا يبعد أن تكون هذه الآية تشير إليهم كذلك فالمراد من الآية- إذن- المنافقون الذين آمنوا في البداية ثم ارتدوا بعد ذلك.
إنّ «أملى لهم» من مادة «املأ» أي الإِمهال «2»، والمراد منها هو الآمال البعيدة التي يوحيها الشيطان للإنسان، الآمال التي تشغل فكر الإنسان وتزين له الباطل وتبعده عن الحق.
ج ج
أمّا الآية السابعة والأخيرة فقد أنذرت الناس- بتعبير وافٍ- بأن وعد اللَّه حق، ثم
ذكر
______________________________
(1). تفسير المنار، ج 8، ص 5.
(2). ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ أصل هذه المادة هو (مَلْو) لا (مَلأَ)- بالهمزة-.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 333
عاملين للضلالة والانحراف عن الحق، الأول: الدنيا «فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا»، والثاني:
الشيطان «وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» فتارة يؤملكم بكرمه وينسيكم غضبه، وتارة اخرى يغويكم بشكل بحيث تنسون اللَّه وتعاليمه، أو تبدو لكم تعاليمه بشكل معكوس.
إنّ «غرور»- كما أشرنا سابقاً- هو كل ما خدع الإنسان، سواء كان مالًا أو جاهاً أو شهوات أو غير ذلك، وبما أنّ الشيطان أوضح مصداق للخداع، أطلق عليه ذلك كثيراً، وفُسِّر به «1».
يعتقد كثير من المفسرين أنّ عبارة «لَايَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» تلميح إلى أنَّ الشيطان غَرَّ الإنسان بَعفو اللَّه وكرمه بدرجة يمكّنه من ارتكاب أي معصية أراد، ويبلغ به الأمر أن يعتقد بأنّ هذا ناشي ء عن كمال معرفته لصفات اللَّه! وهذا أمر عجيب.
وحاله كحال من يتصور أنّ جسمه قوي وذو مناعة تمكنه من مقاومة جميع السموم المهلكة، فيخدعه تصوره ويتناول السم فيموت.
وهذا هو أحد حجب المعرفة.
ج ج
إنّ «الشيطان»- وكما قلنا سابقاً- ليس اسماً خاصاً أو علماً لإبليس، بل إنّ إبليس الذي امتنع عن السجود لآدم هو أحد الشياطين.
إنّ لإبليس جنوداً كثيرة من جنسه ومن الناس، وتطلق مفردة الشيطان على الجميع، وعلى هذا فقادة الكفر والشرك والظلم والفساد في الأرض، والعاملون في الاجهزة الظالمة كلهم من جنود الشيطان، ولقد جاء في رواية أن هناك شياطينَ من الانس أسوء من شياطين الجن، حيث سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أباذر يوماً: «هل تعوّذت باللَّه من شر شياطين الجن
______________________________
(1). إنّ «الغرور» صيغة مبالغة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 334
والإنس»؟
فقال أبوذر: وهل من الناس شياطين؟
فأجابه رسول اللَّه صلى الله عليه و
آله: «نعم هم شرٌ من شياطين الجن» «1».
كما أنّ المستشفَّ من القرآن هو أن للشيطان جنوداً فرساناً وراجلين كما جاء ذلك في الآية: «وَاجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ . (الاسراء/ 64)
إنّ «اجلب» من مادة «إجلاب» ويعني التجمع السريع أو الضجيج والصياح لحثّ مجموعة ما على الحركة.
أمّا المراد من «خيلك ورَجِلك»، فيقول الكثير من المفسرين: إنّه الراجل أو الفارس الذي يخطو في معصية اللَّه، أو قاتل في هذا السبيل «2».
ويقول البعض: إنّ للشيطان أعواناً وأنصاراً راجلين وفرساناً حقاً.
وحمل البعض العبارة على الكناية، وقال: المراد من الآية هو أنّ الشيطان أعدَّ العِدَّة ووفّر جميع الوسائل لصراع ومجابهة الناس «3».
كما يحتمل أن يكون المراد من الخيل هو قادة الكفر والظلم والفساد، ومن الرجل، الشخصيات المتوسطة الأضعف من الشخصيات السابقة.
كما يحتمل أن يكون المراد من الخيل هو الشهوات والصفات الذميمة التي تتغلب على روح الإنسان وتمتطيها، والمراد من الراجلين هو العوامل الخارجية التي تسعى لانحراف الإنسان عن الصراط المستقيم.
ج ج
______________________________
(1) التفسير الكبير، ج 13، ص 154.
(2) نقل القرطبي هذا التفسير عن أكثر المفسرين.
(3) ذكر الفخر الرازي هذا التفسير كاحتمال في تفسير الكبير، ج 21، ص 6، وقد جاء ما يشبه هذا الاحتمال في تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 343.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 335
هناك سؤال يرتبط ببحثنا وهو: كيف يمكن أن يتركنا اللَّه لوحدنا نواجه جنود الشيطان القوية والقاسية؟ وهل يتفق هذا مع حكمة اللَّه وعدله؟
يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بالالتفات إلى نقطة، وهي: إنّ اللَّه- وكما جاء في القرآن الكريم- يجهز المؤمنين بجنود رحمانية، أي الملائكة، ويوظف القوى الغيبية التي في العالم يؤازرونهم وينصرونهم في طريق جهاد النفس والعدو:
«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ
الَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُمْ تُوْعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ ...».
(فصلت/ 30- 31)
هي: إنّ الشيطان لا يدخل قلوبنا فجأة ولا يعبر حدود دولة الروح من دون جواز، إنّ هجومه ليس مباغتاً بل يدخل برخصتنا، نعم إنّه يدخل من الباب لا من النافذة، ونحنُ نفتح له الباب، كما يقول القرآن في هذا المجال: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* انَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ .
(النحل/ 99- 100)
في الحقيقة إنّ أعمال الإنسان هي التي توفر الأرضية لنفوذ الشيطان، وذلك ما يقوله القرآن: «انَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا اخْوَانَ الشَّيَاطِينِ . (الاسراء/ 27)
إلّا أنّه لا طريق للنجاة من مكائد الشياطين المتنوعة وجنودهم في أشكالها المختلفة من الشهوات ومراكز الفساد والسياسات الاستعمارية والمذاهب المنحرفة والثقافات الفاسدة، إلّااللجوء إلى الإيمان والتقوى والتظلّل بألطاف اللَّه والتوكل على ذاته المقدّسة، وكما يقول اللَّه تعالى: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا
نفحات القرآن، ج 1، ص: 336
قَلِيلًا». (النساء/ 83)
وقد انتهت إلى هنا حجب المعرفة العشرون، فننتقل معاً إلى مؤهلات المعرفة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 337
مؤهلات المعرفة
نفحات القرآن، ج 1، ص: 339
كما أنّ البذور تنمو في الأراضي الخصبة، وكما أنّ الأزهار لا تتفتح في الأراضي المالحة بالرغم من استعمال أفضل البذور، ونزول المطر المتوالي عليها، كذلك بذور المعرفة فانّها لا تنمو إلّافي القلوب الصالحة والمؤهلة، ولا تتفتح أزهارها إلّافي الأرواح الطاهرة.
ولهذا السبب فإنّ الاطلاع على الروحيات والأعمال التي تهيي ء وتُعِدّ أرضية المعرفة يعد من أهم البحوث التي تتعلق ب «المعرفة»، وقد استعمل القرآن في هذا المجال تعابير ذات معانٍ عميقة وإشارات جميلة.
وبالرغم من أنّ المؤهلات للمعرفة كثيرة، إلّاأنّ الاسس المهمّة والتي أشار إليها القرآن عبارة عن الامور التالية:
1- علاقة التقوى بالمعرفة.
2- الإيمان والمعرفة.
3- علاقة الصبر والشكر بالمعرفة.
4- المعرفة تهى ء الأرضية للمعرفة.
5-
علاقة الخوف بالمعرفة
و سنبحث كلًا من هذه الامور في فصل خاص بعد ذكر الآيات التي تتعلق بها، كما سنستعين بالروايات الإسلامية في هذا المجال كمؤكد وموضّح لها إن شاء اللَّه.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 340
في البداية نتأمل خاشعين في الآيات المباركة التالية:
1- «الم* ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيْهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ . (البقرة/ 1- 2)
2- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَاناً». (الأنفال/ 29)
3- «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ . (البقرة/ 282)
4- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفِلَينِ مِنْ رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . (الحديد/ 28)
ج ج
إنّ «التقوى من مادة «وِقاية» وتعني- كما يقول الراغب في مفرداته- حفظ الشي ء من الآفات.
ثم يضيف: إنّ التقوى بمعنى حفظ الروح والنفس ممّا يخشى مضرته، ثم اطلقت على الخوف، كما أنّ التقوى في الشرع تطلق على التحفظ من المعاصي، وكمالها ترك بعض المباحات المشكوكة «1».
ولباقي أئمّة اللغة تعابير تشبه ما جاء في المفردات، فقد فسرها بعض بالصيانة «2»، وبعض اخر ب «الامتناع عن القبائح والأهواء» «3».
وقد نقل عدد من المفسرين حديثاً عن بعض الصحابة أنّهم سألوا عن حقيقة التقوى فاجابوا:
______________________________
(1). مفردات الراغب مادة (وقى .
(2). لسان العرب نفس المادة.
(3). مجمع البحرين، نفس المادة، كما ينبغي الالتفات إلى أن أصل مفردة التقوى هو «وَقى فانقلبت الواو تاءً، كما ذكر ذلك الخليل بن أحمد في كتابه «العين».
نفحات القرآن، ج 1، ص: 341
«هل مررت بطريق ملي ء بالأشواك في يوم ما؟ قال السائل: نعم، قال: الم تجمع ثيابك وترفع اذيالك وتسعى للخلاص من الأشواك؟ فحالتك هذه هي التقوى .
نعم، إنّ الطريق إلى اللَّه ملي ءٌ بالأشواك كأشواك الشهوات والميول والأهواء والآمال البعيدة والكاذبة، ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يحافظ على ثباته فيتجنب أن يكون عرضة لهذه الأشواك، وينبغي أن لا تشغله عن مسيره إلى اللَّه سبحانه وتعالى.
و هذا لايكون إلا باليقظة والمعرفة والخبرة
ومراقبة النفس على الدوام.
وبتعبير أبسط: إنّ التقوى هي الوقاية من الآفات التي تعترض الروح في سيرها التكاملي، وتجنّبُ الذنوب والشبهات حتى الوصول إلى الملكة.
وقد ذكر بعض المفسرين معانيَ عديدة للتقوى وجاؤوا بشاهد من القرآن لكلٍ منها، وفي الحقيقة أنّ كلًا منها مصداق من مصاديق التقوى مثل التوبة والطاعة والإخلاص والإيمان (العبادة والتوحيد) «1».
ويقول البعض: إنّ حقيقة التقوى هي أن يجعل الإنسان حائلًا أو مانعاً أمام آفة ما، فكما يدفع الإنسان تأثير ضربات العدو بالدرع، كذلك المتقون فانهم يصونون أنفسهم من عذاب اللَّه بواسطة درع طاعة اللَّه «2».
نقسّم التقوى إلى ثلاث مراحل: التقوى عن الكفر، والتقوى عن الذنب، والتقوى عما ينسي الإنسان ذكر ربّه «3».
ولكن- كما هو واضح- فإنَّ المعاني هذه كلها ترجع إلى المعنى الأساسي الذي ذُكر للتقوى في البداية.
ج ج
______________________________
(1). وجوه القرآن، ص 55؛ التفسير الكبير، ج 2، ص 20.
(2). تفسير روح البيان، ج 1، ص 30 و 31.
(3). المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 342
يقول اللَّه عزّ وجلّ في الآية الاولى «ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والتعبير هذا يثبت بوضوح تأثير التقوى على المعرفة كمؤهل لها.
وهذه هي الحقيقة، فما لم تحصل في باطن الإنسان مرحلة من مراحل التقوى لا يمكنه الاستفاضة من ينابيع الكتب السماوية، وأقل التقوى هو أن يسلم الإنسان نفسه إلى الحق ويترك العناد، فإنّ الذين يفتقدون هذه المرحلة من التقوى سوف لا يرتفعون إلى أدنى درجة من درجات المعرفة ولا يتقبلون الهداية أبداً.
طبيعي أنّ الإنسان كلما كانت روح التقوى والتسليم إلى الحق وقبول الحقائق والواقعيات قوية عنده كانت استفاضته من ينبايع الهداية أكثر.
إنّ ينابيع الهداية وعلى رأسها القرآن المجيد كالغيث الذي يحيي الأرض ويفتح أزهار المعرفة فيها، وهذا يحدثُ في
الأرض الخصبة فقط لا في كل أرض.
إنّ التعبير ب «هدى أي بصيغة المصدر، تأكيد لحقيقة أنّ روح التقوى إذا استيقظت عند الإنسان وأصبحت فعالة، فإنّ القرآن سيصبح الهداية ذاتا (تأمل جيداً).
وفي هذا المجال يقول بعض المفسرين العظام:
«إنّ الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فإنّ الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تنتبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمرٍ خارج عنها، وكذا احتياج كل ما سواها ممّا يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج تقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس، منه بدأ الجميع وإليه ينتهون ويعودون، وأنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلق كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والاخلاق وهذا هو الاذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي اصول الدين» «1».
______________________________
(1). تفسير الميزان، ج 1، ص 42.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 343
كما يقول الفخر الرازي:
«والبعض الآخر ذكر في حصر الهداية بالمتقين لأنّ اللَّه تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنّهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: «إِنَّمَا انْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا». (النازعات/ 45)
وقال: «إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ». (يس/ 11)
وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لاجل أنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بانذاره» «1».
وقد استنتج الفخر الرازي في بعض عباراته:
«ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلّاما في قوله تعالى (هدى للمتقين) كفاه لانه تعالى بيّن أنّ القرآن هدى للناس في قوله تعالى «شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لّلنَّاسِ ...».
(البقرة/ 185)
ثم قال: إنّه هدى للمتقين فهذا يدل على أنّ المتقين هم كل الناس فمن لا يكون متقياً كانه ليس بانسان» «2».
و بالرغم
من عدم تعارض التفاسير الماضية، إلّاأنّ التفسير الأول يبدو أوضح، ومن هنا يعرف عدم صحة الرأي القائل (بحمل «المتقين» في الآية على المجاز، والقول بأنّ المراد منهم سالكو طريق التقوى وذلك للحيلولة دون الوقوع في إشكال (تحصيل حاصل)، وذلك لأنّ للتقوى وكما قلنا- مراحل ودرجات، فمرحلة منها تؤهل لهداية القرآن، والمراحل الرفيعة الاخرى تكون وليدة هداية القرآن.
ويُطرح هنا سؤال وهو: إنّ الآيات التي جاءت بعد «هدىً للمتقين» عرفت المتقين بالذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وعلى هذا، أفلا تكون هداية القرآن تحصيلًا للحاصل يا ترى !
إنّ الإجابة على هذا السؤال تتضح بالالتفات إلى نقطة في هذا المجال وهي: إنّ الوصول إلى هذه المراحل المذكورة في السؤال ليست نهاية الطريق، بل هناك مراحل كثيرة اخرى ينبغي طيها لبلوغ المرحلة التكاملية اللائقة بالإنسان، وهذه المرحلة عند
______________________________
(1). التفسير الكبير، ج 2، ص 21.
(2). المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 344
المتقين ستهديهم إلى مراحل ارفع واسمى بالاستعانة بهداية القرآن.
وتوجد تعبيرات في القرآن تشبه ما جاء في الآية السابقة، مثلما جاء في الآية: «وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ . (الحاقة/ 48)
فعدت الآية الاولى القرآن «هدى للمتقين وسبباً لهدايتهم، والثانية «تذكرة» لهم، ونعلم أنّ «التذكر» من مقدّمات «الهداية»، ولهذا عندما وصل عدد من المفسرين إلى هذه الآية أرجعوا الحديث فيها إلى نفس الحديث في بداية سورة البقرة.
وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الآيات شاهد ناطق على دور التقوى كممهّد للمعرفة والهداية.
ج ج
وقد وضحت الآية الثانية علاقة التقوى بالمعرفة توضيحاً أكثر من الآية السابقة وصرحت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَاناً».
إنَ «الفرقان»- كما يقول بعض أئمة اللغة-: (اسم مصدر)، وادعى بعض آخر (مصدر) إلّاأنّ أغلب المفسرين يصرحون بأن له- في موارد كهذا
المورد- معنى فاعلياً مقروناً بالتأكيد (أشبه ما يكون بمفهوم صيغة المبالغة)، ومعناه الشي ء الذي يفرق بين الحق والباطل، وله مفهوم واسع يشمل القرآن المجيد ومعجزات الأنبياء والأدلة العقلية الواضحة وشرح الصدر والتوفيق والنورانية الباطنية وغير ذلك «1».
وبهذا، فالقرآن يقول بأنّ «التقوى هي الأرضية التي تعد للمعرفة والتي يمكن الاستدلال بها تماماً في بعض المراحل، وتنطوي في المراحل الاخرى ضمن الامدادات الإلهيّة المعنوية.
سمى القرآن المجيد يوم معركة بدر «يوم الفرقان»، وذلك من حيث إنّه يوم شهد آيات اللَّه البارزة تؤيد جند الإسلام ضد جند الشرك، فبالرغم من عِدَّة وعدد المشركين الذي يقدر بثلاثة أضعاف عدد المسلمين، تحملوا ضربات قاسية من المسلمين لم يتوقعها أحد.
______________________________
(1). راجع المفردات، وكتاب العين، ولسان العرب، ومجمع البحرين، والميزان، والكشاف في ذيل الآية نفسها.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 345
إضافة إلى هذا، فإنّ معركة بدر كانت أول مواجهة مسلحة بين المسلمين والمشركين انفصلت بها صفوف المسلمين عن المشركين، ولذا سميت ب «يوم الفرقان».
وينبغي الالتفات إلى أنّ «فرقاناً» جاءت بصيغة نكرة ومطلقة، فدلّت على عظمة ذلك النور الإلهي وعلى سعته، بحيث يشمل المسائل الاعتقادية والعملية وكل ابداء رأي تجاه امور الحياة المهمّة، وعلى هذا، فثمرة شجرة التقوى هي الولوج في كل خير وبركة والابتعاد عن كل شرٍّ وفساد.
يقول الفخر الرازي في شرحه لهذه الآية: بما أنّ لفظ الفرقان مطلق فينبغي حمله على كل ما يفرق المؤمنين عن الكافرين، فهذا الفرقان إمّا في أحوال الدنيا وإمّا في أحوال الآخرة، والذي يتعلق بأحوال الدنيا إما أنّه يتعلق بالقلب وهي الاحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة، فبالنسبة للقلب والباطن فاللَّه يهدي قلوب المؤمنين ويلقي فيها المعرفة ويشرح صدورهم ويمحو عنها الحقد والحسد والبغض والعداوة، بينما يمتلي ء قلب المنافق
والكافر من هذه الرذائل والصفات السيئة، لأنّ القلب إذا تنور بنور الإيمان زالت ظلمات هذه الرذائل عنه، أمّا الذي يتعلق بالظاهر، فاللَّه ينصر المسلمين ويفتح لهم ويمنحهم الرفعة «1».
ج ج
والآية الثالثة التي هي جزء صغير من أطول آية، أي بعد أن بيّنت عدداً من الأوامر الإلهيّة قالت: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ . (البقرة/ 282)
يقول القرطبي في تفسيره:
«إنّه وعدٌ من اللَّه تعالى بأنّ من اتقاه علّمه، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقى إليه، وقد يجعل اللَّه في قلبه ابتداء فرقاناً، أي فصلًا يفصل به بين الحق والباطل» «2».
______________________________
(1). التفسير الكبير، ج 15، ص 153 (بتلخيص).
(2). تفسير القرطبي، ج 3، ص 406.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 346
إنّ هذا الحديث لا يعني ترك كسب العلم، والاكتفاء بتهذيب النفس- كما يقول بعض الصوفية وأشخاص منحرفون- بل المراد هو أنّ التقوى تهيي ء الأرضية لكسب العلم الحقيقي أشبه ما يكون بالأرض الخصبة والمُعدَّة لبذر البذور.
صحيح أنّ جملة «اتقوا اللَّه» ليست شرطاً وأن جملة «يعلمكم اللَّه» ليست جزاء لها (ولهذا أنكر البعض العلاقة بين التقوى والعلم المستفادة من هذه الآية)، لكن ممّا لا شك فيه هو أن اقتران أحدهما بالآخر لم يكن اعتباطاً، بل هو تلميح إلى العلاقة الموجودة بين هذين الاثنين، وإلّا فيعرض انسجام الآية للسؤال.
ج ج
إنّ رابع وآخر آية بيّنت العلاقة بين التقوى والمعرفة بوضوح، فبينت ثلاثة أجور للذين يتقون اللَّه ويؤمنون برسوله.
الأول يؤتيهم اللَّه كفلَيْنِ أو نصيبين من رحمته، نَصيباً لإيمانهم ونصيباً لتقواهم، أو نَصيباً لأجل إيمانهم بالأنبياء السالفين ونصيباً لأجل إيمانهم بالرسول صلى الله عليه و آله، وبالرغم من أنّ المخاطبين في الآية مؤمنون إلّاأنّ اللَّه يأمرهم أن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه و آله، كما أنّ شأن
نزول الآية يبيّن أنّها بصدد فريق من نَصارى الحبشة الذين سمعوا القرآن وآمنوا بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله «1».
والثاني: هو جعل اللَّه لهم نوراً- لأجل ايمانهم وتقواهم- يهتدون به في صراطهم:
«وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ .
وبالرغم من أنّ البعض أراد تقييد مفهوم الآية والقول بأنّ النور الذي ذُكِرَ فيها إشارة إلى النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين وبإيمانهم في يوم القيامة (كما تشير إلى ذلك الآية 12 من سورة الحديد: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَينَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ). (الحديد/ 12)
لكن لا دليل لهم على هذا التقييد، بل إنّ مفهومها- وكما يقول صاحب الميزان- واسع
______________________________
(1) «الكِفْل» ما يعيل الإنسان ويرفع حاجته، ويعتقد البعض أنّ هذه المفردة حبشية دخيلة على العربية.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 347
يشمل الأنوار الإلهيّة كلها في الدنيا والآخرة، وعلى هذا فتكون الآية شاهداً على العلاقة بين «التقوى و «المعرفة».
أمّا الأخير فهو: «وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهذا كله لأجل إيمانهم وتقواهم.
وفي الروايات الإسلامية أيضاً تمّ بيان مدى تأثير التقوى على مسألة العلم، هذه الروايات تبيّن بوضوح أنّ تطهير القلب والروح بالتقوى يعد الأرضية لتلقي المعارف الإلهيّة.
نذكر هنا الأحاديث التالية كنماذج لما جاء في الروايات الإسلامية:
ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:
«من غرس أشجار التقى جنى ثمار الهدى «1».
2- وجاء أيضاً في احدى خطب نهج البلاغة أنّه عليه السلام قال:
«أمّا بعد فانّي أُوصيكم بتقوى اللَّه .. فإنّ تقوى اللَّه دواء داء قلوبكم وبصر عمى افئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاء عشا أبصاركم» «2».
3- وفي حديث عنه أيضاً أنّه عليه السلام قال:
«للمتقي هدىً في رشاد وتحرّج عن فساد» «3».
4- ونقرأ أيضاً في
نهج البلاغة أنّه عليه السلام قال:
______________________________
(1) غرر الحكم.
(2) نهج البلاغة، خطبة 198.
(3) غررر الحكم.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 348
«اين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى والأبصار اللامحة إلى منار التقوى «1».
5- ونختم حديثنا بحديث ذي معنى عميق عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال: جاء في وصيّة الخضر لموسى عليه السلام: «يا موسى وطِّن نفسك على الصبر تلق الحلم واشعر قلبك التقوى تنل العلم وَرَضّ (روّض) نفسك على الصبر تخلص من الإثم» «2».
ما هو تأثير التقوى واجتناب الذنوب وترك التلوث بها على مسألة المعرفة؟ وبتعبير آخر: ما هي العلاقة المنطقية بين العلم والأخلاق؟
في الحقيقة أنّ لهذين الاثنين علاقة تقارب قوية، وأي علاقة أقرب وأوثق من العلاقة المتبادلة بين هذين الاثنين؟ فالتقوى ينبوع العلم، كما أنّ العلم ينبوع التقوى وليس هذا بأمر طبيعي فحسب بل إنّه أصل أساسي للسير في طريق المعرفة.
فيمكن الاستدلال على تأثير التقوى على العلم بالطرق التالية:
أ) إنّ السنخية والتنسيق تسببان الجاذبية والإرتباط دائماً.
فعندما تتطهر روح الإنسان وتزكى بالتقوى تحصل جاذبية قوية بينها وبين المعارف والعلوم الحقيقية «فالسنخية تبعث على الإرتباط العجيب».
ب) إنّ منجل التقوى يحصد جميع الأشواك من مزرعة روح الإنسان، ويُعدّ القلب وبهيئه لنمو بذور العلم والمعرفة، بل إذا دققنا النظر فإنّ بذور العلوم جميعها قد بذرها اللَّه في هذه المزرعة، والمهم في الأمر هو حصد الأعشاب المزاحمة وإرواء المزرعة.
وقد جاء في حديث للمسيح عليه السلام مخاطباً فيه أنصاره قائلًا:
«ليس العلم في السماء فينزل اليكم، ولا في تخوم الأرض فيصعد عليكم، ولكن العلم
______________________________
(1). نهج البلاغة، خطبة 144.
(2). منية المريد للشهيد الثاني (ينقل عن بحار الأنوار، ج 1، ص 227).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 349
مجبول في قلوبكم مركوز في طبائِعكم، تخلقوا
باخلاق الروحانيين يظهر لكم» «1».
ج) نعلم أنّه لا وجود للبخل والحسد في مبدأ عالم الوجود، وعلى ما جاء في الآية:
«وَانْ مِّنْ شَىْ ءٍ الَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ الَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُوْمٍ . (الحجر/ 21)
فإنّ خزائن النعم غير المتناهية عند اللَّه، ما ينقصه زيادة كرمه وكثرته شيئاً، بل إنّ جوده وكرمه يتجلّى أكثر «وَلا يَزِيدُهُ كَثْرَةُ العَطاءِ إلّاجُوداً وَكَرَما».
وعليه، فإنّ الحرمان سببه عدم أهلية الأشخاص، إنّ التقوى تجعل الإنسان أهلًا للفيض الإلهي، وأي فيضٍ أرفع شأناً من المعارف والعلوم الإلهيّة؟
إنّ القلوب كالأوعية كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إنَّ هذِهِ الْقُلُوب أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُها أوعاها» «2» والمهم هو أنّ نوسع هذه الأوعية، وأن لا تكون مقلوبة لا تسع ولو لقطرة واحدة، وهذا الأمر ممكن في ظل التقوى
أمّا التأثير المتبادل بين العلم والتقوى فهو أنّ العلم الحقيقي يمحو جذور الرذائل الأخلاقية وينابيع الإثم والذنب، ويمثل أمامه عواقب الامور، وهذه المعرفة تعين الإنسان على تبلور التقوى في قلبه وعلى ابتعاده عن الإثم، ويتضح من هنا أنّ العلم ينبوع للتقوى كما أنّ التقوى ينبوع للعلم، غاية الأمر أنّ مرحلة من التقوى تسبب مرحلة من العلم، وتلك المرحلة من العلم تسبب مرحلة أرفع من التقوى وعلى هذا المنوال فإنّ كلًا منهما يوثر في الآخر تأثيراً متبادلًا، وقد تكون الآية: مشيرةً إلى هذه النقطة:
«انَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ .
(الاعراف/ 20)
أي أنّ التقوى تكون في البداية، ثم التذكر، ثم البصيرة، والنتيجة هي النجاة من وساوس الشياطين.
ج ج
______________________________
(1). تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص 267.
(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 350
نفحات القرآن ج 1 369
بالرغم من أنّ علاقة المعرفة بالتقوى علاقة لا
يمكن انكارها، سواء من وجهة نظر القرآن المجيد، أو من وجهة نظر الدليل والعقل (وقد بينا ذلك بالتفصيل)، إلَّا أن هذا الحديث لا يعني ترك طرق كسب العلم والمعرفة المتعارفة، والاستغناء بتهذيب النفس بحجّة أنّ تهذيب النفس سيقذف العلم والمعرفة في صدورنا كما ظن ذلك عدد من الصوفية الذين اتخذوا هذه المسألة حجة لمقارعة المعرفة وكسب العلم وظلوا في جهل دامس.
إنّ الإسلام أوجب كسب العلم بدرجة حيث اعتبر الحضور في مجلس العلم كالحضور في روضة من رياض الجنّة: «مجلس العلم روضةٌ من رياض الجنة».
كما عدَّ النظر إلى وجه العالم عبادة: «النظر إلى وجه العالم عبادة» «1»، وكل خطوة يخطوها في سبيل العلم فهي خطوة نحو الجنة «2».
وقد عدَّ مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء «3».
وحفظ الحديث وكتابته من الفضائل العظيمة «4».
ويدعو الإسلام- من جهة اخرى- إلى تهذيب النفس وتزكيتها لأجل تهيئتها لقبول المعارف والعلوم الإلهيّة.
وعلى هذا، فأولئك الذين تركوا طلب العلم وأوصوا زملاءهم وأتباعهم بتركه، والتوجه إلى تصفية الباطن وتزكيتها على خطأٍ، لأنّ التزكية هذه غالباً ما تنحرف عن جادة الصواب بسبب عدم اقترانها بالعلم والمعرفة، وكذلك أولئك الذين انهمكوا في كسب العلوم الرسمية وأهملوا تهذيب النفس، فانهم في ضلالة، نعم ينبغي السعي نحو كليهما.
ج ج
______________________________
(1). غرر الحكم.
(2). بحار الأنوار، ج 1، ص 164.
(3). المصدر السابق، ج 2، ص 14.
(4). المحجة البيضاء، ج 1، ص 15.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 351
إنّ روح الإيمان هي التسليم للحق والخضوع أمام الحقائق، وبما أنّ أكبر حقيقة في عالم الوجود هي ذات اللَّه المقدّسة، فإنّ روح الإيمان تتمحور حول التوحيد ومعرفة اللَّه.
إنّ الإيمان يفسح المجال أمام عقل الإنسان لأنّ يدرك الحقائق كما هي حقاً، سواء كانت مرّة أو حلوة، وسواء
كانت ملائمة لمزاجه وطبعه أم لا.
إنّ معلومات أولئك الذين لم يسلموا للحق هي تصوّرٌ وتمثلٌّ لرغباتهم وأهوائهم، لا لنفس الحقائق الموجودة في الخارج، أنّهم يرون الدنيا بالشكل الذي يرغبون فيه، ولا يرونها بشكلها الواقعي.
وبهذا التمهيد تتضح علاقة الإيمان بالمعرفة اجمالًا، ونتأمل الآن خاشعين في آيات القرآن في هذا المجال:
1- «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ كَمَنْ مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجِ مِّنْهَا ...». (الأنعام/ 122)
2- «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّنْ فَوقِهِ مَوْجٌ مِّنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ اذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُّورٍ». (النور/ 40)
3- «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ اجْرُهُمْ وَنُورُهُم ...». (الحديد/ 19)
4- «افَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ . (الزمر/ 22)
ج ج
نفحات القرآن، ج 1، ص: 352
تحدثت الآية الاولى عمّن كانوا موتى ثمّ أحياهم اللَّه وجعل لهم نوراً يهتدون به في الطريق.
والمراد من الموت والحياة هنا هو الإيمان بعد الكفر، كما جاء ذلك في الآية: «يَا أَيُّهُا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ اذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ . (الانفال/ 24)
وعلى هذا فالحياة هي حياة الإيمان الحقيقي والصادق، الحياة المقترنة بالنور والضياء والمعرفة.
والجانب المقابل لجانب الأحياء، هو جانب أولئك الذين ضلوا في ظلمات الكفر ولم يخرجوا منها أبداً «كَمَنْ مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا».
يعتقد كثير من المفسرين أنّ هذا النور هو نور القرآن، وقد فسّره بعضهم بنور الدين، وبعضهم بنور الحكمة «1»، وقد أضاف البعض على ذلك نور الطاعة «2»، لكن المسلم أنّ لهذا
النور مفهوماً واسعاً يشمل جميع أنواع المعرفة، ومن البديهي أنّ مراد القرآن هو اكمل مصاديقه.
إنّ التعبير ب «يمشي به في الناس» يتناسب كثيراً مع الحياة الاجتماعية في الدنيا، كما يكشف عن أن «الإيمان» يَعِدُّ أرضية «المعرفة» في قلب الإنسان ويحول دون ارتكاب الأخطاء في الحياة الدنيا.
ج ج
وقد شبهت الآية الثانية غير المؤمنين (أو أعمالهم) بظلمات أعماق بحرٍ لُجّي تتلاطم الأمواج على سطحه، وسمائه ملبدة بالغيوم بحيث إذا أخرج شخص يده لم يكد يراها أحد.
______________________________
(1). التفسير الكبير، ج 13، ص 172؛ تفسير القرطبي، ج 4، ص 214؛ تفسير المنار، ج 8، ص 30.
(2). تفسير روح الجنان، ج 5، ص 50.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 353
وقد أكدت في النهاية: أنّ الذين لم يجعل اللَّه لهم نوراً فمالهم من نور أبداً.
إنّ عبارات هذه الآية تثبت بوضوح أنّ الكفر وعدم الإيمان ظلمات، وأنّ الإيمان والإسلام نور.
إنّ الأخطاء التي تصدر من غير المؤمنين ومن المنحرفين بدرجة من الكثرة بحيث يحارُ الناظر اليهم كيف أنّهم لا يكادون يرون حتى موضع أقدامهم؟! وكيف أنّهم لا يستطيعون تمييز ما ينفعهم عما يضرهم؟
حقاً أنّه لا ظلام أشدّ من الظلام الذي رسمته الآية، فإنّ طبيعة أعماق البحار هي الظلام، لأنّ نور الشمس لا ينفذ إلّا لمدى أقصاه سبعمائة متر، وبعد ذلك لا شي ء سوى الظلام الدامس، هذا إذا لم يكن البحر لجياً، وإلَّا فلا تنفذ أشعة الشمس إلّالمدى قريب جداً من سطح البحر، وفضلًا عن هذا فإنّ الغيوم تمنع من وصول أشعة الشمس أساساً.
ويقول البعض: إنّ المراد من الظلمات الثلاثة في الآية هي ظلمات الكفار في الاعتقاد، وظلماتهم في الكلام، وظلماتهم في العمل.
ويعتقد بعض أنّ المراد منها هو: ظلمات القلب وظلمات الباصرة وظلمات السمع، وأضاف بعض آخر:
أنّ هذه الظلمات عبارة عن: أنّه لا يعلم ولا يعلم أنّه لا يعلم، ويظن أنّه يعلم «1»، ولكن لا منافاة بين هذه التفاسير، ومفهوم الآية يسع جميع هذه التفاسير.
ج ج
والآية الثالثة، بعدما وصفت المؤمنين ب «الصديقين» و «الشهداء» أضافت: «لهم أجرهم ونورهم».
إنّ «الصدّيق» صيغة مبالغة لصادق، وتعني كثير الصدق، ويقول البعض: إنّها تعني الشخص الذي لم يصدر منه كذب أبداً، ويعتقد بعض آخر: إنّها تعني الذي اعتاد على الصدق بحيث يمتنع عليه الكذب عادةً، وبتعبير آخر: حصلت له طبيعة ثانوية على أساس الصدق وعدم الكذب.
______________________________
(1). التفسير الكبير، ج 24، ص 8.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 354
ويقول البعض: إنّها تعني الشخص الصادق في اعتقاده وكلامه، يكشف سلوكه عن صدق اعتقاده «1».
وتجتمع جميع هذه المعاني في القول بأنّها صيغة مبالغة لصادق، لأنّ المفهوم آنذاك يكون شاملًا لجميع المعاني المتقدمة، وعلى هذا فالمسلم أنّ المراد ليس جميع المؤمنين بل المؤمنون أصحاب الدرجات الرفيعة في ايمانهم.
أمّا «الشهداء» فقد يكون المراد من ذلك هو أنّ المؤمنين الصديقين لهم أجر كأجر الشهداء، كما جاء ذلك في حديث للإمام الصادق عليه السلام عندما جاءه شخص يطلب الدعاء له بالشهادة، فاجابه الإمام عليه السلام: «إنّ المؤمن شهيد» ثم تلا الآية: «وَالَّذِيْنَ آمَنُوا ...» «2».
كما يحتمل أن يكون المراد من الشهداء، هو الشهداء على أعمال الناس، لأنّ المستشفَّ من آيات عديدة هو أن فريقاً من المؤمنين (الأنبياء والأئمّة) يشهدون على الأمم.
ولا يبعد الجمع بين هذين المعنيين «3».
إنّ «الأجر» في عبارة «لهم أجرهم ونورهم» تعني جزاء الأعمال، أمّا «النور» ففسّرَه البعض بأنّه النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين الذي يفتح الطريق نحو الجنة يوم القيامة، إلَّا أنّه لا دليل على هذا التحديد، وقد جاء هنا مطلقاً، فينبغي
القول بعمومية مفهومه وشموله للنور الذي يجعله اللَّه للمؤمنين في الدنيا كما يشمل النور الذي يهتدي به المؤمنون إلى الجنة يوم القيامة «4».
______________________________
(1). المفردات ومجمع البحرين مادة (صدق)، تفسير الميزان، ج 19، ص 186؛ تفسير المراغي، ج 27، ص 174؛ تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 236.
(2). تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 238.
(3). احتمل البعض أنّ جملة «وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ليست عطفاً على الجملة التي سبقتها، وأنّها جملة مستقلة مركبة من مبتدأ وخبر، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً.
(4). الظاهر من تعبير بعض المفسرين أن الضمائر في جميع هذه الجمل ترجع إلى المؤمنين، بينما يصرح صاحب الميزان بأنّ الضمير في «لهم» يرجع إلى «الذين آمنوا» والضميرين الآخرين يرجعان إلى «الصديقين» و «الشهداء»، أي أولئك الذين لهم أجر الصديقين والشهداء ولهم نورهم، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 355
وقد طرحت الآية الرابعة والأخيرة استفهاماً تقريرياً قائلة: «افَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ ؟ وهذا دليل واضح على أنّ قبول الإيمان متزامن ومقترن مع شرح الصدر، وشرح الصدر أرضية خصبة للنور الإلهي، النور الذي يضي ء العالم أمام أعين المؤمن، ويكشف له حقائقه كما هي.
إنّ المراد من «شرح الصدر» هو اتساع الروح إلى درجة تكون مستعدة لاستيعاب حقائق كثيرة، وما يقابل شرح الصدر هو «ضيق الصدر» أي تضيق الروح بدرجة لا تتمكن من استيعاب شي ءٍ من الحقائق، وبتعبير آخر: إنّ شرح الصدر هو اتساع وعظمة الروح الذي يُعَدُّ الإرتباط بالذات اللامتناهية أحد عوامله، نعم إنّ الروح التي تتخذ صبغة اللَّه وتتسع تكون أهلًا لقبول العلوم والمعارف الإلهيّة.
إنّها لا تتسع فحسب، بل تلين وتختصب وتتهي ء لنثر بذور المعرفة فيها، ولهذا صرحت الآية في النهاية:
«فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ اللَّه .
ج ج
1- جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ المؤمن ينظر بنور اللَّه» «1» فطلب أحد الصحابه بيان معنى الحديث فقال عليه السلام: «هذا إنّما هو لأجل أنّ اللَّه تعالى قد خلق المؤمن من نوره واحاطه برحمته».
2- ونقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:
«اتقوا فراسة المؤمن فانّهُ ينظر بنور اللَّه ثم تلا: إنّ في ذلك للمتوسمين» «2».
3- وفي رواية اخرى عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه الكرام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله
______________________________
(1). بحار الأنور، ج 64، ص 74، ح 2.
(2). المصدر السابق، ح 4.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 356
قال: «إيّاكم وفراسة المؤمن فانّه ينظر بنور اللَّه تعالى «1».
4- ونجد أنّ هذه الأمثال اتخذت أهميةً كبرى كما هو المشاهد في بعض الروايات حيث ينقل نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «اتقوا ظنون المؤمنين فإنّ اللَّه سبحانه جعل الحق على السنتهم» «2».
5- وجاء عنه عليه السلام في نهج البلاغة أيضاً أنّه قال: «وبالصالح يستدل على الإيمان وبالإيمان يعمر العلم» «3».
6- ونختم البحث بحديث عن الإمام الباقر عليه السلام يقول فيه: «ما من مؤمن إلّاوله فراسة ينظر بنور اللَّه على قدر إيمانه» «4».
وكما قلنا في بداية البحث، فإنّ الإيمان الصادق يجعل الإنسان عاشقاً للحق والحقيقة ومذعناً أمام الواقعيات والحقائق، وبهذا تتحرر روح الإنسان من جميع القيود وتتهيأ لقبول جميع المعارف.
في البداية نقرأ خاشعين الآيات الشريفة التالية:
1- «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ الىَ النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِايَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ». (ابراهيم/ 5)
2- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ
لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ». (لقمان/ 31)
3- «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
______________________________
(1). بحار الانوار، ج 64، ص 75، ح 8.
(2). نهج البلاغة الكلمات القصار، الكلمة رقم 309.
(3). نهج البلاغة، خطبة 156.
(4). عيون الأخبار، ج 2، ص 200 (ينقله عن كتاب الحياة، ص 92).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 357
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ». (سبأ/ 19)
4- «وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ* انْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَضْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ». (الشورى 32- 33)
ج ج
تحدثت الآية الاولى عن «بني اسرائيل»، حيث بُعثَ فيهم موسى عليه السلام بمعاجز وآيات إلهية واضحة، وكان موظَّفاً بأن يخرجهم من ظلمات الشرك والكفر والفساد إلى نور التوحيد الذي هو ينبوع جميع البركات والخيرات، ولأن يذكرهم بأيام اللَّه، ثم قالت الآية في النهاية: «إنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ».
ما المراد من أيام اللَّه؟
هناك بحث بين المفسرين في هذا المجال، فمنهم من فسرها بالنِّعَم والابتلاءات الإلهيّة «1»، ومنهم من فسرها بأيام انتصار الرسل والأمم الصالحة، ومنه مَنْ اعتبرها إشارة إلى أيّام عذاب الأقوام الطاغية والعاصية والظاهر عدم التعارض للأيّام بين هذه التفاسير لأنّها كلها من «أيّام اللَّه».
إنّ معناها الواضح، واضافتها إلى اللَّه «اضافة تشريفية»، والمراد منها هو جميع الأيّام المهمّة من حيث أهميّتها البالغة، أو من حيث إنّ فيها نعمة إلهية شملت أقواماً صالحين كالانتصارات العظيمة على جند الشرك والظلم، وكالنجاة من الظَّلَمَة والطواغيت وكالموفقية لأداء الجهاد أو فريضة عظيمة اخرى.
أو من حيث شمول عذاب اللَّه ونقمته لأقوام عصاة وهلاكهم، أو شمول نبذة من العقاب الإلهي لهم ليستيقظوا من غفلتهم ويعوا، كل هذه
هي «أيّام اللَّه» وداخلة في مفهومها الواسع.
______________________________
(1). لقد جاء هذا التفسير في عدد من الاحاديث النبوية. تفسير الميزان، ج 5، ص 15 و 16؛ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 526.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 358
أما سبب كون هذه الآيات عبرة للصابرين والشاكرين فقط دون غيرهم (ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ «صبور» و «شكور» صيغةٌ مبالغةٌ، الاولى تعني كثير الصبر والثانية كثير الشكر)، فذلك لأجل أنّ دراسة دقائق هذه الحوادث وجذورها من جهة، ونتائجها من جهة اخرى يحتاج إلى صبر وتأنٍ.
إضافة إلى هذا، فانّه لا يستفيد من هذه الحوادث إلّاأولئك الذين يقدِّرون نعَم اللَّهِ ويشكرونه عليها، وعلى هذا، فالصبر والشكر أرضيتان ملائمتان للمعرفة والعلم.
كما يحتمل أن يكون تقارن الصبر مع الشكر لأجل أنّ هؤلاء مجهزون بالصبر عند المصائب، وبالشكر عند النِعَم، وعلى هذا فلا يركعون أمام المصائب، ولا يغترون عند نزول النِعَم، فلا يضِلون أنفسهم على أيّة حال، فهم مؤهلون لتقبل المعرفة وأخذ العِبَر والدروس من هذه الحوادث العظيمة.
في الآية الثانية والرابعة جاءت هذه العبارة: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ»، وقد ذُكِرَت بعد التعرض لحركة السفن في البحار والمحيطات التي تتم بايعاز من اللَّه وبالاستعانة بالرياح فتطوي المسافات البعيدة وتصل إلى مقاصدها بسرعة.
بديهي أنّ هذا الموضوع هو إحدى آيات اللَّه التكوينية، وآية من آيات النظام الإلهي وقدرة اللَّه.
لكن هل يا ترى يكون استثمار هذه الآيات الإلهيّة الموجودة في عالم الوجود وحتى الكامنة في هبوب الرياح ممكناً للجميع، أو أنّه خاص بأُولئك الذين يدرسون ويتابعون نظام الخلق العجيب بدقة وصبرٍ وتأنٍ إلى المستوى الذي يتيح لهم العلم البشري فرصةَ الاستثمار، ومن جهة اخرى فإنّ الدافع نحو «شكر المُنعِمِ» نفسه عامل للسعي والحركة في طريق المعرفة.
يقول
«القرطبي» في تفسيره:
«والآية: العلامة، والعلامة لا تتبين في صدر كل مؤمن إنّما تتبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء» «1».
______________________________
(1). تفسير القرطبي، ج 14، ص 79.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 359
وقد جاء في تفسير «روح البيان»:
«مبالغ في الصبر على المشاق فيتعب نفسه في التفكر في النفس والآفاق» «1».
والجميل هنا هو أنّ الهواء الذي يحيط بالكرة الأرضية من ألطف الموجودات، وبالرغم من ذلك فهو عندما يتحرك ويتنقل فانه لا يحرك السفن العظيمة في البحار فحسب، بل كذلك الغيوم التي تُعَدُّ ينابيعَ للغيث، فيأخذ بها نحو الصحارى والأراضي الميتة فيحييها، كمابانتقال الهواء الحار إلى المناطق الباردة والهواء البارد إلى المناطق الحارة تتهيأ الأراضي الميتة للحياة، واضافة إلى هذا فإنّ الهواء يلقح النباتات كالزهور والأشجار ويحمل احياناً البذور فتُزرع في الأماكن التي تسقط فيها، ألَمْ تكن هذه من آيات اللَّه؟ ومن يمكنه استثمار هذه الآيات غير الصابرين والشاكرين؟
وقد جاء في حديث للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله: «الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر» «2» وهذا الحديث تأكيد لما جاء في الآيات.
ج ج
وأخيراً فإنّ الآية الثالثة أشارت إلى قوم سبأ، حيث شملهم التوفيق الإلهي فاستطاعوا أن يوجدوا سداً عظيماً بين الجبال في «اليمن»: وادخروا فيه الماء الكثير، وتمكنوا من ايجاد بساتين كثيرة، فغُمروا في النِعَم والفرح، إلّاأنّهم سلكوا طريق كفران النعمة، فتسلطت الأقوام المرفهة على الأقوام الضعيفة ظلماً وجوراً فَعَمَّ مساكنَهُم الخرابُ والدمار، بحيث هلك الحرث والنسل لانفجار السد، فتفككوا وتشتتوا بشكل حيث جعلهم اللَّه أحاديث للآخرين «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وأهلكهم جميعاً «وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، ثم أضاف القرآن: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ».
وذلك لأنّهم يستخلصون الدروس والعِبر بدقتهم وتأنيهم.
______________________________
(1). تفسير روح البيان، ج 7، ص 98.
(2). تفسير
مجمع البيان، ج 7، ص 323؛ تفسير الكبير، ج 25، ص 162؛ تفسير المراغي، ج 21، ص 97؛ تفسيرالقرطبي، ج 5، ص 3571 وتفاسير اخرى
نفحات القرآن، ج 1، ص: 360
ومن جهة فإنّ هذه الحقيقة تثبت، وهي: أنّ بين الحياة والممات مسافة قصيرة جدّاً، بحيث يمكنك البحث عن الممات في قلب الحياة، فإنّ وفرة الماء التي سببت تقدم قوم سبأ وإزدهار بلادهم وتطور حضارتهم، سبب هلاكهم يوماً ما!
ومن جهة اخرى فإنّ هذا يكشف عن شدة ضعف هذا الإنسان المغرور، وذلك لأنّه يقال إنّ السدّ (الذي اطلق عليه سدّ مأرب)، قد ثُقب بواسطة الجرذان الصحراوية ثقباً صغيراً في البداية ثم توسع الثقب إلى أن أدّى بالسدّ لأنّ ينهدم بالكامل، وبهذا نرى أن جرذاناً صحراوية أبادت حضارة عظيمة.
ومن جهة ثالثة، فإنّ المستكبرين من قوم سبأ الذين لم يَرُق لهم رؤية المستضعفين بقربهم، وحسبوا أنّه ينبغي وجود فاصلة أو سد عظيم كسد مأرب بين أقلية الأشراف والأكثرية المستضعفة، طلبوا من اللَّه أن يبعد مدنهم عن مدن المستضعفين كي لا يتمكنوا من السفر مع المستكبرين، ويبقى امتياز السفر خاصاً بهم «رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا»، (سبأ/ 19) إلّاأنّ اللَّه فرقهم بشكل حيث لا هم بقوا ولا ظنونهم الباطلة.
ومن جهة رابعة، فإنّ حياتهم المرفهة أغفلتهم عن ذكر اللَّه، وما صحوا إلّابعد أن انتهى كل شي ء.
وعلى هذا، فيمكننا بالتأمل والدقّة والاستعانة بالعقل أن نستشف آيات كثيرة من هذه القصة وهذا الحديث «1».
إنّ المستشف من الآيات الأربع الماضية هو: أنّ كل من كان أدق وأكثر صبراً في دراسته لاسرار الخلق والحياة الاجتماعية، ولكل من كان شاكراً للنعم ومستعيناً بوسائل المعرفة فإنّ له نصيباً أوفر وأكثر من المعرفة، ولهذا كان الصبر والشكر أرضيتين ممهدتينِ
للمعرفة.
ج ج
______________________________
(1). ينبغي الالفتات إلى أنّ مفردة «أحاديث» التي جاءت في الآية، منتهى الجموع وتكشف عن وجود أحاديث وقصص كثيرة في ماضي قوم سبأ لا قصة واحدة.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 361
المعروف هو أنّ الثروة تجلب الثروة، أي أنّ مقداراً من رأس مال يكون أرضية لربح رأس مال أكبر، وكلما ازداد مقداره ازداد مورد الإنسان من رأس ماله.
أنّ هذا الأمر ينطبق على العلوم والمعارف كذلك، فالذين يملكون رأس مالٍ من العلوم تتوفر عندهم الأرضية الخصبة لتقبل علوم ومعارف اخرى، ولهذا قلنا: إنّ المعرفة تهى ء الأرضية للمعرفة أي لنيل معارف اخرى هي أرفع وأوسع.
وقبل الخوض في البحث نمعن خاشعين للآيتين التاليتين:
1- «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ . (الروم/ 22)
2- «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
(النمل/ 52)
إنّ الآية الاولى من جملة الآيات الكثيرة في سورة الروم التي أشارت لآيات الآفاق والأنفس، وعدت بعضاً من آيات اللَّه في العالم الأكبر (الكون) وبعضاً من آيات العالم الأصغر «الإنسان» فاشارت الآية إلى العالم الأكبر من جهة «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ ، ثم أشارت إلى بعض دقائق خلق الإنسان من جهة اخرى «وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ .
الاختلاف ليس في الألسنة والألوان الظاهرة فحسب، بل في السنة الفكر وألوان الأذواق والبواطن، فانّها مختلفة إلى درجة بحيث لا يمكن العثور على شخصين متشابهين
نفحات القرآن، ج 1، ص: 362
بالكامل، وهذا الاختلاف جارٍ حتى بالنسبة للتوأم.
إنّ هذا الاختلاف يسبب- من جهة- التعارف والاختلاف بين الناس، لأنّه إذا لم يكن تمايز بين الناس اختل النظام الاجتماعي للحياة، كما هو الحال بالنسبة للتوأم فالذي يعاشرهم كثيراً يقع في اخطاء تجاههم، فقد يقدم أحدهم من السفر ويقوم صديقهم بزيارة الآخر الذي لم يسافر، أو يتمرض احدهم فيزور الآخر وهو صاحٍ، أو يعطي الابوان الدواء للسليم لعدم التمييز بينهما.
تصوروا ما الذي يحصل لو كان الناس
جميعاً متشابهين من جميع الجهات؟!! ومن جهة اخرى، فإنّ هذا التنوع والاختلاف يسبب انخراط كل مجموعة من الناس في جانب من جوانب الحياة وبهذا الاختلاف في الأذواق والقابليات تسدّ جميع احتياجات البشر الاجتماعية فلا يحصل خللٌ في هذا المجال، ألم تكن هذه الدقّة العجيبة في هذا النظام من آيات اللَّه؟!
والجدير بالذكر أنّ المفسرين ذكروا احتمالات عديدة في تفسير (اختلاف الألسنة) فتارة قالوا: إنّ المراد منه هو الاختلاف في اللغة، حيث نعلم أنّ اللغات الموجودة حالياً أكثر من ألف لغة، وهذا التنوع الذي لا نريد الخوض في تفصيلاته فعلًا، جيد لتتعرف الأقوام المختلفة على بعضها البعض.
وتارة قالوا: إنّ المراد هو اللهجات وكيفية حديث الأشخاص التي تختلف من شخص إلى آخر اختلافاً كبيراً، فلكلٍ منطق وأسلوب في البيان يعبّر عن شخصيته.
وتارة قالوا: إنّ المراد هو الأصوات أو ما يصطلح عليه ب «الذبذبات الصوتية» التي تختلف عند الأشخاص اختلافاً فاحشاً، ولهذا فإنّ الأعمى يميز الأشخاص من أصواتهم، كما أنّ البصير يميزهم من وجوههم.
ومن هنا يتضح أنّ اقتران اختلاف الألسنة والألوان بخلق السموات والأرض في الآية هو لأجل الإشارة إلى أنّ جميع موجودات العالم- صغيرها وكبيرها، وأبسطها وأعقدها- بحسب الظاهر- تحكمها قوانين وأنظمة دقيقة، و. هي آيات لعلم اللَّه وقدرته وينبغي الإشارة
نفحات القرآن، ج 1، ص: 363
إلى أنّ الآية صرحت في النهاية: «انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ نعم إنّ العلماء هم الذين يدرسون أسرار الكون ويتفحصونها واحدة تلو الاخرى، وهم الذين تكون معرفتهم السابقة أرضية خصبة لمعارفهم الأكثر والأدقّ.
ج ج
وقد تحدثت الآية الثانية عن مجاميع صغيرة مفسدة تعيش في «وادي القرى بين قوم صالح (على ما يقوله المفسرون)، وكان عددهم تسعة رهط (أي مجموعات صغيرة)، وكانوا يفسدون في الأرض دائماً كما
يصفهم القرآن الكريم: «وَكَانَ فِى الْمَدِيْنَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ . (النّمل/ 48)
أمهلهم اللَّه كثيراً كفرصةٍ للتوبة والرجوع إلى أنفسهم، لكن ما زادهم الأمهال إلّاغروراً، وكان نهاية أمرهم أن أنزل اللَّهُ عليهم صاعقة من السماء، وزلزلة من الأرض ختمت حياتهم.
يقول القرآن فيهم: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِمَا ظَلَمُوا» أي خالية منهم بسبب ظلمهم وطغيانهم.
ثم يضيف: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
إنّ عبارة: «بِمَا ظَلَمُوا» تدل على أنّ الظلم هو السبب في دمار البيوت وخرابها، وقد نُقِل عن ابن عباس أنّه قال: إنّي وجدت هذه الحقيقة في كتاب اللَّه وهي: إنّ الظلم يهدم البيوت، ثم تلا الآية المذكورة.
وقد جاء في التوراة: «يابن آدم لا تظلم فيُهدم بيتك» «1».
وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ مفردة «خاوية» تعني- في الأصل- خالية، إلّاأنّ كثيراً من المفسرين فسرها بالخربة، وهذا قد يكون لأجل أنّ البيت إذا خلى وهُجِر خرِبَ وانهدم «2».
______________________________
(1). تفسير روح المعاني، ج 19، ص 194.
(2). ذكر صاحب تفسير روح البيان معنيين لمادة (خوى أحدهما الخلو والثاني السقوط والانهدام، ومن هنا يعبر عرب الجاهلية عن النجم إذا سقط (خوى النجم) إلّاأنّ الظاهر أنّ المعنى الأولي لهذه المادة هو: الأول فقط، ويستعمل تعبير (خوى النجم) إذا ما غرب نجم أو افل بلا مطر (حيث كان يعتقد عرب الجاهلية أنّ طلوع كثير من النجوم متزامن مع المطر وإذا لم يكن هناك مطر استعملوا التعبير السابق لذلك النجم).
نفحات القرآن، ج 1، ص: 364
من المعلوم أنّ آيات اللَّه- سواء كانت آفاقية أو انفسية أو تعلقت بدروس وعبر تاريخ الأقوام الغابرة- تخص الجميع، وبما أنّ الجميع لا يستفيد منها ولا يستثمرها، يقول القرآن عنها «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
وتارة يقول: «للمتقين».
وتارة
يقول: «لكل صبّار شكور».
وهذه إشارة إلى أنّ هذه الفرق- هي التي تنتفع بهذه الآيات وتستفيد منها دون سواها، لِما عندهم من أرضيّه خصبة لهذا الأمر.
وهناك آيات كثيرة في القرآن المجيد لا تخلو من الإشارة إلى حقيقة أنّ المعرفة تعتبر أرضيّة معدّة وخصبة لمعارف أكثر، كما جاء ذلك في الآيات التالية:
«كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . (الاعراف/ 32)
«يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . (يونس/ 5)
«كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . (فصلت/ 3)
«تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . (البقرة/ 230)
كما اتضح- ممّا مر- الجواب على السؤال عن حاجة العالمين لشرح وتبيين الآيات الإلهيّة.
إنّ الإنسان ما لم يشعر بالمسؤولية لا يلتفت إلى مصادر المعرفة وسوف لا يبالي بآيات اللَّه ومواعظه.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 365
ومن هنا ينبغى القول بأنّ الاحساس بالمسؤولية والخوف من اللَّه هو احدى أرضيات المعرفة التي تُعِدُّ روح الإنسان وتهيئها لتقبل علوم ومعارف مختلفة.
وبالالتفات إلى هذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيْدٌ* إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ». (هود/ 102- 103)
2- «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ .
(سبأ/ 9)
3- «وَتَرَكْنَا فِيْهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُوْنَ الْعَذَابَ الأَلِيْمَ . (الذاريات/ 37)
إنّ الآية الاولى بعدما أشارت إلى ماضي بعضٍ من الأقوام السالفة (مثل قوم لوط وشعيب والفراعنة) ونزول أنواع من العذاب عليها، قالت: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ» ثم قالت في النهاية: «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» ثم قالت: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ» أي في قصص الأمم السالفة وعقابهم ونزول العذاب عليهم آية واضحة لمن خاف عذاب الآخرة.
لقد جاءت مفردة «آية» نكرة، وذلك للاشارة إلى عظمة وأهميّة هذه الآية الإلهيّة ودور العبرة فيها، والتعبير ب «لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ» إشارة إلى الأرضية المُعدَّة للمعرفة عند أولئك الذين يخافون من عذاب الآخرة.
أمّا أولئك الذين لا يخافون عذاب الآخرة فلا يدركون علاقة هذه الذنوب بأنواع العذاب الإلهي، إنّهم يعدون العذاب أمراً قهرياً وجبرياً، أو يرجعون أسبابه إلى حركة الأفلاك
نفحات القرآن، ج 1، ص: 366
والنجوم وأوهام وخرافات اخرى، ولا يدركون الأسباب الحقيقية له «1».
إضافة إلى هذا، فإنّ الإنسان
لا يقطع بالعذاب الدنيوي ما لم يقطع بالعذاب الاخروي، لأنّ كليهما وليد شي ء واحد وهو معرفة اللَّه ومعرفة عدالته.
إنّ جملة «وهي ظالمة» تلميح إلى أنّ الأخذ والدمار كان بسبب ظلم تلك القرى وبتعبير آخر: فإنّ جميع الانحرافات العقائدية والسلوكية داخلة في مفردة الظلم.
ج ج
والآية الثانية بعدما أشارت إلى آيات اللَّه في السموات والأرض: وبيان قدرته على كلّ شي ء أكّدت بأنّ اللَّهَ لم يعجز عن عذاب أولئك العصاة الذين سخروا بآيات اللَّه واتهموا الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بالجنون، واعتبروا المعاد محالًا، إنْ شئنا خسفنا بهم الأرض، أو أسقطنا عليهم من السماء أحجاراً سماوية: «إِنْ نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ».
إنّ «كِسَف» جمع كِسْف ويعني القماش المقطّع قطعاً قطعاً، وقد استعملت هذه المفردة هنا إشارة إلى بعض الكرات السماوية التي تنفجر تحت ظروف خاصة وتتحول إلى قطعٍ متعددة تسبح في السماء، وإذا ما دخلت في مدار الأرض، تحولت (بايعاز من اللَّه) إلى أمطار من حجر، أو سقطت على وجه الأرض بصورة قِطَع حجرية كبيرة، كلٌّ منها يمكنها تدمير منطقة واسعة من سطح الأرض، كما أنّ العلماء اكتشفوا نماذَج من هذه الكُتَل الحجرية في منطقة «سيبيريا».
ثم قالت الآية في النهاية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ أي لكل عبد راجعٍ اللَّه وخائف من عذابه ومتخذ سبيل التوبة.
المسلم هو أنّ هذه الآيات عامة لجميع البشر، لكن لا ينتفع بها إلّامن خاف اللَّه وشعر بالمسؤولية «2».
______________________________
(1). لقد اشير إلى هذا الأمر في التفاسير التالية: تفسير روح المعاني، ج 12، ص 123؛ تفسير الكبير، ج 18، ص 58؛ تفسير روح البيان، ج 4، ص 185.
(2). تفسير القرطبي، ج 8، ص 5346.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 367
وبتعبير
آخر: فإنّ جملة «لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ بمثابة بيان لسبب جملة «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً»، أي أنّ الالتفات إلى حقيقة العبودية والتوبة والإِنابة سبب للانتفاع بهذه الآيات «1».
وفي الحقيقة، إذا ما درسنا حقيقة مفهوم العبودية، رأينا لا يخلو من التوبة والإِنابة عند اقتراف الذنب.
ج ج
أما ثالث وآخر آية في البحث، فقد أشارت مرّة اخرى إلى المصير الرهيب لقوم لوط ذلك المجتمع الذي بلغ من العار أَقصاه، وسخر من جميع قيم الإيمان والإنسانية وغمر في وحل الفساد والفحشاء ...
إنّ الآية بعدما أشارت إلى تدمير مدنهم وتخريبها قالت: «وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يعتقد الكثير أنّ مدن قوم لوط كانت في الشامات قرب «البحر الميت» أو بين الشام والحجاز، وكان يطلق عليها «المدائن المؤتفكة»، ويقال: إنّه عندما زلزلت الأرض من مدنَهم هدمتها، ثم نزلت عليهم أمطار من الأحجار، وانشقت عندها الأرض شقاً نفذ فيه ماء «البحر الميت»، وبدل هذه المدن إلى مستنقعات نتنة، ولهذا يدعي البعض العثور على آثار من الأعمدة وغيرها من هذه المدن في أطراف البحر الميت.
وعلى أيّ حال، فإنّ هذه الآثار الباقية- سواء كانت في اليابسة أو تحت المستنقعات الآسنة- درس وعبرة، ولا ينتفع بهذا الدرس إلّاالذين يخافون عذاب اللَّه، ويشعرون بالمسؤولية (وتواجدت فيهم أرضية المعرفة).
وبتعبير بعض المفسرين:
آية العبرة هذه هي لُاولئك الذين من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فانهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية ودليلًا «2».
______________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 22، ص 104.
(2) تفسير روح المعاني، ج 27، ص 13.
نفحات القرآن، ج 1، ص: 368
إنّ الخوف سواء كان بمعنى الخوف من اللَّه أو من عذابه أو من الذنب والمعصية (لأنّ جميعها ترجع إلى
معنى واحد)، يُعِدُّ الأرضية لروح الإنسان لتقبل الحقائق والمعارف، الإنسان ما لم يشعر بالمسؤولية لا يتجه نحو مصادر المعرفة ولا يبحث في آيات الآفاق والأنفس والتكوين والتشريع.
وخلاصة الحديث، أنّ الحركة نحو العلم والمعرفة كأي حركة اخرى تحتاج إلى محرك، والمحرك يمكنه أن يكون أحد الامور التالية:
1- جاذبية العلم والعشق للمعرفة التي أُودعتْ في روح الإنسان منذ البداية.
2- الاطلاع على النتائج المثمرة والآثار القيمة للمعرفة، ووصول الإنسان إلى المراحل الرفيعة تحت ظلها.
3- الشعور بالمسؤولية والخوف من العواقب المؤلمة لفقدان المعرفة والجزاء الترتب عليها.
إنّ كلًا من هذه الامور يمكنها أن تهي ء الأرضية المناسبة لطيّ هذا الطريق الملي ء بالتعرجات، وإذا ما تعاضدت هذه الامور مع بعضها البعض، فإنّ الحركة نحو المعرفة ستكون أسرع وأعمق وأكثر ثماراً.
وآخر الحديث: إنّ أكبر فخر للإنسان هو العلم والمعرفة، والجاهلون هم موتى الأحياء.
إنّ بلوغ مرحلة المعرفة الكاملة، لا يتم إلّامع توفر الأسباب ورفع الموانع والحجب وتهيئة الأرضية المناسبة.
وما أجمل ما قاله الشاعر:
نفحات القرآن، ج 1، ص: 369 وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور
وإنّ امرءاً لم يحيي بالعلم ميتةفليس له حتى النشور نشورٌ
ربّنا علّمنا المعارف الحقيقية، والأرفع من ذلك أي
معرفة ذاتك المقدّسة الطاهرة وصفاتك الجليلة.
إلهي! نعلم أنّ أعظم فخرنا هو علمنا ومعرفتنا،
والاطلاع على أسمائك وصفاتك وعالم خلقك أي أفعالك،
إلّا أنّه لا يتيسر طيّ هذا الطريق الصعب إلّابتوفيقك، فوفقنا
وثبت أقدامنا.
يا مولانا! إنّ شياطين الدرب كثيرون، وأوديته
خطرة، وموانعه عديدة، ولا يمكن رفع هذه الموانع إلّا
بامداداتك، فزودنا بها وبألطافك الخاصة.
آمين يا رب العالمين
نهاية المجلد الأول من نفحات القرآن
(التفسير الموضوعي)
صباح الجمعة- 8 رجب 1408 ه. ق
الموافق ل 7/ 12/ 1366 ه. ش
الكل يريد أن يعرف أجوبة هذه
الأسئلة:
من أين جئنا؟
أين نحن؟
وإلى أين نذهب؟
وبالطبع فثمة سؤال مهم آخر إلى جانب هذه الأسئلة الثلاثة وهو:
«لماذا جئنا؟» هل كان لمجيئنا غاية؟ وإن كانت له غاية فما هي؟.
وما هي الوسائل المتوفرة لدينا من أجل الوصول إلى هذه الغاية؟
من هو المُبدى ء الأصلي لهذا العالم، ومن أين نَبَعَ عالم الخلقة؟
وأخيراً، هل هناك طريق لمعرفة هذا المُبدى ء الكبير؟
هذه هي أهم أسئلة البشر.
إنّ الذين لا يرون ضرورة في العثور على أجوبة هذه الأسئلة هم الغرقى في الحياة المادية اليومية إلى درجة أنّهم لا يفكرون في شي ء سوى «النوم والأكل واللذة الجنسية»، فهم كالأنعام لا علم لهم «بالعالم الإنساني».
أو أنّهم سعوا وحاولوا العثور على جواب هذه الأسئلة لكنهم لم يصلوا إلى شي ء، فيئسوا وكفوا عن البحث.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 6
وإنطلاقاً من أنّ «السؤال» هو الدافع «للحركة» دائماً، الحركة نحو الإجابة، وأنّ الأسئلة كلما كانت متنوعة وعميقة كانت الحركة أوسع وأكثر تجذراً، لهذا يجب أن تستقبل الأسئلة المهمّة بصدور واسعة، ولا نخشَ كثرة الأسئلة وأهميّتها، بل نستقبلها بكل رحابة صدر.
ويمكن أن تكون محصلة عمر الإنسان ليست في الحقيقة شيئاً سوى العثور على أجوبة الأسئلة، وأنّ نتيجة جهود كل علماء العالم والفلاسفة وعلماء العلوم الطبيعية بلا استثناء هي الأجابة عن بعض هذه الأسئلة.
يحاول علماء الفلك أن يشرحوا كيفية ظهور السماوات والنظام الذي يحكمها.
وعلماء الجيولوجيا يجيبون على الأسئلة ذات العلاقة بظهور الأرض وتركيبها.
وعلماء الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي وكل الذين يدرسون العلوم الإنسانية والاجتماعية يريدون أن يعثروا على أجوبة الأسئلة المتعلقة بهذا الموجود العجيب المسمى ب «الإنسان».
ويريد الفلاسفة بمساعيهم المتواصلة أن يطلعوا على حقيقة المُبدى ء ومصير العالم- إلى الحد الذي يستطيع عقل البشر أن يصل إليه- أو الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بهذا المجال
على الأقل.
نستنتج ممّا ذكرناه أنّه إن كان البحث حول «الخالق لعالم الوجود» ومبدأ هذا العالم الكبير الذي نعيش فيه من أقدم البحوث وأرسخ الأسئلة الإنسانية، فليس ذلك أمراً عجيباً.
ولهذا نرى من واجبنا السعي بقدر استطاعتنا للعثور على جواب هذه الأسئلة:
من هو مُبدى ء عالم الوجود؟ وكيف يمكن معرفته؟!
نفحات القرآن، ج 2، ص: 7
1- الدافع العقلي
2- الدافع العاطفي
3- الدافع الفطري
نفحات القرآن، ج 2، ص: 9
تمهيد:
قلنا إنّهُ لا توجد حركة بدون حافز أو دافع، وبالطبع فلا يمكن للحركة في طريق معرفة مُبدى ء عالم الوجود أن تكون بلا حافز، ومن هنا يذكر الفلاسفة والعلماء ثلاثة دوافع أساسية للبحث عن اللَّه، وجميعها أشار إليها القرآن الكريم إشارات واضحة.
1- الدافع العقلي.
2- الدافع العاطفى.
3- الدافع الفطري.
وللبعض من هذه الحوافز فروع خاصة بها.
لنبتدأ أولًا ب «الحافز العقلي» و نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة أدناه:
1- «يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اسْتَجِيْبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُوْلِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيْكُمْ».
(الانفال/ 24)
2- «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ إِذ بَعَثَ فِيْهمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيْهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِيْنٍ».
(آل عمران/ 164)
3- «لَقَدْ أَرْسَلُنَا رُسُلَنَا بِالْبيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالْقِسْطِ». (الحديد/ 25)
4- «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْروُفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتى كَانَتْ عَلَيْهِمْ». (الأعراف/ 157)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 10
5- «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعَوْنَ* أَوْ يَنْفَعُوْنَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ... فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِيْنَ». (الشعراء/ 72، 73، 77)
6- «فَإِنْ أَعْرَضُوْا فَقُلْ انْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ». (فصلت/ 13)
7- «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذْيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ». (سبأ/ 46)
الإنسان يحب الكمال، ويعتبر هذا الحب خالداً عند كل الناس، يبقى أنّ كل إنسان يرى كماله في شي ء معين، فيذهب نحوه، والبعض يذهبون وراء السراب يحسبونه ماءً ويلهثون خَلْفَ القيم الوهمية والكمالات الخيالية ويتصورونها واقعاً.
قد يسمى هذا المبدأ أحياناً ب «غريزة حب المنفعة ودفع الضرر» التي يجد الإنسان نفسه على ضوئها بأنّه ملزم أن يكون
له تعامل جاد مع كل موضوع يتعلق بمصيره (بلحاظ النفع والضرر).
لكن إطلاق تعبير «غريزة» على هذا الحب يعدّ تعبيراً غير صحيح، فالغريزة عادة تطلق على أمور تؤثر في أفعال البشر أو باقي الأحياء بدون تدخل التفكير، ومن هنا تستعمل بالنسبة للحيوانات أيضاً.
وَعلى هذا الأساس فمن الأفضل أن نستخدم تعبير (الرغبات السامية) التي استعملها البعض لمثل هذه الموارد.
وعلى كل حال، فالحب للكمال والميل نحو المصالح المعنوية والمادية ودفع كل أنواع الضرر يجبر الإنسان على التحقيق حتى في مواضع الاحتمال، وكلما كان هذا الأحتمال أقوى وذلك النفع والضرر أعظم، كان التحقيق والبحث أكثر ضرورة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 11
من المستحيل أن يحتمل شخص تأثير أمر مهمّ في مصيره، ولا يرى من واجبه التحقيق حوله.
وقضية الإيمان باللَّه والبحث عن الدين تعتبر من هذه القضايا بلا شك، لأنّ هنالك في محتوى الدين كلام عن القضايا المصيرية، وعن القضايا التي يرتبط خير وشر الإنسان بها ارتباطاً وثيقاً.
البعض يذكر مثالًا من أجل إيضاح هذا الموضوع، فيقول: لنفترض أننا نجد إنساناً واقفاً على مفترق طريقين ونسمعه يقول بقطع ويقين: إنَّ البقاء هنا خَطَرٌ، واختيار هذا الطريق (إشارة إلى أحد الطريقين) هو الآخر خطر، والطريق الثاني هو طريق النجاة، ثم يذكر قرائن وشواهد لكل ما قاله، فما من شك أن أي عابر سبيل يرى نفسه ملزماً بالتحقيق ويعتقد أنّ اللامبالاة تجاه هذه الأقوال مخالفة لحكم العقل، وبلحاظ هذه المقدمة ننتقل إلى تفسير الآيات.
إنّ أول آية من الآيات المعنية بالبحث تَعتبر دعوة رسول اللَّه إلى الإسلام دعوةً إلى العيش والحياة الحقيقية، وَتدل هذه الدعوة على أنّ بالإمكان جمع كل محتوى الإسلام في مفهوم «الحياة»، الحياة التي تشمل الحياة المعنوية وتشمل الحياة المادية، الحياة الشاملة
والجامعة.
مع أنّ البعض فسر معنى الحياة هنا بأنّه بخصوص «القرآن» أو «الأيمان» أو «الجهاد» «1»
، لكن ممّا لا شك فيه أنّ الحياة مفهوم واسع يشمل كل هذه العناوين المذكورة وكل ما هو مؤثر في حياة الإنسان المعنوية والمادية.
وعلى كل حال، إذا دعانا شخص بمثل هذه الدعوة فهل يمكن أن نغض الطرف عن
__________________________________________________
(1) ذكرت هذه الاحتمالات عن المفسرين في تفسير الكبير، ج 15 ص 147؛ وتفسير الميزان، ج 9، ص 43؛ وتفسير روح المعاني، ج 8، ص 169؛ و تفسير القرطبي، ج 4 ص 2825.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 12
دعوته ولا نرى من مسؤوليتنا حتى التحقيق في هذه الدعوة؟.
هنا يريد القرآن بهذا التعبير أن يُوجد حافز الحركة نحو التحقيق حول الدين لدى كل من له القابلية على هذه الحركة.
يقول الراغب في كتاب «المفردات»: إنّ حقيقة «الاستجابة» هي السعي والقابلية على استلام الجواب، ولأنّ هذا الموضوع ينتهي عادةً بالجواب فقد فسروه بمعنى «الاجابة» «1».
الآية الثانية تعدُّ بعثة الرسول من أعظم النعم الإلهيّة التي منحها اللَّه سبحانه وتعالى للمؤمنين، ثم تذكر في تفسير هذه النعمة ثلاثة برامج مهمّة للرسول: تلاوة الآيات الإلهيّة:
«يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ»، والتزكية والتربية: «وَيُزَكِّيِهمْ»، وتعليم الكتاب والحكمة «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ».
ونتيجة كل هذه البرامج هي النجاة من «الضلال المبين»: «وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبَيْنٍ».
إنّ كل هذه التعابير هي من أجل إحياء محفزات الحركة نحو الأسلام لدى الناس، أو على الأقل من أجل أن يرى كل إنسان نفسه ملزماً بالتحقيق حول الإسلام لأنّه من الممكن أن يكون اكبر نفع وضرر للإنسان كامناً في هذا التحقيق.
«المِنّة»: من مادة «مَن» وهي في الأصل كما يعتقد البعض بمعنى القطع، لهذا فإن: «أجرٌ غير ممنون»
بمعنى الثواب الذي لا ينقطع أبداً، وكذلك يقال لنوع من الاصماغ والترشحات ذات الطعم الحلو والتي تشاهد كالقطرات الصغيرة مستقرة على أوراق الأشجار تشبه قطرات الندى يقال لها «المن».
ولكن يعتقد الراغب أنّ «المن» في الأصل بمعنى الحجر الذي يَزِنون به، والذي أطلق
__________________________________________________
(1) ولكن يجب الالتفات إلى أنّ «الإجابة» تكون فعلًا متعدياً بدون حرف الجر، في حين أنّ «الاستجابة» تذكر غالباً مع حرف اللام.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 13
فيما بعد على النعم الكبيرة الثقيلة.
وحينما تستخدم هذه المفردة في القاموس الإلهي فتعني «منح النعم» وحين تستخدم في قاموس البشر فتعني غالباً التحدث بالنعمة التي يجزلها الإنسان لغيره، من هنا كان معناها الأول إيجابياً والثاني سلبياً ومذموماً.
الآية الثالثة تشير إلى هدف مهم آخر من أهداف بعثة الأنبياء، وهو مسألة «العدالة الأِجتماعية»، فتقول: إنّنا جهزنا الرسل بثلاثة أشياء:
أولًا: البراهين الواضحة التي تشمل «المعجزات»، و «البراهين العقلية»: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ».
ثانياً: الكتاب السماوي الذي يبين المعارف ويشرح للناس مسؤولياتهم.
وثالثاً: الميزان: وهو الوسيلة التي بواسطتها توزن الأشياء، والعجب أنّ بعض المفسرين قد فسّروا الميزان بالمعنى الذي ذكرناه، في حين أنّ أغلب المفسرين يعتقدون أنّ المراد من الميزان هي الوسيلة التي بواسطتها يقام العدل فيشخص بواسطتها الحق من الباطل، الزيادة من النقصان، الخير من الشر، القيم الحقة والخيرة من القيم الباطلة والشريرة، وبإمكاننا أن نفسّر الميزان بالقوانين الإلهيّة.
صحيح أنّ هذه الأمور مذكورة في نص الكتب السماوية، ولكن ذكرها بشكل مستقل جاء بسبب أهميّتها.
وعلى كل حال، هل من الممكن أن يسمع إنسان بأنّ شخصاً يدعي الدعوة إلى وجود مثل هذه الحقائق المصيرية ولا يرى أنّ من واجبه التحقيق في هذه الدعوة؟.
يقول الفخر الرازي: الناس ثلاثة أنواع: نوع في مقام «النفس المطمئنة»
وهم المعنيون بالآية: «أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ»، النوع الثاني في مقام «الْنَفسِ اللَّوامة» وهم أصحاب اليمين الذين يحتاجون إلى معيار قياسي من أجل المعرفة والأخلاق، ليكونوا في أمان من الافراط
نفحات القرآن، ج 2، ص: 14
والتفريط، وهم المقصودون بتعبير «الميزان»، النوع الثالث هم أصحاب «النفس الأمارة» الذين تعنيهم الآية: «انزلنا الحديد» أي هم المستحقون للعقاب والجزاء «1».
في الآية الرابعة إشارة إلى الأبعاد المختلفة لبعثة الأنبياء وبالخصوص السياسية والاجتماعية ونزول الأديان السماوية، وفيها ذكر لبعض أوصاف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقد جاءت لترغيب الناس في اتباعه، منها: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْروُفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ».
لا شك أنّ هذه أمور مصيرية وذات علاقة وثيقة بمسألة تكامل الإنسان وخيره وشرِّه، بل مجرّد احتمالها يكفي لدفعه نحو التحقيق.
«الأِصر»: على وزن مصر، يعني في الأصل الربط والاغلاق وحبس الشي ء بقوة وعنوة، ثم أُطلقت على الحمل الثقيل والأعمال الشاقة التي تعوق الإنسان عن النشاط، ولهذا سُميت الجبال والمسامير التي تربط بها الأعمدة «آصار»، ولهذا أيضاً سمي العهد والوعد والذنب بالاصر «2».
يمكن الاستنباط من التعابير التي وردت في كلمات أرباب اللغة والمفسرين أن معنى كلمة «إِصر» الجسم الثقيل الذي يُربط بقدم السجين لكي لا يستطيع أن يتحرك، وإنَّ ذكره إلى جانب الأغلال وهي الأطواق والسلاسل التي تقيد بها الأعناق يناسب هذا المعنى، ثم أطلقت هذه المفردة على معنى آخر يتناسب وأصل الكلمة.
مع إنّ الكثير من المفسرين فسروا «الإِصر» و «الأغلال» في هذه الآية بمعنى التكاليف الشاقة أو الامتحانات العسيرة والمعقدة التي حلّت بالامم السابقة، لكن الظاهر أنّ لهاتين المفردتين مفهوماً أوسع وأشمل يستوعب كل أنواع قيود الاسر والحمل الثقيل الذي
يسببه
__________________________________________________
(1) التفسير الكبير، ج 29، ص 241.
(2) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 488؛ التفسير الكبير، ج 15، ص 25؛ تفسير روح المعانى، ج 9، ص 72 ومفردات الراغب، مادة (إصر) وكتاب العين، ج 7 ص 147.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 15
«الجهل» و «الشهوات» و «الذنوب» و «الاستبداد» و «الأِستعمار» وما شاكل، وهي أمور ترتفع وتزول تحت ظل وجود رسول اللَّه وتعليماته التحررية.
الآية الخامسة كلام ورد عن لسان محطم الأوثان إبراهيم عليه السلام عندما خاطب الوثنيين موبخاً إيّاهم على عملهم القبيح هذا (عبادة الأصنام)، وقال من أجل إيقاض عقولهم حيث كانوا يغطون في سبات عجيب:
«هَلْ يَسْمَعُونَكُم إِذْ تَدْعُوْنَ* أَوْ يَنْفَعُوْنَكُمْ أَوْ يَضَّروُنَ؟!» فلابدّ للعبادة أن تكون إمّا من أجل الربح والمكافأة والمنفعة أو من أجل دفع الضرر والعقاب.
وبالطبع لم يكن لديهم أجوبة إيجابية على هذه التساؤلات سوى الإعتصام باتباع وتقليد السلف والقول: «بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفَعْلُونَ».
تدل هذه التعابير جيداً بأنّ حافز النفع والضرر (ليس النفع والضرر المادي فحسب فالنفع والضرر المعنوي أفضل وأرفع منه) وَيمكن أن يكون حافزاً للحركة باتجاه معرفة اللَّه.
حول نزول آيات سورة فصلت وهي الآية السادسة في بحثنا هذا، نقرأ أن «أبا جهل» سأل «الوليد بن المغيرة» وهو من رجال عرب الجاهلية المعروفين وهو من أهل النظر والمشورة يُرجَع إليه عند المعضلات: ما هذا الذي يقوله «محمد»؟ أهو كهانة أم سحر؟ أهو تكهّن؟ ... فقال «الوليد»: يجب أن أذهب إليه بنفسي وأتحقق، وعندما جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله قرأ له بعضاً من آيات سورة فصلت إلى أن جاء إلى الآية التي ورَدت في بحثنا: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ».
فارتجف
«الوليد» لسماع هذه الآيات واقشعر بدنه ووقف شعر رأسه، فنهض من مكانه وعاد إلى بيته وأغلق الباب على نفسه، حتى ظن اكابر قريش أنّه يميل نحو الدين
نفحات القرآن، ج 2، ص: 16
الإسلامي، وعندما جاءوا إليه وسألوه عن شأنه، قال: ما صبوت (اي لم اسلم) واني على دين قومي وآبائي ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود، فلا هو بالشعر ولا بالخطب ولا بالكهانة، ولما قيل له: إذن ما نقول فيه؟ قال: قولوا هو سحر، فانّه آخذ بقلوب الناس «1».
أولا يمكن لمثل هذه التهديدات الواردة في الآيات القرآنية وبقيّة المصادر الدينية أن تكون حافزاً على التحرك نحو التحقيق (بالنسبة لمن لم يؤمنوا لحد الآن).
في الآية السابعة من البحث، أُمِر الرسول صلى الله عليه و آله أن يخاطب جميع معارضيه ويعظهم بمسألة واحدة: «قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفَكَّروُا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ الَّا نَذِيْرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ ...».
كل تعابير هذه الآية تعابير مدروسة.
فالتعبير ب «إنّما» من أجل الحصر.
والتعبير ب «الموعظة» يستخدم في المواضع التي يحكم فيها العقل بشي ء، ولكن لكون الإنسان غافلًا عنه فهناك شخص حريص آخر يوقظه ويعظُهُ.
والتعبير ب «القيام» دليل على الاستعداد الكامل لتنفيذ الأهداف الجدية.
والتعبير ب «مثنى» و «فرادى» إشارة إلى النشاطات الجماعية والفردية والجهود الشاملة في هذا السبيل «لا شك أنّ الإنسان يفكر بشكل أعمق عند انفراده ولكنه يفكر بشكل أكمل حين يكون ضمن الجماعة، لأنّ الأفكار ستتحد مع بعضها، والجمع بين هذين (التفكير على انفراد وضمن الجماعة) هو أفضل الطرق» «2».
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 17، ص 211 وتفاسير أخرى (الأصل في الحديث مفصل وقد نقلناه بتلخيص، لاحظوا تفصيله في التفسير
الأمثل ذيل الآية 13 من سورة فصّلت.
(2) قال بعض المفسرين: «مثنى إشارة إلى المناظرة التي لها تأثير كبير في كشف الحق، في حين أنّ «فرادى إشارة إلى القراءة في الوحدة، واحتمل بعض آخر أن «مثنى» إشارة إلى التفكير الذي يقوم به الإنسان خلال النهار ضمن الجماعة و «فرادى» التفكير الذي يحصل في الليل وعند الإنفراد (تفسير القرطبي، ج 8، ص 53 و 93).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 17
ثم التعبير ب «التفكر» الذي ينبع من الصميم ويهدي الإنسان إلى البراهين العقلية الواضحة.
والتعبير ب «لكم» هو الآخر ممتزج بمسألة الانذار والإلتفات إلى العذاب الشديد وفيه إشارة إلى أنّ الموضوع هنا هو نفعكم وضرركم فقط، ولا هدف للنبي صلى الله عليه و آله سوى هذا.
أفلا يجب والحال هذه أنّ يأخذوا دعوته مأخذ الجد ويفكروا فيها ويعثروا على الحق ثم يتبعوه؟
إنّ الآيات أعلاه وآيات مشابهة أخرى تكشف النقاب جيداً عن الحافز العقلي للبحث والتنقيب في طريق «معرفة اللَّه» وتدل على أنّه لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يتقاعس ويسكت أزاء الدعوات العظيمة لأنبياء اللَّه ورسله على صعيد الدعوة إلى اللَّه ذات العلاقة الوثيقة بمصير الجميع، وهذا هو الحافز الأول للتحقيقات الدينية.
1- ورد في حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أن أحد أصحابه سأله عن الضعفاء (المستضعفين) فكتب له الإمام في الجواب: «الضعيف من لم ترفع إليه حجة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف» «1».
2- و جلوه هاى توخالى دنيا از دور روي نفس هذا المعنى عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله: «من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف» «2».
__________________________________________________
(1) أصول الكافي، ج 2، ص 406، (باب المستضعف)، ح 11.
(2) المصدر السابق، ح 10.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 18
وفي هذا إشارة إلى أنّ الإنسان حين يطلع على وجود الاختلاف سوف يرغمه عقله على التحقيق والمطالعة (النظر)، وعندها لا يُعتبر مستضعفاً.
وبالطبع فالقصد من «المستضعف» هنا هو «المستضعف فكرياً» الذي نسميه أحياناً ب «الجاهل القاصر».
3- جاء في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «أربعة تلزم كل ذي حجى وعقل من أمتي، قيل: يا رسول اللَّه ما هنَّ؟ قال: إستماع العلم وحفظه ونشره والعمل به» «1».
وبهذا يعتبر النبي صلى الله عليه و آله الاستماعَ والتحقيقَ من آثار وعلامات العقل والدراية.
كان دائماً في مقابل الأحرار الذين يرون التحقيق في الحق واجبهم العقلي، هناك جماعة يخشون رؤية الحق كالخفافيش، وحتى لو ارتفع صوت منادي الحق وَدَوّى في آذانهم سدوا آذانهم لكيلا يسمعوا صوته.
ينقل القرآن عن جماعة من قوم نوح عليه السلام على لسان هذا النبي العظيم عندما اشتكاهم إلى اللَّه: «وإنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ واسْتَغْشَوا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا». (نوح/ 7)
ولم يكن حال المشركين بأقل من هؤلاء، بل كأنّهم ورثوا قوم نوح المعاندين الذين تحدث عنهم القرآن: «وَقَالَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا لَاتَسْمَعُوا لِهَذا الْقُرآنِ وَالْغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ». (فصلت/ 26)
إنّ هذه الجماعة التي لها أتباع ومقلدون في كل عصر وزمان لا يسمحون لأنفسهم بالتحقيق في ما يجري أبداً، إنّهم جهلة حمقى يخشون نور الشمس كأنّهم الخفافيش، يلجأون إلى الظلمة دائماً، ويفتخرون بالجهل، إنّهم أكثر حرماناً من الجميع لأنّهم أعداء تفضحهم الشمس.
__________________________________________________
(1) تحف العقول، مواعظ النبي، ص 40.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 19
ثمة مثل معروف يقول: «إنَّ الناس عبيد الأِحسان».
ورد نفس هذا المعنى تقريباً في حديث عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: «الإنسان عبد الاحسان» «1».
وورد عنه عليه السلام: «بالإِحسانِ تملك القلوب» «2».
وفي حديث آخر عنه أيضاً: «وأفضِلْ على من شِئتَ تكن أميره» «3».
وجذور كل هذه المفاهيم في حديث الرسول صلى الله عليه و آله إذ يقول: «إنّ اللَّه جعل قلوب عباده على حبّ من أحسن إليها وبغضِ مَنْ أساء إليها» «4».
والخلاصة هي أنّ هنالك حقيقة تقول: إنَّ الذي يسدي خدمة لشخص أو ينعم عليه نعمة فسيكون عطفه هذا عليه منطلقاً من حبّه له ويكون هذا الآخر محباً لمن اسدى إليه الخدمة والنعمة، يحب أن يتعرف عليه تماماً ويشكره، وكلما كانت هذه النعمة أهم وأوسع، كان توجه العواطف نحو «المنعم» و «معرفته» أكثر.
ولهذا جعل علماء علم الكلام (العقائد) مسألة «شكر المنعم»- ومنذ القِدَم- إحدى الدوافع على التحقيق حول الدين ومعرفة اللَّه.
__________________________________________________
(1) غرر الحكم.
(2) المصدر السابق.
(3) بحار الأنوار، ج 77، ص 421.
(4) تحف العقول، ص 37 (قسم من كلمات النبي صلى الله عليه و آله).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 20
ولكن يجب الانتباه إلى أنّ «شكر المنعم» هو قرار عاطفي قبل أن يكون قراراً عقلياً.
نختم هذه الإشارة ببيت شعر لأبي الفتوح البستي الشاعر العربي المعروف:
أحسن إلى الناس
تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ بعد هذه الإشارة ننتقل إلى القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات أدناه:
1- «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل/ 78)
2- «وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل/ 14)
3- «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ».
(النحل/ 114)
تتحدث الآية الأولى عن أهميّة النعم الإلهيّة لتحرك في الناس روح الشكر وتدعوهم عن هذا الطريق إلى معرفة «المنعم»، إنَّ الحديث عن النعمة وسيلة للمعرفة، فقد تحدث القرآن عن «العين» و «الأذن» و «العقل» بقوله: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ».
فعن طريق السمع تتعرفون على العلوم النقلية وعلوم الآخرين.
وعن طريق البصر ومشاهدة أسرار الطبيعة وعجائب الخلقة تتعرفون على العلوم التجريبية، وعن طريق العقل تتعرفون على العلوم العقلية والتحاليل المنطقية.
ومع أنّ هذه المواضيع الثلاثة معطوفة على بعضها في هذه الآية بالواو ولا تعني بالضرورة الترتيب، إلّاأنّه ليس من المستبعد أن يكون هذا هو الترتيب الطبيعي لها، لأنّ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 21
الإنسان عندما يولد لا يمتلك القدرة على النظر والمشاهدة إلى فترة من الزمن بعد ولادته، ولأنّه معتاد على الظلام فهو يخاف من النور ويغمض عينيه لمدّة من الزمن، في حين أنّ الاذن تسمع الأصوات من أول لحظة، ومن الواضح أنّ القدرة العقلية والتمييز والشعور تبدأ بالعمل والنشاط لدى الإنسان بعد السمع والبصر، خاصةً وأنّ «الفؤاد» كما يصرح أرباب اللغة بمعنى «العقل الناضج العميق» ولا يمثل مرحلة عادية من العقل، وطبعاً فإنّ مثل هذا الشي ء يظهر بعد
ذلك.
فضلًا عن أنّ الآية المذكورة يمكن أن تكون إشارة إلى حقيقة أنّ الوصول إلى «الكليات العقلية» يأتي بعد العلم ب «الجزئيات» عن طريق الحس، وعلى كل حال، فالآية تصرح أنّ الهدف من إسداء هذه النعم هو تحريك روح الشكر لدى البشر، والذي يدعوهم بالنتيجة إلى محبّة الخالق ومعرفة اللَّه وإطاعة أوامره.
وبالطبع فإنّ هذا لا يتناقض مع كون بعض العلوم الإنسانية علوماً فطرية لأنّ المعلومات الفطرية عند الولادة موجودة في طبيعة الإنسان على شكل الاستعداد والقابلية، وليس لها طابع الفعلية، ثم تثمر بعد ذلك.
الآية الثانية تشير إلى ثلاث نعم إلهيّة أخرى تتعلق جميعها بتسخير البحار وتعتبرها دافعاً نحو الاستفادة من فضل اللَّه وشكره، ومن هذه النعم:
أولًا: اللحوم التي تستخرج من البحر والمسماة ب «لَحْماً طَرِياً»، وهو اللحم الذي لم يبذل الإنسان جهداً في تربيته أبداً، وإنّما ربته يد القدرة الإلهيّة في أعماق البحار ووضعته في متناول أيدي الإنسان مجاناً، فيعتبر نعمة كبيرة، خاصة في عصر وزمان كانت تكثر فيه اللحوم الفاسدة وكان الناس يضطرون إلى الاحتفاظ باللحوم إلى فترة معينة عن طريق تمليحها أو شيها وتجفيفها تحت أشعة الشمس، وكانت هذه اللحوم تسبب الكثير من الأمراض والتسمم للمسافرين، في حين كانوا يستخدمون اللحوم الطازجه بكل سهولة في سفراتهم البحرية أو الساحلية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 22
ثانياً: ثم تشير الآية إلى المواد المستعملة للزينة المستخرجة من أعماق البحار والمستخدمة من قبل البشر وتقول: «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا».
أي أنّ اللَّه وفر لكم أكثر المواد الغذائية ضرورةً بالإضافة إلى الحاجات ذات الطابع التجميلي الصرف.
ثالثاً: وفي المرحلة الأخيرة تشير الآية إلى واحدة أخرى من بركات البحار التي كان لها دور مؤثر جدّاً في حياة البشر حتى في يومنا الحاضر، وهي
استخدام البحر كطريق كبير وواسع ومتصل لحمل ونقل أنواع الأمتعة التي يحتاجها الناس في السفر، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ حوالي 75 بالمائة من وجه الأرض مغطىً بالبحار التي تصل إلى كل نقاط العالم، وأنّ قسماً كبيراً من البضائع والمواد الضرورية تنقل عن هذا الطريق، وأنّ قسماً كبيراً من الأسفار يتمّ من خلال هذا الطريق، ومن هنا تتضح أهميّة هذا الموضوع.
يقول عز وجل: «وَتَرَى الفُلْكِ مَوَاخِرَ فِيهِ».
ثم يضيف في النهاية: «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
وبهذا جعل الالتفات إلى هذه النعم أيضاً وسيلة لإحياء روح الشكر وبالتالي اكتساب المعرفة باللَّه، وإلّا فما حاجة اللَّه إلى شكرنا؟ كل هذه ذرائع إلى معرفة ذاته وصفاته والحركة نحو هذا الكمال المطلق.
والجدير بالذكر أنّ «مواخر» هي جمع «ما خرة» من مادة «مخر» (على وزن فخر)، وهذه المادة كما يستفاد من محصلة كلمات أرباب اللغة والمفسرين بمعنى الشق والخرق، كشق «أمواج الماء» بصدر السفينة، أوشق «أمواج الرياح» بواسطة الوجه والأنف والتقدم نحو الأمام، أو شق الأرض لأجل الزراعة.
ولأنّ هذه الأمور غالباً ما تكون مصحوبة بالصوت فقد اطلقت هذه المفردة على صوت هبوب الرياح الشديدة أيضاً «1»، إنّ كل حياة الإنسان والعالم تعتريها موانع يجب على
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 20، ص 7 وقد جاء نفس هذا المعنى في تفسير روح المعاني والقرطبي تذييلًا للآية المنظورةفي بحثنا.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 23
الإنسان كشفها واجتيازها كي يشق طريقة بالتقدم والتطور، وهذه من النقاط المهمّة والحساسة.
وبالضمن فلقد علمنا أنّ «المواخر» تعني السفن والمراكب، ولذلك فقد فسر ابن عباس «المواخر» بالسفن التي في حالة حركة «الجارية» «1» حيث إنّ قيمة السفينة تكمن في كونها متحركة.
أمّا الآية الثالثة والأخيرة والتي خاطبت مشركي مكة أو المؤمنين،
وفي احتمال قوي أنّ الآية عنت بخطابها الاثنين معاً، فقد أمرت بقولها: «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ».
والملفت للنظر هنا أنّ الآية ذكرت في آخرها: «وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» فالبعض قال: إنّ هذه القضية شرطية وذلك لانّ هؤلاء لايعبدون اللَّه اصلًا فكيف يشكرون نعمته، فيكون الأمر «سالباً بانتفاء الموضوع».
وأيضاً يرد احتمال حول هذه المسألة وهو أنّ جزاء القضية الشرطية هي عبارة «فكلوا ممّا رزقكم اللَّه ...» والذي ورد مسبقاً حيث يعني بان هذه الأرزاق في حالة كونها حلالًا طيباً عندما أكون عبداً ومطيعاً لله سبحانه وتعالى، لأنّ كل النعم خلقها اللَّه سبحانه وتعالى من أجل المؤمنين، وَمثلُ ذلك مثل المزارع الذي يسقي الورد ماءً، فهو إنّما يعمل ذلك من أجل أن يحصل على الورود لا أن يجني الأشواك بالرغم من أن الأشواك لا تخلو من فوائد، وقد ذكروا تفسيراً ثالثاً وهو أنّ الآية تخاطب الوثنيين، أنّكم إذا أردتم العبادة فاعبدوا من هو ولي نعمتكم، لماذا تعبدون الأصنام التي لا دور لها مطلقاً «2».
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 20، ص 7، وكذلك ورد هذا المعنى في تفسير روح المعاني و تفسير القرطبي وذلك في تفسيرالآية قيد البحث هذا.
(2) تفسير الكشاف، ج 2، ص 640، وثمّة تفسير آخر ورد كاحتمال من الأحتمالات في تفسير الميزان وروح المعاني تذييلًا للآيات المنظورة في البحث.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 24
وليس من المستبعد الجمع بين هذه التفاسير لأنّ المخاطب حسب الظاهر هم جميع المؤمنين والكافرين، بالرغم من أنّ الآيات السابقة واللاحقة تدل على أنّ الكلام موجه إلى المؤمنين أكثر ممّا هو موجه إلى الكفّار.
وعلى كل حال، فالعلاقة بين «النعمة» و «الشكر» و «العبادة» ثم
«معرفة المعبود» و «ولي النعمة» تتضح بجلاء من هذه الآية.
وبهذا نتوصل إلى الحافز الثاني لمعرفة اللَّه وهو مسألة شكر المنعم.
1- جاء في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: «لو لم يتوعد اللَّه على معصيته لكان يجب ألّا يُعصى شكراً لنعمه» «1».
إنّ التعبير ب «الواجب» في هذا الحديث هو في الحقيقة نفس تلك الوظيفة التي تنبع من عواطف الإنسان.
2- نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند عائشه ليلتها، فقالت: يا رسول اللَّه لمّ تتعب نفسك وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ «2»
فقال: يا عائشه ألا أكون عبداً شكوراً» «3».
3- يقول الإمام الرابع علي بن الحسين عليهما السلام في أحد أدعية الصحيفة السجادية:
«والحمد للَّه الذي لو حبس عن عباده معرفةَ حمده على ما أبلاهم من مننهِ المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسعوا في رزقِه فلم يشكروه ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيميّة فكانوا كما وصف في محكم
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 290.
(2). إشارة إلى ذيل الآية الأولى من سورة الفتح من التفسير الامثل.
(3) أصول الكافي، ج 2، باب الشكر، ح 6.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 25
كتابه إنّ هم إلّاكالأنعام بل هم أضل سبيلًا» «1».
4- جاء في كلام آخر من نهج البلاغة: «... ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة» «2».
تتضح من هذه الروايات العلاقة الروحية بين «شكر النعمة» و «معرفة اللَّه وإطاعة أوامره».
__________________________________________________
(1) الصحيفة السجادية، الدعاء الأول.
(2) نهج البلاغة،
الخطبة 185.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 27
عندما نتحدث عن الفطرة فالمقصود هو نفس تلك الاحساسات الداخلية والإدراكية التي لاتحتاج إلى أي استدلال عقلي.
عندما نشاهد منظراً طبيعياً جميلًا جدّاً أو زهرة ذات لون ورائحة طيبة نحسُّ بقوة جذب تدفعنا نحوها، ويسمى هذا الاحساس بالميل نحو الجمال وحبه ولا نرى أي حاجة هنا للبرهنة على إثبات قولنا هذا.
أجل، إنّ الميل للجمال يعد من الرغبات المتعالية للروح الإنسانية.
إنّ الاندفاع نحو الدين وخاصةً معرفة اللَّه هو أيضاً من هذه الاحساسات الفطرية والداخلية، بل هو من أقوى الدوافع في أعماق طبيعة وروح جميع البشر.
ولهذا السبب لا نشاهد قوماً أو أمة لا في الحاضر ولا في الماضي التاريخي لم تكن تمتلك نوعاً من العقائد الدينية تتحكم في فكرها وروحها، وهذه علامة على أصالة هذا الاحساس العميق.
وانطلاقاً من أن التوحيد الفطري يُطرح في مجال براهين معرفة اللَّه كبرهان مستقل مع كل آياته، لا نرى داعياً للبحث المسهب حول هذا الموضوع، فنكتفي بذكر نقطة واحدة ونؤجل المزيد من البحث حول هذا الموضوع في محلّه إن شاء اللَّه.
عندما يذكر القرآن قصص نهضة الأنبياء العظام فانّه يؤكد في عدة مواضع على هذه النقطة وهي أنَّ الرسالة الأصلية للأنبياء تتمثل بازالة آثار الشرك والوثنية (وليس إثبات وجود اللَّه، لأنّ هذا الموضوع مخبَّأٌ في أعماق فطرة كل إنسان).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 28
وبتعبير آخر: إنّهم لم يكونوا بصدد غرس «بذور عبادة اللَّه» في قلوب الناس، بل كانوا في صدد سقاية الغرسة الجديدة الموجودة واستئصال الأشواك والأدغال الزائدة المضرة التي قد تقتل أو تُذبِل هذه النبتات بصورة تامة في بعض الأحيان.
وردت جملة: «أَلَّا تَعبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» أو «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إيَاهُ» في كلام الكثير من الأنبياء في
القرآن الكريم، وهي عبارات تفيد نفي الأصنام وليس اثبات وجود اللَّه.
كماجاء في دعوة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إَنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ». (هود/ 2)
ودعوة نوح عليه السلام: «أن لَاتَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ». (هود/ 26)
ودعوة يوسف عليه السلام: «... أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». (يوسف/ 40)
ودعوة النبي هود عليه السلام: «.. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ». (الاحقاف/ 21)
وَفضلًا عن هذا فَإننا نمتلك في أعماق نفوسنا أحاسيس فطرية أصيلة أخرى منها ما نراه في نفوسنا في الرغبة الشديدة للعلم والمعرفة والاطلاع.
فَهل من الممكن أن نشاهد هذا النظام العجيب في هذا العالم المترامي، ولا تكون لنا رغبة في معرفة مصدر هذا النظام؟
أليس من الغرابة أن يقضي أحد العلماء مدة عشرين سنة من أجل التعرف على حياة النمل، ويثابر عالِم آخر عشرات السنين لمعرفة عادات أوضاع بعض الطيور أو الأشجار أو أسماك البحار بدون أن يكون لديه دافع لحب العلم؟ هل يمكن أنّهم لا يريدون معرفة مصدر هذا البحر اللامتناهي الذي يشمل الأشياء من الأَزلِ إلى الأبد؟!
نعم، هذه دوافع تدعونا إلى «معرفة اللَّه»، العقل يدعونا إلى هذا الطريق، العواطف تجذبنا نحو هذا الاتّجاه، والفطرة تدفعنا إلى هذه الجهة.
كانت هذه خلاصة للمحفزات والدوافع الواقعية والحقيقية لظهور الدين ومعرفة اللَّه.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 29
هنالك إصرار عجيب من قبل بعض علماء الاجتماع والنفس الماديين في الغرب والشرق على أنّ مصدر ظهور الدين والعقيدة التوحيدية معلول للجهل أو الخوف أو عوامل اخرى من هذا القبيل.
بالطبع إنّ هذا الأمر ليس عجيباً في نظر البعض، لأنّهم كما يبدو
قد اتخذوا قرارهم باتفاق مسبق، ويعتبرون من المسلمات أن ليس ثمّة شي ء غير عالم المادة، لهذا يرون أنفسهم ملزمين بأن يفسروا كل ظاهرة على أساس العوامل المادية.
من ناحية أخرى نعلم أن وجود العقائد الدينية ما ينفك يزلزل أركان المادية، وإذا أضفنا إلى هذا المعنى الصراعات الشنيعة بين الكنيسة وعلماء العلوم الطبيعية في القرون الوسطى يمكن الاستنتاج أنّ مثل هذه التفاسير المادية للدين والاعتقاد باللَّه جزء من العداء الذي تكنه المدارس المادية للدين.
مع أنّ البحث في كل هذه النظريات بشكل مفصل يحتاج إلى أحاديث طويلة يُخرجنا الدخول فيها عن كُنه بحثنا التفسيري، ولكن يبدو من الضروري الإشارة إليها هنا بشكل مختصر، لكننا نكرر أن كل هذه التفاسير قائمة على أساس أحكام مسبقة وهي أن نسلّم بعدم وجود عالم وراء الطبيعة، وبأنّ عالم الوجود يتلخص في نفس عالم الطبيعة هذا.
وَيمكن تحديد هذه النظريات- أو بعبارة أدق هذه الفرضيات- بشكل عام في خمس فرضيات:
يقول أحد علماء الاجتماع المعروفين: «مع أنّ العلم والفن كشف الكثير من الأسباب الخفية، إلّاأنّ الكثير من هذه الأسباب ما تزال بعيدة من نطاق العلم وباقية في لفيف
نفحات القرآن، ج 2، ص: 30
الأسرار، وضرورة التوصل إلى هذه الأسباب دعت إلى ظهور الدين» «1».
ويضيف أحد الفلاسفة الماديين: أنّ الإنسان عندما ينظر إلى الأحداث من زاوية تاريخية فسيتصور العلم والدين عدوين لا يقبلان الصلح! وذلك لسبب واضح جدّاً، فالذي يعتقد بحركة العالم بلحاظ قانون العلية لا يستطيع أن يسمح ولو للحظة واحدة بأن يدخل عقله تصورٌ يقول: إنَّ بامكان موجود خلق الموانع والعثرات في واقع الأحداث «2».
وبعبارة أبسط إنّهم يريدون الادّعاء أنّ جهل الإنسان بالعلل الطبيعية كان السبب في تصوره لوجود قوة وراء الطبيعة أوجدت
هذا العالم وما انفكت تديره، ولهذا فكلما اتضحت الأسباب والعلل الطبيعية تزلزل الاعتقاد بالدين وبعبادة اللَّه.
إنّ الخطأ الأساسي لاتباع «فرضية الجهل» ينبع من:
أولًا: إنّهم ظنوا أنَّ الإيمان بوجود اللَّه يعني إنكار قانون العلية، وإننا على مفترق طريقين: إمّا التسليم للعلل الطبيعية أو لوجود اللَّه، في حين أنّ الإيمان بقانون العلية والكشف عن العلل الطبيعية من وجهة نظر الفلاسفة الإلهيين يعد أحد أفضل طرق معرفة اللَّه.
إنّنا لا نبحث عن وجود اللَّه وسط الفوضى والحوادث الغامضة والمبهمة، أبداً، بل نبحث عن وجوده في وسط الأنوار والنظم المعروفة لعالم الوجود، لأنّ وجود هذه النظم علامة واضحة على وجود مصدر علم وقدرة في عالم الوجود.
ثانياً: لماذا تراهم يغفلون عن هذه النقطة، وهي أنّ الإنسان ومنذ أقدم العصور ولحد الآن يرى دائماً نظاماً خاصاً يحكم العالم؟ نظاماً لا يمكن تبرير ارتباط وجوده بالعلل التي لا شعور لها، وكان يعتبره دوماً علامةً على وجود اللَّه، وكل ما في الأمر أنّ هذا النظام كان
__________________________________________________
(1) جامعه شناسى، ساموئيل كنيك، ص 207 (علم الاجتماع عند ساموئيل كنيك).
(2) الدنيا التي أراها، ص 58- وكم هو مضحك قول «اوغست كونت» إنّ العلم عزل أبا الكائنات من وظيفته وساقه إلى مكان منزو (أي باكتشاف العلل الطبيعية لم يبق ثمّة محل للأيمان باللَّه) (الدوافع نحو المادية، ص 76).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 31
معروفاً في الماضي بدرجة أقل، وكلما تطور علم البشر، إكتشفت منه دقائق وطرائف جديدة واتّضح علم وقدرة خالق عالم الوجود أكثر.
ومن هنا فإننا نعتقد أنّ «الإيمان بوجود اللَّه» و «الدين» يتقدم إلى الأمام بتقدم «العلوم»، وكل اكتشاف جديد لأسرار ونظم هذا العالم إنّما هو خطوة جديدة لمعرفة اللَّه بصورة أفضل، فلم يكن بامكان السابقين
أبداً أن يعرفوا اللَّه بالشكل الذي نعرفه اليوم، تطور العلوم لم يكن على ما هو عليه الآن.
ذكر المؤرخ الغربي المعروف «وِل ديورانت» في تاريخه ضمن بحث بعنوان منابع الدين عن الحكيم الروماني «لوكروتيوس» بأنّ «الخوف هو الأم الأولى للآلهة، ومن بين أنواع الخوف هو الخوف من الموت الذي يَحتل مكانة أهم بين بقيّة أنواع الخوف ... ولهذا لم يكن باستطاعة الإنسان البدائي أن يصدق بأنّ الموت ظاهرة طبيعية ولذا كان يتصور له سبباً ما ورائياً على الدوام» «1».
ويكرّر «راسل» نفس هذا الكلام بصياغة أخرى في قوله:
«أتصور أنّ مصدر الدين هو الخوف والرهبة قبل كل شي ء، الخوف من الكوارث الطبيعية، الخوف من الحروب وما شاكل، والخوف من الأعمال غير اللائقة التي يرتكبها الإنسان أثناء غلبة الشهوات عليه» «2».
ويتّضح بطلان هذه الفرضية من حيث إنّ أتباعها كأنّهم قد تعاهدوا جميعهم بشكل ضمني على الاتفاق بأنّه ليس ثمة جذور ما ورائية للدين والاعتقاد بعبادة اللَّه، ولابدّ من البحث عن سبب له في الطبيعة، سبب يعود إلى نوع من الظن والخيال، ولهذا فهم دائماً يرون الأمور الفرعية وينسون المسألة الأصلية.
__________________________________________________
(1) قصة الحضارة، ل «وِلْ ديورانت»، ج 1، ص 89.
(2) العالم الذي أعرفه، ص 54.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 32
صحيح أنّ الإيمان باللَّه يمنح الإنسان طمأنينة واقتداراً روحياً، وصحيح أنّه يمده بالشجاعة قبال الموت والحوادث العصيبة، إلى درجة أنّه في بعض الأحيان يكون مستعداً لكل ألوان التضحية والفداء، لكن لماذا ننسى ما هو أمام أعين البشر دائماً أي النظام الذي يحكم الأرض والسماء والنباتات والأحياء ووجود الإنسان ذاته؟!
وبعبارة أخرى فإنّ الإنسان مهما كان جاهلًا بعلم التشريح والفسلجة وما شابه، لكنّهُ حينما ينظر إلى بناء عينه وأذنه
وقلبه ويده ورجله يراه بناءً عجيباً ودقيقاً، وهذا لا يمكن تفسيره أبداً بعوامل اللاشعور والصدفة، فنمو غصن من الزهور، زنبور العسل، بزوغ الشمس والقمر وسيرهما المنتظم وبقية الظواهر الاخرى لا يمكن تفسير كل هذه الظواهر بالصدفة واللاشعور.
هذا هو الشي ء الذي كان موجوداً ولا يزال دائماً أمام أعين الإنسان وهو السبب الأصلي في ظهور الإيمان بوجود اللَّه، لماذا يتجاهلون هذه الحقائق البينة ويتشبثون بمسألة الخوف والجهل؟ لا شي ء غير خوفهم من نمو العقائد الدينية؟ لماذا تركوا الطريق الأصلي النيّر وسلكوا الطريق المنحرف؟ والسبب هو أنّ الأحكام المسبقة حالت بينهم وبين معرفة الحقيقة؟!
إنَّ أتباع هذه النظرية يعتقدون بأنّ القوة التي تحرك التاريخ هو شكل وسائل الانتاج، ويعتبرون جميع الظواهر الاجتماعية سواء الثقافية منها أو العلمية أو الفلسفية أو السياسية وحتى الدين وليدة هذا العامل!
ولأصحاب هذا الرأي تبريرات عجيبة من أجل الربط بين ظهور الأديان والمسائل الاقتصادية، منها قولهم: إنّ الطبقة الحاكمة في المجتمعات البشرية قد أوجدت الدين من أجل القضاء على مقاومة الشعوب المستعمَرة وتخديرها، ويلفتون الأنظار إلى عبارة «لينين» المعروفة التي أوردها في كتابه «الاشتراكية والدين» والتي يقول فيها: «الدين أفيون الشعوب»!
نفحات القرآن، ج 2، ص: 33
ولهم في هذا الموضوع كلام كثير هو في الغالب تكرار للمكررات.
ومن حسن الحظ أنّ أتباع هذه النظرية (الاشتراكيون) قد أجابوا على إشكالاتهم بأنفسهم من خلال عباراتهم المتناقضة، فهم عندما يواجهون الإسلام وكيف كان سبباً في حركة ونهوض أُمة متخلفة، وكيف استطاع أن ينهي سلطة المستعمرين من أمثال سلاطين ساسان وقياصرة الروم وفراعنة مصر و «تبابعة» اليمن، يضطرون إلى استثناء الإسلام على الأقل من هذا المقطع التاريخي.
وفوق كل هذا، عندما يشاهدون اليوم الحركات والنهضات الإسلامية التي تنطلق ضد المستعمرين (خاصة
في العصر الحاضر) بوجه حكام الشرق والغرب وانتفاضة الشعب الفلسطيني ضدّ الكيان الصهيوني، فليس أمامهم سبيل سوى أن يشكّوا في تحليلاتهم، بغض النظر عن الذين يعيشون حصاراً في حصار ولا يستطيعون أن يبصروا حتى نور الشمس الساطع.
وعلى كل حال، مع الأخذ بنظر الاعتبار التاريخ المعاصر والقديم لا سيما الخاص بالإسلام، يتضح جيداً أنّ الدين وخلافاً لزعمهم ليس مادة مخدرة وأفيوناً أبداً، فضلًا عن أنّه السبب في ظهور أقوى الحركات الاجتماعية وأكثرها مثاراً للإعجاب، والقضايا الاقتصادية تشكل بدورها جزءً من حياة الإنسان، وحصر الإنسان في الزاوية الاقتصادية يعتبر أكبر خطأ في معرفة الإنسان ومعرفة نوازعه وميوله المتعالية.
والآن تعالوا واستمعوا للسيد «فرويد» الذي يريد أن يقيم جسراً بين «ظهور الدين» و «الغريزة الجنسية» ويعتبر الدين وليداً للغريزة الجنسية!
إنّه يحاول أن يربط هذا الموضوع في فرضيته باحدى القبائل الوهمية (للأب في هذه القبيلة الخيالية نساء كثيرات، أمّا الأولاد الشباب فيعانون الحرمان، وأخيراً ثار الأولاد وقتلوا الأب وأكلوا لحمه، ثم ندموا على فعلتهم، لقد غضوا النظر عن نساء القبيلة وعمدوا
نفحات القرآن، ج 2، ص: 34
إلى إدانة وتقبيح عملهم) ومن هنا نشأ بينهم نوع من الحظر وبتعبيره «تابو» أي (حظر الزواج من المحارم).
وَيضيف: يوجد في القبائل المتوحشة اليوم شي ء باسم «التوتم» وهو الأب أو كبير العشيرة بالنسبة لاعضاء القبيلة، ويعتبر حاميهم وولي نعمتهم.
إنّهم يحترمون «التوتم» ويتصورون أنّ عليهم أن يتشبّهوا به ويقلّدوه (هذا الاعتقاد بالتوتم نابع من نفس الاعتقاد بالقبيلة الوهمية أيضاً).
يعتقد فرويد أنّ الإيمان بالتابو والتوتم هو السبب لظهور العقائد الدينية، ووفقاً لما ذكرنا أعلاه فإن له علاقة بالقضية الجنسية! «1».
وفضلًا عن أنّ فرضية فرويد الجنسية قائمة على أساس اسطورةٍ (اسطورة القبيلة الوهمية)، فإنّ تحليلاته تشبه إلى حد
كبير الأساطير والخرافات، وهذا ناتج من أنّه ينظر الى روح وجسم الإنسان الذي يحمل أبعاداً وميولات متنوعة من زاوية واحدة وبعد واحد.
صحيح أنّ للإنسان غريزة جنسية، لكن من المسلم به أنّ وجود الإنسان لا ينحصر في الغريزة الجنسية، فجسمه يقع تحت تأثير غرائز مختلفة، ولروحه ميول متعالية مختلفة، «فَالنظر من بعد وأحد» خطأ لم يقع فيه فرويد فحسب بل إنّ الاشتراكيين الذين يحصرون وجود الإنسان في البعد الاقتصادي قد وقعوا فيه بشكل آخر، وكلا النظريتين اخطأتاخطأً فاحشاً في معرفة الإنسان.
كان الأجدر بفرويد وبدل الاعتماد على الأوهام أن ينظر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان منذ فجر حياته وحتى اليوم أبصر نظاماً حاكماً على العالم المترامي وعلى وجوده هو لا يمكن تفسيره بالعلل الطبيعية غير العاقلة وغير العالمة، وكان هذا هو المنطلق في ظهور الاعتقاد باللَّه، فَلماذا يرفضون نهجاً بهذا الوضوح ويسلكون طريق الجهل والضلال؟!
__________________________________________________
(1) الاقتباس من فرويد والفرويدية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 35
يقول «أنشتاين» في بحث بعنوان «الدين والعلوم»: بقليل من الدقّة يتّضح أنّ الأحاسيس والانفعالات التي أدّت إلى ظهور الدين مختلفة ومتباينة جدّاً .. وبعد أن يشير إلى نظرية الخوف يضيف:
إنّ النزعة الاجتماعية لدى البشر هي أيضاً من أسباب ظهور الدين، فالفرد يرى أنّ أباه وأمه، أصدقاءه وأقاربه، قادته وعظماءه، يموتون، ويرحلون منْ حوله واحداً واحداً، إذن فالرغبة في الهداية والمحبّة وأن يكون محبوباً في مجتمعه وأن يكون له أمل في شخص ما معتمداً عليه، تمهد الأرضية في نفسه لقبول الاعتقاد باللَّه «1».
وبهذا فهو يريد أن يفترض دافعاً أخلاقياً واجتماعياً لظهور الدين.
وهنا أيضاً نلاحظ أنّ الذين طرحوا هذه الفرضية قد خلطوا بين «الأثر» و «الدافع»، في حين أنّنا نعلم أن ليس كل
أثر هو دافع بالضرورة، فَمن الممكن أن نعثر على كنز أثناء حفرنا لبئر عميق، وهذا هو «أثر»، والحال أنّه لا شك في أنّ المحرك والدافع الأساسي لحفرنا البئر شي ء آخر وهو الحصول على الماء وليس اكتشاف كنزٍ ما.
وعليه فصحيح أنّ بامكان الدين تسكين ومعالجة آمال وآلام الإنسان الروحية، وأنّ الإيمان باللَّه يخلصه من الاحساس بالوحدة عند فقد الأحبّة والأصدقاء ويملأُ الفراغ الناتج من فقدانهم، ولكن هذا أثر وليس دافعاً.
الحافز الأصلي للدين والذي يبدو منطقياً جدّاً هو في الدرجة الأولى ما أشرنا إليه سابقاً، فحينما يرى الإنسان نفسه وجهاً لوجه أمام نظام في عالم كلما تأمل فيه أكثر تعرف على عمقه وتعقيده وعظمته أكثر، فهو لا يستطيع أبداً أن يعتبر ظهور ولو «وردة» واحدة بكل ما لها من ظرافة وبناء عجيب، أو ظهور «عين» واحدة بكل ما فيها من نظام ظريف ودقيق ومعقد، لا يستطيع أن يعتبر ذلك وليداً للطبيعة غير العاقلة والمصادفات العمياء الصماء، ومن هنا يبحث الإنسان عن مُبدى ء لهذا النظام.
__________________________________________________
(1) الدنيا التي أراها، ص 53.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 36
وبالطبع فهنالك أمور أخرى تدعم هذا المعنى أشرنا إليها سابقاً.
والعجيب أن «انشتاين» نفسه الذي اقترح مثل هذه الفرضية تراجع عن كلامه في مكان آخر وأعرب عن عقيدته في موجد عالم الوجود وايمانه الراسخ بذلك المُبدى ء الكبير بشكل ملفت للنظر، يدل على إنّه ينكر الاعتقاد الممتزج بالخرافات ولا ينكر التوحيد الخالص من أي خرافة.
إنّه يقول: «ثمة وراءَ هذه الأوهام معنى واقعي لوجود اللَّه لم يتوصل إليه سوى القليل من الناس» ثم يصرح بعقيدته وعقيدة كبار العلماء بنوع من الإيمان الديني الذي يسميه «الأحساس الديني بالخلق» أو «الوجود» ويدعوه في مكان آخر ب «الحيرة اللذيذة
من نظام الكائنات العجيب الدقيق».
والألطف من ذلك أنّه يقول: «إنّ هذا الإيمان الديني سراج درب البحوث في حياة العلماء» «1».
طبعاً الكلام هنا كثير وإذا أردنا أن نترك العنان للقلم حسب التعبير الدارج فسوف نخرج عن شكل البحث في التفسير الموضوعي.
لهذا نعود إلى أصل الحديث مرّة أخرى وننهي هذا البحث، ونلفت النظر إلى أنّه يجب البحث عن دافع ظهور الأديان في مطالعة عالم الخلقة أولًا (الحافز العقلي والمنطقي)، ثم في الجاذبية الذاتية العنيفة (الحافز الفطري)، ثم في التوجه نحو ذلك المبدى ء الكبير بسبب التمتع بنعمه اللامتناهية (الحافز العاطفي) «2».
__________________________________________________
(1) الدنيا التي أعرفها، ص 56 و 61.
(2) من أجل مزيد من المعلومات في هذا المجال يراجع كتابنا «الحافز في ظهور الأديان».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 37
1- بُرهَان النظم
2- برهان التغيّر والحركة (يبحث في مجلّد 3)
3- برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر) (يبحث في مجلّد 3)
4- برهان العلة والمعلول (يبحث في مجلّد 3)
5- برهان الصدّيقين (يبحث في مجلّد 3)
6- الطريق الباطنى لمعرفة اللَّه (الفطرة) (يبحث في مجلّد 3)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 39
إنّ أوسع برهان اعتمد عليه القرآن الكريم في آياته وسوره في إثبات «معرفة اللَّه» هو «برهان النظم» بشكل غطى هذا البرهان على كافة البراهين التي وردت في القرآن الكريم.
وهذا يدل على أنّ أفضل وأوضح طريق لمعرفة اللَّه وتنزيهه من كافة ألوان الشرك من وجهة نظر هذا الكتاب السماوي العظيم هو البحث في نظام الخلقة وأسرار الوجود وآيات الآفاق والأنفس.
لهذا البرهان خصائص من أجلها اعتمد وأكد عليه القرآن الكريم إلى هذا الحد.
1- إنّ برهان النظم يقنع العلماء كما يقنع عامة الناس، أي أنّ كل فئة تستطيع الاستفادة والانتفاع منه حسب قابليتها، وذلك لأنَّ الناس مختلفون في إدراك أسرار الخلقة.
2- ليس في برهان النظم الجفاف الموجود في الاستدلالات الفلسفية، بل على العكس فيه لطف خاص يمنح الإنسان حبّ الاطلاع على ذلك المُبدى ء الكبير، ويوجد فيه نوعاً من الاندفاع والشوق نحوه، ويخلق لديه حالة من الخضوع الممزوج بالحبّ ومعرفة اللَّه، وبتعبير آخر فهو يروي عقل الإنسان كما يروي عواطفه وأخلاقه.
وأخيراً فإنّ برهان النظم وبسبب دراسته لأنواع النعم الإلهيّة ضمن دراسة نظم هذا العالم فهو يؤكد على مسألة شكر المنعم، وهذا بحدّ ذاته حافز آخر من حوافز التوحيد.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 40
3- إنّ برهان النظم برهان في حال تطور (متجدد)، وبتعبير آخر هو برهان لا متناه، المقدّمة الكبرى وإن كانت ثابتة، لكن صغراها تمثل أعصانا متفرعة ومورقة وذات برأعم نامية لهذا البرهان، لأنّ أي اكتشاف من الاكتشافات العلمية حول أسرار الخلقة إنما يشكل مصداقاً وصغرى جديدة لهذا البرهان، فهو لهذا جديد دائماً، وفي كل يوم يأخذ شكلًا آخراً، وهو متطور ومتقدم إلى جانب تطور العلم والمعارف البشرية.
4- إنّ برهان النظم يدعو الإنسان إلى سلوك الآفاق والأنفس، وهذا
السلوك المملوء بالبركة يزيد من مستوى معرفة الإنسان في كل يوم ويجعل تفكيره مزدهراً، خاصة وأنّ أسس برهان النظم مختلطة بحياة الإنسان وهو يواجهها في كل خطوة من خطواته، وليس كالبعض الآخر من البراهين التوحيدية التي تقع على هامش قضايا الحياة وخارجها.
5- برهان النظم هو البرهان الوحيد الذي يستطيع إخضاع الفلاسفة التجريبيين الذين ينكرون الاستدلالات العقلية المحضة، ويستخدم حربة العلم التي يستخدمونها في إثبات «المادية» ضدهم، وهو بهذا اللحاظ ذو فاعلية عالية.
ولهذا ليس من العجيب أن يضع القران الكريم الغالبية العظمى من مباحثه التوحيدية على أساسه، لكن من العجيب أنّ بعض المحققين المتأثرين بشدة ببراهين أخرى (البراهين الفلسفية المحضة) يتجاهلون الأهميّة القصوى لهذا البرهان وكأنّهم لا علم لهم بمميزاته وآثاره العميقة.
يرتكز هذا البرهان في شكله الأول على ركيزتين أساسيتين، بحسب ما هو مصطلح يشكل صغرى وكبرى
1- هنالك نظام دقيق ومحسوب يحكم عالم الوجود.
2- أينما وجدنا نظاماً دقيقاً ومحسوباً فمن غير الممكن أن يكون وليد الحوادث التصادفية، بل لابدّ أن يصدر عن علم وقدرة عظيمين.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 41
والنتيجة هي أنّ هناك مبدأ علم وقدرة عظيم وراء نظام عالم الخلقة (سواء أطلقنا عليه اسم اللَّه أو وضعنا له إسما آخر) لأنّ التسمية لا تؤثر في مثل هذه البحوث.
قبل كل شي ء يجب إثبات المقدمة الثانية المسماة بكبرى القياس، ومن أجل هذا لابدّ من تعريف مختصر ل «النظام».
يمكن القول: أن أي منظمة أو موجود يعمل وفق برنامج معين ويعطي نتائج معينة، هو موجود منظم، وعلى هذا الأساس فإنّ «الحساب» و «البرنامج» و «الهدف» تشكل العناصر الأصلية الثلاثة للنظام، فمثلًا الساعة نموذج ل «الموجود المنظم»، ذلك أنّ أجزاءها مصنوعة وفق حساب دقيق، ثم هنالك برنامج لتركيبها، والهدف منها هو التشخيص الدقيق للوقت.
ولأجل التوصل إلى هذه العلاقة (علاقة النظام والعلم) يمكن الاستعانة بعدّة أدلة:
1- الوجدان: مع أننا لم نر أبداً الكثير من العلماء الكبار والمخترعين والفنانين المهرة، ولم يبق منهم سوى الآثار، إلّاأنّنا حين ننظر إلى تلك الآثار والكتب والصناعات واللوحات النفيسة والأبنية البديعة، نعترف بدون الحاجة إلى دليل بعقلهم وذوقهم وعلمهم ومهارتهم الصناعية والفنية.
2- من أجل إثبات هذه العلاقة يمكن- بالإضافة إلى الوجدان- الاستعانة بالدليل المنطقي، فمن أجل أحداث بناية منظمة واظهارها إلى الوجود يجب أن يكون هناك اختيار في سبع مراحل على الأقل.
فلو تصورنا بناية عظيمة وجميلة ومحكمة، وجب أن نمارس عملية الاختيار والانتخاب بشكل محسوب على عدة أصعدة «اولها» نوعية المواد المستخدمة، و «ثانيها»
مقدار وكميَّة المواد، و «ثالثها» جودة المواد، و «رابعها» الأشكال والأحجام المختلفة، و «خامسها» إيجاد الانسجام بين الأجزاء، و «سادسها» إيجاد التناسب بينها، و «سابعها»
نفحات القرآن، ج 2، ص: 42
من حيث وضع كل من الأجزاء في مكانه المناسب.
وهذه الاختيارات السبعة يجب أن تتمّ كل واحدة منها وفقاً للعلم والاطلاع والحساب، وأحياناً الحسابات الدقيقة جدّاً، ومن هنا عندما نرى مثل هذه البناية نتيقن أن صانعها بلا شك كان يملك العلم والمعرفة والاطلاع الواسع.
3- يمكن إثبات هذه العلاقة (علاقة النظام والعلم) عن طريق آخر (عن طريق البرهان الرياضي).
إنّ «حساب الاحتمالات» الذي اصبح اليوم فرعاً علمياً مستقلًا في الجامعات ذو فاعلية جيدة جدّاً في مجال العلاقة بين النظام والعلم، وهو نفس الشي ء الذي ندركه بصورة إجمالية في حياتنا، لكن حساب الاحتمالات يعكسه في شكلٍ رياضي واضح.
إنّنا لا نصدق أبداً أنّ إنساناً امياً يستطيع عن طريق الصدفة أن يؤلف كتاباً في مجال «الفلسفة» مثلًا أو «الآداب والشعر» أو «الطب»، بمعنى أن نعطيه آلة طابعة فيبدأ بدون أن يعرف الحروف بالضغط على أزرار الآلة ليطبع كتاباً.
وليس من المستحيل كتابة كتاب علمي عن طريق الصدفة فحسب، بل لا يمكن كتابة حتى رسالة قصيرة أيضاً.
لأنّه لو افترضنا أن حروف الآلة الطابعة ثلاثون حرفاً فقط، (وهي بالطبع أكثر بكثير، لأنّ لبعض الحروف صور متعددة، فمثلًا حرف الباء الأولية والباء الوسطية والباء النهائية والباء المفردة تشكل أربع صور مختلفة لحرف الباء) يقول حساب الإحتمالات هنا: إنّ الظهور التصادفي لكلمة «من» المكونة من حرفين هو احتمال واحد من تسعمائة احتمال.
(30/ 1* 30/ 1/ 900/ 1).
واحتمال ظهور كلمة مكونة من ثلاثة أحرف هو احتمال واحد من 27 ألف احتمال، وحين نصل إلى كلمة مكونة من
خمسة أحرف سوف نجتاز حدود 21 مليون!!.
والآن إذا كانت الحروف الموجودة في رسالة قصيرة هي مائة حرف فإنّ مجموعة احتمالات هذه الأحرف هي العدد 30 مرفوعاً إلى الأُس 100 بحيث أن رسالتنا المعينة
نفحات القرآن، ج 2، ص: 43
تشكل احتمالًا واحداً من هذا العدد الهائل من الاحتمالات، أي عدداً كسرياً بسطه واحد ومقامه العدد 3 إلى يمينه مائة صفر.
إنّ مقام هذا الكسر من الضخامة بحيث لا يمكن حسابه، ولا شي ء في هذا العالم يصل إلى ضخامة هذا العدد.
ولأجل إيضاح هذه الحقيقة يكفي أن نعلم أننا لو قطرنا جميع المحيطات على الكرة الأرضية قطرة قطرة وحسبنا عددها لكان عددها أقل من عدد على يمينه واحد وعشرون صفراً فقط.
وعلى هذا الحساب لو حسبنا كتاباً مكوناً من ألف صفحة فإنّ عدد الاحتمالات سيتضخم إلى درجة أنّ الاحتمال التصادفي لعدده الكسري (البسط) يتساوى مع الصفر أي أنّه مستحيل.
وبهذا الدليل، إذا ادّعى شخص مثلًا: أنّ «ابن سينا» مؤلف كتاب «القانون» في الطب كان أمياً تماماً، وأنّ «المتنبّي» لم يكن له ذوق شعري مطلقاً، وأن «أنشتاين» لم يكن يفقه شيئاً من الرياضيات وأنّ بنّائي الأبنية التاريخية الشهيرة لم يكن لهم أدنى اطلاع في فن العمارة، وأنّ جميع الآثار التي تركوها ظهرت بمحض الصدفة والحركات غير المقصودة لأيديهم على الأوراق أو على المواد الإنشائية! فلا شك أنّ من يقول مثل هذا الكلام إن لم يكن يمزح فهو مجنون!.
وخلاصة القول أنّ علاقة النظام بالعلم واضحة إلى درجة أنّ الكثير من العلوم والمعارف البشرية قائمة على النظام، فمثلًا جزء مهم من تاريخ الحضارة البشرية كتب من خلال مطالعة ودراسة الآثار الجذابة للسلف التي خلفوها بعد رحيلهم.
والعلماء- بمطالعة الآثار التي يعثرون عليها بواسطة الحفريات أو التي
يكتشفونها في قبور ومعابد الأقوام الغابرة- يتوصلون إلى مستوى ثقافتهم وحضارتهم ونوعية عقائدهم.
في حين إذا أنكرنا علاقة النظام والعلم إنهارت كل هذه الاستنباطات.
الآن وقد اتّضحت تماماً العلاقة بين النظام والعلم، وبعبارةٍ ثبتت كبرى البرهان، نتطرّق
نفحات القرآن، ج 2، ص: 44
إلى مصاديقها في عالم الوجود التي اعتمد عليها القرآن الكريم.
واللطيف أنّ آيات القرآن لا تتحدث مطلقاً عن كبرى برهان النظام، أي «علاقة النظام والعلم»، لأنّها كانت واضحة ووجدانية إلى حد أنّه لم تكن ثمة حاجة لبيانها، وكما قلنا فإنّ الإنسان إذا أنكر هذه العلاقة يجب عليه إنكار الكثير من الحقائق الموجودة في حياته، وما من شك في أن منكري هذه العلاقة يشبهون ب «السفسطائيين» الذين ينكرون الحقائق أثناء حديثهم، ولكنهم في حياتهم اليومية يقبلون جميع الحقائق مثل الآخرين، فمثلًا لو تمرضوا يراجعون الطبيب ويستعملون الدواء وينفذون إرشادات الطبيب حرفاً بحرف، أي أنّهم يعترفون رسمياً بوجود «الطبيب» و «الدواء» و «علم الطب» و «الصيدلة» ومئات الأمور الأخرى الدائرة في هذا الفلك.
إنّ منكري «علاقة النظام والعلم» أيضاً بدورهم يستنتجون علمياً وعملياً من أي أثر علمي وصناعي وأدبي وفني، وجود مُبدى ء واع وذي ذوق وفن، ولا يعتمدون أبداً على الاحتمالات المجنونة.
الآن وقد اتّضحت علاقة النظام والعلم تماماً، وثبتت كبرى البرهان حسب الاصطلاح المنطقي، نعرج على مصاديقها في القرآن الكريم والتي اعتمد عليها.
ونعتقد أن من الضروري ذكر هذه النقطة وهي: أنّ الفلاسفة الماديين الذين حاربوا برهان النظم (انكار وجود النظام في العالم أو إنكار علاقة النظام والعلم) وعلى رأسهم «دافيد هيوم» لم يتحفونا بسوى مجموعة من الوساوس التي لا قيمة لها، الوساوس التي لم يكونوا يقبلونها في حياتهم أبداً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 45
في البداية نمعن خاشعين في
الآيات الكريمة أدناه:
1- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ». (الروم/ 20)
2- «إِنَّا خَلَقْنَا الْإنْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً».
(الإنسان/ 2)
3- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِّنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ».
(المؤمنون/ 12 و 13)
4- «ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* الَّذِى أَحَسَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُّوْحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ». (السجدة/ 6- 9)
5- «وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» «1». (الجاثية/ 4)
«بَشَرْ»: من أصل (بَشَرَة) بمعنى ظاهر جلد الإنسان، ولكن يستفاد من «مقاييس اللغة» أنّ أصلها هو ظهور شي ءٍ ذي حسن وجمال، لذا فإنّ حالة «البُشر» (على وزن اليُسر) بمعنى الفرح والانبساط، وانطلاقاً من أنّ هذه الحالة خاصة بالإنسان، كانت مفردة «البشر»
__________________________________________________
(1) هنالك في هذا المجال آيات متعددة أخرى أيضاً، صرفنا النظر عن ذكرها لتقارب مضمونها مع ما ذكرناه من الآيات، من جملتها آيات سورة النجم، 45- 46؛ غافر، 67؛ فاطر، 11؛ الكهف، 37- 38؛ النحل، 4؛ الانعام، 2.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 46
اسماً للنوع الإنساني «1»، وهذه المفردة تطلق على الرجل والمرأة والمفرد والمثنى والجمع «2».
«سُلالة»: (على وزن عُصارة) بمعنى الشي ء المأخوذ من شي ء آخر، فيكون خلاصته وعصارته، وهي في الأصل من (سَلَّ) على وزن (حَلَّ) بمعنى سحب وجرَّ برفق وتستخدم لسحب السيف من القراب أيضاً ثم اطلقت على عصارة وخلاصة الأشياء «3»، وحينما نقرأ في الآيات المذكورة أنّ اللَّه خلق الإنسان من سلالة من طين، فمعنى ذلك من العصارة المصطفاة من الطين، وقال
البعض: إنّ المراد من هذا هو أنّ آدم مخلوق من عصارة كل الأتربة الموجودة على الأرض (ولهذا فقد استخلص آثار الجميع في وجوده) وإطلاق «السليل» على «الابن» من باب أنّه ناتج من عصارة وجود الأب والأم.
«النطفة»: في الأصل بمعنى «الماء الصافي»، واعتبرها بعض أهل اللغة بمعنى «الماء القليل»، وبما أنّ الماء الذي يمثل المبدأ في ظهور الإنسان قليل ومصطفىً وعصارة من كل الجسم فقد أُطلقت هذه المفردة عليه، ويقال للسوائل الجارية «ناطف» أيضاً.
«أمشاج»: جمع «مَشْج» (على وزن نشج) بمعنى الشي ء المخلوط، والبعض اعتبرها جمعاً ل «مشيج»، ولأنّ ماء الرجل والمرأة يختلطان عند انعقاد نطفة الإنسان فقد أطلقت هذه المفردة عليه.
جاء في «لسان العرب» أنّ هذه المادة في الأصل بمعنى اللونين المختلفين الذين يمتزجان مع بعضهما (ثم أطلقت على الأشياء المختلفة التي تختلط مع بعضها).
خلق الإنسان من (نطفة أمشاج)، يمكن أن تكون إشارة إلى المواد المختلفة التي تشكل النطفة، أو القابليات المتنوعة التي تجتمع في النطفة عن طريق عامل الوراثة وغيره من العوامل، أو أنّه إشارة إلى كل هذه الامتزاجات.
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة، لسان العرب والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
(2) لسان العرب، ومجمع البحرين.
(3) مفردات الراغب، مجمع البحرين، ولسان العرب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 47
للقرآن الكريم عبارات متنوعة حول بداية ظهور الإنسان، يقول في أول آية بهذا الخصوص:
«وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب».
ويقول في الآية الرابعة: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ».
ويقول في الآية الثالثة: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ».
ويقول في الآية 11 من سورة الصافات: «إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّنْ طِيْنٍ لَّازِبٍ».
ويقول في الآية 26 من سورة الحجر: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مِّسْنُونٍ».
وجاء في الآية 14 من
سورة الرحمن: «خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ».
«الصَلْصَال»: في الأصل بمعنى لوي الصوت في الجسم اليابس، ولهذا سمّى الطين اليابس الذي يصدر منه صوت عند ارتطام جسم آخر به بالصلصال، وحين يُفخر على النار يقال له «الفخار».
«الفخار»: مأخوذ من مادة «فخر» أي الفخور كثيراً، ولأنّ الأشخاص الفخورين أناس كثيرو الضجيج والكلام وفارغون، فقد أُطلق هذا الاسم على الكوز وكل فخار فارغ الجوف، بل أطلق على كل أنواع الفخار «1».
يستفاد من مجموع الآيات أعلاه أنّ الإنسان كان تراباً في البداية، وقد امتزج هذا التراب بالماء واستحال إلى الطين، وقد أخذ هذا الطين بعد مضي فترة شكلَ الوحل ثم استخلصت من عصارته المادة الأصلية لآدم ثم جُفِّفَتْ، وباجتيازها المراحل المهمّة تكوّن آدم.
لكن في آيات اخرى من القرآن كالآية الثانية المعنية، يعتبر خلقة الإنسان من نطفة
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب؛ ومجمع البحرين؛ ولسان العرب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 48
مختلطة: «مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ».
وفي الآية الثالثة يعتبرها اولًا من «عصارة الطين»، ثم من «نطفة في الرحم»: «مِنْ سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَكِيْنٍ».
واضح أنّ المراد من هذه الآيات هو خلقة الإنسان في المراحل والأجيال اللاحقة، وبهذا فإنّ جدنا الأول مخلوق من التراب، وأولاده وعقبه من نطفة أمشاج.
وثمّة احتمال في تفسير الآية أعلاه هو: بما أنّ المواد المكوِّنة للنطفة مأخوذة جميعها من التراب (لأنّ غذاءنا إمّا من المواد الحيوانية أو النباتية ونعلم أن جميع هذه المواد نحصل عليها من التراب)، لهذا فلم يكن الإنسان الأول من التراب فحسب، بل إنّ جميع الناس في المراحل اللاحقة ينشأون من التراب أيضاً «1».
وعلى كل حال، فهذه حقّاً من العجائب الكبيرة في عالم الوجود وغرائب عالم الخلقة أن يولد- من مادة ميتة
وبلا روح ولا قيمة لها كالتراب- موجود حي وعاقل وذو قدر وقيمة كالانسان، فهذه من الآيات البينات لذلك المُبدى ء الكبير، و «إنّ ذلك الخالق لجدير بالشكر والثناء لأنّه خلق من الماء والطين مثل هذا الشكل الجذاب».
وبشكل عام فإن ظهور الحياة من موجود ميت مايزال من ألغاز عالَم الفكر والمعرفة، فضمن أيّ شروط وظروف يخرج موجود حي من موجود ميت كالتراب؟ يعتقد كل العلماء أنّ الكرة الأرضية حين انفصلت عن الشمس كانت كلها ناراً محترقة، ولم تكن عليها حياة مطلقاً، ثم بردت قليلًا قليلًا وهطلت عليها سيول الأمطار من الغازات المضغوطة الموجودة حولها، فتكونت البحار، بدون أن يكون فيها كائن حي، ثم ظهرت بوادر الحياة سواء النباتية أو الحيوانية وأخيراً خُلقَ الانسان!
إنّنا سواء اعتقدنا بالخلق المستقل للإنسان (كما هو ظاهر الآيات القرآنية)، أو اعتبرنا
__________________________________________________
(1) ورد في تفسير الميزان، ج 16، ص 173 إشارة مقتضبة لهذا المعنى
نفحات القرآن، ج 2، ص: 49
الإنسان متكاملًا من أنواع الأحياء الأخرى (كما يقول أتباع داروين، ونظرية التكامل)، فمهما كان فإن جذور هذا الإنسان تعود إلى التراب، فهو منبثق ومخلوق منه، وإذا كان ظهور كائن حي أُحادي الخلية ومجهري من التراب، محيّراً لأفكار كل العلماء، فكيف بظهور الإنسان من التراب الميت الخالي من الروح؟
هنا يجب الاعتراف أننا بأزاء آية كبيرة من آيات الحق وعلامة محيّرة من عظمة اللَّه، آية من العالم الصغير هي نموذج متكامل للعالم الكبير.
يقول كاتب «سر خلق الإنسان» «غرسي موريسن» في معرض إشارته إلى بداية ظهور الحياة على الكرة الأرضية:
«وقعت حادثة عجيبة في بداية ظهور الحياة على الكرة الأرضية كان لها أثر كبير على حياة الموجودات الأرضية، حيث أصبح لاحدى الخلايا خاصية عجيبة وهي أنّها وبواسطة
ضوء الشمس بدأت تحلِّل وتجزِّء بعض التراكيب الكيميائية وتوفر بهذا العمل المواد الغذائية لنفسها ولسائر الخلايا المشابهة، وقد تغذت الخلايا المنشطرة من احدى هذه الخلايا البدائية على الأغذية التي وفرتها لهم أمهم وأوجدت جيل الحيوانات، في حين أنّ خلية أخرى بقيت على شكلها النباتي وكونت نباتات العالم، وهي اليوم تغذي كل الأحياء الأرضية.
ثم يضيف: هل يمكن التصديق أنّه وحسب الصدفة كانت إحدى الخلايا منشأً لحياة الحيوانات وخلية أخرى كانت أصلًا ومصدراً للنباتات؟».
ووفق قول آخرين:
إنّ العلماء يقسمون موجودات عالم المادة إلى نوعين، العضوية (وهي الموجودات القابلة للفساد كأنواع النباتات وأجسام الحيوانات)، والموجودات اللاعضوية (المعدنية) التي لا تقبل الفساد، ولهذا يقسمون الكيمياء إلى قسمين «الكيمياء العضوية» و «اللاعضوية».
تشكل المواد العضوية جميع أطعمة الإنسان تقريباً، وهي مأخوذة كلها من التراب،
نفحات القرآن، ج 2، ص: 50
وحين تدخل جسم الإنسان تكوّن تراكيب كيميائية جديدة تناسب تغذية كل عضو من الأعضاء، وهذه نفس الحقيقة التي يبينها القرآن بعبارة: «إنّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُراب» أو «مِنْ سُلالةٍ مِّنْ طِين» «1».
صحيح أنّ للإنسان علاوة على المادة الترابية روحاً إلهية، ولكن لا شك أنّ الروح تكون مظهراً للأعمال والأفعال المختلفة بالتنسيق مع الجسم و عليه فإنّ هذه المادة الترابية تستطيع بالتنسيق مع الروح أن تقدم أنواع القابليات والأذواق والابتكارات والأعمال التي يحار فيها العقل.
مع أنَّ الإنسان صار موضوعاً لعلوم مختلفة، وهنالك عالِم خاص حول كل جانب من جوانبه يمارس دراساته وأبحاثه، إلّاأنّ الإنسان ما يزال موجوداً مجهولًا، ويلزم من الوقت سنين طويلة لكي يحل العلماء بجهودهم المتواصلة هذا اللغز الكبير في عالم الوجود وينيروا زواياه، وربّما لم يستطيعوا أبداً أن يقوموا بذلك!
يمكن لكل عضو من أعضاء جسم الإنسان أن يكون لوحده موضوعاً لحساب الاحتمالات: العين،
الاذن، القلب، العروق، الجهاز التنفسي، الكلى المعدة، الكبد، وأخيراً الجهاز العصبي المعقّد، وبعملية رياضية بسيطة يتضح أن أي عقل لا يوافق على أنّها خُلقت صدفة.
نعم، إنّه من أجل التوصل إلى بنية ونوع فعالية وفسلجة كل واحد من الأعضاء فقد درس آلاف العلماء والعقول المفكرة وكتبت مئات أو آلاف الكتب حولها.
هل يصدق أحد أنّه من أجل معرفة كل واحد من هذه الأعضاء تلزم كل هذه العلوم والعقول والذكاء والدراية، بينما لا يلزم صنعها علماً وعقلًا على الاطلاق؟! كيف يمكن أن يكون فهم اسلوب عمل إحدى المعامل متطلباً لسنين من المطالعة، بينما تكون صناعة هذا المعمل قد حصلت على يد العوامل غير العاقلة؟ أي عقل يصدق هذا؟!
هنا لا يعتبر ظهور الإنسان من المادة البسيطة (التراب) ومن سلالة من طين ومن الحمأ
__________________________________________________
(1) مقتبس من إعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة، ص 23 و 24.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 51
المسنون إحدى أعمال الخلق العظيمة والآيات الكبيرة على وجود اللَّه فحسب، بل إنّ كل واحدة من خلايا الجسم بامكانها أن تكون مرآة عاكسة لعظمة اللَّه ووجوده.
يقولون: إنّ للجهاز الفلاني نظام معقد، هذا عندما يكون بناؤه متكوناً من أجزاء وتشكيلات مختلفة ذات ارتباطات متعددة ومتنوعة، ويقوم بأعمال متباينة مهمّة، فمثلًا الحاسبة الألكترونية التي تستطيع فضلًا عن أعمال الحساب الأصلية أن تحل أنواع المعادلات الجبرية والقضايا الهندسية وتؤدّي مختلف الحسابات الرياضية بسرعة أو تحفظها في حافظتها، تعتبر ذات نظام معقد.
يقول العلماء: إنّ خلف غشاء شبكية العين يُوجد تسعون ألف حزمة عصبية تربط بين خلايا الشبكية وسلسلة الأعصاب (بالطبع لكل عين من عيني الإنسان تسعون ألف حزمة) وهذا نظام عجيب ومعقد جدّاً، وبأخذ هذه النقطة بنظر الاعتبار نعود إلى أصل
البحث:
في عالم الخلقة وعلاوة على قضية الظرافة والدقّة، ثمّة أنظمة معقدة غاية التعقيد، تبهت الإنسان وتحيره، وحسب تعبير بعض العلماء فإنّ في مدينة جسم الإنسان العظيمة أبنية تكون أكبر ناطحات السحاب في العالم إلى جانبها مثل كوخ طيني.
وكنموذج: نأخذ بناء الخلية وهي من بين الأنظمة المعقدة في العالم، والذى اكتشفت اليوم أسرار عظيمة منه.
وكذلك فإنّ الإنسان وبشكل معدل في جسمه «عشرة ملايين مليار» وحدة حية صغيرة تسمى «الخلية».
كان أول من اكتشف الخلية ووضع لها تسمية، عالمٌ يدعى «هوك» في القرن السابع عشر الميلادي، وطبعاً فإنّه لم يكن يعلم يومذاك ما في بناء هذه الوحدة الصغيرة من تعقيد يبعث على الحيرة، ولكن العلماء الذين جاؤوا بعده واصلوا مساعيه وتوصلوا إلى أسرار نسرد فيما يلي جانباً من شهاداتهم:
نفحات القرآن، ج 2، ص: 52
1- يمكن تشبيه خلية مجهرية واحدة بمدينة فيها آلاف التأسيسات مجهزة بمنشآت ومعامل لتبديل المواد الغذائية إلى المواد التي يحتاجها الجسم، بحيث لا يمكن أن نقيس أعظم وأحدث الظواهر الصناعية للبشر بها.
2- تتكون هذه المدينة الصغيرة والصاخبة من ثلاثة أقسام:
أ) جدار الخلية وهو بمثابة سور المدينة.
ب) القسم الأوسط للخلية (السايتو بلازم).
ج) النواة أو مركز القيادة.
إنّ السور المصنوع حول الخلية من اللطافة والظرافة بحيث لو وضعنا 500 ألف من هذه الجدران إلى جانب بعضها فمن الصعب أن تساوي سمك ورقة اعتيادية! ومع هذا فهو حساس ومحكم قبال هجوم العوامل الخارجية إلى درجة أن سور الصين المعروف ليس شيئاً يذكر بالقياس إليه!
وهذا السد الرقيق مصنوع بدوره من ثلاثة جدران أو من ثلاث طبقات اصطلاحاً، يتشكل طرفاه من الأنسجة البروتينية وأسفله ملي ءٌ بالدهنيات وهذه الدهنيات لاتسمح لشي ء أبداً بالدخول داخل المدينة إلّابمفتاح رمزي، وهذا المفتاح الرمزي هو: أنّ
المواد التي تريد الدخول إلى المدينة يجب أن تتمكن من إذابة دهون الجدار فيها والنفوذ إلى الداخل، وهذا دليل يثبت أنّها صديقة وليست من الاعداء، وبهذا فإنّ هذه المدينة محروسة بشدة من كل جانب بدون حاجة إلى حارس.
3- يوجد في داخل هذه المدينة (الخلية) قنوات كثيرة تمتد من الجدران إلى أطراف «النواة»، أي حصن قيادة الخلية، تأخذ المواد الغذائية وتحيلها إلى بروتينات.
واللطيف أنّ 23 نوعاً خاصاً من الأحماض تدخل هذه الخلية، والبروتين يتكون من تركيب عدة أنواع منها.
4- النواة الأصلية بمفردِها تمثل ناطحة سحاب مكوّنة من آلاف الطبقات بحيث تكون ناطحات السحاب المعروفة في نيويورك منزلًا متواضعاً إلى جانبها.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 53
للنواة الأصلية في الخلية وهي مقر القيادة تشكيلات معقدة: غشاء النواة، العصارة الداخلية، والحزمات الرفيعة حولها التي تتولى كل منها مهمّة خاصة.
5- العجيب أنّ في نواة الخلية وحدات صغيرة جدّاً وظريفة تسمى «الجينات» يصل عددها طبقاً لدراسات العلماء إلى حدود 25 ألف جين.
ليست «الجينات» هي الكل في الكل في أعمال الخلايا وحسب، بل إنّها تمسك بكل نشاطات الجسم، ومن أهمها التحكم بالأُمور الوراثية ونقل الصفات والخصائص إلى الخلايا اللاحقة، أي أنّ انتقال كل الصفات الوراثية عند البشر وسائر الحيوانات يتمّ عن طريق الجينات.
ولأنّ العمل الأساسي للجين يقع على عاتق الحامض الخاص في النواة، لذا يمكن تسميته بالعقل الألكتروني أو كامبيوتر الجين.
والأعجب من هذا، أنّ نفس هذه الجينات متكونة من أجزاء أخرى تصل طبقاتها من 30 إلى 50 ألف حسب ما يعتقد العلماء.
ومختصر الكلام أنّ هذه المدينة العظيمة بذلك السور العجيب وآلاف المنافذ والبوابات، وآلاف المعامل والمخازن وشبكة الأنابيب ومركز القيادة بتأسيساته الكثيرة وارتباطاته المتعددة والنشاطات الحياتية المتنوعة في تلك الحدود الصغيرة، من
أعقد وأدهش مدن العالم، إذ إنّنا لو أردنا أن نصنع مؤسسات تقوم بنفس الأعمال (ولا نستطيع ذلك أبداً)، وجب علينا اقتطاع عشرات الآلاف من الهكتارات من الأرض لوضعها تحت اختيار هذه المؤسسات والأبنية المختلفة والأجهزة المعقدة لتكون جاهزة لمثل هذا البرنامج، لكن المدهش أنّ نظام الخلق قد ضغط كل هذا في مساحة تعادل 15 مليون مليمتر! «1».
أجل، في خلقة الإنسان آلاف آلاف من الآيات والعلامات الإلهيّة: «الْعَظَمَةُ لِلَّهِ الواحِدِ القَهَّارِ».
__________________________________________________
(1) من كتب فسلجة الحيوان، فسلجة الوراثة، والسفر إلى أعماق وجود الإنسان.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 55
ظلت تحولات نمو الجنين في بطن أمه ولسنين طويلة خافية عن أعين العلماء، إلى أن رفعت يد العلم النقاب عن هذا العالم المملوء بالأسرار، وأظهرت أنّ النطفة عندما تستقر في محلها من الرحم وتبدأ سيرها التكاملي، ماذا تطوي من المراحل المختلفة والمتنوعة حتى تصبح على هيئة إنسان كامل، والعجيب أن القرآن الكريم أكد عدة مرات على قضية نمو الجنين في آياته المختلفة وفي ذلك العصر والزمان الذى لم تكن فيه علوم ولا اكتشافات، تارةً لإثبات التوحيد وتارة لإثبات المعاد.
مع إنّ «علم الأجنة» ما زال في مراحله الأولى، ومعلوماتنا عن هذا العالم الغامض ما تزال قليلة جدّاً، ولكن حتى هذا المقدار الذي كشف العلم البشري النقاب عنه، قد وضع دنيا من العجائب والغرائب مقابل أعين العلماء.
بهذه الإشارة نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية:
1- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَّكِيْنٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ». (المؤمنون/ 12- 14)
2- «الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّنْ مَّنِىٍّ يُمَنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً
فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الَذَّكَرَ وَالأُنْثَى . (القيامة/ 37- 39)
3- «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُّطْفَةٍ فَاذا هُوَ خَصِيْمٌ مُّبْينٌ». (يس/ 77)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 56
4- «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا». (الكهف/ 37)
5- «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَّنْ يُتَوّفىَ مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أجلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ» «1». (غافر/ 67)
«العلقة»: من مادة (عَلَق) (على وزن شفق) وهي في الأصل بمعنى العلاقة والإرتباط بشى ء، ولهذا جاءت كلمة «عَلَق» بمعنى «الدم المتخثر» و «الديدان المصاصة للدماء»، وقد سميت «العلقة» بهذا الاسم لأنّها احدى مراحل تكوين الجنين في رحم الأم، فهي تشبه قطعة الدم المتخثرة «2».
جاء في «مقاييس اللغة» أنّ أصل مفهوم هذه المفردة هو ارتباط وتعلق شي ء بموجود أعلى منه ثم اتسع مفهومها بعد ذلك «3».
«المضغة»: من مادة (مَضْغ) بمعنى مضغ الطعام وبمعنى قطعة اللحم التي يمضغها الإنسان لمرة واحدة شرط أن تكون غير مطبوخة، وإطلاق هذا المصطلح على إحدى مراحل الجنين التي تأتي بعد مرحلة «العلقة» جاء من باب تشابهها مع مثل هذا اللحم، ففي ذلك الحين يصبح الجنين على شكل قطعة حمراء فيها الكثير من العروق ذات اللون الأخضر، ويقال أحياناً «قلب الإنسان مضغة من جسده»، كل هذه التعابير تعود إلى أصل واحد «4».
__________________________________________________
(1) توجد على هذا الصعيد آيات اخرى في القرآن الكريم نكتفي بذكر رقمها وسورتها لتقارب معناها من الآيات المذكورة أعلاه، فاطر، 11؛ والحج، 5.
(2) مفردات الراغب.
(3) وفي كتب اللغة الأخرى تعابير تشبه هذا التعبير كما في
لسان العرب ومجمع البحرين.
(4) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ مجمع البحرين؛ لسان العرب وصحاح اللغة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 57
«المنيّ»: في الأصل من مادة (مَني) (على وزن سَعي) بمعنى التقدير والقياس، وبما أنّ في ماء النطفة مقياس إنسان أو حيوانٍ ما، فقد اطلقت هذه المفردة عليه، ولهذا أيضاً يسمى الموت ب «المنيّة» فهي الأجل المقدر للإنسان أو الحيوان.
وإطلاق مفردة «التمنّي» على الآمال جاء بسبب أنّ الإنسان يُصوِّر ويُحدِّد آماله في قلبه، ولأنّ الكثير من الآمال لا تطابق الواقع تأتي مفردة «الأمنية» أحياناً بمعنى الكذب «1».
كما اشرنا سابقاً فإنّ القرآن الكريم أكد مراراً على مسألة المراحل التكاملية لنمو الجنين في رحم الأم، ودعا الناس كافة إلى مطالعتها بدقة، واعتبرها إحدى الطرق للوصول إلى معرفة اللَّه، وكذلك إحدىَ طرق إثبات إمكانية المعاد.
إنّ الآيات الأولى المعنية بالبحث وبقرينة العبارة الأخيرة منها: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الْخَالِقْينَ» تشير إلى قضية التوحيد، وبالرغم من أنّ الآيات اللاحقة من نفس سورة «المؤمنون» هذه تدلّ على أنّها تشير إلى قضية المعاد أيضاً وبهذا تكون هذه الآيات قد تعرضت إلى مسألة معرفة اللَّه وتوحيده بالاضافة إلى معاد.
وقد تحدثت في البداية عن خلق الإنسان من «سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ» ثم من «نُطْفَةٍ فِى قَرارٍ مَكِيْنٍ»، وبعد ذكر هاتين المرحلتين تنتقل إلى ذكر خمس مراحل أخرى
1- مرحلة «العلقة» حيث تتبدل النطفة إلى دم متخثر في داخله الكثير من العروق.
2- مرحلة «المضغة» حيث يصبح هذا الدم المتخثر على شكل قطعة من اللحم.
3- مرحلة «العظام» حيث تتبدل كل الخلايا اللحمية إلى خلايا عظمية.
4- يأتي دور مرحلة تغطية العظام باللحم حيث تغطي العضلات كل العظام: «كَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً».
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب، مجمع البحرين، ولسان العرب.
نفحات القرآن،
ج 2، ص: 58
5- هنا تتغير لهجة القرآن وتخبرنا عن تحول وخلق مهم وجديد للجنين، فيقول بتعبير فيه أسرار وخفايا: «ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ».
وعندما تنتهي هذه المراحل السبع يصف القرآن هذه الخلقة العجيبة أجمل وصف بعبارة: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقْينَ»، وهي عبارة لم تأتِ في أي آية أخرى من القرآن ولم تستخدم في مجال أي موجود آخر.
ذكر المفسرون تفاسير متنوعة في المراد من العبارة الغامضة: «الخلق الآخر».
ويبدو أن أنسبها وأقربها إلى القصد هو بلوغ الجنين مرحلة الحياة الإنسانية، حيث يظهر فيه الحس ويبدأ بالحركة، ويضع قدماً في عالم الحيوانات والبشر، يعبر القرآن عن هذه الطفرة الكبيرة والعجيبة بكلمة «الإنشاء» في إشارة إلى الطريق الطويل الذي يقطعه الإنسان خلال هذه المدة القصيرة.
نقرأ في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير عبارة: «ثُمَّ أَنْشَأناهُ خَلْقاً آخَرَ» قوله: «هو نفخ الروح فيه» «1».
صحيح أنّ الجنين كائن حي مند لحظاته الأولى ولكنه وحتى فترة معينة لا يمتلك أي إحساس وحركة في بطن الأم، ويكون في الحقيقة أشبه بالنبات منه بالحيوان أو الإنسان، ولكن بعد مضي عدّة أشهر تُبعثُ فيه الروح الإنسانية، ومن هنا جاء في الروايات الإسلامية أنّ الجنين لا يستحق قبل بلوغه هذه المرحلة الدية الكاملة أبداً، أمّا إذا بلغ هذه المرحلة كانت ديته نفس الدية الكاملة للإنسان «2».
التعبير ب «أَحسن الخالقين» بالرغم من أنّه لا خالق غير اللَّه إنّما هو لأجل أنّ مفردة «الخلق» ليست فقط بمعنى الإيجاد بعد العدم فحسب، بل لها معان أخرى منها: «التقدير» و «الصناعة» و «إعطاء الأشكال الجديدة للأشياء الموجودة في العالم»، ولا شك أنّ الإنسان يستطيع بما منحه اللَّه من قوى أن يوجد تغييرات كثيرة على مواد هذا العالم
__________________________________________________
(1)
تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 541، ح 56 و 57.
(2) المصدر السابق، ج 2، ص 541، ح 56 و 57.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 59
المختلفة، فيصنع من الحديد والفولاذ المصانع والمعامل أو يبني من المواد الإنشائية بناءً عظيماً بأحجام مختلفة.
إذن فللخلق مفهوم واسع يشمل كل هذه الأمور.
ولهذا وَرَد في القرآن الكريم عن لسان النبي عيسى عليه السلام قوله: «إِنِّى أخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّيْنِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ». (آل عمران/ 49)
وبالطبع فإنّ الخالق الحقيقي أي ذلك الذي يوجد المادة والصورة وإليه تعود كل قدرات وخواص الأشياء هو اللَّه فقط، ومهمّة غيره من الخالقين وهم الخالقون المجازيون، هي تغيير الأشكال وتصميم المواد.
تشير الآية الثانية من الآيات المنظورة إلى مرحلة بداية ظهور الإنسان أولًا، أي عندما كان قطرة ماء حقير اسمه المني، ثم تذكر مرحلة العلقة فقط من بين مراحل نمو الجنين ولا تذكر المراحل الأخرى إلّاتحت عنوان: «فَخَلَقَ فَسَوّى وهو تعبير شامل جدّاً، وتشدِّد خاصة على قضية ولادة الجنس «المذكر» و «المؤنث» وهي من أعقد المظاهر المتعلقة بعلم الأجنة: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والْأُنْثى .
«سوَّى»: من مادة (تسوية) بمعنى التنظيم والتسوية، ويعتقد البعض أنّها إشارة إلى خلق الروح الذي جاء في الآية السابقة بشكل آخر.
ويرى البعض أنَّ كلمة «الخلق» إشارة إلى خلق الروح، وكلمة «سوّى إشارة إلى تنظيم وتعديل أعضاء الجسم الإنساني، وفسّرها البعض بالتعديل والتكميل.
لكن الظاهر أنّ تعبيرات الآية شاملة وواسعة بحيث تستوعب كل ألوان الخلق والتنظيم والتعديل والتكامل التي تطرأ على العلقة حتى ساعة وضع الحمل «1».
يقول الراغب في كتاب المفردات: تقال «التسوية» لصيانة الشي ء من الأفراط والتفريط من حيث المقدار والنوعية.
__________________________________________________
(1) تفاسير القرطبي، روح المعاني، في
ظلال القرآن، الميزان و الكبير، في التعقيب على الآية المعنية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 60
في الآية الثالثة يؤكد على نقطة جديدة أخرى ويقول بعد الإشارة إلى خلق الإنسان من النطفة «خصيم مُبين».
وقد وردت تفاسير متعددة لهذا التعبير: فقالوا تارة إنّها إشارة إلى مرحلتي «الضعف» و «القوة» لدى الإنسان، حيث كان يوماً ما نطفة حقيرة ويصبح لاحقاً قوياً ومقتدراً إلى درجة قيامه بالخصومة والضجيج ازاء كل شخص حتى ازاء اللَّه!.
وقالوا تارة إنّها إشارة إلى ملكة النطق والفهم والشعور لدى الإنسان، فهذه النطفة الحقيرة يصل بها الأمر إلى عدم الاقتصار على النطق فقط، بل إلى التمتع بالقدرة على الاستدلال المنطقي بانواعه والاقتدار العقلي، ونحن نعلم أنّ ظاهرة النطق والبيان والمنطق والاستدلال من أهم ظواهر الوجود الإنساني.
وقيل أحياناً: إنّ هذا التعبير إشارة إلى النزاع العجيب الذي يحصل بين الخلايا الذكرية (الحيامن) من أجل التسلط والاتحاد بالخلية الانثوية (البيضة)، لأنّ نطفة الذكر عندما تدخل الرحم تتحرك آلاف الحيامن بسرعة كبيرة لتصل إلى نطفة الأنثى وتتحد معها.
وأول حيمن يصل إليها وينفذ إلى داخلها يسد الطريق على بقية الحيامن، لأنّ غشاءً مقاوماً سيحيط بالبيضة ويمنع من نفوذ بقية الحيامن إليها، وبهذا فإنّ البقية سيهزمون في هذا الصراع العجيب ويمتصهم الدم، ولهذا يشير القرآن الكريم بعد ذكر مرحلة النطفة إلى قضية «خصيم مُبين» «1»
.
في الآية الرابعة أيضا يرد ذكر الخلقة من التراب ثم النطفة وبعد ذلك مرحلة التسوية والتنظيم، وفي الآية الخامسة وهي آخر الآيات يضيف القرآن إلى كل هذا مرحلة «الولادة» وخروج الجنين من بطن الأم على شكل طفل وليد: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا».
وكما نعرف فإنّ أهم عجائب الجنين هي نهاية عمره، بالولادة، أية عوامل تؤدّي إلى
__________________________________________________
(1) إعجاز قرآن از
نظر علوم روز، ص 27 (بالفارسية).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 61
إصدار الأوامر للجنين بالخروج في لحظة معينة! وتقلبه عن شكله العادي (في الحالة العادية يكون رأس الجنين إلى الأعلى ووجهه إلى ظهر الأم) فترسل رأسه إلى الأسفل لتسهيل عملية ولادته؟!.
في البداية يُخرق كيس الماء الذي كان الجنين يسبح فيه، وتخرج المياه ويستعد الجنين لدخول الدنيا لوحده.
يصيب الأم ألم شديد، تضغط كل عضلات بطنها وظهرها وجانبيها على الجنين، وتدفعه إلى الخارج.
إنّ التفاعلات الكيميائية والتغييرات الفيزيائية التي تحصل للجسم أثناء الولادة على درجة من الغرابة والعجب بحيث تحكي جميعها عن علم وقدرة غير متناهيين أوجدا هذه البرامج لمثل هذا الهدف المهم.
وبهذا نستنتج بوضوح من الآيات المذكورة أنّ النظام المعقد والمذهل لنمو الجنين يُعَدُّ من الآيات والعلامات المهمّة التي تخبر عن وجود العلم والقدرة اللامتناهية لموجده، ومن جانب آخر على قدرته على قضية المعاد والحياة بعد الموت، ذلك أنّ الجنين يتخذ كل حين حياةً ومعاداً جديداً، ولذلك كان هذا النمو دليلًا على التوحيد بقدر ما هو دليل على المعاد.
هنالك مثل رائج ومشهور عندما يراد التذكير بعدم ثبات شي ء معين فيقولون: «إنّه كالصورة في الماء» لأنّها تتبعثر بأقل حركة أو نسيم، لكن العجيب أنّ اللَّه الكبير يجعل كل الصور المختلفة للإنسان وللكثير من الأحياء الأُخرى صوراً في الماء ويودع كل هذه الصور في قطرة من ماء النطفة، من يرسم الصور في الماء سوى اللَّه الكبير؟
نفحات القرآن، ج 2، ص: 62
والأغرب من ذلك حسب قول القرآن، هو أنّ هذه الخِلَقِ التي يوجدها اللَّه واحدة تلو الأخرى في ماء النطفة ليخرجها خلال فترة قصيرة على هيئة إنسان كامل يقوم بها عز وجل جميعاً في محل مظلم لا تصل إليه يَدُ أحد، كما يقول القرآن: «يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُوْنِ امَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لَهُ الْمُلْكُ لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُوْنَ». (الزمر/ 6)
إنّ الظلمات الثلاث كما يرى الكثير من المفسرين وكما أشارت بعض الروايات هي:
ظلمة بطن الأم، ثم ظلمة الرحم، وبعد ذلك ظلمة «المشيمة» (الكيس الخاص الذى يحتوي الجنين) التي تكون على شكل ثلاث ستائر سميكة حول الجنين «1».
يحتاج الرسامون والنحاتون المهرة أن ينفذوا صورهم أمام النور والضياء الكامل، لكن ذلك الخالق الكبير يرسم صورة على الماء في ذلك المنزل المظلم بحيث يفتن ويبهر الجميع ويجذبهم للمشاهدة.
3- مقر الأمن والامان
يقول القرآن بصراحة: إننا جعلنا نطفة الإنسان في مقر الأمن والأمان: «ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَكْينٍ». (المؤمنون/ 13)
والحقيقة إنّ أكثر نقاط الجسم صوناً هي تلك التي تستقر فيها النطفة والجنين بحيث تكون محمية من كل جانب، فمن ناحية هنالك العمود الفقري والأضلاع، ومن ناحية أخرى هنالك العظم القوي المسمى بالحوض، ومن ناحية ثالثة الأغطية والعضلات المتعددة التي تحتويها البطن، بالإضافة إلى أن أيدي الأم تتحول بشكل لا شعوري أثناء وقوع بعض الحوادث الخطيرة إلى درع مقابل البطن!
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان؛ تفسير الميزان؛ التفسير الكبير وتفاسير أخرى (روى المرحوم الطبرسي في مجمع البيان نفس هذا المعنى ضمن حديث عن الإمام الباقر عليه السلام).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 63
والأغرب من كل هذا أنّ الجنين يقع في داخل كيس مملوء بماء لزج
بحيث يكون معلقاً في داخل ذلك الكيس وفي حالة تامة من فقدان الوزن، أي لا يواجِهُ أي ضغط من أي جانب، ذلك أنّ بنية الجنين وخاصة في بداياته تكون رقيقة جدّاً بحيث يمكن لأقلّ ضغط عليه أن يسحقه.
ولهذا الكيس بما يحتويه من ماء خاصية القابلية على مواجهة الضربات، وهو تماماً كاللوالب المرنة التي توضع لأفضل السيارات، حيث بامكانها امتصاص وابطال مفعول أية ضربة توجه إليه نتيجة الحركات السريعة للأم.
والألطف أنّه يحفظ درجة الحرارة بالنسبة للجنين ضمن الحدود المعتدلة، ولا يسمح للحرارة والبرودة المفاجئة التي تهاجم بطن الأم من الخارج أن تترك آثارها بسهولة على الجنين!
فهل يمكن العثور على مقر أكثر أماناً من هذا؟ وما أجمل تعبير القرآن حين يسمي مقر النطفة ب «القَرار المكين»؟!
هذه أيضاً إحدى عجائب الجنين، سواء فسرناها بمعنى قدرة الإنسان على الكلام والاستدلال والاحتجاج، كما قال بعض المفسرين، أو فسرناها كونها المسابقة والنزاع الذي يحصل بين الحيامن أثناء الحركة باتجاه البويضة (نطفة الأنثى في رحم الأم، والذي ينتهي بنجاح أحد الحيامن في اتحاده بالبويضة، أمّا بقية الذين انهزموا في هذه الخصومة فانّهم يفنون ويجذبهم الدم، أو اعتبرناها إشارة إلى كلا التفسيرين.
وعلى كل حال، فهذه من النقاط الظريفة والبديعة للجنين، إذ يظهر من موجود منحط وحقير ظاهرياً إِلى ظاهرة سامية وقيّمة جدّاً.
تغذية الجنين بدورها إحدى العجائب، لأنّ النمو والرشد السريع للجنين يستلزم مواداً
نفحات القرآن، ج 2، ص: 64
غذائية كاملة ونظيفة ومصفّاة من ناحية، ومن ناحية أخرى يحتاج إلى الأُوكسجين والماء بالمقدار الكافي الذي يجب أن يصل الجنين بشكل مستمر، وقد جعل اللَّه هذه المهمّة على عاتق جهاز اسمه «الحبل السري» الذي خلقه منذ اللحظات الأولى إلى جانب الجنين، والذي يرتبط من أحد طرفيه بقلب الأم عن طريق شريانين ووريد واحد، ومن طرفه الآخر بالجنين عن طريق عقدة السُرّة.
يمتص هذا الجهاز كل المواد الغذائية والماء والاوكسجين اللازم بواسطة نظام الدورة الدموية للأم، ثم ينقل هذه المواد بعد تصفيتها ثانيةً إلى الجنين، ثم يقوم باستقطاب الفضلات والزوائد والكاربونات وما شاكل ويعيدها إلى دم الأم.
إذن فالحبل السري يلعب دور الجذب والدفع بالإضافة إلى كونه مصفىً بحيث يستطيع الإنسان من خلال مجرّد مطالعته للبناء المذهل لهذا الحبل السري أن يصل إلى عظمة الخالق.
اللطيف أنّه ورد حديث عن أحد المعصومين عليهم السلام يقول فيه ما معناه: إنّ الجنين يستفيد من النسيم الذي تستنشقه الأم!
لم تمض سوى سنوات على اكتشاف العلماء بأنّ رئتي الجنين لا تقومان بنشاطهما التنفسي وأنّه يسبح في
ماء الرحم وأنّه بحاجة إلى الأُوكسجين؟ ولم تمض سوى سنوات على معرفتهم أنّ الاوكسيجين الذي تستنشقه الأُم يدخل إلى دمها وينتقل إلى الحبل السري فينتفع منه الجنين عن طريق سُرّته؟
على أيّة حال، لم يمض زمن طويل على ذلك لكن العين البصيرة للإمام عليه السلام رأت هذه الحقيقة منذ مئات السنين فقال: إنّ الجنين يستفيد من هذا النسيم، هل هناك تعبير مقابل الهواء الملوّث الذي نتنفسه أفضل من كلمة النسيم الذي استخدمه الإمام للاشارة إلى الأُوكسيجين؟ «1»
__________________________________________________
(1) إقتبس من كتاب اولين دانشكاه، ج 1، ص 253 (بالفارسية).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 65
لم يتمكن أحد من الإجابة عن السؤال القائل: كيف وبتأثير أيّة عوامل يصير الجنين ذكراً أو أُنثى أي أنّ العلم لم يعثر لحد الآن على جواب له، فمن الجائز أن تكون بعض المواد الغذائية أو الأدوية مؤثرة في هذا المجال، لكن المسلم بهِ هو أن تأثيرها ليس مصيرياً وجازماً.
ومع هذا فالعجيب مشاهدة تعادل نسبي دائم بين هذين الجنسين (الرجل والمرأة) في المجتمعات البشرية، وإن كان ثمّة اختلاف فانّه ليس بالاختلاف الملفت للنظر.
تصوروا يوماً يختلُّ فيه هذا التعادل فتكون نسبة الرجال إلى النساء عشرة إلى واحد مثلًا، أو على العكس يكون عدد النساء عشرة أضعاف الرجال، أيّة مفاسد عظيمة سوف تظهر؟ وكيف سيضطرب نظام المجتمعات البشرية؟ وهل أنّ المجتمع الذي يكون فيه مقابل كل رجل عشر نساء أو مقابل كل إمرأة عشرة رجال يستطيع أن يوفر لنفسه حياة هادئة؟
لكن الذي خلق الإنسان لحياة سالمة، أَوجد هذا التوازن العجيب والغامض فيها، أجل إنّ اللَّه تعالى ووفقاً لمشيئته وحكمته يهب لمن يشاء ذكوراً ويهب لمن يشاء إناثاً: «يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ الذُّكُورَ». (الشورى
49)
لكن هذه المشيئة والإرادة محسوبة.
من العجائب الأُخرى في الجنين، أنّ النطفة الأصلية للإنسان تكون في بدايتها مجرّد موجود أُحادي الخلية، ينمو ويكثر بواسطة الانشطار على شكل متوالية هندسية، تحدث هذه الكثرة وهذه التحولات بصورة سريعة جدّاً وكما قال القرآن: «خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» ولو استمر هذا النمو على هذه السرعة بعد الولادة لكانت للإنسان خلال مدّة قصيرة قامة بطول الجبال! ولضاق به وجه الأرض، ولكن نفس الذي منح الجنين السرعة في سيرهِ التكاملي سوف يخفف منها عند وصول الإنسان إلى مرحلة معينة ثم يوقفها بالتدريج!
نفحات القرآن، ج 2، ص: 66
ما هي العوامل التي تجعل من الخلايا الناتجة عن خلية واحدة تأخذ أنواعاً متباينة:
خلايا غضروفية، عظمية، عضلية، جلدية، وغيرها؟ هل هو الرحم الذي قدّر مستقبل هذا الموجود فمنح الخلايا أشكالها كلّاً في محلها؟ إن كان له مثل هذا الذهن والقدرة والابداع فمن وهبه هذا الذهن والقدرة والإبداع؟!
يقول العالم المعروف «الكسيس كارايل» في كتاب «الإنسان ذلك المجهول»: «كأنَّ كل جزء من الجسم على معرفة بالاحتياجات الحالية والمستقبلية لكل الجسم، وهو يغير نفسه وفقاً لهذه الإحتياجات، للزمان والمكان مفاهيم أخرى عند الأنسجة، لأنّها (الأنسجة) تدرك جيداً البعيد كإدراكها للقريب والمستقبل كإدراكها للحال، فمثلًا تصبح الأنسجة اللينة للأعضاء الجنسية للمرأة في نهاية فترة الحمل ألين وأكثر قدرة على الاتساع، وهذا التغيّر يُسهّل عبور الجنين في الأيام اللاحقة عند الولادة، وفي نفس الوقت تزداد خلايا الثدي ويكبر هذا العضو بل إنّه يمارس نشاطه وينتج اللبن استعداداً لتغذية الوليد حتى قبل الولادة..
إنّ وضع وسلوك العضلات على طول فترة نمو الجنين في رحم الام، يكون وكأنّها تعلم المستقبل مسبقاً، فيُراعى انسجام الأعضاء في لحظتين زمنيتين متفاوتتين أو في نقطتين مكانيتين مختلفتين» «1».
مهما سمينا هذا الموضوع
فانّه لن يتغير، لكنه على أيّة حال يخبر بوضوح عن وجود مبدأ كبير للعلم والقدرة فيما وراءَه.
قرأنا في تفسير الآية 14 من سورة المؤمنون أنّ للقرآن تعبيراً خاصاً عن قضية ظهور العضلات يقول فيه: «فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً»، إنّ اختيار كلمة: «كَسَوْنَا» إحدى معجزات القرآن العلمية، فقد ثبت اليوم أنّ العظام تظهر قبل الأنسجة اللحمية «2».
__________________________________________________
(1) الإنسان ذلك المجهول، ص 190.
(2) إعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة، ص 29.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 67
كما قرأنا في تفسير الآية 5 من سورة الحج، فإنّ اللَّه ينسب إخراج الجنين من الرحم إلى نفسه: «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» إنّ هذا التعبير يكشف عن أهميّة عملية الولادة التي توصل إليها العلماء في عصرنا الحاضر.
ما هو العامل الذي ينظم زمان الولادة؟ وما هي الظروف اللازمة لإصدار الأوامر للجنين بالخروج؟ وكيف تُعَدُّ جميعُ أعضاء الجسم لهذا التحوّل المهم؟ وضمن أيّة عوامل ينقلب جسم الجنين تدريجياً ليخرج رأسهُ إلى الدنيا أولًا؟ هل تراه يعلم أنّ ولادته ابتداءً برجليه غير ممكنة أو أنّها مستعصية جدّاً؟ مَن يصدر الأوامر لكل عضلات جسم الأم بتسليط أشد الضغوط على الجنين من أجل الخروج؟
وتظهر أهميّة هذا الموضوع عندما يختل هذا النظام نادراً ويضطر الأطباء إلى عملية «فتح البطن» «الولادة القيصرية»، وربّما كان وجود مثل هؤلاء الأشخاص القلة، إنذاراً للجميع لكي يفكروا بأهميّة هذا الموضوع.
بالطبع يمكن في بعض الحالات التنبؤ بزمان الولادة على وجه التقريب، ولكن في بعض الحالات تحصل الولادة قبل الموعد وأحياناً بعده.
وهكذا فإنّ عملية الولادة بكل ما يتعلق بها من أمور محسوبة، إنّ هي إلّاآية أخرى من آياته تبارك وتعالى.
ذكرنا أنّ أحداً لا يستطيع تعيين لحظة الولادة بصورة دقيقة، وما يتنبأ به الأطباء عموماً أو خصوصاً لإخبار الناس فإنّه ذو طابع تخميني فقط، كما تقول الآية:
«اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيْضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَى ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ» «1»
. (الرعد/ 8)
__________________________________________________
(1) «تغيض» من مادة «غيض» على وزن فيض بمعنى امتصاص السائل أو احتوائه، ثم جاءت بمعنى النقصان وكذلك بمعنى الفساد، ولهذا فسر البعض كلمة تغيض في الآية أعلاه بمعنى نقصان الجنين والبعض بمعنى الولادة قبل الموعد وهو المعنى المشهور بين المفسرين، وهو المروي في
حديث عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهما السلام، كما أنّ ذيل الآية يدل على ذلك.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 68
ظاهر الآية أنّ هذا من العلوم الإلهيّة الخاصة، وهو العلم بخصائص الجنين من كل الجوانب قبل ولادته، فهو عزوجل لا يعلم بالجنين من حيث جنسه فقط وإنّما يعلم بكل قابلياته وأذواقه وصفاته الظاهرة والباطنة، كما أنّ لحظة ولادته لا يعلمها إلّااللَّه، ومن أجل أن لا نتصور أنّ الزيادة والنقصان تأتيان بدون حساب أو مبرر، بل إنّ ساعتها وثانيتها ولحظتها محسوبة جميعاً، فقد أضاف قائلًا: «وكُلُّ شَى ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ».
المثير هو ظهور تغيرّات عجيبة على نظام حياة الوليد في لحظة ولادته وهي تغيرات ضرورية جدّاً لتكييفه مع المحيط الجديد، وسوف نشير إلى اثنتين منها فقط:
أ) تغيّر نظام دوران الدم، فعملية دوران الدم في الجنين دوران بسيط، لأنّه لا يتحرك الدم الملوّث نحو الرئتين من أجل التصفية، إذ لا تنفس هناك، ولهذا كان إثنان من أجزاء قلبه (البطين الأيمن والأيسر) الذي يتحمل أحدهما مسؤولية إيصال الدم إلى الأعضاء والثاني يتحمل مسؤولية إيصال الدم إلى الرئتين للتصفية، على اتصال مع بعضهما، ولكن بمجرّد أن يولد الجنين تُغلق البوابة بينهما وينقسم الدم إلى قسمين، قسم يُرسل إلى كل خلايا الجسم لتغذيتها والقسم الآخر إلى الرئتين لتصفيته.
أجل، ما دام الجنين في بطن الأُم فإنّه يحصل على ما يحتاج من الأوكسجين من دم الام، لكن عليه أن يكتفي ذاتياً بعد الولادة ويحصل على الاوكسجين بواسطة الرئة والتنفس، الرئة التي كانت قد خِلُقتْ وأُعدّت مسبقاً بشكل تام في رحم الأم، سوف تمارس عملها فجأة بأمر إلهي واحد، وهذا من العجائب حقاً.
ب) إنسداد عقدة السُرّة وجفافها وسقوطها (عادةً ما يقطعون عقدة السرة التي تعتبر
طريق تغذية الجنين بواسطة الحبل السري من دم الأم، ولكن حتى لو لم يقطعوها فإنّها تتيبس وتسقط تدريجياً).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 69
أي كما أنّ طريق الحصول على الاوكسجين يتغير عند الولادة، فإنّ طريق التغذية يتغير أيضاً وبشكل مفاجي ء، ويبدأ الفم والمعدة والأمعاء التي اكتملت في الفترة الجنينية ولكنها لم تكن تعمل، فتبدأ بالعمل فجأة، وهذه واحدة أخرى من العجائب المهمّة في خلقة الإنسان.
غالباً ما يكثر الأطفال الرضّع من البكاء، من الممكن أن يكون هذا البكاء دلالة على آلامهم، فهم لا يمتلكون لساناً غير لسان البكاء للافصاح عن الألم، أو أنّه بسبب الجوع والعطش، أو بسبب الانزعاج إزاء ظروف الحياة الجديدة سواء كانت حراً أو برداً أو ضوءً شديداً أو ما شابه، لكن من الممكن أن يبكي الأطفال بدون هذه الظروف أيضاً، وهذا البكاء رمز حياتهم وبقائها.
فهم في ذلك الحين بحاجة شديدة إلى الرياضة والحركة والحال أن ليس بامكانهم الرياضة، الرياضة الوحيدة القادرة على تحريك كل وجودهم بما فيه الأيدي والأرجل والقفص الصدري والبطن وإدارة الدم بسرعة في كل العروق لتغذية كافة الخلايا بصورة متواصلة، هي «رياضة البكاء» التي تعتبر بالنسبة للطفل رياضة كاملة، ومن هنا إذا لم يبكِ الوليد فيُحتمل أن يتعرض لأضرار جمّة أو تتعرض حياته كلها إلى الخطر.
وفضلًا عن هذا فإنّ هنالك رطوبة عالية في مخ الأطفال إذا بقيت هناك يمكن أن تؤدّي إلى أمراض وأوجاع شديدة، أو تسبب العمى والبكاء يعمل على خروج الرطوبة الزائدة من أعينهم على شكل دموع، فيضمن ذلك صحتهم.
يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديثه المعروف ب «توحيد المفضل» بعد الإشارة إلى هذا الأمر: «أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك
فهما دائبان ليسكتاه ويتوخّيان في الأُمور مرضاته لئلا يبكي، وهما لا يعلمان أنَّ البكاء أصلح له وأجمل عاقبةً ...» «1»
.
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 65 و 66.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 70
وفي نفس الرواية، يشير الإمام عليه السلام إلى جريان الماء من أفواه الأطفال الذي يكمّل مهمّة دموع أعين الأطفال، ويقول: «فجعل اللَّه تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم» «1»
.
لو كان للطفل عقل منذ البداية فلا شك أنّه كان يتألم بشدة، لأنّه سوف يشعر آنذاك بالضعف والمذلة، فهو لا يستطيع المشي ولا الأكل ولا القيام بأبسط الحركات، يجب أن يلفّوه بقماش ويضعوه في المهد ويغطوه بغطاء ويشطّفوه ويحفظوه.
يقول الإمام الصادق عليه السلام ضمن الإشارة إلى هذا الموضوع في حديثه المسمى ب «توحيد المفضل»: «فإنّه لو كان يولد تام العقل مستقلًا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، وما قدر أن يكون للوالدين في الأشتغال بالولد من المصلحة ...» «2»
.
بالإضافة إلى أنّ الانتقال إلى عالم جديد بكل شى ء ومجهول كان سيسبب له من الوحشة والاضطراب ما قد يضر بفكره وأعصابه، لكن تلك القدرة الأزلية التي خلقت الإنسان للتكامل قدّرت فيه كل هذه الأصول.
كذلك لو كانت حواسه متكاملة، وفتح عينيه فجأة وشاهد مشاهد جديدة واستمعت أذنه إلى الأصوات والأنغام الجديدة، لما كان في وسعه تحملها، فكان التدريج في تلقي برامج الحياة الجديدة هو الاسلوب الأمثل.
الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُوْنَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ والأَفْئِدةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُروُنَ». (النحل/ 78) وفقاً لهذه الآية فإنّ الإنسان لا يمتلك أي علم في البداية ولا يتمتع حتى بالسمع والبصر،
__________________________________________________
(1) بحار الانوار، ج
3، ص 65 و 66.
(2) المصدر السابق، ص 64.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 71
ثم وهبه اللَّه القدرة على السماع والنظر والتفكير، ربّما كان ذكر السمع قبل ذكر الأبصار إشارة إلى أنّ النشاط السمعي عند الوليد يبدأ أولًا، وبعد فترة تكتسب الأعين قدرتها على الابصار، بل إنّ البعض يعتقد وكما أسلفنا أنّ للأذن في عالم الجنين مقداراً من القابلية على السماع، فهي تسمع أنغام قلب الأم وتعتاد عليها.
لا يستطيع وليد الإنسان والكثير من الحيوانات في بداية ولادته أن يأكل الأطعمة الجافة والثقيلة، ولهذا فقد هيّأت يد الخالق المقتدرة غذاءً خاصاً في ثدي الأم إسمه «اللبن»، والحقيقة أن نفس دماء جسم الأم التي كان الطفل ينتفع منها في الفترة الجنينية تتحول إلى لبن ضمن عملية تغيّر واسعة وسريعة، فتغذّيه حتى الفترة اللازمة.
يتغير شكل ثدي الأم بصورة تدريجية خلال فترة الحمل، ويكبر شيئاً فشيئاً نتيجة الافرازات التي يقذف بها الحبل السري إلى دم الأم ليأمرها بالاستعداد الكامل، وهكذا يُهي ء الثدي نفسه لوظيفتِهِ المستقبلية الثقيلة.
إنّ الأنابيب الموجودة في الثدي والممتدة حتى قمة الثدي (الحلمة)، تتشعب وتزداد وتفرز إفرازات بسيطة، وعند ولادة الطفل تعلن عن استعدادها التام.
العجيب أن ترشح اللبن من خلايا الثدي ليس دائمياً وإلّا لخرج اللبن بصورة متواصلة إلى الخارج، بل إنّه بمجرّد ملامسة شفتي الوليد لثدي الأم وبدئه بالامتصاص تتجه الحوافز العصبية عن طريق الأعصاب إلى النخاع ومن النخاع إلى الهايبوثالموس فتؤدّي إلى نوعين من الافراز، يصب أحدهما في الأثداء عن طريق الدم فيضغط على الأنسجة المحيطة بأنابيب اللبن ليندفع اللبن باتجاه الحلمة، وتتمّ كل هذه الأعمال خلال 30 ثانية، والأعجب أنّ اللبن لا يتحرك في ذلك الثدي الذي يرضع منهُ الطفل فقط، بل ويحدث
هذا في الثدي الآخر أيضاً فيكون مستعداً، ولذا يُؤكد الأطباء على إرضاع الوليد من كلا الثديين.
اللبن غذاء كامل، وخاصة لبن الأم الذي يعتبر غذاءً أكمل بالنسبة لوليدها ولا يستطيع شي ء في العالم أن يحل محله.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 72
يحتوي الحليب على أنواع الفيتامينات كفيتامين A، B، D، P وفيتامينات أخرى وقد اكتشف فيه العلماء 22 مادة مختلفة، علاوة على أنواع الأنزيمات «1»، والكثير من الأدوية الضرورية تنتقل عن طريق لبن الأم إلى وليدها، ومن هنا فإنّ الأطفال المحرومين من لبن الأم يصابون بمختلف الأعراض.
يبدو أنّ لبن الأم لا يغذي جسم الطفل فحسب، بل إنّه يروي عواطفه وروحه أيضاً، ولهذا قد يصاب المحرومون من لبن الأم بمشاكل ونواقص عاطفية بعض الأحيان.
وعلى هذا الأساس يقول القرآن الكريم: «وَالْوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ». (البقرة/ 233) إنّ عجائب وغرائب اللبن أكثر من أن يحتويها هذا المختصر، وإذا أردنا أن نترك العنان للقلم لمثل هذه الأبحاث نكون قد خرجنا عن بحثنا التفسيري.
__________________________________________________
(1) من أجل مزيد من الاطلاع تراجع دائرة معارف القرن العشرين، مادة (لبن)، والجامعة الأولى (اولين دانشگاه)، ج 6، وإعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة، وقد وردت إشارات مثيرة حول هذا المعنى في حديث توحيد المفضل (بحار الأنوار، ج 3، ص 62).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 73
إنّ ظاهرة الحياة هي أعقد ظواهر هذا العالم حسب ما نعلم، ظاهرة حَيّرت عقول كل العلماء، وقد مضت آلاف السنين والعلماء يفكرون فيها، لكن هذا اللغز لم يُحلّ لحد الآن.
ما هو السبب الذي أدّى إلى أن تضع الموجودات الجامدة وبطفرة عجيبة، أقدامها في مرتبة الحياة والعيش فتكون لها تغذية ونمو وتناسل؟! من الممكن أن
يصنع الإنسان جهازاً بالغ التعقيد (كالعقول الالكترونية المتطورة جدّاً) بعد قرون من التجارب، وهذا بدوره شاهد على سعة اطلاع ومعرفة من صنعوه، ولكن هذا الجهاز الدقيق والمعقد للغاية لا ينمو أبداً، ولا يداوي أو يرمم كسوره وعيوبه، ولا يتناسل بصورة مبدأيةٍ مطلقاً.
أمّا الكائنات الحيّة، فإنّها فضلًا عن بنائها الدقيق والمعقد والمذهل إلى أقصى الحدود، فانّها تستطيع القيام بهذه الأعمال وأعمال أخرى كثيرة، والقليل من المطالعة حول وضعها يشكل آية واضحة ودليلًا بيّناً على العلم والقدرة اللامتناهية لخالقها.
يُكثر القرآن من الاستناد إلى موضوع الحياة والموت في آياته المختلفة ضمن قضية إثبات وجود الله، ونفي الشرك بانواعه، ويؤكد عليه كثيراً، والحق أنّه كذلك.
بعد هذه الإشارة نقرأ خاشعين الآيات الكريمة أدناه:
1- «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحىِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤفَكُوْنَ». (الانعام/ 95)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 74
2- «كَيْفَ تَكْفُروُنَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ». (البقرة/ 28)
3- «هُوَ يُحْيِى وَيُمِيْتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (يونس/ 56)
4- «وَهُوَ الَّذِىْ يُحْىِ وَيُمِيْتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ والنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُوْنَ».
(المؤمنون/ 80)
5- «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ يُحْيِى وَيُمِيْتُ وَمَالَكُمْ مِّنْ دُوْنِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا نَصِيْرٍ». (التوبة/ 116)
6- «لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِى ويُمِيْتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِيْنَ». (الدخان/ 8)
7- «أَلَمْ تَرَ الَى الَّذِى حَآجَّ ابراهِيمَ فى رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ ابْراهِيْمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيْتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيْتُ». (البقرة/ 258)
8- «إِنّا نَحْنُ نُحْيِى وَنُمِيْتُ وإِليْنَا الْمَصِيْرُ». (ق/ 43)
9- «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُم هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِّنْ شَى ءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ». (الروم/ 40)
10- «واللَّهُ أَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُوْنَ». (النحل/ 65)
«الحياة»: يقول الراغب في المفردات: تستخدم الحياة في معان مختلفة: الحياة النباتية، الحياة الحسية (حياة الحيوانات)، الحياة العقلانية (حياة البشر)، الحياة بمعنى زوال الغم والهم والحزن، الحياة الأخروية الخالدة، والحياة المذكورة كونها إحدى الصفات الإلهيّة، ويأتي لكل واحدة منها بشاهد من الآيات القرآنية.
ولكن في «مقاييس اللغة» يُذكر لهذه المفردة معنيان أساسيان، أحدهما الحياة مقابل الموت، والآخر «الحياء» وهو ما يقابل الوقاحة والصلافة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 75
غير أن البعض يعتقد برجوع المعنيين إلى أصل واحد، لأنّ الذي يتمتع بالحياة والخجل إنّما يصد نفسه عن الضعف والعجز ويتحرك باتجاه الخير والطهارة، وإن كان الثعبان العظيم يسمى ب «الحية» فذلك لشدّة تحركها التي تعتبر من أبرز آثار الحياة والعيش، وتسمى القبيلة ب «الحي» بلحاظ امتلاكها حياةً اجتماعيةً وجماعيةً «1».
وبالطبع فإنّ لهذه المفردة معانٍ كنائية كثيرة من جملتها «الإيمان» في مقابل الكفر، و «الطراوة» في مقابل الذبول، و «الحركة» في قبال السكون، ويطلق على التحية اسم «التحية» من باب أنّ فيها طلباً للسلامة والحياة.
«الموت»: هو بالضبط النقطة المقابلة للحياة، لهذا كانت له أنواع مختلفة يقابل كل منها نوعاً من أنواع الحياة، منها «الموت النباتي» كما في قول القرآن حول المطر «أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً». (ق/ 11)
و «الموت الحيواني» و «الموت العقلاني» أي الجهل.
و «الموت» بمعنى الغم والحزن كما يقول القرآن الكريم: «وَيَأتِيْهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ». (ابراهيم/ 17)
«والموت»: بمعنى النوم، كما قالوا: «النوم موت خفيف» مثلما أنّ الموت نوم ثقيل.
وَاعتبر البعض «الموت» بمعنى الإنحلال التدريجي للكائن الحي، و «الموتة» حالة شبيهة بالجنون، وكأنّ العقل والعلم يموتان
في تلك الحالة.
كما أنّ البعض فرّق بين «الميِّت» و «المائت» وقالوا: الميت هو الميت أمّا «المائت» فهو الموجود في حالة الانحلال والانحدار نحو الموت.
ولهذه المفردة معانٍ كنائية كثيرة منها «الكفر»، و «النوم»، و «الخوف».
وَسميت الأرض الموات بالموات لافتقادها الحياة النباتية، والقابلية على الغرس والزراعة، وأمّا بعد أن تُهيَّأَ للغرس والزرع فيسمونها «مهيأة».
ورد في قواميس اللغة أنّ أصل هذه المفردة هو ذهاب القوّة، والذي يعتبر موت الكائنات الحية من مصاديقه البارزة.
__________________________________________________
(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم؛ مفردات الراغب، لسان العرب؛ مجمع البحرين؛ وكتب اللغة الأخرى
نفحات القرآن، ج 2، ص: 76
جرى الاستناد في الآيات العشر أعلاه وعدد آخر من الآيات القرآنية إلى قضية الحياة والموت بعنوان إحدى الآيات الإلهيّة الكبيرة وعلامات الذات المقدّسة للخالق، كان التأكيد في أغلبها على حياة وموت الإنسان، وفي بعضها على الحياة والموت بشكل عام أي عند جميع الأحياء، وفي البعض أكدت على حياة وموت النباتات.
في الآية الأولى المخصصة للبحث، ورد كلام عن فلق النواة والحبّة بواسطة القدرة الإلهيّة، وعن استخراج الكائن الحي من الكائن الميت وبالعكس الكائن الميت من الحي، بحيث تشمل الحياة والموت بالمعنى الواسع للكلمة في النباتات والحيوانات والبشر.
الملفت للنظر أن بذور النباتات ذات جدار صلب ومحكم، والنواة أكثر إحكاماً منه، إذ ليس فلقها بالأمر الممكن بسهولة، ومع هذا فالفِلْقة الخارجة من داخل الحبّة والنواة بحيث لايمكن وصف رقتها ولطافتها، أمّا كيف يمكن لتلك الفِلْقة اللطيفة أن تفلق تلك القلعة والحصن الحصين فتخرج من خلال جدرانه وتستمر في طريقها؟ فليس ذلك سوى القدرة الإلهيّة الفريدة، وكأنَّ عبارة: «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى إشارة دقيقة إلى هذا المعنى
وحول كيفية إخراج اللَّه تعالى الميِّت من الحيِّ والحيِّ من
الميتِ، ذكر الكثير من المفسرين الماضين الأمثلة عليها، بخروج الدجاجة من البيضة، والشجر والنبات من الحبة والنواة، والإنسان من النطفة، في حين صار من المسلّم به لدى العلماء اليوم أنّ الكائنات الحية تظهر دائماً من الكائنات الحية، أي أنّ في داخل حبة ونواة النباتات والأشجار فضلًا عن الكمية المعينة من المواد الغذائية، توجد خلية حية هي في الحقيقة نبات وشجرة مجهرية صغيرة جدّاً وإذا استقرت في المحيط المناسب فسوف تستفيد من هذه المواد الغذائية فتنمو وتكبر، وكذلك بالنسبة إلى نطفة الإنسان والحيوان فإنّ الخلايا الحية كثيرة، وهي المصدر لتكاثر وتناسل الإنسان والحيوان.
أجاب بعض المفسرين المعاصرين (كالمراغي ومؤلف تفسير المنار) الذين التفتوا إلى
نفحات القرآن، ج 2، ص: 77
هذا الإشكال بأن هذه الخلايا الخاصة مع أنّها تسمى في عرف علماء العلوم الطبيعية بالكائنات الحية، ولكنها لا تجدر بهذه التسمية في العرف العام للناس واللغة، لأنّ أياً من آثار الحياة والعيش لا تظهر عليها «1».
والأفضل أن نقول: إنّ المراد بخروج الكائن الحي من الميت لا يعدو أحد المعنيين التاليين:
الأول: هو بالرغم من أنّ الكائنات الحية في الظروف الحالية تخرج دائماً من البذور والحبوب والنطف الحية، ولكن لا شك أنّ الأمر لم يكن كذلك في البداية، لأنّ الكرة الأرضية عندما انفصلت عن الشمس كانت عبارة عن كتلة من نار، ولم يكن عليها أي كائن حي، ثم ظهرت أول الكائنات الحية من الكائنات غير الحية ضمن ظروف لا علم لنا بها اليوم وبأمر اللَّه بعد سلسلة من القوانين البالغة في التعقيد.
والفرضية القائلة: إنّ من الممكن للحياة أن تكون قد انتقلت من الكواكب الاخرى إلى الكرة الأرضية بواسطة القطع والأجرام السماوية والتي يُصّر البعض عليها، لا تستطيع أن تحل لنا
أية مشكلة، لأنّ الإشكال يصدق على تلك الكواكب أيضاً، فهي ولا شك كانت في البداية كتلًا محترقة، ولايستطيع أى كائن حي أن يتحمل تلك الظروف.
الثاني: هو أنّ البذور والحبوب والنطف الأولى لم تكن إلّاموجودات صغيرة جدّاً لكنّها نمت وتطورت عن طريق تغذيتها على المواد الغذائية غير الحية وهي في الحقيقة تجذب إليها الموجودات غير الحية وتحولها إلى حية، وعليه فإنّ آلاف الآلاف وملايين الملايين من الخلايا الحية قد ظهرت من الموجودات الميتة، وعن هذا يقال: إنّ اللَّه يخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت.
والبعض قالوا: إنّ المراد بهذا التعبير ولادة «الكافر» من «المؤمن» و «المؤمن» من «الكافر»، أو ولادة الجنين السقط من الإنسان الحي، وولادة الطفل الحي من الام التي تموت فجأة ولا يزال الطفل حياً في بطنها.
__________________________________________________
(1) تفسير المراغي، ج 7، ص 197؛ وتفسير المنار، ج 7، ص 631.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 78
ولكن ممّا لا شك فيه أنّ هذه الأقوال هي مصاديق للمفهوم الكلي للآية ولا تشمل كل مفهوم الآية، المفهوم الأصلي للآية هو أحد المفهومين المُشار إليهما.
وعلى أيّة حال فالتعقيد الذي يحيط بقضية الحياة والموت من الدرجة بحيث أنّ العلماء لا يزالون عاجزين عن فهم أسراره، فإذا كان فهم أسرار إحدى الظواهر يحتاج إلى كل هذا العقل والتفكير والذكاء، فهل يمكن إيجاد هذه الظاهرة بدون الحاجة إلى أي عقل وذكاء؟!
ولهذا يقول القرآن في نهاية نفس هذه الآية: «ذلِكُمُ اللَّهُ فَأنّى تُؤْفَكُوْنَ».
تقول الآية الثانية بلهجة الاستفهام المُوبِّخ: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنتُمْ أَمْوَاتاً فأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُحْيِيكمْ» وفى هذا إشارة إلى أنّ قضية الحياة والموت كافية لمعرفة اللَّه.
وبتعبير آخر فإن ظاهرة الحياة والموت في عالم الخلقة من أهم الوثائق لإثبات وجود
اللَّه.
إنّ الإنسان عندما يفتح عينيه ويعرف نفسه، فإنّه يطالع هذه الوثيقة الكبيرة قبل كل شي ء.
ويدرك الإنسان جيداً أنّ حياته ليست من عنده لأنّه كان يوماً في عداد الموجودات غير الحية، إذن، ثمّة قدرةٍ وهبته الحياة، الحياة بكل أسرارها ورموزها، بكل دقائقها وتعقيداتها.
اعتبر بعض المفسرين «الكفر» في هذه الآية بمعنى «كفران النعمة»، أي كفران نعمة الحياة والموت، هذا الموت الذي هو مقدّمة لحياة أخرى، ولكن الظاهر هو أنّ الكفر هنا بمعنى إنكار وجود اللَّه أو إنكار توحيده مِن قبل المشركين.
بالإضافة إلى أنّه جرى التأكيد في هذه الآية على قضية المعاد، أي أنّ ظهور الحياة والموت تمثلان دليلًا على التوحيد بالإضافة إلى كونهما دليلًا على إمكان المعاد.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 79
الآية الثالثة تُعد ضمن آيات المعاد، ولكن كما قلنا فإنّ قضية الحياة والموت دليل على إثبات وجود اللَّه وعلى إثبات المعاد، والتعبير ب «هُو يُحْيِى وَيُمِيْتُ» إشارة إلى أنّ الحياة والموت بيد اللَّه فقط، ولا يمكن لأحد سوى اللَّه القادر المتعال أن يصنع مثل هذه الظاهرة المهمّة والعجيبة إلى أقصى الحدود.
أمّا الآية الرابعة فقد وردت ضمن آيات التوحيد في سورة (المؤمنون)، وأكدت على قضيتين «قضية الحياة والموت»، و «قضية ذهاب وإياب الليل والنهار» ولهذين شبه كبير فيما بينهما، الموت كالظلمة، والحياة كالنور والضياء، وربما كان تقديم الليل على النهار من هذا الباب أيضاً، ذلك أنّ الموت كان قبل أن تكون الحياة وكان الإنسان سابقاً أجزاءً ميتة ثم أنعم اللَّه عليه فكساه ثوب الحياة، وسواء كان «اختلاف الليل والنهار» بمعنى ذهاب وإياب الليل والنهار (من مادة (خِلفة) على وزن حِرفة بمعنى التناوب في المجي ء والحلول محل البعض)، أو من مادة (خِلاف) بمعنى التباين والاختلاف التدريجي في فصول
السنة المختلفة، وأيّاً كان المعنى فهو يدل على النظام الدقيق الذي يحكمهما وما يرافقه من فصول أربعة ومن بركات ناتجة عنها، كما أنّ لقضية الموت والحياة والنظام الذي يحكمها في المجتمع الإنساني نتائج وآثاراً كثيرة لا يمكن بدونها تنظيم حياة الإنسان.
فَإذا لم يمت أحد، لَما كانت الأرض محلًا للحياة، وإن مات الجميع بسرعة خلت الأرض أيضاً، ولكن خالق هذا العالم جعل فيه نظاماً دقيقاً بحيث لا تخلو الأرض من أقوام يعيشون عليها ويتمكنون من الانتفاع من مواهب الحياة، وهذه هي سنّة اللَّه فَقوم يأتون وقوم يذهبون.
ولهذا يقول تعالى في نهاية الآية: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» أفلا تتفكرون في قدرة الخالق وربوبيته ووحدانيته؟ وإنّ من المستحيل ظهور هذا النظام البديع من غير علم ولا تدبير.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 80
وفي الآية السادسة جاءت قضية الحياة والموت إلى جانب قضية الربوبية، فهواللَّه سبحانه مالككم وربّكم أنتم وآبائكم، الأولين وهو خالق الموت والحياة.
وبشكل أساسي فإنّ قضية الموت والحياة إحدى فروع ربوبية اللَّه سبحانه وتعالى، «الربوبية» بمعنى الإصلاح والتنظيم والتربية، وهذه لا تحصل إلّاعن طريق الحياة والموت، الحياة تعطي الإنسان إمكانية التكامل، والموت أيضاً مقدمة لتكامل آخر وحياة جديدة في عالم أوسع.
تعكس الآية السابعة الحوار التاريخي بين النبي إبراهيم عليه السلام وجبار زمانه «نمرود»، ويبدو أنّ هذا الحوار جاء بعد قصة تحطيم ابراهيم الأصنام وظهوره كبطل من الأبطال وشياع صيته في كل مكان واضطرار نمرود إلى إحضاره «1».
إنّ أول سؤال سأله هذا الرجل الأناني الذي أذهب عقله غرور السلطان للنبي إبراهيم عليه السلام هو: «من إلهك؟».
فاعتمد إبراهيم قبل كل شي ء في جوابه على ظاهرة الحياة والموت المهمّة وقال: «ربّيَ الذي يُحيِي ويميت».
فقال الجبارالطاغي نمرود مع علمه الأكيد بأحقّية كلام إبراهيم ومن
أجل استغفال من حوله وتخدير عقولهم: إنني استطيع القيام بهذا أيضاً «أنا أحيي وأميت».
لم يذكر القرآن ما صنعه نمرود من أجل إثبات ادّعائه هذا، ولكن الكثير من المفسرين قالوا: إنّه أمر فوراً باحضار إثنين من السجناء، فأطلق سراح أحدهم وحكم على الآخر بالموت وقال: أرأيت كيف أن الحياة والموت بيدي؟!
والفخر الرازي استبعَدَ هذا المعنى في تفسيره وهو أن يكون الحضار في مجلس نمرود
__________________________________________________
(1) ورد هذا المعنى وهو أنّ الحوار أعلاه حصل بعد تحطيم الأصنام من قبل إبراهيم في عدّة تفاسير منها تفسير المراغي ج 3، ص 21؛ و الكبير ج 7، ص 25.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 81
من البله والسذاجة بحيث لا يدركون الفرق بين عمل نمرود وبين الحياة والموت التي تحصل عن طريق اللَّه.
ويقول: إن قصد نمرود هو قوله: أتراك تزعم أنّ اللَّه يقوم بذلك من دون أيّة واسطة؟ هذا غير صحيح، وإن كان ذلك يحصل عن طريق الاستفادة من عالم الأسباب، فإنّ ذلك بإمكاننا أيضاً «1».
ولكن يبدو أنّ الفخر الرازي نسي هذه النقطة، وهي: أنّ الجهلاء في كل عصر وزمان ليسوا قليلين، خاصة المتملقين الذين يحيطون بحكام الجور والاستبداد والتجبر.
وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في حياة موسى وفرعون حيث حاول فرعون استغفال وخداع أهل مصر بكلماته الركيكة المضحكة ودعاهم إلى عبادته.
إن تفسير الفخر الرازي يلائم جماعة من الفلاسفة يجتمعون مع بعضهم ويصطنعون مثل هذه السفسطات، أمثال لو كان الفاعل فاعلًا بالواسطة لكان كذا ولو كان بلا واسطة لكان كذا.
الآية الثامنة تعتبر إيجاد الحياة والموت أمراً خاصاً باللَّه، شأنها شأن الآية الثالثة، وتعتبر عودة جميع الخلق إلى بارئهم عزوجل.
وفي الآية التاسعة يخاطب اللَّه تعالى المشركين بلهجة حازمة فيقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم ثُمَّ
رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِّنْ شَى ءٍ»، هل بامكانهم إحياء شي ء أو إماتته؟ أو رزقه؟ وما دامت كل هذه الأمور خاصة باللَّه، فما لكم تشركون به: «سُبْحَانَهُ وَتَعالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ».
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 7، ص 24.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 82
وأخيراً وفي الآية العاشرة والأخيرة يطرح اللَّه قضية حياة النباتات، وهو وجهٌ مشرق، جميل وملي ء بالأسرار من وجوه الحياة، ويعرض على البشر صورة الأراضي الميتة كيف يُلبس هذه الصحارى اليابسة الفاقدة للحياة لباسَ الحياة بزخة مطر واحدة أو عدة زخات، فتتصاعد من كل جانب من جوانبها أنغام الحياة فتتجلى ساحة البعث والنشور في هذه البقعة.
وَيضيف في آخر الآية: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ»، يسمعون انغام تحميد وتسبيح النباتات ويصغون بآذان قلوبهم لهمسات التوحيد من كل نبات يخرج من الأرض ويردد ذكر «وحده لا شريك له»: «انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».
كشف تطور العلم والمعرفة البشرية النقابَ عن الكثير من الحقائق، وأوضح العديد من قضايا هذا العالم الكبير، ولكن كما أشرنا فعلى الرغم من ذلك فما زالت هنالك الكثير من الألغاز تواجه الإنسان، وأحد أهم هذه الألغاز هو لغز الحياة، القضية التي لم يُمَط اللثام عن وجهها لحد الآن رغم جهود ومساعي آلاف الّآلاف من العلماء والعقول المفكرة على مرّ التاريخ البشري، وما زالت مستترة خلف ستار من الابهام.
واللطيف أن القرآن الكريم خاطب المشركين قبل أربعة عشر قرناً قائلًا: «يَا ايُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوْا لَهُ إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيئاً لَّايَسْتَنْقِذُوْهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».
المثير أنّ عجز البشر اليوم عن خلق الذبابة بمقدار عجزه
قبل أربعة عشر قرناً، وعجزه أزاء هجوم الذباب والجراد وبقية الحشرات يصل إلى درجة عدم جدوى كل ما يستخدم من أجهزة التسميم والمكافحة الحديثة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 83
قد يُقال: إنّ الإنسان صنع أجهزة قيّمة أكثر أهميّة من خلق الذباب كالسفن الفضائية والعقول الألكترونية المعقدة وأمثال ذلك.
ولكن هذا خطأ كبير وقياس باطل، إذ ليس للسفينة الفضائية أو العقل الألكتروني أي نمو أو تحول ذاتي ويستحيل أن ينجب مثيله، ولا يمكن من داخل نفسه ترميم ما يطرأ عليه من الأضرار، فهو لا يُصلح قطعاته التالفة أبداً، ويحتاج إلى الهداية والقيادة من خارجه، والحال أنّ للذبابة من هذه الوجوه أفضلية واضحة على تلك السفينة الفضائية أو جهاز الكومبيوتر، ولكن كثرة الذباب أدى إلى تصوره من قبلنا كموجود حقير ولا أهميّة له، ولو كانت هنالك ذبابة واحدة فقط في العالم لاتّضح آنذاك مدى ما سيوليه العلماء لها من الاهتمام.
وفضلًا عن هذا فإننا لا نحتاج أساساً إلى هذه المفاضلة، فالهدف هو إيضاح أن بناء الكائن الحي حتى لو كان خلية واحدة والتي أشرنا إليها إشارات واضحة في البحوث الماضية، على قدر من الغموض والتعقيد بحيث يدلّ على أنّ صانعه ذو علم وقدرة غير متناهيين وذو اطلاع تام بقوانين الحياة المعقدة، وبتعبير أصح أنّه هو الذي وضع هذه القوانين.
كيف يمكن أن تحتاج معرفة ظاهرة كهذه إلى كل هذا العقل والشعور ولا يحتاج صنعها إلى أي عقل أو شعور؟!
وهذا هو الأمر الذي نحن في صدد إثباته في هذه البحوث، والذي يشكل هدف القرآن من الآيات المذكورة وآيات مشابهة أخرى
نختم هذا الحديث بذكر نقطة، وهي أنّ الحياة والعيش رغم أنّها من أبرز الظواهر، ولكن حقيقتها غير واضحة لحدّ الآن لأحد، إنّ
ما نراهُ هو آثار الحياة التي تمثل (النمو والتحول والتغذية والتناسل، والاحساس والحركة والتفكير)، ولكن ما هي تلك الحقيقة التي تكون بمثابة المصدر لهذه الآثار؟ لا يعلم أحد بذلك لحد الآن، وما زالت العقول في حيرة من ذلك.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 84
لا شك أنّ الكائنات الحية وجدت في البداية من كائنات غير حية، سواء حدث هذا الأمر على الكرة الأرضية أو على الكواكب السماوية الأخرى، ولكن تحت أي ظروف؟
ووفقاً لأي معادلة حدثت هذه الطفرة العظيمة؟ إنّ هذا الأمر بقى مجهولًا لحد الآن ولم يتسن لأحد معرفته، طبعاً أنّ البعض من العلماء يأملون بأنّهم سوف يكتشفون هذه المعادلة وهذه الظروف، ويقولون: لعلنا في النتيجة نستطيع أن نصنع خلايا حية من مركبات غير حية.
لا أحد يعلم جدوى ومنطقية هذا الأمل؟ وهل سيتحقق مثل هذا الأمل عملياً في نهاية المطاف أم لا؟ وعلى فرض أنّ الإنسان سيكتشف ظروف بداية الحياة ومعادلتها وسوف يستطيع صناعة خلايا حية في داخل المختبرات، ولكن يجب أن لا ننسى أن:
أولًا: إنّ هذا العمل حين يأتي عن طريق تقليد عالم الخلقة وتركيب المواد المختلفة مع بعضها لن يكون سوى ما يشبه الصناعات التجميعية التقليدية.
ثانياً: على فرض أنّ مشكلة صناعة الخلية الحية سوف تُحل، ولكن تبقى هنالك مشكلة الكائنات المعقدة متعددة الخلايا، كبنية الذبابة أو الجرادة أو الطائر أو الأسماك الكبيرة وأخيراً الإنسان، فمن الذي يستطيع أن يوجد مثل ما ذكرنا عن طريق الصناعة؟
يقول أحد العلماء وهو (البروفسور هانز): سوف يصل الإنسان بعد ألف سنة إلى سر الحياة، ولكن هذا لا يعني أنّه سيستطيع صناعة ذبابة أو حشرة أخرى أو حتى خلية حية.
ثالثا: لنفترض أننا ضمنّا مثل هذه الأهداف بمعونة الهبة الإلهيّة المسماة بالعقل،
وتطورت العلوم وتقليد قوانين الطبيعة، لكن هذا لن يكون له أدنى تأثير على ما نحن بصدد الوصول إليه، لأنّه إن كان بالإمكان إيجاد خلية حية واحدة باستخدام كل هذه النماذج الموجودة والمواد الطبيعية الجاهزة يحتاج إلى كل هذا العلم والمعرفة، فما مقدار العلم والمعرفة اللازمة لخلق أنواع متعددة من الموجودات الحية بلا نموذج أو مواد سابقة؟ هل يمكن أن نعتبر للطبيعة الجامدة الفاقدة للشعور والعقل دوراً في خلق هذه الموجودات؟
نفحات القرآن، ج 2، ص: 85
وألفت انتباهكم إلى عبارة ظريفة عن «غرسي موريسن» رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتاب «سر خلق الإنسان»، يقول:
«قال هيغل: أعطوني الهواء والماء والمواد الكيميائية والزمان وسوف أخلق بها إنساناً، لكن هيغل نسي أنّه بحاجة إلى نطفة وجرثومة الحياة من أجل هذا المشروع أيضاً، إنّه بعد أن يجمع الذرات اللامرئية ويرتبها إلى جانب بعضها ضمن نظام وترتيب خاص بخلقة الإنسان، عليه أن يمنح الروح لهذا القالب! وعلى فرض أنّه وُفّق للقيام بكل هذه الامور الخارقة للعادة، هنالك احتمال واحد فقط من بين ملايين الاحتمالات لخلق حيوان لم تشاهد عين الدهور شيئاً أغرب منه، والأعجب هو أن هيغل لن يقول بعد الموفقية في هذا الأمر أنّ هذا الموجود العجيب ظهر بحسب الصدفة والحدث، بل يقول: «إن ذكائي ونبوغي هو الذي خلقه» «1».
تارة يتصور بعض السذج أنّ بالإمكان تبرير ظهور الحياة عن طريق الحوادث والصدف الكثيرة، والحال أننا لو أردنا ووفق حساب الاحتمالات حساب عملية ظهور ذرة واحدة من البروتينات،- وهي إحدى المواد المكونة للكائنات الحية- عن هذا الطريق، لما كفى عمر الكرة الأرضية لظهورها!
ول «جورج والد» أستاذ علم الأحياء في جامعة «هارفارد» كلام عن شروط ظهور الحياة واستحالة إمكان خلق الحياة بالصدفة
والذاتية، هذه خلاصتُهُ:
«من أجل تشكيل البروتين يجب التحام مئات أو آلاف الجزئيات «أحماض أمينية» بنِسب مختلفة وبأشكال متنوعة على شكل سلسلة، وإن عدد أنواع البروتينات لا محدود حقاً، لأنّه لا يمكن العثور على نوعين من الحيوانات يكون لهما نوع واحد من البروتينات، إذن فجزيئات المواد العضوية تشكل مجموعة عظيمة لا حدود لتنوعها وتعقيدها يبعث على الحيرة، ومن أجل صنع موجود حي واحد لا نحتاج إلى مقدار كافٍ ونسب معينة من أنواع البروتينات اللامتناهية فحسب، بل يجب ترتيبها ترتيباً صحيحاً أيضاً، أي أنّ بناءها
__________________________________________________
(1) سر الخلق، ص 139 إلى 141.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 86
له من الأهميّة ما لتركيبها الكيميائي من الأهميّة».
ثم يضيف: «إنّ بناء البروتينات معقد حقاً، وإن اعقد الأجهزة التي صنعها الإنسان (كالعقل الألكتروني) هي بحكم الألعوبة مقابل أبسط الكائنات الحية! يكفي الإنسان أن يفكر في هذه العظمة لتتضح له استحالة الخلقة الذاتية أو بالصدفة» «1».
نختم هذا الكلام بحديث قيّم عن الإمام الصادق عليه السلام، وحديث رفيع المعاني عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام، للإمام الصادق عليه السلام كلام مفصل قاله للمفضّل في حديث التوحيد المعروف ب «المفضّل» حول خلقة الإنسان وأعضائه المختلفة، يقول المفضّل:
سيدي: إنّ قوماً يقولون أنّه من صنع الطبيعة! فيجيب الإمام عليه السلام:
«سلهم عن هذه الطبيعة أهي شي ء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال؟ أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة، فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ فإنّ هذه صنعته، وإن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمدٍ وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة، عُلِمَ أن هذا الفعل للخالق الحكيم، وأنّ الذي سمّوه طبيعة هو سُنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه»
«2».
ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: «ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها، وما كان من مُراحِها وسائمها وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها، وأكياسها، على إحداث بعوضة، ما قدرت على إحداثها ولا عرفت كيف السبيل إلى ايجادها ولتحيرت عقولها في علم ذلك» «3».
__________________________________________________
(1) معرفة الحياة «شناخت حيات»، ص 11 (بالفارسية).
(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 167.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 186.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 87
الروح أيضاً من أعجب ظواهر عالم الوجود وأكثرها غموضاً، ومع أنّها أقرب الأشياء إلينا إلّاأننا بعيدون جدّاً عن معرفتها وتشخيصها.
لم تتوقف جهود ومساعي العلماء والفلاسفة من أجل معرفة الروح في أي زمن من الأزمان، واستطاعوا بفضل هذه الجهود أن يكشفوا اللثام عن بعض الأسرار، ولكن الوجه والأسرار الخافية للروح لم تتغير لحد الآن، وما زالت هناك الكثير من الأسئلة حول هذا الموضوع بدون جواب.
ومن هنا كان خلق روح الإنسان من الآيات المهمّة الدالة على علم وحكمة وتدبير الخالق.
وعلى هذا الصعيد نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة أدناه:
1- «وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَها وَتَقْواهَا». (الشمس/ 7 و 8)
2- «ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إلَّاقَلِيْلًا».
(الاسراء/ 85)
3- «وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكةِ إِنّى خالِقٌ بَشَراً مِّنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِى فَقَعُوا لَهُ ساجِدِيْنَ». (الحجر/ 28 و 29)
4- «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ». (المؤمنون/ 14)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 88
5- «اللَّهُ يَتَوفَّى الأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍّ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ». (الزمر/ 42)
إنّ مفردة «الروح» تعني في الأصل التنفس والنفخ، ويعتقد بعض أرباب اللغة أنّ «الروح» اشتقت في الأصل من «الريح» بمعنى الهواء والنسيم والرياح، وبما أنّ روح الإنسان أي ذلك الجوهر المستقل المجرّد ومصدر الحياة والتفكير هي جوهر لطيف تشبه من حيث تحركها ومنحها للحياة التنفس والنسيم، فقد استعملت هذه المفردة للتعبير عنها، بالاضافة إلى أنّ علاقة الروح بالجسم لها ارتباط وثيق بالتنفس، لهذا استعملت هذه الكلمة في خصوص روح الإنسان.
يعتقد البعض أنّ المعنى الأصلي لهذه المادة هو «ظهور وحركة شي ء لطيف» سواء كان في عالم الجسم أو في عالم الروح والمعنى ومن أجل هذا أطلقت هذه الكلمة أيضاً على ظهور مقام النبوة وقضية الوحي وتجلي نور الحق.
«الرَوح»: (على وزن قَوم) التي تعني السرور والفرح والراحة والنجاة من الغم والحزن، وهي الاخرى مأخوذة من هذا المعنى كذلك يطلق على الالطاف والرحمة الإلهيّة «روح اللَّه».
مفردة «الريحان» تستخدم في كلام العرب ل «الورد» من أجل رائحتها الطيبة المنعشة ونسيمها المعطر.
ومفردة «الرواح» بمعنى «طرف الغروب» حيث تعود الحيوانات إلى حضائرها لتستريح.
وعلى كل حال، فإنّ مواضع استعمال هذه المفردة في القرآن الكريم متنوعة جدّاً، فتأتي حيناً بمعنى ملاك الوحي، وحيناً بمعنى الملاك الكبير من ملائكة اللَّه الخُلّص (أو
نفحات القرآن، ج 2، ص: 89
المخلوق الأفضل بين الملائكة)، وتأتي أحياناً لتدل على القوة الإلهيّة المعنوية التي يسند اللَّه المؤمنين بها، وجاءت تارة بمعنى الروح الإنسانية، وهذا ما أشرنا إليه في الآيات أعلاه «1».
«النَفْس»: يقول الراغب في المفردات: النفس بمعنى الروح، وتأتي أحياناً بمعنى ذات الشي ء، و «النَفَس» (على وزن قَنَص) بمعنى الهواء الذي يدخل ويخرج من وإلى جسم الإنسان عن طريق الفم.
وقد أُطلقت مفردة «النفْس»
هذه على الدم أيضاً، لأنّ الدم إذا خرج من جسم الإنسان بمقادير كبيرة فارقته روحه، وربّما أُطلقت هذه الكلمة على كل وجود الإنسان.
على أيّة حال، فإنّ أحد المعاني المعروفة للنفس هو «الروح» التي ذكرت عدّة مرّات في القرآن الكريم.
1- «النفس الامارة» التي تأمر الإنسان بالسوء: «إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوء».
(يوسف/ 53)
2- «النفس اللوامة» التي ترتكب الذنوب بعض الأحيان ثم تندم وتلوم نفسها: «وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ». (القيامة/ 2)
3- «النفس المطمئنة» وهي النفس الواصلة إلى مرحلة الأطمئنان والراحة والطاعة التامة لأوامر اللَّه والمشمولة بعناياته: «يَا ايَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* إِرْجِعِى إِلَى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً». (الفجر/ 27)
ورد في الآية الأولى من الآيات التي اخترناها لبحثنا هذا قَسَمٌ يختصّ بالروح الآدمية وخالقها.
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ مجمع البحرين؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 90
ذلك اللَّه الذي خلق الخلق ونظم القوى الروحية للإنسان إبتداءً من الحواس الظاهرية وهي مقدمة الإدراكات الروحية وانتهاءً بقوة التفكير، الحافظة، التخيل، الإدراك، الابتكار، الإرادة والتصميم: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا».
وعلّمهُ طرق الهداية بعد تنظيم هذه القوى «فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا».
مع أنّ القوى الروحية للإنسان متنوعة وكثيرة جدّاً، ولكن القرآن هنا وضع إصبعه من بين كل تلك القوى على مسألة «إلهام الفجور والتقوى (إدراك الحسن والقبح)، لأنّ هذه المسألة لها تأثير كبير جدّاً في مصير الإنسان وسعادته وشقائه.
قلنا مراراً: إنّ القَسَمَ يدلّ على الأهميّة والعظمة، أهميّة المُقْسَمِ به والمُقَسَمِ له، خاصة القَسَمُ القرآني لحمل الناس على المزيد من التفكّر في آيات «العظمة» الإلهيّة.
فضلًا عن أنّ «النفس» في هذه الآية ذكرت بصيغة النكرة، وهي في مثل هذه الموارد من أجل التأكيد على أهمية الموضوع أو كثرته «1».
تشير الآية الثانية إلى السؤال الذى طرح من
قبل جماعة من المشركين أو أهل الكتاب، حيث وفدوا على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسألوه عدة أسئلة كان أحدها عن الروح كما قال القرآن: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوْحِ».
ثم يأمر القرآن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «قُلِ الرُّوْحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى».
إنّ في هذا الجواب غير المستبين إشارة عميقة إلى مدى غموض ومجهولية هذه الظاهرة الكبيرة في عالم الوجود، ومن أجل أن لا يَقول أحد لماذا لم تظهر واحدة من أسرار الروح؟
يضيف اللَّه في آخر الآية: «وَما أُوتِيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيْلًا».
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 10- ص 442؛ و تفسير روح المعاني، ج 30- ص 142، وقد احتمل بعض المفسرين أن تكون «النفس» في الآية أعلاه إشارة إلى الروح والجسم كليهما، مع أنّ عبارة: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» تناسب الروح أكثر، وكذلك الآية: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ...».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 91
وليس من العجيب أن لا تطلعوا على أسرار الروح بهذا «العلم القليل» و «المعرفة اليسيرة» (خصوصاً في ذلك الزمان وتلك البيئة).
روي عن أبن عباس في بعض الروايات أنّ قريش أرسلت بعض رؤوسها إلى علماء اليهود في المدينة وقالت لهم: إسألوهم عن محمد لأنّهم من أهل الكتاب ولهم من العلم ماليس لنا، فجاؤوا المدينة وسألوا علماء اليهود، فقال اليهود في جوابهم: إسألوه عن ثلاثة أمور: قصة أصحاب الكهف، وَذي القرنين، وقضية الروح، فإنّ أجاب عن جميعها أو سكت عن جميعها فليس بنبي، أمّا إن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي.
فعادت رؤوس قريش إلى مكة وعرضت الأسئلة على الرسول صلى الله عليه و آله، فقدّم لهم الرسول شرحاً وافياً حول ذي القرنين وأصحاب الكهف، ولكنه فيما يخص السؤال عن الروح
إكتفى بذلك الجواب المغلق بأمر من اللَّه «1»، ومع أنّ هناك تفاسير مختلفة لمعنى الروح في الآية أعلاه في روايات المعصومين عليهم السلام وكلمات المفسرين، ولكن أغلب هذه التفاسير لا تتنافى مع بعضها ويمكن الجمع بينها، والروح الإنسانية من جملة المفاهيم الداخلية في مدلول الآية المعنية «2».
في الآية الثالثة كلام عن حوار اللَّه مع الملائكة حول خلق البشر، حيث يقول عزّ وجلّ مخاطباً الملائكة: «إِنَّى خالِقٌ بَشَراً مِّنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِيْنَ».
ثمّة نقطتان تثيران الاهتمام في هذه الآية، الأولى إضافة روح الإنسان إلى اللَّه إذ يقول:
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 15، ص 241 «قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلّاقليلًا»».
(2) وردت في تفسير الميزان أقوال متعددة في هذا المجال، منها أنّ المراد بالروح هي الروح الواردة في الآية الشريفة: «يوم يقوم الروح والملائكة صفاً» ومنها أنّ المراد بها جبرائيل وقال بعض المفسرين: إنّها تعني القرآن، وآخر التفاسير هو أنّ المراد بها الروح الإنسانية، ثم يضيف: إنّ المتبادر من إطلاق الروح هو هذا.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 92
«من روحي»، وهذا دليل على منتهى عظمة وأهميّة الروح الإنسانية، وهذا من قبيل الإضافة التشريفية حسب المصطلح، ك «بيت اللَّه» و «شهر اللَّه» التي تشير إلى أهميّة الكعبة وعظمة شهر رمضان المبارك، وإلّا فإنّ كل مكان هو بيته وكل الأشهر أشهره.
والثانية أمر جميع الملائكة بالسجدة لآدم بعد نفخ الروح فيه، وهذا برهان آخر على عظمة مقام الإنسان، ذلك أنّ السجدة تفيد منتهى الخضوع، فكيف لو كانت من قبل
كل الملائكة؟ وهذه خير علامة على المقام الرفيع لآدم.
في الآية الرابعة وبعد الإشارة إلى خلق النطفة وتطورات الجنين والألبسة المختلفة التي يكسو بها اللَّه هذه القطعة الصغيرة في مختلف المراحل، يُغيّر عز وجل لهجة الكلام ويقول:
«ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَر».
إنّ التعبير ب «الانشاء» (الايجاد) في هذه المرحلة وخلافاً للمراحل السابقة التي عبّر عنها بالخلقة، إضافةً إلى استخدام «ثم» التي تستعمل عادةً من أجل الفصل يدل جميعُهُ على أنّ الخلق في هذه المرحلة يختلف تماماً عن المراحل السالفة، وهذه علامة على أنّ المراد هو خلق الروح التي ترتبط بالجسم بعد تكامله.
والمثير أنّه يعبّر ب «خلقاً آخر» وهو تعبير غامض ومُغلق، خلافاً للتعبيرات السابقة التي يتحدث فيها عن «النطفة» و «العلقة» و «المضغة» و «العظام» و «اللحم» وهي مفاهيم معروفة جميعاً، وهذا دليل آخر على اختلاف المرحلة الأخيرة عن المراحل الماضية.
ومن العجب أنّ بعض المفسرين ذكروا تفاسير لعبارة: «الخلق الآخر» لا تنسجم أبداً مع روح الآية، من جملتها: أنّ المراد بانشاء الخلق الآخر هو ظهور الأسنان والشعر على الجسم «1»! في حين أنّ هذا لا يتناسب أبداً مع تعابير الآية ولا شك أنّ ظهور الأسنان والشعر
__________________________________________________
(1) روي هذا الاحتمال عن بعض المفسرين في تفسير روح المعاني، ج 18، ص 14؛ وتفسير القرطبي، ج 7، ص 4502.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 93
ليس له من الأهميّة ما يوازي سائر تطورات الجنين المختلفة.
في نهاية الآية وردت جملة عجيبة أخرى تشكل دلالة أخرى على الأهميّة القصوى لخلق الإنسان في المرحلة الأخيرة أو في مجموع هذه المراحل، يقول تعالى «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» فسبحان العليم الحكيم الذي أودع القابلية والجدارة في مثل هكذا موجود حقير.
«تبارك»: من مادة (بَرْك) بمعنى صدر
الناقة، وبما أنّ للناقة حين تضع صدرها على الأرض نوع من الثبات، فقد جاءت هذه المفردة بمعنى «الثبات والدوام» ولأن كل نعمة كانت دائمة إزدادت أهميتها، فقد سمّيت هكذا نعم بالمباركة.
إنّ استخدام هذه المفردة في خصوص اللَّه إشارة إلى عظمة وقدسية وخلود ذاته المطهرة.
في الآية الخامسة والأخيرة من الآيات المعنية في بحثنا هذا يشير عز وجل إلى مسألة بقاء الروح، بتعبيره: «اللَّهُ يَتَوَفّى الأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا».
وبلحاظ أن كلمة «يتوفّى تعني القبض والاستلام الكامل، و «الأنفس» هي الأرواح، يتضح أنّ الروح ينفصل كلياً عن الجسم عند الموت وبأمر اللَّه، ولكن عند النوم يحصل هذا الانفصال بشكل ناقص: «وَالَّتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا».
ثم أشار إلى عدم عودة بعض الأرواح في حالة النوم وعودة البعض الآخر حتى أجل مسمى وأضاف: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» «1».
__________________________________________________
(1) يقول الفخر الرازي في تفسيرهِ وتعقيباً على هذه الآية: إنّ اللَّه الحكيم جعل ارتباط الروح الآدمية بالجسم على ثلاثة أقسام: تارة يسطع شعاع الروح على جميع الأجزاء الظاهرية والباطنية للجسم، وهذه حالة اليقظة، وتارة يسحب هذا الشعاع من الأجزاء الظاهرية ويبقى في الباطنية وهذه حالة النوم، وتارة يرتفع شعاعها عن الأجزاء الظاهرية والباطنية وتلك حالة الموت.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 94
يستفاد من هذه الآية وبكل سهولة أنّ الإنسان تركيب من الروح والجسم، وأنّ الروح جوهر غير مادي، وأنّ النوم درجة ضعيفة من الموت ودليل على ضعف الارتباط بين الروح والجسد.
ويستفاد أيضاً أنّ الموت لا يعني الفناء والهلاك، بل هو نوع من البقاء واستمرار الحياة.
والنتيجة هي أنّ الروح الإنسانية بكل قواها وقدراتها التي تجعلها من أعقد وأعجب ظواهر عالم الوجود هي إحدى آيات اللَّه الكبرى كيف يمكن أن يكون خالق كل
هذا العلم والقدرة والفكر والذكاء والذوق والإبتكار والإرادة والتصميم هي الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور ولكل أنواع العلم والفكر والذكاء والإبتكار؟!.
بل على العكس، فهذه القطرات والروافد الصغيرة علامة على وجود محيط كبير تنبع جميعها منه، وهذه الاشعاعات الباهتة قبس من تلك الشمس الكبيرة.
عَدَّ القدماء خمسة قوىً ظاهرية وخمسة قوىً باطنية للروح الآدمية، أَمّا القوى الظاهرية فهي: حاسة النظر، السمع، الشم، الذوق، اللمس، وهي نوافذ روح الإنسان نحو عالم المحسوسات والروابط بين ذلك الجوهر المجرد وعالم المادة.
إنَّ كل واحدة من هذه القوى عالم واسع مليٌ بالأسرار، وكل واحدة من أدوات هذه القوى أي العين والأُذن واللسان والغدد الشَّمِّيَة والأعصاب الموزَّعة في كافة أنحاء الجلد، آية من آيات اللَّه تتضمن في داخلها عالماً من العلم والحكمة.
وقد عد الفلاسفة القدماء القوى الباطنية خمسة أيضاً:
1- الحس المشترك.
2- الخيال، والذي يعتبر ذاكرة الحس المشترك.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 95
3- القوة الواهمة التي تدرك مفاهيم من قبيل المحبة والعداء.
4- القوة الذاكرة التي تحفظ في داخلها الإدراكات الواهمة.
5- قوة التخيل التي تُصرّف المفاهيم والصور الجزئية الموجودة في خزانة الخيال والذاكرة فترسم صوراً مختارة لا وجود لها في الخارج.
وكل واحدة من هذه القوى الخمس هي عالم ملي ءٌ بالأسرار بحدّ ذاتها.
لكن علماء وفلاسفة اليوم لا يحددون القوى الظاهرية بتلك القوى الخمس المعروفة، ولا القوى الباطنية بتلك القوى الخمس المذكورة، إنهم يضعون للنفس الإنسانية قوى كثيرة، ويعتبرون الروح الآدمية مخزناً عجيباً فيه أنواع القوى ومختلف الاذواق والقابليات والادراكات التي يختلف فيها أفراد البشر.
لقد وضع علم النفس والتحليل النفسي يده اليوم على مناطق غامضة ومبهمة من روح الإنسان واكتشف فيما اكتشف فيها عالماً جديداً وسرّياً باسم «الضمير الخفي» أو «ضمير اللاشعور» ووضع أمام أعين البشر المزيد
من العجائب عن هذا الموجود المجهول.
مع أنّ القرآن الكريم يشرح الكثير من الجزئيات المتعلقة بالسماء والأرض والنباتات والحيوانات عند ذكره للآيات الإلهيّة سواء كانت آيات آفاق أو آيات أنفس، لكنه حين يصل إلى قضية الروح لا يزيد على قوله: «قُل الرُّوحُ مِنْ أَمرِ رَبِّى وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيْلًا».
أو إنّه يقول: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا» أو يعبّر عنها بإِنشاء الخلق الآخر: «ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر»، أو إنّه ينسب الروح إلى نفسه فيقول: «وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوحِى».
إِنَّ كل هذه التعابير تحكي عن أن خلق الروح يختلف عن خلق بقية الموجودات، وليس هذا إلّابسبب تعقيد قضية الروح وأسرارها العظيمة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 96
للإنسان نشاطات روحية وفكرية عديدة، سواء في الشعور أو في اللاشعور، بحيث يمكن لكل واحد من هذه النشاطات أن يكون موضوع بحث مستقل في كتب متعددة (وغالباً ما كان)، وقسم من هذه النشاطات على النحو التالي:
أ) «التفكير» من أجل الوصول إلى المجهولات، أو بتعبير الفلاسفة حركة الفكر نحو المبادي ء، ثم حركته الأخرى من المبادي ء نحو الأهداف والمراد.
ب) «الابتكار» من أجل حلّ مشاكل الحياة غير المتوقعة، ومواجهة الحوادث المختلفة، ورفع الاحتياجات المتنوعة والابداعات والاكتشافات والاختراعات.
ج) «الذاكرة» لحفظ أنواع المعلومات التي يحصل عليها الإنسان عن طريق الحس أو التفكير وتبويبها وخزنها ثم استذكارها عند الحاجة.
د) «التجربة وتحليل القضايا» من أجل معرفة علل وجذور الحوادث عن طريق فصل المفاهيم الذهنية عن بعضها، ثم تركيبها، ثم الوصول إلى علل ونتائج الحوادث.
ه) «التخيل» أي إيجاد صورة ذهنية قد لا تكون في بعض الأحيان موجودة في الخارج كمقدمة لفهم القضايا الجديدة.
و) «الإرادة والتصميم» لأجل القيام بالأعمال أو التوقف عنها أو تغييرها.
ز) «الإدراكات الفطرية والعقلية» وهي الأساس في الاستدلالات النظرية وغير البديهية.
ح) العشق، الحب، العداوة
وعشرات الظواهر الروحية الأخرى ذات التأثيرات الإيجابية أو السلبية في أفعال الإنسان.
وبالطبع فهذه القضايا ليست منفصلة عن بعضها، بل هي متمركزة جميعها في داخل روح الإنسان، إنّها أمواج من هذا المحيط اللامتناهي، وأنوار من هذه الشمس الساطعة، وهذا مايدل على أنّ الروح الآدمية أرفع آيات اللَّه وأهم علاماته.
وفي قول القرآن الكريم إشارة إلى هذه الحقيقة: «وَفِى الأَرضِ آياتٌ لِّلمُوقِنِينَ*
نفحات القرآن، ج 2، ص: 97
وَفِى أَنفُسِكُم أفَلا تُبصِرُونَ». (الذاريات/ 21)
ولا نذهب بعيداً فإنَّ الذاكرة الإنسانية التي تمثل أرشيفاً للمعلومات المختلفة على درجة من الغرابة والعجب بحيث لو أننا أردنا توظيف مئات الأشخاص لحفظ وظرافة وترتيب معلومات أحد الأشخاص لاستحال عليهم القيام بنشاط الذاكرة بهذه السرعة والدقة.
ولو سلبت منّا الذاكرة لساعة واحدة لما أمكنتنا الحياة، فلا نضلُّ الطريق إلى منازلنا فحسب، بل سيصيبنا النسيان حتى في أن نضع اللقمة في فمنا عند تناول الطعام، سيكون كل شي ء بالنسبة لنا مجهولًا ووحشياً وغريباً ومُحيراً.
فقد أحد الشباب جزءً من ذاكرته نتيجة حادث سير أصابه بضربة دماغية، وعندما حملوه إلى بيته أنكر بيته! وقال: إنّ هذه هي المرة الأولى التي أضع فيها قدمي هنا! بل حتى أمه كان يتصورها امرأة غريبة، وبدت اللوحة الفنية التي رسمها بيديه مجهولة تماماً في عينيه، وكان يقول: إنّها اول مرّة أراها.
إنّنا نحمل في أرشيف ذاكراتنا صوراً لآلاف الموجودات وآلاف آلاف البشر وآلاف آلاف المواد المختلفة وآلاف آلاف الخواطر واللقطات وآلاف آلاف المعلومات المختلفة الاخرى والعجيب أنّ استحضار احدى الخواطر لا يحتاج أكثر من واحد بالألف من الثانية من أجل أن يستطيع الإنسان الانتباه إلى خاطرة معينة من بين معلوماته المبوبة التي مضت عليها لحظة أو سنة أو خمسون سنة، خاصة وأنّ العلماء يشيرون إلى
إحدى الأعمال المحيرة للذاكرة والتي يسمونها «معجزة الذاكرة» وهي بالترتيب الآتي:
كثيراً ما ينسى الإنسان إسم شخص أو موضوع ثم يجهد ويحاول أن يتذكره ويقلّب رفوف أرشيف ذاكرته واحداً بعد الآخر ولكن دون جدوى
حسناً، إن كان الإنسان يعلم ذلك الاسم أو الموضوع، فلماذا يبحث عنه؟ وإن لم يكن يعلمه فكيف يبحث عن شي ء لا يعلمه؟ أفيمكن أن يبحث الإنسان عن ضالة لا يعرف ما هي أو من هي؟!
نفحات القرآن، ج 2، ص: 98
ومع هذا فيصدق على ذاكرة الإنسان أن تبحث عند النسيان عن ضالة لا تعلم ما هي؟
وفجأة تصل إلى الرف الذي يحمل ضالتها فتعثر عليها «1».
وهنا توجد نقطة دقيقة يكمن فيها الحل المذهل للقضية، وهي: في مثل هذه المواضع لا يبحث الإنسان عن ذات ذلك الاسم أو الموضوع الذي لا يعرف ما هو بل من أجل العثور عليه تراه يبحث عن مجموعة الحوادث التي يعلم بشكل إجمالي أنّه اختزنها في ذهنه بمعية الاسم المطلوب (لأنّ الحوادث المختلفة تُخْتَزَنُ على شكل مجموعات مجموعات)، فمثلًا هو يعلم أنّه تعرف لأول مرّة على الشخص المعني الذي نسي أسمه في اليوم الفلاني والمحل الفلاني، لذلك يطلب من أرشيف الذاكرة وبشكل فوري إضبارة ذلك اليوم وذلك المحل ويتصفحها بسرعة البرق ليعثر في طياتها على اسم ذلك الشخص.
ونختم هذا الكلام بحديث عن الإمام الصادق عليه السلام وَرَدَ في توحيد المفضل، يقول:
«تأمل يا مفضّل هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان، أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك، أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظَ وحده كيف كانت تكون حاله؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في اموره ومعاشه وتجارته إذا لم يحفظ ماله وما عليه وما أخذه
وما أعطى وما رأى وما سمع، وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به، وما نفعه ممّا ضره، ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يُحصى ولا يحفظ علماً ولو درسه عمره، ولا يعتقد ديناً، ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئاً على ما مضى بل كان حقيقاً أن ينسلخ من الإنسانية أصلًا».
ثم يضيف الإمام: «وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان، فإنّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشي ء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ..» «2».
__________________________________________________
(1) الاقتباس من كتاب «حافظة» من سلسلة «چه مى دانم» (بالفارسية).
(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 80 و 81 (بشي ء من التلخيص).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 99
في بعض الأحيان يقارن البعض من عديمي الاطلاع بناء روح وفكر الإنسان وعقله ببناء العقول الالكترونية، والحال أنّ الفرق بينهما اكبر من الفرق بين الطائرة اللعبة التي يلعب بها الأطفال وطائرة عملاقة حقيقية! والسبب هو:
إنّ نشاط العقول الالكترونية محدود بحدود حافظتها فقط، وحافظتها هي تلك التي يغذيها الإنسان بالمعلومات، ولذلك ليس لها وراء حدود هذه الحافظة المحدودة أي نشاط على الاطلاق.
وفضلًا عن أنّ العقول الألكترونية تفتقر لأي نوع من أنواع الإبتكار والتفكير أزاء إحدى الحوادث الجديدة مهما كانت بسيطة، كردّ الفعل مقابل هبوب الرياح الشديدة مثلًا ناهيك عن الإبتكار والإبداع في القضايا المهمّة والمعقدة.
ثم حتى لو افترضنا صحة المقارنة بينهما فَأي عقل يصدق أن صناعة العقل الالكتروني الذي يُعد أُعجوبة الصناعات البشرية، قد تمت على يد إنسان أمي أو أعمى أو أصم أو مجنون؟
أفيمكن للطبيعة الفاقدة للروح والعقل
والتفكير والابتكار أن توجد الروح والعقل والابتكار؟ ومن هنا نقول: إنّ في داخل روح الإنسان الآلاف من آيات الخالق وعلاماته.
مع أنّه لا يوجد بالنسبة لنا فرق في البحوث المتعلقة بآيات اللَّه بين أن تكون روح وفكر الإنسان جوهراً مستقلًا ومجرداً عن المادة، أو مرتبطاً بها ومن آثارها (وهذا هو الجدل المعروف بين الفلاسفة الإلهيين والماديين)، ولكن لا شك أنّه متى ما ثبتت أصالة واستقلال الروح اكتسبت هذه الآية الإلهيّة مزيداً من التأثير والجاذبية.
يصر الماديون على أنّ الروح والفكر من الخواص «الفيزو كيميائية» للخلايا الدماغية
نفحات القرآن، ج 2، ص: 100
والتي تزول تماماً بفناء الجسم، والحال أنّ للروح والفكر الآدمي ظواهر لا يمكن تفسيرها بالتفاسير المادية أبداً.
فمثلًا يجد كل شخص حقيقة في داخله تسمى «الأنا»، وهي واحدة ليست أكثر منذ بداية العمر حتى نهايته، «أنا» منذ الطفولة وحتى الآن شخص واحد لم أزدد ولم أتغير، وسأبقى أنا ذلك الشخص إلى آخر العمر، بالطبع درست وتعلمت القراءة والكتابة ولهذا فقد حصلت وعلى نسبة من التكامل، لكنني لم أتحول إلى إنسانٍ آخر، بل ما أزال ذلك الشخص السابق.
في حين إذا أخذنا الأجزاء المادية للجسم نرى أن جميع تلك الذرات في حال تغيّر وتبدل، وأنّ جميع خلايا الجسم تتغيّر كل سبعة أعوام مرّة واحدة تقريباً، أي أنّ الشخص البالغ من العمر سبعين سنة أصابه تبدل في أجزاء جسمه المادية عشرة مرات، رغم أنّ «الأنا» (شخصيته الإنسانية) ثابتة لم تتغير، وهذا يدل على أن حقيقة «الأنا» حقيقة ما وراء المادة ولا تتغير بتغيرات المادة.
فضلًا عن أنَّ في أذهاننا حقائق مخزونة تكون أكبر من مخنا وخلايانا المخية آلاف الآلاف من المرات، تصور السماوات والمجرّات، الشمس والقمر وغيرها، فَمن المستحيل أن تكمن
هذه الصور الكبيرة في الجزء المادي من وجودنا، ولا سبيل إلّاأن تنعكس في الجزء غير المادي أي الروح، لأنّ الجزء المادي أي المخ ليس إلّاموجود صغير.
وعلاوة على هذا فإنّ الظواهر المادية تقبل التجزئة والقسمة جميعاً في حين توجد بين مفاهيمنا الذهنية مفاهيم لا تقبل التجزئة إطلاقاً.
إنّ خصوصية «تصوير الواقع» والاطلاع على العلم الخارجي بالنسبة لنا، والموجودة في علومنا ومعارفنا، هي حقيقة لا يمكن تبريرها عن طريق الخواص «الفيزو كيميائية» للمخ.
وهذه البراهين الأربعة وبراهين واضحة أخرى تدل بجلاء على أنّ الروح جوهر مستقل ومجرّد من المادة «1».
__________________________________________________
(1) من أجل مزيد من الشروح راجع، ذيل الآية 85 من سورة الإسراء من «التفسير الأمثل».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 101
يمكن استخلاص الخصوصيات والصفات التالية للروح الإنسانية بالاستفادة من آيات القرآن الكريم:
أ) تتمتع الروح الآدمية بالاستقلال وتبقى بعد انفصالها عن الجسد مستقلة، والآية «اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ ...». (الزمر/ 41)
تشهد بهذه الحقيقة.
ب) من الممكن أن تتنعم الروح الآدمية وبعد انفصالها عن الجسم في عالم البرزخ بانواع النعم الإلهيّة أو أنّها تتعذب بمختلف صنوف العذاب الشديد، وفي آية «حَياةُ الشُّهَداء» كما ورد في الآية 169 من سورة آل عمران.
وآية «عذاب آل فرعون» كما ورد في الآية 46 من سورة غافر.
دليل على هذا المعنى
ج) يختلف بناء الروح إختلافاً كبيراً عن بناء الجسم كما قرأنا ذلك في الآيات المعنية حيث إنّ اللَّه تعالى يعتبر الروح من عالم «الأمر» وخلقها من نوع «انشاء الخلق الآخر» الآية 85 من سورة الاسراء و 14 من سورة المؤمنون.
د) إنّ علم الإنسان عن حقيقة الروح وأسرارها قليل جدّاً، وآية «وَمَا أُوتِيْتُمْ مِّنَ الْعِلمِ إِلّا قَلِيْلًا». (الاسراء/ 85)
شاهد على هذا المدعى
ه) في حالة النوم تضعف علاقة
«الروح»، ب «الجسم» وفي حالة الموت تنقطع نهائياً كما في ورد في سورة الزمر، الآية 42.
و) الروح والظواهر الروحية بصورة عامة من الآيات المهمّة على عظمة اللَّه ووسيلة مهمة لمعرفته تعالى «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». (الزمر/ 42)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 102
إنّ البحث حول الروح اكبر وأوسع من أن نستطيع تبيان جميع أبعاده في هذا الموجز السريع، وإذا أردنا أن نترك عنان القلم خرجنا من بحثنا التفسيري، لذلك يمكن الرجوع إلى الكتب الفلسفية والكلامية والروائية، من أجل المزيد من التفصيلات وقد وردت بحوث متعددة في «التفسير الأمثل» في هذا المضمار، ونلاحظ بحوثاً وشروحاً وافية في تفسير الميزان، المجلد الأول في تفسير الآية: «وَلَا تَقُوْلُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِى سَبِيْلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ».
(البقرة/ 154)
ذكر العلّامة المجلسي في كتابه المشهور بحارالانوار 17 دليلًا عقلياً ونقلياً لإثبات أنّ حقيقة الإنسان ليست مجرّد هذا الجسم «1».
وفي نفس هذا الكتاب يذكر نقلًا عن المحقق الكاشاني 14 قولًا حول حقيقة الروح «2».
ونختم هذا البحث بحديث لطيف عن أميرالمؤمنين عليه السلام، حيث روى عنه أنّه قال: «الروح في الجسد كالمعنى في اللفظ» «3».
يقول أحد العلماء واسمه الصفري: «إنني لم أر مثالًا حول الروح أجمل وأفصح من هذا المثال»، نعم الروح كالمعنى والجسم كاللفظ!
__________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 58، ص 6 إلى 10.
(2) المصدر السابق، ص 75.
(3) سفينة البحار، ج 1، ص 537، مادة (الروح).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 103
ليس البشر فحسب بل الكثير من الأحياء الأخرى تولد من أمهاتها ولديها حصيلة من العلوم والمعارف الفطرية والغريزية، العلوم التي لم يكن ثمّة معلم يعلمها وليست وليدة التجربة والاختبار، بل إنّ المعلم الأول هو الذي أودعها منذ البداية في عمق وجود الإنسان وسائر الحيوانات بطريقة تثير العجب والذهول.
إنّ دراسة هذه العلوم والمعارف والهداية الفطرية والغريزية تعد آيات عظيمة على عظمة اللَّه وعلامة بيّنة لعلمه وقدرته.
وبهذه الإشارة القصيرة، نقرأ خاشعين للآيات الكريمة أدناه:
1- «قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَى ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى . (طه/ 50)
2-
«أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانَاً وَشَفَتْينِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ».
(البلد/ 8- 10)
3- «فأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاهَا». (الشمس/ 8)
4- «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ حَنِيْفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّيْنُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». (الروم/ 30)
5- «الَّذِى عَلِّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ». (العلق/ 4- 5)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 104
6- «الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرآنَ* خَلَقَ الإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ». (الرحمن/ 1- 4)
7- «فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنْتَ مُذَكِّرٌ». (الغاشية/ 21)
الآية الأولى من الآيات التي اخترناها في بحثنا هذا تتناول حوار موسى بن عمران عليه السلام مع فرعون، فعندما سأله فرعون وأخاه هارون: من هو ربّكما هذا الذي تدعوان له؟ أجابه فوراً: «رَبُّنا الَّذي أعْطى كُلَّ شَي ءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدى .
واضح أنّ كل موجود خلق من أجل هدف، وكل صنف من أصناف النباتات والحيوانات والموجودات سواء كانت طيوراً أو حشرات أو حيوانات أو صحارى أو بحاراً، كلٌ خُلِقَ لبيئة خاصة، ونرى بوضوح أنّ لها انسجاماً كاملًا مع بيئتها وقد زوّدت بما تحتاج إليه، هذا في المرحلة الابتدائية من خلقها.
أمّا في مرحلة الهداية التكوينية فنشاهد بجلاء أن ليس هنالك موجود يترك لحاله بعد خلقه بل إنّه يُساق نحو أهدافه بتوجيه خفي، وللكثير منها علوم ومعارف لم تصلهم بلا شك عن طريق التجربة الشخصية ولا عن طريق تعليم المعلم، إنّ هذه الهداية التكوينية والعلوم والمعارف من آيات الذات المقدّسة التي خلقت هذا العالم الكبير وما انفكت تهديه وتسيّره.
وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يخص الإنسان وحده، بل إنّ مفاد الآية هو بحث كلي وجامع وعام يشمل أفراد البشر، وهذا أمر يختلف عن هداية الأنبياء والرسل المسماة بالهداية التشريعية والخاصة بالإنسان.
إنّ الطفل الذي يولد من أمّه يتّجه وبدون أي
مقدّمة نحو ثدي الأم بفمه ويمتص عصارة روحها، وتارة يضع يديه الصغيرتين على الثدي فيحرك منابع اللبن فيه، من اين تعلم هذا الدرس الذي يضمن لهُ تغذيته واستمرار حياته؟
نفحات القرآن، ج 2، ص: 105
من اين يعلم أنّ أفضل سبيل لرفع حاجاته التي لا يستطيع القيام بها هو «البكاء» البكاء الذي يهز الأم في نومها ويقظتها ويفرض عليها معونته، وكذلك العلوم والمعارف الأخرى التي يستفيد منها الإنسان في مراحل أخرى من دون الحاجة إلى معلم.
يوجد في آيات أخرى من القرآن ما يشبه هذا المعنى نقرأ في قوله تعالى «وَالَّذى قَدَّرَ فَهَدى . (الأعلى/ 3)
وفي الآية الثانية من الآيات المخصصة لبحثنا هذا وعند تذكير الإنسان بنعمه عليه، يقول بعد الإشارة إلى نعم العين واللسان والشفاه: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ».
«نجد»: في اللغة بمعنى المكان المرتفع والفلاة، وهي تقابل «التهامة» التي تطلق على الأراضي المنخفضة والواطئة والمساوية لمستوى سطح البحر وما شاكل، وانطلاقاً من أنّ المعرفة بأُسس السعادة وطرقها وسلوك هذه الطريق يشبه إلى حدٍ ما سلوك الطرق المرتفعة بما فيها من مشاق ومشاكل كثيرة، فقد استعملت مفردة «نجد» هنا بمعنى طريق الخير، ثم جاء الاطلاع على طرق الشر إلى جانبها بعنوان «التغليب»، وعليه يكون معنى الآية هو: «إنّا هدينا الإنسان إلى هذين المكانين المرتفعين»، وهذان المكانان هما طرق الخير والشر.
لهذا نقرأ في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «يا أيّها الناس! هما نجدان: نجد الخير ونجد الشر، فما جُعِلَ نجد الشر أحبَّ إليكم من نجد الخير» «1».
يحصر البعض من ذوي النظر المحدود مفهوم الآية الواسع في داخل موضوع محدود، ويقولون: إنّ المقصود من هذين المكانين المرتفعين هما ثديا الأُم! وقد ورد في الحديث أن الإمام علي
عليه السلام سُئِل عن معنى «وهديناه النجدين» وهل تعني ثديي الأم كما يدعي البعض.
إنّ الهداية الإلهيّة في هذا المجال تحصل طبعاً عن طرق مختلفة، عن طريق الوجدان الأخلاقي، الفطرة، الدلائل العقلية، وتعاليم الرسل (أي أنّها تشمل أنواع الهداية التكوينية والتشريعية)، لكن سياق الآيات يناسب الهداية التكوينية أكثر.
__________________________________________________
(1) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 581؛ و تفسير مجمع البيان؛ وتفسير القرطبي، وقد روي نفس هذا المعنى عن الإمام الصادق عليه السلام تعقيباً على الآيات المنظورة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 106
وفي الآية الثالثة بعد القسم بروحِ الإنسان، وخالق الروح، يشيرُ إلى مسألةٍ الهامِ الفجورِ والتقوى ويقول: إنَّ اللَّه تبارك وتعالى ألْهَمَ نَفْسَ الإنسانِ الفجور والتقوى «فَأَلْهَمَها فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا»، و «الالهام» مِنْ مادة (لَهْمْ) على وزن (فَهْمْ) أي (ابتلاع) أو (شرب) الشي ء «1».
ثم جاءت بمعنى القاء الأمر في قلب الإنسان من قبل الباري تعالى فكأنّما يلتهمُ القلبُ ذلك الأمرَ بتمامه، وللالهام معنىً آخر أيضاً وهو «الوحي»، حيث استُخدِمَ أيضاً بهذا المعنى أحياناً.
وتعني «الفجور» خرقَ حجابِ التقوى وارتكاب الذنوب، وهي من مادة «فَجْر» التي تعني الانشقاق الواسع، أو انكشاف ظلمة الليل بواسطة بياض الصبح.
و «التقوى : من مادة «الوقاية»، وتعني (الصيانة)، والمقصود هنا الأساليب التي تمنع الإنسان من التلوث بالذنوب والقبائح.
من هنا يُفهمُ بوضوح من هذه الآيةِ أنّ اللَّه تبارك وتعالى قد أوْدَعَ مسألةَ إدراكِ الحُسْنِ والقُبحِ العقليين وفَهْمِ الحَسَنِ والسي ء بشكلٍ فطريٍّ داخل روح الإنسان كي يهديه الطريق نحو السعادة والتكامل.
وورد في حديثٍ للإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «بيَّنَ لها ما تأتي وما تترك» «2»
، فالمقصود هو أنَّ اللَّه بيَّنَ للإنسان ما يجب فِعْلُهُ وما يجب تَركُه أو بتعبير آخر علَّمَهُ (الواجبات،
والمحرمات).
وحول السبب في تقدُّم «الفجور» على «التقوى ؟ يقول بعض المفسِّرين: لأنَّ «التَّطهرَ من الذنوب» يُمثلُ الأرضيةَ ل «التحلي بالتقوى ، باعتبار أنّ (التخلية) تكون قبل (التحلية)، و (التطهير) قبل «اعادة البناء» دائماً «3».
__________________________________________________
(1) لسان العرب مادة (لَهمْ) بناءً على ذلك فحينما تستعمل هذه المادة في باب الافعال تفيد «الابتلاع والشرب» وقال بعض إنّها تستخدم في امور الخير فقط، وإنّ المراد من الهام الفجور في الآية هو صده عن الخير أيضاً.
(2) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 586، ج 7.
(3) تفسير روح المعاني، ج 30، ص 143.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 107
على أيّةِ حالٍ، فلو لم يكن إدراكُ حُسْنِ وقُبحِ الأفعالِ فطرياً بالنسبة للإنسان، أي لو كانت هناك حاجة للاستدلال من أجل فَهمِ قُبحِ الظلم وحُسنِ العدل والاحسان والأعمال الاخرى فمن المسلَّم إنّه سيختلُ نظام المجتمع البشري، لأنَّ الكثير من الاختلافات العقائدية تنشأ عن الاستدلالات النظرية، حيثُ لا يوجد أساسٌ وجدانيٌ متين لهذا المعنى فيمنحُ كلُّ شخصٍ لنفسهِ حريةَ القيام بأيِّ عمل.
أجَلْ إنَّ هذه الهدايةَ الالهيةَ في الحياة الاجتماعية للإنسان مصيريةٌ إلى أبعدِ الحدود، وهذه النعمةُ وهذه الهدايةُ مهمّةٌ إلى الحدِّ الذي لا يمكن قياسُها بسائر النِّعم الاخرى
وفي الآية الرابعةِ طُرحت مسألةُ فطرية الدين، وهو (الدين الحنيف) أي الخالي من كل أشكال الهوى والاتجاه نحو الباطل والانحراف، والطاهر من كافة أشكال الشرك والتلوث:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ حَنِيْفَاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا».
والاستفادة من تعبير «الدِّين» نظراً لسعة مفهومهِ، حيث يشمل جميعَ اصول الدين، والحد الأدنى من مجموع فروع الدين، بأنّه ليس معرفة اللَّه والتوحيد فقط، وإنّما اصول وفروع الدين كافة اودعَتْ منذ البداية في روحِ الإنسان بنحوٍ اجماليٍّ وبصورةٍ فطريةٍ،
وهذه هي «الهدايةُ التكوينية» التي يُمكنُ أن تُوجِدَ أكثر الآثار جاذبية لدى الإنسان فيما لو تناغمت مع «الهداية التشريعية» للأنبياء عليهم السلام.
بناءً على ذلك فانَّ أصلَ كلِّ دعوةٍ موجودةٍ في الشريعةِ له وجود في أعماق فطرةِ الإنسان، ولا يعارضُ أيُّ دينٍ الإرادات الفطرية للإنسان، بل يرشدُها وَيكْملها من خلال الطريق المشروع، ولهذا فانَّ التعبُّدَ والتَّدَيُنَ موجودان داخل روحِ الإنسان بصفتهما هدايةً تكوينية، وإذا ما حصلَ انحرافٌ ما فانَّهُ طارى ءٌ، لهذا فانَّ دور الأنبياء عليهم السلام هو ازالةُ هذه الانحرافات الطارئة كي تحصلَ إمكانية تَفَتُح الفطرةِ الحقيقية.
وهنا نكتفي بهذا المقدار حيث سنتكلَّمُ مفصلًا بخصوص هذه الآية في بحث التوحيد الفطري في المجلَّد الثالث إن شاء اللَّه.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 108
وقد تحدثت الآية الخامسة عن التعليم الإلهي بواسطة القلم ثم أشارت بشكل عام إلى تعليم الإنسان للمسائل التي يَجهلُها إذ يقول تعالى «الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الانْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ».
قد يكون التعليم الإلهي بواسطة القلم إشارة إلى القراءة والكتابة التي حدثت لأول مرّة على أيدي الا نبياء عليهم السلام «1»، أو لأنَّ اللَّه تباركَ وتعالى قد أوْجَدَ هذا الذوق والقابلية لدى الإنسان هدايةً فطرية حيثُ اْبتُدِعَ بعد اتضاحِ القراءةِ والكتابةِ، فبدأت مرحلة ما بعد التاريخ مع إيجاد الخط (حيث نعلمُ أنّ الفاصل الزمني بين مرحلتي ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ هي مسألة اكتشاف الخط).
على أيّةِ حالٍ، فقد حصلَ التعليمُ بالقلم عن طريق الهدايةِ الإلهيّة.
ويُمكن أن تكون جملةُ «عَلَّمَ الانْسَانَ مَالَمْ يَعلَمْ» إشارة إلى العلوم الفطرية المختلفة التي أودَعَها اللَّه تعالى فكر الإنسان، المتضمنة لإدراك القُبحِ والحُسْن، والفجور والتقوى وكذلك القضايا البديهية التي تكون أساساً للقضايا النظرية في العلوم الاستدلالية، والاطّلاع على قواعد الدين واصول الأحكام الإلهيّة
أيضاً.
وفي الآية السادسة بَعْدَ أن يَنسِبَ تعليمَ القرآن إلى اللَّه الذي هو مصدرُ جميع الرحمات والكرامات، يتحدثُ عن خلقِ الإنسان ويقول: «خَلَقَ الانْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ».
ول «الْبَيان»: مفهومٌ عامٌ حيثُ يُطلقُ على كلِّ شي ءٍ موضِّح كأنواع الاستدلالات العقلية، والمنطقية التي تُبينُ المسائلَ المعقدَّة، أو الخط والكتابة، أو الكلام الذي يعد من ابرز مصاديقه.
وقد اعطى المفسرون احتمالاتٍ كثيرة في تفسير «البيان»، فقد اعتبرها فريق منهم
__________________________________________________
(1) نقل عدةٌ من المفسرين أنّ آدم عليه السلام كان أول من كتب بواسطة القلم (تفسير القرطبي، ج 10، ص 7210؛ وتفسير روح البيان، ج 10 ص 473).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 109
بمعنى بيانُ الخير والشَّر، وفريق آخر بمعنى بيانُ الحلال والحرام، وثالث اعتبرها بمعنى الاسم الأعظم، ورابع بمعنى تعليم اللغة «1».
لكن من الواضح أنّ ظاهر (البيان) هو التكلُّم، وتبدو بقية الاحتمالات ضعيفة «2».
وهنا كيف علَّمَ اللَّه تعالى الإنسان التكلُّمَ؟ قال بعض المفسرين: إنَّ اللَّه هو الذي «وَضَعَ اللغات» ثم علَّم الأنبياء عليهم السلام عن طريق الوحي، لكن يبدو أنّه ليس هناكَ دليلٌ واضحٌ لهذا الرأي، إنّما المقصود هو الالهام الباطني من قبل اللَّه تعالى للإنسان، حيث استطاع من خلال ايجاد الصوت عن طريق الحنجرة، ثم إيجاد الحروف عن طريق حركة اللسان والاعتماد على مخارج الحروف، ثم تركيبها مع بعضها وإيجاد الكلمات، ثم تسمية الأشياء والمفاهيم المختلفة، بحيث يعكس مقاصدهُ الباطنية والمفاهيم المادية والمعنوية، الجزئية والكلية، المستقلة وغير المستقلة كافة عن هذا الطريق السهل الذي هو في متناول أيدي الجميع، والحقيقة أنّه لو لم تكن هذه الهِبَةُ الالهيةُ الخلّاقة ولم يعرف الإنسان التكلُّمَ لَما وُجِدَتِ الحضارة، ولَما ارتقى العلمُ إلى هذا الحد، ولَما تمكَّنَ الإنسانُ من بناء قواعد حياتهِ على أساسِ
التعاون الجماعي، لأنَّ التعاونَ فرعٌ من علاقة التقارب مع الآخرين.
وورد في تفسير الميزان أنّ من أقوى الأدلة على أنَّ اهتداء الإنسان إلى «البيان» قد تم بالهامٍ الهيٍّ، هو اختلافُ اللغات باختلاف الامم والطوائف في الخصائص الروحية والاخلاقية والنفسانية وبحسب اختلاف المناطق الطبيعية التي يعيشون فيها «3».
وقد قدَّرَ بعض المحققين عدد اللغات الموجودة في العالم ب «ثلاثة آلاف لغة»، وقال بعضهم أنّ العدد يفوق ذلك «4».
وهذا الاختلاف عجيبٌ حقاً، وهو من براهين قدرةِ وعظمةِ اللَّه تبارك وتعالى
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6322، و تفسير روح المعاني، ج 27، ص 86.
(2) إذا فُسِّرت (البيان) في بعض الروايات على أنّها الاسم الأعظم فهو من باب ذكر المصداق الواضح.
(3) تفسير الميزان، ج 19، ص 107.
(4) دائرة المعارف «فريد وجدي»، ج 8، ص 364.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 110
فأَصلُ التكلم مِن آيات اللَّه العظيمة، وهذا التنوع في اللغات آيةٌ عظيمةٌ اخرى وكلاهما يعتبر من خصائص خلقةِ البشر.
من الممكن أن تنطقَ بعضُ الطيور عن طريق التعليم المتكرر عبارات جذابة، ولكن- ممّا لا شك فيه- أنّ عَمَلَها ليس إلّاتقليد لالفاظٍ محدودةٍ صادرةٍ عن الإنسان من غير ادراكٍ لمفاهيم هذه الالفاظ، فالانسانُ وحدهُ الذي يستطيع- بنحوٍ غير محدودٍ وبادراك تام- أن يكوِّنَ جُمَلًا ويصب فيها مفاهيم مختلفةً ويعّبر عنها.
وفي (توحيد المفضل)، يلفتُ الإمام الصادق عليه السلام النظر إلى هذه الآية العظيمة، حيث يقول عليه السلام للمفضل: «... اطِلَ الفكر يا مفضل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان، فالحنجرة كألانبوبة لخروج الصوت، واللسان والشفتان والاسنان لصياغة الحروف والنغم، الم تر أن من سقطت أسنانه لم يقم السين، ومن سقطت شفته لم يصحح الفاء، ومن ثقل لسانه لم
يفصح الراء، وأشبه شي ء بذلك المزمار الأحمر ....» «1».
ثم يشرحُ الإمام عليه السلام تفاصيلَ ذلك للمفضل ويدعوه إلى التفحص بهذا الأمر.
وفي الآية السابعة والأخيرة من بحثنا، يخاطبُ تعالى الرسولَ صلى الله عليه و آله ويأمُرُهُ: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أنْتَ مُذَكِّر»، فقد يكون المقصود من «التذكير» إشارة إلى أن حقائق هذه العلوم والمعارف وخلاصتها موجودة في وجدان وروح الإنسان طبقاً للهداية الإلهيّة، ثمَّ تتفتحُ هذه العلوم في ظل تعاليم الأنبياء والرُسل (عليهم السلام)، حيث تخرج من مرحلة «الخفاء» إلى مرحلة «الظهور»، ومن «الاجمال» إلى «التفصيل» ومن «الباطن» إلى «الظاهر».
وقد وردت هذه الآية أربعُ مراتٍ في القرآن الكريم في سورة القمر عند بيانِ وقائعِ قومِ «فرعون» و «عاد» و «ثمود» و «لوط» حيث يقول تعالى «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرآنَ لِلذَّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ». (القمر/ 17، 22، 32، 40)
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 71.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 111
وهذا الكلامُ معروفٌ أيضاً عن بعض الفلاسفة اليونانيين، حيث يقولون: «ليست العلومُ والمعارف إلّاالتذكير، ولقد اودِعت جميعُ القواعد العلمية روح الإنسان دون استثناء، وقد نَسِيَها الإنسانُ إلّاأنّها تعود إلى الذاكرة بمساعدة المعلمين».
يقول الفخر الرازي في تفسيره: «لو قال قائلٌ: هذا يقتضي وجودَ أمرٍ سابقٍ فنسيَ، ونقول: ما في الفطرة من الانقياد للحقِّ هو كالمنسي فهل من مدَّكر يرجع إلى ما فُطِرَ عليه» «1».
على أيّةِ حالٍ، فإنّ جميع هذه الآيات دليلٌ حيٌ على الهداية الإلهيّة الفطرية للإنسان.
مع تطور علم النفس، وعلم التحليل النفسي، وبحوث العلماء حول الحواس ذات الأسرار الغريبة للحيوانات، اكتُشِفت الكثير من أسرار الهداية الفطرية والغريزية الغريبة والمدهشة في عالم الأحياء، ونواجه ظواهر تعجز العلوم عن تفسيرها، ولايمكن أبداً الوقوف على مصدر هذه الهدايات، إلّاأنّ نُسَلِّمَ بأنَّ مبدى ء
عالم الوجود الذي تَكفَّل بهداية جميع الكائنات هو الذي وَهَبَ هذه العلوم عن طريق الالهام الفطري الخفي للإنسان أو الحيوانات.
ولدينا في هذا المجال قدر وافر من الشواهد بحيث لو جُمعت لشكَّلت كتاباً كبيراً، منها الحالات الدقيقة الآتية:
1- إنّ الطفل حين ولادته يعرفُ جيداً ومن دون الحاجةِ إلى معلِّمٍ كيفية الامساك بالثدي والرضاعة، واستخدام اليد والأصابع لهذا العمل، وعكس وايصال حاجاته إلى الأُم عن طريق البكاء ويكون حاملًا لاستعدادات خفية اكتسبها من أمُه، من بينها: ابتداع الكلمات،
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 42.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 112
قابلية التكلم وفهم اللغات بالأضافة إلى إدراك الحسن والقبح وقسم كبير ممّا يجب وما لا يجب ويحمل في نفسه بشكل فطري معرفة عالم الوجود بالإضافة إلى معرفة اللَّه سبحانه وتعالى.
يقول أحد العلماء: حينما تحتضنُ الامهاتُ أطفالهنَّ لتهدئتهم فهنَّ يضعنهم على الجانب الايسر من الصدر بلا علمٍ منهنَّ بهذا الفعل، حيثُ يضعْنَ أطفالهن بجوار قلوبهن، فيهدأ الطفل بمجرد سماعه ضربات قلب الأُم لأنّه اعتاد على سماع هذا الصوت عندما كان جنينا في بطن أُمه وقلما توجد ام ملتفتة إلى هذه المسألة، ولذا فانّها تؤدّي عملَها هذا في هذا المجال بالهام فطريٍّ محض.
2- إنَّ مسألةَ الهداية الفطرية والغريزية في عالم الحيوان أوسعُ بكثير عمّا هي عليه في الإنسان، حيث يعرض علماء العصر نماذجَ مدهشةً منها، فقد جاء في كتاب (البحر دار العجائب) تأليف (فرد ديناندلين) مايأتي:
«إنّ تصرفات بعض الأسماك تُعدّ من أسرار الطبيعة حيث يعجز كلُّ إنسانٍ عن بيان سببها، فاسماك ال (قزل آلا) تترك مياه البحر لتعود إلى مياه الأنهار العذبة التي بدأت حياتها فيها، وتسبح بجدٍ في الاتجاه المعاكس لتيار الماء، وتقفز من فوق الصخور، بل وتصعدأعلى
الشلالات أيضاً، وقد تملأ النهر لكثرتها أحياناً، وعندما تصل هذه الأسماك إلى المكان الذي تبحثُ عنه تضع بيوضها ثم تموت!
فكيف تهتدي هذه الأسماك إلى الأنهار المناسبة ياترى أنّها أكثرُ إثارة للعجب من اختراع المذياع والتلفاز، لأنّها لا تمتلك خارطةً، كما أنّ قابليتها على الرؤية تحت الماء ضعيفة، وليس هناك من يُدِّلُّها على الطريق «1».
3- وجاء في نفس ذلك الكتاب: «إنَّ تصرفَ (الجريّ) أكثرُ عَجَباً من هذا، فحينما يبلغ سمك الجريّ «الانجليزي» ثماني سنوات يهجُر الحوض أو النهر الذي يعيش فيه ويزحف ليلًا كالافعى على الاعشاب الرطبة حتى يصل إلى شاطى ء البحر، ثم يطوي المحيط
__________________________________________________
(1) البحر دار العجائب، ص 116.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 113
الاطلسي سباحةً ويتجه نحو المياه القريبة من (مثلث برمودا) حيث تضع الاناث بيوضها تحت الماء هناك وتموت ... والمدهش أنّ صغار سمك الجريّ تعوم على سطح الماء ثم تبدأ سَفَراً طويلًا نحو الوطن الأُم، حيث تستغرق هذه الرحلةُ سنتين أو ثلاث سنوات!
فكيف يعرف الجريّ هدفه هذا مع أنّه لم يسلك هذا الطريق أبداً؟!
إنّ الجواب عن هذا السؤال يستوي فيه جميع الناس حتى أعلم العلماء وهو (لا أعلم) «1».
4- يقول (فيتوس درفيشر) مؤلفُ كتاب (الحواس الخفيّة للحيوانات): «لقد اكتشفَ العلماءُ أسراراً مذهلة عن الخفاش، منها وجود أربعةِ أنواعٍ من الخفافيش التي تصطاد الأسماك، فهي تحلق ليلًا فوق الماء وتمد أرجُلَها فيه فجأةً لتصطاد سمكةً وتأكلها، إنّه سرٌ مدهشٌ فمن اينَ لها العلمُ بانَّ في تلك النقطة سمكةٌ تسبح تحت الماء؟ لم يفلحُ الإنسانُ بالقيام بهذا العمل حتى الآن بالرغم من وسائله واختراعاته العلمية، فلا تستطيع أيُ طائرةٍ قاذفةٍ أن تحدِّدَ مكاناً معيناً لغواصةٍ تحتَ الماء، وإن استطاعت فعليها أن تطلق موجات خاصة
على الماء كي تحدد مكان الغواصة من خلال الذبذبات التي تنبعث من الغواصّة إلى الطائرة بواسطة الأمواج اللاسلكية.
أجَلَ، فالطائرة على عكس الخفاش لم تستطع الاطّلاع مباشرةً على مكان وجود الهدف الذي تحت الماء، .. يقول البروفسور (غيري فون) «ليس هناك توضيحٌ يمكنُ قبوله لهذا الموضوع أبداً».
ثم يضيف قائلًا: «ولم يكتشف الإنسان شيئاً حتى الآن إلّاويجد الطبيعة قد سبقته إليه».
ومن الطبيعي أن يبعث هذا الاكتشاف عند الإنسان الغرور، لكنه لا يلبث أن يجد نفسه متأخراً عن الطبيعة في هذا المضمار.
لهذا فقد استحدثَ العلماء الاميركيون علماً جديداً باسم «البولوجيا»- علم البيئة-، وهدفه تعلم الفنون والأساليب الجديدة من الدروس التي تمنحها لنا الطبيعة من خلال الوصول إلى أسرارها.
__________________________________________________
(1) البحر دار العجائب، ص 116.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 114
ثم يضيف قائلًا: «لو وضعنا أحد هذه اللبائن (الخفاش) في صندوقٍ مُقفَلٍ مُظلمٍ وابتعدنا به ثلاثمائة كيلو متر عن عُشِّهِ ثم اطلقناه، نجده يعود مباشرةً وباقصرِ وقتٍ إليه بالرغم من كونه شبه أعمى وكون ذلك المكان مجهولًا بالنسبة إليه» «1».
5- ويوضح الكاتب المعروف (غرسي موريسن) في كتابه (سرُّ خلق الإنسان) وفي فصوله تحت عنوان (الشعور الحيواني)، صوراً لنماذج من هذا القبيل منها:
إنّ الطيور تبني وتوجد أعشاشها بشكلٍ غريزي (على الرغم من أنّها لم تَرَ نموذجاً من قبل)، فطيرُ السنونو الذي يبني عُشَّهُ في رواق البيوت يهاجر في فصل الشتاء إلى المناطق الدافئة، وأمّا إذا لاحت طلائع الربيع فهو يعود إلى وكره.
والكثير من الطيور تهاجر نحو الجنوب والمناطق الحارة، وأغلبها يقطع مئات الفراسخ براً وبحراً إلّاأنّها لا تضِّل الطريق إلى أوكارها أبداً.
والأسماك الحرّة تعيش سنواتٍ عديدةٍ في البحر، ثم تعود إلى النهر الذي جاءت منه، والاكثر عجباً أنّها تقفزُ من شاطى ء النهر
المرتفع وتذهب إلى النهر الذي وُلدت فيه ...
فالأسماك الحرّةُ تَتَبعُ شعورها الباطني، وتذهب إلى الساحل الذي كان محلًا لنشوئها ونموها، فأيُّ شعورٍ يؤدّي إلى أن يعود هذا الحيوان إلى وطنه بهذا النحو الدقيق؟ «لا عِلم لأحد».
فلو أخرجنا فَرخَ طيرٍ من عشِّه وقمنا بتربيته في بيئةٍ اخرى فهو يبدأ ببناء عشٍ له عند بلوغه مرحلة الرشد والتكامل وبالاسلوب الذي يتبعهُ أبواه، فهل أنَّ الأعمال المحدّدة والمختلفة التي تصدر عن جميع مخلوقات الأرض تحدث صدفةً، أم أنَّ العقل والشعورَ العام يؤدّي إلى صدورها؟ «2».
6- ويقول أحد العلماء الفرنسيين ويدعى «فارد» بصدد طائرٍ يسمى (اكسيكلوب) ما يأتي:
__________________________________________________
(1) الحواس الخفية للحيوانات، ص 17.
(2) سرُّ خلق الإنسان، الفصل 8، الشعور الحيواني.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 115
«لقد درست أحوال هذا الطائر، فوجدت من خصائصه أنّه يموت عندما يُكملُ وَضْعَ بيوضه، أي أنّه لا يرى فراخه أبداً، ولذلك فانَّ الفراخَ سوف لن ترى وجهَ الأم الملي ء بالحنان إلى الأبد، وعندما تخرج من البيضة تكون على هيئة اليرقة عديمة الريش والأجنحة ولا قدرةَ لها للدفاع عن نفسها تجاه ما يهدد حياتها، لذلك فعليها البقاء لمدة سنةٍ كاملة على هذه الحال وفي مكانٍ آمنٍ، وأن يكون غذاؤها إلى جانبها، لهذا فحينما تشعر الأُم بحلول موسم وضع البيوض تبحث عن مقطعٍ خشبي فتقوم بثقبه، ثم تشتغل بجمع الأطعمة، فتجمعُ الأوراق والاغصان التي يمكن استخدامها لتغذية فراخها لمدّة سنةٍ كاملة وتُعدُّهُ لواحدٍ من هذه الفراخ، ثم تضعه في نهاية الثقب وتضع عليه بيضةً واحدة وتبني فوقه سقفاً قوياً نسبياً من عجينةِ الخشب، وتبقى تشتغل بجمع الأطعمة، وبعد تأمين قوت سنةٍ كاملةٍ لفرخٍ آخر ووضعها على سقف الطبقةِ الاولى تضع بيضةً اخرى ثم تبني
طبقة ثانيةً، وهكذا تقوم ببناء عدةِ طبقاتٍ ثم تموت بعد الفراغ من العمل! (تأمّلوا جيداً .. من اين جاءت معرفةُ هذا الطائر الضعيف بأنَّ لفراخه مثل هذه الحاجات؟ ومِمَّ استلهم هذه التعاليم؟ فهل تعلَّمها من أُمه؟ في الوقت الذي لم يَرَها أبداً، أم من خلال التجربة، علماً أنّ هذا العمل لا يقع إلّامرّةً واحدةً في حياته ...
ألا يجب الاعتراف بأنَّ هذا الفعل يستندُ إلى الهامٍ غيبي وغريزي حيث وضعته يد القدرة الإلهيّة في كيانه؟!).
7- يقول العالم النفساني الروسي المعروف (بلاتونوف) في كتابه (علم النفس في الاتحاد السوفيتي):
«التقيتُ أثناء الحرب العالمية العظمى صدفةً بطبيب لم يَرَ النومَ لبضعِ ليالٍ، ثم تمكَّنَ من النوم قليلًا، وأثناء ذلك جي ء بعددٍ كبيرٍ من الجرحى الذين يجب علاجهم فوراً، إلّاأنَّ الطبيب المذكور لم يستيقظ، فحرّكناه وسَكَبنا الماء على وجهِه، فكان يحرِّكُ رأسه ويعود إلى النوم، فأشرتُ إلى الموجودين بالسكوت «كي اوقظَهُ»، ثم قلتُ له بهدوء وبشكلٍ واضحٍ: أيّها الطبيب جاؤوا بالجرحى وهم بحاجةٍ ماسةٍ إليك، هنا استيقظ فوراً.
ثم يضيف: كيف يمكنُ تبريرُ هذا الأمر، فهؤلاء الذين كانوا يسعونَ لايقاظه كانوا
نفحات القرآن، ج 2، ص: 116
يوجهون التأثيرات على القسم غير الفعال من دماغه، بينما وضعتُ «دائرة الحراسة من المخ» في حالة انذار وترقب فهذا الجزء يبقى مستيقظاً حتى في أعمق حالات النوم، ومن خلال دائرة الحراسة هذه يقيم الإنسانُ علاقاته مع العالم الخارجي (ويودع المسائل التي يرغبُ بها في هذه الدائرة بلا قصد منه).
والأُمُ التي تنام إلى جانب طفلها المريض ولا يمكن لأعلى صرخات الذين من حولها أن توقظها، تستيقظ لأقلِّ أنَّةٍ تصدر من طفلها.
والطّحان الذي ينامُ عند حدوث العواصف المصحوبةِ بالبرق والرعد يستيقظ بمجرّد توقف طاحونته عن العمل، كل
ذلك بسبب ايداعهم لما يريدونه في دائرة الحفظ في المخ في حالة اللاشعور» «1».
8- ويقول (درفيشر) في كتابه حول الحمام الزاجل وعودته المدهشة إلى عشّه:
«لو وضعنا هذا الطائر في صندوقٍ مقفلٍ مظلمٍ وأبعدناه مئات الكيلو مترات عن وكره، وسلكنا به الطرق الملتوية والمعقّدة أثناء رحلتنا، فانّه حال اخراجه من الصندوق يطيرُ مباشرةً نحو عشِّه بعد عشرٍ أو عشرين ثانيةٍ من رؤية النور، وقد ثبتَ ذلك عن طريق الاختبارات المتكررة التي قام بها عالمٌ معروفٌ يُدعى الدكتور «غرامر» .. ويمكن توضيح اسلوب عمله بهذا المثال: فلو أنّ هذا الطائر كان في مدينة هامبورغ فانّه يعلم أين تكون الشمس عند الساعةِ الفلانية من اليوم، فإذا أخذوه إلى مدينة «بروم» مثلًا فانّه يفهم أنَّ الشمس هناك تكون إلى الشمال من 25/ 1 درجةً شرقاً بنصف درجة.
فمن أجل عودته إلى وكرهِ في هامبورغ يجب عليه التحليق نحو الشمال الشرقي مع الأخذ بنظر الاعتبار وضع الشمس في هامبورغ.
إلّا أنّه ليس معلوماً كيف تقوم هذه الطيور بتحديد طريقها عندما يكون الجوُّ غائماً حيث تختفى الشمس؟ لقد أثبتت التجارب أنَّ أغلبها يجد طريقه بدون الاستفادة من حركة الشمس كبوصله لتحديد اتجاهها» «2».
__________________________________________________
(1) علم النفس في الاتحاد السوفيتي، ص 19 «مع شي ء من الاختصار».
(2) الحواس الخفية للحيوانات، ص 183.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 117
ولو فرضنا أنَّ هذه الطيور تستفيد من حركة الشمس، فمن المسلَّم به عدم مقدرتها على تعيين الزوايا، وهي زوايا صغيرة جدّاً، لا يمكن قياسها الامن خلال الاستعانة بالمنقلة لتحديدها، وهذه مسائل لا يمكن تفسيرها إلّافي ظل الهداية التكوينية الإلهيّة.
إنَّ هذا الطائر ومئات مثلُهُ دليلٌ حيٌّ على أنّ وراءَ الطبيعةِ علماً وقدرةً لا متناهيةً تهدي وتقود كلَّ موجودٍ
في مسيرة حياته ... نعم كلُّ هذا دليلٌ على من لا دليل له.
9- ونختم الحديث بكلامٍ ورد عن الإمام الصادق عليه السلام طبقاً لما جاء في (توحيد المفضل)، حيث يقول عليه السلام: «فكّر يا مفّضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم، فانّهم يوارون أنفسهم إذا ماتو كما يواري الناس موتاهم، وإلّا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شي ء؟ وليست قليلة فتخفى لقلتها؛ بل لو قال قائل: إنّها أكثر من الناس لصدق، فاعتبر ذلك بما تراه في الصحارى والجبال من أسراب الظبا والمها والحمير والوعول والأيائل وغير ذلك من الوحوش، وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها، وضروب الهوام والحشرات ودوابّ الأرض، وكذلك أسراب الطير من الغربان والقطا والأوز والكراكي والحمام وسباع الطير جميعاً وكلها لا يرى منها شي ء مات إلّا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع ....» «1».
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 99 (مع شي ء من الاختصار).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 119
لم يقتصر القرآن الكريم على إشارته إلى الموضوعات المهمّة جدّاً كخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، وروح الإنسان، بصفتها آيات وبراهين من اللَّه تعالى فحسب، بل نراه أحياناً يتعرض إلى المسائل العاديّة في نظرنا أيضاً، لكي يوضح لنا أنْ ليس هناك شي ء عاديّ في هذا العالم، فكلُّها آياتُ حقٍ كبيرة كانت أم صغيرة، وبراهينٌ عظيمةٌ على علم وقدرة الباري تعالى
ومن بين هذه الامور التي تُعَدُّ عاديةً حسب الظاهر، هي حالتا النوم واليقظة اللتان استند اليهما القرآن الكريم على وجه الخصوص.
بهذا التمهيد نقرأ خاشعين الآيات الكريمة الآتية:
1- «وَمِنْ آياتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِّنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَسْمَعُونَ». (الروم/ 23)
2- «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيلَ لِباساً والنَّومَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً».
(الفرقان/ 47)
3- «وَجَعَلْنَا نَومَكُمْ سُبَاتاً* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً». (النبأ/ 9- 10)
4- «إِذْ يُغَشِّيْكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنْزِّلُ عَلَيْكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ ماءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ».
(الانفال/ 11)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 120
حينما يتطرق بعض أرباب قواميس اللغة إلى مصطلح «النوم» يقولون إنَّ له مفهوماً معروفاً «1».
إلّا أنَّ الراغبَ يقول في كتاب المفردات:
النوم: فُسر على أوجه كلها صحيح بنظرات مختلفة، قيل هو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، وقيل هو أن يتوفى اللَّه النفس من غير موت، قال: «اللَّه يَتَوفى الانفُس» الآية، وقيل النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل «2».
و «النُّعاس»: «على وزن غُبار» ويعني النوم القليل والخفيف، وفسَّره بعض على أنّه بداية النوم، وهنا حيثُ يكون النومُ خفيفاً في بدايته فانَّ كلا المعنيين يعودان إلى حقيقةٍ واحدةٍ.
و «السبات»: مأخوذة من مادة «سَبْت» (على وزن ثَبْت) أي «القطع»، ولهذا سُمِّيَ يومُ السبت بهذا الاسم في لغة العرب، حيث كان يوماً لتعطيل الأعمال من أجل الراحةِ، وممّا يظهر أنَّ هذه التسمية مستوحاةٌ من أفكار اليهود حيث يعتبرون يوم السبت عطلةً لهم، وهذا ما يعتقد به اليهود، إذ يقولون إنَّ اللَّه تعالى بدأ خلقَ العالم يوم الأحد وانتهى بعد ستة أيّامٍ فكان يوم السبت نهايةً لخلق البشر وللراحة إلّاأنّنا نعلمُ أنَّ هذا من الأخطاء الفاضحة لليهود، لأنَّه في الوقت الذي لم تكن هناك سماءٌ ولا أرضٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ لم يكن هناك وجود لليوم والاسبوع أيضاً وحينما يقول القرآن الكريم: «خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ» فالمقصود «ست مراحل».
وكلمة «السبت» جاءت بمعنى الراحةِ أيضاً «3».
في الآية الاولى من البحث يَعُدُّ القرآن الكريمُ نومَ الإنسان في الليل والنهار أحدَ
__________________________________________________
(1) لسان العرب ج 12، ص 595، مادة (نوم).
(2) لسان العرب، مادة (نوم).
(3) مفردات الراغب؛ مجمع البحرين؛ لسان العرب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 121
البراهين على علمِ وقدرةِ اللَّه تعالى فيقول: «وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ».
وهو في
نهاية الآية يؤكد هذا البرهان «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَسْمَعُونَ».
وممّا لا شك فيه أنَّ الكائنات الحيّة كافة تحتاجُ إلى الراحةِ لتجديد قواها، واكتساب الطاقة اللازمة لاستمرار نشاطاتها الحياتية، الراحةُ التي تلاحقهم تلقائياً، وتجبُرُ حتى الذين يحرصون على عدم التمتع بها.
فايُّ عاملٍ أفضلُ من النومِ يمكنُ أن نفكر به من أجل تحقيق هذا الهدف حيث يلاحق الإنسانَ بشكلٍ اجباريٍّ ويضطره لايقاف جميع نشاطاته الجسمية، بل حتى بعض من نشاطاته الفكرية الأساسية، وفي النتيجة يغطُّ في راحةٍ عميقةٍ، وخلال هذه الفترة تقوم أجهزة الجسم باعادة البناء والاستعداد للسعي والحركة من جديد.
وممّا لا شك فيه أنّ الإنسان لولا النوم، فانّه يذبُلُ ويتْلَفُ، ويُصيبُهُ العَجَزُ والانكسار بسرعةٍ، لذلك فقد قالوا: إنَّ النومَ المعتدل والاستقرار سرُّ السلامةِ وطولِ العمر وحيوية الشباب.
واللطيفُ أنَّ الآيةَ التي نبحثها وضعت «النوم»، و «ابْتِغاء فَضْلِ اللَّهِ» في مقابل بعضهما، وحسب قول بعض المفسرين أنَّ الأولَ هو علامة الموت والثاني علامة القيامة.
إنّ تعبير «ابتغاء فضل اللَّه» يشير إلى نقطة ظريفة وهي أن سعي وجهد الإنسان في حياته من المسائل ذات الأهميّة، وكذلك الفضل الإلهي، والجمع بين الاثنين تجعل الإنسان يستفيد من مواهب هذا العالم.
وهنا توجد نقطةٌ جديرةٌ بالاهتمام أيضاً حيث ذكرت الآيةُ أعلاه النومَ بالنهار إضافة إلى النوم بالليل: «مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ»، في الوقت الذي يُعتبرُ النومُ مختصاً بالليل فقط حيث تؤكدَ آياتُ القرآن الكريم هذا المعنى إلّاأنّ بعضَ الظروف التي تطرأ في حياة الإنسان تجبُرُهُ على أنْ يَسهَرَ الليل وينامَ النهار، ويُلاحَظُ هذا الأمر كثيراً في السفر ليلًا، وفي المناطق الحارّةِ جدّاً حيث تتوقف النشاطات النهارية بسبب حرارة الجو ويكون العمل فقط أثناء الليل.
وفي عصرنا الراهن حيث تكون الكثير من المؤسسات الصناعية، ومعامل صناعة
الأدوية مضطرة للعمل ليلًا ونهاراً، إذ من الصعوبة ايقاف العمل، ممّا يدفع العمال إلى تقسيم
نفحات القرآن، ج 2، ص: 122
أعمالهم إلى ثلاث وجبات يومياً، فتتضح الحاجةُ إلى النوم في النهار أكثر من أيِّ وقتٍ آخر.
والآن .. فلو لم يكن برنامج تنظيم النوم بيد الإنسان، ولم يتيسر النوم نهاراً بدلًا عن الليل، فمن المسلَّم به أنّ مشكلاتٍ كبيرةً ستعترضُ حياته.
وفي الآية الثانية بعد ذكر: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً» يشيرُ إلى مسألة النوم حيث يقول تعالى «وَالنَّوْمَ سُباتاً».
ومن الممكن أن يكون تعبير «هو الذي» إشارة إلى الجانب التوحيدي لهذه الامور، فكلٌ منها دليلٌ على الذات المقدّسة، أو جانبِ الانعامِ كي يعرفَ الإنسانُ وليَّ نعمتِهِ، ومن المسلَّم به أن الإشارة إلى وليَّ النعمة ستكون مقدمةً لمعرفته أيضاً.
واللطيف أنّه يقول بعد ذلك: «وَجَعَلَ النَّهارَ نَشُورَاً» «1»
.
أجَلْ ... ففي وضح النهار تنتشر الروحُ ويستيقظ الإنسانُ بشكلٍ كامل، إذ لا يخلو من شَبَهٍ بنشورِ يوم القيامة والحياة ما بعد الموت.
وهذا الاحتمالُ ممكن أيضاً، حيث يشير إلى انتشار الناس في ميدان الحياة وحركتهم نحو مقاصدهم المعاشيةِ المختلفة، وبهذا فانَّ أجراس النوم والراحةِ تقرع مع حلول الظلام، وتدق هذه الأجراس في النهوض مع بزوغ الشمس.
وفي الآية الثالثة تكرَّرَ هذا المعنى باختصارٍ طفيف إذ يقول: «وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً»، فكما يصونُ اللباسُ الإنسانَ من الاخطار ويكون له دوراً في سلامته فانَّ ظلامَ اللَّيل له مثل هذا الأثر.
وفي الآية الرابعة والأخيرة في هذا البحث، وحينما يتحدث القرآن الكريم عن وقائع غزوة بدر يشير إلى أنَّ احدى نِعَمِ اللَّه على المؤمنين في تلك الليلة التاريخية كانت «اذْ
__________________________________________________
(1) تأملوا جيداً أنَّ «النشور» معنى لمصدر، و «السُبات» معنى لمصدرٍ أيضاً أو اسمٌ
مصدريٌ، واطلاقهما على الليل والنهار يفيد المبالغة والتأكيد.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 123
يُغَشِّيْكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ».
لقد كانَ هذا النومُ الرغيدُ سبباً في تجديد قواهم والاستعداد للمعركة الحاسمة في ساحة المعركة ببدر صباحاً، وبخاصة بعد قطع تلك المسافة الطويلة إلى حدٍ ما، تلك المعركة التي انتهت بنصرٍ مبينٍ للمسلمين.
ولعلَّ تَعبير «النُّعاس» إشارة إلى عدم استحواذ النوم العميق عليهم بالرغم من تمتعهم بالراحةِ، كي لا يستغلَ العدوُّ الوضعَ السائد ويباغِتَهُم ليلًا، ولهذا كانت حقيقةُ ذلك النوم نعمةً وكيفيتُهُ نعمةً اخرى
على أيّةِ حالٍ، فانَّ الآيَة أعلاه تعتبر تأكيداً على أثر النوم على أعصاب وجسمِ وروح الإنسان أيضاً، وتجديد الطاقات من أجل مثابرَة أكثر وجهادٍ أكثر فاعليةً في كافة المراحل.
مع أنَّ «النوم» و «الرؤيا» تعتبر بالنسبة لنا أمراً عادياً، إلّاأنّ العلماء لم يتوصلوا إلى عمق هاتين الظاهرتين المهمتين بالرغم ممّا بذلوه من مساعٍ وجهود.
فايُّ فِعْلٍ وانفعالاتٍ تطرأُ على جسم الإنسان ليتوقف فجأة القسم الأعظم من نشاطاته الجسمية والروحية؟! ويحصلُ هذا التغيير في جميع أجزاء جسمه وروحهِ كذلك، فلا يفهمُ شيئاً ولا يبدي أىَّ حركةٍ ويستلقي جانباً كالميت، ولو غرقت الدنيا بأكملها فهو نائمٌ لا يدري.
ومع كل هذه التوضيحات والآراء والفرضيات التي قيلت في هذا المجال، فقد حافظ النوم على صورته المدهشة!
والأكثر عجباً من ذلك مسألةُ (الرؤيا) التي تُعَدُّ من الألغاز العظيمة كروح الإنسان.
وطبعاً أنّ الحديث المفصَّلَ بصدد حقيقة وأسرار هاتين الظاهرتين خارجٌ عن موضوع بحثنا، لأنَّ الغايةَ من بحث الآيات المذكورة هي بيان المنافع الكثيرة، والفوائد التي لا تُحصى للنوم من جانب ومن جانب آخر كونه نعمة من نعم اللَّه.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 124
فالنوم المعتدل دائماً يعتبر دليلًا على سلامةِ روح واعصاب الإنسان، لذلك فإنّ أهمَ
أسئلةِ الأطباء للمصابين بالأمراض النفسية تدور حول كيفية نومهم.
فلا تتوقف الاجهزة الأساسية في جسم الإنسان كالقلب والرئة أثناء النوم، لكنها تعملُ بهدوءٍ أكثر، ويصبحُ دوران الدَّم في الأعضاء أكثرَ تناسقاً، ويتوقفُ نشاطُ الدَّماغ تقريباً، وتستقر جميعُ العضلات أيضاً، فتؤدّي كلُّ هذه الامور إلى حصول هذه الأعضاء على فرصةٍ لِتجديد بناء بنائها.
وخلالَ النومِ تُزالُ سمومُ الجسم، وتُعالجُ كثير من الأمراض.
لقد أورد «روخلين» في كتابه (الرؤيا في نظر بافلوف) بحثاً تحت عنوان (العلاج بالنوم العميق) قائلًا:
«بناءً على فرضية «بافلوف» فانَّ النومَ عبارةٌ عن ظاهرةِ توقُفٍ من أجل الصيانة وتجديد القوى وعليه فيمكن استغلالهُ كعاملٍ للعلاج من الأمراض المختلفة، وتؤيدُ التجاربُ اليومية دور النوم في ذلك أيضاً».
ثم يضيف: «إنَّ النومَ العميق الطويل مؤثر على تحسُن صحة المريض، لأنَّ المرضى ينامون أكثر من المعهود بعد مرضٍ طويلٍ من أجلِ استعادةِ قواهم وسلامتهم».
ويقول: «لقد واجه العلاجُ عن طريق النوم رواجاً واسعاً في الاتحاد السوفيتي، وقد استخدمت هذه الطريقةُ لأولِ مرّةٍ لمعالجة (جنون الشباب) «الشيزوفرينيا» الذي يعتبر من الأمراض النفسية الشائعة».
ويقول في جانبٍ آخر من حديثه: «تمّ الحصول على نتيجةٍ مُرضيَةٍ لعلاج المصابين بارتفاع ضغط الدم عن طريق النوم العميق ... فالنوم الطويل الذي هو حالة من الراحةِ الكاملة للمخ، يُجدد قدرةَ الجهاز العصبي ويوازن تنظيم نشاط الأعضاء الداخلية، ويترك أثراً إيجابياً مساعداً للوضع العام للإنسان» «1».
أَجَل؛ فالذي خلق الإنسان سالماً من أجل السعي والنشاط، وضع جميع وسائل ذلك تحت تصرفهِ، وأحدُها نظام النوم واليقظة، النظام الذي تبرز فيه بكل وضوح براهينُ حكمةِ الباري عز وجل.
__________________________________________________
(1) النوم في نظر بافلوف، ص 112- 116 (مع الاختصار).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 125
بعد أن ذكرنا آياتِ (الانفس) نتجه صوبَ آيات الآفاق:
لقد
كانَ النظر إلى السماوات والأرض على الدوام دافعاً لتفكير الإنسان، وكلَّما تطورَ علمُ الإنسان تعاظم العالم السماواتي ذو الأسرار العجيبة في نظرهِ، فلو قيسَتْ عظمةُ السماوات في نظر علماء اليوم مع ما مضى لكانت «كالقطرةِ» إلى «البحر»، وليس معلوماً أن يكون «الغد» كذلك في قياسه مع «اليوم».
فماذا يجري في هذه المنظومةِ والمجرّات الكبيرة، والنجوم الثابتةِ والسّيارة؟ وما هي العوالم الموجودة فيها؟
وإلى أيِّ زمانٍ يعود تاريخ ظهورها؟
وهل هناك من يسكنُ فيها؟ وإذا كان كذلك فهل أنّ حياتهم تشبه حياتنا أم يختلفون عنّا؟
هذه الأسئلة وعشراتٌ اخرى تشغلُ فكرَ كلِّ إنسانٍ باحثٍ ومتفحصٍ في أمر السماوات.
يقول علماء العصر: إنّنا اليوم نرى نجوماً في السماء قد اختفت من الوجود قبل آلاف السنين وربّما قبل ملايين السنين، وهذا يعود إلى الفاصلة الخارقة بينها وبيننا، وأنّ نورها قد بدأ حركته منذ آلاف أو ملايين السنين وما زال في طريقه الينا، فإذا كان الميدان الحقيقي للسماء هكذا- وهو كذلك-، فإلى أيِّ حدٍ يختلف مع ما نراه اليوم؟ ليس هناك مَنْ يستطيع الإجابة عن هذا التساؤل!
نفحات القرآن، ج 2، ص: 126
هذه التساؤلات وأمثالها كثيرةٌ حيث يصعب الإجابة عنها من قبل العلماء.
لقد أصبحنا أمام مثل هذا العالم المملوء بالأسرار، فعظمتُهُ من جانبٍ، والنظام والتقنين اللذان يسودانه من جانبٍ آخر، تكشف الستار عن القدرة والعلم اللامتناهي لمن له اليد في هذا الخلق.
بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين الآيات الشريفة الآتية:
1- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُوْلى الْأَلْبَابِ». (آل عمران/ 190)
2- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ... لَأَيَاتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ». (البقرة/ 164)
3- «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ واخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعالِمِينَ». (الروم/ 22)
4- «إِنَّ فِى السَّمَوَاتِ
والأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلمُؤمِنينَ». (الجاثية/ 3)
5- «خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤمنِيْنَ».
(العنكبوت/ 44)
6- «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلىَ الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيْعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْهُ أَفَلَا تَذكَّرُوْنَ».
(يونس/ 3)
7- «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤفَكُونَ». (العنكبوت/ 61)
8- «لَخَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
(غافر/ 57)
9- «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ». (ابراهيم/ 10)
10- «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْيدٍ وَانَّا لَمُوسِعُونَ* وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدوُنَ».
(الذاريات/ 47- 48)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 127
11- «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظًا وهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ». (الانبياء/ 32)
12- «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوىَ عَلىَ الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ». (الرعد/ 2)
لكَلمة «الَخلْق» معنيان كما يقول صاحب «مقاييس اللغة»، أحدهما تقدير الأشياء، والآخر النَّقي والمسطَّحْ.
ويقول الراغب في المفردات: «الخَلْقُ» أصله التقدير، ويستعمل في ابداع الشي ء من غير أصل ولا احتذاء، قال تعالى «خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» أي أبدعهما بدلالة قوله:
«بَدِيْعُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ»، ... وليس الخلق الذي هو الإبداع إلّاللَّه تعالى، ولذلك قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَايَخْلُقْ افَلَا تَذَكَّرونَ»، أمّا الذي يكون بالاستحالة فقد جعله اللَّه تعالى لغيره في بعض الأحوال، وتستعمل هذه المفردة في الكذب أيضاً (وربّما اطلق على الكذب بسبب اختلاق وايجاد موضوع ما في فكر السامع» «1».
ويقول ابنُ منظور في «لسان العرب»: الخلق في كلام العرب ابتداع الشى ء على مثال لم يُسبق إليه.
وعليه ... أنّ كلمة الخلق تَعني في الأصل التقدير والتنظيم وتنقية الأشياء، إلّاأنّها استخدمت فيما بعد بمعنى
الابداع والإيجاد وتغيير هيئة الأشياء بالنحو الذي يتبادر هذا المعنى الآن.
ومعنى «السماء» استناداً إلى ما قاله علماء اللغة، الشي ء الذي يرتفع عالياً، لذلك فانَّ البعض يعتقد أنَّ لها صفة النسبية حيث يمكن أنْ تكون نسبةُ شي ء إلى شي ء آخر كالسماء إلى الأرض، واشتُقَ «الاسم» من هذه المادة أيضاً لأنَّ التسمية عاملٌ في رفعةِ وسمو مقام المُسمى
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب، ص 158.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 128
واستناداً إلى كلام مؤلف «التحقيق» فإنّ السماء قد تكون ملموسةً ومادية كما في:
«أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً» أو معنوية كما في: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ». (البقرة/ 144)
ويقول «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً: السمو: تعني الارتفاع والعُلو «1».
وبناءً على ذلك فانَّ كلمة السماء لا تعني هذه السَّماء فقط بل أيَّ نحوٍ من الارتفاع والعلو، ولكنها جاءت في الآيات المُنتَخبة في هذا البحث بشكلٍ عامٍ بمعنى السماء.
وتُطلقُ «الأرْض» في الأصل على الجزء الأسفل لكل شي ء قبالة «السماء» التي هي الجزء الأعلى لكل شي ء، قال هذا الكلام صاحب «مقاييس اللغة»، ويقول الراغب في تعبيرٍ مشابهٍ: الأرض هي الجرمُ الذي يقابلُ السماء، ويعبَّرُ عن أسفل كل شي ءٍ ب «الأرض».
وورد في كتاب «التحقيق» أنّ الأرض لها مسمّيات متعددة بعضها أوسعُ من بعضها الآخر، فهي تُطلقُ على المسكنِ، والمحلِّ، والقريةِ، والمدينةِ، والبلد، والكرة الأرضية، وما تحت السماء، وحتى ما موجود في عالم الجسم وتحت عالم الأرواح، حيث يقال لكلٍّ منها «أرض»، وفي هذه المفاهيمِ يلاحظ قيدان هما الانخفاض، ومقابلة الارتفاع.
«أرَضَة» (على وزن حَدَقة) وتعني الحشرة التي تخرج من الأرض وتأكل الخشب.
واللطيف هو أنّ أحد معاني «الأرض» هو مرض الزكام، والآخر هو «الرِّعْدَة».
ولعلَّ السبب في ذلك أنّ هذه الأمراض تُقعدُ الإنسان وتُخلدُهُ
إلى الأرض «2».
__________________________________________________
(1) في كتاب «العين» للخليل بن أحمد ذُكرت «سماء» بمعنى الارتفاع أيضاً، ص 391.
(2) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ مجمع البحرين؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم، ص 712 وص 113.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 129
الحديث في أول آيةٍ من البحث هو عن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار اللذين يحصلان نتيجة دوران الأرض حول نفسها مقابل الشمس إذ يقول تعالى
«إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيات لِأُولى الأَلْبَاب».
وكما أوضحنا في بحوث المعرفة في المجلد الأول من هذا التفسير فانَّ «الالباب» جمع «لُبْ» أي العقل الصافي والعميق، نَعمْ .. فَمَنْ لهم مثل هذه العقول والألباب يستطيعون أن يَرَوا آياتٍ وبراهين كثيرةً عن القدرة الإلهيّة في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وليس آية واحدةً أو برهاناً واحداً فقط.
واللطيف ما جاء في الرواية المشهورة الواردة في الكثير من التفاسير في تفسير هذه الآية حيث ورد فيها: قال ابن عمر: قلت لعائشة اخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى الصق جلده بجلدي، ثم قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت يا رسول اللَّه إنّي لأحب قربك وأحبّ مرادك قد أذنت لك، فقام إلى قربة ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صبّ الماء، ثم قام يصلي، فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذن لصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال:
يا رسول اللَّه أتبكي وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
فقال صلى الله عليه و
آله: يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً، ثم قال: ما لي لا أبكي وقد أنزل اللَّه في هذه الليلة: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ»، ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» «1»
.
صحيحٌ أنّ كلَّ من ينظر إلى السماوات والأجرام السماوية يهتدي إلى آياتٍ من آيات اللَّه تعالى إلّاأنَّ ذوي العقول والألباب يستفيدون أكثر من سواهم، فهؤلاء يَرَوْنَ آثارَ قدرةِ اللَّه
__________________________________________________
(1) تفسير روح الجنان؛ ج 3، ص 384؛ تفسير الكبير 9 ص 134؛ و تفسير روح المعاني، ج 1404؛ تفسير القرطبي، ج 3، ص 1552 وتفاسير اخرى
نفحات القرآن، ج 2، ص: 130
تعالى في كلِّ مكان من السماء، فهم يجدون في خلق كلِّ منظومةٍ، وكلِّ مجرَّة، وفي حركاتها المنظَّمةِ العجيبةِ أسراراً لم يجدها سوى اولي الألباب.
وما يلفت النظر انّهُ ذُكر في الآية الثانية «قَوْمٌ يَعْقِلُوْنَ» بدلًا من «اولى الأَلْبَابِ»، وفي الآية الثالثة «عالِمين»، والرابعة والخامسة «مؤمنين».
وفي الحقيقة، كما ورد من تفصيل سابقٍ في بحث (مصادر ومجالات المعرفة) في المجلد الأول من هذا التفسير فانَّ كلًا من الميزات أعلاه (الالباب، التعقل، العلم، والإيمان) تعتبر أرضيةً مناسبةً للمعرفة والاطلاع بشكل أكثر عن آيات اللَّه.
وهذه مسألةٌ جديرةٌ بالاهتمام حيث يصف القرآنُ الكريم «اولى الألْباب» الذين تُفتَحُ أمامهم أبوابُ معرفةِ اللَّه من خلال مشاهدة خلق السماوات والأرض إذ يقول تعالى
«الَّذِيْنَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامَاً وَقُعُوداً وَعَلىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا». (آل عمران/ 191)
أي أنّ ذكر اللَّهِ أولًا، والتفكُّر ثانياً، والتأمل في الهدف من الخلق ثالثاً، يُدّلُهمْ كل ذلك على عظمة الخالق جلّ وعلا.
وعلى هذا الأساس فإنّ تلكؤ علماء الطبيعة في معرفة اللَّه سبحانه وتعالى بالرغم من معرفتهم لدقائق الأمور
في هذا الوجود يعود إلى أنّهم اعتمدوا في بحوثهم على دراسة المعلول والمخلوق ولم يهتموا بدراسة علة العلل و خلق الوجود والهدف من الخلق.
وكما في الآية الاولى فقد وردت مسألة خلق السماوات والأرض في الآية الثانية، إلى جانب اختلاف الليل والنّهار، أي مجي ء وذهاب الليل والنهار (أو اختلافهما التدريجي على مدى فصول السنة)، حيث يمثل ذلك إحدى الظواهر البارزة في السماوات والأرض، إذ يسود النظام الدقيق هذه الظاهرة منذ أزمنة طويلة، ويمكن تحديد لحظة شروق الشمس وغروبها قبل حصولهما، والحدود الدقيقة لليل والنّهار في كل فصلٍ وكلَّ زمانٍ من السنة،
نفحات القرآن، ج 2، ص: 131
ولأي بقعةٍ من بقاع الأرض، ونعلمُ جيداً بانّه أينما يوجد نظامٌ دقيق فانّه يكمنُ وراؤه علمٌ وعقلٌ ولبٌ مدبرٌ.
وفي الآية الثالثة ذكر مسألة اختلاف الألسن والألوان، التي هي من آيات الأنفس، إلى جانب مسألة خلق السماوات والأرض التي هي من آيات الآفاق، حيث يقول تعالى
«وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وأَخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَالْوانِكُمْ».
وقد يكون اختلاف الألسن والألوان بمعنى اختلاف اللغات التي يتكلم بها الناس، وألوان وجوههم، أو بمعنى لحن أصواتهم واسلوب حياتهم، وتفكيرهم وأذواقهم، وقابلياتهم، أو جميعها، فهذا التنوع العجيب الذي يكون وسيلة لتعرف الناس على بعضهم، وإلى عدم خلو أيٍّ من المناصب الاجتماعية، من خلال النظام الدقيق الذي يسودُه، لا ينفصل عن النظام العجيب السائد في السماوات والأرض بل يرتبطان معاً، وكلٌ دليلٌ على عظمة وقدرة وتدبر الذات المقدسةِ للَّهِ، عزّ وجلّ.
وتشير الآيتان الرابعة والخامسة إلى خلق السماوات والأرض فقط، وتَعُدُّهُ من آيات اللَّهِ، لأنّ ممّا لاريب فيه أنّ هذا الخلق العظيم هو من آيات اللَّه البينات، غير أنَّ الآية الخامسة استندت إلى مسألة التقنيين والهدف من هذا الخلق
وبيانه من خلال تعبير «بالحق».
و في الآية السادسة طُرحَ موضوعٌ جديدٌ ألا وهو خلق السماوات والأرض في ستة أيّامٍ، إذ يقول تعالى «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالارْضَ فِى سِتَّة أَيَّامٍ».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 132
وقد ورد ذكر خلق السماواتِ والأرض في ستة أيّام في سبع آياتٍ من القرآن الكريم «1».
وهذا يُبرهنُ على أنّ (القرآنَ الكريم) يولي اهتماماً خاصاً لمسألةِ الخلق التدريجي للعالم، وهو بذاته دليلٌ آخر على عظمة الخالق جلَّ وعلا.
ومع أنَّ بعضَ الماديين غير الواعين وبسبب عدم معرفتهم لمعنى «اليوم»، انتقدوا مثل هذه الآيات واستهزؤوا بها «2» حيث إنّهم يعتقدون أنّ «اليوم» هنا بمعنى بياض النهار أو (الأربع وعشرين ساعة)، إلّاأنّ الجميع يعلم أنّ اليومَ بهذا المعنى هو ناتج من حركةِ الأرض وضوء الشمس، وعندما لم يكن وجودٌ للسماوات والأرض لم يكن هناك مفهوم لليل والنهار بهذه الهيئة.
فقد غَفَلَ هؤلاء عن هذه المسألة وهي أنّ كلمة «اليوم» وما يماثلها في بقية اللغات لها معانٍ مختلفة من حيث المفهوم والاستعمالات اليومية، فمنها ما يعني «المرحلة» وقد تكون هذه المرحلة قصيرةً أو طويلةً جدّاً، كما يقول الراغب في كتاب (المفردات) الذي هو من الكتب اللغوية المعروفة: اليومُ يُعَّبرُ به عن وقت طلوع الشمسِ إلى غروبها، وقَدْ يُعبر به عن مدةٍ مِنَ الزَّمانِ أيَّ مدةٍ كانت.
ونقول في الاستعمالات اليومية، إنَّ الناس كانوا في يوم ما يسافرون على ظهور الحيوانات، واليوم بوسائط النقل السريعة، وكلا هذين التعبيرين (يومٌ، واليوم) إشارة إلى حقبة طويلة، ونقرأ في الحديث المعروف عن أمير المؤمنين عليه السلام: «واعلَمْ بأنَّ الدَّهرَ يومانِ:
يومٌ لكَ ويومٌ عليك» «3».
بل إنّ الدنيا كلها عُدَّت يوماً واحداً، وكذلك كل الآخرة في بعض العبارات، فيقول أمير المؤمنين عليه
السلام: «وإنَّ اليوم عملٌ بلا حساب، وغداً حسابٌ بلا عمل».
والبيتان المعروفان عن الشاعر كليم الكاشاني تعبير لطيفٌ في هذا المجال، وهذه
__________________________________________________
(1) الفرقان، 59؛ السجدة، 4؛ ق، 38؛ الحديد، 4؛ الاعراف، 54؛ هود، 7.
(2) المادية التاريخية، ص 87.
(3) نهج البلاغة، الرسالة 72.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 133
ترجمتهما العربية:
إنَّ الحياة سيئة الصيت يومان ليس اكثرَ (كليم) فدَعْني اخبركَ كيف مضت؟ فيومٌ مرَّ بتعلُّقِ القلبِ بهذا وذاك ويوم آخر مضى بانقطاع القلب عن هذا وذاك وعليه فانَّ المقصود من خلقِ السماوات والأرض في ستة أيّام هو ست مراحل، وقد تمتد كلُّ مرحلةٍ من هذه المراحل ملايين أو آلاف الملايين من السنين، ومن الواضح عدم توفُّرِ أيِّ دليلٍ يعارض هذا التحديد من الناحية العلمية «1».
ولكن من المحتمل أن تكون هذه المراحل الست حسب التسلسل الآتي:
1- مرحلةٌ كانَ العالمُ كلَّه فيها مجاميعَ عظيمةً جدّاً من الغازات التي تدور حول نفسها.
2- مرحلةُ انفصال هذه الغازات عن بعضها والدوران حول محور المجموعة المركزية.
3- المرحلة التي فيها شكَّلت بعض هذه المجاميع بسبب دورانها حول نفسها منظوماتٍ كمنظومتنا الشمسية.
4- المرحلة التي تكونت فيها الأرض واستعدت للحياة، وظهرت عليها المياه، وتكونت البحار.
5- مرحلةُ ظهور الأشجار والنباتات وتهيئة الأقوات والأطعمة على الأرض.
6- مرحلة ظهور الحيوانات وبعدها الإنسان على الأرض.
والمسألة الجديرة بالاهتمام هي أنّ من بين الآيات السبع التي بَينَت خلق السماوات والأرض في ستة أيّام، تمّت الإشارة في أربع آياتٍ منها فقط إلى خلق السماوات والأرض في ستة أيّام «2».
وفي ثلاث آيات ورد خلق السماوات والأرض وما بينهما «3».
وفي آية واحدة فقط اشير بشكلٍ عامٍ إلى تفصيل هذه المراحل الست، فمرحلتان لخلق
__________________________________________________
(1) ذُكِر أيضاً في كتاب القاموس المقدَّس الذي هو
شرحٌ لمفاهيم التوراة والانجيل، شرحٌ فيما يخص خلق السماوات والأرض في ستة أيّام حيث يشبه ما ورد أعلاه في بعض الجوانب بالرغم من اختلاطه ببعض الخرافات كاستراحةِ اللَّه في اليوم السابع (القاموس المقدس، ص 84 كلمة الخلق).
(2) الحديد، 4؛ الاعراف، 54؛ يونس، 3؛ وهود، 7.
(3) الفرقان، 59؛ السجدة، 4؛ ق، 38.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 134
الأرض، وأربعة مراحل لإيجاد النباتات والحيوانات: «الَّذِى خَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ... وَقَدَّرَ فِيْهَا اقْواتَها فِى أَرْبَعَةِ ايَّامٍ». (فصلت/ 9- 10)
بناءً على ذلك، فانَّ المراحل الست أعلاه تتعلق بخلق السماوات والأرض وموجوداتهما المتنوعة «1».
وتقول الآية السابعة من البحث إنّ هذا المعنى مسلمٌ به حتى لدى الوثنيين وهو: إنَّ اللَّه تعالى هو خالقُ السماوات والأرض، ومسخرُ الشمس والقمر، وأنّ هؤلاء يفهمون أنَّ هذا العالم الجبار والنظام العجيب لا يمكن أن يكون مِنْ خلقِ الأصنام، بل إنّ ضميرهم يحكُمُ بانَّهُ مِنْ خلقِ اللَّه العالمِ القادر: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللَّهُ».
وعليه فليس العلماء والمفكرون وحدهم الذين يصلون إلى معرفة الذات الإلهيّة المقدّسة من خلال التفكر بأسرار الخلق، وإنّما الوثنيّون الجهلاء كذلك يعرفون بشكلٍ عام الذات المقدّسة من خلال مشاهدة هذا النظام بالرغم من أنّهم يتيهون في وادٍ من الشرك بسبب الخرافات والجهل المحيط بهم.
ومع أنّ الآية الثامنة تقصدُ مسألة المعاد والقيامة بدلالةِ الآيات التي تليها وتقول إنّ القادرَ على خلق السماوات والأرض بهذه العظمة، قادرٌ على أن يحييَ الموتى لأنَّ خلق السماوات والأرض أصعب وأعقد من خلق الإنسان، لكنها مع ذلك دليلٌ واضحٌ على مسألة معرفةِ اللَّه أيضاً، لأنَّ وجودَ الإنسان بل وحتى عضو واحد من أعضاء جسمه كالعين والاذن،
__________________________________________________
(1) ومن للتوضيحٍ أكثَر في
هذا المجال يراجع التفسير الأَمثل ذيل الآيات 54 الاعراف؛ و 10 فصلت).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 135
بل حتى بناء خليةٍ واحدةٍ من خلايا هذه الأعضاء بكل ما فيها من التعقيد والابهام والأسرار والأنظمة يمكن أن يكون من آيات اللَّه تعالى بناءً على ذلك فانَّ (خلق السماء والأرض الذي هو أكبرُ وأعظم من خلق الإنسان أوضحُ برهانٍ على عظمة اللَّه تعالى «لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ».
ومن المؤكد أنّ خلق الإنسان إذا ما قيسَ مع كل جزء من أجزاء هذا العالم فانه يُرجح عليه، إلّاأنَّه إذا قيس بكل السماوات الواسعة والأرض، فمن المسلَّم به أنّ السماوات والأرض يرجح خلقُها على خلق الإنسان.
والظريف أنّ القرآن الكريم حينما جاء بهذا التصريح لم يكن للناس حينذاك- ولا سيما المتخلّفين في الحجاز- معرفة بعظمة السماوات، ولعلهم كانوا يظنّون أنّ السماء سقفٌ أزرق اللون قريبٌ منهم، وقد تمّ تثبيته بواسطة مسامير فضية وهي النجوم!
أجَلْ ... إنّنا اليوم ندرك جيداً المفهوم العميق لهذه الآية، لأنَّ العلماء تفحّصوا هذه السماء الواسعة من خلال المراصد الفلكية العملاقة، وقد زودونا بأسرار وعجائب مذهلة عن عظمتها والنظام السائد فيها، ومن أين ندري أنّ ما يشاهدونه اليوم لا يبلغ معشار عظمة هذا العالم، ولعل هذه الحقيقة تتضح غداً للملأ، لهذا يقول تعالى في آخر الآية: «وَلكِنَّ اكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُوْنَ» «1».
وفي الآية التاسعة تمَّ جمع دورةٍ كاملةٍ من دروس التوحيد ومعرفة اللَّه في استفهامٍ إنكاريٍّ حيث يقول: «أَفِى اللَّهِ شَكٌ فَاطِر السَّمَواتِ وَالأَرْضِ».
والجدير بالاهتمام هنا أنّ كلمة «فاطر» تعني المشَقِق، وجاء استخدام هذا التعبير إمّا بسبب تمزيق حجاب العدم والظلمة أثناء خلق السماوات والأرض وإشراق نور الوجود في
__________________________________________________
(1) ما معنى «لا يعلمون» هنا؟ هناك
احتمالات مختلفة: أولها هو: أنّ الناس يجهلون عظمتها قياساً مع الإنسان، والآخر أنّهم يجهلون القدرة الإلهيّة اللامتناهية، والثالث، أنّهم يجهلون قدرته على مسألة المعاد، أو يعلمون، وحيث إنّهم لا يفصحون عن علمهم هذا، فهم في حكم الجهلاء (ولكن لا يُستبعد أن تجتمع كل المعاني الثلاثة الاولى في الآية وكما قالوا بأنّ حذف المتعلق دليل على العموم).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 136
خلق السماوات والأرض، أو إشارةٌ إلى ما يُعرفُ اليوم لدى علماء الفلك حيث إنّ جميع هذه الأجرام والمنظومات كانت في اليوم الأول على هيئة مجموعةٍ كبيرة مرتبطة ببعضها، وانفصلت عن المركز نتيجة لحركتها حول نفسها وبتأثير القوة الدافعة لها عن المركز، والقت بقطعٍ منها إلى الخارج وظهرت المنظومات والمجرّات الثابتة والسّيارة «1».
على أيّة حال، سواء كان المشركون هم المخاطَبون في هذه الآية أو منكرو وجود اللَّه تعالى أو كلاهما، فانّه يستفاد من هذه الآية الكريمة هذه الحقيقة، وهي أنّ الَّتمعنَ في خلق السماوات والأرض يكفي لأنّ يقتلع كُلُّ نوعٍ من أنواع الشك والريب في وجود اللَّه ووحدانيته وقدرته من قلب الإنسان.
ويشير في الآية العاشرة إلى خاصّية اخرى من خصائص السماء والأرض إذ يقول تعالى «وَالسَّمَاءَ بَنَيْناهَا بِأَيْيْدٍ».
فمن المسلَّم بهِ أنّ خلقَ مثل هذه العوالم الجبّارة يستلزم قدرةً مناسبةً له، وهي قدرة الباري عزّ وجّل وحدها.
ويضيف فيما بعد «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ».
وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرين اعتبروا ذلك بمعنى توسعةِ الرزق عن طريق هطول المطر وغيره «2» لكن يبدو أنّ للآية معان بالغة الأهمية والدقّة، حيث اتّضح ذلك لعلماء عصرنا الحاضر، وقد اميط اللثام عن معجزة من المعجزات العلمية للقرآن، وهي أنّ العالم في حال اتساع وبصورة مستمرة، وأنّ النجوم والمجرات والأجرام تبتعد عن بعضها بشكل سريع.
__________________________________________________
(1)
يقول الراغب في المفردات: «فَطْر» على وزن «سَتْر» أي الشَّقُ طولياً، ثم جاءت بمعنى الايجاد والإبداع، و «فِطْر» (على وزن مِتْر) تعني الافطار وترك الصيام، وكأنَّ الصيام ينفطر، (والفطرة تعني الخلقة وهي مأخوذة من هذه المادة أيضاً).
(2) وقد فسَّر بعض المفسرين لفظة (موسعون) بمعنى (قادرون) أيضاً، لأنّه مفردة (الوسع) تأتي أحياناً بمعنى «القدرة»، أمّا مفهوم «التوسيع» فهو أوضح.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 137
يقول أحد العلماء المعروفين ويُدعى (جورج غاموق) في كتابه (بداية ونهاية العالم):
«يمُّر فضاءُ الكون الذي يتألف من مليارات المجرّات بحالةٍ من الامتداد السريع، والحقيقة هي أنّ عالَمَنا ليس ثابتاً بل إنَّ اتساعَهُ مسلَّمٌ به، والوقوف على كون عالمنا يمرُّ بحالةٍ من الاتساعِ يهي ء لنا المفتاح الحقيقي لكنوز أسرار النظرية الكونية، فلو أنّ العالَمَ يمُّر اليومَ بحالةٍ من الاتساع والامتداد فهذا يعني أنّه كان يمرُ بحالةٍ من الانكماش الشديد في عابر الازمان» «1».
وممّا يبعث على الدهشةِ أنَّ هذا التوسعَ يسيرُ سريعاً بالقَدرِ الذي يقول عنه (فورد هوفل) في كتاب (حدود النجوم): «لقد تم قياس اقصى سرعةٍ لتباعد الكرات حتى الآن بما يقارب 66 ألف كيلو متر في الثانية، وتُدَللُ الصور الملتقطة عن السماء على هذا الاكتشاف المهم بوضوح، حيث إنَّ الفاصلة بين المجرّات النائية تتضاعف بسرعةٍ أكثر من المجرّات القريبة!» «2».
فأيُّ قوةٍ عظيمة تكمنُ وراء هذه الأجرام والمنظومات الجبّارة حيث تُبعدها عن مركز العالم بهذه السرعة النادرة من دون أن تتلاشى على اثر هذه الحركة؟!
ثم يشير إلى الأرض فيقول: «وَالارْضَ فَرَشنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ».
فالتعبير ب «الفرش» من ناحيةٍ، و «الماهد» من مادة (مهد) من ناحيةٍ اخرى إشارةٌ إلى التغييرات الكثيرة التي حصلت منذ بداية تكوين الأرض، وتهيئتها لحياة الإنسان، وجعلها كالمهد أو فراش الراحة.
كل
هذه دلائل على ذلك العلم والقدرة الأزلية.
ونقرأ في الآية الحادية عشرة تعبيراً جديداً حول خلق السماء إذ يقول: «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظًا».
__________________________________________________
(1) بداية ونهاية العالم، ص 77 (مع الاختصار).
(2) حدود النجوم، ص 338.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 138
فهل هناك سماءٌ في العالم على هيئة سقف يُحفظُ من نفوذ الكائنات الخارجية؟ نعم ..
فالسماء هنا يمكن أن تكون إشارة إلى الفضاء الذي يحيط بالأرض ويبلغُ سمكُهُ مئات الكيلو مترات، فهذه الطبقة التي تتألف من الهواء المضغوط اللطيف وبقية الغازات المحيطة بجوانب الكرة الأرضية على هيئة سقفٍ دائري، قويةٌ بالقدر الذي يصفها بعض العلماء بأنَّ لها مقاومةً بقدر سقفٍ فولاذيٍّ بسُمكِ عشرة أمتار، وهي لا تمنع نفوذ الاشعاعات المدمرة فحسب، بل تمنع سقوط الصخور الفضائية التي تنجذب نحو الأرض باستمرار، لاصطدامها بهذه الطبقة الجوية بسرعتها الخارقة، فتكون مانعاً لحركة تلك الصخور، كما ويؤدّي هذا الاصطدام إلى احتراق تلك الصخور وانصهارها.
فلو لم تكن هذه الطبقة الجوّية العظيمة لأصبح أهلُ الأرض عُرضةً للملايين من قذائف الصخور الفضائية الصغيرة والكبيرة ليلَ نهار، فماذا سيحصل؟ وهل يكون هناك وجودٌ للاستقرار في «مهد الأرض»؟ وهل سيكون اسمُ المهد والمرقدِ لائقاً بها؟.
لا ضير أن تقرأ هذا الكلام الوارد على لسان عالمٍ معروفٍ يُدعى (فرانك آلن) حيث يقول في كتابه (النجوم للجميع): «إنَّ الجوَّ الذي تألَّفَ من الغازات التي تحفظ الحياة على سطح الأرض له من المقدار والسمك «بحدود 800 كم» بحيث يستطيع أن يكون كالدرع للأرض يصونها من شر اصطدام 20 مليون صخرةٍ فضائيةٍ مدمرةٍ تبلغ سرعتها 50 كيلو متراً في الثانية يومياً!» «1».
صحيحٌ أنّ وزنَ بعض هذه الشهب التي تتقاطر نحو الأرض يعادل 1000 1 من الغرام إلّا أنَّ القوة الناتجة
عن سرعتها تعادل قوة انطلاق ذرات القنبلة النووية! .. وقد يبلغ حجمُ ووزن بعض هذه الشُهُب مقداراً كبيراً بحيث تجتاز هذه الطبقة وتصيب الأرض، ومن الشهب التي اجتازت الغلاف الغازي ووصلت إلى الأرض شهاب «سيبريا» العظيم المعروف الذي أصاب الأرض عام 1908 م وكانَ قطرُهُ بقَدْرٍ كبيرحيث احتلَ (40 كم) تقريباً من الأرض، وأدّى إلى حدوث اضرارٍ جسيمة «وكأنَّ اللَّه تعالى يُنذُرنا بهذا
__________________________________________________
(1) النجوم للجميع، ص 74.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 139
الاسلوب .. لنتصور حالنا فيما لو تعرضنا لقصف الصخور السماوية يومياً».
فلو كان الغلاف الجوي حولَ الأرض بشكل أرقُّ مّما هو عليه «لأصابت الأرضَ يومياً عدةُ ملايين من الأجرام السماوية والشُهب الثابتة، كما يقول (غرسي مورسِن) مؤلف كتاب (سرُّ الخَلْق): «ولم تَعُدِ الأرض صالحةً للحياة» «1».
ولا ينبغي طبعاً نسيانُ الآثار المدمِّرة الناتجة عن اصطدام الأشعة فوق البنفسجية بالأرض في حالة عدم وجود هذا الغلاف فهي أكثر بكثير من أخطار آثار هذه الصخور، ولعلَّ هذا الأمر كان السبب في أن يقول الباري تعالى في نهاية الآية: «وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضوُنَ».
ويشير في الآية الثانية عشرة والأخيرة إلى خاصِيةٍ اخرى من خصائص السماوات، وهي من المعجزات العلمية للقرآن الكريم إذ يقول: «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا».
ويبرهنُ هذا التعبير على أنَّ للسمَوات عموداً إلّاأنّهُ غيرُ قابل للرؤيةِ، فهو عمود غيرُ مرئيٍّ، فايُّ شي ءٍ يمكنُ أنْ يكونَ هذا العمود سوى توازن قانون «الجذب» و «الدفع»، أي «القوة الدافعة المركزية»؟ أجَلْ إنّ تعادل الجذب والدفع هذا هو عمود قويٌ بحيث يرفع جميعَ كُرات المنظومة الشمسية وبقية المنظومات في مداراتها بإحكام، مع أنّه غيرُ مرئيٍّ، كما ويمنع تساقطها على بعضها، أو الابتعاد عن بعضها فيختَلُّ نظامُها.
وينبغي الانتباه إلى أنّ
«عَمَدْ» (على وزن صَمَدْ) اسمُ جمع من مادة «عمود»، ولو أراد القرآن أن يقول: «إنَّ السماءَ مرفوعة بلا عمد»، لكان يكفي أن يقول: «رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ»، إلّاأنّ اضافة عبارة «تَرَوْنَها» يُدلُ على أنّ المقصود هو نفي الاعمدة المرئية، ويستلزمُ ذلك إثبات العمود اللامرئي.
__________________________________________________
(1) سرُ خلق الإنسان، ص 34.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 140
لذلك نقرأ في الحديث المشهور عن الإمام الرضا عليه السلام حيث كان يتحدث إلى بعض الجهلاء الذين كانوا يقولون: إنَّ السماء بلا عمود، فقال الإمام عليه السلام: «سبحان اللَّه أليسَ اللَّهُ يقول بغير عَمَدٍ تَرَونَها»، ويجيب ذلك الشخص بنعم، فيقول الإمام عليه السلام مباشرة: «ثَمَّ عَمدٌ ولكن لا تَرَوْنَها» «1».
وقد رُوي هذا المعنى بتعبير «عمود من نور» في حديثٍ شيِّقٍ لأمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «هذه النجوم التي في السماء مدائنُ مثل المدائن التي في الأرض مربوطةٌ كلُّ مدينةٍ إلى عمودٍ من نور» «2».
والذى يثير الانتباه هنا هو بالرغم من أنّ قانون الجذب والدفع لم يكن مذكوراً في تفاسير القدماء والسالفين، فانَّ منهم من فسَّر الآية كما ذكرنا آنفاً، حيث قال بوجود عمودٍ غير منظورٍ للسماء، بالرغم من أنَّ البعض عبَّر عن هذا العمود غير المنظور بقدرةِ اللَّه «3».
على أيّة حال، فهذه احدى آيات اللَّه العظيمة، حيث رفع السموات بهذه الأعمدة القوية غير المنظورة، والأنظمة المهيمنة على قانون الجذب والدفع، بحيث لو حَصَلَ أقلُّ تغييرٍ في هذه المعادلة، فسوف يختلُ توازنها أو تتصادم فيما بينها بشدة وتختفي أو تبتعد نهائياً وينفصم الارتباط بينها.
مع أنّ الآيات المتعلقة بخلق السموات والأرض في القرآن الكريم ليست محصورةً بما اوردناه آنفاً، وإذا تقررَ أنّ تُبحثَ كموضوعٍ مستقلٍ تحت عنوان: «السماء والأرض في
__________________________________________________
(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 278.
(2) بحار الأنوار، ج 55، ص 91؛ تفسير القرطبي ج 9 ص 279.
(3) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 247؛ تفسير روح المعاني، ج 13، ص 78؛ تفسير الكبير، ج 18 ص 232؛ و تفسير القرطبي، ج 5 ص 3508.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 141
القرآن الكريم» فانّها تؤلّف كتاباً مستقلًا «1»، إلّاأننا إخترنا هذه الآيات الاثنتي عشرة من بينها واوردناها، ومن المؤمل أن يفتَح هذا البحث- أي بحث معرفة اللَّه وآيات وجوده في هذا العالم الكبير- الطريق أمامنا، ويوضح لنا بأنَّ في هذا الخلق العظيم دلائل وافرة للسائرين في طريق اللَّه، يُمكنهم من خلال التمعن في هذا الكتاب العظيم الملي ء بالأسرار أَنْ يزدادوا قُرباً منه، وتُملأ أوعيةُ قلوبهم وأنفسهم من حُبِّهِ أكثر فأكثر، فيرددون هذا الكلام القرآني باستمرار: «رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هذا باطِلًا»!.
لا عِلْمَ لأحدٍ بحدود سعةِ وامتدادِ السماوات، إنّ الشي ء الذي نعلمه هو أنّه كلما ازداد علم وتفكير الإنسان وتطور فإنّ عظمة السماوات سوف تكون في نظره أكبر وسوف يكتشف أبعاداً جديدة عن عظمة السماوات وأسرارها، وتقول آخر معلومات علماء الفلك بهذا الخصوص:
«إنَّ منظومتنا الشمسية ترتبط ب «درب التبانة» التي هي في الواقع احدى المجرات، وقد توصلَ العلماء في بحوثهم إلى أنّها تتألف من مائةِ مليارد نجمة احداها شمسنا هذه والتي تُعتبر أوسطها حجماً (لا تَنْسَى أنّ الشمس أكبر من الأرض بأكثر من مليون مرّة)، وإذا ضَربنا هذا العدد بمائة تصبح النتيجة مائة مليون مليار، أي أنّ حجم مجموع كرات هذه المجرة يعادل الكرة الأرضية بهذا المقدار!.
وإذا أضفنا هذا العدد إلى العدد الذي اكتشفه العلماء في هذا العالم وفقاً لبحوثهم، وهو مليارد مجرّة على
الأقل، يقفُ العقل والعلم البشري متحيراً أمام عظمة الاله الذي خلقَ هذا العالم اللامتناهي، (تفحصوا الأرقام أعلاه وتفكَّروا في عظمتها).
علماً أنّ هذه الأعداد والأرقام هي ضمن حدود علم واطلاع البشر في الوقت الحاضر،
__________________________________________________
(1) في القرآن الكريم ذُكرت «السماء» أكثر من ثلاثمائة مرّة بصيغة مفردة أو جمع (السمَوات).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 142
وليس واضحاً ما سيُكتَشَفُ من معالم جديدة في المستقبل».
وهناك شهادةٌ لطيفةٌ جدّاً لمرصد (بالومار) بخصوص عظمة السماوات حيث يقول:
«في الوقت الذى لم تتمّ صناعة عدسة مرصد (بالومار) العملاق لم تكن سعة الدنيا حسب علمنا أكثر من 500 سنة ضوئية (والمقصود من السنة الضوئية هو مقدار المسافة التي يقطعها الضوء بسرعةِ ثلاثمائة الف كيلو متر في الثانية خلال سنة واحدة، وثلاثمائة الف كيلو متر في الثانية تعني الدوران حول الأرض سبع مرات خلال طرفة عين).
ولكن هذه العدسة ضاعفت دنيانا إلى الف مليون سنة ضوئية، وفي النتيجة تم اكتشاف الملايين من المجراّت الجديدة، حيث يبعدُ بعضها عنّا مليار سنة ضوئية، ولكن هناك فضاءً عظيماً مهيباً ومظلماً بحيث لم يُرَ شي ء من خلاله أبداً ويبعد الف مليون سنة ضوئية ... إلّاأنّ ممّا لا شك فيه هو وجود مئات الملايين من المجرّات في ذلك الفضاء المهيب المظلم حيثُ تُصانُ الدنيا من خلال جاذبية تلك المجرّات، ويُعتقد أنّ هذه الدنيا العظيمة التي نراها ليست سوى ذرةٍ صغيرةٍ متناهية من عالمٍ أعظمْ، ولسنا نقطع بعدم وجود عالمٍ آخر في مكانٍ آخر من الدنيا!» «1».
من المعروف أنّه كلما تعاظمت الموجودات فلابدّ من أنْ تتضاءل دقة القوانين السائدة فيها، بينما لا يصدقُ هذا المعنى على هذا العالم الشاسع أبداً، أي أنّه مع عظمته وسعته العجيبة وإثارته للجدل، فهو ذو
انظمةٍ دقيقةٍ وظريفة، ومن أجل إدراك هذه الحقيقة يكفينا الالتفات إلى المسائل الآتية:
أ) نحن نعلم أنّ الإنسان قد أفلحَ في نهاية المطاف أنْ يُنزلَ سفينة الفضاء بطاقمٍ يتألف من شخصين في النقطةِ التي حدّدها العلماء في كوكب القمر، ثم عادا إلى الأرض (تأمل
__________________________________________________
(1) مجلة الفضاء، العدد 56 فروردين 1351.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 143
جيداً ..) فعلى مدى الأيّام الثلاثة التي قضتها السفينةُ في قطع المسافة بين الأرض والقمر، كانت الأرض تدور حول نفسها وتغيرُ مكانها في السماء حول الشمس، وكوكبُ القمر كان يدور حول نفسه وحول الأرض أيضاً، فكم يجب أن تكون هذه الحركات مُنظمةً ودقيقةً ومحبوكة وثابتة بحيث يستطيع العلماء أن يحسبوا حسابَ هذه الحركات ويقدّروها من خلال العقول الالكترونية حتى تحط سفينةُ الفضاء في المكان الذي حددوه على سطح كوكب القمر، ومِنْ ثمَّ المكان الذي عيّنوهُ لعودتها إلى كوكب الأرض؟ فإذا اختلفت احدى هذه الحركات وتداخلت فيما بينها ونقصت أو ازدادت مقدار ثانيةٍ واحدةٍ فمن المسَّلم به أنّ حسابات العلماء سترتبك ويكون عملهم غير ناجح.
أجَلْ .. إنّ نظام عالم الوجود الدقيق هو الذي يمنح الإنسان فرصةَ القيام بمثل هذا العمل، أي الهبوط على سطح كوكب القمر وفي المكان الذي حددهُ.
ب) يستطيع علماء الفلك أن يَحْسُبُوا ويقدّروا أحداث المستقبل التي تتعلق ب «الخسوف» و «الكسوف» في الكرة الأرضية قبل عشرات السنين، وعدد ساعات الليل والنهار وشروق وغروب الشمس وبزوغ وافول القمر، وهذا يعود إلى التنظيم الدقيق لحركاتها ليس إلّا.
ج) كما اشرنا سابقاً أنّ قوة الجاذبية تجذب الأجرام السماوية نحو بعضها، بيد أنَّ القوةَ الدافعة التي تحصل من حركة الدوران والتي تسمى بالقوة الطاردة تُبعدها عن بعضها.
فإذا اريد أنْ تتحرك الكرة في مدارها
ملايين السنين حركةً دقيقة وفي مدارٍ معَّينٍ فيجب أن تتوازن هاتان القوتان تماماً، وهذا ما نعرفه أيضاً حيث إنَّ الجاذبيةَ تتناسب طردياً مع حجم الموجودات، وعكسياً مع الجذر التربيعي للمسافة بينها (فلو ازداد الحجم فانَّ الجاذبية تتضاعف، وإذا تضاعفت المسافات تضعفُ الجاذبيةُ طبقاً للمعادلة أعلاه).
وبناءً على ذلك فمن أجل أن تدور الأرض حول الشمس لمدةٍ طويلةٍ جدّاً في مدارٍ ثابت، ينبغي أن يكون حجم الشمس والأرض وكذلك المسافة بينهما، وسرعة حركةِ الأرض حول الشمس وفقَ حسابٍ دقيقٍ، كي يتمّ التوازن بينهما، وهذه المسائل ليست ممكنةً دون تَدَخُلٍ من عالم ذو علمٍ غيرِ متناهٍ وعقلٍ مدبرٍ.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 144
مايلفت النظر هو أنّ الحديث عن (السموات السبع) ورد في سبع آياتٍ من القرآن الكريم «1».
وتمّت الإشارة في احدى هذه الآيات إلى طبقات الأرض السبع أيضاً، حيث يقول تعالى «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَواتٍ وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ». (الطلاق/ 12)
ومن بين جميع التفاسير المختلفة التي ذُكرت عن السموات السبع، يظهر أنّ التفسير الصحيح هو أنَّ المقصود من «السموات السبع» هو المعنى الحقيقي للسموات السبع، أي السماء لا تعني الكرات، بل مجموعة النجوم والكواكب في العالم العلوي، والمقصود من العدد (سبعة) هو الرقم المعروف، وليس هو للكثرة.
إنَّه ما يظهر من الآيات الاخرى هو أنّ كل ما نراهُ من نجوم ثابتةٍ، وسيّارة، ومجرّات، وسُحُبٍ يتعلق (بالمجموعة السماوية الاولى وعليه فهناك ست مجاميع عظيمة اخرى (ست سموات) تلي هذه المجموعة العظيمة، حيث إنّ بعضها أكبر من البعض الآخر، وتلك خارجةٌ عن متناول علم الإنسان (لحد الآن على الأقل).
نقرأ في قوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنيا بِزِيْنةٍ الْكَواكِبِ». (الصافات/ 6)
وجاء في قوله تعالى «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيْحَ». (فصلت/ 12)
وورد هذا المعنى
أيضاً باختلافٍ طفيفٍ في الآية الخامسة من سورة المُلك.
والجدير بالذكر أنّ المرحوم العلّامة المجلسي قد ذكر هذا الاحتمال كأحد التفاسير لهذه الآية إذ يقول: «الثالث: ما خطر بالبال القاصر، وهو أن تكون جميع الافلاك الثمانية التي أثبتوها لجميع الكواكب فلكاً واحداً مسمى بالسماء الدنيا» «2».
__________________________________________________
(1) البقرة، 29؛ الاسراء، 44؛ المؤمنون، 86؛ فصلت، 12؛ الطلاق، 12؛ الملك، 3؛ نوح، 15 (واشيرَ في آيتين (المؤمنون، 17؛ النبأ، 12) إلى (سبع طرائق) وسبعاً شداداً أيضاً حيث يمكن أن يكونا إشارة إلى السموات السبع أيضاً.
(2) بحار الأنوار، ج 58، ص 78.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 145
صحيحَّ أنَّ معداتنا العلمية الحديثة لم تكشف الحجب عن العوالم الستة الاخرى غير أنّه ليس هنالك من دليل ينفيها من الناحية العلمية أيضاً، ويحتمل أن يكشف النقاب عن هذا السر في المستقبل.
بل يظهر من اكتشافات بعض علماء الفلك أنّ هناك الآن براهين تلوح في الافق عن وجود عوالم اخرى شبيهة لما نقلناه آنفاً عن مرصد (بالومار) الشهير فيما يتعلق بعظمة العالم، ونكرر الجملة التي تشهد على كلامنا هذا «تمّ اكتشاف الملايين من المجرّات الجديدة حيث يبعد بعضها عناّ مليارد سنةٍ ضوئية، لكن هناك فضاءً عظيماً مَهيباً ومظلماً لم يُرَ أيُّ شي ء من خلاله أبداً ويبعد مسافة مليار سنة ضوئية، إلّاأنّ ممّا لا شك فيه وجود مئات الملايين من المجرّات في ذلك الفضاء المهيب المظلم، حيثُ تصانُ الدنيا من خلال جاذبية تلك المجرّات، ويُعتقد أنّ هذه الدنيا العظيمة التي نراها ليست سوى ذرّةٍ صغيرةٍ متناهيةٍ من عالمٍ أعظمْ، ولسنا نقطعُ بعدمِ وجود عالمٍ آخر في مكان آخر من الدنيا» «1».
يقول أحدُ العلماء في مقالٍ كتبهُ حول عظمة عالم الوجود، بعد ذكر المسافات الهائلة
والمذهلة للمجرّات، وبيان الأرقام المدهشة المحددة طبقاً إلى السنةِ الضوئية ما يأتي:
«لا زال المنجمّون يعتقدون أنّهم لم يقطعوا سوى منتصف طريق ما يُمكنُ رؤيتُهُ من العالم العظيم، ولا زال عليهم اكتشاف فضاءات أُخَر غير مكتشفة» «2».
وعليه فإنّ العوالم التي تكشَّفت للبشر لحدّ الآن مع عظمتها ما هي إلّازاوية صغيرة من هذا العالم الكبير، وتصلح للمطابقة مع مسألة السموات السبع «3».
إنَّ كثرة ووفرة آيات اللَّه في عرض السموات، وجمال السماء في الليل، دَفَعَ القرآن
__________________________________________________
(1) مجلة الفضاء، العدد 56 فروردين 1351.
(2) مجلة (نيوز ويك) السنة 1964 (لا ينبغي أن ننسى إنَّ هذه الشهادة تعود إلى ما قبل 24 سنة).
(3) من أجل المزيد من الايضاح حول التفاسير المختلفة التي ذكرت فيما يخص السموات السبع، يُراجع التفسير الامثل (ذيل الآية 29 من سورة البقرة).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 146
الكريم والأحاديث إلى دعوة الناس باسرهم وخص المؤمنين منهم إلى التفكُّر في السموات من أجل كسب المزيد من الإيمان، فيقول القرآن الكريم في الآية 6 من سورة ق: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلىَ السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَالَها مِنْ فُرُوْجٍ»؟!.
وقد أمَرت الروايات «المستيقظين في الاسحار» خاصة، أن ينظروا إلى السماء أولًا حينَ ينهضون «لصلاة الليل»، وأن يقرأوا الآيات الاخيرة من سورة آل عمران التي تنعكس فيها جميعُ هذه الحقائق بنحوٍ عرفانيٍّ: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالارْضِ ...» ثم يتوجهون نحو العبادة (حيث يمتلي ء الدعاء بعطر التوحيد ومعرفة اللَّه) «1».
ورُويَ أنّ النبي صلى الله عليه و آله حينما كان يستيقظ لصلاة الليل يبتدى ء بالمسواك ثم يلقي نظرةً على السماء، ويردد هذه الآيات «2».
وورد في صفات أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً عن أحد أصحابه ويدعى (حبة العرنيّ) حيث
قال: «بينا أنا ونوف (أحد أصحاب الإمام علي عليه السلام) نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقية من الليل، واضعاً يديه على الحائط شبيه الواله، وهو يقول: «انَّ فى خَلْقِ السَّموات وَالارْضِ» إلى آخر الآية، قال: ثم جعل يقرأ هذه الآيات ويمّر شبه الطائر عقله، فقال لي: أراقدٌ أنت يا حبّة أم رامق؟ قال: قلت: رامقٌ هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى ثم قال لي: يا حبّة، إنّ للَّه موقفاً ولنا بين يديه موقف لا يخفى عليه شي ء من أعمالنا، يا حبّة إنّ اللَّه أقرب إليَّ واليك من حبل الوريد، يا حبّة إنّه لن يحجبني ولا إياك عن اللَّه شي ء ....» «3».
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 554 الآيات الأخيرة من سورة آل عمران.
(2) المصدر السابق.
(3) بحار الأنوار، ج 41، ص 22.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 147
مع أنَّ الشمسَ والقمر تُعدّانِ من كواكب وكرات السَّماء، وقد تمّ الحديث بشكلٍ منفصلٍ عن عظمة السموات، ولكن لقربهما من كرتنا الأرضية فانَّ لهما تأثيراتٍ جمَّةٍ على حياتنا، وقد أشار القرآن الكريم إليهما بشكل خاصٍ، ووصف كلًا منهما بآية عظيمةٍ من آيات اللَّه، وإشار إلى الفوائد الخاصة للنجوم إذ اعتبرها من آيات اللَّه، وأنَّ التفحُص في كلٍ منها لا سيما في ظل اكتشافات العصر من الممكن أن يوضح لنا عظمةَ الباري تعالى من جهةٍ وعظمة تعاليم القرآن الكريم من جهة اخرى
وبعد التمهيد المختصر نتأمل خاشعين في الآيات الشريفة الآتية:
1- «هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيآءً والْقَمَرَ نُوراً وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ». (يونس/ 5)
2- «أَلَمْ
تَرَوا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيْهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً». (نوح/ 15 و 16)
3- «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ دَائِبَيْنِ». (ابراهيم/ 33)
4- «وَسَخَّرَ الشَّمسَ والْقَمَرَ كُلٌ يَجْرِىِ لِأَجَلٍ مُّسَمّىً». (فاطر/ 13)
5- «ومِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمسُ والْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلقَمَرِ واسْجُدُوا للَّهِ الّذِى خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ». (فُصَلت/ 37)
6- «وَالشَّمْسُ تَجْرِىِ لِمُسْتَقَرٍ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزيْزِ الْعَلِيْم* والْقَمَرَ قَدَّرنَاهُ مَنازِلَ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 148
حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيْمِ* لَاالشَّمْسُ يَنْبَغِى لَهَآ أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ». (يس/ 38- 40)
7- «وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيلَ والنَّهَارَ والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».
(الانبياء/ 33)
8- «فَلَآ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ والْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ». (المعارج/ 40)
9- «كَلَّا وَالْقَمَرِ* واللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ* والصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ* إِنَّهَا لَإِحْدى الكُبَرِ».
(المدّثر/ 32- 35)
10- «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ والبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ». (الانعام/ 97)
بالرغم من أنّ زمان نزول الآيات المتعلقة بالشمس والقمر كان في وقت لا يملك فيه الإنسان إلّاالقليل من المعلومات عن هذين الكوكبين العظيمين، وتقارن نزول هذه الآيات مع شيوع الخرافات الكثيرة «وبالأخص في مهد نزول هذه الآيات» بالرغم من كل ذلك فإنّ القرآن أشار إلى القمر والشمس والنجوم بعظمة ملفتة للنظر، وذكر الكثير من خصوصياتها وبشكل عام فإنّ القرآن اعتبرها من آيات الحق الإلهيّة والبراهين على إثبات الذات المقدّسة.
فيقول تعالى في الآية الاولى التي نبحثها: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورْاً».
يقول بعضُ أربابِ اللغة (ومنهم الطريحي في مجمع البحرين) وعددٌ من المفسرّين: إنَّ الفَرْقَ بين «الضياء» و «النور» هو أنّ «الضياء» يُطلقُ على النور الذي ينبعث من ذات
نفحات القرآن، ج 2، ص: 149
الشي ء، ويُطلقُ النورُ على الضوء الذي يُكسبُ من الغير، وعليهِ فانَّ الآية أعلاه إشارةٌ لطيفةٌ إلى هذه المسألةِ حيث إنّ نورَ الشمسِ ينطلقُ منها، في الوقت الذي يحصلُ نورُ القمرِ عن طريق ضوء الشمس الذي يَشُعُ عليه، ويتحدث القرآن الكريم بهذا في زمانٍ لم يكن للناس اطلاعٌ عليه.
وممّا لا شك فيه أنّه لا يمكنُ انكارُ أَنَّ كُلًا من هذين المفهومين قد يُستعمل بمعنى اعمَّ من النور «الذاتي» أو «الاكتسابي»، ومشاهدة حالات استعمال هذين المفهومين في القرآن الكريم وفي كلامِ العربِ يَشْهَد على ذلك، وقد يكون لهما معنيان مختلفان فيما إذا تزامنا معاً، كما جاء في الآية أعلاه.
وورد هذا المعنى في الآية الثانية بتعبيرٍ آخر، فَبَعد الإشارة إلى خلق السموات السبع يضيفُ قائلًا: «وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوْراً وجَعَلَ الشَّمسَ سِراجاً» وقد عَبَّرَ عن الشمس ب «السراج» في آيتين اخريين من القرآن الكريم أيضاً (الفرقان/ 61، النبأ/ 13)، ونحن نعلمُ أنّ نورَ المصباح ينبعثُ من داخلهِ وليسَ مُكتَسباً من الخارج، وقد جاء في بعض نصوص اللُّغة أنّ الضياءَ أكثر شدةً من النور «1»، ولعلَّ هذا الاختلاف مُستَمَدٌ من الاختلاف الأول ويعود إليه «2».
على أيّةِ حالٍ، فقد اشيرَ هنا وقبل كل شي ءٍ إلى نور «الشمس» و «القمر» كآياتٍ حق من آيات اللَّه وبراهين على قدرته وآلائه جلَّ وعلا.
فالشمسُ بضوئها المشرقِ على الكون لا تقوم بتدفئة وانارة مهد الكائنات في العالم فحسب، بل لها نصيبٌ اساسيٌ في نمو النباتات وحياة الحيوانات.
__________________________________________________
(1) تفسير الكشّاف، ج 2، ص 329؛ و تفسير روح البيان، ج 4، ص 12.
(2) ينبغي الانتباه إلى أنّ «الضياء» يأتي بصيغة «المفرد» و «الجمع» أيضاً، ويعتقد بعض المفسرين أنّ له صيغة
الجمع في الآية أعلاه، وأنّه إشارة لطيفةٌ إلى تركيب ضوء الشمس من سبعة ألوان.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 150
واليوم قد ثبتت هذه الحقيقة، إذ إنَّ كلَّ حركةٍ تُشاهدُ في الأرض هي من بركاتِ ضوء الشمس، فلو فكّرنا بامعانٍ في حركة الرياح، والغيوم وأمواج البحار وجريان الأنهار، والشلالات، والحيوانات والناس لوجدناها تنبعُ من ضوء الشمس بدون استثناء.
ولو انطفأت الشَّمس وانقطعت هذه الاشعةُ التي تهبُ الحياة عن الأرض فسَيَعُمُّ الموتُ والسكوتُ والظلامُ كلَّ مكانٍ خلال فترةٍ قصيرةٍ جدّاً.
كما أنّ نور القمرِ الجميلِ لايعتبر مصباحاً في ليالينا الحالكة ودليلا؛ لقاطعي الصحراء ليلًا فقط، بل إنَّ نورَهُ اللطيف والمناسب يبعثُ الطمأنينةَ والنشاط لدى البشر بأسرهم.
ويرى بعضُ المزارعين أنّ (نور القمر) له دور حساس في نمو الفواكه والنباتات أيضاً.
وطبعاً أنّ كل ما ذكرناه يختصُ بنور الشمس والقمر فقط، وسنقوم ببحث ما يخص بقية بركاتهما بشكلٍ مستقلٍ.
ثم يشيرُ القرآن الكريم في نهاية هذه الآية إلى احدى البركات والفوائد المهمّة لهاتين الكرتين السماويتين حيث يضيف: «وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَالْحِسابَ».
فالقمرُ بسيرِهِ المنَّظم، وحركته الدقيقة يُعتبر تقويماً واضحاً وحيّاً وطبيعياً للغاية، تَسهُلُ قراءَتُه على العالم والجاهل، ويُنَظِّمُ برامج حياته على اساسهِ، ولو أمعّنا التفكير لوجدنامسألة تنظيم حياة الإنسان ترتبط بقوةٍ بحساب السنين والشهور ووجودِ تقويمٍ طبيعيٍ، حيث يتكفلُ القمرُ والشمسُ ودوران الأرض المنَظَّم حول نفسها وحول الشمس بانجاز هذا الدور، وأنَّ التقويمات الحالية التي نُظِّمت استناداً إلى حسابات المُنجمِّين لا تنفعُ إلّاالذين لديهم إمكانية فهمها، والتقويم الوحيد المفهوم والمعلوم والمفيد للجميع هو التقويم الطبيعي الذي يتوفر لدينا من حركة القمر، منذ مرحلة (الهلال) وحتى وصوله إلى مرحلة (البدر الكامل)، ومن ثمَّ إلى (المحاق)، ولو تفحَّصَ الإنسان قليلًا لاستطاع أنّ يُحدِّدَ ليالي الشهر
من خلال ملاحظة حجم القمر، لأنَّ القَمَر لا يستقر على حالٍ واحدة في السماء على مدى ليلتين أبداً، ولعلَّ تنظيم العبادات الإسلامية وفقاً للأشهر القمريةِ نابعٌ من هذا الأمر.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 151
وكل هذه الدوافع ادّت إلى أن يقولَ القرآن الكريم في نهاية هذه الآية: «يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ».
والحديث في الآية الثالثة والرابعة عن تسخير الشمس والقمر للإنسان: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ».
بَيْدَ أنَّهُ عبَّر في الآية بكلمة «دائبَيْن» أي (الحركة وفقاً لسُنَّةٍ ثابتةٍ) «1» وفي الاخرى ورد تعبير «كُلٌ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسمّىً» أَيْ «إنَّ كُلًا منهما يستمر في حركته إلى حدٍ مُعيَّنٍ».
وهذه الجملةُ تشيرُ إلى أنّ حركةَ الشمس والقمر ستنتهي على المدى البعيد، ويتغير نظام المنظومة الشمسية بعد ملايين السنين، وهذا بحد ذاته أحد المعجزات العلمية للقرآن الكريم.
وفي الحقيقةِ أنّ المقصود بحركة الشمس هو دوران الأرض حول الشمس طبعاً، لأنّ ما يظهر للعيان أنّ الشمس هي التي تتحرك، حيث إنَّ الأرض في الواقع هي التي تُوجدُ هذا الشعور لدى الإنسان، إذ إنّ الشَّمسَ تتحرك باستمرار مع المنظومةِ الشمسية داخل المجرّات، وسوف نشير إلى ذلك لاحقاً.
والمقصود بتسخير الشمس والقمر وبقية الكائنات التي يعتبرُها القرآن الكريم مسخَّرَةً للإنسان، هو أنّها تتحرك في مجال مصالح الإنسان وخدمته، فكما قُلنا سابقاً أنّ لضوءِ الشمس والقمر دوراً مهماً في حياة الإنسان وكافة الكائنات الحيّة، لا سيما ضياء الشمس إذ تستحيلُ الحياةُ على سطح الأرض بدونه لحظةً واحدةً، وحتى في الليالي المُظلمة فاننا نستفيدُ من الحرارة المتبقية عن ضوة الشمس في الأرض والجو ولولاها لانجمدت الكائنات الحيَّةُ بأسرها، إضافةِ إلى الفوائد الاخرى كالمدِّ والجَزرِ في المحيطات، فهو مصدرٌ للكثير من الخدمات، وسنشير إلى ذلك في بحث آياته في البحار- إن
شاء اللَّه-، وكذلك وضع تقويمٍ طبيعي وخدمات اخرى
__________________________________________________
(1) «دائبين» من مادة «دؤوب» وتعني استمرار العمل وفقاً لعادةٍ وسُنَّةٍ دائمةٍ وهو تعبيرٌ للحركة المنظمة والمتَسّعةللشمس والقمر، ولا يُعتقدُ بوجودِ تعبيرٍ أفضلَ من هذا التعبير.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 152
وبلا شك فإنّ ما نعرفه اليوم من بركاتِ الشمس والقمر أكثر ممّا كان يعرفه السالفون والمخاطَبون بهذه الآيات عند نزولها، ولهذا فانَّ دروس التوحيد التي نقرأها على صفحاتها أكثر ممّا كان يقرأُه السابقون، لهذا يقول في نهاية هذه الآية: إنّ ربَّكُم هو الذي سخَّر لكم كلَّ هذه الموجودات، أمّا الذين تدعونَ من دونه فهم لا يملكون الحكمَ والمُلكَ في هذا العالم بقدَرِ قشرةِ نواة التمر: «وَالَّذِينَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيْرٍ» «1»
.
وقد عبرت الآية الخامسة بصراحةٍ عن خلقِ الليل والنهار والشمس والقمر ووصفت هذه الظاهرة بأنَّها من آياته، إلّاأنَّهُ يأمُرُ في نفس الوقت بضرورة عدم الاعتقاد بانَّ هذه هي الإله كما يتصور عبدة الشمس والقمر .. كلا ..: «لَاتَسْجُدُوْا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُوْنَ».
وهنا نرى الدقة التي يتحدث بها القرآن الكريم، إذ إنّ ذكر القوائد المختلفة للشمس والقمر والليل والنهار وكافة الموجودات في هذا العالم من شأنه أن يترك أثراً في أذهان ذوي العقول الضيقة ويتصورون بأنّهم مدينون للنعم التي اسبغتها عليهم هذه الموجودات فيسجدون لها ويخضعون ويعظمونها، وهذا ما ابتلى به الوثنيون على مر التاريخ، لكن القرآن يقول لهؤلاء: افتحوا أعينكم جيداً وانظروا بدقّة وتبحر، وعندها سترون من وراء الحجب العلل، وسترون الذات القدسية لعلة العلل وعندها سوف تعفرون جباهكم بالسجود إليه وسوف لن تخدعكم أو تضلكم هذه المظاهر.
ويتحدث في الآيتين السادسةِ والسابعةِ عن حركة الشمس والقمر
ومنازلهما، ويصرَّحُ
__________________________________________________
(1) «القطميرُ»، بتعبير بعض المفسِّرين هو القشر الخفيف الذي يغطي نواة التمر، ويقول البعض إنّه النتوء الصغير الموجود خلف نواة التمر، وعلى اية حالٍ فهو كنايةٌ عن موجودات متصاغره ودنيئة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 153
في نهاية هاتين الآيتين بأن كلًا من هذين الجُرمين يسبح في فلكهِ ومداره وخطه: «وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» «1»
، وهذه التعابير من عجائب القرآن من ناحيةٍ، ومن عجائب عالم الخلقِ وعلمِ وقدرةِ البارى تعالى من ناحية اخرى
وتوجد هنا عدةُ تفاسير لما تَعنيه جملة «وَالشَّمْسُ تَجْرِى» ومفهوم «لِمُسْتَقرٍ لَهَا».
اولها: إنّ المقصودَ هي الحركة الظاهرية للشمس التي تبدأ منذ شروق الشمس وحتى استقرارها عند الغروب، حيث يظهر للعيان أنّها تختفي (ونعلمُ جيداً إِنَّ حركة الأرض حول نفسها هي التي تُجسدُ لنا مثل هذه الظاهره في الواقع).
الثاني: إنّ المقصود هي حركات الشمس المحورية، حيث تنحرف نحو الجزء الشمالي للكرة الأرضية مع بداية فَصل الربيع، وتستمر هذه الحركة حتى بداية فصل الصيف حيث تستقر (في النصف الشمالي للكرة الأرضية) محاذية لمدار السرطان 23 شمالًا وهو ما يصطلح عليه بالميل الاعظم الشمالي، ثم تبدأ حركتها نحو الجنوب وتصل إلى محاذاة خط الاستواء أوائل فصل الخريف، ثم تنحرف نحو جنوب الكرة الأرضية، وتستمر هذه الحركة حتى بداية فصل الشتاء حيث تصل إلى محاذاة مدار رأس الجدي 23 جنوباً ويعبّرون عن هذا الانحراف بالميل الأعظم الجنوبي، ثم تبدأ حركتها نحو الشمال وتكون بمحاذاة خط الاستواء في فصل الربيع.
بناءً على ذلك فانَّ المقصود من جريان الشمس هو هذا الانحراف نحو الشمال والجنوب، والمقصود من المستقر هو آخر نقطةٍ للانحراف الجنوبي والشمالي أي (مدار رأس السرطان ومدار رأس الجدي).
والمعروف (طبعاً) أنّ هذه الحركةَ ناتجةٌ عن دوران
الأرض حول الشمس ومع الأخذ بنظر الاعتبار انحراف محور الأرض بمقدار 23، ولكن ما يبدو لنا هو أنّ الشمس لها مثل هذه الحركة.
الثالث: المقصود هو الحركة الموضعية للشمس حول نفسها، فقد ثبت اليوم أنّ الشمس
__________________________________________________
(1) «يسبحون» من مادة «سباحة» وتعني الحركة السريعة في الماء أو الهواء (مفردات الراغب).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 154
تدور حول مركزها أيضاً (إِذ ذكَرُوا أنّ مدّة هذه الحركة في دورةٍ كاملةٍ تعادل 25 يوماً ونصف اليوم)، وفي هذه الحالة ستَكون اللام في «لِمُسْتَقرٍ لَهَا» بمعنى (في) أي أنّ الشمس تتحرك في مكانها (وطبعاً فقد اشكَلَ بعض المفسّرين على هذا التفسير باعتباره لا يتناسب مع مفهوم كلمة جريان).
الرابع: المقصود هو حركة الشمس في أبراج السماء على مدى أشهر السنة، والتي تقابل في كل شهر أحد هذه الصور الفلكية الاثنا عشر ومن هنا تظهر السنة باثنتي عشر شهراً بعدد هذه الابراج «1»، وعليه فانَّ المقصود من المستقر هو نهاية هذه الدورة.
الخامس والسادس: الحركتان اللتان اكتشفهما العلماء مؤخراً للشمس، إحداهما مع مجموعة المنظومة الشمسية في دورتها حول مجرتنا التي تأخذها باتّجاه إحدى الصور الفلكية المعروفة ب (صورة الجاثي) الواقعة في جهة الشمال بالنسبة للشمس، إذ تقطع أثناء هذه الحركة أكثر من (600 مليون كم سنوياً) وهذا ما يشبه تماماً جلوس مجموعةٍ في طائرةٍ وانشغالهم بالدوران حول مركزٍ واحدٍ بينما تسير الطائرة بسرعةٍ نحو اتجاهٍ ما، وقد تكون حركةُ الطائرة هادئة وخفيفة بالقدر الذي لا يحس الإنسان بهذه الحركة السريعة.
والحركة الاخرى هي دوران المنظومة الشمسية مع بقية المجرّات حول المركز الأصلي لهذه المجرّات التي نرتبط بها، وممّا يثير العجب فقد ذكروا أنّ سرعة هذه الحركة المذهلة تقدر ب 900 الف كيلو متر في
الساعة (بل أكثر من ذلك قليلًا) «2».
وطبقاً لهذا التفسير فانَّ المقصود من المستقر هو المستقر الذي تبلغه الشمس عند نهاية العالم وحلول القيامة، حينها تصبح الشمس بلا ضياءٍ ويزول نظامها.
و (طبعاً) لا تتعارض هذه التفاسير مع بعضها، فيمكن أن تجتمع كلُ هذه التفاسير الستة
__________________________________________________
(1) المقصود من «البرج» هنا مجموعة النجوم المتجمّعة والتي تكوِّنُ شكلًا خاصاً، والابراج الاثنا عشر كما يلي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.
(2) راجعوا كتاب العوالم البعيدة، ص 293؛ وتسخير النجوم، ص 392.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 155
في مفهوم هذه الآية، لأنّ حركة كل من الأرض والشمس ليست نوعاً واحداً.
وتعبير «يُسبِّحون» تَعبيرٌ لطيفٌ حيث يعبّر عن حركة الشمس والقمر السريعة والرقيقة والمتوازنة في نفس الوقت.
وذكر في الآيات أعلاه منازل معينة للقمر حيث قال: «وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنازِلَ».
والمقصود تلك المنازل الثمانية والعشرون التي يطويها القمر كل شهر منذ بداية مرحلة الهلال وحتى المحاق (الظلام المطلق)، وفي الليلة الثامنة والعشرين يظهر ثانيةً على هيئة هلالٍ أصفر رفيع جدّاً وقليل الاشعاع والنور ويبقى ليلتين حيث يقال له (محاق) إذ تتعذر رؤيتُه.
ويشبِّهُ القرآنُ الكريمُ هلال آخر الشهر ب «العُرجُونِ القَدَيِم» «1»
، وهذا التعبيرُ لطيفٌ وجذّاب للغاية من عدة وجوه.
ونختتم هذا البحث الذي قد طال بعض الشي ء بذكر هاتين المسألتين:
أولًا: إنّ المقصود من الفلك في الآيات المذكورة هو المعنى اللغوي وليس المعنى الذي يقصده علماء الفلك في قديم الزمان، لأنّ الفلك في اللغة يعني مدار النجوم، وأحياناً يقال لكل موجود يشبه الدائرة ويكون عالياً من أطرافه.
ويعتَقد «الراغب» أنّها في الأصل من مادة «فُلْك» (على وزن قُفْل) والتي تعني «السُفن»، لأنَّ السفن لها حركات دائرية أثناء مسيرها في البحار.
ولكنَّ المنجمين القدامى
سلكوا نهج بطليموس إذ كانوا يعتقدون أنّ السماء تتألف من تسعِ طبقاتٍ مركبة بعضها فوق بعض كقشرة البصل، ولأنَّ هذه الطبقات تتكون من مادةٍ شفّافةٍ كالبلّور فقد التَصَقت النجوم والكواكب في وسطها وتدور مع دوران الافلاك فيظهرُ دوران النجوم فقط، ولا يظهرُ شي ءٌ من دوران الأفلاك، وقد بَطُلَ هذا الاعتقاد بنحوٍ كاملٍ اليوم، واصبح من المسلَّم به أنّ النجوم معلقةٌ في فضاءٍ غير محدودٍ وتتحرك تحت تأثير
__________________________________________________
(1) «العرجون» من مادة «انعراج» أي الاعوجاج والانحناء، ويصفه البعض بذلك القسم من القرن المقوَّس الذي يتبقى على النخل بعد قطف التمر، و «القديم» تعني العتيق.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 156
قانون الجذب والدفع في مسيرةٍ معينةٍ، والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم نزلَ في زمانٍ كانت تحكُم فيه نظريةُ بطليموس على جميع المحافل العلمية بكل قوةٍ، إلّاأنّ تعابير القرآن (كالتعبير ب «الجريان» و «السباحة» التي وردت في الآيات أعلاه) لا تتلائم مع النظرية القديمة بايِّ نحوٍ وتتطابق مع آخر الاكتشافات العلمية في هذا العصر.
وورد في الآيتين الثامنة والتاسعةِ (أَيْمَانٌ) تَبعثُ على التأمل فيقول في إحداهما: «فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ والمَغَارِبِ»، فيمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى المشارق والمغارب و «المكانية» المختلفة، لأنَّ كروية الأرض تؤدي إلى وجود مشرقٍ ومغربٍ بعدد نقاط سطح الأرض، أو أن يكون إشارة إلى المشارق والمغارب «الزمانية»، لأننا نعلم أنّ حركةَ الأرض حول الشمس تؤدي إلى استحالةِ شروق الشمس وغروبها من نقطةٍ واحدةٍ خلال يومين متتاليين.
هذا الاختلافُ في المشارق والمغارب الذي يتمّ من خلال نظامٍ دقيقٍ ومنهجي سبّب في حدوث «الفصول الاربعة» بما فيها من بركات من جهةٍ، ومن جهةٍ اخرى فهو يؤدّي موازنة الحرارة والبرودةِ والرطوبةِ على سطح الأرض، ويمنحُ حياةَ الإنسان والحيوانات والنباتات نظاماً
وترتيباً، وكلٌ منها آية من آيات اللَّه وبرهان من براهينه.
وفي مكانٍ آخر يُقسمُ بالقمر «كَلَّا وَالقَمَرِ* واللَّيلِ إِذْ أَدْبَرَ* وَالصُّبحِ اذَا اسْفرَ» ثم يضيف: أنّ هذه الأَيْمانُ تُنبي ءُ عن تحذيرٍ في أمر المعاد فيقول: «إنَّ أحداثَ القيامةِ وجهنَّم من عظيمات الامور «إِنَّها لِإحْدى الكُبَرِ»» «1».
واقْسَمَ في بداية سورة الشمس بالشمس أيضاً، واشعتّها التي تُحيي الأرواح، والقمر الذي يبزغُ بعد غروب الشمس.
__________________________________________________
(1) يقول الفخر الرازي: «إنَّ جهنَّم لها سبع مقاماتٍ ودركاتٍ وهي كما يلي، جهنَّم، ولظى والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية» (تفسير الكبير، ج 30 ص 209).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 157
وهذا ما نفهمه أيضاً بأنَّ القَسَمَ بشي ء ما يدلُ على أهميته الخاصة، وإذا صدر هذا القَسَمُ عن شخصٍ عظيمٍ ستتضاعف اهميتُه، وإذا اقسِمَ بهِ مِنْ أجل موضوعٍ مهمٍ ستزدادُ أهمية هذا الموضوع أيضاً.
والآن تأمّلوا جيداً عندما يُقسم الباري جلَّ وعلا بالشمس والقمر من أجلِ مسألةِ المعاد المهمّة، فهذا دليلٌ على العظمةِ الفائقة لهذين الكوكبين، ويشهد على هذه الحقيقة كون أن كلًا من هذين الكوكبين ذو أهميةٍ في نظر القرآن الكريم.
فلماذا يُقسمُ الباري تعالى بكواكب السماء واللّيلِ والنهار من أجل اثباتِ القيامة والحساب؟ وذلك لأنَّ النظام الحاكم على هذه الاشياء يبرهنُ على أنّ لجميع ذرات العالم حساباً خاصاً، بناءً على ذلك كيف يمكنُ أن تكون أعمال الإنسان الذي هو زهرةُ عالم الوجود بلا حسابٍ ولا كتابٍ، ولا وجود للمعاد والمحكمة العادلة؟.
وجاءت الآية العاشرة الأخيرة في بحثنا هذا عن نعمةِ وجود النجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها فيقول: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهتَدوُا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ» ثم يضيفُ: «قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ».
لقد كانت النجوم دائماً وعلى مدى مراحل التاريخ من أهم وسائل ارشاد
الإنسان في الليالي المظلمة، حيث كان يهتدي بمساعدتها في أسفاره البحرية والبرّية، حتى أنّ بعض العلماء يظنون أنّ الطيور المهاجرة، أي الطيور التي تقطع آلاف الكيلو مترات في السنة أحياناً، وبعضُها يستمر في طيرانه ليلًا ونهاراً بلا توقفٍ، تحدد طريقها نهاراً عن طريق الشمس، وليلًا عن طريق نجوم السماء، ولهذا فانّها تتوقف عن مواصلة الطيران مؤقتاً إذا كان الجو غائماً تماماً حتى تنكشفَ الغيوم وتظهر السماء والنجوم!
والعجب إنّ إمكانية تحديد فصول السنة أيضاً من خلال الاستفادة من النجوم.
على أيّةِ حالٍ، فانَّ هذه الآية تُلفتُ نظرَ كلِّ المفكِّرين إلى هذه المسألةِ وهي أنّ حركة
نفحات القرآن، ج 2، ص: 158
النجومِ في السماء واستقرارها في هذا الميدان العظيم تتمتع بنظامٍ وحسابٍ خاصٍ، وإلّا لما استطاعَ أيُّ أحدٍ العثور على طريقهِ في ظلمة الليل من دونها.
وهذا النظام يدل على أنَّ الخالق المدبِّر قد خطَّطَ له بكل حكمةٍ، ولهذا فانَّ النظام السائد على نجوم السماء هو الذي يُحررنا من ظلماتِ الشرك والكفر أيضاً!.
ومع تطور علم الفَلَك، فقد نجح العلماء في تقدير سرعة الكثير من كواكب السماء، وحجمها ومسافاتها وبقية خصائصها، وتوصلوا عن هذا الطريق إلى حقائق جديدة عن هذا النظام العظيم.
صحيحٌ قد تم اختراعُ آلاتِ ووسائلَ دقيقةٍ يستطيعُ الإنسان بمساعدتها أن يعثرَ على طريقه في البر والبحر، ولكن لا ينبغي نسيانُ عدم إمكانية استخدام جميع المسافرين لهذه الوسائل العلمية المتنوعة، إضافة إلى حدوث الخلل في هذه المعدات والآلات الدقيقة أحياناً ممّا يسبب الانحراف عن الطريق، فإذا كان الإنسان مطلعاً على مواقع ومواضع النجوم يستطيعُ من خلال ذلك إصلاح اخطاء هذه المعدات.
ورد في بعض الروايات تفسيرٌ آخرٌ لهذه الآية عن أهل البيت (عليهم السلام) يمكنُ أن يُعدَّ جزءً من المعاني الباطنيةِ
والثانويةِ لهذه الآية، وذلك أنّ المقصود من «النجوم» هم القادةُ الربانيّون والأئمّة المعصومون الذين ينجو الناسُ بهم من ظلمات الحياة كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في بيان معنى الآية: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» حيث قال: «النجوم هم آل محمد» «1»
، و طبعاً- من المستطاع الجمعُ بين هذين المعنيين، أي النجوم الماديّة والنجوم المعنوية والهداية الظاهرية والباطنية.
لقد اتّضح لنا اليوم تقريباً أنّ الشمسَ عبارة عن كرةٍ، وأنّها أكبر من الأرض بمليون
__________________________________________________
(1) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 750 ح 203.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 159
وثلاثمائة الف مرّة، أي لو كانت الشمس مقعَّرةَ الوسط لكان من الممكن أن تستوعب مليوناً وثلاثمائة الف كرةٍ أرضيةٍ! وتتضح هذه العظمة المذهلة من خلال التأمل في قُطر الشمس عند الوسط الذي يقرب من (مليون وأربعمائة الف كيلو متر).
وتبلغ الفاصلة بيننا وبينها 150 مليون كيلومتراً تقريباً، وأنَّ نورها الذي يقطعُ طريقهُ بسرعةِ 300 الف كيلومتر في الثانية يصل إلينا خلال 8 دقائق تقريباً.
إنّ جُرمَ الشمس العظيم يؤدّي إلى زيادة وزن الأشياء فيها، فمثلًا إنَّ الإنسان الذي يبلغُ وزنُه 60 كيلوغراماً على سطع الأرض سيكون وزنه 1500 كغم فيما إذا كان على سطح الشمس!.
لقد قدَّر العلماء وزن الشمس بما يعادل:
000، 000، 000، 000، 000، 000، 000، 000، 000، 2 طن.
وأخيراً فهُم يُقدِّرون عمر الشمس منذ تكونها بشكلها الحالي بما يقارب 5 مليارات سنة.
إنَّ للشمس ثلاثة انواعٍ من الحركة تقريباً، حركةٌ حول نفسها (كلَّ 25 يوماً مرّة واحدة تقريباً، وحركةٌ مع المنظومةِ الشمسية في قلب المجرّات نحو الصورة الفلكية (الجاثي) حيث تبتعد عن مكانها أكثر من 600 كم كل ساعة، وحركةٌ حول
مركز المجرّات، وتدور حول هذا المركز خلال هذه الحركة مرّة واحدة كل 250 مليون سنة.
أَما حرارةُ سطح ومركز الشمس فهي عجيبةٌ للغاية، وتُبينُ حسابات العلماء أنّ حرارة سطح الشمس تعادل 6000 سانتغراد تقريباً، ولا تحصل هذه الحرارة على الأرض في أيِّ مختبرٍ أو فرنٍ أبداً، ودليلُ ذلك واضحٌ جدّاً لأنَّ جميع المواد بطيئة الذوبان التي نعرفها والتي يمكن بناء فرنٍ منها لا تذوب في مثل هذه الحرارة فقط، بل تصبحُ بخاراً، ولهذا فانَّ جميع المواد الموجودة على سطح الشمس ذائبةٌ على هيئة بخار.
والأعجبُ من ذلك حرارةُ عمقها التي تبلغُ 2 مليون درجة سانتِغراد! وتندلعُ من سطح الشمس ألسنةُ نيران يبلغُ ارتفاعها أحياناً 160 الف كم، ومن السهولة أن تضيع الكرةُ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 160
الأرضية فيها (لأنّ قطر الأرض ليس أكثر من 12 ألف كيلو متر).
إنَّ هذه الحرارة لا تحصل بسبب الاحتراق، وإلّا لو كانَ جرم الشمس قد صُنِعَ من الفحم الحجري الخالص لانتهت تماماً على مدى عدةِ آلاف من السنين كما يقول «جورج غاموف» في كتاب «تكوُّن وموت الشمس»، ولا يبقى شي ء سوى الرَّماد. فالحقيقة أنّ مفهوم الاحتراق لا يصدقُ بخصوص الشمس وما يصدقُ هو الطاقة الناتجة عن الانشطار النووي، ولكن بهذا الحال وطبقاً للحسابات العلمية فانَّ كلَّ ثانيةٍ تمرُّ على الشمس ينقصُ من وزنها 4 ملايين طن، أَي إنَّ هذا المقدار من ذراتها يتحول إلى طاقةٍ، فبالرغم من أنّ هذا الأمر ليس له تأثيرٌ على المدى القريب، إلّاأنّه من المسلَّم به سيساعدُ في فناءِ الشمس على المدى البعيد، وهذا ما صرَّحَ به القرآن الكريم في آياته، حيث سيأتي اليوم الذي ينطفي ءُ هذا المصباح السماوي العظيم المنير «1».
مهما تحدثنا حول فوائد وجود هذا
النجم السماوي وتأثيره البالغ في حياة الإنسان وبقية موجودات الأرض، فإننا لا نستطيع أن نفي بالغرض، وفي الحقيقة يمكنُ تأليف كتابٍ كبيرٍ في هذا المجال بالترتيب التالى:
1- إنّ جاذبيةَ الشمس تؤدي إلى دوام استمرار الأرض في دورانها في مدارها الثابت وإلّا لسقطت في إِحدى زوايا هذا الفضاء اللا متناهي ككُرةٍ مضطربة.
2- إنّ الحرارة التي تصلنا من الشمس بصورة مباشرة نهاراً والتي تخزن في الأجسام وتنعكس علينا ليلًا، لها تأثير في نمو النباتات وديمومة الحركة والحياة لدى الحيوانات.
3- إنَّ الشمسَ تَضعُ في خدمة الإنسان نوراً سليماً ومجانياً وغَير حارٍ أو مُحرقٍ ولا
__________________________________________________
(1) اقتباس من كتب 1- تركيبات الشمس، 2- نجوم بلا منظار، 3- تكوُّن وموت الشمس، 4- تاريخ العلوم، 5- من العوالم البعيدة، 6- الإسلام والهيئة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 161
باردٍ وخالٍ من الأثر، بشكلٍ دائمٍ، وإذا قارنّا قيمة الطاقة التي نحصل عليها من الشمس مع قيمة مصادر الطاقة الاخرى فلابدّ أنْ تدفعَ البشرية اموالًا عِوَضاً عن النور والحرارة التي تستلمها من الشمس مقارنةً مع ثمن «الكهرباء» بمقدار (ملياراً و 700 ألف دولار كل ساعة).
عندئذٍ يجب أن نفكِّرَ كم ستكون هذه الميزانية على مدى سنةٍ كاملةٍ؟
وبتعبيرٍ آخر، لو أرادَ أهلُ الأرض تأمين الحرارة التي تمنحُها إيّاهم الشمس، عن طريق شراء الفحم الحجري فيجب عليهم توفير 61 الف مليار طن منه سنوياً، أو بعبارة اخرى توفير 20 ألف طن لكل شخص، أيّ تأمين ميزانيةٍ باهضة.
3- نحنُ نعلمُ أنّ ضوء الشمس يتركبُ من 7 ألوان مُزجت مع بعضها وظهرت على هيئة هذا النور الأبيض والشعاع الحالي، وهذا النورُ يُعتَبرُ عاملًا مساعداً للنباتات حيثُ يمتصُ غاز ثاني اوكسيد الكاربون من الجو ويطرحُ في المقابل غاز الاوكسجين الذي هو
عِمادُ حياتنا، فهو يساعد النباتات في نموها بسحب ثاني اوكسيد الكاربون.
ونحنُ نميزُ الأشياء حسب العادةِ عن طريق ألوانها، وهذه الألوان تحصلُ في شعاع الشمس، لأنَّ كلَّ موجودٍ يقوم وحسب تكوينه بامتصاص جانبٍ من ألوان الشمس فنطلقُ على اللون الذي لم يُسحبْ لونَ الشي ء، أي أنّ الورق الأخضر للنباتات يمتص جميع ألوان الشمس عدا اللون الأخضر، إذن فنورُ الشمس هو الذي يُظهرُ جميع الألوان.
4- إنَّ الاشعةَ فوق البنفسجية والتي هي من اشعاعات الشمس تُفيدُ في القضاء على 90 خ من الجراثيم، وتقوم بدورِ منعِ التعفن بنجوٍ تامٍ، ولولاها لتبدَّلت الأرضُ إلى مستشفىً كبيرٍ، ولعلَّ أشعة الشمس اعتبرت لهذا السبب من المطهرّات في الإسلام «مع شروط خاصةٍ طبعاً».
5- لقد استطاعَ العلماءُ من خلال استخدامهم للعدسات المحدبة الفخمة من توليد حرارةٍ هائلةٍ بامكانها تشغيل المصانع المهمّة، ولعل الكثير من المؤسسات الصناعية الحسّاسة سيتم تَشغيلها في المستقبل القريب بالاستفادة من نور الشمس، وتحلُّ الطاقةُ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 162
الشمسية عندئذ محلَّ الكهرباء في البيوت.
6- إنَّ تكوُّنَ الغيوم نتيجةً لسقوط أشعة الشمس على سطح المحيطات وهبوب الرياح نتيجةً لاختلاف درجات الحرارة على الأرض بسبب أشعة الشمس، ثم حركة الغيوم نحو اليابسة وهطول الأمطار التي تبعث الحياة، هي احدى الفوائد المهمّة للغاية لنور وحرارة الشمس.
7- إنّ حركة الشمس المنظمة في أبراج السماء (الصور الفلكية) وشروقها وغروبها المنهجي الّذي يجري بنظامٍ وتعاقب دقيقٍ ومحسوبٍ على مدى أيام السنة، إضافة إلى مساعدتها في تكوين الفصول المتعددة، فهي تساعد في إيجاد تقويمٍ وحسابٍ منظمٍ للزمان الضروري جدّاً للحياة الاجتماعية للبشر «1».
إنَّ القمر كوكبٌ صغيرٌ نسبياً فهو اصغر من الأرض ب (49 مرَّة) وفقاً لحسابات العلماء، لهذا فانَّ قوة جاذبيته تعادل 6 1 قوة
جاذبية الأرض، ومتوسط بُعده عن الأرض أكثر من 384 الف كيلومتر، لذلك فانَّ نور القمر يصل إلينا خلال أكثر من ثانيةٍ واحدةٍ بقليل.
وتَبلغ سرعةُ حركته في دورته حول الأرض كيلو متراً واحداً في الثانية، ويدور حول الأرض مرّة واحدة على مدى شهرٍ قمرىٍّ واحد أي «أكثر من 29 يوماً بقليلٍ»، ويدور حول نفسه أيضاً مرّةً واحدةً خلال نفس هذه الفترة، وبما أنّ هاتين الحركتين متناسقتان فإنَّ جانب القمر الذي يقابل الأرض يكون ثابتاً على الدوام، ولا عجبَ إذا قُلنا إنَّ نورَ القمر حين اكتمالهِ ليلة البدر أقلُ من ضوء الشمس ب (460) ألف مرّة، إلّاأنّ هذا النور الضئيل
__________________________________________________
(1) فكما قلنا إنَّ السبب الرئيسي لحصول هذه الامور هو في الواقع دوران الأرض حول الشمس، ولكن بما أنّ حركة الشمس هي التي تُرى كسببٍ لهذا حسب الظاهر، فإنّ القرآن الكريم يعتبر كلا من الشمس والقمر (حسبان) أي (وسيلةً للنظام والحساب)- الأنعام، 96.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 163
يضي ء الليالي المقمرة، ويظهر كمصباحٍ جميلٍ كثيف الشعاع ومُريح للفؤاد وبمنظرٍ شاعريٍّ محبَّب.
ولم تكن الإشارة إلى القمر في الآيات السابقةِ فقط، فقد تمت الإشارة إلى القمر وبركاته وفوائده في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم، ووردَ القَسَمُ به في آياتٍ اخرى أيضاً، وجاء الحديث عن «القمر» في ما مجموعه 27 آية من القرآن الكريم، واشيرَ إلى تسخير القمر في سبع آياتٍ من هذه الآيات التي تُبيِّنُ أهميّة فوائده في حياة البشر «1».
إنَّ فوائد وبركات القمر كثيرةٌ للغاية، حيث نشير هنا إلى عددٍ منها:
1- إنّ دوران القمر حول الأرض يُشكِّلُ تقويماً طبيعياً لطيفاً، وقد مرَّ شرحُهُ في الأبحاث السابقة.
2- إنّ الضياء المناسب الذي يمنحه القمر بالرغم من أنّه لا يزيل ظلمةَ
الليل كُليّاً (ولا ينبغي أن يزيلها لأنَّ نفس الظُلمةِ لها فلسفة مهمة)، ولكن يُمكن أن يساعد الإنسان إلى حدٍ ما في الكثير من الليالي على اكتشاف طريقه في المدن والصحارى والبحار، لا سيما أنّ نور القمر مناسبٌ وملائم بحيث لا يزعجُ الإنسان والموجودات الاخرى أثناء النوم والراحةِ ليلًا، بل يشعر الإنسان باطمئنان خاصٍ من خلال نور القمر.
3- إنّ مسألةَ المدِّ والجزر في البحار إحدى الآثار البارزة لوجود القمر، فالذين ذهبوا إلى البحار كان بامكانهم ملاحظة هذا الأمر في الليل والنهار حيث يرتفع وينخفض منسوبُ المياه مرّتين كل يوم، ويُعبَّرُ عن ذلك بالمد والجَزر، ويستمر كلٌ منهما لمدة 6 ساعات تقريباً.
فأثناء المدِّ يرتفعُ منسوبُ المياه ويغطي معظم سواحل البحر، وخلال الجزر تنكشف سواحل البحار.
ولهذا المدّ والجزر فوائد مهمّة في حياة البشر منها: تراجع مياه الأنهار التي تصب المياه العذبة في البحار ممّا يؤدّي إلى ري الأراضي الواسعة عن طريق ذلك كما يشاهد في بساتين
__________________________________________________
(1) الاعراف، 54؛ الرعد، 2؛ ابراهيم، 33؛ النحل، 12؛ لقمان، 29؛ فاطر، 13؛ الزمر، 5.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 164
النخيل الساحلية الواسعة في خوزستان.
ومن الفوائد الاخرى للمد والجزر هي حركة المكائن في المصانع ونشاط المولدات الكهربائية، وكذلك الإبحار، حيث إنّ السفن الكبيرة تستطيع خلال المد أن ترسو في معظم السواحل حيث يتمّ تحميل وتفريغ حمولتها، وتنظيف المواني ء، وصيد الأسماك، وتحريك مياه البحر وموازنة حرارته ومركباته أيضاً وامور اخرى «1».
عندما تقع عين الإمام السجّاد عليه السلام على القمر فهو يخاطبه، وهذه الكلمات درسٌ في التوحيد ومعرفة اللَّه حيث يقول:
«أيها الخلق المطيع! الدائب السريع المتردّد في منازل التقدير المتصرف في فلك التدبير، آمنت بمن نوَّر بك الظلم، وأوضح بك البُهم، وجعلك
آية من آيات ملكه، وعلامة من علامات سلطانه ... سبحانه ما أعجب ما دبّرَ في أمرك، وألطف ما صنع في شأنك جعلك مفتاح شهر حادث لامرٍ حادث ...» «2».
وفي توحيد المفضّل عن الإمام الصادق عليه السلام:
«فكّر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها لاقامة دولتي النهار والليل، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه فلم يكن الناس يسعون في معايشهم، ويتصرّفون في امورهم، والدنيا مظلمة عليهم ولم يكونوا يتهنأون بالعيش مع فقدهم لذة النور وروحه، والإِرب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإِطناب في ذكره، والزيادة في شرحه، بل تأمّل المنفعة في غروبها، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء والراحة ...
__________________________________________________
(1) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة، ودائرة المعارف للمصاحف وكتب اخرى
(2) بحار الأنوار، ج 58، ص 178، ح 36.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 165
ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما في ذلك من التدبير والمصلحة ...
فكّر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة ... وفي هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات والثمار، وتنتهي إلى غاياتها، ثم تعود فيستأنف النشوء والنمو ...
انظر إلى شروقها على العالم كيف دّبر أن يكون، فانّها لو كانت تبزغُ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات.
أفلا يرى الناس كيف أنَّ هذه الامور الجليلة؟ التي لم تكن عندهم فيها حيلة صارت تجري على مجاريها، لا تعتل ولا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه؟
استدلّ بالقمر، ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور، ولا يقوم عليه حساب السنة ... فكّر
في انارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك، فانّه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شي ء من العمل، لأنّه ربّما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في تقصّي الأعمال بالنهار، أو لشدّة الحر وافراطه ... وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض، ونقص مع ذلك من نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار، ويمتنعوا من الهدوء والقرار ...) «1».
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 55، ص 175، ح 36 «مع الاختصار».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 167
بالرغم من أنّ الليل والنهار من الظواهر التي تحصل نتيجة لضوء الشمس وحركة الأرض، ويعتبران من بركاتهما، لكن نظراً لاهتمام القرآن بهما في آيات التوحيد بشكلٍ خاص، واستناده إلى هاتين الظاهرتين في الكثير من الآيات، لذلك من الواجب الاهتمام بهما بشكل مستقل، كي نرى فيهما آيات تلك الذات غير المعلومة، ونتعرفُ أكثر على خالقِ وإله عالم الوجود، ونزداد حباً له، ونتشرف بالنظر إلى حضرته المقدَّسة.
بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين الآيات الاثنتي عشرة الآتية:
1- «وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ». (الانبياء/ 33)
2- «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِى الأَبْصَارِ». (النور/ 44)
3- «هُوَ الّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسكُنُوا فِيْهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَسْمَعُونَ». (يونس/ 67)
4- «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والْقَمَرُ». (فصلت/ 37)
5- «وَجَعَلْنَا اللَّيلَ وَالْنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّنْ رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِيْنَ والْحِسابَ». (الاسراء/ 12)
6- «وَجَعَلْنَا اللَّيلَ لِبَاساً* وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعَاشاً». (النبأ/ 10 و 11)
7- «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
لِّمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّر أَو أَرَادَ شُكُوراً».
(الفرقان/ 62)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 168
8- «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». (النحل/ 12)
9- «إِنَّ فِى اخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَواتِ وَالأَرضِ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَّقُونَ». (يونس/ 6)
10- «قُلْ ارَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إلى يَومِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِضِياءٍ أفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ ارأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلى يَومِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيْكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيْهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَمِنْ رَّحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (القصص/ 71- 73)
11- «وَاللَّيلِ إِذا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى . (الليل/ 1- 2)
12- «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُوْلِجُ اللَّيلَ فِى النَّهَارِ وَيُوْلِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وأَنَّ اللَّهَ سَمِيْعٌ بَصيْرٌ». (الحج/ 61)
لقد تكرّرت كلمة «الليل» في القرآن الكريم أكثر من «70» مرّة، وكلمة «النّهار» أكثر من «50» مرّة، والآيات السابقة تُعتبر نماذج مختلفة لهذه الآيات، حيث تمّت الإشارة فيها إلى البعد التوحيدي لخلق الليل والنهار على وجه الخصوص.
ففي الآية الاولى ذُكرَ اصلُ خلقِ اللّيل والنهار، والشمس والقمر، اللذين يرتبطان بهما بعلاقةٍ قريبةٍ كبرهانٍ لسالكي خط التوحيد ومعرفة اللَّه، حيث يقول: «هُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ».
وجاء هذا المعنى بنحوٍ آخر في الآية الرابعة، إذ يقول: «ومِنْ آياتِهِ اللَّيلُ والنَّهَارُ وَالشَّمسُ وَالقَمَرُ».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 169
في الوقت الذي يقول في الآية الثانية: «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِى الأَبْصَارِ».
وقد يكون هذا التغيير في التعبير إشارة إلى حصول اللّيل والنّهار، أو زيادة ونقصان مقداريهما، أو اختلافهما من حيث البرودة والحرارة الذي يحدث خلالهما «1»، ولكن لا مانع من شمول هذا التغيير كل هذه المعاني أبداً.
وأشار في
الآية الثالثة إلى احدى فوائد «اللّيل» و «النهار» المهمّة، حيث يقول: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِتَسْكُنُوا فِيه وَالنَّهارَ مُبصِراً».
والواضح أنّ الاطمئنان في ظلمة الليل أحدُ أهمِ النعم الإلهيّة، كما أنّ نور النّهار الضروري لمختلف النشاطات يُعتبر نعمةً مهمةً اخرى
والملاحظ في هذه الآية أنَّ النَّهار اعتُبرَ «مُبصراً»، والمُبصرُ في الأصل تعني البصير، ونحنُ نعلمُ أنّ النّهار ليس بصيراً في نفسهِ، ولكن بما أنّه يؤدّي إلى أن يُبصرَ الآخرون، فلعلَّ هذا التعبير اطلِقَ عليه للتأكيد والمبالغة.
وفي الحقيقة لولا بريق النّور فلا فائدةَ لألف عينٍ مبصرةٍ، لهذا فهو يضيف في ختام الآية: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَسْمَعُونَ»، أي اولئك الذين يستمعون هذه الآيات ويتفكرون فيها.
في حين أنّه يعتبر كلًا من الليل والنّهار في الآية الخامسة آيةً من آيات اللَّه تعالى ويقول:
«فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهارِ مُبصَرةً»، ثم يشير إلى فائدتي ذلك حيث يقول:
__________________________________________________
(1) وردت هذه الاحتمالات الثلاثة في تفسير روح المعاني، ج 18، ص 173، وتفسير الكبير ج 24 ص 15، ولكن ذُكر التفسير الأول والثاني فقط في تفسير مجمع البيان ج 7 ص 148.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 170
«لِتَبتَغُوا فَضْلًا مِّنْ رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السَنِينَ والْحِسَابَ».
فهل أنّ فوائد النهار تقتصر على ابتغاء فضلِ اللَّه ومعرفة حساب السنة والشهور من آثار الليل والنّهار معاً؟ أم أنّ كلا المنفعتين لهما علاقةٌ وثيقة بالليل والنهار معاً؟ لأنَّ الراحةَ في اللّيل لها أثرٌ واضحٌ في إمكانية العمل والابتغاء من فضل اللَّه نهاراً، والظاهر أنَّ المعنى الثاني أكثر تناسباً من حيث تناسقه مع الآية، بالرغم من أنّ العديد من المفسرين ذكرَ المعنى الأول.
وفي الآية السادسة إشارة إلى هذا المعنى وبنحوٍ آخر حيث يقول: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً-
والنَّهَارَ مَعَاشاً».
وقد يكون «المعاش» اسم زمانٍ أو مكانٍ أو مصدراً ميمياً، وهو يلائم المعنى المصدري «1».
ووصف الليل ب «اللباس» يعتبر من التعابير اللطيفة جدّاً، حيث إنَّ الليل كاللباس بالنسبة لنصف الكرة الأرضية، وهو كذلك بالنسبة للإنسان، فكما أنّ اللباس يحفظ جسم الإنسان من بعض الاضرار ويمنحه جمالًا ورونقاً، فانَّ ظلمةَ الليل والنوم العميق أثناء اللّيل يمنح روحَ الإنسان وجسمه طراوةً ونشاطاً ويصونه من مختلف الأمراض.
والحديث في الآية السابعة عن استخلاف الليل والنّهار لبعضهما البعض، فيقول: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً».
__________________________________________________
(1) قال بعض المفسرين: إنّ التعبير ب «المعاش» أي «الحياة» بخصوص النهار هو لأجل أنّ النوم في الليل يشبه الموت كما يقول العرب في أمثالهم «النوم أخُ الموت»، وعليه فانَّ النقطة المقابلة له اي النهار هو أساس الصحوة والحياة، (الحياة بكل أبعادها).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 171
و «خِلْفَة»: على وزن (فِتنه)، وكما يقول الراغب في «المفردات» فانّها تُطلقُ على شيئين يخلف أحدُهما الآخرَ باستمرار، لكن «خلفة» تعني «مختلف» وفقاً لرأي الفيروز آبادي في «قاموس اللغة»، ففي الحالة الاولى ينصبُّ الاهتمام على تناوب الليل والنّهار، فلو لم يكن هذا التناوب دقيقاً ومحسوباً، فإمّا أنْ تحترق موجودات الأرض من شدة حرارة ضوء الشمس أو تنجمد منْ شدةِ البرودة، وفي الحالة الثانية إشارة إلى اختلاف اللّيل والنّهار وحصول فصول السنة الأربعة التي لها آثار خاصة في حياة الإنسان.
واختار بعضُ المفسرين المعنى الأول، بينما ذهبَ البعضُ الآخر إلى المعنى الثاني، ولكن ليس هنالك من مانعٍ في الجمع بين هذين المعنيين.
وورد في الروايات أنّ الإنسان يستطيع أن يقضي في النّهار ما فاته من عبادات الليل وبالعكس، واعتُبِر أنّ الآية تشير إلى هذا المعنى «1».
ولا يتعارض هذا التفسير مع التفاسير
السابقة أيضاً، وعلى أية حالٍ، فانَّ الآية تشير إلى نظامٍ خاصٍ ومتناوبٍ لظاهرة لليل والنّهار حيث تدلل على العلم والقدرة اللامتناهية للخالق جلَّ وعلا، بشكلٍ لو كانت دورة الأرض حول نفسها اسرعُ بقليلٍ أو أكثر بطءً ممّا عليه الآن لطال اللَّيلُ والنّهار وتعَّرضت حياة الناس بل كافة الموجودات على الأرض إلى الخطر.
والحديث في الآية الثامنة عن تسخير الليل والنّهار وخدمتهما للإنسان إذ يقول:
«وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ».
وبما أنّ شرحَ معنى التسخير قد مرَّ سابقاً في موارد مشابهة فلا نرى حاجةً للإعادة.
__________________________________________________
(1) ورد هذا التفسير في حديث عن النبي صلى الله عليه و آله «طبقاً» لما نُقل في تفسير الفخر الرازي، وفي حديث عن الصادق عليه السلام «طبقاً» لما نُقل في تفسير نور الثقلين، ج 3، الآية المورد البحث.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 172
وأشار في الآية التاسعة، أولًا إلى مسألة اختلاف اللّيل والنهار، ثم إلى كافة مخلوقات الأرض والسماء التي خلقها اللَّه تعالى كبرهانٍ على عظمتهِ وعلمهِ وقدرتهِ فيقول: «انَّ فِى اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُوْنَ».
وهذا التعبير دليلٌ على مدى أهميّة خلقهما.
وفي القسم العاشر أشار في ثلاث آيات بتعابير جميلة إلى الفوائد المهمّة لليل والنهار فقال تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرْمَداً إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللَّهِ يأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ ارأَيْتُم إنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيكُم الَّنهَارَ سَرمَداً إِلى يَومِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللَّهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُون* وَمِنْ رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيْهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشْكُرُوْن».
والجدير بالذكر انّه يقول في نهاية احدى الآيات: «أَفَلا تَسْمَعُونَ»، وفي نهاية آية اخرى «أَفَلا تُبْصِرُونَ».
ولعلَّ هذه التعابير إشارةٌ إلى
أنّ هناك دلائل حسّية في هذا النظام الدقيق لليل والنّهار يجب أن تُنظَر بالعين، وكذلك هناك دلائل نقليه يجب أن تُسمَعَ، وهذا جديرٌ بالتأمُل أيضاً، يقول في مورد خلود اللّيل: «أَفَلا تَسْمَعُونَ»، وفي مورد خلود النّهار: «أَفَلا تُبْصِرُونَ»، لأنَّ الأُذنَ تستخدمُ غالباً في الليل والعينَ في النهار.
إنَّ أهميّة موضوع الليل والنّهار بلغت إلى الحد الذي يُقسمُ اللَّه تعالى في القرآنُ بهما في آياتٍ عديدةٍ من بينها ما يقوله في القسم الحادي عشر من هذه الآيات: «واللَّيلِ إذا يَغْشى والنَّهارِ إِذا تَجَلَّى .
وورد هذا المعنى في مكانٍ ثانٍ وبتعبيرٍ آخر فيقول: «واللَّيلِ إِذ أَدبَرَ والصُبْحِ إِذا أسْفَرَ». (المدثر/ 33)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 173
ويقول في مكانٍ آخر: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* والصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ». (التكوير/ 17)
ويضيف في مكان آخر: «وَالضُحى وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى . (الضحى 1- 2)
وأَيْمانٌ اخرى من هذا القبيل حيث تحكي كلُّها عن الاهمية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للَّيل والنّهار كي يتمعنَ الإنسان بهما ويرى آياتِ اللَّه في كلَّ موقعٍ منهما، لأنَّ القَسَمَ دليلٌ على أهميّة وقيمة وحقيقة التأمل دائماً.
وفي الآية الثانية عشرة والاخيرة نواجه تعبيراً جديداً في هذا المجال إذ يقول: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ».
«يُوْلِجُ»: من مادة «ايلاج» وتعني الادخال، وبما أنّها جاءت بصيغة «الفعل المضارع» وحيث اننا نعلمُ أنّ الفعل المضارع يفيد الاستمرار، فقد تكون إشارة إلى طول وقصر اللَّيل والنهار التدريجي والمنَّظم على مدى فصول السنة المختلفة حيث ينقصُ احدهُما ويضاف إلى الآخر، فهذا النظام التدريجي عاملٌ مؤثرٌ في نمو النباتات وتكامل الكائنات الحيّة، فلو حدثَ فجأةً سيختلُ توازنُ هذه الموجودات فيكون مضراً، لهذا فقد جعلَهُ الباري تعالى أمراً تدريجياً.
ومن الممكن أن تكون
إشارة إلى مسألة شروق وغروب الشمس، لأنَّ الشمس حينما تقتربُ من الشروق يشعُ نورُها نحو الطرف الأعلى من الجو، ويضي ء الجو قليلًا، وكلما ارتفعت الشمس من وراء الافق يزداد هذا الضياء، وعلى العكس أثناء الغروب، فلا يحلُّ اللَّيلُ دفعةً واحدةً، بل تختفي أشعةُ الشمس رويداً رويداً في الطبقات السفلى من الجو، ويحلُّ الظلامُ محلَّها، فهذا الانتقال التدريجي من النور إلى الظلام وبالعكس يؤدّي إلى أنْ يتأقلمَ الإنسان معه من الناحية الجسمية والروحية، ولو حلَّ اللّيلُ أو الّنهار بشكلٍ مفاجي ءٍ لتركَ آثاراً سيئةً.
والجدير بالذكر أنّ ظاهرَ الآية هو أنّ دخولَ اللّيل في الّنهار والنهار في الليل يحدث في
نفحات القرآن، ج 2، ص: 174
آنٍ واحدٍ، والواقع هو كذلك، لأنَّ اللَّيلَ يقلُّ تدريجياً أثناء فصل الصيف في المناطق الواقعة شمال خط الاستواء ويصبح جزءً من النهار أي إنّه مصداقٌ ل «يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ»، وفي ذات الوقت يقلُّ النّهار في جنوب خط الاستواء ويصبح جزءً من اللَّيل حيث يكون مصداقاً ل «يُوْلِجُ النَّهارَ فِى اللَّيْلِ» «1»
.
وجاء في الحديث المشهور عن المفضل، أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال:
«فكّر في دخول أحدهما- الليل والنهار- على الآخر بهذا التدريج والترسّل، فانك ترى أحدهما ينقص شيئاً بعد شي ء، والآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان، ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة، لأضّر ذلك بالأبدان وأسقمها، كما أنّ أحدكم لو خرج من حمّام حار إلى موضع البرودة لضّره ذلك واسقم بدنه، فلم يجعل اللَّه عزّ وجلّ هذا الترسل في الحر والبرد إلّاللسلامة من ضرر المفاجأة؟» «2».
لاحظنا في الآيات الآنفة كيف أنّ اللَّه تبارك وتعالى يدعو الناس إلى دراسة هاتين الظاهرتين اللتين تبدوان عاديتين
للعيان، ويعُّدهما من آياته، والحقيقة أننا كلَّما امعّنا النظر في هذا المجال نتوصل إلى امورٍ جديدة:
أ) فنحنُ نعلمُ أنّ اللَّيل والّنهار في جميع أنحاء العالم يختلفان تماماً، فطول الليلِ عند خط الاستواء 12 ساعة، وطول الّنهار 12 ساعة أيضاً في كافة الفصول، إلّاأنَّ السَّنةَ كلَّها في المنطقة الجنوبية وعلى خط 90 ليست أكثر من يومٍ واحدٍ وليلةٍ واحدة حيث تكون مدة كلٍّ منهما ستة أشهر تقريباً «ومثل هذه المناطق غير مأهولة طبعاً»، وهنالك مراحل وسط
__________________________________________________
(1) لقد ذكر «الطريحي» في «مجمع البحرين» هذه النكتة في مادة (ولج).
(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 118.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 175
بين هذين الوضعين في باقي بقاع العالم.
إلّا أنَّ مايثير العجب هو بالرغم من هذا الاختلاف فانَّ جميع بقاع الأرض تستفيد من أشعة الشمس بنفس النسبة على مدار السنة وهذا نظامٌ عادلٌ للغاية!.
ب) إنّ الّنهار اكثرُ طولًا أثناء الصيف والليل أكثرُ طولًا في الشتاء، أي أنّ هذين الأمرين يسيران بشكلٍ متزامنٍ، زيادة طول الّنهار، والاشعاع العمودي «أو شبه العمودي» للشمس، فيكمل أحدُهما أثر الآخر، ويؤدّيان إلى زيادة حرارة الجو فتثمرُ الفواكه والمحاصيل الزراعية، وفي الشتاء يؤدّي إلى زيادة البرودة وتساقط أوراق الأشجار والنباتات، واللطيف أنّه في المناطق الاستوائية حيث يشع ضوء الشمس عمودياً لا يطول الّنهار أبداً، وإلّا لداهمها خطر الحرارة الشديدة واحترقت النباتات.
ج) إنّ ضوء الشمس يسبب اليقظةَ والجد والسعي والحركة باستمرار، على العكس من اللّيل الذي يبعث على السكون والاستقرار والنوم، ويُلاحَظُ هذا الأمر على وجه الخصوص في عالم الحيوانات، حيث تستيقظ الطيور مع سفور الصبح وتتجه نحو الصحراء، وتعود وتستريح في أوكارها عند غياب الشمس، وفي الارياف حيث إنّ لمعظم الناس حياةً طبيعية، ويكون برنامج
حياتهم كذلك أيضاً، ولكن نظراً لتطور الآلة، وصناعة النور الاصطناعي، فانَّ الكثير من الأشخاص يسهرون جزءً من اللَّيل وينامون بعض النهار، وهذا أحدُ الأسباب لبعض أنواع الأمراض، وفي الحقيقة أنّ القرآن يُحذِّرُ مثل هؤلاء الأفراد بانَّ ترك النوم ليلًا يؤدّي إلى فقدان الاطمئنان الروحي وذلك من خلال عبارة: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيْهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً». (يونس/ 67)
لقد ذُكِرَتْ ظاهرة اللّيل والّنهار أكثر من ثلاثين مرّة في القرآن الكريم كبرهانٍ على وجود اللَّه ودليلٍ على عظمته وقدرته، حيث يقول أحياناً: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولى
نفحات القرآن، ج 2، ص: 176
الأَبْصارِ». (النور/ 44)
ويقول كذلك: «لَآياتٍ لِّقَومٍ يَتَّقُونَ». (يونس/ 6)
ويقول: «لَآيَاتٍ لِّقَوُمٍ يُؤمِنُونَ». (النمل/ 86)
وفي الواقع، أنّ العلاقة بين هذه الامور الثلاثة تتضح هنا حيث إنَّ التفكُر والتأمُّل الناضجين والعميقين كما ورد في حق «اولُوا الألباب» يؤدّيان إلى ظهور الإيمان ورسوخه، والإيمانُ بدوره يؤدّي إلى ظهور التقوى في القلب والروح أيضاً.
ولهذا فانَّ التمعُنَ في آيات عظمةِ اللَّه وعلمه وقدرته في عرض عالم الوجود، يُرسِّخ العقيدة ويُربّي الإنسان من الناحية العملية أيضاً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 177
الكلُّ يعرفُ بشكل عام أنّ القُرى واغلبَ المدن المهمّة تقع في سفوح الجبال الشامخة وتقع فيما بينها، وأنَّ الأنهار الكبيرة التي هي عمادُ ازدهار المدن تنبعُ من الجبال الشاهقة، إنَّ دورَ الجبالِ في حياة الإنسان لا ينحصر بذلك فقط على الرغم من أهميّة هذا الدور.
فالجبالُ لها دورٌ مهمٌ جدّاً في حياة الإنسان بل جميع الموجودات التي تعيش على الأرض، وفوائدها وبركاتُها عديدةٌ جدّاً، ولا نُبالغ إذا قلنا باستحالة الحياة على الأرض بدون وجود الجبال.
ولهذا فانَّ القرآن الكريم أشار في آياتٍ كثيرة إلى مسألة خلقِ الجبال كاحدى آيات التوحيد وبراهينه على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا.
بعد هذه المقدمة نقرأ خاشعين الآيات الآتية:
1- «أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلىَ الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وإِلىَ السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ». (الغاشية/ 17- 19)
2- «أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً* وَالْجِبَالَ أَوتَاداً». (النبأ/ 6- 7)
3- «وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيْهَا رَواسىَ وَأَنْهَاراً». (الرعد/ 3)
4- «وَالْقَى فِى الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأنْهَاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ».
(النحل/ 15)
5- «وَجَعلْنَا فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ». (الانبياء/ 31)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 178
6- «وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوقِهَا وَبَارَكَ فِيهَآ وَقَدَّرَ فِيْهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسّآئِلِيْنَ». (فصلت/ 10)
7- «وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وأَسْقَينَاكُمْ مَّآءً فُرَاتاً». (المرسلات/ 27)
8- «أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلَالَها أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَ إِلهٌ مَّعَ اللَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُوْنَ». (النمل/ 61)
9- «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً». (النحل/ 81)
10- «وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيْضٌ وحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرابِيْبُ سُودٌ». (فاطر/ 27)
«جبل»: على وزن (عَسَلْ)، بالرغم من أنّ بعض أرباب اللغة فسَّرها بأنّها المفردة التي تقابل الأراضي المنبسطة، وفسَّرها بعضهم بالأجزاء المرتفعة من الأرض حيث تكون عالية وشامخة، فالظاهر أنّ جميع هذه التعابير تشير إلى معنىً واحد.
وطبعاً قد يُستعمل هذا اللفظ في المعاني الكنائية أيضاً، فقد يُقال (جبل) للأشخاص الصامدين والعظماء، و «جِبِلّي» للصفات الثابتة في طبيعة الإنسان والتي لا تتبدل ولا تتغير «كالجبل»، وكذلك يقال (جِبِلّ) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، للرهط والمجموعة في لغة العرب من باب التشبيه بالجبل في العظمة «1».
و «الرواسي»: جمع «راسية» أي الجبال الثابتة الراسخة، وهي في الأصل من «الرَسو» (على وزن رَسْم وغلوُ) وهي مأخوذة من الثبات والرسوخ، ويُطلقُ على الاواني الضخمة الراسخّة والثابتة في مكان العمل ب (الراسية) أيضاً، (كالقدور الراسية) التي وردت في قصة سليمان عليه السلام في القرآن الكريم، ويُطلقُ لفظ (رسيّ) على الأعمدة الثابتة في وسط الخيمة أيضاً، ويقال لمكان رسوّ السفن ب «المرساة» حيث تثبت وتستقر السفينة في مكانها.
__________________________________________________
(1) المفردات للراغب؛ ومجمع البحرين؛ ولسان العرب.
نفحات
القرآن، ج 2، ص: 179
وقد يُستخدم هذا اللفظ بمعنى ارساء السِّلم في المجتمع أيضاً لأنَّ السّلم أساسُ ثبات كلِّ بلدٍ.
في القسم الأول من هذه الآيات يدعو الباري تعالى الناسَ إلى البحث والتأمل في آيات اللَّه في السماء والأرض، ثم يشير إلى كيفية خلق الابل وكذلك ارتفاع السموات حيث ارتفعت بدون عَمَدٍ مع مالها من عظمة، وأشار إلى نصب الجبال فقال: «وَإِلى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ».
ولعلَّ هذا التعبير إشارة إلى ثبات واستقرار الجبال في أمكنتها ومنع حدوث الزلازل التي سيشار إليها في الآيات القادمة أو اشيرَ إليه آنفا، أو الوقوف أمام الأعاصير والعواصف، وتوفير الملاجي ء الآمنة للبشر، ومستودعات حفظ المياه على هيئة ينابيع وقنوات وأنهار.
ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة ظريفة إلى مسألة طبيعة تكوين الجبال ووجودها حيث كشفَ العلم المعاصر الستار عنها، إذ يقول: إنّ الجبال تكونت نتيجة لعوامل معينة فقد يكون بسبب تعرُّج الأرض، وأحياناً بسبب البراكين، أو نتيجة الترسبات الناتجة عن الأمطار التي تغمر الأرض وتجرف بعضها معها ويبقى الجزء القوي والصلب ثابتاً في مكانه.
وفي أعماق البحار تتكون الكثير من الجبال نتيجة الترسبات الحيوانية كالمرجان حيث يطلق عليها الجبال أو الجُزُر المرجانية.
ومن الممكن جمع كل هذه المعاني في عبارة «كَيْفَ نُصِبَتْ».
ويقول في القسم الثاني من الآيات كبيانٍ للنعم الإلهيّة: «أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً* وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً»؟
نفحات القرآن، ج 2، ص: 180
«الاوتاد»: جمع (وَتَدْ) (على وزن حَسَدْ)، وتُطلقُ على المسامير الضخمة القوية جدّاً، وقد فسَّرها البعض بالمسامير التي تغور في الأرض وتُربط إليها حبالُ الخيمة «1».
وهنا كيف تكون الجبال بمثابة أوتاد الأرض؟ هناك تفاسير متعددة: أولُها وهو ما ثبت اليوم بانَّ الجبال لها جذورٌ عظيمة في أعماق الأرض، وهذه الجذور متشابكة معاً وتُمسكُ بقشرة الأرض
كالدرع وتحفظها في مواجهة الضغوط الناشئة عن الحرارة الداخلية، ولولاها لما كان لسطح الأرض من قرار.
وفضلًا عن ذلك فكما أنّ جاذبية القمر والشمس تترك تأثيراتها على المحيطات، وتسبب المد والجزر، فانَّ اليابسة لها تأثيرها أيضاً، فيمنحُ درعُ الجبالِ قشرةَ الأرض قدرةَ المقاومة أمام هذا الضغط الهائل.
ومن ناحية ثالثة فانَّ الجبال تصونُ بقاعَ الأرض المختلفة من العواصف والسيول وتقف أمامها كالسور العالي، بحيث لو كان وجه الأرض كلُّه على هيئة صحراء لتعسَّرت حياة الإنسان على سطحها أمام هذه السيول العارمة.
وأهم من كل ما مضى فإنّ الجبال تعتبر بمنزلة الأوتاد القوية لنظام حياة البشر لكونها مركزاً لذخائر المياه.
وجاء في تفسير الميزان أنّ الأوتاد جمع وتد وهو المسمار إلّاأنّه أغلظ منه «2» كما في المجمع ولعل عدّ الجبال أوتاداً مبني على أنّ أكثر جبال الأرض ناتجة من البراكين التي تنطلق من أعماق الأرض فتخرج مواد ارضية مذابة تستقر على فم الشق متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان التي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب والتزلزل.
__________________________________________________
(1) تفسير المراغي، ج 30، ص 4.
(2) تفسير الميزان، ج 20، ص 259.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 181
وفي الآيات الثالثة والرابعة والخامسة عُبِّر عن الجبال ب «الرواسي» حيث يقول:
«وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً».
ويقول في مكان آخر: «وَأَلْقىَ فِى الأَرضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْن».
ويشاهد هذا المعنى في الآية الخامسة أيضاً.
ويستفادُ من مجموع هذه الآيات أنّ أحَد أهم فوائد الجبال هو منع الحركات غير الطبيعية والزلازل الأرضية.
و «تَميدُ»: من مادة (مَيْد) (على وزن صَيْدْ) أي إهتزاز الأشياء الضخمة، وقال البعض إنّها الحركة المتزامنة مع التمايل يميناً وشمالًا، كحركة السفن الخالية بسبب أمواج البحر، ولهذا
يقال «مَيْدان» أثناء المسابقات أو الحروب.
وقد تحدثنا في شرح الآيات السابقة عن تأثير الجبال في منع حركات قشرة الأرض أثر الضغط الداخلي، وجاذبية المد والجزر للشمس والقمر، والاضطرابات الناتجة عن السيول المستمرة، ولا حاجة إلى التكرار.
ويُفهم من هذه الآيات بصورة عامة أيضاً، أنَّ لتكوين الأنهار علاقةً بوجود الجبال، وهو الصحيح، فالأنهار الكبيرة التي تجري على مدى السنة وتسقي الأراضي اليابسة هي من بركة المياه التي تجمعت في أعماق الجبال أو قممها على هيئة جليدٍ أو ثلج، ولهذا تُعتبر الجبال العملاقة في العالم ينابيع لأنهار العالم العظيمة. وربّما يحدث لدى البعض شبهة في كون وجود الجبال يكون حائلًا في عزل الأراضي عن بعضها وسبباً في غلق طرق العبور والمرور، لكن الآيات الواردة أعلاه صرحت بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى جعل طرقاً واودية يسلكها الناس ليهتدوا إلى بلوغ مقاصدهم ونيل مآربهم.
وهذه نقطة ظريفة جدّاً حيث توجد على الدوام في أعماق الجبال العظيمة الشاهقة ممرات وطرقٌ يستطيع الناس من خلالها المرور والعبور، أي أنّها في ذات الوقت الذي تشكلُ سداً قوياً أمام العواصف والأعاصير، فهي لا تمنع عبور ومرور الناس، ونادراً ما تقوم هذه الجبال بعزلِ أجزاءٍ من الأرض بشكل كامل.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 182
وهناك نقطة بالغة الاهمية وهي لو كان سطح الأرض مستوياً، فسوف تكون درجة الحرارة على الأرض عالية جدّاً ومحرقة وذلك بسبب حركة الأرض السريعة حول نفسها وحركة الهواء على سطح الأرض وبذلك تتعذر الحياة على سطح الأرض.
لكن الباري تعالى الذي جَعَلَ الأرض مهداً لراحة الإنسان، أمر الجبال أن تكون مرتفعة في طبقات الجو، وتدور حول نفسها تبعاً لدوران الأرض، كي تمنع اهتزاز الجو وحصول الحرارة.
بناءً على ذلك نلاحظ جيداً أهميّة الدور الذي يلعبُهُ وجود
هذه القطع الصخرية الصمّاء في حياة الموجودات.
بالاضافة إلى ذلك فانَّ الجبالَ تُوجدُ مساحات مسطَّحة شاسعة بسبب التعرجات والانكسارات وتؤدّي إلى مضاعفة الجزء الذي يمكن استغلاله من الأرض لعدّة مرات، وفي نفس الوقت فانَّ أغلبها يعتبر مكاناً لنمو أشجار الغابات الكثيفة وأنواع النباتات الطبية والغذائية والمراتع.
ولعلَّ لهذا السبب جاء الحديث في الآية السادسة عن بركات الأرض واقواتها بعد نصب الجبال في الأرض إذ يقول: «وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيْهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا».
لأنَّ ممّا لا شك فيه أنّ الجبال نفسها وكذلك المياه التي تسيل من بطونها لها دورٌ حساسٌ للغاية في انتاج المواد الغذائية.
وممّا يلفت الانتباه قوله في نهاية الآية: «سَواءً لِلسَّائِليْنَ»، فلعلّه إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ المواد الغذائية تعادل ما يحتاجه السائلون والمحتاجون تماماً، ويمكن أن يكون تعبير «السائلين» إشارة إلى كافة الحيوانات والناس والنباتات (وإذا جاء بصيغة جمع المذكر للعاقل فهو من باب التغليب) نعم فالكل يسأل عن «الاقوات» بلسان حاله.
و «أقوات»: جمع (قوت) وتعني الغذاء، وقد فسَّرها بعض المفسرين ب «الأمطار» فقط، والبعض الآخر فسَّرها بالمواد الغذائية المدَّخرة في باطن الأرض، إلّاأنّ الظاهر هو أنّها
نفحات القرآن، ج 2، ص: 183
إشارة إلى كافة المواد الغذائية التي تخرج من الأرض أو التي تنمو عليها، ولعلَّ التعبير ب «قَدَّرَ» وهي من «التقدير»، إشارة إلى أنّه قد تمّ تقدير وتخطيط كافة احتياجات الإنسان وبقية الموجودات قبل خلقها.
وقد ورد مضمون الآية السابعة في الآيات الآنفة.
وأشار في الآية الثامنة إلى أربع نِعَمٍ الهية: فالأرضُ مستقرةٌ بنحوٍ يستطيع الإنسان والموجودات الاخرى من العيش عليها براحةٍ واطمئنان، وتكوين الأنهار التي تشق سطح الأرض، وخلق الجبال العظيمة الراسخة، وتكوين البرزخ بين البحرين (من الماء العذب والمالح) كي لا يختلط
احدهما بالآخر.
وهذه النعم الأربع ترتبط مع بعضها بنحوٍ مدهش، فالجبال أساسُ استقرار الأرض، ومصدر مياه الأنهار، وهذه الأنهار عندما تصبُ مياهها في البحر فهي تبقى منفصلة بواسطةِ حاجزٍ غير منظورٍ لفترة طويلة لا تختلط مع المياه المالحة، وهذا الحاجز ليس سوى اختلاف كثافة الماء «المالح» و «العذب»، وبتعبير آخر أنّ اختلاف كثافتهما يؤدّي إلى عدم امتزاج مياه الأنهار العذبة بالمياه المالحة لمدّة طويلة، ولهذا فائدة ضرورية للزراعة في المناطق الساحلية، لأنَّ هذه المياه العذبة تتراجع إلى الخلف عن طريق المد والجزر وتُغطي معظم الأراضي الزراعية فتغمر البساتين النَظِرة والمزارع المزدهرة.
فليس جزافاً أن يقول في نهاية هذه الآية: «أَ إِلهٌ مَّعَ اللَّهِ»؟ «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».
أَجَلْ ... فهؤلاء يجهلون أسرار هذه النِعَم والبركات، النِعَمُ الموجودة في كل زوايا وبقاع العالم، وكلٌ منها برهانٌ على تلك الذات المقدّسة، إلّاأنّ هؤلاء الجهلةَ محجوبون عنها.
وفي الآيتين التّاسعة والعاشرة أشار إلى مجموعةٍ اخرى من خصائص ومنافع الجبال، فبعد أنْ ذكرَ خلقَ الجبال التي تقي الإنسان حرارة الشمس المحرقة، يشير إلى الملاجي ء
نفحات القرآن، ج 2، ص: 184
الموجودة فيها حيث يقول: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً».
و «الاكنان»: جمع (كِنّ) على وزن (جِنّ) وكما قال صاحب مجمع البيان هو المكان الذي يضم الإنسان بداخله، إلّاأنّ البعض ذكر ذلك بمعنى كلّ نوعٍ من اللباس، حتى أنّهم اعتبروا «الرداء» «كنّاً» للإنسان، والمقصود ب «اكنان الجبال» المغارات والكهوف التي يستطيع الإنسان أن يستخدمها كملجاً له، قد تكون أهميّة الملاجي ء الجبلية والمغارات مجهولة بالنسبة لسكنة المدن، غير أنّها ذات أهميّة حسّاسة جدّاً للمسافرين العُزّل، وقاطعي الصحراء، والرعاة، والسائرين ليلًا، وغالباً ما تنقذهم من الموت المحتوم، لا سيما وإنَّ هذه الملاجي ء دافئة في الشتاء وباردةٌ في الصيف.
فضلًا عن ذلك
فإنّ بعض الناس منذ غابر الأزمان وحتى يومنا هذا ينحتون بيوتهم في وسط الجبال، وهي مُحكَمَةٌ جدّاً وآمنة تماماً في مواجهة الحوادث الطبيعية، كما ورد في القرآن الكريم حول «أصحاب الحجر» (قوم ثمود): «وَكَانُوا يَنْحِتُوْنَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِيْنَ». (الحجر/ 82)
وهذه فائدة اخرى للجبال.
وفي قسمٍ آخر من هذه الآيات إشارة إلى الطرق التي صنعها الباري تعالى بالوانٍ مختلفة بيضاء وحمراء وأحياناً سوداء بكاملها: «وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُختَلِفٌ أَلوانُهَا وغَرابِيبُ سُودٌ».
و «جُدَدٌ»: جمع (جُدّة) (كغُدَدٌ وغُدَّة) بمعنى الطريق والجادّة، و «بِيضٌ» جمع «أبيض»، و «حُمر» جمع «أحمر»، و «غرابيب» جمع «غربيب» وتعني شديد السواد، ولهذا يقال «غراب»، و «سود» جمع «أسود» ووردت هنا بعد كلمة «غرابيب» للتأكيد.
فطرقُ الجبال المختلفة، بألوانها المتباينة تماماً، لها أهميّة كبيرة حيث تساعد المسافرين في العثور على مقاصدهم، وتنقذهم من التيه، إضافة إلى أن تعدُّد الألوان يدلُّ على اختلاف مركبات الصخور، وقد تكون دليلًا على وجود المعادن المختلفة التي تختفي فيها.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 185
يستفاد جيداً من تسلسل هذه الآيات أنّ خلق الجبال بفوائدها الحياتية والضرورية جدّاً والمصيرية، من البراهين المهمّة على علم وقدرة الباري تعالى وآيات حكمته ورأفته بالإنسان، ويوضح جيداً أن خلقَ هذا العالم وذرات موجوداته، ملي ءٌ بالمعنى والمحتوى إلى حدٍ كلمّا تم التمعُن به تنكشفُ للإنسان أسرارٌ جديدة ويتولد على أثرها حبٌ وارتباطٌ بالخالق جلَّ وعلا.
1- لعلَّ إلى ما قبل قرنٍ من الزمان كانت نظرية العلماء تنصُ على سطحية الجبال، وكان الاعتقاد السائد هو أنَّ كل الجبال عبارة عن قطعٍ صخرية كبيرة تستقر على سطح الأرض، ولكن مع مرور الزمان ازيلَ الحجابُ عن سرٍّ مهمٍ، وتوصلَ العلماء إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الجزءَ الأعظم من
كل جبلٍ يقع تحت الأرض!
وكما يقول «جورج غاموف» في كتاب «قصة الأرض»: «طبقاً للنظريات المعاصرة فانّ جبال الأرض لها أوضاع تشبه الجبال الجليدية التي تتكون تحت تأثير ضغط الثلوج في المناطق القطبية، فكلُ من زار المناطق القطبية يعرف جيداً أنّ القطع الثلجية الضخمة حينما تتكسر تحت تأثير الضغط تتراكم على بعضها، وتندفع نحو البحار- وأثناء ذلك- تنهار اغلب كميات الثلج في المياه، (ولعلَّ عُشرُها فقط خارج المياه وتسعةُ اعشارها تحت الماء)، ولهذا ففي مقابل كلِّ جبلٍ يرتفع على سطح الأرض هنالك جبلٌ تحت سطح الأرض، متكون من مادة حجر الغرانيت يَغوص في ثنايا طبقة من الصخور التحتية الناعمة» «1».
وهنا نصل إلى هذه المسألة الاعجازية في القرآن حيث يطلق على الجبال «اوتاد» ومسامير الأرض، وذلك لأننا نعلم أنّ القِسمَ الأعظم من المسمار يغور في الجدار أو الأشياء الاخرى دائماً.
__________________________________________________
(1) قصة الأرض، تأليف جورج غاموف، ص 126 مع شي ء من الاختصار.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 186
وهنا حيث تستخدم المسامير في تثبيت شي ءٍ ما، أو ربط القطع المختلفة مع بعضها أيضاً، فهذا التعبير يعتبر إشارة لطيفة إلى التأثير المهم للجبال في منع تبعثر قطع الأرض أثر الضغط الداخلي للكرة الأرضية والضغط الناتج عن حالات المد والجزر.
2- لايقتصر دور الجبال على حفظ استقرار وثبات الأرض فحسب، بل تساعد في استقرار المناخ المحيط بالأرض أيضاً، والكل يعلم مدى صعوبة العيش في الصحراء الشاسعة لأنّ الهواء دائماً في حالة من السرعة المقرونة بالغبار والرمال، فيصبح الاستقرار في هذه المناطق عسيراً والتنفس صعباً مقرونا بعدم الراحة.
نعم .. فهذه القمم الشاهقة للجبال هي التي تقف أمام هذه العواصف الهوجاء، وتصدُّها، أو تُرسلها إلى طبقات الجو العليا.
3- إضافة إلى ذلك فإنّ للجبال تأثيراً
بالغاً في نزول الثلوج وهطول الأمطار، لأنّها تقف في طريق الغيوم والرطوبة الصاعدة من البحر، فتوقفها وتدفعها إلى الهطول فينحدر بعض هذه الأمطار من سفوحها، وتحتفظ بالقسم الآخر في هذه السفوح، أو تحتفظ بها على هيئة ثلج وجليد في قمتها.
4- وكذلك فانَّ للجبال دوراً مهماً في تعديل حرارة الجو لا سيما في المناطق الاستوائية، لأنَّ ارتفاع الجبال يؤدّي إلى ابتعاد المناطق المجاورة لها عن سطح الأرض ونحن نعلم أننا كلّما ابتعدنا عن سطح الأرض تزداد برودة الجو.
5- إنّ الجبالَ مصدرٌ مهمٌ لانواع المعادن والثروات الهائلة التي تختفي في أعماقها، ومن أجل أن يظفر الناس بهذه الثروات فهم يتجهون إلى الجبال دائماً للبحث عنها.
6- للجبال دورٌ مهمٌ آخر في ايقاف حركة الكثبان الرملية، فنحن نعلم أنّ الكثبان الرملية تتحرك أثناء هبوب الرياح في الصحراء القاحلة، وقد تدفُنُ تحتها الأشجار والناس والقوافل وحتى القرى وتصبح سبباً في هلاك النباتات والحيوانات، فإذا لم تتم السيطرة عليها فسوف تأتي على جميع أنحاء الأرض، فأيُّ عاملٍ أفضلُ من الجبال يُمكنُه السيطرة عليها؟!
إنَّ هذه الفوائد العظيمة إضافةً إلى فوائد اخرى كثيرة ذكرناها في تفسير الآيات السابقة
نفحات القرآن، ج 2، ص: 187
توضح لنا الدور المهم للجبال من جهةٍ، وعظمة آيات القرآن الكريم في هذا المجال من جهة اخرى
وفي حديث توحيد المفضّل وهو حديث ملي ءٌ بالمعاني، وكاشفٌ لأسرار الخلق في مختلف الجوانب لمعرفة اللَّه، جاء ما يلي:
«انظر يا مفضّل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها، والمنافع فيها كثيرة: فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فيبقى في قلالها لمن يحتاج إليه، ويذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار
العظام، وينبت فيها ضروب من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل، ويكون فيها كهوف ومقايل للوحوش من السباع العادية. ويتخذ منها الحصون والقلاع المنيعة للتحرز من الأعداء، وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء، ويوجد فيها معادن لضروب من الجواهر، وفيها خلال اخرى لا يعرفها إلّاالمقدّر لها في سابق علمه» «1».
وقد تكون العبارة التي جاءت في ختام حديث الإمام عليه السلام إشارة إلى الفوائد المهمّة الاخرى التي اكتُشفت تدريجياً مع تطور العلوم وتمّت الإشارة إليها في البحوث الماضية، المنافع التي لا زالت خافيةً عن أنظار العلم البشري.
عندما يتعرض العلّامة المرحوم المجلسي رحمه الله إلى البحث حول الجبال في كتابه بحار الأنوار، يذكر في تفسير الآية: «والجِبَالَ أَوْتَاداً» سبعة آراء، نذكر ثالثها:
«ما يخطر بالبال وهو أن يكون مدخلية الجبال لعدم اضطراب الأرض بسبب اشتباكها
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 127.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 188
واتصال بعضها ببعض في أعماق الأرض بحيث تمنعها عن تفتّت أجزائها وتفرّقها، فهي بمنزلة الأوتاد المغروزة المثبتة في الأبواب المركبة من قطع الخشب الكثيرة بحيث تصير سببا لالتصاق بعضها ببعض وعدم تفرّقها وهذا معلوم ظاهر لمن حفر الآبار في الأرض فانّها تنتهي عند المبالغة في حفرها إلى الأحجار الصلبة، وأنت ترى أكثر قطع الأرض واقعةً بين جبال محيطة بها، فكأنّها مع ما يتصل بها من القطعة الحجرية المتصلة بها من تحت تلك القطعات كالظرف لها تمنعها عن التفتّت والتفرق والاضطراب عن عروض الأسباب الداعية الى ذلك» «1».
إنَّ هذا الحديث واستناداً إلى التصريح الذي أوردناه آنفاً لاحد العلماء المتأخرين، والذي هو من اكتشافات القرن الأخير، يعتبر أمراً مثيراً جدّاً حيث يشير هذا العالم الإسلامي الكبير إلى ذلك قبل أكثر من
300 سنة.
وهذه نقطة جديرةٌ بالاهتمام أيضاً حيث ورد في روايةٍ أنّ شخصاً سألَ أميرَالمؤمنين عليه السلام قائلًا: مِمّ خُلقتِ الجبالُ؟ فقال الإمام عليه السلام في جوابه: «من الأمواج» «2».
وهذا الحديث يتطابق تماماً مع النظرية المشهورة للعلماء المعاصرين إذ يعتقدون بأنَّ أغلبَ الجبال تكونت نتيجةً لتعرُّج قشرة الأرض بسبب انجمادها كالتجعدات التي تظهر على قشرة التفاح عند جفافها وهذه التعرّجات تشبه الأمواج التي تحدث على سطح الماء، وقد يكون تعبير: «وَأَلْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِيَ». (النحل/ 15)
إشارة إلى خلق الجبال بعد خلق الأرض أيضاً.
__________________________________________________
(1) بحار الانوار، ج 3، ص 127.
(2) بحارالانوار، ج 57، ص 73 و ج 60، ص 120.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 189
إنَّ دورَ الغيوم، والرياح والأمطار، في حياة الإنسان وكافة الكائنات الحيّة واضحٌ إلى حدٍ لا يحتاج معه إلى شرح أو تفصيل، صحيحٌ أنّ الماء يغمُر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ولكن أولًا: أنّ المياه المالحة لا تصلح للري، ولا لشرب الإنسان والحيوانات، وثانياً: لو فرضنا أنَّ كلَّ مياه البحار كانت عذبةً فبأي طريقةٍ يُمكن نقلها إلى المناطق والأراضي التي قد ترتفع عن مستوى سطح البحر عدة آلاف من الأمتار؟
هنا نرى بجَلاء القدرة العظيمة لمُبدى ء الخلق، حيث القى هذا التكليف المهم على عاتق أشعة الشمس لتشرق على المحيطات وتَقوم بتبخير وتصفية مياهها، فيظهر على هيئة قطعٍ من الغيوم، ثم تتجه به نحو المناطق الجافة بمساعدة الرياح، وتُنزله عليها بصورة قطرات مطر لطيفةٍ وصغيرة وبهدوء، حيث تدُب الحياة في جميع أرجاء المعمورة، فينتشر الإزدهار والإعمار والخُضرة في كُل مكان، وهذا يأتي من خلال نظامٍ دقيقٍ ومحسوب مقرون بظرافة بالغة.
وبعد هذا التمهيد القصير نتجه نحو آيات القرآن الكريم بهذا الخصوص فنقرأ خاشعين الآيات الآتية:
1- «اللَّهُ الَّذِى
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً
نفحات القرآن، ج 2، ص: 190
فَتَرى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ».
(الروم/ 48)
2- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَليُذِيقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (الروم/ 46)
3- «وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلَنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ». (الاعراف/ 57)
4- «وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحِيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. (فاطر/ 9)
5- «انَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاختَلفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ الَّتِى تَجرى فِى البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وتَصْرِيْفِ الرِّياحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالارْضِ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». (البقرة/ 164)
6- «أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ* أَأنْتُمْ أنْزَلُتمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ اجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ». (الواقعة/ 68- 70)
7- «أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَّرِ والْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّه تَعالىَ اللَّهُ عَمَّا يُشرِكُونَ». (النمل/ 63)
8- «وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ». (الحجر/ 22)
9- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيْعَ فى الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً مُّخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ... إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِى الأَلْبَابِ». (الزمر/ 21)
10- «وَأَنْزَلنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ ماءً ثَجَّاجاً* لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتَاً* وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً».
(النبأ/ 14- 16)
11- «وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
نفحات القرآن، ج 2، ص: 191
طَهُوراً». (الفرقان/ 48)
12-
«أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ». «1»
(السجدة/ 27)
«الرياح»: تكررَ هذا اللفظُ عشرَ مراتٍ في القرآن الكريم، تسعٌ منها إشارة إلى الرياح التي تُحركُ الغيوم وتُعِدُّها لتنزل الأمطار.
و «الرياح»: في الأصل جمع (ريح) وتعني الهواء المتحرك، وأصلُها «رَوْحْ»، وغالباً ما تعتبر مؤنثاً لفظياً، والجدير بالذكر أنّها تستخدم بصيغة الجمع دائماً في الآيات التي تتعلق بحركة الغيوم ونزول الأمطار في القرآن الكريم، وذكر البعض دليلًا على ذلك بأنَّ الرياح إذا تحركت بشكلٍ جماعي فانّها تنشر الغيوم وتُكوِّنُ أمطاراً غزيرة ومليئة بالبركة، وإذا تحركت على هيئة أجزاءٍ متفرقة فانّها تكون عقيمة وغير مفيدة، بل مضرّةً عندئذ، لذلك ورد في الدعاء: «اللّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» «2»
.
ويقول «الراغب في المفردات»: في جميع الموارد التي ذكر اللَّه تعالى لفظة «الريح» بصورةٍ مفردة (في القرآن) فهي تحكي عن «العذاب»، وأينما ذكرت بصيغة الجمع فهي تحكي عن الرحمة.
وقول الراغب صائبٌ في ما يَخص «الرياح» في صيغة الجمع، ولكن ليس هناك تعميمٌ في مورد «الريح» بصيغة المفرد، لإنَّ «الريح» استخدمت في القرآن بصيغة المفرد في مورد
__________________________________________________
(1) توجد في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، وما ورد أعلاه مقتطفات من هذه الآيات بامكانها تبيان ابعاد هذه الامور الثلاثة المهمّة وهي كما يلي: الانعام، 99؛ ابراهيم، 32؛ النحل، 65؛ طه، 53؛ الحج، 63؛ النمل، 60؛ العنكبوت، 63؛ لقمان، 10 و 11؛ فاطر، 27؛ فصلت، 39؛ الرعد، 17؛ الأعراف، 57؛ الحجر، 22؛ النمل، 63.
(2) مجمع البحرين- مادة (ريح).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 192
النعمة أيضاً، كما في قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا
بِهَا». (يونس/ 22)
ونقرأ أيضاً بخصوص سليمان عليه السلام: «وَلِسُلَيَمانَ الرِّيْحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَواحُهَا شَهْرٌ». (سبأ/ 12)
و «تَصْريفِ الرِّياح» تعني نقل الرياح من حالٍ إلى حال (من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال)، وهي من مادة (صرف) (على وزن حرف) أي تحويل الشي ء من حالةٍ إلى حالةٍ اخرى أو إِبداله بشي ءٍ آخر «1».
وقد يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الرياح لو سارت باتجاهٍ واحدٍ باستمرار فمن الممكن أن تدفعَ بالرطوبة والغيوم المتصاعدة من البحار نحو جهة واحدة فقط أما تغيُّر الرياح فانّه يؤدّي إلى أن تتحرك الغيوم من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، وتَستفيد أغلبُ المناطق الجافة من الأمطار إلى اقصى حد.
فضلًا عن ذلك وكما سيأتي فإنّ فائدة الرياح لا تنحصر بحركة الغيوم، بل لها منافع كثيرة اخرى سنشير إليها في تفسير الآيات- إن شاء اللَّه- «2».
و «السَّحاب»: من مادة «سَحْب» (على وزن مَحْو)، وتعني في الأصل الجرَّ، حيثُ تُسحبُ الغيوم بواسطة الرياح، أو أنّ الغيوم تسحبُ المياهَ نحو أيِّ اتجاهٍ، فيُطلقُ اسم «السحاب» عليها، وقد يُستخدم هذا المفهوم بمعنى الظِّل أو الظلام من باب التشبيه.
واللطيف إنَّه قد تمَّ التعبير في الآيات أعلاه ب «سُقناه» من مادة «سوق» أي «الدفع» وقد استُعمِلَ هذا التعبير لأنَّ اللَّه تبارك وتعالى يدفعها نحو اتجاه معيَّن (بالرغم من أنّ السحاب يتحرك طبيعياً).
و «مُزن»: على وزن «حُزن» وتعني «الغيوم الواضحة»، وفسَّرها البعض ب (الغيوم الممطرة) «3».
__________________________________________________
(1) مجمع البحرين، ومفردات الراغب.
(2) يُقسِّمُ العربُ الرياحَ إلى اربعة اقسام: «الشمالية» التي تهب من الشمال، و «الجنوبية» التي تهبُّ من الجنوب، و «الصبا» التي تهبُّ من الشرق، و «الدبور» التي تهبُّ من الغرب.
(3) مفردات الراغب ولسان العرب، مادة (مُزن).
نفحات القرآن، ج 2،
ص: 193
ولهذا يُطلقُ على الهلال الذي يبرز من بين الغيوم ب (ابن مُزنة)، و (مازن) تعبيرٌ يطلق على بيض النمل.
و «بُشْر»: (على وزن عُشْر)، وحسب ما جاء في (مصباح اللغة) فهي مأخوذة من (بَشَرْ) (على وزن سَقَرْ) أي السرور والفرح «1».
والسببُ في تسمية القرآن الكريم للغيوم ب «بُشْر» و «مُبَشِّرات» لأنّها غالباً ما تكون مبشِّرات بهطول المطر الذي يَهَبُ الحياة.
أشارت الآية الاولى من البحث وكتعريفٍ بالذات الإلهيّة المقدّسة إلى مسألة هبوب الرياح وحركة الغيوم بواسطتها حيث يقول: «اللَّهُ الَّذى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً».
ثمَّ تعرضت إلى بسط الغيوم في كبد السماء، وتراكمها فوق بعضها، وفي الختام أشارت إلى خروج قطرات الأمطار من وسطها، فيقول: «فَيَبْسُطُهُ فِى السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرىَ الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ».
و «الكِسَفْ»: على وزن (قِمَم) تعني هنا تراكم قطعِ الغيوم حيث تستعد لنزول المطر، و «الودق» (على وزن خَلْقْ) تُطلقُ على الرذاذ الذي يشبه الماء، وفسَّرها البعض بأنّها قطرات المطر.
وفي نهاية الآية أُشير إلى استبشار عباد اللَّه أثر نزول المطر فيقول: «فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَستَبْشِرُونَ».
وعليه فانَّ الرياح لا تُحرِّكُ الغيومَ فقط، بل تبسطها في السماء ثم تضعها على بعضها
__________________________________________________
(1) «بُشْر» اسم مصدر وتأتي بمعنى اسم فاعل (مُبَشِّر) أيضاً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 194
وتقوم بتبريد أطراف الغيوم وإعدادها لإنزال المطر.
فالرياح شأنها شأن الرعاة ذوي الخبرة والتجربة حين يقومون بجمع قطيع الماشية في وقتٍ محدَّدٍ من أطراف الصحراء ويسوقونها في طريقٍ معينٍ، ثم يحضّرونها للحلب.
فلا سُمكُ الغيوم يكون بحد بحيث يمنع خروج قطرات المطر، ولا شدّة الرياح بالقدر الذي تمنع نزول هذه القطرات إلى الأرض. ولا تكون قطرات الأمطار صغيرة بالقَدْرِ الذي يجعلها تبقى معلقةً
في السماء، ولا كبيرة حيث تؤدّي إلى تدمير المزارع والبيوت، ولا يقتصر نزول المطر على بشارة الناس بالإعمار والازدهار فقط، بل إنَّه يُصَفّي ويُلطِّفُ الجو ويبعثُ على النشاط.
والملفت للنظر أنّ الآيات التي تلي هذه الآية من سورة الروم تُذكِّر بالرحمة الإلهيّة في إحياء الأرض بعد موتها: «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا». (الروم/ 50)
ومن أجل إدراك مفهوم هذه الآية يكفينا مشاهدة صورٍ من بعض الصحارى والمزارع في بعض المناطق في أفريقيا كيف خيَّم عليها شبحُ الموت أثر الجفاف المستمر، ورحلت عنها ملائكة الرحمة والحياة.
وفي المقابل فإنّ هذه الأمواج اللطيفة للرياح التي تَخترقها قطراتُ الأمطار بسهولةٍ، تقوم أحياناً باقتلاع الأشجار الضخمة، وتُدمِّرُ المبَاني، وتختطفُ الإنسان معها إلى السماء ثم تقذفه إلى مكانٍ آخر إذا ما أمرت بذلك.
وتتعقبُ الآية الثانية هذا الموضوع أيضاً بشي ءٍ من الاختلاف، فهي تصفُ الرياحَ بالمبشِّرات، وبالإضافة إلى مسألة نزول الأمطار فهي تشير إلى حركة السفن بواسطة الهبوب المنظَّم للرياح أيضاً، فجاء في النهاية: «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
ومن الممكن أن تكون عبارة «وَليُذيْقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ» إشارة إلى بقية فوائد الرياح، كتلقيح الأشجار، ودفع العفونات وتصفية الأجواء وغيرها كما تمّ توضيحه في تفسير الميزان «1».
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 16، ص 209.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 195
والحقيقة أنّ الإنسان لا يعرف قَدْرَ النعمةِ إلّاإذا سُلبت منه، فلو توقفت هذه الرياح والنسمات يوماً واحداً لأصبح العيش في أجملِ البساتين والمزارع اسوأ من العيش في مطامير السجون المظلمة، ولو هبَّت نسمةٌ على طامورةٍ انفراديةٍ فهي تضفي عليها صبغة الفضاء الطلق. ولو توقَّفَت الرياح فوق سطح المحيطات، وتوقّفت الامواج، فانَّ حياة الكثير من الاحياء المائية تتعرض إلى الخطر بسبب نقص الاوكسجين، وتتبدَّل
البحارُ إلى مستنقعات متعفنة رهيبة.
واهتَّم في الآية الثالثة بهذا الأمر أيضاً مع هذا التفاوت وهو اعتبار الرياحَ مقدمة لرحمته، ووصفَ الغيوم ب «الثِّقال» أي (الأحمال الثقيلة، جمع ثقيل) لانَّ الغيوم الممطرة اثقل من بقية الغيوم، وتكون قَريبة من الأرض، لذلك عبَّر عنها القرآن الكريم ب «الثِّقال».
و «اقلَّت»: من مادة «إقْلالْ» وتعني حملُ شي ءٍ يكون خفيفاً بالنسبة لقدرة الحامل، فهو يعتبره قليلًا ولا قيمة له، إنّ وجود هذا التعبير في الآية أعلاه يبرهنُ على أنّ الغيوم الثقيلة التي قد تحملُ معها ملايين الاطنان من المياه لا تُحمّلُ الرياح ثقلًا كبيراً، وهذا عرضٌ لقدرة اللَّه تعالى
وقد أشارت الآية الرابعة إلى أنّ ارسالَ الرياحِ لأداء هذا الدور العظيم هو أحد آثار عظمة الذات الإلهيّة المقدَّسة، إذ يُحيي الأراضي الميتة بواسطة هذه الرياح.
والجدير بالذكر هنا هو أنّ الآية استعملت كلمة «تثير» أي أنّ الرياح تُثير السُحبَ، وقد يكون هذا التعبير إشارة إلى تكوُّنِ الغيوم بسبب هبوب رياح المناطق الحارّة على سطح المحيطات حيث تؤدّي إلى تكاثف الغيوم، لأنَّ مسألة حركة الغيوم اخِذَتْ بالاعتبار في
نفحات القرآن، ج 2، ص: 196
عبارة «فسقناه»، وعليه فانَّ الرياح لها أثرٌ مهمٌ في حصول الغيوم، وكذلك في تحريكها نحو المناطق الجافة، ورفعها إلى اعالي الجو وتهيئة الظروف لهطول الأمطار.
وذِكْرُ هذه العبارة بصيغة الفعل المضارع «تثير» إشارة إلى عمل السُحبِ الدائم والمستمر أيضاً.
على أيّة حال فانَّ هذه المسألة تُعتبر برهاناً على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا وكذلك دليلٌ على قدرته في المعاد، ولهذا تمت الإشارة إلى مسألة المعاد في ختام بعض هذه الآيات.
واستند في الآية الخامسة من بحثنا إلى خلقِ سبعةِ أشياءٍ مختلفةٍ كآياتٍ ودلائل على علم وقدرة اللَّه تعالى ليستفيد منها المفكرون والعقلاء
وهي: خلق السماء، والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفُلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، والأمطار، وهبوب الرياح واختلافها، والسحب المعلقة بين الأرض والسماء.
واستند في هذه الآية على مسألة الحركات المختلفة للرياح: «وَتَصْرِيْفِ الرِّياحِ»، وكذلك الغيوم المعلقة بين الأرض والسماء: «وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّر بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»، السحبُ التي تحمل ماء البحار في أوساطها، وهي في ذات الوقت معلقة بين الأرض والسماء، فهي تمثل في الواقع أعظم آيات اللَّه، «فتحيي الأرضَ بنزول المطر وتبّثُ أنواعاً مختلفةً من الدّواب على وجه الأرض»: «فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ».
وعندما نشاهد أنّ الرياح والغيوم قد ذكرت في هذه الآية بعد نزول الأمطار فلعلّها من أجل الإشارة إلى هذه النقطة، وهي أنّ فائدة الرياح لا تنحصر بتحريك الغيوم وانزال المطر فحسب، بل لها فوائد جمّة اخرى تمّت الإشارة إليها سابقاً، وسيشار إليها في نهاية الموضوع أيضاً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 197
وبغض النظر عن كون الغيوم هي السبب في هطول الأمطار، فإنّ الغيوم لوحدها تعتبر ظاهرة عجيبة أيضاً، لأنّها تحتفظ ببحارٍ من المياه وهي معلقةٌ بين الأرض والسماء «1».
وتستَند الآية السادسة إلى مسألة مياه شرب الإنسان، وتذكر موضوعاً جديداً حيث تقول: «أَفَرَأَيْتُم المَاءَ الَّذِى تَشْرَبُون* أَأَنْتُمْ أنزَلُتمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحنُ المُنْزِلُونَ»؟ ثم يضيف تعالى «لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ» فلو أنَّ ماء البحر يصطحبُ أثناء تبخره إلى السماء ذرّات الأملاح الصغيرة، وتنزلُ المياه المالحة والمرَّة من الغيوم لتحولّت الأرضُ إلى مملحةٍ، فلا ينمو نباتٌ، أو شجر، وإذا أراد الإنسان أن يدفع الموت عنه أثر العطش لم يستطع أن يتجرع شربة من هذا الماء أبداً.
إنّ القدرة التي جعلت الماء يتبخر والأملاح الموجودة في مياه البحار تبقى في
مكانها، هذه العملية التي أثرت على حياة الإنسان وغيرت مجراها بل أثرت على أوضاع كل المخلوقات على وجه الكرة الأرضية، هل يستطيع الإنسان أن يشكر هذه النعمة طيلة بقائه حياً في هذه الدنيا؟
وكما قلنا فإنّ «المُزْن» تعني الغيوم الممطرة و «الأجاج» تعني الماء الشديد الملوحة أو المرارة.
وأشار في الآية السابعة إلى هِبَتَين عظيمتين اخريين من هِبات اللَّه إلى عباده وهما: هبة الهداية في ظلمات البر والبحر «بواسطة النجوم»، وهبة ارسال الرياح كمبشِّراتٍ قبل نزول أمطار رحمته، فحيثما تنزلُ الأمطار تصدحُ الحياة بنغماتها وتكون أساساً لأنواع الخير والبركة.
__________________________________________________
(1) يجب الانتباه إلى أنّ السحاب: البخار المتراكم وتسميه العرب (ضباباً)- بالفتح- مالم ينفصل من الأرض فإذا انفصل وعلا سُمّي (سحاباً وغيما وغماماً)، (تفسير الميزان ج 1، ص 411).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 198
ويستند في نهاية الآية على هذين الموضوعين كوثيقةٍ لإثبات وحدانية اللَّه تعالى ويخاطب المشركين: «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّه تَعَالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»، ولعلَّ ذكرُ هاتين الهِبَتين معاً إشارةٌ إلى هذا المعنى وهو عندما يكون الجو صافياً يمكن الاستفادة من النجوم ليلًا في الإهتداء إلى الطريق للوصول إلى الهدف، وإذا كان الجو غائماً فثمة رحمة أخرى وهي المطر ينالها الإنسان، إذنْ ففي كلا الحالتين هناك موهبة ورحمةٌ، وهو برهانٌ لمعرفة الذات الإلهيّة المقدّسة.
وفي الآية الثامنة إشارة إلى مسألة الرياح ونزول الأمطار بتعبيرٍ جديد، فيقول:
«وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَواقِحَ».
هل أنّ المقصود من الآية الكريمة هو حمل حبوب اللقاح بواسطة الرياح لتلقيح النباتات التي ستحمل الفواكه والثمار من بعد ذلك، أم المقصود هو تلقيح السحاب لكي يحمل المطر؟
وبالنظر لقوله في تكملة الآية: «فَأَنْزَلنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ»، فيظهر أنّ المعنى الثاني أكثر تناسباً، بالرغم من إمكانية الاستفادة من المعنيين
معاً.
على أيّة حال، فانَّ التعبير أعلاه تعبيرٌ لطيفٌ جدّاً حيث شَبَّه قِطعَ الغيوم بالامهات والآباء، فتتلاقح هذه الغيوم عن طريق الرياح ثم تحملُ، وتضعُ جنينها أي قطرات الأمطار على الأرض!
ويشيرُ في ختام الآية إلى المياه الجوفية المخزونة تحت الأرض، والتي هي من الذخائر الإلهيّة للناس، فيقول: «وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ».
فنحن الذين أمرنا طبقات الأرض أن تحتفظ بمياه الأمطار الصافية في داخلها، وقد تكون الآبار والقنوات التي تستخدمونها اليوم هي من احتياطي المياه التي ذُخرت لكم منذ ملايين السنين في باطن الأرض، من غير أنْ تَتلوث أو تتعفن.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 199
وقد نقوم بخزنها عن طريق تجميدها في قمم الجبال على هيئة جليد وثلجٍ كي تصبح ماءً بشكلٍ تدريجيٍ، ونسقيكم أنتم وحيواناتكم ومزارعكم، وربّما تكون المياه التي تنحدر من القمَّة الفلانية اليوم مخزونةً منذ ملايين السنين.
وفي الآية التاسعة، فبالاضافة إلى إشارته إلى نزول الأمطار من السماء، فهو يشير إلى مسألة تكوُّنِ الينابيع، فيقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ انْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيْعَ».
و «ينابيع»: جمع «ينبوع» وتعني العَيْن، وهي في الأصل مأخوذة من مادة (نَبْعْ) وتعني انبثاق الماء من الأرض، ومن الطبيعي إنَّ تكوُّنَ الينابيع في الأرض الذي يجعل الإنسان يستفيد من الماء الجاري بدون الحاجة إلى قوة اخرى يتبع ظروفاً خاصةً أولُها: أن تكون طبقة الأرض قابلة للاختراق كي يتغلغل الماء خلالها، ثم يجب أن يكون ما تحت هذه الطبقة صلداً كي يتوقف الماء ويُخزنَ هناك، وأن يكون هناك فارقٌ في المستوى بين خزانات المياه والمناطق الاخرى حتى ينسابَ الماء من هناك إلى بقية النقاط، ومن المسلَّم به استحالةُ تناسق هذه الأمور لولا تخطيط مُبدي ء العلم والقدرة.
ويضيف في سياق الآية: «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً
مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ».
فيمكنُ أنْ يكون اختلاف الألوان هذا إشارة إلى ألوان النباتات المختلفة تماماً، أو إشارة إلى أنواع النباتات وأزهار الزينة والاعشاب الطبية والصناعية والخضروات التي يأكلها الإنسان والتي لها أنواع لا تحصى في الواقع.
أَجَل .. إنّ اللَّه تعالى يستخرج من هذا الماء الذي لا لون له مئات الآلاف من ألوان الورود والنباتات المنتشرة في هذه الرياض الكثيرة، وكما يقول الشاعر نقلًا عن اللغة الفارسية:
فإذا توصَّلت إلى أسرارها ستعرف أنّ هذا هو سر الأسرار حيث هناك واحدٌ ولا يوجد غيره «وحده لا اله إلّاهو» لهذا فهو يقول في نهاية الآية: «إِنَّ فى ذلِكَ لَذِكْرى لأُولى الألْبَاب».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 200
وقد أُشير في الآية العاشرة إلى نكتةٍ جديدة اخرى فيقول: «وَأَنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً».
و «مُعْصِرات»: جمعُ (مُعْصِر) من مادة «عَصْر» وتعني الضغط، والمُعصرات تعني الضاغطات، وما هو المقصود هنا بهذا التعبير؟ لقد ذكروا تفاسير متعددة: فالبعض اتخذها صفةً للغيوم، إذ اعتبرها إشارة إلى نظامٍ خاص يتحكم بها عندما تتراكم على بعضها، فكأنّما تعصِر نفسها كي تجري الأمطار منها، واعتبر هذا التعبير من المعاجز العلمية للقرآن الكريم «1».
إلّا أنّ البعض الآخر اتخذها صفةً للرياح، واعتبرها إشارة إلى العواصف الرملية والأعاصير الشديدة والزوابع الترابية، حيث لها تأثيرٌ عميق في تكوين الأمطار والرعد والبرق (علماً أنّ «الإعصار» يعني ريح ترتفع بالتراب أو بمياه البحار).
فيقول هؤلاء .. أثناء هبوب العواصف الرملية الشديدة على سطح البحار والمحيطات فانّها تحمل معها البخار من على سطح المحيط، وحينما تصل به إلى نقاط الجو العليا الباردة جدّاً، وحيث تكون قدرة إشباع البخار هناك ضعيفة، يحصل الرعد والبرق الشديد، وبما أنّ «ثجّاجاً» صيغة للمبالغة، وهي من مادة «ثَجَ» على وزن (حّجَّ) وتعني سكب
الماء تتابعاً وبكثرة فهي تتناسب كثيراً مع مثل هذا الرعد والبرق «2».
واعتبرها البعض إشارة إلى الغيوم التي تتزامن مع العواصف الرملية والأعاصير «3»، فهذه العواصف تسوق الغيوم نحو الأعلى وتأخذها نحو مناطق الجو الباردة حيث تتبدّل هناك إلى قطرات من الماء، وبما أنّ هذا العمل يتمّ سريعاً فهو يولد زوابع رعدية شديدةٍ و «الماء الثجّاج»، ونلاحظ كثرة مثل هذه الزوابع الرعدية في فصل الربيع ولعله بسبب كثرة حالات الزوابع الرعدية والعواصف في هذا الفصل.
__________________________________________________
(1) راجِع كتاب الريح والمطر، ص 126.
(2) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة، ص 67.
(3) التفسير الكبير، ج 31، ص 8 إذ ذكر هذا المعنى كأحدِ التفاسير لهذه الآية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 201
ويضيف في سياق هذه الآيات: «لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً* وَجَنَّاتٍ الْفَافاً»، ويشمل هذا التعبير جميع أنواع النباتات والحبوب وأشجار الفاكهة.
وفي الآية الحادية عشرة، وبعد بيان ما جاء في الآيات السابقة: «وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ»، يَرِدُ ما يلي: «وَأَنْزَلنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوْراً».
وهذا موضوع جديدٍ حيث يستند إليه في هذه الآية.
و «الطّهور»: صيغة مبالغة من «الطهارة» والنقاوة حيث تفيد طهارةَ الماء وكذلك كونه مطهّراً، ولو لم تكن للماء صفة التطهير لتلوثت كلُّ مقومات حياتنا واجسامنا وأرواحنا خلال يومٍ واحد، ويمكن أن نلمسَ حقيقة هذا الكلام إذا ما ابتُلينا تارة بفقدان ماء للتنظيف، حينها يصعبُ توفير الغذاء، وسنفقد نظافة الجسم والنشاط والطراوة والصحة والسلامة.
صحيحٌ أنّ الماء لا يقتل الجراثيم ولكنّه (مُذيب) جيد فهو يقوم بتحليل أنواع الجراثيم وإزالتها، ولهذا فهو عاملٌ مؤثرٌ في تأمين السلامة، ويطهِّرُ روحَ الإنسان من الأدران عن طريق الوضوء والغُسل أيضاً.
وليس عبثاً أن يأتي في الآية: «لِنُحْىَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً».
ثم
نواجه في الآية الثانية عشرة والأخيرة مسألةً جديدةً وهي أنّ اللَّه تعالى يسوق المياه إلى الأرض «الجُرُز» أي الجافة اليابسة الخالية من الكلأ، فيقول: «أَوَلَمْ يَرَوا انَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلىَ الأَرْضِ الجُرُزِ»؟! «فَنُخرِجُ بِه زَرَعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أنْعَامُهُمْ وأَنْفُسُهُمْ»، فيَأكلون الحبوب وتأكل بهائمهُم السوق والأوراد والجذور.
ويستفاد من كلام أرباب اللغة أنّ «الجُرُز» ماخوذة في الأصل من مادة (جَرَز) على وزن (مَرَضْ) وتعني (الانقطاع) أي انقطاع الماء، والنبات، والإعمار والطراوة، ولذا يقال
نفحات القرآن، ج 2، ص: 202
للناقة التي تأكل وتقطع كل شي ء ب «ناقة جروز»، ولمن يأكل كل ما موجود على خوان الطعام ويفرغها تماماً ب «رجل جروز» «1»
.
ويقول في نهاية الآية داعياً إلى التفحص في هذه النِعَم الإلهيّة العظيمة وآيات التوحيد:
«أَفَلا يُبْصِرُوْنَ».
ولكن لماذا تقدمت «الانعام» على الإنسان في الآية المذكورة؟ يقول بعض المفسِّرين:
لأنَّ الزرعَ أول ما ينبت يصلح للدواب ولا يصلح للإنسان بالإضافة إلى أنّ الزرعَ غذاء الدَّواب وهو لابدَّ منه، في حين أنّ للإنسان اغذية اخرى «2».
يستفادُ جيداً من الآيات الآنفة وبالانتباه إلى المسائل الدقيقة والظريفة التي انعكست فيها، أنّ هناك نظاماً دقيقاً جدّاً ومضبوطاً يسود وجود الرياح والغيوم والأمطار، حيث كلّما أطالَ الإنسان التمعُن فيها تزداد معرفته بالظرافة والمنافع والبركات الكامنه فيها.
فقد اعتُبر الماء في بعض هذه الآيات أساساً للحياة، وفي بعضها وسيلةً للنظافة، وفي بعضها كموجودٍ مباركٍ (سورة ق، 9)، وفي البعض الآخر كمشروبٍ سائغ «مَاءً فُراتاً».
(المرسلات/ 27)
ومن مجموع ذلك فاننا أينما وجهنا النظر وحدقنا نعثر على آثار حكمة اللَّه البالغة، وأينما يقع بصرُنا تتجلى لنا صورة من العظمة الإلهيّة.
إنَّ مصدرَ حصول الريح هو الاختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين مختلفتين من
__________________________________________________
(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، و مصباح اللغة.
(2) تفسير الكبير، ج 25، ص 187.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 203
الأرض، ويمكن تجربة هذا أثناء فصل الشتاء حيث يكون هواء الغرفة حاراً وفي خارجها بارداً، فلو وضعنا شمعتي إضاءة عند طرفي الباب العلوي والسفلي وفتحنا الباب قليلًا سيتضح هذا الأمر جيداً إذ إنَّ الهواء البارد وبسبب ثقله يدخلُ من الاسفل والهواء الحار يخرج من الأعلى لخفّته فيحرك شعلةَ الشمعة باتجاهه (إنَّ الهواء الحار يكون ممدداً وخفيفاً والهواء البارد مضغوطاً ثقيلًا،) ولو لم تكن هذه الصفة وتتوقف الرياح عن الحركة فايُّ بلاءٍ عظيمٍ سينزل على الإنسان؟!).
كما نعرفُ أيضاً أنّ للكرة الأرضية ثلاث مناطق، فالمنطقة الباردة (الأطراف القطبية)، والحارّة جدّاً (المناطق الاستوائية)، والمعتدلة (المناطق التي تتوسط هاتين المنطقتين).
وهذا الاختلاف في درجات الحرارة على الأرض يكون سبباً في انتقال الهواء من جهةٍ إلى اخرى وأهمّه الرياح التي تُسمى «الرياح القطبية» (وهي الرياح التي تهبُّ من القطب نحو المنطقة الاستوائية ولأنّها تكونُ باردةً فهي تسير بالقرب من سطح
الأرض)، والرياح «الاستوائية» (وهي الرياح التي تهبُّ من المنطقة الاستوائية نحو القطب وبما أنّها تكون حارَّة فهي تتحرك في طبقات الجو العليا) «1».
فضلًا عن أنّ ماء المحيطات لا يكون حاراً كحرارة السواحل أثناء شروق الشمس، إضافة إلى أنّ ماء البحر يفقد حرارته ليلًا اسرعُ ممّا يفقده الساحل، فهذا الاختلاف في درجات الحرارة بين ماء البحر والساحل يتسبب أيضاً في هبوب الرياح باستمرار من البِّر إلى البحر ومن البحر إلى البِّر أيضاً.
وإضافة إلى كل هذا فانَّ كروية الأرض تؤدّي إلى أن تقع بعضُ المناطق في مواجهة الشمس مباشرة (أثناء الظهر)، وأن تَشِّعَ الشمسُ على المناطق الاخرى بشكلٍ مائلٍ (أثناء الشروق والغروب)، فهذا الاختلاف في درجات الحرارة أحد أسباب حصول الرياح في مختلف المناطق أيضاً (وكذلك هناك عوامل معقّدة اخرى .
وتتظافر هذه الأسباب في تحريك الرياح في سائر انحاء الكرة الأرضية وتتزامن معها
__________________________________________________
(1) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة، ص 65.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 204
الفوائد الجمَّة التالية التي تمَّت الإشارة إليها في الآيات السابقة:
1- للرياح نصيبٌ مهمٌ في تكوين الغيوم بسبب هبوبها على المحيطات.
2- إنّ الرياحَ تصطحبُ معها الغيوم إلى المناطق الجافة واليابسة ولولاها لاحترقَ جانبٌ كبير من الكرة الأرضية بسبب الجفاف.
3- إنّ الرياحَ تلطِّفُ الجوَّ وتجلبُ الاوكسجين الضروري من المناطق البعيدة.
4- إنّ الرياحَ تأخذ معها التلوث حيث تساعد في تنقية الجو عن هذا الطريق.
5- إنّ الرياحَ تُقللُ من شدّة حرارة الشمس على أوراق النباتات، وتمنع احتراقها بهذه الأشعة، وبصورة عامة فانّها وسيلةٌ مهمةٌ لاعتدال الجو في بقاع الأرض.
6- إنّ الرياح- وكما قلنا في تفسير الآيات- تعصُر الغيوم وتُعدُّها لإنزالِ المطر.
7- إنّ الرياح تسوقُ الغيوم نحو طبقات الجو العليا، وبسبب البرودة وفقدان قدرة تحمل الاشباع
تتحول إلى قطرات مطرٍ تهبُ الحياة.
8- إنّ الرياح تُحرِّك السفن الشراعية في المحيطات، كما أنّها تُعتبر أحد المصادر المهمّة للطاقة.
9- تُستخدم الرياح لتشغيل الطاحونات الهوائية.
10- إنّ الرياح تُعتبرُ وسيلة مهمة جدّاً للمزارعين في تصفية الحنطة وغيرها وعزلها عن التبن.
11- إنّ الرياح تعملُ على تحريك مياه البحر فتحصل الأمواج وهذه الأمواج تؤدّي بدورها إلى اختلاط الهواء مع الماء، فيكون أساساً لحياة الموجودات في البحر، ولولا الرياح والأمواج لتبدَّل البحر إلى مستنقعٍ آسن لا حياة فيه.
12- وختاماً فانَّ الرياح تساهم في تلقيح النباتات، إذ تحمل حبوب اللقاح إلى الأجزاء الانثوية، ولو تقاعست عاماً واحداً لتناقصت كمية الفاكهة المنتجة لدينا!
هذا جانبٌ من بركات هبوب الرياح الذي توصَّلَ إليه العلمُ البشري حتى الآن ومن المسلَّم به أنّ بركاتها لا تنحصر بما قلناه، وينبغي الانتظار حتى يرفعَ العلمُ الحجابَ عن
نفحات القرآن، ج 2، ص: 205
أسرار جديدة، ولكن كُلًا من الامور المذكورة أعلاه يكفي لوحده أن يبرهنَ لنا على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا، ناهيك عن مجموعها، فكم هو رحيم ورؤوف ذلك الإله الذي يُكُنُّ لعباده كلَّ هذا العطف والمحبّة، وكَمْ مليئة ب (البركة) تلك «الحركة» التي تترك كل هذه الآثار الايجابية المهمّة أثناء هبوب ذرات الهواء؟.
لا يخفى أنّ الغيوم هي ذرّات بخار الماء، أو بتعبير أكثر دقّة هي ذرات الماء التي انفصلت جزئياتها عن بعضها وتحولت إلى بخار.
إنَّ التمعنَ في ما يخص تكوّن الرياح والأمطار يكشف لنا أسراراً لطيفةً عن هاتين الظاهرتين العجيبتين، منها:
1- إنّ أغلبَ السوائل لا تتبخر إذا لم تصل إلى درجة الغليان، إلّاأنَّ الماء من السوائل المستثناة حيث يتبخر في أي درجة من الحرارة، ولولا هذه الميزة في الماء لما تبخرت قطرة واحدة من ماء
البحر، ولما تكوّنت الغيوم، ولما نزلت المطر ولاحترقت اليابسة من الجفاف.
2- وهذا ما يجدر بالاهتمام أيضاً، فأثناء عملية التبخر يتبخر الماء الصافي فقط، وتبقى الأملاح والذّرات الاخرى التي فيه في مكانها، أي أنّ هناك عملية تصفيةٍ طبيعية كي ينالَ البشرُ المياهَ الصالحة.
3- لو لم تكن الطبقات العليا من الجو أكثر برودة من الطبقات السفلى لما امطرت الغيوم المضطربة في الجو أبداً، ولكن هذا الاختلاف في درجات الحرارة هو الذي يؤدّي إلى نزول الأمطار، وكذلك لو كانت قدرة إشباع ذرات البخار متساوية في الهواء البارد والحار لما نزلت الأمطار، ولكن بما أنّ الهواء البارد له قدرةُ إشباعٍ ضعيفة فانّه يُنزلُ البخار الذي تحول إلى ماءٍ.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 206
4- إنّ الأمطار إضافة إلى توفيرها للماء الضروري لنمو النباتات، تقوم بغسل الأرض وتحمل الأوساخ معها نحو البحار.
5- إنّ الأمطار تُنّظفُ الجوَّ أيضاً، وتقوم بإنزال التراب والغبار والذّرات المعلَّقة في الجو التي تذوب فيها إلى الأرض، ولولا هطول الأمطار لتلوَّثَ الجو بعد مدةٍ قصيرة واستحالَ التنفُس على الإنسان.
6- إنّ الأمطار تغسلُ صخور الجبال شيئاً فشيئاً، ليخرجَ منها التراب الذي يمكن استثماره، فتمتد السهول الواسعة على سطح الأرض.
7- إنّ الأمطار تحمل معها الاتربة الغنيّة من المناطق البعيدة وتنشرها في المزارع لتقويتها، كما يجلب جريان الماء معه أفضل الاسمدة الطبيعية للنباتات إلى بعض المناطق (كسواحل النيل).
8- إنّ الأمطار لا تهبُ الحياة في المناطق الجافة فحسب، بل إنَّ هطول الأمطار على البحار يُعتبر مؤثراً للغاية أيضاً، وليس أقل من تأثيره في المناطق اليابسة كما يقول بعض العلماء، لأنَّ سقوط الأمطار في البحر يساعد على نمو النباتات الصغيرة في وسط أمواج المياه، حيث تكون طعاماً مناسباً جدّاً للاسماك والاحياء البحرية، وفي
السنة التي يقلُّ فيها نزول الأمطار يسوء فيها وضع الصيد.
9- إنّ ارتفاعَ الغيوم عن سطح الأرض أكثر من ارتفاع اعلى نقاط الأرض ولهذا فلا تُحرم أيةُ بقعةٍ من الاستفادة من ماء المطر.
10- إنّ العديد من أشجار الغابات والأعشاب الطبية والغذائية تنمو على سفوح الجبال الشاهقة، وهذا يدل على أنّ الأمطار تقوم بإيصال الكمية اللازمة من الماء إليها، ولولا الأمطار لاصبحت هشيماً يابساً.
11- لو تأملنا جيداً بالسدود الضخمة التي أنشِئَتْ في عصرنا هذا والتي تُؤمِّنُ جانباً مهماً من الطاقة الكهربائية في العالم، وتقوم بتشغيل المعامل العملاقة لوجدناها من بركات هطول الأمطار على المناطق الجبلية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 207
12- إنّ بعض ترشحات الغيوم تنزلُ إلى الأرض على هيئةِ جليدٍ فتتراكم على قمم الجبال كمصادر للمياه، وتقوم بتغذية خزانات المياه الموجودة تحت الأرض أيضاً لأنّها تذوب تدريجياً وتَنْفُذُ داخل الأرض، ولكن لو تساقط الجليد باستمرار بدلًا من المطر تنعدم عندئذٍ الكثير من المنافع التي ذُكرت.
13- الغيوم بحار معلقة في السماء، وما أعظمَ الإله الذي يُرسلُ كلَّ هذا الماء إلى السماء خلافاً لقانون الجاذبية، ويقوم بنقله بسهولةٍ من نقطةٍ إلى اخرى
14- بالاضافة إلى كل هذا فانَّ للغيوم تأثيراً ملموساً في خفض درجة الحرارة شتاءً وخفض درجة الحرارة صيفاً.
15- إنّ الغيوم تحمل الشحنات الكهربائية المختلفة حيث تؤدّي إلى وقوع الرعد والبرق، وسوف نتحدث عن هاتين الظاهرتين في البحث الذي يتعلق بالرعد والبرق إن شاء اللَّه.
وعلى العموم فانَّ هاتين الظاهرتين اللّتين نعتبرهما من الامور العادية جدّاً نتيجة لأُنْسِنا بهما، مدهشتان ومليئتان بالأسرار، ويمكن مشاهدة آيات التوحيد العظيمة في أعماق أسرارهما، والوصول إلى عظمة تلك الذات المقدّسة من خلال هذه الآيات العظيمة.
نقرأ في الحديث المعروف بتوحيد المفضّل عن الإمام
الصادق عليه السلام أنّه قال:
«وانبهك يا مفضل على الريح وما فيها، ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس، ويمرّض الأصحاء وينهك المرضى ويفسد الثمار، ويعفّن البقول، ويعقّب الوباء في الأبدان، والآفة في الغلات ففي هذا بيان أنّ هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق.
ولو أنّ ملكاً من الملوك قسّم في اهل مملكته قناطير من ذهب وفضة ألم يكن سيعظم
نفحات القرآن، ج 2، ص: 208
عندهم ويذهب له به الصوت؟ فأين هذا من مطرة رواء؟ إذ يعمر به البلاد ويزيد في الغلّات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلها.
تأمل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك فانّه جعل ينحدر عليها من علو ليتفشّى ما غلظ وارتفع منها فيروّيه ولو كان إنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا على المواضع المشرفة منها ويقل ما يزرع في الأرض وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونة سياق الماء من موضع إلى موضع، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتى يستأثر بالماء ذوو العزة والقوة ويحرمه الضعفاء. ثم إنّه حين قدّر أن ينحدر على الأرض انحداراً جعل ذلك قطراً شبيهاً بالرش ليغور في قطر الأرض فيرويها ولو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغوُر فيها ثم كان يحطم الزرع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقاً فينبت الحب المزروع وفي نزوله أيضاً مصالح اخرى فانّه يلين الأبدان ويجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الداء».
ويقول في جانب آخر من الرواية:
«فكّر يا مفضل في الصحو والمطر كيف يعتقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه،
ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده، ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحيوان وخصر الهواء فأحدث ضروباً من الأمراض وفسدت الطرق والمسالك وأنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض واحترق النبات وغيض ماء العيون والأودية فأضرّ ذلك بالناس وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا اخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الآخر فصلحت الأشياء واستقامت» «1».
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام السجاد عليه السلام:
«أنزل من السماء ماءً يعني المطر ينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 119- 126 (مع الاختصار).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 209
واوهادكم ثم فرقه رذاذاً ووابلًا وهطلًا لتنشفه ارضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلًا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم» «1».
4- لقد كشفت البحوث الحديثة للعلماء النقاب عن أسرار جديدة وبيَّنَتْ التأثيرات المهمّة للرياح في نزول الأمطار بكيفية جديدة حيث يُعتبر التوضيح الآتي نموذجاً منه (يجب توفر شرطين لتكوين الغيوم وهطول الأمطار) وهما:
1- وجود بخار الماء في الهواء.
2- تشَبُّع الهواء بالبخار وتقطيره.
أمّا فيما يتعلق بالشرط الأول فبالرغم من أنّ الهواء لا يخلو على الاطلاق من بخار الماء وتبلغ ادنى نسبة له نحو 50 غراماً في المتر المكعب، إلّاأنّ هذا المقدار من الرطوبة لا يكفي لتكوين الغيوم ونزول الأمطار، بل يجب امدادها باستمرار، أي يجب أن يصل هواءٌ جديدٌ مُحمَّلٌ ببخار الماء بعد تكوين الغيوم ونزول الأمطار تباعاً، ويستمر هبوب الرياح، ويكون انطلاقها أو مسيرتها من البحر أو الغابات الكثيفة كي تتزود من الرطوبة بالمقدار اللازم.
وأمّا الشرط الثاني أي الوصول إلى حالة الاشباع وحصول ظاهرة التقطير
(تعرُّق الهواء وتحول البخار إلى سائل) فهذا يستلزم برودة الهواء، كما يحدث في الشتاء إذ يَتعرق زجاج شبابيك الغرف التي تحتوي على ما يكوّن البخار كالسماور والقدر ....
والعامل الوحيد المؤثر في برودة الهواء والذي يوصله إلى مرحلة تكوين الغيوم والتقطير هو ارتفاع الهواء وعلوه، ويحدث ارتفاع الهواء على ثلاثة أشكال أو في ثلاث حالات، وينزل في كل حالةٍ منها مطرٌ خاصٌ وهي:
أ) اصطدام الهواء بالأجزاء البارزة من الأرض والصعود من وسط الجبال حيث تنتج عنه الأمطار الجبلية.
ب) حرارة وخفَّةُ الهواء وصعوده السريع اثر اشعة الشمس وملامسة المناطق الحارة وتنتج عنه (أمطار العواصف).
__________________________________________________
(1) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 41؛ بحار الأنوار، ج 56، ص 344- 374 أيضاً وردت روايةٌ أشارت إلى أسرار تكوُّنِ الغيوم والمطر.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 210
ج) اصطدام جناحي الهواء الحار والبارد وتقلبهما وتنتج عنه (الأمطار الغزيرة)، وأنَّ الغيوم والأمطار كافة تنشأ عن أحد هذه الحالات الثلاث واهمها النوع الأخير.
اذن فالهواء يرتبط بالغيوم والأمطار في كل المراحل فهو يتدخل ابتداءً من حمل البخار وايصاله إلى المناطق الجافة، مروراً وانتهاءً بهزّ الغيوم وانزال المطر، وليس من الممكن حصول الغيوم والأمطار بدون الهواء، والمعروف أنّ الغيوم ليست سوى الهواء (أي الهواء المحمَّل بالماء).
وورد في قسمٍ آخر من هذا البحث: «إنَّ قطرات الأمطار تهطل من الغيوم المتكونة من عدّة طبقات والتي ترتفع أكثر من عشرة كيلو مترات، وهذه الغيوم العارية الصاخبة تظهر على هيئة جبالٍ حيث يُغطى القسم الأعلى منها بقضبان الثلج وقطع الجليد وقد تكون ممتلئة بالبرَدِ».
وحتى قبل الحرب العالمية الاولى حيث تمكنت الطائرات حينذاك من الارتفاع فوق الغيوم وشاهد الطيارون الستائر المتكونة من الجليد والناشئة من الغيوم المتصاعدة، لم يكن لأي شخصٍ
علمٌ بوجود الجليد والبَرَدِ في غيوم السماء.
«فالصعود المتقلِّب الاطبقي للرياح الرطبة والحارة يؤدّي إلى تكوين جبالٍ عاليةٍ من الغيوم المتجمدة التي تتزامن مع الزوابع الشديدة وسط الرعد والبرق المتتابعين» «1».
ويمكن أن يعطي هذا التوضيح تفسيراً جديداً للآية 43 من سورة النور ويرفع الحجاب عن معجزة علمية لطيفة للقرآن الكريم، حيث يقول: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيْبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيصْرِفُهُ عَن مَّنْ يَشاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ» فأيُّ جبلٍ في السماء توجدُ فيه قطع البَرَدِ؟ هذا السؤال الذي كان صعباً ومعقداً بالنسبة للكثيرين، ولهذا فقد ذكروا له عدة تفاسير.
ولكن من خلال الاكتشافات أعلاه يتضح عدم الحاجة إلى التبرير والتقدير والمجاز وامثال ذلك لتفسير الآية المذكورة، ويتبينُ معنى الآية في ظل هذا الأمر «2».
__________________________________________________
(1) الهواء والمطر، ص 57- 65 (مع الاختصار).
(2) من أجل المزيد من الايضاح يراجع التفسير الأمثل، ذيل الآيه 43 من سورة النور.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 211
هنالك القليل ممن يولي ادنى اهتمامٍ لهاتين الظاهرتين السماويتين قبل دراسة أسرار الرعد والبرق، وعادةً ما يمرُّ الجميعُ عليها مرور الكرام، ولعلَّ بعضهم ينظرُ إليها وكأنَّها مزاحُ الطبيعة، كما يتحدث بعض آخر حولها بقصصٍ خرافية، إلّاأنّ الحقيقة هي أنّ هاتين الظاهرتين تحدثان من خلال نظامٍ خاصٍ، ولهما آثارٌ وبركاتٌ جديرةٌ باهتمام الإنسان حيث سيأتي شرحها في تفسير الآيات الآتية.
بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين بعض آيات القرآن الكريم في هذا المجال:
1- «وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا انَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ». (الروم/ 24)
2- «هُوَ الَّذِى يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ». (الرعد/ 12)
3- «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ
مِنْ خِيْفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيْبُ بِهَا مَنْ يَشَآءُ». (الرعد/ 13)
«البرق»: كما يقول الراغبُ في المفردات تعني في الأصل النورَ الذي يظهر من الغيوم، ثم استُعملت للتعبير عن كل شي ءٍ ساطعٍ، فمثلًا يقال للسيفِ اللامعِ: (السيفُ البارق).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 212
إضافة إلى ذلك، يستفاد من «مقاييس اللغة» أنّ «البرق» له معنى آخر، وهو اجتماع السواد والبياض في شي ءٍ واحدٍ، ولكنَّ الظاهر أنَّ المعنى الثاني يعود إلى المعنى الأول، السواد عندما يكون إلى جانب البياض يُبدي بريقاً أكثر، كما اعتبر بعضٌ مفهومَ الشِّدةِ والضغط جزءاً من معنى البرقِ أيضاً فيقولون: إنّ البرقَ واللمعان يحدثان بشكل خاص من خلال الشدَّة والضغط «1».
ويقول «الراغب» إنّ «الرعد» هو صوت الغيوم، ويستعمل كناية أيضاً عن تحطُّمِ وسقوط الشي ء الثقيل المتزامن مع الصوت، إلّاأنَّ صاحب «مقاييس اللغة» ذكرَ أنَّ معناه الحقيقي هو الحركة والاضطراب، ولكن بصورة عامة، يستفاد جيداً من كتب اللغة أنّ المعنى الحقيقي هو الصوت الذي ينطلق من الغيوم، وبقية المعاني لها صبغةٌ كنائية.
و «الصواعق»: جمع «صاعقة»، وتعني في الأصل الصوت الشديد المهيب الذي ينطلقُ من الجو مصحوباً ببريقٍ ناريٍّ عظيم، وجاءت هذه المادة أيضاً بمعنى الذهول بسبب سماع الاصوات القوية، وقد تستعمل بمعنى الهلاك أيضاً.
وقال بعض أرباب اللغة: إنَّ موارد استعمال الصاعقة ثلاثة وهي: «الموت» و «العذاب» و «النار» «2»
إلّاأنّ الظاهر أنّ جميعها من لوازم المعنى الحقيقي.
تعتبرُ الآية الاولى من البحث بشكل صريح، أنّ برقَ السماء من آيات اللَّه فتقول: «وَمِنْ آياتِهِ يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً». هذه الآية تارة تذكر الخوف وأحياناً الأمل والرجاء.
الخوف الناتج عن الصوت المهيب الذي يرافق الرعد، واحتمال تزامنه مع صاعقةٍ
__________________________________________________
(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادة (برق).
(2) مفردات الراغب، ولسان العرب؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات
القرآن، ج 2، ص: 213
مميتة، والأمل والطمع بسبب احتمال نزول المطر، لأنّه في كثير من الحالات يعقبُ الرعدَ والبرقَ زوابع مليئةٌ بالبركة.
ولعلَّه لهذا السبب يضيف في سياق هذه الآية: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا».
فالأرضُ اليابسة والمحترقة تحيى بقليلٍ من المطر والغيث الذى يهب الحياة، بحيث تنتعش الأزهار والنباتات فيها وكأنها ليست تلك الأرض السابقة.
ولهذا يضيف في نهاية الآية للتأكيد فيقول: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقومٍ يَعْقِلُوْن».
فهُمْ يفهمون أنّ هذه الظواهر ليست ظواهر عاديّة تحدث صدفةً، فيتفكرون فيها ويتعرفون على أسرارها.
وورد هذا المعنى في الآية الثانية من بحثنا بتعبيرٍ آخر تعريفاً بالذات الإلهيّة المقدّسة عن طريق آثاره فيقول تعالى «هُوَ الَّذِى يُرِيَكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وطَمَعاً».
الخوفُ من الصواعق والتفاؤل بنزول المطر، أو خوف المسافرين، وتفاؤل المقيمين في المدن والارياف.
واللطيف أنّه يقول بعد ذلك مباشرة: «ويُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقَال».
وقيل في بيان هذه الجملة (تتزامن مع العواصف القويّة كُتلٌ من الغيوم، فتغطي اعالي الجو القريبة من الأرض، فيصبح الجو مظلماً، وتتولد شحنات كهربائية نتيجة تلاطم الرياح، وتهتز الأرض والجو بسبب صوت الرعد المتتابع، وأخيراً فانَّ الغيوم المتراكمة في طبقات الجو السفلى كثيفة ومحملة بكثير من قطرات الماء الكبيرة لذلك تكون ثقيلة للغاية على الرياح المحركة «1».
__________________________________________________
(1) الريح والمطر، ص 138.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 214
ويشير في الآية الثالثة والأخيرة من بحثنا إلى ظاهرة «الرعد» فيقول: «ويُسَبِّحُ الرَعْدُ بِحَمْدِهِ».
ويُبَيِّنُ هذا التعبير أنّ هذه الظاهرة السماوية ليست مسألة عاديةً، بل تُنبى ءُ عن علم وقدرة اللَّه تعالى لأنَّ «التسبيح» يَعني التنزيه عن كل عيبٍ ونقص، و «الحمد» تعني شكره مقابل الكمالات، وعليه فانَّ صوت الرعد يتحدث عن الأوصاف الجمالية والجلالية للَّه تعالى
ويمكن أن يكون هذا الكلام بلسان الحال،
كما يتحدثُ اختراعٌ مهمٌ عن علم ووعي المخترع، أو لوحةٌ جميلةٌ جدّاً عن الذوق الحاد للرسام، أو قطعة شعرية عن الذوق الأدبي للشاعر، فتمدحه وتشكره، فتكون لسان حالٍ، كما قالَ بعض المفسرين بأنَّ لدى ذرات هذا العالم كافة عقلًا وشعوراً، كل حسب حظه، وتسبيحها وحمدها ينبع من العقل والشعور والإدراك.
يقول الفخر الرازي في تفسيره:
«فلا يبعد من اللَّه تعالى أن يخلق الحياة والعلم والقدرة والنطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع من الأفعال الاختيارية لله سبحانه وتعالى.
وكما هو تسبيح الجبال في زمن داود عليه السلام وتسبيح الحصى في زمان محمد صلى الله عليه و آله» «1».
فليكن أيُّ الاحتمالين، فليس هنالك اختلافٌ في بحثنا، وعلى كل حال فإنّ هناك أسراراً خفيّةً في هذه الظاهرة السماوية حيث تكشفُ عن عظمة الخالقِ وتمثل آيةً من آياته.
والمعروف أنّ الماء والبخار، والغيوم الناتجة منهما عناصر لا تنسجم مع النار، ولكن بقدرة الخالق تنطلقُ منها نارٌ هائلة أكثر احراقاً من أنواع النيران الموجودة على الأرض كافة، وكذلك البخار، الجسم اللطيف جدّاً، ولكن ينطلقُ منه صوتٌ لا ينطلقُ من سقوط أثقل وأقوى الأجسام.
__________________________________________________
(1) التفسير الكبير، ج 19، ص 25.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 215
ويستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ كلًا من «الرعد» و «البرق» من ظواهر عالم الوجود الجديرة بالاهتمام ويجب دراستها بجديّة، للتوصل إلى أسرارها، والتعرف على عظمة الخالق عن طريقها، وسيأتي هذا الأمر في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه تعالى
يعتقد العلماء المعاصرون أنَّ بريق السماء يحدث من خلال تقارب كتلتين من الغيوم المحملة بالشحنات الكهربائية المختلفة واحدة موجبة والاخرى سالبة، فتُحدِثان بريقاً كما يحصل من اقتراب قُطبَيْ المُوصِّل الكهربائي تماماً.
وحيث تتحمَّل قطع الغيوم بالشحنات الكهربائية العظيمة
يكون بريقها عظيماً أيضاً، ونحن نعلمُ أنّ لكلِّ بريقٍ صوتاً، وكلّما اشتد البرقُ كلما تعاظم صوته، ولهذا قد يكون الصوت المهيب لهذا البرق من الشدّةِ بحيث يهزُّ جميع المباني ويُحدثُ صوتاً كالقنابل الشديدة الانفجار.
ولكن البرق لا ينتج نتيجة اقتراب كتلتين من الغيوم دائماً لتكون بعيدة عن متناول الإنسان ولا تُسبب أيَّ خطر، بل قد تقترب الغيوم الحاوية على الشحنات الموجبة من الأرض، وبما أنّ الأرض تحتوي على الشحنات السالبة لذلك يحدث البرق بين «الأرض» و «الغيوم»، وهذا البرق العظيم الذي يسمى بالصاعقة خطيرٌ للغاية، فهو يُحدثُ هزَّةً شديدةَ في المنطقة التي يقع فيها، وكذلك يولد حرارة عالية جدّاً بحيث إذا أصابت أيَّ شي ءٍ تجعلُهُ رماداً «1».
__________________________________________________
(1) مع أنّ مدة الصاعقة لا تتجاوز عُشرَ الثانية وقد تكون 100 1 من الثانية، ولكن الحرارة التي تنتج منها تصل إلى 15000 (سانتيغراد) بامكانها التسبب في حدوث اخطارٍ بالغة الشدّة (حرارة سطح الشمس 8000 فقط) (اعجاز القرآن، ص 78).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 216
ونظراً لتجمع الشحنات على الأجزاء المدببة للأجسام ففي الصحارى التي تحدث فيها الصواعق، يظهر البرق في النقاط المرتفعة كرؤوس الأشجار، وحتى رأس الإنسان المار عبرها، لذلك يعتبر التوقف في الصحارى أثناء الجو العاصف الملي ء بالرعد والبرق خطيراً للغاية، وفي مثل هذه الحالات يمكن أن يزيلَ اللجوءُ إلى الوديان أو الاقتراب من الأشجار واسفل الجبال والتلال الخطر إلى حدٍ ما (إنّ الاتكاء على الأشجار والشبابيك الحديدية لا يخلو من خطورة أيضاً).
ويتضح جيداً من خلال الإشارة أعلاه اخطارُ البرقِ وعامل الخوف الذي اشيرَ إليه في الآيات الآنفة.
بالرغم من الاخطار التي تصحب الرعد والبرق أحياناً إلّاأنّ لهذه الظاهرة فوائد جمّة سنشير إلى بعضها هنا:
أ) الري- من المعروف
أنّ البرق يولِّدُ حرارة عاليةً جدّاً، قد تبلغ 15 ألف درجة سانتيغراد، وهذه الحرارة كافية لاحراق مقدارٍ كبيرٍ من الهواء المحيط ممّا يؤدّي إلى هبوط الضغط الجوي مباشرة، ونحن نعلمُ أنّ الغيومَ تُمطرُ أثناء هبوط الضغط، ولهذا فغالباً ما يبدأ نزول المطر عقبَ حدوث البرق وتنزل قطرات الأمطار الكبيرة، وفي الواقع يعتبر الري من هذا الجانب أحد بركات البرق.
ب) رش السموم- عندما يظهر البرق بتلك الحرارة، تتزود قطرات المطر بكمياتٍ إضافية من الاوكسجين، فيحصل الماء الثقيل أي الماء المؤكسد (2 O 2 H)، ونحن نعلم أنّ من آثار هذا الماء هو القضاء على الجراثيم، ولهذا يستعمل طبياً في تنظيف الجروح، فهذه القطرات تقضي على بيوض الآفات المسببة لأمراض النباتات عندما تنزل إلى الأرض، وتقوم برش السموم على أحسن وجهٍ، لذلك فقد قالوا: في كل سنةٍ يَقلُّ فيها الرعد والبرق تزداد الآفات النباتية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 217
ج) التغذية والتسميد- إنّ قطرات المطر وأثر حدوث البرق وحصول الحرارة الشديدة الناتجة عنه وتركيبها الخاص، تحصل على حالةٍ من حامض الكاربونيك، فتقوم بتكوين سمادٍ نباتيٍ مؤثرٍ أثناء تناثرها على الأرض وتخلُّلها فيها، فتتغذى النباتات عن هذا الطريق.
ويقول بعض العلماء: إنَّ كمية السماد الحاصل من حالات البرق في السماء خلال سنةٍ واحدة يبلغ عشرات الملايين من الاطنان، وهذا رقم مرتفعٌ للغاية.
بناءً على ذلك نرى أنّ هذه الظاهرة الطبيعية العاديّة وغير المهمّة إلى أيَّ حدٍّ مفيدةٍ ومليئةٍ بالبركة؟ فهي تسقي، وترش السموم أيضاً، وتقوم بالتغذية، وهذا نموذج صغيرٌ من الأسرار العجيبة لعالَم الوجود حيث يصلح أنْ يكون دليلًا في الطريق لمعرفة اللَّه.
كل هذا من بركات البرق، ولكن الحرائق التي تنتج عن نوعٍ منه وهي الصواعق من جانبٍ آخر قد تحرق
الإنسان أو الحيوان والمزارع والأشجار، بالرغم من أنّ هذا الأمر قليلٌ ونادر الوقوع ويُمكن اجتنابه، إلّاأنّه بإمكانه أن يصبح عامل خوفٍ وهَلَعٍ، وعليه فانَّ ما قرأناه في الآية السالفة بانَّ البرق أساسٌ للخوف وأساسٌ للأمل أيضاً قد يكون إشارة إلى مجمل هذه الامور.
ومن الممكن أن تكون عبارة «وَيُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقالَ» الواردة في نهاية الآية لها ارتباط بميزة البرق هذه التي تؤدي إلى تحمُّلِ الغيوم بقطرات الأمطار.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 219
نحنُ نعلمُ أنّ الماءَ يغطي ثلاثة ارباع سطح الكرة الأرضية، وأنّ المحيطات والبحار ترتبط مع بعضها، كما نعلم أنّ الإنسان قد استثمر البحار للحمل والنقل منذ غابر الأيّام على افضل وجه، بالإضافة إلى استغلاله لجانبٍ مهمٍ من المواد الغذائية الكامنة في البحر، وكذلك فانَّ القسم الأعظم من مختلف المواد التي تُستعمل في الصناعات تُستخرج من البحار.
والأهم من كل ذلك، أنّه لا يخفى على أي شخص دور البحار في تكوّن الغيوم وسقي الاراضي اليابسة كافة، وواضحٌ للجميع تقريباً وضعُ حيوانات البحار وتنوعها وعجائبها.
لهذه الأسباب اعتبرَ القرآنُ الكريم البحارَ والفلك من آيات اللَّه، ودعا الناس إلى التمعنِ في أسرارها.
بعد هذا التمهيد نيَمِّمُ وجوهنا صوب القرآن الكريم ونقرأ خاشعين الآيات الآتية:
1- «وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمَاً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيْهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل/ 14)
2- «وَمَا يَسْتَوى الْبَحرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سَائِغٌ شَرابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ اجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ فِيْهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوْا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (فاطر/ 12)
3- «اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرىَ الْفُلْكُ فِيْهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (الجاثية/ 12)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 220
4- «وَمِنْ آيَاتِهِ
الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ* إِنْ يَشَأ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ». (الشورى 32- 33)
5- «أَلَمْ تَرَ انَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُريَكُمْ مِنْ آياتِهِ انَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ». (لقمان/ 31)
6- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ... والْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ... لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». (البقرة/ 164)
7- «رَبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَّ بِكُمْ رَحِيْماً».
(الاسراء/ 66)
«البَحْر»: حسب قول الراغب في «المفردات»، هو المكان الواسع الذي يتجمع فيه ماءٌ كثير، كما يطلقُ على كلِّ شي ءٍ واسعٍ، و «متبحر» أو «مستبحر»: يقال للشخص الذي يمتلك علماً واسعاً، ويقال للتغيُّر الذي يحدث للعليل فجأة ب «بُحران» (ثم اطلقَ لفظ «بُحران» على الحوادث الحادة) واعتبر بعضٌ أنّ الملوحةَ تدخل في مفهوم «البحر» علماً أنّ البَحر يُطلقُ على الماء العذب أيضاً «1»، و «الفُلْك» (على وزن قُفْل) وتعني السُفن، ويستوي فيها المفرد والجمع والمذكَّر والمؤنث، ولفظ «فلَكْ» (على وزن فَدَك) يعني مسير ومدار النجوم تفرَّعَ من هذا الأصل.
و «الجواري»: جمع «جارية» وهي مأخوذة في الأصل من «الجري» أي العبور السريع، ويقالُ «جارية» للسفن التي تجري وتتحرك في البحار، ويقالُ للشابّةِ في لغة العرب «جارية» أيضاً وذلك لنشاط الشباب الذي يملأُ كل وجودها، وجاء في «المصباح المنير» أنّ اطلاق لفظ «الجارية» على الخادمة لِكونها مسخَّرةً لأوامر مولاها وتجري لانجاز الأعمال باستمرار.
__________________________________________________
(1) صحاح اللغة، والمقاييس؛ ومفردات الراغب؛ ومجمع البحرين؛ ولسان العرب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 221
و «مواخر»: جمع «ماخرة» وتعني السفينة وهي من مادة «مَخْرْ» (على وزن فَخْر) كما تطلق على جريان الماء في الأرض وانفطارها،
وكذلك تطاير الماء من على جانبي السفينة، كما تستعمل هذه المفردة لأصوات هبوب الرياح، والظاهر أنّها من لوازم المعنى الأول «1».
تقول الآية الاولى معرّفة بالذات الإلهيّة المقدّسة: «وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ البَحْرَ».
ويدلِّلُ هذا التعبير على أنّ البحر بكل وجوده في خدمة الإنسان، والحق كذلك، فاولُ براعم الحياة تتفتحُ في البحار، وقد كان البحر فيما مضى وحاضراً مصدراً مهماً لانواع حاجات الإنسان وديمومة حياته.
ونلاحظ من سياق هذه الآية أنّها أكدت على ثلاثة مواضع:
أولها: يستطيع الإنسان أنْ يستخرج من البحر لحماً طرياً إذ يقول: «لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَريّاً».
لحمٌ كثيرٌ لم يتحمل الإنسان عناءَ تربية مصدره أبداً، ويكون طريّاً بشكلٍ كامل وفي متناول يده في أغلب نقاط الأرض.
إنَّ التأكيد على طراوة وطزاجة هذا اللحم، إضافة إلى إشارته إلى لذة لحم الأسماك، فهو تذكيرٌ بهذه النكتة، وهي أنّ الناس في تلك العصور والازمان كانوا يستفيدون من اللحوم المجفّفة بسبب المشكلات التي تواجههم في الحصول على اللحوم الطريّة، وهذه النعمة ذات أهميّة خاصة، وفي عصرنا وزماننا حيث تتوفر اللحوم القديمة والمجَمَّدة لأسباب مختلفة تتضح أهميّة هذا التعبير.
ويقول بعض المفسرين: هذا التعبير إشارة إلى عظمة اللَّه عز وجل وقدرته في خلق اللحوم الطرية اللذيذة في المياه المالحة «2».
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب، والمصباح المنير،. التحقيق في كلمات القرآن، ولسان العرب.
(2) تفسير روح المعاني، ج 14، ص 102.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 222
ويُمكنُ أن يكون التعبير ب «اللحم» إشارة إلى أنّ القسم الأعظم من جسم السمك يتكون من اللَحم وفيه قليلٌ من العظام، على العكس من بقية الحيوانات.
وتتضح أهميّة هذه النعمة الإلهيّة أكثر من خلال الالتفات إلى أنّ استغلال لحوم الأسماك لتغذية البشر أصبحت تحظى باهتمامٍ بالغٍ بسبب ندرة المواد الغذائية.
وثانيها: يذكر
فائدة البحر في استخراج وسائل الزينة لا سيما الجواهر «وتَسْتَخرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا».
فكأنّه يقول: يخرجُ من البحر المواد الغذائية الضرورية جدّاً وحتى الحاجات غير الضرورية والكمالية، «وكلّها مُسخَّرة لكم».
وثالثهما: يخاطب النبي صلى الله عليه و آله قائلًا: «وَتَرىَ الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيْهِ».
«إنَّ اللَّه قد منحكُم هذه النِعَم كي تبتغوا من فضله، لعلكم تؤدون شكرَ نعمائه» «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
ومن أجل أن تتمكن السُفنُ من الإبحار في المحيطات والبحار واستخدامها كأفضل وسيلة لحمل ونقل السلع التجارية وتنقل البشر لابدّ من تظافر عدَّة عوامل:
نوعية القوانين التي تسودُ المواد الثقيلة والخفيفة التي تصونها على سطح الماء، وتموّج الماء، وهبوب الرياح المنظّم على سطح المحيطات، والعمق اللازم للبحار، فتتظافر كلها كي تتحرك السفن العملاقة على سطح المحيطات، أمّا السفنُ التي تعملُ بقوة البخار فهي أعظم ما صنَعهُ الإنسان، وقد يكون حجم أحدها بقدر مدينةٍ وتستطيع انجاز ما يعادل عمل عشرات الآلاف من السيارات لوحدها (إنَّ السفن التي تستوعب خمسمائة الف طن تحمل ما يعادل حمولة 150 ألف سيارةٍ ذات حمولة 10 أطنان!).
إنَّ هذه المسألة بالاضافة إلى مسألة استخراج أنواع المواد الغذائية وغير الغذائية ومواد الزينة، تعتبرُ دليلًا على علم وقدرةِ خالق الكون الذي وضع كل هذه النِعَم في متناول يد الإنسان مجاناً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 223
وفي الآية الثانية تكررت ذاتُ النِّعم الثلاث التي اشيرَ إليها في الآية السابقة (اللَّحم الطري، والحُلي، وحركة السفن في عرض البحار) أيضاً، واستند إليها، مع هذا الاختلاف حيث يشير في مطلع الآية إلى بحار الماء العذب والماء المالح فيقول: «وَمَا يَسْتَوى الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرابُهُ وهَذَا مِلْحٌ اجَاجٌ».
ومع أنّ أكثر مياه البحار على سطح الأرض مالحة إلّاأنَّ بحار وبحيرات المياه
العذبة ليست قليلة أيضاً، حيث تُشاهَد نماذجُ عديدة منها في الولايات المتحدة، وكثيراً ما يستفاد منها، اضافة إلى الأنهار الكبيرة التي تصب في البحار المالحة وتتوغل فيها، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف ولا تختلط معها لفترةٍ طويلةٍ فتُشكِّلُ بحراً من الماء العذب حيث يسقي كثيراً من السواحل أثناء المد والجزر، ممّا يؤدّي إلى ازدهار البساتين والمزارع الواسعة.
ويعتبر الفخر الرازي في تفسيره هذين البحرين إشارة إلى المؤمنين والكافرين، إلّاأنّ التمعنَ في لحن الآيات يدللُ على أنّه لا يقصد هذا المعنى بل إنَّ الهدف هو بيانُ آيات وآلاء اللَّه في عَرْضِ الخلق.
وجاء الحديث في الآية الثالثة عن تسخير البحار للإنسان: «اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ».
ولكن استند إلى مسألة الإبحار فقط من بين مختلف بركات البحر، والتي تمت الإشارة إليها في الآيات السابقة.
وفي الآية الرابعة اعتبر السُفنَ العملاقة التي تشبه الجبال المتحركة والتي تظهر على سطح البحر من آيات وآلاء اللَّه، فيقول: «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِى الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ».
حقاً .. مَنْ خلقَ المحيطات بهذه السَعَةِ والعمقِ والخصائص؟ ومنْ الذي مَنَحَ الخشبَ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 224
والحديد هذه الميزةَ بحيث يطفو على وجه الماء؟ ومَنِ الذي أَمَرَ الرياحَ أنْ تَهُبَّ بشكلٍ منظَّمٍ على سطح البحار وتمنح الإنسان فرصة الانتقال من نقطةٍ إلى اخرى ويستخرج ملايين الثروات عن طريق البحر؟
أليسَ هذا نظام مُتقن ومُحكَم، وكذلك النظام السائد على قوة البخار والبرق دليل جلي على علم وحكمة الخالق جلَّ وعلا؟
هنا يشبِّهُ القرآن الكريم السُفنَ الضخمة ب «الأَعلام» و «الأَعلام» جمع «عَلَمْ» (على وزن قَلَمْ) وتعني في الأصل (كما يقول الراغب في المفردات) الاثر الذي يحصلُ منه علمٌ بوجود شي ءٍ، كالعلامات التي توضع على الطرق، وعلم العسكر، ولهذا اطلق على الجبل اسم
«عَلَم» حيث يعتبر دليلًا واضحاً يبرزُ من بعيد، ولهذا السبب شُبِّهت السُفنُ العملاقة بالجبال حيث تتضح من بعيد كالجبال.
واللطيف أنّ القرآن يقول عقب هذه الآية: «إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيِظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ».
ولو شاء جعلَ الرياح مضطربةً وغير منظمةٍ بحيث لا تستطيع أيّة سفينةِ بلوغ هدفها، بل يغرقها في البحر، لذلك يكرر التأكيد في نهاية الآية: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُوْرٍ».
اولئك الذين استوعبوا آيات الآفاق من خلال الصبر والتحمل، ويؤدّون شكر هذه النعمة بعد إدراك الحقيقة، ويركعون على اعتاب ساحة القدس الإلهيّة العظيمة.
وأشار في الآية الخامسة إلى هذا الموضوع أي حركة السفن في البحار كأحد النعم الإلهيّة العظيمة أيضاً، مع هذا الفارق حيث يقول: «ليُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 225
وفي الآية السادسة أيضاً حيث يأتي البحث عن سبع آياتٍ من آيات اللَّه، فهو يذكر الفلك كآية ثالثة حيث تجري في البحر بما ينفع الناس: «وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ»، ويؤكد في ختام هذه الآية أنّ في هذه الامور آياتٍ من الذات الإلهيّة المقدّسة وآياتٍ عن وحدانية اللَّه لقومٍ يعقلون: «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
وفي الآية السابعة يستند إلى ربوبيته تعالى فيقول: «رَبُّكُمُ الَّذِى يُزجى لَكُمُ الْفُلْكَ فى الْبَحْرِ» فلا تتبعوا الأوثان لأنّها ليست بربكم.
وهنا نواجه تعبيراً جديداً «يُزجي» وهو من مادة «إزجاء» التي تعني «تسيير الشي ء بمداراةٍ وَرِقّة» بالنحو الذي ورد في «مصباح اللغة»، ويُستفاد من «مقاييس اللغة» بأنّها تعني «التسيير الدائم والمستمر»، وهاتان المسألتان في حركة السُفنِ على سطح المحيطات جديرتان بالاهتمام، لا سيما في السفن الشراعية، فالمعروف أنَّ الرياح تسوق السُفُنَ برفقٍ واستمرارٍ.
فلو كان للرياح هبوبٌ شديدٌ، أوتكون متقطعةً فانّها تجعلُ السفن تواجه حركاتٍ واضطرابات قوية، وقد تتوقف وتضيع
في وسط البحر أيضاً، إنَّ هذا التعبير يبينُ أسراراً جديدة عن هذه الآية الإلهيّة.
ولهذا يستفاد من مجموع الآيات السالفة أنّ لخلق البحار فوائد مختلفة حيث تعتبر كل منها آيةً من آياته تعالى لا سيما حركة السفن الدقيقة على سطح المحيطات.
وتُعرفُ النّعمةُ دائماً بعد فقدانها، فلولا البحار لم يتكدَّس القسم الأعظم من السلع التجارية التي تُنقلُ عبر المياه فحسب، بل تختفي كميات كبيرة من المواد الغذائية والحُلي أيضاً، وأهم من ذلك، تنعدم الغيوم ولا تهطل الأمطار، ويجر الهواء الجاف والحار جميعَ الكائنات الحيّة إلى الفَناء.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 226
لم يكن هنالك أحدٌ عندما تكونت البحار، كي يرى طريقة تكوينها، إلّاأنَّ العلماء يعتقدون أنَّ كُرَتَنا الأرضية بعد انفصالها عن الشمس كانت حارةً وساخنة، وبَرَدَت رويداً رويداً، كالتفاحةِ الناضجة تعرَّج قشرُها وتجَّعدَ وحصل الانخفاض والارتفاع، برزت الجبال والوديان والبحار.
ومن الممكن أن يرد هذا التساؤل وهو: من أَين جاءت مياه البحار؟ هنالك رأيان: يعتقد بعضٌ أنّها تكونت نتيجة لتفاعل الاوكسجين والهيدروجين الموجودين في أعماق الأرض وانبثقت كالينابيع التي تتدفق حالياً، وملأت منخفضات الأرض تدريجاً.
إلّا أنَّ اشهرَ الآراء هو أنّ السماء غطَّت جوانب الكرة الأرضية بالغيوم المتراكمة، وحينما انخفضت حرارتها سالت على هيئة أمطارٍ غزيرة، وهطل المطر لآلاف السنين، وغمرت السيولُ كافة أنحاء الكرة الأرضية بنحوٍ لا يمكن تصوره، وحصلت البحار، وحتى أمدٍ طويل كانت أمواجُه تغسل أعماقه وكذلك الصخور والسواحل، ثم هدأت تدريجاً، واستقر على هيئته الحالية.
على أيّة حال فإنّ البحر له تاريخٌ قديمٌ جدّاً وملى ءٌ بالأسرار، ولكن الأهمُ من ذلك هي البركات والمنافع التي ينالها الإنسان اليوم من البحار حيث بإمكاننا أن ندرج قسماً منها، ولا يتسع هذا البحث المختصر لبيانها كلها:
1- إنَّ البَحر له اهميةٌ بالغةٌ
في الإبحار وحمل ونقل الناس والسلع التجارية، وكما اشرنا فانّ البحار تعتبر اهم وسائل البشر للحمل والنقل. لا سيما الخطوط البحرية التي تمتد بشكلٍ طبيعيٍّ إلى بقاع الأرض كافة، ويكفينا الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي صناعة البواخر العملاقة التي تستطيع أن تستوعب (خمسمائة الف طن) من النفط وتنقله إلى أيِّ نقطةٍ في العالم.
وهذا يلزم توفر (خمس وعشرين الف سيارة ذات حمولة 20 طناً) لحمل هذه البضاعة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 227
2- المواد الغذائية- ومن أهم الفوائد الاخرى للبحار هي المواد الغذائية التي يحصل عليها الإنسان منها.
فمن أجل معرفة أهميّة هذا الأمر يكفينا العلم بانَّه يتم صيدُ ست وعشرين مليون طن من الأسماك سنوياً، علماً أنّ هذا الاحصاء يتعلق بثلاثين عاماً مضت، ومن المسلَّم به أنَّ هذا الرقم قد تضاعف كثيراً في الوقت الحاضر.
وليس الإنسان وحده بل إنَّ الكثير من الطيور تحصل على طعامها من البحار أيضاً، وهذا بحدِّ ذاته اقتصادٌ في استهلاك المواد الغذائية الجافة.
فيقول بعض العلماء من خلال الاحصاءات التي قاموا بها: إنَّ الطيور البحرية التي تعيش على الجبال الساحلية والجزر الصخرية تستهلك لوحدها مليونين وخمسمائة الف طن من الأسماك سنوياً!.
ونعلمُ أيضاً أنَّ جانباً مهماً من علف الدواجن يتم تأمينه من عظام أسماك البحر، (نفس هذه الأسماك المصطادة)، أي أنّها تتدخل بصورةٍ غير مباشرة في تغذية الإنسان.
3- الاعشاب والادوية- يحصل من كل هكتارٍ من البحر خمسمائةُ طنٍ من العلف الاخضر، في حين أنّ أفضل مزارعنا لا تنتجُ أكثر من أربعة أطنان وفي بعض البلدان يُستَغلُ هذا العلف لتغذية المواشي، ويُستَعملُ رماده سماداً للمزارع أيضاً.
ويستخرجون من الاعلاف البحرية مختلف المواد، كالكحول الجامد والسلولوز والنشاء والمواد الجلاتينية، حيث تُستثمر في الصناعات الكيميائية واعداد الطعام (وبعض الادوية).
4-
المعدن والنفط- إنّ البحارَ غنيّةٌ بالمعادن، ويكمنُ جانبٌ من هذه المعادن في أعماقها، ويعومُ الجزء الاعظم منها على سطحها، ومنها الفلزات التي يمكن استخلاصها من ماء البحر «كالمغنيسيوم» الذي يُستعملُ في الصناعات، وكذلك «البوتاسيوم» و «البروم» و «سلفات الصوديوم» وغيرها.
يقول العلماء إنَّ أكثر من أربعين عنصراً (عدا ما ذُكر) موجودٌ في ماء البحر، لها قيمةٌ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 228
صناعية جديرة بالاهتمام، كما ويعثر على الذهب في ماء البحر أيضاً، غير أنَّ استخراج الكثير من الغازات ما زال يحتاج إلى ميزانيةٍ هائلةٍ لا يمكن مقارنتها بالاستهلاك، وقد يأتي اليوم الذي يتمكن فيه الإنسان من أن ينالها من خلال طرقٍ أكثرَ يُسراً.
وتقوم بعض الشركات العملاقة بتصنيع أكثر من خمسمائة مادةٍ مختلفةٍ من معادن البحر، حيث هنالك مليارات الأطنان من المعادن.
ويعتبر النفط- وهو من أثمن المستخلصات- من هدايا البحر، لأنَّ المليارات من الموجودات البحرية توجد في أعماق البحار العظيمة، وبما أنّ القارات ارتفعت فيما بعد فقد دُفنت هذه الموجودات تحت الرمال التي تحوَّلت إلى صخورٍ بعد ذلك، وبقي النفط الناتج عنها في أعماق الأرض.
والملحُ هو أحد اهم المواد المعدنية التي تُستخرج من البحر، له دورٌ مهمٌ في حياة الإنسان، وقد ذكروا في السابق أنّ الملح بلغ من الأهميّة بحيث إنَّ جنود الروم كانوا يتقاضون رواتبهم على هيئة ملح، وحتى في روسيا فقد اندلعت «ثورة الملح»! بسبب ارتفاع سعره.
إنَّ أهم مصادر استخراج الملح هو البحر، وحتى أنّ بعض المناطق الملحية الموجودة على اليابسة والتي يبلغ قطرها 800 م هي من آثار البحار عندما كانت تغمر جميع بقاع الأرض.
لقد قدَّروا الاستهلاك العالمي للملح ب 22 مليون طن سنوياً، بحيث لو أراد الإنسان استهلاك مخزون الملح الموجود على اليابسة لَنفدَ
عاجلًا أو آجلًا في حين أنّ البحر مصدرٌ لا ينفدُ للملح، فيمكن أن تؤمِّنَ أملاحُ البحر ما يحتاجه البشر لمدة مليون وسبعمائة الف سنة.
5- افضلُ منتجٍ للطاقة- لقد انتبه الإنسان منذ القِدَم إلى هذا الأمر، وهو إمكانية انتاج الطاقة من خلال السيطرة على المياه المتراكمة بسبب المد، وتنسحب أثناء حدوث الجزر، فتستغل لتحريك المطاحن وغيرها.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 229
وتفيد بحوث العلماء المعاصرين أنَّهُ يُمكنُ انتاج الكهرباء بكمية كبيرة من هذه البحار، وأنْ يستعانَ بها بصفتها أهم مصدرٍ لانتاج الطاقة، فالجَزر والمد اللذان يحدثان مرّتين ليلًا ونهاراً بتأثير جاذبية القمر يقومان برفع وخفض ماء البحار بمقدارٍ كبير، وهذا الأمر إضافة إلى مسألة الطاقة التي اشير إليها فهو يؤثر في سقي المناطق الساحلية، لأنَّ مصبات الانهار التي تصب في البحار تمثلُ بحراً من الماء العذب، فيندفع ماء الساحل العذب إلى الخلف ويُغطي كثيراً من الأراضي، لذلك سَخر البشرُ مند القِدَمِ أراضِيَ واسعةً للزراعة من خلال شق الأنهار في مثل هذه المناطق.
ولعلَّ هنالك الملايين من أشجار النخيل في سواحل الخليج الفارسي حيث تُسقى بنفس هذه الطريقة فقط، لأنَّ الماء يتراجع إلى مسافات بعيدة عن الساحل، فهذا الماء العذب الفرات الذي يجاور الماء المالح الاجاج ولا يختلط معه يعتبر ثروةً عظيمةً لسكان السواحل.
6- وسائل الزينة المختلفة- من المنافع الاخرى للبحار التي ذُكُرت بشكل خاص في الآيات المذكورة هي وسائل الزينة التي تُستخرج من البحر، كاللؤلؤ الذي ينمو في نوعٍ خاصٍ من الصدف، والمرجان الذي هو نوع من الاحياء البحرية، ولكن على هيئة اغصان أشجار لها منظر جميل ومرغوب، اضافة إلى صفةِ الزينة فهو يُستعملُ في الطب أيضاً.
7- تلطيف الجو عن طريق البحار- ليست الرياح التي تهبُّ من البحار
نحو اليابسةِ هي التي تُرطبُ وتُلَطفُ الجَّو فقط، بل هنالك أنهارٌ عظيمةٌ متحركة في قلب محيطات العالم تتحرك من المناطق الحارة إلى المناطق الباردة وبالعكس، وبصورة عامة لها أثرٌ بالغٌ في تلطيف الهواء على الكرة الأرضية.
وواحدٌ من أعظمها هو «غولف استريم»، هذا النهر العظيم الذي يتحرك من سواحل أمريكا الوسطى ويطوي المحيط الأطلسي، ثم يصل إلى سواحل شمال اوربا، وهذه المياه تكون حارةً حينما تتحرك من المناطق القريبة من خط الاستواء، حتى أنّ لونها يختلف أحياناً عن لون المياه المجاورة لها، واللطيف أنّ عُرضَ هذا النهر البحري العظيم أي «غولف
نفحات القرآن، ج 2، ص: 230
استريم» نحو مائة وخمسين كيلو متراً، وعمقه عدة مئات من الأمتار «1»، وتبلغ سرعته في بعض المناطق حداً بحيث يقطع مائة وستين كيلو متراً في اليوم، وتختلف درجة حرارته عن حرارة المياه المجاورة ب 10- 15 درجة.
إنَّ «غولف استريم» يتسبب في حصول رياحٍ حارةٍ، ويعطي نسبةً كبيرة من حرارته إلى البلدان الواقعة شمال اوربا، فيعمل على تحسين جوِّها، ولولا هذا الجريان لتعسرت الحياة كثيراً في هذه البلدان واستحالت في بعضها.
والعجيب أنّ هذه الأنهار البحرية العظيمة والتي يكمن السبب الرئيس وراء ظهورها في التفاوت في درجة حرارة المناطق الاستوائية والمناطق القطبية قليل ما تمتزج بالمياه المحيطة بها، وتطوي آلاف الكيلو مترات بهذا الشكل، فهي مصداقٌ لطيفٌ ل «مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّايَبْغِيَانِ». «2» (الرحمن/ 19 و 20)
8- استثمار ماء البحر طبياً- لا حاجة لتوضيح أنّ ماء البحر له آثارٌ مفيدة لجسم واعصاب الإنسان، ولهذا ينتشر اليوم وفي معظم مناطق العالم استثمار ماء البحر لعلاج بعض الأمراض الجلدية والعصبية، أو لحفظ الصحة والسلامةِ، ولو تمَّ القضاء على التلوث الأخلاقي في هذا
المجال لأصبح استثمار ماء البحر مصدراً لسلامة ونشاط الناس.
9- المصدر الرئيس للمياه الجوفية- إنّ أهمَّ وأعظمَ وأكثر فوائد البحر هي الابخرة التي تتصاعد منه، ثم تؤلفُ الغيوم، وتساقُ هذه الغيوم نحو المناطق اليابسة والجافة، فتُحييها، حيث ذُكرَ ذلك في فصل الريح والأمطار بشكلٍ مُفصَّلٍ.
10- توفير الماء العذب- يتمُّ في الكثير من المناطق التي يصعب الحصول على الماء العذب، تأمين هذه المادة الحياتية من خلال تقطير ماء البحر فتصبح المناطق المهجورةُ مسكونة بسبب ذلك.
هذا جانبٌ من منافع وبركات البحار التي وقف عليها الإنسان حتى هذا اليوم، وليس
__________________________________________________
(1) وقد ذُكر في بعض الكتب أنّ عمقَهُ يصل في بعض المناطق إلى (800 م) (البحر والعجائب، ص 46).
(2) لمزيد من التوضيح في هذا المجال يراجع التفسير الامثل، ذيل الآية 19 و 20 من سورة الرحمن.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 231
معلوماً ما حجم المنافع التي سينالُها الإنسان في المستقبل، وهنا نقف على عظمة هذا التعبير القرآني: «وَسَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ» «1»
.
لو فكرنا جيداً فانَّ جميع الموجودات في العالم تبعث على الدهشةِ، ولكن لا يشبهُ أيٌ منها الاحياءَ التي في أعماق البحار، وقد ذكر بعض العلماء أنّ عدد أنواع الاحياء البحرية التي تمت معرفتها مائة وأربعون الف نوعٍ، علماً أنّ عدد هذه الأنواع كثيرٌ للغاية على سطح المحيطات، ولكن كلَّما نفذنا في الأعماق فانّها تقلُّ، أو على الأقل تقلُّ معلوماتنا عنها.
والمسألة المهّمة التي تخص البحار هي أنّ التصوُرَ كان ينصبُ على عدم وجود أيِّ كائن حيٍّ في أعماق البحار، لأنَّ أشعة الشمس تنفذ إلى عمق «600» متر في الماء فقط، و تختفي نهاية الأشعة في مثل هذا العمق، فيغُطُ كلُّ شي ءٍ في «ظلام دامس».
بالاضافة إلى أنّ ماءَ البحر
يكون بارداً جدّاً في هذه المنطقة، والأهمُ من ذلك الضغطُ الذي يولده الماء على موجودات تلك المنطقة، لأنَّ ضغط الماء في عمق كيلو مترٍ واحد يكون في نحو من مائة كيلو غرام لكل سنتمتر مربعٍ واحدٍ، ومن المسلمِ به لو كان الإنسان هناك مجرّداً من ملابس الوقايةٍ لتحطمت وسُحقت عظامُهُ «2»، ولهذا لا يمكن النزول في البحار بعمق عشرة أمتار فأكثر بدون ملابس واقيةٍ، ولابدَّ من استخدام الواقيات الفولاذية السميكة أثناءَ الغوص في الاعماق، وإلّا لدَمَّر ضغطُ البحر كلَّ شي ء، ولا يمكن الذهاب بكل وسيلة إلى الأعماق في بعض المراحل بسبب عدم وجود شي ءٍ يقاوم الضغط.
__________________________________________________
(1) تُراجع كتب: البحر دار العجائب؛ وأسرار البحر؛ وعجائب البحر؛ ونشرة الميناء والبحر؛ رسالة الثقافة، ج 12؛ وأفضل الطرق لمعرفة اللَّه.
(2) إنَّ الغواصين يغوصون إلى عمق 30 متراً فقط بدون ملابس الغوص وإلى عمق 150 متراً بملابس الغوص، في حين أنّ ضغط الماء يبلغ 7 أطنان لكل انج مربعٍ في أعمق نقاط البحر (البحر دار العجائب، ص 89).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 232
على أيّة حال فقد اثبتت بحوث العلماء فيما بعد أنّ هنالك في أعماق البحر موجوداتٍ حيَّةً كثيرة وعجيبة، حيث تقوم بإبطال مفعول الضغط العجيب للماء من خلال الضغط الداخلي الموجود فيها.
ولا تنمو الحشائش هناك كي تستفيد منها الاحياء الموجودة في قاع البحر، لكن يد القدرة الإلهيّة تقوم بتهيئة الغذاء اللازم لها والذي هو عبارة عن المواد النباتية المختلفة على سطح المحيط وتحت ضوء الشمس، وبعد إعداده ينزل إلى سُكان أعماق البحر على هيئة مائدةٍ سماوية، وتترسب هناك، بالاضافة إلى الاحياء الموجودة على سطح الماء التي تموت حيث تُعَدّ جثثها طعاماً لذيذاً للموجودات الحيّة في قاع البحر.
ولكن لنرَ
كيف تُحلُّ مشكلة الظلام الدامس؟ فقد وفَّرت القدرة التي خلقت هذه الموجودات للعيش في هذه المنطقة والنور اللازم لها، لأنَّ اغلبَ هذه الاحياء تقوم باشعاع النور منها، نورٌ كنور ليلة مقمرة من ليالي الصيف فتضي ء ذلك المحيط.
وينطلقُ نورٌ احمر من رأس نوعٍ من الأسماك، ومن ذيل اخرى نورٌ ازرقٌ، وينشر بعضُ الأسماك نوراً باللون الاحمر والابيض والازرق.
يقول أحد العلماء: إنَّ أكثر المناطق عجباً في البحر ليست قرب سطح الماء ولا قاع المحيط، بل هي المنطقة التي تتوسطهما، فليس لها سماءٌ فوقها ولا أرضٌ تحتها، وانما يحيط الماء بكل شي ء، ولا مأوى للموجوداتِ التي تحيى هناك، فهي في حركةٍ مستمرة، وهنالك الأسماك التي تُحيّرُ العقول، فاسنانُ بعضها طويلٌ بالقدر الذي لا تتمكن من أن تغلقَ فمها أبداً ونوعٌ من الأسماك يتسع بطنهُ بحيث يتمكن من ابتلاعِ سمكةٍ تعادلُ حجمه ثلاث مرات، وقد اطلق على هذه الأسماك أسماءً عجيبةً وغريبةً مثل «البالع الأسود» و «الأفعى البحرية» و «ثعبان السمك»!
لنترك قعر المحيط ونأت إلى سطح الماء فهناك عجائب أيضاً، وهنالك أسماك كلٌ منها اعجبُ من الآخر، منها الأسماك ذوات الشحنة الكهربائية حيث تستطيع انتاج كميات كبيرة من الكهرباء بايعاز من الدماغ، إذ تصيب العدو أو الفريسة بالشلل، تلك الشحنات الخطيرة حتى على الإنسان أيضاً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 233
و «الأسماك الطائرة» التي تخرج من الماء وتطير إلى مسافة ستين متراً، وتقفز أحياناً أعلى من الأشجار.
و «السمك ذو الدواة» الذي يفرز مادةً سوداء اللون في ماء البحر للاختفاء عن العدو والافلات منه، كما يُصنع اليوم في الحروب التقليدية، حيث يُملأ ميدان المعركة بالدخان كي يتوارى الأشخاص عن العدو.
و «السمك المائدة» أحد الأنواع العجيبة للسمك، حيث تكون عريضةً وكبيرة جدّاً،
إذ تبسط نفسها على سطح المحيط فتشكل مائدة، وبمجرّد وقوع الفريسة على هذه المائدة تجمع أطرافها المبسوطة عليها وتنشغل بأكلها.
يعيش في البحر أصغر الاحياء، وأكبرها أيضاً، إذ يبلغ طول الحيتان الموجودة في البحر ثلاثين متراً، وقطرها أكثر من أربعة عشر متراً، ويبلغ طول فكِّها أكثر من سبعة أمتار، ووزنُ لسانها ثلاثة أطنان، ووزن قلبها نصف طن، ووزن كبدها طناً واحداً، ويبلغ طول وليدها سبعة أمتار أحياناً «1».
وكان طول احدى الحيتان التي تمّ اصطيادها في جزائر «نيو جورجيا» ثلاثاً وثلاثين متراً، ووزنها مائة وخمسة وعشرين الف كيلو غرام «2».
وكذلك هناك نباتاتٌ مجهريةٌ، ونباتات يبلغ طولها خمسين متراً تعيش في البحار أيضاً.
وهنا نترَّنمُ بهذه الجملة المشهورة في دعاء الجوشن من خلال عالَمٍ من الخشوع والإخلاص ولْنَقُل: «يا مَنْ في البحار عجائِبُهُ» «3».
__________________________________________________
(1) عجائب البحر، ورسالة الثقافة.
(2) البحر دار العجائب، ص 121.
(3) دعاء الجوشن الكبير، الفقرة 58.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 234
في ذلك اليوم حيث رُويت هذه العبارة في دعاء الجوشن عن النبي صلى الله عليه و آله لم تزل أسرار البحار غير مكشوفة لأحد، واليوم تتجلّىَّ لنا عظمة هذه العبارة أكثر من أيِّ وقت.
وورد في دعاءٍ ومناجاةٍ اخرى لأمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:
«أَنتَ الذى في السماء عَظَمَتُكَ، وفى الأرضِ قُدْرَتُكَ، وفى البحار عَجائبُكَ» «1».
ونواصل هذا البحث بحديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:
«سخَّرَ لكُمُ الماءَ يَغدو عَلَيكُمْ وَيَروُحُ صَلاحاً لمعايشكُمْ والبَحْرَ سَبَباً لكَثْرَةِ أمْوالِكُم» «2».
ونختم هذا البحث بمقطعٍ من الحديث المشهور ب «توحيد المفضّل» عن الصادق عليه السلام، إذ يقول عليه السلام:
«فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين، فانظر إلى ما في البحار من ضروب
السمك ودواب الماء، والاصداف والاصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلّاالشي ء بعد الشي ء يدركه الناس بأسباب تحدث؛ مثل القرمز فانّه إنّما عرف الناس صبغه بأنّ كلبة تجول على شاطي ء البحر فوجدت شيئاً من الصدف الذي يسمى «الحلزون» فاكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغاً ...» «3».
نعم .. ففي البحر وموجوداته ونباتاته وغيرها منافع وبركاتٌ تتكشفُ عنها المزيد من الأسرار في كل يومٍ يَمُرُّ من حياة البشر، وتظهر لهُ فوائد جديدة بحيث تجبر الإنسان على الخضوع إلى خالق هذه النِعَم.
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 97، ص 202.
(2) المصدر السابق، ج 60، ص 39، ح 3 (باب الماء وانواعه والبحار).
(3) المصدر السابق، ج 3، ص 109 (حديث المفضل).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 235
هل أنّ الظِّلَّ شى ءٌ يمكنُ من خلاله أن تستدل على خالق العالَم؟ نعم .. فقد تمّت الإشارة في آيات القرآن الكريم إلى هذه المسألة التي تبدو عاديةً أثناء وصف نِعَمِ الخالق جلَّ وعلا والتعريف بالذات الإلهيّة المقدّسة، فهو تعالى يريدُ بيانَ هذه الحقيقة، وهي أينما يقع بصرُكَ في هذا العالم الملي ء بالعجائب والأسرار فانَّ عظمَتهُ تتجلى فيه، وبراهينُ حكمته وقدرته مكتوبةٌ في جبين كل الموجودات صغيرها وكبيرها.
بعد هذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية:
1- «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيْلًا* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِليْنَا قَبْضَاً يَسيْراً». (الفرقان/ 45- 46)
2- «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجِبَالِ أَكْنَاناً وجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيْلَ تَقيْكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ».
(النحل/ 81)
3- «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلىَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَىٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِيْنِ وَالشَّمائِلِ
سُجَّداً لِّلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ». (النحل/ 48)
4- «وَللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُمْ بِالْغدُوِّ وَالآصَالِ». (الرعد/ 15)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 236
«ظِلال»: جمع «ظِلّ» إلّاأنّ العالِم والمفسرَ المعروف «الراغب» يقول في كتاب «المفردات»: أيُّ مكانٍ لا تشرق فيه الشمس يُعتبر ظِلًا سواء أشرقت عليه سابقاً أم لا، ولكن «الفي ء» على وزن (شي ء)، يقالُ للمكان الذي أشرقت عليه الشمس سابقاً ثم غطّاه الظل.
في حين أنّ بعض أرباب اللغة اتخذَ الاثنين بمعنىً واحد، وقال البعض إنَّ «الظل» هي الظلال التي تنزل أثناء الصباح، و «الفي ء» يُطلقُ على الظلال التي تنزلُ عصراً، إلّاأنّ المعنى الأول يتناسب كثيراً مع حالات استعمال هذين اللفظين.
ويطلق لفظ «الظل» كنايةً في مورد العزّةِ والمَنعةِ والرفاه والراحة لأنَّ من المعروف أنَّ هذه الأحوال تحصل في الظل «1».
هل إنَّ الظِّلَّ نعمةٌ عظيمة؟
إنَّ الحديث في هذه الآيات عن الظلال، والمسألة تبدو وكأنّها عاديَة لكنَّ التفحُصَ فيها يمكنُ أن يُقربَنا ويُعرفَنا أكثر بخالقِ هذا العالم.
ففي الآية الاولى يخاطبُ النبيَّ صلى الله عليه و آله قائلًا: «أَلَمْ تَرَ الىَ ربِّكَ كَيْفَ مَدَّ الْظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً».
ويضيف في نهاية الآية قائلًا: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيْلًا»، ويضيف في الآية التي تليها: «ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلْينا قَبْضَاً يَسيراً».
وهنا ما المقصود بهذا الظِّل الذي يمُّدهُ الباري تعالى ثم يجمعه تدريجياً؟ قال بعض المفسرين: المقصود هو ظلُّ الليل حيث ينبسطُ على جميع سطح الأرض وينقبض بنحوٍ متناوب، ويعتبر وجود الشمس دليلًا وإشارة عليه، إذ «تُعرفُ الاشيَاءُ بِاضدَادِهَا».
ويعتبره البعض إشارةً إلى الظلِّ الذي يمتدُّ بين الطلوعين (بين طلوع الصبح وطلوع
__________________________________________________
(1) لسان العرب؛ ومفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 237
الشمس)، فيغطي وجه الأرض وهو افضل الظلال والساعات.
واعتبره البعض بمعنى الظلال التي تحصل أثناء النهار بسبب اصطدام ضوء الشمس بالجبال والأشجار وبقية الاجسام، ثم ينتقل تدريجياً.
من هنا حيث لا تتعارض هذه التفاسير
الثلاثة، وبما أنّ تعبير الآية مُطلق وجامع، فيمكن أن يكون إشارة إليها كلها إذ إنَّ كلًا منها نعمةٌ ثمينة.
إننا نعلمُ أنّ اللَّيلَ في الواقع هو ظل نصف الكرة الأرضية الذي يقع أَزاء الشمس، الظلُّ المخروطي الشكل الذي يمتد في الفضاء في الجهة المقابلة ويتحرك باستمرار، ولولا ظلُّ اللَّيل لاحترقت كافة الكائنات الحية بفعل ضوء الشمس والحرارة الناتجة عنه، وهلكَ النسل البشري بسرعة.
وكذلك لولا وجود سائر أنواع الظلال، ولو كان الإنسان مجبوراً على قضاء النَّهار تحت الشمس لوقَعَ في حَرَجٍ بالغٍ، ولأصبحت الحياةُ شاقةً بالنسبة له لاسيما في فصل الصيف، إنَّ اللَّهَ تعالى فتحَ الظل للإنسان كي ينالَ الراحة والاستقرار هو ومن يتعلق به.
وبتعبيرٍ آخر فانَّ بعض الأشياء خُلقت «معتمة»، والبعض خُلق «شفافاً» بحيث يعبرُ النور من خلاله، فلو كانت كل الأشياء شفافةً فلا وجود للظلِّ اطلاقاً وستتبدلُ حياة الإنسان مقابل ضوء الشمس المستمر إلى جهنم محرقة، وإذا تفكَّرَ الإنسان قليلًا في هذا المجال فسيتعرف على عظمة وأهميّة هذه النعمة ويتمكن من خلال ذلك الوصول إلى الخالق الحكيم.
ولعلَّ التصريح ب «النظام التدريجي للظِّل» في الآيةِ أعلاه إشارة إلى هذه الحقيقة وهي لوأنَّ الظِّلال تحصل أو تزول فجأة لأدّت إلى اضرار جسيمة، إذ لا يخفى على أحد الاضرار الناتجة عن الانتقال المفاجي ء من النور إلى الظلام وبالعكس، أو من الحر إلى البرد وبالعكس.
ولكنَّ «الظِّل» بما له من بركاتٍ ولطفٍ، مضرٌ أيضاً فيما إذا دام وخَلُدَ لأنَّه يحرم الإنسان من نعمة النور، لهذا يقول في الآية أعلاه: «وَلَو شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً»، (ولكنه للطفه وكرمه لم يفعل ذلك كي يَنَعُمَ العباد بنعمة النور والظِّل على السواء).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 238
ويقول في الآية الثانية التي تمَّ بيانها ضمن آيات
التوحيد في سورة النحل، بعد تعداد بعض آيات الآفاق ونِعَمِ الخالق جلَّ وعلا: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَق ظِلَالًا».
قال بعض المفسّرى إنَّ المقصود هنا الأشياء التي تتسبب في ايجاد الظّلال، كالجبال والأشجار، والغيوم، والسقوف والجدران «1».
وممّا لا شكَّ فيه لو كانت جميع الاشياء- كما المحنا سابقاً- شفافةً ومضيئة كالبلور، ولا وجود للظلِّ في العالم لكانت الحياة غير ممكنة بالنسبة للإنسان.
ويشير سياق الآية إلى سائر النِّعم التي هي في الواقع مكملةً لوجود الظلِّ، كالملاجى ء المستحدثة في الجبال على هيئةِ مغاراتٍ وكهوف، والتي تقي الإنسان من حرارةِ الشمس المحرقة، كالدرع حينَ يَصُدُّ طعنات العدو في ساحة الحرب: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبَالِ أَكنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابيْلَ تَقِيْكُمْ بَأسَكُمْ» «2».
وهنا لماذا أشار في الآية الآنفة إلى اللباس كوقاءٍ للحفظ من الحَرِّ فقط، من دون الإشارة إلى البرد؟ يقول بعض المفسِّرين: لأنَّ المناطق التي نزلت فيها هذه الآيات، المتداول فيها مسألة الحر بكثرة، أو لكثرة وزياده اخطار الحرارة والاحتراق عند مواجهة الشمس، في حين تتزايد طرق وقاية الإنسان لمواجهة البرد.
ولكن لا يجب نسيان أنّ في آداب العرب حينما يريدون التلميح إلى ضدّين فهم يحذفون أحدَهُما في أغلب الموارد ويذكرون واحداً فقط، وهذا الأثر له قرائن كثيرة.
والجدير بالاهتمام أنّه يقول في نهاية هذه الآية بعد ذكر هذه النِّعم الثلاث (الظلال، والمساكن، والملابس): «كَذلِكَ يُتِمٌّ نِعْمَتَهُ عَلَيِكُم لَعَلَكُمْ تُسْلِمُونَ».
نعم .. فالتأمل بهذه النِّعَمِ وأسرارها المختلفة يعرِّفُ الإنسان بعلمِ وقدرة اللَّه تعالى من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ اخرى يدفعُ إلى التسليم إلى أوامر الخالق جلَّ وعلا ذي اللطف والرحمة، من خلال تحريك الشعور بالشُّكر له.
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 14، ص 186؛ و تفسير القرطبي، ج 6، ص 3775.
(2) «سرابيل» جمع «سربال»
(على وزن مثقال) وقد فسَّرها البعض بكل أنواع الملابس، واعتبرها البعض بمعنى الرداء (حيث يرتدون الدرع كالرداء) إلّاأنّ المعنى الأول اكثرُ تناسباً هنا.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 239
وفي الآية الثالثة يوجه اللوم والتوبيخ للمشركين في آيات التوحيد فيقول:
«أَوَلَمْ يَرَوْا الىَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَى ءٍ يَتَفَيَّؤا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِيْنِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ» «1».
أيٌ تعبيرٍ لطيفٍ هذا؟ فقد خضعت الظلالُ بأسرها وسجدت أمام ذاته المقدّسة، لأنّها مُسَلِّمةٌ لأمرِهِ وهذا التسليم والخضوع أمام قوانين الخالق هو سجودها لحضرته تعالى
فكيف يتضاءل الإنسان أمام الظلال، ويسجدُ للأصنام، ولا يسجدُ للخالق جلَّ وعلا؟!
إنَّ سجودَ الظِّلالِ جزءٌ من سجود كافة الكائنات في السماء والأرض، ولهذا فقد أشار في سياق هذه الآية إلى هذا السجودِ العام، فقال: «وللَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمواتِ ومَا فِى الأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ».
وهنا سُتطرحُ بحوثٌ مفصلّة خلال بحث السجود العام لموجودات العالم أمام الباري عزّوجل، على أيّةِ حالٍ ففي هذه الآيةِ إشارة لطيفة إلى أهميّة الظلال وآثارها حيث تصلح كمصدرٍ لإلهام التوحيد.
وفي الآية الرابعة يضع الظّلال في جُملة موجودات السماء والأرض التي تخضع وتسجدُ للَّه تعالى فيقول: «وَللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ والآصَالِ».
وربّما يكون التعبير ب «طَوْعاً وَكَرْهاً» إشارة إلى تسليم الموجودات العاقلة وذات الاحساس رغبةً وطوعاً، وإلى تسليم الموجودات غير العاقلة كالظلال للأوامر الإلهيّة فتسجد قوانين الخلق الاجبارية.
__________________________________________________
(1) «يَتَفَيَؤا» من مادة «في ء» وتعني العودة والرجوع، ويحصرها بعض أرباب اللغة بمعنى ظلال الأشياء حين عودة الشمس عصراً، واطلاقها على غنائم الحرب يعود إمّا بسبب رجوع المسلمين بها، أو زوالها أو فنائها النهائي كالظلال، و «داخر» تعني المتواضع.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 240
أو إلى أنّ المؤمنين يسجدون رغبةً وطوعاً، وغيرُ
المؤمنين الذين ليس لديهم الاستعداد للسجود طوعاً فإنّ جميعَ ذرات وجودهم مسلِّمة للَّه تعالى بحكم قوانين الخلق الاجبارية، وقد جبلوا على السجود التكويني أمام ذاته المقّدسة.
أو أنّ المؤمنين يُمَرِّغون جباهَهُمْ بالتراب أزاءه في كل الأحوال (في الراحة وعند حلول المشكلات، مطمئنين كانوا أم مضطربين)، إلّاأنّ الكافرين لا يتوجهون نحوه إلّاحينما تباغتهم المشاكل.
وممّا لا شك فيه أنّه ليس هنالك تعارضٌ بين هذه التفاسير الثلاثة، ويمكنُ جمعُها في مفهومٍ واحدٍ.
والتعبير ب «مَنْ» في الآية أعلاه مع أنّه يختص باصحاب العقول حسب الظاهر، إلّاأنَّ من المحتمل أن يكون له مفهومٌ عامٌّ فيشمل كافة الموجودات العاقلة وغير العاقلة، فيصبح التعبير ب «مَنْ» من باب التغليب.
وأمّا تعبير «الغدو» و «الآصال» (الصباح والمساء) فلعلّه كان بسبب إمكانية زوال الظلال وسط النهار، أو كونها ضئيلة جدّاً ومحدودة، في حين أنّها ليست كذلك في الصباح والمساء، وفضلًا عن ذلك، فإنّ هذا التعبير جاء في الكثير من الحالات لبيان الديمومة والتعميم، فمثلًا تقول: إنّ الشخص الفلاني يدرس صباحاً ومساءً، أو إنّه يؤذي شخصاً آخر، أي إنّه كذلك على الدوام.
يُستفاد من مجموع هذه الآيات أنَّ القرآن الكريم يولي اهتماماً خاصاً حتى للظلال، ويعتبرها من آيات عظمة اللَّه، والتعبير ب «السجود» الذي هو غايةُ الخضوع إشارةٌ إلى هذا المعنى
من أجل ادراك أهميةِ أيّ موجودٍ لابدّ من احتمالِ زواله تماماً في لحظةٍ أو يومٍ أو شهرٍ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 241
ما، ثم الالتفات إلى آثاره.
والأمر كذلك في مسألة الظلال التي تبدو موضوعاً عادياً وغير مهم للوهلة الاولى، ولكن افرضوا أنّ كل أنواع الظلِّ والمظلات رُفعت عن الكرة الأرضية لمدّة اسبوعٍ، فلا جبال، ولا أشجار، ولا حائط بيتٍ ولا سقف، ولا حتى ظلَّ نصف الكرة الأرضية الذي
يُغطي النصف الآخر وهو الليل، واختفت كلّها بصورة مفاجئة، وتبدلت جميع الأجسام في هذا العالم إلى حالةٍ كالبلور ونفذ ضوء الشمس من خلالها، فكم ستصبح الحياة صعبةً وغير قابلة للتحمل؟ إذ يشعُ ضوء الشمس باستمرار، ويتعرض له كل شى ء، ويسلبُ كل أشكال الاستقرار والاطمئنان والراحة من الإنسان وسائر الموجودات، ولو حدثت مثل هذه الفرضية في فصل الصيف فسوف تهلك جميع الكائنات الحية خلال فترة قصيرة.
بناءً على ذلك يمكن القول أنّ لوجود الظلال دوراً مؤثراً جدّاً في حياة الإنسان للأسباب الآتية:
1- إنّ وجودَ الظلال ضروريٌّ للغاية من أجل تخفيف ضوء وحرارة الشمس، لأنَّ الأشعة الحياتية للشمس لو لم تُخفَّف بالظهور المتناوب للظلال ستُفني كل شى ء وتحرقه خلال فترة قصيرة.
يقول الفخر الرازي في تفسيره: «إنّ الظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة، وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران، وهذه الحالة أطيب الأحوال، لأنّ الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس، وأمّا الضوء الخالص وهو الكيفية الفائضة من الشمس فهي لقوتها تبهر الحس البصري وتفيد السخونة القوية وهي مؤذية، فاذن أطيب الأحوال هو الظل، ولذلك وصف تعالى الجنّة به فقال: «وظِلٌ مَمْدُودٌ» «1».
2- يبدو أنَّ دور الظلال لاسيما الظلال المتحركة حيويٌ جدّاً بالنسبة للمسافرين وقاطعي الصحراء، فهؤلاء يستطيعون الاستعانة بالخيام ووسائط النقل المسَقَّفة من وقاية
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 24، ص 88.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 242
انفسهم أزاء أخطار أشعة الشمس المباشرة.
3- والمسألة الاخرى الجديرة بالاهتمام، هي أنّه خلافاً للتصور العام فانَّ النور لا يكفي لوحده لرؤية الأشياء، بل يجب أن يكون متزامناً مع «الظلال» كي تتوفر إمكانية رؤية الأشياء، وبعبارة أكثر جلاءً:
لو أنّ النورَ يشعُ
على موجودٍ ما من أربعة جهات بحيث لا يوجد أيُّ شكلٍّ للظل أو بعضه، فلا يمكن رؤية ذلك الشي ء الذي يغرقُ في النور المتساوي من جميع الجهات، اذن فكما لا يستطيع الإنسان رؤية الأشياء في الظلام المطلق فهو غير قادرٍ على رؤية الأشياء في النور المطلق أيضاً، بل يجب أن يتظافرا معاً كي تتيسر رؤية الأشياء (فتأمل جيداً).
فالخالقُ الذي أناطَ هذه الأدوار المهمّة والحيوية لموجودٍ عاديٍّ بهذا المستوى جديرٌ بالعبودية والخضوع والسجود.
نختتم هذا الحديث بعبارةٍ لأحد المفسّرين، إذ يقول لمن غَفَلَ عن السجود للَّه تعالى
«أمّا ظلك فسجد لربك وأمّا أنت فلا تسجد له بئسما صنعت» «1».
__________________________________________________
(1) التفسير الكبير، ج 20، ص 43.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 243
إنَّ النباتات هي أكثر الكائنات الحيّة الموجودة على الأرض، وتحتل المرتبة الاولى من حيث التنوع والكثرة، والعجائب والزينة، وكذلك من حيث الآثار المفيدة والثمينة أيضاً.
لهذا فقد استند القرآن الكريم في آياته التوحيدية مراراً على مسألة خلق النباتات، ومزاياها المختلفة، ودعا الإنسان إلى التفحُصِ في أسرار هذه الموجودات الرائعة في عالم الخَلق، الموجودات التي يُمكنُ أن تُقدِّمَ ورقةٌ واحدةٌ منها كتاباً عن معرفة اللَّه تعالى
بعد هذا التمهيد نتمعن خاشعين في الآيات الآتية ومواضيعها اللطيفة:
1- «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلىَ الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَريمٍ* انَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً وَمَا كَانَ أَكْثَرَهُمْ مُّؤمِنْينَ». (الشعراء/ 7- 8)
2- «أَمَّنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَاءَ ءَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ». (النمل/ 60)
3- «خَلَقَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وأَلْقى فى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً
فَأَنْبَتْنَا فِيْهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيْمٍ* هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِيْنَ مِنْ دُوْنِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلالٍ مُّبِيْنٍ». (لقمان/ 10- 11)
4- «وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحيَينَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُوْنَ* وَجَعَلْنَا فِيْهَا جَنَّاتٍ مِّنْ نَّخيْلٍ وأَعْنابٍ وفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيْهِم أَفَلا يَشْكُرُونَ* سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا
نفحات القرآن، ج 2، ص: 244
يَعْلَمُونَ». (يس/ 33- 36)
5- «وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَى ءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ أُنْظُرُوا إِلىَ ثَمَرِهِ اذَا أَثمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَلِكُم لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ». (الانعام/ 99)
6- «وَفِى الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيْلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بِمَآءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الْأُكُلِ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». (الرعد/ 4)
7- «هُوَ الَّذِى أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُمْ مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجرٌ فِيْهِ تُسِيْمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيْلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». (النحل/ 10- 11)
8- «وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوْشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوْشَاتٍ وَالنَّخْلَ والزَّرْعَ مُخْتَلِفاً اكُلُهُ والزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذآ أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسرِفُوا إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ». (الانعام/ 141)
9- «وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلقَينَا فِيهَا رَوَاسِىَ وأنْبَتْنَا فِيْهَا مِنْ كُلِّ شَى ءٍ مَّوْزُونٍ* وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِيْنَ». (الحجر/ 19- 20)
10- «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوَى ... ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنىَّ تُؤفَكُونَ». «1»
(الانعام/ 95)
«النَبات»: يعني في الأصل كلَّ نوعٍ من الزرع الذي
يخرج من الأرض سواء كان له ساق كالشَجَر، أو بدون ساقٍ والذي يُسمِّيه العربُ ب «النَّجم»، إلّاأنّ هذا اللفظ غالباً ما يُطلق على
__________________________________________________
(1) هناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى كالآيات التالية: النبأ، 15؛ طه، 53؛ عبس، 27؛ ق، 7؛ البقرة، 261؛ البقرة، 22؛ ابراهيم، 32؛ الانعام، 141؛ الاعراف، 57؛ النحل، 67.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 245
الزرع الذي ليس له ساق، وفي التعابير الأكثر شمولًا يُطلق «النبات» على كل موجودٍ نامٍ سواء كان نباتاً أم حيواناً أم إنساناً «1».
و «الشَجَرْ»: تعني النباتات ذات السيقان، ولهذا جاء في القرآن الكريم أزاء «النجم» الذي يعني النبات الذي لا ساق له: «والنَّجْمُ والشَّجرُ يَسجُدان». (الرحمن/ 6)
وورد في «مقاييس اللغة» أنّ «الشَّجَرَ» له معنيان في الأصل: هما الارتفاع والعلو، وتداخل أجزاء الشي ء مع بعضها، وحيث إنّ الأشجار ترتفع عن الأرض، كذلك فانَّ أغصانها تتداخل فيما بينها، لذلك اطلقَ عليها «شَجَرْ»، و «مشاجرة»: تعني النزاع والاختلاف والمحادثة لأنَّ حديث الجانبين يتداخل مع بعضه.
إلّا أنّ البعض يعتقد أنّ أصلَ هذه المادة يعني الشي ء الذي ينمو ويرتفع وتتفرع منه أوراقٌ وأغصان، وقد يُطلق على الامور المعنوية أيضاً كما في: «والشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فى الْقُرآن». (الاسراء/ 60)
(التي تمَّ تفسيرها بمعنى «شجرة الزقوم» أو «اليهود» أو «بني اميّه») «2».
وكما يُفهم من كتب اللغة المختلفة فإنّ «الزرع» تعني في الأصل نثر البذور والحبوب في الأرض، ومن هنا حيث سيتبعُ نثر البذور نمو النبات وحصاده، فيُطلقُ على كل واحد من هذه العمليات «زرعاً».
ويقول بعض اللغويين: إنَّ الزرع تعني الإنماء، وهذا في الحقيقة هو فعلُ اللَّه تعالى وإذا اطلقَ لفظ الزارع على العباد فهو بسبب توفيرهم لأسباب ومقدّمات ذلك، وقد يقال ل
«المزروع» زرعاً أيضاً.
وغالباً ما يُطلق لفظ «زرع» على الحنطةِ والشعير، إلّاأنّ مفهومه أكثر شمولًا، حيث يشملهما وغيرهما «3».
__________________________________________________
(1) «النبات» لها معنىً مصدري، واسم مصدري أيضاً.
(2) مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ مصباح اللغة؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
(3) مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم؛ وصحاح اللغة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 246
وأمّا ال «ثَمَرْ» فقد جاء في «مقاييس اللغة» أنّ هذا اللفظ يعني في الأصل كلَّ شي ءٍ يتولد من شي ءٍ آخر، وقال بعض اللغويين، أنّه يعني ما يحصل من الشجرة فقط.
وصرَّحَ قسمٌ آخر من ارباب اللغة، بان كل موجود يحصل ويتولد عن موجودٍ آخر مأكولًا كان أم غير مأكول، مرغوباً كان أم غير مرغوب، حلواً كان أم مُراً، يسمى «ثَمَراً».
لكن الظاهر أنّ الثمر كان له في الأصل مفهومٌ محدودٌ وهو الفاكهة الحاصلة من الشَجَر، لكنَّ هذا المفهوم اتَّسَعَ فيما بعد واطلقَ مجازاً على محصول ومنتوجِ أيّ شي ء، حتى أصبح يقالُ إنَّ ثمرةَ هذا المذهب وهذه التعاليم كانت كذا وكذا، وجاء في الرواية: «امُّك أَعْطَتكَ مِنْ ثَمَرةِ قَلبها»، إشارة إلى حليب الام أو محبتها، وفي الروايات أيضاً اطلقَ على الوَلَد بانه ثمرة الفؤاد.
أشار في الآية الاولى إلى المشركين أو الجاحدين، فقال: «أَوَلَمْ يَرَوا إلى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَريْمٍ».
ثمَّ صرح قائلًا: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً وَمَا كَانَ أكْثَرُهُمْ مُّؤمِنينَ».
أجَلْ ... فلو تَمَعَّنَ هؤلاء في هذه النباتات الملّونة، والأزهار، والثمار، والأشجار، والخضار، والسنابل، وأنواع الزروع الاخرى سَيَروْنَ آيات اللَّه فيها بكلِّ جلاء، فهؤلاء لا يريدون أنْ يؤمنوا وينظروا إلى صورة ذاته المقدَّسةِ ببصيرة القلوب، وإلّا فانَّ جمالَه لا يخفى على أحدٍ، نعم فهؤلاء ليست لديهم آذان للاستماع إلى آيات اللَّه
التشريعية ولا أبصار لمشاهدة آياته التكوينية.
وهنا ما المقصود من «زوج»؟ فالكثير من المفسِّرين فَسَّرَ ذلك بمعنى النوع والصنف، واعتبروهُ إشارة إلى تنوعِ وتشعب النباتات، حيث إنّ عددها غير محدودٍ ولا يمكن حصرهُ،
نفحات القرآن، ج 2، ص: 247
وأيّاً منها يُعتبر آيةً من آيات الباري عزوجل.
في حين احتملها البعضُ إشارة إلى «الزوجية» (أي الذكر والانثى الموجودة في عالم النباتات، وهذه الحقيقة اكتشفت لأول مرّة على نطاقٍ واسعٍ على يد عالم النبات السويدي المعروف «لينه» أواسط القرن الثامن عشر الميلادي، حيث إنّ النباتات- على الأغلب- تحمل وتثمر كاليحوانات عن طريق تلاقح الذكر والانثى في الوقت الذي وردت هذه الحقيقة في القرآن الكريم قبل قرون عديدة.
ومن هنا حيث لا تعارُضَ بين هذين المعنيين فيمكن أن تكون إشارة اليهما معاً.
إنَّ وصف «الزَوْج» ب «الكريم» علماً بأنَّ لفظ «كريم» يعني الموجود الثمين، إشارة إلى أهميّة أنواع النباتات وقيمتها الفائقة.
إنَّ تنوعَ النباتات كثيرٌ إلى الحد الذي يقول بعض العلماء: إنَّ «النخل» أكثر من ثلاثة آلاف نوعٍ، و «الكاكتي» أو «التين الهندي» ألف وسبعمائة نوع، و «ورد الثعلب» الف ومائتا نوع، ونَسبوا ل «الكَمَأْ» مائة الف نوع، ول «الطحالب» أربعة آلاف نوع، ول «التفاح» سبعة آلاف نوع، وذكروا ل «الحنطة» خمساً وثلاثين الف نوع! «1».
حقاً ... كم هو عجيب عالمُ النباتات الفسيح بكل هذا التنوع؟ وكم هو عظيمٌ خالقُه ومدبّرهُ!
وفي الآية الثانية ومن أجل إثبات «وحدانية المعبود» يدعو الناس إلى تَفحُصِ أسرار خلق السموات والأرض ثم نزول المطر، ثم يقول: «فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِق «2» ذاتَ بَهْجَةٍ»، وليس في إمكانكم أبداً أن تُنبتوا أشجارَ هذا البستان الجميلة: «مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنبِتُوا شَجَرَهَا»،
__________________________________________________
(1) عالم الزهور، ص 99 إلى 118.
(2) «الحدائق» جمع «حديقةٍ»
وتعني «البستان»، وهي تعني في الأصل قطعة الأرض التي تجمَّعَ فيها الماء، وقدفسَّرها الكثير من المفسرين بأنّها البُستان الذي ضُربَ حوله بسور وفيه ما يكفي من الماء.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 248
ومع هذا تقولون هناك إلهٌ مع اللَّه: «أ إلهٌ مَعَ اللَّه».
إلّا أنَّ هؤلاء أفراد يجهلون حيث يعدلون عن الخالق العظيم الذي أبدعَ كل هذه العجائب والغرائب ويجعلون الموجودات التي لا حول لها ولا قوةَ ندّاً للَّه: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُوْنَ».
ومن الممكن أن يكون التعبير ب «يعدلون» بمعنى عدولهم عن اللَّه الواحد المنفرد، أو اختلاق مثيلٍ ونظيرٍ له.
أجَلْ ... فعملُ الإنسان نثرُ البذور والرَّي وأمثال ذلك، واللَّه وحدهُ الذي خلقَ الروحَ في جنين هذه البذرة الصغيرة، واعطاها القدرة على أنْ تتحولَ إلى شجرةٍ عملاقةٍ مثمرةٍ مزدهرةٍ نظرةٍ حيث يَبعثُ منظرُها في البساتين الفَرَح والسرورَ في نفس الإنسان، ولو وضع الإنسان قدمَهُ وسط أحد هذه البساتين المزدهرة النظرة في أحدِ أيام الربيع، وفتح بصيرتَه إلى جانب بصرهِ الظاهري، ليرى كلَّ هذا التنوع والعجائب والمناظر الخلّابةِ والأزهار الملَّونَة والأوراق والثمار المختلفة، لاستنشقَ عطرَ التوحيد وارتوى من كأسِ العبوديةِ واصبح مسحوراً مفتوناً، بنحوٍ يجعلُهُ يترنَّمُ بلحنِ التوحيد ويعترف بهذه الحقيقة.
وهذا الشعر المنقول من اللغة الفارسية يقول:
هنالك واحدٌ لا أحد سواه وحده لا إله إلّاهو وهنا يثمر هذا الأمر:
كلُّ نباتٍ ينمو من الأرض يقول وحده لا شريك له وفي القسم الثالث من الآيات أعلاه وضمن تعرضه لخمسة أقسامٍ من براهين توحيد الخالق جلَّ وعلا وآيات الآفاق (خلقُ السموات بغيرِ عمدٍ ترونها، وخلق الجبال، وخلقُ الدّواب والحيوانات، وخلق المطر، وخلقُ النباتات)، خاطبَ المشركين قائلًا: «هَذَا خَلْقُ اللَّه فأَرُوْنى مَاذَا خَلَقَ الَّذِيْنَ مِنْ دُونِهِ».
وأضاف في ختام الآيةِ: «بَلِ الظّالِمُونَ
فِى ضَلالٍ مُبْينٍ».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 249
فكيف يُمكنُ لمَن يملُك بصراً ويرى آثار قدرةِ وحكمةِ وعظمة الخالق في عَرضِ عالم الوجود، ثمَّ يخضعُ تعظيماً لغيره؟!
ونواجه في هذه الآيات مرّةً اخرى التعبير ب «كُلِّ زَوْجٍ كَريْمٍ» بخصوص النباتات، حيث يتحدث عن التنوع الضروري جدّاً للنباتات، وعن الزوجية في عالمها، ويُشعر سالكي طريق التوحيد بأهميّة هذا الموضوع.
لفظة «ظلم» لها معنى واسع حيث يشمل وضع اي شي ء في غير محلّه، وحيث كان المشركون يعتبرون تدبير الكون بيد الأصنام، أو يتصورونها واسطةً بين المخلوق والخالق ويسجدون لها، فقد ضلُّوا وارتكبوا ظلماً عظيماً، ولهذا جاءت هذه الكلمة في الآية أعلاه بمعنى الشرك، أو بمعنىً واسع حيث إنَّ الشركَ مصداقٌ واضح له.
لا يخفى أنّ عبارة «فأَروني»- في الواقع- جاءت على لسان النبي صلى الله عليه و آله، وبتعبيرٍ آخر:
انَّهُ مكلَّفٌ بانَّ يقول هذه الجُملة للمشركين، لانَّ الآراء للَّه لا يمكن أن يكون لها مفهوم.
ويقول بصراحةٍ في الجزء الرابع من هذه الآيات التي وردت في سورة يس: «وآيَةٌ لَّهُمُ الأَرضُ المَيْتَةُ أَحيَيْناها».
وفي الحقيقة أنَّ مسألة الحياة من اهم أدلَةِ التوحيد، سواء كانت في عالم النباتات، أم الحيوانات والبشر، أنّها المسألة الغنيةُ بالأسرار والمدهشةُ التي حيَّرت عقول كبار العلماء، ومع كل النجاحات التي حققها الإنسان في مختلف الحقول العلمية، لم يفلح أيُّ شخصٍ من حلِّ لُغز الحياة حتى الآن، ولا عِلْمَ لأي أحدٍ كيف وتحت تأثير أية عوامل تبدّلت الجمادات إلى كائناتٍ حَّيةٍ؟!
ثمَّ أشارَ خلال بيان مسألة احياء الأرض الميتة، إلى إنماء المحاصيل الغذائية (كالحنطة والشعير والذرة و ...)، وبساتين العنب والنخيل النظرة، وتكوين ينابيع الماء الصافي، وقال في الختام: «لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ومَا عَمِلَتْهُ أَيْديهِمْ أَفَلا يَشكُرُونَ».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 250
إنَّ عبارة
«ما عَمِلَتْهُ أَيْديهِم» إشارة لطيفةٌ إلى أنَّ هذه الثمار الطازجة، غذاءٌ كاملٌ مهيأٌ للأكل دون الحاجةِ إلى طبخهِ وإضافة المواد الاخرى إليه، فليس للإنسان تدخلٌ في أصل وجودها، ولا في اعدادها للأكل، فعملُ الإنسان لا يتعدى نثرُ البذور وسقي الأشجار فحسب «1».
على أيّةِ حالٍ، لم يكن الهدف من خلق كل هذه النِّعم المختلفة انهماك الإنسان بالأكل كالحيوانات، وأنْ يقضي عمره على هذه الحال، ثم يموت ويصبح تراباً، كلا، فالهدف ليس هذا، بل إنّ الهدف هو أن يرى ذلك ويعيش في ذاته الشعور بالشكر، ومن خلال «شُكر المنعم» يصل إلى معرفة واهب النِّعم حيث ينالُ اسمى المواهب وأرفع مراحل تكامل الإنسان.
والمسألة الجديرة بالاهتمام في الآيات أعلاه هي انّها تضع الزوجية في عالم النباتات إلى جانب الزوجية في عالم الإنسان فتقول: «سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ انْفُسِهِمْ ومِمَّا لَايَعْلَمُونَ».
فهذا التعبير دليلٌ على أنَّ الزوجيةَ هنا تعني جنس الذكر والانثى ووجودها على نطاقٍ واسعٍ في عالم النباتات، وهذا من المعاجز العلمية للقرآن الكريم، لأنَّ هذا المعنى لم يكن آنذاك واضحاً لدى الإنسان بأنَّ هنالك وجودٌ لقوامِ الذكر والاجزاء الانثوية في عالم النباتات، وتنطلقُ الخلايا التي هي نُطَفُ الذكور لتستقر في الأجزاء الانثوية وتتَلاقَح معها وتنعقد نطفةُ النبات.
ويمكن أن تكون عبارة «ومِمَّا لا يَعلَموُن» إشارة إلى أنَّ مسألة الزوجية لها نطاق واسع، وما أكثر الموجودات التي تجهلون وجود الزوجية فيها، وسيزيل تطورُ العلم النقاب عنها (كما ثبتت هذه المسألة في الذّرات حيث تتركب من قسمين مختلفين يكمِّلُ أحدُهما الآخر
__________________________________________________
(1) وهذا في حالةِ كون «ما» في عبارة (وما عملتهُ) نافيةً (وهذا هو الظاهر)، إلّاأنّهم احتملوا أن تكون موصولةً، تلميحاً إلى الثمار التي تنتج عن طريق
التطعيم والتي للإنسان دَخَلٌ فيها، أو إلى المشتقات التي يأخذونها من الفاكهة كالعصير والخل التي تؤخذ من العنب والتمر، وممّا لا شك فيه أنَّ المعنى الأول أكثرُ تناسباً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 251
كالزوجين: ف «الالكترونات» تحمل الشحنات السالبة، و «البروتونات» تحمل الشحنات الموجبة)، ومواضيع اخرى لم يتوصل إليها العلم البشري حتى الآن.
وفي الآية الخامسة حيث تبدأ بالتعريف باللَّه من خلال الآيات المختلفة، أشارت أولًا إلى نزول المطر من السماء، ثم قالت: «فَاخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَى ءٍ».
وربّما يكون التعبير ب «نَباتَ كُلِّ شْي ءٍ» إشارة إلى أنواع النباتات المختلفة، حيث تُسقى بماءٍ واحدٍ، وتنمو على أرضٍ واحدةٍ، ومع هذا فهي تختلف في الشكل والطعم والخواص وأحياناً تتعارض في ذلك، وهذا من عجائب خلقِ اللَّه.
أو أنَّ المقصودَ هو النباتات التي تحتاجها الطيور والبهائم البرية والبحرية وكذا الإنسان «1»، (ويمكن الجمع بين هذين المعنيين أيضاً).
ثم يتطرقُ إلى ذكِر مسألةٍ اخرى فيضيف: «فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً»، وبهذا يشير إلى مادة «الكلوروفيل» الخضراء التي هي من أهم وانفع اجزاء النبات، هذه الخُضرة التي تبعث الحيوية، واللطافة، والجمال، وتسلب القلوب والتي تخرج من التراب الغامق اللون والماء الرائق الشفاف.
إنَّ التعبير ب «خَضِراً» بالرغم من اطلاقه، إلّاأنَّه استناداً إلى الجملة التالية التي تقول:
«نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَراكِباً»، يشير بالأساس إلى سيقان وسنابل الحنطة والشعير والذرة وما شابه ذلك «2».
ثم يُلفتُ النظرَ إلى أشجار النخيل، فيقول: «ومِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنُوانٌ دانِيَةٌ».
«قنوان»: جمع «قِنْو» على وزن (حزب)، وتعني الفروع الرفيعة التي تخرج من الطلع بعد
__________________________________________________
(1) في هذه الحالة يكون مفهوم الجملة «فاخرجنا به نباتاً لكل شي ء».
(2) «مُتراكب» مأخوذة من مادة «ركوب» وتعني الصعود، وهي إشارة إلى الحبوب التي تتراكُب على بعضها على
هيئة سنبلةٍ ذات منظرٍ جميلٍ ومحبَّبٍ للغاية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 252
تَفتُحِه، وهي التي تُكَوِّن عذوق التمر فيما بعد.
وقد يكون التعبير ب «دانيةٌ» إشارة إلى قرب هذه العذوق من بعضها أو انحنائها نحو الأسفل بسبب ثُقل ثمار الرطب.
ويقول بعض المفسرين بما أنَّ عذوق التمر تختلف أيضاً، فالبعض يكون في الجزء الأسفل من النخل ويَمكن استثماره بيُسر، والبعض الآخر بعيداً عن متناول اليد فتكون الاستفادة منه صعبةً بعض الشي ء، فقد أشار الباري تعالى إلى الصنف الأول باعتباره أكثر فائدة «1».
وأشار في سياق هذه الآية إلى بساتين العنب والزيتون والرُّمان: «وجَنّاتٍ مِّنْ أَعنابٍ والزَّيتُونَ والرُّمَّانَ»، التي تتشابه في نفس الوقت الذي تختلف فيه، وتختلف فيما بينهما في حين أنّها متشابهة «مُتَشَابَهاً وغَيْرَ مُتَشابِه».
يقول بعض المفسرين إنَّ هذه الثمار تتشابه في المنظر، إلّاأنّها تختلف في الطعم (كانواع العنب والرُّمان الحامض والحلو).
وقال البعض الآخر إنَّ أوراق أشجارها تتشابه أحياناً (كاوراق الزيتون والرّمان)، في حين أنَّ ثمارها مختلفة.
ولكن المناسب اعطاء أوسَع مفهومِ لتوضيح الآية وهو الإشارة إلى أنواع التشابه والتفاوت.
واللطيف أنّه يدعو الجميع للتمعُنِ في الثمار فيقول: «انْظُرُوا إِلىَ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ».
«لأنَّ في هذا، آياتٌ وبراهين عن عظمةِ وقدرة وحكمة الباري تعالى لأهل الإيمان» «إِنَّ فِى ذَلِكُم لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ».
وليست آية واحدة بل فيها آيات جمة للَّه تعالى لأنَّ تكون الثمار كولادة الصغار في عالم الحيوانات، حيث تنتقل حبوب لقاح الذكور إلى الأقسام الانثوية عن طريق الرياح أو الحشرات، وبعد انجاز عملية التلقيح والاختلاط فيما بينهما يتم تشكيل البويضة والنطفة
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي، ج 4، ص 2484.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 253
أولًا، ثم تظهر في جوانبها خلايا الثمار والالياف واللب والفروع الجذّابة التي تغذيها.
وفي داخل هذه الثمار تكمُنُ هناك
أعظمُ المختبرات الخفيّة التي تعمل باستمرار في صناعة المركبات الحديثة بمزايا جديدة، وقد يَكون الثمر بلا طعمٍ في بداية الأمر، ثم حامضي الطعم تماماً، ثم يصبح حلواً، وفي كلِّ وقتٍ يحدث فيها انشطارٌ وتفاعلٌ جديد، كما تتغير ألوانها باستمرار وهذه من عجائب خلقِ اللَّه التي يدعو القرآن الكريم- لاسيّما في الآية الآنفة- الإنسان إلى التمعُنِ فيها.
وأشار في الآية السادسة من البحث في بادي ء الأمر إلى قطع الأرض المختلفة التي تملك قابليات متفاوتة لتربية أنواع الأشجار والنباتات وغيرها، إذ يقول: «وفى الأَرْضِ قِطَعٌ مُتجاوِراتٌ» مع أنَّ هذه القطع يلتصقُ بعضها بالبعض الآخر، فبعضها خصبٌ ومستعدٌ لأي شكلٍ من الزراعة، وبعضها مالحٌ لا تنبتُ فيه سنبلةٌ أبداً، وقد يناسبُ بعض هذه القطع زراعة الأشجار أو نوعٍ خاصٍ منها فقط، ويناسبُ البعض الآخر نوعاً خاصاً من الزراعة، وهذا عجيبٌ حيث تتفاوت الأراضي المترابطة بشكلٍ تستعد للقيام بواجباتٍ مختلفة.
وبعد ذِكر هذه المقدَّمة أشار إلى أنواع الأشجار والزراعات، فاضاف قائلًا: «وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعنَابٍ وَزَرْعٌ ونَخيلٌ صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ». «أعناب»: جمع عِنَب وتعني الكَرْم و «نخيل» جمع «نخل» و «نخيلة» و تعني شجرة التمر، وذكرهما بصيغة الجمع يُحتملُ أن يكون إشارة إلى الأنواع المختلفة للعنب والتمر، لأنَّ لهاتين الفاكهتين مئات أو آلاف الأنواع المختلفة.
والتعبير ب «صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ» بالالتفات إلى أنَّ «صنوان» جمع «صنو» «وتعني الفرع الذي يخرج من البدن الأصل للشجرة»، من الممكن أن يكون إشارة إلى قابلية الشجرة على تغذية الثمار المختلفة عن طريق التطعيم، لهذا تظهر على أغصان شجرةٍ واحدةٍ لها ساق واحد وجذر واحد وتتغذى من ماءٍ وأرضٍ واحدةٍ أنواعٌ مختلفةٌ من الثمار، وهذا من عجائب الخلقة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 254
ومن الممكن أن يكون هذا التفاوت
إشارة إلى تفاوت الأغصان التي تَنمو على أصل واحدٍ، وتتفاوت من حيث الثمار الطبيعية.
ثم يُصرِّحُ بانَّ هذه الأشجار مع هذا الاختلاف فانّها تُسقى بماءٍ واحدٍ: «يُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ»، وفي نفس الوقت فانّنا نُفضِّلُ بعضها على البعض الآخر من حيث الثمر «ونُفَضِّلُ بَعضَها عَلى بَعْضٍ فى الأُكُلِ».
ومن المسلَّم به أنَّ في هذا الأمر آيات وبراهين للمتفكرين: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
حقاً إنَّهُ مدهشٌ، فالماء واحدٌ، والترابُ واحدٌ أيضاً، أمّا الاختلاف بين الثمار فكثير بحيث إنَّ أحدها حلوٌ والآخرُ حامضٌ تماماً (ففي الكثير من المناطق تنمو أشجار الليمون الحامض إلى جانب أشجار النخيل) أو تنمو المحاصيل الزيتية والمحاصيل النشوية وغيرها في مزرعةٍ واحدةٍ، وتتفاوت تماماً، حتى أنَّ لهذه الفواكه والمحاصيل أنواعاً مختلفةً بالكامل.
ما هذا الجهاز العجيب المكنون في أغصان الأشجار وجذورها الذي لديه القدرة على صنع المواد الكيميائية مختلفة الخواص من خلال استغلال نوعٍ واحدٍ من المواد (نوعٌ واحد من الماء والتراب)؟! فلو لم يكن هنالك دليلٌ على علم وحكمةِ خالق الكون سوى هذه المسألة لكانت كافية لمعرفة هذا الخالق العظيم، وكما يقول أحد شعراء العرب «1»:
والأرضُ فيها عبرةٌ للمُعتَبر تُخبرُ عن صُنعِ مليكٍ مقتدر تُسقى بماءٍ واحدٍ أشجارُها وبقعةٌ واحدةٌ قرارها والشمسُ والهواء ليس يختلف واكُلُها مختلفُ لا يأتلف فما الذي أوجَبَ ذا التفاضلا إلّا حكيمٌ لَم يَرِدْهُ باطلا __________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 13، ص 93.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 255
وفي الآية السابعة يتطرق إلى شرح أدلةِ التوحيد ومعرفة اللَّه بقرينة بدايتها ونهايتها، فيقول: «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُمْ مِنهُ شُرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ».
فليس كلُ ماءِ صالحٌ لشرب الإنسان، ولاكلُّ ماءٍ صالحٌ لنمو النبات والشَجَر، إلّاأنّ هذا الماء السماوي
مفيدٌ للكل وأساسٌ لحياةِ كل شي ء.
«شَجَر»: كما قلنا له معنىً شامل في اللغة، حيث يشمل أنواع النباتات سواء كانت ذات سيقان أم لا، و (تُسيمون) من «اسامة» وهي من مادة «سَوْم» وتعني رعي الحيوانات «1»، وحيث إنّ الحيوانات تتناول كلًا من الأعشاب وأوراق الأشجار عند رعيها فالتعبير ب «شجر» يبدو مناسباً جدّاً لاشتماله على كليهما.
ثم يضيف: «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ والزَّيتُونَ وَالنَّخِيْلَ وَالأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ».
واللطيف أنَّ الآية أعلاه مع انَّها تتحدث عن كافة الِّثمار وجميع أنواع المحاصيل الزارعية بما فيها الحبوب، فهي تستند خاصة إلى ثلاثة ثمار هي: الزيتون، والتمر، والعنب.
وهذا يعود للأهمية الفائقة لهذه الثمار من حيث المواد الغذائية، وأنواع الفيتامينات والميزات الدوائية التي تمت معرفتها مع تطور العلوم الغذائية في هذا العصر «2».
لهذا يعود ويؤكّد في نهاية الآية بانَّ في هذه الامور برهاناً واضحاً عن حكمة وقدرة وعظمة اللَّه لُاولئك الذين يتفكرون: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقِوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
والذين لا يتفكرون في هذه الآيات الجليّة لا يستحقون أن تُطلق عليهم كلمة الإنسانية، كما يقول الشاعر نقلًا عن الفارسية:
عجبٌ لهذا الرسم على بابِ وجدار الوجود فكلما فعَل فكركَ كانَ رسماً على الحائط __________________________________________________
(1) وطبعاً أنَّ المعنى اللغوي ل «السَوْم» هو وضع العلامة، وبما أنَّ الحيوانات حين العلف تترك أثراً على الأرض اطلق عليه هذا الاصطلاح.
(2) طالعوا شرح هذا الكلام في التفسير الأمثل، ذيل الآيه 11 من سورة النمل.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 256
هل يتمكن أن يعطي فاكهةً ملونةً من الخشب؟ أم يقدرُ أن يستخرج من الشوك ورداً بمائةٍ لون؟ لقد تناثر الارجوان على عتبة المرج الخضراء عيوناً تبقى الابصارُ حيرى فيه! وفي الآية الثامنة نواجه تنوعاً آخر في عالم النباتات
والأشجار الذي يُطرح كأحِدِ ادلةِ التوحيد ومعرفة عظمة اللَّه، إذ يقول: «وهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَعُروشَاتٍ وغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ».
«معروش»: من مادة (عَرْش) وتعني السرير المرتفع أو السقف، وفي ما يعنيه هذا المفهوم فى هذه الآية، هنالك خلاف بين المفسِّرين:
فقال بعضهم: إنّ «المعروشات» تعني النباتات التي تنساب على الأرض أو تتسلق على الأبنية أو على هيكل من حديد أو خشب يصنع لها، مثل الأعناب والخيار والبطيخ. و «غَيْرَ مَعْرُوْشات» ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار: وقال البعض الآخر: المعروشات ما ارتفعت أشجارها وأصل التعريش الرفع، عن ابن عباس، وقالوا أيضاً: المعروشات ما أثبته ورفعه الناس- واحيط بسور-، وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار «1».
ولكن يظهر أنَّ التفسير الأول أكثر ملائمةً.
على أيّة حالٍ، فالعجب أنَّ بعض الأشجار كالسرو والصنوبر ترتفع في السماء برتابة ولا تستطيع الرياح العاتية والعواصف من التأثير على قامتها، في حين أنَّ البعض الآخر كأشجار الكروم لا تملك غصناً مستقيماً واحداً، وتهتز وتنحني باستمرار، وكلٌّ منها له عالمهُ الخاص.
فأشجار العنب بعناقيدها الثقيلة لو كانت لها قامة كاشجار الصنوبر لانكسرت ولم
__________________________________________________
(1) وردت هذه التفاسير الثلاثة في تفسير القرطبي، ج 4، ص 2534.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 257
تستمر يوماً واحداً، فضلًا عن ابتعادها عن متناول يد الإنسان، في حين أنَّ طفلًا صغيراً باستطاعته اقتطاف جميع الثمار في بساتين العنب.
ثم يضيف مستنداً إلى أربعة أنواعٍ من الثمار والزرع: «وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً اكُلُهُ والزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَانَ مُتَشابهاً»، لابدّ من الانتباه إلى أنّ «جنات» جمع «جنّة» تُطلقُ على البستان، وعلى الأراضي التي يغطيها الزرع، و «اكُل» على وزن (دُهُل) من مادة «أَكْل» على وزن (مَكْر) وتُطلق على جميع المأكولات.
على أيّة حالٍ، فالأشجار والزروع
والنباتات لا تختلف كثيراً من ناحية الظاهر فقط، بل إنّ ثمارها ومحاصيلها تتفاوت للغاية أيضاً، من حيث اللون والطَعَم والشكل الظاهري، وكذلك من حيث ما فيها من مواد غذائية وخصائص متنوعة، اضافة إلى أنَّ منها المرغوب والمتوسط، وهذا بيان لقدرة الخالق جلَّ وعلا الذي أوجَدَ مثل هذا التنوع العظيم الواسع في عالم النباتات، وكلُّ نوعٍ يُسَبِّح بحمده وثنائه.
وفي نهاية الآية يُصدرُ أَوامره: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّه يَومَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَايُحِبُّ المُسرِفِيْنَ».
وعليه فانَّ الأمرَ ب «كُلوا» دليل على حليّتها الكاملة ولكن بشرطين: الايفاء بحقوق المحتاجين، وعدم الاسراف.
وبالرغم من أنَّ بعض المفسرين قالوا إنَّ المقصود ب «حقّ» هنا هو الزكاة، إلّاأنَّ أغلبَ المفسرين واستلهاماً من الروايات الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السلام وأهل السُّنة، صرَّحوا بأنَّ المقصود بهذا الحق ليس الزكاة «1».
بناءً على ذلك لابدّ أن يُخصصَ أصحابُ المزارع والبساتين نصيباً للمحتاجين أثناء قطف الثمار، وحصاد المحاصيل كحكمٍ إلهيٍّ، وهذا النصيب ليس له حدٌ معينٌ في الشرع، بل يتعلق بهمّةِ المالكين. وعليه فإنّ ذيل الآية تتحدث عن حكمٍ أخلاقي وصدرها يشتمل على دورس توحيدية.
__________________________________________________
(1) يُراجع سنن البيهقي، ج 4، ص 132؛ ووسائل الشيعة، ج 6 كتاب الزكاة «أبواب زكاة الغلات»؛ وتفسير الميزان؛؛ و تفسير القرطبي فيما يخص الآية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 258
ويشير في الآية التاسعة إلى موضوعٍ آخر من عجائب عالم النباتات والأشجار، فيقول بعد ذكر مسألة بسط الأرض وتكوّن الجبال: «وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَى ءٍ مَوْزُونٍ».
بالرغم من أنَّ «موزون» من مادة «وزن»، إلّاأنّها هنا إشارة إلى النظام الدقيق والمحدَّد، والتقديرات المتلائمة والمتناسقة التي تحكم جميع ذرات النباتات، إضافة إلى أنّ «وزن» كما أوردها الراغب في المفردات تعني في
الأصل معرفة قَدرِ الشي ء.
وقال بعض المفسِّرين أيضاً إنَّ المُرادَ من هذا التعبير هو أنَّ اللَّه خلقَ من كلِّ نباتٍ بقَدْر حاجة الإنسان «1».
كما قالوا إنَّ المراد من «موزون» هو وجوب تظافر كميات محدّدة من الماء والهواء والتراب وضوء الشمس كي تنمو النباتات.
واحتملَ بعض المفسرين أنّ التعبير ب «كلِّ شي ء» يشتمل على المعادن أيضاً، ولكن من خلال الفَهم بأنّ عبارة «أنبتنا» لا تتناسب كثيراً مع المعادن، فانَّ هذا التفسير يبدو بعيداً، وأنَّ الجمعَ بينَ التفسيرين ممكنٌ، وورد في بعض الروايات إشارة إلى التفسير الثاني أيضاً «2».
ويردفها الإشارة إلى توفير الوسائل المعاشية والحياتية للناس ولحيواناتهم ولاولئك الذين يرتزقون على مائدة الخالق الواسعة فيقول: «وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِيْنَ». «معايش»: جمع «معيشة» ولها معنىً واسعٌ جدّاً، فتشمل كلَّ شي ءٍ يعدّ من وسائل حياة الناس، وجملةُ «ومَنْ لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِيْنَ» إشارة إلى الحيوانات والكائنات الحيّة التي ليس بمقدور الإنسان أن يُطعمها، فوضع الباري تعالى الطعامَ المناسب لكلٍّ منها في اختيارها على أساس النظام الخاص الذي يسود العالم، ولو فتحنا أعيننا وتأملنا طريقة تغذية أنواع الحيوانات من النباتات، لوجدنا فيه عالَماً من أدلة معرفة اللَّه.
__________________________________________________
(1) ذكرالفخر الرازي هذا في تفسيره كاحتمالٍ أولٍ، والتفسير الثاني كثالت احتمال، (التفسير الكبير، ج 19، ص 171).
(2) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 6، أشار الإمام علي عليه السلام في هذه الرواية إلى المعادن المختلفة التي أوْجَدَها اللَّه في الجبال وتباعُ وتَشترى بالوزن.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 259
فبعضها يستفيد من الثمار، وبعضها من الحبوب، ومجموعةٌ من أوراق الأشجار، وطائفةٌ من السيقان، وآخر من القشور، والبعض من رحيق الأزهار، وقسمٌ آخر يأكل الجذرَ فقط.
وفي الآية العاشرة والاخيرة من البحث اشيرَ إلى ميزةٍ
اخرى لعالم النباتات، وهي مسألة انفلاق حبوب ونوى النباتات تحت الأرض.
وقد وُصِفَ الباري تعالى في هذه الآية كما يلي: «إِنَّ اللَّه فَالِقُ الْحَبِّ والنَّوى»، ويقول في نهاية الآية: «ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنّى تُؤفَكُونَ».
«فالق»: من مادة (فَلْق)، وكما يقول الراغب في المفردات فهي تعني انفطار الشي ء، وانفصال جزءٍ عن جزءٍ آخر «1»، و «الحبّ» تعني حبوب الطعام والغذاء أو كل أشكال الحبوب النباتية، و «النوى تعني نوى الثمار، وإذا حَصَرها البعض بمعنى نوى التمر فذلك بسبب تكاثره في ذلك المحيط.
على أيّةِ حالٍ، فانَّ أهم والطف مراحل حياة النباتات هي مرحلة انفلاق الحبِّ والنوى وفي الحقيقة فانَّ هذه الحالة تشبه حالة ولادة الطفل، والعجيب أنَّ هذا البرعم النباتي بما فيه من رقّةٍ وظرافةِ يشقُ هذا الجدار القوي الذي يحيط به، ويخرج إلى العالم الخارجي، فيولد هذا الكائن الحي الذي كان محبوساً إلى ما قبل لحظات في القشرة والنوى ولم تكن له علاقة بالعالم الخارجي، ويقيم علاقاته مع الخارج فوراً، فيتغذى من المواد الغذائية الموجودة في الأرض، ويرتوي من الماء والرطوبة التي تحيط به، ويبدأ بالحركة بسرعة في اتجاهين متعاكسين فمن جهةٍ ينفذ في الأرض على هيئةِ جذرٍ، ومن جهة اخرى يستقيم فوق الأرض على هيئةِ ساقٍ.
فالقوانين الدقيقة التي تسود هذه المرحلة من حياة النبات مدهشةٌ حقاً، وتعتبر دليلًا
__________________________________________________
(1) قد يستعمل هذا اللفظ بمعنى «الخلقة» كأنَّ حجبُ ظلمة العدم تتمزق وينكشف نور الوجود عنها (تفسير روح المعاني، ج 7، ص 196)، ولنفس هذا الشي ء يسمى بياض الصبح «فلق» على وزن «شَفَق» أيضاً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 260
حياً على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا.
يستفاد من مجموع ما ورد في هذه الآيات القرآنية حول خلق النباتات وخصائصها المختلفة ابتداءً من
رشد النباتات إلى تنوعها ومسألة اللقاح والزوجية، وأنواع المواد الغذائية للإنسان والحيوانات، حتى كيفية نمو طلع التمر، والحبوب المرتبة بعضها فوق بعض كالحنطة والشعير، وتكاثر الثمار والزروع المتباينة تماماً الناتجة عن ماء واحد وأرض واحدة وسيادة القوانين الموزونة على جميع المراحل وانفلاق الحبوب والنوى أنّها جميعاً آيات لتلك الذات المقدّسة، ودليل حي على وحدانية الرب ونفي كل أشكال الشرك.
من الطبيعي أن ننسى عجائب وأسرار كل شي ء إذا بدا لنا واضحاً فيكون مصداقاً للآية الشريفة: «وكَأَيِّنْ مِّنْ آيَةٍ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنهَا مُعْرِضُونَ». (يوسف/ 105)
فنمر عليها مرور الكرام في الوقت الذي يكمن فيها عالم من عجائب وقدرة وعظمة الخالق جلَّ وعلا.
لنبدأ من جذور النباتات، فالجذر بلطافته وَرِقِتِه له قدرةٌ مذهلة، فهو ينفذ في طبقات الصخور والأراضي الصلدة، وأحياناً يغور تحت قطعٍ صخريةٍ تزنُ عدة اطنان ويرفعها عن مكانها وتتحرك العمارات والأحواض التي أُنشِئَت من القوالب والطبقات المسلحة نتيجة نمو الأشجار حولها.
فعملُ الجذر هو امتصاص المواد الغذائية والرطوبة من كل ناحيةٍ، وكأنّها تعرف مراكز الرطوبة والمواد الغذائية من خلال شعورها العجيب فتسعى نحوها.
ولكلِّ جذرٍ جهازٌ عظيمٌ لهُ قدرةٌ خاصة في انتخاب نوع الغذاء وتغييره وتبديله، ثم
نفحات القرآن، ج 2، ص: 261
يدفعه إلى داخل الأغصان بعد التغييرات التي يُحدثها فيه، ومنها إلى الثمار، وتجري عليها تفاعلات كيميائية جديدة في كلِّ مرحلةٍ، كي يصنع من التراب فاكهةً طيبةً كالعسل، أو يصنَع دواءً شافياً وصحياً.
ومن أهم واجبات الجذر امتصاص- النتروجين المذاب- الضروري لبناء النبات الذي لا تتمكن بقية أجزاء النبات من جذبه.
وبناء الأوراق أكثر عجباً منه، فلو وضعنا ورقةً أمام أشعة الشمس ستلفت نظرنا الفروعُ الدقيقة جدّاً الممتدة فيها والتي يكون واجبها ايصال الماء والغذاء
إلى كافة خلايا الورقة.
وفي الواقع أنَّ كلَّ ورقةٍ تعتبر بحد ذاتها مدينةً كاملةً، وهذه الفروع هي الأنابيب المنّظمة لهذه المدينة ابتداءً من الانبوب الرئيسي، وحتى أصغر التفرعات.
والورقة مع رقتها لها سبع طبقات، وكلُّ طبقةٍ لها بناءٌ وبرنامجٌ خاص يَبعث على الدهشة، والغلاف الذي يغطي الورقة كجلد الإنسان ذو مساماتٍ دقيقة جدّاً، وكل من هذه المسامات لها خلايا للصيانة تقوم بتنظيم انفتاح وانغلاق المسامات.
وتتنفس الورقة من خلال هذه المسامات، فتستنشق الهواء وتفصل عنه غاز ثاني اوكسيد الكاربون، لتصنع به «الكلوروفيل» النباتي، وفي المقابل تطرح الاوكسجين وكميةً من الرطوبة لتلطيف وتطهير الجو كموهبتين عظيمتين لدنيا الإنسانية.
والأرقام التي يقدمها العلماء هنا تبعث على الحيرةِ إذ يقولون: من أجل أن يتمكنَ النبات من صناعة رطل واحد من السُكَّر يجب أن تستنشقَ الأوراقُ ما يعادل ثلاثمائة الف لتر من الهواء وتحلّله.
وبناء الأزهار ومن ثمَّ الثمار أعجبُ من ذلك أيضاً، فهناك الأقسام الذكرية والانثوية، وتفاعل الذّرات الذكرية الدقيقة جدّاً مع الأجزاء الانثوية، ثم تكوين البويضة في رحم النبات بعد هذا الزواج الصامت، وكيفية نموه، أنّه عالمٌ عجيبٌ يسلب معه روحَ وعقلَ الإنسان، ويجعله غارقاً في محيطٍ من العجائب.
إنَّ تفصيل بناء هيكل النباتات والأزهار والثمار لا يفي بالغرض المطلوب في هذا
نفحات القرآن، ج 2، ص: 262
البحث المختصر، فقد تمَّ تأليف العديد من الكتب من قبل العلماء حول هذا الموضوع، وظهرَ علمٌ واسعٌ بإسم (علم النبات)، فمن الأولى أن نكتفي هنا بكلامٍ لأحد خبراء الزراعة ونغلقَ هذا الملّف الضخم على عجل، يقول عالم النبات «تشرالدت»: «إنَّ الاله يظهرُ من خلالِ القوانين الثابتة والرمزية التي يدير بها عالم النبات إنّه يظهر ويتجلّى من خلال هذه الطرق:
1- النظام والترتيب: و يشمل التكاثر والانقسامات الخلوية وبناء
الأجزاء المختلفة من النبات حيث يتم بشكل منظم ومرتب.
2- التعقيد: فلا تقاسُ أيُّ ماكنةٍ من صنعِ الإنسان مع الترتيب المعقد والمذهل لنباتٍ عاديٍّ.
3- الجمال: إنَّ جمالَ الساق، والورق والزهر أمرٌ الهيٌّ، إذ لا يقدرُ أيُّ نحاتٍ ماهرٍ ورسامٍ مجرِّبٍ من تقديم تمثالٍ أو لوحةٍ بهذا الجمال.
4- الوراثة: فكلُّ نباتٍ يولِّدُ مثلِه وهذا هو انتاج المثل، وهو يجري وفقاً لارادةٍ وتخطيطٍ، فبأي مكان زرعوا وكيفما زرعوا فانَّ «الحنطة تنبتُ من الحنطة والشعير من الشعير».
ثم يضيف: باعتقادي، أنّ هذه المظاهر دليلٌ على وجود الخالقِ ذي الحكمة البالغةِ والقدرة اللامتناهية» «1».
يقول «تايلر» استاذُ علم البيئة السابق في جامعة مانشستر: «تأملوا النباتات والحشائش التي نَبتتْ على جانبي الطريق، فهل تستطيع الآلات الحديثة التي صنعها البشر حتى الآن أن تضاهي صنع هذا النبات الطبيعي؟!
فهذه الحشائش الطبيعية بكل معنى الكلمة مدهشة ومذهلة حيث تنمو باستمرار وتقوم يومياً بآلاف الأفعال والتفاعلات الفيزيائية والكيميائية، وكلُ ذلك يجري بإشراف المادة البروتوبلازمية التي تكوّنت فيها كل حياة الطبيعة، فهذه الآلة الحيّةُ العجيبة من صُنعِ أيِّ قدرة؟!».
__________________________________________________
(1) عالم الأزهار (اقتباسِ وتلخيص).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 263
إنَّ النباتات تُمثِّلُ الركن الأساس للحياة على الكرة الأرضية، وكافةُ الكائنات الحيَّةِ الاخرى بحاجة إلى النباتات، ففوائد النباتات كثيرة ووفيرة للغاية حيث يمكن الإشارةإلى اثنتي عشرة فائدة متسلسلة:
1- أفضل مادة غذائية: يتمّ تحضير افضل اطعمتنا نحن البشر من النباتات والحبوب والفاكهة، فطاقتنا وقدرتنا وسلامتنا تُؤَمَّنُ عن طريق الغذاء النباتي، والكثير من الطيور والدَّواب واللبائن والأسماك في البحر تستفيد من النباتات، لهذا فكلُّ بلدٍ يتمكن من تأمين منتجاته الغذائية عن طريق النباتات فانه يبلغ الاكتفاء الذاتي في الواقع.
2- التهوية: نحن نعلمُ أنَّ الإنسان واغلب الموجودات الحيّة تستخدم اوكسجين الهواء بنحوٍ
دائمٍ وتقوم بإحراقه، ولولا وجود مصدرٍ يعوِّضُ ذلك فسيُستهلك هذا الاوكسجين الموجود في الجو والأرض خلال مدة قصيرة، ويَهلك هذا الصنف من الموجودات أثر الاختناق، إلّاأنّ الإله الحكيم اناطَ مسؤولية تعويض هذه الخسارة بالنباتات، فهي تتنفس على العكس من الإنسان، إذ تأخذ غاز ثاني اوكسيد الكاربون وتُحللَّه وتطرح غاز الاوكسجين، لهذا فانَّ هواء البساتين والمزارع منعش ومُنَشِّطٌ، كما يوصون لنفس هذا السبب بأنْ تقامَ في كلِّ مدينةٍ متنزهاتٍ مُشَجَّرةٍ، وتخصَصُ لكلِّ شخصٍ مساحةٌ من هذه المتنزهات، ويطلقون على هذه المتنزهات «رئةُ المدينة».
3- الملابس: إنّ الجانب الأعظم من ملابسنا يتمّ تصنيعه من ألياف بعض النباتات، وفي الواقع فإنّ المصدر الذي لا ينفد لملابس الإنسان في الدرجة الاولى هو النبات.
4- البيت وأثاثه: لو ألقينا نظرة على ما حولنا في البيت لوجدنا أنّ أغلب الأبواب والشبابيك واللوازم الاخرى هي من أخشاب الأشجار، بنحوٍ لو أردنا الغاءَها من حياتنا فستصبح الحياة صعبةً بالنسبة لنا، وفي الكثير من المناطق يصنعون بيوتهم من الخشب بشكلٍ كامل، ولهذه البيوت مزايا كثيرة، وأحد اللوازم المهمّة للحياة المعاصرة هو النايلون، ونحن نعلمُ إن مادته الاصلية تُستخرج من عصير شجر (المطاط).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 264
5- الأعشاب الطبية: كانت أغلبُ الأدوية في السابق تُستخلصُ من النباتات، واليوم فانَّ القسم الكبير منها يستخرج من النباتات أيضاً، ونظراً للآثار السلبية للأدوية الكيميائية فقد بدأت الآن حملةٌ للعودة إلى الأدوية النباتية، وهنالك صيدليّات جميع أدويتها من النباتات.
6- السيطرة على الكثبان الرملية: إنَّ أحد الأخطار الجدّية التي تهدد المدن لا سيما القريبة من الصحارى الرملية هي الكثبان الرملية حيث تدفن تحتها أحياناً قريةً كاملة، وأفضل سبيلٍ لتثبيت هذه الرمال هو استخدام النباتات المختلفة التي توقف حركتها وتقدُّمَها.
7- تحضير الورق:
نحن نعلم أنَّ اختراع الورق كان له نصيب مهم للغاية في تطور الحضارة والعلم البشري، والنباتات هي المصدر الأساس لصناعة الورق.
8- معادلة الحرارة والبرودة: إنَّ النباتات وبسبب الرطوبة المناسبة والمعتدلة التي تلقيها في الفضاء تقوم بالحدِّ من شدّة البرد، وكذلك الحدِّ من شدّة الحرارة، ولهذا فانَّ الجو في المناطق كثيفة الأشجار يكون معتدلًا دائماً.
9- وسائط النقل: إنَّ الكثير من البواخر والقوارب كانت تصنع سابقاً وتصنع حالياً من الخشب، وهي تعتبر من أفضل وسائط النقل التي يستخدمها الإنسان سابقاً وفي الوقت الحاضر.
10- الجمال والطراوة: لا يخفى هذا الأثر اللطيف للأشجار والنباتات والزهور على أحد حيث تبهرُ روحَ الإنسان بجمالها المدهش، وتُريحُ القلبَ وتزرع الطمأنينة في نفس الإنسان لمواجهة الضغوط الشديدة للحياة، لهذا يقومون بتزيين المستشفيات بأنواع النباتات والأشجار من أجل تحسين أحوال وأوضاع المرضى ويلجأ الإنسان باستمرار إلى أحضان الطبيعةِ في وسط الأشجار والبساتين ومزارع الحنطة من أجل ازالة المتاعب وتجديد النشاط.
11- المصدر المهم للطاقة: إنَّ الخشبَ والورق وجذور النباتات كانت ولا زالت أحدى
نفحات القرآن، ج 2، ص: 265
المصادر المهمّة للطاقة وتأمين الحرارة، وحتى الفحم الحجري الذي هو أحد مصادر الطاقة المهمّة فهو من منتوجات الأشجار والنباتات أيضاً، والحرارة التي تحصل من الخشب وأوراق الأشجار ملائمة، وتلويثها للبيئة ضئيلٌ جدّاً، وحتى الرماد المتبقي منها يصلحُ كسمادٍ للأشجار يستفادُ منه مجدداً.
12- أصناف العطور والمواد الكيميائية: نحنُ نعلمُ أنَّ أفضلَ العطور الملطفة لروح الإنسان كانت ولا زالت تُستخلص من رحيق الأزهار، والأشجار والنباتات ذات الورق والخشب المعطَّر ذا الرائحة الطيبة، ليست بالقليلة.
ناهيك عن كثيرٍ من الواد الكيميائية المستخلصة من النباتات التي تستخدم في مختلف الصناعات.
عظيمٌ ذلك الأله الذي أودع كلَّ هذه الآثار والفوائد والبركات في هذا المخلوق،
وجعلَهُ آيةً عظيمة من آيات علمه وقدرته.
إنَّ التعابير الشاملة التي تَلَوْناها في الآيات المذكورة، يمكن أن تجمع كلَّ هذه الفوائد في عبارة «معايش» جمع «معيشة» وتعني وسيلة الحياة.
كما أشرنا سابقاً فانَّ أنواع النباتات كثيرةٌ بالقدر الذي لا يمكن حصرُها، وقد تمّ حتى الآن احصاء ثلاثة آلاف نوع من النخيل، والف وسبعمائة نوع من التين الهندي، والف ومائتي نوع من ورد الثعلب.
يذكر مؤلف كتاب «عالم الأزهار» (فرديناندلين) أنَّ عددَ النباتات ذات الحبّ المغطّى يبلغ مائة وخمسين الف نوع وقد تم بيان صفات أكثر من ثمانية عشر الف نوع من النباتات في بعض كتب علم النباتات «1».
__________________________________________________
(1) تاريخ العلوم، ص 352.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 266
وقد تم بحثُ الف نوع من الكمأة من التي تمّ احصاؤها، وأكثر من أربعين الف نوعٍ من الطحالب، وسبعة آلاف نوع من التفاح، وخمسة وثلاثين الف صنف من الحنطة «1».
ومن بين النباتات، هنالك نباتات لا تُرى بالعين المجرّدة، وهنالك نباتات يصل طولها إلى خمسين متراً، وبعضها ينمو في وسط الصخور، وبعضها يعوم وسط الماء، وجذور بعضها يتفرع تحت الماء وأزهاره فوق سطح الماء، ولكلٍّ منها منظَرهُ البديع واللطيف في عالمه حيث يصدح بلحنِ التوحيد.
لو تركنا كلَّ ما قيل بخصوص النباتات بشكل عام، سنلاحظ أنّ هناك عجائب جَّمةً في عالم النباتات، حيثُ صار بعضها طي النسيان لاعتيادنا عليها.
فأوراق وسيقان النباتات الضخمة ترفع يومياً مليارات الأطنان من الماء من الأرض خلافاً لقانون الجاذبية، ثم تنثُره بخاراً في الفضاء المحيط بها، أيُّ قانون يسمحُ للنباتات أن تستعرض قوتَّها هكذا خلافاً لقانون الجاذبية التي تجذب كلَّ شي ءٍ نحو الأسفل- لا سيما الماء؟- هنالك الكثير من النباتات كورد عباد الشمس تدور مع حركة الشمس فتتحرك أزهارها الكبيرة نحو الشرق في أول الصباح ونحو الغرب أثناء الغروب.
والنباتات آكلة اللحوم من أكثر ظواهر عالم النباتات إثارةً.
وقد اجرى البروفسور «ليون برتن» مدير «متحف التاريخ الوطني
الطبيعي الفرنسي» تحقيقاتٍ بخصوص هذه النباتات آكلةِ اللحوم حيث يوجد منها عشرة أنواعٍ فقط في فرنسا، وأشهرها النباتات الآتية:
أ) «آلدروفوند»: ويكثر في ولاية «جيرفوند» الواقعة غرب فرنسا على سواحل المحيط
__________________________________________________
(1) معرفة اللَّه، ص 291 و 292.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 267
الأطلسي، فهذا النبات ذو ورقةٍ تتكون من قطعتين خاصتين متقابلتين كصفحتي كتابٍ مفتوحٍ، تتصلان من الأسفل بواسطة مفصلٍ خاصٍ، وتغطي سطح الأوراق طبقةٌ حساسةٌ.
وعندما تقترب ذبابةٌ منه وتمسُ أرجلُها أو جسمُها هذه الطبقة، تنطبق الصفحتان المذكورتان بسرعة، فيقع الحيوان في وسط ذلك السجن، وفي النهاية يُهضمُ تدريجياً ويصبح جزءً من جسم النبات أثر افراز مادة لاصقة خاصة حيث تفرز من الورق.
ب) «دروزرا»: وهذا النبات لهُ أوراقٌ حمراء اللون تشاهد عليها نتوءات رفيعة تشبه الشَعَر، وحينما تضلّ الذبابةُ طريقها، تقف على أوراق هذا النبات ظنّاً منها بأنّها قد عثرت على المكان الآمن الخالي، وفجأةً تنطبق المخالب من ناحية رأسها، فتجرها مخفورةً إلى داخل الورقة فتهضمُ ويمتصها النبات وسط الافرازات اللزجة للورقة.
ج) «نيانتس»: وهو أكثر النباتات الآكلةِ للحوم عجباً، حيث يُوجد في نهاية الفرع الدقيق ما يشبه الوعاء الصغير، تكون فوهتُه نحو الأعلى وله بابٌ خاصٌ مفتوحٌ خلال الأوضاع العادية.
ويُعتبر هذا الوعاء فخاً خطيراً للحشرات الغافلة والهائمة في الجو، فهو يحتوي باستمرار على العسل اللَّزج الحلو حيث يدعو الحشرات «عابدة البطن» نحوه، وكذلك فانَّ جمال وشفافية لون الوعاء ذو جذبٍ خاصٍ للحشرات «ذات الذوق الجيد».
فإذا وقعت حشرةٌ ما أسيرةً لهواها ودخلت الوعاء فانَّ فوهته ستنغلق على الفور وستبتلى بسجنٍ لا خلاص منه أبداً.
على أيةِ حالٍ، هذا الوعاء يعتبر كالمعدةِ بالنسبة لهذا النبات، والافراز الداخلي كافرازاتها، ويجعل الحشرةَ قابلةً للامتصاص.
يقول العلماء: إنَّ قيام هذه النباتات باصطياد الحشرات
يعود لعدم قدرة جذورها لامتصاص (النتروجين)، لهذا فهي تعوّضُ هذا النقص عن هذا الطريق.
ويأملُ العلماء بأنْ يأتي اليوم الذي يستطيعون فيه تربية كميةٍ كبيرة من هذه النباتات في حدائق البيوت أو إلى جانب الأحواض، ويقضون بهذه الطريقة الصحية والطبيعية على الذباب والحشرات الضارة الموجودة في بيئة الإنسان.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 268
وورد في مذكرات السِّيّاح والرَّحّالة قصصٌ عجيبةٌ حول النباتات التي تأكل البشر، فيقول بعض العلماء من الممكن أن تكون هذه النباتات من النباتات آكلة الحشرات إلّاأنّها أكبر حجماً لنموها في أرضٍ غنيةٍ، وتستطيع أن تقتنصَ احياءً أكبر في بطن فروعها واوراقها وتمتصها تدريجياً (ولكن لا يمكن تأكيد وقبول ذلك بسهولة) «1».
ومن أعجب وألطف جوانب وجود النباتات هو انتاج الثمار.
وواحد من مئات الامور الظريفة فيها وجود سائلٍ حلو ولذيذٍ في الكثير منها مخزون في أوعيةٍ صغيرة خاصةٍ مربوطةٍ بإحكامٍ، حيث يبدو أفضل طرق الربط في عصرنا الحاضر، بدائيةً جدّاً أزاءها.
افتحوا برتقالةً واحدة، ستجدون كأنَّ شقاً منها يتكون من مئات القطع الزجاجية الصغيرة الظريفة التي تفيضُ بسائلٍ لذيذٍ ومعطَّر، الزجاجات التي تجمّعت معاً دون أيِّ فاصلةٍ (ولو كان هنالك فاصلةٌ وهواء فيما بينها لفسدت بسرعة).
لكن هذه الزجاجات لا تتكسر أبداً، وتتحمل صعوبات الحمل والنقل، واللطيف هو إمكانية أكلها مع محتوياتها.
وكلُّ مجموعةٍ من هذه الزجاجات الصغيرة والظريفة مغلفةٌ بقشرةٍ سميكة وهي بمثابة الغلاف، وتظهر على هيئة شقٍّ (وهذا الوعاء قابلٌ للاكلِ مع محتوياته أيضاً، بل هو مفيدٌ للجهاز الهضمي).
وهذه الأغلفة الصغيرة تجمعّت بدونِ اقلِّ فاصلةٍ مع تفريغٍ كاملٍ من الهواء، والتَوتْ وسط عدّة لفافاتٍ من أجل السلامة والأمان، وفي النهاية أصبحت معدة على هيئةِ حملٍ صالحٍ جاهز للشحن لمسافات نائية.
ويُلاحظ هذا الأمر على نحوٍ أكثر طرافةً داخل
ثمار الرمان والعنب والتين أيضاً.
تأملوا جيداً لو أنَّ عصارة أيٍّ من هذه الثمار وُضعت في الهواء الطلق ستتغير بعد مرور ساعة واحدة، وقد تتعفن خلال عدّة ساعات، إلّاأنّ تغليفها دقيقٌ ومحبوكٌ بنحوٍ لا يسمح
__________________________________________________
(1) نظرةٌ على الطبيعةِ وأسرارها، تأليف البروفسور ليون بر تن، ص 131- 134 (مع الاختصار والاقتباس).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 269
بنفوذ الهواء إلى داخلها أبداً، ولهذا فهي تبقى سالمةً لعدة شهور دون أقلّ تغييرٍ في طعمها.
وهذا يتعلق بمسألة التغليف العادية فقط، وأمّا المركبات الكيميائية لكلِّ فاكهةٍ وخواصها الغذائية والطبية وأنواع الفيتامينات وموادها الغذائية فهي بحد ذاتها ذات قصةٍ مفصلةٍ حيث يختص ببحثها المتخصصون بعلم الغذاء، وقد تم تأليف كتبٍ كثيرة في هذا المجال، ولو أردنا أنْ نطرقَ كلَّ هذه المسائل فسنخرج عن إطار كتابنا التفسيري، فضلًا عن أنّ «وزن كتاب كهذا سيبلغ الأطنان».
ونقرأ في حديث توحيد المفضل عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال:
«فكّر يا مفضل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب، فالثمار للغذاء، والأتبان للعلف، والحطب للوقود، والخشب لكل شي ء من أنواع النجارة وغيرها، واللحاء والورق والاصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع، أرأيت لو كنّا نجد الثمار التي نتغذى بها مجموعة على وجه الأرض ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا، وإن كان الغذاء موجوداً فإنّ المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة، عظيم قدرها جليل موقعها هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره ونضارته التي لا يعد لها شي ء من مناظر العالم وملاهيه.
فكّر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر وأقل وكان يجوز
أن يكون الحبة تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلّا ليكون في الغلّة متسع لما يرد في الأرض من البذر وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل ... تأمّل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه ذلك فانّها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشدّ وتستحكم كما قد تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه، فأمّا البُرّ وما أشبهه فانّه يخرج مدرّجاً في
نفحات القرآن، ج 2، ص: 270
قشور صلاب على رؤوسها مثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفّر على الزراع ...
تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فانّها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت اصولها مركوزة في الأرض لتنزع منه الغذاء فتؤديه إلى الاغصان وما عليها من الورق والثمر فصارت الأرض كالأم المربية لها وصارت اصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان امهاتها.
تأمل يا مفضل خلق الورق فانك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع، فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها، ومنها دقاق تتخلل الغلاظ منسوجة نسجاً دقيقاً معجماً لو كان ممّا يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عالم كامل ولاحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلها بلا حركة ولا كلام إلّابالإرادة النافذة في كل شي ء والأمر المطاع».
ثم أشار الإمام عليه السلام في سياق هذا الحديث إلى عجائب الثمار والنّوى وموت وحياة النباتات في كل عام، وتلقيح وحمل الأجزاء الانثوية عن طريق الالتحام مع
الأجزاء الذكورية، وكذلك أدوية العلاج التي تستخلص من أصناف النباتات، والحبوب والنباتات التي يُعتبر كلٌ منها غذاء لأحدِ الحيوانات، وقدَّمَ شرحاً لطيفاً حول كلٍّ منها، حيث إنّ ذكرها جميعاً لن يكون ممكناً، وبمقدور الراغبين مراجعة الحديث أعلاه «1».
نضطرُ هنا إلى طي هذا البحث الطويل ونختمه ببعض الابيات من الشعر التوحيدي الأصيل، فلو اطلقَ عنانُ العلمِ فيجبُ تأليفُ كتب عديدة، في هذا المجال يقول الشاعر نقلًا عن الفارسية:
إنَّ جميع خلقِ اللَّهِ انذارٌ للقلب ليس له قلبٌ من لا يُقرُّ باللَّه فالجبال والبحار والأشجار كلُّها تسبِّحُ ولا يفهمُ كلُّ مستمعٍ هذه الأسرار! __________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 3، ص 129- 136 «مع الاختصار».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 271
والعقُل متحيرٌ من عنقود العنب الذهبي والذهنُ يَعجزُ عن حقيقة ياقوتة الرُّمان وتتدلى عناقيد الرَّطب من النخل والنخل من صنع قضاء وقدر ماهرٍ ولكي لا يصبح ظلاماً ظلُّ الأشجار الكثيف فقد وضع تحت كل ورقةٍ مصباحاً من نور الرّمان وهبط الندى على الزهرة عند حلول السحر يشبه عرق المحبوب المعطَّر! فافتح بصرك وانظر خلقَ النارنج يا مَن لا تصدِّق أنَّ «في الشجر الاخضر نار» مقدرٌ منزَّهٌ الاله الذي سخرَّ الشمس والقمرَ بتقديرٍ وكذلك الليل والنهار «1» __________________________________________________
(1) هذه الابيات مترجمة من «كليات سعدي»، فصل القصائد، ص 443.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 273
إنَّ لكلِّ كائنٍ حيٍّ احتياجاتٍ من أجل استمرار حياته، أو بتعبيرٍ آخر إنَّ النشاطات الحياتية تتطلب مواداً تولدُ الطاقةَ يجب أن تصل إلى الكائن الحيِّ دائماً، ويُطلق عليها بالاصطلاح (التلافي)، وتعويض ما يتحلل.
ويجب أن تكون هذه المواد ملائمة تماماً لذلك المخلوق من جميع الجوانب كي يتمكن من الاستفادة منها بُيسر.
إنَّ نظامَ الرزق في عالم الخَلق، وكيفية
إعدادهِ، ثم كيفية وضعهِ في متناول كلِّ موجود، وكذلك الاستفادة منها، نظامٌ جميل ودقيقٌ للغاية، وملي ءٌ بالأسرار أحياناً، حيث يختفي فيه جمع من الآيات المهمّة لتوحيد اللَّه وعلمه وقدرته، لهذا استند عليه القرآن الكريم مراراً في مختلف الآيات.
بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات الآتية:
1- «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآإِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ». (فاطر/ 3)
2- «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحِييْكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِّنْ شَى ءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ». (الروم/ 40)
3- «أَمَّنْ يَبدَؤُا الخَلّقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». (النمل/ 64)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 274
4- «أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ».
(الملك/ 21)
5- «أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويَقْدِرُ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ». (الروم/ 37)
6- «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِيْنُ». (الذاريات/ 58)
7- «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلَّا عَلىَ اللَّهِ رِزقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ». (هود/ 6)
8- «قُلْ مَنْ يَرْزقُكُمْ مِّنَ السَّمواتِ والأرْضِ قُلِ اللَّهُ وإنَّا أَو إِيَّاكُمْ لَعَلىَ هُدىً أو فِى ضَلالٍ مُّبْينٍ». (سبأ/ 24)
9- «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّماءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيْدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِّزْقاً لِلْعِبَادِ». (ق الآيات/ 9- 11)
10- «فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلىَ طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا المَآءَ صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً* وَعِنَباً وقَضْباً* وَزَيتُوْناً وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْباً* وفَاكِهَةً وَأَبّاً* مَّتَاعَاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ». «1»
(عبس الآيات/ 24- 32)
«الرِزْق»: كما يقول
الراغب في كتاب «المفردات» يعني البذل والعطاء المستمر، دنيوياً كان أو أخروياً، كما يُقال للحظ والنصيب رزقاً، وكذلك للمواد الغذائية التي تصل إلى جوف الإنسان.
يقول «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً: «الرزق» نوعان: ظاهر للأبدان كالأقوات، وباطن للقلوب والنفوس، كانواع المعارف والعلوم.
__________________________________________________
(1) هناك آيات كثيرة اخرى وردت في هذا المجال لها شَبَهٌ بالآيات أعلاه منها 31، يونس؛ 172، البقرة؛ 28، الشورى 26، الرعد؛ 12، الشورى 27، الشورى 22، البقرة؛ 32، ابراهيم؛ 73، النحل؛ 17، العنكبوت؛ 13، غافر.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 275
وورد في كتاب «التحقيق» أيضاً أنَّ الرزقَ يَعني «العطاء الخاص الذي يناسبُ متطلبات وضع المقابل ويطابق حاجته لاستمرار حياته».
وفي القرآن الكريم استُعملَ في كلا المعنيين فنقرأ قوله تعالى: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُوْلًا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ». (الملك/ 15)
وورد قوله تعالى في خصوص الشهداء: «بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».
(آل عمران/ 169)
إلّا أنّه يُستخدم غالباً بخصوص الأرزاق المادّية، بالرغم من أنَّ استعماله بخصوص الأرزاق المعنوية ليس قليلًا أيضاً، وحيث إنّ اللَّه تعالى واهب جميع النعم المادّية والمعنوية فانَّ لفظ «الرزّاق» من صفاته الخاصة «1».
و «الطعام»: له معنىً مصدري واسم مصدري معاً، أي أنّه يُطلقُ على «أكل الغذاء»، وكذلك على نفس «الغذاء»، وقد يُستعمل هذا اللفظ بخصوص الحنطة، كما ورد في الرواية إنَّ النبي صلى الله عليه و آله أمرَ باعطاءِ صاع من «الطعام» أو صاع من «الشعير» (وهنا استُخدمَ الطعام بمعنى الحنطةِ في مقابل الشعير).
وذَكر صاحب «لسان العرب» أنَّ الطعامَ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يؤكل، إلّاأنَّه هو والرّاغبُ في المفردات صَّرحا بانَّ هذا اللفظ قد يُستخدمُ للمشروبات أيضاً كما في: «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَنْ لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى».
(البقرة/ 249)
يقول الخليل بن احمد في كتاب «العين» أيضاً: يقالُ الطعامُ في كلام العرب للبّر خاصة، (إلّا أنّه يعود على ما يَبدو إلى أنَّ الطعام الأساس غالباً ما يكون من الخبز الذي يُصنعُ بدورهِ من الحنطة، وإلّا فانَّ الكثير من أرباب اللغة ذكروا أنَّ للطعام مفهوماً عاماً) «2»، وقال بعض اللغويين إنَّ الطعام يعني التمرَ أيضاً، ويبدو أنَّ هذا الكلام يعود إلى أنَّ التمر كان هو الطعام الأساس في ذلك الزمان وتلك البيئة.
__________________________________________________
(1) لسان العرب؛ المفردات؛ مجمع البحرين؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
(2) لسان العرب؛ المفردات؛ كتاب العين؛ والنهاية لابن اثير.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 276
لقد قلنا مراراً أنَّ مشركي العرب لم يعتبروا الأصنامَ كخالقٍ لهم أبداً، إلّاأنّهم كانوا يعتقدون أنَّ الاوثان لها يدٌ في تدبير هذا العالم وحل مشكلات الناس فيبذلون العطاء لها، لهذا يعتبرونها شفيعةً لدى اللَّه، أو بسبب إناطة مسؤولية تدبير العالم في هذه الجوانب لها.
لذلك فقد تمّ التأكيد في الآيات القرآنية المذكورة على هذه المسألة بتعابير مختلفة من أجل رد هذه العقائد الخرافية، والتأكيد بأنَّ الخالقَ والرازقَ واحدٌ، وجميع أنواع الأرزاق تأتي من ناحيته.
من البديهي إذا ما دُعيَ الإنسان إلى مائدةٍ وكان فيها من الأطعمةِ ما لذَّ وطابَ، أن يتقدمَ بالشكر قبل كل شي ء إلى صاحب هذه النِعَم، لذلك فهو يذهب وراء صاحب تلك المائدة لمعرفته، فهلْ هناك مائدةٌ أوسعُ من مائدة الخالق؟ وهلّا يجب معرفة صاحب هذه المائدة التي يتنَعمُ بها العدو والصديق؟ وتقديم الشكر له لعطاياه التي غَمَرْتنا ظاهراً وباطناً من أعلى رؤوسنا وحتى أخمص أقدامنا؟
بناءً على ذلك فانَّ أهمَّ الدوافع «لمعرفة اللَّه» وكذلك أحد الطرق لمعرفته هي هذه الأرزاق.
لذلك خاطبَ القرآن في أول آية من
البحث كافةَ النّاس قائلًا: «يَا أيُّها النَّاسُ اذكُروا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ». «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ».
فهو يُرسلُ لكم من السماء نور الشمس الذي يهبُ الحياة، وقطرات المطر التي تُحيي الأرض، والنسيم الذي يُنمي الأرواح، ومن الأرض يُنبتُ لكم أنواع النباتات والفواكه والمواد الغذائية، وفي باطنها أنواع المعادن والثروات.
مع هذا يجب أنْ تعرفوا أنْ لا معبودَ سواه، وهو وحده الجدير بالعبادة، فكيف تنحرفون عن الصراط المستقيم وتجعلون هذا الخالق العظيم واهب الرزق وراء ظهوركم، وتسجدون
نفحات القرآن، ج 2، ص: 277
للأصنام: «لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ» «1».
ويستند في الآية الثانية على أربعةِ أمورٍ لإثبات توحيد الربوبية: «وحدانية الخالق»، وكذلك التوحيد في العبادة، وهي: خلق الإنسان، ورزقُهُ، ومَوتُهُ، وإعادة احيائه، وقد تمَّ تعريفها من قبل اللَّه تعالى لأنَّها جميعاً ذات نظامٍ دقيقٍ حيث تُبرهنُ أنّها تصدرُ عن مبدأ العلم والقدرة، فيقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيْتَكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ». «هَلْ مِنْ شُركَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِّنْ شَى ءٍ» بناءً على ذلك يجب أنْ تُسلِّموا لنزاهتهِ وعلوِّهِ عمّا يُشركون به: «سُبحَانَهُ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشرِكُونَ».
فحيثما نعلم أنَّ خلقَنا وموتنا وحياتنا بيده، فلا معنى بأنْ نلهثَ وراء غيره، ونخضع ونُسَلِّمَ لسواه.
والجدير بالذكر أنَّ الخلقَ يشملُ الرزقَ والموت والحياة، لأنَّ كافة أنواع الرزق تعود إلى خلقِ اللَّه تعالى وكذلك فإنّ الحياة جزءٌ من الخلق وتعقبها الأرزاقُ والموت، وعليهِ فانَّ الاستناد إلى هذهِ الجوانب الثلاثة ليس لكونها شيئاً منفصلًا عن الخلق، بل لأنّها في الحقيقة توضحُ مصاديقَ مهمّةً عن ذلك الموضوع العام.
وهذه النكتة جديرةٌ بالتأمْلِ أيضاً، إذ بالرغم من أنَّ الإحياء بعد الموت لم يَكن مقبولًا لدى مشركي العرب، إلّاأنَّ هذه الآية تُعتبر إشارة لطيفةً لهذا الاستدلال،
وهو أنَّ الخلقَ الأول ونعمة الحياة في بداية الأمر دليلٌ واضحٌ على إمكانية تكراره يوم القيامةِ والبعث، بل لو تأمّلنا جيداً فانَّ مسألة الموت والحياة مستمرةٌ في هذا العالم، فوجود الإنسان يعتبر ساحةً للموت والحياة في كلٍّ عامٍ وشهر بل في كلِّ يوم وساعة، تموت الملايين من الخلايا، وتحلُ مكانها ملايينُ اخرى فتتجسدُ مسألةُ المعاد باستمرار في هذه الدنيا، إذن ما العَجَبُ في أنْ يَرجعَ الامواتُ إلى الحياة من جديد في الآخرة؟
__________________________________________________
(1) «تؤفكون» من مادة «إفْكْ»، وتعني تغيير الشي ء عن وضعهِ الحقيقي، ولهذا يقال للكذب والاتهام والانحراف عن الحق نحو الباطل «إفْكْ»، وكذلك يُطلقُ على الرياح التي تنحرف عن مسيرها المنظم (مؤفكة) (مفردات الراغب).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 278
وفي الآية الثالثة حيث جاءت في ترتيب آيات «التوحيد» إذ تُحصي آياتِهِ المختلفة في السماء والأرض، تمّ الاستناد أيضاً إلى ثلاث مسائل هي: بداية الخلق، ورجوعه، والرزق والاقوات التي تصل الإنسان من السماء والأرض فيقول: أيُّهما أفضل ... مَنْ تعبدون مِنْ دون اللَّه أم مَنْ بدأ الخلقَ ثم يُعيدُه؟ «أَمَّنْ يبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ» «1» «وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ».
ويضيف في النهاية «أالَهٌ مَعَ اللَّه».
«قُلْ: لَقَد جِئتُكم بدليلٍ عَلى ربوبيّتهِ فَهَاتُوا دَليلَكُم إِنْ كُنتُم صَادِقينَ».
«قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ».
وبتعبير آخر: «إنَّ هذه البركات تصدرُ عن الذات الإلهيّة المقدّسة، أمّا هذه الأصنام فهي لا تملكُ شيئاً كي تستحق العبادة».
والتعبير ب «خَيْر» أي (أفضل) الذي حُذِفَ من هذه الآية والذي يتجلّى بقرينةِ الآيات السابقة ليس المقصود منه أنّ للأصنام خيراً وبركات قليلة قياساً إلى خيرِ اللَّه وبركاتهِ بل إنَّ هذا التعبير يُستعملُ أيضاً في الحالات التي لا يكون هنالك خيرٌ في الفعل أبداً، فمثلًا يقال
لك امتنع عن تناول طعام معين كي تحافظ على صحتك أو لَيسَ الصحةُ أفضل من المرض؟
مِنَ المسلَّم به أنْ لا فضل في المرض بحيث تكون الصحةُ أفضلَ منه، ونقرأ في القرآن الكريم أيضاً: «وَلَعَبْدٌ مُّؤمِنٌ خَيْرٌ مِّنْ مُّشْرِكٍ». (البقرة/ 221)
ويقول في مكانٍ آخر: «قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ». (الفرقان/ 15)
وخلاصة الأمر أنَّ لفظ «خير» بالرغم من أنّه من «افعل التفضيل» ويجب أنْ يستعملَ في مورد شيئين أحدهما حَسَنٌ والآخرُ أحسن منه إلّاأنّ الهدف في أغلب الحالات هو اغراقُ المخاطبِ في التفكر وجعلَهُ يشعرُ بأنَّ ما يختاره ليسَ منشأً لأي خيرٍ ومنفعة.
__________________________________________________
(1) هنالك جملةٌ محذوفةٌ حيث تتضح بقرينة الآيات الآنقة (الآية 59 من نفس السورة) وتَقَدَّر كما يلي «أمَّنْ يبدءُالخلق ثم يُعيدهُ ... خيرٌ أمْ ما يشركون».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 279
إنَّ الاستناد إلى قضية المعاد بالرغم من عدم إيمان المشركين بها إنّما هو لأجل كون الخلق أول دليل على المعاد.
وطُرحَ هذا المعنى في الآية الرابعة بنحوٍ آخر، إذ يقول: «أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ» «1».
تلميحاً إلى أنّه لو امتنعت السماء عن المطر بأمرِ اللَّه، ولم ينمُ نباتٌ ما، وعمَّ الجدب والقحطُ كلَّ مكان، فهل تستطيع هذه الأصنام أو أيُّ موجودٍ آخر أن يرزقكُم ويُطعِمكُم؟ ولو انقطعت عنكم الأرزاق المعنوية والروحية بأمرٍ من اللَّه، فهل مِنْ هادٍ يرشدكم؟ ينبغي القول أنَّ الجواب على كل هذه التساؤلات سلبيٌ، فكيف اذن يتمادى الوثنيون في عملهم القبيح هذا؟ فهلْ منْ سبب هنا سوى العناد والتعصب؟
لهذا يقول في خاتمة الآية: «بَلْ لَّجُّو فِى عُتوٍّ وَنُفُوْرٍ» «2».
وفي الآية الخامسة استند إلى أمرٍ آخر يتعلق بمسألةِ الأرزاق، إذ يؤكد أنَّ بسط وقبضَ الرزق هو بمشيئة اللَّه، فيقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللَّه يَبْسُطُ الِّرزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ»؟!
صحيحٌ أنَّ سعيَ ومثابرة الناس والمؤهلات والاستحقاقات تؤثرُ في تحصيل الرزق.
وصحيحٌ أنَّ العالَم، عالم الأسباب، وغالباً ما يستفيد المثابرون أكثر من الكسالى في تحصيل الأرزاق.
إلّا أننا نرى استثناءات كثيرة قبالة هذه القاعدة، فقد نرى أناساً مُقعدين قد فُتحت أمامهم
__________________________________________________
(1) بالرغم من احتمال بعضهم بتقدير محذوف من الآية إلَّاأنَّ ظاهر الأمر يشير إلى أن لا محذوف هناك فيكون المعنى كما يلي «إنْ امسَكَ اللَّه رزقهُ مَنْ هذا الذي يرزقكم» فتكون «أم» هنا بمعنى «بل» (فتأمل جيداً).
(2) «لجوا» من مادة اللجاجة و «العَتو» تعني الطغيان و «النفور» تعني الابتعاد والهروب من الشي ء.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 280
أبوابُ الرزق، وبالعكس فقد نرى مثابرين ومستحقين أينما يولّوا وجوههم فانَّ الأبواب مغلقة أمامهم، كما يقول الشاعر العربي المعروف:
كم عاقلٍ عاقلٍ أَعْيَتْ مذاهبُهُ وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقاً وهذا من أجل أن لا يضيع الإنسان في عالم الأسباب وليعلمَ أنّ وراء هذا العالم، يداً قادرةً تديرُهُ وتعلو قدرتها فوق جميع القدرات، وكي لا يصيبَ الغرورُ المتنعمين والمستفيدين بسبب إمكانياتهم، فيظلموا ويطغوا، وحتى لا ييأس ذوو الإمكانيات المحدودة، لأَنَّه من الممكن أن يتغيَر الوضعُ في كل لحظةٍ حسبَ الإرادة والمشيئةِ الإلهيّة.
وبتعبير آخر: من أجل توفر الرزق والقوت لكل إنسان تتظافر عشرات الأسباب أحدها سعي الإنسان ومثابرته، حتى أنَّ اللَّه قد منح القدرة على السعي والمثابرة ودوافعهما أيضاً.
وهنا يتمكن الإنسان من فهم نفحات من الذات الإلهيّة المقدّسة من خلال مسألة سعة الرزق وضيقه، فقد قال في نهاية الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» اولئك الذين لديهم استعدادٌ لقبول الحق بسبب إيمانهم، ويتعرّفون أكثر على الذات المقدّسة من خلال مشاهدة هذه الميادين يومياً.
وفي الحقيقة
أنَّ الأية أعلاه قد تكرر مضمونُها ومحتواها عشر مرات في القرآن الكريم تشبه ما نُقل عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول: «عَرَفْتُ اللَّه سبحانه بفسخ العزائم وحلِّ العقود ونقضِ الهِمَمِ» «1».
وتشابه ما نُقلَ عن بعض المفسِّرين أنَّ أحدَ العلماء سُئل عن الدليل على وحدانية اللَّه؟
فقال: «ثلاثة ادلّة: ذلُّ اللّبيب وفقرُ الأديب وسُقمُ الطبيب» «2».
والتعبير ب «اوَلَمْ يَرَوا» إشارة إلى أنْ لو تمعنَ الإنسان قليلًا في حياة الناس لرأى هذه الاختلافات جيداً.
ولابدّ من ذكر هذه النكتة وهي أنَّ إرتباط سعة وضيق الرزق بالإرادة الإلهيّة يعني
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 250.
(2) تفسير روح البيان، ج 7، ص 39.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 281
الإرادة الممتزجة مع الحكمة وإلّا ليس للَّه مشيئةٌ بدونِ حكمه سواء كان هنا أم في باقي الموارد.
علماً أنَّ ضيق الرزق في هذه الآية (والآيات العشر) المذكورة لا يعني مُطلقَ الحرمان من الرزق، حتى يتعارض مع الآيات الآتية التي تقول: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلَّا عَلى اللَّهِ رِزْقُهَا». (هود/ 6)
بل المقصود قلةُ الرزق وفي نفس الوقت وجود الحد الادنى والكافي منه.
وفي الآية السادسة بعد أن يؤكّد على هذه النكتة وهي: أنَّ اللَّه لا يحتاجُ عبادَهُ وحينما يدعوهم إلى عبادته فليس بسببِ حاجته فيقول تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَاقُ ذُو القُوَّةِ الْمَتِيْنُ». (الذاريات/ 56- 57)
و «الرزّاق»: صيغةُ مبالغةٍ تعني كثير العطاء، وهذا يصدقُ بخصوص ذاته المقدّسة فقط، حيث جلست الكائنات الحية في كلِّ زاويةٍ من هذا العالم العريض: على الجبال، في بطون الصخور، في أعماق الوديان، في قاع البحار، وباختصارٍ في كلِّ زاويةٍ وجانبٍ من هذا العالم العظيم على مائدة احسانِه، متنعمة بامداداته وفيضه.
وبما أنَّ مثل هذا العطاء والبذل الواسع وغير المحدود يحتاج إلى
قدرةٍ وقوةٍ تامةٍ، فقد ذَكر بعد هذا وصفين آخرين: «ذُو القُوةِ» و «الْمَتِيْنُ» وهي من مادة «متن» وتعني في الأصل العَضلتين اللتين تحيطان بالعمود الفقري، وتقومان بشَدِّ عضلات ظهر الإنسان من أجل انجاز الأعمال الشاقة، وهنا كنايةٌ عن القوة والاقتدار الخارق.
وفي الواقع أنَّ هذه الجملة وصفٌ للذات الإلهيّة المقدّسة في بذل الأرزاق، لأنَّ هذه الصفة تخصُهُ فقط، وأمّا الآخرون فكل ما يملكون فهو منه جلَّ وعلا، وإذا استعمل وصف «الرزاق» لبعض الناس أو للأسباب الطبيعية فهو يعني في الحقيقة الواسطة في انتقال فيوضاتهِ وليس الفّياض وخالق النِّعم.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 282
واستند في الآية السابعة إلى موضوعٍ آخر وهو شمول رزق اللَّه لكلِّ الدّواب، هذا العمل الذي لا يمكن حصوله بدونِ احاطةٍ وعلمٍ كامل بجميع موجودات العالم، فلابدّ أن يعرفَ المُضيِّفُ عددَ ضيوفهِ سلفاً، وكذلك مقدار حاجاتهم وأذواقهم، كي يتمكنَ من تقديم الطعام الملائم لهم، لهذا يقول في هذه الآية: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ الَّا عَلىَ اللَّهِ رِزْقُهَا».
ويُشير هذا التعبير بجلاء إلى أنَّهُ قد تكفَّلَ برزق عباده، كي يَحدَّ من حرص وطمع بعض الناس واضطراب وقلق بعضهم الآخر من جانب، ومن جانبٍ آخر يبرهنُ على أنّه لو شوهدت شحةٌ في الأرزاق، فهي مفتعلة ومن المؤكد أنّها حصلت نتيجة لظلم جماعةٍ من الناس وهضم الحقوق، والاحتكار وافتعال الأزمات الكاذبة أو في النهاية بسبب عدم السعي للاستفادة من هذه المائدة الإلهيّة المبسوطة، تلك هي الأسباب التي يؤدّي كلٌّ منها أو مجتمعة، إلى حرمانِ بعض الناس من رزقهم وقوتهم، وإلّا فانَّ اللَّه قد ضمنَ رزقَ كلّ الدَّواب.
وبما أنَّ ايصالَ الرزق لهم يُعدّ متعذراً بدونِ علمٍ كاملٍ بأماكنهم وخصائصهم فهو يقول في سياق الآية: «وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا».
وكلُّ ذلك
مسجّلٌ في كتابٍ جلّيً (هو اللوح المحفوظ، لوح علم الخالق) «كلٌّ فِى كِتابٍ مُبِيْنٍ».
و «دابَّة»: من مادة «دبيب» «وتعني المشي البطي ء» ويُطلقُ هذا اللفظ (دابّة) على البهائم والحيوانات والحشرات، بالرغم من استعمالهِ بخصوص الخيل في بعض الموارد، إلّاأنّ المسلَّم به هنا أنّه ذو معنىً واسعٍ وشاملٍ حيث يشمل جميع البهائم «1».
ولفظ «مُستَقَّر» يعني المقر، والمكان الثابت، وهو مأخوذ في الأصل من مادة «قُرّ» على وزن (حُرّ) وتعني البرد القارص الذي يجعلُ الإنسان جليسَ الدار.
و «مُستَوْدَع»: يعني المكان غير الثابت، وهي من مادة «وديعة» وتعني في الأصل ترك واطلاق الشي ء، ولهذا يقال للُامور غير المستقرة «مستودع».
__________________________________________________
(1) إنَّ «التاء» في «دابّة» لا تدل على التأنيث، بل تشمل جميع الحيوانات مذكرها ومؤنثها، وبتعبير آخر أنَّ تأنيثها لفظيٌ وليس حقيقياً (مفردات الراغب وتفسير الكبير، ج 17، ص 185).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 283
وهذه الألفاظ تلمّح إلى أنّه لا تظنّوا أنَّ اللَّه يوفرُ الرزقَ للموجودات في مستقرها فقط، بل أينما تكون وفي أيّ نقطةٍ من الأرض والسماء، فهو يعلمُ ويرى مكانها ويعطيها رزقها هناك!
روى بعض المفسّرين في ذيل هذه الآية حديثاً مفاده: «أنّ موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه وكان برفقة طفله وزوجته في ليلة ظلماء في وادٍ بطور سيناء، حيث أمره اللَّه سبحانه وتعالى أن يذهب إلى فرعون، فانصرف ذهنه إلى زوجته وطفله، كيف سيكون مصيرهم بعده.
فأمره اللَّه تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانفلقت وخرجت منها صخرة ثانية؛ ثم ضربها بعصاه مرّة اخرى فانفلقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانفلقت فخرجت منها دودة كأصغر ما تكون عليه النملة وفي فمها شي ء يجري مجرى الغذاء لها، وعند ذاك رفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة
تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني» «1».
كما ورد في حديثٍ أنَّ الإمام الحسين عليه السلام كان له سيفٌ كتبَ عليه: «الرزقُ مقسومٌ والحريصُ محرومٌ، والبخيل مذمومٌ، والحاسدُ مغمومٌ» «2».
ونختتم هذا الحديث بشعرٍ لأحد شعراء العرب، إذ يقول:
وكيف أخافُ الفقرَ واللَّه رازقي ورازقُ هذا الخلق في العسرِ واليُسرِ تكفَّلَ بالأرزاق للخلق كُلِّهِم وللضَّبِ في البيداء والحوتِ في البحرِ وفي الآية الثامنة، يبدو وكأنّه يحاكمُ المشركين، ويبينُ بطلان عقائدهم عن طريق مسألة ايصال الرزق إلى الخلائق، ويوضح وحدانية الرَّب، فيقول: «قُلْ مَنْ يُرزُقُكُم مِنَ السَّموَاتِ وَالأَرضِ» من ضوء الشمس، من قطرات المطر الذي يهب الحياة، ومن هذا الهواء
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير؛ ج 17، ص 186؛ تفسير روح البيان، ج 4، ص 97؛ و تفسير روح المعاني، ج 12، ص 2.
(2) تفسير روح البيان، ج 4، ص 97.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 284
الذي يمد الكائنات بالحياة، ومن أنواع المواد الغذائية الموجودة في أعماق الأرض وتظهر على هيئة ثمراتٍ وغلاةٍ وخضروات.
ثم لا يَدَعُ النبى صلى الله عليه و آله ينتظر جوابهم فيردّ الجواب قائلًا: «قُلِ اللَّه وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلى هُدىً أَو فِى ضَلالٍ مُبِينٍ».
ولأنَه لا تجتمع عقيدتان متناقضتان، وبما أنّكم لا تملكون دليلًا يثبتُ أنّ الأصنام هي منشأ البركات، يتضح اذن أننا نتبع الحقَّ وأنتم في ضلالٍ مبينٍ.
ولو لاحظنا هنا أنَّ النبي صلى الله عليه و آله لم ينتظر جوابهم، لأنَّهم في الواقع لا يملكون جواباً لهذا التساؤل، سوى السكوت الممزوج بالخجل، وعليه يجب على المتكلِّم الفصيح أن يُمسكَ بزمامِ الحديث في مثل هذه الحالات ويقدِّمَ الجوابَ بنفسِه.
وأحدُ فنون الفصاحةِ هو أنْ يُلقى الكلام الغامض على الخصوم من خلال الحوار ويترك
الفصل لهمْ، لهذا يقول هنا: «وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلى هُدىً او فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ» ومن المسلَّم به أنَّ الضّالَ والمهتدي يتضحُ هنا، ومن الأفضل أن تبقى العبارةُ غامضةً في الظاهر كي لا يتمادى هؤلاء في عنادهم، وأن يُكلِّفوا أنفسهم عناء الاستنتاج.
والعجيب أنَّ بعضَ المفسِّرين يعتقدون أنَّ هذه العبارة من قَبيل «التقيّة» في الوقت الذي لا مجال للتقيّةِ هنا، والأمرُ مشكوفٌ بجلاء- ولكن بشي ء من اللطافة-، وحيث يقول في البداية: «إنّا» ثم يقول: «أنتم» ويتابع قائلًا على «هدىً» أو على «ضلال»، وهذا التسلسل يوضحُ الأمرَ أكثر.
وفي الآية التاسعة، بعد أن أشارَ إلى نزول المطر المبارك من السماء، استند إلى ثلاثة أصنافٍ من الارزاقِ التي يستفيد الجميع منها، فيقول: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُّبارَكاً فَأنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيْدِ».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 285
«وَالنَّخلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيْدٌ» «1» «رِزْقاً لِلْعِبادِ».
وفي الواقع فقد استند في هذه الأية إلى الثمار والمحاصيل الغذائية لأنّها تمثلُ أهمَ وأَصلح جانبٍ من المواد الغذائية للناس، واستند إلى التمر بالخصوص من بين الثمار، بسبب أهميّته الغذائية الفائقة، حيث بحثناه بالتفصيل في محلِّه «2».
والجدير بالذكر: إنَّ بعض المفسِّرين يعتقد أنَّ استناد القرآن إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأرزاق جاء بسبب خصائص كلٍّ منها على حدة، لأنَّ بعض النباتات يُثمرُ سنوياً، دون الحاجة إلى بذر البذور، كانواع أشجار الفاكهة، وبعضها يحتاج إلى بذر البذور سنوياً كالحنطة والشعير والرز والذرة وبعضها وسطاً بينهما كالنخيل الذي يكون أصلهُ ثابتاً إلّاأنّه يحتاج في كلِّ عامٍ إلى «التلقيح»، بالنحو الذي يرفعون طلع الذكر وينثرونه على ثمار النخلةِ كي تحمل بشكلٍ كامل، ومن الممكن أن تلقح بطريقة اخرى (عن طريق الرياح والحشرات) إلّا أنّها لن تكون غزيرة الثمار.
وهذه النكتة
جديرة بالاهتمام أيضاً حيث إنّ في تعبير «رزقاً للعباد»، «3» إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي وجوب استثمار النعم الإلهيّة لسلوك طريق عبوديةِ اللَّهِ، وهذه الموجودات مذعنةٌ ومطيعةٌ للإنسان كي ينال الرزق ولا يأكلُه غافلًا عن اللَّه، كما قال الحكماء:
أنت تعيش لتأكل وأنا آكل لأعيش وأذكر اللَّه.
__________________________________________________
(1) «حصيد» تعني المحصود (أو الجاهز للحصاد)، و «باسقات» جمع «باسقة» وتعني الطويلة و «طلع» تعني ثمرة النخيل في بداية تكوينها، و «نضيد» تعني المتراكم والكثيف الذي يبعث على التعجب لا سيما في ثمار النخيل أي التمر.
(2) يُراجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 25 من سورة مريم.
(3) إنَّ نصبَ «رزقاً» جاء لكونه «مفعولًا لاجله»، ويُستبعدُ احتمال كونه «مفعولًا مطلقاً» أو «حالًا».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 286
وفي الآية العاشرة وآخر الآيات في بحثنا استند إلى الأنواع المتباينة من الاطعمة التي وضعها الباري ء، تعالى في متناول الإنسان والدَّواب، ودعا الإنسان إلى التفحصِ فيها، كي يُعدَّهُ لمعرفة المُنعم ومعرفة اللَّه من خلال تحريضه على الشعور بالشكر.
فيقول: «فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ الىَ طَعَامِهِ».
ليرى كيف تظافرت مختلف العوامل من الشمس والأرض والهواء والمطركي تضع في خدمته هذه النَّعَم. فيجب أنْ ينظُر ويرى كيف: «أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً* فَأنبَتنَا فِيهَا حَبّاً* وعِنَباً وقَضْباً «1»* وزَيْتُوْناً وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْباً* وَفَاكِهَةً وَأَبّاً» «2».
مع أنَّ «فاكهة» تشمل جميع أنواع الثمار، و «حدائق» تتضمن جميع البساتين، إلّاأنَّ الاستناد إلى «العنب» و «الزيتون» و «التمر» يأتي بسبب مزاياها المهمّة للغاية التي ثبتت الآن في علم النبات بالنسبة لكلِّ منها.
وبالرغم من أنَّ «طعام» تعني عادةً الغذاء المادي، لا سيما بخصوص الآية التي تعقبها، فقد ذُكرت موارد عديدة للاطعمة الماديّة، الفواكه والحبوب، إلّاأنّه وكما ورد في بعض الروايات، يمكن
أن يكون للطعام معنى واسع وشامل حيث يشمل الغذاء المعنوي أيضاً، ويجب أن ينظرَ الإنسان جيداً ممَّ يكتسبُ العلمَ الذي هو غذاؤه الروحي، فلا ينبغي أن يكون مشتملًا على علوم سامة وهدامة.
والكلام الأخير حول هذه الآية الشريفة، هو من الممكن أن تكون عبارة «فَلْيَنْظُرِ» هي النظر من أجل إدراك أسرار المبدأ والمعاد، وكذلك النظر لتمييز الصنف الطيِّب والطاهر، من الخبيث والملوث، والمشروع من اللامشروع والمفيد من الضّار.
يستفادُ جيداً من مجموع ما قيلَ في شرح هذه الآيات أنَّ أنواع الرزق الإلهي آياتٌ
__________________________________________________
(1) «قضب» على وزن (جذب) وتعني القطع والقطف، وقد فسَّرها المفسِّرون بأنّها الخُضرُ التي تُقطعُ عدّة مرات.
(2) «حدائق» جمع «حديقة» وتعني البساتين المحصورة بين الجداران، و «غُلب» جمع «اغلب» من مادة «غُلبة» وتعني الضخم الجُثّه، و «أب» تعني النباتات الطبيعية والمراتع الطبيعية، أو الثمار التي تُجفَّف وتحفظ. (والآية 31 من سورة عبس).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 287
وآثارٌ على عظمتهِ، وكيفية ظهورها، والنظام المدهش الذي استُعملِ في بنائها، والصفات المميزة لكل منها، والمواد المعاشية الموجودة في كلٍّ منها، وكذلك كيفية ايصالِ هذه الأرزاق إلى المحتاجين ومطابقتها لحاجتهم، فكلٌّ منها آية ودليل عن حكمة وعظمة الذات الإلهيّة المقدّسة.
حقاً لو تأملنا في النظام العجيب الموجود في ارتزاق مختلف الموجودات من المصادر الطبيعية، لتجلَّت لنا امورٌ لطيفةٌ ومدهشة عن قدرة الخالق جلَّ وعلا.
الأمر الأول منها هو لماذا لا تتقلص كمية المواد الغذائية الموجودة على الأرض مع قلتها واستفادة الناس والحيوانات على مدى آلاف الآلاف من السنين؟! كيف لا تنتهي هذه المائدة الممتدة في كل مكانٍ؟!
حينما نتأمل جيداً نرى أنَّ المواد الغذائية في هذه الدنيا لها شكلٌ خاص بحيث لو استُفيدِ منها لملايين الملايين من السنين،
لم ينقص منها بقدر رأس الابرة، وهذا بسبب «حركتها الدائرية» فمثلًا أنَّ المياه تتبخر من البحر ثم تظهر على هيئة غيومٍ وامطار، فيهطل قسمٌ من ماء المطر إلى البحر ثانيةً، والقسم الآخر يصبحُ جزءاً من جسم الإنسان والحيوانات والنباتات ويتبخر وينتشر في الجو، وتستمر هذه الحركة الدائرية دائماً.
فالاشجار تمتص المواد الغذائية من الأرض وتتكون الفروع والأوراق، ثم تتساقط الأوراق وتتفسخ وتتحول فيما بعد إلى سمادٍ ومواد غذائيةٍ لنفس الأشجار، وتستفيد الحيوانات من المواد الغذائية ثم تُصبحُ تراباً، وجزءاً من المواد الغذائية في الأرض.
ويتنفس الإنسان والحيوانات غازَ «الاوكسجين» ويطرح غاز «ثاني اوكسيد الكاربون»، ولكن الأشجار على العكس من ذلك فهي تأخذ غاز «ثاني اوكسيد الكاربون» وتطرح غاز
نفحات القرآن، ج 2، ص: 288
«الاوكسجين»، ويتكرر هذا التبادل دائماً، هنا نشاهد أنّ هذه المائدة الإلهيّة السرمدية مبسوطة باستمرار لتجلس كافة المخلوقات إليها للارتزاق منها دون أن يصيبها النقصان.
وكيفية إعداد الرزق للحيوانات عجيبةٌ أيضاً، فالبعضُ يتغذى على النباتات والرطوبة الموجودة على الأرض، وبعضٌ يحصل على غذائه من الماء «النباتات العائمة» وبعضٌ من الجو، وبعضٌ عن طريق الالتحام بنباتاتٍ اخرى «كبعض الطفيليات» وتعيش حيوانات أعماق البحار في مكانٍ لا ينمو فيه نباتٌ أبداً، لأنَّ اشعة الشمس تتلاشى تماماً في عمق 600- 700 م ثم يسود ماءَ البحر بعدها ليلٌ حالكٌ وسرمديٌّ، إلّاأنّ الباري تعالى يهي ء ويعدُّ رزقَها على سطح البحر ويرسلُه إليها في أعماق البحر فالنباتات التي تنمو بكثرة على سطح البحر وسط الأمواج تصبحُ ثقيلة وتهبط إلى قاعه بعد نضوجها وتخصيص قسم منها للموجودات الحيّة على سطحه، وكذلك تنزل بقايا الموجودات التي تعيش على سطح البحر على هيئة مائدةٍ سماوية إلى الموجودات في قاعه.
فقد تُصبحُ الطيورُ طُعمةً لأسماك البحر،
واسماك البحر طعمةً للطيور، وقد يجعل النباتاتِ غذاءً للحيوانات، أو الحيوانات غذاءً للنباتات التي تأكل اللحوم! وقد يصنع من فضلات ولعاب بعض الموجودات غذاءً لذيذاً لموجودٍ آخر (كما في بعض حيتان البحر حيث تخرج إلى ساحل البحر بعد تغذّيها على أسماك البحر المختلفة، فتبقى الفضلات بين أسنانها، فتفتح فمَها الذي يشبه الغار، فتدخلُ مجموعةٌ من طيور الساحل إلى فمها وتقوم باخراج اللحوم المتبقية من بين اسنانها وتتخذها طعاماً لذيذاً لها، فتقوم بدورِ المسواك في تنظيف أسنان هذا الحيوان، الذي لا يسي ء ردَّ الجميل، فلا يُطبقُ فاهُ حتى خروج آخر طيرٍ من فمه، وحينما ينتهي الأمر ويتخلص من المواد المزعجة، وتمتلي ء بطون الطيور من الطعام حينئذ يُطبقُ فمَهُ ويتجه نحو أَعماقِ البحر «1».
وباختصار: كلّما دققنا في هذه المسألة أكثر، سنحصل على نقاطٍ جديدة في مجال علمِ
__________________________________________________
(1) يضيف الفخر الرازي في تفسيره ضمن إشارته المختصرة لهذا الموضوع، أنّه على رأس هذا الطائر شي ءٌ يشبه الشوك، فلو قَرر التمساحُ ابتلاع هذا الطائر فسيؤلمه ذلك «تفسير الكبير، ج 24، ص 11).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 289
وحكمةِ الخالق جلَّ وعلا، والتدبير الذي صُرفَ في مجال الأرزاق، بشكلٍ لا يبقي مجالًا لأي نوع من الصدفة.
يكفينا التأمُل في وضع الإنسان خلال المراحل الثلاث: الجنين، الرضاعة، والأكل، كيف أنَّ اللَّه تعالى وضعَ في متناولهِ ما يناسب حاله في كلِّ واحدةٍ من هذه المراحل الحساسة بدونِ نقصٍ، فيتغذى طيلة مكوثه في رحم الام عن طريق جهاز الحبل السّري المعقّد والإرتباط المباشر بدم الام، وبعده الولادة، عندما لا توجدُ أسنانٌ لمضغ الطعام، ومعدتُه وامعاؤهُ غير مستعدةٍ لاستقبال الطعام، يهيي ء له ثدي امه الملي ء بالحليب، غذاءً مناسباً، غنياً بكافة المواد الغذائية، معتدل الحرارة، لا
تغلب عليه الحلاوة أو الملوحة، ولا يحتاج إلى مضغٍ ونشاطٍ لمعدتهِ كي تهضمه.
وفي المرحلة الثالثة، يضع في متناوله أنواعاً من الاطعمة «المناسبة»، فلو لم تكن أطعمة الإنسان وباقي الحيوانات «ملائمة» ويكون مجبوراً على تناولها كالأدوية المرّة، فايٌّ مأزق سينشأ في حياته، ألا يفنى معظمُ الناس بسبب عدم توفر الطعام السليم لهم؟
ومن جانبٍ آخر، فقد أودعَ في الإنسان الشعورَ بالجوع والعطش، كي ينجذب نحوهما بشكل آلي عندما يحسُ بالحاجةِ إلى هاتين المادتين الحيويتين، فتأملوا ما يحصل لولا هذا الشعور؟!
وكما يقول الإمام الصادق عليه السلام في الحديث المعروف عن المفضّل:
«فكّر يا مفضل في الأفعال التي جُعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبّر فيها فانّه جُعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرّك يقتضيه ويستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن وقوامه والكرى تقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه، ولو كان الإنسان إنّما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئاً يضطره إلى ذلك كان خليقاً أن يتوانى عنه أحياناً بالتثقل والكسل حتى ينحل بدنه فيهلك ...، فانظر كيف جُعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرك من نفس الطبع يحركه لذلك ويحدوه عليه» «1».
__________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 3، ص 78 و 79، توحيد المفضّل.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 290
لهذا تُعتبر الرغبةُ في نوعٍ من الطعام بالنسبة للاصحاء من الناس دليلًا على حاجة الجسم إلى ذلك الغذاء على نحو الخصوص، ويجب على مثل هؤلاء الأشخاص كذلك النزول عند هذه الرغبات الداخلية؛ يقول العالم الروسي المعروف «باولف»: «إنَّ الغذاءَ الطبيعي والمفيد، هو الغذاء الذي يؤكل
بشهيَّةٍ وتلذذ».
ولهذا أيضاً لا معنى للالتزامِ بنظامٍ خاصٍ في الامتناع عن الأطعمة التي يرغب الإنسان بتناولها لأنّ تلك الرغبة تعتبر بحد ذاتها أفضل دليلٍ على حاجةِ الجسمِ لها.
ما هذه التركيبات المحبوكة التي تحددُ بنفسها نوع حاجتها، ووقودها، وصنعها؟
وبمجرد أن يحصلَ نقصٌ توقظ شعورَ الإنسان وتدفعهُ نحو ذلك؟ هل يمكن حمل مثل هذه الامور على سبيل الصدفة؟ وهل هنالك إمكانية لوجود مثل هذا البرنامج المنظّم لولا وجود عقلٍ وتدبيرٍ واسعٍ؟
وردت هذه النكتة في بعض الآيات أعلاه وهي أنَّ رزقَ كلِّ دابةٍ على اللَّه، وقد تكفَّلَ اللَّه به: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ الَّا عَلى اللَّهِ رِزْقُهَا ...». (هود/ 6)
وورد في بعضٍ آخر أنّ سعة الرزق وضيقة مشيئة الهية. (الروم/ 37 وآيات اخرى .
واشير إلى هذا المعنى في الروايات أيضاً، فيقول امير المؤمنين عليه السلام: «وَقَدَّر الأرزاقَ فكثَّرها وقلَّلها وقسَّمها على الضَّيق والسَّعة» «1».
وفي حديث آخر عنه عليه السلام نقرأ في حثِّه على طلب العلم إذ يقول:
«إنَّ طلبَ العلمِ أوجَبُ عليكم من طلبِ المال، إنَّ المالَ مقسومٌ مضمونٌ لكم قد قسَّمَهُ عادلٌ بينكم وضَمِنَه وَسَيَفي لكم والعلمُ مخزونٌ عند أهلهِ قد امرتُم بطلبهِ» «2».
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة خطبة 91.
(2) معالم الدين، ص 9.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 291
والآن يبرز هذا التساؤل وهو: لو كان الأمر كذلك فما هو مفهوم السعي والاجتهاد لطلب الرزق والتخطيط لتحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع؟
ولكن من خلال التمعُن في الآيات والروايات فيما إذا جُمعت مع بعضها يتضح الجواب على هذا السؤال بأنَّ المقصود من ضمان الرزق من قبل اللَّه تعالى وتكّفله والتزامه بتقسيمه هو اعداد الأرضية اللازمة، ومتى ما تظافرت الأرضية الخارجة عن طاقة الإنسان، والاستعدادات الموجودة في ذاتهِ، يستلم الإنسان
نصيبه من الرزق.
وهذا يشبه تماماً رواتب العاملين في مؤسسة ما والتي يحددها المدير إلّاأنَّه لا يجلبُ تلك الرواتب إلى بيوتهم بل يجب عليهم أن يعملوا، ثم يذهب كلٌ منهم لمل ء بطاقةِ راتبه ليستلمه.
ولا يجب نسيان هذه الحقيقة بأنّ اللَّه تعالى ومن أجل أن لا يضيع الناس في «عالم الأسباب» ويعتبروا أنَّ حاصل الرزق يأتي عن طريق السعي والاجتهاد فقط، فهو يوصل الرزق أحياناً لاناسٍ لم يبذلوا جهداً جهيداً وقد يسلب الرزق من أشخاصٍ مجتهدين كي يوضح أنَّ وراء هذا العالم قدرةً اخرى (ولكن يجب أن لا ننسى أنَّ هذا مجرّد استثناء، وأمّا القاعدة الأساسية فهي السعي والاجتهاد).
ولعلّه لهذا الأمر ورد في حديثٍ عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال:
«واعلموا أنَّ الرزقَ رزقان: فرزقٌ تطلبونه ورزقٌ يطلبكُم فاطلبوا أرزاقكم من حلال، فانّكم إن طلبتموها من وجوهها أكلتموها حلالًا وإنْ طلبتموها من غير وجوهها أكلتموها حراماً» «1».
هذا الفارقُ في الرزق يعتبرُ في الواقع دليلًا على الجمع بين الآيات والروايات التي تعتبرُ الرزقَ مُقَسَّماً ومضموناً، والروايات التي تعاكسها، التي تعتبر الجد والاجتهادَ والمثابرة شرطاً للاستفادة من الرزق «2».
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة، ج 17، ص 47.
(2) من أجل التعرف على هذه الروايات يراجع، وسائل الشيعة ج 12، كتاب التجارة، ص 9 و 16 و 18 و 22 و 24 و 26.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 292
بالإضافة إلى أنَّ التعرف على هذا الاختلاف في الرزق يدفع الحريصين إلى التخلي عن حرصهم، ولا يتلوث المؤمنون بتحصيل الرزق من الحرام، ولا ييأس المحرومون أيضاً.
في الآيات أعلاه تتجسدُ هذه الحقيقة جيداً بأنَّ اللَّه تعالى قد تكفَّلَ برزق جميع الموجودات الحيّة، وايصاله إليها أينما كانت، ولكن يبرز هذا السؤال
وهو: لماذا ماتت وتموت مجاميعُ من الناس جوعاً الآن وعلى طول التاريخ؟ أَلَمْ يُؤَمَّنُ رزقُها؟!.
في الرد على هذا التساؤل يجب أخذ النقاط الآتية بنظر الاعتبار: أولًا: إنَّ تأمين وضمان الرزق لا يعني اعدادَه للإنسان العاقل والمكلَّف وارساله إلى بيته، أو وضعهِ في فمه كاللقمة، بل قد اعدت الأرضية اللازمة، وسعيُ الإنسان واجتهاده يعتبر شرطاً لتحقيق هذه الأرضية وايصالها إلى مرحلة الفعل، حتى مريم (عليها السلام) عندما كانت في ذلك الوضع الصعب وفي تلك الصحراء القاحلة حيث هيأ لها اللَّهُ تعالى رزقها رطباً جنياً على جذع النخلة أمرها بأنْ تسعى وخاطبها: «وهُزِّى الَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ».
ثانياً: لو أنَّ الناسَ- في الماضي والمستقبل- يقومون بهضم حقوق الآخرين ويسلبون أرزاقهم ظلماً فهذا ليس دليلًا على عدم تأمين البارى ء تعالى للرزق، وبتعبير آخر: إضافة إلى مسألة السعي والاجتهاد فإنّ وجود العدالة الاجتماعية يعتبر سراً في التوزيع العادل للأرزاق، وإذا قيل: لماذا لا يمنع اللَّهُ ظلمَ الظالمين؟ نقول: إنَّ أساس حياة البشر يقوم على الحرية وليس على الاجبار والاكراه كي يخضع الجميع للامتحان، وإلّا فلا يحصل التكامل «فتأمل جيداً».
ثالثاً: هناك مصادر كثيرة لتأمين طعام البشر على هذه الكرة الأرضية ولكن يجب أن تكتشفَ وتُستخدمَ بذكائهم ومعرفتهم، وإذا قصَّر الإنسان في هذا المجال فالذنبُ ذنبهُ.
لا يجب أن ننسى أنّ بعض مناطق افريقيا التي يموت شعبها جوعاً تعتبر من اغنى
نفحات القرآن، ج 2، ص: 293
مناطق العالم، إلّاأنّ العوامل المدمرّة التي أشرنا إليها آنفا جعلتهم يهيمون في ليلٍ مظلمٍ.
نختتم هذا البحث المختصر بحديثٍ عن الإمام علي عليه السلام ورد في نهج البلاغة، يقول:
«انظروا إلى النملةِ في صِغرِ جُثتها ولطافةِ هيئتها لا تكادُ تُنالُ بلحظِ البَصرِ ولا بمُستدركِ الفكَرِ كيفَ دبَّت على أرضها،
وصُبَّت على رزقها تنقُلُ الحبَّةَ إلى جحرِها وتُعِدُّها في مستقرها، تجمعُ في حَرِّها لبردها، وفي وِردِها، لصدرِها» «1».
وردَ في الآيات أعلاه أنَّ اللَّه تعالى يبسطُ الرزقَ لمن يشاء ويُضيقَهُ على مَنْ يشاء، وهذا التعبير الذي تكرَّر في آياتٍ عديدةٍ يمكنُ أن يُوجدَ هذا الخلط وهو أنَّ نظام الرزق خارجٌ عن إرادة الإنسان بشكلٍ كامل، طبقاً لذلك فلو تَنَعَّمَ قومٌ وحُرمَ آخرون فهذه مشيئة اللَّه وليس ما كسبته أيدينا وليس لنا حول ولا قوّة! ويُمكن أن يكون هذا مكسباً جيداً لُاولئك الذين يشكلون على أصل الدين ويعتبرونه وليداً للحركات والمشاريع الاستعمارية.
ولكن لو تأملنا في هذه الآيات والروايات وفكّرنا في أسباب ضيق الرزق وسعَته لتجلّى لنا تفسير هذه الآيات وأسرارها وسيتم القضاء على تلك الأفكار الهدّامة، ونتوصل إلى امور مهمة وقيمّة للغاية.
لقد قلنا مراراً أنَّ التعبير ب «الارادة الإلهيّة» لا يعني الإرادة التي تخلو من الحساب والكتاب، بل الإرادة الممتزجة ب «الحكمة».
إنَّ حكمة اللَّه تقتضي أنّ من يسعى ويجتهد ويُخلصُ ويُضحي أكثر، يكون رزقه أوسعُ:
«وأَنْ لَّيْسَ لِلِانْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . (النجم/ 39)
و «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ». (المدثر/ 38)
«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَايَحتَسِبُ». (الطلاق/ 2- 3)
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة خ 185.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 294
فالتقوى تؤدّي إلى سيادة العدالة الاجتماعية ومن ثمَّ تؤدي إلى سعة الرزق، كما أنّ السعي والمثابرة تُعِدُّ الأرضية اللازمة للازدهار الاقتصادي وتعتبر سبباً في سعة الرزق، وبناءً على ذلك فانَّ التعاليم أعلاه ونظراً لجذورها واصولها لا تعتبر سبباً في الخمول وترك السعي، بل إنّها من العوامل المؤثرة في السعي والاجتهاد.
والشاهد هو هذا الحديث القيّم الذي نُقل عن الإمام علي عليه السلام، حيث يقول:
«إنَّ الأشياءَ لمّا ازْدَوَجَتْ إزْدَوَجَ الكَسَلُ والعَجْزُ فَنَتَجا بينهما الفَقْر» «1».
نعم .. ففقرُ كلِّ قومٍ، نتيجة مباشرة لضعفهم وخُمولهم، وقد اقتضت الحكمة الإلهيّة أنْ يضيق الرزقُ على مثل هؤلاء.
إنَّ التَأمُّلَ في أسباب ضيق وسعة الرزق في الروايات شاهدٌ ناطقٌ آخر على القول السابق.
ومن جملة الامور التي ذكرتها في الروايات كاسبابٍ لسعة وبسط الرزق ما يلي:
صلة الرحم، نظافة الدار والأواني والجسم، مواساة المسلمين، السعي مبكراً لطلب الرزق، شكر النعمة، الاقلاع عن البخل، اجتناب اليمين الكاذبة، الاستغفار والتوبة من الذنوب، حسن النية في الأعمال، الاحسان إلى الجيران وذكر اللَّه «2».
نقرأ في حديثٍ عن النبي صلى الله عليه و آله: طيبُ الكلام يزيدُ في الارزاق «3».
وجاء في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «في سعةِ الاخلاقِ كنوز الأرزاق» «4».
وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «كَثرةُ السُحتِ يمحقُ الرزق» «5».
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة، ج 17، ص 60.
(2) بحار الأنوار، ج 73، ص 314 (باب ما يورث الفقر والغنى ، و سفينة البحار، ج 1، ص 519 و 520.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 295
لقد أَحْبَّ الإنسان على مرّ التاريخ الطيورَ وتمتَّع بتربيتها ومشاهدتها تُحلقُ فوقَ رأسهِ في السماء بشكلٍ جميلٍ، وكانت هذه الظاهرة تبعث على دهشته دائماً، وهي كيفية امكان أنْ يحلِّق جسم ثقيل في السماء ويتحرك بتلك السرعةِ خلافاً لقانون جاذبية الأرض؟!.
وليست هذه الصفة فقط بل صفات اخرى كالريش و الجناحين، التغريد اللطيف لبعضها، طراز بناء البيت والعش، تربيةِ الفراخ واطعامها، الهجرة الطويلة لقسمٍ منها، وامور اخرى من هذا القبيل كانت مصدراً لدهشته، بالرغم من أنّ تكرار هذه الحالات المثيرة أدّى وبالتدرج- إلى أن يمرَّ
بعض الناس عليها مرور الكرام.
وقد أشارَ القرآن الكريم في جانبٍ من آياتِ التوحيد إلى هذه المسألة، ودعا الجميع مشاهدة عالم الطيور، كي يَرَوْا آيات وبراهين الباري تعالى
بهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية.
1- «أَلَمْ يَرَوْا إِلىَ الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». (النحل/ 79)
2- «أَوَلَمْ يَرَوا إِلىَ الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافّاتٍ ويَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحمَنُ انَّهُ بِكُلِّ شَي ءٍ بَصِيرٌ». (الملك/ 19)
3- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ والطَّيْرُ صَافَاتٍ كُلٌ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيْحَهُ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ». (النور/ 41)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 296
4- «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا امَمٌ أَمْثالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتابِ مِنْ شَى ءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ». (الانعام/ 38)
«طَير»: جمع (طائر) وتُقال لكلِّ حيوانٍ ذي جناحٍ وريشٍ، ويحلِّقُ في الهواء، ومصدرها «الطيران» «1»
و «تَطَيَّر» تقالُ لطالع السوء الذي كانوا يستلهمونه في الجاهلية من حركة الطيور، ولكن اطلقَ فيما بعد على كل أشكال التشاؤم وسوء الطالع.
كما جاء لفظ «تَطايُر» بمعنى الحركة بسرعة أيضاً «2».
«صافّات»: من مادة «صف» وتعني وضع الأشياء في خطٍ مستقيمٍ، كالناس أو الأشجار حينما يكونون في خطٍ واحد، فعندما يُطلق هذا اللفظ وصفاً أو حالًا للطيور: «والطَّيْرُ صافّاتٍ»، فهو إشارة إلى بسط الأجنحةِ في السماء أثناء الحركة، ويعاكسها: «ويَقْبِضْنَ».
ولفظ «إصطفاف» كناية عن التسليم والطاعة المحضة والخضوع التام، وإشارة للخدمِ الذين يقفون في صفٍ واحدٍ استعداداً لتقديم الخدمة «3».
وبطبيعة الحال أنّ احتمال: «والطيرَ صافاتٍ» إشارة إلى مجموعة من الطيور التي تتحرك بشكلٍ جماعيٍّ في صفٍ أو عدة صفوف حيث تلفتُ الانتباه بتناسقها وارداً أيضاً، إلّا أنَّ عبارة
«ويقبضنَ» تمنعُ هذا التفسير.
__________________________________________________
(1) وقد قالوا إنّ مصدر هذا الفعل «طَير» أيضاً، وطيور جمع الجمع (جمع طَير) وذكر بعضهم أنّ «طيور» جمع «طائر».
(2) مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ كتاب العين؛ ومجمع البحرين.
(3) التحقيق في كلمات القرآن الكريم؛ ومفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 297
أكدت الآية الاولى على أن تحليق الطيور في جو السَّماءِ خلافاً للجاذبية الأرضية هو آيةٌ من آيات اللَّه: «أَلمْ يَرَوْا الَى الطَّيرِ مُسَخَّراتٍ فى جَوِّ السَّماءِ» «1»
.
ونظراً لطبيعة الأجسام في الانجذاب نحو الأرض فانَّ حركة الطيور في أعالي الجو تبدو شيئاً عجيباً، ويجب أنْ تُؤخذ مأخذ جدّ، فمن المسَّلم به أنَّ هناك مجموعة من المزايا لدى الطيور تمكنها من الطيران بيُسرٍ في السماء مستثمرة مختلف القوانين الطبيعية المعقّدة، إنّه لشي ء يبعث على الدهشة بلا شك.
إنّ لهذا الميدان العجيب والقوانين التي تسبب هذه الظاهرة المدهشة ربّاً قادراً حكيماً مطلعاً على أسرار العلوم، بل ليست العلوم إلّاشيئاً من القوانين التي وضعها، لهذا يقول في سياق الآية: «مَا يُمْسِكُهنَّ الَّا اللَّهُ».
ويضيف في ختام الآية: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».
وسنرى في الايضاحات التي ستأتي في نهاية هذه الآيات- إن شاء اللَّه- ما هي القوانين التي يجب أنْ تتظافر كي تحصل هذه الظاهره التي تُدعى «الطيران»، لذلك نواجه في كلِّ خطوةٍ آيةً جديدةً من آيات مُبدي ء الوجود العظيم.
والآية الثانية تتشابه مع الاولى من عدة وجوه، إلّاأنَّه يُلاحظُ فيما بينهما اختلافاتٌ أيضاً، ففي هذه الآية يدعو الناس «لا سيما المشركين» إلى تفحّص اوضاع الطيور، هذه الموجودات التي تنطلق من الأرض خلافاً لقانون الجاذبية الأرضية، وتتحرك مسرعةً بكل
__________________________________________________
(1) لقد اتخذ بعضهم لفظ «جَوّ» بمعنى الفضاء الذي يحيط بالأرض، وبعضٌ بمعنى «الهواء» قريباً كان
أم بعيداً عن الأرض، ولكن يبدو أنّ ما يستعمل عادةً هو المعنى الأول، وهو الذي يناسب الآية أعلاه حيث يمكن أن يكون مصدراً للاعجاب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 298
يُسرٍ في جو السّماء لساعاتٍ وأحياناً لأسابيع، وحتى أحياناً لعدة شهور بدون توقفٍ، حركةً مرنة وسريعةً، بنحوٍ تبرهن على أنّها لا تواجه مشكلةً في عملها.
فيقول: «أَوَلَمْ يَرَوا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ ويَقْبِضْنَ» «1»
.
فلا أحد سوى الرحمن الذي عمَّت رحمتُه كلَّ شي ء، يستطيع أن يُمسكَهُنَّ هناك: «مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرحْمَنُ».
أجل .. اللَّهُ الذي منَحها كلَّ أدوات الطيران، وعلَّمها طريقته واسلوبه، كما وضعَ قوانين وانظمةً تستفيدها فتحلّق بيسر وسهولة، فهو العليم بحاجات كل الموجودات والبصير بكلِّ شي ءٍ: «إِنَّه بِكُلِّ شَى ءٍ بَصِيْرٌ».
وابتداءً من الذرات حتى المنظومة الشمسية، والمنظومات الاخرى الجبارة، ومن النباتات والحيوانات المجهرية، حتى الموجودات العملاقة، والكل يستمر في وجوده بتدبيره جلَّ وعلا، التدبير الذي يُطلعنا في كلِّ مرحلةٍ منه على آيةٍ جديدةٍ من علمه وقدرته تبارك وتعالى وينفي كل أشكال الاحتمال بوجود الصدفةِ وقدرتها على الخلق، ويملأ القلب بحبّه والإيمان به.
ويُمكن أن يكون التعبير ب «صافاتٍ» و «يَقْبِضْنَ» إشارة إلى وضع الطير، حيث يبسطنَ أجنحتهنَّ تارةً، ويجمعنَها اخرى ويقدرنَ على الطيران من خلال هذين الفعلين، ويرِدُ هذا الاحتمال أيضاً بأنْ يكون إشارة إلى صنفين من الطيور: الطيور التي غالباً ما تكون أجنحتها مبسوطة، وتركبُ أمواجَ الهواء، وفي نفس الوقت تسيرُ في كلِّ اتجاهٍ بسرعة، فكأنّما هناك قدرةٌ خفيَّةٌ تُحركُها لا نراها بأعيننا، والطيور التي تخفق اجنحتها باستمرار أثناء طيرانها، ولبعضِ الطيور حالةٌ وسطٌ بين هاتين الحالتين أثناء الطيران «2».
__________________________________________________
(1) يقول بعض المفسرين لو تعدت «الرؤية» ب «إلى فهي تعني الرؤية الحسّية، وإذا تعدت ب «في» فهي تعني
المشاهدة القلبية والمطالعة العقلية (تفسير روح البيان، ج 10، ص 91).
(2) لماذا جاءت «صافاتٍ» بصيغة الاسم الفاعل، و «يقبضنَ» بصيغة الفعل المضارع؟ وردت تفسيرات كثيرة أفضلها: يقال إنّه عند انبساط الاجنحة يأخذ وضع الطائر نسقاً واحداً، بينما يتكرر رفيف اجنحته عند خفقانها، وهذا ما يناسب الفعل المضارع ويكسبه صفة الاستمرارية. وذُكر تفسير آخر في «الكشاف» وأيده بعض المفسرين: بأنّ منشأ هذا التفاوت ينبع من أنّ الطيران هو الحالة الأصلية الاولى للطيور، والحالة الثانية هي عرضية. غير أن الغموض يكتنف هذا التفسير.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 299
وفي الآية الثالثة نواجه صياغة جديدة بصدد الآيات التوحيدية لحياة الطيور إذ يخاطبُ النبي صلى الله عليه و آله قائلًا: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِى السمَّواتِ وَالأَرْضِ» «والطَّيْرُ صافَّاتٍ».
الطيور التي تتحرك في الجو صفوفاً، بجلالٍ وعظمةٍ وجمال ولا تتعبُ العين من مشاهدتها أبداً، فهي ترسمُ أشكالًا هندسيةً مختلفة على صفحة السماء بحيث تذهلُ الإنسان، إذ قد تطير المئات بل الآلاف من الطيور وتغيُّر طريقها باستمرار من خلالِ أمرٍ خفيٍّ من دون أن يحدث اصطدامٌ فيما بينها.
ويضيف في سياق الآية: «كُلٌ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيْحَهُ» «1»
.
نعم .. فلكلٍّ منها صلاةٌ وابتهال ومناجات ودعاءٌ وحاجاتٍ في عالمها الخاص، ولكلٍّ تسبيحه وتعظيمه وثناؤه، ومن المعروف أنَّ ذرات وجود أيٍّ منها وبناء مختلف أعضائه وحركاته وسكناته تُخبرُ عن مُبدي ءٍ عظيمٍ يجمعُ كافة الكمالات ومُنَزَّهٍ عن جميع النواقص، وهي دائمةُ التّسبيح بحمده بلسان حالها.
ويعتقد بعضهم أنَّ حمدَها وتسبيحها وصلاتها عن وعي، ويعتبرون لكلِّ موجودٍ حتى الذي نَحسبُه جماداً وبلا روح، عقلًا واحساساً، بالرغم من جهلنا به، كما نقرأ في مكانٍ آخر: «وَإِنْ مِّنْ شَى ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَّاتَفْقَهُوْنَ تَسْبِيْحَهُم». (الاسراء/
44)
وكل تفسير من ذينك التفسيرين الصحيحين يصلح أن يكون شاهداً على ادعائنا بأنَّ جميع الموجودات في هذا العالم، لا سيما الطيور التي تطير في جوِّ السماء، آياتٌ وبراهينٌ على قدْرةِ وعلم خالق الكون.
__________________________________________________
(1) هنا حيث يعود الضمير في «عَلِمَ» إلى «اللَّه» أو إلى «كلّ» هنالك جدالٌ بين المفسِّرين، ولكن ما يناسب وضع الآية هو أن يعود الضمير إلى «كل» فيعني: «كل واحد» أي أنَّ كلَّ واحدٍ من موجودات الأرض والسماء والطيور يعرف صلاته وتسبيحه جيداً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 300
ويقول في نهاية الآية: «وَاللَّهُ عَلِيْمٌ بِمَا يَفْعَلُوْنَ».
فهو يعلم كل أعمالهم ونواياهم وجميع حاجاتهم، وهنا لماذا استند في هذه الآية إلى بسط أجنحة الطيور فقط «صافات»؟ لعلَّ السبب هو هذا الوضع العجيب والمدهش حيث تستطيع أن تتحرك في جو السماء بسرعة بدون تحريك اجنحتها كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.
والاحتمال الوارد أيضاً هو أنّ الطيور تتحرك في السماء بشكلٍ جماعي بنحوٍ يبعث على الحيرة، حركة هندسية منظّمة، متناسقة تماماً، وبلا قيادةٍ ظاهرةٍ.
وأشار في الآية الرابعة والأخيرة من البحث إلى مسألةٍ جديدةٍ اخرى من عجائب عالم الطيور فقال: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلَا طائِرٍ يَطِيْرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا امَمٌ أَمْثالُكُم».
والتعبير ب «امَمْ» جمع «امهّ» يدللُ على أنَّ لها عقلًا واحساساً في عالمها، والتعبير ب «أمثالكم» يؤكد هذا المعنى أيضاً، لأنّها تشابه الإنسان في مسألة الإدراك والفهم والشعور، وهذا تأكيد مجدد للتفسير الذي ورد في الآية السابقة، بأنَّ لها تسبيحاً ودعاءً عن وعيٍ في عالمها الخاص بها «1».
إنَّ القرائن المتوفرة لدى الطيور، وباقي الحيوانات، تؤيد بأنّها ذات ذكاءٍ وشعور.
لأنَّ: أولًا: الكثير من الحيوانات تعمل بمهارةٍ ودقةٍ في بناءِ بيوتها وجمع غذائها وتربية فراخها، ورعايتها، وسعيها لسد حاجات حياتها
الاخرى بدقة ومهارة لا يُصدق معها، صدور هذا العمل عن غير عقلٍ وشعور؟.
وهي تبدي ردود فعلٍ مناسبة ازاء الاحداث التي لا تمتلك تجربةً سابقةً حيالها، فمثلًا نرى أنَّ الخروف الذي لم يَرَ ذئباً طيلة حياته له وعيٌ كاملٌ عن خطر هذا العدو ويدافع عن نفسهِ بكلِّ وسيلةٍ يستطيعها.
__________________________________________________
(1) لقد اعطى المفسرون احتمالات كثيرة في تفسير تشبيهها بالإنسان حيث يبدو أنَّ ما اوردناه أعلاه أكثر تناسباً بالرغم من عدم وجود تعارضٍ بين هذه الاحتمالات. يراجع تفسير المنار، ج 7، ص 392؛ وتفسير القرطبي، ج 4، ص 2417.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 301
لقد قاموا بتربية الحيوانات من أجل غاياتٍ مهمّةٍ، كالطيور التي تنقل الرسائل، والحيوانات التي تُرسلُ إلى السوق للشراء، وحيوانات الصيد، وكلاب الشرطة التي تستعمل للكشف عن المخدّرات، وملاحقة المجرمين وامثال ذلك، فتُربّى هذه الحيوانات بنحوٍ قد تكون أفضل وأكثر ذكاءً من الإنسان في انجاز مهمتها، حتى في هذا العصر الذي تنوعت فيه معدات كشف الجرائم لم يجدوا في انفسهم غنىً عن هذه الكلاب!.
خصوصاً أنَّ بعض الحيوانات كالنحل والنمل والأرضة، وبعض الطيور كالطيور المهاجرة، وبعض حيوانات البحر كالأسماك الحرّة التي تقطع آلاف الأميال في اعماق البحر باتجاه منشئها الأصلي أثناء وضع البيوض، تعيش حياةً دقيقةً ومليئةً بالأسرار بحيث لا يمكن نسبتُها إلى الغريزة، لأنَّ الغرائز تُعتبر عادةً مصدراً للأعمال ذات النَسق الواحد، في حين أنَّ حياة هذه الحيوانات ليست كذلك، وأعمالها دليلٌ على فهمها واحساسها النسبي.
يقول مؤلف تفسير «روح المعاني»:
أنا لا أرى مانعاً من القول بأنّ للحيوانات نفوساً ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان، والشواهد على هذا كثيرة
وليس في مقابلتها دَليل يجب تأويلها لأجله «1».
والظاهر أنّ مقصوده من الشواهد هذه التلميحات أو التصريحات التي جاءت في القرآن الكريم في قصة «الهدهد وسليمان» وكذلك «النملة وسليمان»، وكذلك الروايات التي نُقلت في تفسير آية البعث بأنَّ الحيوانات تُحشرُ وتُنشرُ وتحاسبُ يوم القيامةِ أيضاً «2».
ولكن على أيّةِ حالٍ فسواء كانت أعمالها وتصرفاتها ناتجة عن عقلٍ وإرادةٍ أو عن غريزة فلا أثر لذلك على بحثنا، فهي بأيَّ نحوٍ آيةٌ من آيات اللَّه وبرهانٌ من براهين علمه وقدرته.
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 7، ص 147.
(2) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 298.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 302
واللطيف أنّه يقول في نهاية الآية: «مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتابِ مِنْ شَى ءٍ» «1». «ثُمَّ إِلَى ربِّهِمْ يُحْشَرُوْنَ».
والتعبير ب «حَشر» يشير أيضاً إلى أنّها ذات عقلٍ وإرادةٍ نوعاً ما.
يُستفادُ من الآيات أعلاه أنَّ الطيور ومن عدة جوانب تعتبر من آيات اللَّه ولا يمكن نسبة هذه الظواهر الدقيقة والمعقدة والمليئة بالأسرار إلى الصدفة العمياء والصماء أو إلى الطبيعة التي لا عقل ولا شعور لها.
منذ سنواتٍ والإنسان يُفكر: ما هذه القوة الخفيّة التي تساعد الطيور الثقيلة نسبياً على الطيران خلافاً لجاذبية الأرض وتجعلها تطير بانسيابية ويُسرٍ ومهارةٍ في أعالي السماء، وتتنقلُ بسرعةٍ؟ ولكن باختراع الطائرة وصناعتها تمّ اكتشاف هذا السر بانَّ هناك قوة تسمى (القوة الرافعة) تستطيع أنْ ترفع الأجسام الثقيلة جدّاً وتجعلها تطير في السماء، فضلًا عن الطيور. ويمكن توضيح ذلك في عبارةٍ بسيطةٍ وخاليةٍ من المصطلحات الفنية بما يلي:
لو كان لجسمٍ سطحان مختلفان (كاجنحة الطيور أو اجنحة الطائرة حيث يكون سطحها العلوي منحنياً وبارزاً، فلو تحرك هذا الجسم افقياً ستتولد قوةٌ خاصةٌ ترفعُهُ إلى الأعلى وهذا يعود إلى أنَّ
ضغط الهواء سيتضاعف على السطح السفلي أكثر من العلوي (لأنَّ السطح العلوي أوسع من السفلي).
وتعدّ الاستفادة من هذا القانون السبب الرئيس في تحليق الاجسام الثقيلة في الجو، ولو
__________________________________________________
(1) «فَرَّطنا» من مادة «تفريط» أي التقصير في اداء العمل وتضييعه بنحوٍ يضيع (صحاح اللغة) ويردُ هذا الاحتمال أيضاً بأنَّ المقصود من عدم التفريط في هذا الكتاب السماوي يعني أنَّ للقرآن مفهوماً جامعاً حيث يشمل كافة حاجات الإنسان إلّاأنّه نظراً إلى ذيل الآية فانَّ المعنى أعلاه يعتبر أكثر مناسبة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 303
تأملنا اجنحة الطيور جيداً للمسنا هذا القانون الفيزيائي بكل دقة.
غير أنّ هذه مسألة واحدة فقط من عشرات المسائل المهمّة في الطيران، ومن أجل تصور أوسع له لابد من التطرق إلى الامور الآتية:
1- السرعة الأولية لحصول القوّة الرافعة (فالطائرة تسير وقتاً طويلًا على الأرض للحصول على هذه السرعة، أمّا الطيور فقد تركض قليلًا أو بقفزةٍ سريعةٍ في الهواء فتصل هذه الغاية!).
2- كيفية التحكم بهذه القوّة أثناء الهبوط (وهذا الأمر يجري في الطيور والطائرة بتقليل السرعة وتغيير هيئة الجناح!).
3- كيفية تغيير الاتجاه أثناء الطيران (ويتم هذا الأمر عن طريق الاستفادة من حركات مؤخرة الطائرة أو الريش الخاص في قوافي الطيور التي تحدث حركات في مختلف الاتجاهات وتسوق الطائر نحو أيِّ اتجاه).
4- اتخاذ الشكل المناسب للطيران بالنحو الذي يجعل مقاومة الهواء على جسم الطائر تصل إلى الحد الأدنى (وهذا الأمر تمَّ تأمينه من خلال الهيكل المغزلي للطيور، والرأس البيضوي، والمنقار المدبَّب والحاد، وهيئة الطائرة تقليدٌ له!).
5- أدوات التنسيق مع الطيران (وهذا المعنى متوفرٌ من خلال الريش الذي يسمح للطيور أنْ تسبح في الهواء، ووضع البيوض بدلًا من الحمل، كي لا يصبح جسمها ثقيلًا، والعيون الحادّة حيث ترى الفريسة
أو الصيد جيداً من مكان بعيد وأمثال ذلك).
6- لقد كان العلماء ولمدةٍ من الزمن يلاحظون أنَّ عجلات الطائرات علاوة على تخفيفها لسرعتها فهي لا تخلو من الأخطار أثناء طيرانها، حتى شاهدوا الطيور تجمع أرجُلَها أثناء الطيران وتفتحها قبل الهبوط بقليل فادركوا أنّه يجب الاستفادة من العجلات المتحركة التي تُجمع بعد الارتفاع، وتُفتح قبيل الهبوط!.
ولا عجب في إجراء العلماء لبحوث كثيرة ولسنواتٍ متماديةٍ على مختلف أنواع الطيور مهتمين بكيفية الطيران، والهبوط، وشكل الأجنحة والأذناب، وقاموا بصِناعةِ أنواع مختلفة
نفحات القرآن، ج 2، ص: 304
من الطائرات تقليداً لمختلف الطيور.
فهل يُمكن أن تكون الاسس الضرورية المذكورة في الطيران وليدة للطبيعة العمياء والصّماء؟ أوَليسَ جملةُ: «مَا يُمسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ» إشارة دقيقة وجميلة إلى جميع تلك الاسس؟ لا سيما وأنّ المعنى يتم بعد جملة: «إِنَّهُ بِكُلِّ شَى ءٍ بَصيرٌ».
للطيور أنواع مختلفة وعجيبة، وبعضها أكثرُ عجباً، إذ يقول بعض العلماء: شوهد 289 نوعاً من الحمام و 209 نوع من الحجل و 100 ألف نوع من الفراشة لحد الآن «1».
ويمكن ذكر «الخفاش» مثلًا من بين الطيور العجيبة، فهو يضجر من ضوء الشمس على عكس سائر الطيور، ويطير في ظلام الليل بكل شجاعةٍ وجرأةٍ وبأيّ اتجاه شاء، وجسمه خالٍ من الريشِ تماماً واجنحتُه متشكلة من جلد رقيق، وهو لبونٌ ولودٌ، فيحيضُ، ويأكل اللحم، ويقالُ إنَّ الطيور تنصبُ له العداء، كما أنّه يعاديها أيضاً! لهذا فهو يقضي حياته منعزلًا.
وحركته السريعة والجريئة في ظلمة الليل من دون أن يصطدمَ بمانعٍ تبعث على الحيرةِ، فهو يَمر من خلال انحناءاتٍ والتواءاتٍ كثيرة بدون أن يضِّل طريقه، ويوفر طعامه بدقّة أينما كان مختفياً ومن دون خطأٍ، لامتلاكه لجهازٍ خفي يشبه «الرادار».
فهو يرى بأذنه «أَجَلْ بأذنه!» لأنَّ الأمواجَ الخاصَّة التي
يصدرها من حنجرته ويرسلها إلى الخارج عبر أنفهِ ترتطمُ بكل ما يصادفها وتعود، وهو يلتقط الأمواج المنعكسة بأذنه، ويتحسسُ الوضعَ في جميع الجهات فيتجنب العقبات.
إنَّ بناءَ حنجرته وانفهِ وأذنهِ عجيبٌ، دقيقٌ لا يوجد له مثيل في أيٍّ من اللبائن.
والأمواج التي يرسلها إلى الخارج هي أمواج ما وراء الصوت، التي لا نستطيع سماعها، وفي كلِّ ثانيةٍ يرسل 30- 60 مرّة إلى كل الاتجاهات المحيطة به ويستلم ردَّها.
__________________________________________________
(1) يراجع كتاب أسرار حياة الحيوانات، ص 142 إلى 196.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 305
لقد اجروا بحوثاً كثيرة حول «الخفّاش» وأَلّفُوا مقالاتٍ عديدةً، تتشكل منها دروس حقة لمعرفة اللَّه.
ولهذا يتحدث أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في خطبةٍ معروفةٍ باسمِ «خطبة الخفّاش» عن هذا الحيوان، ويُبينُ مهارتَه ودقته في بيانهِ العظيم والبليغ، حيث يقول:
«من لطائف صنعته، وعجائب خلقته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش ...» «1»
ثم يضيف بصدده قائلًا:
«وقيل من الحيوانات من يحتضن صغاره، ويحمله تحت جناحه وربما قبض عليه بفيه وهو في حنوه عليه واشفاقه عليه وربما ارضعت الانثى ولدها وهي طائرة ...» «2».
ومن عجائب الخلق طائرٌ آخر يُسمى «الطاووس»، بريشه الجميل الذي تصيب الدهشة من يتمعن بألوانه، فكأنّما خرجَ لتوِّهِ من تحت يد رسّام ماهر مليئاً بالألوان الخلابة الزاهية الشفّافة والجذّابة، مصففاً ريشه بمظلة عجيبة التي إذا رأيتها فسوف لن تغيب عن بالك، أنّ ذلك لآية اخرى من آيات خلقِ اللَّه.
لهذا أكَّد معلمُ التوحيد ومعرفة اللَّه، الإمام علي عليه السلام في احدى خطب نهج البلاغة «خطبة الطاووس» على هذا الأمر قائلًا:
«ومِنْ أَعجبِها خلقاً الطاووس الذي أَقامَهُ في أَحكَمِ تعديلٍ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد بجناحٍ أشرج قَصَبَهُ وذنب أطال مَسْحَبَه
إذا درج إلى الانثى نثره من طيّه وسما به مطلًا على رأسه كأنّه قلع داري عنجة نوتيّةٌ يختال بألوانه ...» «3».
و «الطيور المهاجرة» من أكثر أنواع الطيور إثارة للدهشة أيضاً، فهي تقطع أحياناً كل المسافة بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي، ثم تعودُ إلى مكانها الأول، قاطعة سفراً طويلًا بعيداً قد يبلغ آلاف الأميال، والعجيب أنّها تستخدم في هذه المسافة الشاسعة آلاتٍ
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 155.
(2) سفينة البحار، ج 1، ص 403.
(3) تراجع بقية هذا الحديث في الخطبة 165 من نهج البلاغة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 306
خفية تستطيع بها تشخيص طريقها بين الجبال والغابات والصحارى والبحار.
والأعجب من كل هذا مواصلة طيرانها لعدّة أسابيع بدون توقف ليلًا ونهاراً دون الحاجة إلى غذاء، لأنّها تبدأ بالأكل قبل بداية سفرها- بدافع داخليِّ-، أكثر من الحد اللازم، وتختزن هذه الأطعمة على هيئةِ دهون في جسمها، كي تكتسب الطاقة اللازمة لهذا الطيران الطويل المستمر.
فهل تستفيد من الجاذبية المغناطيسية للأرض من أجل تشخيص طريقها؟ أو من استقرار الشمس في السماء والنجوم أثناء الليل؟ وفي هذه الحالة يجب أن تكون هذه الطيور من الفلكيين المرموقين، أو تستفيد من طريقةٍ خفيَّة اخرى نجهلها لحد الآن؟
والأهم من ذلك أنّها تنام في السماء أحياناً وهي طائرةٌ وتواصل مسيرتها نحو هدفها! كما أنّها تتوقعُ التحولات في الجو قبل حصولها من خلال تنبؤ ذاتي، فتستعد للحركة.
لعلكم شاهدتم بأعينكم أنَّ الطيور المهاجرة تتحرك بشكلٍ جماعيٍّ وتُشكِّلُ نسقاً على هيئةِ رقم 7، فهل هذا حدثَ صدفةً؟ لقد أثبتت بحوث العلماء أنَّ الطير عندما يحرِّك جَناحَيهُ في الهواء فهو يخفضه ممّا يسهل عملية تحريك جناح الطائر الذي يليه، لهذا فانَّ الطيور حينما تتحرك بالشكل أعلاه قليلًا ما
تتعب، وتختزن كميةً لا بأس بها من طاقتها، فايُّ معلِّمٍ اعطاها هذا الدرس الدقيق؟
يقول أحد العلماء: إنَّ شقاءَ وقسوة الإنسان، وغفلته وجهله لا عدّ ولا حدود لها، فيجب أن يعلَم أنَّ قتلَ الطيور يكلفه خسارةً فادحةً، ويحرمُهُ عون ونصرة أعزِّ وأغلى الاصدقاء والرفاق في صراعه مع الحشرات الضارة.
فللإنسان طريقتان في مكافحته للحشرات الضارة: إحداهما الاسلوب البدائي وهو عبارة عن إبادة اليرقات في البساتين والمزارع وقتلها، والقضاء على الجراد وحشرة المنّ، عن طريق السموم، والاخرى الصراع العلمي عن طريق «البيولوجيا» بواسطة الفايروسات
نفحات القرآن، ج 2، ص: 307
والطفيليات الخاصة التي يتم تكثيرها لهذا الغرض.
إلّا أنّه يدفعُ ثمناً غالياً في هذين الاسلوبين من الصراع ويتحملَ المتاعب والمشقة، بينما لو ترك الطيور سالمةً، وقام بتكثير الطيور التي تقتل الحشرات كالبوم، وبعض الطيور التي تتغذى على الحشرات فستكون المكافحة أسهل وافضل (وارخص).
يقول عالمٌ يُدعى «ميشيل»: «لولا وجود الطيور ستصبح الأرض فريسةً للحشرات»، ويكتبُ آخرُ يُسمى «فابر» في تأييده: «لولا وجود الطيور سيقضي القحط على البشر»!.
وتحدِّثنا الاحصاءات، بأنْ لو حصلنا على حسابات دقيقة نسبياً عن معدل اليرقات والحشرات التي تستهلكها الطيور الصغيرة سنوياً في طعامها وطعام فراخها فستتضح هذه المسألة كثيراً.
فهنالك طيرٌ صغيرٌ يُدعى «رواتوله» يأكل سنوياً «ثلاثة ملايين» من هذه الحشرات المهاجمة! وهناك نوع من الطيور يُسمى «الطائر الازرق» يأكل سنوياً «ستة ملايين ونصف المليون» من الحشرات، ويستهلك «أربعاً وعشرين مليوناً» لاطعام فراخه التي لا تقل عادةً عن اثني عشر أو ستة عشر فرخاً ...
والسنونو تطوي يومياً أكثر من ستمائة كيلو متر وتأكل «الملايين» من الذباب، وهناك طيرٌ يُدعى «تروغلوديت» يتغذى على «تسعة ملايين» حشرة منذ أن يخرج من البيضة وحتى طيرانه من العش! وغالباً ما يعتبر الناس
أنَّ الغراب الاسود مضرٌ، ولكن لو ذبحتم أحد الغربان وتفحصتم حوصلته تجدونه مليئاً بنوعٍ من الديدان البيضاء «1».
هذا جانبٌ من خدمات الطيور للمزارعين والبيئة، فافرضوا الآن لو أنّها تأخذُ نصيباً من محاصيلنا الغذائية الذي لا يساوي واحداً بالالف ممّا تستحقه من هدية! فهل يؤدّي بنا هذا إلى اعتبارها حيواناتٍ ضارةً ومؤذية؟
فَمَنْ أَوْدَعَ هذا التكليف لدى هذه الطيور بأن تتكفَّل بدورٍ مهمٍ بموازنة القوى في عالم الحيوانات والحشرات التي لها فوائدها أيضاً.
__________________________________________________
(1) نظرةٌ إلى الطبيعةِ وأسرارها، ص 195- ص 197 «مع الاختصار».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 308
يقول الإمام الصادق عليه السلام معلمُ التوحيد العظيم في الحديث المشهور ب «المفضل»:
«تأمّل يا مفضل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدّر أن يكون طائراً في الجو خفّف جسمه وادمج خلقه فأقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعل السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء وتنفذ فيه وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران وكُسيَ كله بالريش ليدخله الهواء فيقله، ولما قدّر أن يكون طعمه الحبّ واللحم يبلعه بلعاً بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان وخلق له منقار صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحب ولا يتقصف من نهش اللحم، ولمّا عدم الاسنان وصار يزدرد الحبّ صحيحاً واللحم غريضاً اعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ؛ واعتبر ذلك بأنّ عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الانس صحيحاً ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ثم جعل ممّا يبيض بيضاً
ولا يلد ولادةً لكيلا يثقل عن الطيران ...» «1».
ثمَّ يشرحُ الإمام عليه السلام بعد ذلك، الامورَ المهمّة والدقيقة الاخرى حول الطيور حيث نُعرض عنها مراعاةً للاختصار.
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 103 وما بعدها.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 309
إنَّ حياة النحل من أكثر ظواهر الخلق دهشةً، وقد اكتشفت عجائبُ عن حياة هذه الحشرة الصغيرة من خلال بحوث العلماء، إذ يعتقد البعض أنَّ حضارتها وحياتها الاجتماعية أكثر تطوراً من حياة الإنسان، فانتم لا تعثرون على أي مجتمعٍ متطورٍ قد حلَّ مشكلة «البطالة» و «المجاعة» بشكلٍ كاملٍ، إلّاأنّ هذه المسألة حُلَّت تماماً في عالم النحل (خلايا النحل)، فلا يُعثُر في هذه المدينة على زنبورٍ عاطلٍ عن العمل أو زنبور جائعٍ أيضاً.
فبناء الخلية، وكيفية جمع رحيق الورود، وصناعة العسل وخزنهِ، وتربية الصغار واكتشاف المناطق المليئة بالأزهار، واعطاء عنوان السكن لباقي النحل، والعثور على الخليّةِ من بين مئات أو آلاف الخلايا كل ذلك دليلٌ على الذكاء الخارق لهذه الحشرة.
إلّا أنّ من المسلَّم به أنَّ الإنسان لم يكن يمتلك مثل هذه المعلومات عن النحل سابقاً، ولكن القرآن الكريم أشار في السورة المسماة باسم هذه الحشرة «النَّحل» باشاراتٍ مليئةٍ بالمعاني إلى الحياة المعقَّدة والمدهشة لهذه الحشرة.
بهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية:
1- «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلىَ النَّحْلِ أَنِ أتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ومِنَ الشَّجَرِ ومِمَّا يَعرِشُونَ». (النحل/ 68)
2- «ثُمَّ كُلىِ مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ فَاسلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرابٌ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 310
مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيْهِ شَفاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ». (النحل/ 68- 69)
«النَحْل»: اسمُ زنبور العسل و «نِحلَة» (على وزن قِبلة) تعني العطاء بلا عوض، ومفهومها محدودٌ أكثر من مفهوم الهبة، لأنَّ «الهبة» تشمل العطاء بعوض وبغير عوض بينما تشمل النحلة العطاء بلا عوض فقط، و «نحول» تعني الضَعف، تشبيهاً بُهزالِ زنابير العَسَلِ، و «نواحل» تطلق على السيوف الحادة «الرفيعة».
وقد يُحتمل أنّ المنشأ الاصلي ل «نِحلة» يعني العطاء، وإذا اطلقَ على
زنبور العسل «نَحل» فلأنّه يصطحبُ معهُ عطاءً وهبةً حلوةً لعالم الإنسانية. «1»
و (أوْحى : من مادة «وحي» ولها معانٍ كثيرة وقد ذكرنا شرحها في الجزء الأول من «نفحات القرآن» في بحث «مصادر المعرفة»، وأصلها يعني «الإشارة السريعة» وبالنظر إلى أنَّ أمر اللَّه تعالى فيما يتعلق بالنشاطات المختلفة والمعقّدة للنحل قريب الشبه من الإشارة السريعة أو الالهام القلبي فهذا المعنى استُخدمَ أيضاً فيما يخص النحل، لأنَّ جميع هذه الأعمال المعقّدة قد تُنجز من خلال إشارةٍ الهية سريعة.
لقد استند القرآن الكريم في آيات عديدة إلى جوانب مختلفة من حياة النحل حيث كلٌ منها اعجبُ من الآخر، فقد أشارَ أولًا إلى مسألة بناء بيوتها، قائلًا: «وَأَوْحَى رَبُّكَ الى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبالِ بُيُوْتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ».
وقد يكون التعبير ب «اتَّخذي» بصيغة الفعل المؤنث إشارة إلى أنَّ النَّحلَ عندما يهاجر
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 311
لاختيار بيتٍ جديدٍ فهو يسير خلف «الملكة» التي هي بمنزلة القائد في الخليّة، وعليه فانَّ المتنفذ الحقيقي هي «الملكة».
والتعبير ب «أوحى تعبيرٌ جميلٌ حيث يبرهنُ على أنَّ اللَّه تعالى قد علَّمَ هذا الحيوان طراز بناء البيت الذي يُعدّ من أروع أعمال هذه الحشرةِ بواسطةِ الهامٍ خفيٍّ وسيأتي شرحه في «التوضيحات» إن شاء اللَّه، وهي تقوم بانجاز واجباتها على أفضل وجهٍ وفقاً لهذا الوحي الإلهي، فقد تختار صخور الجبال، أو بطون الكهوف لبناء بيوتها، وتضع الخلية بين أغصان الأشجار أحياناً، وقد تستخدم الخلايا الاصطناعية التي يصنعها الإنسان لها على القصب، أو أنّها هي التي تقوم ببناء البيت على القصب.
إنَّ ألفاظ الآية تدللُ جيداً على أنَّ بناء البيت هذا ليس بناءً عادياً وإلّا لما عبَّر عنه القرآن بالوحي، وسنرى عاجلًا أنَّ
الأمر هكذا.
وفي الآية الثانية توجَّه نحو صناعة عسل النحل مضيفاً: أنَّ اللَّه قد أوحى لها أن تأكل من جميع الثمار: «ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ» «واقطعي الطرق التي يَسَّرها وسخَّرها لكِ ربُّكِ لتكوين العسلِ الحلو»: «فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا».
«سُبُل»: جمع «سبيل» وتعني «الطريق اليسير» «1»
.
وهنا: ما المقصود من هذه السُبُل في الآية أعلاه؟ لقد أبدى المفسِّرون احتمالات مختلفة:
فقال بعضهم: المقصود هي الطرق التي يطويها النَّحلُ نحو الأزهار، والتعبير ب «ذُلُل» (جمع «ذلول» وتعني التسليم والطاعة) «2» يدللُ على أنَّ هذه الطرقَ تُعيَّنُ بدقةٍ بحيث يكون ارتيادها سهلًا وعاديّاً للنحل؛ وتؤيدُ دراساتُ خبراء النحل هذا المعنى أيضاً، فهم يقولون:
__________________________________________________
(1) كما أوردها الراغب في المفردات.
(2) من الممكن أن تكون «ذللًا» حالًا ل «سبل»، أو ل «النحل»، ويبدو أنَّ الاحتمال الأول اكثرُ صحةً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 312
تخرجُ مجموعةٌ من النحل مكلفةٌ بتشخيص مكان الأزهار صباحاً، من الخلّيةِ، وبعد اكتشاف المناطق المليئة بالأزهار ترجع، وتعطي للباقين العنوان الكامل لذلك المكان بشكلٍ سريٍّ ومدهش، وقد تشَخِّصُ الطريق بوضعها علاماتٍ عليه متكونة من موادٍ ذات رائحةٍ خاصةٍ، وبنحوٍ لا تضل أيّة نحلة باتباعها.
وقال بعضهم الآخر أيضاً: إنّ المقصود هو طريق العودةِ إلى الخلية، لأنَّ النحلَ قْدَ يُجبَر على قطع مسافاتٍ طويلةٍ، ولا يبتلى بالتيه عند عودته، فهو يتجه نحو الخليّة بدقةٍ، بل وأنّه يعثر على خليته بيُسرٍ من بين عشرات الخلايا المشابهة.
وقال آخرون: إنَّ «السُبُلَ» هنا لها معنىً مجازيٌّ فهي تشير إلى الاساليب التي يتبعها النحلُ لإعداد العسل من رحيق الأزهار، فهي تمتص رحيقَ الأزهار بنحوٍ خاصٍ ترسله «حوصلتها» وهناك حيث تكون كمختبرٍ للمواد الكيميائية يتبدل إلى «عسلٍ» من خلال التغييرات والتطورات التي تجري عليه، ثم يستخرجه
الزنبور من حوصلته.
أجَلْ .. إنّه يعرف الاسلوب اللازم لاجراء هذا العمل جيداً، من خلالِ أمرٍ إلهيٍّ فيسلكُ هذا الطريق بدقّة.
ونظراً إلى أنّ هذه التفسيرات الثلاثة لا تتعارض فيما بينها وكون ظاهر الآية عاماً، فيمكن القول: بشمول جميع هذه المفاهيم، إذ يقطع النحل هذه الطرق الملتوية والمنحنية بالاستفادة من الشعور الذي منحه اللَّه له، أو بالالهام الغريزي، ويستخدم هذه الأساليب بكل مهارةٍ واقتدار.
وفي المرحلةِ الآتية أشار إلى صفات «العسل» وفوائده وبركاته قائلًا: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُوْنِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ».
وقد حَمَل بعضهم التعبير ب «بُطُوْنِ» (جمع بطن) على معنى مجازيٍّ وقالوا: إنّها تعني الأفواه، وقالوا إنَّ العَسَل الذي هو رحيق الأزهار مخزون في فم النَّحل ثم ينتقل إلى الخليّة «1».
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 372.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 313
بينما يعتقد بعضهم أنَّ العسل هو فضلات النحل!
ويعتبره بعضهم الآخر من المسائل الخفيّة التي لم تُكتشف لحد الآن «1».
ولكن بحوث العلماء برهنت على عدم صواب أيٍّ من هذه الآراء- كما أشرنا-، بل إنّ النحلَ يُرسلُ رحيق الأزهار إلى مكان خاصٍ في جسمه يسمى «الحوصلة» وبعد أن يجري عليه تغييرات وتطورات يقذفه خارجاً من فمه «2».
والتعبير ب «بُطون» شاهدٌ على هذا المعنى واجلى منه التعبير ب «كُلي»، لأنَّ العربَ لا يقولون لحفظ الشي ء في الفم «أكل» أبداً، وحمل هذه الجملة على المجاز تفسيرٌ مجازيٌ لا ضرورة له.
وأمّا المقصود من «ألوان مختلفة» هنا فهي ذات تفاسير متباينة أيضاً، فقد اعتبرها بعضهم بمعنى هذا «اللون» الظاهري الذي يتفاوت فيه العسل فبعضه أبيضٌ شفاف، وبعضٌ أصفر، والآخر أحمر اللون، وبعضُه يميلُ إلى السواد، ويمكن أن يكون هذا التباين مرتبطاً باختلاف أعمار النحل، أو مصادر الأزهار التي يتغذى عليها، أو كليهما.
وقد
احتملَ أيضاً أن يكون المقصود من هذا التفاوت (نوعية) العسل، فبعضٌ غليظ، وبعض خفيف، أو أنّ عسلَ الأزهار المختلفة له آثار ومزايا مختلفة أيضاً، كما يختلف العسل العادي كثيراً عن «الشهد» (العسل الخاص الذي يُصنع لملكة الخليّة)، لأنَّ المشهور أنَّ ل «الشهد» قيمةً من الناحية الغذائية بحيث يزيد كثيراً في عمر الملكة ولو تمَّكنَ الإنسان أن يتغذى عليها فإنّها تتركُ اثراً عميقاً في طول عمره.
وفي بعض البلدان هناك حدائق من ورودٍ متشابهة حيث تُنصب فيها الخلايا الخاصة بالنحل، وبهذا تُستخلص أنواع مختلفة من العسل كلٌ منها مستخرجٌ من زهرٍ خاص، ويتمكن الراغبون من شراء العسل من الورد الذي يرغبونه، وبهذا نواجه ألواناً مختلفةً من
__________________________________________________
(1) وفي تفسير القرطبي ينقل عن ارسطو أنّه صَنَع خليَّةً من الزجاج كي يرى كيفية صناعة العسل غير أنَّ النَّحلَ كان يُعتِّمُ الزجاجة لكي لا ينكشف السر حينما يريد مزاولة عمله (المصدر السابق ليرى .
(2) تربية النحل، لمحمد مشيري، ص 113؛ وكتاب نظرة على الطبيعة وأسرارها، ص 126.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 314
العسل تدخل في المفهوم الواسع والعام للآية.
والتعبير ب «شراب» جاء لأنَّ العرب لا يستخدمون لفظ «أكل» بخصوص العسل كما يقول بعض شّراح لغة العرب، ويُعبر عنه بالشرب دائماً (ولعلَّه بسبب أنَّ العسلَ في تلك المناطق يكون خفيفاً) «1».
وفي الختام أشار إلى تأثير العسل في العلاج قائلًا: «فِيْهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ».
والتعبير ب «شفاء» بصيغة النكرة، إشارةٌ إلى أهميّته الفائقة، وكما سيأتي في التوضيحات إن شاء اللَّه، فللعسل الكثير من المزايا العلاجية الجاهزة التي تحتوي عليها الأزهار والنباتات الطبية الموجودة على الكرة الأرضية، وقد ذكر العلماء لا سيما في هذا العصر خصائص عديدة له تشمل الجانب العلاجي وجانب الوقاية من
الأمراض أيضاً.
فللعسل تأثيرات مذهلة في علاج الكثير من الأمراض وهذا يعود إلى الفيتامينات والمواد الأساسية التي يحتويها، حيث يمكن القول: (إنَّ العسلَ يخدم الإنسان علاجياً وصحيّاً وجمالياً).
وفي نهاية الآية أشار إلى الجوانب الثلاثة الآنفة (بناء خلية النحل، طريقة جمع رحيق الأزهار وصناعة العسل، وخصائصه العلاجية) فيقول: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
وعليه ففي كل مراحل حياة النحل، واستخراج محصول هذه الحشرة الذكية والمثابرة، تظهر للعيان آيةٌ بل آياتٌ لعلمِ وقدرة الخالق جلَّ وعلا الذي ابتدعَ مثل هذه الظواهر المذهلة.
مع اتساع علم الحيوان وعلم الاحياء والدراسات المستفيضة للعلماء تم اكتشاف
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 14، ص 168.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 315
مسائل عجيبة وحديثة عن حياة هذه الحشرة الصغيرة أذهلت الإنسان بشدة، ولا يُصدَّق أبداً بأنْ يسودَ حياة النحل مثل هذا النظام والتدبير والتخطيط بلا أيِّ احساسٍ طبيعيٍّ.
يقول أحد العلماء المختصين بعلم الاحياء ويدعى «مترلينغ» الذي كانت له دراسات كثيرة على مدى سنوات طويلة حول حياة النحل، والنظام العجيب الذي يحكم ممالكها يقول: «إنَّ الملكة في مدينة النحل ليست هي الزعيم كما نتصورها، بل هي كسائر أفراد هذه المدينة تخضع لسلسلةٍ من القوانين والأنظمة العامة أيضاً».
ثم يضيف: «نحن لا نعرف مصدر هذه القوانين وبأيّة طريقةٍ توضعُ، ونحن ننتظر اليوم الذي نتوصل فيه إلى معرفة واضع هذه المقررات، إلّاأننا نطلقُ عليه حالياً اسم «روح الخليّة»، ولا ندري أين تكمنُ «روح الخليّة» وفي أيٍّ من سكان الخلية حلَّت، إلّاأننا نعرف أنَّ الملكةَ كالآخرين تطيعُ روح الخلية أيضاً»!.
«إنّ روحَ الخليّةِ لا تشبه غريزة الطيور، ولا تعمل بآليةٍ وإرادةٍ عمياء، فهي تشخصُ تكليفَ كلِّ واحدٍ من سكان هذه المدينة العملاقة حسب قابليته وتعطي لكلٍّ منها واجباً،
فقد تأمُر مجموعةً ببناء البيت، وأحياناً تُصدر أمرَ الرحيل والهجرة»
«والخلاصة إننا لا نستطيع إدراك أنَّ قوانين مملكة النحل التي توضع من قبل روح الخليّة هل ستطرح في «مجلس شورى ويُصادقُ عليها ويتخذُ القرار بتنفيذها؟، ومَنْ الذي يُصدرُ أمرَ الحركةِ في اليوم المحدَّد»؟! «1»
إلّا أنَّ القرآن الكريم أعطى جواباً لجميع هذه التساؤلات بتعبيرٍ جميلٍ ودقيقٍ جدّاً إذ يقول: «وَأَوْحى رَبُّكَ الَى النَّحْلِ»!
وهو نفس التعبير الذي ذكرَهُ بخصوص الأنبياء (عليهم السلام)، صحيحٌ أنَّ هذا الوحي يختلف عن ذلك الوحي كثيراً، إلّاأنّ تناسقَ التعبير دليلٌ على أهميّة العلم الذي أودعه اللَّه لدى النَّحل، كي يدعو مفكّري العالم إلى دراسة أوضاعها.
فمن المسلَّم به أنَّ بناء خلية النحل يجري بالهامٍ الهيٍّ، لأنَّها تبني تشكيلات سداسيّة
__________________________________________________
(1) كتاب النحل، تأليف مترلينغ، ص 35 و 36 مع الاختصار.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 316
منظمة واسعة من كمية قليلةٍ من الشمع (حيث يمكن استغلال جميع زواياه ويكون مقاوماً أمام الضغط أيضاً) وتتكون بيوتها من طبقتين، وعندما تبني بيتاً في الجبال أو على الأشجار فهي تقتصر على هاتين الطبقتين إلّاأنّها تضيفُ طبقتين اخريين في الخلايا الاصطناعية وبما يمكن استيعابه منها.
ويتخذ قعر البيت شكلًا هرمياً حيث يتألف من ثلاثة سطوح لوزية الشكل ويغور الرأسُ والأجزاء البارزة بكل طبقةٍ في قعر الطبقة السفلى
وقد أثبتت التجارب أنّه لو كان سطح الشمع مربع الشكل أو باي شكل آخر وصُبَّ في قوالب اصطناعية ووُضعَ النحل في داخله فسوف لا يرتضي مثل تلك الجدران غير المطابقة للمواصفات، بل يرفع الجدران إلى الأعلى ويعيدها إلى وضعها الصحيح.
لقد قاسَ أحد العلماء، قعر بيت النحل، فكانت زاويته الكبيرة تُقدرَّ ب 9. 1 درجة و 28 دقيقة، ثم طرحت هذه المسألة على مهندسٍ
الماني كبيرٍ يُدعى «كنيك» كسؤالٍ عامٍ بأن لو أراد إنسان بناءَ هرمٍ بأقلِ كميةٍ من مواد البناء وباكبر ظرفية بحيث يتشكل من ثلاثة سطوحٍ لوزية فما مقدار زواياه؟.
فقام بحلَّ هذه المسألة المعقدة بالاستعانة بحساب «ديفرانسيل» وكتب في الجواب، مائة وتسعة درجات وستة وعشرين دقيقة بدونٍ علمٍ منه بأنَّ هذا يرتبط ببيت النَّحل ومتفاوت معه بدقيقتين فقط.
ثم تلاهُ مهندسٌ آخر يُدعى «ماغ لورن» فاجرى حساباتٍ دقيقةً وتأكَّدَ بأنَّ تلك الدقيقتين كانتا نتيجة لاهمال المهندس الأول، والجواب الصحيح كما فى عمل النحل»! «1»
ينقل العالم البلجيكي المعروف «متر لينع» في كتاب «النحل» عن أحد العلماء ويُدعى «رأيت» ما يلي: لدينا ثلاثة طرق علمية فقط في الهندسة لتقسيم الفواصل المنظمة وربطها وتكوين الأشكال الكبيرة والصغيرة، وهذه الطرق الثلاثة عبارة عن (المثلث القائم الزوايا) و (المربّع) و (المسدَّس) وتستخدم الطريقة الثالثة أي «المسدَّس» في بناء غرف النحل،
__________________________________________________
(1) تفسير روح الجنان هامش المرحوم الشعراني، ج 7، ص 123 «مع شي ء من الاختصار».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 317
وهذا الشكل أكثر ملاءمةً لاستحكام البناء (لأننا لو دققنا قليلًا نجد أنَّ الشكل السداسي يشبه الأقواس من جميع الجهات حيث يمتلك الحد الأقصى لمقاومة الضغط، بينما تتضرر المثلثات والمربعات أمام الضغط كثيراً).
بالإضافة إلى أنَّ جسمَ النحل اسطواني الشكل تقريباً ويتلاءم كثيراً مع الخروج والدخول في مثل هذه البيوت.
على أيّةِ حالٍ، كلَّما تحققّنا بخصوص ما أشار إليه القرآن الكريم في مسألة بناء بيت النّحل نحصل على مسائل عجيبةٍ جديدة، تجعلنا نعظم خالق ومبدع ومرّبي هذه الحشرة العجيبة.
الأمر الثاني الذي استند إليه القرآن هو جمع العسل من رحيق الأزهار، وهو من المسائل المدهشة والمحيّرة حقاً.
يقول بعض العلماء: يجب أن تسافر 50 الف نحلة من أجل
إعداد كيلو غرام واحد من العسل!.
وتؤكد حسابات العلماء أيضاً أنّه من أجل اعداد كيلو غرام واحد من الرحيق يجب أن يَمتصَ النحل سبعة آلاف وخمسمائة زهرةٍ كمعدلٍ ويستخرج رحيقها (وطبقاً لهذه المعادلة يجب امتصاص 5، 7 مليون زهرةٍ لاعداد كيلو غرام واحد من العسل!) «1».
ولابدّ أن نعلمَ أيضاً أنَّ النَّحلَ يسافر يومياً حوالي 17- 24 مرّة من أجل جمع رحيق الأزهار.
ولا عجب أن نعلم أنّ النَحْلَ لم يَذق طعمَ الراحةِ طول عمره، وأنّه لا يرى النومَ أبداً، فهو يقظٌ طول عمره! «2».
__________________________________________________
(1) تربية النحل، ص 112.
(2) المصدر السابق، ص 115.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 318
ومن أجل أن ندرك العَمَلَ المرهق لهذه الحشرة الكادحة يجب أن نقول انَّهُ يتعين على النحل أن يسافر 80 ألف مرّة ذهاباً واياباً على الاقل من أجل كل اربعمائة غرام من العسل الذي يَحصل عليه، ولو ربطنا هذا الذهاب والاياب معاً وقدَّرنا مسافةَ كلِّ مرةٍ (كمعدل) بكيلو مترٍ واحدٍ، ستكون المسافة التي يقطعها النحل من أجل الحصول على اربعمائة غرام من العسل تعادل ضعفَ محيط الكرة الأرضية، أي أنَّ هذه الحشرة الكادحة تقطع مسافة ما يعادل ضعف محيط الكرة الأرضية من أجل جمع شرابٍ يُصنعُ من اربعمائة غرام من العسل! «1».
ومن الضروري الانتباه إلى هذه النكتة وهي أنَّ معظمَ الأزهار لا تمتلك الرحيق باستمرار كي يستطيع النحل امتصاصه، بل إنّها تقدّمُ رحيقها مرةً واحدةً في اليوم وفي ساعاتٍ معينةٍ تتبع نوع الزهرة، فبعض الأزهار تعطي رحيقها صباحاً، وبعضها ظهراً، وبعضها الآخر بعد الظهر، والعجيب أنّ النَّحلَ يعرف هذه البرامج جيداً فيتوجه نحو الأزهار وفقاً لها تماماً فلا يذهب وقته هدراً! «2».
و حريٌ بالإنسان أن يخجلَ عندما يشاهد هذه الأرقام
والاعداد في مجال جمع العسل وعدد مرات الطيران وعدد الأزهار المستهلكة من أجل غرامٍ واحدٍ من هذه المادة الغذائية المهمّة، ولكن لو فكَّر بامعان في نفس الوقت بعظمة خالقِ هذه الحشرة الكادحة وتَحقَّقَ بعلمه وقدرته لخضع امامه مؤدياً شكر هذه النعمة، ويُمكن أن يكون كل ذلك مقدمةً لهذه الغاية السامية.
والنكتة الاخيرة التي يجب أن نذكرها ونغلقَ هذا الملف الكبير قبل أن نخرج عن مضمون البحث التفسيري، هي أنَّ النحل علاوةً على امتصاصه للرحيق فهو مكلَّفٌ بجمع «الحبوب الصفراء» للأزهار المسماة «بولن» ومزجها مع العسل.
ولهذه الحبوب آثار حياتية فائقة، فهي تحتوي على 21 نوعاً من حامض الامونيك
__________________________________________________
(1) عالم الحشرات وفقاً لنقل عجائب الخلق، ص 143.
(2) الحواس الخفية للحيوانات تأليف فيتوس دروشر، ص 157 (مع الاختصار).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 319
وأنواع الزيوت، وهورمونات النمو، والسكَّر، والانزيمات، كما تستخدم عصارة الحبوب تلك في معالجة الالتهابات والاورام المزمنة التي تعجز المضادات الحيوية عن علاجها، كما أنّ لها آثاراً منشطّة أيضاً «1».
وللأرجل الخلفية للنحل نتوءات كأسنان المشط يثير بها غبار الأزهار، ويصنع منه ذرات كروية، وهنالك أيضاً إلى جانب تلك النتوءات ما يشبه «السلّة» وآخر يشبه «الملقط» حيث يجمع ذرات غبار الورد هناك ويحفظها، وحينما يعود إلى الخليَّة يجلب معه بالاضافة إلى رحيق الأزهار كرتين صفراوين كانتاج لعملهِ اليومي «2».
لقد تحدثَ القرآن الكريم في الجزء الثالث من الآيات المذكورة عن مسألة التأثير المهم للعسل في شفاء المرضى بتعبير مختصر وغامض ويتم في هذا العصر كشف النقاب عن أسراره من خلال دراسات المختصين بعلم الغذاء، إذ يذكر هؤلاء مزايا وآثاراً لا تُحصى للعسلِ تبعث على دهشة الإنسان.
فهم يقولون: إنَّ العسلَ مادةٌ لا تفسد أبداً وتبقى صالحةً لآلاف
السنين فيما إذا كان صافياً، لأنّ اي مكروب لا يمكنه أن يعيش فيه أبداً «3».
وقد عُثرَ في قبور الفراعنةِ على ظروفٍ من العسل تعود إلى آلاف خلت من السنين، وقد بقي هذا العسل صالحاً وطبيعياً بشكل كامل، وهذا بحد ذاته دليلٌ على صدق الادعاء أعلاه.
العسل ونظراً لأنّه يُستخرج من رحيق الأزهار المختلفة (ونحن نعلم أنّ كل نوع من
__________________________________________________
(1) الجامعة الاولى ج 5، ص 57 إلى 59 (مع الاختصار).
(2) نظرة على الطبيعة وأسرارها، ص 127.
(3) مجلة السلامة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 320
الأزهار يحتوي على مواصفات علاجية خاصة) فيمكن أنْ يحمل معه صفات هذه الأزهار.
يقول العلماء: يعتبرُ العسلُ مادةً حيَّةً بسبب احتوائه على الفيتامينات و «الانزيمات» و «حامض الفورميك» فهو يحتوي على الفيتامينات: أ، ب، ث، د، ك، آي، ومواد معدنية كالبوتاسيوم، والحديد، والفسفور، و «الرصاص» و «المنغنيز» و «الالمنيوم» و «النحاس» و «الكبريت» و «الصوديوم» ومواد اخرى متفرقة، وكذلك يحتوي على مختلف الحوامض «1».
ونحن نعلمُ أنَّ لكلٍّ من هذه المواد الحياتية دوراً اساساً في حياة الإنسان، ولهذا فانَّ العسلَ يحتوي على المواصفات الآتية:
يؤثر العسل في تركيب الدم.
للعسل أثرٌ جيدٌ في ازالة التعب وتقلص العضلات.
يحدُّ العسل من حدوث الالتهابات في المعدة والامعاء.
ويؤدّي إلى أن يتمتع الوليدُ بجهازٍ عصبيٍّ متينٍ إذا ما تناولته المرأة الحامل.
والعسلُ مفيدٌ لمن لديهم جهاز هضمي ضعيف.
ويعتبر العسلُ مُرَمِّماً قوياً.
ويؤثر في تقوية القلب.
ويولدُ العسلُ طاقةً لا بأس بها لدى المسنّين.
ينفع لعلاج قرحة المعدة والاثني عشري.
ويفيدُ العسلُ لعلاج مرض الربو «ضيق التنفس».
ويعتبر عاملًا مساعداً في علاج الأمراض الرئوية.
ويعتبر دواء لعلاج مرض الروماتيزم، وضعف نمو العضلات، والمتاعب العصبية.
ويعدّ العسلُ مفيداً للمصابين بالاسهال نظراً لميزته في قتل الجراثيم.
__________________________________________________
(1) الجامعة الاولى ج 5،
ص 129 (مع شى ء من الاختصار).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 321
وتُصنعُ منه ادويةٌ تؤثرُ في نعومةِ وجمال الجلد وازالة الحروق والتجعدات.
ويُصنع من العسل دواءٌ يعالج ورمَ الفم ويُعطرُ التنفس.
ويستثمر العسل أيضاً في معالجة ذبول الجلد، والتشققات، والحروق، والرَّمد، واللدغات المؤلمة للحيوانات، وورم العين، والسعال.
وقد قام بعض العلماء بصناعةِ اقراصٍ من رحيق الأزهار تحتوي على مواصفاتٍ تشبه مواصفات العسل واهم آثارها مضاعفة طاقة الشباب وتنشيط الخلايا ومن ثمّ يؤدّي إلى الراحة وطول العمر «1».
ولهذا فقد عُرِف أنَّ «فيثا غورس» كان يوصي طُلّابَه «كلوا العَسَلَ والخبز ما استطعتم» وكان «بقراط» يقول: «لو أردتم عمراً طويلًا فعليكم بالعسل».
إنَّ الآثار المنشّطة والخواص العلاجية والترميمية للعسل أكثر ممّا تمّ بحثه في هذا المختصر، حتى دوَّنَ بعضُ العلماءِ كُتباً مستقلةً حول الميزات الغذائية والعلاجية للعسل.
وقد جمع القرآن الكريم كل هذه المطالب في جملة: «فِيهِ شَفَاءٌ لِلنّاسِ» بشكل دقيق.
ولا عجب إن كانت لدغة النحل والسم الموجود فيها علاجاً للكثير من الأمراض أيضاً، كالروماتيزم، والملاريا، وتضخم الغدة الدرقية، وألم الأعصاب، وبعض أمراض العين، وغيرها، ويجب أن يكون التداوي بوخز النحل حسبَ برنامجٍ خاصٍ وبإشراف الطبيب، فمثلًا في اليوم الأول مرّة واحدة، وفي الثاني اثنتان، وحتى اليوم العاشر يستفاد من عشرة زنابير، وتلك هي المرحلةُ الاولى من العلاج، وأما في المراحل الثانية فيتخذ العلاج شكلًا آخر، وإذا تجاوز وخزُ النحل الحدَّ المعينَّ فمن الممكن طبعاً أنْ تتمخض عنه أخطارٌ، كما أنّ قليلُهُ مضر بالأشخاص الذين لديهم حساسية اتجاهه.
لقد كتبَ بعضُ العلماء مقالةً أو مقالاتٍ بهذا الخصوص، واختار بعضهم رسالته للدكتوراه تحت عنوان «مستخرجات سمِّ النحل وخواصها العلاجية» «2».
__________________________________________________
(1) الجامعة الاولى ج 5، ص 212- 290، نشرة الطب والدواء وكتب اخرى
(2) المصدر
السابق، ص 174.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 322
إنَّ حياة النحل مليئةٌ بالعجائب والاحداث، وما تحدثنا عنه لحد الآن كان جانباً منها، فقصة بناء الشمع- تلك المادة التي يُشيد منها بيت النحل بشكلٍ كامل- بحد ذاتها قصةٌ مفصَّلة، والعجيب أنّها لا تستثمر هذا الشمع لبناء البيت فقط، فقد تقوم بتحنيط اجساد الحشرات المؤذية التي لا تستطيع دفعها إلى الخارج كي تأمنَ شرَّها!.
يقول أحد خبراء النحل: أنّه لفت انتباهه في أحد الأيّام وجود كرة كبيرة نسبياً داخل خلية نحل، وعندما فتحها وجد فيها جثة جرادةٍ حنَّطها النحل.
وقال بعضهم عن الشمع، أنّه روح العسل والعسل روح الزهر وهو خفيف، بحيث إنّ وزن خمسمائة بيت من مدينة النحل لا يتجاوز بضعة غرامات، ولا شكَّ في صعوبة معرفتنا بكيفية ترشح هذا الشمع بالنسبة للنحل، غير أننا نعرف جيداً أنَّ للشمع استعمالًا هاماً.
وعملية تلقيح وحمل الأزهار، من أهم أعمال النحل.
يقول أحد العلماء: «لولا وجود الحشرات، لخلت سلالُنا من الفاكهة، لأنَّ الحشرات التي تستفيد من الأزهار يمكن أن تلقحها افضلَ من بقية عوامل نقل حبوب اللقاح، فعندما تمدُ احدى الحشرات التي تعشقُ الأزهار خرطومَها في الزهرة، فهي إمّا أنْ تُدخلَ اغلبَهُ، أو أنْ تُدخلَ جزءاً من جسمها في الزهرة كما يحدث غالباً، وفي خروجها يتغطى جسمُها بالغبار ذي اللون الأصفر وهو غبار الورد، فتنقله مباشرة إلى زهرةٍ اخرى وكما نعلم- أن غبار الأزهار عاملٌ مؤثرٌ فلا تتبدل البذور إلى حبوب، ولا المبيض إلى ثمار بدونه.
وهذه النكتة جديرةٌ بالاهتمام من الناحية الفلسفية إذ إنَّ الحشرات التي تعشق الأزهار تميل إليها منذ بدء التكوين ... كلٌ منها بموازاة الاخرى ينمو ويتكامل، وقد وصل الحال بها اليوم إلى عدم قدرتها على الحياة منفصلة عن
بعضها ... ومن أهم الحشرات التي تعشقُ الأزهار- ولابدّ أنّكم تعرفونها- هي: الفراشة، والنحل، والزنبور الذهبي و ... لكن النحل أكثرُ استعداداً وتجهيزاً من بين هذه الحشرات لاخراج الغبار والرحيق من الأزهار» «1».
__________________________________________________
(1) نظرة على الطبيعة وأسرارها، ص 126.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 323
ومن الضروري الانتباه إلى أنّ الأشجار التي تحتوي على الأزهار الذكرية والانثوية صنفان: الأشجار العقيمة غير المثمرة، والأشجار المثمرة التي لها القدرة على ذلك.
ومن أجل تكون الثمار في الصنف الأول لابد من وجود واسطةٍ للتلقيح، وهذه الواسطة عبارة عن النحل، وقد ثَبُتَ أنّ 80 خ من عملية تلقيح الأزهار يجري عن طريق النحل، ومن أجل المزيد من الاطلاع على دور النحل يجب الانتباه إلى أنّ جميع أنواع التفاح، والاجاص، والكرز، واللوز وأمثالها تعتبر من الأشجار العقيمة!
وقد واجهت المساعي التي بُذلت بصدد إجراء التلقيح بالطرق الكيميائية والميكانيكية والاصطناعية فشلًا ذريعاً، ومن هنا يتضح دور النحل «1».
ويضيف العلماء: «إنَّ النحل يساعدنا بكلفة لا تقل عن مائتي الف درهم في الزراعة مقابل كل الف درهم من العسل والشمع الذي يصنعه لنا»! «2».
ونختم هذا الحديث بجملةٍ عجيبةٍ عن «متر لينغ» استاذ علم البيئة، بقوله: «لو هلك النحل (سواء الوحشي منه أو الأليف)، فسيَفنى مائةُ الفِ نوع من النباتات والأزهار والثمار وما يدريك بأنْ لا تزول حضارتنا أصلًا»!! «3».
إنَّ تركيب النحل ذاته ذو قصةٍ طويلةٍ ومدهشةٍ وعيونها بالذات اكثرُ عجباً إذ يقول العلماء: تتألف عيون النحل من الفين وخمسمائة طبقة صغيرة! تُشكِّل مع بعضها زاوية من 2- 3 درجة، وهذه العيون قادرةٌ على تعيين موقع الشمس فيما إذا حجبتها الغيوم، عن طريق الأشعة فوق البنفسجية التي تؤثر فيها.
__________________________________________________
(1) تربية النحل، ص 233 و 234
«مع الاختصار».
(2) اقتباس عن عالم الحشرات.
(3) الجامعة الاولى ج 5، ص 55.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 324
لغة النحل وتشاورها مع بعضها تعد من الحقائق العلمية التي تم اكتشافها في السنوات الأخيرة أيضاً «1».
إنَّ النحلَ لا يرى الأزهار الملّونة بشكلها ولونها الذي نراه، بل إنّه يرى بواسطة الاشعة فوق البنفسجية، وهذا النور يضاعف في جمال الأزهار فيجذبها نحوها «2».
وللأسف فانَّ طبيعة البحث لا تسمح لنا بمزيد من الكلام في هذا المضمار، ولكن يجب القول بأنّه كلَّما سَمعنا عن هذه الحشرة ونشاطاتها التي أشار إليها القرآن الكريم تتكشفُ لنا أسرارٌ جديدة عن قدرة الإله العظيم خالقِ كلِّ هذه العجائب.
و «مسك الختام» نُيممُ باسماعنا وقلوبنا صوب كلام الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول في توحيد «المفضّل»:
«انظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل، وتهيئة البيوت المسدسة وما ترى في ذلك اجتماعه من دقائق الفطنة فانك إذا تأملت العمل رأيته عجيباً لطيفاً وإذا رأيت المعمول وجدته عظيماً شريفا موقعه من الناس، وإذا رجعت إلى الفاعل الفيته غبياً جاهلًا بنفسه فضلًا عما سوى ذلك، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها وسّخره فيها لمصلحة الناس ...» «3».
__________________________________________________
(1) الحواس الغامضة للحيوانات، ص 137 و 140 و 143.
(2) سرُّ خلق الإنسان، ص 93.
(3) بحار الأنوار، ج 3، ص 108.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 325
إنَّ الحيوانات تُمثل جانباً عظيماً من الموجودات الحيَّة في العالم، وهي تجلب اهتمامَ كلِّ ناظرٍ إليها لتراكيبها المختلفة واشكالها المتنوعة وتباينها الكثير، وعجائبها العظيمة، ودراسة كلٍّ منها، تُعرِّفُ الإنسان على العلم والقدرة اللامتناهية لخالقها.
وتتجلّى أهميّة هذه المسألة عندما نرى هذه الحيوانات في
مكانٍ واحدٍ، فمثلًا لو ذهبنا إلى حديقة الحيوانات، وزرنا غرفَ الأسماك وأنواع الطيور، والقردة، والاسد والفهد والنَّمر و الزّرافة والفيل، وننظرَ عادات وعجائب خلقِ كلٍّ منها، فلا يمكن لمن يمتلك قليلًا من العقل والفطنة، أن لا يغرق بتفكيره بها، ولا يُذعن أمام خالق هذه الموجودات المتنوعة والعجيبة.
ومن بين هذه الحيوانات، هنالك حيوانات أليفة تخدم الإنسان وذات منافعَ وبركات مختلفة للبشر، جديرةٌ بالاهتمام أكثر من غيرها، لهذا فقد استند القرآن الكريم في آياته التوحيدية إلى جميع الدواب بشكلٍ عام وإلى الأنعام والبهائم بشكل خاص، وذكرَ جوانبَ من عجائبها في آياتٍ عديدة.
بهذا التمهيد نُمعن خاشعين في الآيات الآتية:
1- «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيْهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلىَ جَمْعِهِمْ اذَا يَشَاءُ قَدِيْرٌ». (الشورى 29)
2- «إِنَّ فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِّلْمُؤْمِنْينَ* وَفى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 326
آياتٌ لِّقَومٍ يُوْقِنُونَ». (الجاثية/ 3- 4)
3- «أَفَلَا يَنْظُرُونَ الىَ الِابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ». (الغاشية 17)
4- «وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ كَثِيْرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَعَلَيْهَا وَعَلىَ الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ». (المؤمنون/ 21- 22)
5- «وَانَّ لَكُمْ فِى الأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خالِصاً سَائِغاً لِّلشَّارِبِيْنَ». (النحل/ 66)
6- «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ بُيُوْتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ جُلُودِ الأَنْعامِ بُيُوْتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَومَ ظَعْنِكُمْ وَيَومَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أصْوافِهَا وَأَوبَارِهَا وَاشْعارِهَا أَثَاثاً وَمَتاعَاً إِلىَ حِيْنٍ». (النحل/ 80)
7- «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذَلِكَ انَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ غَفُوْرٌ». (فاطر/ 28)
8- «أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنَا انْعَامَاً فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ افَلا يَشْكُرُونَ».
(يس/ 71- 73)
9- «وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعامِ مَا تَرْكَبُوْنَ* لِتَسْتَووُا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ اذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْنَ». (الزخرف/ 12- 13)
10- «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُوْرِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلىَ الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ* ويُرِيْكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ» «1»
. (غافر/ 79- 81)
__________________________________________________
(1) هنالك آيات اخرى في هذا المجال أيضاً مثل: الشعراء، 33؛ والانعام، 142؛ والزمر، 6؛ والزخرف، 11.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 327
«دابّة»: كما قلنا سابقاً من مادة «دبيب» أي السير ببطءٍ وهدوء، إلّاأنّها تُطلقُ عادةً على جميع الحيوانات، وعلى المذكر والمؤنث والموجودات التي تَدُبُّ على الأرض وحتى طيور السماء، وجمعها «دوابّ» وتعني البهائم.
وقد تستعملُ أحياناً بصدد نفوذ وحلول شي ءٍ في موجودٍ آخر، فيقال مثلًا: دبَّ الشرابُ في الجسم ودبَّ السُّقمُ في البدن.
وهذا المفهوم يشملُ حتى الإنسان، وموارد استعماله في القرآن الكريم تشهدُ على ذلك «1».
«انعام»: جمع «نَعَم» (على وزن قَلَم) وهي ماخوذة في الأصل من مادة «نعمة» ثم اطلقت على «الجَمَلْ»، لأنَّ الجَمَلَ كان من أفضل النعَمِ لدى العرب، ويُطلقُ هذا اللفظ على الدواب الاخرى كالبقر والماشية بشرط أنْ يكون الجملُ جزءاً منها «2».
وصرَّحَ رهطٌ من ارباب اللغة أنَّ «النِّعَم» ذات معنىً جمعي ولا مفرد لَها، و «انعام» جمع الجمع «3».
يقول «ابن منظور» في «لسان العرب»: إنَّ «النَّعَم» تعني الحيوان المجتر، ثم ينقل عن آخرين أنّ «النَّعم» تُقالُ بخصوص الجَمل، وعن بعضهم الآخر أنّها تُطلقُ على الجمال والماشية.
وسُميت «النَّعامةُ» بهذا الاسم لأنّها تشبه «البعير» كثيراً لضخامة جسمها، ولذلك اطلقت على ظلال الجبال وغيرها، أو الاعلام
التي تُثبتُ في الصحارى لتحديد الطريق.
على أيّةِ حال .. مهما كان المعنى الأول للفظ «انعام» فهو يطلقُ في الاستعمالات العادية على الحيوانات المجترّة (البقر والأغنام والجِمال).
__________________________________________________
(1) لسان العرب، مفردات الراغب، ومجمع البحرين مادة (دبّ).
(2) مفردات الراغب.
(3) مجمع البحرين، وأقرب الموارد.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 328
بعد الإشارة في الآية الاولى والثانية إلى آيات اللَّهِ في خلق السماوات والأرض، وكذلك خلق الإنسان أشار إلى خلق كافة الحيوانات الموجودة في السماوات والأرض، قائلًا «ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ والأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيْهمَا مِنْ دابَّةٍ».
«بَثَّ»: تعني في الأصل تفريق الشي ء كما يُفرّق الهواء الاتربة، وهذا التعبير في الآية يعني تكوين وخلق وابراز الموجودات المختلفة، ونشرها في مختلف المناطق.
على أيّة حال .. فإنَّ هذا التعبير يشملُ جميع البهائم والحيوانات والإنسان، ابتداءً من الموجودات المجهرية التي تتحرك حركةً دقيقة وخفيَّةً وحتى الحيوانات العملاقة التي يبلغ طولها عشرات الامتار وقد تزن أكثر من مائة طن «1» ويضم كلَّ أنواع الطيور ومئات الآلاف من أنواع الحشرات المختلفة، وآلاف الآلاف من أنواع الحيوانات الوحشية والأليفة والحيوانات المفترسة والزواحف والأسماك الصغيرة والكبيرة والموجودات الحيَّة في البحار.
ولو تأملنا قليلًا في سعة مفهوم «دابة» وشموله بالنسبة لجميع أنواع البهائم لتجسد أمامنا عالمٌ من العجائب والغرائب ومناظرُ من القدرة، حيث يكفي كلٌ منها أنْ يُعرفَنا على علمِ وقدرة الخالق العظيم لهذا الخلق.
لقد دُوّنت الملايين من الكتب وبمختلف اللغات حول خصائص بناء وحياة أنواع الاحياء، واعدّوا الكثير من الاشرطة المصورة في هذا المجال، واصدروا مجلات مختلفة وبلغاتٍ متباينة بخصوص هذا الموضوع، حيث تجعلُ مطالعتُها الإنسان يغرقُ في بحرٍ من
__________________________________________________
(1) يصل وزنُ بعض الحيتان إلى مائة وعشرين طناً، وكما يقول صاحب كتاب «نظرة على الطبيعة
وأسرارها» (البروفسور ليون برتن) فانَّ هذا الوزن يعادل وزن الفِ وخمسمائة رجلٍ ضخم الجثة! أو اربعة وعشرين فيلًا ضخما! وقد أجريت حساباتٍ على وزن أعضاء جسمها: فقلبه يزن ستمائة كيلو غرام، والدم يزن ثمانية آلاف كيلو غرام، والرئتان طناً واحداً، والعضلات خمسين طناً، والجلد والعظام والامعاء والاحشاء تزن ستين طناً، (ص 238).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 329
العجائب والغرائب، وقد أزالت المساعي التي بُذلت من قبل العلماء على مدى آلاف السنين لمعرفتها، الحجاب عن جانبٍ واحدٍ فقط من حياتها، ومن المسلَّم به أنَّ المستقبل سيشهد في كل يوم انكشاف اسرارٍ جديدة من حياتها.
فبعض العلماء قضى عشرين عاماً من عمره لدراسة حياة النمل فقط، وإذا أرادوا دراسة حياة كافة أنواع الحيوانات بهذا الاسلوب فمن غير المعلوم أنْ يكفي عمر البشرية لمعرفة أسرارها.
والجدير بالذكر أنَّ ما نتحدث عنه هو الكائنات الحيَّة الموجودة في الأرض، بينما يستفاد من تعبير «فيهما» (في السماء والأرض) أنْ هنالك احياءً كثيرة في السماوات أيضاً ليست في متناول دراسات علمائنا، وربّما يعثر الإنسان على موجوداتٍ حيَّةٍ عجيبةٍ وغريبةٍ اخرى في باقي الكواكب من خلال الرحلات الفضائية حيث يصعبُ علينا الآن تصور شكلها ومواصفاتها.
وقال بعض المفسِّرين إنَّ المقصود من حيوانات السماوات هي الملائكة، بينما لا تُطلقُ كلمة «دابّة» على الملائكة ويعتقد بعضهم أيضاً بعدمِ وجود أيَّ كائنٍ حيٍّ في السماوات غير الملائكة، وقد ذكروا تبريرات وتفاسير اخرى للآية، بينما يتضح هذا المعنى لدينا اليوم إذ إنَّ الكائنات لا تقتصر على الكرة الأرضية فقط، وكما يقول العلماء هنالك ملايين الملايين من الكواكب في هذا الفضاء الفسيح يمكنُ السكنُ فيها من قبل الدّواب والاحياء.
والجدير بالذكر أيضاً أنّ الحيوانات لا تعتبر آية من آيات اللَّه في خلقتها وطراز
حياتها وجوانبها المختلفة فحسب، بل لفوائدها العديدة وخيراتها الكثيرة التي تفيض بها على الإنسان.
وإذا قال: «آيَاتٌ لِّقَوْم يُوقِنُونَ» فهو إشارة إلى الذين لديهم الاستعداد لقبول الحق والإيمان ولم يقصد المعاندين والمتكبرين والأنانيين.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 330
ويقول في الآية الثالثة من البحث بصيغة استفهام توبيخي: «أَفَلا يَنْظُرونَ إلىَ الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ».
واللطيف أنّه تمت الإشارة بعد ذلك إلى عظمة خلق السماء، ثم الجبال ومن بعدها الأرض، فوضعُ الابلِ إلى جانب هذه الاشياء، يُعتبرُ دليلًا على أهميّة خلق هذا الحيوان.
إنَّ التأمُلَ في أوضاع هذا الحيوان، يدللُ على أنّه ذو مواصفاتٍ متباينة تجعلُهُ يختلف عن باقي الحيوانات الاخرى ويتضح جيداً من خلال الانتباه إلى هذه المواصفات لماذا استند القرآن الكريم إلى هذا الموضوع بشكلٍ خاص ومن جملتها:
1- إنَّ مقاومة الجَمَلَ لا نظير لها، لا سيما ازاء الجوع والعطش، وشدة التحمُّل، وقد يقاوم العطشَ وهو اصعبُ من الجوعِ لعشرةِ أيّام أو أكثر ولهذا يعتبرُ أفضل وسيلةٍ لقطع الصحراء القاحلةِ، لذلك فقد اطلقوا عليه «سفينة الصحراء». لأنَه يتمكن من خزن الغذاء والماء لمدةٍ طويلةٍ في بطنهِ ويقتصدُ في استهلاكها أيضاً.
2- لا يتقيد بنوعٍ خاصٍ من الغذاء في طعامه، وغالبا ما يتغذى على كل ما ينمو في الصحراء.
3- والأعجب من ذلك أنّه يواصلُ طريقه شاقاً العواصف الترابية المليئة برمال تعمي العيون وتصم الآذان، وهو يستطيعُ سدَّ منخريه مؤقتاً، ويحافظ على اذنيه من الغبار، ولعينيه هدبان يُطبق أحدهما على الآخر في هذه الظروف، وينظر من خلفهما، وما قاله بعضهم بأنَّ الجمَلَ يسير مغمضَ العينين فانَّ هذا هو المقصود.
حتى ذكر بعض المفسِّرين إنَّه يُحسنُ تشخيص الطريق في الليالي المظلمة أيضاً!.
4- إنَّ الحيوانات تتباين فيما بينها، فبعضها يستفادُ من لحمه ومنها مَا يفيد في
الركوب، وبعضُ يستفادُ من لبنه فقط، وبعضها الآخر للحمل، إلّاأنّ الجَمَلَ يجمعُ بين هذه الجوانب الأربعةِ جميعها، فيستفاد منه للركوب ولحمل الأمتعة ومن لبنه وجلده ووبره.
5- ومن العجائب المتميزة لهذا الحيوان هي أنَّ الحملَ يوضَعُ على ظهرهِ أو يُركبُ أثناء بروكهِ، وينهض وبحركةٍ واحدةٍ من مكانه ليقف على أرجلهِ، بينما تنعدم هذه القدرة لدى باقي الحيوانات.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 331
وقد ذكرَ بعضهم أنَّ هذا يعود إلى القدرة العجيبة الكامنة في رقبته الطويلة التي تعمل طبقاً لقانون «الرافعة» الذي اكتشفه «ارخميدس» لأول مرّة، (فهو يقول: لو وجدتُ نقطة للاتكاء خارج الكرة الأرضية لتمكنتُ برافعة ضخمة من تحريك هذه الكرة عن مكانها! وهذا هو الواقع، فطبقاً لقانون الرافعة أنَّ الضغط الوارد على أحد طرفي الرافعة الذي يضرب في المسافة بينه وبين نقطة الاتكاء يوجد في الطرف الآخر للرافعة الاقرب إلى نقطة الاتكاء ضغطاً عظيماً).
وانطلاقاً من هذا فانَّ رقبة البعير تكتسب صفة الرافعة استناداً إلى نقطة ارتكازها المتمثلة في الأرجل الإمامية ومن خلال حركةٍ سريعةٍ وقويةٍ تعمل على تخفيف الاحمال الموجودة على ظهر البعير وتسمح له باطلاق رجليه الخلفيتين وينهض من مكانه! «1».
كلُ هذا وعجائب ومواصفات اخرى أدّت إلى أن يُستند إليه بوصفه آيةً من آيات اللَّه العظيمة، وليس فقط لأنَّ الجَمَلَ كان من الأركان المهمّة في حياة العرب الذين كانوا أولَ من خوطب بهذه الآيات.
فمنْ يستطيع أنْ يخلقَ كلَّ هذه العجائب والبركات في مخلوقٍ واحدٍ؟ ومن ثمَّ يجعلُهُ مطيعاً للإنسان بحيث لو أَخذَ طفلٌ صغيرٌ بعنانِ قافلةٍ من الابلِ لكان بمقدوره أن يأخذه إلى المكان الذي يصبوا إليه، والعجيب أنّ الأنغام الموزونة (كالحدي) تترك أثراً في نفسهِ أيضاً وتدفعه إلى الحركة بحيويةٍ ونشاط وشوقٍ.
أوليست هذه آياتٌ
عن عظمة وقدرة الخالق؟ أَجَلْ؛ فاولئك الذين لا يمرُّون على هذه الآيات مرور الكرام باستطاعتهم أن يدركوا أسرارها (لا تَنسَوْا أنّ جملة: «افَلَا يَنْظُرونَ» من مادة «نَظَرْ» إلّاأنّها ليست النظر العادي، بل النظر المتزامن مع التفكُّر والتأمُّل).
__________________________________________________
(1) اشير إشارة قصيرة في كتاب الجامعة الاولى ج 6، ص 32 إلى هذه المسافة، وكما اشير في كتبٍ اخرى باشاراتٍ مفصلةٍ.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 332
ويقول في الآية الرابعة والخامسة ضمن إشارته إلى المنافع المختلفة للحيوانات بالنسبة للإنسان: «وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً».
وذُكرت «عبرة» هنا بصيغة «نكرة» حيث تعتبر دليلًا على أهميّته الفائقة، وكما يقول الراغب في كتاب المفردات «عِبرَة» من مادة (عَبْر) وتعني العبور والانتقال من حالةٍ إلى اخرى وهنا حيثُ يرى المعتبرُ حالةً يدلكُ من خلالها على حقيقة لا يمكن ملاحظتها فاطلقوا على ذلك «عبرة».
وعليه فانَّ مفهوم الآية يشير إلى أنّه بمقدوركم انْ تصلوا إلى معرفة اللَّه وعظمة وعلم وقدرة مُبدى ء الخلق العظيم من خلال ملاحظة أسرار وعجائب الحيوانات.
ثم أشار القرآن في شرحه لهذا المعنى إلى أربعةِ جوانب من الفوائد المهمّة للحيوانات فيقول ابتداءً: «نُسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا» نعم، اللبن هذه المادة السائغة الطعم التي تخرج من الحيوانات ومن بين دمها ولحمها شراباًمغذياً كاملًا، وورد هذا المعنى مع تأكيد أكثر في الآية الخامسة إذ يقول: «نُّسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثِ وَدَمٍ لَّبَناً خالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِيْنَ» «1»
.
فأيُّ قدرةٍ تلك التي تُخرجُ مثل هذا الغذاء الطاهر الصافي اللذيذ من بين تلك الأشياء الملّوثة؟ لونه ابيض، طعمه حلوٌ، رائحته عطرة، ومقبولٌ من جميع الجهات.
والعجيب ما يذكره العلماء .. فمن أجل انتاج لتر واحد من الحليب في ثدي الحيوان يجب أنْ يمرَّ ما يقارب خمسمائة لتر من
الدم خلال هذا العضو كي يتم امتصاص المواد اللازمة من الدم لتكوين ذلك اللتر من اللبن! ومن أجل انتاج لتر واحد من الدم في الشرايين
__________________________________________________
(1) «فرث» بمعنى الغذاء المهضوم، والجدير بالذكر أنَّ «بطونها» ذُكرت في سورة المؤمنون مع ضميرٍ مؤنث حيث لها معنىً يفيد الجمع في مثل هذه الموارد، وفي سورة النحل «بطونه» بضمير المذكر إذ لها معنىً فردي، وقال بعض المفسِّرين أنّ «انعام» اسمُ جمعٍ ولو لوحظ ظاهر اللفظ فانَّ ضمير المفرد يعود إليها، ولو لوحظ معناه فانّه ضمير جمعٍ ولو لوحظ ظاهر اللفظ فانَّ ضمير المفرد يعود إليها، ولو لوحظ معناه فانّه ضمير جمعٍ وقال بعضهم أنّ ضمير المفرد لمفهوم الجمع وضمير المؤنث لمفهوم الجماعة، (يُراجع تفاسير الكشاف و الكبير وروح المعاني و ابو الفتوح الرازي).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 333
لابدَّ أنْ تمُرَّ الكثير من المواد الغذائية خلال الامعاء هنا حيث يتجلّى مفهوم: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ».
وقد قيلَ الكثير حول تركيب اللبن وكيفية تكوينه في الأثداء، وأنواع المواد الأولية والفيتامينات الموجودة فيه، ومزاياه التي تمنح الطاقة، والمستخرجات المتعددة التي تُنتجُ منه، وفائدته لكلِّ الأعمار، بحيث لو جُمعَتْ لألَّفَتْ كتاباً مُعتَبراً، يُخرِجُنا التطرق إليه عن اطار البحث التفسيري.
ونكتفي هنا بذكر روايةٍ مليئةٍ بالمعاني عن النبي صلى الله عليه و آله حيث يقول: «إذا أكَلَ أحَدُكُمُ طعاماً فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بارِكْ لَنَا فيهِ، وأطْعمنا خيراً مِنْهُ، وإذا شَرِبَ لَبَناً فَلْيَقُل أللَّهُمَ بارِكْ لَنَا فيهِ، وَزِدْنا مِنهُ، فَانّي لا أَعْلَمُ شَيئاً أنْفَعُ في الطّعامِ والشَّرابِ مِنْهُ» «1».
ثم يتطرق إلى الفائدة الثانية للحيوانات ذوات الأربع، فيقول في جملةٍ قصيرةٍ وغامضةٍ:
«وَلَكُمْ فِيْهَا مَنافِعُ كَثِيْرَةٌ».
وهذا التعبير يُمكنُ أنْ يكون إشارة إلى الصوف والوبر والشَعَر في الحيوانات والتي
يُصنعُ منها أنواع الملابس والفرش باستمرار، وكذلك إشارة إلى الجلود والامعاء والعظام والقرون التي تُصنعُ منها وسائل الحياة المختلفة، وحتى فضلاتها يمكن استخدامها كأسمدة في تنمية الأشجار وتنشيط الزراعة والنباتات.
وفي المرحلة الثالثة أشار إلى فائدة اخرى قائلًا: «وَمِنْهَا تَأكُلُونَ».
مع ما ذكره خبراء الغذاء من كل أضرار اللحم، وبالرغم من المؤاخذات الواردة على آكلي اللحوم في العالم من الناحية الطبية والاخلاقية وغيرها، فأنَّ الكثير يعتقدون أنَّ استهلاك اللحم بكميةٍ قليلةٍ ليس غير مضر فحسب بل وأنَّهُ ضروريٌّ بالنسبة لجسم الإنسان، وتبرهنُ تجارب الذين يعيشون على النباتات بأنَّهم مصابون بالاضطرابات والنواقص وتؤيدُ وجوهُهُم الصفراء ذلك، وهذا يعود إلى أنَّ البروتين وبعض العناصر الأساسية الموجودة في اللحم لا يمكن الحصول عليها في أيَّ نباتٍ أبداً، والأهميّة التي
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 5، ص 48.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 334
يعطيها القرآن لهذه المسألة تحكي عن هذا المعنى
ولكن ممّا لا شك فيه أنَّ الافراط في اكل اللحوم شي ءٌ مذمومٌ في نظر الإسلام ومن وجهة النظر الطبية أيضاً.
وأشار في الجزء الرابع والأخير من هذه الآية إلى الاستفادة من الحيوانات للركوب.
فيقول: «وَعَلَيْهَا وَعَلىَ الْفُلْكِ تُحْمَلُوْنَ».
فقد كانت هذه الحيوانات على الدوام خير وسيلةٍ للحمل والركوب، واليوم في عصر السيارات والشاحنات لم يستغنِ البشر أيضاً عن وجود هذه الحيوانات للركوب وحمل الأمتعة، لا سيما في بعض المناطق الجبلية والطرق التي لا يمكن استغلال وسائط النقل الحديثة فيها، فيستفاد من الحيوانات في الحمل والنقل فهنالك حيوانات كالبغال تعتبر افضل وسيلةٍ لارسال العتاد إلى جبهات الحرب على اعالي الجبال الوعرة، ولولاها لاصبح من الصعوبة السيطرة على الجبال الشاهقة الواسعة.
وبهذا فقد أودعَ الباري تعالى فوائد جمّة في هذه الحيوانات، وبيَّنَ آثار عظمته وفضله على
الإنسان من خلالها.
واللطيف أنَّ الحيوانات جاءت في هذه العبارة من الآية في مقابل السفن وهذا دليلٌ على انّها بمثابة سفن في اليابسة! «1».
وفي الآية السادسة وكتعريفٍ بالذات الإلهيّة، أو ذكر النِّعم التي تجُّر الإنسان إلى معرفته، أشار إلى مايستفيده الإنسان من جلود واصواف الحيوانات، فيقول: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً».
ثم يضيف: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَومَ ظَعْنِكُمْ ويَومَ إِقامَتِكُم».
أجل .. فالبيوت الثابتة لا تُلبي حاجةَ الإنسان باستمرار، ففي الكثير من الحالات يحتاج الإنسان إلى بيوت متنقلةٍ كي يستطيع حملها ونقلها بسهولة وتقاوم في نفس الوقت
__________________________________________________
(1) وورد ما يشابه هذا المضمون في الآيات 5 إلى 8 من سورة النحل حيث يشير إلى المنافع المتعددة للحيوانات.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 335
البردَ والحرَّ والرّياح والعواصف وأمثال ذلك، ومن افضل البيوت المتنقلة هي الخيام التي تصنع من الجلود التي تمت الإشارة إليها في هذه الآية، وهي اقوى من الخيام المصنوعة من الصوف أو القطن وأكثر مقاومةً وراحةً.
ويتطرق في ختام الآية إلى جانبٍ آخر من منافعها المهمّة، إذ يضيف: «ومِنْ أَصْوَافِها وَأَوْبارِهَا وَأَشْعارِهَا أَثاثاً وَمَتاعاً إِلىَ حِيْنٍ» «1».
ونحنُ نعلمُ طبعاً أنَّ الصوف من الأغنام، والوبر من الابلِ، والشَّعْرَ من الماعز، ونعلمُ أيضاً أنَّ أنواع الملابس، والفرش، والاغطية، والستائر، والخيام، والسُفَر، والحبال، وأمثالها ممّا يلعب دوراً مهماً في حياة الإنسان، تُصنعُ جميعها من هذه المواد الثلاث.
وبالرغم من أنَّهم قاموا في هذا العصر بصناعة أنواع الملابس والفراش من المواد الصناعية والنفطية، إلّاأنّ دراسات العلماء أثبتت أنّها لا تُعتبر صالحةً لحياة الإنسان، وغالباً ما تؤدّي إلى مضاعفاتٍ غير ملائمة له، بينما تُعتبر الملابس الصوفية والوبرية والشَعرية من أصلح الملابس.
وقد اعتبرَ بعضهم التعبيرَ ب «الىَ حينٍ» إشارةً إلى
دوام الآلات التي تُصنعُ من هذه المواد الثلاث، ويعتبرها بعضهم إشارةً إلى أنَّ جميع ذلك الأثاث معرض للزوال ولا يجب التعلُّق به، ويبدو أنَّ هذا المعنى أكثر تناسباً.
وفي الآية السابعة التي وردت ضمن الآيات التوحيدية في سورة فاطر، حيث أثارَت انتباه النبي صلى الله عليه و آله إلى خلقِ الإنسان والدَّوابِ والأَنعامِ، قائلًا: «ومِنَ النّاسِ والدَّوابِ
__________________________________________________
(1) «بيوت» جمع «بيت» ويعني حجرة أو بيت الإنسان الذي يأوي إليه ليلًا، ولفظة «بيتوته» التي تعني «المبيت ليلًا» مأخوذة من ذلك أيضاً، «ظعن» تعني الرحيل والتنقل من مكان إلى آخر وهي تقابل «الاقامة»، ... «اثاث» مأخوذة من مادة «اثّ» وتعني الكثرة والاضطراب وتطلق على لوازم البيت نظراً لكثرتها واعتبرها بعضهم بمعنى الغطاء واللباس وبعضهم بمعنى البساط في حين اعتبرها بعضهم الآخر راجعة إلى «المتاع» الذي يعد وسيلة للتمتع والاستفادة وأنّهما بمعنى واحد.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 336
وَالأَنْعَامِ مُختَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ» «1».
أي كما خلقَ اللَّه تعالى انواعَ الثمار وبألوانٍ متباينة، وتتباينُ الوانُ الجبال فيما بينها، فقد خلقَ ألواناً مختلفةً من الاحياء سواء الإنسان أم الدَّواب أم الأنعام، بالرغم من أنَّ اغلب المفسرين اتّخذوا الألوان هنا بمعنى الألوان الظاهرية المختلفة «2»، ولكن يبدو أنّ التعبير المذكور ذو معنىً واسع، ويُعتبرُ إشارة إلى تفاوت أنواع واصناف الناس والدَّوابِّ والأنعام، الذي يعتبر من اهم عجائب وغرائب الخلق.
لا شك أننا نعلمُ أنَّ هنالك اليوم مئات الآلاف من أنواع الدَّواب والحيوانات في العالم، بل يذكر بعض العلماء أنَّ أنواعها يبلغ مليوناً وخمسمائة الف نوع!، وهذا التباين العجيب وبهذه المواصفات التي تتصف بها كلٌّ منها يعتبر آيةً عظيمةً من آيات اللَّه، وبراهين عل علمه وقدرته.
نعم ... فقد ابدعَ هذا الرسّام الماهر بقلم واحد ولون
واحد في رسمِ انواعٍ لا تُحصى من الرسوم ونماذج ملَّونةٍ من الألواح كل منها آية في صنعِ الخلقِ.
غير أنّ المفكرين والعلماء هم الذين فتحوا بصائرهم لَيَروا روحَ العالم في هذه الميادين البديعة، و «يَرَوْنَ مالا يُرى ، لذلك يقول في ذيل الآية: «إِنَّمَا يَخْشى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفُورٌ».
إنَّ ألوانها الظاهرية المختلفة تَشغُلُ أهلَ الظاهر، وألوانها الباطنية وخلقها المتباين تشغل اهلَ الباطن والمعنى
فالألوان الظاهرية للأزهار تجذب نحوها النحل، كي يساعدها في التلقيح، كما تتجاذب الإناث والذكور من الحيوانات فيما بينها «لا سيما في الطيور»، إلّاأنّ ألوانها الباطنية وبناءها المتفاوت يدعو العلماء وأصحاب الفكر نحوه، كي يُلقِّحَ فكرهُ من بذر التوحيد.
__________________________________________________
(1) «من الناس» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقدير هو: «ما هو مختلفٌ الوانه»، و «كذلك» أشار إلى الثمار المختلفة وألوان الجبال المتفاوتة التي وردت في الآية السالفة.
(2) تفسير الميزان، وتفسير روح الجنان، وتفسير في ظلال القرآن، وتفسير القرطبي وغيره.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 337
و «خَشْية»: تعني «الخوف الممزوج بالتعظيم الناتج عن علمٍ ووعي»، وفي الحقيقة هي مزيجٌ من الرهبةِ والرجاء لهذا وَصَفَ اللَّه نفسه بعد هذا الكلام مباشرة بصفتي «عزيز» و «غفور» حيث إنَّ الأولَ منشأ للرهبة والثاني مصدر للرجاء، وعليه فانَّ ذيل الآية مركبٌّ في الحقيقةِ من العلة والمعلول.
علماً أنَّ ذكرَ «الإنعام» بعد الدّواب، جاء من باب ذكر الخاص بعد العام، لأهميّة الانعام في حياة الناس.
وفي الآية الثامنة وجَّه الَّلومَ من خلال استفهامٍ توبيخي للمشركين والكافرين الذين ضلّوا وتركوا خالق الكون وتوجهوا نحو الأصنام، فقال: «أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ».
إنّ التعبير ب «لَهُم» ذو مفهومٍ واسعِ للغايةِ حيث يشمل المنافع المختلفة لجميع أجزاء
هذه الانعام، أَجَلْ .. فقد اقتضى لطفُ اللَّه أن يكونَ هو «الخالق» والآخرون هم «المالكون»!.
ثم أشار إلى نكتةٍ اخرى فيما يخص الانعام، مضيفاً: «وَذَّللْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُم وَمِنْهَا يأكْلُونَ* ولَهُمْ فِيْهَا مَنافِعُ وَمَشَارِبُ».
ويقول في الختام «فهلا يشكرون هذه النِّعم التي وهبها اللَّه للناس»؟ ولا يَسْعَوْنَ لمعرفة ذاته المقدّسة؟ «أَفَلا يَشْكُرُونَ».
ويُمكنُ أن يكون التعبير ب «ممّا عَمِلَتْ أَيْدينا» إشارة إلى تعقيد مسألة الحياة التي لم ينكشف لغزُها للبشر لحد الآن، وهذا نابعٌ من قدرته الازليّة فقط.
والتعبير ب «المشارب» بعد ذكرِ «المنافع» من قبيل ذكر الخاص بعد العام حيث تمَّ الاستناد إليه بسبب أهميّته.
علماً أنّ «مَشارِب» جمع «مَشرب» (لأنّها جاءت مصدراً ميميّاً بمعنى اسم المفعول،
نفحات القرآن، ج 2، ص: 338
ويمكن أن تكون إشارة إلى أنواع حليب الانعام المختلفة، التي لكلٍّ منها آثاره ومزاياه الخاصة به، أو إشارة إلى مستخلصات الحليب التي نحصل عليها، وبما أنَّ اصلها هو الحليب فقد اطلقَ عليها لفظ «مشارب»، ونحن نعلمُ أنّ الحليب ومستخرجاته يُمثلُ جانباً مهماً من غذاء الناس «1».
ولنا بحثٌ مناسب حول «ذَلَّلناها» سيأتي في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه.
والآية التاسعة من البحث وقعت ضمن سلسلة الآيات التي تتعلق بمعرفة اللَّه والتوحيد لأنَّه قال في الآيات التي سبقتها: «ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزيزُ الْعَليمُ»، ثمَّ تَطرَّقَ إلى وصفِ اللَّه القدير قائلًا: «والّذى نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدرٍ فأَنْشَرنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخرَجُونَ»، ثم يضيفُ في آية البحث: «والّذى خَلَقَ الازواجَ كُلَّها».
ويبدو أنَّ المقصود من «أزواج» هنا هو أزواج الاناث والذكور من الحيوانات والاحياء، لا سيما وانّه يضيف بعد ذلك: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلكِ والأَنْعامِ مَا تَركَبُونَ» (أي الفلك في البحار والانعام في اليابسة).
وبهذا فانَّ ذكر «أنعام»
بعد «الأزواج» جاء من بابِ ذكر الخاص بعد العام.
إلَّا أنّ بعض المفسِّرين يعتقِدون أنَّ «الأزواج» هنا إشارة إلى «الاصناف المتفاوتة» للموجودات، سواء كانت حيوانات أم نباتاتٍ ام جماداتٍ، لأنَّ كلًا منها له جنسٌ يقابله، ففي الحيوانات هنالك الذكر والانثى وفي غيرها النور والظلام، السماء والأرض، والشمس والقمر، اليابس والرطب، وحتى داخل أفكار الإنسان هنالك الخير والشر، الكفر والإيمان، التقوى والفجور، وامثال ذلك، والوجود الوحيد الذي لا اختلاف فيه هو ذاتهُ
__________________________________________________
(1) يعتبر بعض المفسِّرين أنَّ «مشارب» إشارة إلى الأواني التي تُصنعُ من جلد الحيوانات كانواع القِرَب والأواني الاخرى إلّاأنّ هذا التفسير يبدو بعيداً إذ ليس لهذا الأمر أهميّة بالغة بحيث يُستند إليه بعد ذكر المنافع.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 339
المقدّسة، وهو متفردٌ في كافة النواحي، إلّاأنَّ التفسير الأول يبدو أكثر صواباً من خلال ما ذكرناه من قرينة.
على أيّةِ حالٍ، فقد ذُكرَ خلقُ الأزواجِ من جانبٍ وخلق الانعامِ للركوب من جانبٍ آخر في هذه الآية براهين عن الوجود المقدَّسِ للَّه تبارك وتعالى
إنَّ النظامَ الدقيق الذي يسود مسألة التكاثر في الموجودات الحيَّةِ والحيوانات نظامٌ معقَدٌ وعجيبٌ للغاية، فما هي العوامل التي تؤدّي إلى أن يكون الجنين في رحم امه ذكراً أو انثى وما هي العوامل التي تؤدّي إلى حفظ التوازن بين جنس الذكر والانثى وما هي العوامل التي تؤدّي إلى أنْ ينجذبَ أحدُهما نحو الآخر كي تحصل مُقدَّماتُ الحمل؟ وما هي العوامل التي تعمل على تكاملهِ في مرحلةِ الحياة الجنينيةِ المعقدة؟
فإذا تأملنا جيداً، لوقَعَ بصرُنا على آياتٍ عظيمةٍ من آياتِ اللَّه في هذا الطريق الطويل، وفيما يخص تذليل الحيوانات لركوبها.
ثم تحدَّثَ عن تسخير هذه الحيوانات القوية والضخمة للإنسان، قائلًا: «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُوْرِهِ ثُمَّ تَذكُروُا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ
إِذَا اسْتَوَيْتُم عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْنَ».
صحيحٌ أننا ننظرُ إلى هذه المسألة نظرةً بسيطة جرّاء اعتيادنا عليها يومياً، حيث نرى قوافل كبيرة من الابل والخيل، وحتى حيواناتِ ضخمة كالفيلة مُسَخَّرة بيد طفلٍ صغيرٍ، وأحياناً يُودَعُ عنانُ قافلةٍ منها بيد طفلٍ فيقودها حيث يشاء، إلّاأنَّها في الحقيقةِ ليست أمراً هيّناً، فلو كان لأحدها أقلُّ حالةٍ من التمرد والمواجهة فلا يستفاد منها في الركوب أبداً بل لأَصبحت تربيتُها من قِبل الإنسان خطيرةً جدّاً.
فنحن لا نستطيع أنْ نُربّي بازاً مشاجراً، وحتى قطة غاضبة وهائجة، فكيف نُربّي هذه الحيوانات الكبيرة القوية التي يمتلك بعضها قروناً وبعضها ذات اسنانٍ قاطعةٍ وفكٍ قويٍّ، وارجل بعضها قوية وكبيرة تستخدمها للضرب والركل، فإذا لم تكن مطيعة فكيف
نفحات القرآن، ج 2، ص: 340
نستخدمها للركوب؟ ولولا التسخير الإلهي حقاً لم نستفد منها أبداً: «مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْنَ» «1»
.
والنكتة الجديرة بالذكر أيضاً أنَّ ظهرَ الأَنعامِ خُلق بحيث يكون مناسباً ومُعَدَّاً لركوب الإنسان.
وممّا يلفت النظر أنّه يذكرُ الركوبَ عليها هدفاً أولًا، وذكر نِعَمِ الخالقِ يعتبره الهدف الثاني، وتعد معرفة الذات الإلهيّة المقدّسة وتسبيحه وتقديسه هي الهدف النهائي، فذكر النِّعَمِ يَضَعُ الإنسان دائماً في طريق معرفتها، ومن ثمّ كلُ مواهب الخلق دافعٌ ومقدمة لمعرفة اللَّه سبحانه.
وذُكر هذا المعنى في الآية العاشرة والأخيرة بالإضافة إلى منافع اخرى وقد تمت الإشارة في هذه الآية إلى خمس فوائد اساسية للانعام، واعتبرها من آيات اللَّه.
فيقولُ في البداية: «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا» «وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ».
ثم أشار إلى الفوائد المختلفة، كاللبن والصوف والجلد والمواد الطبية وامثال ذلك، فيقول إجمالًا: «وَلَكُمْ فِيْهَا مَنافِعُ» «2».
ويقول في المرحلةِ الاخيرة: «وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُم».
إنَّ ذكرَ هذا المعنى على
هيئةِ منفعةٍ مستقلة، مع أنَّ مسألة الركوب قد ذُكرت سابقاً، يُمكنُ أن يكون المقصود منه حمل ونقل الامتعةِ وضروريات الحياة «3»، أو لاغراض التنزُّهِ والسياحةِ والمسابقات أو كسب القوة في ساحة الجهاد، أو الصراع مع بعض الحيوانات الوحشية، أو عبور الأنهار عن طريق سباحة الحيوانات، لأَنَّها جميعاً تندرجُ في لفظ «حاجة» الشامل، وهذه الضروريات لا شأنَ لها مع مسألة الركوب في الأسفار.
__________________________________________________
(1) إنَّ الضمير المفرد في «ظهوره» و «عليه» و «له» يعود إلى «الانعام» لأنّ «الانعام»- وكما قلنا سابقاً- ذات معنىً جمعي، إلّاأنّها تلفظ مفردة، وظن بعضهم أنَّ هذه الضمائر تعود إلى «ما» في «ما تركبون»، وفي هذه الحالة تشمل «الانعام» و «السفن» علماً أنّ «مقرنين» من مادة «إقران» وتعنى الاقتدار على الشي ء، وفسَّرها بعضهم بمعنى القبض والحفظ.
(2) ذكرت منافع بصيغة النكرة كي تُبرهنَ على أهميّتها.
(3) كما تمّت الإشارة إلى ذلك في الآية 6 من سورة النحل.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 341
ويقول في الفائدة الخامسة والأخيرة: «وَعَلَيْهَا وَعَلى الْفُلْكِ تُحْمَلُوْنَ».
ولتعبير «حَمْل» مفهوم غير «الركوب» ويبدو أنَّ المقصود منه هو المحامل والهوادج التي توضعُ على ظهور الأَنعام ويجلس فيها النساء والأطفال الذين لا طاقة لهم على الركوب، كما يستفاد منها للمرضى والعَجَزَةِ والضعفاء.
إنَّ ذكرَ «تُحمَلُون» بصيغة «الفعل المجهول»، وجعلها إلى جانبِ الفُلك حيث يوضحُ تشابههما مع بعضهما (الفلك في البحر والانعام على الأرض) يعتبر من القرائن أيضاً على التفسير أعلاه، وبهذا يتضح اختلاف هذه العبارات الثلاث: «لِتَركَبُوا- وَلِتَبْلُغُوا- وعليها وعلى الفُلك تُحمَلونَ»، وطالما وقع بعضُ المفسِّرين في معضلات تفسيرها، وقد فسَّروها بمعنىً واحدٍ!
ومع أنَّ بعضهم يعتقد أنَّ الانعام في هذه الآية تعني الابل فقط، ولكن نظراً لسعة مفهوم «الانعام» وعدم وجودِ قيدٍ في
الآية فلا دليل لحصرها، لا سيما أنَّ تكرار «منها» (علماً إنَّ «مِنْ» في مثل هذه الموارد تُفيد التبعيض) يبرهنُ على أنَّ بعض الانعام يفيد في الركوب، وبعضها يُفيد في الأكل، بينما لو كان المقصود هو الأبل فإنَّها تُفيدُ في جميع هذه الجوانب.
واللطيف أنَّه يقول في الآية الآتية باستنتاج عامٍ: «وَيُريكُم آياتِهِ فأيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُوْنَ».
إشارة إلى أنَّ كُلًا من هذه الامور يعتبر آيةً من آياتِ اللَّه بالنسبة للمتفكرين والعقلاء، آية بيِّنة ولا يمكنُ انكارها، والمنكرون يستحقون كلَّ اشكال اللَّوم والتوبيخ.
وهكذا نرى أننا نواجه في كلِّ خطوةٍ نخطوها في هذا الجانب آية من آياتهِ في عالم الاحياء والحيوانات خصوصاً الأنعام، ونواجه برهاناً من براهين علمه وقدرته وحكمته ولطفهِ ورحمتِهِ، وكلٌّ يحكي بلا لسان ويُعطينا درساً في التوحيد ومعرفة اللَّه، ويُثيرُ فينا دافعَ الشكرِ الذي يدعونا إلى معرفته.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 342
إنَّ كتابَ الخلقِ العظيم كتابٌ تكمنُ في كل جملةٍ- بل في كلِّ كلمةٍ وكلِّ حرفٍ منه- نكاتٌ، بنحوٍ لا يَشعُر الإنسان بالتعبِ من مطالعتها، فلو طالعَ أحد جمل هذا الكتاب العظيم مائة مرّة فسيَنكشفُ له في كلِّ مرّةٍ مفهومٌ جديدٌ واسرارٌ جديدة. فعالمُ «الحيوانات والانعام» الذي يُمثِّلُ جانباً من هذا الكتاب العظيم مليى ء بالأسرار والعجائب، نكتفي ببعضٍ منها ويجب أن نوكلَ الامعان في التفصيل إلى الكتب المدَوَّنة في هذا المجال.
إنَّ استعداد الحيوانات للترويض مسألةٌ مهمةٌ للغاية.
ومن أجل إدراك أهميّة كلِّ نعمةٍ، لابدّ من تصوُّر الحالةِ التي تتحوَّل فيها الحيوانات الاليفة إلى حيوانات وحشية، «فالجملُ» يشنُّ هجماتهِ كالفهد ويمزِّقُ الإنسان بفكيّه القويتين، ويستخدمُ «البقرُ» قرنَهُ، وتضرب الخيلُ بحوافرها مَنْ يقترب منها، حينها لا يمكن اعتبار هذا القطيع من الأغنام والابل والبقر أساسيَ الوجود فحسب، بل وسنستعين بأية آلة قاتلةٍ من أجل الخلاص من شرِّها والقضاء عليها، وفي الوقت الحاضر أيضاً تغضب هذه الحيوانات الاليفة أحياناً فتشكلُ خطورةً بالغة، فمثلًا تُلَقِّنُ الفيلةُ الهنودَ دروساً، وتَشنُّ الجمالُ الغاضبة هجماتها على أصحابها، ومن الممكن أن تنتهي بالقضاء عليهم إذا ما غفلوا، وكأن اللَّه تعالى يريد أنْ يُبرهنَ على أنْ لو اردتُ سلبها أمرَ الطاعة والتسليم والخضوع فستَرَونَ بايِّ صورةٍ تظهر!
وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بتعابير مختلفة، فيقول أحياناً: «وَذَلَّلْنَاهَا لَهُم». (يس/ 72)
وحيناً يقول: «سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنينَ». (الزخرف/ 13)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 343
وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى هذه المسألة في توحيد المفضّل، فيقول بعد بيان خلق الأنعام: ... «ثُمَّ مُنِعَت الذِّهنَ والعَقلَ لِتَذِلَّ للانسانِ فلا تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ إذا كَدَّها الكَدَّ الشّديدَ وحَمَّلَها الحِمْلَ الثَّقيلَ» «1».
وبالطبع أنَّ عدم امتلاكها
للعقل جزءٌ من الدليل على تآلفها، علاوة على هذا أنَّ اللَّه تعالى خَلَقها بشكلٍ تأتلفُ فيه بسرعةٍ وتبقى على هذا الحال إلى الأبد، بينما نجد أنَّ بعضَ الحيوانات التي تماثلها في الذكاء والعقل (كالذئاب والّنمور) إذا ما ألفت فبمشقّةٍ تكون مؤقتة، ومع ذلك يجب الحذر منها، وأحياناً تفترسُ اصحابها إذا ما غفلوا عنها.
لعلَّ اختيار هذا العنوان بعد الذي قيل في البحث السابق يبدو عجباً ومتناقضاً، والحال أنّه ليس كذلك، مع أنّ الحيوانات تبدو بلا عقلٍ أو قليلة العقل، ونحنُ نشبّهُ البُلداء بالبهائم، إلّا أنّها تبدي ذكاءً ووعياً في بعض المسائل بحيث تبعث على الدهشة.
فقد شاهدَ اغلبُنا قطيعَ الأغنامِ عندما يعود من الصحراء، فهنالك عدد من الغنم والماعز تعود إلى عائلةٍ ما وبمجرد اقترابها من القريةِ يسلك كلٌّ منها فروع وازقةَ القرية ويتجه نحو بيت صاحبهِ بدونِ أيِّ اختلاف.
كما شاهدنا أنَّ النعجةَ لا تسمح أبداً لغير وليدها أن يرتضع من ثديها، وعندما تُطلقُ الصغار في ظلمةِ الليل وتدخلُ في القطيع يذهبُ كلٌ منها إلى امه، فتعرفه وتستعد لإضاعه، وهذه المعرفة تحصل عن طريق «الشَّم» فقط، وهذا يعني أنَّ عددَ روائح الأغنام تضاهي عددها، وكلُّ نعجةٍ تشخصُ رائحةَ صغيرها من بين هذه الروائح!
يقول «غرسي موريسن» في كتاب «سرُّ خلق الإنسان»: (إنَّ اغلبَ الحيوانات تُشخصُ طريقها في الليالي المظلمة، وتسير بيُسر، وإذا كانت لاتبصر في الظلمة الحالكة فهي تعرفه من تفاوت الهواء المحيط بالطريق، ويؤثر النورُ الضعيف جدّاً للأشعة مافوق الحمراء الذي
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 91، توحيد المفضل.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 344
يشع من سطح الطريق على عيونها).
إنَّ طراز بناء البيت، وتربية الصغار، وكيفية مقاومة العدو، وحتى معالجة نفسها أثناء المرض من الامور
العجيبة في الحيوانات، وشرحُ كلٍّ منها يحتاج إلى بحثٍ مفصَّلٍ.
ذكر أحدُ علماء البيئة ويُدعى «البروفسور هانر منرو» في كتابه في خصوص استعداد بعض الحيوانات لمعالجةِ أمراضها قائلًا:
«اجريت بعض الكشوفات الطبية على علاجاتها، فمثلًا هناك نوعٌ من الطيور التي تأكل الأسماك، تتضرر أرجلها أثناء الطيران الجماعي أو الهبوط على الأرض، بسبب طولها، فوجدت أنّها على اطلاعٍ تامٍ بالتجبير وعلاج الكسور، فتذهب إلى ساحل البحر والمناطق الموحلة التي يمتزج طينها مع النورة الخاصة بالتجبير، وتغمسُ أرجلها بالنورة الرطبة، ثم تجلس تحت أشعة الشمس كي تَجفَّ النورة، وتبقى تراقب أرجلها بهذا الحال حتى يلتحم مكانُ الكسرِ تماماً ...
ومن الصدفة أنَّ النّورة التي يستخدمها الأطباء في المستشفيات من نفس هذا النوع الذي يستخدمه هذا الطائر الذي يأكل السمك لعلاج نفسهِ، لأنَّه لزجٌ ومتماسكٌ جدّاً» «1».
يعتقد العلماء أنَّ معظمَ الحيواناتِ لديها لغةٌ خاصة بها، وتتفاهم فيما بينها عن طريقها، فالنمل يتحدث فيما بينه من خلال اللمس، أو من خلال اصطدام لوامسها، وتتبادل الرسائل، وبعضُها تخابُر أثناء حلول الخطر من خلال ضرب ارجلها على باب الخليّة فترسل برقيات بهذه الطريقة إلى بعضها الآخر.
إنَّ اغلبَ الاحياء علاوة على امتلاكها للغةٍ خاصةٍ فهي تملك لغةً عامةً تستطيع من خلالها فهم لغة بعضها البعض الآخر، فهذه اللغة التي يصدرها الغراب أثناء حصول الخطر حيث يحذِّرُ بقيةَ الحيوانات بصوتٍ خاصٍ كي تبتعد سريعاً عن منطقة الخطر، ويعتبر الغراب في الواقع بمنزلة جاسوس من جواسيس الغابة!
لقد توصلَ علماء البيئة في دراساتِهم إلى هذه النتيجة وهي أنّ الحشرات تلي الإنسان
__________________________________________________
(1) أفضل طرق معرفة اللَّه، ص 197.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 345
في امتلاك جهاز اتصالاتٍ متكاملٍ، لا سيما التكلم وجهاز اتصالات النحل، فهو أكثرها عجباً
وندرةً «1».
القى عالمُ احياءٍ سويدي محاضرةً تثير الاهتمام في جامعة «لاند» حول لغة النحل وكانت نتيجة هذا التحقيق والتجربة التي أجراها عالم الأحياء هذا بمساعدة الأجهزة وعن طريق المقايسة، أنّها لغة يمكن فهمُ معناها «2».
إنَّ عجائب عالم الحيوانات أكثرُ من أن يُؤدى حقُها في كتابٍ واحدٍ أو عشر كتب.
والأفضل أن نكتفي بهذا المقدار ونغلق الملف ونقول بكل خضوعٍ وخشوعٍ أمام الحضرة الإلهيّة المقدّسة: «سُبحانَكَ اللَّهُمَّ وبحَمدِّكَ لا تُحصىَ عَجائِبُ خِلْقَتِكَ وإِنَّكَ على كُلِّ شَي ءٍ قَديرٌ».
__________________________________________________
(1) مجلة الصيد والطبيعة، العدد 72.
(2) تربية النحل، ص 60.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 347
من أجل أن يتمكن الإنسان من إقامةٍ الأواصر مع العالم الخارجي فهو يحتاج إلى ادواتٍ مختلفةٍ، حيث جَهَزه اللَّهُ بها، فقد جهّزَهُ بحاسة البصر لرؤية هيئة ولون وكمية ونوعية الموجودات، وبحاسة السمع من أجل معرفة أنواع الأصوات كما جهّزه بحواس اخرى من أجل الاحساس بالروائح، البرد والحر، الخشونة والنعومة و ...
إنَّ بناء هذه الآلات معقَدٌ ودقيقٌ بالقدر الذي يُمكن أن يكون شرح كلٍّ منها موضوعاً لعلمٍ مستقلٍ، وقد دوِّنت كتبٌ كثيرة بهذا الخصوص حيث تُعتبر في الحقيقةِ مجموعةً من أسرار التوحيد، ودروس، وبلاغات ونغمات لمعرفة اللَّه تُردُدها هذه الأعضاء في مسامع روح الإنسان، فمن غير الممكن أن يتأملَ المرءُ في بناء هذه الأعضاء ولا يخضع اجلالًا امام قدرة وعظمة خالقها، سواء اعترف بلسانه أم لا.
بهذا التمهيد نُيممُ وجوهنا صوب القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ والافْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل/ 78)
2- «وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفئِدةَ قَلِيْلًا مَّا تَشْكُرُونَ».
(المؤمنون/ 78)
3- «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ وَالأَبصَارَ
.... وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ افَلَا تَتَّقُونَ». (يونس/ 31)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 348
4- «أَلَم نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وشَفَتَيْنِ». (البلد 8 و 9)
5- «قُلْ أَرأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوْبِكُمْ مَّنْ الهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيْكُمْ بِهِ أنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُوْنَ». (الانعام/ 46)
6- «سَنُرِيْهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّىَ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».
(فصلت/ 53)
«السَّمْع»: تعني في الأصل قوّة السَّمع، وقد تطلق على الأذن أيضاً، وقد وَردَ هذا اللفظ بمعنى الاستماع، واستجابة الدعوة والقبول والتجسس أيضاً، وإذا ما استخدمت في ما يخص الباري تعالى فهي تعني علمه واطلاعه على المسموعات، و «اسماع» جمع «سمع» إلّا أنَّ هذا اللفظ لم يُستخدم في القرآن الكريم اطلاقاً، ولعلّه بسبب أنّ «السمع» تستعملُ في معنى الجمع أيضاً «1».
«بَصَرْ»: وتعني (العين) وتستخدمُ أيضاً بمعنى «قوة النظر»، ويُستعمل هذا اللفظ في معنى قوة العقل والفهم أيضاً، فيقال لها «بصر» و «بصيرة» (جمع بصر، «ابصار» وجمع بصيرة «بصائر»).
إلّاأنَّ لفظ بصيرة لا يُطلقُ على العين أبداً، بل يُقال لها «بَصَرْ» والعجيب أنَّ لفظ البصير يُطلقُ أحياناً على المكفوفين، ولكن يظهرُ أنّ هذا الاستعمال ليس بسبب علاقة التضاد، بل لأنَّ المكفوفين غالباً ما يتميزون بقوة إدراكٍ فائقة، ويتلافون فقدانهم لقوة البصر بقوة التفكير والبصيرة «2».
واعتبر بعضُ أرباب اللغة كمؤلف «المصباح» أنَّ المعنى الأصلي ل «بَصَر» هو النور
__________________________________________________
(1) لسان العرب، المفردات، مجمع البحرين، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
(2) مفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 349
الذي نتمكن من خلاله من رؤية الموجودات، وفي «المقاييس» ذُكر لها معنيان: الأول الاطلاق على الشي ء، والثاني ضخامة وسمك الشي ء، ولكن يبدو أنَّ المعنى الأول والذي أوردَهُ
الراغب في المفردات أيضاً أكثر صواباً وتناسباً مع موارد هذا اللفظ.
و «افئدة»: جمع «فؤاد» من مادة «فَأد» (على وزن وَعد) وتعني في الأصل «الشوي»، لذا يُقال «فؤاد» للأفكار والعقول الناضجة، وقد يأتي هذا اللفظ بمعنى القلب، أو غلاف القلب أيضاً، وقال بعضهم أيضاً أنَّ هذا اللفظ يطلق على القلب والعقل حينما يكون متنوراً ومشرقاً، وقال بعضهم إنَّ «فؤاد» تعني مركز القلب يُطلقُ على مجموعهِ.
و «العَيْن»: ذات معانٍ كثيرة والمعروف أنَّ لهذا اللفظ سبعين معنىً في لغة العرب.
إلّا أنَّ المعنى الاصلي ل «العين» هو العضو الخاص بالنظر، وقد يأتي أيضاً بمعنى قوة البصر.
ولكن لها معانٍ كنائية ومجازية كثيرة برزت على هيئة معانٍ حقيقية نتيجة لكثرة الاستعمال، فمثلًا يقال للينبوع «عين» لأنَّه يشبه العين، ويقال للجاسوس والمكلف بالتجسس والاستطلاع «عين» أيضاً، كما يُطلقُ هذا اللفظ على ذوي المكانة وعلى الشمس والذهب أيضاً لأنَّ الذهبَ من بين الفلزات كالعين بين الأعضاء، وكذلك «الشمس» بين النجوم، وكالمرموقين من بين أبناء قومهم، كما يُطلقُ هذا اللفظ أيضاً على الثروة والمتاع الذي يمكن الاستفادة منه، وثقب الحلقة، والبصيرة والاطلاع على الشي ء كلٌّ في محلِّه، وسُمِّيت الحور العين بهذا الاسم لأنّها ذات عيونٍ جميلةٍ وواسعة.
و «اللسان»: تعني عضو التكلُّم، ووردت أيضاً بمعنى قوة البيان، وتُطلقُ أيضاً ككنايةٍ على الأشخاص المتكلمين نيابة عن جماعة ما، كما يُقال ل «ألْسِنة» (جمع لسان) أيضاً، ويُستخدم هذا اللفظ بصيغة المذكَّر والمؤنث إلّاأنّه جاء في القرآن الكريم بصيغة المذكر.
و «شَفَة»: على وزن (سَعَة) وتستخدم بصيغة التثنية «شفتان» «1»
.
ومفهوم «مشافهة» يعني مقابلة الشخص والاستماع إلى شي ءٍ ما من شفتيه، وورد هذا اللفظ بمعنى شاطي ء «النهر» وساحل «البحر» لأنَّه شفة له.
__________________________________________________
(1) لقد ذكر بعضهم أنَّ اصَلها «شَفْو» (ناقصة
الواو) وبعضٌ «شَفَة» لأنّ مصغَّرها «شفيهة» وجمعها «شفاه».
نفحات القرآن، ج 2، ص: 350
يقول في الآية الاولى كتعريفٍ بالذات الإلهيّة المقدّسة وبيانٍ لآياته في خلقِ الإنسان:
«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ امَّهاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً».
إنَّ هذا التعبير يُبيِّنُ بجلاء أنَّ صفحة القلب تخلو من جميع المعارف عند الولادة، إلّاأنّ بعض المفسِّرين قالوا إنَّ المقصود ليس العلم الحضوري للإنسان بذاته، أو بتعبير آخر إنّ المقصود هو العلم بالأشياء الخارجية، وذكروا ذلك كشاهدٍ في قوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لَايَعْلَمَ بَعدَ عِلْمٍ شَيْئاً». (النحل/ 70)
والانسان في سنِ الشيخوخة يعلمُ بوجوده إلّاانَّه يُحتملُ جهلِ الوليد بوجوده في بداية الولادة وأول ما يُدركه هو وجوده.
ثم يضيفُ: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ».
لقد جعلَ اللَّه العينَ والاذنَ كي يُدركا المحسوسات، والعقل لإدراك المعقولات، وتَطّلعون على العالم الخارجي من خلال وسائل المعرفة الثلاث هذه، ثمَّ تقومون بشكر هذه النِّعم وتتوجهون قبل كلِّ شي ء لمعرفة ذلك الخالق الذي منحكُم وسائل العلم والمعرفة.
ولإدراك أهميّة العين والاذن والعقل يكفي تصور الحالة التي تتمخض عن فقدان أحدهما (فضلًا عن كليهما)، فما هو حال مكفوف البصر، أو الأخرس أو المجنون أو جميعهم؟ وكم ينأى عن مواهب هذا العالم العظيم؟ وقبل كلِّ شي ءً يفقد موهبة العلم والاطلاع التي هي أفضل المواهب ومقدمةٌ للتَنعُمِ بالمواهب الاخرى
وقال بعضهم إنَّ المقصود من «شيئاً» في الآية أعلاه هو حق المنعم، وقال بعض آخر: إنّ المقصود هو مصالحه، وفسَّرها قسمٌ منهم على أنّها السعادة والشقاء، أو الميثاق الإلهي في يوم: «ألستُ بربِّكم»، إلّاأنّ اطلاقَ الآية ينفي كلَّ اشكال التقييد فتشمل كلَّ شي ء.
وهنا لماذا تقدَّمَ «السَّمع» على «الأبصار»؟ فلعل ذلك يرجعُ إلى استخدام الاذن قبل العين، لأنَّ العينَ لم
تكن لديها القابلية على الرؤية في محيط رحم الام الذي يسودُه ظلامٌ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 351
مطبقٌ، وتكون حساسة جدّاً ازاء النور إلى حينٍ بعد الولادة، لذلك فهي غالباً ما تكون مغمضة، حتى تستعد تدريجاً لمواجهة النور، إلّاأنَّ الاذن ليست كذلك فباعتقاد بعضهم أنّها تسمعُ الأصوات في عالم الجنين أيضاً، وتتعرفُ على انغامِ قلب الأُم!.
بالاضافة إلى أنَّ الاذن تعتبرُ وسيلةً لسماع رسالة الوحي الإلهي الذي هو أشرف المسموعات، وكذلك وسيلة عامة لنقل العلوم من جيلٍ إلى جيلٍ آخر، بينما ليست العينُ كذلك، لا شكَّ أنَّ القراءة والكتابة وسيلةً لنقل العلوم إلّاأنّها ليست عامة وشاملة.
وجعلُ «الافئدة» وراءهما واضحُ الدليل أيضاً، لأنَّ البَشر ينقلون المشاهدات والمسموعات إلى العقل، ومن ثمَّ يقوم بتحليلها وتفكيكها وينتقي منها معلومات حديثة ويكتشف القوانين العامة للعالم «1».
وفي الآية الثانية يتابع الحقيقة التي وردت في الآية الآنفة، وأشار إلى مسألة خلق الاذن والعين والقلب، من أجل معرفة اللَّه، مثيراً في الإنسان الشعور بالشكر الذي هو السُلَّم لمعرفة اللَّه تعالى مع هذا الاختلاف حيث يُعبَرُ عن خلق هذه الأعضاء بتعبير «انشاء» وفي الختام يوجِّهُ اللومّ والتأنيب لُاولئك الذين قليلًا ما يشكرون اللَّه، فيقول: «وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيْلًا مَّا تَشْكُروُنَ».
و «الإنشاء»: كما يقول الراغب تعني في الأصل إيجاد الشي ء وانمائهِ، ولهذا يقال «ناشئة» للشباب.
إنَّ التعبير بإنشاء غالباً ما يخص الحيوانات، بالرغم من استخدامها أحياناً في غير هذا المورد مثل: «أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ». (الواقعة/ 72)
ومن الممكن أن يكون هذا التعبير في الآية أعلاه إشارة إلى المسيرة التكاملية للعين
__________________________________________________
(1) إنَّ «سمع» تُطلقُ على المفرد والجمع، بالرغم من أنَّهم يجمعونها بصيغة «اسماع» أيضاً.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 352
والاذن
والعقل خلال مرحلة الجنين ثم في مرحلة الطفولة، حيث أَوْجَدَها الباري تعالى ثم يقوم بتربيتها.
ويقول في الآية الثالثة «كاستفهام تقريري» من المشركين الذين انفصلوا عن اللَّه وضلِّوا في وادي عبودية الأوثان: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ».
منَ المسلَّم به أنَّ الأرزاق التي يحصل عليها الإنسان إمّا أنْ تكون من السماء (كالامطار والهواء وضوء الشمس) أو من الأرض (كالنباتات والأشجار والمعادن المختلفة) فكذلك العلوم والمعارف فغالباً ما يحصل عليها الإنسان عن طريق العين والاذن، لأنَّ هاتين الحاستين المهمتين تُعتبران وسيلةَ اتصالِ الإنسان بالعالم الخارجي، وكلُّ هذه الأرزاق الماديّة والمعنوية من اللَّه تبارك وتعالى
واللطيف أنّه عبَّر هنا بتعبير المالكية، وبِما أنَّ المالكية هنا تكوينية فانها لن تنفصل عن مسألة «الخلق» وفي الحقيقة أصبح هذا التعبير من لوازمه، وكذلك لن تكون منفصلةً عن مسألة «تدبير الامور» لذا يقول مستفسراً في نهاية الآية: «ومَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ» «1»
.
فيضيف مباشرة: «أنّهم وبالهام من وحي فطرتهم يقولون بسرعةٍ: إنَّ اللَّه هو مالك وخالق ومدِّبرُ هذه الامور» «فَسَيَقُوْلُونَ اللَّهُ».
«فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ».
أي ترك عبادة الأوثان والتوجه إلى غير اللَّه، والابتعاد عن الذنوب والظلم.
__________________________________________________
(1) قالَ بعض ارباب اللغة إنّ «ملِك» (بفتح الميم وكسر اللام، تعني مَنْ يتصرف بعامةِ الناس من خلال أمره ونهيهِ وهذا يستلزم السلطة والاقتدار والتدبير).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 353
ويقول في الآية الرابعة ضمن إشارته إلى جانب من نِعَمِ اللَّهِ على الإنسان لتحريك الاحساس بالشكر الذي هو مقدمة ل «معرفة اللَّه»: «أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ».
العينان اللتان يتمكن من خلالهما أنْ يرى عالم الوجود، وأن يشاهد عجائب الخلق، وأن ينظر إلى الشمس والقمر والنجوم وأنواع النباتات وأنواع الموجودات الحيّة والحيوانات، وأنْ يتفرجَ على عجائب صُنعِ اللَّه،
وأن يُميزَ الخير من الشر، ويُشَخصَ الصديقَ من العدو، وأن ينقذَ نفسَهُ من مخالب الحوادث.
ثم يضيف «وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ».
اللسان الذي يُمثلُ وسيلةَ اتصالهِ بالآخرين، اللسان الذي يعتبرُ عاملًا في نقل العلوم والمعارف من جيل إلى آخر ومن قومٍ إلى آخرين، اللسان الذي يردد ما يحتاجه، وبه يدعو ويتوسل إلى المعبود جلَّ وعلا، وهو الذي ينطق عن جميع ذرات وجوده.
وكذلك الشفاه التي تلعبُ دوراً مهماً في النطق، وتتحمَّلُ مسؤولية تلفظ كثير من مخارج الحروف «1» بالاضافة إلى مساعدتها في شرب الماء واكل الطعام وهضمه والحفاظ على سوائل الفم، بنحوٍ لو جُدعَ جانبٌ من الشفة فلن تصبح هذه الامور صعبةً بالنسبة للإنسان فحسب، بل وسيكون منظرهُ وصورته باعثاً على الحسرة.
واللطيف أنّ القرآن يتحدث بعد هاتين الآيتين عن هداية الإنسان إلى الخير و (الشر)، قائلًا: «وَهَدَيْناهُ النَّجدَيْنِ».
إنَّ هذا التعبير البليغ يشيرُ إلى علاقة العين واللسان والشفاه بمسألة الهداية ومعرفة الخير والشر، لأنّها تُعتبر آلاتٍ لهذا الهدف العظيم.
وفي الآية الخامسة يُلفتُ الانتباه إلى الحالة التي تحصل لدى الإنسان بسبب فقدانهِ
__________________________________________________
(1) وهذه أربعة حروف بالعربية (ب- ف- م- و) وهي (حروف شفهية) بكثرة وفقدان الشفة يؤدّي إلى أن يفقدالمرء قدرة التكلم إلى حدٍ ما.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 354
للاذنِ والعين والعقل، فيقول: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِهِ» «1»
.
ثم يضيف في نهاية الآية: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ» «2»
.
وفي الحقيقةِ أنَّ القرآن يريد أن يقول: إنَّ آلات المعرفة المهمّة تلك ليست ملكاً لكم لأنّها لو كانت كذلك لما سُلبت منكم فليس بالقليل اولئك الذين فقدوا نعمة السمع والبصر والعقل نتيجة لتأثير عوامل مختلفة، اذن فهي ملك لخالقٍ
آخر، هذا من جهة.
ومن جهة اخرى بما أنَّ الأشياء تعرف باضدادها فانَّ القرآن يريد أن يلفتَ نظرَ الإنسان إلى عظمة الخالق وواهب هذه النعم، من خلال تذكيره بالوضع المؤلم الذي يطرأ للإنسان بسبب فقدان هذه النِّعم التي لا مثيل لها، ويرشده عن هذا الطريق ويُحفزهُ إلى الخضوع أمام عظمته تعالى
ويمكن أن يكون التعبير ب «أخذ» الاذن والعين بمعنى أخذ هذه الاعضاء، أو أخذ قوة السمع والبصر أو كليهما.
وفي الآية الأخيرة من البحث التي تعتبر من آيات التوحيد ومعرفة اللَّه يُسلطُ الانظارَ على آياته قاطبةً في عالم الخلق بأسرِه، فيقول: «سَنُرِيْهِمْ آياتِنَا فِى الآفاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».
«آفاق»: جمع «افُق» وتعني الأطراف، وعليه فانَّ «آفاق الأرض» تعني أطراف
__________________________________________________
(1) لقد فسَّر المفسِّرون جملة «أرأيتُم» وكذلك «أرأيتُكُم» بمعنى اخبروني أو «هل علمتُم» ولكن باعتقاد بعض المحققين فانَّ هذه الجُمل تتسامح مع المعنى الأصلي فمثلًا جملة (أرأيتم) بمعنى (هل شاهدتم)، ولكن حيث تكون المشاهدة في مثل هذه الموارد للعلم والأخبار فقد فسِّرت بلازم المعنى وعلى ايةِ حالٍ فإنّ الغاية من ذكر هذه الجُمل هو التذكير والتأكيد على دقةِ المخاطب، ولو أردنا أن نفسِّرها بلازم المعنى فيمكننا القول بانَّ هذا هو مفهومها.
(2) «نصِّرف» من مادة «تصريف» وتعني التغيير، وتعني هنا ذكرُ حقيقة ما بلباس وبيان مختلف، و «يصدفون» من مادة «صَدَف» (على وزن هدف) وتعني هنا الإعراض.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 355
الأرض، و «آفاق السماء» تعني أطراف السماء، وبما أنّها ذُكرت في آية البحث بشكلٍ مطلق، فهي تشمل كل الأطراف شمالًا وجنوباً وشرقاً وغرباً.
و «أَنْفُس»: لها هنا معنىً واسع حيث تتضمن الروح والجسم أيضاً، وجميع اعضاء الجسم التي هي موضوع بحثنا.
وهنا إلى
من يعود الضمير في «أَنَّهُ الحَقُّ»؟ قال بعض المفسِّرين: المقصود هو القرآن، والمقصود من آيات الآفاق الانتصارات التي حققها المسلمون في أطراف العالم، والمقصود من آيات الانفس، انتصاراتُهم في بلاد العرب أي اننا نُريهم الانتصارات في أطراف العالم وفي بلاد العرب كي يعلموا أنَّ القرآن حقٌ.
وقال بعضهم: المقصود هو «رسول اللَّه» صلى الله عليه و آله أو دينه، حيث لا يتفاوت كثيراً مع التفسير الأول.
لكن الظاهر هو (كما فهمهُ عددٌ من المفسِّرين) أنَّ المقصود هو اللَّه، أي أننا نُريهم آيات الآفاق والأنفس كي يتجلّى لهم أنَّ اللَّه هو الحق.
يُعدّ التعبير ب «آياتٍ» من جانبٍ، والتعبير ب «الآفاق والانفس» من جانبٍ آخر بالإضافة إلى الآية التي تليها والتي تتحدث عن التوحيد شواهد على هذا التفسير، علماً أنَّ هذه الآية تتوافق مع عدة آيات في القرآن الكريم التي تعرضُ آياتِ اللَّه في عرضِ الخلق ووجود الإنسان، مثل: «وَفِى الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِيْنَ* وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ». (الذاريات/ 20- 21)
وقد ذُكر هذا المعنى أيضاً في تفسير على بن إبراهيم، على الرغم من أنَّ بعض الروايات ذكرت أنَّ ضمير، (أنّه) يقصُد به الإمام المهدي «عج» ولكن الظاهر أنّه تفسيرٌ لبطون الآيات (والجمع بين التفاسير ممكن أيضاً)، على أيةِ حالٍ ... ففي أيٍّ منها تمعنّا نرى من خلاله آثار علمه وقدرته تعالى وكلُّ نباتٍ ينبتُ من الأرض ينطق بنفسه ب «لا شريك له» و «قلب كلِّ ذرة نفتحهُ- نرى شمسَهُ في وسطهِ».
والتعبير ب «سنُريهم» (نظراً لأنَّ الفعل المضارع في مثل هذه الموارد يعني الاستمرارية)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 356
يُعتبر إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي أنَّ كلَّ يومٍ يمُرُّ من عمر الإنسان تنكشفُ له حقائق جديدة عن هذا العالم، وتتجلى أسرارٌ
خافية، ففي كلِّ يومٍ يتوصل العلماء في مختبراتهم ومكتباتهم إلى اكتشافٍ حديث، وتتضح آيات جديدة من آيات اللَّه، ومن المسلَّم به أنَّ هذه المسألة ستستمر حتى لو انقضت ملايين السنين من عمر الخليقةِ، فكم هو عجيب عالَم الخلق الواسع، وكم عظيم خالقُه؟
ومِنْ ثمَّ فاننا لا نعلمُ شيئاً عن مليارات السنين السابقة وما تلاها، وليس لدينا أدنى اطلاع عن هذا الكتاب العتيق الذي فُقد فصلاه (الأول والأخير) وكلُ ما نعلمُه هو نزرٌ يسيرٌ يتعلقُ بجانبٍ من هذا العالم الواسع وفصل من هذا الكتاب الكبير: «العظمة للَّه الواحد القهار».
نستنتجُ من مجموع ما مضى من الآيات أنَّ كلَّ عضوٍ من اعضاء جسمِ الإنسان، بل كلَّ جزءٍ منها، يعتبرُ مرآةً واضحةً للحق تعالى وآيةً مستقلةً وجليةً من علم وقدرةِ وحكمة وتدبير خالق الكون.
لو لم يكن في كلِّ الكَونِ موجودٌ سوى الإنسان، ولم يكن في جميع كيان هذا الإنسان شى ءٌ سوى عينٍ أو أُذُنٍ واحدة، لصار ذلك سبباً لمعرفة الذات الإلهيّة المقدّسة وعلمهِ وقدرته، لأنَّ بناءها دقيق ومعقّدٌ ومحبوكٌ بقدر لا يصدقُ أيُّ عقلٍ أنّها مِنْ صنعِ الصدفةِ أو الطبيعةِ العمياء والصمّاء، بل نواجه في كلِّ مرحلةٍ من دراستها، آيةً جديدةً من علم وقدرة ذلك الصانعِ الحكيم.
فمن بين مئات الخصائص ومن خلال الدقّة في حاسة البصر، أي العين، يكفينا ذكر المواضع الآتية كي نعرف الغرابة المذهلة في هذا العضو:
نفحات القرآن، ج 2، ص: 357
1- العدسة المتغيِّرة: من المعروف أنَّ العينَ تُشبَّهُ بآلة التصوير، بينما لا تصل أحدث آلات التصوير في العالم انْ تكون كأُلعوبةٍ أمام عين الإنسان، لأنّها تحتوي على عدسة ثابتةٍ، حيث يجب أنْ تُنظَّمَ وتُدارَ مِنْ قبل مصورٍ باستمرار من أجل التقاط الصور من عدة جهات، إلّاأنَّ عدسةَ
العينِ الواقعة خلف إنسان العين مباشرة، تتغير دائماً بشكلٍ آلي، فقد يتقلص قطرها أحياناً فيبلغ 5/ 1 ملميتر وأحياناً يتّسع حيث يبلغ 8 ملمترات فيسمح لها بالتقاط الصور من مناظر بعيدة وقريبةٍ جدّاً.
2- طبقات العين السبع: إنَّ العينَ تتألفَ أساساً من سبعةِ حجُب أو سبع طبقات وتُسمى «الصلبية» و «العِنَبية» و «المشيمية» و «الجليدية» و «الزُلالية» و «الزُّجاجية» و «الشَبكيّة»، حيث لكل منها بناؤها الخاص بها وواجبها الذي تتحمله، وشرحها يجرُّنا إلى الاطالة، فيكفينا أن نعلمَ أنَّ اقَلَّ اختلاف فيها يؤدّي إلى اختلال النظر، طبعاً تكمنُ خلف «الشبكية» أعصاب بصرية تنقل الصور التي تقع على الشبكية إلى الدماغ.
3- الحساسية ازاء الضوء: إنَّ تنظيم النور بالنسبة للمصورين يعتبر عملًا شاقاً، وكثيراً ما تُكلَّفُ مجموعةٌ متخصصة بهذا العمل، بينما تستطيع العين من خلال تغيير حساسيتها ازاء شدة الضوء أن تلتقط الصورَ من مناظر مختلفةٍ وفي نورٍ ضعيفٍ أو قويٍّ جدّاً.
4- الحركة المستمرة: إنَّ المصوّرين يديرون اجهزتهم باستمرار نحو اليمين واليسار وإلى الأعلى والأسفل، ويستخدمون مختلف الآلات لهذا العمل، بينما نجد أنَّ العضلات التي تحيط بكرة العين تُدير هذا الجهاز بحركةٍ خاطفة إلى الجهات الأربع بشكلٍ كاملٍ، وتضاعف قدرة المناورة لديها للتصوير في جميع الجهات.
5- المركبات البسيطة والدقيقة: فمن أجل إعداد أجهزة التصوير يستفادُ من أقوى العدسات والفلزات، بينما تم صنعُ العين من مواد لطيفةٍ وفي نفس الوقت قد تستمر في العمل مائة عامٍ لأنّها جهاز حي يستطيع بناء نفسه وتجديد قواه باستمرار، بينما تعتبر الأجهزة التي يصنعها البشر اجهزةً ميتة!
6- اعداد شريط التصوير: يعتبر اعداد شريط التصوير بالنسبة لاجهزة التصوير عملًا
نفحات القرآن، ج 2، ص: 358
صعباً ويجب استعمال حلقاتٍ متباينة باستمرار من أجل التصوير، بينما تصوِّرُ شبكيةُ
العين ذاتياً على الدوام، وبعد انتقاله وحفظِه في الدماغ يُمحا وتستعد لتصوير منظرٍ آخر، ويُنجزُ هذا العمل بسرعةٍ عجيبةٍ ومدهشةٍ للغاية، علماً أنَّ مسألة اخراج شريط التصوير التي تعتبر عملًا شاقاً ومستهلكاً للوقت لم تُطرح هنا.
7- الأجهزة الجانبية: من أجل أنْ تقومَ العين بانجاز واجباتها فقد جُهزت بالكثير من اللوازم التي يعتبر كلٌ منها مدهشاً أيضاً.
إنَّ وجودَ الغدد «الفوّارة» التي تَصبُّ السائل الخاص والشفّاف بشكلٍ دائمٍ في العين، ويَسمح للاجفان أن تتحرك فوق فص العين بدونِ أقَّل تماسٍ خشنٍ، وتسوق فضلات الماء الموجودة في أسفلها إلى الخارج، فينحدر إلى بؤبؤ العين، وللأجفان ردود فعل سريعةمقابل الحوادث المختلفة حيث تحافظ على العين من الصدمات، وهجوم التراب والغبار، أو الضوء الشديد، وبناء «الأهداب» التي هي بمنزلة ستائر تسمح للعين بالاستنارة قليلًا مع كون العين مفتوحة وتحفظها من دخول الغبار والتراب، واستقرار العين في صندوقٍ عظمي قويٍّ جدّاً كالقلعةِ المنيعة، ووضع هذا الصندوق في مكانٍ مرتفعٍ من الجسم حيث يسمح لها أن ترى جوانبها كالراصد الذي يتمركز في المرصد، ووجود الحواجب التي تُمثلُ درعاً لحمايتها، وامور جمَّة اخرى حيث لكلٍّ منها قصةٌ لطيفةٌ ومدهشةٌ وغنية بالمعاني.
لو جمعنا كلَّ هذه الامور وتمعّنا فيها قليلًا فمن المسلَّم به اننا سنذعنُ أنَّ صانعَ العين كانَ مطلعاً على جميع الأنظمة المتعلقة بالعدسات، وانعكاس الضوء، ومسائل اخرى معقّدة من هذا القبيل، وخلقَ مثل هذا الموجود العجيب بعلمه وقدرته الأزلية.
إنّ من بين الأعضاء التي تمت الإشارة إليها في الآيات المذكورة هو اللسان، الذي يعتبر بحقٍ من عجائب خلق اللَّه، ولو كان لهذا اللسان لسانُ ينطقُ عنه، لشَرحَ لنا ما فيه من
نفحات القرآن، ج 2، ص: 359
عجائب، حينها يتضح لنا لماذا استند إليه
القرآن الكريم.
لو القينا نظرةً قصيرةً على واجبات ومسؤوليات اللسان، لاظهرت لنا جانباً من هذه الحقائق، وإجمالًا فلّلسان ستة واجبات أساسية هي:
1- دور اللسان في هضم الطعام: لولا اللسان لما تمت عملية هضم الغذاء بشكل كامل، و لبقي قسم من الغذاء غير مهضوم، وسوف نضطر إلى تحريك الأكل باصابعنا لتتم عملية مضغه بواسطة الأسنان فاللسان يُقلب الطعام باستمرار من ثلاث جهات بين الأسنان بحركاته السريعة الماهرة، دون أنْ يبقى في وسطها! أجل قد يصيبُهُ التعبُ والعجزُ أحياناً فتَقتنصه الأسنان فيُصاب بشدّة، وكأنَّ اللَّه يريد أنّ يثبت لنا بأنّ اللسان لو لم يمنح تلك المهارة الفائقة لتكرر هذا المشهد يومياً ولتعرض اللسان للجرح دائماً.
2- خلط الطعام بلعاب الفم: اللعاب هو ذلك السائل اللزج الذي يعمل على ترقيق وانزلاق الطعام وإعداده للبلع، من جهة، ومن جهة اخرى يجري عليه تفاعلات كيميائية خاصة، ويُعدّه للبلع والهضم، فاللسان هو الذي يتكفل بمسؤولية مزجه بهذا السائل الحيوي.
3- المساعدة في ابتلاع الطعام والماء: إنَّ اللسانَ يلعبُ دوراً أساسياً في نفوذ الطعام والماء، فبالتجمُّع والالتصاق بسقف الفم والضغط على الماء والطعام يدفعه سريعاً نحو البلعوم، ولو اصيب بشلل ليومٍ واحدٍ على سبيل المثال لتعسَّر ابتلاعُ لقمةٍ واحدةٍ ولعله يصبح مستحيلًا.
4- السيطرة على المواد الغذائية: يستطيع اللسان- وبسبب قوة التذوق الشديدة فيه- أن يشخص الكثير من المواد الضارة والسامة للجسم، ويقذفها خارجاً، ولولا دور اللسان في السيطرة الماهرة على باب الدخول إلى الجسم لأُصيبَ الإنسان بالأمراض بسرعة نتيجة لأكلهِ الأطعمة المضرّة، ولأصبح عرضة للأخطار، فالطعام المُر والمالح، أو المتَبَّل، أو الفاسد والمتعفن يميزه اللسانُ أولًا، فيمنَعه من الورود إلى الجسم، أجل- هذا الحارس الغذائي مكلَّفٌ بالسيطرة على جميع المأكولات والمشروبات ليلًا ونهاراً.
نفحات القرآن،
ج 2، ص: 360
5- تنظيف الفم: لابدّ أنّكم قد تفحصتم يوماً أنَّ الفم واللسان ينشغلانِ بالحركة بعد الانتهاء من الطعام، فهذه الحركة هي لتحريك وإزالة بقايا الطعام حيث تُجمع في فضاء الفم ثمَّ تُرسَلُ إلى القناة الهضمية، وهذا العمل يتحملُه اللسان بشكلٍ أساسي وحتى انَّهُ ينظفُ الأسنان إلى حدٍ ما، وخلاصة الأمر: يعتبر اللسان منظفاً ماهراً للفم.
6- النُطق: وأخيراً فانَّ أهمَّ وادقَّ واجبٍ للّسان هو البيان الذي استند إليه القرآن لا سيما فى بداية سورة الرحمن لتعريف اللَّه قائلًا: «الرَّحمَنُ عَلَّمَ الْقُرآنَ خَلَقَ الانْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ». ومع أنَّ النطق يعتبر أمراً بسيطاً بسبب كثرة ممارسته، إلّاأنّه يعتبر في الحقيقة من أكثر الأعمال تعقيداً حيث ينجزه الإنسان ب «لسانه» و «عقله».
فيجب أن يختار أولًا الكلمة المناسبة من بين عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من الكلمات وأحياناً أكثر من هذا العدد، ثم يصدر الأوامر إلى اللسان أن يتحرك على مقاطع الحروف بحركاته الملتوية السريعة الماهرة، وأن يُركِّبَ الحروف المطلوبة بمساعدة الرئة والحنجرة والأوتار الصوتية ويربطها فيما بينها وأن يكوِّنَ كلمةً واحدة، ثم يختار الكلمة الثانية بنفس السرعة، ويولدُ أصواتاً معينة، ويستمر هكذا حتى تكتمل الجملة، ولو اخطأ الذهنُ قليلًا في اختيار الكلمات فانّه يقصر عن استيعاب المعنى ولو حدث أدنى خطأ في حركات اللسان السريعة في فضاء الفم لما كانت هناك جملة واحدة مفيدة.
تأمّلوا الآن متكلماً يتحدث باتزانٍ وفصاحة وبلاغة ساعة كاملة، لقد أدار لسانه في أطراف الفم آلاف المرّات واستند إلى مقاطع الحروف تماماً وذلك في محيط صغيرٍ تتقلص إمكانية المناورة فيه كثيراً فأيُّ عملٍ عجيبٍ واعجازيٍّ يؤدّيه؟ وهذا ليسَ إلّاعرضٌ لقدرة الخالق العظيم.
ومن المسلم به أنّ الشفاه تُكمِّلُ عمل اللسان، وتقوم بتكوين بعض الحروف، وهذا التنسيق
بين هذين العضوين يمثل عملًا لطيفاً ومدهشاً وأهم منهُ العمل الفكري الذي يلازمه.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 361
والخلاصة أنَّ لكلِّ عضو من الأعضاء الظاهرية أو الأجهزة الداخلية للجسم كالقلب والدماغ والشرايين وشبكة الأعصاب قصةً مفصَّلةً ومثيرة، ولو أردنا أنْ نتطرق إلى أسرارها واحد تلو الآخر لاستلزمَ سبعين منّاً من الورق لأنّ من اليسير أن تمتلى ء آلاف الكتب بأسرارها، فالأفضل لنا أن نعترف بقصورنا في هذا المجال ونخضع إجلالًا على أعتاب قدرة الخالق العظيم، ونترنَّم بقول الشاعر بصدد الخلق ونقول أيّها الإنسان: عجباً لك إذ لم يكن للعالم مجال لمشاهدتك فلماذا لا تنظر إلى نفسك متعجباً:
أو نقول:
أتزعُمُ انَّكَ جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ! نفحات القرآن، ج 2، ص: 363
ممّا لا شك فيه أنَّ الإنسان موجودٌ اجتماعي بالطبع، ويحصل على ما يحتاج إليه في الحياة الجماعية، فتكامل الإنسان معنوياً ومادياً، في العلوم والمعارف، الحضارات والصناعات، الآداب والتقاليد، يحصل من خلال الحياة الجماعية، بنحوٍ يمكننا من القول أنّه لو فقدَ الإنسان هذا الطراز من الحياة فسيفقد كلَّ شي ءٍ، ويهبط إلى مستوى الحيوان.
إنَّ اهتمام الإنسان بهذا الطراز من الحياة علاوة على فطريته، فهو نابع من كثرة وتباين حاجاته، وهمته العالية لبلوغ مراحل اعظم وأكمل، ولا يمكن تأمين هذه الحاجات الجسمية والروحية بدون الحياة الاجتماعية، وإلّا فما هو دور الإنسان منفرداً؟
ولكن يجب أن لا ننسى أنّ الإنسان يحتاج إلى عوامل نفسية وبدنية كثيرة من أجل التعايش اجتماعياً، حيث وضعها الخالق في متناول يديه، وإذا تمَّ تحليل هذا الجانب من حياة الإنسان تحليلًا موضوعياً فسيتضح انَّه من أكثر آيات اللَّه عجباً.
بهذا التمهيد نتجه نحو آيات القرآن التي تستند إلى هذا الأمر ونتمعن خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِّتَسْكُنُوا الَيْها وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً انَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ». (الروم/ 21)
2- «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لَيَسْكُنَ الَيْها».
(الاعراف/ 189)
نفحات القرآن، ج 2، ص: 364
3- «إِنَّا خَلَقْنا الإِنْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيْهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيْراً». (الإنسان/ 2)
4- «يَا ايُّهَا النَّاسُ انَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ ذَكَرٍ وَانْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا انَّ اكْرَمَكُمْ عَنْدَ اللَّهِ اتْقاكُمْ». (الحجرات/ 13)
5- «هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِيْنَ* وَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ انْفَقْتَ مَا فِى الأَرضِ جَمِيْعاً* مَا الَّفتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّه عَزِيزٌ حَكِيْمٌ». (الانفال/ 62- 63)
«زوج»: تعني في الأصل الحيوان المذكر والمؤنث حيث يُطلقُ هذا اللفظ على كلٍّ منهما، ويُطلقُ- أحياناً بمعنى أكثر شموليةً- على كلِّ شيئين متناظرين، سواء كان من ناحية التشابه أو التضاد، كزوج الحذاء، أو الجوراب، أو الليل والنهار والخير والشَّر وأمثالها، أو الارقام التي تقبل القسمة على اثنين متساويين، لأنَّ كلًا منها يناظر الآخر، إلّاأنّها تُقال في خصوص البشر لمن أبرم عقد الزواج بينهما.
وقال بعض أرباب اللغة إنَّ معنى «زوج» عبارة عن الشكل الذي يكون له مثيل، كالأنواع والألوان المختلفة، أو الشي ء الذي له مضاد، كالرطب والجاف، المذكر والمؤنث، الليل والنهار، الحلو والمر، كما صرَّحوا أنَّ «زوج» تعني كلَّ فردٍ من الزوجين، لا الاثنين معاً بل يجب أن يقال للاثنين «زوجان»، واطلاقُ زوج على الاثنين هو من كلام الجهلة «1».
«لِتَسْكُنُوا»: من مادة «سكون» وتعني في الأصل ثبات الشي بعد الحركة، وجاء في «مقاييس اللغة» أنَّ أصلها بمعنى الاطمئنان، والحالة التي تعاكس الاضطراب والحركة، وتطلقُ أحياناً على تخفيف ضغط العاصفة والحر والبرد، والمطر والغضب أيضاً، ولهذا سُمِّيَ «سكان» السفينة
بهذا الاسم حيث يعتبر أساس واطمئنان السفينة ووضعها في
__________________________________________________
(1) المفردات، مصباح اللغة، التحقيق ولسان العرب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 365
الطريق الصحيح، ومن هذا الجانب سميت «السِكّينة» بهذا الاسم، حيث تُسكنُ حركات الحيوان بقطع رأسه، كما يقال لحالة الاطمئنان والاستقرار النفسي «سَكينة» أيضاً، وتُطلق «مِسْكين» على من يبدو ساكناً في محله لشدة الفقر الذي يعانيه، ويقال لمكان سكن واستقرار الإنسان «مَسْكَن» «1»
.
و «شُعُوب»: طبقاً لقول بعضهم، جمع «شَعْب» (على وزن صَعْب)، وجمع «شِعْب» (على وزن فِعْل) طبقاً لقول بعضهم الآخر، بينما يعتقد البعض كصاحب مجمع البحرين أنَّ جمع الأول «شعوب» وجمع الثاني «شعاب»، وعلى أيّةٍ حالٍ فانَّها تعني كما يقول صاحب «لسان العرب» الجمع والتفريق، أو الإصلاح والافساد (وذلك يصور إلى أنّ معناها الأصلي هو الوادي الذي يتجمعُّ في الجانب الآخر من الجبل ويتسعُ في الجانب السفلي وكما يقول الراغب في المفردات أنَّ المفهومين اجتمعا فيه) لذلك يقال «شَعب» للقبيلة التي انفصلت عن طائفةٍ كبيرة (فلها صفةٌ جمعيةٌ تفريقية) وقال بعض أيضاً أنَّ «شعوب» تستخدم بخصوص العجم و «قبائل» للعرب «2».
ولهذا تأتي «تَشَعب» أيضاً بمعنى التفرق وكذلك الاجتماع، والإصلاح والافساد.
«ألَّف»: من مادة «إلْف» على وزن (جِلْف) وتعني الاجتماع المتقارن بالانسجام والوئام، وتأليف القلوب يعني إيجاد الالفةِ والأواصر والصلةِ بينها (وعلى هذا الأساس اطلقوا على تأليف الكتاب هذا الاسم حيث يتمّ إيجاد نوع من التآلف والانسجام بين الألفاظ والمعاني والموضوعات) ولهذا يقولون للعدد أَلْف حيث يعتقد العرف أنَّ كافةَ الاعدادِ مجموعةٌ فيه لأنَّه يتكون من عدد واحد والعشرات والمئات والآلاف، ولم تكن هناك أعدادٌ بعده بل تتكرر نفس الأرقام، عشرة آلاف ومائة ألف و .... «3».
__________________________________________________
(1) التحقيق، لسان العرب، المفردات، مجمع البحرين، وكتاب
العين.
(2) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 138.
(3) مجمع البحرين، لسان العرب، مفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 366
في سورة «الروم» وأثناء تعداد الآيات الإلهيّة في سبعِ آيات متقاربة «1» حيث تبتدأ كلٌّ منها بتعبير «ومن آياته» أَوضحَ جانباً من براهين عظمة اللَّه في عالم الوجود بلحنٍ مرغوبٍ وجذابٍ ونغمةٍ لطيفةٍ ومحببةٍ والآية الاولى في البحث إحداها فقد أشارت إلى اللبنة الاولى في بناء المجتمع البشري، أي وحدة الاسرة والعلاقة التي تسودُها، فيقول: «وِمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا».
واللطيف أنّه لم يذكر هنا أنَّ الهدف من الحياة الزوجية هو بقاء النسل، بل يذكرُ نيل الاطمئنان والسكينة، الذي يحصل من خلال الحياة الزوجية، لأنَّ هذين الجنسَيْن يُكمل أحدُهما الآخر، ويكونان سبباً لتفتُحِ وانقاذ وتربيةِ كلٍّ منهما، بنحوٍ يبدو كلٌ منهما ناقصاً بدون الآخر، وينال تكامله عن هذا الطريق.
إنَّ هذا الاطمئنان والسكون لا يقتصر على الجانب الجسدي بل إنّ جانبه الروحي أهم واقوى
والاضطرابات النفسية وفقدان التوازن الروحي، والأمراض المختلفة المتمخضة عن الزهد في الزواج، شاهدٌ ناطقٌ على هذا المعنى
ثم يضيف: «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».
هذه المودةُ والرحمة التي تُعتَبرُ في الحقيقة الركن الأساس وحلقة الوصل والإرتباط ما بين الناس، فتربط الأشخاص المتفرقين والمتباعدين، وتخلق من ذلك مجتمعاً قوياً، تقوم المواد الأساسية في البناء بشدِّ قطع الطابوق والحجر ويُشيَّدُ منها بناءٌ ضخمٌ وعظيم.
واللطيف كذلك أنّه استند مرّه ثانية في نهاية الآية إلى هذه النكتة التوحيدية: قائلًا: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفكّرُونَ».
__________________________________________________
(1) تبدأ هذه الآيات من الآية 20 من السورة وحتى الآية 25 (ست آيات متتابعة) والآية 7 والآية 46 من نفس السورة.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 367
ولو تأمَّلنا في تشكيل
الحياة الزوجية وهي أول وحدةٍ اجتماعية، في الرابطة القوية التي تتكون بين هذين الجنسين المختلفين، ومن ثم لو تأملنا في الوحدات الاجتماعية الأكبر:
العائلة، الأقارب، الطائفة والعشيرة، ثم في المدن والاقطار وفي كل المجتمع البشري، فاننا سنواجه في كلِّ خطوةٍ نخطوها آيةً من آياتِ اللَّه العظيمة.
فمن الذي خلقَ المحبّةَ والمودةَ بين المرأة والرجل، والأب والام وابنهما، والعشيرة والأقارب، وكلِّ الناس بشكلٍ عامٍ؟
من الذي وَضَعَ التوازن بين جنس المرأة والرجل في المجتمع البشري؟ بشكلٍ يتمّ الحفاظ على هذا التوازن رغم الحوادث المعقدة التي تطرأ في المجتمعات كالموت والولادات!
من الذي خلقَ الأذواق المختلفة في العقول، والرغبات المتباينة في القلوب؟ وأخذ بيد كلِّ صنفٍ نحو عملٍ وبرنامجٍ، كي يتكون من مجموعهم مجتمعٌ إنسانيٌّ ككتلةٍ واحدةٍ متكاملةٍ من جميع الجوانب.
ولعلِّهُ لهذا السبب أشار في الآية الآتية إلى اختلاف الالسُنِ وتباينِ الألوان ويعتبر ذلك من آيات اللَّه. فيقول: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ الْسِنَتِكُمْ وَالْوانِكُمْ إنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِيْن». (الروم/ 22)
وممّا لا شك فيه أنَّ أحد التفاسير لاختلاف الألسن والألوان، هو هذا التباين الموجود في النطق والأذواق والجذب الفكري للأشخاص، ممّا يؤدّي إلى أنْ يتحلّى المجتمع البشري بالانسجام التام، بنحوٍ لا يحصل معه فراغٌ في أي من الحاجات المعنوية والمادية للبشر.
«مَوَدَّة»: من مادة «وُدّ» (على وزن حُبّ) وتعني المحبّة كما تطلق على «الأمل في تحقيق الشي ء» (وكلا المعنيين قريبان لبعضهما) ولفظ «وَدّ» (على وزن حَدّ) اسمٌ لأحد اصنام الجاهلية، وسمي بذلك الاسم لمحبتهم الشديدة له، أو لأنّهم كانوا يظنّون بوجودِ مودةٍ بين اللَّه وهذا الصنم، كما يُطلقُ هذا اللفظ على «المسمار»، حتى قالَ بعض إنَّ لفظ «وَتَدْ»
نفحات القرآن، ج 2، ص: 368
الذي يعني في لغة العرب «المسمار» مأخوذٌ
من أصل «وُدّ» لأنَّ المسامير تلتصق بالجدار أو الأشياء الاخرى ومن هنا فهي تتشابه مع مفهوم المحبّة «1».
«رَحْمة»: وتعني حالة الليونة التي تحصل في قلب الإنسان فتجعله يميل إلى الاحسان تجاه من يستحق الرحمة، ومن المسلَّم به أنّها حينما تُستَخدمُ في مورد الباري تعالى فانّها تعني الإنعام والعطاء والاحسان.
وهنا ما الفرق بين الاثنين (المودة والرّحمة) في هذه الآية؟ لقد اعطى المفسِّرون عدّة احتمالات، ويُمكن القول أنَّ الجامع بينها هو أنَّ «المودَّة» تُقالُ لشي ءٍ لهُ مقابل، كالمحبّة التي بين المرأة والرجل أو الاخَوَيْنِ، حيث تدفع كلًا منهما إلى تقديم الخدمةِ إلى الآخر، إلّا أنّ «الرحمة» من جانبٍ واحدٍ وتشتمل على التضحية، كعلاقة الحب بين الوالدين وابنهما، أو أحد الزوجين نحو الآخر عندما يعجز عن العمل.
وهنا تكمنُ نكتةٌ مهمّة، وهي يجب أن يقوم في الحياة الزوجية وكذلك الحياة الاجتماعية بشكلٍ عامٍ نوعان من العلاقة المعنوية:
الأول: العلاقة التي تتخذ طابع الخدمات المتقابلة، فيقوم كل فردٍ أو طبقةٍ بخدمات متقابلة تجاه الأفراد أو الطبقات الاخرى
والثاني: «الخدَّمات المجانية»، لأنَّ المجتمعات البشرية أو الاسرَ التي هي مجتمعٌ مصغرٌ تعجُّ بالأطفال والضعفاء والعجزة باستمرار ولو شاؤا انتظار الخدمات المتقابلة لظلّوا يعانون الحرمان، هنا حيث يعطي مفهوم «المودة» مكانه إلى «الرحمة»، وتحلُّ الخدمات التضحية محلَّ الخدمات المتقابلة، وكم لطيف هذا التعبير القرآني الذي لن ترى المجتمعات البشرية صورة الاطمئنان والراحةِ إلّابالعمل به.
والآية الثانية من البحث تردد هذه الحقيقة التي وردت في الآية الآنفة مع هذا الفارق
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب مادة (ود).
نفحات القرآن، ج 2، ص: 369
حيث تقول: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنهَا زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها».
والمقصود من «نفسٍ واحدةٍ» باعتقاد اغلب المفسِّرين هو آدم عليه السلام «1»، ومن
المسلَّم به أنَّ التعابير التي جاءت في ذيل الآية وتُشَمُّ منها رائحة الشرك، لا تعني الشرك في الاعتقاد ولا في العبادة، بل يُمكنُ أن يَكونَ المقصود منها هو ميل آدم إلى ابنائهِ، الميلُ الذي قد يجذبُ الإنسان نحوه في لحظات خاطفة ويجعله يغفل عن غيره.
ويُحتملُ أن يكون المراد من «نفس واحدة» هو «الوحدة النوعية»، أي (خلقكم من نوعٍ واحدٍ).
وليسَ المقصود من عبارة: «جَعَلَ منها زَوْجها» أنَّ زوجة آدم «حواء» قد خُلقَتْ من جزءٍ من جسمه، كما نُقل في الرواية الموضوعة أنَّ حواء خُلقت من ضلع آدم الأيسر، ولهذا يقل عدد الاضلع في الجانب الايسر عنها في الجانب الأيمن بضلعٍ واحدٍ، لدى الرجال، ولا شك أنَّ عددَ الأضلع في كلا جانبي الرجل لا يتفاوت أبداً، ومن السهولة تجربة ذلك، بل إنّ المقصود هو:
إنَّه خلقَ زوجة آدم من جنسه، كي تكون بينهما الجاذبة الجنسية، وليس من جنسٍ بعيدٍ وغريبٍ، كما نقرأ بخصوص النبي صلى الله عليه و آله في القرآن الكريم: «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِيِّيْنَ رَسْوُلًا مِنْهُمْ».
ويشير في الآية الثالثة إلى خلق الإنسان من نطفةٍ مختلطة، فيقول: «إنّا خَلَقْنا الانْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَليْهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيْعاً بَصِيْراً».
وتم التلميح في هذه الآية إلى ثلاث مزايا للإنسان: الاولى امتزاج النطفة، ويستفاد هذا الامتزاج من لفظ «أمشاج» جمع «مشيج» أو «مَشَج» (على وزن مَدَدْ) وتعني الشي ء
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 508؛ و التفسير الكبير، ج 15، ص 85؛ و تفسير روح البيان، ج 3، ص 2094؛ تفسير الميزان، ج 8، ص 391، ونقل هذا المعنى في تفسير القرطبي (ج 4، ص 2773) عن جمهور المفسرين.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 370
الممزوج، ولهذا معنىً واسع حيث يشمل اختلاط
النطفة من «البيضة» و «الحيمن»، وكذلك المواد المعدنية المختلفة وغيرها من المواد التي تتظافر لصنع النطفة، كما يمكن أن تكون إشارة إلى القوى المختلفة والقابليات المتباينة والأذواق المتفاوتة الموجودة في نطفة الإنسان وتُعدهُ للحياة الاجتماعية في المجالات كافة.
والثاني عبارة «نبتليه» التي تشير إلى انتقال الإنسان من حالةٍ إلى اخرى والتحولات المستمرة وأنواع الابتلاءات والاختبارات التي تأخذ بيده في مسيرته التكاملية وتعتبر دليلًا على تكليف الإنسان ومسؤوليته، لأنَّ الاختبار غير ممكنٍ بدون حرية الإرادة، والقابلية على أداء التكليف.
والثالث امتلاك الأدوات المهمّة للمعرفة ومن أهمّها السمع والبصر، فالسمع للاستفادة من العلوم النقلية وأفكار الآخرين، والعين للمشاهدة والاتصال المباشر بحقائق العالم.
فهكذا إنسان وبمثل هذه المواصفات جديرٌ بأن يرتقي إلى مقام خليفة اللَّه وقادرٌ على الحياة الجماعية.
وفي الآية الرابعة وجَّهَ الكلام إلى الناس قاطبةً، قائلًا: «إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وانْثى .
بناءً على ذلك ليس هنالك أيُّ تمايزٍ بين الأجناس والقبائل والشعوب، لأنّهم يرجعون إلى أصلٍ واحدٍ: «أبوهم آدم وامُّهم حواء».
ثم أشار إلى فلسفة تصنيف الناس إلى شعوب وطوائف مضيفاً: «وَجَعَلناكُم شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا».
لا شكَّ أنَّ أول شروط الحياة الاجتماعية هي معرفة الأشخاص ببعضهم، إذ لولاها لاختَلَّ نظام المجتمع البشري خلال يومٍ واحد، فلم يُعرف المجرم من البري، ولا الدائن من المدين، ولا القائد من المقود، ولا الأئمّة من التابعين، و ... اجَلْ .. اللَّهُ الذي خلقَ الإنسان لمثل هذه الحياة وجَعَلَه أجناساً وقبائل وجماعاتٍ تتباين تماماً بالمواصفات وجَعَل في كلِ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 371
قبيلةٍ أشخاصاً يمتازون بمزايا شخصية خاصةٍ كي تُحلَّ مسألة «التعارف».
ويقول في نهاية الآية كاستنتاج أخلاقي من هذه المسألة الاجتماعية: إنَّ الانتسابَ للقبائل والجماعات ليس دليلًا على أيِّ تفاضُل أبداً بل: «انَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ
اتْقاكُمْ».
فالتقوى لا تُعتبرُ مسألة أخلاقية فحسب، بل مسألة اجتماعية لا تستقيم الحياة الاجتماعية للبشر إلّامن خلالها، التقوى في جميع المجالات، التقوى الاقتصادية، التقوى السياسية، تقوى اللسان والتقوى الفكرية.
وفي الآية الخامسة والاخيرة من البحث يعتبر «تأليف القلوب» احد الأدلة المهمّة على انتصار نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، فيقول: «هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالْمُؤْمِنيْنَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ».
ويثبتُ هذا التعبير بوضوح أنَّ تأليف القلوب يعتبر أمراً حتمياً من أجل التغلُّب على المشكلات الاجتماعية، وقد خلقَ اللَّهُ هذا الاستعداد لدى البشر ولولاه لم يتسنَ التأليفُ بين القلوب، ولو لم يحصل فستضطرب حياة البشر الاجتماعية.
ثمَّ يُلمِّحُ إلى مسألةٍ لطيفةٍ وهي أنَّ تأليف القلوب لا يتحقق بالطرق المادّية، بل يمكن تحقيقه من خلال الإيمان والأساليب المعنوية والقيم الإنسانية السامية، فيقول: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَميْعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبْهِم وَلكِنَّ اللَّهَ الَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزيْزٌ حَكِيْمٌ».
صحيحٌ أنَّ هذه الآية نزلت بخصوص أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، إلّاأنَّ من الواضح أنَّ مفهومها عامٌ ويشملُ المؤمنين قاطبةً، كما اشير إلى هذا المعنى في تفسير الميزان «1».
إنَّ المسائل الماديّة وبسبب ضيقها تكون مصدراً للنزاعات والصراعات، ولو فرضنا أن تكون عاملًا للوحدة يوماً ما، فستكون وحدةً غير راسخةٍ، فالوحدة الراسخة تتحقق في ظل الإيمان والتقوى والقيم الروحية فقط.
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 9، ص 120.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 372
وورد قرينُ هذا المعنى بتعابير اخرى في قوله تعالى حيث يقول حول أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أَشِدّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ». (الفتح/ 29)
وما يثير اهتمامنا هنا هو التعبير ب «هو الذي» في بداية الآية، حيثُ تُعرِّفُ الباري من خلال نصرة رسول اللَّه صلى الله عليه و
آله والتأليف بين قلوب المؤمنين، ويعدَّها من آيات وجود اللَّه تعالى التآلف الذي يَسمو على جميع انواعِ التآلف، حتى على الروابط النسبية والسببية، ولهذا فقد هيمنت أواصر العصبية القبلية وبنحوٍ مذهلٍ على العلاقات التي كانت تسود المجتمع العربي أبان العصر الجاهلي لكن أواصر الإيمان والتقوى طغت على جميع أنواع الراوبط، وظهرت آثار هذا التآلف الروحي والمعنوي في جميع جوانب حياتهم الفردية والاجتماعية، وأذْعَنَ العالمُ باسرهِ أمام عظمتهم.
إنَّ الأَحياء على قسمين وأغلبُها يعيش منفرداً ولا وجود اجتماعي فيما بينها ولو على صعيد اصغر وحدة اجتماعية أي العائلة، وبعضها قد تخطّى هذه الحياة قليلًا وأخذ يعيش مع قرينهِ، ولكنّ قليلًا من الحيوانات تعيش حياةً جماعيةً، وبعضها قد كون حضارةً، كالنحل، والَّنمل، والأرضة وغيرها من الحيوانات.
إلّا أنَّ هذا الصنف (الحيوانات الاجتماعية) لها نوعان من النقص أيضاً: الاوّل: هو استحالة الحياة المشتركة بين المجاميع المتباينة (كنحلِ خليتين أو بضع خلايا)، والثاني:
إنَّ حياتها الاجتماعية تتخذُ طابعاً واحداً باستمرار، اي أنَّ النحلَ يعيشُ اليوم كما يعيش قبل مليون سنة.
فالكائن الوحيد الذي يعيش حياةً جماعيةً غير مقيّدة ويسير نحو التطور والتكامل هو الإنسان، والدليل على ذلك هذا النمو والتطور وسيادة العلم والعقل على حياته الاجتماعية.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 373
وهنا بحوث كثيرة لو أردنا الولوج فيها سنخرج من اطار البحث التفسيري ولكن يبدو من الضروري التذكير ببعض الامور:
1- ما هو منشأ رغبة الإنسان للحياة الاجتماعية؟- هنالك آراء مختلفة، ويبدو أكثرها صواباً هو أنّه مزيجٌ من الحوافز «الغريزية» و «العاطفية» و «الفكرية» فالعقلُ يقول إنّ التكاملَ ممكنٌ في ظل الحياة الاجتماعية فقط سواء كان معنوياً أو عادياً، لأنَّه من البديهي إذا أراد فردٌ أو اسرةٌ أن تعيش بمعزل عن الآخرين، فلا وجود
لهذه العلوم والمعارف ولا هذه الصناعات والاختراعات والابداعات، فلا شك أنّها حصلت من خلال استثمار تكدُس الطاقات الفكرية والجسمية، ونقل كلُ جيلٍ تجاربه إلى الأجيال الاخرى واثمرت هذه الظواهر الجبارة من خلال تجمعها وتظافرها.
ومن ناحيةٍ اخرى فانَّ الإنسان يميل إلى هذه الحياة من خلال حافزٍ ذاتيٍ وعاطفي، فهو يضجر من العزلة، ويشعر باللذة من خلال حديثه وجلوسه وقيامه مع رفاقهِ، وسجنُ الوحدة يمثل أقسى عذابٍ بالنسبة له، وقد اثبتت تجارب العلماء أنَّ العزلة لو استمرت فستؤدّي إلى اضطرابات نفسية على مدى فترةٍ قصيرة، وبغض النظر عن منافع التعايش الجماعي فإنّ هذا يُؤكد على أنَّ الإنسان يرغبُ بطبعهِ في هذا التعايش.
2- لقد اعتبر الإسلام الحياةَ الاجتماعيةَ للبشر من أهم مبادئه، ولم يهتم بها في العلاقات السياسية والاقتصادية فقط بل حتى في مسألة العبادات التي تعتبر علاقة بين الخلق والخالق، فاعطى للعبادات الجماعية (صلاة الجماعة) وصلاة الجمعة ومناسك الحج، أهميّةً لا مثيل لها.
فماهية الصلاة، والاذان والاقامة تُحفزُ الجميع لصلاة الجماعة، ويبرهن ضميرُ الجمع الوارد في سورة الفاتحة، والسلام الذي في خاتمة الصلاة، على أنّ الصلاة ذات صفةٍ اجتماعية واداؤها فرادى يُعد صيغة فرعية.
وقد اعطيت الحياة الاجتماعية اهميةً بالغةً في الإسلام بحيث اعتُبرَ كلُ ما يؤدّي إلى الاختلاف والتفرقة (كالحسد، قول الزور، والغيبة، والنفاق و ...) من الذنوب الكبيرة، وكلُ
نفحات القرآن، ج 2، ص: 374
ما يؤدّي إلى السَّلام والوئام والإصلاح بين الناس جزءاً من أفضل العبادات.
3- أنَّ تحقيق الحياة الاجتماعية للبشر ليس امراً بسيطاً، لأنّه يحتاج إلى توزيع القابليات والقدرات العقلية والجسمية المختلفة، وتخطيطٍ دقيقٍ، وتوزيع للأعمال، والتنسيق والتآلف بين القلوب، وطبقاً للتعبير الذي ورد في تفسير الآيات فانَّ البشر كمواد البناء- الطابوق والحديد والمواد الإنشائية الاخرى
التي إذا لم تكن فيما بينها وسيلة للربط والالتحام لم يتشيَّد منها بناءٌ شامخٌ، وهنا جاءت يد القدرة الإلهيّة لمساعدة الإنسان، ووضعت الخطة الدقيقة الرامية إلى تأليف القلوب، وتوزيع القابليات العقلية والجسمية، وأنواع الأذواق والفنون، ورفَدت الإنسان بالمواهب العظيمة التي لن تدور عجلة الحياة الاجتماعية للبشر بدونها أبداً، ويُعبَّر عن مجموع هذه الامور أحياناً ب «روح المجتمع» وإلّا فاننا نعلمُ أن ليس للمجتمع روح خاصةً غير ما ذُكر.
من يا ترى أوْجَد هذه الروح الاجتماعية بكل ما فيها من مواصفاتٍ من أجل دفع الإنسان نحو التكامل؟ فهل تستطيع الطبيعة العمياء الصمّاء التي لا عقل ولا احساس لها أنْ تُوجدَ هذا التخطيط، وهذه المودَة والرحمة، وهذه السكينة والاطمئنان، ونطفة الامشاج، وهذا التعارف العام، وهذا التآلف بين القلوب؟!
لهذا تَعتبرُ الآياتُ المذكورة هذه الامور من آيات عظمةِ وعلمِ وقدرة اللَّه تعالى
ونختتم هذا الكلام بالحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه و آله فيما يخص اهتمام الإسلام بتقوية الأواصر الاجتماعية بين أبناء البشر، إذ يقول صلى الله عليه و آله:
«إنَّ المُسْلِمَ إذا لَقيَ أخاهُ المسلمَ فاخذَ بيَدهِ تحاتت عَنْهُما ذُنوبُهما كَما تَتَحاتُ الوَرقُ عن الشَجَرةِ اليابسةِ في يومِ ريحٍ عاصفٍ و «لا يفترقان» إلّاغُفِرَ لَهما ذنوبُهما ولَو كان مثلَ زَبَدٍ البحار!» «1».
من مجموع ما جاء في بحوث هذا الكتاب المختلفة تتضح هذه الحقيقة بجلاء وهي أنَ
__________________________________________________
(1) الطبراني، نقلًا عن تفسير في ظلال القرآن، ج 4، ص 57.
نفحات القرآن، ج 2، ص: 375
المعشوقَ يتجلّى من كلِّ بابٍ وجدارٍ، وافاض بأنواره على كلِّ موجودات الدنيا، ورسمَ اسماءَه وصفاتهِ على جبين كلِّ الكائنات.
فقد تجلّى بمائةِ الفٍ من الأنوار، كي نراه بمائة الفٍ من الابصار، وهو قد اضاءَ
شمساً في قلبِ كلِّ ذرةٍ، واظهرَ آثار علمهِ وقدرتهِ في السماء والأرض.
وقد وُصِفَ في آيات القرآن بهذا الطريق وأحصى آياتهِ في الآفاق والانفس.
فتكفي عينان، واذنان، وقلبٌ يقظٌ كي يرى المرءُ هذه الأنوار، وأن يسمع انغام التوحيد، وان يدعو خيرَ المحسنين إلى القلب، ويستضيفه في هذه الخلوةِ الانيسة، وهذا العرش العظيم، ويخاطبه في جذبةٍ روحيةٍ ويترنم بما يلي من الاشعار:
لَبَّيكَ يا عالماً سرّي وَنَجوائي لَبّيكَ لَبّيك يا فَقْرى وَمُغْنائي أدعوكَ بَلْ أَنْتَ تَدُعُوني فَهَلْ نَاجَيَتُ إيّاكَ أَو ناجَيْتَ إيائي حُبّي لِمَولايَ أضناني وأسْقَمَني فَكَيفَ أشكوا إلى مَوْلايَ مَوْلائي يا وَيْحَ رُوحي مِنْ روحي ويا أسَفي عليَّ منّي فإني أصل بَلْوائي «1» الهي! املأ قلوبَنا من حبّكِ ومعرفتكَ والإيمان بك.
ربّنا! أفِضْ علينا نحن العطاشى من كؤوس معرفتك واجعلنا سكارى إلى الأبد في جذبةٍ روحية من جذباتك.
يا مولاي! من الصعب طيُّ طريق معرفة ذاتك المقّدسة إلّابلطفك ورعايتك وتوفيقك، فاجعلنا مشمولين برعايتك وفضلكَ وتوفيقك.
آمين يا رب العالمين
ختام الجزء الثاني من نفحات القرآن
11/ 4/ 1367
الموافق ل 17 ذي القعدة 1408
__________________________________________________
(1) روضات الجنان، ج 3، ص 148، الشعر لحسين بن منصور الحلاج.
كما ورد في بداية هذا الكتاب فإنّ هناك حبلًا ممتداً من أعماق قلب كل إنسان متصلًا باللَّه عزّوجل، فتنطلق في روضةِ روح كلِ انسانٍ انشودةٌ تعبر عن هذا الإرتباط، ولهذا السبب، ونظراً لكثرة النفوس الإنسانية، فإنّ الطرق إلى اللَّه لا حصر لها، ولكلّ إنسان نوع خاص به من الإدراك والشعور بالنسبة للَّه سبحانه وتعالى.
ولكن مع كل هذه الاختلافات فإنّ وجهة الجميع واحدة، العالم بأسره منقاد له، وينمو في أعماقِ روحِ كلِ إنسانٍ برعم من معرفة ذاته وصفاته، وتُزهر في قلب كل إنسانٍ زهرةٌ من أزهار معرفته.
ويرتفع
دائماً من «الوادي الأيمن» نداءُ «إِنّى أَنا رَبُّكَ» ويدعو الفطرة السوية الكامنة في كل النفوس الإنسانية إليه بصوت: «فَاخْلَع نَعْليكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوى . (طه/ 12) يأمر الجميع بأن يسيروا بكل خضوع وخشوع واحترام وحذر شديد في الوادي المقدّس.
ويوصي جميع بني آدم بأن يعملوا بوصيته مثلما عملت مريم عليها السلام عندما أوصاها بقوله:
«وَهزّى اليكِ بِجذْعِ النَّخْلةِ». (مريم/ 25)
فيهزّون الأغصان المثمرة لشجرة التوحيد لتتساقط عليهم ثمرات الإيمان والمعرفة الطيبة.
وأن لا يخشون أبداً من نيران شرك النمروديين، وأن يكونوا إبراهيميين فيدخلونها بكل اطمئنان وهدوء ليطفئوا نيران الشرك المحرقة ويحيلونها إلى روضة للتوحيد.
وأن يركبوا في سفينة المعرفة المنجية كما ركبها نوح، ليُغرق كل الذين يدعون ويلهجون بغيره- حتّى الكنعانيين منهم-.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 6
وأن ينهالوا بالضرب على رأس «السامري» دون وجل، ويحرقوا بنار غضبهم المقدّسة عِجله الذهبي المنمَّق الذي يتسبب في جذب قلوب المتعلّقين بالدنيا ومحبّي الثروة واكتناز الذهب وينثروا رماده في بحر الفناء!
أجل فإنّ سالكي هذا الطريق يكرّرون ما قام به الأنبياء المرسلون في سيرهم الظاهري في هذا العالم من خلال سيرهم الباطني للوصول إلى الهدف والمراد وهو «معرفة اللَّه».
وفي نهاية المطاف يلبّون النداء الروحي لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «قولوا لا إله إلّااللَّه تفلحوا»، فيقتربون من أعلى مقامات الفلاح والفوز من خلال ترديدهم لنغمة التوحيد الروحية السامية بجميع أجزاء وجودهم «حتّى الوريد والشريان».
فيخرجون بهذا السير والسلوك الإلهي من «دار الطبيعة» ليجدوا طريقهم إلى «دار الحقيقة» ومقام القرب الإلهي.
ولكن النقطة المهمّة تكمن في أنّ هذا الطريق يمتاز بكثرة المنحدرات والمرتفعات والمنعطفات التي تكمن في مسالكها شياطين الجنّ والإنس، الذين يبذلون الجهد الجهيد و «بزخرف القول» لحرف سالكي هذا الطريق عن مسيرتهم لأنّ
إمامهم وزعيمهم إبليس أقسم بعزّة اللَّه وجلاله منذ البدء لإغواء بني آدم، ولعلمه بأنّه «رجيم» ومطرود من حضرته، فانّه يدعو الآخرين لاتباعه والاصطباغ بصبغته.
إنّ «الوسواس الخنّاس» هي صفة للشياطين الذين يضعون النقاب على وجوههم، كالغول الاسطوري في قصص العرب، يسيرون عدّة أيّام في جادة الصواب، وبعد أن يجذبوا مجموعة من الناس إلى صفوفهم، ينحرفون عن الصراط المستقيم، ويلقون بهم في الأودية السحيقة «للضالين» و «المغضوب عليهم».
إذن ماذا ينبغي القيام به؟
وأين طريق النجاة؟
نفحات القرآن، ج 3، ص: 7
يا ترى، هل يمكن طي هذا الطريق بواسطة العقل المجرّد، على الرغم من أنّ العقل يعد وسيلة من الوسائل التي وهبها اللَّه تعالى للإنسان فهو نور من الأنوار الإلهيّة؟!
أم يجب ركوب أجنحة الوحي والصعود إلى سماء المعرفة، فنتجاوز ضوء الشمع والمصباح، ونمدُ أيدينا نحو الشمس المتلألئة، فنستمد العون من نورها للوصول إليه، لنحصل على الدليل من ذاته على ذاته؟
حيث إنّ مضمون حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَنِ ابتَغى العِلْمَ في غيره (غير القرآن) أَضَلَّهُ اللَّه» «1»
، ينصّ على ذلك، وهل يوجد غيره، يعرفه حقّ معرفته ليتمكّن من تعريفه للآخرين؟
إنّ هذا الكتاب وهو المجلّد الثالث من التفسير الموضوعي ل «نفحات القرآن» هو عبارة عن جهدٍ متواضع في هذا المجال لمعرفة اللَّه في مختلف الطرق بتوجيه آيات القرآن المجيد، وتأييد حكم العقل بلسان النقل، وترسيخ اسس البرهان بآيات الوحي.
محرّم الحرام 1410 ه ق قم المقدّسة- الحوزة العلمية
مرداد 1368 ه ش- ناصر مكارم الشيرازي
__________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 89، ص 27.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 9
1- برهان النظم (قد ذكر سابقاً)
2- برهان التغيّر والحركة
3- برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر)
4- برهان العلة والمعلول
5- برهان الصدّيقين
6- الطريق الباطني
لمعرفة الله (الفطرة)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 11
بالرغم من أنّ الطرق إلى اللَّه لا حصر ولا حدود لها- وكما يقول بعض العلماء: إنّ السبل إلى اللَّه هي بعدد الخلائق: «الطرق إلى اللَّه بعدد نفوس الخلائق» «1»
- إلّاأنّه توجد خمس طرق عقلية رئيسية وطريق فطري واحد لإثبات ذات اللَّه المقدّسة، والطرق العقلية هذه عبارة عن:
1- برهان النظم.
2- برهان الحركة.
3- برهان الوجوب والإمكان (الفقر والغنى).
4- طريق العلّة والمعلول.
5- برهان الصدّيقين.
والطريق السادس هو طريق (الفطرة) والسلوك (الباطن) والبحث في أعماق الروح الإنسانية، ومن الملاحظ أنّ القرآن الكريم قد استند إلى هذه الطرق أجمع، غير أنّ أشمل البراهين التي يطرحها للمعارضين هو (برهان النظم) الذي يثبت وجود ذلك المبدئ الأزلي وما يملكه من علم وقدرة، وذلك من خلال عرض عجائب الخلق والآثار البديعة والأنظمة العجيبة في عالم الوجود ولذا خُصّص أكثر الجزء الثاني من (نفحات القرآن) لشرح هذا البرهان وتبيان موارده- وشواهده في القرآن الكريم.
__________________________________________________
(1) نقله البعض بعبارة (عدد أنفاس الخلائق) ويعني أنّ كلّ نفس يتنفّسه الإنسان هو طريق اللَّه. ولكن هذه الجملة لم نجدها بصورة حديث في مصادرها بل وردت في كلمات العلماء.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 12
والآن نتابع سائر الطرق القرآنية لإثبات وجود اللَّه، ثمّ نتحدّث عن قضيّة الفطرة في ظلّ التوجيهات القرآنية.
هذه صورة إجمالية عن أبحاث هذا الجزء.
نؤكّد مرّة اخرى ونكرر بأنّ هذه الأبحاث لا تُقدّم كأبحاث فلسفية أو كلامية، بل كأبحاث في التفسير الموضوعي كما تقتضيه طبيعة الكتاب، أي أنّنا نسير في هديّ الآيات القرآنية ونستضي ء بتوجيهات هذا النور الإلهي، ولو كانت ثمّة قضايا اخر فإنّا سوف نتحدّث عنها تحت عنوان (إيضاحات)، وأبحاثنا- في الحقيقة- لا تستوجب غير ذلك، لأنّها في غير هذه الحالة
سوف تفقد أصالتها كأبحاث تفسيرية.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 13
إنَّ عالمنا الذي نعيش فيه هو في حالة تغيير وتغيّر دائم، فلا يبقى الوجود على حالة واحدة، وكلّ شي ء يعيش حالة من التغيّر والتغيير.
ويبدو أنّ نطاق حياة البشر والحيوانات والنباتات المقترنة بالتغيير والحركة أوسع وليس بوسع أحد أن ينكر هذا التغيير والتبدّل على صعيد نفس الإنسان أو على صعيد عالم المادّة، فالإنسان يواجه مشاهد مختلفة من هذا التغيير ليلًا ونهاراً، بل إنّ ظاهرتي (الليل والنهار) هما من أوضح النماذج عن التغيير والتبدّل في العالم.
هذه التغيّرات والتغييرات والحركات التي تحكم العالم تدلّ بوضوح على وجود مركز ثابت تنشأ منه، وكأنّ الجميع يدور حول هذا المركز الثابت على محيط دائرة.
والتغيير والحركة في الموجودات يعدان بمثابة شاهد على حدوث الموجودات، كما أنّ حدوثها دليل على وجود خالقها.
هذا الاستدلال- الذي سَيرِدُ شرحُهُ بالتفصيل مستقبلًا- ورد في الآيات القرآنية بلطافة خاصّة، وبهذه الإشارة نرجع إلى القرآن الكريم كي نقرأ هذه الآيات:
«وَكَذَلِكَ نُرِى إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَءَا كَوكَباً قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَّمَا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَءَا القَمَر بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَّم يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ القَومِ الضالِّينَ* فَلَمَّا رَءَا الشَّمسَ بَازِغةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَا أَكبَرُ فَلمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَومِ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّى وَجَّهتُ وَجْهِىَ لِلَّذِىْ فَطَرَ السَمَاواتِ والأَرضَ حَنيفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشرِكِينَ».
(الأنعام/ 75- 79)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 14
1- «أفل»: و (أفلت) مشتقة من مادة (افول) وتعني الإختفاء كما يقول جمع من اللغويين، ولكن (الراغب) في (المفردات) أكثر دقّة حيث يقول: الافول يعني اختفاء الأجسام النيّرة كالشمس والقمر، والصحيح هو ما يذهب إليه الراغب، لأنّ هذا المعنى هو المتبادر
من إطلاق هذا اللفظ، كما أنّه ذو معنى كنائي في بعض المجالات، فمثلًا يعبّر عن موت العالم ب (الافول)، وفي ذلك- في الحقيقة- تشبيه بالشمس أو النجم، والتعبير بالافول والغروب هو بهذا اللحاظ.
2- كلمةُ «بازغ» و (بازغة) مشتقةٌ من المصدر (بزوغ) بمعنى الشروق وانتشار النور، كما يذهب إليه الراغب في المفردات فيقول هو في الأصل يعني اخراج دم الحيوان بُغية العلاج ثمّ استعمل بمعنى الطلوع.
أمّا ابن منظور فانّه يقول في (لسان العرب): الأصل فيه بمعنى الفتق ويستعمل في موارد فتق العروق في الإنسان أو الحيوان من أجل العلاج وبما أنّ طلوع الفجر وأمثاله يشقّ ظلام الليل لذا استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى.
3- «كوكب»: مشتقٌ من (وكب) أو (كوَب) وقد فسّره الكثير بمعنى (النجم)، ولكن الراغب في المفردات فسّره بمعنى (النجم عند الطلوع)، وعندما يفسّره البعض بمعنى كوكب (الزهرة) فهو من قبيل المصداق الواضح له، لأنّ كوكب الزهرة هو أشدّ النجوم تلألؤاً ولمعاناً.
كما يطلق هذا اللفظ أحياناً على الوسيم والجميل، أو الجزء المهمّ من كلّ شي ء، وعلى كبير القوم أيضاً، ولكنّها معانٍ مجازية في الظاهر.
أمّا «قمر»: وإن كان معروفاً، ولكن توجد هنا نقطة جديرة بالإلتفات وهي أنّ الكثير من اللغويين صرّحوا بأنَّ لفظ (القمر) يطلق في فترة تمتدّ من الليلة الثالثة وحتّى الليلتين الأخيرتين من الشهر، وعليه لا يطلق لفظ القمر في الليلتين الأوليين ولا في الليلتين الأخيرتين بل يطلق لفظ (الهلال)، لأنّ اللغويين يعتقدون بأنّ (القمر) و (القمار) من أصل
نفحات القرآن، ج 3، ص: 15
واحد ويعني الغلبة، وبما أنّ نور القمر في الليلة الثالثة يتغلّب على أنوار النجوم المجاورة، لذا أطلق عليه هذا اللفظ «1».
«شمس»: هذا اللفظ وإن كان له معنى معروف
ولكن من الجدير أن نذكر هذه الملاحظة وهي أنّ لفظ الشمس يطلق على الكوكب نفسه وعلى النور الساطع منه أيضاً.
وبما أنّ الشمس غير ثابتة في السماء وهي في حركة دائبة (بالنسبة لنا سكّان الأرض) لذا يطلق هذا الاصطلاح على الأشخاص الفوضويين والحيوانات الجموحة فتُعرف ب (الشَموس).
تحدثت الآية الاولى عن إراءة اللَّه سبحانه (ملكوت) السماوات والأرض لإبراهيم عليه السلام كي ينبعث اليقين في نفسه بمشاهدتها، وتتجدّد الحياة في إيمانه الفطري حيث تقول «وَكَذلِكَ نُرى ابرَاهِيمَ مَلَكوتَ السَّماوَاتِ والأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنينَ» «2».
إنّ المقصود من (إراءة ملكوت السماوات والأرض) هو مشاهدة حكومة اللَّه ومالكيته لعالم الوجود بملاحظة الموجودات المتغيّرة في هذا العالم [لأنّ لفظ (ملكوت) مشتق من (ملك) بمعنى الحكومة والمالكية، وزيادة الواو والتاء للتأكيد] هذه الحاكمية المطلقة والمالكية المسلّمة للَّه على العالم جاءت بالتفصيل في الآيات اللاحقة، وهذه الآيات- في الحقيقة- جاءت على صورة البيان (الإجمالي) و (التفصيلي) وهو من الأساليب القرآنية المعروفة في بيان القضايا المهمّة، ففي البداية تذكر القضية بشكل مغلق كي يستعدّ السامع ثمّ تشرع بشرحها [التعبير بفاء التفريع في (فلمّا) إشارة واضحة إلى هذا الأمر].
__________________________________________________
(1) لسان العرب؛ مفردات الراغب؛ كتاب العين.
(2) يقول بعض المفسّرين بأنّ في تشبيه الآية إشارة إلى أنّنا كما أريناك- يانبي الإسلام- ملكوت السماوات والأرض فانّا قد أريناها إبراهيم أيضاً (و عليه ففي الآية جملة مقدّرة).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 16
على أيّة حال فإنّ القرآن اعتمد تبيان هذا الإجمال في الآيات اللاحقة، فبدأ أوّلًا بالنجوم وبيّن استدلال إبراهيم عليه السلام في إبطال مذهب عبدة النجوم بهذا النحو: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَءَا كَوكَباً قَالَ هذَا رَبِّى».
التعبير ب «رأى كوكباً» مع أنّ نجوماً كثيرة تظهر في الليل- فيه
إشارة إلى نجم كبير ولامع لفت نظره إليه، وبما أنّ كوكب (الزُهرة) يظهر أوّل الليل و (كوكب) يعني (النجم عند طلوعه) يتعزز بذلك التفسير الذي يميل إليه أغلب المفسّرين وهو أنّ النجم كان الزُهرة أو المشتري اللذين كانا يعتبران في العصور القديمة من الآلهة المعبودة عند المشركين، ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في إحدى الروايات بأنّ هذا النجم هو كوكب الزُهرة.
على كلّ حال فإنّ هذا النجم لم يدم طويلًا حتى أفل، فقال إبراهيم عليه السلام: «... لَااحِبُّ الآفِلينَ».
مرّة اخرى التفت إبراهيم إلى بزوغ (القمر) من وراء الافق فأضاء السماء والأرض بنوره الأخاذ والجميل فقال إبراهيم عليه السلام: «هَذَا رَبّى».
ولكن لم يدم طويلًا حتّى تعرّض القمر إلى مصير النجم واختفى وراء الافق وعادت السماء مظلمة، (عندئذ قال إبراهيم عليه السلام الذي كان يسعى للوصول إلى حقيقة وكنه المعبود:
«لَئِن لَّم يَهِدِنى رَبّى لَأَكُونَنَّ مِنَ القَومِ الضالِّينَ».
وبهذه الطريقة تبين أنّ سعي الإنسان لا يكفي للوصول إلى الحقّ، بل يجب أن يتعزز بالعون والعناية الإلهيّة وكي لا يكون من الضالّين، ومن المؤكّد أنّ هذا الإمداد والعون يشمل الذين يجهدون أنفسهم في ابتغاء الحقّ، وطلب معرفة اللَّه سبحانه وتعالى.
وأخيراً انتهى الليل، وأخذ الظلام يلم ستائره التي أسدلها على السماء، وبزغت الشمس فجأةً بوجهها النيّر المتلألئ من الشرق وألقت بأشعتها الذهبية على الجبال والصحاري، «فَلَمَّا رَءَا الشَّمسَ بَازِغةً قَالَ هَذَا رَبِّى هذا أَكبَرُ» «1».
__________________________________________________
(1) «الشمس» وإن كانت مؤنثاً مجازياً ويجب أن يشار إليها ب (هذه) ولكن نعلم أنّ قضيّة المذكر والمؤنث سهلة وهنا يمكن أن يكون (هذا) إشارة إلى (الموجود) أو (المشاهد).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 17
ولكن بانتهاء النهار وسقوط الشمس في جوف الليل المظلم
واختفاء صورتها خلف حجاب الغروب، نادى إبراهيم عليه السلام: «يَاقَومِ إِنِّى بَرىِ ءٌ مِّمَّا تُشرِكُونَ».
لقد فهم إبراهيم عليه السلام من خلال مشاهدته لغروب الشمس وأفول النجم وغياب القمر، بأنّ كل ما رأى ما هي إلّامخلوقات خاضعة لقوانين الخلقة كالأفول والغروب والتغيير، وفهم بأنّ هناك قوّة خفية لا يعتريها التغيير والغروب والافول أبداً، وهذه القوة تتمثل بالذات الإلهيّة المقدّسة.
وقال: إنّي وَجّهتُ وجهي إلى مَن خلق السماوات والأرض، ولا أُذعن للشرك أبداً، إنّي موحّد كامل التوحيد وعابد وعبد مخلص: «إِنِّى وَجَّهتُ وَجهِىَ لِلذَّى فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ حَنيفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشرِكيِنَ».
هل وقعت الحوادث الثلاثة في ليلة واحدة أم في ليلتين؟
قال بعض المفسّرين- نظراً لعجزهم عن تصوّر وقوعها في ليلة واحدة- أو في ليلتين، فقد قالوا إنّ ظاهر الآيات يدل على أنّها تعاقبت في ليلة واحدة ونهار واحد وهذا ممكن تماماً، لأنّ كوكب الزهرة يظهر منتصف الشهر وبوضوح في أوّل الليل ثمّ يأفل سريعاً، ثمّ يظهر القمر بدراً من افق الشرق [والتعبير ب (بازغ) يدلّ على أنّ القمر كان بدراً أو قريباً منه وعندما يختفي القمر في افق الغروب لا تلبث الشمس حتّى تشرق، وبهذا الترتيب تكون الوقائع الثلاث قد حصلت في ليلة واحدة ونهار واحد.
وهذا الأمر ليس مهماً، المهم أن نعرف هو كيف يمكن لشخص مثل إبراهيم عليه السلام وبهذه المكانة العلمية والعرفانية ومع الأخذ بنظر الاعتبار عصمة ومقام الأنبياء وحتى قبل بعثتهم، أن يجرى على لسانه مثل هذا الكلام والذي يحمل في طياته شركاً ظاهراً؟
يمكن الإجابة عن هذا السؤال بطريقين:
الأوّل: بقرينة الآيات الواردة حيث يقول: «يَاقَومِ انّى بَرىِ ءٌ مَّمّا تُشرِكُونَ» يُفهم أنّه كان
نفحات القرآن، ج 3، ص: 18
في حالة التحدّث والكلام والجدال مع المشركين ونعلم أنّ
مدينة بابل كانت تضم عبدة النجوم والقمر والشمس.
إنَّ المعلّم الذكي والمتحدّث الماهر عندما يواجه المعارض اللجوج المعاند فلا يقابله بمعارضة عقيدته فوراً بل يماشيه فترة، وبتعبير آخر يتحرّك مع الموجة قليلًا ثمّ يركبها، وبهذا النحو يكون إبراهيم عليه السلام في بداية الأمر معهم ظاهراً لكي يريهم ضعف عقيدتهم ومنطقهم عند افول هذه الأجرام السماوية، وهذا الاسلوب في النقاش مؤثّر ونافذ ومقبول كثيراً ولا يتنافى مع ما لإبراهيم عليه السلام من مقام في التوحيد والمعرفة.
في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في جوابه للمأمون الذي كان يعتقد بتعارض هذه الآيات مع عصمة الأنبياء أنّه قال: «... إنّ إبراهيم عليه السلام وقع إلى ثلاثة أصناف:
صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس ... وكان قوله هذا على الإنكار والإستخبار ...» «1».
والتفسير الآخر هو أنّ إبراهيم عليه السلام ألقى هذا الكلام بشكل فرضي، والمحقّقون يواجهون ذلك في الغالب عند التحقيق.
للإيضاح نقول: يتوصّل الإنسان تارةً إلى قضيّة ما عن طريق الاستدلال الوجداني والشواهد الفطرية ولكنّه يريد أن يجعلها في إطار البرهان العقلي، فيستعين بفرضيات مختلفة ويدرس مستلزمات كلّ فرضية حتّى يصل إلى ما يريد.
فمثلًا: يتوصّل المحقّق إلى أصالة الروح بوجدانه ويرغب في إقامة البرهان على ذلك فيفترض الروح مادّية أو أنّ المادّية من خواصها ثمّ يدرس اعراض المادّة وخواصها ومستلزماتها فيصل أخيراً إلى أنّ الماديّة (أو اعراض المادّة) لا تنسجم مع الظواهر الروحية فينفيها الواحدة تلو الاخرى حتّى يبلغ تجرّد الروح.
وإبراهيم عليه السلام أيضاً ولكي يسلك طريق التوحيد المنطقي والذي توصّل إليه بوضوح في أعماق روحه يفترض فرضيات مختلفة ويقول (هذا ربّي) و (هذا ربّي) ثمّ يصل إلى بطلان
__________________________________________________
(1) عيون أخبار الرضا عليه
السلام باختصار، بنقل من تفسير الميزان، ج 7، ص 214.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 19
هذه الاحتمالات بافولها وغروبها حتّى يقول أخيراً: «إِنّىِ وَجَّهتُ وَجهىَ لِلَّذى فَطَر السَمَاواتِ وَالأَرضَ» «1»
ويكمل توحيده المستدل.
ونلاحظ في بعض الروايات إشارات خفيفة إلى هذا المضمون، كما نقرأ عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمّةً وَاحدةً» الآية في حديث طويل ... وفي آخره يقول الراوي: قلت له: أفي ضلال كانوا قبل النبي أم على هدى؟
قال عليه السلام: «لم يكونوا على هدى بل كانوا على فطرة اللَّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللَّه، ولم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم اللَّه أما تسمع لقول إبراهيم عليه السلام: (لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين) أي ناسياً للميثاق» «2».
ولكن القرائن الموجودة في الآيات والروايات التي وردت عن الإمام الرضا عليه السلام في هذا المجال أكثر تلائماً مع التفسير الأوّل.
لقد استدلّ إبراهيم عليه السلام بافول الكواكب والشمس وغروبها على نفي الوهيتها، وقال بأنَّ هذه الموجودات لا يمكنها أن تكون آلهة للعالم، والكلام هنا كيف يمكن توضيح هذه العلاقة؟
توجد هنا آراء مختلفة:
1- (الأُفول) علامة التغيير، بل هو لون من التغيير، والتغيير دليل على نقص الموجود، لأنّ الموجود الكامل من كلّ جهاته لا تتَصوّر فيه الحركة ولا التغيير لأنّه لا يفقد شيئاً ولا
__________________________________________________
(1) وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات أعلاه منها الإستفهام الإستنكاري والإستفهام بقصد الإستهزاء وأمثاله، وخاصّة في تفسير التبيان وتفسير الفخر الرازي حيث أوردا احتمالات عديدة، ولكن لا ينسجم أي منها مع لحن الآية.
(2) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 736، ح 148.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 20
يكتسب شيئاً فهو الكمال المطلق، وعلى ذلك فإنّ الموجودات المتغيّرة
والمتحرّكة تكون ناقصة حتماً فهي إمّا تفقد كمالًا، أو أنّها تبحث عن كمال جديد، والموجود الناقص لا يمكن أن يكون واجب الوجود.
2- الموجود المقرون ب (الافول) معرّض للحوادث، وكلّ ما كان معرّضاً للحوادث لا يمكن أن يكون قديماً وأزليّاً وواجب الوجود لاستلزامه الجمع بين (الحدوث) و (الأزلية) وبين هاتين الظاهرتين حالة من التضاد.
3- كلّ حركة تحتاج إلى محرّك من الخارج، فإن كان ذلك المحرّك متحرّكاً فعلينا أن نبحث عن محرّك آخر حتّى نصل إلى وجود ليس فيه حركة مطلقاً.
4- الحركة- وخاصّة الحركة نحو الافول- دليل على أنّ عالم المادّة صائر إلى الفناء [وهو أصل الكهولة و (الأنتروبي) الذي سنشيرُ إليه وكلّ ما كان مصيره الفناء لا يكون أبديّاً حتماً، ومثل هذا الموجود لا يكون أزليّاً قطعاً، وبذلك لا يمكن أن يكون واجب الوجود.
إنَّ كلّ واحدة من هذه الاستدلالات التي ذكرت يمكن أن تكون لها القابلية على استدلال النبي إبراهيم عليه السلام بها، ويمكن أن يكون كلام إبراهيم إشارة طريفة إليها جميعاً.
ينقل (الفخر الرازي) عن بعض المحقّقين: أنّ استدلال إبراهيم من السمو والشمول ما يجعله مورداً لاستفادة الخاصّة والمتوسّطين والعوام.
أمّا الخاصّة فانّهم يفهمون حقيقة (الإمكان) من (الافول) وكلّ موجود ممكن هو بحاجة إلى خالق، وهذه السلسلة متّصلة حتّى تنتهي بالطاهر المنزّه من الإمكان ولا سبيل إلى ذاته، كما نقرأ في قوله تعالى «وأَنَّ إلَى رَبِّكَ المُنتَهَى . (النجم/ 42)
وأمّا المتوسّطون فانّهم يفهمون من الافول مطلق الحركة وأنّ كلّ متحرّك حادث وكلّ حادث محتاج إلى وجود القديم الأزلي، وأمّا العوام فانّهم يفهمون الغروب من الافول ويشاهدون الشمس والقمر والكواكب تمحى وتضمحل عند الغروب وتزول سلطتها وحكومتها، ومثل هذه الأشياء لا تصلح للُالوهية، إذن جملة: «لا احبُّ الآفِلِينَ»
كلام يستفيد منه (المقرّبون) و (أصحاب اليمين) و (أصحاب الشمال) وهذا أكمل وأوضح برهان «1».
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 13، ص 52.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 21
ومن هنا يتّضح لماذا لم يستند إبراهيم عليه السلام إلى طلوع هذه الكواكب مع أنّ الطلوع والغروب كلاهما مصداقان للحركة؟ وذلك لأنّ ظاهرة الزوال والفناء وانقطاع الفيض والبركة يشاهد في الغروب تماماً في حين لا يشاهد ذلك في الطلوع.
وعليه فإنّ الفصاحة والبلاغة تقتضيان أن يكون الإعتماد على (الغروب) لكي تتوضّح القضيّة أكثر، وتكون مقبولة تماماً لدى جميع الطبقات، وهذه النقطة جديرة بالملاحظة أيضاً وهي أنّ الحركة- كما سيأتي- لها أنواع وأوضحها هي (الحركة في المكان) وقد استند إليها في الآية (الحركة المكانية هنا مقترنة بالحركة الكيفية، لأنّ كيفية النور في هذه الكواكب تتغيّر مع الحركة وتكون ضعيفة النور عند الغروب حتّى تختفي عن الأنظار).
يعتقد بعض الفلاسفة أنّ هذه الآية تتضمّن إشارة إلى برهان الحركة حيث يقول تعالى:
«وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدةً وهِىَ تَمرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذى أَتْقَنَ كُلَّ شَى ءٍ إِنَّهُ خَبيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ». (النمل/ 88)
فيقول اولئك بأنّ هذا التعبير ناظر إلى (الحركة الجوهرية) وهي الحركة التي تكون في ذات الأشياء وباطنها، الحركة التي تدلّ على أنّ عالم المادّة بأجمعه حادث ويحتاج إلى خالق [سيأتي شرح هذا الكلام في باب الإيضاحات بإذن اللَّه ولكن بناءً على أنّ الآية ناظرة إلى حقيقة (الحركة الجوهرية) فانّها لا تشير إلى الاستدلال التوحيدي ولا إلى الاستفادة من ظاهرة الحركة لإثبات وجود اللَّه (تأمّل جيّداً).
ويعتقد أغلب المفسّرين بأنّ هذه الآية ترتبط بأشراط الساعة (أشراط الساعة هي الأحداث المروّعة التي تحدث عند قيام القيامة وخاصّة تَحَرُّك الجبال وتلاشيها ثمّ صيرورتها غباراً كما جاء في
آيات عديدة من القرآن الكريم) «1».
__________________________________________________
(1) للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة التفسير الأمثل، ذيل الآية 88 من سورة النمل.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 22
ولكن كما قلنا في التفسير الأمثل: إنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية، لأنّ تلاشي الجبال قبيل قيام الساعة مروّع إلى درجة يجعل الإنسان يعيش وحشة عظيمة في حين تقول الآية بأنّك لا تعلم بحركة الجبال.
ولهذا نعتقد أنّ الآية تشير إلى حركة الجبال المواكبة لحركة الأرض في الدنيا وتشبيها بحركة السحاب، وجملة (ترى فيها إشارة إلى الوضع الموجود والتعبير ب «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كلَّ شَى ءٍ» وذيل الآية: «انَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ» كلاهما دليلان على أنّ الآية ترتبط بحركة الجبال في هذه الدنيا «1».
ويعتقد البعض الآخر بأنّ الآية 29 من سورة الرحمن: «يَسْئَلُهُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ والأَرضِ كُلَّ يَومٍ هُوَ فِى شَأْنٍ» إشارة إلى مسألة الحركة الجوهرية التي يمكن عن طريقها الوصول إلى وجود اللَّه (عن طريق برهان الحركة).
ولكن دلالة هذه الآية على الدعوى المذكورة غير واضحة أيضاً، بل إنّ ظاهرها هو أنّ اللَّه يخلق كلّ يوم أمراً جديداً، خلقه دائم ومستمر، وهو يبتكر في كل زمان أمراً جديداً، ويقدّر كلّ يوم نعمة جديدة، وعمله هو الإستجابة لقضاء حوائج السائلين.
كما أنّ الظاهر من تعبير الآية وكذلك الروايات الواردة في تفسيرها هو ما ذكر أيضاً (تحدّثنا عن هذا الموضوع مفصّلًا في التفسير الأمثل) «2».
ويُستنتج من مجموع ما تقدّم أنّ أبرز الآيات الدالّة على برهان الحركة هي آيات إبراهيم عليه السلام التي استدلّ بها على نفي الوهية النجوم وذلك بافولها وغروبها واحتياجها إلى الخالق كذلك.
الفهم الصحيح لبرهان الحركة وكيفية استخدامه في مسألة إثبات وجود اللَّه يقتضي ملاحظة الامور التالية إجمالًا:
__________________________________________________
(1)
لاحظ التفاصيل في التفسير الأمثل، ذيل الآية 88، سورة النمل.
(2) التفسير الأمثل ذيل الآية 29 من سورة الرحمن.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 23
أ) تعريف الحركة.
ب) وجود الحركة.
ج) أركان الحركة.
د) المقولات التي تقع فيها الحركة.
ذكرت عدّة تعاريف للحركة، أوضحها التعريفان الآتيان.
1- خروج الشي ء من القوّة إلى الفعل بصورة تدريجية.
2- الزوال والحدوث المستمرّ.
عندما تتساقط قطرات المطر من السماء فالنتيجة هي إمّا أن ينبت نبات أو ينضج ثمر تدريجيّاً، وفي هذه الموارد كلّها يكون للجسم وضع فعلي كما أنّ له القابلية في ذات الوقت لاتّخاذ وضع آخر، وعندما يفقد الوضع الموجود تدريجيّاً ويتقبّل وضعاً جديداً (ما كان فيه بالقوّة يصبح فعليّاً) فإنّ ذلك الموجود وفق سلسلة من الزوال والحدوث المستمر يكون قد انتقل من حال إلى حال، غير أنّ هذا لا يعني أنّ الحركة مركّبة من أجزاء إسمها (السكون) أو أنّها مركّب من (الوجود) و (العدم) بل إنّ الحركة أمر واحد مستمر في الخارج وله أجزاء في التحليل العقلي.
ممّا قدمنا يمكن استنتاج أنّ الشي ء إذا كانت له فعلية تامّة ووجود مطلق فلا تتصوّر فيه الحركة، بل سيكون ذا ثبات تامّ، وبتعبير آخر أنّ الحركة تكون مقرونة بنوع من النقصان، وعليه لا توجد في ذات اللَّه سبحانه حركة على الإطلاق.
لا نواجه مشكلة مهمّة في إثبات الوجود للحركة فذلك من الامور البديهيّة، حيث نلاحظ بامّ أعيننا وبوضوح ونحسّ بحواسنا الاخرى باستمرار وجود حركات في الخارج،
نفحات القرآن، ج 3، ص: 24
وعليه فإنّ أدلّة المنكرين لوجود الحركة ومنهم (الفيلسوف اليوناني ذنون وأتباعه) لا قيمة لها وأنّها تواجه أمراً بديهياً، وذلك لأنّنا لا يمكن أن نعتبر الماء الجاري في النهر، أو التفاجة التي تنضج في الشجرة تدريجيّاً، أو عندما نركب السيّارة ونسافر من مدينه إلى اخرى اموراً خيالية قد ابتلينا بها، وأنّها امور ذهنية وليست خارجية لأنّ هذا الأمر هو أشبه بإنكار البديهيات، ونحن في غنى عن الاستدلال لإثبات ذلك.
ولكن لا يمكن إنكار أنّ فهم
الحركة بدون قوّة حافظة أمر غير مقدور، لأنّ الحركة لا يمكن إدراكها بإحساس آني لأنّها أمر تدريجي.
ذكر الفلاسفة ستّة أركان للحركة:
1- المبدأ 2- الغاية 3- المحرّك 4- المتحرّك 5- موضوع الحركة 6- زمن الحركة (ستعرف أنّ الزمان ليس سوى مقدار الحركة) وبتعبير آخر أنَّ الزمان وليد الحركة وليس والدها).
وسنرى أيضاً أنّ هذه الأركان الستّة تطابق نظرية شهيرة ذهب إليها الأقدمون وعليه فإنّا لا نحتاج موضوعاً للحركة بعد الإقرار بالحركة الجوهرية.
كان الفلاسفة في السابق يعتقدون بأنّ الحركة تحدث في أربع مقولات من مجموع تسع مقولات عرضية هي «1».
1- الحركة في (المكان)، نظير حركة قطرات المطر وحركة السيارة في الطريق.
2- الحركة في (الكمية) نظير زيادة حجم النبات النامي.
__________________________________________________
(1) المقولات العرضية التسع هي: الكم، الكيف، الوضع، المتى الأين، أن يفعل، أن ينفعل، ملك، والإضافة وشروحها في محالّها.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 25
3- الحركة في (الوضع) نظير حركة الأرض حول نفسها.
4- الحركة في (الكيفية) نظير التغيّر التدريجي في لون وطعم ورائحة الفاكهة في الشجرة.
وكانوا يعتقدون بعدم وجود حركة في غير هذه الموضوعات الأربعة (غير ممكنة في جوهر الأشياء من باب أولى) فكان فلاسفة اليونان لا سيّما (ارسطو) وأتباعه وكذلك بعض الفلاسفة المسلمين ومنهم ابن سينا وآخرون يعتقدون باستحالة الحركة في الجوهر، وكما قلنا في البحث الماضي: إنّهم كانوا يتصوّرون أنّ ذات المتحرّك هي من أركان الحركة، ويعتقدون بأنّ الحركة لا مفهوم لها ما لم يوجد موجود ثابت يتعرّض للحركة.
ولكن صدر المتألّهين (الفيلسوف الإسلامي الشهير) قدّم نظرية جديدة وقال: بأنَّ الحركة في الجوهر ليست غير مستحيلة فحسب بل لا يمكن أن توجد حركة في الاعراض ما لم تكن مستندة إلى حركة في الجوهر.
وبتعبير آخر إنّ (الحركات العرضية) تنشأ من (الحركة في الجوهر)، قال صدر المتألّهين:
لماذا نفترض هنا أمراً ثابتاً؟ وما المانع من أن يكون
(الجوهر) متحرّكاً في ذاته؟ بمعنى أنّه يفقد نفسه باستمرار ويكتسب تشخيصاً جديداً.
هذا الموضوع يبدو عجيباً لأوّل مرّة- طبعاً- لأنّه يستلزم أن يكون (المتحرّك) مع (الحركة) شيئاً واحداً، وأن يكون الموجود نفسه سبباً لتحرّكه، لكنّه يقول: لو دقّقنا قليلًا لوجدنا أنّ الأمر ليس عجيباً فحسب بل هو أمر لازم وملفت للنظر أيضاً.
ويصُرّ صدر المتألّهين على أنّ أصل الحركة الجوهرية موجود في أقوال السلف ويذهب إلى أبعد من ذلك حيث يستعين بآيات قرآنية كشواهد على هذا الموضوع (كي لا تكون حداثة هذه النظرية سبباً لنزاع المعارضين كما هو الحال في أيّة نظرية جديدة).
ولو افترضنا أنّ هذه النظرية ليست جديدة، غير أنّ عرضها بهذه السعة يعتبرُ أمراً جديداً.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 26
يعتقد صدر المتألّهين بأنّ الوجود على صورتين:
1- الوجود مستقرّ وثابت وعديم الحركة مطلقاً لا في ذاته أو صفاته.
2- الوجود سيّال ومتموّج في ذاته، أي أنّ السيلان جزء من ذاته وليس له سكون ولا قرار، وقد يلاحظ هذا الإضطراب الذاتي بوضوح في اضطراب الاعراض، وقد لا يلاحظ تغيّر في ظاهر الذات في حين تتجدّد في باطنها باستمرار.
وبتعبير آخر إنّ هذه الموجودات السيّالة لها وجود جديد في كلّ آن، وهي أشياء جديدة، ولكن هناك لون من الاتّصال بينها يجعلها تبدو كوجود واحد.
وقد ذكر المناصرون ل (الحركة الجوهرية) أدلّة لإثبات مرادهم، وإن لم يسمح المجال لبيان هذه القضايا، غير أنّنا نشير إلى ثلاثة أدلّة رئيسية هي:
1- من القاعدة القائلة (كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات)، هناك أصل عام وهو أنّ كلّ موجود استعار صفة من غيره وأنّها لابدّ أن تنتهي إلى مصدر تنشأ منه، وبدون ذلك سنواجه مشكلة (التسلسل)، أي أنّ الحرارة في الماء الحار مستعارة ولابدّ
لها أن تنتهي إلى النار التي تولّد الحرارة من ذاتها.
بناءً على هذا الأصل فإنّ الحركة التي نلاحظها في أعراض الجسم (نظير الكميّة والكيفية) لابدّ لنا أن نعرف أنّ هذه الحركة ناشئة من اضطراب الذات والباطن، فمثلًا: لو كانت التفاحة ثابتة في ذاتها ومستقرّة فكيف إذن يتغيّر لون أعراضها؟ هذه الحركة الظاهرية إذن تخبر عن حركة الداخل.
2- كلّ (معلول متغيّر) بحاجة إلى (علّة متغيّرة)، فلو جلسنا في ظلّ شجرة في بستان ولاحظنا التحرّك المستمرّ للظلّ فالواجب أن نعلم أنّ علّته وهي أشعة الشمس في حالة تحرّك، ومن هناك ندرك الحركة في ذات الجسم عن طريق الحركة في أعراضه.
3- الزمان دليل آخر على الحركة الجوهرية، لأننا نلاحظ جيّداً أنّ حوادث العالم لا تكون مجتمعة، فحوادث اليوم تتحقّق بعد حوادث أمس وقبل حوادث غد، وهذا أمر واقعي،
نفحات القرآن، ج 3، ص: 27
وهذا الاختلاف هو ما نطلق عليه عنوان تفاوت (الزمان).
من خلال نظرة سطحية وابتدائية للزمان فانّه يبدو واقعاً مستقلًا عن الموجودات ووعاء للحوادث، ولكن لو افترضنا- ولو للحظة واحدة- عدم وجود الموجودات المادية لوجدنا أنّ الزمان لا مفهوم له، وبتعبير أوضح (الزمان) (وليد المادة) أو (الزمان) هو (مقدار الحركة).
ومن جهة اخرى إذا اعتقدنا بأنّ الموضوعات التي تقع فيها الحركة تنحصر في الموضوعات الأربعة السابقة فانّه يعني أنّ الموجود الفاقد لهذه الحركات، أي لا يلحظ وجود للحركة في ظاهره، فإنّ هذا الموجود ينبغي أن لا يكون زمانياً، في حين أنّ وجداننا يحكم بأنّا نشعر بالزمان رغم عدم هذه الحركات الرباعية، وليس ذلك إلّالأنّ المادّة ذات حركة في ذاتها لكي تتقبّل أجزاء الزمان.
هذه هي أهمّ الأدلّة لدى أنصار الحركة الجوهرية وقد اعتمدنا الاختصار في عرضها.
وهناك سؤال لا يزال قائماً عند
البعض: كيف يمكن أن نتصوّر أنّ (المتحرّك) هو عين (الحركة) مع عدم وجود موضوع للحركة مطلقاً؟! وكيف يمكن التصديق بشي ء يكون تصوّره محل سؤال؟
والعجيب أنّ القائل بالحركة الجوهرية بنفسه تتملكه الحيرة أمام هذه المعضلة العويصة، وتتباين أقواله ممّا يدلّ على أنّ حلّها غير يسير «1».
وباختصار أنّ أبحاث الحركة الجوهرية بأجمعها تتفرّع عن قابلية تصوّر الحركة بدون موضوع، ويقول البعض: إنّ هذا أمر غير معقول، كما يعتقد البعض أنّ تصوّر هذا المعنى يقتضي إخلاء الذهن والإبتعاد عن المفاهيم التي يأنس الإنسان بها في مجال الحركة حتّى يتصوّر وجوداً هو عين الحركة والمتحرّك والحركة واحدة، كانت هذه خلاصة عن أبحاث الحركة.
__________________________________________________
(1) للمزيد من المعرفة حول هذا الأمر راجع كتاب الأسفار في بحث الحركة أو دروس المرحوم الشهيد مطهّري حول بحث الحركة في الأسفار، ج 1، ص 447.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 28
لا شكّ في أنّ الحركة لا تنحصر في الحركة الجوهرية، ولذا لا يتحدّد برهان الحركة لإثبات ذات واجب الوجود ببحث الحركة الجوهرية، على الرغم من أنّ برهان الحركة- بعد الإيمان بالحركة الجوهرية- أكثر وضوحاً في معرفة اللَّه، ومن أجل ذلك نقول:
إنّ الحركة الجوهرية تقول بأنّ عالم المادّة بأسره عبارة عن حركة، أي أنّه في حالة حدوث وتجدّد متواصل، وله في كلّ آنٍ وجود جديد، وهذا الحدوث المستمرّ يثبت الإرتباط الدائم للعالم بمبدأ غير حادث، أي أنّه يثبت الأزلية والأبدية لواجب الوجود.
وبتعبير آخر: إنّ العالم في حال (صيرورة) دائمة لا (كينونة)، وليس ذلك في الأعراض فحسب بل هو متأصّل في أعماق ذاته، ولذا يكون محتاجاً إلى المبدأ باستمرار لكي يخلقه كلّ آن.
من خلال هذا البحث يمكن التوصّل إلى نتيجة ظريفة وهي أنّ خلق العالم لم
يحدث في البداية ثمّ انتهى، بل إنّ عملية الخلق مستمرة في كلّ آن، ولذا فإنّ حاجة العالم إلى علّة أزلية، أبدية لم تكن في البداية فقط، لأنّه في حالة حدوث وخلق مستمرّ وفي كلّ آن، وهذا المعنى كامن في أعماق مفهوم الحركة.
ولهذا فبواسطة الحركة الجوهرية يثبت حاجة العالم إلى واجب الوجود عند نشوئه وحاجته إليه في البقاء تبقى قائمة ومستمرة أيضاً، بل وكما ترى نظرية الحركة الجوهرية فانّه لا مفهوم للبقاء أصلًا والحدوث دائم، غير أنّه حدوث متواصل ومتسلسل ولهذا يطلق على الاتّصال مصطلح البقاء.
هنا يمكن أن نذكر تشبيهاً ناقصاً لكيفية ارتباط الأشياء بالمُبدى ء الأزلي للعالم وهو أنّ الموجودات في العالم تشبه المصابيح التي يتواصل وجودها من خلال ارتباطها بالمصدر الكهربائي، وبما أنّ النور يتجدّد في كلّ آن فانّه بحاجة إلى العلّة في كلّ آن والتعرّف على كيفية انبعاث النور في المصابيح يكفي لمعرفة حاجتها المستمرّة للمصدر المولّد للطاقة الكهربائية.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 29
صحيح أنّ (برهان الحركة) له علاقة ب (برهان الإمكان والوجوب) غير أنّه يُبحث بصورة مستقلّة من أجل الحصول على صورة جديدة عنه.
استند الكثير من المتكلّمين (علماء العقيدة) على هذا الدليل (دليل التغيّر) لإثبات وجود اللَّه دون ملاحظة نظرية الحركة الجوهرية لأنّ التغيّرات التي تشاهد في ظاهر الموجودات في العالم باستمرار تكفي لإثبات آرائهم.
و لتوضيح ذلك نقول: لا يبقى في عالم المادّة شي ء على حالة واحدة، فكلّ الأشياء- دون استثناء- في حالة تغيّر.
ومن جهة اخرى، أنّ التغيّر والحركة حادثان، وبما أنّ المادّة متعرّضة لهذه التغيّرات والتحوّلات دائماً فينبغي أن تكون حادثة أيضاً فمن غير الممكن أن تكون المادّة أزلية وتتعرّض للحدوث والتغير منذ الأزل لأنّ ذلك يستلزم اجتماع (الحدوث) و (الأزلية)
وهما متضادّان كما نعلم.
إنَّ هذا الاستدلال ومن خلال ملاحظة النظريات الجديدة بشأن المادّة يَرِدُ بصورة أوضح، فكلّ مادّة- وفق النظرية الفيزيائية الجديدة- تتركّب من ذرّات، والذرّة عبارة عن مجموعة من الحركات، وكلّ حركة حادثة، فالمادّة- إذن- والتي هي عبارة عن مجموعة حركات (الالكترونات) و (البروتونات) لا يمكن أن تكون أزلية، وبعبارة اخرى أنّ كلّ حركة لها بداية ونهاية، وكلّ ما له بداية ونهاية لا يكون أزلياً.
هذه المسألة جاءت بشكل ملفت للنظر في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام في مناظرة مع (ابن أبي العوجاء) حيث قال له الإمام عليه السلام: اسأل ما شئت، فقال (ابن أبي العوجاء): ما الدليل على حدث الأجسام؟ فقال الإمام عليه السلام: «إنّي ما وجدت شيئاً صغيراً ولا كبيراً إلّاإذا ضُمّ إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاولى، ولو كان قديماً ما زال
نفحات القرآن، ج 3، ص: 30
ولا حال، لأنّ الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الأزل دخوله في القدم، ولن تجتمع صفة الأزل والحدوث والقدم والعدم في شي ء واحد» «1».
لقد ثبت في البحوث العلمية الحديثة [خاصّة بحوث (الثرموديناميك) والقانون الثاني المعروف بقانون (الانتروبي) أو ما يسمى (بالكهولة) أو (الإضمحلال)] ثبت:
«أنّ الحرارة تنتقل من الأجسام الحارّة إلى الباردة دائماً ولا يحدث العكس بنفسه أبداً، و (الانتروبي) في الحقيقة هي نسبة الطاقة التي لا يمكن الانتفاع بها إلى الطاقة القابلة للإنتفاع، ومن ناحية ثانية نحنُ نعلم أنّ هذا الإنتقال والانتروبي في العالم في حالة تزايد، فلو كان العالم أزليّاً لكانت الحرارة في الأجسام كلّها متساوية منذ عصور قديمة ولم تبق طاقة نافعة وبالتالي لم
يتحقّق في العالم أي فعل أو تفاعل كيميائي، ولاستحالت الحياة على الأرض، لكنّنا نلاحظ بأنّ التفاعلات الكيميائية مستمرّة والحياة على الأرض ممكنة، ولذا فإنّ العلوم تثبت البداية للعالم- دونما قصد- وبهذا تثبت ضرورة وجود اللَّه نظراً إلى أنّ الحادث لا يحدث لوحده بل يحتاج إلى المحرّك الأوّل» «2».
والطريق الآخر الذي سلكوه لإثبات الحدوث للعالم هو التحقيق في الأجسام (المشعّة) (و هي أجسام لها ذرّات غير مستقرّة وفي حالة اضمحلال وزوال مستمرّ حتّى تتبدّل إلى ذرّات مستقرّة، ولها عدد ذرّي أكبر من 80! وتكون على شكل أجسام ثقيلة وغير مستقرّة، وفي حالة إشعاع ذرّي، وكأنّها تلقي بنفاياتها إلى الخارج حتّى تتحوّل إلى عناصر مستقرّة.
إنَّ وجود هذه العناصر في الطبيعة دليل على أنّ العالم حادث وذو تاريخ، وكما يقول
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 46؛ اصول الكافي، ج 1، ص 77 باب حدوث العالم.
(2) كتاب إثبات وجود اللَّه، لادوارد لوثر كيسل، ص 55 (باختصار طفيف).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 31
المفكّر الشهير (دونالد روبرت كار) والمتخصّص في (الكيمياء الحياتية) كاتب كتاب (الأرض) وهو كتاب يعيّن عمر الأرض بحساب كاربون الإشعاع الطبيعي: «لو كان العالم أزليّاً وأبديّاً لما وجدنا عنصراً مشعّاً وذلك لتبدلّه إلى عناصر مستقرّة» «1».
ونستنتج من ذلك أنّ العلوم الطبيعية تثبت حدوث العالم أيضاً بطرق مختلفة، ومن هنا تتّضح ضرورة وجود خالق أزلي أبدي لتفسير ظهور عالم الوجود.
وبتعبير أوضح: إنّ اضمحلال المادّة (الانتروبي) دليل على أنّ للعالم تاريخاً ينبى ء عن بداية حدوثه، فلو كان عالم المادّة أزليّاً لكان قد مضى عليه زمان غير محدود، ولكانت الحرارة فيه متساوية وانعدم النشاط فيه وتعرّض للفناء.
ويشبه هذا إذا وضعنا وعاءً مليئاً بالماء الحارّ في غرفة، فما دامت
الحرارة في الوعاء تختلف عن حرارة الجوّ فإنّ الهواء حوله يكون متحرّكاً باستمرار ويزداد حرارة ويتصاعد إلى الأعلى ويحلّ محلّه الهواء المجاور له وهذا يحدث حركة مستمرّة في الفضاء المجاور، وعندما تتساوى الحرارة في الغرفة فلن تكون أيّة حركة.
وهذا هو مصير العالم أخيراً، والحركة الموجودة حالياً دليل على عدم مرور زمان لا محدود عليه، أي أنّ له تاريخ ظهور وحدوث.
وهو يشبه الأواني المستطرقة المتصلة فإذا سكبنا الماء في أحدها فانّه سوف يتحرّك في الأواني كلّها حتّى يتساوى فيها وبذلك يحلّ السكون، ويقول العالم الفلكي (استونتر):
«قام العلم باحتساب أعمار الكثير من الأشياء مثل: عمر الأرض، والصخور الشهابية، والقمر والشمس، والمجرّة وأخيراً عمر الدنيا، والعمر اللازم- لتركيب العناصر المختلفة وتفكّكها- وظهر أنّ هذه الأعمار متقاربة وتقدّر ب 6000 مليون سنة منذ بداية حدوث العالم» «2».
__________________________________________________
(1) كتاب إثبات وجود اللَّه، لادوارد لوثر كيسل، ص 155.
(2) المصدر السابق، ص 160.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 32
وفي الختام نعود لنقول: إنّ حديث إبراهيم عليه السلام في الآيات المذكورة يستهدف مسألة إثبات وجود اللَّه عن طريق الحكم العقلي القائل بأنّ الشي ء المتغيّر لا يمكن أن يكون خالداً وإن كانت براهين اخرى للحركة كامنة في طيّات استدلال إبراهيم عليه السلام.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 33
استدل الفلاسفة والمتكلّمون (علماء العقيدة) بأدلةٍ مختلفة لإثبات وجود اللَّه سبحانه، والبعض منها ذات اصول مشتركة، ومن هذه الأدلّة برهان (الوجوب والإمكان) وبرهان (العلّة والمعلول)، وستأتي تفصيلاتهما تباعاً بإذن اللَّه.
وبما أنّ هذه الاستدلالات تكون ذات شروح مختلفة لذا فإنّا نشير إليها بصورة مستقلّة مع الإشارة إلى اصولها المشتركة.
إن الأساس في برهان «الوجوب والامكان» أو «الغنى والفقر» يرتكز على مبدأ حاجة وفقر المخلوقات، فعندما ننظر إلى
أنفسنا وسائر الموجودات في العالم، نراها دائماً في حالة عوَزٍ وحاجة، فالحاجة إلى ماحولها يكاد يكون أمراً بديهياً.
إن الحاجة والفقر الشامل في هذا العالم يدل على وجود مصدر عظيم للغنى وعدم الحاجة، وهذا المصدر نطلق عليه لفظ الجلالة «اللَّه» سبحانه وتعالى «1».
وبعبارة اخرى إنّنا نجد كلّ موجود في هذا العالم تابع، ولا يمكن لهذه التبعية أن تكون إلى ما لا نهاية، والعالم عبارة عن مجموعة من التبعيات، ممّا يدلّ على وجود ذات مستقلّة قائمة بذاتها في هذا العالم تتبعه هذه (التبعيات) وتستند إليه.
بعد هذا التمهيد نرجع إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
__________________________________________________
(1) التعبير ب «إنّ اللَّه غني حميد» وأمثاله جاء في عشر آيات قرآنية، في البقرة، 267؛ إبراهيم، 8؛ الحجّ، 64؛ لقمان، 12؛ لقمان، 26؛ الحديد، 24؛ الممتحنة، 6؛ التغابن، 6؛ النساء، 131؛ والآية أعلاه كما أنّ وصف اللَّه بالغنى ورد في آيات أكثر عدداً، وهذا التأكيد والتكرار القرآني في هذا الصدد يحكي أهميّة المضمون في هذا التعبير.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 34
1- «يَاايُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَميِدُ». (فاطر/ 15)
2- «وَاللَّهُ الغَنِىُّ وأنتُمُ الفُقَرَاءُ». (محمّد/ 38)
3- «يَسْئَلُهُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ وَالأَرضِ كُلَّ يَومٍ هُوَ فِى شَأْنٍ». (الرحمن/ 29)
(فقراء) جمع (فقير)، وأصله كما يقول (الراغب) في (المفردات) هو الذي كسرت فقرات ظهره، وبما أنّ البؤساء يشبهون حال من تعرّض لكسر الفقرات لذا اطلق عليه هذا المصطلح.
كما أنّ (مسكين) مشتقّ من (السكون) ويعني العجز عن المشي ولذا اطلق على الفقراء المُعدمين، ولذا تطلق كلمة (فاقرة) على الحادثة أو المصيبة العظيمة التي من شأنها أن تهشّم الفقرات.
وقد ورد في (مجمع البحرين) بأنّ (فقير) يُطلق على الذي هو أفضل
حالًا من (المسكين)، ولذا قيل لرجل في الصحراء أفقير أنت؟ قال: لا واللَّه بل مسكين «1».
وعلى أيّ حال فانّهم ذكروا ل (الفقر) أربعة معانٍ هي:
1- الحاجة الضرورية التي تشمل جميع البشر بل كلّ الموجودات في العالم، والآية:
«يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ» يذهبون إلى أنّها تشير إلى ذلك.
2- الإحتياج إلى الحدّ الأدنى من مستلزمات الحياة، ويعتقدون أنّ الآية: «انَّما الصَدقاتِ للفُقَراء ...» تشير إلى ذلك.
3- فقر النفس والذي يعني الطمع، وقد عدَّهُ الحديث المعروف كفراً (كاد الفقرُ أن يكون كفراً) ويقابله غنى النفس.
4- الحاجة إلى اللَّه كما جاء في الحديث المعروف (اللّهم أغنني بالإفتقار إليك ولا تفقرني بالإستغناء عنك) «2».
__________________________________________________
(1) يذهب البعض إلى العكس في ذلك.
(2) مفردات الراغب، مادّة (فقر).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 35
وقد جاء في كتاب (العين) كلمة (فُقْرة) على وزن (نُقرة) بمعنى الحفرة التي يوجدها الإنسان في الأرض من أجل غرس الشتلات، ومن الممكن أن يكون الأصل في (فقير) هو هذا المعنى وهو نشوء فجوة في حياته، ومن المحتمل أن يكون استعمال هذا اللفظ في العمود الفقري وذلك لوجود التقعّرات فيه.
«غِنى : من مادة (غِناء) وتعني عدم الإحتياج ويقابله الفقر، ولذا ذكروا له هذه الموارد الأربعة في استعمالاته:
1- الغنى بمعنى عدم الاحتياج إلى أي شي ء وهذا مختصّ في اللَّه سبحانه.
2- عدم النقص في مستلزمات الحياة.
3- الغنى وعدم احتياج النفس أي القناعة.
4- الاستغناء عن اللَّه وهذا المعنى محال، ولكن قد تخطر هذه الفكرة لدى بعض الناس وتكون سبباً للطغيان: «كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى أَنْ رَّءَاهُ استَغنَى . (العلق/ 6- 7)
ويقول ابن منظور في (لسان العرب): (الغَناء) بالفتح: يعني المنفعة وغِناء بمعنى التطريب وغني (بلا مدّ) يعني الإستغناء وعدم الحاجة،
ومن الممكن أن يعتقد بوجود أصل مشترك بين هذه المعاني كلّها ويقول بأنّ الغناء يطلق عندما يرفع الإنسان صوته ويملأ به الجوّ كالأغنياء الذين لهم وفرة من المال والثروات!
الآية الاولى تخاطب جميع الناس وبدون استثناء: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَراءُ إلَى اللَّهِ»، إنّ (للفقر) هنا معانٍ واسعة وتشمل كلّ احتياج لأي شي ء في الوجود، فانّنا ومن أجل مواصلة حياتنا الماديّة بحاجة إلى ضوء الشمس، والماء، والهواء، وأنواع من الغذاء والملبس والمسكن.
ومن أجل بقاء الحياة في أجسامنا نحن بحاجة إلى الأجهزة الداخلية من قلب وعروق
نفحات القرآن، ج 3، ص: 36
وجهاز للتنفّس والمخ والأعصاب.
ونحتاج في الحياة المعنوية- من أجل أن نميّز الطريق السليم عن غيره ونعرف الحقّ من الباطل- إلى قوّة عاقلة، وأرقى من ذلك نحن بحاجة إلى القادة الإلهيين والكتب السماوية.
وبما أنّ منشأ كل هذه الامور يعود كله إلى اللَّه لذا فانّنا بحاجة إليه في وجودنا كلّه.
إنّ الشهيق والزفير في عملية التنفس يحدثان بتعاضد الآلاف من العوامل وبدونها لا يحدثان، وكلّ هذه العوامل هي هبات إلهيّة، ففي كلّ نفس هناك آلاف النعم، وينبغي الشكر على كلّ نعمة.
هذه الآية وإن كانت تقصد كلام الذين يستغربون من إصرار النبي صلى الله عليه و آله على عبادة اللَّه تعالى كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين «1» ويقولون هل أنّ اللَّه بحاجة إلى عبادتنا؟
فيجيبهم القرآن: أنتم الفقراء إلى اللَّه وبعبادته تتكامل أرواحكم.
ولكن هذا الكلام لا يحدّد من سعة مفهوم الآية في جهاتها المختلفة، لأنّ قضيّة استغناء اللَّه واحتياجنا هي الأساس في حلّ الكثير من المشكلات.
وعلى أيّة حال فإنّ الفقر نافذ إلى أعماق ذات البشر أجمع، بل وكلّ الموجودات، ولا تقتصر الحاجة إليه في الرزق ومستلزمات الحياة فقط، بل إنّ وجودَها
يحتاج إلى فيضه في كلّ لحظة وآن (فلو تَوقَف لحظة تهدّمت الهياكل).
أجل، إنّ الغني في عالم الوجود هو الذات المقدّسة، ولمّا كان البشر- وهم تحفة عالم الخلق- بحاجة إليه في كلّ وجودهم فإنّ حال سائر الموجودات واضحة ولا تحتاج إلى بيان، ولذا فإنّ الآية تضيف في ذيلها: «وَاللَّهُ هُوَ الغَنىُّ الحَمِيدُ» وبملاحظة أنّ التعبير أعلاه يدلّ على الحصر- وفق القواعد الأدبية- فإنّ مفهومه ليس إلّاهذا، وهو إنّ الغني المطلق هو الذات المقدّسة للَّه سبحانه، ولو قسّمنا البشر إلى (فقير) و (غني) فإنّ هذا أمر نسبي غير حقيقي.
وبتعبير آخر، إنّ الموجودات كلّها فقيرة ومحتاجة، وإنّ ذات اللَّه المقدّسة تمثل الغنى
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير؛ وتفسير روح المعاني في ذيل آية مورد البحث.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 37
والإستغناء، وهذا هو أوّل الكلام وآخره.
على هذا الأساس فإنّ اللَّه سبحانه لا يحتاج إلى عبادتنا وطاعتنا أبداً، كما لا يحتاج إلى مدح وثناء، بل إنّ طاعتنا وعبادتنا لهُ ومدحنا وثناءنا عليه هي جزء من احتياجنا إليه وسبب لتكاملنا المعنوي والروحي، حيث إنّنا كلّما اقتربنا من منبع النور فإنّا نزداد نوراً، وكلما اقتربنا من المصدر الفيّاض ذاك فإنّا نستفيد أكثر، وبتمثيل ناقص إنّنا كالنباتات والأشجار التي تستقبل نور الشمس دون أن تحتاج إليها الشمس.
إنّ فهم هذه الحقيقة يقدّم للبشر درساً في التوحيد حتّى لا يخضعوا إلّاإلى اللَّه ولا يُطأطئوا رؤوسهم ويستسلموا لغيره وأن يمدّوا يد الحاجة إليه لأنّهُ (غني وكريم ورحيم وودود).
إنّ الإنتباه إلى هذه الحقيقة له الأثر البالغ في تربية الإنسان، فمن جهة يخرجه من حالة الغرور وعبادة هوى النفس، ومن جهة اخرى يحرّره من جميع القيود ويجعله غنيّاً عن سواه، وبهذه الرؤية والفهم سوف لا يضيع في عالم الماديات، ويتوجّه
دائماً إلى مسبّب الأسباب.
وهنا لابدّ من الإلتفات إلى أمرين:
الأوّل: أنّ اللَّه هنا (في الآية) قد وُصف ب (الحميد) بعد وصفه ب (الغني)، وكما أشرنا أنّ هذا التعبير قد تكرّر في عشر آيات ممّا يدلّ على وجود نقطة مهمّة فيه- هي كما يحتمل-:
إنّ الكثير من الأغنياء يتّصفون بصفات ذميمة نظير الكبر والغرور والحرص والبخل، حتّى لو كان لدى أحد إخوانهم نعجة واحدة ولديهم 99 نعجة فانّهم سيصرّون على أن يسلبوه نعجته، إلى حدّ يتبادر في ذهن الكثير بأنّ لفظ (الغني) تعني الظلم والكبر والبخل، في حين أنّ اللَّه سبحانه في عين كونه غني فهو رحيم وعفو وغفور، ولذا هو أهل لكلّ مدح وثناء.
أجل، إنّ (الغني) الوحيد المُبرَّأ من كلّ عيب ونقص وذو الفضل واللطف والرحمة هي الذات المقدّسة.
الثاني: أنَّ المخاطبين في الآية هم البشر فقط: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ» فلماذا لم تذكر الموجودات الاخرى في حين أنّها فقيرة إلى اللَّه أيضاً؟
نفحات القرآن، ج 3، ص: 38
قال الكثير من المفسّرين إنَّ ذلك ناشي من سعة حاجة الإنسان، فكلّما كان الموجود أكمل فانّه أكثر احتياجاً في مسيرته ويزداد شعوراً بالحاجة كما هو الحال في الإحتياج المادّي، فالطير يقنع بشي ء من الماء والحبّ والعشّ البسيط في حين لا يقتنع الإنسان بألوان الطعام واللباس والبيوت والقصور! «1».
والآية الثانية تحدثت عن (الإنفاق في سبيل اللَّه) وبخل البعض في الانفاق في سبيل اللَّه وانعكاس بخل البخلاء على أنفسهم لأنّهم محرومون من فيض اللَّه ورحمته اللامحدودة، فتقول: «وَاللَّهُ الغَنىُّ وأنتُمُ الفُقَراءُ».
قد يكون هذا التعبير من أجل رفع التصوّر بأنَّ اللَّه تعالى عندما يدعو الناس إلى الإنفاق في سبيل اللَّه فانّه محتاج إلى إنفاقهم، أو أنَّ هذه الجملة تتنافى مع الجملة التي وردت في آيات سابقة
حيث تقول: «ولا يَسئَلكُمُ أَموَالَكُم».
فتقول الآية: إنّ اللَّه غني على الإطلاق والجميع محتاجون إليه، فعندما يأمرهم بالإنفاق فليس ذلك لحاجته، بل لأنّهم هم المحتاجون، ويصلون إلى الكمال عن هذه الطرق ويتقرّبون إلى ذلك الوجود اللامحدود.
صحيح أنّ بداية الآية ترتبط ب (الفقر والغنى الماليين) وتنظر إلى الإنفاق في سبيل اللَّه، غير أنّ الإطلاق في ذيل الآية يعطي مفهوماً واسعاً، ففي الوقت الذي تعرّف اللَّه سبحانه بالغني المطلق فانّها تعتبر البشر محتاجين في كلّ وجودهم، وقد نفذ الفقر إلى أعماق ذواتهم ولهذا يمكن استخدامه للاستدلال في هذا البحث.
__________________________________________________
(1) انتبه بعض المفسّرين إلى هذه النقطة أيضاً وهي أنّ ذكر (الفقراء) بصورة معرفة (مع أنّ الخبر يكون نكرة عادةً فلو كان معرفة لما احتاج المخاطب إلى الخبر) هو للتنبيه والتذكير، أي أنّ المخاطب نفسه يعلم بأنّه فقير إلى اللَّه وهذا تذكير ليس إلّا، وقد جاء في علم البلاغة أيضاً أنّ المخاطب العالم الذي لا يعمل بعلمه يعتبر جاهلًا وينذر عن طريق الأخبار (تأمّل جيّداً).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 39
على أيّ حال فإنّ من الملفت أنّه هو الذي تفضّل بالهبات كلّها ووهبها للعباد ثمّ يطلب منهم أن ينفقوا في سبيل اللَّه، وهذه مقدّمة لهباتٍ أكبر.
ولا ينحصر هذا في قضيّة الإنفاق فحسب، بل يجري في كلّ التكاليف وتعود بنتائجها على العباد أنفسهم.
وقد جاء هذا المضمون في آيات عديدة منها ما تضمّنته هذه الآية حيث نقرأ: «قُلْ مَا سَأَلتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلىَ اللَّهِ». (سبأ/ 47)
وكما جاء في قوله تعالى «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌ عَنِ العَالَمِينَ».
(العنكبوت/ 6)
والآية الثالثة والأخيرة من بحثنا تُصوِّر هذا المضمون (الفقر العامّ للموجودات والغنى المطلق لله) في حُلّة
جديدة وجميلة وتقول: «يَسئَلُهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ».
وكلّ يوم هو في شأن ومنح مواهب جديدة: «كُلَّ يَومٍ هُوَ في شَأْن».
وبملاحظة الفعل المضارع (يسأل) والذي يدلّ على الاستمرار، وملاحظة ما للآية من معنى واسع يشمل البشر جميعاً والملائكة وسكنة السماء والأرض (وباحتمال قوي يشمل كلّ الموجودات العاقلة وغير العاقلة، والتعبير ب (من) الذي يستعمل للعاقل هو للتغليب) وملاحظة أنّ الآية لم تذكر الموضوع المسؤول عنه فيدلّ ذلك على شمولية الآية، وسيكون مفهوم الآية هو أنَّ كلّ الموجودات في عالم الخليقة تستمدّ الفيض من مبدأ الفيض بلسان حالها بصورة دائمة ومستمرّة، (فيض الوجود ومتعلّقاته).
وليس هذا الطلب من ذات ممكن الوجود في حالة الحدوث فحسب، بل في البقاء أيضاً يكون محتاجاً إلى واجب الوجود وفي كلّ لحظة يطلب منه الوجود.
وقد ورد هذا المعنى بتعبير واحد تقريباً في تفسير (روح البيان) و (روح المعاني) حيث جاء فيهما «.. قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم ووجوداتهم حدوثاً وبقاءً وسائر أحوالهم
نفحات القرآن، ج 3، ص: 40
سؤالًا مستمرّاً بلسان المقال وبلسان الحال فانّهم كافّة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتفرّع عليه من الكمالات بالمرّة بحيث لو انقطع ما بينهم من العناية الإلهيّة من العلائق لم يشمّوا رائحة الوجود أصلًا فهم في كلّ آن مستمرّون على الإستدعاء والسؤال» «1» من هنا يتّضح أنّ اعتقاد البعض بأنَّ السؤال يرتبط ب (الرزق) أو (الرحمة الإلهيّة) أو (متطلّبات الدين والدنيا) أو (العلم بعاقبة العمل وصلاح النفس وفسادها) فقط لا دليل عليه وإنْ اندرجت في المفهوم الواسع للآية.
وهو من البراهين القابلة للفهم، حيث يمكن بيانه بلسان عامّة الناس، وكذلك بواسطة التعبيرات والاصطلاحات الفلسفية الخاصة، وبتعبير بسيط عندما نرجع إلى وجودنا نجد
أنَّ وجودنا برمّته في حالة احتياج ولا يؤَمن الاحتياج من الداخل، ومن أجل تأمين هذا الاحتياج يجب أن نمد الدنيا خارج وجودنا، وكما يقول المثل كلما ازداد الغنى ازدادت الحاجة فكلّما تضاعفت قوّة الإنسان في الظاهر (ماديّاً أو معنويّاً) توسّعت دائرة احتياجاته، فالطير في الصحراء يكتفي بقليل من الماء والحبّ وعشّ مؤلّف من بعض الأوراق، في حين تحتاج حياة سلطان مقتدر إلى آلاف الحاجات، وهكذا لوقارنا الحياة العلمية لمحقّق كبير بالنسبة لطالب مبتدى ء.
ومن خلال ملاحظة هذا الاحتياج وبإلهام باطني يدرك الإنسان أنّ لهذا العالم مُبدئاً غنيّاً يتّجه الجميع إليه لنيل حوائجهم وهو الذي نطلق عليه (اللَّه) تبارك وتعالى.
أمّا في العبارات الفلسفية وبحوث المتكلّمين فإنَّ الوجود يقسّم إلى قسمين: (ممكن) و (واجب).
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 9، ص 299؛ وتفسير روح المعاني، ج 27، ص 95.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 41
فواجب الوجود يكون وجوده ذاتياً، وذاته المقدّسة غير محتاجه إطلاقاً، في حين لا يملك الممكن في ذاته شيئاً فهو محتاج.
وبهذا يُعد احتياج الممكن إلى العلّة من القضايا البديهية والأوّلية والتي لا تحتاج إلى إقامة البرهان، ومن يتردّد في هذا الأمر فإنّ ذلك يعود إلى عدم الفهم الجيّد لمفهوم الممكن.
ثمّ يُطرح هذا السؤال: ما هو سبب احتياج الممكن إلى العلّة؟ هل السبب هو الوجود أو مسألة الحدوث؟ أي هل أنّ الأشياء تحتاج إلى العلّة بسبب كونها حادثة أو بسبب كونها موجودة؟ أو أنَّ الملاك الأصل وهو (الإمكان)؟ وبناء على هذا الدليل فإنّ الإحتياج إلى العلّة يجب أن لا يبحث في أصل وجود الشي ء أو في حدوثه، بل إنّ العلّة الأساسية هي الإمكان.
ولا ريب في أنّ الإجابة الصحيحة والدقيقة هي الإجابة الثالثة، لأنّنا إذا- بحثنا عن معنى
الإمكان وجدنا أنّ الإحتياج إلى العلّة متحقّق فيه، لأنّ- (الممكن) وجود (غير اقتضائي) أي أنّ ذاته لا تقتضي الوجود ولا العدم.
وبملاحظة هذا الإستواء الذاتي يكون في وجوده وعدمه بحاجة إلى عامل ولذا فإنّ الفلاسفة يقولون بأنَّ حاجة الممكن أوّلية، «حاجة ممكن الوجود إلى العلة أمرٌ بديهي».
ويُستنتج من ذلك أنّ حاجة الممكن إلى واجب الوجود لا تقتصر على ابتداء الوجود فحسب، بل هي ثابتة في مراحل البقاء كلّها لثبوت الإمكان في حقّ الممكن دائماً لذا فإنّ الحاجة إلى العلّة أمر باقٍ وثابت.
وللمثال على ذلك فانّنا حينما نمسك القلم ونحرّكه على قرطاس نجد أنّ حركة القلم تحتاج إلى محرّك من الخارج ويتمثّل في أصابعنا، فما دامت الحركة في اليد والأصابع فإنّ القلم يتحرّك كذلك، ويتوقّف بتوقّفها.
وأوضح من ذلك ما يوجد في أفعال أرواحنا، فحينما نعزم على العمل ببرنامج ما نجد أنّ الإرادة والعزم- وهما من فعل الروح- يرتبطان بها ويختفيان حال انقطاع هذا الارتباط.
إنّنا مرتبطون بوجود اللَّه كذلك وَهذا الوجود الإرتباطي لا يستقرّ لحظة واحدة بدون ذلك.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 42
ويقول الشاعر:
لم أسلم النفس للاسقام تبلغها إلّا لعلمي بأنّ الوصل يحييها نفس المحبّ على الآلام صابرةٌ لعلّ مسقمها يوماً يداويها قد يقال: إنّنا نشاهد البناء باقياً بعد موت بانيه فكيف إذن تستغني الأفعال عن الفاعل في بقائها؟
فنقول: إنّ ذلك يحصل بسبب حلول علّة محلّ علّة اخرى، ففي البداية تقوم يد البنّاء الماهر بوضع لبنة على لبنة اخرى ثمّ يبقى البناء مستقرّاً بفضل جاذبية الأرض وعوامل الإلتصاق من جصّ وإسمنت.
وباختصار، أنّ وجود (الممكن) وجود ارتباطي ولا يستمرّ دون الإتّكال على وجود مستقلّ، وعليه فإنّ تعريف معنى الوجود الإرتباطي كافٍ في التعرّف على الوجود المستقلّ دون الحاجة
إلى بحوث واسعة في «الدور والتسلسل» (تأمّل جيّداً).
يُستبطن في مفهوم الوجود الإرتباطي والتبعي معنى الإستناد إلى واجب الوجود فهل للوجود الإرتباطي معنى دون الوجود المستقلّ؟
نقرأ في دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة- وهو من أعمق وأثرى الأدعية الواردة عن المعصومين:- خاصّة في بحث التوحيد إذ يقول عليه السلام:
«كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المُظهِر لك؟» «1».
ونقرأ في موضع آخر من الدعاء نفسه:
«إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟!».
__________________________________________________
(1) يستفاد من هذه الجملة في (برهان الصدّيقين) أيضاً فيشار إليها في بحثه إن شاء اللَّه.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 43
ونجد في حديث نبوي: «الفقر فخري وبه أفتخر» «1».
إنّ أحد التفسيرات المعروفة لهذه الرواية هو الشعور بالفقر الذاتي تجاه اللَّه سبحانه وهو الداعي إلى الفخر، وليس الفقر هنا بمعنى ضنك المعيشة والإفتقار إلى المخلوق وهو ممّا تذمّه الروايات، كالحديث الذي ينصّ:
«كاد الفقر أن يكون كفراً» «2».
ولذا نقرأ عنه عليه السلام في حديث آخر: «اللهمّ أغنني بالإفتقار إليك ولا تفقرني بالإستغناء عنك» «3».
كانت لقلبي أهواءٌ مفرغة فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي تركت للناس دنياهم ودينهم شغلًا بذكرك ياديني ودنيائي __________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 69، ص 55؛ وتفسير روح البيان، ج 7، ص 334.
(2) بحار الأنوار، ج 69، ص 30.
(3) سفينة البحار، ج 2، ص 378؛ وتفسير روح البيان، ج 7، ص 334.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 45
لا شكّ أنّ العالم الذي نعيش فيه يشتمل على مجموعة من العلل والمعلولات، والعلّية هي من أوضح القوانين في هذا العالم.
كما لا شكّ في أنّنا والأرض التي نعيش عليها لم نكن موجودين بصورة دائمة بل انّنا معلولون لعلّة اخرى، فهل لهذه السلسلة من العلل والمعلولات أن تستمرّ بلا نهاية وتبقى
في حالة تسلسل؟ وبعبارة اخرى أتكون كلّ علّة معلولة لعلّة اخرى ولا تنتهي في موضع ما؟
إنّها قضيّة لا يتقبّلها أي وجدان، فكيف يمكن لأصفارٍ توضع جنباً إلى جنب وإلى ما لا نهاية من أن تكوّن رقماً ما؟ (المقصود من الصفر هو الموجود الذي لا وجود له من ذاته بل وجوده مكتسب من علّته)، وكيف يمكن أن يصطف الفقراء- والمعوزون إلى ما لا نهاية ثمّ يحصل منهم وجود غني؟!
يجب الإذعان- إذن- إلى أنّ هذه السلسلة من العلل والمعلولات تنتهي بوجود، وهذا الوجود هو علّة غير معلول حيث ينبع الوجود من ذاته، وبتعبير أدقّ هو عين الوجود اللامتناهي وواجب الوجود.
إنّه أوضح دليل على إثبات الوجود الأزلي والأبدي للَّه سبحانه.
والملاحظ أنّ الاستدلالات الاخرى لإثبات وجود اللَّه تنتهي كذلك ببرهان (العلّة والمعلول) وبدونه تكون ناقصة.
بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية:
نفحات القرآن، ج 3، ص: 46
1- «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَى ءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ». (الطور/ 35)
2- «أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ والأَرضَ بَلْ لَّايُوقِنُونَ». (الطور/ 36)
3- «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيرُ اللَّهِ سُبحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشرِكُونَ». (الطور/ 43)
«خلقوا»: من (الخلق) ويعني في الأصل: التقدير المباشر، وبما أنّ صُنع وإيجاد شي ء غير موجود في الماضي، وليس له أصل ومادّة يكون صُنعاً وإيجاداً بكل معنى الكلمة، لذا اطلقت هذه المفردة على الإبداع والإيجاد.
كما تستعمل هذه الكلمة في عملية إيجاد شي ء من شي ء آخر نظيره:
«خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُّطفَةٍ». (النحل/ 4)
من البديهي أنّ (الخلق) بمعنى (الإبداع والإيجاد من العدم) مختصّ باللَّه، ولذا ينفي هذه القدرة عن غيره حيث يقول تعالى:
«أَفَمَنْ يَخلُقُ كَمَنْ لَايَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ». (النحل/ 17)
في حين يصدق المعنى الثاني (وهو إيجاد شي ء من شي ء آخر والتقدير له)، على غير
اللَّه تعالى، ناظرة إلى هذا المعنى: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخالِقِينَ». (المؤمنون/ 14)
وقد تستعمل هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً، ولعلّ ذلك لما يختلقه من أشياء لا واقع ولا وجود لها.
وقد ذكروا ل (الخلق) أصلين في مقاييس اللغة أحدهما: التقدير، وثانيهما: الليونة والنعومة، ولذا يطلق على الصخرة الملساء (الصخرة الخلقاء) كما يطلق فعل (خَلقَ) على الأشياء القديمة حينما تكون ملساء نتيجة لتعاقب الأزمنة عليها.
أمّا (الأخلاق) والتي تعني الصفات والسجايا الإنسانية الثابتة فانّها مشتقّة من المعنى الأول وهو التقدير (لأنّها تحدّد أبعاد الشخصية والروح الإنسانية وقدرها).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 47
لقد جاءت الآيات المذكورة أعلاه ضمن تسع آيات في سورة (الطور)، ووردت في نطاق 11 سؤال على صورة الإستفهام الإستنكاري.
وهذه الآيات تضع الإنسان أمام مجموعة من الأسئلة المتسلسلة العجيبة ثمّ تسدّ عليه طريق الفرار كي يذعن للحقّ.
وتتابع هذه الأسئلة الأحد عشر ثلاثة أهداف مهمّة هي:
إثبات التوحيد، المعاد، ورسالة نبي الإسلام، غير أنّ الأساس فيها يتمحور حول توحيد الخالق المعبود.
الآية الاولى من الآيات الثلاث التي تقدّمت تقول: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَى ءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ».
وبعبارة اخرى: إنّ كلّ إنسان لا شكّ في أنّه مخلوق وحادث ولا يخرج من ثلاث حالات: امّا مخلوق من دون علّة أو هو علّة وجوده أو أنّ علّته هو الوجود الأزلي والأبدي وهو اللَّه سبحانه.
وبما أنّ الاحتمالين الأوّل والثاني لا يتوافقان مع العقل والوجدان فالاحتمال الثالث هو الثابت حتماً، ولذا ذكر الإحتمالين الأوّل والثاني بصيغة «الإستفهام الإستنكاري»، وحينما ينفيهما العقل والوجدان، يثبت الاحتمال الثالث لا محالة.
هذا جوهر الاستدلال الشهير ب (العلّة والمعلول) حيث يعرض في جملتين قصيرتين ومركّزَتَيْنِ ذات معنى واسع.
وقد يبرز هنا احتمال رابع وهو أن يكون الإنسان معلولًا لعلّة اخرى وهذه العلّة
معلولة لعلّة اخرى وهكذا تستمرّ هذه السلسلة إلى ما لا نهاية.
وهذا الاحتمال يبرز لدى الفلاسفة عادةً وليس لعامّة الناس، ولعلّ الآية لم تذكره لهذا السبب.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 48
على أيّة حال فإنّ هذا الاحتمال واضح البطلان أيضاً، لاستحالة (تسلسل العلل والمعلولات) منطقياً ووجداناً، وسيأتي إيضاح ذلك بإذن اللَّه.
وقد ذكر الكثير من المفسّرين تفسيرات اخرى للآية، ترتبط بصورة أساسية بالهدف من الخلق وإن كانت بعبارات مختلفة وتفاسير متعدّدة، حيث يقولون بأنّ المراد هو أنّ البشر لم يخلقوا دونما تكليف وأمر ونهي وثواب وعقاب، ويعتبرونها نظير قوله تعالى: «أَفَحَسِبتُم أَنَّما خَلَقْنَاكُم عَبَثاً» «1». (المؤمنون/ 115)
ولكن بملاحظة ذيل الآية يضمحل هذا الإحتمال تماماً لأنّه تعالى يقول: «أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ»، وهذا التعبير يدلّ على أنّ الجملة الاولى ناظرة إلى سبب الخلقة وعلّة ظهور الإنسان لا الغاية من خلقه، وبعبارة اخرى أنّ الآية تلاحظ العلّة الفاعلية لا الغائية.
الآية الثانية تُشير إلى خلق السماوات وتعيد استدلال العلّة والمعلول هذا في مورد خلق السماوات والأرض وتقول: «أَمْ خَلَقُوا السَماواتِ وَالأَرضَ».
ويعني هذا أنّ السماوات والأرض حادثة دون شكّ لتعرّضها إلى الحوادث باستمرار وحدوث أنواع التغييرات عليها وكلّ شي ء معرض للتغيير لا يمكن أن يكون أزلياً.
في هذه الحالة يجري السؤال عن خالق السماوات والأرض فهل هي خلقت نفسها؟ أو لا خالق لها أبداً وقد وجدت صدفة؟ أم أنّ خالقها هو البشر؟ وبما أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة بالنفي، يعلم أنّ لها خالقاً ليس مخلوقاً بل هو أزلي أبدي.
والملاحظ أنّ من بين هذه الاحتمالات يتوجّه الاستفهام الإنكاري إلى احتمال خالقية الإنسان للسماوات والأرضين فقط، وذلك لان الاحتمالات الاخرى وردت في الآيات السابقة، وعدم التكرار هو مقتضى الفصاحة والبلاغة.
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان؛ تفسير الكبير؛
تفسير القرطبي؛ تفسير الميزان؛ تفسير روح المعاني وتفسير روح البيان؛ حيث ذكروا هذا المعنى كمعنى رئيس في الآية أو كاحتمال.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 49
من هنا فإنّ الآيتين أعلاه أقامتا برهان العلّة والمعلول في الآفاق والأنفس، وعليه فإنّ الآية الثانية تشهد كذلك على أنّ الحديث يدور حول العلّة الفاعلية لا الغائية.
في الختام تشير هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي أنّ القضايا في هذا الصدد واضحة، ولكن العيب هو أنّهم لا يستعدّون للإيمان واليقين: «بَل لا يوقِنُون».
أجل، إنّ الحقّ بيّن، بَيدَ أنّهم معاندون وأعداءٌ للحقّ.
وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تشابه ما ورد في قوله تعالى
«وَفِى خَلقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِّقَومٍ يُوقِنُونَ». (الجاثية/ 4)
أو تشابه ما ورد في قوله تعالى «وَفِى الأَرضِ آيَاتٌ لِّلمُوقِنِينَ». (الذاريات/ 20)
وواضح أنّ اولئك لو كانوا من الموقنين لما احتاجوا إلى الآيات، وعليه فإنّ الحديث يدور حول الذين لا يقين لديهم ولكنّهم على استعداد لقبوله.
وذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ المقصود هو أنّ اولئك لا يقولون بأنّهم خلقوا السماوات والأرض، بل يعتقدون بأنّ اللَّه هو الخالق، نظير ما جاء في قوله تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأَرضَ لَيقُولُنَّ اللَّهُ» «1». (لقمان/ 25)
بيد أنّ هذا التفسير يبدو بعيداً.
والأضعف من هذا الاحتمال هو ما يقوله الذين يعتقدون أنّ معنى الآية هو: «أنّهم لا يقين لهم بما يقولون وهو أنّ اللَّه خالق السماوات والأرض» وهو اليقين الذي يدعوهم إلى العبودية والطاعة.
ويتّضح خطأ هذا التفسير من أنّ الآيات هذه لم تطرح قضيّة خلق اللَّه للسماوات والأرض، فكيف يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إليها؟ «2»
وأخيراً تقول الآية الثالثة كاستنتاج دون ذكر للاستدلال: «أَمْ لَهُم إِلهٌ غَيرُ اللَّهِ سُبحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ».
__________________________________________________
(1) أقرّ
الزمخشري هذا التفسير في الكشّاف وقد احتمله الفخر الرازي في الكبير وجمع آخر من المفسّرين.
(2) جاءت عبارة «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَماواتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» في العنكبوت، 61؛ الزمر، 38؛ الزخرف، 9 و 87؛ لقمان، 25.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 50
إنّه في الحقيقة استدلال على توحيد المعبود، أي عندما يكون هو الخالق للعالم فإنّ العبادة يجب أن تقتصر عليه أيضاً لا على غيره، كالأصنام والشمس والقمر والنجوم وغيرها.
وكما أسلفنا فإنّ هناك سبعة أسئلة اخرى إضافة إلى هذه الأسئلة الثلاثة الواردة على صورة الاستفهام الإنكاري في آيات ثلاث ترتبط بقضيّة النبوّة وامور اخرى لا حاجة لذكرها في هذا البحث التوحيدي «1».
1- برهان العلّة والمعلول في الفلسفة والكلام
يعدّ هذا البرهان من أقدم وأشهر الإستدلالات على إثبات وجود اللَّه ابتداءً من فلاسفة اليونان القدماء ومنهم ارسطو الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وحتّى يومنا هذا حيث كانوا يستندون إليه، وكما أشرنا من قبل فإنّ أغلب الأدلّة على التوحيد تعتبر غير تامة إذا لم تستند إلى برهان العليّة.
ولكي تتوضّح قواعد هذا الاستدلال، ينبغي ملاحظة عدّة امور:
(العلّية) هي العلاقة الوجودية بين شيئين بشكل يكون أحدهما تبعاً للآخر، ومن يرى أنّ علاقة العلّية عبارة عن ظهور حادثين على التعاقب فإنّ هذا التعريف يكون ناقصاً، فصحيح أنّ المعلول يحدث بعد علّته ولكن ذلك لا يكفي لتوضيح مفهوم العلّية، بل لابدّ أن يكون هذا الأمر ناشئاً من العلاقة بينهما ومن تبعية الوجود الثاني إلى الوجود الأوّل.
__________________________________________________
(1) للمزيد من الإيضاح راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 35 من سورة الطور.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 51
طبقاً لما يقوله بعض المحقّقين، كان قانون العلّة والمعلول أوّل قضيّة شغلت الفكر البشري من بين القضايا الفلسفية ماضياً وحاضراً ودفعت البشر للتفكير من أجل اكتشاف ألغاز الوجود، وأهمّ دافع للتفكير لدى الإنسان الذي يمتلك القدرة على التفكير هو فهم قانون (العلّة والمعلول العامّ) الذي يثبت أنّ لكلّ حادثة علّة وهو السبب في تبادر مفهوم (لماذا) في الذهن البشري، ولو لم يتعرّف الذهن البشري على مفهوم العلّة والمعلول العامّ ولم يذعن لقانون العلّية لم يكن ليخطر في ذهنه مفهوم (لماذا)؟ «1»
هذه ال (لماذا) هي الأساس لكلّ العلوم والأفكار البشرية والتي دفعت الإنسان للبحث عن الجذور والنتائج لهذا العالم وحوادثه المختلفة.
وبعبارة اخرى: إنّ جميع العلوم البشرية انعكاس لقانون العلّية، ولو سُلب هذا القانون من البشر فإنّ هذه العلوم سوف تفقد كل محتوياتها.
وكذلك لو فقدنا قانون (العلّية) فإنّ (الفلسفة) أيضاً سوف تتزعزع بكلّ فروعها، وعليه فإنّ العلوم والأفكار والفلسفة مبنيّة على هذا القانون.
كيف توصّل الإنسان إلى قانون العلّية؟
للإجابة عن هذا السؤال لابدّ أن نرجع إلى الوراء لنستقري ءَ حياتنا في الصغر، عندما ينضج عقل الإنسان وتكتمل قابلية التمييز لديه، فالطفل عندما يمدّ يده إلى النار فيحسّ بألم الإحتراق، وعندما يعيد هذا العمل ويتكرر الإحساس نفسه يتيقّن شيئاً فشيئاً بوجود علاقة بين أمرين (مسّ النار والشعور بألم الإحتراق).
وهكذا حينما يحس بالعطش ويشرب الماء فانّه يشعر بالراحة وزوال العطش ويتكرّر هذا العمل حتّى يتيقّن بوجود علاقة بين العطش وشرب الماء، وعندما تتكرّر هذه التجارب
__________________________________________________
(1) أصول الفلسفة، ج 3، ص 175 (اقتباس واختصار).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 52
في مجالات كثيرة وموضوعات مختلفة يتيقّن بأنّ لكلّ حادثة علّة وبهذا يكتشف قانون العلّية بشكله العادي البسيط، وبتقدم عمره وبواسطة التجارب
التي يمرّ بها سواء على صعيد الحياة الاعتيادية أو على صعيد العلوم والأفكار- سيدرك سعة هذا القانون وقوّته أكثر فأكثر (كما يصل إلى هذا المبدأ وهو أنّ لكلّ حادثة علّة عن طريق الفلسفة).
نحن لا نقول بأنّ تعاقب حادثين يعني العلّية بل نقول إنّ القضيّة لابدّ من تكرارها حتّى يتّضح وجود علاقة بينهما، وأنّ الثاني تابع للأوّل.
والظاهر أنّ القائلين: إنّ قانون العلّية خاضع للتجربة. يذهبون إلى أنّ الإنسان يتوصّل إلى الجذور والاصول عن طريق التجربة والحسّ ومن ثمّ يكتشف علاقة العلّية من خلال (التحليل العقلي)، وهو في الحقيقة يتوصل إلى مقدّمة من خلال (الحسّ) واخرى من خلال (العقل) وذلك لأنّ القوانين الكلّية توجد في العقل بصورة بديهية، ودور الحسّ هو إدراك الموضوعات المتفرقة ثمّ يقوم العقل بجمعها فيتوصّل إلى النتائج.
ويتصوّر البعض أنّ مبدأ العلّية- هو عبارة عن علم حصولي- يستحصل من العلم الحضوري (النفس) بالنسبة إلى (أفعال النفس).
وفي توضيح كلامهم هذا يقولون أنّ الروح الإنسانية تحسّ بامور في أعماقها تابعة لها وقائمة بها كالتصوّر والأفكار والإرادات والقرارات .. هذه كلّها أفعال الروح الإنسانية ومعلولة لها، ومن خلال العلاقة بين هذه الأفعال والروح يمكن أن نكتشف قانون العلّية، ثمّ يستندون في ذلك إلى قول لإبن سينا حيث يقول: «فإنّا ما لم نثبت وجود الأسباب لمسبّبات من الامور بإثبات أنّ لوجودها تعلّقاً بما يتقدّمها في الوجود، لم يلزم عند العقل وجود السبب المطلق، وأنّ ههنا سبباً ما، وأمّا الحسّ فلا يؤدّي إلّاإلى الموافاة وليس إذا توافى شيئان وجب أن يكون أحدهما سبباً للآخر ... «1».
ولا شكّ في أنّ هذا خطأ كبير ومن المستبعد أن يقصد ابن سينا هذا المعنى لأنّ هذه التحليلات بشأن الروح وأفعالها هي من اختصاص
الفلاسفة لا عموم الناس، في حين أنّ
__________________________________________________
(1) الشفاء، الفصل 1، مقالة الإلهيات الاولى، ص 8.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 53
عامّة الناس يعرفون قانون العلّية حتّى الأطفال منهم، ولا شكّ في أنّ ذلك حصل لهم من خلال التجارب الخارجية والحسّية كما أسلفنا، غير أنّ العقل ما لم يحلّل هذه التجارب وما لم يجعل من القضايا الجزئية أمراً عامّاً، فنحن لا ندرك (قانون العلّية)، وعليه فإنّ الأساس في معرفة هذا القانون هو التجربة إضافة إلى العقل، ولعلّ ابن سينا يقصد ذلك ولا يمكن قبول غيره، بَيدَ أنّا لا ننكر أنّ الفلاسفة والعلماء يسهل عليهم معرفة العلّية من خلال الأفعال النفسية كما يمكن ذلك عن طريق الحسّ.
كما أنّ ثمّة طريق استدلال واضح يوصل إلى هذا الأمر، وهو أنّنا لو أنكرنا قانون العلّية وجب أن لا يكون شي ء شرطاً لشي ء، وسوف ينشأ كلّ شي ء من أي شي ء، بل يجب رفض مناهج الاستدلالات العقلية أيضاً، وللوصول إلى نتيجة منطقية- مثلًا- يجب أن لا نستفيد من أدلّة خاصّة، بل إنّنا نصل من كلّ مقدّمة إلى أيّة نتيجة نتوخّاها، وهذا ما لا يتقبّله أي عاقل قطعاً.
ينبغي إذن أن نذعن بعلاقة العلّية في الخارج وفي الامور العقلية.
العلّة لها مفهوم واسع وأقسام عديدة:
العلّة التامّة وتعني أنّ الشي ء إذا وجد فإنّ معلوله سوف يوجد مباشرة.
والعلّة الناقصة وتعني أنّ الشي ء يحتاج- في وصوله إلى المعلول- انضمام امور اخرى، كما تقسّم العلّة إلى (العلّة الفاعلية) و (الغائية) و (المادّية) و (الصورية) وهذه تقسيمات مشهورة يمكن إيضاحها بمثال بسيط:
لو لاحظنا ملابسنا التي نرتديها لوجدناها لكي توجد يجب توفّر المادّة (كالقطن والصوف) ثمّ تحويلها إلى قماش مناسب ثمّ تباشرها يد الخيّاط لخياطتها، ومن الأكيد أنّ الخيّاط
يصنع اللباس لهدف خاصّ وهو الإنتفاع منه.
تعتبر المادّة الأصلية هي (العلّة المادّية) والصورة التي اعطيت لها هي (العلّة الصورية)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 54
والذي جعلها على صورة اللباس هو (العلّة الفاعلية) والدافع لهذا الشي ء هو (العلّة الغائية).
ومن المعلوم أنّنا استندنا في برهان (العلّة والمعلول) الذي نتابعه إلى العلّة الفاعلية وخاصّة العلّة التامّة.
بعد اتّضاح هذه المقدّمات نرجع إلى أصل برهان العلّية.
إنّ برهان العلّة والمعلول في الحقيقة مبني على أساسين هما:
1- أنّ العالم الذي نعيش فيه (حادث) و (ممكن الوجود).
2- كلّ موجود حادث وممكن الوجود يجب أن ينتهي إلى واجب الوجود، وبعبارة اخرى يجب أن تنتهي الوجودات الإرتباطية إلى الوجود المستقل.
وقد تكلّمنا بما فيه الكفاية عن المقدّمة الاولى وهي حدوث العالم، يبقى أن نثبت الآن المقدّمة الثانية:
إنّها قضيّة واضحة وحتّى المادّيون والمنكرون لوجود اللَّه يقرّون بها، بَيدَ أنّهم يقولون: إنّ (المادّة) لها وجود أزلي وأبدي ومستقلّ بالذات، لكن هذا الكلام باطل استناداً إلى الأدلّة التي تثبت استحالة أزلية المادّة وأبديتها وقد أشرنا إلى ذلك.
ولتوضيح هذه المقدّمة من المناسب أن نقول: مع الإقرار بأنّ العالم حادث فسنواجه خمسة افتراضات لا سادس لها:
فإمّا أن يوجد العالم بدون علّة، أو أن يكون هو علّة لوجوده، أو أن يكون معلوله علّة له، أو أن يكون العالم معلولًا لعلّة وهي معلولة لعلّة اخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.
أو أن نقرّ بأنّ كلّ هذه الموجودات الحادثة مستندة إلى موجود أزلي أبدي فوق المادّة، وهذه السلسلة من العلل والمعلولات تنتهي أخيراً إلى (واجب الوجود).
الفرضية الاولى: وهي حدوث العالم بدون علّة وتسمّى بفرضية (الصدفة) وهي فرضية
نفحات القرآن، ج 3، ص: 55
باطلة، لأنّ الحادث إن لم يحتج إلى علّة فإنّ كلّ موجود يجب أن يوجد
في كلّ زمان وأي ظرف، في حين نرى بوضوح أنّ الأمر ليس كذلك، حيث يحتاج كلّ حادث لحدوثه إلى توفّر الشرائط والظروف الخاصّة.
وهكذا بطلان الفرضية الثانية وهي (أن يكون الشي ء نفسه علّة لوجوده) يعتبر أمراً بديهياً، لأنّ العلّة يجب أن تكون قبل المعلول ولو كان الشي ء علّة لنفسه فلابدّ أن يكون موجوداً قبل وجوده ممّا يستلزم اجتماع (الوجود) و (العدم) وهو ما يطلق عليه بالمصطلح العلمي (الدور).
وهكذا بالنسبة لبطلان الفرضية الثالثة، حيث يكون معلول الشي ء علّة لوجوده، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى توضيح.
وأمّا بطلان الفرضية الرابعة التي تعني استمرار سلسلة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية فانّه بحاجة إلى إيضاح: (التسلسل) يعني استمرار سلسلة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية وهذا باطل عقلًا لأنّ كلّ معلول يحتاج إلى علّة، ولو إستمرّت هذه السلسلة إلى ما لا نهاية ولم تنته بواجب الوجود فانّه يعني أنّ مجموعة من ذوات الحاجة غير محتاجة، في حين أنّ ما لا نهاية من الفقراء والمحتاجين محتاجون حتماً.
فلو تراكمت ما لا نهاية من الظلمات لا تتحوّل إلى (نور)، وما لا نهاية من (الجهل) لا يكون (علماً)، وما لا نهاية من (الأصفار) لا يكون (رقماً).
لابدّ إذن من انتهاء سلسلة العلل والمعلولات إلى موجود يحتاج شيئاً آخر .. وجود مستقلّ وغني، وجوده من ذاته، وبعبارة أصحّ أن يكون عين الوجود والوجود المطلق.
وممّا ذكر نستنتج أنّ وجود الممكنات والحوادث في العالم لابدّ أن ينتهي بوجود واجب أزلي نسمّيه (اللَّه) سبحانه وتعالى.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 57
برهان الصدّيقين من أدلّة إثبات وجود اللَّه بالاستفادة من القرآن الكريم والروايات، والذي اهتمّ به العلماء والفلاسفة الإسلاميون، وكما يبدو من إسمه أنّه ليس دليلًا عامّاً بل يختصّ
بالذين يحظون بمعلومات وفهم أوسع في العقيدة والفلسفة، ولهم قسط وافر من الذوق ودقّة الملاحظة.
دليل يتّصف بالتعقيد قليلًا وفي الوقت نفسه لطيف وجميل ومربٍّ للروح.
ومحور هذا الدليل أنّنا بدلًا من دراسة المخلوقات من أجل معرفة اللَّه، نتوجّه للتدبّر في ذاته المقدّسة للوصول إلى ذاته، وكما يقتضيه الدعاء: «يامن دلّ على ذاته بذاته» نتّخذ منه تعالى طريقاً للوصول إليه، وكلّ ما في هذا البرهان من تعقيد وظرافة ناشي ء عن كيفية إمكان اتّحاد الدليل والإدّعاء.
القضية هي أنّ في هذا العالم وجوداً فنبادر بتحليل أصل هذا الوجود ومن خلال تحليل دقيق نصل إلى أنّ أصل الوجود يجب أن يكون واجباً.
هذه إشارة سريعة ولو أنّها غير كافية حيث سنتكلم عن ذلك بالتفصيل ونعود الآن إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات التالية:
1- «أَوَ لَمْ يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ شَهيدٌ». (فصّلت/ 53)
2- «شَهِدَ اللَّهُ انَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَاإلهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ». (آل عمران/ 18)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 58
3- «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحيْطٌ». (البروج/ 20)
5- «هُوَ الْأوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والباطنُ وَهُوَ بكُلِّ شَى ءٍ عَليمٌ». (الحديد/ 3)
6- «اللَّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ» «1». (النور/ 35)
«شهيد»: مشتق من (شهود) وهو في الأصل- كما يقول الراغب في المفردات- بمعنى (الحضور المقرون بالمشاهدة) سواء كان ذلك بالعين الباصرة أو بعين القلب، وقد يعني (الحضور) مجرّداً عن مفهوم المشاهدة بَيدَ أنّ استعمال (شهود) بمعنى الحضور، و (الشهادة) بمعنى الحضور المقرون بالمشاهدة أولى.
وقد وردت في (مقاييس اللغة) ثلاثة اصول في معنى (الشهادة) هي: الحضور والعلم والإعلام للآخرين، وإطلاق (شهيد) على من يقتل في طريقه هو لحضور ملائكة الرحمة عليه، أو بسبب حضوره في ساحة الجهاد، أو
بسبب مشاهدة النعم العظيمة التي أعدّها اللَّه له، أو بسبب حضوره بين يدي اللَّه.
وقد جاء في كتاب العين أنّ (الشّهْد) يعني (العسل) قبل استخراجه من الشمع وهو المعنى الذي اتّخذه صاحب الكتاب الأصل الأوّل لهذه المادّة، فهل يرى ذلك هو الأصل اللغوي؟ وفي هذه الحالة ما هو وجه العلاقة بما نحن فيه؟ إنّه لم يذكر توضيحاً لذلك «2».
(محيط) ومصدرها (الإحاطة) وتعني الضمّ ويستفاد من بعض الكتب اللغوية بأنّ الإحاطة على نوعين:
إحداهما: تكون في الأجسام ولذا يطلق على البناء المحيط بمكان (حائط).
وثانيهما: (الإحاطة المعنوية) وتعني الحفظ والحراسة أو العلم والإطّلاع على شي ء ما.
وقد تستعمل هذه المفردة بمعنى الإمتناع من شي ء، وكأنّ الإنسان محاط من كلّ جهة
__________________________________________________
(1) هناك آيات قرآنية اخرى تحمل نفس هذا المضمون من جملتها سورة الحجّ، 17 وسبأ، 47 والمجادلة، 6 والبروج، 9 والنساء، 33 والأحزاب، 55.
(2) المفردات، لسان العرب، مقاييس اللغة، كتاب العين.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 59
لئلّا يصل إلى ذلك الشي ء، وكلمة (الإحتياط) تستعمل في المجالات التي يحاول الإنسان فيها أن يعمل عملًا يصونه من الخطأ والإشتباه والمعصية والمخالفة.
وقد ورد في (مقاييس اللغة) أنّ الأصل في هذه المفردة هو من مادّة (حوْط) ويعني دوران شي ء حول شي ء آخر.
كما أنّ كلمة (محيط) يمكن أن تكون بمعنى الإحاطة الوجودية أو إحاطة القدرة والعلم «1».
«نور»: يعني الأشعّة المنتشرة التي تعين العين على النظر وهو على نوعين:
مادّي وهو النور الذي تبصره العيون المجرّدة، ومعنوي وهو النور الذي تراه عين البصيرة كنور العقل ونور القرآن، وقد جاء إطلاق (نائرة) على الفتنة وذلك لانتشارها واتّساعها.
والأقرب أنّ هذه المفردة تعني في أصلها الضياء المحسوس، ثمّ استعملت في الامور المعنوية كالإيمان والعلم والعقل والقرآن حتّى ذات
اللَّه المقدّسة.
«نار»: هي من هذا الأصل أيضاً ويقترنان في كثير من الموارد.
وكلمة (منارة) تعني الموضع المتّخذ لإشعال الشموع، أو لأجل نشر نور المعنويات الذي يبثّه (الأذان) إلى مختلف الجهات.
«نَوْر»: ويطلق على براعم الأشجار وخاصّة البيض منها لما فيها من نور خاصّ منذ ظهورها.
تقول الآية الاولى التي وردت في هذا البحث بعد الإشارة إلى آيات الآفاق والأنفس
__________________________________________________
(1) التحقيق في كلمات القرآن، المفردات، مقاييس اللغة، ولسان العرب.
(2) قال البعض: إنّ تسمية هذا البرهان ب (برهان الصدّيقين) لأنّ صدّيق هو صيغة مبالغة ويعني كثير الصدق. صحيح أنّ الأدلّة الاخرى التي أوردناها لإثبات وجود اللَّه صادقة بَيدَ أنّ هذا البرهان أشدّ صدقاً نظراً إلى أنّا نصل في البرهان من ذات اللَّه سبحانه وتعالى إلى اللَّه ولا نسمح لغيره في هذا الطريق.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 60
الدالة على حقانية وجود اللَّه سبحانه وتعالى: «أَوَ لَمْ يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ شَهِيدٌ».
يمكن أن تكون كلمة (شهيد) هنا بمعنى الشاهد أوالحاضر والمراقب، أو تعني كلا المعنيين وذلك لصدقهما في اللَّه سبحانه، والآية المذكورة أعلاه مطلقة من هذه الجهة.
واستناداً إلى هذا التفسير يكفي لإثبات ذاته المقدّسة أن يكون شاهداً وحاضراً في كلّ مكان، فكلّ موجود ممكن نجد إلى جانبه ذات واجب الوجود، وحيثما نظرنا كان الوجود المطلق ظاهراً، وكلّ ما وقع عليه نظرنا وجدنا وجهه فيه، ونحسّ بخضوع العظماء لعظمته، وهو مصداق حديث أميرالمؤمنين عليه السلام: «ما رأيت شيئاً إلّاورأيت اللَّه قبله وبعده ومعه» «1».
وفي تفسير الميزان أنّ (شهيد) تعني (مشهود) وبذلك يكون معنى الآية:
«أو لم يكف في تبيّن الحقّ كون ربّك مشهوداً على كلّ شي ء إذ ما من شي ء إلّاوهو فقير من جميع جهاته
إليه متعلّق به وهو تعالى قائم به قاهر فوقه فهو تعالى معلوم لكلّ شي ء وإن لم يعرفه بعض الأشياء» «2».
ونتيجة هذا التفسير هو إثبات وجود اللَّه من الآية أعلاه أيضاً، ولكن عن طريق برهان الغنى والفقر.
يقول الفخر الرازي: «أو لم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها اللَّه تعالى وقرّرها، الدالّة على التوحيد والتنزيه ...» «3» (وعلى هذا فالآية ناظرة إلى إثبات وجود اللَّه عن طريق برهان النظم).
ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية ناظرة إلى قضيّة إثبات المعاد حيث يقولون:
«أو لم يكف بربّك أنّه شاهد على كلّ شي ء، ممّا يفعله العبد وفي هذا كفاية لمحكمة يوم الجزاء» «4».
__________________________________________________
(1) يعتقد الكثير من المفسّرين بأنّ الباء في «بربّك» زائدة وتفيد التأكيد، وقد حلّت (ربّك) محلّ الفاعل، وجملة «على كلّ شي ء شهيد» هي بدل منه والجملة تعني (أو لم يكفهم أنّ ربّك على كلّ شي ء شهيد).
(2) تفسير الميزان، ج 17، ص 405.
(3) تفسير الكبير، ج 27، ص 140.
(4) تفسير القرطبي، ج 8، ص 5819.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 61
ويعتقد البعض الآخر أنّ الآية ناظرة إلى حقّانية القرآن الكريم، ونبوّة الرسل، ويقولون:
«أولم يكف ربّك شاهداً أنّ القرآن من عند اللَّه» «1».
ويبدو أنّ التفاسير الثلاثة الاولى من بين التفاسير الخمسة هذه والتي ترى أنّ الآية ناظرة إلى قضيّة التوحيد وإثبات وجود اللَّه هي أكثر صحّة، ويبدو التفسير الأوّل منها أكثر انسجاماً مع معاني الألفاظ الواردة في الآية، وبذلك يكون شاهداً على (برهان الصدّيقين).
وننهي هذا الكلام بحديث معتبر للإمام الصادق عليه السلام.
عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّي ناظرت قوماً فقلت لهم: إنّ اللَّه جلّ جلاله أجلّ وأعزّ وأكرم من أن يُعرف بخلقه
بل العباد يُعرفون باللَّه، فقال: «رحمك اللَّه» «2».
ومن الطبيعي أنّ هذا الكلام لا يتنافى أبداً مع استخدام برهان النظم وأدلّة التوحيد وعظمة اللَّه في موجودات العالم، في الحقيقة فإنّ برهان النظم في مستوى، وهذا البرهان (برهان الصدّيقين) هو في مستوى أعلى وأرفع.
في الآية الثانية يدور الحديث حول شهادة اللَّه سبحانه على وحدانيته ثمّ شهادة الملائكة والعلماء حيث تقول: «شَهِدَ اللَّهُ انَّهُ لَاإِله إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَاولُوا العِلْمِ»، وتضيف: أنّ ذلك يكون مع قيام اللَّه سبحانه بالعدل وإدارة العالم على محور العدل: «قَائِمَاً بِالقِسطِ».
وبما أنّ القيام بالقسط والعدل يحتاج إلى أصلين هما: القدرة والعلم لكي تتحدّد موازين العدل بالعلم أوّلًا وتطبّق بالقدرة ثانياً، أضافت الآية في ذيلها: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ».
والمراد من شهادة الملائكة واولو العلم واضح، ولكن ما هو المراد من شهادة اللَّه؟
هناك خلاف بين المفسّرين، حيث اعتقد البعض أنّ المراد هو الشهادة (الفعلية)
__________________________________________________
(1) راجع تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 20.
(2) اصول الكافي، ج 1، ص 86، باب أنّه لا يعرف إلّابه، ح 3.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 62
و (القولية) أي أنّه شهد على وحدانيته بعرض آيات عظمته في عالم الوجود وفي الآفاق وفي الأنفس من جهة، وكذلك من خلال آيات التوحيد النازلة في الكتب السماوية من جهة اخرى.
في حين ذكر بعض المفسرين الشهادة القولية وحدها، وذكر بعض آخر الشهادة الفعلية، بيد أنّ مفهوم الآية يتضمّن- بالتأكيد- شهادة أعلى وأرفع من هذه، بل هي أهمّ مصداق للشهادة وهي أنّ ذاته شاهدة على ذاته كمصداق لما ورد: «يامن دلّ على ذاته بذاته» انّه سبحانه أفضل دليل على وجوده وهو الهدف الذي يقصده برهان الصدّيقين.
ولا مانع من اجتماع المعاني الثلاثة (الشهادة الذاتية
والفعلية والقولية) في مفهوم الآية.
وقد استنتج البعض من عبارة (قائماً بالقسط) بأنّ آيات العدل والنظم والتقدير في عالم المخلوقات هي مصداق بيّن لشهادته سبحانه وتعالى على وحدانيته، وهو استدلال جيّد (ولا ضير في انفصال الملائكة عن (اولو العلم) كما يشير تفسير الميزان إلى هذا المعنى)، كما لا يمنع من عمومية الآية وسعة مفهومها وشمول ما قلنا.
وكما ذكرنا من قبل فإنّ القائم بالعدل يحتاج إلى العلم والقدرة، وهاتان الصفتان موجودتان في ذاته المقدّسة واتّصاف الباري ب (العزيز الحكيم) في ذيل الآية إشارة إلى هذا المعنى الدقيق.
الآية الثالثة- بعد الإشارة إلى الجيوش الجرّارة التي واجهت أنبياء اللَّه وحاربتهم وذكر نموذجين متميزين أحدهما في العصور القديمة وهم (قوم ثمود) وثانيهما في العصور المتأخّرة وهم (قوم فرعون): «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيب».
التعبير ب (في)- ويستعمل عادةً لبيان الظرف والمظروف- تعبير جميل وفيه إشارة إلى أنّ الكفّار غارقون في تكذيب الحقائق، والمراد من الكفّار هم الكفّار المعاندون في عصر
نفحات القرآن، ج 3، ص: 63
النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الذين كانوا ينكرون وحدانية اللَّه سبحانه ونبوّة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله والمعاد كذلك، ولا يستبعد أن تشمل الآية هؤلاء جميعاً، لأنّ قوم فرعون وثمود الذين ذُكروا من قبل كانوا كذلك، كما أنّ استعمال (تكذيب) على صورة نكرة والذي يدلُ في مثل هذه الحوادث على الأهميّة والعظمة هو شاهد آخر على هذا المعنى.
ثمّ تقول الآية: «وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطٌ».
التعبير ب (ورائهم) إشارة إلى أنّهم محاطون من كلّ جهة، واللَّه محيط من كلّ جهة وجانب، وقد وقع كلام بين المفسّرين بشأن المراد من (الإحاطة الإلهيّة) حيث احتمل البعض أنّها إحاطة اللَّه العلمية على أعمالهم، واعتقد البعض الآخر أنّها
إحاطة القدرة حيث الجميع في قبضته، وليس لهم القدرة على الفرار من عقابه، وذهب البعض الآخر إلى أنّها الإحاطة العلمية، وإحاطة القدرة معاً.
بيدا أنّ مفهوم الآية أوسع ممّا ذكر حيث يشمل إحاطته الوجودية أيضاً، نعم، للَّه تعالى إحاطة وجودية لجميع الممكنات والكائنات، وليست هذه الإحاطة- طبعاً- من قبيل إحاطة الظرف بالمظروف (كإحاطة الحائط بالبيت) وليست من قبيل إحاطة الكلّ بالجزء، بل هي (الإحاطة القيومية)، أي أنّه سبحانه وجود مستقلّ وقائم بالذات والموجودات الاخرى قائمة به وتابعة له.
وهذا المعنى يفتح الطريق أمام برهان الصدّيقين في مسألة إثبات وجود اللَّه، وسنقدّم شرحاً لذلك في المستقبل.
تقول الآية الرابعة- وهي من الآيات الاولى من سورة الحديد وفيها ذكر لصفات اللَّه سبحانه بشكل عميق وواسع: «هُوَ الأَوَّلُ وَالاخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ وهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَليمٌ».
إنّ هذه الصفات الخمس التي اجتمعت في الآية بيان جلي لذاته المقدّسة اللامتناهية.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 64
هو (الأوّل) أي هو الأزلي دون أن تكون له بداية، وهو (الآخر) أي الأبدي الذي لا نهاية له، وهو (الظاهر) أي البيّن دون أن يكون خافياً على أحد، وهو (الباطن) أي أنّ ذاته ليست ظاهرة لأحد (لعدم قدرة الموجودات المحدودة كالإنسان على إدراك الحقيقة اللامتناهية) دون أن يكون محجوباً عن عباده.
ولذا فانّه سبحانه عالم بكلّ شي ء لأنّه موجود في البداية، وسوف يبقى حتّى النهاية وحاضر في ظاهر العالم وباطنه.
وهناك تفسيرات متعدّدة ذكرها المفسّرون في تفسير الصفات الأربع: (الأوّل) و (الآخر) و (الظاهر) و (الباطن) إلّاأنّها غير متنافية ويمكن جمعها في مفهوم الآية.
فتارةً قالوا: إنّه الأوّل قبل وجود أي شي ء وهو الآخر بعد هلاك كلّ شي ء، ودلائل وجوده ظاهرة ولا يمكن إدراك باطن ذاته.
وتارةً قالوا: هو الأوّل ببرِّه حيث هدانا، والآخر
بعفوه حيث يقبل التوبة، والظاهر بإحسانه وتوفيقه عند طاعته والباطن في ستر عيوب العباد عند المعصية (الأوّل ببرّه إذ هداك والآخر بعفوه إذْ قبل توبتك، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته) «1» وقد ورد أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يقول في دعائه: «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شي ء، وأنت الآخر فليس بعدك شي ء، وأنت الظاهر فليس فوقك شي ء وأنت الباطن فليس دونك شي ء» «2».
على أيّة حال، فإنّ الآية الكريمة أعلاه، في عين إثباتها بطلان أفكار الصوفية في استقلالية الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق، فإنّها تبيّن حقيقة وهي أنّ الذات الإلهيّة المقدّسة مطلقة ولا نهاية ولا حدود لها.
أي هو وجود بلا عدم، ولو أنّا تدبّرنا حقيقة الوجود جيّداً ونزهناه من العدم فسوف نصل إلى ذاته المقدّسة، وهذا جوهر برهان الصدّيقين وروحه.
__________________________________________________
(1) راجع تفاسير مجمع البيان؛ الميزان؛ الكبير؛ روح البيان.
(2) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6406.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 65
ومن البديهي أنّ الموجود المحدود يكون موضعه إمّا في البداية أو النهاية، وإمّا في ظاهر الأشياء أو باطنها، واتّصاف اللَّه سبحانه بأنّه الأوّل والآخر والظاهر والباطن هو لكونه وجوداً غير متناه ولا محدود.
في الآية الخامسة والأخيرة نقرأ في جملة قصيرة وغزيرة المعنى:
«اللَّهُ نُورُ السَماوَاتِ وَالأَرض».
ويعقّب هذه العبارة تشبيه جميل وجذّاب لهذا النور الإلهي يشكّل ميداناً واسعاً لبحوث المفسّرين الأعلام للقرآن، وبما أنّ الشاهد في هذا البحث هو العبارة الاولى، فإنّا نشرع بتبيانها وشرحها:
من الطرق الهامّة في تفهيم الحقائق المعقّدة هو استعمال التشبيهات البليغة بغية تقريب الحقائق العلمية إلى الذهن بضرب الأمثلة الحسّية، وهنا قد استفيد من هذه الطريقة (وإن كانت الأمثلة بشأن اللَّه تعالى ناقصة لعدم
وجود مثيل لذاته) ولإدراك حقيقة هذا المثال لابدّ من التدبّر في معنى النور وصفاته وخصائصه وبركاته، ولا ريب في أنّ النور من أجمل الموجودات المادية وألطفها وأكثرها بركة، وتنتشر منه البركات والجمال في عالم المادّة.
فنور الشمس منبع الحياة والسرّ في بقاء الموجودات الحيّة والعنصر الفاعل في نمو النبات والزهور وجميع الأحياء.
النور هو المصدر الأساس للطاقات، نظير حركة الرياح، وهطول الأمطار، والعنصر الأساس في وجود المحروقات (البترول والفحم الحجري) ولو تبدّل نور الشمس إلى ظلام فسوف تتوقّف كلّ حركة في العالم.
والنور واسطة لمشاهدة الموجودات المختلفة والمظهر لها، هذا وانّ حركة الأمواج والذرّات الضوئية هي أسرع الحركات المتصوّرة في عالم المادّة، حيث تبلغ سرعتها (300 ألف كم) في الثانية، وهذا يعني أنّ النور في طرفه عين يدور حول الأرض سبع مرّات.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 66
وأخيراً فإنّ نور الشمس أفضل عامل على تلطيف البيئة والقضاء على مختلف أنواع الجراثيم الضارّة وإزالة الموانع عن طريق الحياة البشرية، وبملاحظة هذه الخصائص التي يتّصف بها النور المحسوس يتّضح عمق تشبيه ذات اللَّه المقدّسة بالنور.
نعم، إنّ وجوده تعالى هو النور الذي يظهر الوجودات ويحفظها، ومنه تنبع الحياة المعنوية والمادية، ويصدر كلّ جمال في العالم، وكلّ حركة نحو الكمال تنبع من وجوده المقدّس، وكلّ هداية تتحقّق برعايته.
وهو الذي يرفع الموانع عن طريق عباده، وهو الهادي للإنسان في طريق الكمال والقرب لذاته، وبكلمة واحدة كلّ ما في العالم قائم بذاته المقدّسة.
وهناك سؤال يطرح نفسه وهو: هل النور الذي يُظهر الأشياء يحتاج إلى مظهر؟ وهل الموجودات التي يُظهرها النور تكون أكثر ظهوراً من النور نفسه لتكون معرفة له؟
وبتعبير أدق: ما هي الوسيلة التي يمكن مشاهدة النور بها غير النور نفسه؟ وهذا هو الأساس في
برهان الصدّيقين.
وقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات في تفسير هذه الآية لا تنافي بينها، نظير الموارد الكثيرة الاخرى، ويمكن الجمع بينها، أي أنّ كلّ مفسّر منهم لاحظ- في الحقيقة- الآية من زاوية معيّنة.
وقد قال الكثير بأنّ جملة: «اللَّهُ نُورُ السَمَاواتِ وَالأَرض» تعني (المنوّر للسماوات والأرض).
وقد فسّرها البعض الآخر ب (الهادي لمن في السماوات والأرض) تبعاً للرواية التي وردت عن الإمام الرضا عليه السلام في هذا الشأن حيث قال:
«هادٍ لأهل الأرض» أو «هادٍ لأهل السماوات وهادٍ لأهل الأرض» «1».
وفسّرها البعض الآخر بمعنى الطاهر المنزَّه من كلّ عيب في جميع السماوات والأرض.
وفسرها آخرون بمعنى المُدبر لشؤون السماوات والأرض.
__________________________________________________
(1) تفسير البرهان، ج 3، ص 133، ح 1 و 2؛ وتفسير نور الثقلين، ج 3، ص 603.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 67
وفُسّرت بمعنى الإضاءة بواسطة الشمس والقمر والنجوم، وبواسطة الأنبياء والملائكة والعلماء والمفكّرين.
وفسّرها بعض بمعنى المنظّم للعالم العلوي والسفلي.
وفُسّرت بمعنى المفيض بالجمال على الكونين.
وفُسّرت بمعنى خالق السماوات والأرض.
وكما أسلفنا فإنّ هذه المعاني موجودة في الآية الكريمة: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرض»، بل إنّ الآية تنطق بما هو أعلى وأوسع، حيث إنّ النور نيّر ذاتاً وهو الدليل على وجوده ولا يحتاج إلى مظهر آخر، لأنّ الآخرين ظاهرون بأجمعهم ببركته وكما قال العرفاء:
«كفى بك جهلًا بأن تهجر الشمس الساطعة وتبحث في الوديان بنور الشمع، واعلم بأنّ الكون طرّاً من شعاع الحقّ».
هناك طريق آخر لمعرفة ذات اللَّه المقدّسة أقصر وأدقّ من البحث في موجودات العالم، وهو معرفة الذات المقدّسة بذاتها، أي الوصول منه إليه، وقد ورد هذا المضمون بشكل واسع في الروايات الإسلامية وأدعية المعصومين ويشكّل هذا المضمون جوهر برهان الصدّيقين.
ولا نقول أنّ لا يمكن التعرّف على ذاته عن طريق
الموجودات في العالم، كما لا نقول بأنّ آيات (الآفاق والأنفس) ليست علائم على علمه وقدرته وعظمته فإنّ هذا المعنى جلي في القرآن كلّه، ولكن نقول إنّ ثمّة طريق أرقى وأعلى وألطف وهو البحث في أصل الوجود والوصول إليه عن طريق ذاته المقدّسة، وهذا الطريق هو طريق الخواص والعرفاء الحقيقيين غالباً، فمثلًا:
1- نقرأ في دعاء الصباح الشهير: «يامن دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 68
2- ونقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي المعروف: «بك عرفتك وأنت دللتني عليك».
3- وقد ورد في دعاء عرفة أيضاً: «كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المُظهِر لك»)؟!
4- وورد في الدعاء نفسه: «متى غبت- حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت- حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً».
5- وقد ورد في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وإسمه منصور بن حازم قال له: إنّي دخلت في مناظرة- مع جماعة وقلت لهم: «إنّ اللَّه أجل وأكرم من أن يُعرف بخلقه بل العباد يعرفون باللَّه»، فقال له الإمام الصادق عليه السلام مصدّقاً إيّاه: «رحمك اللَّه» «1».
6- وقد ورد في حديث عن الإمام أمير المؤمنين قوله: «اعرفوا اللَّه باللَّه، والرسول بالرسالة، واولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان» «2».
7- وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سأله أحدهم: بم عرفت ربّك؟
فأجاب: «بما عرّفني نفسه» «3».
أجل، إنّه معرّف ذاته (شروق الشمس دليل على الشمس) وذاته المقدّسة دليل ذاته دون الحاجة إلى معرّف، وخفاؤه على البعض بسبب شدّة ظهوره، كالنور الذي لا يقدر الإنسان على النظر إليه لو تجاوز
حدّه، وكما قيل:
نور وجهك الحاجب عن ظهورك.
من المناسب أن نفصّل هذا البرهان كما يراه الفلاسفة الإسلاميون، وبسبب تعقيد البحث
__________________________________________________
(1) أصول الكافي، ج 1، ص 86، باب أنّه لا يعرف إلّابه، ح 3.
(2) المصدر السابق، ص 85، باب انّه لا يعرف إلّابه، ح 1.
(3) المصدر السابق، ح 2.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 69
فإنّا سوف نبيّنه قدر الإمكان بتعبيرات واضحة دون استعمال الإصطلاحات الفلسفية.
ويجب الانتباه قبل كلّ شي ء إلى أنّ مزايا برهان الصدّيقين تتمثّل في عدم التطرّق إلى الدور والتسلسل أو معرفة المؤثّر من خلال الأثر، ومن المخلوق إلى الخالق، ومن الممكن إلى الواجب في إثبات وجود اللَّه، بل هو تحليل للوجود نفسه وحقيقة الوجود، وبذلك نصل إليه من خلال ذاته، وهذا هو المهمّ (وان لوحظ وجود خلط في عبارات البعض بين هذا الاستدلال واستدلال الوجوب والإمكان وبرهان العلّة والمعلول- كما بيّناه في السابق- ووضعوا بعضها موضع البعض الآخر) «1».
وقد ذكرت تعاريف مختلفة لبرهان الصدّيقين منها: (تقدير صدر المتألّهين في الأسفار، ثمّ المحقّق السبزواري في حاشية الأسفار، ثمّ المرحوم العلّامة الطباطبائي في نهاية الحكمة وغيرهم في كتب اخرى)، والبيان الأوضح والأنسب دون الرجوع إلى استعمال برهان الوجوب والإمكان، والعلّة والمعلول وبدون الاستناد إلى مسألة الدور والتسلسل أن يقال:
إنّ حقيقة الوجود هي (العينية) في الخارج، وبتعبير آخر هي (الواقعية) وعدم قبول العدم، لأنّ كلّ شي ء لا يتقبّل ضدّه، وبما أنّ (العدم) ضدّ (الوجود) فحقيقة الوجود- إذن- ترفض العدم.
ومن هنا نستنتج أنّ (الوجود) ذاتاً هو (واجب الوجود) أي أزلي أبدي، وبتعبير أخر إنّ التدبّر في حقيقة (الوجود) يرشدنا إلى أنّ (العدم) لا ينفذ إليه أبداً، وكلّ ما لا يطاله العدم فانّه واجب الوجود (فتأمّل
جيّداً).
وأمّا صدر المتألّهين- وهو من السابقين إلى هذا الاستدلال- فيقول: «واعلم أنّ الطرق إلى اللَّه كثيرة لأنّه ذو فضائل وجهات كثيرة، «ولكلٍّ وجهةٍ هو مولّيها» لكن بعضها أوثق وأشرف وأنور من بعض، وأشدّ البراهين وأشرفها إليه هو الذي لا يكون في الوسط في البرهان غيره بالحقيقة، فيكون الطريق إلى المقصود هو عين المقصود وهو سبيل
__________________________________________________
(1) راجع نهاية الحكمة، ص 268، وشرح مختصر المنظومة ص 8 و 9 للشهيد المطهّري.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 70
(الصدّيقين) الذين يستشهدون به (تعالى) عليه، ثمّ يستشهدون بذاته على صفاته وبصفاته على أفعاله، واحداً بعد واحد، وغير هؤلاء (كالمتكلّمين، والطبيعيين وغيرهم) يتوسّلون إلى معرفته (تعالى) وصفاته بواسطة إعتبار أمر آخر غيره (كالإمكان للمهيّة، والحدوث للخلق، والحركة للجسم، أو غير ذلك) وهي أيضاً دلائل على ذاته، وشواهد على صفاته، لكن هذا المنهج أحكم وأشرف.
وقد اشير في الكتاب الإلهي إلى تلك الطرق بقوله (تعالى): «سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ» وإلى هذه الطريقة بقوله (تعالى): «أَوَ لَم يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ شَهِيدٌ».
ثمّ يضيف: وذلك لأنّ الربّانيين ينظرون إلى الوجود، ويحقّقونه ويعلمون أنّه أصل كلّ شي ء، ثمّ يصلون بالنظر إليه إلى أنّه بحسب أصل حقيقته واجب الوجود، وأمّا الإمكان والحاجة والمعلولية وغير ذلك فإنّما تلحقه لا لأجل حقيقته بما هي حقيقته، بل لأجل نقائص وأعدام خارجة عن أصل حقيقته» «1».
وباختصار عند ملاحظة الوجود الحقيقي نجد أنّه لا يجتمع مع العدم أبداً، ولا يسمح للعدم أن يتطرّق إليه وذلك لأنّ الوجود والعدم متقابلان، وهكذا إذا لاحظنا العدم فإنّا نجده يطرد الوجود عن ذاته، وعليه فإنّ حقيقة الوجود واجبة الوجود، والعدم ممتنع الوجود.
والإشكال المهمّ الذي يتبادر
إلى الذهن والذي بادر صدر المتألّهين للإجابة عنه في الأسفار هو أنّ كلّ موجود- وفق هذا الاستدلال- يجب أن يكون واجب الوجود، لأنّ هذا الاستدلال يجري في كلّ مورد في حين نرى أنّ الممكنات حادثة وليست أزلية ولا أبدية ولا واجبة الوجود.
الإجابة: لابدّ من الإلتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ الوجودات الممكنة ليست وجودات أصيلة، بل هي وجودات محدودة ومصحوبة بالعدم وهذا العدم ناشي ء من محدوديتها، وما
__________________________________________________
(1) راجع الأسفار، ج 1، ص 15 (بتلخيص يسير)، كما ورد نظير هذا المعنى في حاشية الأسفار للمحقّق السبزواري، ج 8، ص 14.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 71
يقال: إنّ الوجودات الممكنة تتركّب من شيئين فانّه يعني أنّ الوجودات الممكنة فيها نوع من العدم بسبب محدوديتها، وعليه فإنّ الوجود الممكن ليس وجوداً أصيلًا وحقيقيّاً، لأنّ حقيقية الوجود هي عين الواقعية ولا سبيل لأي قيد أو شرط ونقصان إليها، ولهذا يكون الوجود الأصيل واجب الوجود حتماً.
ونؤكد- بأنّ الوصول إلى حقيقة هذا الاستدلال- بالرغم من هذه الإيضاحات- يحتاج إلى رياضة فكرية ودقّة وتعمّق كبير (فتأمل جيّداً).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 73
(الإدراكات العقلية)- كما نعلم- تشكّل جزءً من المضمون الروحي لدى الإنسان، أي أنّ الإنسان لا يصل إلى كلّ شي ء عن طريق الدليل العقلي، بل إنّ المتطلّبات والمكتسبات الفطرية الغريزية تشكّل جزءً مهمّاً من المحتوى الروحي فيه، حتّى أنّ الأساس في الكثير من الأدلّة العقلية قائم على هذه المكتسبات الفطرية، في حين تنشأ المتطلّبات والمكتسبات في الحيوانات عن طريق الغريزة فقط.
وفي الحقيقة فإنّ الذين قاموا بتحديد الإنسان بالبعد العقلي لم يعرفوا تمام الأبعاد الوجودية للإنسان.
ومن المتّفق عليه أنّ طريق الباطن من الطرق المهمة في مسألة (معرفة اللَّه) التي لها طرق لا تحصى،
والإنسان هنا يسلك أقصر الطرق، فبدلًا من (المعرفة) يصل إلى (الوجدان)، ومن (التفكير) إلى (الرؤية)، وبدلًا من إعداد (المقدّمات) يصل إلى ذي المقدّمات.
إنّه طريق عظيم، مثير للنشاط والحيوية ومريح.
وقد اعتمدت آيات قرآنية عديدة على هذا المعنى وجاءت بتعابير جميلة.
بعد هذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية:
1- «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لَايَعْلَمُونَ». (الروم/ 30)
2- «وَإذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهمُ مُّنِيبِينَ إِلَيهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهمْ يُشْرِكُونَ». (الروم/ 33)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 74
3- «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشِركُونَ». (العنكبوت/ 65)
4- «هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى البَرِّ وَالبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنْتُم فى الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ برِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْهَا رِيحٌ عاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشَّاكِرينَ* فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيرِ الحَقِّ». (يونس/ 22- 23)
5- «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَليمُ».
(الزخرف/ 9)
6- «وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤفَكُونَ». (الزخرف/ 87)
7- «وَلَئِنْ سأَلْتَهمُ مَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمسَ والقَمرَ لَيقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ». (العنكبوت/ 61)
8- «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّماءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمعَ والأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ».
(يونس/ 31)
9- «قُلْ لِّمَنِ الأَرضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُم تَعلَمُونَ* سَيَقُولُونَ للَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ* قُلْ مَنْ رَّبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ* سَيَقُولُونَ للَّهِ قُلْ أَفَلَا
تَتَّقُونَ* قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُلِّ شَى ءٍ وَهُوَ يُجيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُم تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ». (المؤمنون/ 84- 89)
10- «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ». (الأعراف/ 172)
«الفطرة»: من مادة (فَطْر) وتعني- كما أسلفنا- شق الشي ء طولياً، ثمّ أطلق على كلّ شق،
نفحات القرآن، ج 3، ص: 75
والشقّ ربّما يكون للتخريب وربّما للإصلاح ولذا يستعمل للمعنيين.
وبما أنّ (الخلق) بمثابة كشف حجاب ظلمات العدم، فيكون أحد المعاني المهمّة لهذه المفردة هو الإيجاد والخلق، ولنفس السبب يعطي معنى الإبداع والإختراع أيضاً.
ويطلق لفظ (الإفطار) على تناول الغذاء بعد أذان المغرب أو إبطال الصوم، فالصوم يُعد حالة متصله ومستمرة وعند تناول المفطر فإنّ هذه الحالة تُقطع أو تُهدم، ولهذا سميت حالة إبطال أو قطع الصوم بالإفطار.
كما يستعمل هذا اللفظ في إنبات النباتات أيضاً وذلك لانفطار الأرض أثناء خروج النباتات منها، كما يطلق على عملية استخراج اللبن من الضرع باصبعين، فكأنّه ينشقّ ويخرج منه اللبن.
نقل عن ابن عبّاس قوله: لم أعرف معنى (فاطر السماوات والأرض) جيّداً حتّى جاء إليّ رجلان أعرابيان يتنازعان على بئر، فقال أحدهما لإثبات ملكيته:
أنا فطرتها بمعنى (أنا حفرتها)، هنا أدركت أنّ (الفطر) يعني الإيجاد والإبتداء في الشي ء.
ويطلق على البثور التي تظهر في وجوه الشباب من البنين والبنات اسم (تقاطير) أو (تفاطير) «1».
وإذا ما لاحظنا اعتبار بعض اللغويين مفردة (فطرة) بمعنى الدين والشرع إنّما هو لوجودها في خلقة الإنسان منذ البداية كما سيأتي.
الآية الاولى التي تصرّح بأنّ (الدين) هو أمر فطري وتخاطب النبي صلى الله عليه و آله: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» «2».
__________________________________________________
(1) لسان العرب؛ مفردات الراغب؛ نهاية ابن الأثير؛ ومجمع البحرين.
(2) «حنيف» من «حنف» ويعني كلّ ميل أو انحراف، وجاء بمعنى الميل من الضلال إلى الهدى ومن الباطل إلى الحقّ والتعبير ب (وجه) هنا كناية عن الذات، لأنّ الوجه أهمّ عضو في الجسم وتقع فيه الحواس الهامّه كحاسّة البصر والسمع
والذوق والشمّ.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 76
ومن أجل التعليل أو التشجيع على هذا الأمر تقول الآية بعد ذلك: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» «1».
وبما أنّ الإنسجام والتنسيق بين (التشريع) و (التكوين) يعتبر من المسلمات حيث لا يمكن وجود أمر متأصّل في خلق الإنسان غير منسجم مع سلوكه، فيمكن أن يكون هذا التعبير دليلًا على وجوب العمل بأصل التوحيد ونفي كلّ شرك.
وللمزيد من التأكيد تقول الآية بعد ذلك: «لَاتَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ».
وهذا يعني أنّ ما يتجذّر في أعماق الوجود الإنساني يستمرّ كأصل ثابت وراسخ- وسوف يتضح لنا بأنّ لهذه الجملة معنى غزير واعجازي، حيث تشير الدراسات الحديثة التي يجريها المفكّرون إلى أنّ العلاقات الدينية هي من أشدّ العلاقات الإنسانية تجذّراً ورسوخاً وبقاءً على مر التاريخ.
بيد أنّ فئة جاهلة وغافلة تقوم بإفساد هذه الفطرة الطاهرة بالشرك، ولذا فإن القرآن يؤكد على المحافظة عليها بذكر كلمة (حنيفاً) «2».
وللمزيد من التأكيد تضيف الآية: «ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ».
كلمة «قيّم» من مادة (قيام) واستقامة بمعنى الثابت والراسخ والمستقيم كما جاءت بمعنى القائم بشؤون المعاد والمعاش في الإنسان «3».
وبما أنّ الكثير من الناس يغفلون عن هذه الحقيقة ويبتلون بأنواع من عبادة الأصنام، لذا فقد ورد في آخر الآية قوله سبحانه وتعالى: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ»، والجدير بالذكر أنّ الفطرة التي جاءت في الآية لا تشمل التوحيد فقط بل تشمل الدين بجميع أُصوله وفروعه وسنتطرّق إلى هذا البحث الظريف إن شاء اللَّه تعالى.
__________________________________________________
(1) توجد أقوال كثيرة حول تعليل النصب في (فطرة اللَّه) ومنها أنّها بتقدير (اتّبع) و (الزم).
(2) يقول بعض المفسّرين بأنّ «لا» في «لَاتَبدِيلَ لِخَلقِ اللَّهِ» نافية وتعطي معنى النهي (راجع تفاسير مجمع البيان والميزان وروح الجنان) ولكن كما قلنا فإنّ
النفي أنسب وأجمل (فتأمّل جيّداً).
(3) مفردات الراغب وكتب لغوية اخرى.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 77
في الآيات الثانية والثالثة والرابعة التي يدور البحث حولها (وبتعابير مختلفة) هناك إشارة إلى قضيّة عامّة وهي أنّ الإنسان حينما يواجه الصعوبات والبلاء الشديد ويعجز عن استخدام الوسائل الطبيعية يلجأ إلى فطرته الأصيلة فيشرق في أعماق قلبه نور المعرفة الإلهيّة بعد اختفائه، ويتذكّر مبدأ العلم والقدرة الذي لا نظير له والذي يسهل عليه حلّ المشكلات كلّها.
ورد في قسم من الآية قوله: «وَاذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا ربَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيهِ».
ولكن بعد انتهاء الأزمة وهبوب رياح الرحمة، فإنّ مجموعة منهم يعودون إلى شركهم «ثُمَّ إِذَا اذاقَهُم مِّنهُ رَحمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُمْ بِربِّهمْ يُشرِكُونَ».
وفي موضع آخر يذكر هذا المعنى مقروناً بذكر مصداق واضح من الصعاب والمشكلات حيث تقول الآية: «فَاذَا رَكِبُوا فِى الفُلكِ» «وأحاطت بهم الأمواج العظيمة والأعاصير المخيفة وامتلأت قلوبهم رعباً وهلعاً» «دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى البَرِّ إِذَا هُم يُشرِكُونَ».
وقد أشارت آية اخرى إلى اخطار البحر هذه، بصورة جميلة اخرى حيث تقول بأنّ اللَّه هو الذي يُسيّركم في الصحارى والبحار وعندما تركبون السفينة وتحرّككم الرياح الطيّبة الهادئة إلى أهدافكم والجميع يغمرهم الفرح والسرور، وفجأة تهبّ الأعاصير ويهيج البحر وتأتي الأمواج من كلّ جهة فتهدد الراكبين في السفينة حتّى يروا الموت بأعينهم وينتابهم اليأس من الحياة يتذكّرون اللَّه فيدعونه مخلصين ويعاهدونه على أن يكونوا شاكرين له إذا نجّاهم من الهلاك (شكراً مصحوباً بالمعرفة):
«هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُم فِى البَرّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُم فِى الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِريحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجاءَهُم المَوجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا انَّهُم احِيطَ بِهِم دَعَوُا اللَّه مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِن
أَنجَيتَنَا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».
ولكن هؤلاء عندما ينجّيهم اللَّه من الأخطار الموحشة ويوصلهم إلى ساحل الأمان
نفحات القرآن، ج 3، ص: 78
ينسون عهدهم مع اللَّه فيشرعون مرّة اخرى بالظلم بدون حقّ فيسلكون طريق الشرك وهو من أعظم الظلم ويظلمون الذين تحت أيديهم مغرورين بالنعمة التي هم فيها: «فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبغُونَ فِى الْأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ».
كما يلاحظ هذا المعنى في آيتين اخريين، ففي موضع تقول الآية:
«فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا اوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ».
(الزمر/ 49)
وفي موضع آخر تقول الآية: «وَإذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ». (يونس/ 12)
هذه الآيات الخمس مع أنّها تقصد حقيقة واحدة، بَيدَ أنّ كلّ آية تتمتّع بخصوصية ولطافة ولحن خاصّ، ففي بعضها ذكر لأنواع الأضرار والمشكلات والأذى والتي تشمل أنواع الأمراض والبلاء والقحط والآفات والمشكلات.
وفي البعض الآخر إشارة إلى أخطار البحر فقط (من قبيل الأعاصير والأمواج ودوران المياه والحيوانات الخطرة الموجودة في أعماقه والضلال عن الطريق وأمثالها).
وفي الأخرى تركيز على أخطار الأعاصير والأمواج.
وفي آية اخرى حديث عن عودة الإنسان للسير في طريق الشرك.
وفي آية اخرى ذكر لطريق البغي والظلم الذي له مفهوم أوسع من الشرك.
وفي آية اخرى إشارة إلى أنّهم يعتبرون المشاكل ناشئة من اللَّه أمّا النعم فانّها منهم، ونقرأ في آية، أنّهم يشركون بأجمعهم، وتذكر آية اخرى فئة منهم، وذلك لاختلاف المجتمعات البشرية قسم من الفئة الاولى وبعضها قسم من الفئة الثانية.
وتقول آية اخرى: إنّهم يعاهدون اللَّه عند البلاء عهداً ينسونه عند استقرار الأوضاع وزوال البلاء، وفي آية اخرى يكون الحديث عن الدعاء والطلب من اللَّه تعالى.
وتقول
آية اخرى: إنّهم إذا أصابهم شي ء من الضرر (التعبير ب «مسّ» فيه إشارة إلى هذا المعنى)، ولكن في آية اخرى أنّهم عندما ينتابهم اليأس من الحياة يقبلون على اللَّه، ولعلّ هذا
نفحات القرآن، ج 3، ص: 79
الاختلاف إشارة إلى مختلف أفراد البشر حيث يكون البعض من القسم الأوّل والبعض الآخر من القسم الثاني.
وقد ذكرت كلمة (الإخلاص) في الكثير من الآيات، حيث تشير إلى رفض كلّ معبود سوى اللَّه الواحد، وتدلّ على أنّهم حين الدعة والراحة يعبدون اللَّه أيضاً، ولكنّهم يجعلون للَّه أنداداً سرعان ما ينسونهم عند ارتفاع الأمواج العاتية أو الأعاصير الموحشة، ويغمر نور التوحيد والوحدانية قلوبهم ويضي ء وجودهم.
ورد في تفسير «روح البيان» بأنّ عبدة الأوثان وفي أثناء رحلاتهم البحرية (حيث كانت رحلاتهم محفوفة بالمخاطر، باعتبار أنّ السفر عن طريق البحر مملوء بالحوادث وفي ذلك الزمان أكثر خطراً بالنسبة لعصرنا الحاضر وذلك لافتقارهم للمعدات البحرية المتطورة).
فكانوا يحملون معهم الأصنام، وعند هبوب الأعاصير العنيفة فانّهم كانوا يلقون أصنامهم في البحر ويستغيثون بأصوات عاليه، ياربّ! ياربّ! «1».
والأعجب أنّهم كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه و آله جميع الأدلّة المنطقية الناصعة، لكنّهم لم يؤمنوا، في حين كانوا يقبلون على اللَّه بكلّ وجودهم عندما يتعرضون للبلاء الشديد، وهذا ممّا يشير إلى أنّ طريق الفطرة أسمح وأيسر للكثير من الناس من الطرق الاخرى.
والجديرُ بالذكر أنّ القرآن الكريم يحذّر الذين يستجيبون لنداء الفطرة عند الشدة وينسونه عند الرخاء، ويلفت أنظارهم ببيان جميل بقوله: «أَفَأَمِنْتُم أَنْ يَخسِفَ بِكُمْ جانِبَ البَرِّ أَوْ يُرسِلَ عَلَيكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَاتَجِدُوا لكُمْ وَكيلًا» «2».
هل هناك إلهان أحدهما للبحر والآخر للبرّ؟! أم أنّ اللَّه قادرٌ في البحر ولا قدرة له في البرّ؟! إنّ اللَّه قادر على أن يأمر
الأرض بأن تبتلع كل ما موجود عليها في لحظة واحدة وبواسطة زلزال واحد «3».
__________________________________________________
(1) روح البيان، ج 6، ص 493.
(2) الإسراء، 68.
(3) قبل عدّة سنوات وقع زلزال في شمال أفريقيا وفيه ابتلعت الأرض قرية كاملة ولم يعثروا حتّى على خرائبها!
نفحات القرآن، ج 3، ص: 80
وقد حدث مراراً أن تهب الأعاصير وتحمل الحصى والرمال إلى السماء وتلقيها في نقاط اخرى، وقد تطمر تحتها قافلة بأكملها.
اللَّه الذي يأمر الأمواج في البحار- إذن- قادر على أن يتّخذ من الأعاصير والزلازل في الصحارى جنوداً يهلك بهم الفاسدين.
ويتبع هذه الآية جواب آخر حيث يقول:
«أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعيْدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرى فَيُرسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً». (الإسراء/ 69)
أي أنّكم تظنّون أنّ هذه هي رحلتكم البحرية الأخيرة؟ إنّه خطأ كبير.
وتتضمّن الآية الخامسة حتّى التاسعة من آيات البحث حديثاً حول هذا المضمون:
«وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَليمُ».
وأيضاً: «وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».
وأيضاً: «قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ».
ولو سألت عبدة الأوثان- عن خلق كلّ فرد من المخلوقات وكيفية تدبير امورها فانّهم يقرّون بأنّ اللَّه وحده هو الخالق والمدبّر!!
إنّ هذه الآيات القرآنية وأمثالها «1» من الشواهد الحيّة على التوحيد الفطري، ومن الممكن أن تكون هذه الإجابة المتناسقة نتيجة للاستدلال العقلي أيضاً وذلك عن طريق برهان النظم، ولكن بملاحظة أنّ المشركين العرب اناسٌ امّيون وبعيدون عن العلم والفكر والاستدلال، فإنّ هذا التناسق في الإجابة يدلّ على أنّها كانت تنبع من فطرتهم وهم في ذلك
__________________________________________________
(1)
العنكبوت، 63؛ لقمان، 25؛ الزمر، 38.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 81
سواء وبدون استثناء، وإلّا فإنّ الاستدلالات العقلية مهما كانت واضحة فانّها لا يمكن أن تكون شاملة وعامّة إلى هذه الدرجة وخاصّة بين جماعة بعيدة عن العلم والفكر.
من هنا فإنّا نعتقد أنّ الآيات الخمس أو أمثالها تشكّل أدلّة على التوحيد الفطري.
ولذا يقول صاحب تفسير «روح البيان» في ذيل الآية 9 من سورة الزخرف:
«وفي الآية إشارة إلى أنّ في جبلة الإنسان معرفة للَّه مركوزة» «1».
وفي تفسير «الفخر الرازي» في ذيل الآية 87 من سورة الزخرف عرض لهذا المضمون على صورة سؤال وجواب فيقول: «ظنّ قوم أنّ هذه الآية وأمثالها في القرآن تدلّ على أنّ القوم مضطرون إلى الإعتراف بوجود الإله للعالم، وقوم إبراهيم قالوا: «وَانَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدعُونَنَا إِلَيهِ». (ابراهيم/ 9)
فيقال لهم: لا نسلّم أنّ قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله، والدليل على قولنا، قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا واستَيقَنَتْهَا أَنفُسُهُم ظُلماً وَعُلُواُ». (النمل/ 14)
وجاء في قوله تعالى حيث قال موسى عليه السلام لفرعون: «لَقَد عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ بَصَائِرَ». (الاسراء/ 102)
فالقراءة بفتح التاء في علمت تدلّ على أنّ فرعون كان عارفاً باللَّه، وأمّا قوم إبراهيم عليه السلام حيث قالوا: «وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدعُونَنَا إِلَيهِ» فهو مصروف إلى إثبات القيامة وإثبات التكاليف وإثبات النبوّة» «2».
وفي التعبير ب (لقد علمت ....) إشارة واضحة إلى هذا المعنى.
والطريف أنَّ آيتين من هذه الآيات تذكران في النهاية بعد أخذ الإقرار من الكفّار والمشركين بأنَّ اللَّه هو الخالق للإنسان والأرض والسماوات: «فَأَنِّى يُؤفَكُونَ» «3».
وبناء الجملة للمجهول إشارةٌ إلى أنَّ ذواتهم تسير في طريق الفطرة، غير أنَّ أسباباً خارجية وهي (شياطين الجنّ والإنس)، وأسباباً داخلية وهي (أهواء النفس
والعصبية
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 8، ص 353، ذيل الآية 87 من سورة الزخرف إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.
(2) التفسير الكبير، ج 8، ص 399، ج 27، ص 233.
(3) «تؤفكون» مشتق من «الإفك» ويعني الإرجاع والحرف ولذا يطلق «الإفك» على الكذب أيضاً كما تطلق «المؤتفكات» على الرياح المعارضة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 82
الجاهلية) تحرفهم عن الحقّ رغم تجذّره في أعماق فطرتهم.
في حين جاء التعبير في موضع آخر ب «فَأَنّى تُسحَرُونَ» بصيغة المبني للمجهول، وهي عبارة تطلق على من يتّبع أمراً دون إرادة.
ويوجد احتمال آخر في تفسير هذه الآيات وهو أنَّهم كانوا يقولون بأنَّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله يريد أنْ يحرفنا عن طريق الحقّ أو أنّه ساحر قد سحرنا، فردّ عليهم القرآن: مع أنّكم تُقرّون بأنَّ اللَّه هو خالق السماء والأرض والشمس والقمر والبشر، وهو المدبّر لهذا الكون فكيف يحرفكم أو يسحركم من يدعوكم إلى عبادته ونبذ عبادة غيره؟ أي عقل يحكم بهذا؟!
إنّ الكثير من المفسّرين ومنهم (الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في الميزان والفخر الرازي في التفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني والقرطبي في تفسيره) اختاروا التفسير الأوّل ولو أنّ التفسير الثاني غير بعيد عن مفهوم الآية.
الآية العاشرة والأخيرة في هذا البحث تذكر تعبيراً آخر بصياغة جديدة حول التوحيد الفطري ولا نظير لها في الآيات القرآنية الاخرى، وبسبب المحتوى المعقّد لهذه الآية دارت حولها أحاديث مطوّلة بين العلماء والمفسّرين والمتكلّمين وأرباب الحديث، نورد- بصورة إجمالية- آراءهم المختلفة ثمّ رأينا المختار بعد الفراغ من تفسيرها.
تقول الآية الكريمة: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهم وَأَشْهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِربِّكُمْ» فقالوا جميعاً: «بَلى شَهِدنَا» وتُضيفُ الآية بأنَّ
اللَّه تعالى فعل ذلك لئلّا يقولوا يوم القيامة إنّا غفلنا عن هذا الأمر (وهو التوحيد ومعرفة اللَّه): «أَنْ تَقُولوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» أو تتشبّثوا بحجّة (التقليد) بدلًا عن حجّة (الغفلة) وتقولوا:
«إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَل المُبطِلُونَ».
(الأعراف/ 173)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 83
هذه الآيات تكشف عن حقائق بصورة إجمالية، منها:
1- أنّ اللَّه تعالى أظهر جميع ذرّية آدم إلى يوم القيامة في مرحلة واحدة من الخلق.
2- أنّ اللَّه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وأخذ الإقرار منهم بربوبيته.
3- الهدف من أخذ الإقرار والإعتراف والشهادة لأمرين:
أوّلًا: عدم السماح للمشركين لادّعاء الغفلة والجهل عن حقيقة التوحيد ووحدانية اللَّه يوم القيامة.
وثانياً: منعهم من اتّخاذ التقليد لآبائهم ذريعة لارتكاب المعاصي.
وأهمّ سؤال يُطرح هنا هو: متى وقع هذا (الظهور)؟ وبأيّة صورة تمّ ذلك؟ وما المراد من (عالم الذرّ)؟ وكيف تحقّق هذا الأمر؟ للأجابة عن هذا السؤال هناك ستّة آراء على الأقل، وقد أيّد كلَّ واحد منها جماعة من المفكّرين الإسلاميين:
1- طريق المحدّثين وأهل الظاهر، حيث يقولون: إنّ المراد هو ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ ذريّة آدم بأجمعهم قد خرجوا من ظهره على شكل ذرّات دقيقة وملأت الفضاء وكانت تتمتّع بالعقل والإحساس والقدرة على النطق، فخاطبهم اللَّه عزّوجلّ وسألهم: (ألست بربّكم؟) فقالوا جميعاً: (بَلى ؛ وبذلك أخذ العهد الأوّل على التوحيد، وكان بنو الإنسان بأنفسهم شاهدين على ذلك «1».
2- المراد من عالم الذرّ وتفسير الآية أعلاه هو الذرّات الاولى لوجود الإنسان، أي النطفة التي انتقلت من ظهور الآباء إلى أرحام الامّهات وتبدّلت في المراحل الجنينية إلى صورة إنسان كامل تدريجياً، وقد أعطاها اللَّه عزّوجلّ في ذلك الحال القوى والقابليات المختلفة
كي تدرك حقيقة التوحيد ومنهاج الحقّ، وقد جعل هذه الفطرة التوحيدية ملتحمة بوجوده.
__________________________________________________
(1) يقول العلّامة المجلسي رحمه الله في شرح أصول الكافي (مرآة العقول، ج 7، ص 38) عن هذه الحقيقة: (طريقة المحدّثين والمتورّعين فانّهم يقولون نؤمن بظاهرها ولا نخوض فيها، ولا نطرق فيها التوجيه والتأويل)؛ والفخر الرازي ينسب ذلك إلى المفسّرين والمحدّثين تفسير الكبير، ج 15، ص 46.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 84
يذهب إلى هذا التفسير جمع من المفسّرين كصاحب تفسير (المنار) و (في ظلال القرآن) ونقلوا ذلك عن الكثير من المفسّرين «1».
وبهذا يكون (عالم الذرّ) هو عالم الجنين ويكون السؤال والجواب بلسان الحال لا القال؛ ولهذا الأمر شواهد ونظائر كثيرة وردت في كلمات العرب وغيرهم؛ كما نقل السيّد المرتضى في كلامه عن بعض الحكماء حيث يقول: «سَل الأرض من شقّ أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإنْ لم تُجبك حواراً أجابتك اعتباراً».
هذاالقول يشابه ما ذكره جمع من المفسّرين حول الحمد والتسبيح اللذين يعمّان موجودات العالم حتّى الجمادات أيضاً.
3- المراد من (عالم الذرّ) هو (عالم الأرواح) ويعني ذلك أنّ اللَّه عزّوجلّ خلق في البداية أرواح البشر قبل أجسادهم، وخاطبها وأخذ الإقرار منها على وحدانيته.
وقد استخلص هذا التفسير من بعض الروايات كما سنشير إليه.
والجدير ذكره أنَّ كلمة (ذرّية) في آية البحث مشتقّةٌ من (ذرّ) وهي تعني ذرّات الغبار الدقيقة، أو النمل الدقيق أو أجزاء النطفة أو من (ذرْو) ويعني التفريق أو من (ذرْء) ويعني الخلق.
بناءً على ذلك لا نسلّم بأنّ الأصل في (ذرّية) هو (ذرّ) بمعنى الأجزاء الدقيقة (فتأمّل جيّداً).
4- إنَّ هذا السؤال والجواب وقع بين جمع من البشر وبين اللَّه عزّوجلّ بواسطة الأنبياء وبلسان القال حيث استمع جمع من البشر إلى أدلّة التوحيد- بعد
ولادتهم وإكتمال عقولهم- من الأنبياء واستجابوا لها وقالوا (بلى).
فإنْ قيل إنّ (ذريّة) مشتقّة من (ذرّ) وتعني الاجسام الصغيرة جدّاً فلا تنجسم مع هذا المعنى فيردّ أصحاب هذا القول: بأنَّ أحد المعاني المعروفة ل (ذريّة) هو الأبناء- صغاراً وكباراً- وأنّ إطلاق (ذريّة) على العقلاء والبالغين في القرآن الكريم ليس بالقليل.
__________________________________________________
(1) تفسير المنار، ج 9، ص 387 (تعبيره ينسجم مع القول الخامس)؛ تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 671.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 85
وقد ذكر السيّد المرتضى رحمه الله هذا التفسير- في بعض كلماته- على شكل احتمال في إيضاح الآية المذكورة، كما أنّ أبا الفتوح الرازي قد أورد هذا التفسير كاحتمال في تفسيره إضافةً إلى وجود إشارة إلى ذلك في تفسير الفخر الرازي في ذيل الآية «1».
5- أنّ هذا السؤال والجواب هو مع البشر بأجمعهم بلسان الحال وذلك بعد البلوغ والكمال والعقل، فكلّ إنسان يقرّ بعد اكتمال عقله ومشاهدته لآيات اللَّه في الآفاق والأنفس بوحدانية اللَّه بلسان حاله، وكأنّ اللَّه عزّوجلّ يسألهم بإرائة هذه الآيات: «ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ»؟
فيجيبون بلسان الحال: «بلى ، وأمّا الحديث بلسان القال فإنّ له شواهد ونظائر كثيرة.
وهذا التفسير ينقله الشيخ الطوسي رحمه الله في التبيان عن البلخي والرمّاني «2».
6- وهو التفسير الذي اختاره العلّامة الطباطبائي رحمه الله في «الميزان»: بعد أن ذهب إلى استحالة أن يكون للبشر وجود مستقل سابقاً مقروناً بالحياة والعقل والشعور وقد أخذ اللَّه منهم العهد على وحدانيته ثمّ أعادهم إلى حالتهم السابقة كي يجتازوا مسيرتهم الطبيعية، وبذلك يأتون إلى الدنيا مرّتين فقال:
وأثبت بقوله: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* فَسُبحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَى ءٍ». (يس/ 82- 83)
وقوله: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمحٍ بِالبَصَرِ».
(القمر/ 50)
إنّ هذا الوجود التدريجي للأشياء ومنها الإنسان هو أمر من اللَّه يفيضه على الشي ء ويلقيه إليه بكلمة (كن) إفاضة دفعية والقاء غير تدريجي، فلوجود هذه الأشياء وجهان، وجه إلى الدنيا وحكمه أن يحصل بالخروج من القوّة إلى الفعل تدريجاً، ومن العدم إلى الوجود شيئاً فشيئاً ويظهر ناقصاً ثمّ لا يزال يتكامل حتّى يفنى ويرجع إلى ربّه، ووجه إلى اللَّه سبحانه وهو بحسب هذا الوجه امور تدريجية وكلّ ما لها فهو لها في أوّل وجودها من غير أن تحتمل قوّة تسوقها إلى الفعل ... وبعبارة اخرى: أنّ الموجودات لها نوعان من
__________________________________________________
(1) تفسير روح الجنان، ج 5، ص 326.
(2) تفسير التبيان، ج 5، ص 27 (وفي تفسير المنار ج 9، ص 386 تعبير يقرب من هذا المعنى).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 86
الوجود، الأوّل: الوجود الجمعي عند اللَّه تعالى والذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالملكوت، والآخر: الوجودات المتناثرة التي تظهر تدريجياً بمرور الزمان.
وبهذا تكون حياة الإنسان في الدنيا مسبوقة بحياة إنسانية اخرى لا يكون فيها أحد محجوباً عن اللَّه تعالى، وقد شاهده هناك كلُّ موجود بالشهود الباطني وأقرّ بربوبيته.
ثمّ يضيف رحمه الله: لو دقّقنا في الآيات الآنفة الذكر لرأينا أنّها تشير إلى هذا المعنى.
بعد اتّضاح التفاسير الستّة بصورة إجمالية نشرع بدراستها ونقدها:
القول الأوّل هو أضعف الأقوال لدى الكثير من المحقّقين، ووجّهوا إليه أغلب الإشكالات، حيث أشكل عليه الطبرسي في «مجمع البيان» والسيّد المرتضى- كما نقله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول- كما أنّ الفخر الرازي أورد 12 إشكالًا على هذا القول! غير أنّ بعضها ليس جديراً بالإهتمام وبعضها مكرّر أو قابل للإندماج مع غيره، وبصورة عامّة تتوجّه خمسة إشكالات إلى هذا القول:
أ) إنَّ
هذا التفسير لا ينسجم مع كلمة (بني آدم) أبداً، وكذلك مع ضمائر الجمع في الآية، وكلّها تتحدّث عن بني آدم لا آدم نفسه، كما لا يتطابق مع لفظة «ظهور» جمع «ظهر»، والخلاصة هي أنّ الآية تقول: إنّ «الذرّية» ظهرت من ظهور «بني آدم» لا من ظهر «آدم»، في حين أنّ الروايات تدور حول نفس آدم.
ب) لو صحّ أخذ مثل هذا العهد الصريح في عالم سابق لهذا العالم فكيف يعقل نسيان ذلك من قبل البشر بأجمعهم؟! وهذا النسيان العام دليل على استبعاد هذا التفسير، لأنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ البشر لا ينسون حوادث الدنيا حين تقوم الساعة ولهم حوار بشأنها غالباً، فهل الفاصل الزمني بين عالم الذرّ والدنيا هو أكثر من الفترة بين الدنيا والآخرة؟
ج) لو سلّمنا- فرضاً- بأنّ هذا النسيان العام يمكن تبريره بالنسبة لعالم الذرّ، ولكن النتيجة هي علّية هذا العهد، لأنّه يكون مؤثّراً حينما يتذكّره الناس، أمّا ما ينساه كافّة البشر
نفحات القرآن، ج 3، ص: 87
فانّه يفقد تأثيره التربوي ولا ينفع في إلقاء الحجّة وسدّ باب الاعذار.
د) يستفاد من قوله تعالى: «رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَينِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ». (المؤمنون/ 11)
إنّ للبشر موتتين وحياتين (حيث كانوا موجودات ميتة فأحييت ثمّ يموتون ثمّ يحيون يوم القيامة) في حين يكون لهم- وفق هذا التفسير- أكثر من موتتين وحياتين: (موت وحياة في عالم الذرّ وموتان وحياتان آخران).
ه) يستلزم هذا التفسير (التناسخ)، لأنّا نعلم بأنّ التناسخ ليس إلّاحلول روح واحدة في جسمين أو أكثر، وطبقاً لهذا التفسير فإنّ الروح الاولى تعلّقت أوّلًا بالذرّات الدقيقة جدّاً والتي خرجت من ظهر آدم ثمّ خرجت لتتعلّق بالأجسام الحاضرة، وهذا هو عين التناسخ.
وبطلان التناسخ هو من المسلّمات في الدين، ولذا فإنّ الشيخ
المفيد رحمه الله في كتابه «جواب المسائل السروية» عندما يذكر التفسير أعلاه مقروناً ببعض الروايات يضيف: «هذه أخبار القائلين بالتناسخ وفيه جمعوا بين الحقّ والباطل» «1».
وقد ورد هذا الكلام بنفسه في كلام شيخ المفسّرين الطبرسي رحمه الله «2».
وسنلاحظ بإذن اللَّه لدى مطالعة أخبار عالم الذرّ أنّ الأخبار الدالّة على هذا التفسير معارضة بأخبار اخرى.
وأمّا القول الثاني الذي يتحدّث عن خلق فطرة التوحيد والقابلية الخاصّة لمعرفة اللَّه في عالم الرحم فإنّه أقلّ الأقوال إشكالًا، والإشكال الوحيد الذي أورده عليه هو أنّ ظاهر الآية المبحوث عنها هو أنّ السؤال والجواب جاء بلسان القال لا الحال، وهو ضرب من التشبيه والمجاز، مضافاً إلى أنّ جملة (أخذ) دليل على أنّ هذا الأمر قد أخذ في الماضي، في حين
__________________________________________________
(1) مرآة العقول، ج 7، ص 41.
(2) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 497.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 88
أنّ فطرة التوحيد للأجنّة هي أمر مستمرّ ويتحقّق في كلّ زمان، والإشكالان يمكن الإجابة عليهما وذلك لعدم مانعية حمل هذا الكلام على لسان الحال مع القرينة، وقد كثر ذلك في اللغة العربية نثراً وشعراً و ...، والإشكالات المهمّة التي ترد على التفسير الأوّل قرينة واضحة على هذا التفسير، والفعل الماضي قد يستعمل في الاستمرار أيضاً، وهذا- طبعاً- يحتاج إلى قرينة أيضاً، وهذه القرينة موجودة في موضوع البحث «1».
أمّا التفسير الثالث القائل بأنّ المراد هو: سؤال الأرواح فانّه لا ينسجم مع آية البحث أبداً، لأنّ الآية تتحدّث عن أخذ الذرّية من ظهور بني آدم ولا يرتبط هذا بقضيّة الأرواح.
وأمّا التفسير الرابع القائل بأنّ السؤال والجواب كان بهذا اللسان الطبيعي ويرتبط بمجموعة من البشر قد سئلوا بعد إبلاغهم بواسطة الأنبياء عن مسألة التوحيد
وأجابوا بالإيجاب عليه، فإنّ عليه إشكالات رئيسية منها:
إنّ الآية تتحدّث عن جميع البشر لا مجموعة صغيرة منهم آمنوا بالأنبياء أوّلًا ثمّ كفروا، مضافاً إلى أنّ ظاهر الآية هو كون السؤال من قِبَلِ اللَّه لا من قبل الأنبياء.
ولا يصحّ ما يظنّه البعض من أنّ جملة: «إنّما أشرَك آباؤُنا من قَبْل» دليل على أنّ الآية تقصد المجموعة التي أشرك آباؤها، لأنّ الآية تذكر عذرين غير موجّهين للكفّار، الأوّل هو الغفلة والثاني التقليد للآباء المشركين.
ويمكن أن يكون كلّ عذر لمجموعة خاصّة وأنّهما معطوفان بكلمة (أو).
وأمّا التفسير الخامس فإنّه يشابه التفسير الثاني من جهات مع وجود فارق وهو: أنّ التفسير الثاني يتحدّث عن الفطرة القلبية، بينما يتحدّث التفسير الخامس عن فطرة العقل وكما أسلفنا فإنّ هذا التفسير قد مال إليه كثير من المفسّرين الأعلام.
وأمّا التفسير السادس الذي ورد في «تفسير الميزان» فإنّه يواجه إشكالَيْن كبيرين:
الأوّل: هو إثبات عالمين (عالم جمعي وعالم تفصيلي) ولا دليل واضح لهما حسب ما ورد من البيان.
__________________________________________________
(1) شوهدت هذه العبارة كثيراً في الآيات القرآنية: فاطر، 44؛ الشورى، 51؛ الفتح، 11؛ الفتح، 19.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 89
والثاني: أنّ تطبيق الآية على هذا العالم (بافتراض ثبوته) يبدو بعيداً جدّاً ولا يسلم أصل القضيّة وفرعها من الإيراد.
نصل ممّا ذُكر إلى هذه النتيجة وهي: أنّ التفسير الثاني والخامس- بعد الدراسة الدقيقة- هما أقلّ التفاسير إشكالًا، وامّا الإشكال الوارد في أنّه يخالف الظاهر في بعض الجهات فإنّه يمكن التغاضي عنه مع توفّر القرينة والنظائر الكثيرة لذلك في اللغة العربية وغيرها، ولذا فإنّ الكثير من المفسّرين المشهورين وعلماء العقائد والكلام قد اختاروهما، كما تتضمّن الروايات إشارات واضحة إلى هذا المضمون وسيأتي ذلك في البحث المقبل بإذن اللَّه.
وباختصار: إنّ
أغلب المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا السؤال والجواب الإلهي قد تمّ مع جميع البشر وبلسان الحال لا القال، أو عن طريق الإستعداد الفطري المودع في الجنين أو عن طريق الإستعداد العقلي الذي أوجده فيهم بعد البلوغ والكمال العقلي، أحدهما يتحدّث عن الفطرة القلبية (دون الحاجة إلى استدلال) والثاني يتحدّث عن الفطرة العقلية التي تعتبر معرفة اللَّه من البديهيات العقلية، حيث إنّ دلائله من الوضوح ما يجعل كافّة البشر يدركون ذلك، صحيح أنّ مجموعة من البشر ينكرون ذلك بلسان القال ويؤيّدون الماديّة، ولكنّا حينما نحلّل كلامهم نراهم يجعلون للمادّة والطبيعة نوعاً من العقل والإحساس، وبعبارة اخرى أنّهم أطلقوا كلمة (الطبيعة) على (اللَّه)، ونعتقد أنّ الإشارة إلى الفطرة القلبية هي الأنسب (فتأمّل جيّداً).
إنَّ المصادر الإسلامية (السنيّة والشيعية) تتضمّن روايات جمّة عن (عالم الذرّ) تبدو
نفحات القرآن، ج 3، ص: 90
وكأنّها روايات متواترة، فمثلًا يتضمّن تفسير نور الثقلين 30 رواية، وتفسير البرهان 37 رواية ولعلّها تتجاوز الأربعين في مجموعها (مع حذف المكرّرات)، كما يتضمّن تفسير (الدرّ المنثور) روايات عديدة، ممّا يشير إلى أنّ مضامين الروايات لا تنحصر في مذهب إسلامي خاصّ.
غير أنّ كثيراً منها منقولة عن راوٍ واحد ولذا يشملها حكم الخبر الواحد (يلاحظ أنّ كثيراً منها مروي عن زرارة، وعدداً منها عن أبي بصير، وبعضاً منها عن جابر، كما تلاحظ روايات عن عبداللَّه بن سنان وصالح بن سهل) وبهذا فإنّ العدد الحقيقي للروايات ينخفض بشكل ملحوظ.
هذا وإنّ مضامين هذه الروايات متباينة تماماً فبعضها يتّفق مع التفسير الثاني القائل بأنّ هذا العهد عهد فطري ويرجع إلى إيداع المعرفة الفطرية في الإنسان نظير الرواية التي ينقلها عبداللَّه بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال: سألته عن قول اللَّه عزّوجلّ
«فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها» ما تلك الفطرة؟، قال: هي الإسلام، فطرهم اللَّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» وفيه المؤمن والكافر» «1».
وكما تلاحظ فإنّ الحديث يتضمّن بياناً عن الإرتباط الوثيق بين آية (الفطرة) وآية (عالم الذرّ)، وقد روى زرارة هذا المعنى بعبارة اخرى عن الإمام الصادق عليه السلام، فإنّه عندما سأل الإمام عليه السلام عن تفسير الآية «وإذ أخذ ربّك ...» أجابه عليه السلام: «ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف، ويذكرونه يوماً، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ومن رازقه؟» «2».
في حين أنّ بعضاً آخر من الروايات يتّفق مع التفسير الأوّل حيث تذكر أنّ ذرّية آدم خرجوا من ظهره على صورة ذرّات، وقد أخذ اللَّه هذا العهد منهم بلسان القال، كالروايات التي وردت في تفسير البرهان المرقّمة ب 3، 4، 8، 11، 29 (وقد روى زرارة هذه الروايات عن الإمام الباقر عليه السلام وهي- في الحقيقة- رواية واحدة).
__________________________________________________
(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 47، ح 7؛ و تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 95، ح 345.
(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 48، ح 15.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 91
وقد ورد هذا المعنى في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عبّاس بطرق متعدّدة ولكن يطول ذكرها وهي ذات مضمون واحد في الحقيقة وتتلخّص في حديث واحد عن ابن عبّاس وليس عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وفي كتب اخرى نقل هذا المعنى بطرق اخرى.
والإشكال المهمّ الذي يرد على هذه الأحاديث هو أنّها مخالفة لظاهر وصريح كتاب اللَّه لأنّها تقول بأجمعها: أنّ ذرّية آدم خرجت من ظهر آدم على صورة ذرّات، في حين يقول القرآن الكريم بأنّ الذرّات هذه
خرجت من ظهور بني آدم: «مِنْ بَنى آدمَ مِن ظهورِهِم ذُريَّتَهم».
وإضافة إلى ذلك فإنّ ثمّة إشكالات عديدة اخرى ترد على مضامين هذه الأحاديث تمّت الإشارة إليها وتجعلها في المجموع في عداد الأحاديث الضعيفة.
والمجموعة الثالثة من الأحاديث مبهمة وتلائم التفاسير المختلفة، مثل الحديث الذي يرويه أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سأله: كيف أجابوا وهم ذرّ؟! فقال عليه السلام: «جعل اللَّه فيهم ما إذا سألهم أجابوه، يعني في الميثاق» «1».
وهناك مجموعة رابعة من الأحاديث تقول بأنّ هذا السؤال والجواب قد جريا مع أرواح البشر، وهذا يوافق التفسير الثالث فقط، كرواية المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «قال اللَّه عزّوجلّ لجمع أرواح (بني آدم) ألست بربّكم؟ قالوا: بلى «2».
كما يستفاد من مجموعة روائية خامسة أنّ اللَّه سبحانه أوقف الأرواح البشرية في ذلك اليوم على نفس الهيئة التي تخلق عليها وأخذ منها العهد «3».
بناءً على ما ذكر وبملاحظة التعارض بين هذه الروايات وضعف السند في كثير منها، لا يمكن الإعتماد عليها كمستمسك معتبر أبداً، والأفضل كما يقول العلماء العظام هو أن نترك
__________________________________________________
(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 49، ح 22.
(2) المصدر السابق، ح 20.
(3) تفسير درّ المنثور، ج 3، ص 142.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 92
في مثل هذه الموارد الحكم بشأنها وندع العلم بها إلى أهلها «1».
نبقى والآية أعلاه وما يستفاد منها بمعونة القرائن المختلفة، وكما أشرنا فإنّ التفسير الثاني- كما يبدو- هو الأنسب من بين التفاسير الستّة المذكورة للآية، وهو التفسير الذي يعتبر عالم الذرّ منسجماً مع فطرة المعرفة الإلهيّة والإسلام، وعليه فإنّ ذرّات النطفة منذ خروجها من ظهور الآباء واستقرارها في أرحام الامّهات تكون قد استقرّ
فيها نور المعرفة والتوحيد والقانون الإلهي على صورة قابلية ذاتية.
الحصيلة من كلمات العلماء في بحث فطرية المعرفة الإلهيّة هي أنّهم سلكوا طريقين، فبعض اعتبر الفطرة هنا بمعنى الاستدلال العقلي الواضح، وهو أنّ كلّ إنسان بعد اكتمال عقله وملاحظته لنظام عالم الوجود وبعض الأسرار في الخلق ينتقل إلى هذه الحقيقة فوراً وهي استحالة نشوء هذا النظام البديع ذي الأسرار العجيبة من مبدأ فاقد للعقل والإحساس، وعليه فإنّ الفطرة تعني: (العقل الفطري) الذي يكفيه استدلال واضح للوصول إلى الحقيقة ولا يحتاج إلى استاذ أو معلّم، كما يحكم الإنسان بأنّ (الكلّ أكبر من الجزء) حيث أدركه باستدلال عقلي واضح وهكذا عندما يقول بأنّ (المساويين لشي ء متساويان).
من هنا نلاحظ أنّ علماء المنطق يقسّمون بديهيات المنطق إلى ستّة أقسام:
الأوّليات، المشاهدات، التجريبيات، المتواترات، الحدسيات، الفطريات، وقالوا في تعريف (الفطريات): بأنّها القضايا التي لا يصدق بها العقل بمجرد تصوّرها بل يحتاج إلى حدّ أوسط وهو حاضر لدى الذهن دائماً، وللفطرة معنى آخر وهو أصحّ وأفضل في البحوث
__________________________________________________
(1) للمزيد من المعلومات عن الروايات المرتبطة بعالم الذرّ يمكن مراجعة الكتب الخمسة الآتية: بحار الأنوار، ج 3، ص 277؛ مرآة العقول، ج 7، ص 36؛ تفسير البرهان، ج 2، ص 46؛ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 93؛ وتفسير درّ المنثور، ج 3، ص 141، وما بعدها.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 93
المعنية وهو: إدراك الحقائق من دون الحاجة إلى أي استدلال (معقّد أو بسيط) ويتفهّمها بوضوح ويتقبّلها، فهو حينما يشاهد- مثلًا- باقة من الورد الجميل ذات عطر زكيّ يقرّ بجمالها، دونما حاجة إلى إقامة الدليل أبداً، ويقول بأنّها جميلة حقّاً ولا تحتاج إلى دليل.
والفهم الفطري في مجال المعرفة الإلهيّة من هذا القبيل،
فالإنسان حينما يتدبّر من أعماق روحه يبصر نور الحقّ ويسمع نداءه بقلبه، يدعوه إلى مبدأ العلم والقدرة التي لا مثيل لها في عالم الوجود، مبدأ الكمال المطلق ومطلق الكمال، وهو في الفهم الوجداني- كما في جمال الورد- لا يشعر بحاجة إلى إقامة الدليل.
ربّما يقال بأنّ هذه كلّها ادّعاءات ولا سبيل لإثبات مثل هذه الفطرة في المعرفة الإلهيّة، فمن الممكن أن أدّعي بأنّي أشعر بهذا الإحساس في قلبي أي من أعماق روحي، ولكن كيف أقنع شخصاً يرفض هذا الكلام؟ لدينا شواهد كثيرة بإمكانها إثبات فطرية المعرفة الإلهيّة بشكل واضح جدّاً، بنحو يفحم المنكرين، ويمكن تلخيصها في أقسام خمسة:
إنّ الحقائق التاريخية التي تمّت دراستها من قِبَل أقدم المؤرّخين في العالم تدلّ على عدم وجود دين لدى الأقوام السابقة، بل كان كلّ قوم يؤمنون بمبدأ العلم والقدرة في عالم الوجود ويعبدونه، ولو سلّمنا بوجود حالات نادرة في هذا الأمر، فإنّ هذه القضية لا تضرّ بالأصل العام الذي يحكم بأنّ المجتمعات البشرية كلّها كانت دائماً على طريق عبادة اللَّه (كل قاعدة كليّة لها استثناءات نادرة).
المؤرّخ الغربي الشهير (ويل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) يُقرّ بهذه الحقيقة بعد الإشارة إلى بعض الموارد في الإلحاد الديني ويقول: «إلى جانب هذه القضايا التي ذكرناها فإنّ الإلحاط الديني من الحالات النادرة، وهذا الإعتقاد القديم بأنّ التديّن حالة بشرية عامّة يتطابق مع الحقيقة ...».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 94
«تعتبر هذه القضيّة من القضايا التاريخية والنفسية الأساسية لدى الفيلسوف، فهو لا يقول بأنّ الأديان مملوءة باللغو والباطل بل يلتفت إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الدين كان مع التاريخ منذ أقدم العصور» «1».
ويقول في تعبير آخر بهذا الشأن: «أين تكمن التقوى التي لا تفارق قلب الإنسان أبداً؟» «2».
كما يقول في كتابه (دروس التاريخ) وبتعبير ساخط ومتألّم: «للدين مائة روح، كلّما تقتله فإنّه يسترجع الحياة مرّة اخرى!» «3».
ولو كان الإيمان باللَّه والدين ناشئاً عن تقليد أو تلقين أو دعاية من قبل الآخرين لما كان عاماً وشاملًا بهذا
الحجم ولما استمرّ طيلة التاريخ، وهذا أفضل دليل على أنّه أمر فطري.
إنَّ الآثار المتبقّية من عصور ما قبل التاريخ (أي ما قبل اختراع الخطّ وكتابة أحوال الإنسان) تدلّ على أنّ البشر ما قبل التاريخ كانوا يعتقدون بالدين ويؤمنون باللَّه والمعاد والحياة بعد الموت، بدليل أنّهم كانوا يدفنون الأشياء التي يحبّونها معهم كي يستفيدوا منها بعد الموت! كما أنّ تحنيط أجساد الأموات حفظاً لها من الإندثار، وبناء المقابر نظير (أهرام مصر) لتبقى أزماناً متمادية دليل على إيمان الأسلاف بالمبدأ والمعاد.
صحيح أنّ هذه الأعمال تدلّ على اقتران إيمانهم الديني بخرافات كثيرة إلّاأنّها دليل على أنّ الإيمان الديني في مراحل ما قبل التاريخ لا يمكن إنكاره.
إنّ الأبعاد الروحية للإنسان وميوله الأساسية هي أيضاً دليل واضح على فطرية العقائد
__________________________________________________
(1) قصة الحضارة، ويل ديورانت، ج 1، ص 87.
(2) المصدر السابق، ص 89.
(3) الفطرة للشهيد المطهّري، ص 153.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 95
الدينية، وهي أربعة ميولات سامية وأصيلة عبّر عنها بعض علماء النفس بأنّها الأبعاد الأربعة لروح الإنسان وتشمل: (1- حبّ العلم، 2- حبّ الجمال، 3- حبّ الخير، 4- حبّ الدين) وتمثّل شاهداً حيّاً على هذا الأمر «1».
وقد اعتبرها بعض العلماء خمسة أبعاد هي: (1- مقولة البحث عن الحقيقة، 2- مقولة الخير الأخلاقية، 3- مقولة الجمال، 4- مقولة الإبداع، 5- مقولة العشق والعبادة) «2».
ويبدو أنّ مقولة الإبداع لا تنفكّ عن مقولة البحث عن الحقيقة.
على أيّة حال فإنّ حبّ العلم يوجِد في الإنسان ميلًا شديداً نحو العلم وفهم أسرار عالم الوجود، وهذا الإحساس يشمل الامور المؤثّرة وغيرها في حياته.
ونريد أن نعلم كيف كانت الدنيا قبل مليار عام وكيف ستكون بعد مليار عام؟ دون أن تكون لهذه الامور في فهمها على الحياة الفردية والاجتماعية تأثيرات عملية، فهذا الحسّ هو السبب
في ظهور العلوم والمعارف.
إنَّ الجمال الذي يشعر به كلّ إنسان في أعماقه هو الذي يدفعه إلى الإبداع وهو المصدر الأساس لكلّ الفنون.
وإنَّ حبّ الخير هو السبب في ظهور الأخلاق والإلتزام في الإنسان تجاه المبادي ء من قبيل العدل، الحرية، الصدق، وأمثالها، ومن الممكن أن لا يلتزم كثير بهذه المبادي ء عمليّاً غير أنّه لا ريب في ارتياح قلوبهم لها.
البعد الرابع لروح الإنسان والمعبّر عنه أحياناً بالميل نحو الكمال المطلق أو البعد المقدّس والإلهي هو الذي يدفع الإنسان نحو الدين، وهو يؤمن بوجود ذلك المُبدي ء العظيم بدون حاجة إلى دليل خاصّ، ويمكن أن يقترن هذا الإيمان الديني بألوان من الخرافات وينتهي بعبارة الأصنام والشمس والقمر، غير أنّ بحثنا يدور حول الأساس فيه.
__________________________________________________
(1) راجع مقالة (كوونتايم) في كتاب (الحسّ الديني أو البعد الرابع لروح الإنسان).
(2) الفطرة، للشهيد المطهّري، ص 64.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 96
نحن نعلم بأنّ دعايات شديدة لا مثيل لها من حيث السعة شُنّت ضدّ الدين في القرون الأخيرة وخاصّة في الغرب بالاستفادة من الأساليب والوسائل المختلفة.
وكانت بداياتها في مرحلة النهضة العلمية في اوربا (رنسانس) وفيها تحرّرت المحافل العلمية والسياسية من ضغوط الكنيسة وطغى التيار المعارض للدين (كان الدين المسيحي هو السائد وقتئذٍ في اوربا) إلى درجة تُطرح فيها الأفكار الملحدة في كلّ مكان واستغلَّوا مكانة الفلاسفة وعلماء العلوم الطبيعية بشكل خاصّ لرفض الاسس الدينية كلّها حتّى فقدت الكنيسة مكانتها المرموقة، وانعزل رجال الدين في اوربا وأصبح الإيمان بوجود اللَّه والمعجزات والمعاد والكتب السماوية في عداد الخرافات.
وغدا من المسلّمات لدى كثير منهم أنَّ البشرية مرّت بمراحل أربع هي: (مرحلة الأساطير، مرحلة الدين، مرحلة الفلسفة، ومرحلة العلم) وحسب هذا التقسيم يكون الدين قد انقرض في
مرحلة سابقة!
والعجيب أنّ كتب علم الإجتماع الحديثة التي تمثّل الصورة المتكاملة لعلم الإجتماع السائد آنذاك تفترض هذه القضيّة من المسلّمات، وهي أنّ الدين يمثل عاملًا طبيعيّاً يتردّد بين الجهل والخوف والمتطلّبات الاجتماعية والامور الاقتصادية، فهناك اختلاف بصددها!
صحيح أنّ السلطة الدينية الحاكمة (أي الكنيسة) في القرون الوسطى هي التي يجب أن تدفع الثمن بسبب استبدادها وظلمها وتعاملها السيّ مع الناس بصورة عامّة وعلماء الطبيعة بصورة خاصّة، إضافةً إلى اهتمام الكنيسة بالشكليات والمظاهر وبالامور التي لا تستحقّ الإهتمام ونسيان المحرومين من طبقات المجتمع، لكن العيب في هذا الأمر هو أنّ الكلام لم يكن عن البابا والكنيسة فحسب بل عن المذاهب في العالم كلّها.
وقد دخل (الشيوعيون) كغيرهم الميدان ليقضوا على الدين بكلّ ما يمتلكون من قوّة، وسخّروا جميع الأجهزة الإعلامية وأفكار فلاسفتهم من أجل ذلك وسَعَوْا سعيهم لإظهار الدين وكأنّه افيون الشعوب!
نفحات القرآن، ج 3، ص: 97
بيد أنّا نشهد أنّ هذه التيارات العاتية ضدّ الدين لم توفّق لاجتثاث الجذور الدينية المغروسة في القلوب والقضاء على النشاط الديني، وها نحن اليوم نرى بامّ أعيننا انتشار الوعي الديني بشكل واسع من جديد حتّى في البلدان الشيوعية، والأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام تحكي عن الرعب المتزايد الذي يعيشه الحكّام في هذه المناطق إزاء الميول الدينية وخاصّة الإسلامية، كما نلاحظ في الأقطار الشيوعية- التي تبذل محاولات يائسة وفاشلة للقضاء على الدين- ظهور حركات تطالب بانتشار الدين.
هذه الحقائق تدلّ بصورة واضحة على تجذّر الدين في أعماق (الفطرة) البشرية، وبذلك استطاع أن يواجه التيارات الإعلامية المعارضة العاتية ولولاها لانقرض تماماً.
إنَّ أغلب الناس جرّبوا هذه الحقيقة في حياتهم وهي: أنّ الإنسان حينما يواجه مشكلات قاتلة، وشدائد الحياة الصعبة، ويُبتلى بدوّامات البلاء وحينما توصد بوجهه
الأبواب ويبلغ السيل الزبى، ففي هذه اللحظات المضطربة يورق أمل في أعماق روحه، فيتجه إلى اللَّه سبحانه القادر على حلّ المشكلات كلّها فيتعلّق به ويستمدّ العون منه.
ولا يستثنى من ذلك حتّى الأشخاص الذين ليس لديهم ميول دينية حيث تصدر منهم ردود فعل روحية عند تعرّضهم للأمراض الخطرة والهزائم الماحقة وهذه شواهد على الحقيقة التي تتحدّث عنها الآيات القرآنية السابقة حول فطرية المعرفة الإلهيّة.
نعم، في زوايا قلب الإنسان وأعماق روحه نداء لطيف ملي ء بالرحمة وقوي وبيّن يدعوه إلى الحقيقة الكبرى، وهي (اللَّه) القادر والمتعالي والعالم، وبحثنا يدور حول الإيمان بتلك الحقيقة لا عن تسميتها.
ليست قضيّة فطرة (معرفة اللَّه) قضيّة مطروحة في القرآن الكريم والروايات الإسلامية
نفحات القرآن، ج 3، ص: 98
فحسب، بل إنّ كلمات العلماء والفلاسفة من غير المسلمين والشعراء عامرة بها:
فمثلًا، يقول اينشتاين في حديث طويل: «إنّ العقيدة والدين موجودان في الجميع دون استثناء ... إنّي اسمّيه (الشعور الديني للخلق) .. في هذا الدين يشعر الإنسان الصغير بآمال وأهداف البشرية العظيمة والجلال الكامن خلف هذه القضايا والظواهر، إنّه يرى وجوده كسجن، وكأنّه يريد التحرّر من سجن الجسم ليدرك الوجود كلّه كحقيقة واحدة» «1».
ويقول العالم الشهير باسكال:
«للقلب أدلّة لا يدركها العقل» «2».
ويقول ويليم جيمز:
«إنّي أقرّ تماماً بأنّ القلب هو المصدر للحياة الدينية، كما اقرّ بأنّ القواعد الفلسفية تشابه موضوعاً مترجماً كُتب نصّه بلغة اخرى» «3».
ويقول ماكس مولر:
«لقد خضع أسلافنا للَّه في عصور لم يكونوا قادرين فيها حتّى على إطلاق اسم على اللَّه» «4».
وهو القائل في موضع آخر: «خلافاً لما تقوله النظرية الشهيرة بأنّ الدين ظهر أوّلًا بعبادة الطبيعة والأشياء والأصنام ثمّ وصل إلى عبادة اللَّه الواحد، فلقد أثبت علم الآثار بأنّ عبادة اللَّه الواحد
كانت سائدة منذ أقدم الأيّام» «5».
ويقول المؤرّخ الشهير (بلوتارك):
«لو لاحظتم العالم فإنّكم ستجدون أماكن كثيرة لا عمران فيها ولا علم وصناعة وسياسة ودولة، ولكنّكم لا تجدون موضعاً ليس فيه اللَّه» «6».
__________________________________________________
(1) العالم الذي أراه، ص 53 (بتلخيص).
(2) مسيرة الحكمة في اوربا، ج 2، ص 14.
(3) المصدر السابق، ص 321.
(4) مقدّمة الدعاء، ص 31.
(5) الفطرة للشهيد المطهّري، ص 148.
(6) مقدّمة الدعاء، ص 31.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 99
ويقول صموئيل كينغ في كتاب (علم الإجتماع): «كان لجميع المجتمعات البشرية لون من الدين وإن قام علماء الأنساب والرحالة والمبشّرون (المسيحيون) الأوائل بذكر أسماء مجموعات لا تدين بدين أو مذهب، ولكن أقوالهم- كما عُلم فيما بعد- لم يكن لها أساس من الصحّة فأحكامهم ناشئة فقط من ظنّهم بأنّ أديان اولئك يجب أن تشابه ديننا» «1».
ونختم هذا البحث بكلام ل (ويل ديورانت) المؤرّخ المعاصر الشهير حيث قال: «إن لم نتصوّر للأديان جذوراً في عصر ما قبل التاريخ، فإنّنا لا يمكن أن نتعرّف على حقيقتها في التاريخ» «2».
إنّ قضيّة فطرية التوحيد في العبادة بشكل خاصّ، أو الدين والمذهب بصورة عامّة، أمر فطري ذو انعكاس كبير في الروايات الإسلامية بالرغم من اختلاف التعبير فيها، ففي بعضها عرض لقضيّة التوحيد وتوحيد العبادة كأمر فطري كما في الحديث الآتي، حيث سأل أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام- وهو علاء بن فضيل- عن الآية الكريمة: «فطرتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»، فأجاب عليه السلام: «التوحيد» «3».
كما ورد هذا المضمون في أحاديث عديدة اخرى «4».
وفي القسم الآخر من هذه الأحاديث اعتبرت (معرفة اللَّه) أمراً فطرياً، كالحديث الذي يرويه زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام حينما سأله عن تفسير
الآية: « «حُنَفاءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ»:
أهي الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه؟ قال عليه السلام: فطرهم اللَّه على المعرفة».
__________________________________________________
(1) علم الإجتماع لصموئيل كينغ، ص 191.
(2) قصّة الحضارة، ج 1، ص 88.
(3) بحار الأنوار، ج 3، ص 277، ح 4.
(4) المصدر السابق، ح 5، 6، 8، 10.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 100
وقال: قال رسول اللَّه عليه السلام: كلّ مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأنّ اللَّه عزّوجلّ خالقه» «1».
وقد ورد هذا المضمون أيضاً في أحاديث اخرى «2».
وبعض الروايات تعرّف (الاصول الإسلامية) كلّها أمراً فطرياً، كما نقرأ في الحديث النبوي الشريف: «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه» «3».
وقد نقلت النصوص الشيعية والسنّية هذا الحديث بكثرة وهو من الأحاديث الشهيرة جدّاً.
ويلاحظ نظير هذا المضمون في روايات اخرى وفيها تأكيد على قضيّة التوحيد ونبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وولاية علي عليه السلام «4».
وختاماً فإنّ بعض الروايات تؤكّد على قضيّة الولاية، كما نقرأ الحديث الذي يرويه أبو بصير عن الإمام الباقر عليه السلام في آية البحث حيث عبّر عن المقصود في الآية بأنّه: «الولاية» «5».
وواضح أنّ هذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها أبداً، فالاصول الدينية- في الحقيقة- توجد في الفطرة البشرية بصورة مركّزة، غير أنّ بعض الروايات تشير إليها كلّها وبعضها الآخر يشير إلى قسم منها.
وفي الحقيقة فإنّ فطرة التوحيد لا يمكن أن تنفصل عن اصول العقيدة لأنّ اللَّه الحكيم لم يخلق العباد عبثاً، ومن البديهي أنّه وضع تكاليف ومناهج لتكامل العباد يجب إبلاغها عن طريق الرسل، ويحفظها أوصياؤهم وتنفذ عن طريق الولاية وتشكيل الحكومة الإسلامية وتظهر نتائجها في عالم الآخرة.
__________________________________________________
(1) بحار
الانوار، ج 3، ص 279، ح 11.
(2) المصدر السابق، ح 12، 13.
(3) غوالي اللآلي، طبقاً لبحار الأنوار، ج 3، ص 281، ح 22.
(4) بحار الأنوار، ج 2، ص 277، 278، 280، ح 3، 9، 18.
(5) المصدر السابق، ح 2.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 101
وباختصار فإنّ في متناول أيدينا روايات كثيرة حول فطرة التوحيد والإسلام وللمزيد يمكن مراجعة مصادر اخرى مثل:
تفسير البرهان الجزء 2، صفحة 46 وما بعدها.
مرآة العقول الجزء 7، صفحة 54 وما بعدها.
تفسير نور الثقلين الجزء 4، صفحة 181 وما بعدها.
تفسير الدرّ المنثور الجزء 3، صفحة 142 وما بعدها.
بحار الأنوار الجزء 3، صفحة 276 وما بعدها.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 103
نفحات القرآن، ج 3، ص: 105
توصّلنا فيما سبق من أبحاث إلى إثبات وجود اللَّه سبحانه بطرق مختلفة (خمسة أدلّة عقلية رئيسة) إضافةً إلى طريق الفطرة الذاتية.
الآن وبعد الإيمان بأصل وجوده سبحانه فإنّ البحث يدور حول معرفته، والموضوع المهمّ فيه هو بحث التوحيد والوحدانية، لأنّه من جهة يعتبر أصلًا لبقية الصفات، ومن جهة اخرى يشكّل الأساس في كلّ الأديان السماوية خصوصاً القرآن حتّى أنّ أغلب ما تتضمّنه هذه الكتب السماوية بصدد وجود اللَّه تدور حول محور هذا البحث، إلى الحدّ الذي ظنّ فيه البعض بأنّ القرآن لا يتحدّث عن (أصل وجود اللَّه) بل إنّه يتحدّث عن توحيده والاستدلال على ذلك، وهذا الكلام مبالغ فيه.
ومن جهة ثالثة تُستمدّ جميع العقائد الإسلامية والأحكام والقوانين والامور الاجتماعية والأخلاقية والعبادية من هذا الأصل، لذلك أولى القرآن الكريم اهتمامه الخاصّ لقضيّة (التوحيد والشرك) وعكس القرآن برمّته النظرية الإسلامية بهذا الصدد، بل يمكن القول بعدم وجود موضوع حَظِيَ بهذه الدرجة من الإهتمام في القرآن الكريم مثلما حظي بها ذلك الموضوع.
كما أنّ قضيّة التوحيد ومحاربة الشرك لم تكن محوراً أساسياً في حركة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فحسب، بل وفي حركة سائر الأنبياء عليهم السلام.
بهذا التمهيد نطّلع أوّلًا على عِظم معصية الشرك في القرآن المجيد، ثمّ نذكر الأدلّة القرآنية المختلفة على إثبات حقيقة التوحيد وبطلان الشرك.
في البدية نتأمل خاشعين في الآيات الآتية:
نفحات القرآن، ج 3، ص: 106
1- «إِنَّ اللَّهَ لَايَغفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثْماً عَظيماً». (النساء/ 48)
2- «إِنَّ اللَّهَ لَايَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيداً». (النساء/ 116)
3- «وَلَقَد اوحِىَ
إلَيْكَ وَإِلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْركْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ». (الزمر/ 65)
4- «وَإذْ قَالَ لُقْمانُ لِابنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَىَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
(لقمان/ 13)
5- «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكانٍ سَحِيقٍ». (الحجّ/ 31)
6- «قُلْ تَعالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئاً». (الأنعام/ 151)
7- «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظّالِمينَ مِنْ أَنْصارٍ». (المائدة/ 72)
8- «يَاأَيُّها الّذِينَ آمَنُوا إِنَّما الْمُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...». (التوبة/ 28)
9- «وَأَذانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُه ...». (التوبة/ 3)
10- «الزَّانِى لَايَنْكِحُ إِلَّا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكةً وَالزَّانِيَةُ لَايَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ..». (النور/ 3)
11- «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وإِلَيهِ مَآبِ».
(الرعد/ 36)
12- «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* أَن لَّاتَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنّى
نفحات القرآن، ج 3، ص: 107
أَخَافُ عَلَيكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» «1». (هود/ 25- 26)
13- «قُلْ إنَّما يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسلِمُونَ». (الأنبياء/ 108)
14- «قَدْ كانَتْ لَكُمْ اسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَومِهِمْ إِنَّا بُرَءؤُا مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ..». (الممتحنة/ 4)
«شِرك»: ذُكر لها في مقاييس اللغة معنيان:
الأوّل: هو التعاون والمقارنة والشركة ويقابله الإنفراد.
والثاني: هو الشي ء المستقيم والممتدّ.
والمعروف من مشتقّات هذه المفردة هو المعنى الأوّل، وللمعنى الثاني مصطلحات خاصّة منها (شِراك) للحذاء، و (شَرَك) الطرق الضيّقة المستقيمة التي
تتفرّع من الطريق العام أو بمعنى القسم الأوسط من الطريق المستقيم، كما يعني الفخّ الذي ينصبه الصيّاد.
ويُصرّ بعض اللغويين على إرجاع المعنيين إلى المعنى الأوّل، إلّاأنّه لا يخلو من تكلّف، كما لا دليل يدعو للإصرار على ذلك «2».
وقد استُعمل (الشرك) في القرآن الكريم عادةً بمعنى الإعتقاد بوجود ندٍّ للَّه سبحانه والتوافق على وجود المثيل والشريك في الذات أو الصفات أو الخلق والتدبير أو المماثل له
__________________________________________________
(1) جاء هذا المضمون في آيات قرآنية اخرى مثل هود، 2؛ الإسراء، 23؛ يس، 60؛ فصّلت، 14؛ إضافة إلى آيات عديدة اخرى عبارات مختلفة تتعلّق بأهميّة التوحيد وقبح الشرك بجميع صوره وأشكاله، لو جمعت وفسّرت لتألّف منها كتاب كبير، وما ورد أعلاه هي النماذج المهمّة منها.
(2) راجع كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم)، صحيح أنّ أغلب الكلمات المشتركة ترجع إلى مصدر واحد ولكن لا يمكن القول أنّ ذلك يصدق في جميع الموارد، فقد تضع طائفتان كلمة واحدة لمعنيين متباينين دون أن تعلم إحداهما بالاخرى.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 108
في العبودية.
يقول الراغب في المفردات: الشرك في الدين ضربان:
أحدهما: الشرك العظيم وهو إثبات شريك للَّه تعالى وذلك أعظم كفر.
والثاني: الشرك الصغير وهو مراعاة غير اللَّه في بعض الامور وهو الرياء والنفاق «1».
«واحد»: مشتقّ من (وحدة) ويعني في الأصل- كما يقول الراغب في المفردات-: الشي ء الذي لا جزء له، ثمّ اتّسع استعماله حتّى أخذ يطلق على كلّ شي ء يتّصف بالوحدانية، ويضيف:
فالواحد لفظ مشترك يستعمل على ستّة أوجه: 1- ما كان واحد في الجنس أو في النوع كقولنا الإنسان والفرس واحد في الجنس وزيد وعمرو واحد في النوع.
2- ما كان واحداً بالاتّصال إمّا من حيث الحلقة كقولك شخص واحد وإمّا من حيث الصناعة
كقولك حرفة واحدة.
3- ما كان واحداً لعدم نظيره.
4- ما كان واحداً لامتناع التجزّي.
5- لمبدأ العدد كقولك واحد إثنان.
6- لمبدأ الخطّ كقولك النقطة الواحدة وإذا وصف اللَّه تعالى بالواحد فمعناه هو الذي لا يصحّ عليه التجزّي ولا التكثّر «2».
«وأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد، غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً ولذلك لا يقبل العدّ، ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد فإنّ كلّ واحد له ثانٍ وثالثٌ إمّا خارجاً أو ذهناً [ك] قولك: ما جاءني من القوم أحد، فإنّك تنفي به مجي ء إثنين منهم وأكثر كما تنفي مجي ء واحد منهم بخلاف ما لو قلت: ما جاءني واحد منهم فإنّك إنّما تنفي به مجي ء واحد منهم بالعدد ولا ينافيه مجي ء إثنين منهم أو أكثر ...» «3».
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب، ص 261 مادّة (شرك)، لسان العرب؛ التحقيق؛ مقاييس اللغة؛ جمهرة اللغة وكتب اخرى.
(2) مفردات الراغب، ص 551 مادّة (واحد)؛ لسان العرب؛ التحقيق؛ مقاييس اللغة؛ جمهرة اللغة وكتب اخرى.
(3) تفسير الميزان، ج 20، ص 387.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 109
واحتمل بعضٌ أنّ (أحد) يقابل المركب و (واحد) يقابل المتعدّد، غير أنّ المستفاد من موارد الاستعمال في القرآن أنّهما بمعنى واحد، وسنفصّل ذلك في المستقبل بإذن اللَّه.
تصرّح آية البحث الاولى بأنّ الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغتفر حيث تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَايَغفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ».
ومفهوم هذه العبارة هو أنّ جميع الذنوب الكبيرة والمظالم والجرائم والقبائح لو وضعت في كفّة ميزان ووضعَ الشرك في الكفّة الاخرى لرجّحت كفّة الشرك.
ولذا يقول ذيل الآية من أجل التأكيد أو إقامة الدليل: «ومَنْ يُشرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى
إِثْماً عَظِيماً».
ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية نزلت في اليهود (بقرينة الآيات التي بعدها) حيث اتّحد بعضهم مع المشركين العرب وكانوا يقدّسون أصنامهم ويعتقدون- في الوقت ذاته- أنّهم من أهل النجاة!
ولو سلّمنا بسبب النزول هذا فإنّه لا يضيق دائرة مفهومها.
وقال بعض: إنّ الآية نزلت في جمع من المشركين (كوحشي قاتل حمزة عمّ النبي، وأمثاله) وقد ندموا على ما فعلوا بعد مدّة وكتبوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّا قد ندمنا على الذي صنعناه وليس يمنعنا عن الإسلام إلّاإذا سمعناك تقول وأنت بمكّة: «وَالَّذِينَ لَايَدعُونَ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ وَلَا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ...». (الفرقان/ 68)
وقد دعونا مع اللَّه إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرّم اللَّه وزنينا فلولا هذه لاتّبعناك فنزلت هذه الآية: «إِلَّا مَن تَابَ وعَمِلَ عَملًا صَالِحاً ...». (الفرقان/ 69)
فبعث بهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى وحشي وأصحابه، فلمّا قرؤوها كتبوا إليه: إنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملًا صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت: «إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ ...» فبعث بها إليهم فقرأوها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت:
نفحات القرآن، ج 3، ص: 110
«قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَاتَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». (الزمر/ 53)
فبعث بها إليهم فلمّا قرأوها دخل هو وأصحابه في الإسلام ورجعوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقبل منهم ...» «1».
على أيّة حال فإنّ الآية كما يقول كثير من المفسّرين- هي إحدى الآيات القرآنية التي تبعث روح الأمل حيث تقول: إنَّ الإنسان إذا خرج من الدنيا بإيمانه
فإنّه سوف لا ييأس من رحمة اللَّه، ولكن إذا خرج بلا إيمان أي في حالة شرك فإنّه لا سبيل له إلى النجاة.
الآية الثانية تتحدّث عن مضمون الآية السابقة ذاته مع فارق هو أنّها تقول في ذيلها:
«وَمَنْ يُشرِك بِاللَّه فَقَد ضَلَّ ضَلالًا بَعيداً»، والكلام في الآية السابقة دار حول الإثم العظيم وأمّا هنا فهو يدور حول الضلال البعيد، وهذان أمران متلازمان إذ أنّ الذنب كلّما كان أعظم فإنّه يبعّد الإنسان أكثر ويزيده ضلالًا.
والآية السابقة لاحظت الجانب العلمي والعقائدي من الشرك وهنا لاحظت الآثار العملية له، ومن الأكيد أنّ هذه الآثار تنشأ من تلك الجذور.
الآية الثالثة تحمل أوضح التعابير وأقساها عن عاقبة الشرك والانحراف عن التوحيد حيث تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لقد اوحِىَ اليكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِن أَشْركتَ لَيَحبطنَّ عَملُكَ وَلَتَكُوننَّ مِنَ الخاسِرينَ».
ومن الثابت أنّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله وكلّ نبي من الأنبياء، لم يسلكوا- لعصمتهم- طريق الشرك أبداً، إلّاأنّ الآية ومن أجل بيان أهميّة المسألة ولكي يحسب الآخرون حسابهم
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 56.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 111
قامت ببيان أخطار الشرك بهذه الدرجة من الحزم.
واستناداً إلى هذه الآية فلو أفنى الإنسان حياته في العبادة وعبودية اللَّه ومارس الأعمال الصالحة ولكنّه أشرك في آخر عمره لحظةً واحدة ومات بتلك الحالة فإنّ أعماله سوف تُحبط، فالشرك بمنزلة صاعقة محرقة تَلتَهم حصيلة عمره وتصيّره رماداً، وكما أشار القرآن الكريم في الآية 18 من سورة إبراهيم إلى أنّه رماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.
«ليحبطن»: من (حبط) وأصله (حَبَط) ويطلق على الحيوان حينما يأكل الكلأ حتّى ينتفخ فيمرض ثمّ يموت، ثمّ استعمل في الأعمال
الكثيرة ذات المظهر الجميل ولكن باطنها فاسد وتؤول إلى الفناء «1».
وقد جاء نظير ذلك في (لسان العرب) و (مصباح اللغة)، غير أنّ لسان العرب ذكر أنّ أحد معاني (إحباط) هو جفاف ماء البئر وعدم توقّفه.
وفي (مقاييس اللغة) أنّ الأصل في معناه هو (البطلان) أو (الألم) كما أنّ (حبط) يطلق كذلك على الجرح بعد شفائه.
على أيّة حال فإنّ هذه المفردة في آية البحث والكثير من الآيات والروايات تعني محق ثواب الأعمال الصالحة وزوال آثارها الإيجابية.
وهناك أبحاث حول حقيقة حبط الأعمال وكيفيته ولكن لا مجال لبيانها.
نقرأ في الآية الرابعة تعبيراً مهولًا حول الشرك على لسان لقمان حينما كان يعِظ إبنه بقوله: «يَابُنىَّ لَاتُشرِكْ بِاللَّه انَّ الشِّرْكَ لَظلمٌ عَظِيمٌ».
ولقمان وإن لم يكن نبيّاً- كما هو المشهور- إلّاأنّه كان رجلًا حكيماً ومفكّراً للَّه وقد أيّد القرآن علمه وحكمته وجعل كلامه في عرض كلام اللَّه عزّوجلّ، وبالتأكيد أنّ مثل هذا
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب، مادّة (حبط).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 112
الرجل بعلمه وحكمته وإحساسه بمنتهى المسؤولية تجاه إبنه فإنّه يقدّم له أخلص النصائح والمواعظ.
النصيحة الاولى من النصائح العشر التي ينقلها القرآن الكريم عن هذا الرجل الحكيم لابنه هي النصيحة بالإحتراز المطلق من الشرك، ممّا يدلّل على أنّ الأساس في بناء الفرد والإصلاحات الفردية والاجتماعية والأخلاقية كلّها، هو مقارعة الشرك بكلّ أشكاله وصوره، وسيكون لنا كلام- بإذن اللَّه- في بيان العلاقة بين الشرك وبين هذه القضايا.
وقد احتمل البعض أنّ ابن لقمان كان مشركاً فنهاه أبوه ولكن- كما يقول بعض المفسّرين-: يمكن أن يكون الكلام على شكل تحذير وذلك لأهميّة القضيّة نظير ما ورد في الآية السابقة من تحذيرٍ إلهيٍّ للأنبياء.
والتعبير ب (ظلم عظيم) ذو مضمون كبير، فالظلم في الأصل يعني كلّ انحراف
عن الحقّ ووضع الشي ء في غير محلّه، وأسوأ أنواع الظلم هو الظلم الذي يكون بحقّ اللَّه، عباده ونفسه، وهكذا الشرك.
فأي ظلم وانحراف أشدّ من جعلهم موجودات لا قيمة لها بمستوى خالق السماوات والأرض وجميع الموجودات؟ وأي ظلم أشدّ على عباد اللَّه من انحرافهم عن جادّة التوحيد النورانية إلى ظلمات الشرك؟ وأي ظلم أشدّ على النفس من أن يؤجّج الإنسان ناراً ليحرق فيها حصيلة أعماله الصالحة ويُحوّلها إلى رماد؟!
تصرّح الآية الخامسة بعد أنْ أمَرت المسلمين بأن يكونوا موحّدين مخلصين وأن يتركوا طريق الضلالة والشرك ومن خلال تشبيه ذي معنى كبير: «وَمَنْ يُشرِك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيرُ أَوْ تَهوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكانٍ سَحِيقٍ» «1».
__________________________________________________
(1) «تخطف» من «خطف» وهو الاستلاب بسرعة و (سحيق) من (سحق) وهو طحن الشي ء وقد تعطي هذه المفردة معنى (الملابس البالية) أو (المكان البعيد) والأخير هو الأنسب في مورد الآية من غيره.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 113
وقد شبّهت الآية (الإيمان) ب (السماء العالية) و (الشرك) ب (السقوط من هذه السماء) [لاحظوا أنّ (خرّ) كما يقول اللغويون: يعني السقوط المقرون بضجّة وليس المجرّد منها!].
وليس هذا السقوط سقوطاً بسيطاً بل مكتنف بخطرين عظيمين هما:
أنّ الساقط إمّا أن يكون فريسة للطيور الكاسرة أو يتلاشى بسبب هبوب الرياح العاصفة التي تقذفه في مكان بعيد عن الماء والمناطق المسكونة.
وهذه العبارات المخيفة توضّح الأبعاد الخطيرة والكبيرة للشرك.
وهذه الطيور في الحقيقة هي الصفات القبيحة الباطنية أو الفئات المنحرفة في الخارج والتي تنصب الكمين لتجذب من ينحرف عن جادّة التوحيد، و (الريح) هي تلك الشياطين الذين عبرت عنهم تعالى: «أَلَم تَرَ أَنّا ارسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرينَ تَؤُّزُهُم أَزّاً».
(مريم/ 83)
حيث تتجه نحو المشركين وتضع السلاسل في
رقابهم وتسحبهم إلى كلّ جانب، أو أنّها العواصف الاجتماعية العاتية والفتن السياسية والفكرية والأخلاقية التي لا يصمد أمامها إلّا من ثبتت قدماه في طريق التوحيد.
في الآية السادسة يُؤمر النبي صلى الله عليه و آله بتبيان المحرّمات للناس وفي مقدّمتها الشرك حيث تقول: «قُلْ تَعالَوا اتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكمْ عَلَيكُمْ ...» «1».
ثمّ تذكر أوامر إلهيّة عشرة عرفت ب (أوامر النبي العشرة)؛ وأوّلها هو الدعوة إلى التوحيد حيث تقول: «الّا تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً» راجع التفسير الأمثل للإطّلاع على الشروح والأوامر التسعة المتبقّية في ذيل هذه الآيات.
__________________________________________________
(1) «تعالوا» من «علو» ويعني أن يقف شخص على مرتفع ثمّ يدعو الآخرين إليه (أي أصعدوا) ثمّ توسّع استعماله وشمل كلّ دعوة (تفسير المنار، ج 8، ص 183) ومن الممكن أن يكون المراد في هذه الدعوات الإلهيّة هو المعنى الأصلي حيث يريد النبي أن يصعد بالناس إلى مستوى أرفع وأسمى.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 114
الآية السابعة تشير بتعبير جديد إلى خطر الشرك، حيث تنقل عن السيّد المسيح عليه السلام خطابه إلى بني اسرائيل: «إِنَّهُ مَنْ يُشرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَليهِ الجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ».
وفي الجملة الاولى يلاحظ ذكر لفظ الجلالة كما يلاحظ تكرارها في الجملة الثانية:
«فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجنّةَ»، وهي تقتضي استعمال الضمير، وذلك للتأكيد على أهميّة المسألة.
وتضيف الآية في ذيلها: «وَمَا لِلظّالِمينَ منْ أَنصارٍ».
وهذا دليل آخر على ظلم المشركين وليس لأحد الجرأة في الدفاع عنهم يوم القيامة.
نواجه في الآية الثامنة قضيّة جديدة بهذا الصدد حيث تخاطب المؤمنين: «يَاايُّها الَّذِينَ آمَنوا انَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ» ثمّ تقول: «فَلَا يَقرَبوا المَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعدَ عَامِهِم هَذَا».
وتتضمّن الآية التأكيد على عدّة جهات:
الأول: أنّها استعملت (إنّما) والتي تدلّ على الحصر، ومفهومها أنّ المشركين ليسوا إلّا موجودات فاسدة ونجسة وفي ذلك أكبر تأكيد ومبالغة،
والثاني: أنّ (نَجَسْ) يتضمّن معنى المصدر، أي أنّ المشركين هم عين النجاسة! كما يقال فلان عين العدل، وهذا غاية في المبالغة «1».
والثالث: أنّها لم تقل: «فلا يُدْخُلُوا المَسجِدَ الحَرامَ» بل «فلا يقربوا» بمعنى أنّ المشركين من القذارة ما يخشى على هذا المكان المقدّس أن يتعرّض لها عند اقترابهم منه!
__________________________________________________
(1) «نَجسْ» مصدر و «نجِس» صفة وهذه الكلمة كما يقول الراغب في المفردات:
النجاسة: القذارة وذلك ضربان: ضرب يدرك بالحاسّة وضرب يدرك بالبصيرة (المفردات مادّة (نجس)، ص 503) وفي التفسير مجمع البيان، ج 5، ص 20 كلّ مستقذر نجس، يقال: رجل نجس وامرأة نجس، المجمع.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 115
في الآية التاسعة التي نزلت- مع مجموعة من الآيات في السنة التاسعة للهجرة- بصفتها إعلاناً عامّاً، نلاحظ إشارة إلى نقطة اخرى امر أميرالمؤمنين عليه السلام بتلاوتها على الناس في مواسم الحجّ: «وَاذَانٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكبرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» «1».
والتعبير بالبراءة من قبل اللَّه ورسوله من المشركين بوصفه إعلاناً عامّاً في أكثر أيّام الحجّ حساسية دليل على النفور من المشركين وبيان لضخامة معصية الشرك بأجلى صوره.
ونلاحظ في الآية العاشرة تعبيراً جديداً، حيث اعتبرت المشرك والمشركة في عرض الزاني وقال: «الزَّانِى لَايَنْكِحُ إِلَّا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَايَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ...».
وهذا التعبير سواء كان لبيان حكم شرعي وإلهي وهو حرمة الزواج من أهل الزنا والشرك أو كان إشارة إلى واقع خارجي وهو أنّ القذر يتبع القذر دائماً، والطيور على أمثالها تقع فهو شاهد بليغ على قبح معصية الشرك، لأنّها اعتبرت المشركين كالملوّثين بالزنا والفاقدين للقيم الخُلُقية والسجايا الإنسانية.
والحديث الوارد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لا يزني الزاني حِينَ يزني وهوَ مؤمنٌ ولا يَسرقُ السارقُ حين يسرقُ وهو مؤمنٌ فإنّه إذا فعلَ ذلك خُلِعَ عنهُ الإيمانُ كَخَلع القَميص» «2»
، وهناك شاهد آخر على العلاقة بين هذين، وسيأتي شرحُهُ بإذن اللَّه.
__________________________________________________
(1) فسّر الكثير من المفسّرين (يوم الحجّ الأكبر) بعيد الأضحى وهو أهمّ أيّام الحجّ، والروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وأبناء السنّة تؤيّد هذا المعنى، في حين فسّره بعضهم بيوم عرفة وبعضهم الآخر بمجموع أيّام الحجّ التي يطلق عليها (الحجّ الأكبر) وتقابل العمرة وهي (الحجّ الأصغر)، وقد خصّصها آخرون بسنة نزول الآية حيث شارك المسلمون والمشركون في مراسم الحجّ في تلك السنة، وواضح أنّ التفسير الأوّل هو الأرجح من هذه الاحتمالات الأربعة.
(2) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 571، ح 20.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 116
ومن الواضح أنّ زواج المؤمنين من المشركين باطل وحرام،
وأمّا الزواج بأهل الزنا فإنّ بعضاً يرى بأنّهم إن اشتهروا به ولم يتوبوا كان الزواج بهم باطلًا أيضاً.
والأحاديث العديدة التي نقلت عن النبي صلى الله عليه و آله والإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام شاهد آخر على هذا المعنى.
وقد كتب بعض المفسّرين في شأن نزول هذه الآية ما يلي: أنّ رجلًا من المسلمين استأذن النبي صلى الله عليه و آله في أن يتزوّج (امّ مهزول) وهي إمرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها، فنزلت الآية «1».
الآية الحادية عشرة بيّنت أهميّة التوحيد وقبح الشرك ولكن بتعبير آخر، حيث وجهت أمراً إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله «قُل انَّما امِرْتُ انْ اعْبُدَ اللَّهَ وَلَا اشْرِكَ بِهِ».
والتعبير ب (إنّما) الدالّة على الحصر عادةً دليل على أنّ دعوة النبي صلى الله عليه و آله تتلخّص في قضيّة التوحيد ورفض الشرك «2»، وهو الحقّ، لأنّ التوحيد قوام التعليمات السماوية كلّها، كما أنّ الشرك هو أساس الوساوس الشيطانية كلّها.
وتؤكّد الآية في ذيلها تأكيداً مضاعفاً: «إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيهِ مَآبِ».
الآية الثانية عشرة تتحدّث عن النبي نوح عليه السلام وهو أوّل الأنبياء من اولي العزم حيث جعل الأساس في دعوته هو الدعوة إلى التوحيد ورفض الشرك، والملاحظ أنّ هذا التعبير ورد أيضاً عن الكثير من الأنبياء، قال تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذيرٌ
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 125.
(2) ولو افترضنا هذا الحصر حصراً إضافياً فإنّه يدلّ أيضاً على أنّ العبودية كلّها تتلخّص في العبودية للَّه (فتأمّل جيّداً).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 117
مُّبِينٌ» وتضيف: «أَن لَّاتَعْبُدوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ».
وتكرار هذا الكلام من قبل الأنبياء من لدن نوح وحتّى
رسول الإسلام الأكرم صلى الله عليه و آله دليل على أنّ السنام الأعلى في دعوة الأنبياء، هو قضيّة التوحيد ومقارعة الشرك وهو القاسم المشترك بين الديانات السماوية، ولذا نقرأ في قوله تعالى: «قُل يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالوا إِلَى كَلِمةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنا وَبَينَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللَّهِ». (آل عمران/ 64)
وهذا أصل ثابت لم يتغيّر بمرور الزمان ولم يكن أمراً وقتياً، بل هو الأساس الثابت في الديانات السماوية كلّها، وكلّ ما يتعرّض له أهل الديانات المختلفة من مآسٍ، ناشي ء من الانحراف عن هذا الأصل.
وفي الآية الثالثة عشرة تعبير جديد عن هذا المعنى وتلخّص دعوة الأنبياء عليهم السلام باستخدام الأداة (إنّما) الدالّة على الحصر في قضيّة التوحيد حيث تقول: «قُلْ انَّمَا يُوحى اليَّ انّمَا الهُكُم إِلهٌ وَاحِدٌ فَهَل انتُم مُّسلِمُونَ».
الآية الرابعة عشرة تذكر هذا المضمون في قالب جميل آخر حيث تعرّف النبي إبراهيم عليه السلام المقدام والمكسِّر للأصنام بالقدوة في الدفاع عن قضيّة التوحيد ومحاربة الشرك محاربة لا هوادة فيها حيث قالت: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ»، ثمّ تقدّم توضيحاً عن الاسوة الحسنة هذه بقوله تعالى: «إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ...»، وأضافت- للتأكيد المكرر- «كَفَرْنَا بِكُمْ ...».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 118
إنّ الكفر بالأشخاص يعني إعلان البراءة منهم، لأنّ هذه المفردة (الكفر) ذات معانٍ خمسة حسب الروايات الإسلامية، أحدها كفر البراءة، ولم تكتفِ بذلك بل أضافت: «وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحدَهُ».
وإنّ هذه التعابير (البراءة أوّلًا ثمّ إعلانها ثمّ الإعلان عن العداوة الدائمة) لشاهد صريح على صلابة الموحّدين
تجاه القذرين الملوثين بالشرك وعبادة الأوثان، وحينما نلاحظ أنّ القرآن يذكر كلام النبي إبراهيم عليه السلام وأتباعه كقدوة للمسلمين فإنّ ذلك يعني أنّ الإسلام لا يعرف أيّة مهادنة بين التوحيد والشرك في أيّة مرحلة.
ومن التعمّق في تعبير الآية تنكشف الأهمّية البالغة لهذه القضيّة، فالتعبير ب (قومهم) دليل على أنّ غالبية القوم هم من عبدة الأصنام وأنّ الموحّدين قليلون، ويبدو أنّ هذا الحوار جرى في (بابل)، التي هي مركز عبدة الأصنام في ظلّ سلطة الطاغية (النمرود)، ولم تعمد هذه المجموعة الصغيرة المؤمنة إلى مسايرة الوضع السائد، ولم تعمل بالتقيّة تجاه المشركين في مسألة التوحيد.
ففي جانب تقول: «إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ».
و في جانب آخر: «كَفَرْنَا بِكُمْ ...».
و في ثالث: (نتبرّأ مِن أصنامكم).
ومن جهة: (انّا نعتبركم أعداءً لنا).
و من أخرى: (إنّا نُكِنُّ لكم العداء).
وفي كلّ جملة من الآية تعبير جديد عن عدم المداهنة والمسالمة.
والفرق بين (العداوة) و (البغضاء)- كما هو المستفاد من كلمات اللغويين- هو أنّ (العداوة) لها جانب عملي في الغالب، أمّا (البغضاء) فلها جانب قلبي، وإن استعمل كلّ منهما مكان الآخر.
وبهذا أعلنوا أنّهم بُراءٌ من الشرك بكلّ وجودهم وصامدون أمامه مهما كانت الظروف، وينبغي أن يكون ذلك اسوة حسنة لكلّ المؤمنين في العصور كلّها.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 119
و «الاسوة»: تعني في الأصل- كما ورد في (مقاييس اللغة): العلاج والإصلاح، ولذا يطلق على الطبيب (آسي).
و «أسى : تعني الغمّ والحزن، ومن المحتمل أن يكون بسبب اقتران علاج المريض والجريح- عادةً- بالغمّ والوجع، ومن ثمّ استعملت بمعنى الإتّباع والمتابعة نظراً لاستدعاء العلاج وإصلاح المتتابَعيْن.
إلّا أنّ الراغب في مفرداته يعبّر عن المعنى الأصلي ل (اسوة) قائلًا بالاتّباع في الصالحات أو السيّئات «1».
يتّضح من الآيات الأربع عشرة المتقدمة والتي كثرت
نظائرها في القرآن الكريم أنّ قضيّة التوحيد والشرك هي القضيّة المركزية والمهمّة في نظر القرآن بشكل لا تجوز معه أيّة مداهنة أو مهادنة أو محاباة مع الشرك والمشركين، ولابدّ من اجتثاث جذور الشرك بجميع صوره، فإنّ تحقّق ذلك عن طريق التعليم الثقافي والمنطق والاستدلال فهو وإلّا فإنّ الواجب هو الحزم العملي تجاهه.
إنّ التوحيد رأس مال المؤمن والبضاعة المرموقة في سوق القيامة، والشرك ذنب لا يغتفر، والمشرك موجود قذر يجب التبرّء منه كلّياً حتّى يعدل عن انحرافه ويعود إلى الإيمان.
نحن نعلم بصورة إجمالية إنّ للإسلام بل والديانات السماوية كلّها حسّاسية غير
__________________________________________________
(1) يعتقد البعض أنّ (أسى يستعمل كفعل ناقص واوي ويائي، فإن كان ناقصاً يائياً فإنّه يعني الحزن والغمّ، ولذا تطلق المأساة على الفاجعة العظيمة، ولو كان ناقصاً واوياً فهو يعني المعالجة والإصلاح.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 120
اعتيادية تجاه الشرك، غير أنّ الدليل على ذلك ليس واضحاً للكثير، ويمكن تقديم أربعة أدلّة أساسية على هذه الحساسية والإهتمام بقضيّة التوحيد والشرك المصيرية:
1- التوحيد هو الأساس لمعرفة صفات اللَّه ولا يمكن إدراك الصفات دون ملاحظة أصل التوحيد، لأنّ وحدانيته- كما سيأتي توضيحها- تنشأ من لا محدوديته، والوجود جامع لكلّ الكمالات وخالٍ من كلّ عيب ونقص، والحقيقة أنّنا لو عرفناه بتوحيده الحقيقي فسوف نعرف صفاته كلّها، بَيدَ أنّ الإعتقاد بالشرك هو الذي يصدّنا عن ذلك.
2- فروع التوحيد تبلغ عالم الوجود ذات اللَّه المقدّسة، حيث أنّ عالم الوجود واحد وهو متّصل الأجزاء وتحتاج معرفته الصحيحة إلى دراسة أجزائه مجتمعة، ولو تصوّرنا موجودات العالم كوجودات متفرّقة فإنّا سوف نخطى ء كثيراً في معرفة العالم وإذا سألنا أنفسنا: من أين تلقّينا هذا الدرس، وهو أنّ عالم الوجود كتلة واحدة؟
الجواب: من وحدانية اللَّه،
لأنّ وحدة اللَّه دليل على وحدة العالم، ووحدة العالم دليل على وحدته تعالى: «مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ». (الملك/ 3)
3- إنّ أهمّ العناصر التي تبعث على تطوّر العالم الإنساني وتكامله هو وحدة المجتمع البشري، فالاختلاف والتفرّق- كان وسيبقى- هو العامل على الدمار والضعف والتخلّف، في حين يشكل الإتّحاد والوحدة الحجر الأساس للقوّة والإقتدار والعمران والبناء.
إنّ الإيمان باللَّه بمثابة حلقة الوصل التي تؤلّف بين الملايين من البشر وتزيل الفوارق العنصرية والجغرافية والقومية واللغوية.
إنّ سبب الانحراف عن أصل التوحيد والإيمان جَعَل كلّ قبيلة عربية في زمن الجاهلية تعبد صنماً يختلف عن أصنام القبائل الاخرى وهم في غاية الضعف والانحطاط، فجاء الإسلام وحطّم الأصنام وربط القلوب بحبل التوحيد في فترة قصيرة وصنع منها مجتمعاً قويّاً ومتطوراً ذا حكومة امتدّت لتشمل العالم فضلًا عن الجزيرة العربية.
4- التربية على الأخلاق والقيم الإنسانية تتوفّر في ظلّ التوحيد أيضاً لأنّ الأساس في
نفحات القرآن، ج 3، ص: 121
الأخلاق الفاضلة هو الإخلاص وتنزيه القلب من الشرك، والأساس هو جعل الدوافع العملية دوافع إلهية فقط، أي التحرّك من أجله فقط والجهاد في سبيله والسير نحوه والإحتراز من أي دافع آخر.
فالتوحيد هو الذي يعلم الإنسان درس الإخلاص في النيّة، درس مقارعة كلّ رياء وشرك، ومحاربة هوى النفس والجاه والدنيا والشيطان.
وبهذا ترى كلًا من التوحيد والشرك يترك تأثيره العميق على العقائد والأعمال والنيّات والأخلاق في الفرد والمجتمع.
ولذا وجّه الإسلام إهتماماته تجاه هذه القضيّة، وهنا نختم البحث بحديثين:
في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال لعبداللَّه بن مسعود: «يا ابن مسعود: إيّاك أن تشرك باللَّه طرفة عين، وإن نشرت بالمنشار أو قطّعت، أو سلِبت أو
احرِقت بالنار» «1».
وفي هذا الحديث الشريف تبرز الأهميّة القصوى للتوحيد.
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «انّ بني اميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه» «2».
وهذا الحديث شاهد واضح على أنّ الشرك يمكن أن يكون وسيلة هدّامة سياسياً واجتماعياً بيد فئة ظالمة، وفي المقابل يمكن أنْ يقوم الإيمان بالتوحيد وفروعه باجتثاث جذور هؤلاء الظالمين.
نتطرّق في بحث التوحيد لمهمّتين:
الاولى: أنّ ذات اللَّه لا تتركّب من أجزاء (خارجية أو عقلية).
والثانية: هي أنّ ذاته لا شبيه لها ولا مثيل، لذا فهو واحد من كلّ جهة.
ونجد في القرآن أدلّة في هذا المجال منها:
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 74، ص 107.
(2) أصول الكافي، ج 2، ص 415، ح 1.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 123
1- شهادة الفطرة على وحدانية اللَّه (عزّ وجلّ)
2- تناسق العالم
3- دليل صرف الوجود
4- دليل الفيض والهداية
نفحات القرآن، ج 3، ص: 125
ذكرنا في مستهلّ هذا الجزء وفي بحث «استخدام برهان الفطرة في مسألة معرفة اللَّه» أنّ هذا البرهان يمكن أن يكون نافعاً ومرشداً في البحث عن صفات اللَّه، بل وفي مسألة النبوّة والمعاد، ولهذا لنا عهد عملي مع هذا البرهان حيث نراجعه في أغلب المباحث.
وفي بحث وحدانية ذات اللَّه وصفاته يمكن أن يكون هذا البرهان مفيداً، أي أنّنا وفي أعماق الروح والقلب لا نسمع نداء وجوده فحسب بل لا يوجد في أعماق الروح نداء آخر.
فعندما تبلغ المشكلات والإبتلاءات ذروتها وحينما توصد أبواب عالم الأسباب أمامنا يقرع أسماعنا هدير التوحيد في أعماق وجودنا ويدعونا إلى (المبدأ الواحد) ذي القدرة التي تفوق المشكلات وتتجاوز عالم الأسباب كلّه.
وهناك آيات قرآنية عديدة تشير إلى هذا المضمون، وبما أنّنا ذكرنا بعض هذه الآيات بصورة مفصّلة في بحث (إثبات وجود اللَّه) فسنشير إليها هنا باختصار ونمعن خاشعين في عدد من الآيات:
1- «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البِرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ». (العنكبوت/ 65)
2- «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمةً إِذا فَريقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ». (الروم/ 3)
3- «قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ اتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ اتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ
نفحات القرآن، ج 3، ص: 126
صَادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيهِ ان شَاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ».
(الأنعام/ 40- 41)
4- «وَمَا بِكُمْ مِّنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ* ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُرَّ عَنْكُمْ اذَا فَرِيقٌ مِّنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ». (النحل/ 53- 54)
5- «قُلْ
مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِّنْ ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً لَّئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ».
(الأنعام/ 63- 64)
بما أنّ تفسير الآية الاولى والثانية قد مرَّ في مقدّمة الكتاب خلال بحث الاستدلال على معرفة اللَّه عن طريق الفطرة فإنّا نذكرهما باختصار.
الآية الاولى تتحدّث عن أشخاص يدعون اللَّه سبحانه باخلاص عند ركوب السفينة، والآية الثانية تطرح القضيّة بصورة عامّة وتتحدّث عن أشخاص يدعون اللَّه عند مواجهة ضَنَك الحياة وتحيط بهم أمواج المشكلات فيتركون الأصنام التي نحتوها ويَلجأون إلى ظلال لطفه، ولكن بعد إذاقتهم حلاوة رحمته تسلك جماعة منهم طريق الشرك مرّة اخرى، ومن الملاحظ أنّ في الآيتين تركيزاً على الإخلاص والإنابة حيث يتمسّك بهما أغلب الناس عند هبوب عواصف الأحداث إضافةً إلى التركيز على حالة الرجوع إلى الشرك لدى جماعة كبيرة بعد سكون هذه العواصف.
وبهذا يشير القرآن الكريم إلى أنّ معرفة اللَّه من مكنونات الفطرة الإنسانية وهكذا التوحيد في العبادة، ويعتبر الشرك ظاهرة تنشأ من الحياة المترفة، ومن خلال دراسة سطحية وعابرة لعالم الأسباب، وعند تغيّر الظروف الإعتيادية للحياة وظهور عدم فاعلية عالم الأسباب يقوم الإنسان بقطع أمله منها وتبرز فطرة عبادة الواحد من وراء سحب العادات المعاشة والغفلة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 127
إنّ هذه الآيات تبلَّغ نداء الفطرة إلى الغافلين من بني الإنسان عن طريق واضح وتوصل الإنسان إلى حيث لا يوجد صخب عالم الأسباب ولا الغرق في لذّات الحياة.
نعم في مثل هذه البيئة الطبيعية والهادئة يسمع نداء الوجدان الذي يلقّنه درس معرفة اللَّه وعبادة الواحد ولكن هذا النداء يضعف ويعجز عن بلوغ الأسماع حينما يمتلي ء الجوّ بصخب اللذّات الماديّة وعالم الأسباب.
هذه الآيات الشريفة
تمسك بيد الإنسان تارةً وتلقي به في وسط الأمواج العاتية وتمسك بيده تارةً اخرى لتودعه خلف قضبان السجن وميدان الأمراض المستعصية وطرق مسدودة تبعث اليأس في الحياة، مكان تخمد فيه أصوات الشياطين من الجنّ والإنس ويسمع فيه نداء الوجدان والفطرة فقط، ما أجمل وأروع هذا النداء وهذا الصوت!
الآية الثالثة تخاطب المشركين وتدعوهم إلى فطرة عبادة الواحد، وبتعبير آخر تقول:
«قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ اتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ اتَتْكُمُ السَّاعَةُ اغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ».
والمراد من عذاب اللَّه هو عذاب الدنيا والمراد من (أتتكم الساعة) هو ظهور أشراط الساعة (وهي علامات نهاية العالم الموحشة جدّاً وابتداء يوم القيامة) التي أخبر عنها القرآن الكريم في آيات عديدة واعتبرتها مقرونة بالخوف والوحشة الشديدَين.
إنّ الكثير من المشركين- طبعاً- لم يؤمنوا بالقيامة وأشراط الساعة غير أنّهم كان بوسعهم تصديق نزول العذاب الإلهي وذلك بملاحظة الآثار التي خلّفتها الامم السابقة في أطراف الحجاز والجزيرة العربية، وهذا هو أحد أساليب الفصاحة حيث يبيّن القائل قضيّة صادقة لا يتقبّلها المخاطب مقرونة بما يقبله في عبارة واحدة كي يثبتا معاً.
ولا ينتظر القرآن ليستمع إجابتهم عن هذا السؤال بل يجيب عنه بما ينبغي عليهم بيانه ويقول: «بَل إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيهِ ان شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ».
وقد أسلفنا أنّ الكثير من المفسّرين فسّر جملة (أرأيتكم) بمعنى (أخبروني)، ولكن
نفحات القرآن، ج 3، ص: 128
الظاهر هو الإحتفاظ بالمعنى الرئيس للجملة وتفسيرهم هذا يلازمه (المعنى الرئيس للجملة هو: هل شاهدتم؟ هل فكّرتم؟) «1».
على أيّة حال فإنّ القرآن في هذه الآيات يُلزم المشركين بأعمالهم ويحاججهم بها.
الآية الرابعة تطرح هذه القضيّة في قالب جميل آخر فتقول: «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ»، فماذا صنعت لكم الأصنام ومعبوداتكم
المزيّفة؟ وأي رزق بَسَطتهُ لكم وأيّة هدية وهبتها لكم؟
هذه الأصنام التي تحتاج إليكم في صنعها وبقائها (حيث يجب أن تنحتوها وتحافظوا عليها) أيّة بركة وموهبة وهبتها لكم؟
وتضيف الآية: «ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فَإِلَيهِ تَجْئَرُونَ».
«تجأرون»: من مادّة (جُئار) وتعني في الأصل أصوات الوحوش والحيوانات في الصحارى دون اختيار منها عندما تحس بالألم، ثمّ استعملت كناية عن الأنين والإستغاثة والصرخة التي تصدر من الإنسان حينما يواجه المشكلات.
يقول الراغب في مفرداته:
ومن الواضح أنّ الإنسان يرجع إلى فطرته في هذه الحالة وتتكسّر القيود والسلاسل المفتعلة وتنهار الأبنية الوهمية ويبقى الإنسان مع فطرته، الإنسان ووجدانه الصريح ويتّجه صوب نقطة واحدة، نعم نقطة واحدة نسمّيها (اللَّه) عزّوجلّ.
انتبهوا إلى جملة (إليه تجئرون) فهي تتضمّن معنى الحصر والدلالة على الوحدانية، أي أنّكم تتوسّلون إليه فقط وتطلبون منه حلّ مشاكلكم.
وتضيف: «ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ»، وفي التعبير
__________________________________________________
(1) الاولى تعني الرؤية بالعين المجرّدة والثانية تعني الرؤية القلبية.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 129
ب (فريق) إشارة إلى أنّ فريقاً آخر سيغيّر مسيرته بعد هذا الحادث حقّاً، وتبدأ صفحة جديدة في حياته ويستبدل الشرك بالتوحيد في العبادة، وهذا هو أحد الحِكَم في وجود الآفات والإبتلاءات والأوجاع والآلام التي يكرهها البشر وفيها إيقاظ لفريق وتربيتهم «1».
«ضُرّ»: و (ضَرّ) لهما معنى واحد كما يعتقد بعض اللغويين، ومفهومهما هو كلّ ما ينافي النفع، وقد فسّر بعض الأوّل بمعنى سوء الحال، والثاني بمعنى الضرر.
ويقول الراغب في المفردات:
«الضُرّ»: سوء الحال إمّا في نفسه لقلّة العلم والفضل والعفّة، وإمّا في بدنه لمرض أو نقص وإمّا في حالة ظاهرة من قلّة مال وجاه «2».
على كلّ حال فهذا اللفظ مضمون واسع حيث يشمل المصائب والأمراض والنقائص والآلام.
وينبغي
ملاحظة هذه النقطة وهي أنّ (الكشف)- كما جاء في لسان العرب- تعني رفع الحجاب عن الشي ء المستور، ويلازمه ظهور ذلك الشي ء ثمّ استعمل في رفع الغمّ والحزن والإبتلاءات وكأنّ هذه الامور تمثّل حجباً على روح الإنسان وجسمه وتُرفع من قبل الإنسان وغيره.
في الآية الخامسة والأخيرة التي نبحثها نلاحظ أنّ محتوى الآيات السابقة نفسه ولكن في اطار جديد وجميل حيث تقول: «قُلْ مَنْ يُنجِّيكُمْ مِّنْ ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً»، في هذه الحالة تنأى عنكم المعبودات المزيّفة وتلجأون إلى لطف اللَّه وحده وتقولون: «لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».
__________________________________________________
(1) احتمال البعض من أنّ «من» في «فريق منكم» بيانية لا تبيعية بعيد جدّاً ويخالف ما ورد في الآية 32 من سورة لقمان (فلمّا نجّاهم إلى البرّ فمنهم مقتصد) راجع تفسير روح المعاني ذيل هذه الآية.
(2) لسان العرب؛ مجمع البحرين؛ مفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 130
والتعبير ب «ظلمات البرّ والبحر» تعبير جميل يمكن أن يكون إشارة إلى الظلام الظاهري الذي يحدث في الليل أو عند هبوب الأعاصير والرياح المحملة بالغبار وعند ظهور السحب السوداء في السماء، وهذا الظلام مرعب ومخيف وخاصّة إذا كان في البحر والصحراء، أو حصول الخوف من هجوم الحيوانات الوحشية في الصحراء.
ويمكن أن يكون له- كما ذكر ذلك بعض المفسّرين- معنى كنائي فيشمل المشكلات والشدائد والآلام «1».
كما يحتمل تضمّن الآية الظلامين: الظلام الظاهري الذي يفرض الوحشة على الإنسان والظلام المعنوي الموحش المؤلم أيضاً، وعلى كلّ حال فإنّ هذه الآلام تحصل في السفر غالباً، والآية تقصد هذا المعنى أيضاً.
والتعبير ب «تضرّعاً وخفية» تعبير جميل أيضاً لأنّ (التضرّع) يعني الدعاء والطلب الصريح وإظهار التذلّل «2»، في حين تشير (خفية) إلى الدعاء
الكامن في أعماق القلب، ويحتمل أن يقصد التعبيران الحالتين في الإنسان، حيث يدعو اللَّه في قلبه حينما تبدو ظلمات المشكلات، وعندما يُبتلى بمشكلات عويصة وكبيرة يقوم بإظهار ما في قلبه ويتضرّع إلى اللَّه ويلتمسه.
ومن المحتمل أن يقصد هذا التعبير حالات الفئات المختلفة، فبعضها تدعو اللَّه جهاراً في مثل هذه الأحوال وبعضها تدعوه خفاءً وكأنّها تشعر بالخجل أمام الأصنام! أو من الناس الذين عرفوا أنّها تعبد الأصنام فلماذا لا تلجأ إلى الأصنام في المشكلات؟! على كلّ حال فإنّها ترجع إلى فطرتها في مثل هذه الأحوال وتستضي ء قلوبها بنور التوحيد وعبادة الواحد، وترفض كلّ ما سواه وتنسى كلّ ما يذكرها به وتستيقن بأنّ الأصنام ليست أهلًا، وعبارة الأصنام لا فائدة فيها ولا سبيل إلّاالتوحيد.
في مثل هذه الأحوال تعاهد اللَّه وتنذر وتتعهّد بأنّه إذا نجاها من هذه الشدائد والآلام
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 7، ص 136؛ وتفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 269.
(2) مفردات الراغب: تضرّع، أظهر الضراعة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 131
وأذاقها حلاوة اللطف والرحمة فإنّها ستبقى شاكرة ومدينة ورهينةً للطفه، ولكنّها بعد الخلاص من المضائق تنسى- في الغالب- كلّ عهودها وتعهّداتها، كما يشير إلى ذلك ذيل الآية: «قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» «1».
وكما ذكرنا فإنّ هذه الحالة هي حالة أغلب المشركين، وأمَّا الفئة التي لها قابلية أكبر فإنّها تتيقّظ بصورة دائمة وتبصر طريقها وتهجر الشرك.
من مجموع الآيات التي ذكرت تظهر هذه الحقيقة وهي: أنّ القرآن الكريم لا يعدّ غريزة المعرفة الإلهيّة في الإنسان أمراً فطريّاً وحسب بل يعتبر الإيمان بوحدانيته من الامور الفطرية أيضاً، وبما أنّ الفطرة الأصيلة في الإنسان تتعرّض في الغالب إلى حجاب الرسوم والعادات والأفكار
المنحرفة والتعاليم المغلوطة فينبغي انتظار تلك الساعة التي تزول فيها هذه الحجب، من هنا فإنّ القرآن يشير إلى لحظات حسّاسة في حياة الإنسان وذلك عندما تزول الحجب بواسطة عواصف الأحداث ويبقى الإنسان وفطرته وصريح وجدانه فيدعو حينئذٍ ربّه لوحده ويزول عنه ما سواه، ويدلّ هذا جيّداً على أنَّ عبادة الواحد والتوحيد مستودعة في أعماق روحه، وفي هذا المجال مرّت بحوث تكميلية اخرى في أوّل الكتاب في بحث الفطرة والمعرفة الإلهيّة.
__________________________________________________
(1) «الكرب» يعني الغمّ والهمّ الشديد.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 133
من السبل التي سلكها علماء العقيدة والفلسفة في سيرهم وسلوكهم من أجل القرب من ذات اللَّه المقدّسة هي دراسة عالم الوجود الذي هو عبارة عن مجموعة متناسقة وكتلة مترابطة، هذا الاتحاد والتناسق ينبئان عن وحدانية الخالق، ولذا اطلق على هذا الدليل (برهان الوحدة والتناسق) وقد يُطرح هذا البرهان بصورة اخرى حيث يقال: إذا كانت هناك إرادتان تحكمان عالم الوجود، ولو كان في عالم الخليقة تدبيران لظهر الفساد واللانظام حتماً، وبما أنّ هذا الأمر- عدم النظم والفساد غير موجود- يمثل دليلًا على وحدة الخالق والمدير والمدبّر لعالم الخليقة، ولذا اطلق على الاستدلال عنوان (برهان التمانع).
من هنا فإنّ برهان (الوحدة والتناسق) و (برهان التمانع) متّحدان جوهراً ومحتوىً ولكن لهما تعبيران، وبعبارة أدقّ: أنّهما ينظران إلى قضيّة واحدة ولكن من زاويتين، فنحن نصل تارةً عن طريق وحدة العالم إلى وحدة المُبدى ء، واخرى من طريق عدم الفساد الناشي ء من الإرادتين، وفي الحقيقة إنّنا ننظر من الأعلى إلى الأسفل تارةً واخرى من الأسفل إلى الأعلى.
وعلى كلّ حال فإنّه من أفضل دلائل التوحيد التي استندت إليها الآيات القرآنية.
بهذا التمهيد نرجع إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «مَا تَرى
فِى خَلْقِ الرَّحمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَينِ يَنقَلِبْ الَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وهُوَ حَسِيرٌ». (الملك/ 3- 4)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 134
2- «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ* لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ». (الأنبياء/ 21- 22)
3- «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كانَ مَعَهُ مِن إِلهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». (المؤمنون/ 91)
«فُطور»: من (فَطْر) على وزن سَطْر وهي في الأصل: الفتق، وقد فسّره البعض كالراغب في المفردات بالشقّ طولًا ومن ثمّ أطلق على كلّ إبداع وإيجاد وخلق، لما فيه من انشقاق حجاب العدم وإبداع الشي ء وإيجاده أو اختراعه كما يطلق هذا اللفظ على عملية استخراج الحليب من الغنم باصبعين، وكذلك على هدم الصيام (وقد وردت إيضاحات أكثر حول ذلك في بداية هذا الجزء في بحث برهان الفطرة في موضوع معرفة اللَّه).
«إله»: يعني- كما يقول اللغويون- المعبود، وقالوا باشتقاقه من (إلاهة) بمعنى العبادة وقد ذكرنا آراء الكثير منهم في الهامش «1».
وقد استعمل هذا المعنى في مواضع كثيرة من (القرآن الكريم)، كما نقرأ في قصّة بني اسرائيل عندما شاهدوا جماعة يعبدون الأصنام فقالوا لموسى: «يامُوسى اجْعَلْ لَّنَا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهةٌ». (الأعراف/ 138)
وقد جاء في قصّة السامري: «وَانظُرْ إِلَى إلهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيهِ عَاكِفاً لَّنُحْرِّقنَّهُ».
(طه/ 97)
__________________________________________________
(1) مصباح اللغة، «ألَهَ، لَهُ، آلِهة» على وزن «تعب» يعني عبد عبادة، تألّه (تعبّد) والإله، (المعبود)، وقد ورد في (صحاح اللغة) هذا المعنى مع فارق بسيط، ويقول الراغب في المفردات (اله)، جعلوه إسماً لكلّ معبود لهم و (اله فلان يأله): (عبد)،
ويقول صاحب لسان العرب: (الاله) كلّ ما اتّخذ من دونه معبوداً، وفي التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ورد بعد ذكر كلمات جمع من اللغويين (فظهر من هذه الكلمات أنّ الاله بمعنى العبادة)، وقد ورد في مجمع البحرين، «الآلهة»: الأصنام سُمّوا بذلك لاعتقادهم بأنّ العبادة تحقّ لها، وجاء في كتاب العين للخليل بن أحمد أيضاً (التألّه): التعبّد، وقد جاء هذا المعنى صريحاً في قاموس اللغة، (وعلى ذلك فإنّ عقيدة أهل اللغة قاطبة هي أنّ الإله تعني المعبود).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 135
وباختصار فإنّ أرباب اللغة قاطبة وجمع كبير من المفسّرين اعتبروا (اله) بمعنى المعبود وهو الغالب في موارد استعماله، وحينما نلاحظ أنّ (اله) قد استعمل في بعض الحالات بمعنى الخالق أو المدبّر لعالم الوجود فهو لوجود ملازمة- في بعض الحالات- بين هذه المعاني وبين المعبود، ولا يكون الاستعمال في بعض الموارد دليلًا على الحقيقة أبداً، وخاصّة مع تصريح اللغويين على خلاف ذلك، وموارد الاستعمال شاهدة على ذلك أيضاً.
ويمكن القول: أنّ جملة (لا إله إلّااللَّه) لا تنسجم مع هذا المعنى وذلك لوجود معبودات غير اللَّه الواحد بين العرب والأقوام الاخرى، ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة لأنّ المراد هو المعبود الحقّ لا المعبودات بالباطل، أي: لا معبود حقّاً غير (اللَّه)، والأصنام ليست أهلًا للعبادة، وقرائن هذا المعنى موجودة في هذه الجملة، كقولنا: لا علم إلّاما نفع.
هناك ملاحظة جديرة بالتدقيق وهي أنّ البعض اعتبر (إله) من (وله) وتعني (تحيّر) وفيها إشارة إلى الذات التي تحيّرت فيها العقول، بَيدَ أنّ المشهور بين اللغويين هو المعنى الأوّل أي أنّه من مادّة (ألَهَ) بمعنى العبادة.
وقد توضح ممّا ذكرنا أنّ إصرار البعض على أنّ (اله) لا يعني (معبود) غير مقبول أبداً.
تقول
الآية الاولى بعد الإشارة إلى خلق السماوات: «مَا تَرى فى خَلْقِ الرَّحمنِ مِنْ تَفاوُتٍ».
إنَّ هذا العالم الواسع بكلّ ما يتضمّنه من عظمة فهو متناسق ومنسجم ومترابط ومتّحد ومنظّم، وإنّ وجود الاختلاف في اللون والشكل والوزن وسائر الكيفيات الظاهرية والباطنية أو الكمّية أمر طبيعي جدّاً، ولكن الشي ء الذي لا وجود له هو عدم التناسق واللانظم والاختلال.
ولذا تقول الآية في ذيلها: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ» والمراد من «فَارْجِعِ
نفحات القرآن، ج 3، ص: 136
البَصَر» هو النظر الدقيق والعميق، والمخاطب في هذه الآية وإن كان هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ولكن من الواضح أنّ المراد هم البشر جميعاً، وتضيف الآية: «ثمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتين يَنْقَلِبْ الَيْكَ البَصرُ خَاسِئاً وهُوَ حَسِيرٌ» «1».
بهذا الاسلوب يقوم القرآن الكريم وبتعابير مختلفة بدعوة البشر إلى النظر في عالم الوجود ولا يكتفي بالدعوة بل يرغبهم ويحرّكهم ويحرّضهم على هذا العمل، كي يعلموا أنّهم لا يجدون خللًا أو نقصاً فيه، وعندما لا يرون ذلك فسوف يتعرّفون على حقيقة توحيد المُبدى ء والوحدانية ويردّدون جملة (لا إله إلّااللَّه) قلباً ولساناً.
هناك نقطة جديرة بالإهتمام وهي أنّ (نفي الاختلاف) من بين الموجودات في العالم والذي ورد في الآية أعلاه يعني حسب اعتقاد البعض: نفي العيب والنقص، وقد فسّره البعض بمعنى نفي عدم الإنسجام، وفسّره آخرون بنفي الإضطراب والتزعزع، وبعض بنفي الإعوجاج، وبعض بنفي التناقض، في حين أنّ الآية لها مفهوم واسع يشمل كلّ هذه المعاني (هذه المفردة مشتقّة من (فوت) لأنّ المتفاوتين يفقد كلّ منهما الصفات المختصّة بالآخر).
الآية الثانية تعرض هذا المضمون في إطارٍ آخر وصورةٍ اخرى حيث تقول: «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ» «2».
وفي التعبير ب «من الأرض» إشارة لطيفة
وهي أنّهم (أي المشركون) كانوا يصنعون
__________________________________________________
(1) «ارجع البصر» كناية عن النظر المتكرّر والمقرون بالدقّة والإهتمام، و (خاسي ء) من (خسئاً) ويعني الانقباض والإنغلاق المقرون بالذلّة ويمكن أن يكون هنا كناية عن الحرمان والفشل، و (حسير) من (حسر) ويعني الضعف وافتقاد القدرة وتعني في الأصل: الاختفاء، وبما أنّ الشي ء إذا ضعف فإنّه يتجرّد عن قدرته وطاقته وقد استعمل هذا اللفظ بمعنى الضعف.
(2) لفظ (أم) في الآية- كما يقول جمع من المفسّرين- منقطعة وتعني (بل)، في حين اعتقد البعض بأنّها بمعنى هل الإستفهامية، وبما أنّ المشركين لم يدّعوا أنّ الأصنام خالقة، كان بمعنى الإستفهام الإنكاري أكثر مناسبة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 137
آلهتهم من الحجر والخشب والمعادن وهي موجودات أرضية، فهل بإمكان هذه الموجودات أن تكون خالقة للسماوات الواسعة وأن تكون الحاكمة والمدبّرة والمديره لها؟!
ثمّ تضيف الآية في مقام الاستدلال على بطلان عقيدتهم: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا».
«فساد»: يعني في الأصل- كما يقول الراغب في المفردات: خروج الشي ء عن حدّ الإعتدال كثيراً أم قليلًا، في الروح أو الجسم أو الأشياء الاخرى في العالم، ويقابله (الصلاح).
و (الفساد) هنا يعني الدمار والخراب واللانظام والهرج والمرج ....
وتضيف الآية في آخرها- كاستنتاج: «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ».
وخلاصة الاستدلال هي: لو تعدّد المدير والمدبّر والخالق والحاكم والمتصرّف في هذا العالم فإنّ العالم لا يمكن أن يتّسم بالنظام والتناسق، وذلك لانتهاء التعدّد في الآلهة إلى تعدّد التدبير والتصرّف، وبذلك يختلّ عالم الوجود ويتعرّض للفساد والدمار حيث يريد كلّ واحد منهما تطبيق نظام العالم على مشيئته وإرادته.
وهنا يرد هذا الإشكال المعروف وهو: ما المانع من تعاضد الآلهة الحكمية فيما بينها لإيجاد نظام واحد منسجم؟ والإجابة على ذلك ستأتي في
الإيضاحات بإذن اللَّه.
الآية الثالثة والأخيرة التي نبحثها تقدّم هذا البرهان في إطار جديد حيث تقول: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ».
ولو كان كذلك فإنّ كلّ إله ينفرد بمخلوقاته الخاصّة ويفرض عليها تدبيره وتصرّفه الخاصّ، وسوف تكون الأنظمة المختلفة والقوانين اللامنسجمة هي الحاكمة على العالم، وسيكون هو السبب في وانهيار الوحدة والتعادل في العالم: «إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ».
ويكفي هذا الدليل على إثبات وحدانيته تعالى حيث يتألّف من المقدّمتين المشار إليهما سالفاً وهما: إنَّ عالم الوجود منظم ومترابط الأجزاء وتحكمه قوانين معيّنة (هذا من جهة)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 138
ولو كان في العالم خالقان ومدبّران ومتصرّفان لحصل الخلل وعمّت الفوضى نتيجة لتعدّد مراكز القرار والتدبير والتصرّف (من جهة ثانية).
والآية تشير في ذيلها إلى أمر آخر بقولها: «وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ».
ويعدّ هذا سبباً في اختلال النظام في العالم واتّصافه بالفوضى وعدم الإنسجام.
وهنا- أيضاً- يثار هذا الإشكال في الأذهان وهو: أنّ هذه الآلهة الحكيمة بإمكانها أن تنسّق برامجها فيما بينها بشكل لا يعرّض وحدة العالم إلى الإختلال وفقد النظام، وسيأتي- كما أسلفنا- الجواب على هذا الإشكال في البحوث القادمة.
وتستنتج الآية الكريمة أخيراً من هذين الدليلين حيث تقول في ذيلها: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصفُونَ».
عندما نلاحظ هذا العالم الواسع نراه على شكل موجودات متفرّقة: الشمس، القمر، السماء، النجوم الثابتة والمتحرّكة، الإنسان، الحيوانات، أنواع النباتات والعناصر المختلفة، ولكن بعد قليل من الدقّة والدراسة نجد أنّ ذرّات هذا العالم مترابطة ومتّصلة الأجزاء حتّى تبدو وكأنّها شي ء واحد، وكلّما تعمّقت دراستنا وتركّزت إزددنا إيماناً بهذا التنسيق والإتّحاد للأسباب التالية:
1- إنّ أجرام المجموعة الشمسية مترابطة فيما بينها إلى حدّ تكون فيه كاسرة واحدة كما هي عليه نظريات العلماء
التي تعتقد أنّها كانت في البداية شيئاً واحداً متّصل الأجزاء ثمّ انفصلت تدريجيّاً وبقيت مترابطة حتّى بعد افتراقها.
وتقول الأبحاث الفلكية في هذا المجال: إنّ مجموعتنا الشمسية غير مستقلّة أيضاً، حيث إنّها جزء من مجرّة كبيرة تشكّل مع المجرّات الاخرى مجموعة واحدة يعمل فيها
نفحات القرآن، ج 3، ص: 139
قانون الجاذبية حيث يجعلها كسلسلة مترابطة الحلقات كما يعتقد العلماء بأنّ هذه المجرّات كانت بأجمعها شيئاً واحداً متّصلًا فانفصلت أجزاؤها تدريجاً.
2- الأجسام المختلفة والمتباينة تماماً تتركّب- كما يبدو بالتحليل النهائي لها- من عدد من العناصر المعيّنة وهي تلك- الموجودات البسيطة التي اكتشف منها أكثر من 100 عنصر لحدّ الآن، وهذه العناصر رغم اختلافها الشديد في الظاهر نراها عند تحليلها إلى أجزاء صغيرة- أي الذرّة- أنّها متشابهة والفارق فيها هو عدد الألكترونات والبروتونات.
3- من العجيب أن يكون النظام الحاكم على هذه الذرّة هو الحاكم على العالم الواسع أي المجموعات والمجرّات أيضاً حيث تجمع قوّة الجذب والطرد هذه السيارات في مجموعة واحدة أو الالكترونات في ذرّة واحدة وفي مدارات خاصّة تدور حول النواة الأصلية دون أن تنفصل عن بعضها أو تتجاذب فيما بينها.
4- الكائنات في الأرض وإن بدت لنا متنوّعة، كما في الألوان التي نشاهدها شديدة الاختلاف فيما بينها إلّاأنّنا وبالتحليل النهائي نصل إلى أنّ كلّ الألوان ترجع إلى أمواج تختلف في شدّة ذبذبتها وطول أمواجها وقصرها.
5- إنّنا نسمع أصواتاً مختلفة تماماً، ولكن علم الفيزياء الحديث يقول: بأنّ هذه الأصوات كلّها، الجميلة منها والقبيحة، الخفيفة والصاخبة ترجع إلى مُبدى ء واحد هو عبارة عن أمواج خاصّة تنشأ هذه الأنواع من اختلاف الذبذبة فيها.
6- للأحياء أنواع كثيرة جدّاً، فالحشرات وحدها لها مئات الآلاف من الأنواع، والنباتات لها أنواع تفوق ذلك، غير أنّ
علماء النبات والحيوان يقولون: إنّها مركّبة من مادّة واحدة، ومؤلّفة من الخلايا التي يحكمها نظام واحد، ولذا تجرّب الأدوية التي يراد معرفة درجة تأثيرها في الإنسان على الحيوانات أوّلًا في الغالب.
7- توصّل العلماء من خلال تحليل النور المنبعث من الكواكب البعيدة والقريبة إلى هذه النتيجة وهي: أنّ العناصر التي تتركّب منها الكواكب السماوية تشابه الأجزاء التي تتركّب منها كرتنا الأرضية، وهذا يعني وجود تناسق عجيب حاكم على مجموعة الأجرام والنجوم في الكون.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 140
8- القوانين المختلفة التي تحكم الكون مثل، قانون الجاذبية، وسرعة النور، وقانون الحركة وأمثالها توجد بنفسها في كلّ مكان وتتبع منهجاً واحداً، ولذا فإنّ العلماء وبإجراء تجارب على نموذج واحد أو عدّة نماذج في الأرض اكتشفوا قانوناً شاملًا يحكم عالم الوجود كلّه، كما نجد أنّ «نيوتن» اكتشف قانون الجاذبية الساري في كلّ المجموعات والمجرّات من رؤية تفاحة تسقط من شجرة!
وباختصار، كما قرأنا في الآية الاولى من آيات هذا البحث، أنّنا لا نرى أي اختلاف في خلق الرحمن ولا فطور أو خلل، وكلّما تقدّم العلم والفكر البشري كلّما تجلّت عظمة هذه الآية وعمقها أكثر فأكثر، وهذا التناسق والوحدة دليل واضح على وحدة الخالق للعالم.
إنَّ برهان التمانع الذي يعبّر عنه ب (برهان الممانعة) أو (برهان الوحدة والتناسق) يتألّف من مقدّمتين:
الاولى: الإنسجام والوحدة والتناسق في عالم الخلق الذي تقدّم بحثه.
الثانية: لو كانت القوى الحاكمة على هذا الكون قوّتين أو أكثر فإنّ ذلك سيؤدّي إلى حدوث الاختلاف والإختلال، وبما أنّنا لا نلاحظ أي اختلال أو عدم تعادل في هذا الكون والقوانين الحاكمة فيه، ندرك أنّها تنشأ من مُبدى ء واحد وأنّها مخلوقة ومدبّرة ومنظّمة من خالق واحد.
الآية الاولى من بين الآيات السابقة تشير
في الحقيقة إلى المقدّمة الاولى، والآية الثانية والثالثة تشيران إلى المقدّمة الثانية، ولذا قد يطلق على هذا البرهان: (برهان الوحدة والتناسق) بالنظر إلى المقدّمة الاولى.
وقد يعبّر عنه ب (برهان التمانع) بالنظر إلى المقدّمة الثانية، وبناءً على ذلك فإنّهما يرجعان إلى دليل واحد، غير أنّ النظر إليه يتمّ من زاويتين مختلفتين.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 141
السؤال الأوّل: إنَّ هذا السؤال يُطرَحُ من قبل الكثير وهو أنّ تعدّد المبدأ لا يكون سبباً لاختلال النظام دائماً فإنّا نشاهد مجموعات تطبّق برنامجاً صحيحاً ومتناسقاً بنجاح وذلك بالتشاور فيما بينها، فلو افترضنا أنّ للعالم آلهة فإنّ التعدّد هذا يكون منشأ للفساد في العالم حين وقوع النزاع فيما بينها، ولكن إذا أقررنا أنّها حكيمة وواعية فإنّها تدبّر امور الكون بنظام خاصّ وبتعاون فيما بينها حتماً.
الجواب: هذا السؤال والإشكال وإن كان ملفتاً للنظر ابتداءً ولكنّه يتّضح بعد التدقيق أنّه ناشي ء من عدم ملاحظة مفهوم (التعدّد).
وللتوضيح نقول: إنّنا عندما نقول آلهة متعدّدة فإنّها تعني أنّها ليست واحدة من كلّ جهة، فلو كانت واحدة من جميع الجهات فإنّها تكون ذات وجود واحد، وبعبارة اخرى: أينما وجد التعدّد والإثنينية وجب أن نقرّ بوجود اختلاف في الأمر، وإلّا فإنّه من المستحيل أن يكون الموجودان واحداً من جميع الجهات.
ومن جهة اخرى يوجد (تناسب) و (سنخية) بين (الفعل) و (الفاعل) دائماً، فكلّ فعل يكون من آثار فاعله ويتّصف بلونه- شِئنا أم أبينا- وبهذا يستحيل أن يصدر فعلان من فاعلين ثمّ يكونان واحداً من جميع الجهات، كما يستحيل أن يكون الفاعلان متساويين من حيث الإرادة والعمل، واختلافهما في الوجود يترك أثره على إرادتهما وعملهما حتماً.
النتيجة هي أنّه لا يمكن أن يصدر نظام واحد وخال من الإثنينية من مبدأ
متعدّد.
وأمّا ما يقال عن الأعمال الجماعية فلابدّ أن نلتفت إلى أنّ هذه الأعمال وإن اتّصفت بنظام نسبي إلّاأنّها لا تتّصف بنظام حقيقي ومطلق حيث يتنازل المتشاورون عن بعض آرائهم ورغباتهم للتعاون فيما بينهم لا أنّ رغباتهم وآراءهم واحدة دائماً، إضافة إلى أنّ الأنظمة القائمة على الشورى قليلًا ما تعمل بصورة متّفقة، بل إنّها تتّبع النسبة الغالبة عادةً وهذا دليل على صحّة ما ندّعيه.
إضافةً إلى أنّ هذه الغالبية لا تكون أشخاصاً ثابتين دائماً بل متغيّرين، فتارةً تكون
نفحات القرآن، ج 3، ص: 142
الغالبية أربعة أشخاص من سبعة أشخاص، وتارة أحد هؤلاء مع ثلاثة آخرين، وبما أنّ الغالبية متغيّرة فلا يمكن إذن أن تكون أعمالها واحدة.
بهذه الأدلّة الثلاثة تتّصف هذه الأنظمة القائمة على الشورى بشي ء من عدم الانسجام ولكنّها بسبب القناعة بالنظام النسبي يقال أنّها منظمة! لكنّنا لا نرى في عالم الوجود نظاماً نسبياً بل نظاماً واحداً وانسجاماً كاملًا وتامّاً.
وبعبارة اخرى: لو افترضنا وجود مبدأين للكون فإنّهما إمّا متساويان من جميع الجهات (فهما إذن واحد) أو مختلفان ومتباينان من جميع الجهات (حينئذٍ يكون تقابل في خلقهما وتدبيرهما) ولو كانا متشابيهن من بعض الجهات ومختلفين في البعض الآخر فإنّ هذا الاختلاف والتمايز سوف يترك أثره على أفعالهما لأنّ الفعل انعكاس لوجود الفاعل وظلّ وجوده.
السؤال الثاني: ويطرح هنا سؤال ثانٍ بملاحظة جملة (ولعلا بعضهم على بعض) التي جاءت في الآيات المذكورة وهو: كيف يمكن وقوع النزاع بين آلهة يفترض أنّها حكيمة؟
ويميل بعضها للتغلّب على البعض الآخر؟ ولماذا يفترضهما المفسّرون كسلطانين أنانيين في زمن واحد يتنازعان بصورة دائمة لتضارب المصالح؟
الجواب: ينشأ هذا السؤال من أنّهم تصوّروا أنّ الاختلاف بين المبدأين يجب أن ينشأ من هوى النفس والأنانية دائماً، في حين
يمكن أن ينشأ الاختلاف من الاختلاف في التشخيص والقرار والإرادة بين شخصين مهما كانا.
ويلزم أن نكرّر هذه الحقيقة ونؤكّد عليها وهي: أنّنا حينما نفترض وجود مبدأين للكون فإنّ الإثنينية تعني أنّهما وجودان مختلفان من بعض الجهات حتماً وإلّا فإنّ وجودهما واحد، وبهذا لا يمكن أن يكون فعلهما واحداً وعليه فإنّ هذا الإله يجعل تكامل الكون ونظامه وتدبيره الصحيح في شي ء في حين يجعل الثاني النظام والتكامل في شي ء آخر، ومن الخطأ الكبير أن يتصوّر أنّهما كاملان من جميع الجهات، فإنّ افتراض الإثنينية يعني
نفحات القرآن، ج 3، ص: 143
افتقاد كلّ واحد منهما كمالات الآخر المختّصة به، فلا يتصوّر لهما حينئذٍ الكمال المطلق، بل إنّ نقصانهما النسبي حتمي، فلا عجب في أن يختلفا في العمل والإرادة والقدرة، ورغبة كلّ واحد في إدارة الكون وفق ما يراه فيضاً كاملًا.
لقد ورد الدليل أعلاه بشكل واضح ومختصر في الروايات الإسلامية، حيث جاء في حديث أنّ هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق عليه السلام: ما الدليل على أنّ اللَّه واحد؟
فأجاب الإمام عليه السلام: «اتّصال التدبير وتمام الصنع كما قال اللَّه عزّوجلّ: لو كان فيهما آلهة إلّا اللَّه لَفَسدتا» «1».
وفي حديث آخر نقله الكليني رحمه الله في الكافي عن هشام أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال في مسألة التوحيد جواباً للرجل الزنديق: «لمّا رأينا الخلق منتظماً والفلك جارياً والتدبير واحداً والليل والنهار والشمس والقمر دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد» «2».
__________________________________________________
(1) تفسير البرهان، ج 3، ص 55، ح 2.
(2) المصدر السابق، ح 1.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 145
إنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يمثل وجوداً لا نهاية له من كلّ جهة- كما سيأتي شرحه لاحقاً- ومن المؤكّد أنّ مثل هذا الوجود لا سبيل للإثنينية إليه، فمن غير الممكن وجود موجودين لا نهائيين، لأنّ الحديث إذا كان عن الإثنينية فإنّ كلّ واحد يكون فاقداً للوجود الثاني وبتعبير آخر أنّنا نصل إلى حدّ ينتهي فيه الوجود الأوّل ويبدأ وجود الثاني، وعليه فإنّ الوجود الأوّل محدود وهكذا الوجود الثاني لأنّ كلّ واحد يكون ذا بداية ونهاية، ولنوضّح هذه القضيّة بمثال:
شخصان يملك كلّ واحد منهما بستاناً، ومن الطبيعي والحتمي أنّ لكلّ بستان حدوداً معينة، ولو فرضنا أنّ مساحة البستان الأوّل تشمل كلّ الأرض فأين تكون مساحة البستان الثاني؟ إذن، سيكون أمامنا بستان واحد في الأرض.
وعليه فإنّ الحديث عن اللامحدود يعني الحديث عن الوحدة.
والمراد من برهان (صرف الوجود) هو أنّ اللَّه سبحانه وجود مطلق ومجرّد عن القيد والشرط وغير محدود، ولا يفترض الثاني له أبداً.
بهذا التمهيد نتوجّه
إلى القرآن الكريم ونستمع خاشعين إلى الآيات التالية:
1- «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزيزُ الحَكِيمُ». (آل عمران/ 18)
2- «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ يُحْىِ وَيُميتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدْيرٌ* هُوَ الأَوّلُ
نفحات القرآن، ج 3، ص: 146
والآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ». (الحديد/ 2- 3)
3- «يَاصَاحِبَي السِّجنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ». (يوسف/ 39)
تمّ تفسير آية البحث الاولى في مباحث (برهان الصدّيقين) السالفة ونمرّ عليها هنا باختصار.
إنَّ مضمون هذه الآية هو أنّ اللَّه عزّوجلّ يشهد على وحدانيته وكذلك الملائكة والعلماء (كلّ واحد بشكل): «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ».
ومن علامات وحدانية ذاته المقدّسة هي حاكمية النظم والعدل على الكون، ولعلّ الآية تشير إلى هذا الجانب في ذيلها: «قَائِماً بالْقِسْطِ» ثمّ تستند إلى وحدانية ذاته المقدّسة مرّة اخرى وتقول: «لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ».
ومن البديهي أنْ لو كانت ثمّة آلهة تحكم الكون، فإنّ منطقة كلّ إله لا تكون في اختيار الثاني، وبتعبير آخر يكون كلّ واحد فاقداً لقدرة الثاني، وهذا لا ينسجم اتّصافه ب (العزيز).
كما أنّ حكمته التي تحكم العالم آية اخرى على وحدانيته، فلو تعدّدت الأكوان كانت نهايتها الفساد والدمار.
أمّا كيفية شهادة الملائكة بوحدانية اللَّه عزّوجلّ فإنّها واضحة، ولكن هناك كلام بين المفسّرين حول كيفية شهادة اللَّه على وحدانية ذاته، فبعض يقول: المراد هو الشهادة اللفظية التي وردت في آيات قرآنية مختلفة، وبعض يقول: إنّ آثار وحدانيته ظاهرة في عالم الوجود في الآفاق والأنفس لأنّ النظام الوحد هو الحاكم على الجميع وهذا هو معنى شهادة اللَّه على وحدانيته.
إنَّ كلّ ذلك صحيح، ولكن تضاف إليها شهادة اخرى وتستحقّ التفصيل فيها
وهي أنّ ذاته المقدّسة بنحو يأبى التعدّد، وجود لا نهاية له، والوجود اللانهائي واحد فقط، فذاته إذن دليل
نفحات القرآن، ج 3، ص: 147
على وحدانية ذاته (فتأمّل جيّداً).
ولا منافاة- طبعاً- بين التفسيرات الثلاثة ويمكن أن تكمن في مفهوم الآية، وعليه فإنّ إصرار بعض المفسّرين مثل صاحب (الميزان) في أنّ تفسير الآية ينحصر في المعنى الأوّل (الشهادة اللفظية) مع ملاحظة إطلاق لفظ الآية ممّا لا يوجد دليل واضح عليه.
أمّا السبب في تكرار جملة (لا إله إلّااللَّه) في الآية، فالظاهر هو أنّ الأولى بمثابة المقدّمة، والثانية النتيجة، ولعلّ في الرواية التي وردت في تفسير القرطبي (المفسّر السنّي المعروف) عن الإمام الصادق عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث يقول فيها: الاولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم يعني «قولوا لا إله إلّااللَّه العزيز الحكيم» «1».
الآية الثانية وهي من الآيات الاولى من سورة الحديد- ونعلم أنّ هذه الآيات تتضمّن بياناً دقيقاً وظريفاً عن صفات اللَّه الجمالية والجلالية لذوي الأفكار الثاقبة، كما يستفاد من الحديث الوارد عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام- يقول عزّ وجلّ: «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ» «2»
ولذلك فإنّ الحياة والموت في قبضته أيضاً: «يُحْى وَيُميتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَى ءٍ قَدْيرٌ».
وعليه فإنّ المدير والمدبّر لهذا الكون هو ذاته المقدّسة فقط.
وفي ذيل الآية توجد قضيّة يمكن أن تكون دليلًا على التوحيد في مالكيته وحاكميته وتدبيره حيث تقول: «هُوَ الأَوّلُ والآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَى ءٍ عَليمٌ».
في هذه الآية بيان لخمس صفات من صفاته المقدّسة وتدلّ بمجموعها على أنّ ذاته المقدّسة لا نهاية لها، فهو أوّل كلّ شي ء، وآخر كلّ شي ء، وهو الموجود في الظاهر والباطن،
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي، ج 2، ص 1285.
(2) لاحظ أنّ في
تقديم (له) إشارة إلى الحصر، ويعني أنّ ملك السماوات والأرض منحصر في ذاته المقدّسة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 148
وله الحضور العلمي في كلّ مكان، وأنّ مثل هذا الموجد لا يتصوّر أنْ يكون له ثانٍ، فلو كان الإله الثاني موجوداً فإنّه يعني أنّ الإثنين محدودان وذلك لانتهاء كلّ واحد عندما يصل إلى الآخر، ويبدأ الثاني.
إذن عدم محدوديته دليل على وحدانيته.
يقول الفخر الرازي في تفسيره: استدلّ الكثير من العلماء على إثبات وحدانيته بعبارة:
(هو الأوّل) «1».
وقد كثر الكلام حول مفهوم (الأوّل والآخر والظاهر والباطن) وستأتي لاحقاً أبحاث الصفات الثبوتية بإذن اللَّه، وينبغي أن نذكر هنا هذه النقطة وهي: أنّ الأوّل في الموجودات المحدودة لا يمكن أن يكون آخراً وما كان آخراً لا يكون أوّلًا، كما أنّ الوجود الظاهر لا يكون باطناً، والوجود الباطن لا يكون ظاهراً، وعندما يكون الحديث عن اللامحدود فإنّ هذه المفاهيم تكون مجتمعة فيه.
الآية الثالثة والأخيرة التي وردت في بحثنا تتحدّث عن لسان يوسف عليه السلام عندما فسّر للسجينين معه مناميهما بعد أن طلبا التفسير منه وتشير إلى أنّ يوسف عليه السلام عرج من كلامه عن الحلم وتفسيره إلى البحث عن التوحيد الذي يتضمّن أصل السعادات برمّتها وقال لهما:
«يَاصَاحِبَى السِّجنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهّارُ».
والملاحظ أنّ صفة (قهّار) قد تكرّرت في القرآن الكريم ستّ مرّات «2» وقد وردت في كلّ مورد بعد الصفة (واحد) ممّا يدلّ على وجود علاقة بينهما وأنّ قاهريته دليل على وحدانيته (فتأمّل جيّداً).
قام يوسف عليه السلام بطرح المسألة أوّلًا على وجدانيهما، وبما أنّ حقيقة التوحيد- كما أشرنا سالفاً- كامنة في أعماق الفطرة الإنسانية فقد أقام المحكمة بين يدي الوجدان وسأل:
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 213
(وجاء هذا المضمون في تفسير روح البيان، ج 9، ص 347 أيضاً).
(2) الرعد، 16؛ إبراهيم، 48؛ ص، 65؛ الزمر، 4؛ غافر، 16 وآية البحث.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 149
أأرباب متفرّقون، إله البحر، إله الصحراء، إله الأرض، إله السماء، إله الماء، إله النار، وهكذا الملائكة والجنّ والفراعنة والأصنام الحجرية والخشبية والمعدنية التي تعبدونها خير أم اللَّه الواحد المهيمن على كلّ شي ء؟ وكلمة (قهّار) صيغة مبالغة من (القهر) ويعني كما يقول الراغب في المفردات: الغلبة وإذلال الطرف المقابل، ولكن هذا اللفظ يستعمل في كلّ واحد من هذين المعنيين (الغلبة والإذلال) مستقلًا، وكما يقول الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان:
«القاهر هو القادر الذي لا يمتنع عليه شي ء» «1»، من هنا تتّضح العلاقة بين صفة الوحدة والقاهرية، فحينما نذعن بقدرته الغالبة على كلّ شي ء أي أنّها غير محدودة فإنّنا لا نتصوّر له ثانياً، لأنّ كلّ ما سواه مغلوب له ومقهور، ولذلك لا يمكن أن يكون ما سواه واجب الوجود وغير محدود (فتأمّل جيّداً).
القضيّة الاولى والأكثر أهمّية في باب (صفات اللَّه) الواجب إثباتها لإيضاح مسألة التوحيد وصفات اللَّه الاخرى كالعلم والقدرة وأمثالها هي أنّ ذاته المقدّسة لا متناهية، فإن ثبتت هذه القضيّة وفُهمت جيّداً تيسّر الطريق إلى جميع الصفات الجمالية والجلالية (الصفات الثبوتية والسلبية).
ولإثبات هذا الأمر وهو أنّه تعالى وجود لا نهاية له، لابدّ من ملاحظة النقاط التالية:
أ) محدودية الوجود تعني التقارب مع (العدم) فلولا العدم لا يستقرّ مفهوم للمحدودية، فعندما نقول: إنّ عمر فلان محدود فإنّه يعني أنّ عمره سينتهي إلى العدم ومقرون بالعدم، وهكذا بالنسبة لمحدودية القدرة أو العلم وأمثالها.
ب) الوجود ضدّ العدم ولو كان الشي ء مقتضياً للوجود ذاتاً فإنّه لا يقتضي العدم أبداً.
ج) ثبت
في برهان العلّة والمعلول أنّ سلسلة العلّة والمعلول في هذا الكتاب يجب أن
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 403.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 150
تنتهي إلى نقطة ثابتة وأزلية نسمّيها واجب الوجود، أي وجوده ناشي ء من أعماق ذاته لا خارجها، وعليه تكون العلّة الاولى للكون تقتضي الوجود ذاتاً.
أعِد قراءة هذه المقدّمات الثلاث بدقّة وفكّر فيها جيّداً، فسوف يتّضح أنّ واجب الوجود إذا تحدّد فإنّه يجب أن يكون من الخارج، لأنّ المحدودية طبق هذه المقدّمات تعني الاقتران بالعدم، والشي ء المقتضي للوجود ذاته لا يقتضي العدم أبداً، ولو اتّصف بالمحدودية فإنّه راجع إلى عامل خارجي، ويستلزم هذا القول أنّه ليس واجب الوجود لأنّه مخلوق لغيره من حيث حدّه الوجودي ومعلول لغيره.
وبعبارة اخرى: لدينا واجب الوجود دون شكّ (لأنّ البحث في التوحيد والوحدانية بعد إثبات واجب الوجود) فإن كان واجب الوجود غير محدود فمدّعانا ثابت، وإن كان محدوداً فإنّ هذه المحدودية ليست مقتضى ذاته أبداً، لاقتضاء ذاته الوجود دون اقتران بالعدم، فلابدّ من فرضه عليه من الخارج، ومفهوم هذا الكلام هو وجود علّة خارج ذاته وهو معلول تلك العلّة، وبهذا الحال لا يكون واجب الوجود، والنتيجة هي أنّه وجود غير محدود من كلّ جهة.
ثبت في البحث السابق أنّ اللَّه عزّ وجلّ وجود غير محدود وغير متناهٍ، وهنا نقول: أنّ مثل هذه الحقيقة تأبى الإثنينية ولا تكون إلّاواحدة لما قلنا مراراً أنّه لا يمكن تصوّر شيئين غير محدودين أبداً، حيث تقترن الإثنينية بالمحدودية دائماً وهذا أمر واضح لأنّ تصوّر الوجودين ممكن حينما يكون كلّ وجود منفصلًا عن الآخر، فكلّ واحد ينتهي عند الوصول إلى الثاني ويبدأ الآخر.
واختبار هذا الأمر يسير، تصوّر على سبيل المثال ضوءاً غير
مقيّد أو مشروط بزمان أو مكان أو سعة أو مصدر وغير محدود من أيّة جهة، فهل يمكنك أن تتصوّر ضوءاً ثانياً مثيلًا له؟! فبالتأكيد سيكون الجواب: كلّا، لأنَّ كلّ ما تتصوّره هو الأوّل إلّاأن تضيف إليه شرطاً أو قيداً وتقول: الضوء هنا أو هناك من هذا المصدر أو ذاك.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 151
وبعبارة اخرى عندما نقول: يوجد ضوءان في الخارج فإنّه إمّا بملاحظة زمانيهما أو مكانيهما أو مصدريهما أو شدّة نوريهما، ولو تجرّدا من كلّ قيد أو شرط فإنّهما سيكونان واحداً قطعاً (فتأمّل جيّداً).
ولعلّ الآية الكريمة التي تقول: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ الَهاً آخَرَ لَابُرهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّه لَايُفلِحُ الكَافِرُونَ». (المؤمنون/ 117)
تشير إلى هذا المعنى حيث لا يمكن الاستدلال على وجود ندٍّ للَّه سبحانه أبداً، فكيف يمكن الاستدلال على أمرٍ لا يمكن تصوّره؟
إنَّ البرهان المذكور نقل بقول جميل في رواية عن الإمام السجّاد عليه السلام حيث قال: «إنّ اللَّه لا يوصف بمحدودية، عظُم ربّنا عن الصفة وكيف يوصف بمحدودية من لا يُحد» «1».
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الرضا عليه السلام: «هو أجلّ من أن تدركه الأبصار أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل» فسأل سائل: فما حدّه؟ فقال عليه السلام: «إنّه لا يحدّ، قال: لِمَ؟ قال عليه السلام:
لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ، فإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد ولا متجزّى ء ولا متوهّم» «2».
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 100، باب النهي عن الصفة، ح 2.
(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 15، ح 1.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 153
(دعوة الأنبياء جميعاً إلى اللَّه الواحد)
إنَّ اللَّه سبحانه وجود كامل، ومثل هذا الوجود يكون مصدراً للفيض على الموجودات وكمالها، فهل يعقل أنَّ مصدر الكمال يحرمُ الموجودات الاخرى من فيضه ولا يعرّفهم- على الأقل- نفسه؟ مع أنّ هذه المعرفة سبب لرقيّهم وكمالهم يدفعهم نحو ذلك الوجود الكامل والفيّاض.
وعلى ضوء هذا البيان يتّضح أنّه لو كان هناك عدّة آلهة لوجب أن يكون لكلّ إله منهم رسل، وأن يعرّف نفسه إلى مخلوقاته، وأن يشملهم بفيضه التكويني والتشريعي.
والنتيجة هي: أنّنا لو وجدنا أنّ الرسل بأجمعهم يخبرون عن إله واحد، لاتّضح أنّ غيره لا وجود له.
بهذا التمهيد نرجع إلى القرآن الكريم ونمعن خاشعين في الآيات الكريمة التالية:
1- «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».
(الأنبياء/ 25)
2- «وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ».
(الزخرف/ 45)
3- «قُلْ أَرأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دوُنِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّماواتِ ائْتُونِى بِكِتابٍ مِّنْ قَبلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُم صَادِقينَ». (الأحقاف/ 4)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 154
إنَّ الآية الاولى في بحثنا هذا تشير إلى تاريخ الماضين من الأنبياء وتقول: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».
أجل فإنّ الأنبياء عليهم السلام جميعاً كانوا ينادون بالتوحيد ويدعون الناس إلى اللَّه الواحد ويشهد تاريخهم بهذا الأمر، فكيف يعقل أن يكون للشرك حقيقة وجميع الأنبياء يدعون إلى التوحيد؟!
فهل كان هناك إله آخر ولكنّه لم يعرّف نفسه؟ أو أنّ الرسل قصّروا في إبلاغ أمره؟ والعقل السليم لا يُقرّ بقول من هذه الأقوال.
وكما يقول بعض المفسّرين: يقوم القرآن الكريم في آيات هذه السورة (الأنبياء) بالاستدلال العقلي
أوّلًا لإثبات التوحيد: «لَو كَانَ فِيهِمَا آلهةٌ إِلَّا اللَّهُ ...»، ثمّ بالدليل النقلي (آية البحث) حيث دعا جميع الأنبياء الماضين إلى التوحيد «1».
أمّا الآية الثانية فهي: تطرح هذا المضمون في إطار آخر حيث تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (المراد هم الناس طبعاً) وتقول: «وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ منْ رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحمنِ آلِهَةً يُعْبَدوُنَ».
وقد احتمل المفسّرون عدّة احتمالات في كيفية أمر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بأن يسأل الأنبياء السابقين مع عدم حضور أحدهم في عصره، فقد قال البعض: إنّ المراد هو السؤال من الامم السابقة كي تثبت القضيّة عن طريق الخبر المتواتر، فالامم حتّى التي تعتقد بالتثليث وأمثاله، عندما تسأل عن ذلك فإنّها تعلن عن اعتقادها بالتوحيد وتعبِّر عن ذلك ب (التثليث في الوحدة).
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي، ج 6، ص 4320.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 155
وهذه الآية تعطي- في الحقيقة- مفهوم الآية التالية حيث خاطبه تعالى بقولِهِ: «فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ». (يونس/ 94)
وقد احتمل هذا أيضاً وهو: أنّ المراد هو مراجعة كتبهم المتبقّية في اممهم، فإنّ استخراج القضايا منها بمثابة السؤال عن اولئك الأنبياء.
وقال جماعة أيضاً: إنّ المراد هو سؤال النبي صلى الله عليه و آله من أرواح الأنبياء عليهم السلام السابقين ليلة المعراج بل في غير ليلة المعراج، لأنّ روح نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من العظمة ما لا يعيقها البعد الزمني والمكاني فكان بإمكانه أن يتّصل بأرواح الأنبياء السابقين.
وبما أنّ الهدف الرئيس من الآية هو الاستدلال أمام المشركين، فقد كان المعنى الأوّل والثاني هو المناسب وذلك لأنّ الإرتباط المعنوي للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع أرواح الأنبياء السابقين لم
يتقبّله المشركون وكان مفيداً للنبي صلى الله عليه و آله نفسه، وإنّا نعلم أنّ إيمان النبي بالتوحيد كان بدرجة لا يحتاج فيها إلى طرح مثل هذا السؤال نفسه.
والتفسير الثالث يمكن أن يكون من التفسير الباطني للآية وقد تضمّنت روايات متعدّدة الإشارة إلى ذلك «1».
على كلّ حال فإنّ المراد هو أنّ دعوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله إلى التوحيد ليس أمراً جديداً أو عجيباً بل أمر قد اتّفق عليه جميع الأنبياء الإلهيين وهذا بنفسه دليل واضح على قضيّة التوحيد.
والاستناد إلى الاسم المقدّس (الرحمن) في هذه الآية إشارة إلى أنّ من يستحقّ العبودية هو الإله الذي تشمل رحمته العامّة حتّى الكافرين المشركين والبشر جميعاً، فكيف يمكنهم أن يتركوا ولي نعمتهم الذي غمرهم إحسانه ويتوجّهوا إلى الأصنام الخاوية؟
إنَّ الآية الثالثة والأخيرة ضَمَّت الدليل النقلي المذكور إلى جانب دليل عقلي آخر إذ
__________________________________________________
(1) تفسير البرهان، ج 4، ص 147؛ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 606- 607.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 156
تقول: «قُلْ أَرأَيتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّماواتِ».
فلو كانت تلك المعبودات معبودات حقيقيّة فإنّها ينبغي أن تكون مبدأً للفيض، وعلى الأقل أن تخلق قسماً من الأرض وتساهم في خلق السماوات، فهل يعقل أن يكون الإله فاقداً للفيض؟
ومن جهة اخرى: أي نبي دعا الناس إلى آلهة متعدّدة؟: «ائتُونِى بِكِتَابٍ مِنْ قَبلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُم صادِقينَ».
وهذا التعبير يشير إلى أنّ الأنبياء عليهم السلام أجمعوا على التوحيد، وهذا الإجماع أو الاتّفاق دليل واضح على القضيّة، وبهذا يكون كتاب الخلق دليلًا على التوحيد وكذلك كتب الأنبياء السابقين.
«أثارة من علم»: من مادّة (أثر) ولهذا اللفظ-
كما في (مقاييس اللغة)- ثلاثة معانٍ:
التقديم، الذكر وأثر الشي ء.
وقد ورد هذا المضمون في تفسير الفخر الرازي ولكن بتعبير آخر حيث ينقل المعاني الثلاثة ل (اثار) «1».
ورد (برهان الهداية والفيض) في الروايات الإسلامية إلى جانب القرآن الكريم، فقد تحدّث الإمام علي عليه السلام في وصيّته المعروفة إلى الإمام الحسن عليه السلام عن هذا البرهان ببيان جميل وواضح حيث قال: «واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه» «2».
__________________________________________________
(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادّة (أثر).
(2) نهج البلاغة، الرسالة 31.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 157
توضيحه: إنّ اللَّه حكيم، والإله الحكيم له آثار الهداية والفيض حتماً، في عالم التكوين والخلق وفي عالم التشرع والدين، فكيف يمكن أن يوجد إله آخر ولا نرى آثار صنعه في ساحة الوجود ولا نشاهد علامة من رسله؟ وهذا لا ينسجم مع حكمته أبداً لأنّ في ذلك حرمان البشر من معرفته وعظمته وقدرته.
ثمّ إنّ دعوة الأنبياء المرسلين من قبل اللَّه جميعاً لا تنسجم مع فرض وجود إلهين، فهل يعقل أن يطرح الإله الذي يرسل الأنبياء قضيّة غير صحيحة ويدعو إلى التوحيد كذباً؟! فهذا لا ينسجم مع حكمته أيضاً.
ولا ينحصر طريق إثبات وحدانية اللَّه في هذا الدليل فقط لوجود أدلّة اخرى أشرنا إليها سابقاً، أمّا إجماع الأنبياء عليهم السلام واتّفاقهم على الدعوة إلى اللَّه الواحد فهو يُعدّ دليلًا مستقلًا.
ذكر الفلاسفة وعلماء الكلام دليلًا خامساً على إثبات وحدانية ذات اللَّه المقدّسة ولم نعثر على آية قرآنية تصرّح بذلك، ولذا نورده على شكل إيضاح في ختام هذا البحث وخلاصته:
لو كان للَّه مثيلٌ فهما متشابهان من حيث الوجود ولكنَّ إثنينيتهما توجب أن تكون لكلّ واحد منهما خصوصيات، وبهذا يكون كلّ واحد مركّباً من جزأين، (ما به الاشتراك) و (ما به الإمتياز) وحينئذ لابدّ أن نذعن بأنّ كلّ
واحد منهما محتاج إلى أجزائه، لأنّ المركّب لا يكون بدون اجزائه، ولو كان محتاجاً فإنّه لا يكون واجب الوجود، لأنّ واجب الوجود والمُبدى ء الأوّل للكون غني عن كلّ شي ء.
فهو إذن لا مثيل له كما أنّه لا اجزاء له، ولو كان له مثيلٌ فإنّه سيكون ذا اجزاء قطعاً، فهو إذن وجود بسيط من كلّ جهة ولا شريك ولا مثل له من كلّ جهة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 158
إنَّ الأدلّة الخمسة المذكورة هي أدلّة عقليّة لإثبات وحدانية ذات اللَّه المقدّسة، ويمكن هنا الاستفادة من الدليل النقلي أيضاً، لأنّه بعد إثبات وجود اللَّه وإثبات نبوّة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله وصدق دعوته، فإنّ ما جاء في هذا الكتاب السماوي (أي القرآن الكريم) هو تبيان للحقائق التي لا تُنكر، هو رسول صادق ومعصوم ومبعوث من قبل اللَّه الحكيم والصادق، ومثل هذا الإنسان لا يقول قضيّة خاطئة.
من هنا يمكن الإستعانة بآيات القرآن التوحيدية لإثبات وحدانية ذات اللَّه المقدّسة، والقرآن الكريم زاخر بهذه الآيات، بل إنّ أي موضوع لم يتكرّر بتعابير مختلفة مثل هذا الموضوع ولم يتأكّد صفة من صفات اللَّه إلى هذا الحدّ.
يقول المرحوم العلّامة المجلسي قدس سره في بحار الأنوار لدى استدلاله بهذا الدليل.
من الواضح أنّ وجود الدليل النقلي لا يتعارض مع الاستدلالات العقلية (الأدلّة السمعية من الكتاب والسنّة وهي أكثر من أن تحصى ولا محذور في التمسّك بالأدلّة السمعية في باب التوحيد وهذه هي المعتمد عليها عندي) «1».
خاصّة وأنّ الأدلّة العقلية المذكورة لها جذور في الكتاب والسنّة الشريفة.
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 234.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 159
1- إتّباع الأوهام
2- اتّباع الحواس
3- المصالح الوهميّة
4 و 5- عاملي التقليد والاستعمار
نفحات القرآن، ج 3، ص: 161
بما أنّ الفطرة الإنسانية- كما أسلفنا في بداية بحث التوحيد- قد نشأت على التوحيد والوحدانية، كما أنّ الأدلّة العقلية والنقلية الواضحة تعزّر هذه الفكرة، فإنّ هذا السؤال يطرح نفسه وهو: ما السبب في أن ينبت الشرك وينمو كالشوك في طريق معرفة اللَّه لدى الإنسان؟
وما هي جذور هذا الانحراف الكبير أو الانحراف الفكري الأكبر لدى الإنسان؟
من خلال دراسة تاريخ الأنبياء عليهم السلام والاقوام البشرية المختلفة وادّعاءات عبدة الأوثان على مرّ التاريخ نستطيع كشف الستار عن الجذور الأساسية للشرك، ومن المُسلّم أن معرفة مصادر وجذور الشرك ستكون عاملًا مساعداً ومؤثراً في مواجهة هذه الآفة الكبرى لأنّ معرفة أسباب أي مرض تكون كفيلة بعلاج ذلك المرض.
وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل الآيات التالية:
1- «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ لَابُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ انَّهُ لَايُفْلِحُ الكَافِرُونَ». (المؤمنون/ 117)
2- «مَا تَعْبدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُم وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها منْ سُلْطَانٍ إِنِ الحُكمُ إِلَّا للَّهِ أمَرَ أَلَّا تَعْبُدوا إِلَّا إيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ القَيَّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ». (يوسف/ 40)
3- «وَيَعْبدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَم يُنَزِّلْ بهِ سُلْطاناً ومَا لَيْسَ لَهُمْ بهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمينَ مِنْ نَّصِيرٍ». (الحجّ/ 71)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 162
4- «أَلَا إِنَّ للَّهِ مَنْ فِى السَّماواتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ وَما يَتّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ». (يونس/ 66)
5- «وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الحَقِّ شَيئاً إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِمَا يَفعَلُونَ».
(يونس/ 36)
6- «إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْماءٌ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُم وَآباؤُكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَما تَهوى الأَنْفُسُ». (النجم/ 23)
7- «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَّعِىَ وذِكْرُ مَنْ قَبْلِى بَل أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ». (الأنبياء/ 24)
«الظنّ»: يعني- كما يقول الراغب في المفردات-: الحالة الحاصلة من ملاحظة علامة شي ء، فإنّ قوى صار علماً وإن كان ضعيفاً فإنّه لا يتجاوز حدّ الوهم، وأمّا ابن منظور فإنّه يقول في لسان العرب: يستعمل الظنّ بمعنى الشكّ واليقين كليهما إلّاأنّه ليس اليقين الحاصل بالنظر بل بالتدبّر، وأمّا الحاصل عن طريق المشاهدة فإنّه يطلق عليه ب (العلم).
ويقول ابن الأثير في النهاية: إنّ الظنّ يستعمل تارةً بمعنى العلم واخرى بمعنى الشكّ وتارةً بمعنى التهمة.
وقد استعمل هذا اللفظ في آيات البحث بمعنى الأوهام الواهية وعديمة الأساس (الآيات نفسها تتضمّن قرائن على هذا المعنى وستتمّ الإشارة إليها).
«خرْص»: على وزن (غرْس) يعني كما يقول صاحب (صحاح اللغة) تخمين وزن التمر الذي يحصل من رطب النخيل، كما أورد الراغب هذا المضمون في مفرداته.
ثمّ أطلق على كلّ حدس وتخمين وبما أنّهما لا يصيبان دائماً، فإنّه استعمل بمعنى الكذب أيضاً، وهذا اللفظ يطلق في الأساس على كلّ ظنّ لا أساس راسخ له.
كما أنّ هناك معانٍ اخرى لمشتقّاته مثل (الرمح) (الحلقة) و (الحوض الكبير الذي يكون
نفحات القرآن، ج 3، ص: 163
على ساحل النهر ويدخل فيه ماؤه ويرجع منه) ولا يبعد أن ترجع هذه المعاني كلّها إلى الجذر نفسه حيث يقترن التخمين والظنّ بالتزلزل وعدم الثبات ويتّصف الرمح والحلقة والحوض الخاصّ المذكور بهذا الوصف «1».
«برهان»: هو الدليل القطعي المحكم وجاء أيضاً بمعنى الدليل والإيضاح، ويقول الراغب في المفردات: البرهان يعني
البرهان المحكم، ويعتقد البعض أنّه مشتقّ من (بَرَهْ) ويعني الإبيضاض، ثمّ اطلق على كلّ كلام واضح وصريح ليس فيه أي إبهام، أو الامور الواضحة التي لا خفاء فيها «2».
وما ورد في الحديث: (الصدقة برهان) لعلَّة لما للإنفاق في سبيل اللَّه من دلالة على صحّة إيمان الإنسان.
«سلطان»: ويعني في الأصل- كما في مقاييس اللغة- القوّة والقدرة المصحوبة بالغلبة وبما أنّ الاستدلال القوي يكون سبباً لتغلّب الإنسان على طرفه المقابل فإنّ لفظ (سلطان) اطلق على الدليل المحكم أيضاً.
«سليط»: ورد تارةً بمعنى الرجل الفصيح، واخرى بمعنى الإنسان المزعج والبذي ء اللسان و (سليطة) الذي يستعمل في النساء يحمل على هذا المعنى الأخير وكلّها مشتقّة من مادّة (سلطة).
تؤكّد الآية الشريفة الاولى- من خلال الإشارة إلى عقوبة المشركين- على حقيقة أنّ
__________________________________________________
(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادّة (خرص).
(2) التحقيق في كلمات القرآن الكريم والكلمات التي نلاحظها مثل (برهن، يبرهن) أو الوصف (مبرهن) فإنّه لون من الإشتقاق الإنتزاعي نظير كلمة (سلطان) المشتقّة من سلْط (سلطن يسلطن).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 164
(الشرك) ليس له أي دليل أو برهان وعليه يكون وليداً للظنون والأوهام فتقول: «وَمَنْ يَدعُ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ لَابُرهَانَ لَهُ بِه فَإِنَّمَا حِسابُهُ عِندَ رَبِّهِ انَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ».
ومن الملاحظ أنّ عقوبة المشركين هنا غير موضّحة بل تقول الآية: «حِسابُه عِندَ رَبِّهِ» وهو أكبر تهديد، لأنّ العظيم والقاهر هو المحاسب فيكون عقابه شديداً قطعاً وعبارة (لا برهان له) تفيد- في الواقع- هذا الأمر وهو: أنّ الشرك لا يدلّ عليه أي دليل سواء كان عقليّاً أو نقليّاً ولا تنسجم الفطرة معه ولا المنطق، بل كلّما أمعنّا النظر في هذه القضيّة ظهر بطلانها أكثر.
والتعبير ب «لا
يُفْلِحُ الكافِرُونَ» شامل ينفي كلَّ فلاح عن الكافرين في الحياة المادية والمعنوية، في الدنيا والآخرة، ويؤيّد هذه الدعوى مشاهدتنا اليومية للذين لا يؤمنون.
طرحت الآية الثانية هذا المضمون في إطار جميل آخر وتقول عن لسان يوسف عليه السلام وهو يخاطب صاحبيه في السجن: «مَا تَعْبدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُم وآباؤُكُم» والشاهد على ذلك هو أنّها «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها منْ سُلْطانٍ»، فلو كانت حقائق لقام عليها الدليل العقلي والنقلي، فمن المحال أن يفقد الدليلَ أمرٌ بهذه الدرجة من الأهميّة (وهو وجود الشريك للَّه عزّ وجلّ)، وعدم الدليل هذا دليل على العدم!
من هنا تستنتج الآية في الخاتمة: «إنِ الحُكمُ إِلَّا للَّه» و «أَمَرَ ألَّا تَعْبُدوا إِلَّا إِيَّاهُ» و «ذَلِكَ الدِّينُ القَيَّمُ وَلكِنَّ أَكْثَر النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».
وكلّ جملة- في الحقيقة- في هذه الآية بمثابة دليل على نفي الشرك، حيث تقول من جهة: إنّ اللَّه لم ينزل أي دليل على وجود آلهتكم، وتقول من جهة اخرى: إنّ حاكمية العالم وتدبيره مختصّ به حيث تلاحظ علامات الوحدة في التدبير في كلّ مكان.
وتقول من جهة ثالثة: إنّه أمر بعبادة الإله الواحد، فهل يعقل أن يأمر الإله الحكيم بأمر كاذب؟
نفحات القرآن، ج 3، ص: 165
وفي الختام فإنَّ الآية تعتبر الشرك ناشئاً من الجهل.
ونقل بعض المفسّرين بأنّ عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بأنّ اللَّه هو النور الأعظم، ويعتقدون بأنَّ الملائكة أنوار صغيرة، وأمّا الأصنام في الأرض فإنّها مظهر للأنوار السماوية تلك ويطلقون عليها (المعبود) وبذلك تكون معبوداتهم أسماءً بدون مسمّى «1».
ولو تغافلنا عن هذا المعنى أيضاً وسلّمنا بأنّ الأصنام هي الآلهة لديهم لا مظاهر لها فإنّها كانت أسماء دون مسمّيات أيضاً، وذلك لعدم وجود أثر من آثار الالوهية في هذه الأحجار والأخشاب الجامدة.
وقد
تضمَّنت الآية الثالثة محتوىً شبيهاً لما في الآية السابقة حيث تقول في ذمّ عبدة الأوثان: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَم يُنَزِّلْ بهِ سُلْطاناً».
وهو في الحقيقة نفي لوجود دليل نقلي، وتضيف الآية: «ومَا لَيْسَ لَهُمْ بهِ عِلْمٌ»، وفي ذلك إشارة إلى نفي لوجود دليل عقلي.
وتقول الآية في الخاتمة: «وَما لِلظّالِمينَ مِنْ نَصِيرٍ».
فلا معين لهم على دفع عذاب اللَّه ولا رشد لهم في طريق الهداية ولا ينصرهم الدليل العقلي (ويمكن أن تجتمع التفسيرات الثلاثة في مفهوم الآية).
تحدّثت الآية الرابعة في أوّلها عن مالكية اللَّه لجميع مَن في السماوات والأرض حيث تقول: «أَلَا إِنَّ للَّهِ مَنْ فِى السَّماواتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ».
وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى عقيدة المشركين الذين أقرّوا بأنّ المالك والحاكم الأصلي هو اللَّه، ومع ذلك فإنّهم كانوا يعبدون الأصنام، كما يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ النظام الواحد لعالم الوجود دليل على أنّ المدبّر الواحد هو الحاكم عليه.
ثمّ تضيف: «وَمَا يَتَّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ».
__________________________________________________
(1) التفسير الكبير، ج 18، ص 141.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 166
بل إنّهم يتّبعون أوهامهم وظنونهم فقط: «إِنْ يَتَّبعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «1».
«يخرصون»:- كما اشير سالفاً- مشتقّ من (خرْص) ويأتي بمعنى (التخمين) و (الكذب) لأنّ التخمين لا يصيب في أكثر الموارد، وآية البحث تحتمل المعنيين.
وقد ورد هذا المضمون وبفارق يسير في الآية الخامسة التي تقول بعد ذكر انحراف عبدة الأوهام: «وَما يَتَّبِعُ أَكثَرُهُمْ إِلَّا ظَناً إنَّ الظَنَّ لَايُغنِى مِنَ الحقِّ شَيئاً»، ثمّ تهدّد هؤلاء الظانين بتعبير ذي معنى كبير: «إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِما يَفْعَلُونَ».
أجل، إنّ الظنّ والوهم كالسهم في الظلام، لا يمكن أن نصيب به الهدف، ولو أصاب الهدف أحيانا فإنّه
يكون محض صدفة، من دون معرفة للهدف.
«الظنّ»: في اللغة يشمل كلّ ظنّ ووهم، وإن أطلق أحياناً على اليقين أيضاً إلّاأنّ المراد في آية البحث هو المعنى الأوّل.
ومن الملاحظ إنّ اتّباع الظنّ ينسب إلى أكثرهم لا إلى جميعهم، وقد لفت هذا المعنى نظر الكثير من المفسّرين.
فقال البعض إنّ (أكثر) هنا تعني الجميع (ولم يقم على هذا التفسير دليل).
ومن الأفضل: أن يقال إنّ الآية تقصد الغالبية الجاهلة التي تتأثّر بالأوهام الخاطئة وتتعرّض للشرك، وتقابلها الفئة القليلة من رؤوس الضلال الذين يدعون الناس إلى الضلال «2» على علمٍ منهم، والأمل في الهداية موجود طبعاً في الفئة الاولى فقط والخطاب موجه اليهم.
كما احتمل البعض أنّ في (أكثر) إشارة إلى جماعة تتبع الظنّ والوهم طيلة حياتها ومن جملتها (الشرك) فهي تطفو فوق أمواج من الأوهام وحجب الظلام والخيال «3».
__________________________________________________
(1) وفقاً لهذا التفسير تكون (ما) في «وما يتبع» نافية وفاعل (يتبع) هو (الذين) ومفعول (شركاء) أي أنّ المشركين لا يتّبعون في الحقيقة شريكاً للَّه تعالى (لأنّ اللَّه لا شريك له وهؤلاء الشركاء من صنع الأوهام)، ولكن احتمل جمع من المفسّرين بأنّ (ما) هنا إستفهامية فيكون معنى الجملة هو: أي شي ء يتّبعونه من دون اللَّه ويجعلونه شريكاً له؟ فهل هناك إلّاالظنّ؟ (النتيجة في الإثنين واحدة تقريباً). راجع تفسير مجمع البيان؛ وتفسير الكبير؛ والقرطبي؛ وتفسير الكشّاف؛ وروح المعاني في ذيل آية البحث وقد احتمل البعض أنّ (ما) هنا موصولة إلّاأنّه يبدو بعيداً.
(2) ورد ما يشابه هذا المضمون في تفسير روح البيان، ج 4، ص 45؛ وتفسير روح المعاني، ج 11، ص 103.
(3) وقد ورد هذا الاحتمال أيضاً في تفسير روح المعاني.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 167
الآية السادسة تُشبه الآية الثانية
في مضمونها من جهات، حيث تقول: «إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُم وَآبَاؤُكُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» وهذه الجملة توضّح هيمنة روح التقليد الأعمى على المشركين حيث اتّبعوا أسلافهم بعيون وآذان مغلقة ثمّ تضيف: «إِنْ يَتَّبعُونَ إِلَّا الظَنَّ وَمَا تَهوى الأَنْفُسُ».
والملاحظة الجديدة هنا هي عطف (هوى النفس) على (الظنّ) وهو تعبير كثير المعنى وفيه إشارة إلى أنَّ هذه الظنون الواهية تنشأ من هوى النفس الذي يجعل من الباطل حقّاً في منظارهم، فهم إذن يعبدون أهواء أنفسهم في الواقع والأصنام الاخرى وليدة لها!
وعليه يكون مصدر الانحراف والضلال لديهم في الواقع أمرين: عدم الاستناد إلى اليقين من الناحية العقلية والعقائدية والتمسّك بالظنون والإنصراف عن فطرة التوحيد الصحيحة من الناحية العاطفية والإستناد إلى هوى النفس.
وهذه النقطة جديرة بالإهتمام أيضاً وهي أنَّ (يتّبعون) و (تهوى فعلان مضارعان، ويعني ذلك أنّ هؤلاء يستمرّ اتباعهم للظنّ وهوى النفس ويتلونون كلّ يوم بلون جديد!
والملاحظ إنّ أوّل الآية تخاطب المشركين وآخرها تذكرهم باستخدامه ضمير الغائب (التفات من المخاطب إلى الغائب) وفي ذلك إشارة إلى أنّهم لا شأن لهم حتّى يستحقّون الخطاب.
أظهرت الآية السابعة والأخيرة الحقيقة نفسها ولكن في إطار جديد حيث تقول: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِه آلِهَةً» «قُلْ هَاتُوا بُرْهانَكُم».
ولعدم امتلاككم دليلًا واضحاً وموجّهاً على الشرك فإنّكم مدانون.
ثمّ تقوم الآية بتوضيح الدليل على بطلان عقيدتهم وتقول: «هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِىَ وذِكْرُ مَنْ قَبْلِى» «1».
والتعبير ب (ذكْر) بدلًا عن الكتب السماوية إشارة إلى أنّ جميع هذه الكتب عامل تذكير
__________________________________________________
(1) في هذه الآية استدلال بالدليل النقلي في حين استدلّ في الآيتين السابقتين بالدليل العقلي وبرهان التمانع (تدبّر).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 168
ووعي، وقد ذكر بعض المفسّرين معاني اخرى لكلمة «ذكر» ولكنّها لا
تبدو مناسبة.
وقد أكدّ ذيل الآية مرّة اخرى على هذا المضمون حيث يقول: «بَلْ أَكثرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ»، وإن كانت هناك فئة قليلة تدرك القضايا، إلّاأنّها لا تظهر الحقّ لإحساسها بالخطر على مصالحها اللامشروعة.
ويمكن الإستنتاج جيّداً من مجموع الآيات الواردة بأنّ الشرك وعبادة واتخاذ آلهة من دون اللَّه ليس له دليل عقلي ولا برهان نقلي، ومن المحال أن تكون مثل هذه القضيّة المهمّة موجودة ولا يوجد لها دليل عقلي أو نقلي، وعليه فإنّ فقدان الدليل هذا، دليل قاطع على بطلانه.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 169
عندما يولد الإنسان في هذا الكون فإنّه يرى المحسوسات ويميل إليها ويتّخذها أساساً لمعلوماته، وعندما يسمو في فكره وعلمه فإنّه يتعرّف تدريجياً على القضايا العقلية والفكرية.
إنّ البعض وبسبب التخلف الثقافي فإن إدراكهم يتوقف على مرحلة الحس، فلا يمكنهم أن يفكروا أو يؤمنوا بشي ء سوى المحسوسات، فهم يتوقعون بأنّ اللَّه وجود حسي، فيمكنهم أن يرونه أو يلمسونه! وهذا التوجه يمثل عاملًا مهماً في توجههم لعبادة الأصنام والآلهة المحسوسة، وعلى مرّ التاريخ.
وبهذه الإشارة نتوجّه إلى القرآن الكريم لنمعن خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَولَا انزِلَ عَلَينَا الملائكَةُ أَو نَرَى رَبَّنا لَقَدِ استَكْبَرُوا فِى أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً». (الفرقان/ 21)
2- «يَسئَلُكَ أهْلُ الكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَليهِمْ كِتاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهَرةً فَأخَذَتْهُمُ الصَّاعِقةُ بِظُلْمِهِم ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جاءتْهُمُ البَيّنَاتُ فَعَفَونَا عَنْ ذلِكَ وآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً». (النساء/ 153)
3- «وَقَال فِرعَونُ يَاأَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيرِى فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فاجْعَلْ لِّى صَرْحاً لَّعلّى أَطَّلعُ إِلَى إِلهِ مُوسى وَانِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ».
(القصص/ 38)
نفحات
القرآن، ج 3، ص: 170
4- «وَقَالُوا لَنْ نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفجُرَ لَنَا مِنَ الأَرضِ يَنْبُوعاً* ... أَو تُسقِطَ السَّمَاءَ كَما زَعَمْتَ عَلَينا كِسَفاً أَو تَأتِىَ بِاللَّهِ والمَلَائِكةِ قَبِيلًا». (الإسراء/ 90- 92)
5- «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأتَيهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ والمَلائِكَةُ وقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ». (البقرة/ 210)
إنَّ الآية الاولى نقلت ما قالَهُ الكفّار والمشركون والذي يشير بوضوح إلى امنيتهم في أن يكون اللَّه مثلهم ذا جسم ويمكن النظر إليه حيث تقول: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرجُونَ لِقَاءَنَا لَولَا أُنزِلَ عَلَينَا المَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا».
إنّهم طالبوا برؤية ملائكة الوحي أوّلًا، ثمّ سوّلَتْ لهم أمانيهم أن يطالبوا برؤية اللَّه، ويبدو أنّهم لا يقرّون بالإله المجرّد وغير المحسوس، والظاهر أنّ هذا الكلام كان لرؤوس الشرك وعبدة الأصنام وقد علموا بالحقيقة إلّاأنّه ومن أجل إغفال عامّة الناس الذين يرون كلّ شي ء في إطار الحسّ قاموا بطرح هذا الكلام أمام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لكي يهزموهُ حسب زعمهم ولذا وصفهم القرآن الكريم بأنّهم قوم لا يؤمنون بالقيامة ولا يشعرون بالمسؤولية، ولهذا تقول الآية في ذيلها: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنْفُسِهِم وَعَتَو عُتَوّاً كَبِيراً». وقد ذكر المفسّرون للآية 27 من هذه السورة الفرقان سبباً للنزول يدلّ على أنّ هذه الآيات نزلت في جمع من أئمّة الشرك في قريش.
وذيل الآية يشير أيضاً إلى أنّ مصدر هذه الادّعاءات الضخمة والخاطئة هو ابتلاؤهم بالكبر والغرور أوّلًا وسلوك طريق (العتو) وهو التمرّد المصحوب بالعناد واللجاجة في أمر اللَّه ثانياً، ولم يختصّ بذلك العرب فحسب، بل ما زال جمع من علماء عصرنا المغرورين والمتمرّدين المادّيين الذين يعتقدون أنّ كلّ شي ء يجب إجراء التجربة عليه ورؤيته في المختبر وبالوسائل الحسيّة، ويقولون: إنّنا لا نؤمن
باللَّه حتّى نراه جهرة، وبهذا تكون
نفحات القرآن، ج 3، ص: 171
المجموعتان محصورتين في إطار الحسّ، في حين تكون العوالم الخارجة عن الحسّ أوسع بكثير من عالم الحسّ.
تتحدّث الآية الثانية أوّلًا عن حجج اليهود وتقول: «يَسْئَلُكَ اهلُ الكِتَابِ ان تُنَزِّلَ عَلَيهِم كِتاباً مِّنَ السَّمَاءِ». قال جماعة في تفسيرها أنّ مرادهم كان بأن ينزل عليهم كتاباً مخطوطاً على قراطيس معلومة من السماء ليشاهدوه بعيونهم ويلمسوه بأيديهم «1».
وقالت جماعة اخرى: إنّ مرادهم هو لماذا لم ينزل جميع القرآن مرّة واحدة على النبي صلى الله عليه و آله؟! والقرآن يجيبهم: لا عجب من هذا الطلب الخاوي لهؤلاء المعاندين اللجوجين بعد مشاهدة المعجزات والقرائن التي تصدّق دعوة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى اكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهرَةً»! وبسبب هذا الطلب الخاطئ: «فَأَخَذَتهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلمِهِم».
أجل، إنّهم ظلموا أنفسهم وراحوا يتعلّلون، وحبسوا عقولهم في إطار الحسّ ولم يسمحوا لها بالتجرّد من هذا النطاق الضيّق إلى افق عالم ما وراء الطبيعة، ولهذا أنزلت عليهم صاعقة من السماء وأهلكتهم غير أنّ اللطف الإلهي ودعاء موسى عليه السلام قد أدركهم أخيراً وواصلوا حياتهم مرّة اخرى، والعجيب أنّ هذا الحدث العجيب لم يوقظهم، حيث مالوا إلى السامري في اقتراحه بعبادة العجل! ونقرأ في الآية: «ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجلَ مِن بَعدِ مَا جَاءَتهمُ البَيِّناتُ»، وكأنّهم لم يُؤمنوا إلّابالإله المحسوس، ولم تقوَ أرواحهم على العروج إلى عالم ما وراء الطبيعة.
ومرّة اخرى شملهم اللطف الإلهي حيث تقول الآية في ذيلها: «فَعَفَونَا عَن ذَلِكَ وآتَينَا مُوسَى سُلطَاناً مُّبِيناً».
__________________________________________________
(1) وقد وافق على هذا صاحب التفسير في ظلال القرآن، ج 2، ص 583 وقد نقله الفخر الرازي ويبدو تفسيراً مناسباً وإن لم يتعارض
مع التفسير الثاني.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 172
والمراد من (سلطان مبين) هنا هي الحكومة التي أعطاها اللَّه عزّوجلّ لموسى عليه السلام فقد غلب المعارضين من الناحية الظاهرية ومن الناحية المنطقية والاستدلالية، ويعتقد بعض المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان بأنّ النصر هنا من الناحية المنطقية فقط «1».
في الآية الثالثة مقالة تفوّه بها فرعون في هذا الشأن، وهي توضّح أفكار الشعب المصري آنئذ، فقد ألقى هذه المقالة في عصر كان لإسم موسى وانتصاره على السحرة صداه في مصر بأسرها، ولمّا شعر فرعون بخيبة أمل شديدة رأى أن يعمل شيئاً يصرف به أنظار الناس عن موسى عليه السلام ومعجزاته: «وَقَالَ فِرعَونُ يَاأَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمتُ لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيرِى» «2»
، ولذا أرى أنّ دعوة موسى إلى ربّ السماء والأرض خاطئة، وبما أنّي من أهل التحقيق، فقد خطر ببالي شي ء يظهر به صدق موسى أو كذبه، قم ياهامان: «فَاوقِدْ لِى يَاهَامَانَ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِّى صَرْحاً لَّعلّى أَطَّلعُ إِلَى إِلَهِ مُوسى «3»
، «وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ».
ولا شكّ أنّ فرعون كان شديد المكر والدهاء وهو يدرك هذه القضايا الواضحة وهي أنّه ليس إلهاً، وأنّ مايقصده موسى من إله السماء، هو خالقه لا أنّ اللَّه يسكن السماء حقيقة، ولو تجاوزنا هذا الأمر وافترضنا أنّ اللَّه يسكن السماء فإنّه لا يمكن الوصول إليه ببناء برج عالٍ، فمنظر السماء من على قمم الجبال في العالم هو المنظر الذي يشاهد من فوق سطح الأرض، ولم تخف هذه القضايا على فرعون.
ولكن فرعون كان يفكّر في مخطّط آخر وأراد صرف الرأي العامّ الذي مال إلى موسى بشدّة وذلك بطرح هذه القضيّة المثيرة، كما أرادَ أن يشغل مجموعة من الناس ولمدّة طويلة
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج
3، ص 134.
(2) يقول اللغويون في تفسير «ملأ»: يطلق هذا اللفظ على جماعة قد اجتمعوا على عقيدة واحدة وظاهرهم يملأالعيون (من مادّة ملأ) ومن هنا يستعمل هذا اللفظ بمعنى أشراف القوم ورؤسائهم وحواشي الملوك أيضاً.
(3) «صرح»: في الأصل تعني الخلو من الشوائب ثمّ تطلق على القصور والبيوت العالية والجميلة لأنّها بلغت من الكمال في بنائها إلى درجة لا يوجد فيها عيب أو نقص.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 173
ببناء برج عالٍ جدّاً، وفي النهاية يصعد إلى أعلى البرج ليحرّك نفسه ويقول: إنّي بحثت عن إله موسى عليه السلام في السماء فلم أجد له أثراً!
إنَّ هذه القضيّة توضّح أمراً مهمّاً وهو إنّ مستوى التفكير العامّ في مصر كان بسيطاً إلى حدّ أنّهم لم يكونوا ليصدقوا إلّابإلهٍ محسوس، وبالتالي يصدقون فرعون بادّعائه الالوهية وتوقّعوا أن يكون إله موسى جسماً في أعالي السماء! وفي مثل هذه الأجواء تشيع روح الصنمية وعبادة الأصنام قطعاً!
الآية الرابعة تنقل أقوال المشركين واحتجاجاتهم المتنوّعة والغريبة حيث طرح كلّ واحد اقتراحاً على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتمسّك بحجّة معيّنة حيث تقول الآية: «وَقَالُوا لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرضِ يَنبُوعاً» «1»
، وقد تمسّك البعض الآخر بحجج اخرى وقالوا أخيراً: «أَو تُسقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَينَا كِسَفاً أَو تَأتِىَ بِاللَّهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلًا» «2».
والمطالبة الأخيرة توضّح جيّداً أنّهم تصوّروا أنّ اللَّه والملائكة ذوو أجسامٍ وموجودات جسمانية، ولم يتحمّلوا تصوّر وجود خارج عن إطار عالم الجسم والطبيعة، ويعتقد بعض المفسّرين بأنّ مرادهم من الإتيان بالملائكة هو أن تأتي لتعيّن اللَّه! «3» أو تشهد على الوهيته، وتشير هذه كلّها إلى المستوى الفكري المتخلف لُاولئك القوم المعاندين.
تحدّثت الآية الخامسة والأخيرة عن الكفّار
والمشركين وأفكارهم المنحطّة فتقول:
__________________________________________________
(1) «ينبوع» من «نبع» وتعني عين الماء.
(2) فسّرت كلمة «قبيل» تارةً بمعنى «المقابل»، وتارةً بمعنى الكفيل والشاهد، وتارةً بمعنى الجماعة والفئة، ويمكن الموافقة على المعاني الثلاثة في مورد الآية أعلاه.
(3) تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 359.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 174
«هل يَنْظُرُونَ إِلَّا أنْ يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فى ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ» «1».
وقد اضطرب المفسّرون بشدّة في تفسير هذه الآية، فقد عدّها بعضهم من متشابهات القرآن فيلزم تفسيرها في ضوء المحكمات «2»، وقد ذكر البعض سبعة تفاسير لها «3».
وكان تصوّرهم عن مضمون الآية هو أنّه سيأتي اليوم الذي يأتي فيه اللَّه والملائكة في ظلّ الغيوم، ولا ينسجم هذا المعنى قطعاً مع ما يستفاد من آيات القرآن الصريحة في أنّه ليس بجسم ولا يمكن مشاهدته ولذا يجب تأويله.
في حين أنّ مضمون الآية شي ء أخر، والمراد منه هو الإستفهام الإنكاري ويشبه قولنا للذين يتماهلون في تحصيل العلم: أتتوقّع أن يُجعل العلم لقمة سائغة توضع في فمك؟! إن هذا التوقع ليس في محلّه.
إنَّ الآية أعلاه تقول أيضاً: هل أنّهم يتوقّعون أن يأتي اللَّه والملائكة للقائهم ويقفون أمامهم ويشهدون لهم؟! إنّه توقّع خاطئ وفي غير محلّه، فليس اللَّه بجسم ولا مكان ولا رواح أو مجي ء له، وبهذا ليس في الآية- كما نلاحظ- مشكلة خاصّة حتّى تحتاج إلى تأويل وتفسير معقّد أو أن تحسب من المتشابهات.
وتقول الآية في آخرها مهدّدة هذه الفئة المعاندة بالعقاب الشديد: «وَقُضِىَ الْأَمرُ»، وكان العذاب متحقّق الآن، ولذا جاءت بصيغة الفعل الماضي ثمّ تقول: «وَإِلَى اللَّهِ تُرجَعُ الامُورُ»، وليس لأحد القدرة على مواجهته وليس لأحد أن يقاوم أمره، وإذا تعلّقت مشيئته بعقوبة جماعة فكأنّها متحقّقة.
هل يتعلّق هذا التهديد
بيوم القيامة أو الدنيا أم الإثنين معاً؟ لا يبعد أن يتعلّق بالإثنين، لأنّ الآية ذات مفهوم واسع ولا يوجد دليل على تحديده بعذاب الدنيا أو الآخرة.
يتّضح ممّا أوردناه في تفسير الآيات المذكورة بأنّ الميل إلى الحسّ وتأثيره في تكوين
__________________________________________________
(1) يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير: ج 5، ص 212 اتّفق المفسّرون على أنّ أحد معاني (النظر) هو الانتظار.
(2) تفسير الميزان، ج 2، ص 105.
(3) تفسير الكبير، ج 5، ص 213- 216.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 175
عقيدة الشرك والانحراف عن محور التوحيد طيلة تاريخ الأنبياء والامم السالفة ممّا لا يمكن إنكاره، وأنّ الأقوام المتخلّفة فكرياً وثقافياً، أو بقيت متخلّفة بفعل إعلام الطغاة، قد اعتقدوا أنّ الوجود منحصر في المحسوسات وتنتهي الفطرة الإلهيّة بالإله المحسوس وهذا هو أحد العوامل المهمّة في نشوء عقيدة الشرك في التاريخ.
من الواضح أنّ اصول المعلومات لدى الإنسان بأجمعها تستمدّ من المحسوسات أوّلًا، لأنّ الإنسان حينما يفتح عينيه يلاحظ عالم المادّة ويتعرّف على عالم المحسوسات والطريق الموصل إلى ما وراء الحسّ، بل وتصوّر الوجود المجرّد عن الزمان والمكان والمادّة يتمّ بعد الدراسة والتحليل في المسائل الفكرية والعقلية والروحانية، فلا غرو إذن أن تكون عبادة الأصنام مذهباً للُامم المتخلّفة.
فمن جهة يعلو نداء عبادة اللَّه من باطن فطرتهم وتدعوهم قوى المعرفة الإلهيّة إليه، ومن جهة اخرى وبسبب مغلوبيتهم أمام عالم الحسّ والمادّة تصعُب عليهم معرفة اللَّه المجرّد عن الزمان والمكان والمادّة، ولذلك فإنّهم يسيرون في طريق الشرك ويشفون ظمأ أرواحهم بالآلهة الخيالية بصورة كاذبة.
وبما أنّ مجموعة من خدمة معبد الأصنام بل الكثير من الحكّام الطغاة ينتفعون من هذا الأمر فإنّهم يرغبون فيه، وفي النهاية يصبح كدينٍ رسمي للبلاد.
ومن العجيب أن
تترسّب هذه الأفكار أحياناً في أعماق الكثير من عباد اللَّه الحقيقيين، وللمثال على ذلك أنَّ بعض الناس يقول في قَسَمه: قسماً باللَّه الذي هو في السماء!! ويتصوّرون أنّنا حينما نرفع أيدينا إلى السماء حين الدعاء أنّ ذلك إشارة إلى اللَّه وأنّه يجلس على كرسي الإقتدار وقد اجتمعت الملائكة من حوله!
نفحات القرآن، ج 3، ص: 176
إنَّ هؤلاء غافلون حقّاً، فليس اللَّه في السماء وليس في رفع اليد في الدعاء إشارة إلى مركزه، بل إنّ رفع اليد يعني التسليم والإضطرار، أو كما ورد في بعض الروايات إنّ السبب هو نزول النعم الإلهيّة من السماء، فالمطر وضوء الشمس- وهما العمدة في حياة كلّ موجود حي- مصدرهما من السماء والتوجّه إلى السماء توجّه إلى الخالق العظيم لهذه النعم.
وعلى كلّ حال، ما لم ينضج الإنسان فكرياً يصعب زوال آثار الشرك عنه، فبنو اسرائيل الذين تربّوا في مدرسة التوحيد سنين طوال عند نبي من اولي العزم موسى عليه السلام وشاهدوا آثار عظمته بأعينهم عند نجاتهم من قبضة الفراعنة واجتيازهم النيل، وبمجرّد مرورهم على عبدة الأصنام وملاحظتهم الأصنام رجعوا وطالبوا موسى عليه السلام بأن يجعل لهم صنماً، فواجههم موسى بردّ فعل شديد وندموا على مقالتهم، ولم يمض وقت طويل عندما توجّه موسى عليه السلام إلى جبل الطور بصورة مؤقتة لكي يأخذ الألواح وأحكام الشريعة حتّى استغلّ السامري هذه الغيبة ليصنع لهم صنماً ودعا بني اسرائيل لعبادته، فترك أكثرهم طريق التوحيد وركعوا لعجل السامري وبقيت فئة قليلة مع أخ موسى (هارون) ملتزمةً بنهج التوحيد وهذا يشير إلى أنّ القادة السائرين في طريق التوحيد وخصوصاً أمام الأقوام المتخلّفة التي ترعرعت في أجواء الشرك يواجهون مشكلات كبيرة، وغسل آثار الشرك أساساً من القلوب ليس باليسير
ويحتاج إلى تربية فكرية وتربية ثقافية صحيحة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 177
إنَّ الوهم أساس الشرك، وكلّما ازدادت قوّة الوهم والخيال ونشطت لدى الإنسان اتَّسَعَ افق اعتقاده في الأصنام وبركاتها وآثارها إلى حدّ يضع الموجودات الفاقدة للشعور والعقل، الموجودات الجامدة والتافهة والمصنوعة من الحجر والخشب على جناح الوهم والخيال ويطير بها بشكل ينسب لها كلّ قدرة ويتذلّل لها كي ينعم ببركتها! أجل، إنّ المصالح الوهمية في الأصنام عامل آخر من عوامل الشرك على مرّ التاريخ، وبهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية:
1- «وَيَعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَايَعلَمُ فِى السَّماواتِ وَلَا فِى الأَرضِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ». (يونس/ 18)
2- «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ». (يس/ 74)
3- «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً». (مريم/ 81)
4- «أَلَا للَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَختَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ». (الزمر/ 3)
«شفعاء»: جمع (شفيع) من (الشفْع) ويعني كما يقول صاحب (مصباح اللغة): ضمّ شي ء
نفحات القرآن، ج 3، ص: 178
إلى شي ء آخر وكما يقول صاحب المفردات: يعني ضمّ شي ء إلى مثيله، وأمّا صاحب (مقاييس اللغة) فإنّه يذهب إلى أنّ أصله هو المقارنة بين شيئين.
هذه التعابير تعود كلّها إلى معنى واحد تقريباً ومن ثمّ أطلق على حالة انضمام شخص قوي ومكين إلى شخص أضعف من أجل إنقاذه وإعانته، وقد ورد بهذا المعنى في آية البحث هذه وكثير من الآيات القرآنية، كما جاء عدد (الشفع) بمعنى (زوج) في قبالة (الوتر) بمعنى الفرد.
«زُلفى : من (الزلْف) ويعني في الأصل القرب والمنزلة والدرجة كما يطلق
هذا اللفظ على الخطوة لما للخطوات من تقريب للهدف، وقد استعمل في آيات البحث بمعنى القرب المعنوي الذي توخّاه المشركون من عبادة الأصنام إلّاأنّ بعض المحقّقين يعتقد بأنّ (زُلفى أكمل من معنى القرب فهي المرتبة العالية من معنى القرب في الحقيقة «1»، ولكنّه رأي بعيد كما يبدو عند ملاحظة موارد الاستعمال، ويطلق هذا اللفظ على الساعات الاولى من الليل كما في قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلفاً مِّنَ اللَّيلِ». (هود/ 114)
تشير آية البحث الاولى إلى إحدى المعتقدات المعروفة لدى المشركين في الأصنام حيث تقول الآية: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُم وَلَا يَنفَعُهُم وَيَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ».
الكلام في أنّ هؤلاء كيف اعتقدوا بأنّ هذه الموجودات الجامدة لها الشفاعة عند اللَّه؟
للإجابة على السؤال قال بعض العلماء: إنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ عبادة الأصنام بمنزلة عبادة اللَّه ووسيلة للتقرّب إليه، وقد ظهر هذا الإعتقاد من طرق مختلفة.
وكانت فئة تقول: لسنا أهلًا لعبادة اللَّه دون واسطة، لأنّه عظيم جدّاً ولذا نعبد الأصنام
__________________________________________________
(1) التحقق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 179
كمظهر وصورة عن الملائكة لكي تقرّبنا إلى اللَّه، بينما قالت فئة اخرى بأنّ الأصنام هي القبلة لنا لدى عبادة اللَّه كما يستقبل المسلمون القبلة عند العبادة، وقد اعتقدت فئة اخرى بأنّ كلّ صنم يقترن به شيطان وكلّ من يعبد الصنم ويؤدّي حقّ عبادته فإنّ ذلك الشيطان يلبّي حوائجه بأمر اللَّه وإن لم يعبده فإنّ الشيطان يسي ء إليه «1»، وإلى ما شاكل من هذه الخرافات والأوهام.
وتشير الآية الثانية إلى عقيدة اخرى عند المشركين حيث تقول: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهةً لَعَلَّهُم يُنصَرُونَ»، وذلك من أجل أن تبادر إلى حلّ مشاكلهم وإعانتهم في الإبتلاءات
والحروب والأمراض، وتدفع عنهم خطر الجوع والقحط والجفاف، وتدافع عنهم في الآخرة؛ ويا له من خطأ فادح!؟ فإنّ القضيّة كانت معكوسة حيث يهرعون لإنقاذ أصنامهم من الأخطار ويحفظونها من الأعداء والناهبين! كما نقرأ في قصّة إبراهيم عليه السلام: «قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُم إِن كُنتُم فَاعِلِينَ». (الأنبياء/ 68)
إنَّ اعتقادهم بأنَّ الأصنام تحميهم وتعينهم لم يكن سوى خيال ووهم قطعاً، ولهذا الإعتقاد سببٌ في الإنحطاط الفكري والتخلّف الثقافي، وهذا الأمر هو أحد مصادر الشرك على مرّ التاريخ.
وقد طرحت الآية الثالثة هذا المضمون بشكل آخر حيث تقول: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهةً لِّيَكُونُوا لَهُم عِزّاً»، وليس المراد من العزّة هو السمعة، بل اكتساب القوّة والنصر والشفاعة من عند اللَّه، وكان هذا أيضاً وليداً لتوهّمهم، ولذا نلاحظ في هذه الآية من سورة مريم نفسها بأن حُجب الأوهام حينما تزول ويتنبّهُ العقل فإنّ المشركين يدركون خطأهم الفظيع وسرعان ما ينكرون عبادة الأصنام وينقمون عليها، كما ورد بإنّ المشركين يقولون يوم القيامة: «وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشرِكِينَ». (الأنعام/ 23)
__________________________________________________
(1) بلوغ الإرب، ج 2، ص 197.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 180
وأخيراً فإنّ الآية الرابعة والأخيرة بعد الإعلان عن: «أَلَا للَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ» فهي تهدّد المشركين وتضيف: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبُدُهُم إِلَّا لِيُقرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى انَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُم فِى مَا هُمْ فيه يَخْتِلِفونَ إِنّ اللَّهَ لَايَهدِى مَن هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» «1».
يعجب كلّ عاقل عندما يواجه قضيّة الشرك لأوّل مرّة، فكيف يمكن أن يخضع إنسان عاقل ذو شعور لتمثال حجري أو خشبي قام بصنعه بيده؟ فلو كان يمتلك قليلًا من العقل لكانَ هذا غير مقبول لديه، ولو عرفنا أسباب ذلك لوجدنا أنّ القضيّة ليست بسيطة كما نرى،
فإنّ مجموعة من الأوهام والسفسطة والخيال والعادات طُرحت كأدلّة عقلية وخدعت المشركين.
يقول الفخر الرازي في ذيل تفسير الآية 18 من سورة يونس:
فيمن قالوا في الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه وذكروا فيه أقوالًا كثيرة.
1- إنّ قسماً من عبدة الأوثان اعتقدوا أنّ المدبّر لشؤون أقليم من أقاليم العالم، روح معيّن من أرواح عالم الأفلاك، ولأنّهم لا يصلون إلى تلك الروح صنعوا لها صنماً معيّناً واشتغلوا بعبادته، وكلّ قصدهم هو عبادة تلك الروح، ثمّ اعتقدوا أنّ تلك الروح عبد للإله الأعظم ومشتغل بعبوديته.
2- والقسم الآخر كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أنّ الكواكب هي التي لها أهلية عبودية اللَّه تعالى، ثمّ لمّا رأوا أنّها تطلع وتغرب وضعوا لها أصناماً معيّنة واشتغلوا بعبادتها وغرضهم عبادة تلك الكواكب.
3- أمّا القسم الثالث، فقد وضعوا طلاسم معينة على تلك الأصنام وأخذوا يتقرّبون إلى
__________________________________________________
(1) قال كثير من المفسّرين بأنّ «والذين» مبتدأ وخبره «إنّ اللَّه يحكم بينهم» وجملة «ما نعبدهم» فيها محذوف هو بمنزلة الحال والتقدير «قائلين ما نعبدهم ...».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 181
الأصنام بواسطة هذه الطلاسم «والطلسم: نوع من السحر، ويقول بعض المفسرين أنّ «الطلسم» عبارة عن أشكال ورسومات يعتقدون بأنّها تُمثل سلطات سماوية اختلطت مع الأرض، وأصبحت مصدراً لآثار عجيبة وغريبة! وهذه النقوش مفضلة على أشياء مختلفة، حيث يعتقدون بأنّها وسيلة لدفع الموجودات المؤذية وإبعاد أذاها عنهم» «1»
4- والبعض منهم صنعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنّهم متى ما اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإنّ اولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند اللَّه تعالى.
5- وآخرون اعتقدوا أنّ الإله نور عظيم وأنّ الملائكة أنوار فوضعوا على صور الإله الأكبر الصنم الأكبر وعلى صور الملائكة صوراً اخرى.
6- لعلّ من بين عبدة الاصنام
طائفة من الحلولية حيث يعتقدون أنّ اللَّه يحل في الأجسام الشريفة ولذلك فانّهم دأبوا على عبادة هذه الاجسام «2».
و يقول مفسّر آخر: إنّ أوّل ما عُبِدت الأصنام في قوم نوح عليه السلام وذلك أنّ آدم كان له خمسة أولاد صلحاء وهم «ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر» فمات «ود» فحزن الناس عليه حزناً شديداً فاجتمعوا حول قبره في أرض بابل لا يكادون يفارقونه فلمّا رأى إبليس ذلك جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم: هل تريدون أن أصنع لكم ما إن نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نعم، فصنع لهم تمثالًا.
وهكذا كلّما مات واحد من أبناء آدم صنعوا له تمثالًا وسمّوه بإسمه، وبتقادم الزمان وبنسيان الأجيال أعاد الشيطان قائلًا: إنّ أجدادكم كانوا يعبدون هذه الأصنام فاعبدوها، فأرسل اللَّه إليهم نوحاً عليه السلام فنهاهم عن عبادتهم فلم يجيبوه لذلك ... «3».
__________________________________________________
(1) دائرة المعارف دهخدا ج 32، ودائرة المعارف مصاحب، ج 2، مادة (طلسم).
(2) التفسير الكبير، ج 17، ص 600 (مع الإختصار اليسير).
(3) تفسير روح البيان، ج 4، ص 26 (باختصار).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 182
إنّ أوّل من أقام عبادة الأصنام بين العرب هو عمرو بن لُحَي من قبيلة خزاعة، فقد خرج من مكّة إلى الشام في بعض اموره فلمّا قدم مآب من أرض البلقاء رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا؛ فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له (هُبل)، فقدم به مكّة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه وكانت هناك صخرة يلي عليها السويق للحجّاج رجل من ثقيف وكانت تسمّى صخرة اللات، مات الرجل
فقال لهم عمرو: إنّه لم يمت ولكن دخل في الصخرة وأمرهم بعبادتها ... «1».
ونقل بعض آخر، إنّ ظهور عبادة الأصنام ابتدأته جماعة كانت تنزّه اللَّه إلى درجة لم تسمح لهم بعبادته ولذا صنعت صنماً أجلّ للتقرّب إليه! أو أنّها اعتقدت إنّ الإله عندما يخفى عن الحسّ والعقل فعبادته غير ممكنة، ولذا يجب التقرّب إليه من خلال المحسوسات!
وقال بعض المؤرّخين:
«ويزعمون أن أوّل ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل إنّه كان لا يظعن من مكّة ظاعن منهم، حتّى ضاقت عليهم، والتمسوا الفسح في البلاد إلّاحمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتّى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم «2» حتّى خلق الخُلوف ...».
كما ورد في تفسير الميزان:
وقد كان عبدة الأصنام يعبدون الأصنام ليتقرّبوا بعبادتها إلى أربابها وبأربابها إلى ربّ
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 4، ص 26 (مع اختصار يسير) وقد ذكر العلّامة المجلسي في بحار الأنوار، ج 3، ص 248 بعد الروايات: 1، 7، 8 قصّة ظهور الشرك في قوم نوح هذا وقد ورد في (بلوغ الإرب ج 2، ص 200) قصّة عمرو بن لحي وهديته الخبيثة التي جاء بها من الشام كما نقل ابن هشام في السيرة النبوية ج 1، ص 78. موضوعاً قريباً من هذا المضمون.
(2) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 79.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 183
الأرباب وهو اللَّه سبحانه ويقولون: «إنّنا على ما بنا من ألواث البشرية الماديّة وقذارات الذنوب والآثام لا سبيل إلى ربّ الأرباب لطهارة ساحته وقدسها ولا نسبة بينها وبينه.
فمن الواجب أن نتقرّب إليه بأحبّ خلائقه إليه وهم أرباب الأصنام الذين
فوّض اللَّه إليهم أمر تدبير خلقه، ونتقرّب إليهم بأصنامهم وتماثيلهم وإنّما نعبد الأصنام لتكون شفعاء لنا عند اللَّه لتجلب إلينا الخير وتدفع عنا الشرّ فتقع العبادة للأصنام حقيقة، والشفاعة لأربابها وربّما نسبت إليها» «1».
وبهذا ألبسوا معتقداتهم الخاطئة والخرافية ثوباً منطقياً في الظاهر، وظهر الضلال على صورة الهدى واحتلّت وساوس الشيطان مواقع المنطق والبرهان.
في الحقيقة أنّ الشرك وعبادة الأصنام قضيّة معقّدة وليس وراءها عامل واحد كسائر القضايا الاجتماعية المعقّدة، بل هناك عوامل مختلفة تعاضدت على حدوثها.
فمثلًا نجد أنّ أقواماً عبدوا الشمس والقمر والكواكب وهناك جماعة عبدت النار، وجماعات عبدت الأنهار الكبيرة كالنيل في مصر، والكنج في الهند، ويعني ذلك أنّ كلّ ما فيه الخير والبركة، يكون مقدّساً، وكانت تتضاعف قدسيتها تدريجياً إلى حدّ اعتبارها آلهة!
وبتعبير آخر: كانوا يتيهون في عالم الأسباب وينسون اللَّه وهو (مسبّب الأسباب)، لافتقادهم البصيرة النافذة التي تجتاز الأسباب لتصل إلى خالق الأسباب وانتهى هذا بهم إلى عبادة الأصنام.
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 10، ص 27 ذيل الآية 18 من سورة يونس.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 185
لا شكّ في أنّ عامل التقليد من العوامل المؤثّرة في توارث عبادة الأصنام جيلًا بعد جيل بل وانتشارها في العالم، ويستند القرآن الكريم إلى ذلك مراراً ويطرحه تحت عنوان الدليل الوحيد الذي يتمسّك به مشركو العرب.
إنّ العيش في أجواء الشرك واحترام الأجداد والأسلاف والتأثّر بالتلقين في مرحلة الطفولة قد تعاضدت فيما بينها على إبراز عمل خرافي وخاوٍ تماماً وهو عبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب الفاقدة لكلّ شي ء بشكل منطقي ووجيه بل ومقدّس.
وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّهْتَدُونَ* وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَريَةٍ مِّنْ نَّذيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آباءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقتَدُونَ». (الزخرف/ 22- 23)
2- «قَالُوا نَعبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ* قَالَ هَلْ يَسمَعُونَكُمْ إِذ تَدعُونَ* أَو يَنْفَعُونَكُم أو يَضُرُّونَ* قَالُوا بَلْ وجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ». (الشعراء/ 71- 74)
3- «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا وَتكُونَ
لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِى الأَرْضِ ومَا نَحنُ لَكُمَا بِمُؤمِنِينَ». (يونس/ 78)
4- «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا أَوَلوْ كَانَ آباؤُهُمْ لَايَعقِلُونَ شَيئاً ولَا يَهتَدُونَ». (البقرة/ 170)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 186
5- «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُم عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ» «1». (سورة سبأ/ 43)
«صنم»: كما يقول الراغب في المفردات: تمثال من فضّة أو نحاس أو خشب يعبدونه ويتقرّبون به إلى اللَّه، وفي (لسان العرب): هذا اللفظ أخذ في أصله من (شَمَنْ) وهي كلمة فارسية أو آرامية أو عبرية «2».
وتعتقد جماعة من اللغويين أنّ الفرق بين (الصنم) و (الوثن) هو أنّ صنم يطلق على أصنام لها شكل وصورة خاصّة ولو لم يكن لها شكل وصورة خاصّة اطلق عليه (وثن).
«أب»: ويعني الوالد ويطلق أحياناً على السبب في حدوث شي ء أو (يقوم باصلاحه أو إظهاره) إلّاأنّ هذه المعاني لها خصائص كنائية في الظاهر، وقد جاء في (مقاييس اللغة): إنّ هذا اللفظ يدلّ في أصله على التربية والتغذية وبما أنّ الوالد يغذّي الإبن فقد أطلق عليه هذا اللفظ.
ونقرأ في «كلّيات أبي اللقاء» إنّ أصحاب الشرائع السابقة كانوا يطلقون (أب) على اللَّه لأنّه السبب الأوّل للخلق، ثمّ اعتقد الجهلاء والغافلون بأنّ (أب) هنا تعني الولادة (وبذلك سلكوا طريق الكفر).
وفي كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) وبعد اعتبار الأصل في هذه المادّة هو التربية والتغذية ورد: بلحاظ هذا المفهوم أنّ للأب مصاديق كثيرة مثل اللَّه المتعالي، الوالد، النبي، المعلّم، الجدّ، العم وغيرها (ولذا فإنّ «أب» له مفهوم أوسع من معنى الوالد).
__________________________________________________
(1) وهناك آيات عديدة تتضمّن مضمون هذه الآيات نشير إلى مواضعها: الأعراف،
70 و 173؛ إبراهيم، 10.
(2) ورد لفظ «شمن» في المصادر الفارسية بمعنى عابد الصنم (راجع دائرة معارف دهخدا وقاموس معين وغياث اللغة).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 187
إعتقدت طائفة من مشركي العرب أنّ الملائكة بنات اللَّه وعكفت على عبادتها، والآية الاولى في هذا البحث تردّ على هذا الفكر الجاهلي من جوانب مختلفة فتخاطبهم تارةً: إنّكم تفرحون بالوليد إذا كان ذكراً ولكن تحزنون إذا كان أُنثى فكيف تنسبون إلى اللَّه البنات؟ (هذا الجواب يناسب طبعاً- درجة فهمهم وأفكارهم) وتذكر تارةً اخرى حججهم الواهية لهذه العبادة وتردّهم وتصل إلى هذا الدليل أخيراً: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّهتَدُونَ» «1»
ولكن القرآن يخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مباشرةً ويقول: إنّ التقليد الأعمى هذا والإتّباع اللامشروط واللامقيّد يمثّل عقيدة سلفية وهذه الأعذار الواهية التي لا أساس لها لا تنحصر في مشركي العرب فحسب بل: «وَكَذَلِكَ مَا أَرسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ فِى قَريَةٍ مِّن نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُترَفُوهَا إِنَّا وَجَدنَا آبَاءَنَا عَلَى امَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقتَدُونَ».
وبذلك أشاروا إلى أنّ أحد العوامل الرئيسة في إنتشار خرافة الشرك جيلًا بعد جيل هو التقليد الأعمى واللامشروط واللامقيّد والتحجير على العقل والإدراك وعدم بذل جهود في التحقيق والتدبّر والإستسلام أمام خرافات الأسلاف.
والاستناد إلى عنوان (مترفون) كما يقول بعض المفسّرين فيه إشارة إلى أنّ التشبّث بالدنيا والإستمتاع باللذائذ المادّية والمتنوّعة والكسل أو الجزع من جهود التحقيق والاستدلال هو السبب لهذا التقليد الأعمى القبيح، فلو أنّهم تخلّصوا من هذا الحجاب المظلم لم يصعب عليهم رؤية وجه الحقيقة، ولهذا يقول النبي الكريم صلى الله عليه و آله: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» «2».
__________________________________________________
(1) «امّة» في الآية- كما
يعتقد جمع من المفسّرين- عبارة عن المنهج المتّفق عليه لدى طائفة وقد فسّرها بعض المفسّرين بمعنى الجماعة والفئة، والمعنى الأوّل هو المشهور وإن وردت (امّة) في آيات اخرى بمعنى الجماعة وقد تأتي بمعنى المدّة الزمنية.
(2) التفسير الكبير، ج 27، ص 206، كما توجد إشارة إلى هذا الأمر في تفسير روح البيان وتفسير الميزان في ذيل آية البحث.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 188
والجدير ذكره أنّ ذيل الآية الاولى تنقل عنهم قولهم: «إِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهتَدُونَ» وقولهم في ذيل الآية الثانية «إِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقتَدُونَ» وهذا الاختلاف في التعبير قد يكون من قبيل (العلّة والمعلول) بمعنى أنّهم ادّعوا إنّنا إنّما نقتدي بأسلافنا لأنّ ذلك هو طريق الهدى والوصول إلى الحقّ!
على كلّ حال فإنّ القرآن الكريم في طول هذه الآيات يرد على هذا الفكر الباطل بشكل منطقي جميل ومحكم وينقل عن الأنبياء السابقين قولهم للمشركين المقلّدين الخرافيين:
«قَالَ أَوَلَو جِئتُكُم بِأَهدَى مِمَّا وَجَدتُّم عَلَيهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ». (الزخرف/ 24)
وللتقليد- كما سنبيّن- أنواع وأقسام، فبعضه منطقي ويكون سبباً لانتقال العلوم من جيل إلى جيل آخر، وبعضه خرافة وحمق وسبب لانتقال الخرافات والقبائح ولكلّ ذلك علامات سوف نشير إليها لاحقاً.
الآية الثانية من مجموعة الآيات المتعلّقة بمواجهة إبراهيم عليه السلام مع عبدة الأصنام في بابل حيث سألهم بمنطقه الرصين الصريح: ما تعبدون؟ فكان جوابهم: «قَالُوا نَعبُدُ أَصنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ».
وبهذه الكلمات لم يقرّوا بالشرك فحسب بل راحوا يتفاخرون ويتباهون به، وقد سدّ إبراهيم عليه السلام الطريق عليهم من خلال سؤال واحد: «قَالَ هَلْ يَسمَعُونَكُم إذْ تَدعُونَ أَو يَنفَعُونَكُم أَو يَضُرُّونَ»، أي أنّها (الأصنام) إن لم تنفع ولم تضرّ فلابدّ من أن تسمع نداء عبّادها على الأقل وإلّا
لا معنى لعبادتها.
ولكن اولئك الذين لم يجرأوا على الادّعاء بأنّ الأصنام الحجرية والخشبية تسمع دعاءهم وتضرّعهم، كما أنّهم لم يمتلكوا دليلًا على إثبات ضرّها ونفعها لتبرير عملهم، اضطرّوا للتمسّك بأسلافهم والتشبّث بالتقليد الأعمى وقالوا: «بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا كَذَلِكَ يَفعَلُونَ».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 189
وهذا الجواب وإن كان مخجلًا إلّاأنّهم لم يملكوا شيئاً ليقدّموه.
وفي طول هذه الآيات يردّهم إبراهيم عليه السلام بمنطق رصين: «قَالَ أَفَرَأَيتُم مَّا كُنتُم تَعبُدُونَ* أَنتُم وآباؤكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُم عَدُوٌ لِّى إِلَّا رَبَّ العَالَمِينَ* الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِى هُوَ يُطعِمُنِى ويَسقِينِ* وَاذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشفِينِ* وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحيِينِ* وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَومَ الدِّينِ». (الشعراء/ 75- 82)
أي أنّه أهل للعبادة فهو المبدى ء لكلّ الخيرات والبركات، لا تلك الموجودات الخاوية والفاقدة للقيمة.
وتنقلُ الآية الثالثة كلاماً لقوم فرعون وفيها انعكاس لهذا المضمون بشكل آخر حيث تقول: «قَالُوا اجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا وَتَكونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِى الْأَرْضِ» «1»
وعليه «وَمَا نَحنُ لَكُمَا بِمُؤمِنِينَ».
انّهم استندوا- في الحقيقة- إلى هذه النقطة فقط لإثبات صحّة مسلكهم وقداسته وهي أنّ هذا هو طريق الأسلاف ودينهم وعادتهم، ولكي يتّهموا موسى وهارون بأنّهما يتآمران قالوا: إنّكما تبغيان الحكومة عن طريق الدعوة إلى التوحيد وهدم الشرك وعبادة الأصنام من أساسها ولا نسمح بذلك! ويبدو أنّ هذا الكلام القي من قبل زبانية فرعون حيث عارضوا دعوة موسى وهارون للتوحيد بطريقين شيطانيين:
أحدهما: هو إثارة العواطف لدى عامّة الناس الجاهلين وذلك بالتحذير من أنّ دين أسلافهم في خطر، والآخر: هو إثارة سوء الظنّ فيهم بوصف دعوة موسى وهارون أنّها تجري وفق مخطّط مسبق للوصول إلى الحكم وإلّا فإنّها لا واقعية لها.
وقد استخدم هؤلاء الجبابرة والطغاة هذين الطريقين لاستغفال الناس ومواصلة
حكمهم
__________________________________________________
(1) «لتلفتنا» من «لفت» وهو الصرف عن الشي ء أو الإلفات إلى الشي ء لو تعدّت ب (من) فإنّها تعني الإنصراف و ب (إلى) فإنّها تعني (التوجّه).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 190
الاستبدادي، كما يلاحظ في الآية حيث جاء التعبير أكثر صراحة: «قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخرِجَاكُم مِّنْ أَرضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثلَى . (طه/ 63)
إنّ الآية الرابعة تنقل هذا المضمون على صورة إجابة دائمة من قبل مشركي مكّة حيث تقول: «وَاذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما انزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا».
وهذا في الحقيقة هو منطق كلّ معاند لجوج حيث يتوسّل بالتقليد حينما يعجز عن كلّ شي ء، التقليد الأعمى للأسلاف الضالّين والجاهلين والتفاخر بذلك دون امتلاك أي جواب تجاه الأدلّة المحكمة التي أقامها الأنبياء لإثبات حقّانية دعوتهم وبطلان الشرك وعبادة الأصنام.
والقرآن الكريم يردّ هذا المنطق بجملة قصيرة واحدة حيث تقول في طول هذه الآية بشكل سؤال: «أَوَلَو كَانَ آباؤُهُم لَايعقِلُونَ شَيئاً ولَا يَهتَدُونَ» «1».
أي أنّ تقليدهم لو كان كتقليد الجاهل للعالم لكان مقبولًا، ولكنّه ليس كذلك بل هو تقليد جاهلٍ لجاهلٍ آخر، واتّباع ضالٍ لضالٍ آخر، فمثلهم كالأعمى الذي يقوده أعمى آخر.
إنّ هذه الآية وما سبقها من آيات تتحدّث- كما يفهم من سياقها- عن مشركي العرب، وما احتمله بعض المفسّرين من انّها تقصد اليهود وما ورد عن ابن عباس بشأن سبب نزولها يُعد أمراً بعيداً.
__________________________________________________
(1) في الآية جملة مقدّرة معناها: «أيتّبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كلّ حال وفي كلّ شي ء ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 191
تحدّثت الآية الخامسة والأخيرة عن مشركي العرب أيضاً حيث كانوا: «وإِذَا تُتْلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا
مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُم عَمَّا كَانَ يَعبُدُ آبَاؤُكُمْ».
والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول: إنّهم كانوا يواجهون (الآيات البيّنات) بمنطق (التقليد) والاستهزاء بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله فكانو يدعونه بكلمة «رجل» ولكي يستميلوا عامّة الناس إليهم يخاطبونهم ب (أسلافكم) بدلًا من (أسلافنا) ليثيروا عصبيتهم في مواجهة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.
ومن مجموع هذه الآيات نستنتج أنّ ظاهرة التقليد الأعمى تعدّ من العوامل المؤثّرة في تناقل الإعتقاد بالصنم في العصور والقرون السالفة، ولم يكن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله الوحيد من الأنبياء الذي تعرض لهذا الاسلوب عندما صدع بدعوته ونهض لمقارعة الشرك وعبادة الأصنام، فقد واجهه قومه بحجة تقليد الآباء والأجداد ومن سلفوا، وقد جاء هذا المعنى في الآية 43 من سورة سبأ والآية 22 من سورة الزخرف بل إنّ أنبياءً ورسلًا أمثال موسى عليه السلام، كما ورد في الآية 78 من سورة يونس وابراهيم عليه السلام، وكما ورد في الآيات 70 إلى 74 من سورة الشعراء وهود عليه السلام، وكما ورد في الآية 70 من سورة الاعراف وصالح عليه السلام، وكما ورد في الآية 62 من سورة هود تعرضوا إلى مثل ما تعرض له الرسول صلى الله عليه و آله حيث واجههم أقوامهم بحجة تقليد الاسلاف والسير على عاداتهم التي ألفوها منهم.
وهذه الحجة الواهية والمزيفة تثار في أوساط جميع الأقوام وعلى مرّ العصور، فعبدة الأصنام وفي كافة انحاء العالم ومن أجل مواجهة الأنبياء والرسل وحملة راية التوحيد، فانهم يثيرون مثل هذه الحجة الجاهله، وقد أشارت الآية 23 من سورة الزخرف إلى هذا المعنى
ومن الواضح أنّ التقليد الأعمى لم يكن العامل الأوّل لظهور الشرك، بل يشكّل عاملًا
لاستمراره وانتقاله من جماعة إلى اخرى ومن جيل إلى جيل.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 192
ممّا لا شكّ فيه أنّ التقليد إذا تمثّل في اتّباع وإقتباس عديمي الاطلاع من العلماء فإنّه عامل على إيجاد حركة تكاملية في المجتمعات البشرية وأساساً نجد أنّ العلوم والأفكار والآداب والعادات البنّاءة، كما أنّ الشؤون التربوية والإنسانية قد انتقلت من جيل إلى جيل عبر هذا الطريق.
إنّ الأطفال يكتسبون جلّ معلوماتهم من المجتمع عن هذا الطريق تقريباً، كما أنّ الصناعات والحِرف والفنون تتوسّع وتتكامل بهذا الطريق أيضاً، ولولا روح التقليد الإيجابية والبنّاءة لم تحدث هذه الحركة التكاملية أبداً.
إنّ تقليد «الجاهل للجاهل» أو «العالم للجاهل» يكون سبباً لشيوع الفساد والانحراف والاخلاق الفاسدة، والخرافات، والانحرافات الفكرية من قوم إلى قوم أو جيل إلى جيل، ومثل ذلك كمثل الماء الصافي والذي يمثل عصب الحياة، فإذا ما تلوث بالأمراض والميكروبات فسوف يصبح وسيلة لانتشار الميكروبات والأمراض والأوبئة.
وكثيراً ما ينشأ التقليد من الكسل والتعصّب، فالذين لا يتحمّلون جهود التحقيق لما فيهم من كسل يقبلون على التقليد، والمعاندون المتعصّبون الذين لا يهتمون للبحث عن نقاط القوّة لدى الأقوام الاخرى والإذعان لها، يألفون نقاط الضعف الموجودة في مجموعتهم، وقد كان هذا النمط من التقليد الأعمى والمتعصّب والرجعي هو العامل المهمّ لشيوع الشرك وعبادة الأصنام على مرّ التاريخ «1».
يستفاد من الآيات القرآنية أنّ (اتّباع الهوى) كان من عوامل الشرك أيضاً، كما نقرأ في
__________________________________________________
(1) هناك بحوث حول أنواع التقليد وشرائط التقليد الإيجابي ودوافع التقليد الأعمى وشرحت كلمة (تقليد) في الجزء الأوّل من هذا التفسير في موضوع (حجاب التقليد)، ج 1، ص 273.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 193
قصّة السامري جوابه حينما سأله موسى عليه السلام عن الدافع لعمله بأنّه لاحظ اموراً لم يلاحظها غيره فقال: أخذت بعض آثار الرسول وألقيتها خارجاً وأقبلت على
الشرك: «وَكَذَلِكَ سَوّلتْ لِى نَفسى».
كما يستفاد من الآيات القرآنية أنّ تزيين الشيطان ووساوسه هي العوامل الممهّدة للشرك أو استمرارها، كما نقرأ في قصّة ملكة سبأ أنّ الهدهد عندما أخبر سليمان عليه السلام عن شرك قوم سبأ قال: «وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمسِ مِنْ دُونِ اللَّه وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَايَهتَدُونَ». (النمل/ 24)
وما ينبغي ملاحظته هو أنّ هوى النفس ووساوس الشيطان تظهر في إطار العوامل السابقة كعبادة الأوهام (التقليد الأعمى) (العصبية اللجوجة) ولذا لم نورد هنا عامل هوى النفس كعامل مستقل.
يعتبر الشرك وعبادة الأصنام من الوسائل التي استخدمها المستكبرون والمستعمرون بشكل دائم لأنّه:
أوّلًا: إنّ البسطاء من الناس يُعتبرون وسائل طيّعة للمستكبرين، ولذا يكون التحرّك الاستعماري دائماً باتّجاه الجهل والغفلة في أوساط المستضعفين، ويسعى باستمرار إلى صدّ الناس عن الوعي واليقظة والعلم والفكر وغلق أي نافذة للتحقيق في وجوههم وإغراقهم في التقليد الأعمى الذي ينشأ منه الجهل المطبق كما يقول القرآن عن فرعون:
«فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ». (الزخرف/ 54)
وبما أنّ الشرك قائم على عبادة الأوهام والظنون فإنّه عامل مؤثّر في استغفال الجماهير، وهو أداة نافعة لتحقيق أهداف المستكبرين.
ثانياً: يعتبر الشرك عاملًا من عوامل الاختلاف والتفرّق فيوعِز لكلّ قوم بأن يتّخذوا
نفحات القرآن، ج 3، ص: 194
معبوداً لهم، فيدفع مجموعة لعبادة الشمس، ومجموعة لعبادة القمر، ويشغل مجموعة ب (هبل)، ومجموعة ب (اللات) و (العزّى)، حتّى انقسم المجتمع العربي الصغير في الجزيرة إلى مئات المجموعات بسبب عبادة الأصنام المختلفة، على عكس التوحيد الذي يمثّل حلقة الوصل بين القلوب ورابطاً وثيقاً بين الأفكار.
ونعلم أيضاً أنّ الاختلاف ما دام قائماً فإنّ المستعمرين في راحة بال، وأنّ مقولة (فرّق تسد) تُعدّ من أقدم المبادئ الاستعمارية، فلا عجب في أن يكون
الفراعنة ونمرود وأبو سفيان وأمثالهم من أنصار الشرك وعبادة الأصنام.
ثالثاً: يهدف المستكبرون دائماً إلى أن يخضع الناس لهم وكأنّهم آلهة ويتلقّون أوامرهم كأوامر مقدّسة لا نقاش فيها.
ومن الواضح أنّ من يسجد للحجر والخشب يكون أكثر تقبّلًا للآلهة البشرية، ولذا أخذ فرعون ينادي في مصر (أنا ربّكم الأعلى) واعتبر نفسه أعلى من الآلهة كلّها.
بناءً على هذه الجوانب الثلاثة فلا عجب أن تتواكب الأفكار الاستعمارية مع الشرك وعبادة الأصنام، وأن يكون خطّ الأنبياء الذي يمثّل خطّ القضاء على الاستعمار والاستضعاف هو خطّ التوحيد واليقظة والوعي، لنتذكّر مرّة اخرى الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام الذي قال فيه: «إنّ بني اميّة أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه» «1».
إنّ هذا المضمون وان لم يصرّح به في الآيات القرآنية إلّاأنّه اشير إليه كما نقرأ في الآية:
«وَلَو تَرى اذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِم يَرجِعُ بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ القَولَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَولَا انتُم لَكُنَّا مُؤمِنِينَ». (سبأ/ 3)
من خلال البحوث التي أوردناها تتّضح هذه الحقيقة وهي: إنّ الشرك وعبادة الأصنام
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 2، ص 415.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 195
كسائر الظواهر الاجتماعية لا تنشأ من عامل واحد بل توجد عوامل مختلفة تعاضدت على ايجاده، من بينها.
الميل إلى المحسوسات والإستئناس بها والمطالبة بإله محسوس.
واللجوء إلى الأوهام في المجتمعات المتخلّفة (الظنّ بتأثير الأصنام في الشفاعة والعزّة والنصر والتقرّب إلى اللَّه والظنّ بعدم إمكانية عبادة اللَّه بصورة مباشرة ووجوب استخدام الوسائط والظنّ بقداسة التماثيل المصنوعة على هيئة الأنبياء والصلحاء وأوهام اخرى).
وهكذا التقليد الأعمى للأسلاف وعدم الإستعداد للتحقيق في قضيّة المعرفة الإلهيّة.
كذلك استغلال المستكبرين والمستعمرين للميل إلى الشرك وعبادة الأصنام
للوصول إلى أهدافهم الشيطانية، واستغفال الناس كانت عوامل مختلفة سبّبت نشوء فكرة الشرك أو استمراره وبقاءه على طول التاريخ.
وقد واجهت هذه التيارات المنحرفة القويّة خطّ الأنبياء الذي يدعو البشر من جهة إلى التحرّر من إطار الحسّ وإدراك ما وراء الطبيعة، ومن جهة اخرى يدعوهم إلى عبادة اللَّه مباشرةً والخضوع بين يدي ربّ الكون كلِّه واللجوء إلى ذاته المقدّسة في كلّ حال والقضاء على الأوهام.
ومن جهة ثالثة يدعو لكسر طوق التقليد الأعمى والإقبال على البحث في عالم الوجود ومعرفة الآيات الإلهيّة في الآفاق والأنفس.
ومن جهة رابعة يدعو عالم البشرية إلى الوحدة وتحطيم الأصنام المفرِّقة والتحرّر من نير الإستغلال والاستعمار والغفلة والاستضعاف.
هذه هي الخطوط العامّة للكفر والإيمان والشرك والتوحيد.
ونختم هذا الكلام بما أورده العلّامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان في ذيل الآيات 36- 49 من سورة هود تحت عنوان (كيف وُجِدَ الشرك): «اتّضح من الفصل المتقدّم أنّ الإنسان في مزلّةٍ من تجسيم الامور المعنوية وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوّة فائقة قاهرة والإعتناء بشأنها،
نفحات القرآن، ج 3، ص: 196
ولذا كانت روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرّز والإجتناب في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتّى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين، فترى فيها من النُّصب وتماثيل الرجال وتعظيمها واحترامها والمبالغة في الخضوع لها ما يمثّل لك وثنية العهود الاولى والإنسان الأوّلي، على أنّ اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مئات الملايين قاطنين في شرقها وغربها.
ومن هنا يتأيّد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتّخاذ تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصّة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، وكان
ربّ البيت في الرومان واليونانيين القدماء- على ما يذكره التاريخ- يُعبد في بيته، فإذا مات اتّخذ له صنم يعبده أهل بيته، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في أقوامهم، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم عليه السلام ... وهو ذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم، وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كبوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم، واتّخاذهم الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنّهم كانوا يرون أنّهم لا يبطلون بالموت وإنّ أرواحهم باقية بعده، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجوداً وأنفذ إرادةً وأشدّ تأثيراً من شوب المادّة ونجت من التأثيرات الجسمانية والإنفعالات الجرمانية، وكان فرعون موسى يعبد أصناماً له وهو إله معبود في قومه: «وَقَالَ المَلَأُ مِنْ قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وقَومَهُ لِيُفسِدُوا فِى الأرضِ وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ»» «1».
وما جاء في هذا البحث هو بعض عوامل الشرك، ولا بأس من الإشارة أخيراً إلى نقطة تثير العجب ذكرها المؤرّخ الغربي الشهير (ويل ديورانت) في كتابه التاريخي (قصّة الحضارة) وأيّده الكثير من الذين سافروا إلى خارج البلاد في هذا العصر بملاحظاتهم في تلك البلدان وهو وجود أصنام كثيرة صنعت على صورة الأجهزة التناسلية للذكر والانثى! حيث تعبد من قبل مجموعة كبيرة!
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 10، ص 275- 277 (مع التلخيص).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 197
ويكتب: لَعلَّ (القمر) هو أوّل شي ء كانت له أولوية العبادة، فقد كان الإله المحبوب لدى النساء وعبدنه حامياً لهنّ، واعتقدن بأنّ للقمر حكومة على الأنواء الجوّية وينزل هذا الجرم السماوي المطر والثلوج، حتّى أنّ الضفادع- كما في الأساطير- تتضرّع إليه كي ينزل المطر.
وبعد
التفصيل في هذا المجال وفي عبادة الشمس والأرض والجبال والبحار يضيف: بما أنّ الإنسان الأوّل لم يدرك أنّ حقيقة انعقاد نطفة الإنسان من (الحيمن) و (البويضة)، فلذلك كانوا يعتقدون بأنّ المبدأ الوحيد في وجود البشر هو هذا الموجود العجيب أي (الآلة التناسلية لدى الرجل والمرأة) اعتقدوا وجود روح عجيبة فيهما هي المبدأ لهذا الأثر العجيب، وهذا الأمر كان سبباً في الإعتقاد التدريجي بإلُوهيتهما وتحوّلهم إلى عبَدة لتماثيل الآلة التناسلية!!
والأعجب أنّه يكتب: قلّما نجد قوماً لا يعبدون هذا الصنم بشكل ما! «1».
وكما أشرنا فإنّ عبادة الأصنام لا تزال منتشرة في الهند واليابان في الوقت الحاضر.
ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ الإنسان إذا انحرف عن تعليمات الأنبياء: سيقع في مستنقعات متعفّنة وسيرتكب أعمالًا مضحكة ومخجلة.
أمّا الموحّدون ذوو الدين الحقّ والقلب السليم فعليهم أن يشكروا اللَّه كثيراً على تحرّرهم بفضل تعليمات الأنبياء من التلوّث بالشرك والسقوط في هذه الأودية الموحشة.
__________________________________________________
(1) تاريخ ويل ديورانت، ج 1، ص 95 (مع التلخيص).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 199
1 و 2- توحيد الذات والصفات
3- توحيد العبادة
4- توحيد الأفعال
نفحات القرآن، ج 3، ص: 201
قرأنا في البحوث السابقة أنّ الأساس في دعوة جميع الأنبياء والكتب السماوية كما يشهد بذلك القرآن الكريم- هو التوحيد- وقد شرحنا الأدلّة عليه من القرآن والمنطق العقلي، وقد آن الأوان هنا لمراجعة الأبعاد المختلفة والفروع المتنوّعة والغنية للتوحيد، ومن هنا تتجلّى أهميّة هذه المسألة.
ومن المعروف لدى علماء العقائد أنّ التوحيد ذو اقسام أساسية أربعة:
1- توحيد الذات (ذات اللَّه واحدة ولا مثيل لها).
2- توحيد الصفات (صفات اللَّه عزّوجلّ ترجع كلّها إلى حقيقة واحدة هي ذاته).
3- توحيد العبادة (تليق العبادة بذاته المقدّسة فقط).
4- توحيد الأفعال (هو المبدى ء لكلّ خلق ونظام الكون وكلّ حركة وفعل في هذا العالم ولا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه سبحانه ولا يتنافى هذا مع اختيار الإنسان أبداً وتوحيد الأفعال له فروع اخرى أهمّها:
1- توحيد الخالقية (الخلق منه فقط).
2- توحيد الربوبية (تدبير الكون إليه فقط).
3- توحيد المالكية والحاكمية التكوينية.
4- توحيد الحاكمية التشريعية والتقنينية.
5- توحيد الطاعة (تجب طاعة أوامره فقط أو أوامر الذين أمر بطاعتهم) ولا شكّ في أنّ أفعال اللَّه لا تنحصر في ما ذكر، ولذا فإنّ فروع توحيد الأفعال لا تنحصر فيما ذكر ولكن هذه الفروع الخمسة هي الفروع الرئيسة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 202
وضروري أن نذكر بأنّ التوحيد يمكن تقسيمه من جهة إلى قسمين: التوحيد (الخاص) والتوحيد (العام).
التوحيد الخاصّ: هو فروع التوحيد التي اشير إليها بصورة إجمالية.
أمّا التوحيد العام فهو عبارة عن:
1- التوحيد في النبوّة (فجميع الأنبياء: تابعوا هدفاً واحداً وكان لهم منهج أساسي واحد، ولذا لا نفرّق بينهم من حيث الدعوة والمهمّة): «لا نُفرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِّنْ رُسُلِهِ».
2- التوحيد في المعاد (يحشر جميع البشر في
يوم واحد ويحضرون محكمة واحدة).
3- التوحيد في الإمامة (مبدأ الأئمّة واحد ويسعون وراء حقيقة واحدة وهم نور واحد).
4- التوحيد في النظم والعدل (القانون الإلهي واحد بالنسبة لجميع البشر).
5- التوحيد في المجتمع البشري (الجميع عباد اللَّه ومن أب واحد وامّ واحدة لا يختلفون باختلاف اللون والعنصر واللسان وأمثالها ويشكّلون مجتمعاً واحداً).
وبهذه المقدّمة نراجع الآيات القرآنية ونبحث حول كلّ فرع من هذه الفروع بصورة مستقلّة.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 203
المراد من توحيد الذات- حيثما كان الحديث عنه- هو أنّ ذات اللَّه المقدّسة لا شبيه ولا نظير لها، وهي واحدة لا مثيل لها من أيّ جهة.
وبما أنّ الأبحاث السابقة كانت تدور- عادةً- حول محور توحيد الذات وقد اقيمت أدلّة مختلفة لإثبات التوحيد والآيات القرآنية التي تمّ تفسيرها كانت تقصد التوحيد بهذا المضمون، لذا ننصرف عن تكرار البحث بصددها ونتابع التفسير الدقيق لمعنى توحيد الذات، فنتأمل خاشعين أوّلًا في الآيات الآتية:
1- «لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ». (الشورى/ 11)
2- «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ومَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا الَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». (المائدة/ 73)
3- «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَم يَلِدْ وَلَم يُولَدْ* وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ».
(التوحيد/ 1- 4)
تفسّر الآية الاولى توحيد الذات في جملة واحدة تفسيراً بليغاً ورصيناً غني المعنى حيث تقول «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 204
ومثل هذا الشي ء- بالتأكيد- يكون أعلى من الخيال والقياس والظنّ والوهم، وليس بمقدورنا تصوّر ذاته، لأنّ الأشياء الممكن تصوّرها هي التي لاحظنا أمثالها أو تحصّلت بعد التركّب والتجزئة، أمّا الشي ء الذي ليس له أي مثيل فلا يتناوله الوهم والعقل أبداً، ومعرفتنا تكون بمقدار أنّه موجود ونرى أفعاله وآثاره في عالم الوجود الواسع، ومن هذه الأوصاف ندرك صفاته إجمالياً، ولكن ليس بمقدور حتّى الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين أن يدركوا حقيقة ذاته.
والإقرار بهذه الحقيقة هو آخر مرحلة في سلّم معرفة الإنسان لله عزّوجلّ والحديث المعروف: «ما عرفناك حقّ معرفتك» «1»
المروي عن النبي صلى الله عليه و آله بيان لذروة العرفان البشري باللَّه عزّوجلّ.
والدليل على ذلك واضح لأنّه كما ذكر في بحث
أدلّة التوحيد هو وجود لا متناهٍ ولا نهاية له من كلّ جهة، وكلّ ما سواه محدود ومتناهٍ من كلّ جهة، ولذا لا يمكن قياسه إلى غيره، وبما أنّ وجودنا وعقولنا وأفكارنا محدودة فإنّا لا نصل إلى كُنه تلك الحقيقة اللامحدودة أبداً.
استناداً إلى هذا التفسير فإنّ (الكاف) في (ليس كمثله شي ء) تكون زائدة وللتأكيد «2»، أي لا يوجد شي ء شبيه له أبداً، نعم يمكن أن يفيض سبحانه من وجوده وعلمه وقدرته في عالم الممكنات ولكن مخلوقاته الممكنة ليست مثله أبداً.
ولكن بعض المفسّرين لم يعتبر (الكاف) زائدة وقالوا: مفهوم الآية هو (لا يوجد مثيل للَّه) أي أنّ (مثل) هنا تعني (الذات) كما نقول: مثلك لا يسلك هذا الطريق المعوج، أي لا ينبغي لك أن تفعل هذا.
وقال البعض أيضاً: إنّ (مثل) هنا بمعنى الصفات، أي لا يوجد موجود يتّصف بأوصاف اللَّه.
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 14.
(2) جاء في تفسير روح المعاني: إنّ بعض المفسّرين اعتبر (مثل) زائدة ولكن أشكل عليه أبو حيّان وقال: الإسم لايكون زائداً في اللغة العربية أبداً.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 205
وواضح أنّ نتيجة هذه التفاسير الثلاثة في بحثنا تكون واحدة وإن كانت تبحث الموضوع من طرق متباينة.
والجدير ذكره هو أنّنا نقرأ في حديث أنّ رجلًا جاء إلى الرسول صلى الله عليه و آله وسأل: ما رأسُ العلمِ؟ فأجابَ صلى الله عليه و آله: «معرفة اللَّهِ حقَّ معرفته وأضاف: أن تعرفه بلا مثال ولا شبه وتعرفه إلهاً واحداً خالقاً قادراً أوّلًا وآخِراً وظاهراً وباطناً، لا كفو له ولا مثل له فذاك معرفة اللَّه حقّ معرفته» «1»
ومن الواضح أنّ (حقّ معرفته) هذه نسبية وإلّا- كما قلنا- لا يعرفه على ما هو عليه
أحد.
في الآية الثانية يعتبر القرآن الكريم القائلين بأنّ اللَّه ثالث أقنوم من الأقانيم الثلاثة «2» كفّاراً: «لَقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا انَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ».
وينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية لم تقل: إنّ الذين يعتقدون بالآلهة الثلاثة كفّار، بل قالت:
(إنّ الذين يعتبرون اللَّه أقنوماً ثالثاً أو ذاتاً ثالثة كفّار)، وقد سلك المفسّرون في فهم مضمون الآية مسالك مختلفة.
فقال بعضهم: إنّ المراد هم الذين يعتقدون أنّ اللَّه جوهر واحد في الذوات الثلاثة (الأب) و (الإبن) و (روح القدس)، ويقولون: إنّه واحد في عين تعدّده، كما أنّ لفظ الشمس يشمل قرص الشمس ونورها وحرارتها والثلاثة واحدة «3».
وبعبارة اخرى: المراد هو عقيدة (التوحيد في التثليث) القائلة بأنّ اللَّه في عين كونه ثلاثة يكون واحداً (وهذا كلام غير معقول طبعاً لأنّ العدد «ثلاثة» لا يساوي «واحداً» أبداً، إلّاأن يكون أحدهما مجازياً والآخر حقيقيّاً).
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 14.
(2) «الأقنوم» بمعنى الأصل والذات وجمعه أقانيم، وهو تعبير يطلقه النصارى على الآلهة الثلاثة في مسألة التثليث.
(3) تفسير الكبير، ج 12، ص 60.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 206
وقد جاء في تفسير القرطبي: إن الآية تشير إلى فرق النصارى من الملكية (أو الملكانية) والنسطورية واليعقوبية لأنّهم يقولون: أب وابن وروح القدس إله واحد «1».
ولكن الظاهر أنّه خطأ لأنّهم نسبوا هذه العقيدة إلى جميع النصارى في القول بالتثليث والتوحيد معاً.
والعلّامة الطباطبائي رحمه الله يقول: إنّ ثالث ثلاثة يعني أنّ كل واحد من هذه الثلاثة: (الأب والإبن وروح القدس، هو إله ينطبق على كلّ واحد منها وهي ثلاث ذوات وفي الوقت نفسه ذات واحدة) «2».
ولكن الآية تتحدّث في الظاهر عن غير هذا كلّه، فالكلام يدور حول الاعتقاد بأنّ اللَّه ذات ثالثة كفر،
أي ليس الإعتقاد بالآلهة الثلاثة موجباً للكفر بل جعل اللَّه تعالى في عرض الموجودات الاخرى واعتباره الثالث من الذوات الثلاثة، وبعبارة اخرى اعتبار (الوحدة العددية) له موجب للكفر (فتأمّل جيّداً).
وقد ورد بيان هذا المعنى بشكل لطيف في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث نقرأ بأنّ أعرابياً جاء إلى أمير المؤمنين في يوم حرب الجمل فقال: ياأمير المؤمنين أتقول: إنّ اللَّه واحد؟
فحمل الناس عليه وقالوا: ياأعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم؛ ثمّ قال:
«ياأعرابي إنّ القول في أنّ اللَّه واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على اللَّه عزّوجلّ، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أما ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة؛ وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي، ج 44، ص 2246، وقد جاء هذا المعنى أيضاً في تفاسير اخرى مثل روح البيان والمنار في ذيل آية البحث.
(2) تفسير الميزان، ج 6، ص 73.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 207
يجوز لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا؛ وقول القائل: إنّه عزّوجلّ أحديُّ المعنى يعنى به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربّنا عزّ وجلّ» «1».
القسم الثالث والأخير عبارة عن سورة التوحيد التي ترسم وحدانية اللَّه بأروع الصور وتتضمّن كلاماً
جامعاً ينفي تثليث النصارى والثنوية (عبادة الإثنين) لدى المجوس وشرك المشركين، فتقول أوّلًا: «قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، وهو تعبير يدلّ على أنّ أسئلة مختلفة قد طُرحت على نبي الإسلام صلى الله عليه و آله حول المعبود الذي يدعوهم إليه، فامر أن يشرح لهم جميعاً حقيقة التوحيد بهذه الجمل القصيرة المركّزة المعنى.
«أحد»: وأصلها (وَحَد) من (وحدة) إستبدلت الواو فيها بالهمزة ولذا يعتبر الكثير أنّ (أحد) و (واحد) بمعنى واحد، وقد اشير إلى هذا المضمون في بعض الروايات وكلاهما إشارة إلى الذات التي لا مثيل لها «2».
وقد فرّق البعض بين (أحد) و (واحد)، فقالوا تارةً: إنّ (أحد) من الصفات المختصّة باللَّه لأنّه لا يطلق على الإنسان وغيره، أمّا (واحد) فانّه ليس كذلك.
وقالوا تارة اخرى: إنّ (واحد) يستعمل في الإثبات والنفي ولكن (أحد) يستعمل في النفي فقط.
وقالوا تارةً ثالثة: إنّ (أحد) إشارة إلى وحدة الذات و (واحد) إشارة إلى وحدة الصفات.
وقالوا رابعة: إنّ (أحد) يطلق على الذات التي لا تتقبّل الكثرة لا في الخارج ولا في الذهن، ولذا لا يمكن عدّه بعكس الواحد الذي يتصوّر له الثاني والثالث.
وقالوا خامسة: إنّ (أحد) إشارة إلى بساطة ذات اللَّه عزّوجلّ ونفي أي جزء عنه، في حين أنّ (واحد) فيه إشارة إلى وحدانية ذاته قبالة أن يكون له مثيل، غير أنّ تلك التفاسير الخمسة لا تمتلك دليلًا واضحاً، فمثلًا يقال: يوم الأحد، ويطلق الواحد على اللَّه في القرآن: «إِلَهٌ وَاحِدٌ». (البقرة/ 163)
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 206، ح 1.
(2) المصدر السابق، ص 222.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 208
وكما أنّ «أحد» استعمل في جملة ثبوتية كما في سورة البحث وآيات قرآنية اخرى «1».
فالصحيح هو أن نقول بأنّ الإثنين يشيران
إلى معنى واحد.
على كلّ حال، يعتقد بعض المفسّرين أنّ جملة (اللَّه أحد) هي أكمل وصف لمعرفة اللَّه يمكن أن يستقرّ في عقل الإنسان، لأنّ كلمة (اللَّه) تشير إلى الذات التي لها صفات الكمال كلّها وفي (أحد) إشارة إلى نفي الصفات السلبية كلّها «2».
والقرآن الكريم في إكمال هذه الآيات يقول: «اللَّهُ الصَّمَدُ» فهو إله قائم بالذات وغني ويقصده كلّ المحتاجين ويتوجّهون إليه.
وكلمة «صمد» كما في (مقاييس اللغة) لها أصلان: أحدهما يعني القصد، والثاني الصلابة والإستحكام، وعندما تستعمل بصدد اللَّه تعالى فإنّ معناها هو الغني المطلق الذي يتوجّه إليه كلّ المحتاجين، وتعني أيضاً الذات الواجبة الوجود والقائمة بذاتها.
ومن الممكن أن يرجع الأصلان إلى أصل واحد، لأنّ الذات المستحكمة والصلبة والقائمة بذاتها تكون غنيّة- طبعاً- وموضعاً لتوجّه جميع المحتاجين، وعليه فإنّ (صمد) يمكن أن يكون إشارة إجمالية إلى جميع الصفات الثبوتية والسلبية للَّه تعالى، ولعلّه لهذا الدليل ذُكرت معانٍ كثيرة ل (صمد) في الروايات الإسلامية حيث يشير كلّ واحد منها إلى إحدى صفات اللَّه «3».
على أيّة حال، لا تخفى العلاقة بين هذه الآية والآية السابقة لها التي تتحدّث عن وحدانية اللَّه، لأنّ واجب الوجود والغني وحاجة جميع الموجودات إليه تستلزم أن يكون واحداً وأحداً.
وفي الآية اللاحقة تأكيد آخر على حقيقة التوحيد حيث ترد عقيدة النصارى في الآلهة الثلاثة (الأب، والإبن، والواسطة بينهما)، وتبطل عقيدة اليهود بأنّ عزير ابن اللَّه، كما تبطل
__________________________________________________
(1) الآيات: التوبة، 6؛ النساء، 43؛ مريم، 26؛ البقرة، 180؛ الكهف، 19؛ وآيات كثيرة اخرى.
(2) تفسير الكبير، ج 32، ص 180.
(3) راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 2 من سورة الاخلاص.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 209
عقيدة المشركين العرب في أنّ الملائكة بنات اللَّه، أجل، إنّها ومن
أجل نفي هذه الامور كلّها وأمثالها تقول: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ».
ومن المسلّم به أن يكون للوجود الذي له ولد أو والد شبيه ومثيل، لعدم إمكانية إنكار الشبه بين الأب والإبن، وعليه لا يمكن أن يكون واحداً ولا مثيل له.
ولذا يقول بعد هذه الآية: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ».
وعليه فإنّ الآيات الثلاثة من هذه السورة تؤكّد على أحدية اللَّه المقدّسة ووحدانيته وعدم الشبيه والمثيل له، وبعبارة اخرى تكون كلّ آية في هذه السورة تفسيراً للآية السابقة لها، وبمجموعها أوضحت مسألة التوحيد بشكل جامع وتامّ وتجسّدت شجرة التوحيد الطيّبة بكلّ أغصانها وأوراقها.
يذهب الكثير إلى أنّ: معنى توحيد الذات هو أنّ اللَّه واحد وليس إثنين، وهذه العبارة غير صحيحة وغير مطابقة لما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير هذه الآيات، لأنّ مفهومها الواحد العددي (أي أن يتصوّر الثاني للَّه عزّوجلّ ولكن لا وجود خارجي له) ومن المسلّم أنّ هذا كلام غير صحيح، والصحيح هو أن يقال: إنّ توحيد الذات هو أنّ اللَّه واحد ولا يتصوّر له الثاني، وبعبارة اخرى: إنّ اللَّه لا شبيه له ولا نظير ولا مثيل، فلا يشبهه شي ء ولا هو يشبه شيئاً لأنّ هذا الوجود اللامتناهي الكامل هو الذي يتّصف بهذه الصفة.
ولذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سأل أحد أصحابه: أي شي ء أكبر من اللَّه؟ فأجاب: «اللَّه أكبر من كلّ شي ء»، ثمّ قال الإمام عليه السلام: «فكان ثَمَّ شي ء فيكون أكبر منه؟!»، فقال: فما هو (ما المراد من هذه الكلمة)؟ فأجاب عليه السلام: «اللَّه أكبر من أن يوصف» «1».
__________________________________________________
(1) معاني الأخبار للصدوق، ص 7، ح 1.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 210
حينما نقول: إنّ توحيد الصفات هو فرع من فروع التوحيد فإنّ مفهومه هو: كما أنّ ذات اللَّه عزّوجلّ أزلية وأبدية فإنّ صفاته كالعلم والقدرة وأمثالها أزلية وأبدية أيضاً، هذا من جهة، ومن جهة اخرى، هذه الصفات ليست زائدة على ذاته فلا يوجد فيها عارض ومعروض بل هي عين ذاته.
ومن جهة ثالثة لا تفصل الصفات عن بعضها، أي أنّ علمه وقدرته شي ء واحد والإثنان عين ذاته!
بيان: عندما نراجع أنفسنا نرى أنّنا كنّا نفقد الكثير من الصفات، فلم نملك حين الولادة علماً ولا قدرة، ولكن هذه الصفات نمت فينا تدريجيّاً، ولذا نقول: إنّ هذه امور زائدة على
ذواتنا، ولذا يمكن أن يمرّ بنا اليوم الذي نفقد فيه القوّة العضلية والعلوم والأفكار التي نملكها ونرى بوضوح أيضاً إنّ علمنا وقدرتنا منفصلتان، فالقدرة الجسمية في عضلاتنا ولكن العلم موجود في الروح!
ولا يتصوّر في اللَّه أي معنى من هذه المعاني، فذاته كلّها علم وقدرة وكلّ شي ء في ذاته واحد، ونسلّم طبعاً بأنّ تصوّر هذه المعاني- بالنسبة لنا نظراً لفقداننا لهذه الصفة- معقّد وغير مألوف ولا سبيل إليه إلّاقوّة المنطق والاستدلال الدقيق واللطيف.
إنّ الخوض في صفات المخلوقات وعدم القدرة على استيعاب مفهوم توحيد الصفات هو السبب في انحراف بعض المتكلّمين وعلماء العقيدة عن المسير الصحيح في موضوع صفات اللَّه، أمثال طائفة (الكرامية) وهم أتباع محمّد بن كرام السيستاني الذين اعتقدوا بأنّ صفات اللَّه حادثة، وكذلك كانوا يعتقدون أنّ اللَّه لم يكن مالكاً لهذه الصفات ابتداءً ثمّ امتلكها!
وهذا الكلام في غاية القبح! ولا يمكن لأحدٍ أن يصدّقه، مَنْ يصدّق بأنّ اللَّه كان عاجزاً في البداية ثمّ اقتدر؟ فمن الذي أعطاه القدرة! ومن الذي وهبه العلم؟!
نفحات القرآن، ج 3، ص: 211
ولذا يحتمل أن يكون مرادهم هو صفات الفعل كالخالقية والرازقية، لأنّ اللَّه قبل أن يخلق موجوداً ويرزقه لا معنى للخالقية أو الرازقية بالنسبة إليه (طبعاً كان قادراً على الخلق والرزق ولكن القدرة على شي ء غير إيجاده) إلّاأنّ البحث في توحيد الصفات لا يرتبط بصفات الفعل والكلام هو في صفات الذات كالعلم والقدرة، وكما سيأتي مفصّلًا بأنَّ صفات الفعل مستقلّة عن صفات ذات اللَّه، فصفات الفعل شي ء ينتزعه العقل بعد مشاهدة أفعال اللَّه وينسبها إلى اللَّه (سنقرأ تفصيل ذلك لاحقاً).
وأوضح إشارة في باب إثبات وحدة الصفات في الآيات القرآنية هي الآية القائلة:
«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ» و «قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ ...» التي تقدّم تفسيرها وتدلّ على أنّ ذاته المقدّسة لا تتّصف بأيّة إثنينية.
ويمكن في الاستدلالات العقلية الاستناد إلى بعض النقاط:
1- ثبت في الأبحاث السابقة أنّ اللَّه غير متناهٍ من جمع الجهات ولذا لا توجد خارج ذاته أيّة صفة كمال، فكلّ ما يوجد مجموع في ذاته، وعندما نرى أنّ صفاتنا حادثة أو أنّها غير ذاتها فإنّ السبب هو أنّنا موجودات محدودة، ولهذه المحدودية تكون الأوصاف والكمالات خارج ذواتنا وهي ممّا نكتسبها أحياناً، أمّا ذات اللَّه وهو الكمال المطلق فأي صفة يمكن تصوّرها خارج ذاته المقدّسة؟
2- لو قلنا بأنّ صفاته مضافة إلى ذاته أو إعتقدنا بأنّ صفاته كالعلم والقدرة منفصلة عنه فإنّ النتيجة هي التركيب (تركيب من الجوهر والعرض بل عوارض متعدّدة) في حين ثبت مسبقاً أنّه لا سبيل لأي تركيب في ذاته خارجياً أو عقليّاً.
وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المضمون في الخطبة الاولى من نهج البلاغة بعبارة جميلة جدّاً في باب توحيد الصفات:
«وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف اللَّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 213
إنَّ التوحيد في العبادة هو من أكثر فروع التوحيد حساسية ويعني أن لا نعبد غيره ولا نركع لغيره ولا نسجد إلّاله.
ويمكن القول: إنّ عنوان دعوة الأنبياء عليهم السلام والقاعدة الاولى لشرائعهم هو قضيّة التوحيد في العبادة، وغالباً ما كانت مواجهاتهم مع المشركين تنشأ من هذه النقطة.
صحيح أنّ (التوحيد في العبادة) يلازم (توحيد الذات والصفات) حيث تقرّر أنّ واجب الوجود كلّ ما سواه ممكن ومحتاج إليه فلا سبيل إلّاأن
تكون العبادة مختّصة به.
إنّه هو الكمال المطلق، ولا يوجد كمال مطلق سواه، والعبادة تعتبر طريقاً للوصول إليه، فلابدّ أن تكون مختّصة به.
والملاحظ أنّ الآيات القرآنية مليئة بالدعوة إلى التوحيد في العبادة ونحن نذكر هنا أقسامها الحسّاسة بغية الوصول إلى هذا النداء القرآني المهمّ ونهتمّ بالبقيّة ضمن إشارات بليغة.
بهذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية الآتية:
1- «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ».
(النحل/ 36)
2- «وَمَا أَرسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».
(الأنبياء/ 25)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 214
3- «لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَومِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّن إِلهٍ غَيرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ». (الأعراف/ 59)
4- «... وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشركُونَ».
(التوبة/ 31)
5- «قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَّاأَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُم قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنا مِنَ المُهتَدِينَ». (الأنعام/ 56)
6- «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ». (حجر/ 99)
7- «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ». (بيّنة/ 5)
8- «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُم فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ». (مريم/ 36)
9- «يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيّاىَ فَاعْبُدُونِ». (عنكبوت/ 56)
10- «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخلِفَنَّهُم فِى الأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم». (نور/ 55)
11- «وَلَا يَأمُرَكُم أَنْ تَتَّخِذُوا المَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَربَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ». (آل عمران/ 80)
12- «وَللَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ». (رعد/
15)
«العبادة»: و (العبودية) كلمتان تعنيان إبراز الخضوع، وعلى ما يذهب إليه الراغب في المفردات، فإنّ للعبادة مفهوماً أعمق وتعني غاية الخضوع بين يدي من له غاية الإنعام والإكرام وهو اللَّه عزّوجلّ.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 215
ويبدو أنّ الأصل في هذا اللفظ مشتقّ من (عبد) إلّاأنّ (عبد) كما في (لسان العرب) و (كتاب العين) يطلق على كلّ إنسان عبداً كان أم حرّاً (لأنّ البشر كلّهم عبيد اللَّه) ويطلق تارةً على العبيد خاصّة.
ويضيف الراغب: العبد أربعة أضرب:
1- عبدٌ بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصحّ بيعه وشراؤه.
2- عبدٌ بمعنى مخلوق.
3- عبدٌ بالعبادة والخدمة، والناس في هذا ضربان: عباد اللَّه وعباد الدنيا (وعباد الرحمن) و (عبيد الدنيا).
وفي مجمع البحرين إنّ هذه الكلمة تستعمل تارةً بمعنى (الحزب والفئة) والآية:
«فَادْخُلِى فِى عِبَادِى». (الفجر/ 29)
فيها إشارة إلى ذلك.
وهذه النقطة جديرة بالإهتمام وهي أنّهم قسّموا العبادة إلى نوعين:
العبادة الإختيارية التي أمرت بها الآيات القرآنية، والعبادة غير الإختيارية، كما يقول القرآن الكريم: «وَإِنْ مِّنْ شَى ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ». (الاسراء/ 44)
ويقول الطريحي في (مجمع البحرين): إنّ الحكماء قسّموا العبادة إلى ثلاثة أقسام وهي:
الأوّل: ما يجب على الأبدان كالصلاة والصيام والسعي في المواقف الشريفة لمناجاته جلّ ذكره (عبادة جسمانية).
الثاني: ما يجب على النفوس كالإعتقادات الصحيحة من العلم بتوحيد اللَّه وما يستحقّه من الثناء والتمجيد والتفكّر فيما أفاضه اللَّه سبحانه على العالم من وجوده وحكمته ثمّ الإتّساع في هذه المعارف (عبادة روحانية).
الثالث: ما يجب عند مشاركات الناس في المدن وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح وتأدية الأمانات ونصح بعض لبعض بضروب المعاونات وجهاد الأعداء وحماية الحوزة «1» (عبادة اجتماعية).
__________________________________________________
(1) مجمع البحرين للطريحي، ج 3، ص 108.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 216
«طاغوت»: صيغة مبالغة
من (الطغيان) «1»
، والطغيان كما نعلم هو: تجاوز كلّ حدّ، ولذا تطلق كلمة طاغوت على كلّ موجود متمرّد ومعتدٍ كالشيطان، والسحرة، والجبّارين، والحكّام الظالمين، والتيارات التي تنتهي بغير الحقّ.
وتأتي هذه الكلمة بمعنى المفرد والجمع.
وذكر (الطبرسي) في (مجمع البيان) في تفسير آية الكرسي خمسة معانٍ للطاغوت هي:
الشيطان، الكاهن، الساحر، الإنس والجنّ المتمرّدون والأصنام (ومن الواضح أنّ هذه الأقوال ترجع كلّها إلى معنى جامع واحد اشير إليه).
إنَّ آية البحث الاولى تعتبر الدعوة إلى التوحيد هي المنهج الأساسي لرسل اللَّه أجمعين حيث تقول: «ولَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ امَّةٍ رَّسُولًا انِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».
وهذه الكلمات تُطرح في مواجهة الذين تنقل عنهم (هذه الآية) تبريراتهم في عبادة الأصنام: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِن شَى ءٍ ...». (النحل/ 35)
والقرآن يقول في ردّهم: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ امَةٍ رَسُولًا انِ اعبُدُوا اللَّهَ واجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» فقد دعا الأنبياء عليهم السلام جميعاً إلى التوحيد في العبادة وعارضوا عبادة أي موجود غير اللَّه، فما هذه الفرية التي تنسبونها إلى اللَّه؟!
وتضيف: إنّ الناس انقسموا إلى طائفتين تجاه دعوة الأنبياء عليهم السلام، طائفة استعدّت للهداية وكانت تطلبها فهداها اللَّه، «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ»، وطائفة خالفت: «ومِنْهُمْ مَّن حَقَّتْ عَلَيهِ الضَّلَالَةُ»، ثمّ تأمر الآية: «فَسِيرُوا فِى الأَرضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ»، أجل، إنّهم وبسبب انحرافهم عن جادّة التوحيد وبسبب الطغاة وقعوا في وحل الفساد والشقاء، فنزل عليهم العذاب الإلهي.
__________________________________________________
(1) قال البعض: إنّ الأصل هو «طغووت» ثمّ جاء لام الفعل بدلًا عن عين الفعل وانقلبت الواو المفتوحة قبلها إلى الف وصارت (طاغوت).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 217
والملاحظ أنّ الآية تنسب الهداية إلى اللَّه عزّوجلّ، فلولا التوفيق والإمداد الإلهي لما كان لأحد
أن يبلغ الهدف بقدرته، في حين تنسب الضلالة لهم لأنّها نتيجة أعمالهم.
الآية الثانية توافق الآية الاولى بعبارة اخرى وتقول كقضيّة عامّة وخالدة: «وَمَا ارسَلنَا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِىَ الَيهِ انَّهُ لَاالَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».
والملفت أنّ (نوحي) فعل مضارع ويدلّ على الاستمرار، أي إنّنا أوحينا التوحيد في العبادة إلى كلّ نبي وقد أُمِر جميع الأنبياء بإبلاغ ذلك طيلة دعوتهم.
وعليه فإنّ هذه المسألة استمرّت أصلًا أساسياً في تاريخ الأنبياء عليهم السلام.
الآية الثالثة تنقل كلاماً عن أوّل نبي من اولي العزم وهو شيخ الأنبياء نوح عليه السلام الذي لم تتضمّن دعوته منذ بدايتها نداء سوى نداء التوحيد في العبادة ونبذ عبادة الأصنام حيث يقول: «لَقَدْ ارسَلْنَا نُوحاً الَى قَومِهِ فَقَالَ يَاقَومِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ الهٍ غَيرُه».
ويستفاد من هذه الجملة بأنّ الشرك وعبادة الاصنام كان ولا يزال أسوأ شوكة في طريق سعادة البشرية، والأنبياء الذين يمثّلون الرعاة لبستان التوحيد كانوا يهتّمون قبل كلّ شي ء بزرع وبرعاية زهور الفضيلة في روح البشر ويقتلعون الأشواك التي تعترض طريقهم بسلاح التوحيد، وخاصّة في عصر نوح عليه السلام، كما يستفاد من الآية 23 من سورة نوح حيث كانت هناك أصنام عديدة ومتنوّعة بإسم (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر).
وكانت على هيئة رجل، وامرأة، وأسد، وفرس، ونِسر على التوالي، وكانوا يعبدونها بجميع وجودهم، ولمّا رأى نوح منهم العناد والإصرار هدّدهم بعذاب اللَّه، كما نقرأ في ذيل الآية: «انِّى اخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ»، أي إنّي أخاف عليكم عاقبة الشرك.
والظاهر أنّ المراد من اليوم العظيم هو يوم الطوفان الذي لم يحدث نظيره في تأريخ
نفحات القرآن، ج 3، ص: 218
العقوبات التي نزلت على الأقوام السابقة، كما احتمل أنّ (يوم عظيم) إشارة إلى
يوم القيامة «1».
وقد جاء في تفسير الميزان بأنّ هذه الآية قد جمعت أصلين من اصول الدين في جملة قصيرة هما: (التوحيد والمعاد) كما جاء الأصل الثالث وهو (النبوّة) في آية، «يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ» «2».
الآية الرابعة تتحدّث عن اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن جادّة التوحيد، فقد اعتبر اليهود أحبارهم (علماء الدين اليهود) واعتبر النصارى رهبانهم والسيّد المسيح معبودات لهم!
ثمّ تقول: «وَمَا امِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً» وتؤكّد:
«لَااله إِلَّا هُو» وللتأكيد تضيف: «سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».
وبهذا فإنّ الدين الذي أقام النبي نوح عليه السلام قواعده واصل طريقهُ في دعوة موسى عليه السلام والسيّد المسيح عليه السلام بكلّ قوّة وثبات.
صحيح أنّ النصارى كانوا يعبدون السيّد المسيح وما زالوا ولكن اليهود لم يعبدوا الأحبار، والنصارى لم يعبدوا الرهبان، بل لإطاعتهم المطلقة لهم واستسلامهم لتحريفهم وتغييرهم الأحكام الإلهيّة أطلق على ذلك عنوان الشرك، ولذا جاء في الأحاديث: «أما واللَّه ما صاموا لهم ولا صلّوا ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالًا فاتّبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون» «3»
وسيأتي تفصيل هذا الموضوع في بحث (توحيد الطاعة) بإذن اللَّه.
__________________________________________________
(1) هذان التفسيران قد صرّح بهما في كلمات المفسّرين السابقين ومنها ما أشار إليها الفخر الرازي في التفسيرالكبير، ج 14، ص 149 في ذيل آيات البحث.
(2) تفسير الميزان، ج 8، ص 180.
(3) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 209.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 219
في الآية الخامسة يصل الدور إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث يأمره اللَّه عزّوجلّ: «قُلْ إِنِّى نُهِيتُ انْ اعْبُدَ الَّذِينَ تَدعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».
والاستفادة من لفظ (الذين) الذي يستعمل لجمع المذكّر العاقل في معبوداتهم هو إمّا لتصوّرهم في عالم وهمهم وخيالهم أنّ
الأصنام ذات روح وعقل وشعور، وأمّا لوجود أشخاص كالمسيح أو الملائكة والجنّ بين هذه المعبودات.
ولتبيان الدليل على هذا المنع والنهي الإلهي تضيف الآية: «قُلْ لَّااتَّبِعُ اهوَاءَكُم قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ المُهتَدِينَ».
ويعني هذا أنّ جذور الشرك كلّها ترجع إلى عبادة الهوى والظنّ والوهم، ومن المسلّم به أنّ اتباع الهوى يستتبع الضلال ولا ينتهي بالسعادة والهداية أبداً.
الآية السادسة توجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله وتأمره بأن يثبت ويواصل عبادة اللَّه الواحد واجتناب كلّ شرك وعبادة للأصنام حيث تقول: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ اليَقينُ».
وقد فسّر المفسّرون (اليقين) هنا بمعنى الموت، واعتبروه نظير قول السيّد المسيح عليه السلام:
«واوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً». (مريم/ 31)
ونقرأ في موضع آخر من القرآن على لسان أهل النار: «وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ* حَتّى أَتَانَا اليَقِينُ». (المدثر/ 46- 47)
كما جاء التعبير عن (الموت) ب (اليقين) في الروايات الإسلامية، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام نقرأ قوله عن الموت: «لم يخلق اللَّه يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت» «1»
، (لأنّ الناس لا يكترثون به وكأنّهم لا يصدقون أنّهم سيموتون)!
والتعبير عن (الموت) ب (اليقين) إمّا لما اشير إليه في الحديث المذكور أي هو مسألة يقطع
__________________________________________________
(1) تحف العقول، ص 271.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 220
بها جميع الناس ولا اختلاف بين المذاهب والعقائد المتباينة في هذه المسألة، وإمّا أنّ الإنسان يتيقّن بالكثير من القضايا التي يتردّد فيها وذلك عند زوال الحجب عنه عند الموت وظهور الحقائق (من الممكن طبعاً الجمع بين هذين المعنيين).
والتعبير ب (يأتيك) أيضاً إشارة لطيفة إلى هذا الموضوع وهو أنّ الموت سيقع على الإنسان شاء أم أبى!
في الآية السابعة يلاحظ هذا
المضمون نفسه مع إضافات اخرى، وفيها إشارة إلى طائفة من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن التوحيد وجعلوا للَّه أنداداً في العبودية حيث تقول: «ومَا امِرُوا إِلَّا ليَعبُدوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ» «1».
والملاحظ أنّ الآية تحصر الأوامر الإلهيّة كلّها في العبادة المخلصة ثمّ في إقامة الصلاة وأدائها: «ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ ويُؤتُوا الزَّكَاةَ»، وهذا يدلّ على أنّ الأصل في التعاليم الدينية يرجع إلى الإخلاص في العبودية، والملاحظ أيضاً أنّ الآية تضيف في ذيلها: «وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ» «2».
الآية الثامنة تنقل نكتة وردت في قول السيّد المسيح عليه السلام حيث قال: «وانَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُم فَاعبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُّستَقِيمٌ».
ونعلم أنّ الخطّ المستقيم الذي يصل بين نقطتين واحد لا أكثر، في حين توجد آلاف
__________________________________________________
(1) يقول الراغب في المفردات: «حنف» على وزن «كنف» تعني الميل من الضلال إلى الصراط المستقيم وإنّما يقال للإسلام (الدين الحنيف) لأنّه يمنع المسلمين عن أي إنحراف عن الصراط السوي.
(2) «قيّمة» مشتقة من القيام بمعنى القائم والثابت والمستقيم وكما يقول الراغب في المفردات: إنّ معناها هي الامّة التي تقوم بالقسط والعدل كما جاء في الآية .. «كونوا قوّامين بالقسط».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 221
الخطوط المنحرفة بينهما، فخطّ التوحيد واحد وكلّ ما سواه فهو شرك وعبادة أصنام.
(مستقيم) من (الإستقامة) ومشتقّة في الأصل من (القيام)، وبما أنّ الإنسان يقف مستوياً في قيامه فإنّ هذه الكلمة استعملت بمعنى كلّ طريق ومنهج معتدل ومستوٍ وخالٍ من الانحراف.
والملاحظ أنّ القرآن وفي سورة الحمد قد جعل النقطة المقابلة للصراط المستقيم هو طريق المغضوب عليهم و (الضالّين)، والطائفة الاولى هم الضالّون من أهل العناد واللجاجة والذين يصرّون على مسيرتهم ومسيرة غيرهم المنحرفة، والطائفة الثانية هم الضالّون البسطاء.
نواجه في الآية التاسعة
نقطة جديدة حيث يتوجّه الأمر إلى المؤمنين، وذلك عندما يكون البقاء في مكان- حتّى أوطانهم الخاصّة- مانعاً من عبادة اللَّه ومزعزعاً لتوحيد عبادته فعليهم أن يهجروا ذلك المكان تقول الآية: «يَاعِبادِىَ الَّذينَ آمَنُوا انَّ ارضِى وَاسِعةٌ فَإِيّاىَ فَاعبُدُونِ».
أجل، أنّ أرض اللَّه واسعة ولا يمكن أبداً الإذعان لذلّ الشرك وأسر الكفر وعبادة الأصنام من أجل امور من قبيل القوم والقبيلة والبيت والوطن الحبيب، بل إنّ واجب كلّ مؤمن موحّد هو أن يهجَر وطنه في مثل هذه الظروف ويحلّ في وطن مناسب ويُبقي شمعة التوحيد مضيئة في روحة، وقد يُوفَّق- كالمهاجرين في صدر الإسلام- لإعداد القوّة اللازمة ويرجع إلى وطنه ويزيل آثار الشرك وعبادة الأصنام من ربوعه.
والتعبير ب (ياعبادي)، و (أرضي)، و (إيّاي فاعبدون) في الآية مقرون بالرحمة واللطف الإلهي وإشارة إلى نصره المستمر للموحّدين أينما كانوا وفي كلّ زمان «1».
والملاحظ أنّ المخاطب في الآية هم (العباد)، ومع ذلك فالآية تأمرهم بعبادة اللَّه الواحد،
__________________________________________________
(1) لاحظوا أن «إيّاي فاعبدون» بسبب تقدّم المفعول على الفعل تدلّ على الحصر وتبيّن انحصار العبادة في اللَّه.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 222
وفي ذلك إشارة إلى أنّ العباد ينبغي أن يواصلوا مسيرة التوحيد إلى آخر العمر ولا ينحرفوا لحظة واحدة، وهذا نظير تكرار الجملة: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»، لدى المؤمنين، حيث يطلبون فيها استمرار هذه النعمة إلى جانب الهداية، على أيّة حال، فإنّ الآية دليل على وجوب الهجرة من أرض الشرك وعبادة الأصنام إلى دار الإيمان، إلّاأن يُوفَّق الإنسان لتغيير الأوضاع السائدة على تلك الأرض.
آية البحث هي من آيات سورة العنكبوت التي يقول عنها المفسّرون: إنّ الآيات الإحدى عشرة الاولى منها نزلت في المدينة بصدد الذين كانوا في مكّة وأظهروا الإسلام ولكنّهم لم يعزموا
على الهجرة إلى المدينة، والآية التي بعدها تقول: «كُلُّ نَفسٍ ذَائقَةُ المَوْتِ» وفيها إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ الجميع سيموتون وينفصلون عن الوطن والزوج والمال، فلا تظنّوا أنّكم إن بقيتم في أجواء ملوّثة بالشرك فإنّكم سوف تبقون إلى جنب أحبّائكم أبداً «1».
وتستند الآية العاشرة إلى نقطة جديدة اخرى في هذا المجال، وتعد المؤمنين جميعاً بأنّهم سيكونون مالكين وحكّاماً للأرض كلّها، كما أنّ التوحيد سينتشر في العالم بأسره وسوف لن يعبد إلّااللَّه، وعلى هذا فإنّها تبشّر بتوحيد العبادة الخالصة كبشارة كبرى لكلّ المؤمنين وتقول: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم»، وهناك بحث بين المفسّرين في تحديد ماهيّة هذه الطائفة التي ورثت الأرض وعاشت في عصور قديمة، والمناسب أن يقال: إنّها إشارة إلى بني إسرائيل الذين أصبحوا ملوكاً وحكّاماً على مساحة واسعة من الأرض بعد نهضة موسى عليه السلام وانهيار حكومة الفراعنة، وكما يقول القرآن الكريم في قوله تعالى: «واورَثْنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الارضِ ومَغارِبَها الَّتِى بَارَكنَا فِيهَا» «2». (الأعراف/ 137)
__________________________________________________
(1) راجع تفسير روح البيان؛ وروح المعاني؛ والقرطبي في ذيل آية البحث.
(2) هناك بحث مفصّل آخر في هذا المجال قد ورد في تفسير الأمثل، ذيل الآية 55 من سورة النور، تحت عنوان الحكومة العالمية للمستضعفين وكان لها نموذج صغير بعد فتح مكّة والإنتصارات الواسعة بعد النبي صلى الله عليه و آله والنموذج الأتمّ والكامل سيتحقّق عند قيام الإمام المهدي (عج).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 223
وتتضمَّنُ الآية الحادية عشرة إشارة إلى نقطة جديدة في هذا المجال حيث تؤكّد أنّ الأنبياء العظام والملائكة المقرّبين لا يستحقّون العبادة فضلًا عن الأصنام، فالعبادة مختصّة باللَّه عزّوجلّ وتقول:
«وَلَا يَأْمُرَكُمْ انْ تَتَّخِذُوا المَلَائِكَةَ والنَّبِيِّينَ ارْبَاباً» «1».
ولمزيد من التأكيد تضيف الآية: «أَيَأمُركُم بِالكُفْرِ بَعدَ اذْ أَنتُم مُّسلِمُونَ».
«أرباب»: جمع (ربّ) ويعني في الأصل المالك المصلح، أي المالك الذي يسعى في تدبير ملكه وتربيته وإصلاحه، ولذا فإنّ (ربّ الدار) و (ربّ الإبل) جاء بمعنى المالك والمدبّر للبيت أو الإبل، وقد ندر استعمال كلمة «ربّ» في القرآن الكريم في غير اللَّه، منها الآية 42 و 50 من سورة يوسف حيث استعملت كلمة (ربّ) في نعت ملك مصر، ويستفاد من عبارات هذه السورة بأنّ هذه الكلمة كانت كثيرة الاستعمال كسمةٍ للشخصيات المصرية الكبيرة.
وفي المقابل استعملت هذه الكلمة التي وردت مئات المرّات في القرآن الكريم- في كلّ المواطن تقريباً- كصفةٍ للَّه عزّوجلّ، لأنّه هو المالك الأصلي- في الواقع- والمدبّر والمربّي لموجودات الكون كلّه، المهمّ أنّ الكثير من الأقوام كانوا يعتقدون بآلهة صغيرة ويطلقون عليها (ربّ) أو (ربّ النوع) ويطلقون على اللَّه (ربّ الأرباب) وكانت هذه العقيدة لدى بعض الأقوام تجاه الملائكة أو بعض الأنبياء، وآية البحث تنفي بصراحة هذه العقائد الباطلة وتعرّف اللَّه وحده ربّاً وليس ربّ الأرباب، لأنّها تعتبر انتخاب أي ربّ سواه كفراً والإسلام على طرف نقيض معه.
__________________________________________________
(1) لاحظ أن «يأمر» منصوب لأنّه معطوف على (أن يؤتيه اللَّه).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 224
آية البحث الثانية عشرة والأخيرة تشير إلى الكلام الأخير في هذا البحث وهو أنّ التوحيد في العبادة لا يختصّ بالبشر بل: «وَللَّهِ يَسجُدُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ وَالارضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ».
«مَنْ»: وان كانت إشارة إلى العقلاء عادةً ولذا يعتقد جمع من المفسّرين بأنّ آية البحث تقصد بني الإنسان والملائكة وأمثالهم، إلّاأنّ في الآية قرائن تدلّ على أنّ هذه الكلمة تشير إلى الموجودات
كلّها وتعمّ العاقل وغير العاقل والنبات والجماد، والمراد من السجدة ما يعمّ السجدة التكوينية (غاية الخضوع والتسليم في الموجودات تجاه قانون الخلق) والسجدة التشريعية (السجود والعبادة الإعتيادية) لأنّ:
أوّلًا: التعبير ب (طوعاً وكرهاً) دليل على عمومية الآية.
ثانياً: إشتراك (ظلال) في هذه السجدة والعبادة العامّة دليل آخر على هذا المعنى.
ثالثاً: ورد هذا المعنى بجلاء في آيات قرآنية اخرى: «وَللَّهِ يَسجُدُ مَا فِى السّماوَاتِ وَمَا فِى الارضِ». (النحل/ 49)
وهكذا في الآية: «وَالنَّجمُ والشَّجَرُ يَسجُدَانِ». (الرحمن/ 6)
وعلى هذا فإنّ موجودات الكون كلّها وبدون استثناء لها سجود تكويني وتسليم للأوامر الإلهيّة، ومن بينها المؤمنون حيث لهم- مضافاً إلى السجود التكويني الذي لا يتّصف بالإختيار- سجود اختياري تشريعي أيضاً.
وتعميم هذا الحكم إلى (ظلال) تعبير كبير المعنى، لأنّ الظلال تتّصف بالعدم في الواقع (لأنّ الظلّ هو المكان الذي لا يسقط الضوء عليه) ولكن بما أنّ الظلال تابعة للأجسام في وجود النور فإنّ لها قسطاً ضعيفاً من الوجود، ويقول القرآن: إنّ هذه الأعدام الشبيهة بالوجود تسجد للَّه أيضاً فكيف بالموجودات الحقيقية؟ وهذا يشابه العبارة التي نقولها وهي أنّ عداوته لفلان بلغت إلى حدّ أنّه يرمي ظلّه بالسهم.
ثمّ إنّ الظلال تسقط عادة على الأرض والتعبير بالسجود أليق بها.
وما تقوله الآية: «بالغُدُوِّ وَالْآصَالِ» فانّه من الممكن أن يكون وصفاً خاصّاً للظلال،
نفحات القرآن، ج 3، ص: 225
واختيار هذين الزمنين هو لأنّ كلّ شي ء في هذين الوقتين يكون ذا ظلّ، ظلّ طويل وممتدّ على العكس من منتصف النهار إذ يكون له ظلّ أو له ظلّ قصير.
ويحتمل أيضاً أن يكون هذان الوصفان لكلّ الموجودات في السماء والأرض والمراد هو الإشارة إلى استمرار هذا السجود، كما نقول في عباراتنا اليومية: يجب أن نلقى فلاناً صباحاً ومساءً، أي، دائماً وباستمرار «1».
أخيراً
وبمراجعة عامّة لما تقدم نصل إلى أنّ مسألة (التوحيد في العبادة) لها من الأهمّية ما جعلها في صدارة دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، ومن أهمّ الفقرات في تعليماتهم، وقد أقام جميع الأنبياء اولي العزم دعوتهم عليها، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله طيلة عمره الشريف يدعو للتوحيد بعبارات مختلفة، وصراط الهداية المستقيم يمرّ عبر هذا الطريق، ولتحقيق هذا المنهج الإسلامي المهمّ ينبغي- عند الحاجة- ترك الأوطان وهجر أجواء الشرك وعبادة الأصنام.
ومن الخصائص المهمّة لذلك اليوم الذي تهيمن فيه حكومة العدل الإلهي في العالم بأسره هو ظهور عقيدة التوحيد في العبادة هذه والتي تسود العالم كلّه، وليس البشر فقط بل وكلّ الموجودات في الأرض والسماء تسجد للَّه وفي كلّ الأحوال، وإذا لم تسجد باختيارها فانّها تسجد من حيث تكوينها وبلسان حالها وتسبّح له.
لابدّ من ملاحظة هذه النقطة قبل كلّ شي ء وهي: أنّ الإحترام والتواضع والخضوع
__________________________________________________
(1) على الصورة الاولى يكون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل أو الوصف المقدّر (وفيه امتياز أنّه يعود للأقرب) وفي الصورة الثانية يكون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل يسجد وفيه امتياز أنّه مذكور.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 226
والثناء صفاتٌ لها مراتب ودرجات آخرها وذروتها العبادة والعبودية.
ومن البديهي أن يخضع الإنسان لأوامر من يحترمه إلى هذه الدرجة وينقاد له بكلّ وجوده انقياداً تامّاً ويهوي إلى الأرض ويسجد له.
هل من الممكن أن ينفصل الخضوع الذي يصل حدّ العبودية والثناء والإحترام اللامحدود عن الطاعة والتسليم للأمر؟
ومن هنا نقول: إنّ الإنسان إذا استوعب روح العبادة الخالصة فإنّه يكون قد خطا خطوة كبيرة في طريق الطاعة لأمر اللَّه والعمل بالصالحات والإبتعاد عن السيّئات، ومثل هذه العبادة- خاصّة إذا كانت دائمة ومستمرّة- تكون رمزاً لتربية الإنسان وتكامله.
مثل
هذه العبادة الخالصة المقرونة بعشق المحبوب، الذي يشكّل عاملًا مهمّاً للحركة إليه، وكما أنّ التحرّك نحو ذلك الكمال المطلق عامل على ترك القبائح والدنيّات والتلوّث بالمعاصي.
ولهذا حازت مسألة العبادة الخالصة على هذه الدرجة من الأهمّية إلى الحدّ الذي يقول القرآن فيها: «إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرُونَ عَنْ عِبادَتِى سَيَدخُلُون جَهَنَّمَ دَاخِرينَ». (المؤمن/ 60)
إنَّ العابد بدافع من خضوعه اللامحدود بين يدي اللَّه يسعى إلى نَيْلِ رضاه والتقرّب إليه ولأنّه يعلم أنّ تحصيل رضاه يتمّ عن طريق طاعة أمره فإنّه يسعى في هذا الطريق ويتقبّل أوامره بطيب نفس تامّ.
العابد الحقيقي يسعى للتشبّه وتقليد صفات معبوده ومعشوقه الحقيقي ويعكس في هذا الطريق قبساً من صفات جماله وجلاله في نفسه، ولا ينكر ما لهذه الامور من تأثيرات على تكامل الإنسان وتربيته.
هناك إفراط وتفريط عجيبان في معنى العبادة كما هو الحال في الكثير من القضايا الاخرى حتّى أنّ بعضاً أفرط إلى حدّ جوّز فيه السجود لغير اللَّه (مع عدم الاعتقاد بمالكية
نفحات القرآن، ج 3، ص: 227
وربوبية المسجود له)، وذكر سجود الملائكة لآدم وسجود اخوة يوسف بين يديه كشاهدين على ذلك.
وفي المقابل اعتبر بعض آخر أنَّ الاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام وطلب الشفاعة وأداء الاحترام لهم، شركاً، واعتقدوا بأنّ فاعله مشرك.
وفي الحقيقة أنّه لا يمكن التوفيق بين هاتين العقيدتين.
وللإيضاح نقول: إنّ حقيقة العبادة كما نقلنا عن اللغويين في بداية البحث في شرح المفردات هي: الخضوع المطلق وغاية التواضع والتذلّل أمام المعبود، وهذا العمل مختصّ باللَّه من وجهة نظر إسلامية ويكون شركاً في العبادة إن كان موجّهاً إلى معبود آخر.
وبعبارة اخرى إنّ للخضوع والتواضع درجات، درجة منها تحدث أمام الأصدقاء ويقابلها التكبّر عليهم، ودرجة اخرى تكون أمام
أفراد محترمين كالوالدين كما يقول القرآن:
«واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ». (الاسراء/ 24)
والدرجة الأكمل تكون أمام الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام حتّى أنّ المسلمين لم يحقّ لهم رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه و آله بدليل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلَا تَجهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ». (الحجرات/ 2)
ولكن آخر مرحلة من الخضوع والتواضع والتذلّل التي نطلق عليها كلمة العبادة والعبودية هو (السجود).
وعليه فإنّ الخضوع المطلق وغاية التذلّل (وإن لم يقترن الإعتقاد بالربوبية والمملوكية) يكون عبادة ومختّصاً باللَّه ولهذا لا يجوز السجود لغيره.
ولصاحب تفسير (المنار) في تفسير سورة الحمد كلام في معنى العبادة ملخّصه: أنَّ العبادة ضربٌ من الخضوع بالغٌ حدَّ النهاية، ناشى ء عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيّتها، وقصارى ما يعرفه منها أنّها محيطة به ولكنّها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذلّ لملك من الملوك لا يقال أنّه عبده وإن قبَّل موطى ء أقدامه، ما دام سبب الذلّ والخضوع معروفاً وهو الخوف من ظلمه المعهود،
نفحات القرآن، ج 3، ص: 228
أو رجاء كرمه المحدود، اللّهم إلّابالنسبة إلى الذين يعتقدون أنّ الملك قوّة غيبية سماوية افيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للإستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنّهم أطيب الناس عنصراً وأكرمهم جوهراً، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الإعتقاد إلى الكفر والإلحاد فاتّخذوا الملوك آلهة وأرباباً وعبدوهم عبادة حقيقية «1».
وللمفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي رحمه الله كلام قريب منه في تفسير سورة الحمد في تفسير (الميزان) حيث يقول: «الربّ مقصور في المالكية والعبد مقصور في العبودية».
قد عرفت من سورة الفاتحة أنّ العبادة هي نصب العبد نفسه في
مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك، فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى، أو عبودية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد والمشي خلفه حينما يمشي وغير ذلك، وكلّما زادت الصلاحية ازدادت العبادة تعيّناً للعبودية وأوضح الأفعال في الدلالة على عزّ المولوية وذلّ العبودية، السجدة ... لكن الذوق الديني المتّخذ من الإستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، والمنع عن استعماله في غير هذا المورد «2».
وبناءً على ذلك يستفاد من التدبّر في موارد استعمال كلمة العبادة في القرآن والسنّة والاستعمالات اليومية وشهادة اللغويين أنّ المفهوم اللغوي لهذه الكلمة هو نهاية الخضوع لا الإعتقاد بربوبية المعبود ومالكيته، ولذا إذا سجد شخص للشمس أو القمر أو النار بسبب بركاتها، أطلق على فعله هذا عبادة الشمس والقمر والنار، وهكذا إذا سجد إنسان لتماثيل الأسلاف أوالملوك والسلاطين وأعلى منه إذا للأئمّة عليهم السلام لمقامهم الرفيع فإنّ تلك العبادة غير جائزة.
ولهذا ينهى القرآن الكريم بصراحة في آية السجدة بقوله تعالى: «لَاتَسجُدُوا لِلشَّمسِ وَلَا لِلْقَمَرِ». (فصلت/ 37)
__________________________________________________
(1) تفسير المنار، ج 1، ص 56 و 57.
(2) تفسير الميزان، ج 1، ص 22 و 124.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 229
ولهذا أيضاً تكرّر النهى في الروايات الإسلامية عن السجود لغير اللَّه ومنها:
الروايات السبع التي وردت في (وسائل الشيعة) في أبواب السجود الباب 27 حيث نقرأ في إحدى الروايات أنّ النبي صلى الله عليه و آله خاطب مشركي العرب: «اخبروني عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد اللَّه فسجدتم له أو صلّيتم ووضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود بها فما الذي بَقَّيْتُم لربّ العالمين؟ أما علمتم أنّ من حقّ من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوي عبيده؟» «1».
وهناك
روايات عديدة تتضمّن الإجابة على السؤال حول كيفية سجود يعقوب وأبنائه بين يدي يوسف، أو كيفية جواز سجود الملائكة لآدم.
1- عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: «أمّا سجود يعقوب وولده فإنّه لم يكن ليوسف إنّما كان ذلك منهم طاعةً للَّه وتحيّةً ليوسف، كما كان السجود من الملائكة لآدم، ولم يكن لآدم إنّما كان ذلك منهم طاعةً للَّه وتحيّةً لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً للَّه لاجتماع شملهم ألا ترى إنّه يقول في شكره في ذلك الوقت: «ربِّ قَد آتَيتنى من المُلك» الآية.
2- عن الإمام العسكري عليه السلام قال: «لم يكن له سجودهم- يعني الملائكة لآدم إنّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه للَّه عزّوجلّ، وكان بذلك معظّماً مبجّلًا له، ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون اللَّه يخضع له كخضوعه للَّه ويعظّمه بالسجود له كتعظيمه للَّه، ولو أمرت أحداً أن يسجد هكذا لغير اللَّه لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلّفين من متّبعينا أن يسجدوا لمن توسّط في علوم علي عليه السلام وحي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومحض وداد خير خلق اللَّه علي عليه السلام بعد محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ...» الحديث.
والنتيجة من هذه الروايات واحدة تقريباً وهي نفي السجود لغير اللَّه، وقد نقل العلّامة المجلسي في (بحار الأنوار) روايات عديدة في هذا الباب «2».
وقد ورد في القصّة المعروفة حول هجرة المسلمين إلى الحبشة، إنّهم حينما دخلوا على
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة، ج 6، ص 386، ح 3.
(2) بحار الأنوار، ج 11، ص 138 و 139، ح 2، 3، 4، 6.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 230
النجاشي أمرهم الرهبان المسيحيون بأن يسجدوا للملك، فقال لهم جعفر بن أبي طالب: لا نسجدُ إلّاللَّه «1».
إنَّ
هذه الروايات تؤكّد عدم جواز السجود لغير اللَّه وتفسّر حقيقة العبادة.
«الوهّابيون»: جماعة لا تزال تحكم الحجاز وهم أتباع (محمّد بن عبدالوهّاب) الذي استمدّ أفكاره من (ابن تيمية، أحمد بن عبد الحميد الدمشقي) المتوفّى عام 728 ه.
استطاع محمّد بن عبدالوهاب خلال السنوات ما بين عام 1160 إلى 1206 ه التي مات فيها وبتعاون مع الحكّام المحلّيين وإثارة نيران العصبية القاسية بين القبائل التي تجوب صحارى الجزيرة أن يدمّر معارضيه ويستلم زمام الحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة وقد أريقت دماء كثير من المسلمين في الجزيرة وغيرها.
وبعد موته هاجم أتباعه العراق عن طرق صحراء الجزيرة ودخلوا كربلاء واستغلّوا عطلة عيد الغدير وسفر الكثير من أهاليها إلى النجف فاقتحموا سور المدينة ونفذوا إلى داخلها وشرعوا بهدم صحن الإمام الحسين عليه السلام والأماكن المقدّسة الاخرى ونهبوا الأبواب الثمينة والهدايا النفيسة من المرقد الحسيني وأموال الناس!
لقد قام اولئك بهدم قبور عظماء الإسلام في الحجاز عام 1344 ه بحيث استوت مع الأرض باستثناء قبر النبي صلى الله عليه و آله خوفاً من سخط المسلمين!
ويمتاز الوهّابيون بالتعصّب والقسوة والفظاظة وعدم الرحمة والتحجّر والسطحيّة ويعتقدون بأنّهم المدافعون عن التوحيد الخالص في هذا المجال، وينكرون الشفاعة وزيارة القبور والتوسّل بالقادة العظام ويصبّون جلّ اهتماماتهم تقريباً في هذا السبيل، وقد رفض
__________________________________________________
(1) بحارالانوار، ج 18، ص 420، ح 8 (نقلًا عن خرائج الراوندي).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 231
المسلمون قاطبة (سنّة وشيعة) أفكار هذه المجموعة بل وكفّرهم بعض العلماء «1».
ولم يختص البحث هنا عن هذه المجموعة وعقائدها وقبائحها وسيكون لنا كلام مختصر هنا بمقدار ما يرتبط ببحث عقائدهم في التوحيد في العبادة.
إنّهم يقولون: لا يحقّ لأحد أن يطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه
و آله لأنّ اللَّه تعالى يقول:
«لا تَدعُوا مَع اللَّهِ احَداً».
ويقول مؤلّف كتاب (الهدية السنّية) وهو من الوهّابيين: من جعل الملائكة والأنبياء وسائط بينه وبين اللَّه لما لهم من قرب إلهي فهو كافر ومشرك ويباح دمه وماله وإن نطق بالشهادتين وصلّى وصام! «2»
وله منطق مشابه في التوسّل وزيارة قبور الأنبياء والأئمّة والصالحين.
إنَّ الخطأ الكبير الذي يرتكبه الوهّابيون القشريون هو أنّهم تصوّروا أنّ موجودات هذا العالم لها تأثير مستقل ولذا اعتقدوا أنّها تزاحم توحيد الأفعال والتوحيد العبادي للَّه في حين أنّ هذا المعتقد هو نوع من الشرك!
وللإيضاح نقول: الموحّد الكامل يرى أنّ الوجود المستقلّ القائم بذاته في الكون واحد فقط وهو اللَّه عزّوجلّ، وسائر عالم الوجود ممكن ومرتبط بوجوده، فكلّه انعكاس لشمس وجوده وليس له استقلالية من نفسه فكما كان محتاجاً في حدوثه فإنّه محتاج إليه ومتعلّق به في بقائه أيضاً، فكلّ ما يملكه الموجود فإنّه منه، وتأثير الأسباب منه فهو مسبّب الأسباب، وهذا هو معنى جملة (لا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه)، لا أن نسقط الأسباب من سببيتها أو نعتقد أنّها مستقلّة فكلاهما خطأ وغير صحيح وبعيد عن حقيقة التوحيد.
بناءً على ذلك إذا كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مالكاً للشفاعة فإنّ ذلك بإذنه كما يقول القرآن:
__________________________________________________
(1) كتب أحد العلماء السنّة وهو (إحسان عبداللطيف البكري) رسالة بإسم (الوهّابية في نظر علماء المسلمين) أوضح فيها آراء علماء الإسلام العظام حول الوهّابية ومحمّد بن عبدالوهّاب ودوّن الوثائق كلّها بدقّة في آخر الكتاب وقائمة بعناوين الكتب التي تردّهم حيث تبلغ 50 كتاباً لمحقّقي البلدان الإسلامية المختلفة، وهذا الكتاب دليل واضح على تنفّر المسلمين عموماً من هذه المجموعة المنحرفة.
(2) الهدية السنّية، ص 66.
نفحات القرآن، ج 3، ص:
232
«مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعدِ اذْنِهِ». (يونس/ 3)
وعندما يحيي السيّد المسيح عليه السلام الموتى ويُبرى ء الأعمى والمبتلين بالأمراض المستعصية فإنّ ذلك بإذن اللَّه أيضاً: «وابرِئُ الْاكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَاحْىِ الْمَوْتى بِإِذنِ اللَّهِ». (آل عمران/ 49)
وعندما يستطيع (آصف بن برخيا) وهو وزير سليمان ومَن وصفه القرآن ب: «الَّذِى عِنْدَهُ عِلمٌ مِنَ الْكِتَابِ» أن يأتي بعرش بلقيس في طرفة عين- كما يصرّح به القرآن- من بلاد سبأ إلى سليمان في الشام فإنّه كما قال: «مِن فَضلِ رَبِّي». (النمل/ 40)
ولكن الوهّابيين الغرباء عن القرآن وقعوا في خلط كبير وتصوّروا أنّ هذه الأعمال التي تصدر عن هؤلاء العظماء تصدر منهم بالإستقلال، ولذا قاموا من أجل حلّ المشكل بإنكار بعض الضرورات في الدين مثل مسألة الشفاعة.
وعليه فإنّ هؤلاء ومن أجل تثبيت قواعد التوحيد كما يزعمون سقطوا في وادي الشرك ووادي إنكار ضرورات الدين والقرآن، وللشهيد المطهّري رحمه الله كلام جميل في هذا المجال ننقل خلاصته حيث قال تحت عنوان (حدود التوحيد والشرك):
1- الإعتقاد بموجود غير اللَّه سبحانه ليس شركاً ذاتياً كما يعتقد أنصار الوحدة النوعية للوجود، لأنّ هذه الموجودات مخلوقة ومرتبطة به لا أنّها نظيرة له.
2- لا يعتبر الإعتقاد بتأثير المخلوقات شركاً في الخالقية (كما يعتقد الأشاعرة والجبريون) لأنّ المخلوقات كما أنّها ليست مستقلّة ذاتياً فإنّها غير مستقلّة في تأثيراتها أيضاً، بل أنّها تابعة له.
3- لو اعتقدنا بالتأثّر المستقلّ للمخلوقات وقلنا أنّ عالم الخلق أمام اللَّه كالماكنة والساعة التي يصنعها الصانع فهي بحاجة إليه في حدوثها ولا تحتاجه بعد صناعتها لأنّها تعمل حتّى لو ارتحل صانعها من الدنيا، فهذا هو الإعتقاد بالتفويض وهو لون من الشرك (إعتقاد المعتزلة).
4- الإعتقاد بقدرة الموجودات التي تفوق الطبيعة وتأثيراتها في العالم بإذن اللَّه
وأمره
نفحات القرآن، ج 3، ص: 233
ليس شركاً كما يظنّ الوهّابيون، بل إنّ اعتقادهم يمثّل أسوء ألوان الشرك، لأنّنا لو اعتبرنا ذلك شركاً لكان الإعتقاد بأصل وجود الموجودات شركاً أيضاً.
وهكذا فإنّ الإعتقاد بقدرة الإنسان وتأثيره بعد رحيله من الدنيا لا يعدّ شركاً، لأنّ الإنسان لا يكون جماداً بعد موته.
ثمّ إنّ اعتقاد الوهّابيين يتّسم باللاإنسانية حيث ينزلون الإنسان منزلة الحيوان الطبيعي وهو الذي اعتبره اللَّه خليفة له وأعلى منزلة من الملائكة الذين سجدوا له.
وهنا نصل إلى حقيقة الحديث الشهير الوارد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويقول فيه ما نصّه: «إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء، في ليلة ظلماء» «1».
والطريف أنّ الردّ على الوهّابيين موجود في الآية التي يستدلّون بها على إنكار الشفاعة و (التوسّل)، لأنّ القرآن الكريم يقول: «فَلَا تَدعُوا مَعَ اللَّهِ احَداً». (الجن/ 18)
ويعني المثيل الذي يكون في عرضه وعلى هيئة الموجود المستقلّ كذاته المقدّسة، ولكن إذا كان تأثيره بإذنه وأمره لا في عرضه فإنّ ذلك ليس شركاً فحسب بل فيه تأكيد جديد على أصل التوحيد الذي ينتهي كلّ شي ء إليه.
وهذا يشابه ما طلبه اخوة يوسف من أبيهم يعقوب وكان نبيّاً عظيماً وقد تقبّل ذلك منهم حيث قالوا: «يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا». (يوسف/ 97)
فاستجاب لهم وقال: «سَوفَ أَسْتَغفِرُ لَكُم رَبِّى». (يوسف/ 98)
هذه هي حقيقة التوحيد في العبادة، وتوحيد الأفعال التي ستتمّ الإشارة إليها وليس كما يظنّه الوهّابيون المتحجّرون.
__________________________________________________
(1) مقدمة في الرؤية الكونية للشهيد المطهري، ص 113 (مع الإختصار).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 235
إنَّ مفهوم (توحيد الأفعال) في تفسير مبسط وواضح يعني أنّ الكون بأسره هو فعل اللَّه، وكلّ الأفعال، والحركات، والتأثيرات، والتأثّرات تنتهي إلى ذاته المقدّسة، وفي الحقيقة
(لا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه)، فالسيف حينما يقطع والنار حينما تحرق والماء حينما يروي الناس والنباتات كل ذلك بإرادته وأمره، وباختصار فإنّ أثر كلّ موجود يكون مصدره اللَّه سبحانه.
وبعبارة اخرى: إنّ الموجودات كما أنّها تابعة في أصل وجودها إلى ذاته فإنّها كذلك في تأثيرها وفعلها.
ولكن هذا المعنى لا ينفي عالم الأسباب وحاكمية قانون العلّية، وطبقاً للحديث المعروف عن الإمام الصادق عليه السلام «أبى اللَّه أَن يُجري الأشياءَ إلّابأسبابٍ» «1».
كما أنّ الإعتقاد بتوحيد الأفعال لا يستوجب الإعتقاد بأصل الجبر وسلب الحريّة من إرادة الإنسان، كما ستتمّ الإشارة إلى ذلك لاحقاً بإذن اللَّه.
بهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم ونبحث عن فروع توحيد الأفعال ونذهب أوّلًا إلى توحيد الخالقية فنتأمل خاشعين في الآيات الآتية:
1- «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَى ءٍ فَاعْبُدُوهُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَى ءٍ وَكِيلٌ».
(انعام/ 102)
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 183، باب معرفة الإمام، ح 7.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 236
2- «قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ». (رعد/ 16)
3- «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُم مِّنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ لَاالهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».
(فاطر/ 3)
4- «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالْأَرضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ». (عنكبوت/ 61)
5- «وَاللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعْمَلُونَ». (صافات/ 96)
6- «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ». (اعراف/ 54)
(خلق) في الأصل كما يقول الراغب في المفردات يعني التقدير المباشر ويستعمل عادةً في الإيجاد والإبداع لشي ء من دون أن يكون له سابق ومثيل، وعلى ما ورد في (مقاييس اللغة) فإنّ (خلق) لها معنيان أصليان: الأوّل هو التقدير، والثاني هو استواء الشي ء، ولذا يطلق على الحجر المستوي (خَلقاء) وعلى الصفات الباطنة (أخلاق) لأنّه يحكي
عن نوع من الخلق، وعلى كلّ حال بما أنّ الخلق يعني التقدير والتنظيم والتسوية فإنّ هذه الكلمة استعملت في خلق اللَّه الإبداعي.
تقول آية البحث الاولى بعد تبيان صفات اللَّه الجلالية والجمالية:
«ذلِكُم اللَّهُ ربُّكُم»، لا الأصنام التافهة ولا المعبودات من الملائكة والجنّ التي هي من المخلوقات والمربوبات، واللَّه عزّوجلّ هو ربّ الجميع «1».
__________________________________________________
(1) جملة «ذلكم اللَّه ربّكم» فيها (ذلكم) وهو إسم إشارة إلى البعيد وفي مثل هذه الموارد يكون كناية عن العظمة غير الإعتيادية لمقامه الخارج عن حدود الأفكار.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 237
وتضيف: «لَاالهَ إِلَّا هُوَ».
لأنّ اللائق للعبادة هو الذي يكون (ربّاً) أي مالكاً ومربّياً ومدبّراً لكلّ شي ء، وللمزيد من التأكيد وإقامة دليل آخر على إنحصار المعبود فيه تضيف الآية: «خَالِقُ كُلِّ شى ءٍ»، ثمّ تستنتج لتقول: «فَاعْبُدُوهُ».
ولقطع كلّ أمل بغير اللَّه وصدّ البشر عن التعلّق بعالم الأسباب وإجتثاث جذور الشرك تقول الآية: «وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ وَكِيلٌ».
كلمة (شي ء) كما يقول اللغويون: تعني كلّ أمر يمكن أن يناله علم الإنسان «1»، إلّاأنّها في آية البحث تعني كلّ الموجودات ما سوى اللَّه سبحانه.
وعلى أيّة حال فإنّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً يشمل كلّ الموجودات المادّية والمجرّدة والذهنية والخارجية والجوهر والعرض، وباختصار: إنّها تشمل كلّ شي ء، وهذه الآية دليل واضح على عمومية الخلق الإلهي بالنسبة لكلّ شي ء.
وقد وقع هنا نزاع معروف بسبب شمول (شي ء) لأعمال الإنسان بين جماعة تقول بالجبر- كالفخر الرازي- حيث يقول: (إنّ أعمالنا داخلة في كلمة (شي ء) أيضاً، فاللَّه إذن هو خالقها)، وهذه الآية دليل على الجبر عندهم، ولكن المؤيّدين لحريّة الإرادة لهم إجابة واضحة ومستدلّة وستأتي في الإيضاحات.
وقد استدلّت جماعة بهذه الآية على نفي الصفات الزائدة على الذات في مواجهة الأشاعرة القائلين
بأنّ اللَّه ذو صفات منفصلة عن ذاته، فلو كان الأمر كذلك فإنّ كلمة (شي ء) تشملها ويجب- حينئذ- أن تكون مخلوقة للَّه، ولا معنى لأن يخلق اللَّه صفاته كالقدرة والعلم و ... ولا ينسجم هذا مع وجوب الوجود أساساً.
فأجاب بعض الأشاعرة بتخصيص عموم الآية بأن نقول: إنّ (خالق كلّ شي ء) لا يشمل صفات اللَّه! ولكن الآية تأبى الإستثناء ولم يرد عليها أي تخصيص كما سنبيّن ذلك بإذن اللَّه.
__________________________________________________
(1) هذه الكلمة مصدر (شاء) وتكون تارةً بمعنى اسم الفاعل وتارةً بمعنى اسم المفعول (فتأمّل جيدّاً).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 238
الآية الثانية تبيّن محتوى الآية السابقة إضافة إلى تأكيدها على وحدانية اللَّه وقهّاريته حيث جاء فيها: «امْ جَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلقُ عَلَيهِم قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».
«قهّار»: من (قهر) ويعني في الأصل الغلبة المقرونة بتحقير الطرف المقابل ولذا، تستعمل في هذين المعنيين كليهما، ونظراً لاستعمالها هنا بصيغة المبالغة فانّها تعني غلبة اللَّه والنصر المطلق- دون قيد أو شرط- على كلّ شي ء وكلّ فعل حتّى معبوداتهم وأصنامهم غير مستثناة، وعليه كيف تكون شريكاً للَّه؟!
الآية الثالثة تطرح الموضوع بصورة اخرى وهي صورة الإستفهام الإستنكاري حيث تقول: «هَلْ مِن خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ والْأَرضِ»، كلّا، فهو الذي بدأ خلقكم، وبقاؤكم مستند إلى رزقه المتواصل.
فبأمره تشرقُ الشمسُ عليكم من السماء، وينزل المطر لاحياء الأرض ويسخّر الرياح، وهو الذي يتفضّل عليكم بالنباتات والثمار والغذاء والمعادن والثروات الثمينة.
وعليه عندما لا يوجد خالق ورازق سواه فبداية الجميع ونهايتهم إذن بيده: «لَاالهَ إِلَّا هُوَ فَانَّى تُؤْفَكُونَ».
لا ينكر حتّى المشركون أنّ اللَّه هو الخالق للكون، والآية الرابعة تطرح مسألة التوحيد في إطار آخر وهو أنّ المشركين أنفسهم
يُقرّون أنّ الأصنام ليست خالقة للسماء والأرض والشمس والقمر أبداً وتقول: «وَلَئِنْ سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّماوَاتِ والْأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».
فقد كان المشركون يعتقدون أنّ الأصنام شريكة للَّه في العبادة أو لها التأثير على مصير
نفحات القرآن، ج 3، ص: 239
الإنسان في الخالقية، فلا يصدق عاقل بأنّ كتلة من الحجر والخشب مصنوعة بيد الإنسان على هيئة الصنم تكون خالقاً للسماء والأرض وحتّى أنّهم لم يعتقدوا أنّ للأنبياء والأولياء هذا المقام أيضاً.
يحتمل أن تكون هذه الآية إشارة إلى نفوذ هذه العقيدة في أعماق الفطرة الإنسانية، وعلى أيّة حال فإنّ الفصل بين (توحيد الخالقية) و (توحيد العبادة) تناقض صريح، لأنّ الخالق والرازق هو اللائق بالعبودية فهو الذي سخّر الشمس والقمر لينعم بهما الإنسان وجعلهما في خدمته.
بناءً على ذلك لا تنفصل (الخالقية) عن (الربوبية) ولا (الربوبية) عن (الالوهية)، وبعبارة أوضح: هو الخالق وهو المدبّر للعالم وهو أهل لعبودية العباد.
وقد حاول بعض المفسّرين مثل مؤلف تفسير (في ظلال القرآن) أن يعتبر التفات مشركي العرب إلى (توحيد الخالقية) ناشى ء من تعليمات الأنبياء كالنبي إبراهيم عليه السلام «1».
إلّا أنّه لا ضرورة لهذا الإصرار، حيث يقرّ كلّ إنسان بهذه الحقيقة عند مراجعته للعقل والوجدان، كما اشير إلى هذا المضمون في تفسير روح البيان «2».
إنّ الإستناد إلى مسألة الخلق ثمّ التسخير إشارة إلى مسألتي (الخلق) و (التدبير) حيث يكون الجميع بأمره والمراد من (التسخير) في هذه الآية- بقرينة آيات التسخير الاخرى الواردة في القرآن الكريم- هو استخدامها في سبيل المصالح البشرية.
وعبارة «فَأَنّى يُؤْفَكُونَ» مع ملاحظة اشتقاقه من (افك) بمعنى (إرجاع الشي ء عن مسيره الأصلي) يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ المسار الصحيح والمنطقي هو أنّهم بعد الإقرار بخالقية اللَّه وتدبيره في عالم الوجود «أن
لا يعبدوا سواه»، إلّاأنّهم انحرفوا عن الطريق فتعرّضوا إلى العواصف العاتية للشيطان والنفس التي رمت بهم- كالقشّة- من الطريق المستقيم إلى التيه والضلالة (لاحظ أنّ المؤتفكات تعني الرياح المضادّة).
__________________________________________________
(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 428.
(2) تفسير روح البيان، ج 6، ص 488.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 240
في الآية الخامسة استناد خاصّ إلى كون الأصنام مصنوعة باليد حيث تقول: «وَاللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ» وذلك لما ورد في الآية السابقة لها عن قول إبراهيم عليه السلام- رمز التوحيد- للمشركين: «اتَعْبُدُونَ مَا تَنحِتُونَ»؟ ويقول في هذه الآية: «واللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ» فلا تستحقّ أي منها العبادة، بل إنّ أصنامكم موجودات أحطّ منكم لأنّها مصنوعة بأيديكم.
و «ما»: في جملة (وما تعملون) في هذه الحالة تكون موصولة.
وقد احتمل بعض أو أصرّوا على أنّ اعتبار (ما) هنا مصدرية فيكون معنى الآية: إنّ اللَّه خلقكم وخلق أعمالكم، في حين لا يتناسب هذا المعنى لأنّه:
أوّلًا: إنّ اللَّه يوبّخ الكفّار في الآية على عبادتهم للأصنام فلو كان اللَّه خالقاً لأعمالهم فلماذا التوبيخ؟!
ثانياً: إنّ جملة (ما تعملون) دليل على أنّهم خلقوا أعمالهم، وعليه لا تنسجم مع الخلق الإلهي.
ثالثاً: في الآية السابقة ورد حديث عن الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم فالمناسب أن تكون (ما) هي المراد هنا، وإلّا فإنّ الآيات تفقد ترابطها، ولذا اختار كثير من المفسّرين التفسير الأوّل أمثال الزمخشري، في الكشّاف والآلوسي في روح المعاني، والعلّامة الطباطبائي في الميزان وغيرهم.
وهنا سؤال يطرح نفسه وهو: كيف يمكن أن تكون الأصنام مصنوعة للَّه والبشر في الوقت ذاته؟!
يقول الزمخشري: إنّ موادها مخلوقة للَّه وصورتها مخلوقة لصانعي الأصنام «1».
إلّا أنّ الصورة والشكل مخلوقة للَّه من إحدى الجهات، لأنّ اللَّه سبحانه أعطى الإنسان القدرة وخلق فيه هذا العلم
والمهارة وإن نهاه عن سوء الاستفادة منها.
وأخيراً نواجه في الآية السادسة والأخيرة عبارة جديدة في باب توحيد الخالقية حيث تقول: «الَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمرُ» و «تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».
__________________________________________________
(1) تفسير الكشّاف، ج 4، ص 51.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 241
ولا شكّ في أنّ الآية دليل على انحصار (الخلق) و (الأمر) في اللَّه عزّوجلّ «1»، وعليه فإنّ الآية تبيّن (توحيد الخالقية) بوضوح.
ولكن وقع بين المفسّرين كلام حول المراد من (الأمر)، فبعض فسّره بمعنى تدبير العالم والأنظمة والقوانين الجارية وذلك بقرينة الآيات الكثيرةالتي ورد فيها هذا المعنى نظير «فَالْمُدَبِّراتِ أَمراً». (النازعات/ 5)
والآية: «اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجرِىَ الْفُلكُ فِيهِ بِأَمرِهِ». (الجاثية/ 12)
الآية: «النُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِامرِهِ». (النحل/ 12)
وآيات عديدة اخرى.
أمّا بعضهم الآخر فقد اعتبرها بمعنى الأمر التشريعي والدستور الإلهي المقابل للنهي، فيكون معنى الآية: أنّ الخلق خاصّ باللَّه والأمر والدستور التشريعي يصدر عنه أيضاً، مثل:
«فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن امرِهِ». (النور/ 63)
وفي تفسير ثالث فُسّر (الأمر) بمعنى الإرادة مثل: «انَّ اللَّهَ بِالِغُ امرِهِ». (الطلاق/ 3)
وفي تفسير رابع فسّر عالم (الخلق) بعالم المادّة، وعالم (الأمر) بعالم المجرّدات وذلك بقرينة قوله تعالى: «يَسالُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن امرِ رَبِّى». (الاسراء/ 85)
والواضح أنّ التفسير الأوّل من بين هذه التفاسير أكثر انسجاماً مع الآيات القرآنية الاخرى ومع آية البحث أيضاً، لأنّ القرآن الكريم يريد أن يذكّر المشركين بهذه الحقيقة، وهي أنّ الخلق وتدبير المخلوقات مختصّ باللَّه والشاهد على ذلك قوله: «رَبُّ الْعَالَمِينَ» في ذيل الآية، وعليه فإنّ الأصنام لا دور لها لا في الخلق ولا في التدبير والربوبية، فلماذا تعبد إذن؟!
__________________________________________________
(1) تقديم (له) على الخلق والأمر دليل على الحصر.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 242
لعلّ المجوس ليسوا أوّل
من جعل للَّه شريكاً في الخالقية، ولكنّهم أكثر شهرة من غيرهم على الأقل.
إنّهم قسّموا الموجودات إلى مجموعتين: حسنة وسيّئة (خير وشرّ) وافترضوا لكلّ مجموعة إلهاً (يزدان وأهريمن) أو النور والظلمة، ودليلهم هو أنّ مخلوق الإله تكون له سنخية معه، وعليه لا يمكن أن يكون إله الخير وإله الشرّ واحداً، فإله الخير خير، وإله الشرّ شرّ!
لو كانت موجودات العالم مقسّمة على هذا النحو لأمكن أن يكون الاستدلال صحيحاً، لكن الحقيقة هي أنّه لا يوجد في عالم الوجود إلّاالخير، وما يطلق عليه (الشرّ) أمر عدمي أو أنّه ذو جهة نسبية، فمثلًا نقول: الفقر شرّ، في حين أنّ الشرّ ليس إلّاالفقدان لمستلزمات الحياة، والفقدان أمر عدمي والعدم ليس شيئاً ليكون له خالق.
أو نقول: إنّ لسعةَ النحل ومخالب الحيوان المفترس شرّ وذلك عندما نجعل أنفسنا محوراً ثمّ نحكم بهذا النحو، في حين لو نظرنا إلى النحل نجد أنّ الابرة فيه وسيلة للدفاع وطرد المهاجمين، والأنياب والمخالب في الحيوانات المفترسة وسيلة للصيد والتغذّي ولها جانب حيوي بالنسبة إليها فهي إذن خير، وعليه فإنّ الكثير من الموجودات تتّخذ صورة (شرّيرة) نتيجة لأفكارنا.
وقد يكون جهلنا هو السبب في اعتبار الأشياء شرّاً وذلك لعدم علمنا بفوائدها، فمثلًا من الممكن أن نعتبر وجود الجراثيم شرّاً لأنّها تسبّب الأمراض ولكن إذا لاحظنا نظرية بعض العلماء في أنّ الجراثيم المسبّبة للأمراض تدعو خلايا الإنسان إلى معركة دائمة وفيها تكون أكثر نشاطاً ونمواً ورشداً، ولولا الجراثيم لكان معدّل طول الإنسان لا يتجاوز الثمانين سنتمتراً، ولأصبح ذا جسم ضعيف وعاجز، سنذعن عندما ندرك ذلك أنّ إطلاق الشرّ عليها ناشى ء من جهلنا، وبخاصّة أنّ الذي خلق الجراثيم قد أوجد طرق معالجتها في حالة استفحالها أيضاً.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 243
ونعلم
كذلك أنّ بعض الأدوية في عصرنا الراهن تستخرج من سموم الحيوانات ولهذا الغرض يُربّى كثير من الأفاعي والحيوانات السامّة الاخرى، وعلى هذا فإنّ ابرها وسمومها ليست شرّاً مطلقاً، وستأتي تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع في بحث العدل، بإذن اللَّه.
في هذا الموضوع انحرفت مجموعتان إسلاميتان هما (الأشاعرة) و (المعتزلة) أي المفوّضة، المجموعة الاولى تتبع «أبا الحسن الأشعري» المتوفّى عام 324 ه وقد أنكرت التأثير والعلّة والمعلول في عالم الخلق إنكاراً تامّاً وتقول: إذا كانت النار محرقة فانّه مجرّد تصوّر ولا غير! فالمحرق الأصلي هو اللَّه، ولكن إرادته حكمت بشكل إذا مسّت النار- مثلًا- يد الإنسان فإنّ اللَّه يوجد الإحتراق مباشرة في يده! وبهذا النحو أنكروا عالم العلّة والمعلول تماماً واعتبروا اللَّه تعالى علّة لكلّ شي ء مباشرة دون واسطة.
إنّهم أنكروا هذه القضيّة المحسوسة بل والأكثر من المحسوسة «1» بسبب إيمانهم بأنّ الإعتقاد بوجود عالم الأسباب يخلّ في توحيد الخالقية.
بسبب هذا الخطأ الكبير تعرّضت مجموعة الأشاعرة إلى انحراف كبير آخر وهو أنّها تعتبر أفعال الإنسان وأعماله مخلوقة للَّه أيضاً، وهذا أسوء أنواع الجبر!
وبعبارة اخرى أنّه شي ء أعلى من الجبر لأنّ الأشاعرة يقولون: لسنا نحن الفاعلين للأعمال الصالحة والسيّئة بل إنّ الخالق لها كلّها هو اللَّه سبحانه، فهي في الحقيقة أعماله المباشرة لا أعمالنا الجبرية (فتأمّل جيّداً)، وفي النقطة المقابلة يقف المعتزلة الذين لا يعتقدون بوجود تأثير للأسباب والعلل فحسب بل يعتبرونها مستقلّة في تأثيراتها، فمثلًا أنّ اللَّه خلق بعض الأنبياء والأولياء وأوكل إليهم أمر الخلق، كما يعتقدون أنّ الإنسان مستقلّ
__________________________________________________
(1) ليس لقانون العلّية بعد حسّي فقط بل يمكن التوصّل إليه عن طريق الوجدان والعلم الحضوري، لأنّ كلّ شخص يرى بوضوح أنّ روحه توجد الإرادة والتفكير.
نفحات القرآن،
ج 3، ص: 244
في أعماله تماماً، وبهذا يعتبرون الإنسان خالقاً صغيراً واللَّه عزّوجلّ خالقاً كبيراً!
ولا شكّ في أنّ المجموعتين على خطأ، وقد وقعا في لون من الشرك، شرك جلي وصريح، وشرك خفي، فالقائلون ب (التفويض) ابتلوا بشرك جلي لأنّهم اعتقدوا بأنّ الإنسان مستقلّ في أفعاله أو اعتقدوا بأنّ اللَّه قد أوكل إلى أوليائه خلق السماء والأرض وتنحّى جانباً! وهذا ما يعارض صريح الآيات القرآنية التي تعتبر اللَّه خالقاً لكلّ شي ء وربّاً ومدبّراً لجميع الامور، ومن العجيب أنّ الإنسان المسلم المرتبط بالقرآن كيف يتّبع مثل هذه الأبحاث المنحرفة؟!
أمّا الأشاعرة فقد ابتلوا بلون آخر من الانحراف والشرك، لأنّهم أنكروا أوّلًا: أصل العلّية في عالم الخلق خلافاً للوجدان والحسّ، وثانياً: إذا كان الإعتراف بأصل العلّية شركاً فإنّ الإعتقاد بأصل وجود الإنسان شرك أيضاً، إنّ الإنسان مختار وحرّ في فعله ولكن يجب أن لا ننسى أنّ قدرته وقوّته كلّها وحتّى حرية إرادته هي من اللَّه تعالى، فهو الذي أودع كلّ هذه القوى في الإنسان وهو الذي شاء أن يكون الإنسان حرّاً، وعلى هذا فإنّ أعمال الإنسان في الوقت الذي تستند فيه إلى الإنسان فانّها تكون مستندة إلى اللَّه أيضاً، ولا تخرج عن دائرة خلقه، كالإعتقاد بأصل وجود الإنسان فانّه وجود تابع ومتعلّق بغيره، ولذلك لا يستوجب الشرك.
وبملاحظة المثال الآتي يمكن أن تتّضح الحقيقة: إنّ كثيراً من القطارات تعمل بالطاقة الكهربائية، وهذه الطاقة تجري في شبكة على طول الطريق ويرتبط القطار بها عن طريق حلقة، السائق في مثل هذا القطار حرّ في عمله ولكن في الوقت ذاته يكون عمله مرتبطاً بيد شخص آخر وهو الذي يراقب الطاقة الكهربائية على طول السلك، فبإمكانه أن يقطع التيار الكهربائي بإرادته في أيّة لحظة شاء
وذلك بالضغط على زرٍ معين فيتوقّف القطار في مكانه.
وبإمكانه- إذن- أن يقول إنّي حرّكت القطار بإرادتي، كما يمكن لسائق القطار أن يقول ذلك ويصدق الإثنان، إلّاأنّهما فاعلان طوليان الأوّل في المرحلة الاولى والعليا والثاني في المرحلة الثانية والسفلى التابعة، فالفعل ينسب إذن إلى الإثنين ومع ذلك فإنّ سائق القطار
نفحات القرآن، ج 3، ص: 245
مسؤول عن عمله وليس بمجبر.
وعليه لا يكون الإعتقاد بحرية إرادة الإنسان شركاً في الخالقية.
وبعبارة أوضح: مثلما يرتبط أصل وجود الإنسان باللَّه تعالى والإيمان بوجود الإنسان لا يستلزم الشرك فأفعاله كذلك.
والأشاعرة كأنّهم يرون أصل وجود الإنسان مستقلًا في حين أنّ هذا نوع من الشرك، وإلّا فإنّ الوجود التابع إن لم يتعارض مع التوحيد فإنّ الأفعال التابعة للإنسان لا تكون معارضة للتوحيد أيضاً.
ولا بأس أن يتوضّح هذا البحث بضرب مثال:
جاء إنكار الأشاعرة للعلّية والسببية نتيجة لتوهّم وقوع الشرك، أي إذا اعتبرنا الإحراق من النار فانّهم يقولون: إنّ هذا شرك! في حين يبقى هذا السؤال: أليس الإعتقاد بوجود أصل النار أمام وجود اللَّه شركاً؟
سيقولون: لا حتماً، لأنّ هذا الوجود تابع لذاته المقدّسة (كالضوء المنبعث من المصباح المتوقّف على ارتباطه بالطاقة الكهربائية ويطفأ عند انقطاعها)، ونذكر هذا الكلام ذاته في تأثير الأسباب ونقول: إنّها تكون في النهاية تابعة للَّه تعالى، وقدوة الإنسان واختياره تابع له أيضاً، وعليه فإنّ التوحيد يحتفظ بمعناه تماماً في هذا المجال، فاللَّه خالق كلّ شي ء مع ثبوت أصل العلّية والحرية في إرادة الإنسان.
وستأتي إيضاحات أكثر بهذا الشأن في بحث الجبر والإختيار، بإذن اللَّه.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 247
إنَّ توحيد الربوبية يعني أنّ المدير والمدبّر والمربّي والمنظّم لعالم الوجود هو ذات اللَّه المقدّسة فقط.
وكلمة (ربّ) التي هي من صفات اللَّه عزّوجلّ قد تكرّرت
في القرآن الكريم أكثر من غيرها حتّى بلغت 900 مرّة بألفاظ: (ربّ، ربّك، ربّكم، ربّنا، ربّي وأمثالها)، والعديد من الآيت القرآنية تعرّف اللَّه ب (ربّ العالمين) ويدلّل ذلك على أنّ القرآن يولي اهتماماً خاصّاً بتوحيد الربوبية، حيث كان أغلب المشركين يجعلون مع اللَّه تعالى موجودات اخرى تشاركه في تدبير العالم، وأغلبهم- كما أسلفنا- آمنوا بتوحيد الخالقية ولكنّهم تورّطوا بالشرك في الربوبية، ولذا يقوم القرآن بدفع هذا الانحراف العقائدي الكبير لدى أقوام مختلفة مكرّراً وباستمرار، والشرك في الربوبية طبعاً يكون مصدراً لانحرافات خطيرة اخرى سنتعرض لها في بحوث مقبلة.
بهذا التمهيد نمعن خاشعين في آيات قرآنية تمثّل نماذج من آيات توحيد الربوبية في القرآن الكريم:
1- «الْحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ». (الفاتحة/ 2)
2- «قُلْ أَغَيرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَى ءٍ». (الأنعام/ 164)
3- «قُلْ مَنْ رَّبُّ السَّماوَاتِ والْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ». (الرعد/ 16)
4- «فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لَاالَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ». (المؤمنون/ 116)
5- «اللَّهَ رَبَّكُم وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ». (الصافات/ 126)
6- «قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ والْأَبْصَارَ وَمَن يُخرِجُ الْحَىَ
نفحات القرآن، ج 3، ص: 248
مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ».
(يونس/ 31)
«ربّ»: له أصل واحد وفروع وشعب كثيرة وموارد استعمال كثيرة.
والأصل كما يقول الراغب في المفردات يعني التربية وسَوْق الشي ء إلى الكمال، وفي (مقاييس اللغة) ذكر عدداً من الاصول له هي: المصلح والقائم على الإصلاح الملازم والمقيم على الشي ء، الإدغام بين الشيئين ولكن كما ورد في (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) فإنّ هذه ترجع جميعها إلى أصل واحد وهو عبارة عن سوق الشي ء إلى الكمال ورفع النقائص في أبعاد مختلفة: ماديّة ومعنوية، ذاتية
وعرضية، وفي الإعتقاد والصفات والأخلاق.
وبما أنّ أداء هذا العمل يقترن بمفاهيم اخرى نظير: الإصلاح، التدبير، الحكومة، المالكية، الصحبة، السيادة، الإجتماع، التعليم، والتغذية فانّه يطلق على هذه المعاني أيضاً.
من هنا ذكرت له كتب اللغة معاني متعدّدة، فقد جاء في (لسان العرب) مثلًا: إنّ (ربّ) إضافة إلى إطلاقه على ذات اللَّه المقدّسة فانّه يعني المالك والسيّد والمدبّر والمربّي والقيّم والمنعم أيضاً، وجوهر الكلام هو أنّ هذه الكلمة تعني في الأصل التربية والسوق إلى الكمال ثمّ اطلقت على المعاني الملازمة له «1».
ولكن كما يستفاد من أقوال اللغويين إذا استعملت هذه الكلمة مطلقة فانّها تستعمل فيما يخصّ اللَّه تعالى فقط لأنّه المالك الحقيقي والمربّي والمصلح لكلّ شي ء، وإذا استعملت في سوى اللَّه تعالى فالواجب هو أن تكون مضافة مثل (ربّ الدار) (ربّ الإبل) و (ربّ الصبي) «2».
__________________________________________________
(1) ينبغي ملاحظة أنّ «ربّ» مشتقّة من «ربب» في حين أنّ «التربية» مشتقّة من «ربو» ويستفاد من التفاسير التي وردت حول كلمة ربّ في كتب اللغة أنّ (ربو) و (ربب) لهما تشابه شديد في المعنى وقد اعتبر الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان ج 1، ص 22، هاتين الكلمتين بمعنى واحد.
(2) راجع، لسان العرب؛ مفردات الراغب؛ وقاموس اللغة مادّة (ربّ).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 249
إنّ هذه الكلمة عندما تطلق على اللَّه عزّوجلّ يمكن أن تكون فيها إشارة إلى أبعاد الربوبية المختلفة أي المالكية والتدبير والإصلاح والتربية والقيمومة والإنعام.
«تدبير»: من (دبْر) ويعني المجي ء خلف شي ء، والتدبير يعني جعل الشي ء ذا عاقبة حسنة ونتيجة مرغوبة، العمل الذي لا يمكن إنجازه إلّابالعلم والوعي وبهذا فإنّ لفظ (مدبّر) يطلق على أشخاص يتدبّرون عواقب الأعمال ويوصلونها إلى نهاياتها المطلوبة ويمتلكون رؤية ثاقبة ووعياً كافياً «1».
إنَّ الآية الاولى التي نردّدها صباحاً ومساءً تقول: «الحَمدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ» قد تكرّرت في سور قرآنية عديدة من قبل العباد أو من قبل اللَّه تعالى، وتكون تارة مرتبطة بالدنيا، واخرى بيوم القيامة «2».
هذه الآية تتضمّن في الحقيقة استدلالًا لطيفاً على أنّ اللَّه عزّ وجلّ أهل لكلّ حمدٍ وثناء، لأنّه المربّي الحقيقي للعالمين أجمعين، فهو الخالق وهو الرازق وهو المالك وهو المربّي وهو المدير والمدبّر وهو المرشد والمعلّم والهادي، والملاحظ أنّ (الحمد) استعمل كجنس يشمل كلّ أنواع الثناء، و (العالمين) كذلك، فانّه جاء على هيئة الجمع المحلّى بالألف واللام فانّه يشمل موجودات العالم كلّها من عقلاء وغير عقلاء ماديّة وغير مادّية (واستعمالها بصورة الجمع العاقل فانّه من باب التغليب) «3».
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة والتحقيق في كلمات القرآن الكريم ومفردات الراغب.
(2) الأنعام، 10.
(3) لهذا فانّه حينما وصف موسى عليه السلام اللَّه تعالى أمام فرعون بأنّه (ربّ العالمين) سأل فرعون: ومن ربّ العالمين؟ فأجاب موسى: ربّ السماوات والأرض وما بينهما.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 250
وعليه إنّ ما يقوم به الآخرون من تعليم وتربية وإنعام في زاوية من العالم فإنّ ذلك قبس من فيضه سبحانه، ومن كان مالكاً فإنّ ذلك شعاع من مالكيته المطلقة، ولذا علينا قبل أن نشكر عباده ونحمدهم ونثني عليهم يجب أن نحمد اللَّه ونشكر ذاته المقدّسة.
والفخر الرازي يقدّم شرحاً إجمالياً لِنِعَم اللَّه نظراً إلى أنّ الحمد والثناء يكون إزاء النعمة ويقول: «... ثمّ أنّ أصحاب التشريح وجدوا قريباً من 5 آلاف نوع من المنافع والمصالح التي ذكرها اللَّه عزّوجلّ بحكمته في تخليق بدن الإنسان ثمّ إنّ من وقف على هذه الأصناف المذكورة في كتب التشريح عرف أنّ نسبة هذا القدر المعلوم المذكور
إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط» ثمّ يذكر آثار الربوبية في بقيّة أنحاء العالم، ويقول: «إنّ هذا المجموع «مجموع نعم اللَّه» مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقلّ، ثمّ إنّه تعالى نبّه على أنّ أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان أو كما قال تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ». (الجاثية/ 13)
وحينئذ يظهر أنّ قوله جلّ جلاله «الحمد للَّه» مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقلّ» «1».
المفسِّر المذكور تحدّث طبعاً في إطار العلوم السائدة في عصره، وبملاحظة الإكتشافات الحاصلة في عصرنا في المجالات العلمية المختلفة يتّضح صغر وتفاهة هذه الأرقام والأعداد، ففي جسم الإنسان وحده 10 ملايين مليار خليّة! كلّ خليّة منها تعدّ من خَدَمه ومشمولة بربوبية الخالق سبحانه وتستلزم الشكر والحمد، ولو أراد الإنسان أن يعدّ هذه الخلايا ليلًا ونهاراً فضلًا عن حمدها والثناء عليها لاحتاج إلى 300 ألف سنة!
الآية الثانية التي تخاطب النبي صلى الله عليه و آله تقول: «قُلْ أَغَيَرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَى ءٍ».
كيف تريدون الإستقلال لأنفسكم عن النظام العامّ لعالم الخلق؟ فاللَّه ربّ الموجودات كلّها فكيف لا نعتقد بأنّه (ربّنا)؟ فهل من الممكن أن نجعل شيئاً تحت ربوبية اللَّه شريكاً له
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 1، ص 6.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 251
ونعتبر المربوب ربّاً والمخلوق شريكاً للخالق، والعبد في عرض المولى؟ فأي حكم هذا؟!
وبملاحظة سعة مفهوم (شي ء) الذي يشمل كلّ ما سوى اللَّه سبحانه فإنّ توحيد الربوبية في هذه الآية ظاهر بصورة كاملة فاللَّه سبحانه يأمر النبي صلى الله عليه و آله ضمن آيتين سابقتين بأن يخاطب المشركين بصراحة: «قُلْ انَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ». (انعام/ 162)
لماذا أعبد غيره؟ ولماذا أسجد لغيره؟ وكيف أبقى حيّاً بذكر غيره؟ أو أموت فداءً لغيره؟
في حين أنّه وحده هو الخالق والمالك والمربّي لي.
ونرى هنا التلاحم والتآلف بين (توحيد العبادة) و (توحيد الربوبية) حيث أوجدا خليطاً مربّياً للروح «1».
في الآية الثالثة خطاب للنبي صلى الله عليه و آله أيضاً ولكن الكلام هنا جاء عن ربّ السماء والأرض والذي لا يختلف في الحقيقة عن (ربّ العالمين) و (ربّ كلّ شي ء) كثيراً، وإن ذكر بعبارات مختلفة فتقول الآية: «قُلْ مَن رَّبُّ السَّماوَاتِ والْأَرْضِ»، ولأنّهم ليس بوسعهم الإدّعاء بأنّ الأصنام أو المعبودات البشرية وأمثالها مدبّرة ومربّية ومنظّمة للسماء والأرض فإنّ الآية تأمر النبي صلى الله عليه و آله مباشرة: أجب عن هذا السؤال و «قُلِ اللَّهُ».
ينبغي لك أن تهجر كلّ ما سواه وتُعرض عن غيره وتعتمد على ذاته المقدّسة فقط، واجعل قلبك مرتبطاً به وعفّر خدّك له، لأنّ جميع الموجودات لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً فضلًا عن غيرها: «لَايَملِكُونَ لِانفُسِهِمْ ضَرّاً وَ لَانَفْعاً». (الفرقان/ 3)
__________________________________________________
(1) «نسك» مفرد وفسّره الكثير من اللغويين بمعنى كلّ عبادة في حين فسّره البعض بمعنى الهدي ولكن لا توجد آية قرينة عليها بل إنّ ظاهر الآية يدلّ على أنّ المراد هو كلّ العبادات وعليه يكون ذكره بعد الصلاة من قبل العام بعد الخاصّ.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 252
الآية الرابعة تتحدّث عن ربوبية اللَّه للعرش ولكنّها تبدأ بحاكمية اللَّه وتقول: «فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ».
وهذه جملة تكمّل ما ورد في الآية السابقة لها وفيها: «أَفَحَسِبْتُم انَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثاً وَانَّكُم الَينَا لَاتُرجَعُونَ». (المؤمنون/ 115)
ويستفاد منها بأنّه لولا المعاد والقيامة فإنّ خلق الإنسان يكون عبثاً، لأنّ الحياة لعدّة أيّام في الدنيا ليست هدفاً سامياً للخلق
وهذا من الدلائل المهمّة للمعاد، سيكون لنا حديث مفصّل عنها في بحث المعاد بإذن اللَّه.
ثمّ تضيف الآية: «لَاالهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ».
«ملك»: يعني الحاكم والمالك، ولا يصدق ذلك بمعناه الحقيقي إلّافي اللَّه سبحانه لأنّه من شؤون الخالقية ومستلزماتها ولعدم وجود خالق سواه فانّه لا مالك ومَلك غيره.
ولذا تصفه الآية بعبارة (الحقّ)، ثمّ تحصر المعبود فيه لأنّ العبادة تليق بالملك الحقّ وتكمل ذلك بوصفه ب «رَبُّ العَرشِ الْكَرِيمِ»، هذه الصفات الأربع جاءت لدعم عقيدة المعاد والقيامة الواردة في الآيات السابقة.
«العرش الكريم»: إشارة إلى عالم الوجود كلّه، لأنّ العرش يعني كرسي السلاطين العالي، وكرسي الحكومة الإلهيّة كناية عن مجموعة عالم الخلق وعلى هذا ينسجم مع جملة: «رَبُّ كُلِّ شَي ءٍ» التي جاءت في الآيات السابقة، واتّصاف العرش ب (الكريم) الذي يعني الشريف والمفيد والجيّد بسبب أنّ كرسي الحكومة الإلهيّة مصداق كامل لهذه الصفات.
ولكن بعضاً اعتقد أنّ (الكريم) يعني الصاحب الكريم، ولأنّ هذا المعنى لا يصدق في العرش فإنّ هذه الصفة تكون لذات اللَّه المقدّسة لا العرش، في حين أنّ كريم يمكن أن يكون وصفاً لغير الموجودات العاقلة أيضاً مثل: «لَهُم مَّغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ». (الحج/ 50)
أي كثير الفائدة والشريف «1».
__________________________________________________
(1) هنا أبحاث مفصّلة في معنى «العرش» في اللغة والقرآن الكريم ومنها في تفسير الأمثل، ذيل الآية 54 من سورة الأعراف و ذيل الآية 3 من سورة يونس.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 253
الآية الخامسة تتحدّث عن ربوبية اللَّه للبشر وتنقل عن النبي العظيم «إلياس عليه السلام» خطابه لقومه، وفيه وبخّهم على عبادة صنمهم المعروف ب (بعلْ) وقال لهم: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا وتَذَرُونَ احسَنَ الْخَالِقِينَ» وأضاف: «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» «1».
وهذا في الواقع لجميع الوثنيين الذين كانوا
يبرّرون عبادة الأصنام حينما يسألون عنها بقولهم: إنّ هذه سنّة آبائنا ولا نتركها، وفي المقابل استند النبي إلياس عليه السلام إلى هذا المعنى وهو: أنّ اللائق للعبودية هو ربّ العالم ومدبّره والمربّي الحقيقي للإنسان، واللَّه ربّكم وربّ آبائكم وأجدادكم فإذا كان اولئك على خطأ في معرفة المعبود الحقيقي وربّهم فلماذا تسلكون نفس الطريق الخاطى ء؟
تتحدّث الآية السادسة والأخيرة عن تدبير الأمر بدلًا من استخدام كلمة (الربّ) وهو مفهوم شبيه بالربوبية، وليس عينه تماماً، فتخاطب النبي صلى الله عليه و آله: «قُلْ مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ».
مَن الذي سخّر لكم نور الشمس الضروري لوجودكم والأمطار التي تنزل من السماء لتهب الحياة في كلّ مكان والهواء الذي تتنفسونه فيمنحكم طراوة ولطافة؟
وهكذا النباتات التي تنبت في الأرض، وتوفّر المواد الغذائية والفواكه اللذيذة والمعادن الثمينة التي تستخرجونها من باطن الأرض، من الذي أعطاها لكم؟ هل هذه الأرزاق من الأصنام؟!
ثمّ تذكر الآية جسم الإنسان وتشير إلى مجموعيتن من أهمّ أعضائه بعنوان الطريق الأصلي في ارتباط الإنسان مع العالم الخارجي والمبدأ الأساس للعلوم والأفكار حيث تقول: «أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ والابصَارَ»، ثمّ تتناول أهمّ ظاهرة في عالم الخلقة وهي قضيّة
__________________________________________________
(1) «اللَّه» منصوب لأنّه بدل من «أحسن الخالقين» في الآية السابقة وقال بعض إنّه عطف بيان.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 254
الحياة والموت وتقول: «وَمَن يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ»، فهل هذا من فعل الأصنام أيضاً؟!
والآية في آخرها بعد ذكر المسائل المهمّة الثلاث (الأرزاق السماوية والأرضية، السمع والبصر، الحياة والموت) تذكر القضيّة بصورة كليّة وجامعة وتقول: «ومَنْ يُدَبِّرُ الْامرَ».
ومن المسلّم به أنّهم لو راجعوا عقولهم وضمائرهم لم يكن لهم جواب إلّاأنْ يقولوا اللَّه:
«فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ».
ثمّ تقول الآية خذ من هذا
الجواب مستمسكاً وقل: «أَفَلَا تَتَّقُونَ».
إنّ جميع الأرزاق المعنوية والماديّة للإنسان وتدبير العالم كلّه قد اجتمعت في الحقيقة في هذه الآية، فإنّ الأرزاق الماديّة إمّا تكون من السماء أو من الأرض، والأرزاق المعنوية عادةً تكون عن طريق البصر والسمع اللذين ينقلان العلوم الحسّية والعقلية والنقلية إلى الإنسان، وتدبير العالم يشمل هذه كلّها وغيرها، فمن يستطيع أن يدّعي أنّ العباد الضعفاء أو الموجودات الحقيرة كالأصنام هي الخالقة لهذه الأرزاق والمدبّرة لهذه الامور؟ إنَّ توحيد الربوبية ليس قضيّة معقّدة حتّى بالنسبة لعبّاد الأصنام فيما لو فكّروا قليلًا.
والتعبير ب (يملك السمع والأبصار) يمكن أن يكون إشارة إلى خلقها أو حفظ نظامها وتدبيرها أو هذه الامور كلّها.
من مجموع الآيات المذكورة والآيات المشابهة لها في القرآن الكريم وهي كثيرة وواسعة نحصل على هذه الحقيقة، وهي أنّ القرآن الكريم يعرّف اللَّه القادر المتعال بأنّه هو المالك والمربّي والمدير والمدبّر لعالم الوجود كلّه وكلّ شي ء، وكلّ موجود في السماء والأرض والعرش والكرسي والبشر في الزمان الحاضر والماضي، ونقول بصراحة لا ربّ لعالم الوجود غيره.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 255
من خلال مطالعة دقيقة للآيات القرآنية نستنتج أنّ القرآن يصرّ مؤكّداً بأن لا يضيع الناس بين الوسائط وعليهم أن يتوجّهوا إلى ذات اللَّه المقدّسة مباشرةً، ويتحدّثوا معه ولتتعلّق قلوبهم به وحده ولا يعبدوا غيره، والتعبير ب (ربّ العالمين) في سورة الحمد والسور القرآنية الاخرى إشارة إلى هذه الحقيقة، وتكرار ذكر الركوع والسجود (سبحان ربّي العظيم) و (سبحان ربّي الأعلى) كلّه لبيان هذه الحقيقة وهي: ليس خلقنا بيده فحسب بل وبقاؤنا وتربيتنا وتكاملنا وتدبير امورنا.
وقد أوضح القرآن الكريم ذلك بدقّة وهو أنّ، (الخالق) و (الربّ) لا يمكن أن ينفصلا، ولو دقّقنا جيّداً في الإنسان لوجدنا
له خلقاً جديداً في كلّ لحظة، وكلّ ذلك منه سبحانه.
إنَّ موجودات العالم بأسرها محتاجة وفقيرة وهو الغني المطلق من كلّ جهة.
وتاريخ الديانات يشير إلى أنّ البشرية بسبب التيه في الوسائط والخرافات التي ابتُليت بها، وكم من الموجودات المنحطّة التي جعلتها آلهة تتحكم بمصائرها، وهذا التعدّد في الأرباب والآلهة قد جلب للبشرية كلّ هذا التفرّق والاختلافات والشقاء.
ولكن عندما نهجر هذه الوسائط ونعتبر أنّ اللَّه هو الربّ المطلق كما تقول الدلائل والبراهين العقلية، نعرف أنّ كلّ شي ء محتاج إليه فإنّا سنصل إلى مبدأ النور والعظمة والوحدة والوحدانية.
ولذا فإنّ صفة (ربّ) تكرّرت أكثر من 900 مرّة في الآيات القرآنية ولم تتأكّد صفة اخرى من الصفات الإلهيّة إلى هذه الدرجة.
وفي الحقيقة يجب معرفة ومطالعة الإخلاص في توحيد الإسلام قبل كلّ شي ء في هذا التوحيد الربوبي.
كلّما تعمّقنا في دراسة تاريخ المذاهب والديانات تتجلّى أمامنا هذه الحقيقة أكثر فأكثر
نفحات القرآن، ج 3، ص: 256
وهي شيوع الشرك وتعدّد الآلهة (الإله بمعنى الربّ) بين المجتمعات البشرية المختلفة منذ أقدم العصور بشكل أوسع، ولو قمنا بجمع أسماء هذه الآلهة وعقائد المجتمعات البشرية المختلفة لحصلنا على كتاب مفصّل ملي ء بالعقائد العجيبة والغريبة والخرافية، ولا بأس في الإشارة إليها بصورة مختصرة، ليطّلع القرّاء على تلك القصّة الطويلة من خلال هذه المقدّمة المتواضعة.
كَتَبَ أحد المؤرّخين الغربيين بهذا الصدد: «لم تكن الديانة الرومية تشابه ما نصطلح عليه «دين» أبداً، ولم تتضمّن أي تشريع لمعتقديها، ولم تكن بصدد إصلاح التفسّخ الأخلاقي بين الناس، بل كانت تعلّمهم أفضل السبل لاكتساب رضا الآلهة وعونها.
... وكانت آلهة الروم كثيرة جدّاً ممّا جعل كلّ إله يحظى باتجاه معين! وله دور في قضيّة معيّنة، فلم يكن لأبواب البيوت إله فحسب، بل والعتبة منها وقواعدها كانت لها أرباب، كما أنّ هناك آلهة مستقلّة تتولّى أمر المحافظة على كلّ فرد من أفراد البشر، فوجود رب النوع الخاص الذي يعلّم الطفل أوّل صرخة، وآخر يعلّمه شرب الماء، وآخر يعلّمه الخروج من البيت وآخر يعلّمه كيف يرجع! وهناك إله خاص لحراثة الأرض وإله آخر خاص بالزراعة وآخر لبذر البذور و (أعداد كبيرة من الآلهة)، ولا عجب في أن يكون للروم (30) ألف إله! حتّى أنّ أحد شخصياتهم مازح بقوله: إنّ آلهة بلادنا في الشوارع والمجتمعات هي أكثر من أفراد شعبنا!» «1».
ويكتب ذلك المؤرّخ أيضاً: (لقد اعتقد المجتمع اليوناني- كالكثير من الامم- بالوهية الظواهر الطبيعية كلّها نظير الشمس والرعد والمحيطات والأعاصير والأنهار والعيون
__________________________________________________
(1) تاريخ آلبرمالة، تاريخ الروم، ج 1، ص 29 و 30، (علامة التعجّب منّا).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 257
والرياح والأمطار، وقام بعبادتها واعتقد أنّ هذه الآثار تنشأ من وجود خفي، واعتقد أنّها منشأ الخير والشرّ ومن هنا قام بعبادتها كي يحصل على كرمها أو يدفع الشرّ بها.
ثمّ يذكر إله اليونان المعروف وهو (زيوس) ابن (كرونوس) وهو المتصوّر لديهم على شكل إنسان، له الهيمنة التامّة والجبروت وذو جبهة عريضة وشعر كثيف ولحية كثّة طويلة على شكل حلقات!
كان زيوس ربّ الأرباب وإله البشر في اليونان ويحيطه
عدد كبير من الآلهة وأرباب الأنواع، وكانت زوجة زيوس (هيرا) تعيش في السماء.
ويعتقدون أنّ لزيوس أبناء ثلاثة هم: (هرمس) و (آرتميس) و (آپولون) وهم على التوالي مظاهر المطر وربّ النوع للقمر والشمس!
كما اعتقدوا بآلهة عديدة اخرى نظير آلهة البحر وآلهة الأرض وآلهة جوف الأرض وآلهة العمل «1».
أغلب المصريين القدماء اعتقدوا بديانة تؤمن بتعدد الآلهة، واعتقدوا أنّ إلهاً واحداً هو أعلى من الآخرين عرف ب (إله الآلهة).
في مصر القديمة كان للناس في كلّ منطقة آلهة ومعبد خاصّ تجاوزت ال 2000 معبود! تسعة منهم يحظون بذكر أكبر، أحدهم إله الشمس، ثمّ إله الهواء، وإله الفضاء والفرا غ، وإله الأرض وهكذا هناك إله الصحراء والأراضي الخصبة والموات «2».
يقول المؤرّخ الشهير ويل ديورانت في (قصّة الحضارة):
«لم تكن في العالم منطقة تناظر مصر في تعدّد الآلهة، وكان المصري يعتقد أنّ الخلق ابتدأ من السماء، وكانت سماء نهر النيل أعظم ربّ الأنواع.
__________________________________________________
(1) تاريخ آلبرمالة، تاريخ امم الشرق، ج 2، من ص 171 إلى ص 179 (باختصار).
(2) الإسلام والعقائد والآراء البشرية، ص 46.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 258
وقد اعتقد المصريون بأنّ كواكب السماء ليست أجساماً فحسب بل إنّها تعكس الصورة الخارجية لأرواح الآلهة الكبيرة مثل آلهة السماء والحيوان والنبات، وقد بلغت حداً أصبحت فيه المعابد المصرية معارض للحيوانات المختلفة» «1».
إعتقد الإيرانيون قديماً بالثنوية ثمّ بتعدّد الآلهة وشاع بينهم بصورة تدريجية عبادة (امشاسبندان) أو الآلهة الستّة، آلهة الحيوانات الأليفة والبيضاء، إله النار، إله المعادن، إله الأرض، وإله المياه والحيوانات وإله الثوابت والسيارات السماوية «2».
إعتقد الصينيون القدماء أيضاً بأنّ العالم يحكمه أصلان أحدهما (المذكر) أو (الموجَب) أو (النور) والآخر (الأُنثى أو (السالب) أو (الظلام) وتبعه التفكير بالثنوية (شانكتي) وهو فحل مظهر لأصل الذكورة وكان يدعى إله الأفلاك، واعتقدوا أنّه هو الذي يجازي الإنسان على أعماله الصالحة والسيّئة في هذه الدنيا وينزل البلاء الشديد عند العصيان العامّ.
وكانت (هاتن) إلهاً مؤنثاً ويثنى عليه، ثمّ ظهرت آلهة اخرى تدريجاً وتبدّلت الثنوية إلى تعدّد الآلهة: إله الخصوبة، إله المطر، إله الرياح، إله الثلج، إله النار، إله الجبل و ... «3».
يؤكّد بعض المؤرّخين والمفسّرين بأنّ العرب كانوا يعتقدون بأنّ الخالق والرزّاق والربّ والمدبّر للعالم إله واحد ويستشهدون بآيات قرآنية تتحدّث عن إقرارهم في قضيّة خالقية اللَّه ورازقيته، وعليه فإنّ عبادة الأصنام بينهم لم تنشأ من الإعتقاد بتعدّد الآلهة، بل من
__________________________________________________
(1) تاريخ الحضارة، ويل دورانت، ج 1، ص 298 و 300 (بإختصار).
(2) الإسلام والعقائد والآراء البشرية، ص 34 (بإختصار).
(3) المصدر السابق، ص 157.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 259
اعتبارهم الأصنام ذات مقام ومكانة عند اللَّه يرجون منها الشفاعة والقرب من اللَّه، حتّى اعتقد البعض منهم أنّ إلى جانب كلّ صنم شيطان موكول به من قبل اللَّه، وكلّ من يعبد الصنم حقّ عبادته فإنّ ذلك الشيطان يبادر بقضاء حوائجه بأمر من اللَّه!! «1»
ولا يمكن إنكار أنّ طائفة من العرب كانت ترجّح عبادة النجوم، وتعتقد أنّ كواكب خاصّة حين الغروب والشروق تقوم بإنزال المطر وقد عبّروا عنها ب (الأنواء) وهو جمع نوء ويعني النجم الذي يميل إلى الغروب، وقد اعتقدوا بارتباط الحركة والسكون والسفر والإقامة بهذه النجوم (واعتقدوا بتأثيرها على مصائرهم) وقد شيّدوا معابد كبيرة للشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب «2».
وفي اليمن كان
من بين القبائل العربية من يعبد الكواكب السماوية، فكانت طائفة منها تعبد الشمس وقد أشار القرآن الكريم إليها في قصّة ملكة سبأ، وطائفة اخرى عبدت القمر، واخرى عبدت نجمة الشعراء، كما عبدت قبائل اخرى نجوماً اخرى «3».
في بلدان اخرى مثل الهند واليابان وغيرها ساد الإعتقاد بأرباب الأنواع والآلهة المتعدّدة، كما اعتقد الصابئة (عبّاد النجوم) بأنّ السيّارات السبع هي التي تحرس الأقاليم السبعة وتحافظ عليها (حيث قسّموا الأرض قديماً إلى سبعة أقسام أُطلق على كلّ قسم منها اقليم) «4» واعتقدوا أنّها مبدأ الخيرات ودافعة للأضرار عن أهل الأرض.
والإعتقاد ب (توتم) الذي ساد في مناطق شاسعة من العالم كان مشابهاً للاعتقاد بربّ الأنواع أيضاً، حيث كان لكلّ قبيلة (توتم) بمثابة الأب وروح القبيلة واعتقد بأنّه على صورة الحيوانات أو ما شاكله.
__________________________________________________
(1) بلوغ الأرب، ج 2، ص 197.
(2) المصدر السابق، ص 223.
(3) الإسلام والجاهلية، ص 295.
(4) يمكن مراجعة معجم البلدان، ج 1، ص 27 للمعرفة التفصيلية بالأقاليم السبعة وحدودها.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 260
إفترض افلاطون لكلّ نوع من أنواع عالم الطبيعة فرداً مجرّداً عقليّاً، واعتقد أنّه قائم بالذات وبما أنّ هذه الأفراد المجرّدة اعتبرت أمثالًا ومظاهر لأسماء وصفات اللَّه وشبيهة للأنواع الطبيعية فقد اطلق عليها عنوان (مثال) وجمعه مُثُل على وزن رُسُل.
إعتقد افلاطون أنّ ما له الحقيقة هو المثال وهو المطلق الذي لا يتغيّر ومجرّد من الزمان والمكان وأبدي وكلّي، وأمّا هذه الأجسام الجسمانية والمادّية التي نشاهدها متعدّدة وذات زمان ومكان وفانية فإنّها إنعكاس لتلك، وعليه تكون نسبة الإنسان الجسماني لمثاله هو نسبة الظلّ إلى ذي الظلّ.
ولأفراد الإنسان قسط من الحقيقة ما يناسب قربها من المثال، ومن هنا اعتبر افلاطون العالم المحسوس مجازاً وعالم المعقولات حقيقة «1».
إنّ الإعتقاد بالمثل اليونانية وإن تغاير مع الإعتقاد بأرباب الأنواع لكنّه لا يخلو من تشابه من عدّة جهات ويعتبر شكلًا فلسفياً من أرباب الأنواع اليوناني.
كما أنّ الإعتقاد بالعقول الفلكية المجرّدة له تشابه مع
أرباب الأنواع من جهة.
وإيضاحه: أنّ جماعة من الفلاسفة اعتقدوا بأنّ اللَّه- بسبب بساطته من كلّ جهة- له مخلوق واحد لا أكثر، وهو مخلوق مجرّد أطلقوا عليه (العقل الأوّل) ثمّ اعتقدوا بأنّ العقل الأوّل لتركّبه من وجود وماهية فهو الخالق للعقل الثاني والفلك الأوّل، وبهذا الترتيب اعتقدوا بخلق عشرة عقول وتسعة أفلاك!
وقد اعتقد البعض منهم أنّ عدد العقول لا حصر لها، كما اعتقدوا ب (العقول العرضية) إلى جانب العقول الطولية (العقول العشرة التي يكون أحدها مخلوقاً للآخر)، واعتبروها وسائط لفيض الصور النوعية والمرتبة العليا للموجودات الجسمية (مثل أرباب الأنواع والمثل الافلاطونية)، ولكلّ مفردة من هذه المسائل بحوث مطوّلة ننصرف عنها لأنّها خارجة عن موضوع بحثنا.
__________________________________________________
(1) كليّات الفلسفة الإسلامية وسير الحكمة في اوربا وكتب اخرى.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 261
المهمّ هنا هو أن نعلم بأنّ القرآن الكريم واجه هذه الأفكار كلّها وفي هذا الوسط الواسع من الأفكار العجيبة والغريبة والملوّثة بالشرك وأمام هذه العقائد والمذاهب الفلسفية المختلفة التي تُشمّ منها رائحة الشرك قام بعرض توحيد خالص في مسألة الخالقية وتدبير العالم وربوبيته وهو بحقّ من معجزات القرآن الكريم.
لقد أبطل القرآن هذه الآلهة الوهمية وربّ الأنواع الخيالية وعرّف (اللَّه عزّوجلّ) كربٍّ للعالمين فقط، واعتبر كلّ شي ء وكلّ إنسان مخلوقاً له وتحت تربيته وتدبيره، وقام بإفاضة الصفاء على قلوب البشر وأرواحهم بنور الوحدة ووجّه أنظار البشر المشتّتة إلى ذلك الواحد الأبدي.
أجل، إنّ دراسة تلك العقائد المشوبة بالشرك ومطالعتها تفصح عن قيمة التوحيد الإسلامي في منظار أتباع الحقّ.
والطريف أنّ الإسلام قد انبعث من أجواء لا يتحكّم فيها سوى الجهل، وكان الشرك يفرض قوّته على عقول الناس، ولم يكن العالم الخارج عن حدود الجزيرة العربية متخلّفاً عنها، فقد أشرنا سالفاً
إلى أنّ الفلاسفة والمفكّرين كانوا متورّطين بلون من الأفكار المشوبة بالشرك.
ويدلّ ذلك على أنّ طريق التوحيد الأصيل ليس أمراً يسمح للإنسان أن يسير فيه بنفسه، بل لابدّ من يد غيبية تمتدّ إليه عن طريق الوحي، ومن أنبياء يقودونه من وادي الظلمات ويوصلونه إلى معين التوحيد الخالص.
بالرغم من أنّ للتفويض معاني مختلفة تبلغ سبعة عند بعض، ووجود بحوث واسعة مرتبطة به، إلّاأنّ من اللازم التذكير بأنّ جمعاً من المسلمين القائلين بالتفويض قد ظهروا وهم يحملون عقيدة بأنّ اللَّه تعالى خلق النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام ثمّ أوكل إليهم
نفحات القرآن، ج 3، ص: 262
أمر الخلق والرزق والموت والحياة لسائر الموجودات في العالم.
وأفضل ما قيل عن هذه العقيدة هوماذكره العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول: «ثم اعلم أنّ التفويض يطلق على معانٍ بعضها منفي عنهم عليهم السلام وبعضها مثبت لهم، فالأوّل: إنّ التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء، فإنّ قوماً قالوا: إنّ اللَّه خلقهم وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويحييون ويميتون وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال: إنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون لها حقيقة وهذا كفر صريح، دلّت على استحالته الأدلّة العقليّة والنقلية ولا يستريب عقل في كفر من قال به.
وثانيهما: إنّ اللَّه تعالى يفعلها مقارناً لإرادتهم كشقّ القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حيّة وغير ذلك من المعجزات، فانّها جميعها إنّما تقع بقدرته سبحانه مقارناً لإرادتهم لظهور صدقهم فلا يأبى العقل من أن يكون اللَّه تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ثمّ خلق كلّ شي ء مقارناً لإرادتهم ومشيئتهم، وهذا وإن كان العقل لا يعارضه بتاتاً لكن الأخبار الكثيرة ممّا أوردناها في كتاب
(بحار الأنوار) يمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهراً بل صريحاً» «1».
وعليه فإنّ الاحتمال الثاني غير محال عقلًا، إلّاأنّ الأدلّة النقلية لا ترتضيه، وقد كثرت الامور التي ليست محالة عقلًا ولكن الشرع يرفضها، فمن الممكن- مثلًا- أن يكون عدد الأنبياء أو الأئمّة أكثر من المعروف إلّاأنّ الأدلّة النقلية قد حدّدت أعدادهم بما نعلمه.
وهناك احتمال ثالث وهو أنّ اللَّه عزّ وجلّ يوهب النبي أو الإمام قدرة يستطيع بها إحياء الميّت أو إبراء المريض من مرضه المستعصي بإذنه والظاهر من الآيات القرآنية حول السيّد المسيح هو ما ذكرنا، وهذا كلّه ممكن أيضاً بالنسبة للمعصومين، ولكن كما وردت في العبارات المذكورة تكون هذه المسألة في إطار المعجزات والكرامات فقط، لا في مورد خلق السماء والأرض وتدبير امور الكائنات، لأنّ القرآن الكريم قد صرّح في حصر أمر الخلق والتدبير والربوبية في اللَّه عزّ وجلّ، والآيات التي ذكرناها في هذا الفصل حول
__________________________________________________
(1) مرآة العقول، ج 3، ص 143 (باختصار).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 263
التوحيد والربوبية شاهدة على هذا المعنى.
وبما أنّ الإنسان الكامل هو الغاية الأساسية من الخلق وبما أنّ المعصومين هم أفضل البشر، يمكن القول أنّ عالم الوجود قد خلق من أجلهم، وبتعبير آخر، أنّهم بمثابة العلّة الغائية لعالم الوجود.
يُقسم القرآن الكريم في سورة النازعات الآية 5 ب (المدبّرات أمراً)، والمشهور بين المفسّرين هو أن الملائكة هي التي تدبّر امور العالم، فهل هذا يتنافى مع توحيد الربوبية؟
الإجابة عن هذا السؤال واضحة، فلو كانت الملائكة لها الإستقلال في التأثير لم يكن ذلك منسجماً مع توحيد الربوبية ولكنّا نعلم أنّها منفّذة للأمر الإلهي وقد أوكلت إليها الامور بإرادته ومشيئته نظير الأسباب في عالم الطبيعة التي لها تأثيراتها بأمر
اللَّه.
وقد لاحظ الكثير من المفسّرين هذه النقطة في هذه الآية ولم يجدوا تناقضاً بين القول بأنّ اللَّه (ربّ العالمين) و (ربّ كلّ شي ء) وبين تأثيرات عالم الأسباب أو تدبير الملائكة بإذن اللَّه، فكما ينصّ القرآن الكريم على أنّ الرازق لجميع الموجودات هي الذات المقدّسة للَّه عزّوجلّ: «وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزقُهَا». (هود/ 6)
في حين يقول في موضع آخر: «وَعَلَى المَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعرُوفِ». (البقرة/ 233)
ومن المسلّم به أنّ إطلاق الرازق على والد المولود لا يتنافى مع إطلاقه على اللَّه سبحانه، فهذا مستقلّ بالذات وذلك بالعرض والتبع.
عندما نقول: إنّ في العسل شفاء: «فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ». (النحل/ 69)
فإنّ ذلك لا يتنافى مع أنّ الشافي هو اللَّه فقط، كما يقول رمز التوحيد، إبراهيم عليه السلام: «وَإِذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشْفِينِ». (الشعراء/ 80)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 264
هذه كلّها تبيّن سلسلة العلّة والمعلول، أي تبدأ بالعلّة غير المستقلّة حتّى تصل إلى علّة العلل ومسبّب الأسباب، أي الذات المقدّسة للَّه تبارك وتعالى حيث يكون كلّ سبب مديناً له في تأثيره.
لقد انعكس هذا المضمون بصورة واسعة في الروايات والأدعية المأثورة عن المعصومين: ومنها الأدعية المختلفة التي وردت في الجزء الثاني من اصول الكافي، حيث تلاحظ هذه العبارات خلال الأدعية: «اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع ...
رب العرش العظيم ... ربّ المشعر الحرام وربّ البلد الحرام وربّ الحل والحرام ... الحمد للَّه ربّ الصباح ... ربّ الملائكة والروح .. ربّ المستضعفين .. ربّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وربّ القرآن العظيم وربّ محمّد خاتم النبيين» «1».
كما وردت هذه التعابير في روايات أهل السنّة «2».
وعليه فلا ربّ للسماء والأرض والملائكة والنبيين والأغنياء والمستضعفين والصباح والمساء والكعبة ومكّة والعرش العظيم إلّااللَّه
القادر الواحد.
والتنسيق في شؤون الكون وتنفيذ الأنظمة الحاكمة عليه دليل واحد على وحدة المدبّر، ولذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قوله للزنديق الملحد الذي سأله عن وحدانية اللَّه عزّ وجلّ: «فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد» «3».
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 2، ص 514- 585.
(2) للمزيد من الإيضاح راجع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ج 3، ص 207.
(3) توحيد الصدوق، ص 244، باب 36 (باب الردّ على الثنوية والزنادقة).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 265
من الأقسام المهمّة الاخرى ل (توحيد الأفعال) هو التوحيد في المالكية، ويعني أنّ المالك الحقيقي تكويناً وتشريعاً هو الذات الإلهيّة المقدّسة، والمالكيات الاخرى مجازية وغير مستقلّة.
إيضاح ذلك: أنّ المالكية على قسمين: مالكية حقيقية (تكوينية) ومالكية حقوقية (تشريعية).
المالك الحقيقي هو من له السلطة التكوينية والخارجية على الأشياء، وأمّا المالكية الحقوقية والتشريعية فانّها العقود التي تمضي عليها السلطة القانونية نظير مالكية الإنسان لأمواله.
والقسمان من المالكية للَّه تعالى في الدرجة الاولى من منظار الموحّد لعالم الوجود، فهو تعالى المالك للسلطة الوجودية على جميع الأشياء في الكون، لأنّ الموجودات كلّها منه وتستمدّ منه فيض الوجود آناً بعد آن، والجميع تبع له، وبهذا تثبت مالكيته الحقيقيّة على كلّ شي ء من كلّ جهة.
وأمّا المالكية القانونية فإنّ كلّ شي ء له لأنّه الخالق والموجود لجميع الأشياء، بل حتّى ما نصنعه فانّه هو الذي أعطانا وسائل الإنتاج كلّها، وعليه: فإن المالك الأوّل في الحقيقة هو اللَّه، وإن مالكيتنا ما هي إلّاوديعة لأيام معدودة.
وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (آل عمران/ 26)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 266
2- «أَلَمْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرضِ وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصيْرٍ». (بقرة/ 107)
3- «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَاإلهَ إِلَّا هُوَ فَانّى تُصْرَفُونَ». (زمر/ 6)
4- «وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (بقرة/ 247)
5- «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ». (فاطر/ 13)
6- «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّماوَاتِ وَلَا فِى الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا من شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّنْ ظَهِيرٍ». «1»
(سبأ/ 22)
(الملك) بناءً على ما ورد في المقاييس هو في الأصل: القوّة على الشي ء، ولذا ورد التمليك بمعنى التقوية، ثمّ استعمل هذا التعبير في ما يصحبه الإنسان من أشياء وذلك لما له من قدرة وقوّة عليها.
ولذا يطلق على الماء الذي يحمله المسافر (ملك)، لأنّ المسافر الذي يصطحب الماء (خصوصاً في الصحارى الحارّة) يكون قويّاً ومهيمناً على عمله.
«مَلِك»: هو السلطان لقدرته في بلاده.
«ملكوت»: يعني العزّة والسلطنة.
«إملاك»: في العربية يعني التزويج، لاعتبارهم الزوجة ملكاً لهم!
وأخيراً (مملكة) هي الحكومة وعزّة السلطنة، ومن ثمّ أُطلق على الوطن.
__________________________________________________
(1) وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة اخرى حول هذا الموضوع متّفقة مع الآيات أعلاه مثل: المائدة، 17- 18- 40- 120؛ الأعراف، 158؛ التوبة، 116؛ الإسراء، 111؛ النور، 42؛ الفرقان، 2؛ ص، 10؛ الزمر، 44؛ الشورى، 49؛ الزخرف، 85، وغيرها.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 267
قال المفسّرون: إنّ الآية الاولى نزلت بعد فتح مكّة، أو حينما كان النبي الكريم صلى الله عليه و آله مشغولًا بحفر الخندق قبيل معركة الأحزاب حيث بشّر المسلمين بفتح بلاد فارس والروم وقد اعتبر المنافقون ذلك تخيّلات وتكهّنات وتشبّثاً بالمحالات «1».
وفي هذه الأثناء نزلت الآية المذكورة وأنذرت الجهلاء بأنّ اللَّه مالك كلّ البلدان حيث قالت: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ» وليس الحكومات فقط وليس العزّة والذلّة بل: «بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ» «2».
وقدرة اللَّه عزّوجلّ على كلّ شي ء هي- في الحقيقة- دليل حاكميته على الأرض والسماء.
ومن الواضح أنّ لمالكية اللَّه بُعداً عامّاً وحقيقيّاً، في حين ما جاء في المورد الآخر في جملة: «تؤتي الملك من تشاء» يكون له بعد جزئي
ومجازي.
ولا دليل على تحديد مفهوم الآية بفتوحات الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أو عزّة المؤمنين وذلّة اليهود وما شاكل- كما يعتقد بعض المفسّرين- بأنَّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ الحكومات وكلّ عزّة وذلّة، وما قالوه فهو من مصاديقها الواضحة، والجملة الأخيرة: «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَي ءٍ قَديرٌ» هي في الواقع بمثابة الدليل على هذه المالكية الإلهيّة العامّة والمطلقة.
وواضح أنّ المشيئة والإرادة الإلهيّة التي استند إليها في هذه الآيات لا تعني أنّ اللَّه يعزّ أو يذلّ أو يعطي الحكومة ويسلبها بدون حساب، بل إنّه وضع في عالم الأسباب مجموعة من عوامل النصر والهزيمة وهي مظاهر مشيئته وإرادته.
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 427؛ وتفسير الكبير، ج 8، ص 4.
(2) قال بعض اللغويين: الخير والإختيار لهما مادّة واحدة، والحسنات خير لأنّ كلّ إنسان يختارها (التحقيق، المفردات، تفسير الميزان في ذيل آية البحث).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 268
فحينما يوفَّقُ المسلمون يوماً لفتح الأندلس وهي بوابة اوربا أو يخرجون من تلك الديار المعمورة يوماً آخر فإنّ ذلك حديث وفق تلك الأسباب التي هي مظاهر لمشئيته الإلهيّة.
وعندما يتسلّط أمثال يزيد وجنگيزخان على الناس فلعلّه نتيجةً لأعمال الناس أنفسهم حيث إنهم يستحقون مثل هذه الحكومات فقد ورد: «كيفما تكونوا يولّى عليكم».
من هنا يتّضح الجواب على الأسئلة التي تطرح حول آية البحث وليست بحاجة إلى توضيح أكثر.
الآية الثانية تنظر إلى الإشكالات الواهية التي أُثيرت من قبل اليهود حول تغيير القبلة بقولهم: هل بإمكان اللَّه أن ينسخ حكماً ويحلّ حكماً آخر محلّه؟ أن يرفع حكم القبلة من بيت المقدس ويجعله للكعبة؟ فتقول: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرضِ».
وعليه هل يكون عجيباً أن يقوم مثل هذا الحاكم العظيم
بنسخ حكم؟
إنّه ليس مطّلعاً على مصالح العباد فحسب بل له الحاكمية أيضاً وهو مالك التدبير والتصرّف المطلق في الكون وفي عباده.
ولذا تضيف الآية في ذيلها: «وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصيرٍ».
إنّه يعينكم في ضوء علمه بالمصالح والمفاسد وفي ظلّ حاكميته يسنّ القوانين، ثمّ أنّ اللَّه تعالى ليس له مكان لكي تتوجّهوا إليه في الصلاة، وعليه فإن قيمة المكان المتّخذ كقبلة- مع أنّ الكون بأسره ملك له- ناشئة من أمره بذلك.
وقد ورد وصف اللَّه تعالى بأنّه (ولي) و (نصير) في القرآن بكثرة، ويمكن أن يكون الاختلاف بينهما من جهتين: الاولى أنّ (ولي) يعني حافظ المصالح و (نصير) هو الذي ينصر الإنسان على عدوّه، والاخرى: أنّ (ولي) هو الذي يؤدّي عملًا لشخص تحت ولايته، ولكن (نصير) هو الذي يعين الإنسان ليتغلّب على مشكلته.
الآية الثالثة ومن خلال الإشارة إلى خلق الإنسان والحيوانات والتطوّرات العجيبة
نفحات القرآن، ج 3، ص: 269
تقول: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ»، فهو الخالق وهو المربّي ولذا فهو المالك والحاكم، ثمّ تجعل الآية هذه القضيّة مقدّمة لإثبات توحيد العبادة وتضيف: «لَاإلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ».
فيا أيّها الغافلون الجاهلون وياأيّها التائهون في وادي الضلالة! كيف تحيدون مع وجود هذه الدلائل الواضحة عن الإعتراف بخالقية اللَّه وربوبيته ومالكيته؟! هذا الجزء من الآية يثبت في الحقيقة (توحيد العبادة) استناداً إلى (توحيد الحاكمية) للَّه تعالى وحاكميته بالإستناد إلى مسألة الخلق التي يذعن حتّى المشركون بأنّها مختصّة باللَّه عزّوجلّ.
الآية الرابعة تنظر إلى قصّة طالوت وجالوت، فقد كان جالوت جبّاراً ومجرماً وحاكماً على بني إسرائيل وقد آذاهم كثيراً.
وقد قام النبي (اشموئيل) «1»
بطلب من بني إسرائيل بتنصيب (طالوت) الذي كان من القرويين الفقراء قائداً للجيش وحاكماً على بني إسرائيل!
أمّا الملأ
من بني إسرائيل فقد احتجّوا على هذا الإنتخاب واعتبروا أنفسهم أرجح منه، وذلك لما لهم من ثروة وفخامة! إلّاأنّ نبيّهم قال لهم بصراحة: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً» وأضاف: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى العِلْمِ والجِسْمِ واللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (البقرة/ 247)
وعليه فانّه لا يكون حاكماً تكوينياً على عالم الوجود فحسب، بل إنّ الحاكمية القانونية والتشريعية على المجتمع البشري هي لذاته المقدّسة ويمنحها لمن يشاء وإن كانت إرادته ومشيئته قائمة على أساس الأهلية واللياقة.
__________________________________________________
(1) احتمل بعض المفسّرين أنّه النبي شمعون أو يوشع ولكنّهما يبدوان بعيدين، أمّا بالنسبة ليوشع الذي كان وصيّاًلموسى عليه السلام فهو غير ممكن تقريباً.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 270
الآية الخامسة تبيّن هذه المسألة في إطار جديد، فبعد بيان حاكمية اللَّه على الشمس والقمر ونظام النور والظلم تستنتج بهذا النحو بقولها: «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لَهُ المُلكُ».
في حين ليس للمعبودات من دونه حاكمية ولا مالكية حتّى بحجم الغشاء الرقيق الذي يغلّف نوى التمر: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ».
وقد ذكر المفسّرون واللغويون معانيَ مختلفة لكلمة قطمير، أشهرها هو الغشاء الرقيق الذي يفصل النوى عن التمر.
وقد فسّره البعض بأنّه يعني التجوّف الأبيض الصغير الذي يوجد على ظهر النوى وينمو منه نبات التمر، وفسّره البعض بأنّه رأس التمرة، وفسّره بعض آخر بمعنى الشقّ الموجود على بطن النوى، أو بمعنى النطفة الحيّة الموجودة في بطن النوى.
ترتبط هذه المعاني الخمسة بنوى التمر التي كانت في متناول العرب، وهناك تفسير آخر ذكر لهذه الكلمة وهو غشاء البصل، ولكن الأشهر- كما ذكرنا- هو المعنى الأوّل وعلى كلّ حال هو كناية عن الشي ء الصغير والتافه الذي لا يؤبه له «1».
والآية
هذه دليل واضح على أنّ المالكية والحاكمية لا تكون لأحد سوى اللَّه عزّوجلّ إلّا أن تكون بمشيئته وهبته.
وفي الآية السادسة والأخيرة جاء هذا المضمون في إطار جديد، حيث تخاطب النبي صلى الله عليه و آله: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ» هل بإمكانهم أن يحلّوا عقدة من مشكلاتكم؟
ثمّ تقيم دليلًا على عجزهم في حلّ المشكلات وتضيف: «لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّماوَاتِ وَلَا فِى الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِنْ ظَهِيرٍ».
__________________________________________________
(1) راجع تفاسير مجمع البيان؛ روح المعاني؛ القرطبي؛ الميزان؛ المراغي؛ ومفردات الراغب، لسان العرب؛ ومجمع البحرين.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 271
وعليه فانّهم ليسوا مالكين مستقلّين ولا شركاء ولا معاونين، فأي عمل هم قادرون على إنجازه حتّى تسجدوا لهم وتعبدوهم؟!
بهذه الاستدلالات الواضحة ينفي القرآن الكريم كلّ شريك في المالكية والحاكمية في عالم الوجود الواسع بصورة مستقلّة ومشتركة ومتعاضدة، وتعتبر ذلك كلّه مختّصاً في اللَّه، وينزّه اللَّه عن كلّ شريك ومعين وناصر في عالم الوجود كلّه.
المستفاد من مجموع هذه الآيات الستّ والآيات القرآنية المشابهة لها هو أنّ المالك والحاكم على عالم الوجود بأسره لا يكون في منظار الموحّد الكامل إلّااللَّه، ولا يملك أحد في أي موضع ومنصب جزءاً صغيراً، وبهذا لا يبقى للمشركين أي مبرّر لعبادة الأصنام أو ربّ الأنواع أو الملائكة وغيرها.
الطغيان والغرور والتمرّد والبخل والحسد حالات نفسية تنشأ غالباً من عقيدة الإنسان بأنّه المالك الحقيقي للأموال التي بحوزته، ويرى نفسه حرّاً فيما إذا استلم زمام الحكم في نطاق واسع أو ضيق، وهذه حالة مشوبة بالشرك وهي منشأ لألوان المعاصي والفساد الاجتماعي.
ولكن إذا ما نظر الإنسان إلى هذا العالم بمنظار توحيدي، واعتقد- كما في الآيات- أنّ العالم ملك مطلق
للَّه واعتبر نفسه- كما جاء في الآية 7 من سورة الحديد: «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُّستَخلَفِينَ فِيهِ»- أميناً بين يدي اللَّه، وإستوعب هذا المعنى بوجوده كلّه، فكيف يمكن أن يقصر في أداء ما يريده صاحب الأمانة الأصلي أو يبخل أو يحسد؟ وكيف تكون هذه الأموال سبباً لغروره وطغيانه، إن ما يملك من مال وثروة ليس له! فهل يغترّ الموظّف في أحد المصارف بالملايين التي تكون تحت تصرُّفه كلّ يوم؟
وهكذا بالنسبة للحكومات والمناصب التي يتولّاها البعض، فانّهم ليسوا مستخلفين في
نفحات القرآن، ج 3، ص: 272
جزء صغير من عالم الوجود هذا، وعلى أساس هذا الفهم والرؤية، فلماذا الغرور والطغيان؟
ولماذا الظلم والفساد؟
إنَّ هذه الرؤية التوحيدية للعالم تعطي للإنسانية صبغة أُخرى صبغة إلهيّة، صبغة السلام والصفاء والأمن ولون الإنفاق والإيثار.
لا شكّ- وكما تقدم- أنّ اللَّه تعالى مالك لعالم الوجود بأسره- وبغض النظر عن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة بهذا الخصوص فإنّ الدليل العقلي شاهد على هذا الأمر، فانحصار واجب الوجود في ذاته المقدّسة واحتياج الموجودات كلّها إلى اللَّه سبحانه وتعالى يكفي لإثبات هذا المفهوم ولايتنافى مع هذا المعنى من المالكية الحقوقية والقانونية لبني الإنسان في الإطار الذي يسمح به اللَّه أبداً، وما يتشبّث به البعض في قضيّة (ملكية اللَّه) لنفي آية (الملكية الخاصة) فانّه استغلال ليس إلّا، والعجيب إن ذلك يُطرح تحت عنوان الفقه الإسلامي، ويعطي- في الحقيقة- للإشتراكية أو الشيوعية لوناً إسلامياً.
وبوضوح أكثر نقول: إنّ القرآن الكريم الذي أكد على مالكية اللَّه لعالم الوجود الواسع بأسره فيه آيات تتعلّق ب (الإرث والخمس والزكاة والتجارة) أيضاً ويضفي الشرعية على الأموال المشروعة التي يتصرّف بها القطّاع الخاصّ، فقد جاء التعبير ب (أموالكم) في 14 آية قرآنية، والتعبير ب (أموالهم) في 31
آية- وقد وردت الكثير من التعاليم الالهيّة في العديد من الآيات تأمرهم في كيفية التصرف في أموالهم، فلو كان مفهوم الملكية الإلهيّة ينفي ملكية الإنسان، فما هو إذن مفهوم الآيات التي وردت في هذه ال 45 آية إضافة إلى آيات كثيرة اخرى تتعلّق بهذا الموضوع؟
فالقرآن الكريم يقول: «وَآتُوا الْيَتَامى أَمْوَالَهُمْ ... وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ».
(النساء/ 2)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 273
وفي موضع آخر: «انَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ..».
وفي موضع ثالث يقول: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُمْ فِى سَبيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَايُتبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ ...». (البقرة/ 262)
ويخاطب المرابين: «وَإِن تُبتُم فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَموالِكُم». (البقرة/ 279)
أو كما ورد في الآية الكريمة: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً». (النساء/ 6)
وقد وردت تعابير كثيرة تشير إلى هذا النوع من المالكية.
بالطبع، في الشريعة الإسلامية هناك أقسام أُخرى من المالكية مثل «الملكية العامة» و «ملكية الحكومة» بالإضافة إلى «الملكية الخاصة»، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، ولكن لا يوجد لأي من هذه الملكيات علاقة بمالكية اللَّه سبحانه وتعالى، وبتعبير مختصر وهو أنّ توحيد الملكية لايتعارض ولا يتنافي مع ملكية أفراد البشر أو طبقة من المجتمع، أو المجتمع لأي شي ء، بشرط أن تكون هذه الملكية مشروعة.
ولهذا الأمر شروط وأسباب وردت في كتب الفقة الإسلامي بشكل مفصل وواضح.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 275
من المعلوم إنّه ومن أجل تنظيم شؤون المجتمعات البشرية نحتاج إلى ثلاث سلطات، (السلطة التشريعية) التي تتكفّل
سنّ القوانين الكفيلة بحفظ النظام في المجتمع والحيلولة دون ضياع الحقوق، و (السلطة التنفيذية) التي تنفّذ ما صادقت عليه السلطة التشريعية وتتولّاها عادةً الحكومات المؤلفة من الوزراء والدوائر الحكومية.
و (السلطة القضائية) المسؤولة عن معاقبة المتخلّفين عن القانون والمجرمين والمعتدين.
في الرؤية التوحيدية الإسلامية تستمد هذه السلطات الثلاث من تعاليم الذات المقدّسة الالهيّة ولا يكون فيها حكماً جائزاً إلّابإذنه وأمره فهو الذي شرّع القوانين وهو الذي يجيز تشكيل الحكومات وتنفيذ القوانين، وهو الذي يمنح الشرعية لعمل القضاة، وعليه فإنّ هذه السلطات الثلاث لابدّ أن تستمدّ شرعيتها من حضرة القدس الإلهي طبق الشرائط والأوامر، وهذا المعنى له انعكاس واسع في الآيات القرآنية إضافةً إلى إمكانية الاستدلال عليه عقليّاً.
بهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنمعن خاشعين في الآيات القرآنية:
1- «وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ». (المائدة/ 44)
2- «وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». (المائدة/ 45)
3- «وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ». (المائدة/ 47)
4- «وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيكَ». (المائدة/ 49)
5- «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً». (النساء/ 65)
6- «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للَّهِ». (الأنعام/ 57) (يوسف/ 65)
نفحات القرآن، ج 3، ص: 276
7- «وَهُوَ اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الْاولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وإلَيهِ تُرْجَعُونَ». (القصص/ 70)
8- «وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (القصص/ 88)
9- «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَى ءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ انِيبُ».
(الشورى/ 10)
10- «أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبْتَغِى
حَكَماً وَهُوَ الّذِى أَنْزَلَ إِلَيكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلًا». «1» (الانعام/ 114)
«حُكْم»: على وزن (قُفْل) ويعني في الأصل- كما يقول الكثير من كبار اللغويين- المنع والصدّ «2» ومن ثمّ اطلق على (القضاء) و (الحكومة)، لأنّ القاضي والحاكم يمنعان الناس بأحكامهما الحازمة من مخالفتها أو ارتكاب الأعمال الممنوعة.
«حَكَمة»: تعني الحديدة التي توضع في فمّ الحيوان أو أنفه كلجام، ولدى سحبه يتألّم الحيوان ويستسلم ويوجد هنا معنى المنع نفسه أيضاً.
وفي (لسان العرب): ل (حكم) معانٍ مختلفة كالعلم والفهم والقضاء بالحقّ والعدل (حيث تصدّ هذه الامور الإنسان عن المخالفة) ويطلق (حكيم) على من كان ذا معرفة كافية تصدّه عن ارتكاب الأعمال السيّئة.
ومن اللازم التذكير بهذه النقطة وهي أنّ هذه الكلمة تستعمل في الموارد الثلاثة (التشريعية والقضائية والتنفيذية) حيث يطلق الحاكم على الموارد الثلاثة، ولذا فإنّ البعض
__________________________________________________
(1) هنالك آيات قرآنية كثيرة وردت بهذا المضمون أيضاً مثل المائدة، 48، و 50؛ الكهف، 26؛ الأعراف، 87،؛ يوسف، 109؛ هود، 45؛ يوسف، 80؛ التين، 8؛ النساء، 60.
(2) المفردات؛ مقاييس اللغة؛ ومصباح المنير للفيومي.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 277
من كتب اللغة تذكر أنّ أحد معاني (حكم) هو تفويض الأمر والفعل لشخص ما.
ورد في كتاب (العين) أنّ لفظ (حكمة) يرجع إلى مفهوم العدل والعلم والحلم، ويقول صاحب الكتاب: إنّ هذه الكلمة فُسّرت بمعنى (المنع) أو (المنع من الفساد)، وهذا ينسجم مع ما نقلناه عن اللغويين، والآيات المحكمات اطلق عليها هذا اللفظ لأنّ صراحتها ووضوحها يمنع من أي تفسير أو تأويل خاطي ء.
في الآيات الأربعة الاولى (الآية 44، 45، 47، و 49 من سورة المائدة) عرض لمسألة توحيد الحاكمية بأوضح وجوهه.
تقول الآية الاولى والثانية والثالثة: «وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الكافِرونَ ... هُمُ الظَّالِمُونَ ... هُمُ الفَاسِقُونَ».
وللمفسّرين أقوال
في هذه العبارات هل أنّها تتضمّن مفاهيم مختلفة أو أنّها تشير إلى مفهوم واحد؟
فبعض يعتقد أنّها تنظر إلى جماعة واحدة، وأنّها صفات متعدّدة لموصوف واحد ويمكن تفسيرها بهذا الترتيب: من يحكم بخلاف ما أنزل اللَّه فانّه يخالف اللَّه وينهض بوجه اللَّه فهو كافر من هذه الجهة.
ومن جهة ثانية أنّه يوجّه ضربه للحقّ الإنساني فهو ظالم.
ومن جهة ثالثة أنّه يخرج من نطاق واجباته فهو فاسق (لاحظ أنّ الفسق يعني الخروج عن واجبات العبودية).
وقال بعض آخر: إنّ الآية الاولى والثانية- وبقرينة ما قبلها- تقصدان اليهود، في حين تتحدّث الآية الثالثة عن النصارى، وبما أنّ عداء اليهود للأحكام الإلهيّة أشدّ من النصارى فقد حكم عليهم بالكفر والظلم بينما حكم على النصارى بالفسق.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 278
ولكنّا نعلم أنّ نزول الآيات في موارد خاصّة لا يحدّد مفاهيمها الكلّية بتلك الموارد، وعليه فإنّ الآيات هذه تشمل جميع الذين يحكمون بغير ما أنزل اللَّه.
إنَّ صدق الظلم والفسق فيمن يرتكب هذه المعصية واضح ولكن الحكم بالكفر يكون في حالة الردّ لحكم اللَّه والإعتقاد ببطلانه، لأنّ ذلك أمّا إعتقاد يلازمه إنكار الذات المقدّسة أو علمه وحكمته وعدله، وهذا يستوجب الكفر قطعاً، وهكذا إذا رجع إنكار هذا الحكم إلى إنكار القرآن أو رسالة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله.
ولكنّه إذا حكم بغير ما أنزل اللَّه فقط وكان المنشأ فيه هوى النفس مثلًا لا إنكار التوحيد أو النبوّة فانّه لا يستوجب الكفر.
وقد ورد في قوله تعالى: «فَاحْكُمْ بَينَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ». (المائدة/ 48)
وقوله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ». (المائدة/ 49)
وقوله تعالى: «أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ».
(المائدة/ 50)
إنّ الآيات الستّ هذه تؤكّد على هذا المعنى وهو
(الحكم حكم اللَّه فقط).
إنّ هذه التعابير المختلفة وهذا التأكيد المثالي الذي ورد في هذه الآيات الستّ في سورة واحدة وبصورة متقاربة لدليل على هذه الحقيقة وهي أنّه لا يحقّ التشريع لأي مقام إلّااللَّه، وكلّ من يفتي أو يقضي أو يحكم على خلاف حكم اللَّه فانّه يقترف إثماً عظيماً وظلماً وينزع عنه ثوب الإيمان أيضاً.
بهذه يثبت توحيد الحاكمية التشريعية وحصر التشريع في ذات اللَّه المقدّسة وحصر الحكم في حكم اللَّه.
الآية الخامسة تتحدّث عن مقام القضاء وتعتبره من مختصّات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (الذين ينصبون من قبله أئمّة بالمعنى المطلق أو في خصوص القضاء) وتقول: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَينَهمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً».
نفحات القرآن، ج 3، ص: 279
وعليه تكون علامات الإيمان الحقيقي ثلاث: الإحتكام إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في كلّ اختلاف وعدم الشعور بالأذى من حكمه وتنفيذه بالكامل في الخارج، وبهذا فإنّ الآية تعتبر فرعاً آخر من الحاكمية، أي الحاكمية في القضاء منحصرة في اللَّه عزّ وجلّ (لأنّ النبي صلى الله عليه و آله ممثّل عن اللَّه).
الآية السادسة تقول بتعبير قصير: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للَّهِ».
لقد تكرّرت هذه الجملة في القرآن الكريم مراراً ولها مفهوم واسع حيث تتضمّن الحكم بمعنى التشريع والحكومة والقضاء والحكم التكويني والأحكام التشريعية، غير أنّ هذا التعبير في سورة الأنعام الآية 57 وسورة يوسف الآية 67 جاء في مورد الحكم الإلهي بالعذاب على الكافرين ومعاقبتهم.
على كلّ حال فإنّ الاختلاف في موارد التعبير هذه دليل واضح على أنّ مفهوم الآية واسع كما قلنا، ويعتبر كلّ حكم وأمر مختصّاً في اللَّه، في عالم التكوين وعالم التشريع.
الآية السابعة وبعد أن
وصفت اللَّه عزّ وجلّ باستحقاق العبودية والحمد والثناء في الدنيا والآخرة تقول: «وَهُوَ اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِى الْاولى والْآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ».
وعبارة (وله الحكم) في الحقيقة دليل على انحصار الأهلية للعبادة والحمد والثناء فيه عزّوجلّ، لأنّ (المعبود) و (المحمود) هو من كان حكمه نافذاً في كلّ شي ء وفي الجميع، وإن قال بعض المفسّرين أمثال ابن عبّاس: إنّ المراد من (حكم) هنا هو القضاء بين العباد يوم
نفحات القرآن، ج 3، ص: 280
القيامة «1» وليس بأيدينا أي دليل على تحديد معنى الآية، وقلنا مراراً: إنّ خصوصية المورد لا تمنع عمومية مفهوم الآية.
وعليه فإنّ الآية أعلاه تشمل توحيد حاكمية اللَّه في عالم التكوين وفي عالم التشريع والتقنين والحكومة والقضاء (في تفسير الميزان إشارة إلى عمومية مفهوم الآية) «2».
وينبغي ملاحظة أنّ عبارة (له الحكم) تدلّ على الحصر من جهتين: إحداهما من جهة أنّ (له) مقدّم، والاخرى من جهة أنّ كلمة (الحكم) جاءت مطلقة أي أنّها تشمل أنواع الحاكمية كلّها.
والجدير ذكره أنّ انحصار المالكية في اللَّه لا يمنع من أن يضعها اللَّه في اختيار الأنبياء والأئمّة المعصومين وعباده الصالحين، فالبحث يدور حول المبدأ الأصلي للحاكمية، كما أنّ إختصاص الحمد والثناء في ذاته المقدّسة لا يمنع من أن يثني الإنسان على العباد الصالحين أو الوالدين أو المعلّم، فهم يمثلون الواسطة في النغمة ولابدّ من ملاحظة أنّ هذه الامور كلّها من اللَّه وهذا هو معنى توحيد الحاكمية.
الآية الثامنة تتحدّث أوّلًا عن توحيد العبادة ثمّ توحيد الحاكمية حيث تقول: «وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ» ثمّ تقول بما يتضمّن الدليل على هذا الحكم: «كُلُّ شَى ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» وتضيف أخيراً: «لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
هذه الآية تخصّص
العبادة في اللَّه وهكذا البقاء والحكم والقضاء وإن اعتبر البعض الحكم فيها بمعنى الحكم التكويني وإرادة اللَّه النافذة في كلّ شي ء، واعتبرها البعض الآخر بمعنى
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 20، ص 92.
(2) تفسير الميزان، ج 16، ص 70.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 281
القضاء يوم القيامة.
وقال البعض: إنّ الحكم هنا له جانب تشريعي فقط، غير أنّ الإطلاق هو الظاهر من الآية ويشمل كلّ حكم في عالم الوجود وعالم الشريعة والدنيا والآخرة.
أمّا المراد من (الوجه) في العبارة: «كُلُّ شَى ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» فإنّ البعض فسّره بمعيّة الأعمال الصالحة التي تنجز للَّه تعالى، فيما فسّره البعض الآخر بمعنى الدين والقانون، والبعض الآخر بمعنى مقام الربّ.
ولكنّا نعلم أنّ (وجه) يعني في الأصل (الصورة) وكما يقول الراغب: أنّ الوجه هو أوّل ما يواجه الأشخاص الآخرين وهو أشرف الأعضاء في الإنسان، ولذا اطلقت هذه الكلمة على الموجودات الشريفة، وبهذه المناسبة يطلق على ذات اللَّه المقدّسة وقد استعملت بهذا المعنى في الآية ظاهراً.
وبما أنّ كلّ موجود يرتبط بهذه الذات الباقية والأبدية، فانّه يتلوّن بلون الأبدية فإنّ دين اللَّه وشريعته والأعمال المنجزة من أجله والأنبياء تكون خالدة وباقية لارتباطها باللَّه تعالى، وبهذا تجتمع التفاسير المذكورة في مضمون الآية.
الآية التاسعة ترى (الحاكمية) بمعنى القضاء حيث تقول: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَى ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ».
أجل، إنّه وحده القادر على رفع الاختلاف فيما بينهم لأنّه عالم بكلّ شي ء وله الولاية على الجميع.
وتضيف الآية: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيْهِ انِيبُ».
وهناك أقوال عديدة في تفسير هذه الآية، فالبعض اعتبرها ناظرة إلى الاختلافات والخصومات بين الناس الذين وجَبَ عليهم الإحتكام إلى النبي صلى الله عليه و آله، فيما اعتبرها البعض الآخر إشارة إلى الاختلاف في
تأويل الآيات وتفسيرها، في حين اعتبرها آخرون ناظرة إلى الاختلاف في العلوم المرتبطة بالمفاهيم الدينية والتكاليف وواجبات الناس مثل معرفة الروح وأمثالها «1».
__________________________________________________
(1) نقلت هذه التفاسير الثلاثة عن المفسّرين في تفسير روح المعاني، ج 25، ص 15.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 282
ولكنّا لا نرى دليلًا لتحديد مفهوم الآية، بل كما قال بعض المحقّقين: إنّ الآية تشمل كلّ قضاء سواء كان في الأحكام أو في المفاهيم الدينية أو في معنى الآيات المتشابهة أو غيرها.
إنّ الآية هذه من الآيات التي تثبت هذه الحقيقة بوضوح وهي أنّ كلّ المسائل التي يحتاجها الناس قد وردت في الكتاب والسنّة، ويكون كلّ قياس وتشريع وأمثاله باطلًا، فلولا وجود هذه الأحكام كلّها في الكتاب والسنّة فلا معنى لإرجاع جميع الاختلافات إلى اللَّه فيها (تأمّل جيّداً).
والملاحظ أنّ الفخر الرازي وبعض المفسّرين قد أقرّوا بهذه الحقيقة واعتبروا هذه الآية من جملة الأدلّة المبطلة للقياس في الأحكام الفقهية «1».
فالآية تقول: يجب إرجاع الحكم في جميع الاختلافات إلى اللَّه، وبالطبع فإنّ النبي صلى الله عليه و آله هو خليفة اللَّه المصطفى من بين الناس، فلو لم يتضمّن الكتاب والسنّة طرق حلّ للاختلافات في الأحكام والعقائد وما يتعلّق بالشرع لكان إرجاع الاختلافات إلى اللَّه عزّ وجلّ لا معنى له.
الآية العاشرة والأخيرة تقول كاستنتاج عام عن لسان النبي صلى الله عليه و آله: «أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ إِلَيكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلًا» وعليه فإنّ (الحكم والحاكم والقاضي) هو ذاته المقدّسة فقط لأنّه عالم بكلّ شي ء، والقرآن أفضل دليل على علمه «2».
وأمّا السؤال عن أنّ الحكمية في أي شي ء تكون؟ فإنّ القرائن تشير إلى أنّ المقصود هو
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 27، ص 149.
(2) «حكم»: كما
يعتقد المرحوم الطبرسي في مجمع البيان والشيخ الطوسي في (التبيان) يطلق على من لا يحكم إلّابالحقّ في حين أنّ (الحاكم) يمكن أن يحكم بغير الحقّ، ولكن لم يتوضّح من أين استفيد هذا المعنى إلّاأنّ القدر المسلّم به هو أنّه صفة مشبهة وتدلّ على الدوام والاستمرار ويطلق على من يحكم باستمرار، والقصّة المعروفة عن (الحكمين) في حرب صفّين شاهد على نفي هذا المعنى، غير أنّ هذه الكلمة أو كلمة (حاكم) إذا استعملت في اللَّه فانّها إشارة إلى القضاء والحكم المنزّه عن كلّ ظلم وخطأ وليس لهذا ارتباط بالأصل اللغوي.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 283
الإحتكام إلى اللَّه في حقّانية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.
وسبب النزول الذي ينقل في هذا المجال شاهد على هذا المعنى حيث قيل: إنّ مشركي قريش إقترحوا على النبي صلى الله عليه و آله أن اجعل بيننا وبينك حكماً من اليهود أو قساوسة النصارى؟
كي يخبرونا عنك بما يتوفّر لديهم من كتب سماوية «1».
فنزلت الآية كجواب على إشكالهم: هل يوجد غير اللَّه حَكْماً!
وذيل الآية شاهد على هذا المعنى أيضاً بقولها: «وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَبِّكَ بِالحَقِّ».
على كلّ حال فإنّ مفهوم الآية واسع ويحصر الحَكَمية في جميع الامور دون استثناء في ذات اللَّه المقدّسة لأنّا نعلم أنّ مورد الآية لا يحدّد مفهوم الآية أبداً.
المستفاد جيّداً من الآيات العشر السالفة هو أنّ الحاكمية ونفوذ الحكم والأمر في عالم الوجود وفي عالم الشريعة مختصّ في ذات اللَّه المقدّسة.
والحاكمية بمعنى التشريع وهكذا القضاء والحكومة بمعنى التنفيذ كلّها تنشأ منه تعالى ومن يرغب في التصدّي لبعض هذه الامور فلابدّ أن يكون ذلك بإذنه وأمره سبحانه.
غير أنّ الآيات المذكورة مختلفة، فبعضها يلاحظ فروع الحاكمية كلّها وبعضها
يلاحظ مسألة القضاء أو التشريع فقط، ولكن المستفاد من المجموع هو مسألة (توحيد الحاكمية) بجميع أبعادها من هذه الآيات.
لا شكّ أنّ كلّ عارف باللَّه مقرّ بتوحيد الخالق يذعن بنفاذ أمره في عالم الوجود، وعندما
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 8، ص 7.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 284
يتقبّل حاكميته على عالم الوجود فانّه سوف لا يتردّد في ولايته وحكومته التشريعية لأنّه حينما يكون هو الخالق والمالك والمدير والمدبّر فغيره لا يكون أهلًا للتشريع ولا يتمكّن من وضع قوانين تنسجم مع نظام التكوين والخلق.
وهكذا عندما يكون هو الخالق والمدبّر فانّه هو الذي يجب أن يحكم في مسألة الحكومة القانونية على العباد ويقضي في الاختلافات، وبدونه سيكون هناك تدخل في نطاق مالكية اللَّه عزّ وجلّ وتدبيره بدون إذنه، من جهة اخرى يكون القانون الصحيح هو القانون الذي ينسجم مع التركيب الجسمي للإنسان وروحه ويلبّي حاجاته الماديّة والمعنوية ولا يترك آثاراً سلبية في فترة زمنية قصيرة وطويلة، وأن يكون ذا ضمان تنفيذي كافٍ وذا تقبّل وانشداد في المجتمع الإنساني.
وبتعبير آخر يكون المشرِّعُ الحقيقي عالماً بالإنسان بصورة كاملة من جهة وعالماً بالكون من جهة اخرى كي يلاحظ بدقّة العلاقات التي تربط الإنسان مع العالم الخارجي والداخلي ويضع القوانين مضافاً إلى عدم وجود مصالح شخصية من وضع تلك القوانين.
وما نشاهده من اختلال كبير في القوانين البشرية فانّه ناشي ء من:
أوّلًا: فقدان البشرية لمن يعرف الإنسان بجميع جزئياته الجسمية والروحية ويعلم جميع القوانين والعلاقات التي تحكم العالم، فلا زالت تؤلّف كتب من قبل المفكّرين تحت عنوان (الإنسان موجود مجهول) وما شاكل، فإذا كانت معرفة الإنسان بنفسه إلى هذه الدرجة من الضعف فكيف تكون معرفته بالعالم الواسع؟
ثانياً: الإنسان موجود محتاج إلى غيره، ولذلك
نجد أنّ كلّ مجموعة تسنّ القوانين في إحدى المجتمعات البشرية تأخذ بنظر الإعتبار منافع تلك المجموعة أو الحزب.
ثالثاً: الإنسان غير مصون عن الخطأ والإشتباه ولذا تكون القوانين البشرية عرضة للتغيّر المستمرّ وذلك لظهور عيوبها ونقائصها وأخطائها بمرور الزمان فيبادر لإصلاحها ولكن سوف تظهر عيوب اخرى، ومن هنا أصبحت المجالس التشريعية البشرية مختبرات تختبر فيها القوانين بشكل دائم اختباراً لا طائل فيه ولا نهاية!
نفحات القرآن، ج 3، ص: 285
وبقطع النظر عن مسألة مالكية اللَّه وخالقيته لا يصلح أحد للتشريع أصلًا إلّامن كان خالقاً للإنسان وعالماً بكلّ متطلّباته الجسمية والروحية وغنيّاً عن كلّ شي ء وكلّ إنسان ومنزّهاً عن كلّ خطأ واشتباه.
وواجبنا الوحيد هو تطبيق اصول القوانين الإلهيّة العامّة على مصاديقها وجعل الأحكام العامّة أحكاماً جزئية قابلة للتنفيذ.
من الآيات السابقة يستنتج بصورة جيّدة أنّ الحكومة وديعة إلهيّة، وعلى الحكّام والمسؤولين العمل كنوّاب عن اللَّه تعالى، المفهوم من هذا الكلام هو وجوب رعاية أوامر المالك الأصلي للحكومة، أي اللَّه سبحانه وتعالى في جميع المجالات.
وقد خاطب اللَّه عزّ وجلّ النبي داود عليه السلام وهو ملك لأحد أوسع الحكومات في التاريخ البشري: «يَادَاوُدُ انَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ». (ص/ 26)
إنَّ هذا التعبير يشير من جهة إلى أنّ الحكومة وديعة، وإلى المنهج والطريقة للحكومة الإلهيّة الشرعية والصحيحة من جهة اخرى.
في الإسلام والرؤية التوحيدية تُنصب الحكومة من الأعلى وليس من الأسفل، أي من قبل اللَّه عزّ وجلّ لا من قبل الناس، ويضمن الجانب الاجتماعي لها بأمره أيضاً.
توضيح ذلك: إنّ إحدى الفوارق الواضحة بين الرؤية التوحيدية وبين الرؤية المشوبة بالشرك في قضيّة الحكومة هي أنّ الموحّد يعتقد أنّ الحكومة في جميع أبعادها (التشريعية
نفحات القرآن، ج 3، ص: 286
والتنفيذية والقضائية) نشأت من اللَّه ومن ثمّ انتقلت إلى الأنبياء وأوصيائهم ثمّ الصالحين والعلماء في الامم.
لابدّ أن يشعر هؤلاء الحكّام بالمسؤولية أمام اللَّه عزّ وجلّ، ويراعوا رضاه قبل كلّ شي ء، وأن يكونوا خُداماً مخلصين وامناء لعباده.
إنّ مثل هذه الحكومة وبوحي من الرسالة الإلهيّة يمكنها قيادة البشر، لا أن تكون تابعة لأهواء هذا أو ذاك ولرغباتهم المنحرفة والمشوبة بالمعاصي.
ومن الممكن أن يقال: إنّ الحكومة الإسلامية إذن ليس لها بعد شعبي بل هي أكثر ما تكون نوعاً من دكتاتورية الصالحين، ولكن هذا خطأ كبير لأنّ مبدأ الشورى الذي تقرّر في الشرائع التوحيدية كقضيّة أساسية في الحكومة وأكّد عليها النصّ القرآني ويشهد له فعل نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وهو
صاحب مقام (العقل الكلّ) يدلّ على أنّ اللَّه هو (مالك الملك) و (أحكم الحاكمين) وهو الذي أمر بالمشورة مع الناس في أمر الحكومة وإشراكهم في هذا الشأن.
من هنا تكون الحكومة التوحيدية والإسلامية حكومة (شعبية دينية) ويعني ذلك الإهتمام بآراء الناس بأمر إلهي وذلك في إطار مبادي ء العقيدة والأحكام الإلهيّة طبعاً، وسيأتي تفصيل هذا الكلام بشكل كامل في مباحث الحكومة في الإسلام بإذن اللَّه.
النتيجة هي أنّ الناس- مثلًا- عندما يتوجّهون إلى صناديق الإقتراع في الحكومة الإسلامية لانتخاب رئيس الجمهورية أو نوّاب المجلس فانّهم يلاحظون هذه النقطة وهي أنّهم امناء اللَّه تعالى، فالواجب هو أن يضعوا هذه الوديعة الإلهيّة التي تسمى بالحكومة في يد من تتجسد به القيم الالهيّة، وإلّا فانّهم يخونون الأمانة.
قوله تعالى: «انَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ». (النساء/ 58)
وقد ورد في الروايات الإسلامية، إنّ إحدى المصاديق المهمّة للأمانة هي الحكومة، وقد تأكّد هذا الأمر في تفسير الدرّ المنثور حيث قال: «حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللَّه وأن يؤدّي الأمانة» «1».
__________________________________________________
(1) تفسير درّ المنثور، ج 2، ص 175.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 287
وعليه فانّهم لا يفكّرون أبداً بأي نائب أو رئيس للحكومة يقوم برعاية مصالحهم الشخصية أو الفئوية أو من هو الذي تربطهم معه الصداقة أو القرابة؟ من الذي يستأنسون به أم لا يستأنسون؟ بل ينبغي أن يراعوا اللَّه عزّ وجلّ ورضاه والقيم الإنسانية والدينية السامية في كلّ موقف.
أمّا في الحكومات الديمقراطية والشعبية في العالم المادّي فيمكن أن تنظر هذه الامور في آراء المقترعين من قبيل الميول الشخصية والفئوية، الصراعات السياسية، المصالح المادّية اللامشروعة والعلاقات الخاصّة وأمثالها.
لاحظ الفارق من أين وإلى أين؟
ممّا
ذكر يتّضح جانب من تأثير الإيمان بهذا النوع من التوحيد وهو مدى تأثير الإعتقاد بحاكمية اللَّه في جميع الأبعاد، وأنّ الحكومة وديعة إلهيّة عند الناس، فعند التعيين سواء كان في المسؤوليات الكبيرة في الحكومة أو الصغيرة ينبغي أن يراعى فيه مبدأ الأمانة والوديعة الإلهيّة وعدم التضحية بالضوابط فداءً للعلاقات وعدم التضحية بمصالح المجتمع من أجل المصالح الشخصية.
وأمّا من جهة الحكّام فانّا نعلم بأنّ المشكلة الهامّة في العالم هي مشكلة الحكّام المستبدّين الذين أضرموا النيران طيلة التاريخ في مناطق واسعة من العالم، أو في العالم بأسره وجلبوا المصائب والشقاء الكبير للبشرية.
في هذا العصر قام (هتلر) بقتل عشرات الملايين، و (ستالين) مسؤول عن مقتل 30 مليون إنسان! حسب الإحصاءات المروّعة التي نشرت من قبل شعبه، ولا تزال أوضاع العالم بهذا النحو وان كانت بصور اخرى.
في حين لو كان الإنسان ذا رؤية توحيدية لآمن بأنّ الحكومة المطلقة مختصّة باللَّه تعالى
نفحات القرآن، ج 3، ص: 288
وقد فوّضت إليه بإذنه عزّ وجلّ وإعانة عباده وأنّه خليفة اللَّه في الأرض وعليه يجب أن لا يكون إنساناً مستبدّاً مغروراً وظالماً أبداً، وعندما يصل إلى الحكومة يقول كما قال علي عليه السلام: «... وما أخذ اللَّه على العلماء ألّا يقارّوا على كظَّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» «1».
أجل إنّه يرى الحكومة في كلّ الأحوال وديعة إلهيّة وهو أمينها ومسؤول أمام صاحبها الأوّل، وهذه الرؤية يمكن لها أن تقلب صورة الحكومة في العالم بشرط أن تنفذ إلى أعماق الروح وتتلوّن الروح الإنسانية بلونها.
ولا يصدق هذا الأمر على المتصدين في الحكومة فحسب، بل يصدق على جميع العاملين في الحكومة
والامراء والقادة والمدُراء والقضاة.
المعلوم من مجموع ما مرّ من أبحاث هو أنّ الحكومة في الإسلام ليس لها شكل استبدادي وليست من الطراز الديمقراطي الغربي، بل هي نوع من الحكومة الشعبية التي تعمل في إطار العقيدة ولها لون إلهي في أساسها، عن هذا الطريق تكتسب لوناً شعبياً وتنشأ كلّ امتيازاتها من هنا.
وهناك كلام طويل حول (الحكومة في القرآن) وموضوع البحث هنا هو (التوحيد في الحاكمية) و (نشوء الحكومة من اللَّه) ولذا نوكل الباقي إلى البحث العامّ حول الحكومة بإذن اللَّه.
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 3.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 289
الكلام الأخير في باب أقسام التوحيد هو أنّ الإنسان الموحّد يعتقد بأنّ اللَّه وحده واجب الطاعة ولذا يضع طوق العبودية في رقبته ويفتخر بقوله: إنّي عبد ويستعدّ للتضحية بنفسه ويعلن عن استعداده لتنفيذ أوامر اللَّه تعالى
ويقوم بطاعة الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم المعصومين ومبعوثيهم بوصفها فرعاً لعبادة اللَّه عزّوجلّ ويحترم أوامرهم.
إنّه يفكّر بأمر واحد فقط هو رضا المحبوب الحقيقي وامتثال أوامر المولى الحقيقي، إنّه لا يشتري (رضا الناس) ب (سخط اللَّه) ولا (إطاعة المخلوق) ب (معصية الخالق)، لأنّه يرى ذلك شعبة من الشرك.
إنَّ هذا الفرع من التوحيد وهو (توحيد الطاعة) ينشأ في الواقع من التوحيد في الحاكمية الذي مرّ في البحث السابق.
وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل بخشوع في الآيات التالية:
1- «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَولَّيتُمْ فَاعلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ المُبِينُ». (المائدة/ 92)
2- «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الكَافِرِينَ».
(آل عمران/ 32)
3- «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُم تُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ». (النساء/ 59)
نفحات القرآن،
ج 3، ص: 290
4- «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا». (التغابن/ 16)
5- «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ».
(الشعراء/ 108، 126، 144، 163، 179) (آل عمران/ 50) (الزخرف/ 63)
6- «اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيكُمْ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ». (الأعراف/ 3)
7- «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِيناً». (الأحزاب/ 36)
8- «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَليمٌ». (الحجرات/ 1)
9- «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ». (التوبة/ 31)
10- «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُم يَابَنِى آدَمَ أَنْ لَاتَعبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ». «1»
(يس/ 60- 61)
(إطاعة) تعني في الأصل الإنقياد والتسليم (وقد صرّح بذلك الكثير من اللغويين) ومن ثمّ أُطلق على اتّباع الأمر.
وقد فرَّق البعض بين (الإطاعة) و (المطاوعة) ففسّر الإطاعة بمعنى الإنقياد وتنفيذ الأمر، والمطاوعة بمعنى الموافقة والإنسجام، ولذا يقول الخليل ابن أحمد في كتاب (العين):
تستعمل (الإطاعة) في مورد الرعية بالنسبة للقائد، وفي مورد المرأة بالنسبة لزوجها تستعمل (طواعية) أو (مطاوعة).
__________________________________________________
(1) هنالك آيات قرآنية كثيرة اخرى تتفق مع الآيات أعلاه مضموناً منها: الأنفال، 20، 46؛ النور، 54؛ محمّد، 33؛ المجادلة، 13؛ النساء، 16؛ الأنعام، 15؛ يونس، 15؛ الزمر، 13.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 291
إنَّ آية البحث الاولى وإن جاءت بعد تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام إلّاأنّ محتواها لا يخفى كونه حكماً عامّاً حيث تقول: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا»، وتضيف لدى تأكيدها على هذا الأمر: «فَإِنْ تَوَلَّيتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ المُبِينُ» «1».
ومن الواضح أنّ طاعة الرسول رشحة من رشحات طاعة اللَّه تعالى وطاعته طاعة اللَّه، لأنّه لا يبيّن سوى كلام اللَّه وأمره، ولعلّ تكرار جملة (أطيعوا) إشارة إلى هذا المعنى، أي أنّ الطاعة الاولى لها جانب ذاتي وأصلي والثانية لها جانب عرضي وفرعي.
والآية الثانية تعكس هذا المضمون من خلال توجيه خطاب للنبي صلى الله عليه و آله: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الكَافِرِينَ» ذيل الآية يشهد جيّداً بأنّ التمرّد يستوجب الكفر، التمرّد الحادث عناداً وعداءً لأمر اللَّه تعالى والنبي صلى الله عليه و آله، أو نتوسّع في معنى الكفر حتّى يشمل كلّ معصية.
على أيّة حال فإنّ الآية تؤكّد على وجوب طاعة اللَّه ونبيّه أي اتّباع الكتاب والسنّة.
النبي صلى الله عليه و آله في هذه الآية وإن كان معطوفاً على اللَّه
تعالى بدون واسطة ولكن بملاحظة الآية السابقة التي تقول: «قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى»، يتّضح أنّ طاعة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هي فرع لطاعة اللَّه تعالى.
__________________________________________________
(1) جزاء الشرط في الآية محذوف يقدّر ب (قامت الحجّة عليكم) أو (استحققتم العقاب) أو (لم تضرّوا بتوليكم الرسول) (تفاسير مجمع البيان؛ الكبير؛ روح المعاني والمراغي في ذيل آية مورد البحث).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 292
وهذه الآية تدلّ بوضوح على أنّ علامة الحبّ الحقيقي للَّه ورسوله هي طاعتهما واتّباعهما وإلّا كان حبّاً كاذباً أو ضعيفاً جدّاً.
الآية الثالثة تضيف طاعة اولي الأمر إلى طاعة اللَّه ورسوله وتأمر: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ واولِى الأَمرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنَازَعتُمْ فِى شَى ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ».
وهذا التعبير يدلّ بوضوح على أنّ الطاعة مختصّة في اللَّه ثمّ رسوله واولي الأمر، ولحلّ أي نزاع لابدّ من الإستعانة بهم، وبدون ذلك فإنّ قواعد الإيمان بالمبدأ والمعاد ستتزعزع في قلب الإنسان وروحه.
الآية الرابعة تتحدّث عن طاعة اللَّه فقط حيث تقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا»، فهي تأمر بالتقوى أوّلًا وتجنّب المعاصي لأنّ (التحلية) والتطهير يتقدّمان على (التخلية)، ثمّ تأمرنا ثانياً بالإستماع لأمر اللَّه استماعاً يكون مقدّمة للطاعة، وتأمر أخيراً بإطاعة أمره دون قيد أو شرط، وهذه الطاعة المطلقة مختصّة في اللَّه عزّ وجلّ، وما يظنّه البعض من أنّ عبارة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» نسخت الآية «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» (آل عمران/ 102) خطأ كبير لأنّ الآيتين تتحدّثان عن حقيقة واحدة، لأنّ حقّ التقوى ليس سوى أن يكون الإنسان متّقياً قدر ما يستطيع.
الآية الخامسة التي جاءت على لسان الكثير من الأنبياء عليهم السلام تأمر أوّلًا بالتقوى
ثمّ طاعة الأنبياء وتقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» وقد نقلت هذه العبارة نفسها عن لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب والسيّد المسيح عليهم السلام في القرآن الكريم (مرّة واحدة على لسان نوح (الشعراء/ 108) ومرّتين على لسان هود (الشعراء/ 126 و 131) ومرّتين على لسان صالح
نفحات القرآن، ج 3، ص: 293
(الشعراء/ 144، 155) ومرّة على لسان لوط (الشعراء/ 163) وشعيب (الشعراء/ 179) ومرّتين على لسان المسيح (آل عمران/ 50 والزخرف/ 63) ومن المسلّم به هنا هو أنّ الطاعة ترتبط بالدرجة الاولى بمبدأ التوحيد وترك الوثنية ثمّ سائر التعاليم الدينية، ومثل هذه الطاعة هي طاعة لأمر اللَّه لأنّهم لم يتحدّثوا إلّاعنه تعالى.
في الآية السادسة حديث عن متابعة الأحكام الإلهيّة، وهي تعبير آخر عن الطاعة إضافةً إلى تصريح الآية بعدم اتّباع غيره، وهذا النفي والإثبات يوضّحان (توحيد الطاعة) وتقول:
«اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُمْ مِّنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَولِياءَ»، هذه الآية تبطل طاعة الغير أيّاً كان وفي أيّة حال إلّاأن ترجع طاعته إلى طاعة أمر اللَّه عزّوجلّ.
وهذه الآية وأمثالها تشهد جيّداً أنّ أحكام البشر وآراءهم مهما كانت فهي ليست أهلًا للإتّباع (لامتلائها بالأخطاء إضافةً إلى عدم وجود دليل على وجوب طاعة الآخرين).
الآية السابعة وبعد التصريح بعدم امتلاك أي رجل مؤمن أو امرأة مؤمنة أي خيار أمام أمر اللَّه ورسوله تقول: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِيناً».
إنّ الآية تُبيّن في أوّلها وآخرها توحيد الطاعة وتعتبره علامة الإيمان ومعارضته تكون (ضلالًا مبيناً) وأي ضلال هو أوضح من أن يترك الإنسان أمر اللَّه العالم الحكيم والرحمن والرحيم ويتوجّه لطاعة الآخرين؟!
الآية الثامنة تخاطب المؤمنين، وقد ذكرت شؤون مختلفة في نزولها وكلّها تشهد على أنّ بعض الأشخاص يتقدّمون
أحياناً على اللَّه ورسوله بالإقتراحات ويقولون: لو أصدر
نفحات القرآن، ج 3، ص: 294
الأمر الفلاني لكان أفضل، فنزلت الآية تنذرهم بقولها: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
ومن المسلّم به أنّ اللَّه لا مكان له حتّى يقول: لا تتقدّموا عليه، بل أنّ ذلك كناية عن عدم التقدّم عليه في أي عمل أو كلام «1».
على أيّة حال فإنّ الآية لا تعتبر طاعة الأمر الإلهي واجباً فحسب، بل تقول: كونوا بانتظار أوامره في كلّ عمل، وبعد إصدار الأمر لا ينبغي عليكم التقدّم عليه أو التريَّث في امتثاله فالمسرعون والمبطئون مخطئون.
وقد جاء في تفسير المراغي القول عن بعض علماء الأدب العربي: إنّ مفهوم التعبير (لا تقدّم بين يدي الإمام) هو: لا تعجّل عليه في أداء الأعمال.
الآية التاسعة تذمّ اليهود والنصارى لكونهم جعلوا من علمائهم ورهبانهم آلهة من دون اللَّه الواحد: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللَّهِ» «2».
وقد جعلوا من المسيح بن مريم معبوداً لهم أيضاً: «والمَسِيحَ ابْنَ مَريْمَ» في حين: «وَمَا
__________________________________________________
(1) المراد من «تقدّموا» هنا هل هو بمعنى لا تتقدّموا أم لا؟ وقع كلام بين المفسّرين (الأوّل من باب التفعيل والثاني من باب التفعّل) ولكن جملة (بين يدي اللَّه ورسوله) في الحالة الاولى يكون معناها عدم التقدّم على اللَّه ورسوله، وفي الحالة الثانية يكون مفهومها هو لا تقدّموا شيئاً على اللَّه ورسوله وأوامرهما والمعنى الأوّل هو الأنسب.
(2) «احبار» جمع «حبر» أو «حِبر» ويعني في الأصل الأثر الجميل ثمّ اطلق على العالم والمفكّر بسبب الآثار الجميلة التي تبقى منهما بين الناس وهذه الكلمة تستعمل في الغالب في علماء اليهود وقد تطلق أحياناً على غيرهم كما لقّبوا ابن عبّاس ب
(حبر الامّة).
«رهبان» جمع «راهب» وقال البعض: إنّ هذه الكلمة لها معنى المفرد والجمع وتعني في الأصل الشخص الذي يتّصف بخوف اللَّه ويظهر ذلك على أعماله، وتطلق عادةً على مجموعة (التاركين للدنيا) من النصارى وهي مجموعة هجرت الحياة والإكتساب والعمل بل والزواج أيضاً واشتغلوا بالعبادة في الدير (مفردات الراغب، العين، نهاية ابن الأثير، وتفاسير الميزان، الكبير، روح المعاني؛ وروح البيان؛ والمراغي).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 295
امِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِدَاً لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»، ومن المسلّم به أنّ اليهود والنصارى لم يعتقدوا بالوهية علمائهم ورهبانهم ولم يعبدوهم كما نعبد اللَّه تعالى أبداً، فلماذا إذن استعمل القرآن الكريم كلمة (ربّ) و (إله) فيهم؟!
وردت الإجابة عن ذلك في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام: «أما واللَّه ما صاموا لهم ولا صلّوا ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالًا فاتّبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون» «1».
وقد ورد هذا الحديث بطرق متعدّدة اخرى في المصادر الشيعية والسنّية ومنها ما نقرأه في كتب عديدة: «عن عَدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ياعدي: اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ آية: اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللَّه. فقلت له: يارسول اللَّه لم يكونوا يعبدونهم فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ اللَّه تعالى فيحرّمونه ويحلّون ما حرّم اللَّه فيستحلّونه؟ فقلت: بلى، قال: ذلك عبادتهم» «2».
وبهذا يتّضح أنّ اتّباع وإطاعة أشخاص يأمرون على خلاف حكم اللَّه يكون لوناً من الشرك.
الآية العاشرة والأخيرة تخاطب جميع البشر: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُم يَابَنِى آدَمَ أَنْ لَاتَعبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ» «وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ».
ومن المسلّم به أنّه لا
أحد يعبد الشيطان بمعنى الركوع والسجود والصلاة والصيام، فما هي العبادة التي نُهي عنها؟ هل هي شي ء غير الطاعة؟ أجل، إنّهم حينما يستسلمون لما يريده الشيطان ويقدّمون أمره على أمر اللَّه فانّهم مشركون وعبّاد الشيطان، والشرك هنا
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 23؛ وتفسير البرهان، ج 2، ص 120 و 121.
(2) تفسير روح المعاني، ج 10، ص 75 وورد هذا المعنى في تفاسير متعدّدة اخرى منها تفسير درّ المنثور بفارق طفيف.
نفحات القرآن، ج 3، ص: 296
بمعنى طاعة الأمر لا الركوع والسجود.
أين أخذ اللَّه تعالى هذا العهد من بني آدم؟ فسّره البعض بأنّه (عالم الذرّ) وفسّره بعض أنّه وصايا الأنبياء لأقوامهم، ولكن الظاهر أنّ الآية تشير إلى الوصايا التي تشبه العهد الذي كان للَّه تعالى عند هبوط آدم مع أولاده إلى الأرض، وقد قامت هذه الآية بتبيان ذلك: «يَابَنِى آدَمَ لَا يَفَتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخرَجَ أبَوَيكُم مِّنَ الجَنَّةِ». (الاعراف/ 27)
وهكذا في خطابها لآدم وزوجته بقولها «انَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ». (الاعراف/ 22)
والآية 117 من سورة طه تخاطب آدم عليه السلام: «فَقُلنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدوٌّ لَّكَ وَلِزَوجِكَ».
ومن المسلّم به أنّ مثل هذا العدو يكون عدوّاً لأبنائه أيضاً، لأنّ مخالفته لم تكن مع آدم فقط بل مع جميع نسله، ولذا أقسم من البداية: «قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمتَ عَلَىَّ لَئِن أَخَّرتَنِ الى يَومِ القِيَامَةِ لَأَحتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا». (الاسراء/ 62)
وقوله اللَّه تعالى: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ».
(ص/ 82- 83)
من مجموع الآيات السابقة يستفاد جيّداً أنّ اللَّه تعالى وحده هو (واجب الطاعة) في النظرية الإسلامية وفي المنظار القرآني وهكذا الذين تُعتبر طاعتهم طاعة للَّه تعالى، وكلّ طاعة وتسليم أمام الأحكام
والأوامر المخالفة لأمر اللَّه يُعدّ لوناً من الشرك والوثنية في المنظار القرآني.
وعليه فإنّ لزوم طاعة النبي والأئمّه: والوالدين هو بأمر اللَّه كما يقول القرآن: «وَمَا أَرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ». (النساء/ 64)
كما يمكن إثبات هذه المسألة بالدليل العقلي، لأنّ المطاع المطلق هو من يكون عالماً
نفحات القرآن، ج 3، ص: 297
بكلّ شي ء وحكيماً وخبيراً ومنزّهاً عن كلّ خطأ ورحيماً وقد اجتمعت هذه الصفات في ذات اللَّه المقدّسة فقط.
وإرادة الحكّام والأصدقاء والأبناء والأرحام والامنيات القلبية إن لم تتناسق مع إرادة اللَّه فإنّ طاعتها تكون شركاً.
يقول الإنسان الموحِّد: لو انحرفت عن طاعة اللَّه قيد أنملة فانّي قد أشركت لأنّي جعلت له ندّاً في طاعته.
2- توحيد الطاعة في الروايات الإسلامية
إنَّ الأحاديث المختلفة التي وردت في مصادرنا الإسلامية أكّدت على هذه المسألة أيضاً وهي أنّ أحد شعب الشرك هو الشرك في الطاعة ومن هذه الروايات:
أ) ورد في الحديث النبوي: «لا طاعة في معصية اللَّه إنّما الطاعة في المعروف» «1».
ب) ونقرأ في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «2».
ج) وحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «من أطاع رجلًا في معصية فقد عبده» «3».
د) في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام وهكذا عن الإمام الجواد عليه السلام: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن اللَّه فقد عبد اللَّه، وان كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» «4».
ه) ونختم هذا الكلام بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا دين لمن دان بطاعة المخلوق في معصية الخالق» «5».
__________________________________________________
(1) صحيح مسلم، ج 3، ص 1469.
(2) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 165.
(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص 91، ح 8.
(4) وسائل الشيعة، ج 18، ص 91، ح 9، وتحف العقول، ص 339 (باختلاف يسير).
(5) بحار الأنوار، ج 73، ص 393، ح 6 (وهذا المضمون ورد أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام في أصول الكافي، ج 2، ص 273، ح 4).
نفحات القرآن، ج 3، ص: 298
تتّضح من هذه الروايات الصريحة والقاطعة النظرية الإسلامية في مسألة الشرك وتمييز الموازين الإسلامية في توحيد الطاعة.
إلهنا: إنّ سلوك طريق التوحيد معقّد ومشكل، فاهدنا أنت في هذا الطريق الملتوي.
الهنا: إنّ جهات مختلفة تدعونا لطاعتها من كلّ جهة، فالهوى من الداخل، وشياطين الجنّ والإنس من الخارج، ونحنُ نرغب في طاعة أمرك وحدك، فكن لنا عوناً وناصراً في هذا الطريق.
الاهداء:
إلى الذين يعشقون القرآن.
إلى الذين يريدون أن يشربوا من عين الحياة الصافية أكثر.
وإلئ الذين يريدون ان يعرفوا القرآن ويفهموه أكثر.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 4
بمساعدة العلماء الافاضل وحجج الإسلام السادة:
محمد رضا الآشتياني.
محمد جعفر الامامي.
عبد الرسول الحسني.
محمد الأسدي.
حسين الطوسي.
سيد شمس الدين الروحاني.
محمد محمدي الاشتهاردي.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 5
نفحات القرآن، ج 4، ص: 7
هناك ثلاث مسائل تعترضنا لدى البحث عن معرفة اللَّه سبحانه وتعالى وهي: «البحث عن ذات اللَّه» و «إدراك وجود اللَّه» و «معرفة اللَّه».
ف (البحث عن ذات اللَّه) يشير إلى دوافع معرفة اللَّه.
و (ادراك وجود اللَّه) يشير إلى مسألة إثبات وجود اللَّه.
و (معرفة اللَّه) يعني البحث عن صفاته عزّ وجلّ.
وكمثالٍ بسيط فإنّه يُمكن تشبيه البشر بالعطاشى الذين يبحثون عن الماء في الصحراء، فبعد أن يعثروا على عين الماء فإنّهم يحاولون التعرُّف على صفات ذلك الماء الصافي.
«البحث عن ذات اللَّه»: أمرٌ فطري تدعمه وتقويه الدلائل العقلية، فكما أنّ العطاشى ينطلقون للبحث عن الماء بدافعٍ غريزي وآخر عقليِّ نابعٍ من استدلالهم على توقف حياتهم على شرب الماء، فكذلك الإنسان يبحث عن الكمال المطلق المتمثل بذات الباري سبحانه وتعالى، وذلك لأنّه «أي الإنسان» مجبول على عشق الكمال.
وكذلك بالنسبة إلى «إدراك وجود اللَّه»، فإنّه بسبب دلائله الواضحة، وبالأخص الدلائل النابعة من التفكُر بأسرار الخلق، فليس بالأمر العسير أو المعقد.
أمّا العسير والمعقّد فهو «معرفة اللَّه»، لأنّ نفس مخلوقات الطبيعة التي تُعد أفضل دليلٍ ومرشدٍ للإنسان في مسير إدراك وجود اللَّه، يُمكنُها أن تخدعه في سلوكه إلى (معرفة اللَّه)، وتجرّه إلى هاوية القياس والتشبيه الخطرة (كما سيأتي شرح ذلك فيما بعد).
ينبغي الإشارة إلى هذه النقطة أيضاً، وهي: أنّ صفات اللَّه هي عين ذاته غير متناهية وأسماؤهُ التي توضّح صفاته لا تُعد ولا تحصى أيضاً، لأنّ كل اسمٍ من أسمائه عزّ وجل يدلّ
نفحات القرآن، ج 4، ص: 8
على أحد كمالات ذاته المقدّسة، فذاته غير محدودة وكمالاته غير محدودة كذلك، ومن البديهي أنّ الصفات الكماليّة والأسماء التي تحكي عنها لا حصر لها أيضاً، لكن مع ذلك
فإنّ قسماً من هذه الأسماء والصفات تعدّ أصولًا، وما سواها فهو فرعٌ من تلك الاصول.
فمثلًا كون اللَّه سبحانه وتعالى «سميعاً» و «بصيراً»، فهذا يُعد فرعاً من علمه عزّ وجلّ، لأنّ المقصود هو اطلاعه على المسموعات والمشهودات لا امتلاكه للعين والاذن.
وكذلك كونه تعالى «أرحم الراحمين» و «أشدّ المعاقبين»، فهذه متفرّعة من حكمته، وذلك لأنّ الحكمة هي التي تقتضي أن يرسل رحمته في مكانٍ ونقمته في مكانٍ آخر.
إنَّ من السهل معرفة اللَّه وإدراك وجوده عزّ وجلّ- وخاصةً عن طريق التفكُّر بعالم الوجود-، ولكن بقدر ما تكون معرفته تعالى سهلةً، فإنّ فهم وإدراك صفاته صعب للغاية، وذلك لأنّنا نمتلك في مرحلة إدراك وجود اللَّه أدلّة بعدد نجوم السماء وأوراق الأشجار وأنواع النباتات والحيوانات، بل بعدد خلايا كل نباتٍ وحيوان، وبعدد ذرات الكون، وكلّها تدل على أصل وجوده عزّ وجلّ.
وبما أنّ سلوك الطريق الصحيح المتمثّل بتنزيهه عزّ وجلّ عن صفات مخلوقاته وترك تشبيهه تعالى بمخلوقاته هو الشرط الأول في معرفة صفاته، فإنّ الأمر يصبح معقداً.
والدليل على ذلك واضحٌ أيضاً، فقد ترعرعنا في أحضان الطبيعة وتطبّعنا بطباعها، وكل ما رأيناه وسمعناه ينحصر في إطار الحوادث الطبيعيّة، وهذه الطبيعة بذاتها أعانتنا على معرفة اللَّه أيضاً.
ولكننا عندما نصل إلى بحث صفاته تعالى فإننا لا نجد حتّى صفة واحدة من صفاته يُمكن قياسها ومقارنتها بما رأيناه وسمعناه، وذلك لأنّ صفات المخلوقين ينقصها الكمال دائماً، وصفاته عزّ وجلّ منّزهة عن أي نقصٍ وهي عينُ الكمال.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 9
وعليه فإنّ نفس هذه الطبيعة التي تعتبر أفضل معينٍ ومرشدٍ لنا في طريق معرفة وإدراك وجوده تعالى فانّها تصبح أحياناً عائقاً لنا في طريق معرفة صفاته.
لذلك يجب علينا رعاية جوانب الاحتياط عند سلوك طريق
معرفة صفات اللَّه قدر الإمكان كي نكون في مأمنٍ من الوقوع في محذور التشبيه والقياس.
إنّ ما ذكرناه يمثل لمحة خاطفة، ولننطلق الآن إلى مطالعة الآيات النازلة في هذا المجال:
1- «وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ».
(الاعراف/ 180)
2- «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ». (الشورى 11)
3- «فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الأَمثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَانتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». (النحل/ 74)
4- «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً احَدٌ». (الاخلاص/ 4)
5- «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». (الصافات/ 159)
6- «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ انَّ اللَّهَ لَقَوِىٌ عَزِيزٌ». (الحج/ 74)
7- «يَعْلَمُ مَا بَينَ ايْديهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلَا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً». (طه/ 110)
«مَثَلْ»: في الأصل من مادة (المُثُول)، وهو بمعنى الوقوف باعتدال، ويُطلق على الصور التي تلتقط أو ترسم من شى ء معين اسمهُ (التمثال)، أي وكأنه بنفسه واقفٌ هناك، ويُطلق على أي شى ء مشابه لشى ءٍ آخر (مثال)، وأمّا الحديث الذي يشابه حديثاً آخر ويوضّحه فَيُطلق عليه كلمة (مَثَل).
وقال جماعة: إنّ الفرق بين (المماثل) و (المساوى) هو أنّ الأول يُطلق على الشيئين المتشابهين في الجنس، أمّا الثاني فيُطلق على الشيئين المتشابهين في الكميّة والحجم، لكنّهما قد يكونان متشابهين وقد يكونان مختلفين في الجنس.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 10
وقد وردت كلمة (مَثَلْ) بمعنى (الصفة)، وقد تُطلق أحياناً على الصفات الجذّابة والقصص العجيبة أيضاً، لذا فإنّ كلمة (أَمْثَل) تأتى بمعنى (نموذج).
و «المُثْلَة»: تعنى قطع بعض أعضاء بدن شخص لتعذيبه ومعاقبته، وبالواقع إنّ من يرتكب هذا العمل (التمثيل بالغير)، يقصد إفهام الآخرين وتحذيرهم من ملاقاة نفس هذه العقوبة في حال ارتكابهم (مِثْلَ) ما ارتكب هذا الشخص، لذا فقد وردت كلمة (مَثُلات) بمعنى (العقوبات)، العقوبات التي تصير عِبَراً للآخرين لكى لا يرتكبوا (مِثْلَ) أعمال الماضين
«1».
«كُفْو»: تعني الشباهة في المنزلة والمقام، و (المكافاة) أيضاً مأخوذة من نفس هذا المعنى لأنّها بمعنى المساواة والمقابلة بالمثل، (إكفاء) تأتي بمعنى قلب الإناء رأساً على عقب، أي وكأَنّ الظاهر والباطن يتشابهان.
وقد ورد في مقاييس اللغة بأنّ لهذه الكلمة معنيين، فأحياناً تأتي بمعنى (المساواة) بين شيئين، وأحياناً أُخرى بمعنى (التمايُل والإنحراف)، في حين نجد أنّ الراغب أرجعهما إلى معنىً واحد، وهو ما ذكرناه أعلاه.
«الصفة»: من مادة (وصف)، وهي في الأصل بمعنى ذكر محاسن ومحسّنات شي ء معين، ويُطلق على هذه الحالة كلمة (وصف).
وهي ذات معنىً أوسع فتُطلق على كل ألوان التوصيف الصالح والطالح.
يقول (إبن منظور) في (لسان العرب): (التوصيف) بمعنى (التزيين)، و (الصفة) تعني (الزينة).
وقد ورد نفس هذا المعنى في (مقاييس اللغة) أيضاً، لكنّه وكما ذكرنا أعلاه فقد استعملت بمعنى أوسع فيما بعد.
وقد يُطلق أحياناً على (الخادم) و (الخادمة) لفظ (الوصيف) و (الوصيفة)، وسبب ذلك هو أنّ الغلام أو الأمَة عندما كانا يُباعان ويُشتريان تُذكر صفاتهما ومزاياهما للزبائن.
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب؛ مقاييس اللّغة؛ لسان العرب؛ ومجمع البحرين.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 11
تُشير الآية الاولى إلى حالة المشركين الذين كانوا يُحرّفون أسماء اللَّه التي كانت تبيّن صفاته، وتحذّرهم من هذا العمل: «وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى أسماءٌ تعكس صفاته كما هي:
«فَادُعُوهُ بِهَا وَذَرُوْا الَّذينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمائِهِ».
«إلحاد»: و (لَحْد) على وزن (مَهْدْ)، بمعنى الانحراف عن حد الإعتدال (الحد الوسط) إلى أحد الجانبين، وسمِّي (اللّحد) الذي يحفر في القبر بهذا الاسم لأنّه يُحفَرُ في أحد جانبي القبر لتوضع الجنازة فيه حتى لا يصلها التراب الذي يُهال على القبر «1».
وأمّا معنى «الالحاد في أسماء اللَّه تعالى في هذه الآية، فالكثير من المفسّرين يرون بأنّه ذو مفهومٍ
عام يشمل ثلاثة امور:
الأول: هو أنّ المشركين كانوا يشتقّون أسماء أصنامهم من أسماء اللَّه كاللات والعزّى ومناة التي كانوا يعتقدون بأنّها مشتقّة من كلمة اللَّه، والعزيز، والمنّان على الترتيب.
الثاني: هو أنّه ينبغي أن لا يُدعى اللَّه بالأسماء التي لا يرتضيها لذاته ولا تليق به عزّ وجلّ أو مشوبة بالنقائص والعيوب الخاصّة بالممكنات (المخلوقات) مثل كلمة أب التي أطلقها المسيحيّون على اللَّه تعالى
الثالث: أن لا يُسمّى اللَّه بالأسماء المبهمة.
وبتعبيرٍ آخر فإنّه لا يجوز تشبيه اللَّه بما سواه ولا تعطيل فهم صفاته ولا تسمية من سواه بأسمائه عزّ وجلّ.
كل ذلك يُشير بصورة واضحة إلى وجوب ملازمة جانب الاحتياط التام في بحث صفات اللَّه والحذر من تسميته ووصف ذاته المقدّسة بأسماء وصفات هي من شأن الموجودات الناقصة.
لذا فقد اعتقد الكثير من العلماء بأنّ أسماء اللَّه توقيفيّة، أي لا يُمكن وصفه وتسميته إلّا
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة؛ ومفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 12
بالصفات والأسماء الواردة في الآيات والروايات المعتبرة فقط. (وسيأتي شرح هذا الكلام في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه تعالى .
أمّا الآية الثانية فقد نفت ولاية وربوبية وألوهية من سواه، وأكدّت خالقيته للسموات والأرض.
قال تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ».
ونظراً لكون كاف التشبيه في كلمة «كمثله» هي بذاتها تعني المثل فإنّها جاءت مع «مثله» للتأكيد (وقد عبّر عنها البعض بالحرف الزائد وهو يستعمل للتأكيد أيضاً).
على هذا يكون معنى الآية هو: ليس كمثله شي ء وما نعرفه وما لا نعرفه، فهو تعالى ليس له نظير من أي جهة، وذلك لأنّه وجود مستقل بذاته ولا نهاية له وغير محدودٍ من جميع الجهات، لا في علمه، ولا في قدرته، ولا في حياته، ولا في إرادته و .....
وأمّا ما سواه من
الموجودات فهي تابعة ومحدودة ومتناهية وناقصة. لذا لايوجد وجه شبه بين وجوده الذي يمثّل الكمال المطلق وبين النقصان المطلق (أي الموجودات الإمكانيّة)، فهو الغني المطلق، ومن سواه فقير ومحتاج في كلّ شي ء.
وما نقله بعض المفسّرين من أنّ نفي التشبيه الوارد في الآية أعلاه يختص بنفي التشبيه في الذات، أي ليس كذاته المقدّسة شي ء، ولا يشمل الصفات، من حيث وجود بعض صفاته كالعلم والقدرة و ... في الإنسان أيضاً فهو خطأ كبير، فإنّه سيأتي في بحث العلم والقدرة وغيرهما بأنّ مثل هذه الصفات ليس بينها وبين علمنا وقدرتنا أي لونٍ من الشبه، فإنّ اللَّه تعالى موجود، ونحن موجودون أيضاً، لكن الفرق شاسعٌ جدّاً بين الوجودين!؟ وهكذا صفاته وصفات مخلوقاته.
وعلى أيّة حال فهذا أصلٌ أساسيُّ في بحث معرفة اللَّه ومعرفة صفاته، وهو أن ننزّهه تعالى عن المثيل والشبيه ونُعِدّه أكبر من القياس والظن والوهم، وأن نلتفت إلى أنّ الأوصاف
نفحات القرآن، ج 4، ص: 13
التي نصفه بها يجب أن تكون خالية من كل عيبٍ ونقصٍ وعارضٍ مادي وجسمانيٍ وإمكاني.
جَلَّ المُهَيمِنُ أنْ تُدرَى حَقِيقَتُهُ مَنْ لالَهُ المِثْلُ لا تَضْرِبْ لَهُ مَثَلًا والآية الثالثة تُشير إلى نفس محتوى الآية الثانية بشكلٍ آخر، فبعد أن سفهت الآية آلهة الوثنيين التي لا تستطيع أن تهب للبشر أيّ رزقٍ في السموات والأرض قالت: «فَلَا تَضْرِبُوا للَّهِ الأَمثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَانتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».
وبديهي فإنّ الوجود إذا كان واحداً متفرداً من جميع الجهات فانّه ليس له شبيه أو كفؤ لكي يكون له مثلًا.
ولقد جاء في بعض التفاسير بأنّ هذه الآية تُشير إلى قول مشركي الجاهلية وحتى بعض مشركي عصرنا الحاضر في أنّ اللَّه أكبر من أن نعبُدَهُ نحن، لذا فنحن يجب أن نعبد
موجودات من سنخنا وفي متناول أيدينا، فهو بالضبط كالملك الكبير العظيم الذي لا يستطيع عامة الناس الوصول إليه، لذا تراهم يقصدون وزراءه وخواصّه ومقرّبيه الذين يُمكن الوصول إليهم.
القرآن الكريم يقول: لا تضربوا للَّه مثلًا من قبيل هذه الأمثال، فهو أعزُّ وأجَلُّ من أن يشبه بالملك الضعيف، فهو موجودٌ في كل مكان، في قلوبكم وأقرب إليكم من أنفسكُم، علاوةً على ذلك فهو لا شبيه له ولا مثيل لكي يعكس وجوده فتعبدوه، فالأصنام وجميع المخلوقات الاخرى مثلكم مخلوقة وتابعة ومحتاجة إلى وجوده عزّ وجلّ.
ويُمكن أن تكون جملة: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَانتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» إشارةً وتنبيهاً إلى أنّكم لا تعلمون كنه ذاته وصفاته، وضرب الأمثلة له ينبع من جهلكم هذا، فاللَّه تعالى يحذّركم من ترديد هذا الكلام.
ومن هنا يتّضح أنّ ما ورد في قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرضِ» (النور/ 35)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 14
أو في قوله تعالى: «وَنَحنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)
لا يتنافى أبداً مع عدم وجود مثل له سبحانه، وذلك لأنّ المراد هو نفي وجود مثل أو مثال حقيقي له، فهذه جميعاً أمثلة مجازيّة أنتُقيت لتقريب تلك الحقيقة، التي لا مثيل لها، في الأذهان.
لذا فقد قال تعالى في ذيل نفس هذه الآية: «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال لِلنَّاسِ».
(النور/ 35)
ليدركوا الحقائق طبعاً.
وفي الآية الرابعة من بحثنا وهي الآية الأخيرة من سورة التوحيد، نفى سبحانه وجود أي شبيه أو مثيل أو نظير أو كفؤ له حيث قال: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً احَدٌ».
نفى اللَّه تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله: (أحد)، ونفى النقص والمغلوبية بلفظ (الصمد)، ونفى المعلولية والعلّية ب «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد»، ونفى الأضداد والأنداد بقوله: «وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أحَد».
وبهذا فقد نفى سبحانه عن ذاته
المقدّسة جميع صفات المخلوقات وعوارض الموجودات المختلفة وأي لونٍ من المحدوديّة والنقص والتغير والتحول، التي هي من عوارض الممكنات.
ولقد جاء في تفسير الفخر الرازي بأنّ الآية الأولى من سورة التوحيد نفى بها اللَّه تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحدٌ»، ونفت كلمة (صمد) النقص والمغلوبية، و: «لَمْ يَلِدْ وَلمْ يُولَدْ» المعلوليّة والعليّة: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ» الأضداد والأمثال عن ذاته المقدّسة، وذلك لأنّ الكفؤ بمعنى النظير ويُمكن أن تشمل كلا المعنيين (المثل والضد) «1».
ويقول أيضاً: بأنّ الآية التي هي محلُّ بحثنا تُبطل مذهب المشركين حيث يزعمون بأنّ
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 32، ص 185.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 15
الأصنام أكفاء له وشركاء، في الوقت الذي نفت الآيات التي سبقتها مذهب اليهود والنصارى الذين جعلوا له ولداً، ومذهب المجوس الذين كانوا يعتقدون بإلهين (إله النور وإله الظلام) «1».
وفي الآية الخامسة نواجه تعبيراً جديداً في هذا المجال، حيث قال تعالى: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ».
وبالرغم من أنّ هذه الجملة قد وردت بتفاوتٍ مختصر في ستِّ آياتٍ من القرآن الكريم «2» تنفي الولد والصاحبة للَّه تعالى أو تنفي الكفؤ والنضير من الأصنام- بقرينة الآيات التي سبقتها، لكنها في الواقع تحتوي على معنىً عميق يشمل كلّ ألوان التوصيف، لأنّ التوصيف الذي يصدر منّا عادة يكون شبيهاً لما في المخلوقات والممكنات، وآخر مايمكن أن نصفه به سبحانه هو أن نقول: (اللَّه أكبر من أن يوصف) وأعلى من الخيال والقياس والظن والوهم، وأعظم ممّا رأينا وسمعنا وقرأنا وكتبنا، أجل إنّه منزّهٌ عن الوصف.
ولو جئنا إلى الآية السادسة من بحثنا نلاحظ تعبيراً جديداً في هذا المجال أيضاً حيث يقول: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» أي المشركون.
لأنّهم قد قاسوه بمخلوقاته
وجعلوا له شريكاً وكفؤاً في حين أنّه ليس له كفؤاً أحد.
ومن سواه ضعيفٌ ومغلوب، ونقل بعض المفسّرين بأنّ هذه الآية نزلت بخصوص جماعة من اليهود الذين كانوا يقولون بأنّ اللَّه عندما فرغ من خلق السموات والأرضين تعب! واستلقى على ظهره واستراح! ووضع احدى رجليه على الاخرى.
فنزلت هذه الآية فوبختهم وخطّأتهم لأنّهم لم يقدّروا اللَّه عزّ وجلّ حق قدره وشبّهوه بمخلوقاته.
ومع أنّ الآية المذكورة تنفي كلام المشركين (عبدة الأوثان) إلّاأنّها ذات مفهوم عميق
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 32، ص 185.
(2) تفسير الكبير، ج 32، ص 185.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 16
وواضح، لذا فإنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه لا يوصفُ وكيف يوصف وقد قال في كتابه: «إِنَّ اللَّهَ لَقَويٌ عَزيزٌ» فلا يُوصف بقدرٍ إلّاكان أعظم من ذلك» «1»
.
وكذلك فقد ورد في الخطبة 91 من نهج البلاغة:
«كَذَبَ العادِلُوْنَ بِكَ، إِذْ شَبَّهُوْكَ بأَصْنامِهِمِ، وَنَحَلُوْكَ حِلْيَةَ الْمخُلُوقينَ بِأَوْهامِهِم وَجَزَّأُوْكَ تَجْزِئَةَ المُجَسَّماتِ بِخَواطِرِهِمْ وَقَدَّرُوْكَ عَلَى الخِلْقَةِ المُخْتَلِفةِ الْقُوَى بِقَرائِحِ عُقُوْلِهِمْ» «2».
وفي الآية السابعة والأخيرة من بحثنا، نلاحظ أنّه تعالى قال ضمن إشارته إلى حال المجرمين والمذنبين يوم القيامة ومثولهم في محكمة العدل الإلهيّة الكبيرة: «يَعْلَمُ مَا بَينَ ايْديهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً».
لقد ذُكرت في تفسير هذه الآية عدا ما ذكرناه أعلاه احتمالات اخرى من جملتها هي أنّها تعني بأنّ اللَّه عليم بأعمالهم وجزائهم، لكنهم ليس لهم علم واطلاع كامل لا على أعمالهم ولا على جزائها وما أكثر ماتناسوه منها، لكن التفسير الأول أقرب- حسب نظرنا.
وعليه فإنّ هذه الآية تقول: بأنّ البشر عاجزون عن الاحاطة العلمية بكنه ذاته المقدّسة أو بكُنه صفاته، وذلك لأنّه أعلى وأعظم من ظنوننا وعقولنا، فكيف يمكن أن تحيط به
الخلائق، في حين أنّ هذه الاحاطة تستلزم محدوديته تعالى وهو منزّهٌ عن كل أنواعها!؟
يتبيّن ممّا ورد في الآيات أعلاه بأنّ صفات المخلوقين ليست لها أدنى شبه بصفات ربّ
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1 (باب النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه)، ح 81- لاحظوا أنّ الآية أعلاه قد وردت في ثلاث مواضع من القرآن الكريم هي: الأنعام، 91؛ الحج، 74؛ الزمر، 67، وفي موردين منها بحرف واو.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 91 (خطبة الأشباح).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 17
العالمين، وإنّ أي لون من قياسه بمن سواه يؤدّي إلى الضياع والضلال والسقوط في هاوية التشبيه.
فهو ليس كمثله شي ء.
وليس له كفؤٌ أو نظير.
ولا يسعه وصف.
ولا يستطيع أحد أن يُحيط به علماً.
وعليه يجب رعاية الاحتياط التام عند سلوك طريق معرفة صفاته.
أجل فإنّ كُنه وحقيقة صفاته لا تتجلّى لأحد، وما يُمكن أن يحصل عليه البشر هو العلم الإجمالي بها بشرط نفي المحدوديات الموجودة في صفات المخلوقين عنه، وصياغة مفهومٍ جديد في قالب هذه الألفاظ.
ونختم الكلام بحديثٍ منقولٍ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ورد في تفسير الآية الأخيرة:
سأل رجلٌ أمير المؤمنين عليه السلام عن تفسير هذه الآية فأجابه عليه السلام: «لا يُحيطُ الخَلائقُ بِاللَّهِ عَزَّوَجَلَّ عِلْماً إذْ هُو تَبارَكَ وَتَعالى جَعَلَ عَلَى أبْصارِ الْقُلُوبِ الغِطاءَ، فَلا فَهْمَ يَنالُهُ بِالْكَيْفِ، وَلا قَلْبَ يُثْبِتُهُ بِالْحُدُوْدِ، فَلا تَصِفْهُ إلّاكما وَصَفَ نَفْسَهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيى ءٌ وَهُو السَّميعُ البَصيرُ ...» «1».
لقد سلكت كلّ جماعةٍ طريقاً خاصّاً في البحث حول صفات اللَّه الذي يُعَدُّ من أعقد وأصعب مباحث معرفة اللَّه فوقعوا في ورطة الافراط والتفريط.
فالبعض قد غاصوا في دوّامة التعطيل إلى درجة أنّهم قالوا: إننا لا نفهم شيئا من صفات اللَّه تعالى سوى تلك المفاهيم السلبية، فمثلًا عندما نقول بأنّ اللَّه عالمٌ فإننا نفهم من ذلك
نفي
__________________________________________________
(1) تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 394.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 18
الجهل عنه، وعندما نقول بأنّه قادر فإننان نفهم منه نزاهته عن العجز، أمّا ماهيّة علم اللَّه وقدرته فإننا لا نفهم عنها شيئاً على الاطلاق، وهذه العقيدة تُدعى بعقيدة التعطيل (أي تعطيل معرفة الصفات).
ومن جهةٍ اخرى فقد غار آخرون في دوّامة التشبيه لدرجة بحيث لم يكتفوا فقط بوصف اللَّه تعالى بصفات الماهيّات الممكنة فقط، بل جسّموه وذكروا له يداً ورجلًا ووجهاً وما شاكل ذلك، فقد أوجدوا في مخيّلتهم إلهاً كالإنسان بالضبط بجميع صفاته الظاهريّة والباطنية، إلهاً يمكن رؤيته ومشاهدته، وله مكان محدود وتعترضه حالات مختلفة! وبهذا فقد تورّطوا بأتعس أنواع الشرك.
ومن أجلِ أن نعلم إلى أيَّة درجةٍ سقطت هذه الجماعة في هاوية الكفر والشرك، يكفي أن نسمع المقالة المعروفة للمحقق الدوّاني بخصوص المشبّهة، حيث قال:
«اعتقد جماعة منهم بأنّ للَّه جسماً حقّاً، وهؤلاء بذاتهم ينقسمون إلى عدّة فئات، فئة تقول: إنّ جسمه مركّبٌ من لحمٍ ودم، وقالت فئة: بأنّه- تعالى نور لامع كسبيكة الفضة البيضاء! وطول قامته سبعة أشبار من أشباره!.
وقالت جماعة اخرى: بأنّه يشبه الإنسان، وهم ينقسمون إلى عدّة فئات، فئة اعتقدت بأنّه فتىً في ريعان شبابه لم ينبت الشعر في وجهه بعد، وشعر رأسه مجعّدٌ قصير: والفئة الاخرى اعتقدت بأنّه رجلٌ كهلٌ ذو لحية بيضاء سوداء وغيرها من قبيل هذه الخرافات» «1».
وممّا يُفهم من الآيات القرآنية، فإنّ كلا المعتقدين- التعطيل والتشبيه- باطلان، لأنّ القرآن دعا الناس إلى معرفة اللَّه من جهة، وعرّف ذاته وصفاته المقدّسة في العديد من الآيات الشريفة ممّا يدلّ على إمكانية معرفة اللَّه الإجمالية وبطلان معُتقد التعطيل.
ومن جهةٍ اخرى فقد نزّه القرآن الذات المقدّسة من أي شبيه ومثل
ونظير وكُف ء، ممّا يدلّ على بطلان مُعتقد التشبيه.
وعليه فالحق هو ذلك الطريق الدقيق الواقع بين هذين الأثنين. والذي يقول: بأنّ معرفة
__________________________________________________
(1) بحار الانوار، ج 3، ص 289.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 19
اللَّه الإجماليّة ليست ممكنة فقط بل لازمة أيضاً، أمّا معرفة اللَّه التفصيليّة، أي التوصل إلى حقيقة وكنه الصفات والذات الإلهيّة المقدّسة، والاحاطة العلميّة بها، فهي غير ممكنة.
لقد أشرنا سابقاً إلى دليل هذا الموضوع، ونذكره هنا بشي من التفصيل فنقول: إنّ النقطة الأساسيّة تكمن في نزاهة الذات الإلهيّة المقدّسة عن المحدودية من جهة، ومحدودّية عقولنا وعلومنا من جهة اخرى
فاللَّه عز وجل وجودٌ لا نهاية له من جميع الجهات (كما أثبتنا ذلك في البحوث السابقة)، فذاته كصفاته غير محدودة وغير متناهية، ومن جهةٍ اخرى فنحن محدودون، وجميع مايتعلق بنا من علمنا وقدرتنا وحياتنا والمكان والزمان الذي نعيش فيه، محدود أيضاً.
وعلى هذا فكيف يمكننا مع هذه المحدوديّة أن نحيط بذلك الوجود اللامحدود وصفاته؟ وكيف يستطيع علمنا المحدود أن يخبر عن ذلك الوجود اللامحدود؟
أجل، إنّه بإمكاننا في عالم الفكر والتفكُّر أن نلمح شبحاً من بعيد، ونشير إجمالًا إلى ذاته وصفاته، أمّا الوصول إلى كُنه ذاته وصفاته، أي الاحاطة التفصيلية به، فهي غير ممكنة بالنسبة لنا- هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى فإنّ الوجود اللامتناهي ليس له مثيل أو نظير من كل ناحية، وفرد لا كفؤ له، فلو كان له كفؤ أو نظير لكان كلاهما محدودين (ورد تفسير هذا المعنى بصورة كاملة في أبحاث التوحيد في المجلد الثالث من هذا التفسير).
فكيف يمكننا أن ندرك وجوداً لا نعرف له كفؤاً ولانظيراً أبداً؟، وكل ما نراه من الممكنات هو غيره، وصفاته تتفاوت تماماً عن صفات واجب الوجود «1».
__________________________________________________
(1)
إن لم يكُن عجباً فإننا لانستطيع أن نتصور حتى مفهوم (اللامتناهي) فإن قيل لنا كيف تستعملون كلمة (اللامتناهي) إذن؟ وتتحدثون عنها وعن أحكامها؟ فهل يمكن التصديق بدون التصوّر؟!
في الاجابة عن ذلك نقول: إننا أخذنا هذا المصطلح من كلمتين هما (لا) أي النفي والعدم و (متناهي) أي بمعنى (المحدود)، أي أن نتصور هاتين الكلمتين منفصلتين عن بعضهما (لا ومتناهي) اولًا ثم نركبهما مع بعضهما لنشير بهما إلى موجودٍ لايسعه الخيال والتصور فنحصل منها على معنى إجمالي (تأمل جيداً).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 20
نحن لا نقول بأنّنا نجهل أصل وجوده- سبحانه- ولا نعرف شيئاً عن علمه وقدرته وإرادته وحياته، بل نقول بأنّ لدينا معرفة إجمالية عن جميع هذه الامور ولا يمكننا أن ندرك كُنهها وعمقها بتاتاً، وقد حارت عقول جميع عقلاء وحكماء العالم- دون استثناء- في هذا الطريق.
بما أنّ منزلق التشبيه الخطر يواجه جميع السائرين في طريق معرفة اللَّه، فإننا نجد تحذيرات كثيرة وردت في الروايات الإسلامية في هذا المجال مع العلم أنّ كنوزاً وفيرة من العلم والحكمة والإرشادات الدقيقة وردت في الأحاديث الشريفة المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام بهذا الصدد، وكنموذج منها ننقل عدّة روايات من الكافي:
1- قال أمير المؤمنين في خطبة الأشباح:
«وَأشهدُ أنَّ من ساواكَ بِشَى ءٍ مِنْ خَلقكَ فقَدْ عَدلَ بِكَ، وَالعادلُ بِكَ كافِرٌ بِما تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَماتُ آياتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَواهِدُ حُجَجِ بيِّناتكَ، وَإنّكَ أنتَ اللَّهُ الَّذي لَمْ تَتَناهَ في العُقُولِ فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكرها مُكيَّفاً، وَلا في رَويَّات خَواطِرها فَتَكُونَ مَحدُوداً مُصَرَّفا» «1».
2- ورد في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في هذا المجال توضيح جميل في جوابه لأحد المحدّثين باسم (أبو قرّة) عند سؤاله عن
التوحيد، حيث قال أبو قرّة للإمام: إنا روينا أنّ اللَّه عزّ وجلّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين فقسم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه و آله الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: «فمن المبلغ عن اللَّه عزّ وجلّ إلى الثقلين الجن والأنس «لاتُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُو يُدرِكُ الأَبصارَ» «وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً» «وَلَيسَ
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 91.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 21
كَمِثلِه شَي ء» أليس محمداً صلى الله عليه و آله؟ قال: بلى قال: فكيف يجي رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللَّه وأنّه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه ويقول: «لَاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُو يُدرِكُ الأَبصَارَ» «وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلمَاً» «وَلَيسَ كَمِثلِه شَئ» ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً وهو على صورة البشر، أمّا تستحيون، ماقدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون ياتي عن اللَّه بشي، ثم ياتي بخلافه من وجه آخر!».
قال أبو قرّة: فانّه يقول: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةَ أُخْرَى فقال أبو الحسن عليه السلام: «إنّ بعد هذه الآية ما يدل على ماراى حيث قال: «مَا كَذَبَ الفُؤادُ ما راى يقول ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه و آله ما رأت عيناهُ، ثم أخبر بما راى فقال: لقد راى من آيات ربه الكبرى فآيات اللَّه عزّ وجلّ غير اللَّه: وقد قال: «وَلَا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً»، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العِلمَ ووقعت المعرفة»، فقال ابو قرّة: فتكذِّبُ بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: «إذا كانت الروايات مخالفةً للقران كذَّبتُ بها وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علمٌ ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شي ء» «1»
.
3- وفي هذا المحتوى ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ اللَّهَ
عَظيمٌ رَفيعٌ لايَقدِرُ العِبادُ عَلَى صِفَتِهِ وَلا يَبْلُغُونَ كُنهَ عَظَمَتِهِ، لاتُدرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَهُو اللَّطيفُ الخَبيرُ» «2».
أشرنا سابقاً إلى أنّ أسماء اللَّه سبحانه وتعالى تحكي عن صفاته، وكما أنّ صفات اللَّه لا متناهية فإنّ أسماءه غير متناهية أيضاً، إلّاأنّه يُسْتَنْتَجُ من رواياتٍ كثيرة بأنّهُ لا يحق لاحدٍ أن يُسمّي ربّهُ ويصفه بشيٍ إلّاما ورد في الكتاب والسُّنّة (الأحاديث المعتبرة)، وسبب ذلك
__________________________________________________
(1) التوحيد للصدوق، ص 110 عن اصول الكافي.
(2) اصول الكافي، ج 1، ص 103.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 22
هو ماذكرناه في بحوثنا السابقة، وهو أنّ الكثير من الأسماء والأوصاف ممزوجة بمفاهيم تحكي عن نقائص المخلوقات ومحدوديتهم، واطلاق هذه الأسماء على اللَّه يبعدنا عن معرفته ويُلقي بنا في هاوية الشرك.
لذا فقد اشتهر بين العلماء بأنّ (أسماء اللَّه توقيفية) أي لا يجوز اطلاق اسم عليه دون إجازةٍ شرعيّة، لذا فهم لا يجوّزون دعوته بأسماء من قبيل، «العاقل»، «الفقيه»، «الطبيب»، «السّخي»، وذلك لأنّها لم ترِدْ في الآيات والروايات المعتبرة «1».
يقول المفسّر المرحوم العلّامة الطبرسي حول تفسير ذيل الآية 180 من سورة الأعراف: «تدل هذه الآية على أنّه لا يجوز لنا أن ندعو اللَّه سوى بالأسماء التي انتخبها لنفسه فقط» «2».
ولذلك أيضاً قال العلّامة المجلسي قدس سره: «لا يُسمّى اللَّه بالسخي بل يُسمّى بالجواد، وذلك لأنّ السخاوة في الأساس بمعنى الليونة، وهذه الكلمة (السخاء) تُطلق على الأسخياء من حيث أنّهم يلينون ازاء عرض الحوائج عليهم (والليونة والخشونة لا معنى لهما بخصوص اللَّه، بل هي من صفات المخلوقات» «3».
أمّا المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير (الميزان) فإنّه لا يرى دليلًا في القرآن وفن التفسير على كون أسماء اللَّه توقيفية، والآية 180 من سورة الأعراف: «وَللَّهِ
الأَسماءُ الحُسنى ...» لا تدلّ على هذا المعنى ولكنه قدس سره لم يُبد رأياً فقهّياً في هذا المجال وأرجعه إلى الفقه، فأضاف قائلًا:
«الاحتياط يقتضي بالاقتصار على الأسماء التي وردت في الكتاب والسُنّة في مجال تسمية اللَّه سبحانه ولكن إذا كان القصد مجرّد توصيف وإطلاق لفظي دون تسمية فلا بأس» «4».
أمّا المرحوم الكليني في المجلّد الأول من أصول الكافي، فقد نقل روايات عديدة في
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 15، ص 70، لكن بعضاً من هذه الصفات قد ورد في بعض الأدعية، وممنوعيتها غير ثابتة.
(2) مجمع البيان، ج 4، ص 503.
(3) بحار الأنوار، ج 4، ص 206.
(4) تفسير الميزان، ج 8 ص، 375 ذيل الآية 180 من سورة الأعراف.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 23
باب «النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه تعالى يُسْتَنْتَجُ منها بأنّ أسماء اللَّه توقيفيّة.
من جملتها ماورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال: «إنَّ اللَّهَ أعلى وَأجَلُّ وَأعظَمُ مِنْ أن يُبلَغَ كُنهُ صِفَتِهِ، فصِفُوهُ بِما وَصفَ بِهِ نَفسهُ وَكُفُّوا عمّا سِوى ذلكَ» «1».
وورد في حديث آخر عن الإمام أبي الحسن عليه السلام في جوابه للمفضل عندما سأله عن بعض صفات اللَّه قال عليه السلام: «لا تجاوز ما في القرآن» «2»
.
وكذلك في الحديث الذي كتبه الإمام الصادق عليه السلام لبعض اصحابه «فاعلم رحمك اللَّه- أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللَّه عزّ وجلّ فانفِ عن اللَّه تعالى البطلان والتشبيه، فلا نفي ولا تشبيه، هو اللَّه الثابت الموجود تعالى اللَّه عمّا يصفه الواصفون ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان» «3»
.
يُستنتج من هذه الروايات وأمثالها بأنّ تسمية اللَّه بغير ماورد في الكتاب والسُنّة فيه اشكال،
واستعمال أصل البراءة لإثبات جواز تسمية اللَّه بأسماء اخرى لا يخلو من الإشكال أيضاً، فالأحوط عدم استعمال أوصاف وأسماء اخرى غير الأوصاف والأسماء الثابتة في الشريعة المقدّسة.
ويُستدل أحياناً ببعض الآيات القرآنية أيضاً وثبات كون أسماء اللَّه توقيفيّة، كما ورد في قصّة نوح عليه السلام عندما خاطب سبحانه وتعالى المشركين حيث قال: «أَتُجَادِلُونَنِى فِى أَسماءٍ سَمَّيتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلطانٍ». (الأعراف/ 71)
وكذلك قال في سورة يوسف في قصّة نوح عليه السلام: «مَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسمَاءً سَمَّيتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ». (يوسف/ 40)
ولكن دلالة هذه الآيات على المقصود لا تخلو من ضعف، لأنّ المراد منها نفي الشرك وعبادة الأصنام وتسمية الأصنام بالآلهة، فهي لا تدلّ على أنّ أسماء اللَّه توقيفية ولا يجوز
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 12، ح 6.
(2) المصدر السابق، ح 7.
(3) المصدر السابق، ص 350، ح 6.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 24
تعديها.
وقد استدلوا أيضاً بأنّ التسمية فرعُ من المعرفة، والمعرفة فرعٌ من الإدراك. وبما أننا لا ندرك كنه ذاته وصفاته المقدّسة، فإنّ الطريق الوحيد لتسمية ذاته المقدّسة هو اللَّه سبحانه، وخلفاؤه.
ونختم هذا البحث بمجموعة من الأبيات الشعريّة التي وردت على شكل أرجوزة في كتاب معارف الأئمّة في هذا المجال حيث تقول:
وَالوَقفُ مَشهورٌ لدى الأصحابِ والعقل يَستَحسِنهُ في البابِ فإنَّمَا التَّوصيفُ فرعُ المَعرِفة وَالحقُّ في العِرفانِ ماقَد وَصَفَه وَدُونهُ لا يصدقُ التَّنزِيهُ بَلْ جُرئَةٌ لا يُومَنُ التَّشبيهُ وَيَلزَمُ القُولُ بِغيرِ العِلمِ مَعْ فَقدِ سُلطانٍ عَلَيهِ علمي «1» __________________________________________________
(1) معرفة الأئمّة، ص 743.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 25
نفحات القرآن، ج 4، ص: 27
يُلاحظ في الآيات القرآنيّة والروايات الإسلاميّة تعبير تحت عنوان «الأسماء الحسنى ، وهذا العنوان جاء في القرآن بشكل مجمل لكنّه ورد في الروايات بشكل مفصّل، وهذه الأسماء تدل بأجمعها على صفاته، ونظراً لكون جميع أسمائه وصفاته حُسنى فإنّ انتخاب هذا العنوان يدلّ على امتياز هذه الأسماء.
ولكن من أين تنبع هذه الخصوصيّة؟ هذا ما سنوضحه بعد تفسير الآيات والروايات التي وردت في هذا المجال، فلنتوجه الآن إلى القرآن ونتأمل خاشعين في الآيات القرآنية الكريمة:
1- «وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ».
(الاعراف/ 180)
2- «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحمنَ أَيّاً مَّا تَدعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى .
(الاسراء/ 110)
3- «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى . (طه/ 8)
4- «هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الحُسْنَى . (الحشر/ 24)
لقد تقدم تفسير الآية الأولى في البحث السابق، وخلاصته أنّها حذّرت الناس من تحريف أسماء اللَّه حيث تقول: «وَللَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذينَ يُلحِدُونَ في أَسمَائِهِ».
نفحات القرآن، ج 4، ص: 28
وأشارت الآية الثانية أيضاً إلى تعلل المشركين الذين كانوا يشكلون على رسول اللَّه في تسميته للَّه تعالى بأسماء متعددة وخاصة اسم الرحمن الذي كان غير مألوف عند العرب المشركين آنذاك، مع أنّه كان يدعوهم للتوحيد فالآية تقول: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحمنَ أَيّاً مَّا تَدعُوا فَلَهُ الأَسمَاءُ الحُسْنَى .
وصفت الآية الثالثة الباري بالخالقية والمالكيّة وتدبير عالم الوجود والعلم والاطلاع على الظاهر والباطن، حيث قالت: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسمَاءُ الحُسنَى .
أجَلْ فهو سبحانه بامتلاكه هذه الأسماء والصفات الحسنى التي لا نظير لها يليق لمقام الألوهيّة والربوبية ولا أحد يليق لهذا المقام سواه.
وأخيراً فقد وصفت الآية الرابعة والأخيرة- من بحثنا- ربّ العالمين
بأوصاف متعدّدة، بعد أن وصفته الآيات التي سبقتها بأكثر من عشرة أوصاف، فقال: «هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الحُسنَى .
وبعد ذلك وصفته بأوصاف مهمّة اخرى بلغ مجموعها ثمان عشرة صفة.
ونستنتج من مجموع هذه الآيات أنّ الأسماء الحسنى كناية عن صفات الجمال والجلال الخاصّة به سبحانه، والذي يعبر كل واحد منها عن كمالٍ متميز أو تنفي عنه سبحانه نقصاً معيّناً، وهي ليست تسمية بسيطة وعاديّة، وقد انعكست هذه الأسماء والصفات في مختلف الآيات القرآنيّة وصارت محل اعتماد.
ولننطلق الآن لبحث هذا الموضوع ونرى ما هي الأسماء الحسنى هل هي محدودة عددّياً؟ وإن كانت كذلك فكم عددها؟
نفحات القرآن، ج 4، ص: 29
وكما أشرنا سابقاًإلى أنّ جميع أسماء اللَّه حسنى لذا فإنّ هذا التعبير يشمل جميع الأسماء الإلهيّة، وكما ورد في سبب نزول الآية الثانية من بحثنا هذا (الآية 110 من سورة الإسراء)، فقد نُقِلَ بأنّها نزلت عندما سمع المشركون رسول اللَّه يقول: يا اللَّه يارحمن! فقالوا باستهزاء: إنّه ينهانا عن عبادة معبودين لكنّه انتخب لنفسه معبوداً آخر ... فنزلت هذه الآية في تلك اللحظة ودحضت ظن التعدد هذا، وقالت: بأنّ هذه أسماءٌ حسنى مختلفة تُشير بأجمعها إلى الذات الإلهيّة المقدّسة الواحدة.
لذا فإنّ هذه الأسماء بأجمعها تعبيرات مختلفة تحكي عن الكمالات اللامتناهية لتلك الذات المقدّسة الواحدة وقد عبّر عنها الشاعر بقوله:
عِبَاراتُنَا شَتّى وَحُسنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الجَمالِ يُشيرُ ويُستنتج من العبارات التي وردت في آيات القرآن الكريم أنّ جميع أسمائه هي مفردات من أسمائه الحسنى «وَللَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا»، (الآية الأولى من بحثنا).
والدليل على ذلك واضحٌ أيضاً، لأنّ أسماءه «عزّ وجلّ» إمّا تعبّر عن كمال ذاته (كالعالم والقادر) أو عن نزاهة تلك الذات
الأحديّة عن أي لونٍ من النقص (كالقدّوس) أو تحكي عن أفعاله التي تعكس فيض الوجود من جهاتٍ مختلفة (كالرحمن والرحيم والخالق والمدبّر والرازق).
وتعبير الآيات أعلاه، الذي يدلّ على الحصر، يُبيّن بأنّ الأسماء الحسنى خاصّة به تعالى لأنّ أسماءَه تُعبرّ عن كمالاته، وكما نعلم فإنّ واجب الوجود هو عين الكمال والكمال المطلق، لذا فالكمال الحقيقي من شأنه وخاص به وكلُّ ما سواه ممكن الوجود ومحض الحاجة والفقر.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي، وهو: أنَّ الروايات الشريفة ذكرت- كما سنشير إليه في البحث القادم- عدداً معيناً للأسماء الحسنى ممّا يشير إلى أن تعبير الأسماء
نفحات القرآن، ج 4، ص: 30
الحسنى لا يشمل جميع الأسماء الإلهيّة، بل يشمل قسماً منها، فما معنى ذلك؟
في الإجابة عن هذا السؤال نستطيع القول: إنّ السبب في ذكر عدد معيّن من الأسماء والصفات قد يكون لبيان أهميّتها لا انحصارها، مضافاً إلى أنّ الكثير من الأسماء الإلهيّة كما سيتضح في البحوث المقبلة تشبه الأغصان الأصليّة الرئيسة، والبقية تتشعبُ منها، فمثلًا نُلاحظ أن (الرازق) فرعٌ من صفة الربّ (أيّ المالك والمدبّر).
وهكذا حال بقيّةِ الأوصاف من قبيل (المحيي والمميت).
وبعيدٌ جدّاً أن تكون الأسماء الحسنى ذات مفهوم خاص في الشرع (أي لها حقيقة شرعيّة)، بل هي اصطلاح لغوي يشمل جميع الأسماء والأوصاف الإلهيّة.
وتعبير القرآن الكريم ب: «وَللَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا» هو دعوة- في الحقيقة- إلى ترك الإلحاد وتحريف هذه الأسماء كتسمية الاصنام بأسماء اللَّه، أو دعوة إلى اجتناب تسمية اللَّه بالأسماء ذات المفاهيم الممزوجة بالنقائص والخاصّة بالمخلوقات. أو هو إشارة إلى عدم تنافي تعدد الأسماء الحسنى مع وحدانية ذاته المقدّسة أبداً، لأنّ تعدُّد الأسماء ناجمٌ عن قصر نظرتنا لإدراك ذلك الكمال المطلق، فأحياناً ننظر من زاوية اطلاعه
على كُلّ شي ء فنسميه (بالعالم) وأحياناً اخرى ننظر من زاوية قدرته على كلّ شي ء فنسميّه (بالقادر).
وعلى أيّة حال فإنّ جميع القرائن تدل على أنّ جميع الأسماء الالهيّة المقدّسة حسنى بالرغم من أنّ بعضها ذات أهميّة خاصّة.
ذكرت روايات عديدة منقولة عن مصادر الشيعة وأهل السُّنّة أنّ عدد الأسماء الحسنى تسع وتسعون اسماً، ومن جملة هذه الروايات رواية مشهورة عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ له
نفحات القرآن، ج 4، ص: 31
تسعاً وتسعين اسماً .. مِائة إلّاواحداً- من أحصاها دخل الجنّة، إنّه وترٌ يُحبُّ الوتر» «1»
.
وفي رواية اخرى منقولة في توحيد الصدوق بنفس هذا المضمون (مع اختلاف طفيف)، عن علي عليه السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «وَهيَ اللَّهُ، الألهُ، الواحِدُ، الأحدُ، الصَّمَدُ، الأَوَّلُ، الآخرُ، السَّميعُ، القَديرُ، القَاهِرُ، العَليُّ، الأَعلى البَاقي، البَديعُ، البَارئُ، الأكرَمُ، الظَاهِرُ، البَاطِنُ، الحَيُّ، الحَكيمُ، العَليمُ، الحَليمُ، الحَفيظُ، الحَقُّ، الحَسيبُ، الحَميدُ، الحَفيُّ، الرَّبُ، الرحمنُ، الرَّحيمُ، الذَارئُ، الرَّزاقُ، الرّقيبُ، الرؤوفُ، الرّائي، السَّلامُ، المُؤمِنُ، المُهيمنُ، العَزيزُ، الجَبَّارُ، المُتكبِرُ، السَّيِدُ، السُّبُّوحُ، الشَّهيدُ، الصَّادِقُ، الصَّانِعُ، الطَّاهِرُ، العَدلُ، العَفوُّ، الغفورُ، الغَنيُّ، الغِيَاثُ، الفَاطِرُ، الفَردُ، الفَتاحُ، الفَالِقُ، القَدِيمُ، المَلِكُ، القُدُوسُ، القَويُّ، القَريبُ، القَويمُ، القَابضُ، البَاسِطُ، قَاضي الحَاجَاتِ، المَجيدُ، المَولى المنَّانُ، المُحيطُ، المُبينُ، المُقيتُ، المُصوِّرُ، الكَريمُ، الكَبيرُ، الكَافي، كَاشف الضُّرِّ، الوِترُ، النُّورُ، الوهَّابُ، النَّاصرُ، الواسعُ، الودُودُ، الهَادِي، الواقي، الوكيلُ، الوارثُ، البَّرُّ، البَاعثُ، التوابُ، الجَليلُ، الجَوادُ، الخبيرُ، الخَالقُ، خَيرُ النَّاصِرينَ، الدّيانُ، الشَّكُورُ، العَظيمُ، اللَّطيفُ، الشَّافي» «2»
.
والجدير بالذكر هو أنّ إحصاء وعدِّ الأسماء الحسنى وتلفظها باللسان لايعني أن يكون سبباً في دخول الجنّة بدون حساب، بل بمعنى معرفة محتوى هذه الأسماء والإيمان بها فلابدّ أن يعرف الإنسان اللَّه بهذه الصفات الإلهيّة، فضلًا عن التخلق
بها، أي أن يشُّع في وجوده شعاع من علم اللَّه وقدرته ورحمته ورأفته وغيرها من الصفات، لأنّ التخلق بهذه الصفات الكمالية يلازم الإيمان بها.
وفي رواية اخرى في توحيد الصدوق عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «للَّه عزّ وجلّ تسعٌ وتسعون اسماً، من
__________________________________________________
(1) تفسير الدر المنثور (ج 3، ص 147) عن صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد وسنن الترمذي وكتب اخرى.
(2) توحيد الصدوق، ص 194، (باب أسماء اللَّه تعالى)، ح 8، ونلفتُ الانتباه إلى أنّ عدد الأسماء المذكورة في الحديث أعلاه مِائة أسم ولكون لفظ الجلالة (اللَّه) جامعٌ لجميع هذه الصفات فإنّه لم يُحسب وصار عدد الأسماء الحسنى تسعاً وتسعين اسماً، وقد وضع البعض اسم الرائي بدل الرؤوف.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 32
دعا اللَّه بها استجاب له، ومن أحصاها دخل الجنّة».
يقول المرحوم الصدوق بعد ذكر هذه الرواية: «المقصود من احصائها هو الاحاطة بها ومعرفة معانيها لا عدّها «1».
والجدير بالذكر أنّ بعض الروايات ذكرت الأسماء الحسنى بأكثر من هذا العدد، حتى أنّ في بعض الأدعية كدعاء الجوشن الكبير قد بلغت الأسماء المقدّسة المذكورة فيها الألف، ولا تنافي بين هذه الروايات، لأنّه كما ذكرنا بأنّ التسع والتسعين المذكورة تُشير إلى الأسماء والصفات الأكثر أهميّة وخصوصية، وذكر المرحوم الصدوق «ره» في كتاب «التوحيد» شرحاً مفصلًا حول تفسير هذه الأسماء التسعة والتسعين، نذكرها هنا بصورة مختصرة لتكملة هذا البحث وزيادة المعرفة بحقيقة هذه الأسماء والصفات:
1- 2- «اللَّه واله»: أي (الجامع لجميع الكمالات)، وهو المستحق للعبادة، والذي لا يستحق العبادة إلّاهو.
3- 4- «الواحد الأحد»: أنّه واحد في ذاته ليس
له أجزاء ولا شبيه ولا نظير ولا مثيل.
5- «الصمد»: السيد والمصمود إليه أي المقصود في الحوائج، الغني عن كل موجود.
6- 7- «الأول والآخر»: أنّه الأول بغير ابتداء والآخر بغير انتهاء، وبعبارة اخرى الذات الازلية والأبدية.
8- «السميع»: المحيط بجميع المسموعات.
9- «البصير»: المحيط بجميع المبصرات.
10- «القدير»: القادر على كل شي ء.
11- «القاهر»: الذي انقاد له كل شي ء وخضع لأوامره.
12- «العلي»: ذو المنزلة والمقام العالي الرفيع.
13- «الأعلى : الغالب المنتصر، أو المتسلط على كل شي ء.
14- «الباقي»: الذات الباقية التي لا تفنى
15- «البديع»: أي مبدع ومحدث كل شي ء في عالم الوجود من غير مثال واحتذاء.
__________________________________________________
(1) توحيد الصدوق، ص 195، ح 9.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 33
16- «الباري ء»: باري ء البرايا أي خالق الخلائق.
17- «الاكرم»: بمعنى أكرم الكرماء.
18- «الظاهر»: وهو الظاهر بذاته وبآياته التي هي شواهد على قدرته وآثار حكمته وبينات حجته.
19- «الباطن»: الذي لا تحيط بكنه ذاته الأفكار والعقول.
20- «الحي»: الفعال المدبر. (ذي العلم والقدرة).
21- «الحكيم»: الذي تكون كافة أفعاله صحيحة وثابتة ومنزهة من الفساد.
22- «العليم»: العليمٌ بنفسه، العالم بالسرائر المطلعٌ على الضمائر الذي لا تخفى عليه خافية ولايعزب عنه مثقال ذرة في السماء والأرض.
23- «الحليم»: المُمهِل الصبور عمن عصاه، الذي لايعجل عليهم بعقوبته.
24- «الحفيظ»: الذي يحفظ المخلوقات ويصرف عنها البلاء.
25- «الحق»: معناه الصامد الدائم الثابت والمستحكم ذو الحقيقة والواقع.
«فهو الحقيقة المطلقة وماعداه مجازي».
26- «الحسيب»: المحصي لكل شي ء العالم به الذي لا يخفى عليه شي ء من أفعال عباده، والمحاسب والمكافي ء لهم على أعمالهم.
والكافي «واللَّه حسبي وحسبك، أي كافينا».
27- «الحميد»: وهو المحمود المستحق لكل حمد وثناء.
28- «الحفيّ»: العالم المُطلع أو أنّه اللطيف بالآخرين والمُحسن إليهم.
29- «الرب»: أي المالك والمدبر والمصلح.
30- «الرحمن»: معناه الواسع الرحمة الذي شُمِلَ عباده بالرزق والانعام
والرحمة.
31- «الرحيم»: الذي خصت رحمته المؤمنين وشملتهم.
32- «الذاري ءُ»: الخالق، يُقال: ذرأ اللَّه الخلق وبرأهم أي خلقهم.
33- «الرازق»: الشامل بالرزق كافة العباد، محسنهم ومسيئهم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 34
34- «الرقيب»: أي الحافظ، ورقيب القوم، حارسهم.
35- «الرؤوف»: أي الرحيم العطوف، «وقد يرى البعض أنّ هناك اختلاف بين الرأفة والرحمة، فالرأفة شاملة للمطيعين، والرحمة شاملة للمذنبين».
36- «الرائي»: بمعنى المبصر والمطلع العالم.
37- «السّلام»: مصدر السلامة وينبوع فيض كل سلامة.
38- «المؤمن»: المحقق والمصدق وعده، والذي آياته وعلاماته وعجائب تدبيره ولطائف تقديره سبباً لإيمان القلوب والأفئدة بذاته المقدّسة، والذي آمن عباده من الظلم والجور، وأجار المؤمنين من العذاب.
39- «المهيمن»: الشاهد الناظر أو الأمين والحافظ لكل شي ء.
40- «الجبار»: أي القاهر الذي لايُنال، الذي تعجز الافكار عن بلوغ عظمته، والذي يصلح الامور بإرادته النافذة.
41- «المتكبر»: مأخوذ من الكبرياء، وهو اسم للتكبر والتعظم، فلا شي ء أكبر منه، ولا تليق الكبرياء إلّابه.
42- «السيد»: معناه العظيم الأعظم وهو الملك الواجب الطاعة.
43- «السبوح»: معناه المنزه له عن كل عيب ونقص ومالا ينبغي أن يوصف به «1».
44- «الشهيد»: أي الشاهد والحاضر في كل مكان صانعاً ومدبراً.
45- «الصادق»: معناه أنّه صادق في وعده لا يبخس ثواب من يفي بعهده.
46- «الصانع»: معناه أنّه صانع كل مصنوع وخالق كل مخلوق ومبدع كل بديع.
47- «الطاهر»: وهو المنزه عن الأشباه والأنداد والأضداد والأمثال والحدود لأنّ كل ما عداه حادث ومخلوق وعاجز من جميع الجهات.
48- «العدل»: القاضي وهو الحاكم بالعدل والحق المطلق.
49- «العفوّ»: مشتق من العفو، والعفو المحو كقوله تعالى «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنَتْ لَهُمْ»
__________________________________________________
(1) لا يخفى أنّه ليس في كلام العرب لفظ على وزن فُعُّولٌ إلّاسُبُّوحٌ وقدوس، ومعناهما واحد.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 35
أي محا اللَّه عنك إذنك لهم، فهو تعالى يمحو
ذنوب عباده.
50- «الغفور»: أي الغافر والغفار وأصله في اللغة التغطية والستر.
51- «الغني»: الغني بنفسه غير محتاج لسواه والغني عن الاستعانة بالآلات والأدوات.
52- «الغياث»: معناه المغيث والمُنجد، سمي به توسعاً لأنّه مصدر.
53- «الفاطر»: الخالق، فطر الخلق أي خلقهم وابتدأ صنعة الأشياء وابتدعها فهو فاطرها أي خالقها ومبدعها من العدم.
54- «الفرد»: المتفرد بالربوبية والأمر دون خلقه ومعنى ثانٍ: أنّه الموجود المطلق لا موجود سواه.
55- «الفتّاح»: الحاكم ومنه قوله عز وجل في الآية 89 من سورة الأعراف: «وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ»، الذي يحل عُقد المكاره والمشاكل.
56- «الفالق»: مشتق من الفلق وهو الشق، فلق الحبّ والنوى فخرج النبات من أعماق الأرض، وأخرج الأجنة من بطون الامهات، وفلق الظلام فانبلج عنه الصبح المنير وخرق حُجب العدم بخلقه للموجودات.
57- «القديم»: وهو المتقدم للأشياء كلها بلا أول ولا نهاية.
58- «الَملِك»: أي مالك الملك قد مَلَكَ كل شي ء، الحاكم على الكون.
59- «القدّوس»: الطاهر، والتقديس، التطهير والتنزيه عن كل عيب أو نقص.
60- «القوي»: وهو المقتدر بلا معاناة ولا استعانة الذي لايحتاج إلى معين في أفعاله.
61- «القريب»: معناه المجيب فهو أقرب إلينا من كل شي ء، يسمع كلامنا ويجيب دعاءنا.
62- «القيّوم»: أي القائم بذاته الذي يقوم به غيره.
63- «القابض»: الذي يتوفى الأنفس يقال للميت: قبضه اللَّه إليه ومنه قوله عزّ وجلّ في الآيتان 45 و 46 من سورة الفرقان: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمسَ عَلَيهِ دَلِيلًا* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبضاً يَسِيراً»، فالشمس لا تقبض بالبراجم واللَّه تبارك وتعالى قابضها ومطلقها، وهو تعالى الذي يقبض رزق شخص ويوسع رزق آخر حسب ما تقتضيه المصلحة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 36
64- «الباسط»: يقابل القابض فهو المنعم المتفضّل الذي غمر الوجود بفيض رحمته، وقد بسط على عباده فضله واحسانه واسبغ عليهم نعمه.
65- «قاضي
الحاجات»: معناه مشتق من القضاء، ومعنى القضاء من اللَّه عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه: فوجه منها الحكم والإلزام، والثاني الإخبار والثالث الاتمام كقولك قضى اللَّه حاجتي أي أتمّ حاجتي على ما سألته، وهنا يعني قضاء حاجات الخلق.
66- «المجيد»: أي الكريم العزيز، وصاحب المجد والعظمة.
67- «المولى : الناصر والمشرف.
68- «المنّان»: وهو المعطي المنعم، وواهب النعم.
69- «المحيط»: المحيط بالأشياء والعالم بها كلها.
70- «المبين»: البادية آثار قدرته في كل مكان، والظاهر حكمه في عالم «التشريع» و «التكوين».
71- «المقيت»: أي الحافظ والحارس والحامي.
72- «المصوّر»: اسم مشتق من التصوير يصور الصور في الأرحام كيف يشاء، الذي يهب للخلق صورهم.
73- «الكريم»: العزيز ومعنى ثانٍ أنّه الجواد المتفضّل.
74- «الكبير»: معناه السيد العظيم ويقال لسيد القوم كبيرهم والكبرياء اسم التكبر والعظمة.
75- «الكافي»: اسم مشتق من الكفاية، الكافي عباده وكل من توكل عليه كفاه ولا يلجئه إلى غيره.
76- «كاشف الضر»: المفرّج، دافع البلاء والهم والغم يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
77- «الوتر»: معناه الفرد وليس له نظير أو مماثل.
78- «النّور»: معناه المنير، كقوله تعالى في الآية 35 من سورة النور: «اللَّهُ نُورُ السَّماوَاتِ والْأَرْضِ» أي منير لهم وآمرهم وهاديهم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 37
79- «الوهاب»: من الهبة، يهب لعباده ما يشاء ويمن عليهم بما يشاء.
80- «الناصر»: النصير، والنصرة حسن المعونة.
81- «الواسع»: أي الغني، والسعة الغنى فهو الواسع الغني عن كل شي ء.
82- «الودود»: معناه أنّه مودود ومحبوب، ويُقال: بل فعول بمعنى فاعل كقولك: غفور بمعنى غافر أي يود عباده الصالحين ويحبّهم والود والوداد مصدر المودة.
83- «الهادي»: ومعناه، المرشد عباده للحق والعدل، بل الهادي لكل موجود في عالم الخليقة وكل ذي عقل في عالم التشريع.
84- «الوفي»: معناه الذي يفى بعهده وميثاقه.
85- «الوكيل»: المتولي أي القائم بحفظنا ومعنى
ثانٍ أنّه المعتمد والملجأ.
86- «الوارث»: معناه أنّ كل من ملّكه اللَّه شيئاً يموت ويبقى ما كان في ملكه ولا يملكه إلّا اللَّه تبارك وتعالى
87- «البرّ»: الصادق، يقال: بربّ يمين فلان إذا صدقت وأبرها اللَّه أي أمضاها على الصدق، كما يعني المحسن الواهب.
88- «الباعث»: أي أنّه يبعث من في القبور ويحييهم يوم القيامة وينشرهم للجزاء ومنهم الأنبياء.
89- «التوّاب»: معناه أنّه يقبل التوبة ويعفو عن الحوبة إذا تاب منها العبد، يقال: تاب العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ فهو تائب إليه وتاب اللَّه عليه أي قبل توبته فهو تواب عليه.
90- «الجليل»: السيّد، يقال لسيد القوم جليلهم وعظيمهم وجلّ جلال اللَّه فهو الجليل ذو الجلال والإكرام.
91- «الجواد»: المحسن المنعم الكثير الإنعام والاحسان.
92- «الخبير»: العالم المُطلع، يقال لي به خبر أي علم، فهو المطلع على بواطن الأمور والأسرار والاعلان.
93- «الخالق»: الخلّاق، والخلق في اللغة تقدير الشي ء، خلق الخلائق خلقاً؛ وخليقةً:
الخلق، والجمع الخلائق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 38
94- «خير الناصرين»: معناه أنّه فاعل الخير إذا كثُر منه سميّ خيراً توسُّعاً، فنصرته خالية عن العيب والنقص ولا حد لها.
95- «الديّان»: وهو الذي يدين العباد ويجزيهم بأعمالهم، والدين الجزاء.
96- «الشكور»: معناه أنّه يشكر للعبد عمله وهو المحسن إلى عباده المنعم عليهم بأفضل النعم.
97- «العظيم»: السيّد ومعنى ثانٍ: أنّه يوصف بالعظمة لغلبته على الأشياء وقدرته عليها ومعنى ثالث: أنّه عظيم لأنّ ما سواه كلّه له ذليل خاضع فهو عظيم السلطان.
98- «اللطيف»: أي أنّه لطيف بعباده، بارٌ بهم منعمٌ عليهم ومعنى آخر أنّه لطيف في تدبيره وفعله.
99- «الشافي»: معناه معروف وهو من الشفاء الشافي من الأمراض والآلام والأوجاع «1».
كان هذا مجموع الأسماء التسعة والتسعين المُعبرُ عنها في الروايات الإسلاميّة بالأسماء الحسنى لكنّه وكما أشرنا سابقاً
فإنّ تعبير الروايات حول هذا الموضوع ليس واحداً.
ونذكّر مرّة اخرى بأنّ قسماً من هذه الصفات تعبرّ عن كمالات الذات الإلهيّة المقدّسة (صفات الجمال)، وقسماً آخر ينزّهُ ذاته المقدّسة عن أي نقص أو عيب (صفات الجلال) وقسمٌ كبير منها مشتقة من أفعاله (صفات الأفعال).
نضيف إلى ذلك أنّ قسماً من هذه الصفات متقاربة مع بعضها من حيث المعنى على الرغم من التفاوت الظريف والدقيق الموجود بينها في الغالب.
__________________________________________________
(1) توحيد الصدوق، ص 195- 217 (بالاضافة إلى تفاسير اخرى مستفادة من كتب اللغويين والمفسرين).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 39
تناسباً مع بحثنا حول الأسماء الحسنى نتكلم حول الاسم الأعظم أيضاً.
لقد ورد التأكيد في روايات كثيرة على موضوع «اسم اللَّه الأعظم»، ويستنتج منها أنّ من دعا اللَّه باسمه الأعظم استجاب له ولبّى حاجته، لذا فقد ورد في ذيل بعض هذه الروايات:
«والذي نفسي بيده لقد سئل اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطاه وإذا دُعي به أجاب» «1»
. وتعابير اخرى من هذا القبيل، وكذلك فقد ورد في الروايات بأنّ (آصف بن برخيا)- وزير سليمان عليه السلام، الذي جاء بعرش بلقيس من اليمن إلى الشام بلمحة بصر، كان يعرف الاسم الأعظم «2»، وكذلك (بلعم بن باعورا) عالم وزاهد بني اسرائيل- الذي كان مستجاب الدعوة- كان يعرف الاسم الأعظم أيضاً «3».
وقد نقل العلّامة المجلسي روايات كثيرة حول الاسم الأعظم وأيّ الأسماء هو من بين أسماء اللَّه الحسنى لا مجال لذكرها هنا، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «اسم اللَّه الأعظم مقطّع في أمِّ الكتاب» «4».
وكذلك مانقل في بعض الروايات: عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللَّه الأعظم من سواد
العين إلى بياضها» «5».
وقد ذكرت الروايات وآيات قرآنية أسماء مقدّسة اخرى من أسماء اللَّه، والأسماء الحسنى يفوق بعضها البعض الآخر من حيث المعنى (ولزيادة الاطلاع راجع الجزء الثالث والتسعين من كتاب بحار الأنوار).
لكن محور البحث هنا يكمن في أنّ الاسم الأعظم هل هو كلمة، أم جملة، أم آية قرآنية معينة؟ وهل هذه التأثيرات والقدرة كامنة في الألفاظ والحروف بدون قيد أو شرط؟ أم أنّ
__________________________________________________
(1) بحار الانوار، ج 93، ص 225.
(2) سفينة البحار، ج 1، ص 23؛ وبحار الأنوار، ج 14، ص 113.
(3) بحار الانوار، ج 13، ص 377.
(4) بحار الانوار، ج 90، ص 223.
(5) بحار الأنوار، ج 75، ص 371.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 40
تأثيرها ينبع من صياغتها اللفظّية إضافة إلى حالات وشروط خاصّة بالشخص الذي يرفع يديه بالدعاء من حيث التقوى والطهارة، وحضور القلب، والتوجه الخالص للَّه، وقطع الأمل عمّن سواه، والتوكل الكامل على ذاته المقدّسة؟
أم أنّ الاسم الأعظم ليس من سنخ اللفظ؟ وما استعمال الألفاظ إلّاللإشارة إلى حقيقتها ومحتواها، وبتعبير آخر فإنّ مفاهيم هذه الألفاظ. يجب أن تنفذ إلى روح الإنسان فيتخلق بمعناها حتى يصل إلى مرحلة من الكمال بحيث يصير مستجاب الدعوة بل يمكنه- بالإضافة إلى ذلك- أن يتصرف في الموجودات التكوينية بإذن اللَّه.
من هذه الاحتمالات الثلاثة، يستبعد جدّاً أن يكون لهذه الحروف والألفاظ أثر بدون أن يكون لمحتواها ولأوصاف وحالات الشخص دخلٌ في الموضوع، ومع أنّه ورد في بعض القصص الخرافية التي نقلت شعراً ونثراً في بعض الكتب من أنّ عفريت الجن كان يستطيع الاستيلاء على عرش سليمان وأداء أعماله عن طريق معرفته بالاسم الأعظم!! فإنّ مثل هذا التصُّور عن اسم اللَّه الأعظم بعيد جدّاً عن
روح التعليمات الإسلامية، علاوة على هذا فإنّ نفس قصة (بلعم بن باعورا)، التي أخبرت عن أنّه فقد الاسم الأعظم بعد أن انحرف عن التقوى والطريق الصحيح، تدل على أنّ لهذا الاسم علاقة وثيقة جدّاً بأوصاف وحالات الداعي، لذا فالاحتمال الصحيح هو أحد التفسيرين الأخيرين أو كلاهما.
يقول العلّامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان، بعد أن أشار إلى مسألة الاسم الأعظم:
«مع أنّ أسماء اللَّه عموماً واسمه الأعظم خصوصا مؤثرة في عالم الوجود وتعد وسائطاً وأسباباً لنزول الفيوضات في هذا العالم، إلّاأنّ تأثيرها منوط بحقائقها لا بنفس ألفاظها التي تدلّ عليها ولا بمعانيها المرسومة في الذهن» «1». وهذا الكلام يؤيد أيضاً صحة ما ذكرنا.
وتوجد نقطة جديرة بالالتفات أيضاً وهي أنّ هناك تعابير مختلفة للإسم الأعظم في روايات هذا الباب، وكل واحد منها حصر الاسم الأعظم بمعنى معيَّن.
فبعضها عدّت البسملة أقرب شي ء إلى الاسم الأعظم وبعضها حددت اسم اللَّه الأعظم
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 8، ص 372.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 41
في ذكر هذه العبارات: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم لا حول ولا قوّة إلّاباللَّه العلي العظيم» مائة مرّة بعد صلاة الصبح.
وبعضها الآخر في سورة «الحمد» و «التوحيد» و «آية الكرسي» و «القدر».
وبعضها في الآيات الست الأواخر من سورة الحشر.
وبالتالي فبعضها الأخر في: «قُلِ اللَّهمَّ مَالِكَ المُلكِ» إلى قوله: «وَتَرزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ». (آل عمران/ 26- 27)
وغير هذه التعابير «1».
ويمكن أن يكون سبب هذا التفاوت هو تعدُّد الاسم الأعظم، أو تفاوت المقاصد، ولكن المهم في الوقت ذاته هو أنّ طهارة القلب، وخلوص النيّة، والتوجُّه إلى اللَّه، وقطع الأمل عمن سواه، والتخلُّق بهذه الصفات هي التي تخلق روح الاسم الأعظم.
__________________________________________________
(1) بحار الانوار، ج 93، ص 223؛
اصول الكافي، ج 1، ص 107.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 43
1- صفات ذات اللَّه
أ) صفات جمال اللَّه
ب) صفات جلال اللَّه
2- صفات فعل اللَّه
نفحات القرآن، ج 4، ص: 45
«صفات الذات»، و «صفات الفعل».
وصفات الذات تنقسم إلى قسمين أيضاً: صفات الجمال، وصفات الجلال.
والمراد من صفات الجمال، الصفات الثابتة له تعالى كالعلم والقدرة والأزليّة والأبدية، لذا تُسمى «بالصفات الثبوتية». أمّا صفات الجلال فيُراد بها الصفات التي تتنزه ذاته المقدّسة عنها، كالجهل والعجز والجسمانية وما شاكل. لذا تُسمى ب «الصفات السلبية». وكلا النوعين يسميان بصفات الذات، وبغض النظر عن أفعاله سبحانه فهي قابلة الإدراك (أي يُمكن إدراكها).
ويقصد بصفات الفعل الصفات التي لها علاقة بأفعال اللَّه، أي لا تطلق عليه قبل صدور فعل منه، وبعد صدوره يُتصف بها كالخالق والرازق والمحيي والمميت.
ونؤكد مرّة اخرى بأنّ صفات ذاته وصفات فعله لامتناهية، لأنّ كمالاته غير متناهية، وكذلك أفعاله ومخلوقاته لامتناهية ولا محدودة أيضاً.
ولكن مع هذا فإنّ قسماً من هذه الصفات يُعدُّ أساساً لبقية الصفات، والصفات الأخيرة تعتبر فروعاً، وبالالتفات إلى هذه النقطة يمكن القول: بأنّ الصفات الخمس التالية تُعدُّ أصلًا لجميع الأسماء والصفات الإلهيّة المقدّسة، وما سواها تعدّ فروعاً لها، وهذه الصفات الخمس هي:
(الوحدانيّة، العلم، القدرة، الأزليّة، الأبديّة).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 47
(العلم- القدرة- الأزليّة- الأبديّة)
ونظراً لما قلنا آنفاً، نحاول الآن شرح هذه الصفات الأساسيّة الخمس، وبما أننا شرحنا الوحدانيّة سابقاً فإننا سنتعرض إلى شرح الصفات الأربع المتبقيّة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 49
إنّ من أهم صفات اللَّه سبحانه وتعالى بعد التوحيد تتمثل في علمه اللامحدود وإحاطته بكافة أسرار عالم الوجود المترامي الأطراف، وذاته المقدّسة، فلا تخفى عليه خافية ولا شاردة ولا واردة ولا ذرة في هذا العالم الواسع.
لقد أحاط علمه- جلّ وعلا- بكل قطرة غيثٍ تنزل من السماء، وبكل زهرة تتفتح في أغصان الأشجار، وبكل حبّة في ظلمات الأرض، وبكل موجود وكائن حي يسبح في أعماق البحار العميقة المظلمة، وبكل شهاب يضي ء وينطفي في هذه السماء الواسعة، وبكل موجٍ يرتفع ويهدر على سطح المحيطات، وبكل نطفةٍ تنعقد في ظلمات الرحم، وبالتالي بكل فكرةٍ تخطر على بال أحد.
وعلمه بالأزل والأبدِ واحد، وإحاطته العلمية بملايين مليارات السنوات الماضية والمستقبلية كإحاطته بالحاضر، وبحضوره في كل مكانٍ وزمان فلم يبق للبعيد والقريب والماضي والحاضر والمستقبل معنىً، فجميعها متساوية لديه جلّ شأنه.
هذه هي الحقيقة التي تُنتقى من مجموع الآيات القرآنية، والتفكرّ بها له أثر كبير في عقائدنا وأعمالنا. وبعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية:
1- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ». (البقرة/ 231)
2- «قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَو تُبدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّماواتِ وَمَا فِى الأَرضِ». (آل عمران/ 29)
3- «وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّماواتِ وَفِى الأَرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَاتَكْسِبُونَ».
(الانعام/ 3)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 50
4- «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَايَعلَمُهَا إِلّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّا يَعلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرضِ وَلَا رَطْبٍ
وَلَا يَابِسٍ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ».
(الانعام/ 59)
5- «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلّامُ الغُيُوبِ». (التوبة/ 78)
6- «وَمَا تَكُونُ فِى شَأنٍ وَمَا تَتلُوا مِنهُ مِنْ قُرآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلّا كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعزُبُ عَن رَّبِّكَ مِنْ مِّثقَالِ ذَرَّةٍ فِى الأَرضِ وَلَا فِى السَّمَاءِوَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ». (يونس/ 61)
7- «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرضِ وَمَا يَخرُجُ مِنهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعرُجُ فيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (الحديد/ 4)
8- «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ». (الملك/ 14)
9- «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ». (لقمان/ 27)
10- «إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ». (لقمان/ 34)
11- «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالأَرضِ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ». (النمل/ 74- 75)
12- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأَنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسوِسُ بِهِ نَفسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)
«العلم»: في الأصل بمعنى إدراك حقيقة شي ء معين، وهو على نوعين، إدراك ذات الشي، وإدراك صفات الشي ء، والأول يتعدّى إلى مفعولٍ واحد كقولك: (علِمْتُهُ)، والثاني يتعدّى إلى مفعولَين، كقوله تعالى «فَإِنْ عَلِمتُمُوهُنَّ مُؤمِناتٍ». (الممتحنة/ 10)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 51
ومن جهةٍ اخرى فإنّ العلم على قسمين: لأنّه تارة يراد منه الجانب (النظري) وهو ما يرتبط بالمسائل الفكريّة والعقائديّة، وأحياناً اخرى الجانب (العملي) وهو ما يرتبط بالمسائل العمليّة كالعبادات
والمسائل الاجتماعيّة.
ومن جهة ثالثة أيضاً يُقسَّمُ العلم إلى قسمين: (عقلي) و (سمعي)، فالأول يُسْتحصل بالدليل العقلي، والثاني من لسان الوحي، وقد ورد في مقاييس اللغة بأنّ العلم في الأصل بمعنى ذلك الأثر الذي بواسطته يُعرف شي ء معين، لذا فقد وردت كلمة (التعليم) بمعنى وضع العلامات وكلمة (العَلَمْ) بمعنى الراية.
«علّام»:- على وزن جبّار- وعلّامة كلاهما تعنيان العالِم الغزير العلم.
و «العلَمْ»:- على وزن قَلمْ- ورد بمعنى الجبل الشاهق أيضاً، و (العَيْلَم) بمعنى البحر أو البئر الملي بالمياه، كان هذا مجمل ما قاله المحققون حول تفسير كلمة (العِلْم).
بيّنت الآية الأولى بتعبيرٍ مختصر وذي معنى أنّ اللَّه بكل شي ء عليم، بدون استثناء، فقالت: «وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».
وقد تكرر هذا التعبير والتأكيد، في أكثر من عشر مّرات في السور القرآنية المختلفة، بنفس هذه العبارة أو بعبارات مشابهة لها، وهو يمثل أصلًا قرآنياً كلياً في وصف علم اللَّه.
إنّ هذه العبارة من هذه الآية- التي هي محلُّ بحثنا- قد وردت بعد أن ذكرت قسماً من حقوق النساء والأحكام الإلهيّة الخاصة بها، والتي ورد فيها تحذير لذوي الاغراض الخبيثة الذين يرومون استغلال هذه القوانين الإلهيّة بصورة سيئة، وقد بيّن القرآن هذه الجملة في آيات اخرى أيضاً بعد تذكيره بضرورة التزام التقوى أو أحكامٍ اخرى، أو ذكره لبعض الصفات الإلهيّة وما شاكل ذلك، كل هذا من أجل بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ الأحكام التي
نفحات القرآن، ج 4، ص: 52
وضعها اللَّه حكيمة وذات مصالح وأغراض وفلسفة معينة من جهة، وأيضاً فإنّها تحذير لجميع المتخلفين عنها، الذين يعلم اللَّه أعمالهم ونيّاتهم من جهة اخرى والأثر التربوي لهذا الاعتقاد بالنسبة للإنسان واضحٌ، فمن البديهي أنّ الذي يعلم ويدرك بأنّ الأمر صادرٌ ممن
أحاط علمه بجميع أسرار الوجود وكل ما يحتاجه الإنسان، وكذلك يعلم أنّ من يراقبه عالم بكل شي ء، فمن البديهي أن لا يجيز لنفسه ارتكاب أدنى مخالفة.
تحدثت الآية الثانية عن اطلاع اللَّه سبحانه على نيّات البشر، وعلى أسرار جميع موجودات عالم الوجود، فقالت: «قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَو تُبدُوهُ يَعلَمْهُ اللَّهُ».
وكذلك: «وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ».
فهذه الآية أيضاً تحذّر الناس من التهرّب من إنجاز وظائفهم ومسؤولياتهم باختلاق حُجج مختلفة (كحجة التقيّة التي ورد ذكرها في الآية التي سبقتها)، لأنّ الذي يحاسبهم لا يعلم أسرارهم التي يضمرونها في قلوبهم وما في صدورهم فحسب، بل يعلم جميع أسرار السموات والأرض.
ولقد ورد نفس هذا المفهوم والمعنى في سورة البقرة أيضاً، لكنّه- سبحانه- قال هناك:
«وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ». (البقرة/ 284)
ومن المسُلم به هو أنّ المحاسبة فرع من العلم والاطلاع، وتعبير (صدور) الذي ورد في الآية السابقة بمعنى النفوس بقرينة هذه الآية، ثم أنّ وقوع القلب في الصدر، ووجود علاقة وثيقة بين ضربات هذا القلب وبين بقاء الإنسان على قيد الحياة، علاوة على أنّ أي تغيير نفسي يترك أثراً في القلب، كان استعمال القرآن الكريم في آياته لكلمة (القلب) كناية عن الروح والنفس.
وبتعبير آخر، فإنّ أي انفعال نفسي وروحي يقع للإنسان، من قبيل الميول والاغراض
نفحات القرآن، ج 4، ص: 53
الحب والبغض، الفرح والحزن، الخوف والهلع، الهدوء وراحة البال، الجهر والأسرار، سوف تكون له آثار مادية على القلب أولًا، ويكون لهذه الآثار ردود فعل من بينها زيادة أو قلّة ضربان القلب، هدوء القلب أو اضطرابه واختلال في ضغط الدم، كل ذلك استجابة للحالة الروحية التي يتعرض لها الإنسان.
وبغير ذلك
فمن البديهي أنّه لا القلب مركز الاحساسات الروحية ولا الصدر، ولا حتّى الدماغ، وجميع هذه الامور ترتبط بروح الإنسان التي ما وراء هذه الأعضاء ولهذا فقد قيل:
إنّ القلب قد يأتي بمعنى العقل أحياناً «1».
الآية الثالثة- علاوة على ما ورد في الآيات السابقة- تتعرض إلى مسألة علم اللَّه بأعمال الإنسان بشكل خاص، حيث قالت: «وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمواتِ وَفِى الأَرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ».
وقد أوضح القسم الأول من الآية حضور اللَّه في كل نقطة من عالم الوجود، أمّا القسم الثاني فقد ذكر علمه سبحانه، والقسم الثالث إحاطته جلّ وعلا بأعمال الناس وهي بصورة عامّة انذار لجميع الناس «2».
ومن البديهي أنّ المقصود من حضوره- جلّ وعلا- في السموات والأرض لا يُراد منه الحضور المكاني، لأنّه ليس جسماً ليحل بمكان، فحضوره بمعنى الإحاطة الوجودية، فهو سبحانه قد أحاط بكُلّ شي ء علماً، وكل شي ء حاضر عنده.
وأمّا معنى قوله تعالى «ويعلم ما تكسبون»؟ فقد قال بعض المفسرين: بأنّه دليل على
__________________________________________________
(1) لزيادة التوضيح راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 7 من سورة البقرة.
(2) تفسير المنار، والمراغي، في ذيل الآية مورد البحث.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 54
اطلاع اللَّه على السر والجهر «1» (الباطن والظاهر)، وبتعبير آخر اطلاعه على النيات القلبية والأعمال الظاهرية، وقال الآخرون بأنّها إشارة إلى حالات وصفات روحية ومعنوية يبلغها الإنسان بأعماله، وعليه فهي ذات مفهوم جديد مغاير للسّر والجهر «2».
وقال آخرون أيضاً: «السّر هذا بمعنى النيّات والجهر بمعنى الحالات وما تكسبون بمعنى الأعمال» «3»
.
إنّ هذه التفاسير الثلاثة مناسبة كلها، ولكن من خلال تتبع موارد استعمال مادة «كسب» في القرآن الكريم، فإنّ التفسير الثالث يعتبر أقرب إلى الصواب.
بيّنت الآية الرابعة سعة علم اللَّه اللامحدود بتعابير لطيفة اخرى مع ذكر شي ء من التفصيل، فقالت أولًا: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لَايَعلَمُهَا إِلَّا هُو».
ثم أشارت إلى جوانب من الغيب فقالت: «وَيَعْلَمُ مَا فِى البَرِّ وَالبَحْرِ» و: «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعلَمُهَا
وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرضِ»، حتى قال في كلمة شاملة ورائعة: «وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ».
تُعدّ هذه الآية الشريفة من أشمل الآيات القرآنية التي تحدثت عن علم اللَّه اللامتناهي باسلوب دقيق جدّاً.
فابتدأت من علم الغيب إلى ما في البر وأعماق البحر وما تسقط من الأشجار من أوراق، ثم الحبات الخفية في ظلمات الأرض والبراري والجبال والأودية والغابات، التي تنتظر
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 7، ص 79.
(2) تفسير الميزان، ج 7، ص 9.
(3) تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 274.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 55
الغيث لتنبت، فعدتها جميعا ضمن دائرة علم اللَّه المطلق.
لو أمعنا النظر في مفاهيم هذه الآيات وتصورنا آلاف الملايين من الكائنات الحية الموجودة في البر والبحر بأنواعها العجيبة المذهلة. ولو تصورنا مجموع أشجار الكرة الأرضية مع جميع أوراقها وعدد مايسقط منها في كل يومٍ وكل ساعة وكل لحظة، والمكان الذي تسقط فيه، وكذلك لو تصورنا مجموع حبوب النباتات التي تنتقل على سطح الأرض- بواسطة البشر، والرياح وأنواع الحشرات والسيول وماشاكل ذلك- وتنتظر دورها في ظلمات الأرض للإنبات والنمو، وعلمنا بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أحاط علماً بجميع هذه الامور وبجميع مشخّصاتها وجزئياتها، لأدركنا سهولة إحاطته تعالى بأعمالنا.
لقد فسّرت روايات عديدة، منقولة عن أهل البيت عليهم السلام، «ظلمات الأرض» بالرحم و «الحبة» بمعنى الولد، و «الورقة» بمعنى الأجنة الساقطة، و «الرطب» بمعنى النطف التي تعيش و «اليابس» بمعنى النطف التي تموت وتجف.
وأشار بعض مفسّري أهل السنة كالآلوسي في كتابه (روح المعاني) إلى هذا الحديث بتعجب، واعتبره على خلاف ظاهر الآية.
صحيح أنّه وبالنظرة الاولى يبدو من ظاهر الآية أنّها تُشير إلى حبّات النباتات، لكن الحديث أعلاه أشار إلى مفاهيم
تستنبط من هذه الآية بالدلالة الالتزامية، لأنّه لا يوجد تفاوت جذري بين النطفة والحبّة، وهكذا بين باطن الأرض وظلمات الرحم، والعالم بالاولى هو عالم بالثانية بسهولة لأنّهما متشابهتان مع بعضهما «1».
وعلاوة على ذلك فإنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانوا يعلمون باطن القرآن كظاهره، وهذا التفسير يحتمل أن يكون جزءاً من الباطن.
وقد فسّر المفسرون الرطب واليابس بمعان كثيرة، منها أنّهم قالوا: بأنّ الرطب بمعنى الكائن الحي: واليابس بمعنى الميت، أو الرطب بمعنى المؤمن، واليابس بمعنى الكافر، أو الرطب بمعنى الكائن الحي، واليابس بمعنى الجماد، أو الرطب بمعنى العالم، واليابس بمعنى الجاهل «2».
__________________________________________________
(1) ورد في تفسير البرهان خمسة أحاديث في هذا المجال منقولة عن الإمام الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام.
(2) تفسير روح البيان، ج 3، ص 44؛ و تفسير روح المعاني، ج 7، ص 149.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 56
لكن الظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن العموم والشمول في عالم المادة، كما يستعمل أحياناً في التعابير اليومية التي تحتاج إلى هذا المعنى
تشير الآية الخامسة- بقرينة الآيات السابقة لها إلى المنافقين، فتقول: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ» و: «أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الغُيُوبِ».
وتعبير «علّام الغيوب» تعبير جديد يمر علينا في هذه الآية، ونظراً لكون «علّام» صيغة من صيغ المبالغة ولفظ «الغيوب» لفظاً عاماً، فإنّه يشمل جميع خفيات عالم الوجود بأكمله وعالمي الطبيعة وما وراء الطبيعة.
واللطيف هو أنّ جميع الآيات القرآنية التي تناولناها في بحثنا لحد الآن حول علم اللَّه، وردت كتحذير للناس لكي يراقبوا أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم، أي أنّها أشارت إلى المسائل التربوية قبل كل شي ء.
«النجوى»: من نجوة و «نجاة» في الأصل بمعنى المكان المرتفع، ومن حيث إنّ الشخص إذا أراد
أن يحدث صاحبه بسرّ معين فانّه ينفرد به في مكان منعزل، فإنّ هذه الكلمة وردت هنا بمعنى الهمس في الاذن.
تحدثت الآية السادسة في البداية عن شهادة اللَّه على أعمال وأقوال وحالات الإنسان، ثم عن سعة علمه واحاطته بكل شي ء في الوجود، وفي الحقيقة فإنّ لهاتين المسألتين ارتباطاً لطيفاً مع بعضهما، قال سبحانه: «وَمَا تَكُونُ في شَأنٍ وَمَا تَتلُوامِنهُ مِنْ قُرآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذ تُفيضُونَ فِيهِ» «1»
.
__________________________________________________
(1) ذكر المفسّرون ثلاثة احتمالات حول مرجع ضمير (منه): الأول أنّه يعود إلى (اللَّه) والثاني ضمير (الشأن) والثالث على (القرآن) لكننا نعتقد بأنّ الاحتمال الأول أقوى ويصير مفهوم الآية كالتالي: (وما تتلو أيّ قسمٍ من القرآن عن اللَّه عزوجل إلّا ....) والدليل على هذا التفسير هو الآية السابقة لهذه الآية والتي تقول: (ما معناه) (بأن ما كان ينسبه الكفار إلى اللَّه تعالى إنّما هو كذب وافتراء) فقالت هذه الآية: بأنّ نبي الإسلام منزّه عن القيام بمثل هذه الأعمال وأنّ جميع ما يخبر به هو من عند اللَّه.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 57
والجدير بالذكر هو أنّ المخاطب في الجملتين الأوليتين هو الرسول صلى الله عليه و آله، حيث أشارت إلى الشأن، (أي الحالات والأعمال المهمّة)، وتلاوة القرآن الكريم، أمّا المخاطب في الجملة الثالثة التي تحدثت عن مطلق الأعمال، فهم الناس بأجمعهم.
وعلى أيّة حال، بما أنّ المخاطب في بداية الآية هو الرسول صلى الله عليه و آله وفي الذيل هم جميع الناس، فانّها تدل على العموم والشمول.
وعلاوة على ذلك فهي تشمل حالات الإنسان وأقواله وأعماله (الاستناد إلى تعابير الشأن والتلاوة والعمل).
و «الشهود»: جمع «شاهد»، وهو بمعنى الحاضر والناظر والمراقب (واستعمال صيغة الجمع بخصوص الباري-
كما وضّحنا هذه المسألة كراراً- إنّما هو كناية عن عظمته وعلو مقامه سبحانه وتعالى ، ولهذا التعبير مفهوم أوسع من مفهوم العلم، وهو في الواقع يشير إلى حقيقة كون علم اللَّه علماً حضورياً، وسنشرح ذلك في قسم التوضيحات.
«تفيضون»: من «الافاضة» وهي في الأصل بمعنى امتلاء الإناء بالماء بحيث ينساب من حافته، وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الشروع بالأعمال باقتدار أو بصورة جماعة، وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى أيضاً.
ثم أضاف سبحانه قائلا: «وَمَا يَعزُبُ عَنْ رَّبِّكَ مِنْ مِّثقَالِ ذَرَّةٍ فِى الأَرضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ».
«يعزب»: من «العزوب»- على وزن «غروب»- وهو بمعنى البعد والانزواء والغيبة، وقال بعض اللغويين والمفسّرين: بأنّه بمعنى الابتعاد عن العائلة وفراق الأهل لتحصيل مرتع للمواشي، ويُطلق «عزبْ» و «عازب» على كل من يبقى بعيداً عن أهله، أو كل من لم
نفحات القرآن، ج 4، ص: 58
يتزوج أيضاً، وكذلك يُطلق على أي لون من الفراق والغيبة «1».
ويعد هذا التعبير في هذه الآية إشارة لطيفة إلى حضور جميع الأشياء بين يدي اللَّه، فحقيقة علم اللَّه هو هذا «العلم الحضوري، كما سنذكره فيما بعد.
وكما قلنا سابقاً فإنّ المقصود من «الكتاب المبين» هو علم اللَّه الذي يعبَّر عنه ب «اللوح المحفوظ» أيضاً، والمثقال معناه، «الوزن» و «الذرة» فسرت بعدة وجوه منها: الديدان الصغار والغبار الذي يلتصق باليد، وذرّات الغبار العالقة في الفضاء والتي تُرى عندما تدخل أشعة الشمس في الغرفة المظلمة، وأيا كان من هذه التعابير فإنّه كناية عن منتهى الصغر والدقة في الحجم وتلويح بسعة علم اللَّه سبحانه وتعالى
في الآية السابعة نلاحظ نقطتين جديدتين في مجال علم اللَّه: «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ
فِى الأَرضِ وَمَا يَخرُجُ مِنهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعرُجُ فِيهَا».
وعليه فهو يعلم بكل مايلجُ في الأرض من جميع بذور النباتات وقطرات الغيث وجذور الأشجار والمعادن والذخائر والكنوز والدفائن وأجساد الموتى وأنواع الحشرات التي تتخذ من أعماق الأرض بيوتاً لها.
وكذلك يعلم بكل النباتات التي تنبت في الأرض وتخرج منها، والكائنات الحيّة التي تخرج منها، والمعادن والكنوز التي تظهر، والمواد المنصهرة التي تخرج من بطون الأرض على صورة براكين، وعيون الماء الصافية أو المياه المعدنية الساخنة التي تنبع من الأرض، وأشعة الشمس الحيوية، وقطرات الغيث التي تسقط من السماء، والشُهُب والنيازك
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 59
والحبّات التي تنقلها الرياح من مكان إلى آخر، وكذلك يعلم بما يعرج إلى السماء من الملائكة وأرواح الناس، وأنواع الطيور والغيوم التي تتكوّن من مياه المحيطات والبحار، وبالتالي فهو سبحانه قد أحاط علماً بأدعية وأعمال الناس التي تعرجُ إلى السماء.
ولو أمعنا النظر في هذه الحقيقة أي بأنواع الكائنات الموجودة في هذه العناوين الأربعة، لأدركنا عظمة وسعة علم اللَّه.
والنقطة الاخرى هي قوله سبحانه في نهاية الآية: «وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ».
فما أجمله وألطفه من تعبير؟ إنّه تعالى يقول: إن كان الحديث في بداية الآية عن علم اللَّه بمختلف الموجودات الأرضية والسماوية فإنّ هذا لا يعني أبداً أن تعبدوهُ بعيداً عنكم، فإنّه معكم أينما كنتم، وهو يرى أعمالكم، فإنّه لم يقل: «يعلم» بل قال: «بصير» وهذا دليل على الحضور والمشاهدة.
واللطيف في هذه الآية هو الاستعانة بمسألة علم اللَّه لتربية الإنسان أيضاً.
فمن جهة تقول- هذه الآية- للإنسان: إنّك لست وحيداً فهو تعالى معك أينما كنت، فتمنح بذلك لروحه السكينة، ولقلبه الصفاء،
ومن جهة اخرى تقول له: أنت بين يدي اللَّه والعالم كُله في قبضته فراقب أعمالك جيداً. وبهذا الترتيب تجعله دائماً بين الخوف والرجاء.
ومن البديهي فإنّ هذه المعيّة لا تعني الحضور المكاني بل هي إشارة إلى احاطة علم اللَّه بكل شي ء.
جاءت الآية الثامنة باستدلال واضح، ملموس لإثبات علم اللَّه المحيط بكل شي ء وبجملة مختصرة وغنية جدّاً، كما هو شأن القرآن الكريم- حيث قال تعالى «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ» «1»
.
__________________________________________________
(1) يوجد احتمالان في معنى هذه الجملة في الآية الشريفة، الأول: أن تكون (من) فاعل ل (يعلم). والآخر: أن تكون (من) مفعولًا وفاعله ضمير مستتر يعود على (اللَّه). ففي الصورة الاولى يكون معنى الآية هكذا: «هل أنّ الخالق لا يعلم؟» وفي الصورة الثانية يكون المعنى «هل أنّ خالق الكائنات لا يعلم بها» والنتيجة واحدة بالرغم من أنّ الأول أقرب.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 60
لو أردنا أن نشرح هذا الدليل بشكل بسيط نقول: بأنّ نظام موجودات الكون يدلّ على أنّها- الموجودات- خلقت وفق خطة وأهداف معينة وبرنامج دقيق، وعليه فإنّ خالق هذه الموجودات يعلم بجميع أسرارها حتى قبل خلقها.
ولو التفتنا إلى مسألة ديمومة واستمرار خلق اللَّه، وأنّ جميع الممكنات مرتبطة مع واجب الوجود في الوجود وفي البقاء، وفيض الوجود يفيض من ذلك المبدأ الفيّاض على المخلوقات في كل آن، لأدركنا بأنّ علمه وإحاطته بجميع موجودات عالم الوجود دائم وسرمدي وفي كُل مكان وزمان، فتأمل.
والجدير بالالتفات هو أنّ الآية ابتدأت باستفهام استنكاري، فهي تطلب الإجابة من سامعها، أي أنّ الموضوع بدرجة من الوضوح بحيث إنّ كل من يراجع عقله ووجدانه يعلم أو يدرك بأنّ الخالق لأي شي ء خبير به حتماً «1».
و «لطيف»: من ماة «لطف»، وهو
هنا بمعنى خالق الموجودات اللطيفة والأشياء الظريفة والدقيقة جدّاً، أو بمعنى من أحاط بها علماً.
وقالوا أيضاً في معنى الخبير: بأنّه من يعلم بالأسرار الخفية، ووصفه تعالى بهاتين الصفتين تلويح عن علمه بأسرار الكون ورموزه الخفية.
والجدير بالملاحظة هو أنّ اللَّه قد خاطب الناس قبل هذه الآية فقال: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُم أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ». (الملك/ 3)
ثم طرح الاستدلال المذكور أعلاه لإثبات هذه القضية. وعليه فإنّ الاستناد إلى هذه الآية في الاستدلال على إثبات علم اللَّه سبحانه يدلّ على أثرها التربوي أيضاً.
يتّضح ممّا قِيل حول تفسير هذه الآية بأنّ مفهومها واسع جدّاً، وينبغي أن لا تحدد بعلم اللَّه بأعمال الناس ونيّاتهم وعقائدهم فحسب، بل هي في الحقيقة دليل كُلي ومنطقي على علم اللَّه، وقد جاءت لتوضيح جانب تربوي معين.
__________________________________________________
(1) الاستفهام الاستنكاري يعطي معنى النفي، ووجود لا النافية في الآية يصبح نفي النفي إثبات.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 61
تناولت الآية التاسعة مسألة سعة علم اللَّه سبحانه، حيث جسمت هذه المسألة أمام نظر الجميع بالأعداد والأرقام حيث قالت: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
قد وردت في سورة الكهف آية مشابهة لهذه الآية مع فارق بسيط، فلنبدأ بالاحصاء هنا ولنتأمل قليلًا لنرى هل من الممكن أن نحصل على عشرات الأقلام من شجرة واحدة تكفي- الأقلام التي حصلنا عليها من عدد من الأشجار- لكتابة جميع علوم الإنسان المدونة في الآف الكتب منذ الآف السنين ولحد الآن؟ من المحتمل أننا نحتاج لحل هذه المعضلة إلى حوض من الحبر بحجم المسابح الصغيرة.
فلْنتصّور إذن المقدار الخيالي لجميع الغابات والأشجار في جميع البساتين، والكثير من البراري
والجبال ولْنتصور ملايين الأمتار المكعبة من مياه المحيطات والبحار، الذي يبلغ ثلاثة أرباع حجم الكرة الأرضية، بعمقه الكبير، ثم نضيف على هذا الرقم الخيالي سبعة أمثاله (هذا إذا اعتبرنا العدد 7 يدلّ على نفس العدد لا على قصد الكثرة) لنتج لنا رقما خيالياً عجيباً! فأي علم يحيط به؟
والأكثر من هذا أنّ القرآن الكريم يقول: إنّها جميعاً تنفد ولا تنفد كلمات اللَّه، فهل يوجد تعبير أقوى وأبلغ من هذا التعبير الدال على لامحدودية علم اللَّه؟ فذكر الأعداد والأرقام، وإضافة الأصفار إلى جانب عدد معين لا يمكنه أن يعكس عظمة ذلك العدد، فكأنّ الأعداد جامدة لا قيمة لها، لكن العدد الذي ورد في هذه الآية، كناية عن اللانهاية هو عدد محسوس وناطق وغني.
أمّا كلمة «البحر» فنظراً لكون الالف واللام الموجودة فيه تدلّ على العموم في مثل هذه الحالات، لذا فهي تعم جميع البحار الموجودة على سطح الأرض. وبغض النظر عن ذلك فإنّ جميع بحار الأرض متصلة مع بعضها، فهي تعتبر بحراً واحداً ويصحّ استعمال صيغة المفرد فيها.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 62
لذا فإنّ المقصود من «سبعة ابحر» هو إضافة سبعة أمثال جميع البحار الموجودة على سطح هذه الأرض إلى مقدارها الأصلي، و «كلمات اللَّه» علمه سبحانه، أو الموجودات التي أحاط بها علمه. ومن حيث إنّ علمه لامتناهٍ وجميع البحار والأشجار- الموجودة- متناهية، لذا من البديهي أن تكون عاجزة عن احصاء علمه.
واللطيف هو تعبيره سبحانه في الآية بكلمة «شجرة» بصيغة المفرد، و «أقلام» بصيغة الجمع للدلالة على إمكان صياغة الأقلام الكثيرة من ساق وجذع واحد.
وبالرغم من أنّ هناك احتمالين حول المقصود من العدد سبعة وهما: «العدد» و «الكثرة»، لكنّه يظهر من الآية بأنّ المقصود منه الكثرة لا العدد،
أي مهما أضيفت إليه أبحر اخرى أيضاً فإنّ كلمات اللَّه بالرغم من ذلك لانفاد لها.
والجملة الأخيرة من هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» تؤكد هذه المسألة أيضاً، لأنّ اللَّه تعني قدرته اللامتناهية في الخلق والإيجاد، وحكمته أيضاً تدلّ على إحاطته علماً بدقائق وأسرار موجودات العالم.
والأخير حول هذه الآية هو أنّه نقل عن شأن نزولها بأنّ جماعة من اليهود قالوا: بأنّ اللَّه قد ذكر كل شي فى التوراة ولم يُبق شيئاً فقال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: مثل ما ورد في التوراة بالنسبة إلى كلام اللَّه كالقطرة من البحر، فنزلت هذه الآية وبيّنت سعة علم اللَّه.
وروي كذلك بأنّ هذه الآية نزلت عندما قال جماعة من الكفار: إنّ ما يأتي به محمد سينتهي قريباً، فردهم الرسول صلى الله عليه و آله: بأنّ هذا كلام اللَّه ولا نفاد له، فنزلت هذه الآية لتبيان هذا المعنى «1».
لقد عرضت الآية العاشرة أيضاً قسما آخر من علم اللَّه تعالى وهو العلوم الغيبيّة المخصوصة بذاته المقدّسة، وأكدت بأنّ لا أحد يحيط بحقيقتها سواه، قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 25، ص 117؛ و تفسير القرطبي، ج 8، ص 5158.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 63
عِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرحَامِ». (من حيث نوع الجنس وما يتعلق به والسلامة، ومن حيث سائر الاستعدادات والقدرات الاخرى . «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ».
ما ذُكر في هذه الآية من علم اللَّه يعكس بوضوح موعد القيامة، لكن لحن الآية يدلّ على اختصاص علم الامور الأربعة المذكورة بعد هذا الأمر باللَّه سبحانه أيضاً، لأنّه لا يُرى تشابه بين هذه
المواضيع الخمسة سوى من حيث كونها علوماً خاصّة باللَّه سبحانه، علاوة على ماصرحت به الكثير من الروايات المنقولة من طرق الشيعة والسنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام، حول اختصاص هذه العلوم الخمسة بذاته المقدّسة جلّ وعلا، وكنموذج ننقل هنا حديثاً من تفسير (الدر المنثور) وآخر من تفسير «نور الثقلين»:
1- ورد في (الدر المنثور) عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «ومفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلّا اللَّه، لايعلم ما في غدٍ إلّااللَّه، ولا متى تقوم الساعة إلّااللَّه، ولا يعلم ما في الأرحام إلّا اللَّه، ولا متى ينزل الغيث إلّااللَّه، وما تدري نفس بأي أرض تموت إلّااللَّه» «1»
.
2- ورد في (نور الثقلين) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ألا أخبركم بخمسة لم يُطْلع اللَّه عليها أحداً من خلقه؟ قلت: بلى قال: إنّ اللَّه عنده علم الساعة ويُنزلُ الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت إنّ اللَّهَ عليمٌ خبير» «2»
.
وقد وردت روايات كثيرة اخرى أيضاً في كتب الحديث حول هذا الموضوع «3».
الإجابة عن سؤالين:
السؤال الأول: كيف أنّ هذه العلوم الخمسة مختصة باللّه سبحانه وتعالى مع أنّه من الممكن تشخيص جنس الجنين (ذكر أم انثى بوسائل معينة؟ وإن لم تكن هذه المسألة
__________________________________________________
(1) تفسير درّ المنثور، ج 5، ص 169.
(2) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 218.
(3) للمزيد من الاطلاع يراجع تفسير درّ المنثور، ج 5، ص 169 وما بعدها؛ وتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 218 وما بعدها؛ وتفسير البرهان ج 3، ص 280.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 64
قطعية لحد الآن، وكذلك نزول الغيث حيث يستنبأ
بنزوله قبل هطوله بقليل.
الجواب: الكلام لا يدور فقط حول جنس الجنين بل إنّ اللَّه سبحانه يعلم عدد الأجنة الموجودة في الأرحام، ووضعيتها واستعداداتها وأذواقها، ومواهبها، وقدراتها وضعفها وجميع خصوصياتها، وهكذا عن الغيث، فقد أحاط علمه بكمية الغيث ونوعيته وعدد قطراته ووزنها ومحل سقوطها. ولا أحد يمكنه أن يحيط علماً بهذه الأمور وبأي وسيلة كانت.
والشاهد على كلامنا هذا هو حديث ورد في نهج البلاغة حول تفسير هذه الآية:
«فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ ما فِي الْارْحامِ مِنْ ذَكَرٍ او انْثى وَقَبيحٍ اوْ جَميلٍ وَسَخِيٍّ اوْ بَخيلٍ ...
فَهذا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذي لايَعْلَمُهُ احَدٌ الَّا اللَّهُ» «1».
تدلّ هذه العبارة بوضوح على أنّ المقصود هو العلم بجميع صفات الجنين الجسمية والروحية، لا جنس الجنين فقط.
السؤال الثاني: كيف يمكن الجمع بين هذه الآية والروايات الكثيرة التي وردت في تفسيرها وبين الروايات الكثيرة التي صرحت بأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا يُخبرون عن حوادث المستقبل، أو يوم وفاتهم، ومحل دفنهم، وسائر الامور المستقبلية، ألا يوجد تعارض بين هاتين المجموعتين؟ لأنّ الآية تقول: «وَمَا تَدرِى نَفسٌ مَّاذَا تَكسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ»؟
الجواب: يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأنّ الفرق هو في الإجمال والتفصيل بتوضيح أن ما يخبر به أولياء اللَّه أو الملائكة عن حوادث المستقبل وعلم الغيب ليس إلّاعلماً إجماليّاً، فمثلًا يعلمون بأنّ الشخص الفلاني سيموت في الغد، أمّا العلم بساعة ولحظة وفاته وبقية خصائصها فهو مختص به سبحانه، فهذا علم تفصيلي وكلي وشامل، في حين أنّ علم أولياء اللَّه علم إجمالي وجزئي.
وقد أراد بعض المفسرين الرد على هذا الإشكال عن طريق العلم الذاتي والعرضي
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 128.
نفحات القرآن، ج 4،
ص: 65
فقالوا: إنّ علم اللَّه بهذه الامور ذاتي، وأنّ أولياء اللَّه لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فعلمهم إنّما هو بتعليم اللَّه (أي أنّ علمهم عرضي).
لكن هذا الجواب لا يتناسب مع الكثير من الروايات المنقولة من طرق الشيعة والسنة في هذا المجال، بل وحتى لا يتطابق مع ظاهر الآية في ثلاثة موارد: أحدها انحصار علم الساعة به سبحانه، وكذلك ما تدري نفس ماذا تكسبُ غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت.
أشارت الآية الحاديةُ عشرة إلى علم اللَّه بسرّ الإنسان وعلانيته، وغيب السموات والأرض، قال تعالى
«وَانَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الَّا فِى كِتَابٍ مُّبيْنٍ».
وتعبيره سبحانه «ربك» إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة: فهل يمكن أن يكون المربي ومالك التدبير والتصرف لكل المخلوقات أن لا يحيط علماً بالحالات الباطنية والظاهرية لمن يربيه ومن هو تحت تصرفه؟ وهذه الربوبية هي بذاتها الدليل على علم اللَّه سبحانه وتعالى
«تكن» من مادة «كن» على وزن «جن». بمعنى الستارة وكل مايمكنه أن يحجب الأشياء، وقد وردت الصدور هنا كغطاء ساتر على الأسرار الباطنية، وكما أشرنا سابقاً فإنّ كلمتي الصدر والقلب قد وردتا في الكثير من التعبيرات القرآنية بمعنى الروح والعقل.
وكلمة «غائبة» إذا كانت ذات معنى وصفيّ فهي كناية عن الامور المحجوبة والخفية جدّاً. (لأنّ التاء المربوطة تأتي في مثل هذه الحالات للمبالغة كما في (علامة) «1».
__________________________________________________
(1) اعتقد بعض المفسرين كالزمخشري في كشافه بأنّ لهذه الكلمة معنى اسمياً لا وصفياً مثل (عاقبة)، و (ذبيحة)، ولو أنّه احتمل المعنى الوصفي أيضاً (تفسير الكشاف، ج 3، ص 382)، وذكر البعض الآخر كلا الاحتمالين للآية المذكورة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 66
وقد وردت كلمة «مبين»
بمعنى واضح، وبمعنى موضَّح (لازم ومتعدي)، والمعنى الثاني هنا أقرب، أي أنّ اللوح المحفوظ أو لوح علم اللَّه مبين وكاشف للحقائق «1».
وفي الآية الثانية عشرة تعابير جديدة ولطيفة حول علم اللَّه، فقد طرحت فيها أيضاً مسألة علم اللَّه كتحذير لجميع الناس ليراقبوا أفكارهم ونيّاتهم، وماتكن صدورهم، قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ اقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيْدِ».
أشارت هذه الآية إلى قسمين من علم اللَّه تعالى
الأول: يعتمد على مسألة خلق الإنسان، أي كيف يمكن أن يجهل الخالق الحكيم فعله؟
خصوصاً وأنَّ خلقهُ مستمر وفيضه ينزل كُلَّ لحظة على جميع موجودات عالم الوجود، وبتشبيه ناقص، هو التيار الذي ينبعث من المولد الكهربائي ويزود المصابيح بالنور باستمرار.
والثاني: هو أنّه غير بعيد عن مخلوقاته، فهو أقرب إليهم من أنفسهم، لذا فحضوره الدائمي وقربه يعد دليلا آخر على إحاطته بجميع الامور.
وقد ذكرت في كتب التفسير واللغة تفاسير متعددة بخصوص كلمة «وريد» منها: أنّ (الراغب) فسره بمعنى الشريان الذي يتصل بالقلب والكبد، وقال جماعة: إنّه بمعنى وريد الرقبة.
وقال آخرون: إنّه بمعنى الوريد الذي يتصل بالفم أو تحت اللسان وفسره جماعة بأنّه بمعنى جميع الأوعية الدموية الموجودة في البدن. وبديهي فإنّ المعنى الأول (الشريان
__________________________________________________
(1) قال جماعة بأنّ «مبين» من مادّة «بيان» وهي في الأصل بمعنى الانكشاف والوضوح بعد الابهام والإجمال بوسيلة منفصلة لذا فهي تعطي معنى الانفصال ومعنى الوضوح معاً.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 67
الرئيسي الأبهر) أكثر تناسباً مع مفهوم الآية، لأنّه أراد أن يبيّن قرب اللَّه الشديد من الإنسان، وهذا المعنى أقرب خصوصاً مع ملاحظة وجود وريدين في الرقبة.
والتعبير بكلمة «حبل» يُشير أيضاً إلى أنّ المقصود ليس جميع أوردة البدن، بل الرئيسة منها،
وكما عبر البعض حيث قالوا: بأنّ المقصود هو الأوردة التي لها منزلة الأنهار لا الجداول.
وعلى أيّة حال فهذه الكلمة مشتقة من كلمة (ورود) أي بمعنى الوصول إلى الماء- التي لها تناسب واضح مع أوردة الدم.
ومن هنا يعبر عن الأزهار بالورد، أي الثمرة الاولى التي ترد من الشجرة «1».
«توسوس»: من الوسوسة والوسواس، وهو بمعنى الصوت الهادى ء الخارج من آلات الطرب، والنداء والصوت الخفي، والخواطر القلبية، والتصورات الفكرية الخاطفة، والأفكار غير المرغوبة «2».
وعلى أيِّ حال، فعندما يحيط اللَّه تعالى بالخواطر الفكرية الخاطفة، فإنّه لا يبقى مجالٌ للشك والترديد بأنّه سبحانه يحيط علماً بسائر أعمالنا وأفعالنا واعتقاداتنا. وتعبيره: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إضافة إلى كونه تحذيرا، فهو ينزل علينا نوعا من السكينة الباعثة للأمل، ونور هذا الأمل هو الذي ملأ جميع أجزاء وجودنا.
أليس عجيباً أن يبتعد الإنسان من محبوبه بعد أن يعلم بأنّه أقرب إليه من نفسه؟ من الذي يقاسمنا ألم هذه المصيبة عندما يكون المحبوب قريباً من الإنسان ولكن الإنسان يحترق بنار الهجران؟
نحن أقرب قال من حبل الوريد أنت قد هاجرت عنه وتوغلّت بعيد أيّها المالي قوساً من نبال قَربُ الصيد وترمي للجبال!! وبضم الآيات القرآنية المذكورة إلى بعضها، يتضح بأنّ القرآن الكريم قد وضع برنامجاً دقيقاً واسعاً لتبيان علم اللَّه وإحاطته اللامحدودة بجميع الامور بذكر أدلة دقيقة ضمن عبارات مختلفة، وجعلها أساساً لتربية الإنسان في جميع الاحوال!
إنّ الأهميّة الخاصة التي أولاها القرآن الكريم لهذه المسألة تنبع أولًا من الدور المهم لمسألة علم اللَّه في بحث معرفة اللَّه، حيث تقرب الإنسان إلى ربّه وتعرفه به، وتجعله يراه في كل مكان، وأنّ معرفة اللَّه بدون معرفة جوانب علمه تعتبر ناقصة وضعيفة جدّاً.
ومن حيث
إنّ لجميع المعارف انعكاساً على أعمالنا وتصرّفاتنا الفردية والاجتماعية، وكون هذه المسألة تنبع من العلاقة الوثيقة بين (الأيديولوجية) و (النظرة العالمية) فإنّ لإدراك علم اللَّه اللامحدود آثاراً تربوية وهي كالتالي:
فمن جهة نجد أنّ الاعتقاد بوجود رقيب عليم عظيم له تأثير في ترغيب وردع الإنسان في انجاز أعماله، فعندما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ اقْرَبُ الَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» وقوله: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَاتُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ» وقوله: «وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّماءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلَا أَكْبَرَ ...» وقوله «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ... وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلَمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ»، أو قوله سبحانه:
«وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً». (الإسراء/ 17)
فإنّه تحذير شديد لجميع بني البشر وإشعار بالخوف والرجاء في كل مايصدر منهم من عمل.
ومن جهة آخرى فإنّ الاعتقاد بأنّ الناظر والرقيب علينا هو ولي نعمتنا، كأنّه يقول لنا:
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب؛ ومقاييس اللغة؛ ولسان العرب؛ وتفسير الميزان؛ والفخر الرازي؛ والقرطبي؛ وفي ظلال القرآن وغيرها من التفاسير.
(2) «وسواس» اسم مصدري، و «الوسواس» بكسر الواو ذو معنى مصدري، وقد تأتي الكلمة (اسم فاعل) أي الشيطان، (لسان العرب).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 69
«كيف تستعينون بنعم اللَّه وعطاياه على معصيته»؟!
ومن جانب ثالث فإنّ هذه المراقبة تُحيي بصيص الأمل في قلب الإنسان، ويشعر بعدم كونه وحيداً في مواجهة الحوادث، بل يشعر بأنّ الرقيب هو من يحيط علماً بجميع الكون ومشاكله وأسراره الباطنية والعلنية، وهو سبحانه وتعالى قدير ورحيم في نفس الوقت.
وهذه العقيدة ترفد الإنسان بالقوة والاستقامة في مواجهة المواقف الصعبة.
ومن جانبٍ
رابع فإنّ الالتفات إلى سعة علم اللَّه تعالى يدلنا على سعة وعظمة عالم الوجود، وعمق أسرار عالم الخلق والتكوين، وهذا بحدّ ذاته يمكن أن يكون دافعاً مهمّا نحو التطور العلمي.
ذكر الفلاسفة والمتكلمون أدلّة عديدة لإثبات علم اللَّه بجميع الأمور، أهمها الأدلّة الثلاثة التالية: (والطريف هو أنّ الآيات المذكورة أشارت إلى جميع هذه الأدلة):
إنّ النظام المذهل الموجود في هذا الكون، والقوانين الدقيقة التي تُسيِّر جميع ذرات الوجود، ابتداءً من الذرّة وانتهاءً بالمنظومات والكواكب السيّارة، وابتداءً من الموجودات المجهرية وانتهاء بالإنسان الذي هو أرقى نموذج في الخلق، ومن الأعشاب الاحادية الخلية التي تعيش في أعماق المحيطات، وحتى الأشجار العظيمة التي يبلغ طولها خمسين متراً!
وهكذا النظم المعقدة العجيبة التي تسيطر على روح الإنسان وقلبه، والتنوع المذهل الملحوظ في الكائنات الحية، من النباتات والحيوانات، والذي تبلغ أنواعها مئات الآلاف، فهذه جميعاً تدل على علم اللَّه اللامحدود.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 70
فهل يمكن أن يصنع أحد شيئا ويجهل أسراره؟
فخالق العين ونظام المخ المعقد، والمدارات الألكترونية العجيبة التي تدور حول نواة الذرّة، فهو عالم ومحيط بها جميعاً.
وعليه فكما يدلنا برهان النظم على وجود اللَّه فإنّه يثبت عدم محدودية علمه أيضاً.
ونظراً إلى أنّ مسألة الخلق أمرٌ مستمر ودائمي فإنّ الموجودات في حال «الصيرورة» المستمرة لا «الإيجاد» الأول فحسب، وأنّ ارتباطهم مع منشي الخلق لا يمكن أن يكون في البداية فقط، بل هو مستمر مع استمرار حياتهم ووجودهم، فسوف تثبت إحاطته العلمية بجميع الأشياء وفي كل حالٍ ومكان وزمان أيضاً.
ثبت في بحوث معرفة اللَّه أن واجب الوجود هو اللَّه وحده سبحانه، وما سواه ممكن الوجود، وثبت أيضاً بأنّ الممكنات محتاجة وتابعة له في الوجود والبقاء معاً، وبتعبيرٍ آخر الجميع حاضر بين يديه، وهذا الحضور الدائمي دليلٌ على علمه بجميع الأمور، لأنّ العلم بحقيقة المعلوم ليست إلّاحضور ذات المعلوم عند العالم.
بغض النظر عن مسألة العلّة والمعلول، فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى وجود غير مُتناهٍ من جميع الجوانب، لذا لا يخلو منه مكانٌ أو زمان (مع أنّه لايحدّه مكان أو زمان)، لأننا لو افترضنا خلو مكان أو زمان من وجوده تعالى فقد حددناه.
لذا فعدم تناهيه يدلّ على حضوره وإحاطته بجميع الوجود، أو بتعبير آخر كُل شي ء ماثل بين يديه.
فهل يمكن أن يكون العلم غير هذا الحضور؟
وفي الحقيقة أنّ موانع العلم إمّا أن تكون حجب مادية، وإمّا بُعد المسافة، ونحن نعلم انتفاء هذه الامور عن ذات الباري.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 71
وكما أشرنا في بداية هذا البحث فإنّ في الآيات المذكورة أعلاه إشارات واضحة حول هذه الأدلة العقلية التي تعبّر عن متانة الدليل القرآني ومنطقه المتفوق، وقد أشرنا إليها ضمن تفسير الآيات.
كما أنّ حقيقة العلم من البديهيات، وهذا المعنى من الواضحات أيضاً، حيث إننا نمتلك نوعين من العلم وهما مختلفان تماماً:
النوع الأول: نحن نعلم وندرك وجودنا، وإرادتنا، وميولنا، حُبّنا وبغضنا، مايدور في اذهاننا، بدون حاجة إلى أي وساطة، ونحيط علماً بأنفسنا، وأفكارنا وحالاتنا الروحية ماثلة بين أيدينا، ولا حجاب فيما بيننا وبينها. (ويدعى هذا النوع بالعلم الحضوري).
النوع الثاني: نحن نعلم بما يُحيط بنا من الموجودات أيضاً ولكن من المسلَّم به أنّ السماء والأرض والنجوم لا توجد في اعماق وجودنا وفي دخائل أرواحنا وأفكارنا، بل نفذت صورها إلى أذهاننا عن طريق آثارها، وفي الحقيقة أنّ ما عرفناه عنها هو تلك المفاهيم التي نفذت إلى أعماقنا، وهذا النوع من العلم يدعى بالعلم الحصولي.
وعلم اللَّه بجميع موجودات العالم من النوع الأول، لأنّه موجود في كل مكان، ويحيط بكل شي ء احاطة وجودية، ولا شي ء بعيد عنه سبحانه.
فهو سبحانه لا يحتاج إلى
الحواس وانعكاس صور الموجودات في الذهن، ولا إلى المفاهيم الذهنية أبداً، وعلمه بكل شي ء علم حضوري.
إنّ محاولات الإنسان المستمرة لكشف أسرار الوجود، التي شغلته منذ اليوم الأول من
نفحات القرآن، ج 4، ص: 72
حياته. والتي لها وقعاً في قلبه قد اصطحبت معها كنوز من العلوم والمعارف التي يمكن أن ندرك أبعادها بمشاهدة ملايين الكتب الموجودة على رفوف المكتبات العالمية الكبيرة، والتي بلغ عدد الكتب في بعضها خمساً وعشرين مليون كتاب.
صحيح أنّ بعض هذه الكتب مكررة أو مترجمة عن بعضها الآخر، لكنه لاريب في احتوائها على حقائق كثيرة غير مكررة ناجمة عن المساعي الفكرية والتجريبية لكل المجتمع البشري على مدى التاريخ، بغض النظر عن العلوم التي بقيت في أذهان العلماء ودفنت معهم.
لكن جميع هذه العلوم بالنسبة إلى المجهولات بمنزلة القطرة من البحر أو الذرة من الجبل.
ويمكن بيان أسباب هذه المحدوديّة بالأمور التالية:
أ) محدوديّة قدرتنا الحسية، فنحن نستطيع إدراك قسم صغير من موجودات عالمنا الحسي فقط، كما أنّ قدرتنا على التحليل العقلي أيضاً ليست قادرة إلّاعلى إدراك قسم صغير من المسائل العقلية.
ب) إنّ عمر الإنسان بالنسبة إلى عمر عالم الوجود كساعةٍ واحدة لا أكثر.
ج) يعُدّ المحل الذي نعيش فيه أي الكرة الأرضية صغيراً ومحدوداً جدّاً بالمقارنة مع كواكب المجرات التي لا تعدّ ولا تحصى (ويقدِّر العلماء عدد النجوم الموجودة في مجرّتنا فقط بمئة ألف مليار كوكب، وقد بلغ عدد المجرات التي اكتشفها البشر بهذه الأجهزة البسيطة لحد الآن مليار مجرة!).
ومن هنا يُمكن إدراك سعة علم اللَّه، وما أجمل التعبير القرآني في هذا المجال: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ». (لقمان/ 27)
والأهم من كل ذلك هو
أنّ اللَّه تعالى عالم بذاته المقدّسة أيضاً، ولأنّ ذاته المقدّسة لامتناهية، فإنّ علمه بهذه الذات اللامتناهية لامتناهٍ أيضاً، ولا تستطيع الأعداد أو الأرقام أن تفصح عن عظمته.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 73
هنالك أسئلة على شكل مناضرات بين الفلاسفة والمتكلمين حول علم اللَّه منذ قديم العصور، وقد اتسعت فيما بعد، وذلك لكون مسألة العلم بصورة عامّة ومسألة علم اللَّه بصورة خاصّة، معقّدة، وأهم هذه الاسئلة ما يلي:
1- كيف يمكن أن يحيط اللَّه علماً بذاته المقدّسة، في حين أنّ العالم والمعلوم يجب أن يكونا شيئين؟ فهل يوجد تفاوت بين علم اللَّه وذاته المقدّسة؟ وبعبارة اخرى هل يمكن أن يكون اللَّه عالماً ومعلوماً في نفس الوقت؟
الجواب: أولًا: إنّ هذا السؤال لا ينحصر بعلم اللَّه بذاته المقدّسة، فهو يجري حتى على علمنا بوجودنا، فنحن نعلم يقيناً بوجودنا وندرك بأننا موجودون، فهل يجب أن يكون العالم والمعلوم هنا شيئين أيضاً؟ في حين أننا لسنا بأكثر من شي ء واحدٍ، خصوصاً وإن علمنا بأنفسنا من النوع الحضوري أيضاً.
ثانياً: نورد هنا ما أجاب به العلّامة المرحوم (الخواجة نصير الدين الطوسي) على نفس هذا السؤال، قال: إنّه يكفي التغاير الاعتباري أي أنّ موجوداً واحداً من حيث كونه مبدعاً عاقلًا يستطيع أن يُدرك حضوره بذاته، فهو عالم، ومن حيث كونه حاضراً عند ذاته، يكون معلوماً، وبتعبير آخر ننظر إلى هذا الوجود الواحد من زاويتين: من زاوية إدراكه لذاته فنسميه عالماً، ومن زاوية أنّه مُدْرَك فنسميه معلوماً (فتأمل).
2- كيف يحيط اللَّه عِلْماً بموجودات العالم وهي في حالة تغيُّر دائم، فهل أنّ ذاته المقدّسة تتغير أيضاً!؟
الجواب: يصح هذا الإشكال فيما إذا كان علم اللَّه بالأشياء الخارجية كعلمنا حاصل عن طريق (إنعكاس صور الأشياء)، لأنّ تغيُّر هذه
الموجودات يؤدّي إلى تغيُّر هذه المفاهيم والصور لكن بما أن علم اللَّه علمٌ حضوريٌّ، وجميع الأشياء ماثلة بين يديه، فإنّ هذا الإشكال لا معنى له. لأنّ التغيُّر يحصل في موجودات هذا الكون فقط، لا في ذاته المقدَّسة
نفحات القرآن، ج 4، ص: 74
فوجودها ثابت ومحيط بها جميعاً والمتغيِّر هو الموجودات المحاطة، كما هو الحال فيما لو تحرك شخص مُعّين أمامنا فإنّ صورته سوف تقع على شبكية العين، وستتغير هذه الصورة بتغير حاله، فتتغير المفاهيم الذهنية الموجودة عنه في أذهاننا تبعاً للتغييرات، وكل هذا لسبب كون علمنا هنا انعكاساً للأشياء الخارجية فينا، فلو كان علمنا بالأشياء الخارجية علماً ناجماً من الاحاطة بجميعها، لما حصل أي نوع من التغير، بل لكان التغير فيها فقط (فتأمل).
3- كيف يحصل علم اللَّه بالجزئيات، مع أنّ الجزئيات متعددة ومتكثرة، وذاته المقدّسة واحدة لا تعرف التعدد؟
الجواب: إنّ هذا الخطأ أيضاً نجم عن مقايسة علم اللَّه بعلمنا الذي نحصل عليه عن طريق انتقال المفاهيم والصور الذهنية، في حين أنّ علمه بالموجودات ليس علماً حصولياً، بل حضوريٌّ، أي أنّ جميع الموجودات ماثلة بذاتها بين يديه عزّ وجلّ، وهو يحيط بها جميعاً دون الحاجة إلى مفاهيم أو صور ذهنية معينة «1».
4- كيف يمكن تصور علم اللَّه بالحوادث المستقبلية التي ليس لها وجود خارجي في الوقت الحاضر حتى تقع في دائرة علم اللَّه؟ فهل توجد لدى اللَّه مفاهيم وصور ذهنية عنها؟
مع تقدّسه سبحانه عن أن يكون له ذهن، أو أن يكون علمه حصولياً؟ إذن ما علينا إلّاأن نستسلم ونقول: بأنّه سبحانه لا يعلم بالحوادث المستقبلية! لأنّ العلم الحضوري منتفٍ بالنسبة إلى المعدوم، وبذلك يصبح العلم الحصولي للَّه تعالى أمر لا يمكن تصوره أيضاً.
على الرغم من أنّ هذا السؤال
والإشكال قد طرح حول العلم بالحوادث المستقبلية، إلّا أنّه يرد بنفسه حول الحوادث الماضية المعدومة أيضاً، لأنّ الحوادث الماضية لا وجود لها الآن، فصورة (فرعون) أو بني إسرائيل وأصحاب (موسى مثلًا لا وجود لها حالياً وقد تلاشت، كما أنّ تأريخها قد فات أيضاً، فنحن نستطيع الوقوف على الماضي بمجرّد أن
__________________________________________________
(1) الفرق الموجود بين هذه الإشكالات الثلاثة هو أنّ الأول يتعلق بتعدد العالم والمعلوم، والثاني بتغيّر الموجودات، والثالث بتكثرها.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 75
نستحضر في أذهاننا صوره فحسب، لأنّ علمنا علم حصولي يتحقق بواسطة المفاهيم والصور الذهنية فقط، وبما أنّ علم اللَّه علمٌ حضوري فهو لايعرف أي لون من الوساطة والمفاهيم، فكيف يمكن تصوُّر علمه بالحوادث الماضية؟
الجواب: يمكن الإجابة عن هذا السؤال والإشكال بثلاث طرق:
1- إنّ اللَّه محيط دائماً بذاته المقدّسة التي هي علّة جميع الكائنات، وهذا العلم الإجمالي بجميع حوادث وموجودات الوجود أزلي وأبدي (أي قبل الإيجاد وبعده).
وبتعبير آخر لو علمنا علل الأشياء، لاستطعنا أن نعلم نتائجها ومعلولاتها أيضاً، لأنّ كُل علّة تستبطن جميع كمالات معلولها وأكثر.
ويمكن شرح هذا الكلام بشكل أوضح كما يلي: إنّ الحوادث الماضية لم تنمح تماماً، فإنّ آثارها موجودة في طيّات الحوادث الآنية، وكذلك بالنسبة إلى الحوادث المستقبلية فهي غير منفصلة عن الحوادث الآنية، ولها علاقة معها، وعليه ف «الماضي» و «الحاضر» و «المستقبل» يشكلون معاً سلسلة شبيهة بالعلة والمعلول، بحيث لو اطّلعنا على كل واحدة منها بدقّة، لشاهدنا فيها الحلقات القبلية والبعدية لهذه السلسلة.
فمثلًا لو أحَطْتُ علماً وبدقّة بمناخ جميع الكرة الأرضية، وبكل مميزاته، وجزئياته، وعلله، ومعلولاته، وحركة الكرة الأرضية، ومسألة الفعل ورد الفعل، لاستطعتُ أن احيط علماً بوضعية المناخ قبل أو بعد ملايين السنين بصورة دقيقة. لأنّ
شواهد الماضي والمستقبل موجودة فعلًا، لا الشواهد الإجمالية بل تفصيلات الشواهد المنعكسة في جزئيات الحاضر.
فالحاضر يعكس الماضي، والمستقبل يعكس الحاضر، والاحاطة العلمية الكاملة بجزئيات الحاضر، معناها الإحاطة الكاملة بحوادث الماضي والمستقبل.
لذا فعندنا تكون حوادث الحاضر ماثلة بين يدي اللَّه تعالى بجميع خصوصياتها، فإنّها بمعنى مثول الماضي والمستقبل أيضاً بين يديه عزّ وجل.
فالحاضر مرآة للماضي والمستقبل، ويمكن مشاهدة جميع الحوادث الماضية والمستقبلية في مرآة الحاضر (فتأمل).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 76
2- ويوجد طريق آخر للإجابة على هذا السؤال نوضحه بالمثال التالي: تصوروا أنّ شخصاً محبوساً في غرفة صغيرة لا يوجد فيها سوى نافذة صغيرة على الخارج، فعندما تمر قافلة من الإبل من أمام هذه النافذة، فإنّ هذا السجين سوف يشاهد رأس البعير أولًا، ثم رقبته، ثم سنامه، ثم أرجله، ثم ذنبه، وهكذا الحال بالنسبة لسائر الابل الاخرى فصغر النافذة هذه هو السبب في إيجاد حالات من الماضي والحاضر والمستقبل لدى الناظر السجين، لكن المسألة تختلف تماماً بالنسبة للواقف على سطح الغرفة وينظر إلى الصحراء نظرة شاملة، فهو يُشاهد جميع إبل القافلة في وقتٍ واحد.
ومن هنا يتضح أن إيجاد مفاهيم الماضي والحال والمستقبل ناجمة عن محدودية نظرة الإنسان، فما هو ماضٍ بالنسبة لنا كان مستقبلًا لأقوام قد سبقونا، وما هو مستقبل بالنسبة لنا الآن فهو ماضٍ بالنسبة لأقوامٍ ستأتي فيما بعد.
أمّا الذات الموجودة في كل مكان والتي أحاطت بالأزل والأبد، فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبه لها لا معنى له، فجميع حوادث الدهر ماثلة بين يديها (ولكن كل واحدة في موقعها الخاص)، وهي محيطة علماً بجميع الحوادث وموجودات العالم، سواءً بالماضي، وبالحاضر، وبالمستقبل بصورة متساوية.
ونحن نُقرّ طبعاً بأنّ تصّور هذه المسألة بالنسبة لنا نحن المحبوسين في سجن الزمان
والمكان، أمر صعب ومعقّد، ولكنه في نفس الوقت قابل للتدقيق والمطالعة.
3- الطريق الآخر الذي استند إليه الكثير من الفلاسفة، هو أنّ اللَّه تعالى عالم بذاته المقدّسة، وبما أنّ ذاته علّة جميع المخلوقات، فإنّ العلم بالعلّة سيكون سبباً للعلم بالمعلول، وبتعبير آخر فإنّ اللَّه تعالى جامع لجميع الكمالات الموجودة في جميع المخلوقات بأتم صورة، وما هو غير موجود في ذاته المقدّسة هو نقائص المخلوقات فقط.
اذن، فعلمه تعالى بذاته هو بالحقيقة علمه بجميع المخلوقات. (وهناك فرق دقيق بين هذا الطريق والطريق الأول يتّضح من خلال التأمل).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 77
وردت في الروايات الإسلامية تعابير لطيفة جدّاً، حول علم اللَّه منها ما جاء في نهج البلاغة، حيث يمكن الاستعانة بها لفهم البحوث بصورة أفضل، نذكر أدناه نماذج منها:
1- قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في باب علم اللَّه:
«يَعْلَمُ عَجِيْجَ الوُحُوشِ في الفَلَواتِ، وَمَعاصِيَ العِبادِ في الخَلَواتِ، وَاختِلافَ النِّيْنانِ في البِحارِ الغامِراتِ، وَتلاطُمَ الماءِ بالرِّياحِ العاصفِاتِ» «1»
.
2- وقال عليه السلام في كلام آخر:
«عالِمٌ إِذْ لا مَعْلُوم، وَرَبٌّ إِذْ لا مَرْبُوبَ، وَقادِرٌ إِذْ لا مَقْدوُرَ» «2»
.
3- وقال عليه السلام أيضاً في كلام آخر:
«قَدْ عَلِمَ السَّرائِرَ، وَخَبَرَ الضَّمائِرَ لَهُ الاحاطَةُ بِكُلِّ شَي ءٍ، وَالْغَلَبةُ لِكُلِّ شَي ء» «3»
.
4- وفي الكافي في باب صفات الذات عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لَمْ يَزَلِ اللَّهُ عزّ وَجلَّ رَبُّنا والعِلْم ذاتهُ ولا مَعْلُومَ ... فلَمَّا أَحدثَ الأشياء وكانَ المعلُومُ، وَقَع العِلْمُ منهُ عَلَى المعلُومِ» «4».
يحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلم الإجمالي السابق لحدوث الأشياء والعلم التفصيلي اللاحق لحدوثها.
5- وفي حديث آخر ورد أن أحد أصحاب الإمام الرضا عليه السلام كتب إليه رسالة يسأل فيها عن اللَّه عز وجل: «أكانَ
يعْلمُ الأشياءَ قَبْلَ أن خَلَق الأشْياءَ وَكَوَّنَها؟ أو لَمْ يَعْلَمْ ذلِكَ حَتّى خَلقَها وَأَرادَ خَلْقَها وَتكويْنَها؟ فَعَلِمَ ما خَلَقَ عِندَ ما خَلَقَ، وَما كَوَّنَ عِنَدما كَوَّنَ؟ فَوَقَّعَ بِخطِّةِ: لَمْ يَزَلِ اللَّهُ عالماً بالأشياءِ قَبلَ أَنْ يَخْلُقَ الأشياءَ كعِلْمِهِ بالأشياءِ بَعْدَ ما خَلَقَ الأشياءَ» «5».
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 198.
(2) المصدر السابق، الخطبة 152.
(3) المصدر السابق، الخطبة 86.
(4) اصول الكافي، ج 1، ص 107.
(5) المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 78
إنّ كل واحد من التعابير الدقيقة والظريفة التي وردت في هذه الروايات يُعدُّ باباً من البحوث العلمية والمنطقية التي تدور حول مسألة علم اللَّه تعالى والتي ذكرناها سابقاً.
وقد بلغت الروايات الواردة في علم اللَّه من الكثرة بحيث لو جمعت لصارت كتاباً مستقلًا.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 79
كما نعلم فإنّ صفات اللَّه عين ذاته، وذاته عين صفاته، وبتعبير آخر فإنّ اللَّه ذاتٌ كلها علم، وكلها قدرة، وكلها أزليّة وأبدية، أي هناك كمال مطلق غير متناهٍ جامع لجميع هذه الصفات.
وعليه فإنّ تفكيك الصفات تابع لمنظارنا وإدراكنا العقلي.
لذا فقد تكون احدى هذه الصفات الإلهيّة أحيانا ذات فروع كثيرة، وهذه الفروع أيضاً تكون تابعة لزاوية نظرنا كوصفه تعالى بصفتي «السميع» و «البصير»، واللتان تعتبران من الصفات الإلهيّة المعروفة التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم عشرات المرات.
«السميع»: كناية عن علم اللَّه ب «المسموعات»، و «البصير» كناية عن علمه تعالى ب «المبصرات» من الحوادث والأشخاص والأعمال وغيرها.
وعندما تستعمل هذه الألفاظ بخصوص البشر فإنّها بصدد عضوي العين والاذن، لكنّها عندما تستعمل بخصوص الباري تعالى فإنّها تتجرد من هذه المفاهيم وتفيد حقيقة العلم بالمسموعات والمبصرات، وسنوضح ذلك في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه تعالى.
بعد هذا التمهيد نعود إلى
القرآن الكريم لنتمعن في الآيات التالية:
1- «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». (الشورى 11)
2- «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْامَانَاتِ الَى اهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ انَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً». (النساء/ 58)
3- «لَّايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ الَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً
نفحات القرآن، ج 4، ص: 80
عَلِيماً». (النساء/ 148)
4- «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ». (البقرة/ 244)
5- «وَانِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى انَّهُ سَميعٌ قَرَيبٌ». (سبأ/ 50)
6- «هُنَالِكَ دَعَا زَكَريَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لى مِنْ لَّدُنْكَ ذُرِّيَةً طَيِّبَةً انَّكَ سَمْيعُ الدُّعَاءِ». (آل عمران/ 38)
7- «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (البقرة/ 233)
8- «إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبيرٌ بَصِيرٌ». (فاطر/ 31)
9- «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ امْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ».
(غافر/ 44)
10- «اوَلَمْ يَرَوْا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ انَّهُ بِكُلِّ شَى ءٍ بَصِيرٌ» «1». (الملك/ 19)
(سميع) من مادة «سَمْع» على وزن «مَنْع» وفي الأصل بمعنى القوّة السامعة التي بواسطتها يسمع الإنسان الأصوات (تأتي بمعنى المصدر، وتأتي بمعنى الاسم المصدري أيضاً)، وقد تُطلق هذه الكلمة على عضو السمع أي الأُذُن أحياناً.
واتّسع هذا المفهوم فشمل استعمالات اخرى، فهو يُطلق أيضاً على الإدراكات الباطنية
__________________________________________________
(1) الآيات أعلاه نماذج حول وصفي «السميع» و «البصير»، حيث إنّها تشتمل على نقاط كثيرة. كما أنّ هنالك آيات قرآنية كثيرة اخرى حول هذا الموضوع، سنشير إليها أدناه، أمّا تفسيرها فسيتضح من الآيات أعلاه:
البقرة، 181 و 224 و 227 و 256؛ آل عمران، 34 و 35 و 121؛ المائدة، 71؛ الأنعام، 13 و 115؛ الأنفال، 17 و 42 و 53
و 61؛ التوبة، 98 و 103؛ يونس، 65؛ الاسراء، 1؛ الأنبياء، 4؛ الحج، 61 و 75؛ النور، 21 و 60؛ لقمان، 28؛ غافر، 20 و 56؛ الصف، 36؛ الدخان، 6؛ الحجرات، 1؛ المجادلة، 1؛ النساء، 134 و 148؛ البقرة، 96 و 110 و 65؛ آل عمران، 15 و 20 و 156 و 163؛ الأنعام، 29 و 72؛ هود، 112؛ الاسراء، 17 و 30 و 96؛ سبأ، 11؛ فاطر، 45؛ فصلت، 40؛ الشورى 27؛ الحجرات، 18؛ الحديد، 4؛ الممتحنة، 2؛ التغابن، 2؛ الفرقان، 20؛ الأحزاب، 9؛ الفتح، 24؛ الانشقاق، 15.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 81
الروحيّة، واتّسع أكثر فاستُخدم للإشارة إلى إحاطة اللَّه الوجوديّة بجميع الأصوات.
وقد تستعمل هذه الكلمة بمعنى الفهم والإدراك أحياناً، كما ورد في الآية: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَايَسْمَعُونَ» «1»
. (الانفال/ 21)
«بصير»: من «بصر» (على وزن سَفَرْ) وتعني العين كما قال الراغب في مفرداته، وقد تأتي بمعنى حدّةُ النّظر أحياناً، لذا قد تستعمل بمعنى قوّة الإدراك والبصيرة الباطنيّة «البصر والبصيرة» أحياناً، كما ورد في قوله تعالى: «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».
(ق/ 22)
وقد ذكر «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً نفس هذه المعاني لكلمة «بصر»، في حين نجد أن «صحاح اللغة» فسّرها بمعنى حاسّة النظر، وبمعنى العلم أيضاً، وفسّرها «المصباح» بمعنى النور الذي يُمكن للعين رؤية المبصرات عن طريقه.
لكنه يُستنتَجُ من مجموع كلمات أصحاب اللغة وموارد استعمال هذه الكلمة، أنّها تعني أولًا عضو النظر، ثم قوّة النظر، وبعدها استُعمِلَتْ بمعنى الإدراك الباطني والعلم، وفي خصوص الباري تعالى تُستعمل بمعنى إحاطته الوجودية بالمبصرات.
بعد أن نفت الآية الأولى وجود المثل عن اللَّه تعالى وصفته بصفتي السميع والبصير: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ وَهُوَ
السَّميعُ الْبَصِيرُ».
وواضح أنّ المقصود من «ليس كمثله شي ء» يشمل كلًا من ذاته وصفاته وأفعاله، لأنّ ذاته واجبة الوجود، وصفاته وأفعاله لامتناهية، وما اعتقده بعض المفسرين من أن نفي المثل والشبيه الوارد في هذه الآية يشمل الذات المقدّسة فقط ولا يشمل الصفات، محض اشتباه.
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ لسان العرب والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 82
صحيح أنّ هنالك صفات كالعالم والقادر والسميع والبصير، تطلق على الخالق والمخلوق، لكنّه لا ريب في أنّ مفاهيمها متفاوتة في هاتين الحالتين. لذا فقد قال بعض المفسرين: إنّ الآية أعلاه تفيد الحصر، أي أنّ اللَّه تعالى هو السميع والبصير فقط، لأنّه تعالى سميع بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وبصير كذلك، أي يعلم جميع المسموعات والمبصرات ولا أحد غيره مثله في هاتين الصفتين.
فالبشر وسائر الاحياء التي تمتلك عيوناً وآذاناً تدرك فقط أجزاء محدودة من الألوان والأصوات، وقد ثبت الآن علميّاً أنّ الامواج الصوتية التي تعجز اذن الإنسان والحيوانات عن سماعها تفوق بكثير ما يمكن إدراكه، وهكذا في مورد الألوان والمرئيات.
بعد أن أمر اللَّه سبحانه وتعالى عباده في الآية الثانية بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، وصف نفسه بهاتين الصفتين اللتين لهما علاقة وثيقة ولطيفة بالأمرين الواردين في بداية الآية حيث قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْامَانَاتِ الَى اهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ انْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ انَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ انَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً».
وكما نعلم فإنّ الأمانات الواردة في الآية ذات معنى واسع وعميق، وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام بأنّها تشمل حتى مسألة إمامة وقيادة الناس، فهي أمانات إلهيّة ويجب أن تودع عند أهلها «1».
وكذلك فإنّ تعبيره سبحانه
بكلمة (الناس) يشمل جميع البشر حتى من هم غير مسلمين، أي ينبغي رعاية اسس العدالة بين جميع بني البشر، ومعاملة الصديق والعدو، والغريب والقريب بالتساوي.
__________________________________________________
(1) وردت روايات كثيرة في هذا المجال، ولزيادة الاطّلاع راجع تفسير البرهان، ج 1، ص 380؛ وتفسير نور الثقلين، ج 1، ص 496.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 83
للبحث حول مسألتي الأمانة والعدالة، اللتين هما روح المجتمع الإنساني وروح الحكومة الإسلاميّة، محلٌّ آخر طبعاً، وسنتاول ذلك فيما بعد. الغرض هنا هو معرفة علاقة هاتين المسألتين بصفتي «السميع» و «البصير» المنسوبتين إلى اللَّه تعالى.
وهذه الجملة بالحقيقة هي تحذير لكل من يتولى منصباً رئاسياً، أو يأخذ على عاتقه حمل أمانة معينة، أو قضاءً وحكماً بين الناس، وهذا التحذير كأنّه يقول لنا: إعلموا بأنّ اللَّه تعالى رقيب عليكم يعلم ما تعملون، ويسمع ماتقولون، وهذا يثبت بأنّ لصفات اللَّه جانباً تربوياً بالإضافة إلى مسألة العقيدة.
بالإضافة إلى أنّه من المحتمل أن تكون هاتين الصفتين إشارة إلى نقطة اخرى، وهي أنّ مسألة أداء الأمانة والحكم بين الناس تحتاج إلى اذُنٍ سميعةٍ وعينٍ بصيرةٍ، فلا يمكن البتّ في الامور بدون سماع صوت المظلومين، ومعرفة حقيقة مظالمهم، والتمعُّن الكامل في هذه الأمور، ويجدر الإلتفات إلى أن فعل (كان) يدل على ملازمة هذه الصفات للذات الالهيّة المقدّسة، فهو سبحانه وتعالى سميعٌ بصيرٌ دائما وأبداً.
وما يجدر ذكره هو تقارن هاتين الصفتين (السميع والبصير) في مواضع اخرى أيضاً من القرآن.
والملفت للنظر هو تقدم صفة السميع على البصير في كل مواضع القرآن التي وردت فيها هاتان الصفتان سويّة، ولعلّ السّر في ذلك يكمن في كون القول يسبق العمل، وحيث إنّ هذه الآيات تهدف إلى تنمية الحالات التربوية للإنسان، فهي تريد أن تخاطب الإنسان
وتقول:
«ياأيّها الإنسان إنّ ربّك يسمع أقوالك ثم يرى أعمالك».
دار الحديث في الآية الثالثة عن «السميع» و «العليم» حيث ذكرت المظلومين وسمحت لهم بالاعلان عن مظلوميتهم وفضح الظالمين، قال تعالى «لَّايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ الَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً».
نفحات القرآن، ج 4، ص: 84
أمّا المقصود من «الجهر بالسوء»، فقد قال بعض المفسّرين: إنّه بمعنى لعن المظلوم للظالم، وفسّره البعض الآخر بالسّب والشتم، والبعض الآخر بمعنى الترافع إلى القاضي، أو بمعنى تعرية ظلم الظالمين أمام الناس في الغيبة والحضور.
«لكن مناسبة الحكم للموضوع» توجب إباحة هذه الأمور في مجال دفع الظلم، وكسب الرأي العام ضد الظالم فقط، لذا فمن الأفضل أن تنحصر مسألة سب وشتم الظالمين بالمجال الذي تكون عاملًا مساعداً للنهي عن المنكر ومحاربة الظلم والفساد.
وجملة «وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» تصلح في أن تكون مستثنى كما تصلح أن تكون مستثنى منه أيضاً، أي أنّها تحذير للمغتابين الذين لم يتعرضوا للظلم، كما أنّها تحذير للمظلومين لئلا يتعدوا حدود اللَّه، ويراعوا العدل والانصاف.
والجدير بالذكر هو أنّ السبب في ذكر صفتي السميع والعليم يكمن في تحدث الآية عن الجهر بالسوء ودوافعه الذاتيّة الخفية، فقالت: بأنّ اللَّه يسمع هذا الكلام، وهو عليم بنيّات المظلومين الذين يجهرون بمظلوميتهم.
وأمّا ماقاله البعض: من أنّ مفهوم الآية هو جواز رد الشتم بالمثل، كما لو قال أحد لشخص: (أيّها الزاني)، يجوز لهذا الشخص أن يرد عليه بذلك، خطأ كبير. لأنّه يجب مواجهة ظلم الظالم بإحقاق الحق، لا بارتكاب ظُلمٍ آخر، ويجب النهي عن المنكر ودفع شر الظالم، لا ارتكاب منكرٍ آخر وإيجاد ظالمٍ آخر.
على أيّة حال، فإنّ هذه الآية تدلّ على رفض الإسلام الركون إلى الظالمين، بعكس مانسبه البعض
إلى السيّد المسيح عليه السلام من أنّه قال: «لو ضربك أحد على خدّك الأيمن، فقدم له خدَّك الايسر»!
اللَّه يرى ويعلم، في الآية الرابعة نُلاحظ تعبيراً جديداً أيضاً، حيث أمرت الناس بالالتفات إلى هاتين الصفتين الإلهيتين (السميع والعليم)، قال تعالى «وَقَاتِلُوا فِى سَبْيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ».
نفحات القرآن، ج 4، ص: 85
والتعبير بعبارة «فِى سَبْيلِ اللَّهِ» تعبيرٌ لطيفٌ وغنيٌّ جدّاً، حيث وضَّح للجميع بأنّ الهدف من الجهاد الإسلامي ليس كسب السلطة الدنيوية واحتلال الدول- كما اتّهمنا به الكثير من مفكِّري الغرب، بل فتح الطرق إلى اللَّه- طرق الطهارة والتقوى والحق والعدالة-.
وجملة «وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ سَمِيْعٌ عَلِيمٌ» تُحذِّر جميع المجاهدين المسلمين لكي يراقبوا أقوالهم ونيّاتهم، ويتجنبوا كُل مايُشوِّه المعنى السامي والجميل لكلمة: «فِى سَبْيلِ اللَّهِ»، وكذلك فإنّها تزيد من معنوياتهم عندما يثقون بأنّ اللَّه معهم أينما كانوا، ويعلم حالهم.
وفي الآية الخامسة يُطالعنا تعبير جديد، وهو اقتران مفهوم «السميع» مع مفهوم «البصير»، حيث قال سبحانه مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه و آله: «وَانِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوْحِى إِلىَّ رَبِّى انَّهُ سَمِيعٌ قَريْبٌ».
وهذه الآية تشير إلى احتمال ضلال الرسول بدون الوحي الإلهي، وأنّ الذي يعصمه صلى الله عليه و آله من الخطأ ويهديه إلى الحق والصواب هو الوحي الإلهي، لا التفكُّر والاستدلال البشري المعرض للخطأ.
وقد ورد في بعض التفاسير بأنّ جماعة من المشركين قالوا للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله: لقد ظللت يامحمد، لأنّك تركت دين أجدادك، فنزلت هذه الآية وأجابتهم عن لسان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: بأنّه لو كنت أعتمد على نفسي في هذا الأمر لكنتم محقين في اتهامكم لي بهذه الاتهامات، ولكن ارتباطي بالوحي الإلهي لا يبقي معنىً للضلال في هذه الحالة، وذلك لأنّه تعالى يعلم أسرار الغيب، (وهي العبارة التي وردت في الآيتين السابقتين)، وهو السميع
البصير (العبارة الواردة في الآيات الثلاث السابقة) وهو السميع القريب (هذه العبارة الواردة في ذيل هذه الآية المعنية في بحثنا هذا).
ويستنتج من هذه الآية أيضاً أنّ الاعتماد على النفس هو الذي يقود الإنسان إلى الضلال، وأنّ الاعتماد على القوة العقلية أيضاً لا يوصله إلى مكان معين، وأنّه يحتاج لبلوغ
نفحات القرآن، ج 4، ص: 86
مراده إلى الاستنارة بنور الوحي الإلهي.
والملاحظة الأخيرة هي أن قرب اللَّه منّا ليس كقرب بعضنا من بعض، بل هو أقرب إلينا من أنفسنا، كما سنبحث هذا في محلّه إن شاء اللَّه تعالى
طرحت الآية السادسة تعبيراً جديداً أيضاً، حيث وصفته تعالى بسميع الدعاء، فنقلت عن زكريا عليه السلام عندما رأى مقام ومنزلة مريم عليها السلام، فقال: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَريَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لى مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَةً طَيِّبَةً انَّكَ سَمْيعُ الدُّعَاءِ» «1»
.
وبالرغم من أنّ السميع من السمع، لكنها في مثل هذه الحالات تعطي معنى السامع ومعنى المجيب. وذلك لأنّ من لم يستجب لنداء معين كأنّه لم يسمعه «2».
أكدت الآية السابعة على مفهوم البصير بما يعمل الإنسان، والذي يُعد المحور الأساس للمسائل التربوية، قال تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
وذكر هذه الجملة بعد إصدار سبعة أوامر حول رضاعة الأولاد، وحق الأولاد والأمهّات والمرضعات، ومسؤوليّة الوالد تجاههم، وبديهي أن فقدان التقوى هنا، وعدم خوف الإنسان من المراقبة الإلهيّة سوف يكون مانعاً من إيجاد علاقات اجتماعية سليمة داخل الأسرة لحفظ حقوق الجميع، وقد أثبتت التجارب صعوبة توطيد أسس الحق والعدالة في النظام الأسري باستعمال قوّة القانون والخوف والعقوبات، وأنّ السبيل الوحيد لذلك هو حلول روح التقوى والإيمان باللَّه سبحانه وتعالى وبأنّه بكل شي ء بصير.
__________________________________________________
(1) «الذرية» بمعنى الولد وتطلق على المفرد والجمع بلفظ واحد، لكنها اطلقت هنا واريد منها المفرد وذلك بقرينة «ولياً» التي جاءت في الآية 5 من هذه السورة.
(2) تفسير القرطبي، ج 2، ص 1314؛ و تفسير روح البيان، ج 2، ص 30؛ و تفسير روح المعاني، ج 3، ص 128 في ذيل الآية مورد البحث.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 87
يُلاحظ في الآية الثامنة تعبيراً جديداً أيضاً، وهو اقتران مفهومي الخبير والبصير مع بعضهما، فقد تحدثت الآية في بدايتها عن الوحي الإلهي، وانزال القرآن الكريم بعد الكتب السماوية السابقة له، ثم قال تعالى «انَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبيرٌ بَصِيرٌ».
إنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ هذا الكتاب السماوي يتناغم مع وضعيّة البشر واحتياجاته في جميع المجالات، لأنّه نزل من لدن خبير بكل شي ء وبصير بكل حوائج الإنسان.
وقد فُسرت هذه الآية أيضاً بأنّها ردٌّ على إشكال من كانوا يعترضون على انزال القرآن على محمد صلى الله عليه و آله لكونه يتيماً وفقيراً، فقال تعالى بأنّه الخبير والبصير بعباده ويعلم أيّهم أكثر
استعداداً لتحمل عب ء الرسالة الشريفة. (ولا يمكن الاستدلال على هذا المعنى بقرينة الآية التي تلت هذه الآية) «1».
ولا بأس بالجمع بين التفسيرين.
وذهب بعض المفسّرين: إلى أنّ كلمة خبير هنا كناية عن الاحاطة بالأمور المعنوية والروحيّة، وبصير كناية عن الاحاطة بالامور الجسمانية، ولهذا السبب تقدمت كلمة الخبير على كلمة البصير.
وبالرغم من أنّ كلمة الخبير المشتقة من الخبر ذات معنىً واسع جدّاً يشمل كُلّ احاطة بظواهر الامور وبواطنها، إلّاأنّ اقترانها بصفة البصير يوحي إلى كونها كناية عن الاحاطة بباطن الأمور (وقد ذكر الراغب في مفرداته بأنّ أحد معاني هذه الكلمة هو العلم بباطن الأمور).
ذكرت الآية التاسعة صفة البصير فقط، وأمّا ما جاء من أنّه بصير بعباده وحاجتهم إلى الامداد الإلهي. فهذا جاء نقلا لخطاب مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه عن آل
__________________________________________________
(1) التفسير الكبير، ج 27، ص 24؛ في تفسير روح البيان، ج 7، ص 346، فيه إشارة إلى هذا المطلب.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 88
فرعون وبذل النصح لقوم موسى عليه السلام عندما كانوا يخطّطون لقتله، وهدّدهم بالعذاب الإلهي وصرفهم عن هذا العمل فقال لهم: «فَسَتَذْكُرُونَ مَا اقُوْلُ لَكُمْ»، فإن حملتم كلامي هذا على التعاون مع موسى عليه السلام وقصدتم ايذائي فاني: «وَأُفَوِّضُ امْرِى الى اللَّهِ انَّ اللَّهَ بَصيرٌ بِالْعِبَادِ».
وبالتالي فقد نجّى اللَّه سبحانه هذا العبد المؤمن المجاهد من المؤامرات العديدة التي حِيكت ضدّه (والتي كان من جملتها التعذيب والاعدام).
وبالحقيقة، أنّ التذكير بكون اللَّه بصيراً بالعباد هنا إنّما هو كناية عن عدم تخلي مثل هذا الرب عن عباده المجاهدين المخلصين، وأنّ مثل هؤلاء العباد بإيمانهم بمثل هذا الرب سوف لا يهابون الصعاب، ومن هذه الجهة فقد أشارت الآية التي بعدها إلى نجاته من
مخالب الاعداء في ظل اللطف الإلهي.
وهذه المسألة جديرة بالذكر أيضاً، وهي الآصرة الوثيقة الموجودة بين كون اللَّه سبحانه بصيراً بعباده وبين تفويض الامور له، لأنّه كيف يمكن أن يدافع عن الإنسان من لا يعلم مشاكل الإنسان وحوائجه الظاهرية والباطنية؟ وبتعبير آخر فالتفويض بمعنى ثمرة الإيمان بكون اللَّه بصيراً بالعباد وأمورهم، والتفويض هنا طبعاً لا يعني أن يتقاعس الإنسان ويتكاسل أبداً، لأنّ هذا الكلام صدر من رجل مجاهدٍ جازف بحياته من أجل الدفاع عن موسى عليه السلام ورسالته، بل المقصود هو أداء التكليف ثم تفويض الأمر إلى اللَّه سبحانه وتعالى
وأخيراً نجد أنّ المسألة خرجت من دائرة اعمال العباد في الآية العاشرة والأخيرة من آيات البحث، حيث أشارت الآية إلى جميع عالم الوجود وكون اللَّه بصيراً بتنظيم قوانينه:
«اوَلَمْ يَرَوْا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ».
فمن الذي يُمسك هذه الأجسام الثقيلة في الجو التي تقاوم قانون الجاذبية، لساعات أو أسابيع أو أشهر؟ وقد تواصل بعض الطيور المهاجرة طيرانها لمدّة أسابيع وأشهر متواصلة
نفحات القرآن، ج 4، ص: 89
وبدون أدنى توقف: «مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ».
لماذا؟ ل «انَّهُ بِكُلِّ شَىْ ءٍ بَصِيرٌ».
فهو يعلم جميع القوانين التي تساعدها على الطيران باطمئنان وسكينه تامّة، لأنّه هو خالق هذه القوانين ومنظمها.
أجل، إنّه هو الرحمن الذي وسعت رحمته العامة جميع الوجود، وهو الذي منح هذه الطيور شكلًا مناسباً ووزناً مناسباً وأرجلًا وعيوناً وحواس مناسبة لكي تتمكن من التحليق في كبد السماء العالية.
والملفت هو أنّ اسلوب الطيران وكيفية ابتدائه وانتهائهِ متفاوت جدّاً لدى أنواع الطيور طبقاً لهيكلها واسلوب معيشتها والمحيط الذي تتواجد فيه، والأعجب من ذلك هو أن أنواعاً من الطائرات قد صُممت وصنعت لحد الآن بالاقتباس من أشكال وأجنحة الطيور المختلفة، وهذا هو تجلي معنى
الآية «انَّهُ بِكُلِّ شَىْ ءٍ بَصِيرٌ»، وإن لم يتجل لنا هذا المعنى بأن كنّا متطبعين على عجائب هذا العالم، فإنّ مشاهدة الطيور الجميلة العائمة في الفضاء بحركاتها الجذابة الماهرة التي تجذب إليها الانظار، كافية لإدراك قدرة وعلم هذا الخالق البصير.
نستنتج من مجموع الآيات المذكورة أعلاه بأنّ اللَّه لايخفى عليه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، والإيمان بهذه الحقيقة يحتمل أن يكون له تأثيرٌ بليغ في ايقاظ الإنسان وتربيته، لذا، فالآيات أعلاه أيضاً تدور غالباً حول محور المسائل الإنسانية التربوية.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 90
إنّ جميع علماء الإسلام يذكرون اللَّه تعالى بصفات «السميع» و «البصير»، وذلك لتكرر ذكر هذه الصفات- كما نعلم- في القرآن الكريم.
ولكنهم اختلفوا في تأويلهما.
اعتقد المحققون بأنّ كون اللَّه سميعاً وبصيراً بحيث لا تتعدى قدرة احاطته وعلمه المسموعات والمرئيات، ولأنّ لهاتين الكلمتين مفهومان يستعملان للتعبير عن قوة سمعنا وبصرنا، فلذلك يتبادر إلى الذهن عضوا الأذن والعين، ولكن من البديهي أنّهما عندما تُستعملان لوصف الباري سبحانه وتعالى تتجّردان عن مفاهيم الآلات والأدوات والأعضاء الجسمانية، لأنّ ذاته المقدّسة أسمى وأجل من الجسم والجسمانيات.
وهذا ليس تعبيراً مجازياً طبعاً، وإن سمّيناه مجازياً فهو مجازي مافوق الحقيقة، لأنّه يعلم ويحيط بالمسموعات والمبصرات وهي ماثلة بين يديه تعالى بحيث يسبق ويفوق كل سمع وبصر، لذا فقد ورد وصفه تعالى في الأدعية باسمع السامعين وأبصر الناظرين.
لكن جماعة من قدماء المتكلمين اعتقدوا بأنّ صفتي السميع والبصير، تختلفان عن صفة «العلم»، وهؤلاء لابدّ لهم من الاعتقاد بأنّ صفتي السميع والبصير من الصفات الزائدة على ذات اللَّه، وهذا يعني الاقرار بتعدد الصفات الأزليّة، وهو نوع من الشرك، وإلّا فكون اللَّه سميعاً بصيراً لا يمكن أن يكون سوى علمه بالمسموعات والمرئيات.
بحثت الروايات الإسلامية هذه الصفات الإلهيّة بشكل عميق ودقيق، ونتطرق هنا إلى ذكر نموذجٍ منها لتكملة البحث.
1- في خطبه لأمير المؤمنين علي عليه السلام قال:
نفحات القرآن، ج 4، ص: 91
«كُلُّ سَميعٍ غَيرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطيفِ الأَصواتِ، وَيُصِمُّهُ كَبِيرُها، وَيَذهَبُ عَنْهُ ما بَعُدَ مِنْها، وَكُلُّ بصَيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الأَلْوانِ وَلَطيفِ الْاجسامِ» «1»
.
2- وفي مكان آخر قال عليه السلام:
«والسَّمْيعِ لا بأداةٍ، والْبَصيرِ لا بِتَفْريقِ آلَةٍ» «2»
.
3- وفي خطبة آخرى قال:
«فاعِلٌ لا بَمعَنى الْحَركاتِ والالَة، بَصيرٌ اذْ لا مَنْظُورَ اليْهِ مِنْ خَلْقهِ» «3»
.
4- وورد
عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله زنديق عن اللَّه عزّ وجلّ كيف أنّه سميع بصيرٌ قال:
«هوَ سميعٌ بصيرٌ، سَمِيعٌ بَغَيرِ جارِحَةٍ، وَبَصيرٌ بغَيْرِ آلةٍ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسهِ ...» «4»
.
5- في البحار عن الإمام الصادق عليه السلام عن أحد أصحابه قال له: إنّ رجلًا ينتحل موالاتَكم أهل البيت يقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بسمع، وبصيراً ببصر، وعليماً بعلم، وقادراً بقدرة.
قال: فغضب عليه السلام ثم قال:
«من قال ذلك ودان به فهو مشرك، وليس من ولايتنا على شي ء، إنّ اللَّه تبارك وتعالى ذاتٌ علّامةٌ سميعةٌ بصيرةٌ قادرةٌ» «5»
.
إنّ تأكيد القرآن على وصف الباري تعالى بهاتين الصفتين له آثار تربوية مهمّة، فهو يرفع
__________________________________________________
(1) نهج البلاغه، الخطبة 65.
(2) المصدر السابق، الخطبة 152.
(3) المصدر السابق، الخطبة 1.
(4) اصول الكافي، ج 1، ص 83، ح 1.
(5) بحار الأنوار، ج 4، ص 62 عن أمالي الصدوق وكذلك التوحيد.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 92
الوعي لدى المسلمين للوصول إلى معرفة اللَّه من جهة، ومن جهة اخرى يدعوهم جميعاً إلى التخلق بهذا الخلق الكريم والتشبه بهاتين الصفتين الإلهيتين، ومن جهة ثالثة يلقي في قلوب المؤمنين السكينة من حيث كون يد العناية والحماية الإلهيّة معهم في كل حال، ومن جهة رابعة تحذير للمؤمنين ليراقبوا أقوالهم وأعمالهم لأنّ اللَّه محيط بها علماً.
وقد أكّدت الروايات الإسلامية الشريفة أيضاً على هذه المسألة التربوية المهمة ومن جمله هذه الروايات.
1- ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حديث يعض به أحد خواصه وهو (اسحاق بن عمار) قال عليه السلام: «يا اسحاق خَفِ اللَّه كأنّكَ تَراهُ وَانْ كُنْتَ لا تَراهُ فَانَّهُ يَراكَ، فان كُنتَ تَرَى أَنَّهُ لا يَراكَ فَقَدْ
كَفَرْتَ وإنِ كُنْتَ تَعُلَمُ أَنَهُ يَراكَ ثم برزْت له بالْمَعصِيَةِ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَهْوَنِ النَاظِرينَ عَلَيْكَ» «1»
.
2- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ» قال:
«مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَراهُ وَيَسْمَعُ ما يَقُوْلُ وَيَعْلَمُ ما يَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَيَحْجُزُهُ ذلِكَ عَنِ الْقَبيحِ مِنَ الْأَعمالِ، فَذلِكَ الَّذي خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى «2».
3- وكذلك ماورد في تفسير (علي بن ابراهيم) عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لما هَمّت به وهَمّ بها قامت إلى صنم في بيتها فألقت عليه ملاءة لها فقال لها يوسف: ما تعملين؟ قالت: ألقي على هذا الصنم ثوباً لا يرانا فاني استحي منه. فقال يوسف: فأنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ولا استحي أنا من ربّي؟» «3»
.
4- ورد في تفسير روح البيان في ذيل الآية «وَافَوِّضُ امْرِى الَى اللَّهِ انَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ». (غافر/ 44)
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 2، ص 67، ح 2.
(2) اصول الكافي، ج 2، ص 7، ح 10 ذيل الحديث يفيد أنّ الإمام قال هذا الكلام في تفسير الآية «وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى .
(3) تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 422.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 93
خرج بعض الأصحاب (رضي اللَّه عنهم) إلى الصحراء فطبخوا الطعام، فلما تهيأوا للأكل رأوا هنالك راعيا يرعى أغناماً فدعوه إلى الطعام، فقال الراعي: كلوا أنتم فانّي صائم. فقالوا له على سبيل الاختبار: كيف تصوم في مثل هذا اليوم الشديد الحرارة؟ فقال لهم: إنّ نار جهنم أشد حرّاً منه، فأعجبهم كلامه فقالوا له: بع لنا غنما من هذه الأغنام نعطك ثمنه مع
حصة من لحمه، فقال لهم: هذه الأغنام ليست لي وإنّما هي لسيدي ومالكي، فكيف أبيع لكم مال الغير؟ فقالوا له: قل لسيدك إنّه أكله الذئب أو ضاع: فقال: أين اللَّه!؟ فأعجبهم كلامه زيادة الاعجاب، ثم لما عادوا إلى المدينة اشتراه ابن مسعود من مالكه مع الأغنام فأعتقه، ووهب الأغنام له، وكان ابن مسعود يقول له في بعض الأحيان بطريقة الملاطفة: أين اللَّه «1».
وهنالك نماذج كثيرة من هذا القبيل، منقولة في التأريخ والروايات الإسلامية، تدلّ على الأثر التربوي البليغ النابع من الإيمان بعلم اللَّه وبتواجده في كل مكان، وبكونه سميعاً وبصيراً، في الحجز عن المعاصي والذنوب.
عدّ علماء العقائد صفة «المدرك» من احدى صفات اللَّه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حيث قال: «لَاتُدْرِكُهُ الْابْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْابْصَارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ».
(الأنعام/ 103)
قال المتكلمون: إنّ المدرك بمعنى السميع والبصير، وعليه فهذه الكلمة تجمع كلتا الصفتين «2».
وقد قال الراغب في المفردات: بأنّ «الإدراك» معناه الوصول إلى نهاية الشي ء، لكن البعض فسروها بالمشاهدة العينية، والبعض الآخر قالوا: إنّها بمعنى المشاهدة ببصيرة القلب.
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 8، ص 188.
(2) شرح التجريد: «في أنّ اللَّه سميع بصير».
نفحات القرآن، ج 4، ص: 94
وفي الحقيقة فإنّه لا شي ء في اللغة يدلّ على أنّ معنى الإدراك هو الإدراك الحسّي، بل وكما قلنا فإنّ الإدراك معناه الوصول إلى نهاية الشي والاحاطة به، سواءً كان حسيّاً أم عقلياً، وما يثير العجب أكثر هو أنّه على الرغم من أنّ الآية المذكورة قالت وبعبارة صريحة:
«لا تدركه الأبصار» (سواء في الدنيا أم في الآخرة، وسواء في ذلك الرسول صلى الله عليه و آله في ليلة المعراج أم غيره) فمع ذلك أصرّ بعض المفسرين
على حمل الآية على خلاف معناها الظاهري، وقالوا: إنّه يمكن رؤية اللَّه في الآخرة على الأقل، وذكروا عدّة توجيهات في هذا المجال، وقد ذكر الفخر الرازي أربعة نماذج منها في تعليقه على هذه الآية «1»، جميعها ضعيفة جدّاً وتبعث على التأسف وتدلّ على ميل البعض في فرض آرائهم الباطلة على القرآن بأيّ ثمنٍ كان.
وسنبحث هذا الموضوع بتفصيل أكثر في شرح الصفات الإلهيّة السلبية إن شاء اللَّه تعالى وسوف نلاحظ عكس ذلك تماماً في روايات أهل البيت عليهم السلام حيث لم تكتفِ فقط بنفي قدرة الإنسان على رؤيته تعالى بل حتى نفت قدرة العقل البشري على إدراك كنه ذاته المقدّسة.
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 13، ص 124.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 95
الجدير بالذكر هو أنّ القرآن الكريم وصف الذات الإلهيّة المقدّسة ب «الحكيم» في تسعين موضعاً!
وقد اقترنت في كثير من المواضع مع صفة «العزيز».
وأحياناً مع صفة «الخبير».
واخرى مع صفة «العليم».
واخرى مع صفة «الواسع».
وأحياناً مع صفة «التوّاب».
وأحياناً مع صفة «العلي».
وأحياناً اخرى مع صفة «الحميد».
وكما سنرى فيما بعد فإنّ كل واحدة من هذه الصفات تعطي مفهوماً أكمل وأشمل عندما تأتي مع صفة الحكيم.
وعلى أيّة حال فإنّ حكمة اللَّه ما هي إلّاعلمه واحاطته بتدبير الوجود ونظم الخلق.
بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات التالية:
1- «انَّ اللَّهَ عَزيْزٌ حَكيمٌ». (التوبه/ 71)
2- «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». (التوبه/ 106)
3- «كِتَابٌ احْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ». (هود/ 1)
4- «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَانَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ». (النور/ 10)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 96
5- «تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ». (فصلت/ 42)
6- «انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ». (الشورى 51)
7- «وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً» «1»
. (النساء/ 130)
لفظ «حكيم»، كما ورد في كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي مأخوذ من مادة «الحكمة»، وهي تفيد معنى «العلم» و «الحلم» و «العدالة»، وحسب ماورد في مفردات الراغب، فإنّ «الحكيم» بمعنى المنع من شي ء لغرض إصلاحه، أمّا في مقاييس اللغة فقد فسر لفظ الحكيم بمعنى المنع من الظلم، وعلى هذا الأساس فإنّ عنان أو لجام الحيوان يسمى «حكمة» على وزن «صدمه»، وأيضاً يقال للعلم والمعرفة «حكمة»، لأنّها تمنع الشخص من القيام بالأعمال غير اللائقة.
ويقال أحياناً «للحكم» «حكومة»، وذلك لأنّ الحكومة تمنع الناس من القيام بالأعمال غير القانونية.
ورد في «لسان العرب»، أنّ «الحكم» تعني العلم والفقه والقضاء بالحق والعدل.
وقال صاحب «صحاح اللغة»: أنّ «الحكيم» هو الشخص الذي ينجز أعماله بصورة صحيحة وطبق اصول وأسس معينة أمّا في «النهاية» لابن الأثير،
وفي «لسان العرب» فقد ورد معنى «الحكمة» بانّه: معرفة أفضل الأشياء وأفضل الأساليب وبأحسن كيفية ويقال للشخص الذي ينجز أعماله بدقة واتقان، «حكيم»، «فنقول، إنّ فلان دلنا على أحسن مزرعة وبأقرب طريق، فهو حكيم، وكذلك بالنسبة للشخص الذي ينتج أفضل المنتجات بأفضل الطرق والأساليب، فهو حكيم أيضاً».
__________________________________________________
(1) وكما قلنا فلفظة «حكيم» قد وردت في آيات مختلفة من القرآن الكريم أكثر من تسيعن مرة، لكن الآيات أعلاه شاملة لمختلف التعابير حول هذا الموضوع.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 97
الجدير بالذكر أنّ الصفات التي وصف اللَّه تعالى ذاته المقدّسة بها في ذيل الآيات القرآنية المذكورة لها علاقة وثيقة وخاصّة مع محتوى هذه الآيات، بحيث إنّ التدقيق في هذه المسألة يُرشد إلى نقاط مهمّة، ومع أخذ هذه الإلتفاتة بنظر الاعتبار نحاول تفسير الآيات المذكورة.
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى في الآية الأولى قسماً من الواجبات الإسلامية حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وأداء الزكاة وما شاكل ذلك، وبعد التذكير بشمول رحمته عباده المطيعين، قال عزّ وجل: «انَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيمٌ».
«العزيز»: من «العزّة» أي عدم المغلوبية، والأصل في استعمالها هو في التعبير عن الأشياء الصلبة التي لا ينفذ فيها شي ء، وعليه فإنّ صفتي «عزيز وحكيم» هنا تدلان على قدرته وعلمه اللامتناهيان.
والجدير بالذكر هو أن هاتين الصفتين قد وردتا معاً في الكثير من الآيات القرآنية، وأكثر ماورد ذكرهما في الآيات التي تحدّثت حول تشريع الأحكام، وبعث الأنبياء، ونزول القرآن (كالآيات 129 و 209 و 228 من سورة البقرة، والآية 2 من سورتي الجاثية والأحقاف)، وذلك للتذكير بأنّ اللَّه تعالى قد فصّل جميع ما يحتاجه البشر بتشريع القوانين وإنزال القرآن بدّقة متناهية، لأنّه علاوةً على كونه حكيماً وعليماً،
فهو قادر على هذا العمل أيضاً.
وبتعبير آخر، إنّ أفضل القوانين يُشرعها من هو أعلم وأكثر اقتداراً من الجميع، وهو اللَّه ولا أحد غيره.
وما ذُكر في قسم من الآيات التي ختمت بصفتي «عزيز حكيم» عن خلق السماء والأرض، وتسبيح الكائنات لله تعالى أو تنظيم خلقة الجنين، وما شاكل ذلك (كالآية 1 من سورة الحديد، والآية 24 من سورة الحشر، والآية 6 من سورة آل عمران)، بمثابه كناية عن كون عالم التشريع ليس لوحده قائماً في ظلّ علم اللَّه تعالى وحكمته، بل إنّ عالم التكوين كذلك أيضاً.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 98
وفي قسم آخر من الآيات ورد الحديث عن أفعال اللَّه تعالى كالقيام بالقسط، وخلق المسيح عليه السلام، ونصر المؤمنين في القتال، وتأليف قلوب المؤمنين، وختمت بعبارة «عزيز حكيم» و هي (كالآيات 18، 62 و 126 من سورة آل عمران، والآية 63 من سورة الأنفال).
وهذه الآيات تشير إلى أنّ أفعال اللَّه تعالى أيضاً تتفرّع من علمه اللامحدود وقدرته المطلقة.
وأحياناً نجد أنّ بعض الآيات تتحدث عن الثواب والعقاب وتختتم ب (العزيز الحكيم) كما ورد في سورة (المائدة، 18)، كناية عن كون العطايا الإلهيّة أيضاً قائمة على أساس الحكمة والحساب الدقيق، وكذلك إشارة إلى قدرة اللَّه تعالى على تنفيذ ما وعد به عباده المؤمنين من العطايا العظيمة، وإلى عجز المجرمين عن الفرار من عقابه تعالى
وأخيراً فقد يكون تلازم هاتين الصفتين من أجل إضاءة بصيص الأمل في قلوب المؤمنين وتهدئة خواطرهم، ليدركوا بأنّهم ليسوا لوحدهم أبداً في الصعاب وعند مواجهة الأعداء، كما ورد في الآية الشريفة: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِانَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ».
(الأنفال/ 49)
وخلاصة الكلام فإنّ عزّة اللَّه تعالى وقدرته لاتبقي مجالًا لأي مانعٍ دون تنفيذ إرادته ومشيئته
سبحانه، فهو على كل شي ء قدير، فله تعالى القدرة على إدارة نظام التكوين ونظام التشريع، وعلى الدفاع عن أوليائه وأحبائه سبحانه.
ولكونه سبحانه حكيماً، فإنّه خبير بكل أسرار الوجود، وبمصالح الأمور ومفاسدها، وبحوائج عباده، واتصافه سبحانه وتعالى بهاتين الصفتين هو السر في تواجد أفضل الأنظمة في عالم الوجود.
وفي الآية الثانية يمر علينا التعبير القرآني الثاني في هذا المجال، حيث مزج علم اللَّه
نفحات القرآن، ج 4، ص: 99
تعالى مع حكمته، ووصفه بصفتي العليم والحكيم في آن واحد، وبعد أن تحدثت عن جماعة من المسلمين خلطوا عملًا صالحاً وآخر طالحاً، قال تعالى «وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
إنّ اللَّه تعالى عليم يعلم هذه الجماعة جيداً، وحكيم من حيث معاملته كل فرد بما يستحقه، فتارة يرحم وتارة اخرى يعذّب، وبذلك يجعلهم بين الخوف والرجاء، وهذه الحالة تعد من العوامل التربوية للإنسان.
والواقع إنّ التعبير بكلمة «عليم» إشارة إلى إحاطته تعالى بالموضوع، و «حكيم» إشارة إلى إطلاعه على الحكم «1».
ومن البديهي أنّ كلًا من العذاب أو العفو الإلهي ليس من دون حساب، بل هو قائمٌ على اسس اللياقات العملية والأخلاقيّة والنيّات الذاتية للأفراد.
والجدير بالذكر هو أنّ بعض الآيات التي سبقت هذه الآية عن جماعة اخرى من الذين خلطوا الطاعات بالمعاصي، خُتمت بالوعد بالمغفرة: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، وذلك من أجل التأكيد على تلك المغفرة، ويعتقد أنّ تلك الآيات تحدثت عن الذين تابوا من ذنوبهم حالًا وأصلحوا نفوسهم بعد اقتراف المعاصي مباشرةً، لكن الجماعة المذكورة في آية بحثنا لم تكن كذلك.
ويلاحظ في آيات كثيرة اخرى أيضاً بأنّ صفتي «عليم وحكيم» لهما علاقة وثيقة بمحتوى الآية في جميع تلك الآيات، لأنّ الكثير منها قد تحدثت
عن الأحكام والقوانين الإلهيّة التي لها علاقة واضحة بعلم اللَّه تعالى وحكمته. والبعض الآخر منها تحدثت عن القوانين التكوينية التي لا يمكن تشريعها أيضاً بدون العلم والحكمة.
وبعضها تحدثت عن التوبة والثواب والعقاب، والعدل في هذه الامور يحتاج إلى العلم والحكمة، العلم بأعمال ونيّات العباد، والحكمة في تقدير الثواب والعقاب حتماً.
__________________________________________________
(1) في تفسير الكبير، ج 16، ص 193؛ وتفسير روح المعاني، ج 11، ص 16، إشارة خفيفة إلى هذا المطلب.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 100
ونلاحظ استعمال الآية الثالثة تعبيراً آخر وهو ذكر صفتي «الحكيم والخبير» في موضع واحد، قال تعالى «كِتَابٌ احْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ».
قال الزمخشري في كشّافه: «تشير هاتان الصفتان إلى فعلين إلهييّن ذكرتهما الآية في البداية، أي أنّ الآيات القرآنية محكمة ومتوازنة لأنّها صادرة من لدن حكيم، ومفصّلة لأنّها صادرة من لدن خبير وعليم بكل شي ء» «1».
في الآية الرابعة نلاحظ وجود تعبير قرآني جديد وهو اقتران صفة «الحكيم» بصفة «التوّاب»، قال تعالى «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَانَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ».
وردت هذه الآية بعد مجموعة من الآيات المتعلقّة بمسألة اللّعان (وهو إذا اتهم رجل زوجته بالزنا- والخروج عن جادة العفاف ولم يكن لديه أربعة شهود على ادعائه: وجب أن يجلد ثمانين جلدة وفق قانون القذف، لكن القرآن أسقط عن الزوج هذا الحكم شريطة أن يحلف باللَّه خمساً كما ورد تفصيله في آيات سورة النور، لكن زوجته ستكون محل تهمة في هذه الحالة، وتدرء الاتهام عنها في حال أدائها اليمين الخماسي أيضاً، وفي هذه الحالة فسوف تحرم الزوجة على زوجها إلى الأبد.
بالالتفات إلى هذه المسألة يتضح أنّ علاقة صفتي «التواب» و «الحكيم» مع محتوى الآية وثيقة جدّاً، حيث وضع سبحانه وتعالى أمام الطرفين طريقاً للتوبة والرجوع، لكي يتمكن الذي افترى على صاحبه من العودة إلى مواصلة الحياة الزوجية وبتحمل عقوبة القذف، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى ونظراً لكون الزوجين أكثر اطلاعاً على بعضهما، ولِتعسُّر إقامة الدليل على مثل هذه المسائل الخاصة غالباً، فإنّ اللَّه تعالى قد صان حقوق
__________________________________________________
(1) تفسير الكشاف، ج 2، ص 377.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 101
الزوجين وحق أولادهما، وصان الزواج من أي لون من التلوث بالاستفادة من
سنة أحكام اللِّعان الحكيمة هذه).
يلاحظ في الآية الخامسة اقتران صفة «الحكيم» بصفة «الحميد»، بعد أن بَّينت الآية عظمة القرآن الكريم، قال تعالى «لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».
وردت تفاسير عديدة حول معنى كلمة «الباطل» وجملة «من بين يديه ومن خلفه»، لكن الظاهر هو أنّ «الباطل» يشمل كل مايُبطل ويسقط هذا الكتاب السماوي من الاعتبار، وجملة «من بين يديه ومن خلفه» كناية عن جميع الجهات، أي أنّ غبار البطلان لن يترسب على هذا الكتاب السماوي، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى سواء كان في الكتب السابقة أم المقالات اللاحقة.
والدليل على ذلك هو أنّه تنزيل من لدن ربّ حكيم يحيط بجميع أسرار خلق الإنسان والكون، والهدف منه هو الامتنان على الإنسان بأكبر النعم الإلهيّة، نعمة تستحق أعلى مراتب الحمد، لذا فقد وردت صفة الحميد بعد صفة الحكيم.
ولهذا لا يمكن أن نجد نقطة ضعف في مضمونه ولا في معاينه ولا تستبدل بمرور الزمان، أو يستطيع أحدٌ تحريفه أو تغيير محتوياته.
بعد أن أشارت الآية الخامسة إلى مسألة الوحي وارتباط الأنبياء مع الذات الإلهيّة المقدّسة بطرق مختلفة (الالهام القلبي، التكليم بايجاد أمواج صوتيّة أو إرسال الوحي)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 102
قالت الآية السادسة: «إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ».
إنَّ علوّه تعالى يستوجب أن لا يتصل مع عباده الذين هم موجودات جسمانية ومخلوقات إمكانية، إلّابالطرق التي ذكرناها، وحكمته تستوجب أن يفيض الوحي بالمعارف والتعاليم التي تعبّد طريق الإنسان إلى اللَّه تعالى
هنا تتضح الآصرة الوثيقة الموجودة بين هاتين الصفتين، ويتضح محتوى الآية.
وبالتالي فالآية السابعة والأخيرة من بحثنا، بعد أن سمحت للزوج والزوجة بالطلاق عند فقدان الالفة، أمّلتهما بالحياة المستقبليّة لكي لا ييأسا ويسلكا طريق المعاصي. قال تعالى «وَانْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيْماً».
فمن جهة يبشّرهما تعالى بالغنى من فضله وكرمه (وهذا يتناسب مع وصفه تعالى بالواسع)، ومن جهة اخرى فقد شرّع الطلاق وسمح للزوجين بالافتراق في حالات خاصّة (وهذا مقتضى حكمته سبحانه)، لأنّه لو لم يشرع قانون الطلاق- كما في القوانين المسيحية المشرَّعة في عصرنا الحاضر- لواجه الزوجان طريقاً مسدوداً في حالات الطلاق الضرورية، ولتورّطا بنارٍ محرقة لامفرّ منها، ولتهيأت الأرضية لوقوع كل ألوان الإنحرافات الأخلاقية والجرائم وتضييع حقوق الزوجين وأبنائهما.
يستنتج من مجموع الآيات المذكورة بوضوح أن حكمة اللَّه تعالى التي هي إحدى فروع علمه، تدل على أنّ الوجود بكل أبعاده قائم على أساس نظام وحساب دقيق وقوانين موزونة ومنسجمة، وأنّ أفعال اللَّه تعالى بكل أبعادها مقرونة بالحكمة، وهذا هو مايعبر عنه بالنظام الأحسن في بعض الأحيان.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 103
وهذا النظام الأحسن قد تجلى في عالم التشريع والتقنين والأحكام الشرعية، وفي طيات تشريع هذه القوانين والاحكام أسرارٌ وفلسفات لايعلمها إلّااللَّه الحكيم الذي أرانا قسماً منها أيضاً.
لم يكن اتصاف اللَّه تعالى بالحكمة مستنبطاً من عشرات الآيات القرآنية، التي وصفته بالحكيم فحسب، بل يمكن إثباته بالأدلة العقليّة أيضاً.
لأنّه وكما أشرنا سابقاً فإنّ صفة الحكيم تطلق على من يؤدّي افعاله بأفضل وجه، وأقرب طريق، ويتحرز عن أي عملٍ غير موزون وغير صالح. وبالحقيقة أنّ الحكمة تشمل الحالات العملية في الغالب، بينما نجد أنّ العلم يشمل الحالات النظرية.
لذا فإنّ جميع الأدلة التي تثبت علم اللَّه تعالى أثبتت حكمته أيضاً، ولكن يجدر الالتفات إلى التفاوت الموجود بين وصف الباري بالحكيم والإنسان بنفس هذه الصفة، فالأخير هو من تنسجم أعماله مع قوانين عالم الوجود، لكن قولنا: اللَّه حكيم، يعني الذي أوجد القوانين التي هي مصداق للنظام الأحسن، وبتعبير أدق: إنّ اللَّه تعالى هو الذي يقنن القانون ويشرِّعه ونحن نطبقه.
ومن جهة اخرى فإنّ نظرةً واحدةً إلى عالم الوجود- من المنظومات الشمسية والكواكب والنجوم، حتى مكوّنات الذرة، ومن الكائنات الحية الاحادية الخلية، وحتى الحيوانات العملاقة، والأشجار العظيمة- كافية لإدراك حكمة الخالق ومؤسس هذا البناء البديع.
إنّ جميع الكتب التي كتبت حول العلوم الطبيعية، والفيزياء، والكيمياء، والتشريع، وعلم الحيوان، والنبات، وعلم الفلك والنجوم، هي في الأساس تشرح حكمة اللَّه تعالى وكما قال
العلماء: إنّ جميع هذه العلوم هي في الواقع ورقة واحدة من كتاب أسرار عالم الوجود العظيم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 104
وهذا بحد ذاته أفضل دليلٍ على حكمته سبحانه.
وبتعبير آخر: فكما أنّ برهان النظم يثبت وجود اللَّه سبحانه وتعالى فهو يثبت علمه وحكمته أيضاً.
والجدير بالذكر أنّ روايات كثيرة، ومن جملتها رواية «توحيد المفضل» المعروفة، تحتوي على إشارات قيِّمة كثيرة حول حكمة اللَّه تعالى في خلق الإنسان، والحيوان، والطيور، والأسماك، والسماء، والشمس والقمر والنجوم، والماء والنار، والمعادن، والنباتات، والأشجار، وغيرها، وقد وضَّحت بأجمعها ما قلناه.
غالباً مايُنظر إلى صفات اللَّه تعالى من بعد «معرفة اللَّه»، وهذا صحيح في محله طبعاً، لكن القرآن الكريم استعمل هنا نقطة ظريفة اخرى وهي استعانته بهذه الصفات لتربية الإنسان في الغالب، والتي تجلت نماذج منها في الآيات التي ذكرناها، لذا يجب أن نعمل بهذا الكتاب الإلهي، ونتخذ من معرفة صفات اللَّه تعالى أساساً لتهذيب نفوسنا وتكامل عقولنا.
إنّ للإيمان بحكمة اللَّه تعالى انعكاسات وآثار تربوية في نفس الإنسان، وهذه الآثار هي كالتالي:
أ) الإيمان بحكمته تعالى يمكنه أن يترك آثاراً بليغة في التطورات العلمية للإنسان ومعرفته بأسرار عالم الوجود، ويزيد في سرعة العلم البشري بالسير إلى الأمام قُدُماً.
لأننا عندما نعلم أن صانع هذا البناء البديع العظيم معمار ماهر، وأودع كل موضع منه أسرار الحكمة، فإننا سوف لا ننظر إلى موجودات وحوادث هذا العالم بنظرة عادية، بل سوف نتعمق في كل ظاهرة كموضوع مهم، بحيث نتوصل إلى اكتشاف قانون الجاذبية العام المهم جداً، وقوانين مهمّة اخرى بمجرّد سقوط تفاحة من شجرة ما.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 105
ولا تعجب عند سماعك بأنّ (إنشتاين) كان يعتقد بأنّ العلماء والمكتشفين العظام كانوا جميعاً يؤمنون نوعاً ما بوجود المبدئ
العليم، وبحكمة الوجود، وهذا الأمر هو الذي كان يشجعهم على بذل مساعٍ أكبر.
ب) إنّ الاعتقاد بحكمة اللَّه تعالى في التشريع والتقنين يهوّن الصّعاب الموجودة في تعاليم تلك الشرائع، ويلتذ الإنسان في تحمل الشدائد في طريق امتثال أوامره سبحانه، لأنّه يدرك بأنّ جميع هذه البرامج والقوانين صادرة من ذلك الحكيم العظيم. فتجويزه سبحانه وتعالى دواءً مُراً مثلًا، إنّما هو لدور ذلك الدواء في شفاء الإنسان، وتشريعه لتكليف شاق معين، إنّما هو من أجل سعادة الإنسان وتكامله المترتبة عليه.
ج) إيمان الإنسان بهذه الصفة الإلهيّة يزيد من صبره وتحمله وقدرته، ومقاومته في مواجهة المصائب والحوادث المرة، وذلك لأنّه يدرك وجود حكمة معينة في كل واحدة منها، وهذا الاحساس يعينه في التغلب على المشاكل المذهلة، لأننا نعلم بأنّ الشرط الأول للتغلب على المشاكل هو التمتع بالمعنوية العالية، والتي لا تتحقق إلّافي ظل معرفة حكمة اللَّه تعالى
د) وكما نعلم أنّ افضل مقام مرموق يبلغه الإنسان هو وصوله إلى مقام القرب منه تعالى ولا يتحقق القرب منه سبحانه إلّابالتخلق بأخلاقه تعالى والاقتباس من نور صفاته.
والإيمان بحكمة اللَّه تعالى يدعو الإنسان إلى سلوك طريق العلم والحكمة والتخلق بالأخلاق الإلهيّة، ولعل هذا هو السر في تعبير القرآن عن الحكمة بعبارة (خيراً كثيراً) حيث قال: «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوْتِىَ خَيْراً كَثِيراً». (البقرة/ 269)
ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله: «الحكمة ضياء المعرفة وميراث التقوى وثمرة الصدق وما أنعم اللَّه على عبدٍ من عباده نعمة أنعم وأعظم وأرّفعَ وأجْزلَ وأبْهى من الحكمة» «1»
.
ونختم كلامنا هذا بكلام العلّامة المجلسي رحمه الله، والذي يوضح البحوث السابقة وخصوصاً البحث الأخير.
__________________________________________________
(1) بحار الانوار، ج 1، ص 215، ح 26.
نفحات القرآن، ج 4، ص:
106
فقد نقل العلامة المجلسي رحمه الله معنى الحكمة عن العلماء بأنّهم قالوا: الحكمة تحقيق العلم وإتقان العمل، وقيل: مايمنع من الجهل، وقيل: هي الإجابة في القول، وقيل: هي طاعة اللَّه، وقيل: هي الفقه في الدين، وقال ابن دريد: كل ما يؤدّي إلى مكرمة، أو يمنع من قبيح، وقيل: مايتضمن صلاح النشأتين «1».
__________________________________________________
(1) بحارالانوار، ج 1، ص 215، ح 26.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 107
هناك آيات قرآنية كثيرة تحدثت عن إرادة اللَّه سبحانه سواءً في عالم الخلق والوجود، أو في تشريع القوانين والأحكام وتكاليف العباد ومصيرهم.
لا ريب في أن للَّه تعالى إرادتين، تكوينية وتشريعية، وظهور الحوادث المختلفة في أوقات مختلفة يُعد دليلًا واضحاً على إرادته في إيجاد موجود أو حادثة ما في يوم كذا، لا قبله ولا بعده.
وهكذا فإنّه تعالى أراد أن يؤدّي عباده الطاعة الفلانية ويتركوا المسائل الاخرى
لكن ماهو معنى وحقيقة إرادة اللَّه تعالى
تُعدّ هذه المسألة من أعقد المسائل الكلامية والعقائدية والفلسفية، ولكن بعد التحليل النهائي سنتوصل إلى أنّ إرادة اللَّه تعالى ومشيئته فرعٌ من فروع علمه سبحانه. أما كيف؟
فهذا ما سنعرفه بعد تتبع الآيات القرآنية التي وردت حول إرادته ومشيئته تعالى.
ولنتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية:
1- «انَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ءٍ اذَا ارَدْنَاهُ انْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». (النحل/ 40)
2- «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً انْ ارَادَ بِكُمْ ضَرًّا اوْ ارَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً». (الفتح/ 11)
3- «وَنُرِيدُ انْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ ائِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».
(القصص/ 5)
4- «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ». (البقرة/ 185)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 108
5- «يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (النور/
45)
6- «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَى ءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* الّا انْ يَشَاءَاللَّهُ». (الكهف/ 23/ 24)
7- «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الَّا وَحْيًا اوْ مِنْ وَرَاءِى حِجَابٍ اوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلىٌّ حَكيمٌ». «1» (الشورى 51)
«الإرادة»: من مادّة (رَوْد) (على وزن مَوْج)، وهي في الأصل بمعنى التردُّد المصحوب بالهدوء لتحصيل شي ء، وتُطلق على الذي يبحث عن مرتع لرعي المواشي.
وكلمة «الإرادة» المأخوذة من هذا الأصل هي بالواقع مركّبة من ثلاثة عناصر: «إرادة الشي ء عن رغبة» و «مع الأصل في الوصول إليه» و «الأمر بفعله من قبله أو الآخرين» «2».
يعتقد الكثير من الغويين والمتكلمين أنّ «المشيئة» تعني «الإرادة»، لذا فقد قال الراغب في المفردات: يعتقد أكثر المتكلمين أنّ المشيئة تعني «الإرادة» تماماً، واعتقد البعض منهم أنّ المشيئة تعني إيجاد الشي ء والوصول إليه، ولو أنّها حلّت محل الإرادة في الاستعمالات المتعارفة، وعلى هذا تكون المشيئة بالنسبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى بمعنى الإيجاد، وبالنسبة إلى الناس بمعنى الوصول إلى شي ء معين «3».
لكنه ورد في بعض كتب اللغة أنّ «المشيئة» غير «الإرادة»، فالمشيئة هي المَيْل الذي يحصل للإنسان بعد التصوُّر والتصديق، ثم يصل بعدها العزم والتصميم، ثم تتحقق الإرادة (وعليه فإنّ المشيئة) تُطلَقُ على المراحل الأولى و «الإرادة» على المرحلة الأخيرة وتتصل بالفعل «4».
__________________________________________________
(1) وهناك آيات اخرى تتضمن هذا المعنى وهي: المائدة، 17؛ الرعد، 11؛ الكهف، 82؛ الاحزاب، 17 و 33 و 38؛ الاسراء، 16؛ الانعام، 125؛ البقرة، 185؛ آل عمران، 176؛ النساء، 26 و 27 و 28؛ المائدة، 1 و 6 و 41؛ الانفال، 7؛ التوبة، 55؛ هود، 107؛ الحج، 14 و 16؛ فاطر، 10؛ البروج، 16.
(2) مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ لسان العرب.
(3) مفردات الراغب؛ ونهاية ابن الأثير؛ ومصباح اللغة؛ وصحاح اللغة؛ ولسان العرب؛ ومجمع البحرين.
(4) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 109
وقد ورد في الروايات الإسلاميّة أيضاً أنّ «المشيئة» مرحلة قبل «الإرادة»، وسيأتي شرح ذلك في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه.
أخبرت الآية الأولى بحقيقة عدم انفصال إرادة اللَّه تعالى عن وجود الأشياء، فبمجرّد قوله سبحانه للشي الذي يريده، كُنْ، فإنّه سيتحقق: «انَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ءٍ اذَا ارَدْنَاهُ انْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».
وطبعاً إنّ هذا الكلام لايعني وجود الحوادث والموجودات في لحظة واحدة، بل يعني وجودها وحدوثها وفق الإرادة الإلهيّة والأمر الإلهي بدون تقديم أو تأخير حتى ولو لحظة واحدة.
أي إذا أراد اللَّه تعالى أن يبقى جنين في بطن امه تسعة أشهر وتسعة أيام بالضبط، فإنّه سيولد في الموعد المحدَّد وبدون لحظة من التقديم أو التأخير، وهكذا إذا أراد سبحانه أن يمكث هذا الجنين أقل أو أكثر من هذه المدّة، وإذا أراد اللَّه إيجاد منظومة كالمنظومة الشمسية، أو عالم عظيم آخر كالعالم الحالي فإنّه سوف يوجد على الفور.
والتعبير بكلمة (كن) أيضاً إنّما جاء بسبب عجز اللفظ عن بيان المعنى أي أنّه تعبير كنائي وإلّا فلا توجد فاصلة بين إرادة اللَّه تعالى وتحقق الشي ء المراد.
والعجيب هو أن بعض المفسّرين القدماء فسّروا كلمة (كن) كأمر صادر من اللَّه تعالى فواجهوا هذا السؤال: مَن هو المخاطب؟ أيمكن مخاطبة العدم؟
وعليه اضطروا لتوجيه مخاطبة العدم، أو القول بوجود المعدومات، أو الاستدلال بالآية على كون كلام اللَّه تعالى قديماً.
في حين أنّ هذا الكلام كلّه خاطي، وتشير القرائن إلى كون هذه الجملة كناية عن عدم وجود فاصلة بين إرادة اللَّه وتحقق الشي المراد.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 110
وبالحقيقة فإنّ الآية
قد تحدثت عن إرادة اللَّه تعالى وإيجاد الأشياء لا غير، وكما سنعلم فإنّ إرادة اللَّه تعالى تكون على معنيين، فمن جهة تكون عين ذاته، ومن جهة اخرى تكون عين فعله أيضاً، (فتأمل جيداً).
وقد ورد شي ء من هذا القبيل في الآيات: 117 من سورة البقرة، 82 من سورة يس، 59 و 47 من سورة آل عمران، 35 من سورة مريم، 68 من سورة غافر.
ويجدر الالتفات إلى أن بعض الآيات المذكورة قد نزلت بخصوص منكري المعاد لتذكيرهم بعدم وجود شي ء يصعب على الإرادة الإلهيّة إيجاده. (كالآية 82 من سورة يس، والآية المذكورة في بحثنا).
وبعضها نزلت بخصوص خلق آدم عليه السلام من التراب (كالآية 59 من سورة آل عمران).
أو خلق المسيح من دون أب (كالآية 47 من سورة آل عمران، والآية 35 من سورة مريم).
أو بخصوص الابداع في خلق السموات والأرض (كالآية 117 من سورة البقرة).
تحدثت الآية الثانية عن إرادة اللَّه في الثواب والعقاب ومصير الناس، وأشارت إلى هذه الحقيقة التي تفصح عن عدم وجود شي ء يمنعه عن إمضاء إرادته بخصوص مكافأة ومعاقبة عباده، قال تعالى «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً انْ ارَادَ بِكُمْ ضَرًّا اوْ ارَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً».
إنّ سبب تقاعسكم عن الجهاد هو إمّا لتوقي الحوادث المؤلمة لكم ولأهليكم، وإمّا للحصول على منافع مادية وحفظ الأموال، وجميع هذه الامور ترتبط بإرادة اللَّه ومشيئته، ولا أحد يملك لكم من اللَّه شيئاً.
إنّ رسوخ هذه العقيدة في قلب الإنسان يؤدّي إلى ممارسته الأوامر الإلهيّة من دون الخوف من ضرر معين أو فوت منفعة وما شاكل ذلك، لأنّ مقاليد جميع هذه الامور بيده تعالى
نفحات القرآن، ج 4، ص: 111
وعليه يتضح لنا
أثر الإيمان بالإرادة والمشيئة الإلهيّة على أعمال الإنسان واستعداده لأداء التكاليف الإلهيّة.
وعلى أيّة حال فالحديث هنا يدور حول الإرادة التكوينية أيضاً.
تحدثت الآية الثالثة عن أثر الإرادة الإلهيّة في مصير الأقوام، وأنارت بصيص الأمل في نفوس الامم المظلومة، قال تعالى «وَنُرِيدُ انْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ ائِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».
إنّ التعبير بالفعل المضارع «نريد» الذي يدل على الاستمرار هو للدلالة على ديمومة وخلود هذه السُنة الإلهيّة المتمثلة بتسلط المستضعفين وسيطرتهم على زمام الامور في الأرض واندحار الطواغيت المستكبرين.
ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الآية قد تحدثت عن «المستضعفين» لا «الضعفاء»، أي عن الذين يجاهدون ويقاتلون دوماً؛ وقد استضعِفوا من قبل أعدائهم لا عن الذين استسلموا للذلة والضعف.
وبضم هذه الآية إلى الآية من سورة الأنبياء: «أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ»، نستنتج بأنّ المستضعفين هم اولئك الصالحون المؤمنون المجاهدون.
ويجب الالتفات إلى أنّ كلمة (نمنُّ) مشتقة من أصل (منّ) وهو في الأساس بمعنى الوزن الثقيل، ثم اطلق على النّعم ذات الأهميّة، واستعمال هذا التعبير بخصوص الباري عزّ وجل يدل على اعطائه عزّ وجلّ للنعم الثقيلة العظيمة بدون عوض، أمّا عندما يستعمل بخصوص العباد فهو يعني التذكير بالنعم بقصد المنّ.
وطبعاً هنالك بحوث كثيرة حول هذه السنّة الإلهيّة، أي حكومة المستضعفين، وسنذكرها في محلها إن شاء اللَّه تعالى والجدير بالذكر هنا هو أنّ للإيمان بإرادة اللَّه التكونية أثراً تربوياً عميقاً يلهم المؤمنين الصالحين القوة والأمل والاقتدار، ويزيدهم في مواجهة الظالمين رسوخاً وقوة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 112
تحدثت الآية الرابعة عن إرادة اللَّه تعالى التشريعية، والتي وردت في مواضع عديدة من القرآن، أي إرادته في التقنين، فبعد الحديث عن فريضة الصيام في شهر رمضان واستثناء المسافرين والمرضى من هذا الحكم، قال تعالى «يُريْدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ».
وتعدّ هذه الآية من الآيات التي نفت التكاليف التي لاتطاق و
«التكاليف الشاقة» في نفس الوقت، وماقاله الفخر الرازي في عدم دلالة ذيل الآية على العموم اشتباه محض، لأنّ الألف واللام الواردة في كلمتي «اليسر» و «العسر» للجنس، تدل في مثل هذه الحالات على العموم.
ويمكن طبعاً أن يكون هنالك استثناءات معينة في هذا القانون، كبقية القوانين الاخرى مثل الأمر بالجهاد وماشاكله، فالجهاد ضدّ الخنوع والذل تحت سلطة الأعداء، يُعدّ من مصاديق اليسر أيضاً لا العسر.
فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى نوعين من الأحكام الإلهيّة في الآية الاولى من سورة المائدة، في مجال الالتزام بجميع العقود والمواثيق، وحليّة أكل لحوم المواشي حيث قال:
«إنّ اللَّهَ يَحكُمُ ما يُريدُ» وهذا التعبير يوضح شمول الإرادة الإلهيّة التشريعية لكل الأشياء.
وبخصوص جزاء الأعمال، نلاحظ أنّه تعالى بعد أن ذكر دخول المؤمنين الصالحين الجنّة، قال: «انَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُريدُ». (الحج/ 14)
وبديهي أنّ شمولية إرادة اللَّه في التشريع، وفي الأثابة والمعاقبة، وهكذا في عالم الوجود، لا تعني انفصال إرادته عن حكمته سبحانه، أو أن يكون خلقه أو محاكمته أو إثابته بدون حكمة ومصلحة.
تحدثت الآية الخامسة عن المشيئة الإلهيّة وشمولها لكافة مخلوقات عالم الوجود
نفحات القرآن، ج 4، ص: 113
(المشيئة الإلهيّة العامة التكوينية)، قال تعالى «يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ».
وردت هذه الجملة في القرآن الكريم بعد أن أشار تعالى إلى خلق مختلف أنواع الدواب من ماء، فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع، ونحن نعلم بأنّ تنوع الاحياء بلغ من الكثرة والتشعب بحيث يتجاوز عدد أنواع الحشرات التي درسها العلماء عدّة ملايين، وهكذا بالنسبة لأنواع النباتات بتركيباتها وخصائصها المتفاوتة، فإنّ أنواعها بلغت مئات الآلاف، ممّا تدل بأجمعها على سعة مفهوم
الآية المذكورة أعلاه.
والجدير بالذكر أنّ هنالك أنواعاً جديدة من الأحياء تكتشف بمرور الزمان لم تكن موجودة سابقاً، أي أنّ إيجاد وخلق الحيوانات والنباتات لايتعطل حتى ولا لحظة واحدة! وأساساً أنّ تنوع الظواهر يعدُّ دليلًا على إرادة ومشيئة المظهر المبدي، لأنّ الصانع العديم الإرادة يخلق اموراً متساوية ومتشابهة، بينما كلما حلت الإرادة في موضع اصطحبت معها التنوع «1».
والآية السادسة تحدثت عن المشيئة الإلهيّة أيضاً، والحديث هذه المرّة يدور حول مصير العباد وأعمالهم، فالتفت عزّ وجلّ بالخطاب إلى رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بقوله: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَى ءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* الَّا انْ يَشَاءَ اللَّهُ». أي عندما تتحدث عن عزمك بالقيام بعملٍ مافي المستقبل فتوكل على المشيئة الإلهيّة دائماً وقل: «إن شاء اللَّه». وهذه الجملة تدلّ على تقدم مشيئة اللَّه على بقية المشيئات وعدم وقوع أي شي ء دون مشيئته سبحانه.
وواضح أنّ هذا الكلام لايشير أدنى إشارة إلى مسألة الجبر، بل يشير إلى غلبة المشيئة
__________________________________________________
(1) أشار القرطبي في تفسيره ج 7، ص 474 إلى هذا الموضوع.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 114
الإلهيّة التي لايستطيع أيّ فرد بلوغ هدفه بدونها، وما الحرية التي منحها اللَّه للإنسان إلّا لاختباره وتربيته والعروج به في سُلم الكمال، وحرية الإرادة الإنسانية لا تعني سلب القدرة الإلهيّة.
إضافة إلى هذا فإنّ إرادة ومشيئة الإنسان هي احدى عوامل وصوله وبلوغه أهدافه، وهنالك مئات من العوامل الاخرى خارجة عن قدرته، ولا ترتبط إلّاباللّه تعالى
ومن هنا فإنّ أدب الكلام والخضوع للأمر الواقع يفرض على الإنسان أن لا ينسى عبارة: «إن شاء اللَّه» في برامجه الخاصّة أبداً.
وجاء التأكيد هنا أيضاً على أثر «المعرفة» على أعمال الإنسان، فإيمانه بالإرتباط بالمشيئة الإلهيّة يجعله يشعر دائماً بالفقر إلى
اللَّه وعدم الاستقلال عنه سبحانه، فلا يصيبه الغرور أبداً، ولا يركب مركب الأنانية، ويزيده استقامة وصلابة في مواجهة الصعاب والمشاكل، وينقذه من الوقوع في مخالب اليأس والقنوط لأنّه يعلم أنّ مشيئة اللَّه أكبر من كلَ شي ء.
وأخيراً تحدثت الآية السابعة والأخيرة من بحثنا عن المشيئة الإلهيّة التشريعية وبصورة ظريفة، ومن الضروري الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم قد استعمل كلمة (الإرادة) في التكوين والتشريع بكثرة، لكن استعمل كلمة (المشيئة) في المسائل التكوينية عادةً، وقد استعملها في مجال التشريع والتقنين بندرة ممّا يدلّ على شمول مفهوم المشيئة للجانب التكويني بصورة أكثر). قال تعالى «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الَّا (بثلاثة طرق) وَحْياً اوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (كما تحدث مع موسى في جبل طور، والحجاب هنا بمعنى حجاب المادة) اوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلىٌّ حَكيمٌ»، فسموّه يقتضي أن لا يُرى أو يكلمه بشر، وحكمته تقتضي أن يرسل الرسل لهداية الخلق، ويرتبط برسله بالطرق الثلاثة المذكورة في الآية أعلاه.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 115
يستنتج من مجموع الآيات المذكورة بأنّ إرادة اللَّه سبحانه التكوينية والتشريعية تشمل جميع الممكنات، كل ماتقتضيه حكمته.
وإن كان للانسان إرادة لعمل شي ء معين فانّما هي بإذن اللَّه.
ولا شي ء يمنع عن تحقق إرادته سبحانه، ومشيئته غير منفصلة عن خلق الأشياء.
ومصيرنا جميعاً بيده سبحانه، فالخير والفائدة والسعادة كلها هي فيض من وجوده عزّ وجل.
فبالاعتماد على إرادة اللَّه ومشيئته تهون علينا الحوادث الصعبة.
هذا ماتفيضه علينا هذه الصفات الإلهيّة من معطيات.
عندما ننظر إلى عالم التكوين نجد أن في كل يوم يحدث أمر جديد، ولكل موجود ظاهرة وتاريخ معين، بل العالم بذاته يمثل مجموعة من الظواهر والحوادث.
وهنا يطرح هذا السؤال: بما أنّ اللَّه عالم لأنّه علة العلل لجميع الكائنات، فهو قديم وأزلي، إذن كيف يمكن أن يوجد كل موجود في زمان معين أو أن تقع كل حادثة في زمان معين؟
والجواب على هذا السؤال هو أنّ اللَّه فاعلٌ غير مجبور، بل فاعلٌ
لما يريد ومايشاء، وما انفصال الكرة الأرضية عن الشمس قبل خمسة ملياردات سنة مثلًا، أو ظهور الأحياء على سطح الكرة الأرضية قبل عدة ملايين من السنين، أو دخول الإنسان إلى عالم الوجود قبل آلاف السنين، إلّاامتثالًا لإرادته المتميزة سبحانه.
وخلاصة الكلام هو أنّ وجود بعض الممكنات وعدم وجود بعضها الآخر، أو حدوثها في موعدٍ محددٍ (مع أنّ اللَّه قادرٌ على كلّ شي ء بصورة متساوية) يدلّ على اتصاف ذاته المقدّسة بصفة اخرى غير القدرة، وهي الإرادة والمشيئة الإلهيّة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 116
لا شك في عدم إمكانية مقايسة مفهوم إرادة الإنسان بالإرادة الإلهيّة، لأنّ الإنسان يتصور الفعل في البداية (مثل شرب الماء)، ثم فوائده، ثم يعتقد بفوائده، ثم يشتاق ويرغب إلى القيام بذلك الفعل، فعندما يصل شوقه هذا مراحله النهائية يصدر أوامره إلى العضلات، فيتحرك الإنسان لانجاز هذا العمل.
لكننا نعلم أنّ كل هذه المفاهيم (التصور والاعتقاد، والشوق والامور وحركة العضلات) لا معنى لها بخصوص الباري، لأنّها جميعاً حادثة، فأين إرادته منها إذن؟
من أجل هذا ذهب علماء الكلام والفلاسفة المسلمون- صوب مفهوم يتناسب مع الوجود البسيط المجرد، وبنفس الوقت يتناسب مع أي نوع من أنواع التعبير الحاصل لدى اللَّه تعالى فقالوا: إنّ إرادة اللَّه تعالى على نوعين:
1- الإرادة الذاتية.
2- الإرادة الفعلية.
1- الإرادة الإلهيّة الذاتية: هي علمه بالنظام الاصلح لعالم التكوين، وعلمه بخير وصلاح العباد في الأحكام والقوانين الشرعية.
إنّه يعلم أيّ نظامٍ أفضل وأصلح لعالم الوجود، ويعلم أفضل الأوقات المناسبة لايجاد الموجودات، وهذا العلم منبع تحقق الموجودات وحدوث الظواهر في الأزمنة المختلفة.
وكذلك فانّه سبحانه وتعالى يعلم مصلحة عباده الكامنة في هذه القوانين والأحكام، وأنّ روح هذه القوانين والأحكام هي علمه بالمصالح والمفاسد.
2- إرادته الفعلية عين الايجاد وتعدّ من
صفاته الفعلية لذا فإنّ إرادته في خلق السموات والأرض هي عين حدوثها، وإرادته في فرض الصلاة هي عين وجوبها وفي تحريم الكذب هي عين حرمته.
وخلاصة الكلام هي أنّ إرادة اللَّه الذاتية عين علمه، وعين ذاته، لذلك اعتبرناها من فروع العلم وإرادته الفعلية عين الإيجاد والتحقق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 117
وسيتضح الموضوع بصورة أفضل عند نقل بعض الأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال، إن شاء اللَّه تعالى
كما ذكرنا آنفاً بأنّ المقصود من الإرادة التكوينية هي الإرادة التي يفيض منها وجود جميع الكائنات والموجودات، أو بتعبير آخر عين إيجادها جميعاً.
أمّا الإرادة التشريعية فهي الإرادة التي تفيض منها جميع الأوامر والنواهي الإلهيّة، وجميع الأحكام والقوانين الشرعية، وبتعبير آخر عين هذه الأحكام والقوانين.
ومن خلال متابعة الآيات القرآنية يتضح بأنّ كلمة (إرادة) مستعملة بكلا المعنيين بشكل واسع، في حين نجد أنّ (المشيئة) مستعملة في مجال الخلق والتكوين في الغالب، أمّا في مجال التشريع فيندر مجيئها، ممّا يدل على كون (المشيئة) أقرب إلى مفهوم التكوين.
وردت في روايات أهل البيت ايضاحات كثيرة في هذا المجال، نذكر مجموعة منها كنموذج:
1- ورد في توحيد الصدوق و «عيون اخبار الرضا» عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام جوابه عن سؤال حول إرادة اللَّه تعالى في خلقه أنّه قال: «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللَّه عز وجل فارادته احداثه لا غير ذلك لأنّه لا يُروّي ولا يهمّ ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه، وهي من صفات الخلق، فارادة اللَّه هي الفعل لا غير ذلك. يقول له كن فيكون بلا لفظ، ولا نطقٍ بلسان، ولا همةٍ ولا تفكر ولا كيفٍ لذلك، كما أنّه بلا كيف» «1».
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 4، ص 137، ح 4.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 118
وقد أورد هذا الحديث الشريف المرحوم الكليني في «اصول الكافي» «1». ومن الواضح أنّ هذا الحديث يشير إلى إرادة اللَّه الفعلية وأمّا الإرادة الذاتية فهي علمه بالنظام الأحسن كما مر بيانه.
2- وقد ورد أيضاً في هذا الكتاب عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال:
«المشيئة والإرادة من صفات الأفعال، فمن
زعم أنّ اللَّه تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحد» «2»
.
ومن الواضح أيضاً أنّ هذا الحديث ناظر إلى الإرادة الفعلية، التي تقدم بيانها، فعندما ينفي «الإرادة الازلية» فالمقصود هو نفي مقالة من يقول: إن الإرادة زائدة على الذات وإنّها أزلية، فيكون مفهومها تعدد الوجود الازلي إلى اثنين أو أكثر، وهذا المعنى لا يتلائم مع التوحيد.
أمّا الإرادة الذاتية التي هي عين العلم، والعلم بدوره عين الذات المقدّسة فهو عين التوحيد لا الشرك «فتأمل جيداً».
3- ورد في كتاب الكافي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام جاء فيه: «قال اللَّه: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أدّيت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ما أصابك من حسنةٍ فمن اللَّه، وما أصابك من سيئة فمن نفسك» «3»
.
وهذا الحديث ناظر إلى الإرادة التكوينية للَّه تعالى المتعلقة باختيار وحرية إرادة الإنسان والتي جعلت الإنسان حاكماً على مقدراته، غاية الأمر أنّ الإنسان يُسي ء الاستفادة منها في بعض الاحيان، ويستعمل نعم اللَّه تعالى في معصيته، وهذا من عمل الإنسان نفسه، أمّا حسن الاستفادة من نعم اللَّه تعالى فهو من توفيق اللَّه ومعونته لعبده.
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 109 باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل، ح 3.
(2) توحيد الصدوق، ص 337 باب المشيئة والإرادة، ح 5.
(3) اصول الكافي، ج 1، ص 152 باب المشيئة والإرادة، ح 6.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 119
يعتبر موضوع القدرة الإلهيّة من أهم مباحث صفات الكمال والجمال الإلهيّة بعد بحث العلم، تلك القدرة اللامحدودة من كل ناحية والشاملة لجميع الممكنات والملازمة للإرادة والمشيئة، فهو سبحانه وتعالى يفعل مايريد ويمحو مايشاء في
أى وقت وزمان.
والوجود بأكمله بمظاهره العظيمة المذهلة وبدقائقه الظريفة، يدلُّ على القدرة الإلهيّة المطلقة.
وللدخول في صُلب الموضوع ينبغي طي المراحل التالية:
1- دلائل القدرة الإلهيّة المطلقة.
2- اللَّه فاعل ومختار.
3- رأى الذين أشكلوا على تعميم القدرة الإلهيّة.
4- عدم شمول القدرة الإلهيّة للمستحيلات.
لندخل الآن في بحث الموضوع الأول ونتمعن خاشعين في الآيات القرآنية الشريفة:
1- «تَبَارَكَ الَّذى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الملك/ 1)
2- «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الطلاق/ 12)
3- «لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِى وَيُميْتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍقَديرٌ». (الحديد/ 2)
4- «... يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ». (الروم/ 54)
5- «للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».
(المائده/ 120)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 120
6- «اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ».
(الاسراء/ 99)
7- «اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْىَ الْمَوْتى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الاحقاف/ 33)
8- «فَلا اقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ». (المعارج/ 40)
9- «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شِى ءٍ فِى السَّمَاواتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ انَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً» «1»
. (فاطر/ 44)
10- «قُلْ انَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ». (آل عمران/ 73)
لفظ «قدير»: من مادّة «قدرة»، بمعنى من يفعل كل مايريده بمقتضى حكمته، لا أقل ولا أكثر من ذلك، لذا فإنّ هذه الصفة لا يوصف بها إلّااللَّه تعالى وأساساً إنّ صفة القدرة المطلقة لا يجوز استعمالها إلّافي وصف قدرة اللَّه تعالى وكُلّما اسْتُعمِلَتْ مع غيره فإنّها ينبغي أن تكون محدودة ومقيّدة، لأنّ غيره لوكان قادراً من
جهة معينة فهو عاجزٌ من جهةٍ اخرى «2».
__________________________________________________
(1) يجب الالتفات إلى أنّ صفة (القدير) وردت في القرآن المجيد (45) مرة تقريبا بالنسبة إلى اللَّه تعالى، فتارة بشكل: «إنّ اللَّه على كل شي ء قدير.»
وتارة: «واللَّه على كل شى قدير»،
وتارة: «انك على كل شى قدير»،
وتارة: «وهو على كل شى قدير»،
وتارة: «وان اللَّه على نصرهم لقدير»،
وتارة: «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير. وتعابير اخرى.
وقد وردت كلمة «القادر» سبع مرات، ويلاحظ أيضاً في بعض الآيات «قادرون» و «قادرين» بالنسبة إلى اللَّه تعالى، وكذلك ورد نفى العجز عن اللَّه تعالى والقدرة الواسعة له عز وجل والمأخوذة من مادة «القدرة والعجز والسعة» وهي مذكورة في معاجم اللغة، وما ذكر من الآيات العشر إنّما هي تعابير جامعة للاقسام الثلاثة.
(2) مفردات الراغب، مادة (قدر).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 121
وأصل هذه الكلمة مأخوذ من «قَدْر» وهو بمعنى مقياس شي ء وكُنهه ونهايته، والسّر في استعمال هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى هو فعله كل مايريد وبأي مقدار كان، واعطائه عبادَه أي مقدارٍ يريده هو سبحانه «1».
و «قدير»: و «قادر» كلاهما صفتان من صفات اللَّه سبحانه، وهما مأخوذان في الأصل من «التقدير» في الكميّة، و «قادر» اسم فاعل، و «قدير» صفة مشبّهة بالفعل أو صيغة مبالغة، و «المقتدر» أبلغ منها «2».
«يُعجِزُه»: في الأصل من مادّة «عَجُزْ» «بضم الجيم»، وهي بمعنى ذيل الشي ء و (عَجْز) على وزن «حَبْس» بمعنى التأخُّر عن شي ء معين والوقوع في متابعة عملٍ ما، وتأتي أيضاً بمعنى القصور والعجز عن أداء عملٍ ما في مقابل القدرة على ذلك العمل، و «مُعْجِز» بمعنى الشخص أو الشي ء الذي يُعجز الأخرين، وإطلاق كلمة «عجوز» على المرأة المُسِنّة إنّما هو لعجزها وقصورها (ومن خلالِ تتبع
مصادر اللغة المعروفة كمقاييس اللغة ومفردات الراغب نجد أنّ هذه الكلمة تُستعمل بخصوص النساء المُسِنّات فحسب) «3».
«واسع»: من مادّة «سعة»، و «وَسْع» وهي بمعنى السعة في مُقابل الضيق وتُسْتعمل بخصوص الأمكنة والحالات والأفعال، لذا يُطلق على القدرة والتمكّن والإيجاد «الوُسعة».
أمّا سعة اللَّه تعالى فهي إما أن تكون نابعة من سعة رزقه ورحمته التي وسعت كُلّ شي ء، أو من إحاطته تعالى بكل شي ءٍ علماً، أو من إحاطته الوجوديّة بجميع الأشياء، يعني كثير العطايا وكثير العلم أيضاً. و «الواسع» كما ورد تعبير ال «موسع» أيضاً في القرآن الكريم بخصوص الباري، والذي فسرّه بعض أرباب اللغة أيضاً بمعنى القادر والغني «4».
وهنالك تفسير آخر لهذه الكلمة يخرج عن موضوع هذا البحث «5».
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة، مادة (قدر).
(2) لسان العرب، مادة (قدر).
(3) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ ولسان العرب.
(4) المصادر السابقة.
(5) راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 47 من سورة الذاريات.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 122
بعد أنّ أشارت الآية الاولى إلى الملك الإلهي الأبدي وتسلطه تعالى على جميع عالم الوجود، أكدت على قدرته المطلقة: «تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِه الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ».
(الملك/ 1)
«تبارك»: من مادة (برك) وهي في الأساس بمعنى صدر البعير، لذا عندما يضع البعير صدره على الأرض يُقال: (برك البعير)، وهذه الكلمة جاءت هنا بمعنى البقاء وعدم الزوال.
ويُطلق على النعمة الدائمة الباقية (النعمة المباركة)، واطلاق هذه الصفة على الذات الإلهيّة المقدّسة لازليتها وأبديتها.
وجملة: «بيده الملك» تُفيد الحصر، أي أنّ الملك ومُقّدرات عالم الوجود بيده تعالى فقط.
وجملة: (وهو على كل شي ءٍ قدير) ذات مفهوم واسع وعميق جدّاً، فهي تعني أن القدرة الإلهيّة تشمل جميع مايمكن أن يكون في عالم الإمكان.
والجدير بالذكر أنّ
هذه الكلمة (شي ء) تُطلق على المعدوم بالقياس لإمكانية وجوده، لذا فقولنا بأنّ اللَّه قادر على الشي الفلاني المعدوم فعلًا، يعني قدرته تعالى على إيجاده، وإلّا فالقدرة على المعدوم لا معنى لها.
ويستعمل الإنسان مفهوم القدرة في دائرة محدودة خاصّة، نظراً لحياته المحدودة وافقه الفكري الضيّق ووقوعه في أسر الظروف التي تطبّع عليها، في حين نجد أنّ الآية أعلاه قد كسرت جميع هذه القيود وبّينت امتداد وشمول قدرة الباري إلى ما وراء هذه القيود والظروف، والشي الوحيد الخارج عن دائرة القدرة الالهيّة هو الامور المستحيلة فقط، وذلك لأنّها بذاتها لا تقبل الوجود، ولا يصح عادة استعمال لفظة القدرة بشأنها.
وقد تقدم في البحث اللغوي أنّ كلمة (قدير) ولكونها صفة مشبّهة أو من صيغ المبالغة،
نفحات القرآن، ج 4، ص: 123
فهي تفيد المبالغة وذات مفهوم أوسع من مفهوم (قادر)، ولعلّ هذا هو السر في استعمال أغلب الآيات القرآنية لهذه الكلمة عند وصف القدرة الإلهيّة.
لذا فقد تحدثت الآيات التي تلت هذه الآية عن خلق الإنسان، والموت والحياة، وخلق السموات السبع، والنجوم، ودفع الشياطين والتي تعتبر كل منها نموذجاً من عجائب عالم الوجود.
بعد أن ذكرت الآية الثانية خلق السموات والأرض، بيّنت أنّ الهدف الأصلي من جميع ذلك هو إطلاع العباد على سعة قدرة اللَّه وعلمه سبحانه: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الطلاق/ 12)
وعليه فإنّ خلق السموات العريضة والأرضين الواسعة، والتدبير الدائم والمستمر الموجود فيما بينها، يُعتبر بحد ذاته أفضل دليلٍ على عموميّة وشموليّة القدرة الإلهيّة لكل شي ء، لأنّ هذه المجموعة المتنوعة تحتوي على كل ألوان الممكنات.
وهناك بحوث كثيرة حول معنى السموات السبع، والأرضين السبع، ذكرناها في التفسير الأمثل «1».
أمّا الآية الثالثة، فعلاوة على طرحها مسألة اختصاص تلك السموات والأرض بالباري تعالى، ذكرت استمرار ظاهرتي حياة وموت الموجودات كواحدة من أدلة قدرته سبحانه:
__________________________________________________
(1) راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 12 من سورة الطلاق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 124
«لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِى وَيُميْتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديرٌ». (الحديد/ 2)
إنّ مسألة إيجاد الحياة والموت معقّدة وعجيبة إلى درجة أنّ القدرة عليها تعتبر دليلا" على اطلاق وعموميّة القدرة الإلهيّة.
أجَل، هذه هي المسألة التي حارت فيها عقول العلماء، وحاروا في معرفة القوانين المتحكمة بها لعلهم يتمكّنون من خلق خلية حيّة من الجمادات وبالإستعانة بوسائل معينة، فى الوقت الذي نجد أنّهم توصّلوا إلى أسرار معقدة جدّاً من قبيل (غزو الفضاء والصناعات العظيمة وصناعة العقول الألكترونية الدقيقة).
أجَل، فمن حولنا يوجد مئات الألوف بل الملايين من أنواع الكائنات الحيّة التي يَحارُ البشر آلاف السنين في فهم أسرار تركيب إحداها!
ألا تدل هذه الخلائق العجيبة على أنّ قدرة الباري مطلقة وغير محدوده؟!
تطرقت الآية الرابعة إلى هذه المسألة من طريقٍ آخر، وضمن ذكرها لحالات الإنسان المختلفة، وانتقاله من حالٍ إلى آخر بإذن اللَّه تعالى وذكرها لخلق مختلف المخلوقات، فقد بيّنت عموميّة القدرة والعلم الإلهي: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَليمُ الْقَديرُ». (الروم/ 54)
حقاً، إنّ ملاحظة تطوّرات الجنين ومراحل حياة الإنسان المختلفة ومنحني قدرته التصاعدي والتنازلي الذي يبدأ من نطفة ويصل في قمة المنحني إلى إنسان قوي ومتفكّر وذكي ذي قدرة على تخيّل وإنجاز مسائل كثيرة، ثم ينزل حتّى يصير موجوداً عاجزاً حتى أعجز من الطفل أحياناً من حيث القدرة الجسميّة والفكريّة، وملاحظة جميع هذه
التحوّلات السريعة العجيبة، يوحي ويحكي عن قدرته تعالى على كل شي ء.
لذا نجد أنّ القرآن الكريم ومن أجل إثبات عموميّة العلم الإلهي والقدرة الإلهيّة، قد دعا
نفحات القرآن، ج 4، ص: 125
الإنسان للتفكّر في السموات العلى تارةً، وللتفكر في وجوده الشخصي والتحوّلات العظيمة التي تُلازمه منذ انعقاد النطفة إلى حين الموت تارةً أُخرى.
وتعبيره بعبارة (خلقكُم من ضعفٍ) بدرجة من المتانة حتى كأنّ الإنسان مخلوق من مادتي الضعف والعجز! والحق كذلك، فنطفة الإنسان بدرجة من الضعف بحيث تفنى لأدنى سبب.
ولكن أرجع البصر وانظر إلى حقيقة ذلك الموجود القوي الذي ينشأ من هذه النطفة الحقيرة، ويطوي آفاق السماء والأرض، ولا يقنع بحدّ معينٍ من القدرة والتطوّر العلمي والصناعي، وعندما يطوي المرحلة التنازلية من منحني القدرة، يعود إلى نفس ذلك الضعف البدائي!
إنّ كلَّ هذا يدل على قدرة ذلك الخالق الحكيم اللامحدودة.
وفى الآية الخامسة يُلاحظ بعد ذكرها مالكيّة وحاكميّة الباري على السموات والأرض وما فيهنّ، بيّنت أنّه سبحانه على كُلّ شي ءٍ قدير:
«للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (المائدة/ 120)
وبديهي أنّ سبب هذه الحاكميّة والمالكية هو خالقيته تعالى، وقطعاً أنّ من خلق جميع هذه المخلوقات المتنوّعة هو على كُلّ شي ء قدير، وبالحقيقة أنّ صدر الآية دليلٌ على ذيلها.
ويحتمل أن يكون هذا التعبير لقطع أمل المشركين بالأصنام وهدايتهم إلى الباري، ليعلموا أنّ مقدَّرات جميع الأمور ومقاليدها بيده تعالى، أو لنفي ودحض عقيدة المسيحيين فى تأليه عيسى عليه السلام، والتي ورد ذكرها في الآيات السابقة لهذه الآية من نفس السورة.
وعلى أيّة حال فهو أساس لقلع جذور الشرك بجميع أشكاله.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 126
ويجدر الإلتفات إلى أنّ كلمة (مِلك)- بكسر الميم- تعني سلطة الإنسان على شي ء معين،
و (مُلك)- بضم الميم- تعني التحكُّم بنظام اجتماعي معين، وبتعبيرٍ آخر فالمصطلح الأول له حالة فردية والثاني له حالة اجتماعية وهو نفس ما يَرِدُ في تعابيرنا اليومية عندما نعبّر عنه ب (المالك) و (الحاكم).
أشارت الآية السادسة إلى مسألة (المعاد) وقدرة الباري على إحياء الموتى في الآخرة، لتكون ردّاً على من شكّكوا في المعاد الجسماني وورد ذكرهم في الآية السابقة لهذه الآية في قوله تعالى: «ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُم كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا ءَإِذَا كُنَّا عِظَامَاً وَرُفَاتاً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» فأجابهم القرآن في قوله تعالى: «اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ». (الاسراء/ 98- 99)
جملة (أو لم يَرَوا) بمعنى (أولم يعلموا؟) باعتبار أنّ المقصود من الرؤية المذكورة فيها هو الرؤية القلبية، ومصدر هذا العلم والإطلاع هو نفس تلك القاعدة العقلية التي تقول:
(حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لايجوز واحد)، أي أنّ الموضوعات المتشابهة لها حكم واحد دائماً، فإن كان أحدها ممكناً فانّه يسري على سائر الموضوعات فتكون ممكنة جميعاً، وإن كان محالًا فالجميع محال.
بعد أن أشارت الآية السابعة إلى قدرة اللَّه تعالى على إحياء الموتى في عالم الآخرة، ذكرت هذا المعنى بتعبير آخر حيث قال تعالى: «اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْىَ الْمَوْتى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ» «1». (الأحقاف/ 33)
__________________________________________________
(1) «يعي» من مادة «عي» بمعنى العجز عن أداء عمل ما، وتطلق هذه اللفظة على حالة العجز عن الكلام أيضاً.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 127
أكدت هذه الآية أيضاً على أنّ خلق السموات والأرض بعظمتها وتنوّعها دليلٌ على قدرة الباري على إحياء الموتى من جهة، وقدرته على كل شي ء من جهةٍ اخرى، لأنّ جميع ما يمكننا تصوّره إنما هي نماذج في عالم الوجود. والموت والحياة، وكذلك الكائنات المجهرية والمخلوقات العظيمة جدّاً بكل أبعادها ومن كل شكلٍ ولونٍ ونوع وجنس، فخلقها من قبل الباري تعالى،
يُعد أفضل دليل على شمولية وهيمنة القدرة الإلهيّة.
ذكرت الآية الثامنة مسألة القدرة الإلهيّة بقَسَم إلهي عميق المغزى، قال تعالى: «فَلَا اقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ». (المعارج/ 40)
قد يُشكِل ذوي الملاحظة السطحية ويقولون: كيف يصح إثبات القدرة الإلهيّة بقَسمِهِ سبحانه؟ ويتضح الجواب عن هذا السؤال من محتوى القسَم (ربّ المشارق والمغارب)، لأّن (المشارق والمغارب) إشارة غنيّة جدّاً إلى خلق العالم العظيم بنظامه الدقيق، ففي كلّ يوم تشرق الشمس من مشرق جديد وتغرب في مغربٍ جديد، واستمرار هذه العملية على مدى ملايين السنين، وخلق الشمس بعظمتها هذه، وخلق الكرة الأرضية بكل أسرارها، والنظام الدقيق الذي يتحكم في حركتهما، لَخَيْر دليلٍ على شمول القدرة الإلهيّة لكُلّ شي ء، ومنها تبديل جماعة من الكفار المعاندين بأُناسٍ خيرٍ منهم.
هذا فيما إذا فسّرنا القَسَم الوارد في هذه الآية بأنّهُ يتعلِّق بمشارق الأرض ومغاربها طبعاً، أمّا إذا فسّرناه بمشارق ومغارب الكرات والمنظومات الشمسيّة الفضائية، لاتضح سعة معناه بصورة أفضل.
والنكتة اللطيفة في أنّ اللَّه تعالى يُقسم نيابة عنهم برب المشارق والمغارب بأنّه قادر على تبديل الأقوام بآخرين خيرٍ منهم، هي التنبيه إلى أنّ القادر على إخفاء هذه الشمس العظيمة في افق المغرب وإظهارها في اليوم التالي من مشرقٍ جديد، لَقادر على تبديل هؤلاء القوم بخيرٍ منهم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 128
طرحت الآية التاسعة مسألة عموميّة القدرة الإلهيّة في بُعدين:
الأول: نفي كل ألوان العجز عنه سبحانه، والثاني: قدرته على كُلّ شي ءليكون المعاندون على بصيرةٍ من أمرهم من هذه الناحية، قال تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شِى ءٍ في السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ انَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً». (فاطر/ 44)
وفى هذه الآية لا نجد استدلالًا صريحاً على قدرة اللَّه تعالى في أيّ من جملتي هذه الآية، لكن الإشارة الإجمالية إلى السموات والأرض
والنظام الدقيق الموجود فيهنّ، بمثابة دليل على علم اللَّه سبحانه وقدرته المطلقة.
والهدف من ذكر هذا الموضوع في الآية الشريفة وبقرينة صدر الآية، هو تحذير المشركين، والمعاندين والظالمين، وإعلامهم بأن سلب قوتهم وقدرتهم لَيَسير جدّاً على اللَّه تعالى كما حصل في الأمم السابقة.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن منشأ العجز عن شي ءٍ إمّا الجهل الذي يسلب من الشخص القدرة على مواجهة الحوادث، وإمّا الضعف وعدم القدرة، أَما العالم القادر فلا يغفل عن الحوادث ولا يعجز عن مواجهتها.
وبالتالي فقد طرحت الآية العاشرة والأخيرة من بحثنا نفس هذا المعنى بشكل آخر، وبدون أن تذكر مصطلح القدرة أو تنفي العجز عن اللَّه تعالى، قال سبحانه: «قُلْ انَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (آل عمران/ 73)
مع أنّ أكثر المفسّرين قالوا: إنّ كلمة (واسع) هنا تُشير إلى سعة الرحمة الإلهيّة، أو سعة قدرته، أو كرمه ووجوده سبحانه، ولكن من المسلَّم أن تفسيراً كهذا يحتاج إلى تقدير شي ءمحذوف، في حين أنّ الحذف والتقدير على خلاف القاعدة ولا يصح بدون قرينة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 129
فظاهر الآية يوحي أنّها تتحدث عن سعة وجود الباري تعالى، وطبعاً أنّ سعة وجوده تضمُّ كافّة هذه المعاني والمفاهيم، من قدرته المطلقه ورحمته الواسعة وكرمه اللامحدود.
لذا قال الفخر الرازي في تفسيره: لأنّ كونه واسعاً يدل على كمال القدرة، وكونه عليماً على كمال العلم، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شي ء من أفعاله إلّاعلى وجه الحكمة والصواب «1».
يُمكن الاستنتاج من مجموع الآيات السابقة أنّ القدرة الإلهيّة لا تعرف أيّ لونٍ من التحديد والتحجيم، وخلق السموات والأرض وأنواع الموجودات وخصوصاً مسألة الحياة والموت، خيرُ دليلٍ على هذا المفهوم.
والغاية من تأكيد الآيات القرآنية على هذه المسألة هي إثبات المعاد والحياة بعد الموت تارةً، ولتحذير المغرورين الأنانيين تارةً اخرى، وكذلك لزرع الاطمئنان في قلوب الصالحين والمؤمنين ليسألوه حلّ مشاكلهم ويلتجئوا إليه في امورهم، ويخشونه ولا يخشون أحداً غيره.
هنالك أدلة مختلفة لاثبات هذه المسألة بعضها علمية، والاخرى فلسفيّة:
1- الدليل العلمي: (والمقصود من العلم هنا هو العلوم التجريبية): عندما نجلس في بيتنا ونفكّر في محيطنا المحدود الضيّق فقط، نجد أنّ الدنيا صغيرة وبسيطة. ولكن لو خرجنا من هذه الدائرة الضيّقة وذهبنا إلى الغابات والمزارع والحقول، وقمم الجبال
__________________________________________________
(1) التفسير الكبير، ج 8، ص 105.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 130
الشاهقة، وأعماق البحار الواسعة، ولو طرنا بأجنحة الخيال وتصورنا عظمة الفضاء والكواكب السيارة، ثم نزلنا وتوغّلنا في أعماق الذرّة وأسرارها لَتجسَّمت لنا عظمة الوجود العجيب.
فهنالك آلاف الأنواع من النباتات المختلفة في التركيب بصورة تامّة ولها خواص متنوعة، ابتداءً من النباتات المجهريّة السابحة في أمواج البحار، وانتهاءً بالأشجار التي يبلغ طولها خمسين متراً أو أكثر! ومن قصب السُّكر الحلو وحتى الحنظل المُر، ومن العقاقير الحياتية المودعة في أوراقها وأزهارها وجذورها إلى أنواع السموم القاتلة.
وكذلك ملايين الأنواع من الحيوانات والحشرات والأحياء التي تبلغ من الصِغر أحياناً بحيث لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، ومن الكبر أحياناً اخرى بحيث يتعدى طول بعضها الثلاثين متراً (كبعض الحيتان التي تعتبر اكبر الحيوانات على الأرض).
وقد بلغ وزن القلب لدى بعضها ألف كيلو غرام! في حين أنّه أصغر من حبّة الحمّص في البعض الآخر.
وبعضها بدرجة من الخفّة
بحيث تحلّق في جو السماء بسرعة، وبعضها الآخر أقوى من الفولاذ بحيث تتحمل ضغط الماء العظيم في أعماق البحار.
وهنالك نجوم متفاوتة مع بعضها من حيث الكبر والصغر، والبعد والقرب، والوزن وسرعة الحركة وبقية الصفات الاخرى، وكل واحدة ذات عالمٍ خاص.
وكذلك تركيب الخلايا والذرّات ونظامها العجيب المذهل، فكل واحدة منها تُجسّمُ لنا عالماً جديداً.
والألطف من جميع ذلك هو أنّ جميع هذه الموجودات العجيبة الموجودة في عالم الوجود مركّبة من أصلٍ واحد، والكائنات الحيّة مركّبة جميعها من الخلايا الصغيرة، وكل عالم المادة مركب من وحدات صغيرة تُدعى الذرّة!
إنّ هذا التنوع البسيط والمحكَم في نفس الوقت الذي نراه في الكتاب التكويني يشبه بالضبط ذلك النوع الملحوظ في الكتاب التدويني أي (القرآن الكريم)، فكل تلك
نفحات القرآن، ج 4، ص: 131
المحتويات والمعارف الإلهيّة العظيمة مصبوبة في قالب ألفاظٍ مركّبة من هذه الحروف الأبجدّية البسيطة!
ومن مطالعة مجموع هذه المسائل، نتوصل إلى أن مُبدي عالم الوجود ذو قدرة لامحدودة، ولا يعجزه شي ء في السموات ولا في الأرض.
2- برهان الوجوب والامكان (برهان فلسفي): عرفنا في بحث إثبات وجود اللَّه أنّ الوجود لا يتعدى إحدى حالتَين: إما مستقلّ بالذات ويُدعى (واجب الوجود)، أو محتاج إلى غيره ويدعى (ممكن الوجود).
وكذلك ثبت في بحث التوحيد ووحدة الذات الإلهيّة المقدّسة بأنّ (واجب الوجود) في هذا العالم واحد لا أكثر، وكل ما سواه (ممكن الوجود)، وجميع الممكنات محتاجة إليه تعالى لا في بداية إيجادها فحسب، بل في بقائها واستمرارها. وهذا بحد ذاته مظهر وبرهان على قدرة اللَّه على كل شي ء (فتأمل جيداً).
3- برهان سعة الوجود (برهان فلسفي): من المؤكد أنّ سبب عجزنا عن إنجاز عملٍ معين هو نقصنا، فمثلا لو عجزنا عن زراعة أرض معينة فالسبب في ذلك
إمّا لكون مساحة الأرض أكبر من قدرتنا وطاقاتنا، أو لعدم امتلاكنا الوسائل اللازمة لزراعتها، أو لأنّ الأرض سبخة وليس بمقدورنا تحويلها إلى أرض زراعيّة.
لذا فلو كانت قدرتنا على الزراعة مطلقة، وكانت الأرض بالنسبة لنا صالحة للزراعة مهما كانت مساحتها، وكنّا في غنىً عن الوسائل الزراعية لاستطعنا زراعة أي أرضٍ وبدون استثناء.
لذا فأي مشكلة تحدث في طريقنا هي في الواقع تنبع من محدودية وجودنا.
اذن، كيف يُمكن أن يعجز الوجود المطلق من كل ناحية عن شي ء معيّن!؟ وبتعبيرٍ آ خر إنّ اللَّه سبحانه حاضر في كل مكان وبيده مقدّرات جميع الأمور، لذا فهو قادر على ازالة كافّة الموانع، وهذا دليل قدرته على كل شي ء.
4- اللَّه قادر مختار: كما أشرنا سابقاً إلى أنّ المقصود بالقدرة الإلهيّة هي القدرة المقرونة مع الاختيار.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 132
وقد استدل الفلاسفة وعلماء الكلام على كون اللَّه تعالى فاعلًا مختاراً بأنّ الفاعل على نوعين: إمّا (مخيّر)، وإمّا (مُسيَّر) كتأثير الشمس في المنظومة الشمسيّة وموجوداتها.
فلو قلنا: إنّ خالق العالم فاعل مسيّر، لوجب التسليم بأحد الأمرين: إمّا بأنّ الوجود قديم، وإمّا بأنّ الذات الإلهيّة حادثة، لأنّ الفاعل المسيَّر لا ينفصل عن فعله أبداً.
أمّا كون هذا العالم أزلي فغير ممكن، لأننا عرفنا دلائل حدوث العالم في بحث وجود اللَّه سبحانه.
والقول بحدوث الذات الإلهيّة المقدّسة يستلزم إنكار وجوده تعالى، لأنّها لو كانت حادثة لاحتاجت إلى علّة، إذن فهو ليس بواجب الوجود والحالة هذه.
وبتعبير آخر لو كانت خالقية الباري كأشعة الشمس لاستلزم أن يكون هذا الكون قديماً وازلياً، لأنّ إرسال الشمس لأشعتها لا إراديّ وهو ملازم لوجودها دائماً وأبداً.
لذا نستنتج بأنّ اللَّه تعالى فاعل مختار، وأنّ ذاته المقدّسة أزلية وفعله حادث، وكلما أراد شيئاً يتحقق بدون فاصلة
زمنية.
سؤال: من المعلوم أنّ كلمة الفاعل المختار تعني المريد، ونعلم أنّ الإرادة كيفيّة نفسانية تَعرض على صاحبها، وهذا المفهوم يتعارض مع حقيقة ذات الباري تعالى، لأنّ ذاته لا تقع محلًا للحوادث، فكيف نفسّر إرادة اللَّه تعالى؟
الجواب: بالرجوع إلى ما ذكرناه في بحث الإرادة الإلهيّة (في ذيل صفة علم اللَّه تعالى يتضح جواب هذا السؤال، وهو عدم إمكانية تطبيق ومقايسة مفهوم الإرادة الذي نجده في أنفسنا مع مفهومها بالنسبة للذات الإلهيّة، كما هو الحال في صفة العلم، فالعلم الحصولي الموجود فينا والحادث بالنسبة لنا لا معنى له أبداً بخصوص الذات الإلهيّة المقدّسة.
والإرادة الإلهيّة الذاتية- كما شرحنا ذلك سابقاً تتشعَّب من علمه سبحانه، وهي عبارة عن (علمه بالنظام التكويني الأحسن) الذي هو علّة خلق الأشياء والأحداث الواقعة في الأزمنة المختلفة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 133
إذن إرادته أزليّة وآثارها تدريجيّة (تمعّن بدقة).
ولزيادة الإطلاع حول هذا الموضوع، وحول التفاوت الموجود بين الإرادة الإلهيّة «الذاتية» و «الفعلية» راجع بحث الإرادة في نفس هذا الجزء.
5- المخالفون لشمول القدرة الإلهيّة: في نفس الوقت الذي أقرّ بعض الفلاسفة والمتكلمين بالقدرة الإلهيّة بدون أي مناقشة، نجدهم قد توقفوا في مسألة عموميّتها- بسبب مواجهتهم لبعض الإشكالات التي عجزوا عن حلّها، ومن جملة هؤلاء:
1- الفلاسفة والمتكلمين المجوس: ومن المعلوم أنهم قسّموا جميع موجودات العالم إلى مجموعتين: (الخير) و (الشر)، واعتقدوا بأنّ لكل واحدة منها خالقاً خاصاً، فخالق الخير لا يُمكن أن يخلق الشّر، والعكس صحيح، لذا فقد اعتقدوا بتعدُّد المبدي: إله الخير (يزدان)، وإله الشّر (أهريمن)، بَيدَ أن خطأهم الفادح ناجم من تقسيم الموجودات منذ البداية إلى مجموعتي الخير والشر، لأنّ التحقيقات الدقيقة تُشير إلى عدم وجود (الشر المطلق) في عالم الوجود، بل مانسميّه نحن بالشر
قد يكون ذا جنبة عدميّة كالفقر والجهل، فالأول بمعنى عدم المال والثروة، والثاني بمعنى عدم العلم، ونحن نعلم بأنّ العدم ليس شيئاً يحتاج إلى خالق.
وأمّا ما كان ذا جنبة نسبية كلسعة الحشرات التي تعتبر شرّاً بالنسبة للشخص الملسوع فهي في الحقيقة وسيلة دفاعية بالنسبة للحشرات اللاسعة، وتعتبر خيراً لأنّها وسيلة لتأمين بقائها.
علاوة على أنّ الكثير من الأمور الوجوديّة نعتبرها شرّاً بسبب جهلنا لأسرارها، لذا وبعد حصول التطور العلمي واكتشاف أسرارها نُقرُّ بضرورتها، كالعواصف الثلجية الباردة التي تقضي على الكثير من الآفات النباتية، أو الحّر الشديد الذي يؤدّي إلى نمو أنواع النباتات وتبخُّر كمياتِ كبيرة من مياه البحار الذي يؤدّي بالتالي إلى هطول الأمطار المفيدة وما شاكل ذلك. لذا فعندما ننزع نظارات الشّر عن أنظارنا، وننظر إلى الوجود بنظرة خير ينتفي موضوع هذه العقيدة الثنوية، وهناك توضيحات أوسع حول هذا الموضوع سنطرحها في
نفحات القرآن، ج 4، ص: 134
بحث العدل الإلهي إن شاء اللَّه تعالى
2- المفوّضة: قالت هذه الجماعة: إنّ اللَّه سبحانه ليست له قدرة على أعمالنا، أو بعبارة اخرى: إنّ أفعال الإنسان خارجة عن دائرة قدرته تعالى، وإلّا لزم (الجبر)، لأنّ أفعال الإنسان لو كانت في دائرة القدرة الإلهيّة لحصل التضاد، حيث يحتمل أن يريد اللَّه تعالى فعلًا معيناً، ويريد عبادُهُ غير ذلك!.
وخطأ هذه الجماعة ينشأ من اعتقادهم بأنّ قدرة اللَّه تعالى على أفعالنا تتعارض مع قدرتنا على أساس أنّهما في عرض واحد، غافلين عن أن هاتين القدرتين تقعان في طول واحد.
توضيح ذلك: إنّ اللَّه تعالى قد خلق البشر ومنحهم الحريّة والقدرة على اتخاذ القرار، وقادر على سلبها منهم متى شاء، لذا فانّه سبحانه هو الذي أراد أن يكونوا فاعلين مختارين، وعليه فإنّ أفعالهم
غير خارجة عن دائرة قدرته، لأنّ هذه الحريّة من عطائه ومتطابقة مع إرادته ومشيئته سبحانه.
وسيأتي توضيح أكثر حول هذا الموضوع في بحث الجبر والتفويض.
3- إعتقد بعض أهل السُّنة: (جماعة النَظّام) بأنّ اللَّه تعالى غير قادر على فعل القبيح، لأنّ الأفعال القبيحة إمّا أن تكون بسبب الجهل، وإمّا بسبب الحاجات الكاذبة، وبما أنّ اللَّه تعالى منزّه عن الجهل والحاجة، لذا فهو غير قادر على فعل القبيح أبداً!
والخطأ الذي وقعت فيه هذه الجماعة ينشأ من عدم تمييزهم بين (الإمكان الذاتي) و (الإمكان الوقوعي).
توضيح ذلك: إنّ بعض الأمور مستحيلة ذاتاً كاجتماع الضدين، أو النقيضين، وهو الجمع بين الوجود والعدم في حالة واحدة، ويُطلق على هذا النوع بالمستحيل الذاتي.
أمّا الأمور غير المستحيلة ذاتاً لكنها لا تصدر من حكيمٍ كالباري تعالى مثل الظلم والفساد والأفعال القبيحة الأُخرى، فيطلق عليها بالمستحيل الوقوعي.
ومن المسلّم به هو أنّ اللَّه تعالى قادر على الظلم لكن حكمته تمنعه من ذلك.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 135
وقد يصدق هذا الكلام بخصوصنا أحياناً، فنحن نستطيع أن نلقي بأنفسنا في النار، أو نضع جذوة من النار في أفواهنا، أو عيوننا، ولسنا بعاجزين عن القيام بهذا الفعل، لكننا لانقوم به أبداً، لأنّ عقولنا لا تسمح لنا بمثل ذلك، فهذا مستحيل وقوعي لا ذاتي.
4- اعتقد بعض الفلاسفة: بأنّ الذات الإلهيّة المقدّسة، ولكونها واحدة من كل ناحية ولا تقبل الكثرة والتعدُّد، فلا يصدر منها سوى مخلوق مجرّد واحد رفيع جدّاً سموه «العقل الأول»، واستندوا في معتقدهم هذا على القاعدة المعروفة التي تقول «الواحِدُ لا يصدُر منه إلّا الواحد».
لذا فهم يقولون: إنّ المخلوق الإلهي الوحيد هو ذلك الموجود المجرّد الأول، لذا ومن حيث إنّ «العقل الأول» ذو جهات متعددة (له وجود من جهة،
وماهيّة من جهةٍ اخرى، ذاتاً «ممكن الوجود» من جهة، و «واجب الوجود» بالعرض من جهة اخرى)، فبسبب جهات الكثرة هذه، نشأت منه معلولات مختلفة، لذا فمنشأ الكثرة في عالم الوجود هي الكثرة الموجودة في العقل الأول والمراتب البعدية حاصلة منه.
وقد اعتمدوا لإثبات القاعدة أعلاه على مسألة «السنخيّة بين العلّة والمعلول»، وقالوا:
لولا ضرورة السنخيّة بين العلّة والمعلول، لأمكن أن يكون كل موجودٍ علّةً لأي معلول، لكن لزوم السنخيّة يحول دون هذا الأمر، وعندما نقر بوجوب السنخيّة بين العلّة والمعلول، يجب علينا أن نقر بأنّ العلّة الواحدة من كل ناحية تستلزم أن لا يكون لها أكثر من معلولٍ واحد. (تأمّل جيّداً) «1».
ويُمكن الرد على هؤلاء بعّدة طرق:
أ) على فرض صحة هذا الاستدلال، فإنّه لا يُفهم منه محدوديّة القدرة الإلهيّة، بل هو على كُلّ شي ء قدير، لكن قدرته بالنسبة «للعقل الأول» بدون واسطة، وبالنسبة للموجودات الاخرى مع وجود واسطة، وكلاهما يعتبران في حدود المقدور، فما الفرق بين أن يُباشر الإنسان عملًا معيناً بيده، أو بوسيلة وأداة معينة من صنعه؟ فالفعل فعله في كلتا الحالتين.
__________________________________________________
(1) تلخيص من نهاية الحكمة، ص 166.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 136
ب) ما قيل بخصوص قاعدة (الواحد لا يصدر منه إلّاالواحد) لا يصح تطبيقه على الفاعل المختار بنظر بعض المحققين.
لذا فقد طرح المرحوم «العلّامة الحُلي رحمه الله» هذه المسألة في «كشف المراد» بشكل أمر بديهي وقال: «المؤثّر إن كان مختاراً جاز أن يتكثّر أثره مع وحدته، وإن كان موجباً فذهب الأكثر إلى استحالة تكثُّر معلوله» «1».
وعليه فقد جعل (الفاعل الموجَب) مركز بحثه لا (الفاعل المختار)، ثم نقل استدلال القائلين بوحدة الأثر في الفاعل الموجب ورَدّهُ «2».
والحقيقة أنّه لا يوجد أي دليل على شمول القاعدة المذكورة
للفاعل المختار، فهو مجرّد ادعاء محض.
ج) بغض النظر عن جميع ذلك فإنّ قانون «السنخيّة بين العلّة والمعلول» محل إشكال حتّى في غير الفاعل المختار، لأنّه لو كان المراد من السنخية هو السنخّية والتشابه من جميع الجهات، فهو مستحيل التحقق بين «واجب الوجود» و «ممكن الوجود»، فالممكنات مهما تكن فهي متباينة مع واجب الوجود في جهات كثيرة، فلو اشترطنا السنخيّة التامّة وفي جميع الجهات، فكيف يمكن أن يخلق وجود غير مادي موجودات ماديّة؟
ولو كان المراد منها السنخيّة الإجماليّة، فهي متحققة بين الخالق والموجودات المتكثّرة والمتعددة، لأنّها جميعاً تشترك في الوجود والكمال النوعي الذي يُعَدُّ قطرةً من بحر كمال اللَّه اللامحدود.
د) علاوة على جميع ما ذكرنا يُمكن القول: إنّ الكون نسخ واحدٌ لا أكثر على الرغم من احتوائه ظاهراً على موجودات متعددة ومتكثّرة، وبتعبيرٍ آخر، فإنّ عالم التكوين كبحر عظيم لامحدود توجد على سطحه أمواج، وهذه الأمواج والتعرجات بمثابة تلك الموجودات المتعددة والمتكثّرة، والمقصود هنا عالم الوجود، لا الذات الإلهيّة المقدّسة.
__________________________________________________
(1) كشف المراد، ص 84.
(2) المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 137
وباختصار فإننا لو أمعنا النظر لعلمنا بأنّ مجموع عالم الوجود موجود واحد متصل ومترابط، وعلى الرغم من كل تنوعاته وكثرة قوانينه المؤثرة فيه فهو واحد، وهذا الموجود الواحد يفيض من الوجود الإلهي الواحد، وهذا المخلوق الواحد له خالق واحد.
والبعض الآخر الذين شكّكوا في شمول القدرة الإلهيّة قالوا: لو افترضنا أنّ اللَّه تعالى على كل شي ء قدير، لواجهنا تعارضاً في بعض الحالات لا نستطيع حلّه.
فمثلًا تساءَل البعض: هل يستطيع اللَّه تعالى أن يخلق موجوداً مثله!؟ فإن قلتم: نعم، لكان تعدد الآلهة ممكناً! وإن قلتم: لا، فقدرته محدودة!.
أو يتساءل: هل يقدر اللَّه تعالى أن يُدخل جميع
هذا العالم الواسع، وبجميع كراته وكواكبه في بيضة، من غير أن يصغر العالم أو تكبرُ البيضة؟! فإن قلتم: بلى، فغير مقبول، وإن قلتم: لا، فقد أقررتم بعجزه- سبحانه-.
أو: هل يستطيع اللَّه تعالى أن يخلق موجوداً لا يقدر على إفنائه!؟ أيَّما الطريقين انتخبتم فقد أقررتم بعجزه، والكثير من هذه الأسئلة.
إنّ مصدر اشتباه هؤلاء هو عدم إلمامهم بالمسائل الفلسفية، وغفلتهم عن هذه الحقيقة الواضحة، وهو أنّه عندما يدور الحديث حول «القدرة»، فمعناه القدرة على الامور الممكنة، لأنّ القدرة لا تشمل المستحيلات لأنّها لا شي ء.
توضيح ذلك: إنّ معنى تساؤلنا عن اقتدار اللَّه تعالى على شي ء معين أحياناً، هو كون ذلك الشي من الممكنات، وقصدنا إكساؤه حُلة الوجود بالقدرة الإلهيّة، أمّا لو كان ذلك الشي مستحيلًا ذاتاً فإن تساؤلنا عن إمكانية إيجاده غير صحيح بتاتاً، ولا معنى له أبداً.
وهذا مايُسمَّى بالسؤال المتناقض.
كأن يكون لدينا عشرون برتقالة ونريد توزيعها على أربعين شخصاً، بحيث يحصل كل واحدٍ منهم على واحدة!؟ فهل يُمكن ذلك؟
فالسؤال المطروح متناقض بحدّ ذاته وغير صحيح، لأنّ قولنا عشرون برتقالة يعني أنّها ليست أربعيناً، وقولنا: إنّ أربعين شخصاً يحصل كل واحدٍ منهم على برتقالة، معناه وجود
نفحات القرآن، ج 4، ص: 138
أربعين برتقالة، ممّا يلزم تحقق العددين عشرين وأربعين في نفس الكمية من البرتقال وفي آنٍ واحد! وبديهي أنّه لا يوجد إنسان عاقل يتفوّه بمثل هذا الكلام.
وبعد التحقيق في جميع الأسئلة التي ذكرناها يتضح أنّها من هذا القبيل، أي أنّها متناقضة وغير مقبولة، لذا ينتفي جوابها.
فمثلًا عندما نقول: هل يستطيع اللَّه تعالى أن يخلق إلهاً آخر مثله؟ معناه أنّ ذلك الإله غير مخلوق، فيصبح السؤال متناقضاً، لأنّه سؤال عن خلق شي ء لا يُمكن أن يكون مخلوقاً، وبمجرّد أن يخلق اللَّه
سبحانه شيئاً فهو مخلوق، ولا يمكن أن يكون إلهاً.
وهكذا عندما يُقال: هل يستطيع اللَّه تعالى أن يُدخل الدنيا في مكان صغير من غير أن تصغر الدنيا أو يكبر ذلك المكان، فمعناه أن يكون العالم صغيراً وكبيراً جدّاً في آنٍ واحد، وهذا شي ء متناقض.
واللطيف أنّ رجُلًا سأل أمير المؤمنين عليه السلام نفس هذا السؤال: «هل يقدر ربُّك أن يُدخل الدُّنيا في بيضة من غير أن تصُغر أو تكبر البيضة»؟ فأجابه الإمام عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون» «1».
وما نجده في الرواية المنقولة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عندما يجيب على هذا السؤال فيقول عليه السلام: «نعم وقد جعلها في عينك وهي أقلُّ من البيضة» «2»
، فهو في الحقيقة جواب إقناعيّ، وذلك لأنّ السائل لم يكن ذا قدرةٍ على تحليل مثل هذه المسائل، وقد أجابه الإمام عليه السلام بهذه الطريقة مراعاةً لحاله من الفهم، وإلّا فالجواب الأصلي على هذا السؤال هو نفس ماورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام.
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 4، ص 143، ح 10.
(2) المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 139
يعتقد جميع من يؤمن بوجود اللَّه تعالى بأزليته وأبديته سبحانه، وهاتان الصفتان عين بعضهما، لأنّ الوجود الأزلي لا يمكن أن يكون ذا عمرٍ وزمانٍ محدود، وإلّا لما كان أزليّاً، وعندما يكون الوجود غير محدد بزمان فذلك يعني أبديته أيضاً.
وبتعبيرٍ آخر، إنّ جميع الأدلّة الموجودة على إثبات وجود اللَّه تعالى تدل بصورة مباشرة أو غير مباشرة على كونه سبحانه وتعالى واجب الوجود.
وبديهي أنّ واجب الوجود الذي وجوده عين ذاته لابدّ وأن يكون أزلياً وأبدياً، فالممكنات هي الحادثة، أي أنّها لم تكن
في زمان معين ثم وُجدت وستفنى بعد مدّة، وواجب الوجود منزّه عن الحدوث كليّاً.
بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل في الآيات المباركة التالية ونصغي إليها بأسماع قلوبنا:
1- «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ». (الحديد/ 3)
2- «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ». (الرحمن/ 26- 27)
3- «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَابْقَى . (طه/ 73)
4- «كُلُّ شَى ءٍ هَالِكٌ الَّا وَجْهَهُ». (القصص/ 88)
يُلاحَظ في بداية سورة الحديد «آيات ستّ» اجتمعت فيها الكثير من الصفات الإلهيّة
نفحات القرآن، ج 4، ص: 140
وبتعابير غنيّة وعميقة، لذا فقد ورد في بعض الأحاديث الإسلامية المنقولة عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام، أنَّهُ سُئِلَ عن التوحيد فقال: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل اللَّه تعالى: سورة «قل هواللَّه أحد»، والآيات من سورة الحديد إلى قوله: «وهو عليم بذات الصدور» «1»
.
والآية التي يدور بحثنا حولها هي إحدى الآيات الست المذكورة.
قال تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ».
اختلف المفسرون حول المقصود من (الأول) و (الآخر)، ولكن تعابيرهم قريبة من بعضها:
فقد قال البعض: هو الأول من غير ابتداء، والآخر من غير انتهاء.
وقال البعض الآخر: هو الأول في التكوين، والآخر في اعطاء الرزق.
وقال جماعة: هو أوّلُ الأولين، وآخر الآخرين.
وقال آخرون: هو الأول بأزليته، والآخر بأبديته.
وقال البعض الآخر: هو الأول بالخير والإحسان، والآخر بالعفو والمغفرة «2».
ولكن على أيّة حال فإنّ مفهوم الآية واضح، والمقصود من الأول هو كونه أزلياً، ومن الآخر هو كونه أبديّاً، لذا فقد ورد في نهج البلاغة: «لم يزل أوّلًا قبل الأشياء بلا أوليّة، وآخراً بعد الأشياء بلا نهاية» «3».
وكذلك ورد في خطبة الأشباح: «الأول الذي لم يكن له
قبلُ فيكون شي ء قبلهُ والآخر الذي ليس له بَعدُ فيكون شي ء بعدَهُ» «4».
وفي حديثٍ نبوي أنّه صلى الله عليه و آله قال: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شي ء، وأنت الآخر فليس بعدك شي ء» «5».
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 91 باب النسبة، ح 3.
(2) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 230.
(3) نهج البلاغة؛ عن تفسير نور الثقلَين، ج 5، ص 237. ويحتمل أن يكون في بعض النسخ الخطية.
(4) نهج البلاغة، الخطبة 91.
(5) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6406.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 141
وقال بعض المفسّرين: إنّ (الأول) و (الآخر) يشمل كل زمان، و (الظاهر) و (الباطن) يشمل جميع حقيقة المكان، لذا فالآية المذكورة كناية عن حضور اللَّه تعالى الدائمي في كل مكانٍ وزمان «1».
وواضح أن تعبير «الزمان» وما شاكل في العبارات المذكورة هو لضيق البيان، وإلّا فاللَّه سبحانه فوق الزمان والمكان.
وفي الآية الثانية وبالرغم من أنّ الحديث عن فناء سكّان الأرض، لكنّها بالحقيقة لاتنحصر بأهل الأرض فقط، يقول تبارك وتعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».
صحيح أنّ التعبير بعبارة (من عليها) إشارة إلى الموجودات العاقلة من الجن والإنس، لكنّه وكما احتمل بعض المفسّرينَ لا يستبعد أن يكون المقصود منها جميع الكائنات الحّية الأرضية (من باب التغليب)، وعلى أيّة حال فالهدف الأساس من الأية هو بيان فناء جميع الموجودات وبقاء الذات الإلهيّة المقدّسة.
ولو أنّ (وَجه) في اللغة يعني قرص الوجه، لكنّه في مثل هذه الحالات يعني الوجود والذات.
ولا يُستبَعد أن يكون التعبير بعبارة «ذو الجَلال والإكْرام» إشارة إلى الصفات الإلهيّة السلبيّة والثبوتية، لأنّ (ذو الجلال) تحكي عن الصفات السلبية، بمعنى أنّ اللَّه تعالى أجَلُّ وأعْلى من أن يوصف
بها، و (الإكرام) إشارة إلى الصفات المُظهرة لكمال الشي، وهي الصفات الإلهيّة الثبوتيّة، كعلم اللَّه وقدرته.
أجَل، إنّ الإله صاحب الجمال والجلال باقٍ دائماً، ومن سواه فانٍ.
__________________________________________________
(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 7، ص 718.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 142
والجدير بالذكر هو كون الآية من «سورة الرحمن» التي يفيض محتواها بذكر النّعَم الإلهيّة المختلفة، فهل إنّ مسألة فناء وموت الكائنات الحّية هي أيضاً من جملة النّعَم الإلهيّة!؟
نعم، إنّها من النعم، لأنّها من جهة تخلع عن الإنسان لباس الشرك وتدعوه إلى التوحيد الخالص وتُفهمه بأنّ المستحق للعبادة والإلوهية هو ذات «ذو الجلال والإكرام» الباقية فقط، لا الموجودات الفانية الزائلة. ومن جهة أُخرى تحذّر الإنسان ليستفيد من ساعات عمره بأفضل وجهٍ وأكمله.
ومن جهةٍ ثالثة تُعزّي الإنسان وتُصبّره لكي يقف أمام مصائب ومشكلات الدهر التي تواجهه في الحياة الدنيا من حيث كونها زائلة أيضاً، ومن جهةٍ أُخرى فإنّ هذا الفناء مقدمة للبقاء وطريق الخلاص من سجن هذه الدنيا والإنتقال إلى عالم الآخرة ونعيمها الذي لا يزول.
أمّا الآية الثالثة فقد وردت في ذيل قصّة إيمان سحرة فرعون وتهديد فرعون لهم بالقتل، وهي ذات مفهومٍ عميقٍ وواسع، حيث نقلت كلام اولئك السحرة الذين آمنوا وقالوا لفرعون:
«إِنَّا آمَنَّا بِرَبَّنا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرهْتَنَا عَليهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى .
«البقاء المطلق»: يعني الأبدية، وكما قُلنا سابقاً فإنّ «الأبديّة» لا تنفصل عن الأزليّة أيضاً.
ومن المسلَّم به أنّ أبديّة ذاته المقدّسة ملازمة لأبدية لطفه وإنعامه، لذا فقد علم اولئك السحرة الذين آمنوا بوجوب ترجيح هذه النعمة الخالدة على النِعمِ الفرعونية الحقيرة الزائلة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 143
بعد أن أبطلت الآية الرابعة والأخيرة من بحثنا كل ألوان الشرك، فنّدت ماسواه من
المعبودات، حيث قالت: «كُلُّ شَىْ ءٍ هالِكٌ إلّاوَجْهَهُ».
وهذه الجملة بالحقيقة هي بمنزلة الدليل على الحكم السابق، لأنّ الموجودات الفانية الزائلة لا تليق بالالوهيّة والعبادة، والوجود الوحيد الذي يليق بهذا المقام هو الباقي والقائم دائماً فقط.
وقد قُلنا: إنّ (الوجه) في اللغة يعني قرص الوجه، لكنها تستعمل في بعض الأحيان أيضاً بمعنى (الذات)- كما هو في بحثنا هذا، وما فسّره البعض بمعنى الدين أو العمل الصالح وما شاكله لا دليل عليه، إلّاأن يُؤّل بمعنى الذات الإلهيّة المقدّسة.
وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الآية دليل واضح على أبديّة الذات الإلهيّة المقدّسة، ونعلم جميعاً أنّ الأبدية غير مفصولة عن الأزليّة.
والموجودات الاخرى من الأموال، الثروات، والمقامات والسموات والأرض، جميعها في زمرة الممكنات ولا تفنى وتهلك في النهاية فحسب، بل هي فانية وهالكة حتى في حالها الحاضر، لأنّها لاتملك في ذاتها شيئاً، ولولا الذات الإلهيّة المقدّسة التي تفيض عليها بالوجود لحظةً بعد اخرى، لفنت وهلكت.
ويظهر أنّ (الفناء) هُنا بمعنى موت الموجودات الحّية، أو بمعنى تلاشي الموجودات الاخرى، وعليه فلا تضاد بينها وبين الآيات التي تقول: بأنّ تُراب الإنسان يبقى ليصير مصدراً لحياته في الآخرة، أو التي تقول: بأنّ أجزاء الأرض والجبال تبقى بعد أن تتلاشى لينشأ منها عالم جديد.
ويرد هنا السؤال التالي وهو: يُستَنتَج من الآيات القرآنية أنّ كلًا من الجنّة والنار موجودتان حاليّاً ومُعَدّتان، حيث قال تعالى بخصوص الجنّة: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ».
(آل عمران/ 133)
وقال بخصوص النار: «أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ». (آل عمران/ 131)
أفهل تفنيان في النهاية أيضاً؟
وفي الجواب على هذا السؤال، قيل: إنّه لا تنافي بين عموميّة الآية أعلاه مع استثناء
نفحات القرآن، ج 4، ص: 144
بعض الموارد الخاصّة التي تحصل بإرادة اللَّه تعالى أيضاً! «1».
علاوةً على ذلك وكما قلنا سابقاً: إنّ الموجودات الإمكانية هي
فانية في حال وجودهاأيضاً، لأنّ بقاءَها قائم ببقاء اللَّه سبحانه. (تأمل جيداً).
يتّضح من مجموع ماذكرناه أنّ القرآن الكريم وضّح مسألة أزليّة وأبديّة وجود اللَّه تعالى بصورة تامّة، على الرغم من عدم استعماله كلمتي (الأبد) و (الأزل)، لكنّه استعمل تعابير من قبيل (الأول) و (الآخر) و (الباقي) و (عدم الفناء والهلاك) والتي تُفصح عن مفهومي الأزليّة والأبديّة.
واللطيف أن البعض قالوا: إنّ كلمة (أزل) مأخوذة من جملة (لا يزال)، والتي هي بالأصل مأخوذة من مادّة (زوال)، أي التحُّول والتغيُّر، ولعلّ هذا هو السّر في عدم استعمالها في الآيات القرآنية، بل استُعملَت كلمة (أوَّل) بدلًا عنها، والتي لها مفهوم أوضح وأبقى.
و (الأبد) في اللغة أيضاً بمعنى (الزمن الطويل) ولا تُعطي مفهوم (الآخر)، لذا فما ذُكرَ في القرآن الكريم بخصوص اللَّه سبحانه (الأول والآخر والباقي وغير الفاني) أبلغ من كلمة (الأزل) وكلمة (الأبد) من كل ناحية، ولو أنّ هاتين الكلمتين قد وصلتا مرحلة الوضوح في عصرنا وزماننا الحاضر على أثر كثرة استعمالهما في هذين المفهومَين.
لقد ذكرنا سابقاً بانّه لا يوجد أحد من المؤمنين يُنكِر أزليّة وجود اللَّه عزّ وجلّ وأبديته، لأنّه لو لم يكُن أزليّاً لاستلزم أن يكون حادثاً، وإن كان حادثاً لاحتاج إلى علّة اخرى،
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 25، ص 24.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 145
لاستحالة وجود المعلول بدون علة. وإذا آمنّا بأزليته سبحانه فإنّها مصحوبة أيضاً بأبديته، لأنّ الوجود الأزلي لامحدود حتماً، ووجود كهذا سيكون أبديّاً بالطبع، مضافاً إلى ذلك فإنّ نفس التفكر في حقيقة وجود اللَّه تعالى يوصل إلى هاتين الصفتين بسهولة، لأنّ دلائل إثبات وجود اللَّه تفيد كونه (واجب الوجود)، ونعلم أنّ واجب الوجود لا يُمكن أن يكون منفصلًا عن الوجود أبداً، أو
بعبارة أصح، الوجود عين ذاته، ولم يُعطَ له من الخارج ليُؤخذ منه في زمانٍ ما، ووجود كهذا كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد.
وقد تُجمع هاتان الصفتان في صفة واحدة هي (السرمديّة)، لأنّ الوجود السرمدي هو الوجود الذي لا بداية له ولا نهاية كما قال بعض أرباب اللغة.
وما قاله بعض ذوي الأفكار الضيقة من إمكانية تصُّور ذات تكون وجوداً واجب الوجود في زمانٍ، وغير واجب للوجود في زمان آخر، إنّما هو كلام واهٍ جدّاً ولا أساس له، ويدل على عدم فهمهم معنى (واجب الوجود) بصورة صحيحة، لأنّه وكما قُلنا سابقاً: فإنّ واجب الوجود هو عين الوجود، فكيف يُمكن أن ينفصل عن الوجود!؟
وكذلك مانُقِلَ عن بعض الأشاعرة من اعتقادهم بأنّ صفة البقاء والأبديّة زائدة على الذات الإلهيّة المقدّسة، إنما يدل على عدم دقّتهم في معنى ومفهوم واجب الوجود.
هنالك خُطب عديدة في نهج البلاغة أكّدت على هذا المعنى، وكمثال على ذلك:
نقرأ في الخطبة 163: «ليس لأوليته ابتداءٌ، ولا لأزليته انقضاءٌ».
وجاء في الخطبة 185: «مُستشهدٌ بحدوث الأشياء على أزليته».
كما نقرأ في نفس الخطبة: «واحدٌ لا بعدد، ودائمٌ لا بأمد».
وجاء في اصول الكافي في فصل «معاني أسماء اللَّه» في تفسير «هو الأول والآخر» عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «هو الأول قبل كل شي ء وهو الآخر على مالم يزل ولا تختلف
نفحات القرآن، ج 4، ص: 146
عليه الصفات والأسماء، كما تختلف على غيره» «1».
وجاء في حديث آخر عن نفس الإمام عليه السلام في تفسير وصف «الأول»: «الأول لا عن أوّل قبله، ولا عن بدءٍ سبقه، والآخر لا عن نهاية ... ولم يزل ولا يزول بلا بدءٍ ولا نهاية» «2».
يرد هذا السؤال عادةً في مباحث معرفة اللَّه تعالى ومن قِبَل الأفراد قليلي الخبرة وهو:
أنتم تقولون: إنّ لكل شي ء خالقاً ومبدعاً، إذن فمن خلق اللَّه عز وجل؟
والعجيب هو أنّ بعض فلاسفة الغرب طرحوا هذه الأسئلة أيضاً، وهي علامة على مقدار تصورهم السطحي في المباحث الفلسفيّة وتفكيرهم البدائي.
يقول الفيلسوف الإنجليزي الشهير (برتراندراسل) في كتابه (لِمَ لا أكون مسيحيّاً؟):
«كنت اعتقد باللَّه في شبابي، وكنت أعتقد ببرهان علّة العلل كأفضل دليلٍ عليه، وهو أنّ كل ما نراه في الوجود ذو علّة معينة، ولو تتبّعنا سلسلة العلل لانتهت بالعلّة الأولى، وهي مانُسميّه باللَّه.
لكنني تراجعت عن هذه العقيدة بالمرّة فيما بعد، لأنني فكرت بأنّه لو كان لكلّ شي ء علّة وخالق، لوجب أن يكون للَّه علة وخالق أيضاً» «3».
لكننا لا نعتقد بأنّ أحداً له أدنى اطلاع على المسائل الفلسفية الخاصّة بمباحث معرفة اللَّه تعالى وما وراء الطبيعة، يحار في الإجابة عن
هذا السؤال، فالمسألة واضحة جدّاً، فعندما نقول: إنّ لكل شي ءٍ خالقاً وموجداً، نقصد (كُلّ شي ء حادثٍ وممكن الوجود)، لذا
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1 ص 115 (باب معاني الأسماء) ح 5.
(2) المصدر السابق، ص 116، ح 6.
(3) برتراند راسل، في كتابه (لِمَ لَم أكُن مسيحيّاً).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 147
فهذه القاعدة الكليّة صادقة فقط بخصوص الأشياء التي لم تكُن من قبل وحدثت فيما بعد، لا بخصوص واجب الوجود الذي كان موجوداً منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد، فوجود أزليٌّ لا يحتاج إلى خالق، لكي نسأل عن خالقه!؟ فهو قائم بذاته ولم يكن معدوماً من قبلُ أبداً، لكي يحتاج إلى علّة وجوديّة.
وبتعبيرٍ آخر: إنّ وجوده من ذاته لا مِن خارج ذاته، وهو لم يكُن مخلوقاً، هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى كان من الأفضل ل (برتراندراسل) ومؤيّديه أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال:
لو كان للَّه خالقٌ فسيرد نفس هذا الإشكال مع الخالق المفترض، وهو: من خلق ذلك الخالق!؟ ولو تكررت هذه المسألة وافترضنا أنّ لكلّ خالق خالقاً لأدى ذلك إلى التسلسل، وبطلانه من الواضحات، ولو توصَّلنا إلى وجودٍ يكون وجوده من ذاته ولا يحتاج إلى موجدٍ وخالق آخر (أي واجب الوجود)، فذلك هو اللَّه رب العالمين.
ويُمكن توضيح هذه المسألة ببيانٍ آخر وهو: إننا لو لم نكن من المؤمنين على سبيل الفرض وكُنّا نؤيّد عقيدة المادييّن، لواجهنا نفس هذا السؤال، فبتصديقنا قانون العليّة في الطبيعة، وأنّ كلّ شي ء في العالم معلول لآخر، سيرد هذا السؤال الذي واجهه المؤمنون باللَّه تعالى وهو: لو كانت جميع الأشياء معلولة للمادّة فما هي العلّة التي أوجدت المادة إذن؟
وسيضطّرون أيضاً للقول: إنّ المادة أزليّة، وكانت موجودة منذ الأزل، وستبقى إلى الأبد، ولا تحتاج
إلى علّة وجوديّة، وبتعبيرٍ آخر هي (واجب الوجود).
وعلى هذا الأساس نُلاحظ أنّ جميع فلاسفة العالم سواء الإلهيين منهم أو المادييّن يؤمنون بوجودٍ أزليٍّ واحدٍ، وجودٍ لا يحتاج إلى خالقٍ ومُوجد، بل كان موجوداً منذ الأزل.
والتفاوت الوحيد هو أنّ الماديين يعتقدون بأنّ العلّة الاولى فاقدة للعلم والمعرفة والعقل والشعور، ويعتقدون بأنّها جسم ولها زمان ومكان. لكن المؤمنين يعتقدون بأنّ العلّة الاولى ذات علمٍ وإرادة وهدف، وهو اللَّه تعالى وينزّهونه عن الجسميّة والزمان والمكان، بل يعتقدون بأنّه فوق الزمان والمكان.
وجميع الأدلة التي أوردناها سابقاً في بحوث معرفهّ اللَّه تعالى تؤيد هذه الحقيقة، وهي
نفحات القرآن، ج 4، ص: 148
أنّ المبُدي ء الأول لهذا العالَم ذو علم واطلاعٍ غير محدود.
وعليه فقد أخطأ (راسل) في تصوره بأنّه يستطيع التهُّرب من مخالب هذا السؤال بترك زمرة المؤمنين والإلتحاق بالمادّيين، لأنّ هذا السؤال ملازم له دائماً، حيث إنّ الماديين يعتقدون أيضاً بقانون العليّة ويقولون: إنّ لكل حادثة علّة معينة.
إذن، فالطريق الوحيد في حلِّ هذه المشكلة هو إدراك الفرق جيداً بين (الحادث) و (الأزلي)، وبين (ممكن الوجود) و (واجب الوجود)، لكي نعلم أنّ الذي يحتاج إلى خالقٍ هو الموجودات الحادثة والممكنة، أي أنّ كل مخلوقٍ يحتاج إلى خالق، وما ليس بمخلوق فلا يحتاج إلى خالق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 149
وردت صفتي «الحي» و «القيوم» كراراً في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية في وصف الباري عزوجل، فحياته خالدة وثابتة، وهو قائم بذاته وكل شي ء قائم به.
ولكن من البديهي أنّ كلمة الحياة بالنسبة للباري ذات مفهومٍ يختلف عن المفهوم الذي يصدق علينا والكائنات الحيّة الاخرى، لأنّ حياتنا تُعرف عن طريق آثار معينة من قبيل التنفُّس، دقات القلب، الاحساس والحركة، النمو والتناسل وما شاكل ذلك، في حين
أنّها جميعاً لا معنى لها بالنسبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى.
إذن، علينا أن نبحث عن مفهوم ومعنى الحياة بالنسبة إلى اللَّه عزّ وجلّ.
ومن المُسَلَّم أنّها حياة أسمى وأرفع من الحياة الماديّة، وسنتطرق إلى شرحها بعد تفسير الآيات إن شاء اللَّه تعالى.
بعد هذا التمهيد المختصر نتوجّه إلى القرآن الكريم ونمعن خاشعين في الآيات التالية بأسماع قلوبنا:
1- «اللَّهُ لَاإلَهَ إِلَّا هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ». (البقرة/ 255)
2- «اللَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُو الحىُّ القَيُّومُ». (آل عمران/ 2)
3- «وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَىِّ القَيُّومِ وَقَد خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلماً». (طه/ 111)
4- «وَتَوكَّلْ عَلَى الحَىِّ الَّذِى لَايَمُوتُ». (الفرقان/ 58)
5- «هُوَ الحَىُّ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ». (غافر/ 65)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 150
«حي»: من مادّة «حياة»، وكما قال صاحب مقاييس اللغة: فإنّ هذه المادّة بالأصل ذات معنيَين، أحدهما (الحياة) في مقابل الموت، والآخر (الحياء) في مقابل الوقاحة وعدم الخجل.
ولكن بعض محققي اللغة أرجعوها إلى أصلٍ واحد، فقالوا: إنّ الحياء والإستحياء أيضاً نوع من طلب الحياة والسلامة في مقابل الوقاحة وعدم الخجل والذي يُعتبَر نوعاً من فقدان الحياة والسلامة.
وعلى أيّة حال، فكلمة (الحياة) ذات معنىً واسع، فقد تُستعمل بخصوص الأرض والنباتات مثل: «وَ يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا». (الروم/ 19)
وقد تُستعمل بخصوص الحيوانات كقول إبراهيم عليه السلام: «رَبّ أَرِنى كَيْفَ تُحْىِ اْلمَوْتى . (البقرة/ 260)
أو قد تستعمل للإنسان، مثل: «وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ». (الحج/ 66)
أو بخصوص مُطلق الحياة والممات مثل: «يُخْرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ». (الروم/ 19)
أو بخصوص الحياة المعنويّة مثل: «استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحيِيكُم ...».
(الأنفال/ 24)
وأحياناً تُستعمل بخصوص الحياة الأخرويّة مثل: «وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ..».
(العنكبوت/ 64)
والأسمى من الجميع استعمالها بخصوص الباري جلّ وعلا، كما هو في الآيات السابقة،
وسنرى أن الحياة الحقيقية والأزليّة والأبديّة والقائمة والثابتة التي لا يشوبها أي لونٍ من ألوان الموت والهلاك هي حياة اللَّه عزّ وجلّ فقط.
«قيّوم»: صيغة مبالغة من مادة «قيام»، والقيام يعني الوقوف، أو التصميم، والمعنى الثاني يعود على المعنى الأول، لأنّ الإنسان عندما يُصمم على فعلٍ معين ينهض للقيام به، لذا فقد استُعمِلت هذه الكلمة بمعنى التصميم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 151
واعتقد البعض أن كلمة (قيوم) تُعطي معنى القائم، والحافظ، والمدير، والمدبّر، لأنّه يؤمّن للأفراد أو بقية الموجودات الاخرى مايقّومُهم.
وعندما تُستعمل هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى فإنّها تعني من يقوم بأمر المخلوقات وأرزاقهم وأعمارهم وحياتهم وموتهم، ويُدبّر أمورهم المختلفة، ويؤمّن احتياجاتهم.
وقد فسّرها البعض بمعنى القائم بالذات ومقوّم الموجودات الاخرى، والذي لا يتفاوت مع المعنى السابق تفاوتاً ملحوظاً «1».
يُلاحظ في الايتين الأولى والثانية أنّهما- وضمن إشارتهما إلى وحدانية اللَّه تعالى- تحدثتا عن حياة الباري وقيمومته، قال تعالى: «أَللَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ القَيُّومُ».
وكما أشرنا سابقاً فإنّ حياة الباري تتفاوت كُلياً عن حياة الإنسان والحيوان والنبات، فحياته حياة حقيقية لأنّها عين ذاته، لا عارضة ولا مؤقتة.
حياته بمعنى العلم والقدرة (نفس الصفتَين اللتين شرحناهما في البحوث السابقة)، لأنّهما العلامة الأصيلة للحياة.
فهو ليس قائم بذاته فحسب، بل إنّ قيام الموجودات الاخرى ومربوبيتها وتدبير جميع أمورها بيده سبحانه.
وخلاصة الكلام، إنّ حياته ليس لها أدنى شَبه بحياة سائر الموجودات الحيّة، حياته (ذاتيّة)، (أزليّة)، (أبديّة) (ثابتة) و (خالية من كل ألوان النقص والمحدوديّة)، حياته تدل على إحاطته العلمية بكلّ شي ء، وقدرته على كل شي ء.
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 152
أمّا الآية الثالثة، فبعد أن أشارت إلى يوم القيامة قالت: «وَعَنَتِ الوُجُوُهُ لِلْحَىّ اْلقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ
مَنْ حَمَلَ ظُلْماً».
«عَنت»: من مادّة (عَنْوة) وقد وردت بمعنى الخضوع والذلة، لذلك يُطلق على الأسير «عاني»، لأنّه ذليل وخاضع بيد الآسِر.
وقد نُسب الخضوع والذل هنا للوجوه، لأنّ الوجه أشرف عضو في الإنسان، علاوة على أَنّ ردود الفعل النفسيّة ومن جملتها الخضوع تظهر على وجه الإنسان قبل كلّ شي ء.
والتأكيد على صفتي (الحي) و (القيوم) في مسائل عالم الآخرة يُعَدُّ إشارةً لطيفةً إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ حياة اللَّه تعالى الخالدة وقيمومته الشاملة ستظهر وتتجلّى في ذلك اليوم بصورة أفضل، وسيتجلّى أيضاً ضعف الإنسان وعجزه واحتياجه للذات الإلهيّة المقدّسة بصورة أوضح. لأنّ جميع الناس قد بُعثوا بعد موتهم وقد يظهر عليهم العجز والضعف والحاجة إلى لطف اللَّه تعالى في تلك المحكمة الإلهيّة العظيمة.
وأمّا الآية الرابعة فقد وصفت الباري سبحانه وتعالى بالوجود الحي الذي لا يموت أبداً، وأمرت الرسول بالتوكُّل عليه حيث قالت: «وَتَوَكّلْ عَلَى الحَىِّ الَّذِى لَايَمُوتُ».
وبديهي أنّ الإنسان المؤمن بامتلاكه لهذا الأساس المتين سوف لا يخشى من أي أحد، ولا يهاب، أو يستوحش من أي حادثة.
يتّضح هُنا أنّ هذه الآية مع أنّها تبيّن أصلًا عقائدياً، فهي ذات مردودات أخلاقية وعمليّة في نفس الوقت، وتقوّي أُسس التوكُّل في روح الإنسان وقلبه.
وفي الآية الخامسة والأخيرة نلاحظ انعكاس نفس هذا المعنى والمفهوم بمردودات عمليّة وأخلاقيّة أُخرى، قال تعالى: «هُوَ الْحَيُّ لَاإِلَهَ إِلّا هُوَ»، ولأنّه كذلك «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».
نفحات القرآن، ج 4، ص: 153
يظهر من لحن الآية- كما قال الفخر الرازي في تفسيره أنّها تُفيد الحصر «1»، أي أنّ الحي حقيقةً هو اللَّه وحده، وإن كان للآخرين حياة فهي زائلة ومقرونة بالموت التدريجي، ولذلك ليست لهم اللياقة للُالوهية والمعبوديّة، ومن هنا يتضح ضرورة الإخلاص له في الدين والعبادة
ونفي كل أنواع الشرك عنه.
يستفاد من مجموع الآيات المذكورة أنّ وصف اللَّه عزّ وجلّ بالحياة الباقية لا يُقصد منه الحياة المشوبة بالموت والهلاك والفناء أو التغيُّر، بل هي الحياة الملازمة لقيامه بذاته وقيام الموجودات الاخرى به، الحياة التي تشع على المخلوقات، وتلهم التوكُّل والإخلاص، وبالنتيجة حياة تعطي درساً في التوحيد وتنفي كل ألوان الشرك.
إنّ تقسيم الموجودات إلى قِسمين، موجودات حيّة وموجودات ميّتة، تقسيم يفهمه كُلّ واحدٍ من الناس مهما كان مستواه من الفهم والشعور، لأنّه يرى بعينيه التفاوت الموجود بين الموجودات الحية والميتة، ومع ذلك فقد عجز أذكى العلماء عن الإجابة عن هذا السؤال: ما هي حقيقة الحياة؟ فهم يقرّون أنّ الحياة ظاهرة معقدة جدّاً وذات أسرارٍ لم يتوصل العلم والعقل البشري إلى أعماقها لحد الآن!
لذا يُعَدُّ خلق موجودٍ حيٍ (وحتى خلية واحدة بسيطة لها أبسط صور الحياة) عملًا شاقّاً ومعقّداً جدّاً بالنسبة للإنسان، وقد طالع العلماء سنوات عديدة في هذا المجال ولا يزالون عاجزين عن القيام بذلك، وعلى فرض أنّهم سيستطيعون يوماً ما وبإلاستعانة بوسائل وطرق طبيعية مختلفة خلق خلية حيّة من موادٍ طبيعيّة ميتة فسيواجهون العجز أيضاً في
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 366؛ وتفسير الكبير، ج 27، ص 84.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 154
إدراك تنوع الحياة وكيفية ظهور الصور المختلفة لها.
ويُمكن القول باختصار: إنّ مُظهِر الحياة بصورها المختلفة ذو علمٍ لا محدود وقدرةٍ مطلقة، ويُعَدُّ ظهور أنواع الكائنات الحيّة أوضح دليلٍ على علم اللَّه عزّ وجلّ وقدرته العظيمة.
وكما تقدم فإنّ الحياة لها عدّة أقسام، ابتداءً من حياة النبات وحتى حياة الإنسان فصاعداً، وهذه الحياة المتنوعة لها آثار مختلفة أيضاً.
وعندما يصل العلماء إلى حياة الإنسان يقولون: هي الحالة المقرونة بالعلم
والشعور والقدرة والفعاليّة.
ومن الواضح إنّ علمنا وقدرتنا لا تمثل حقيقة الحياة، بل هي من مستلزماتها، لذا قد يكون الإنسان حياً من دون علمٍ وقدرةٍ.
ومن المسَّلم أنّ حياة الإنسان والتي هي من عوارض الجسم، لا يمكن تصورها للباري جل وعلا.
والتصور المقبول عن حياة الباري تعالى هو العلم اللا محدود وقدرته على كل شي ء، وبهما يمكن إثبات أعلى مفهومٍ للحياة له عزّ وجلّ.
أ) اعتبر عامّة علماء الإسلام صفة الحياة من الصفات الإلهيّة المُسلمة، ووصفوه سبحانه بالحي القيّوم. وكما عرفنا آنفاً فإنّ الآيات القرآنية أكّدت هذا المعنى والمفهوم كِراراً بالرغم من أن للمفسرين تعابير مختلفة في تصوير حياة اللَّه سبحانه وتعالى.
وأكثرها وضوحاً ومقبوليّةً هو ماذكرناه آنفاً من كون حياة الباري تعني إحاطته بكل شي ءٍ علماً، واقتداره على فعل كُلّ شي ء، وإلّا فالحس والحركة ودقّات القلب والتنفُّس والتفكُّر وأمثال ذلك لا مفهوم لها بالنسبة إلى اللَّه عزّ وجلّ.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 155
ومن هنا يتضح الدليل على أنّه عز وجل حيٌّ وقيوم، لأنّه عندما يكون علم الإنسان المحدود وقدرته الحقيرة دليلًا على حياة الإنسان، فكيف بمن يكون علمه غير محدود وقدرته مطلقة؟ فلابدّ وأن تكون حياته أسمى وأكمل من غيره، بل الحياة عين ذاته.
ب) علاوةً على هذا، فهو سبحانه خالق الحياة، فهل يُمكن أن يكون واهب الشي ء مفتقر إليه!؟
وأمّا قيموميته التي قالوا في تفسيرها: (هو القائم بذاته المقوّم لغيره)، فهي أيضاً من صفاته الملازمة لوجوب وجوده وخالقيته وربوبيته سبحانه.
وقد عدّ البعض مسألة حفظ سائر الموجودات وإعطائهم جميع حاجاتهم ضمن مفهوم «القيّوم»، ولكنها لا تزيد على ما قُلناه بطبيعة الحال.
يقول المرحوم العلّامة «الطباطبائي» في تفسير «الميزان»: «اسم القيوم أمُّ الأسماء الاضافية الثابتة له تعالى جميعاً (صفات الفعل) وهي الأسماء
التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه، كالخالق والرازق والمبدأ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها» «1»
.
وعليه يُعتبر ذِكر (ياحىُّ ياقيّوم) من الأذكار الإلهيّة الجامعة، لأنّ صفة (الحي) هي الأساس لجميع صفات الذات أي العلم والقُدرة، و (القيّوم) تضم جميع صفات الفعل.
نختم هذا الكلام بحديثٍ غني عن أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال: «لمّا كان يوم بدرٍ جئتُ أنظر مايصنع النبيُّ فإذا هو ساجد يقول ياحيّ ياقيوم فتردّدتُ مرّاتٍ وهو على حاله لايزيد على ذلك إلى أن فتح اللَّه له» «2»
.
ومن هذا الحديث نفهم الآثار المفيدة والمباركة لهذا الذكر الشريف لذا قال أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة 160 من نهج البلاغة: «فلسنا نعلَمُ كُنه عظمتك إلّاإنّا نعلَمُ أَنّك حيُّ قيوم لا تأخذُكَ سِنَةٌ ولا نوم».
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 2، ص 348.
(2) تفسير روح البيان، ج 1، ص 400، في ذيل آية الكرسي الآية 255 من سورة البقرة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 157
نفحات القرآن، ج 4، ص: 159
يُعبَّر عن الصفات السلبيّة ب «صفات الجلال» عادةً، لأنّ اللَّه سبحانه (أجَلّ) من أن يوصف بمثل هذه الصفات التي تُعبّر جميعها عن وجود النقائص والعيوب.
وهذه الصفات تقع في مقابل «صفات الجمال» التي تدعى ب «الصفات الثبوتية» وتحكي عن جمال ومحاسن الذات الإلهيّة المقدّسة.
وبعبارة اخرى يمكن القول: بأنّ جميع الصفات السلبية مجموعة في هذه الجملة وهي (إنّ اللَّه مقدّس ومنزّه عن كل ألوان العيوب والنقائص وعوارض وصفات الممكنات).
وقد بُحثت أقسام مهمّة من هذه الصفات في علم الكلام بالإستلهام من الآيات القرآنية، منها:
إنّه تعالى ليس «مُركّباً».
ليس له جسم.
لا يُرى.
لا يسعه مكان أو زمان.
منزّه عن كل ألوان الفقر والحاجة.
ذاته ليست محلًا للحوادث والعوارض والتغيُّر والتحوُّل أبداً.
وصفاته عين ذاته لا زائدة عليها.
وعليه ينبغي من جهة طرح مسألة (صفات الجلال) بشكل كلّي وشامل، ومن جهةٍ أُخرى التحقيق في الصفات الحساسة بتفصيل أكثر.
بعد هذا التمهيد نتوجه إلى القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات التالية:
نفحات القرآن، ج 4، ص: 160
1- «يُسَبِّحُ للَّهِ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ العَزِيزِ الْحَكيمِ».
(الجمعة/ 1)
2- «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوُسُ». (الحشر/ 23)
3- «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». (المؤمنون/ 91)
4- «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ». «1»
(الصافّات/ 180)
«القدوس»: صيغة مبالغة من مادّة «قدس»، وهي في الأصل بمعنى النزاهة والطّهارة، وكما قال صاحب (مقاييس اللغة): فإنّ سبب إطلاق هذه الصفة على اللَّه عزّ وجلّ هو لقداسة ونزاهة ذاته عن الأضداد والأكفّاء والصاحبة والولد.
ويُستنتج من كلام الراغب في (المفردات)، وابن منظور في (لسان العرب)، أنّ هذه الكلمة تُستعمل عادةً للتنزيه الإلهي أو لتطهير عباده، وحتى صاحب مقاييس اللغة يقول:
في الأغلب أنّ هذه الكلمة من المصطلحات الإسلاميّة الخاصّة.
وسُميت أرض (القادسيّة) بهذا الاسم
لأنّ إبراهيم الخليل عليه السلام دعا اللَّه عزّ وجلّ لتطهيرها وتقديسها.
ومن الجدير بالذكر أنّ الراغب يعتقد بأنّ هذه الكلمة تُستعمل فقط بخصوص التطهير المعنوي لا التطهير الظاهري وإزالة الخبائث.
وتقديس العباد للَّه تعالى بأن ينزهوه من كلِّ نقصٍ وعيبٍ.
و أمّا (التسبيح) وكما يقول بعض أرباب اللغة: فذو معنَيين:
الأول: النفي، وقد ورد في الآيات القرآنية بمعنى نفي كل ألوان العيوب والنقائص عن اللَّه تعالى.
__________________________________________________
(1) ورد هذا التعبير وكذلك تعبير الآية التي قبلها في ستة موارد في القرآن الكريم، حيث ينزه اللَّه تعالى عما يصفه به المشركون والجاهلون (الانعام، 100؛ الأنبياء، 22؛ المؤمنون، 91؛ الصافات، 159، و 180، الزخرف 82) ومضافاً إلى الآيات التي تشتمل على عنوان (تسبيح اللَّه) فكلها توضح مقصودنا، وقد ذكرنا منها نماذج مختلفة أعلاه.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 161
والثاني: بمعنى السباحة والتحرُّك السريع في الماء، (من مادّة سبح وسباحة).
ولكن يُمكن إرجاع كلا هذين المعنيَين إلى أصل واحدٍ وهو الحركة السريعة، سواءً في طريق العبادة والتعبُّد، وتنزيه وتقديس اللَّه تعالى عن كل عيبٍ ونقص، أو في الحركة السريعة في الماء، أو الهواء، أو على الأرض. لأنّ الحركة تقرّب الإنسان من شي ء وتُبعّده عن شي ءٍ آخر.
ففي الموقع الذي تعني فيه التنزيه عن العيب تأخذ جانب الابتعاد، وفي الموقع الذي تأتي فيه بمعنى السباحة وشق الماء والهواء تأخذ جانب التحُّرك «1».
الآية الأولى من بحثنا واردة في تسبيح عامّة موجودات العالم، وهذا ما أكدته الكثير من الآيات القرآنية بتعابير مختلفة، ويُعتبر هذا البحث من البحوث القرآنية الطريفة جدّاً، قال تعالى: «يُسَبِّحُ للَّهِ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكْيِمِ».
فَلِسان حال الكون وأسراره المذهلة تحكي عن علم اللَّه تعالى اللامحدود وقدرته اللامتناهية وكماله المطلق، والجميع
يقدسون اللَّه عزّ وجلّ وينزّهونه وينفون عن ذاته المقدّسة كُلّ عيبٍ ونقص، لأنّ كل من ينظر إلى هذه الموجودات بدقّة يقف على عظمة خالقها ومديرها ومدبّرها.
ويعتقد جماعة من المحققين أيضاً أنّ موجودات العالم المختلفة تُسبح اللَّه تعالى حقيقة، وبلسان القال لا بلسان الحال فقط، لأنّ لكل نوعٍ منها حصّة من الإدراك والشعور والكيفية الخاصة لتقديس الباري تعالى، وما المانع في تحقُّق كلا الأمرين (لسان الحال والقال) في بيان هذه الحقيقة؟
لذا فإنّ كلمتي (يُسبّح) و (القدوس) في هذه الآية الشريفة تُعّدان كلاهما إشارة لطيفة
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ مصباح اللغة؛ لسان العرب؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم مادّة (سبح).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 162
إلى جميع صفات اللَّه تعالى السلبيّة، وهي من الأمور التي يشترك في ذكرها جميع موجودات عالم الوجود.
واستعمال صيغة الفعل المضارع المستمر في فعل (يُسبّح) يدل على استمرار وديموميّة هذا الأمر، منذ بدء الخلق وسيبقى حتى النهاية، ويجب أن يكون كذلك، لأنّ وجود الأفعال يُبيّن دائماً صفات الفاعل.
والطريف أنّ هذه الآية هي الآية الاولى من سورة الجمعة، وتُعدُّ مقدّمة لبيان فريضة صلاة الجمعة العباديّة السياسيّة. لأنّها تلفت أذهان الناس إلى كون مسألة العبادة والتقديس للَّه سبحانه برنامجاً عاماً ومستمراً من قبل جميع ذرات الوجود، وتحثهم على الإنضمام معها في هذا الذّكر، ومواكبة أمواج الوجود في هذا البرنامج المقدس، والخضوع لساحة الباري الحاكم القدوس والقادر الحكيم «1».
وفي الآية الثانية تجلّى هذا الكلام بلباسٍ آخر، فضمن تأكيدها على توحيد اللَّه تعالى وبيانها لبعض صفاته وأسمائه الحسنى، وصفته بصفة (القدّوس) المبينّة لجميع الصفات السلبيّة، قال تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ».
وكما أشرنا في شرح مفردات الآيات فإنّ (القدّوس) صيغة مبالغة للقداسة، وتعني منتهى
نزاهة الذات والصفات والأفعال والأحكام الإلهيّة من كلّ عيبٍ ونقص، وهي تعبير مختصر وغني جامع لجميع الصفات السلبيّة.
فهو ليس منزّه عن وجود نقصٍ في ذاته فحسب، بل إنّ إيجادَه وخَلقه وتكوينَه وتشريعَهُ منزّهٌ عن أي عيب ونقص أيضاً، لأنّها جميعاً تنبع من ذلك الكمال المطلق، ومن فيوضاته وإفاضاته سبحانه، وجميعها ذات صبغة إلهيّة، وجميعها كاملة.
__________________________________________________
(1) أوردنا في التفسير الامثل بحوثاً عديدة حول عموم التسبيح لموجودات العالم وبيان كيفية هذه المسألة المهمّة. راجع ذيل الآية 44 من سورة الإسراء، وذيل الآية 141 من سورة النور.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 163
أمّا الآية الثالثة، فبعد أن نَفت أيّ ولدٍ وكُفْ ءٍ عن الذات الإلهيّة المقدّسة قالت: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ».
وقد وردت هذه الجملة في آيات عديدة من القرآن الكريم، وجاءت لتنفي أيّ شريكٍ وكفْ ءٍ أو صاحبةٍ وولدٍ عن اللَّه عزّ وجلّ كما كان يعتقد ذوو الأفكار الضيقة، ولها معنىً واسع يشمل كل وصفٍ لا يليق بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه، بل يشمل كل وصفنا له أيضاً، لأننا وجميع المخلوقات الاخرى وبسبب اتصافنا بالنقصان والمحدودية، عاجزون عن فهم كنه صفاته، لذا نعجز عن شرحها في الوقت الذي نعرف صفاته المقدّسة بصورة إجماليّة.
وعليه فهو منزّه عن كل وصفنا لهُ ومنزّه عمّا يصف الواصفون: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ».
وبذلك نجد في بعض الروايات الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام وضمن بيانه المذهب الصحيح في التوحيد أنّه عليه السلام قال: «تعالى اللَّه عما يصفه الواصفون» «1».
ثم أكّد عليه السلام في ذيل نفس هذا الحديث على عدم التجاوز في وصف الباري عن الصفات التي وردت في القرآن الكريم.
وفي الآية الرابعة والأخيرة من بحثنا قال تعالى- وبكلامٍ مطلقٍ ومجرّدٍ عن أيّ قيدٍ وشرط-: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ
العزِّةِ عَمَّا يَصِفُونَ».
وكما قلنا: فإنّ هذا التعبير يُمكن أن يكون إشارة إلى تنزيه اللَّه عزّ وجلّ عمّا وصفه به ذوو الأفكار الضيّقة، فأحياناً يتخذون من المسيح ولداً له، وأحياناً اخرى يتخذون من الملائكة بناتٍ له! وأحياناً كانوا يعتقدون بوجود صلة قرابة بينه وبين الجن، وأحياناً كانوا يُعرّفون الأصنام كشركاء وأكفّاء له أو شفعاء عنده، وأحياناً كانوا يصفونه بأوصاف الأجسام المادّية.
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 100، باب النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه، ح 1.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 164
وبعبارة اخرى إنّ هذه الآية الشريفة تنفي عنه جميع هذه الأوهام الخاطئة وتبطلها.
ويمكن أن يكون المقصود هو تنزيهه سبحانه عن كل وصف صادر من أي أحدٍ، لأنّ البشر لا يقدر على إدراك كُنه صفاته، كما أنّه عاجز عن إدراك كنه ذاته.
ويتضح من مجموع هذه الآيات أنّ الذات الإلهيّة منزّهة عن أي صفةٍ تحمل أقل درجة من النقصان، أو أدنى عيب.
ومعرفتنا بالصفات الثبوتية الإلهيّة إنّما هي بقدر طاقاتنا وقدرتنا لا بقدر مايليق بالذات الإلهيّة المقدّسة.
وهذا التنزيه مضافاً إلى شموله لذات الباري وصفاته، فإنّه يشمل أحكامه وتشريعاته أيضاً، فكُلُّها منزّهة عن النقصان والعيب، لأنّها نابعة من ذاتٍ هي عين الكمال والكمال المُطلَق.
إنّ تنزيه وتقديس الباري تعالى عن صفات المخلوقين المشوبة بالنقائص دائماً، هو ماأكدّنا عليه كِراراً، وهو ما حثّتْ عليه الأحاديث الإسلاميّة بصورةٍ مستمرة، لأنّه لا يُمكن التوصُّل إلى حقيقة معرفة اللَّه تعالى بدونه، أو بتعبيرٍ آخر سيكون التوحيد مقترناً مع الشرك.
ومن جهةٍ اخرى فإنّ فصل الصفات «الثبوتية» عن «السلبية» يحصل في افق أذهاننا فقط، وإلّا فالذات الإلهيّة المقدّسة حقيقة واحدة، فقد ننظر إليها من زاوية الوجود فنرى كماله المطلق، وعلمه المطلق، وقدرته المطلقة سبحانه،
وأحياناً من زاوية نزاهتها عن الحاجة والنقص، فنراها منزّهة عن الجهل والعجز، وكل ألوان النقصان.
لذا فعدم معرفة الصفات السلبيّة يؤدّي إلى عدم معرفة الصفات الثبوتيّة، ونقصان المعرفة في مرحلة يؤدّي إلى نقصانها في مرحلةٍ اخرى.
وفي هذا المجال لابدّ لنا من التوجه إلى بعض الإشارات الواردة في الأحاديث الإسلامية التالية:
نفحات القرآن، ج 4، ص: 165
1- قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في بداية خُطبةٍ له: «لايَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَلا يُغَيّرُهُ زَمانٌ وَلا يَحْويهِ مَكانٌ وَلا يَصِفهُ لِسانٌ» «1».
2- وقال عليه السلام في خطبةٍ اخرى ضمن إشارته إلى عجز الإنسان عن فهم المسائل المرتبطة بالحياة والموت: «كَيْفَ يَصِفُ إلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثلِهِ؟» «2».
3- وورد في حديثٍ أنّ رجُلًا من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام سأل الإمامَ عليه السلام: أخبرني أي الأعمال أفضل؟ فأجابه عليه السلام: «تَوْحِيدُكَ لِربّكَ» فسأل الرجل: «فما أعظم الذنوب»؟
فقال عليه السلام: «تشبيهك لخالقك!» «3».
4- وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمانٍ ولا مكانٍ ولا حركةٍ ولا انتقال ولا سكون بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والإنتقال، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّاً كبيراً» «4».
5- وورد أيضاً في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير صفة (الصمد) أنّه قال:
«تأويل الصَّمدِ لا إسم ولا جسم ولا مثلَ ولا شبه ولا صورة ولا تمثالَ ولا حدَّ ولا حدود ولا موضعَ ولا مكان ولا كيف ولا أينَ ولا هنا ولا ثمةَ ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قُعود، ولاسكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا يسعهُ موضعٌ ولا على لون، ولا على
خطرِ قلْبٍ، ولا على شمِّ رائحة، منفيٌ عنه هذه الأشياء» «5».
ولا يخفى أنّ المقصود من نفي الاسم عن اللَّه سبحانه هو نفي أسماء المخلوقات.
وبهذه المعرفة الإجمالية التي حصلنا عليها عن الصفات السلبيّة ننطلق إلى معرفتها بالتفصيل.
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 178.
(2) المصدر السابق، الخطبة 112.
(3) بحار الأنوار، ج 3 ص 287.
(4) المصدر السابق، ص 309، ح 1.
(5) المصدر السابق، ص 230، ح 21.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 167
مر علينا قسم من الصفات السلبية في مباحث التوحيد ضمن بيان وحدانية الذات الإلهيّة وبساطة وجوده تعالى، ونفي الجزئية والتشبيه عنه.
إنّ الموضوع الأكثر أهميّة في هذا البحث والذي صار معرضاً للنقاش والجدل على مرِّ تاريخ علم الكلام، هو المسائل التي سنطرحها في هذا الفصل.
ومنها: إنّ اللَّه عزّ وجلّ ليس له جسم ولا يمكن رؤيته، ولا يسعه محل ومكان، وهذه الصفات السلبيّة الثلاثة متلازمة، أي لو كان مرئياً لاستلزم أن يكون له جسمٌ ومكانٌ، وإن لم يكن له مكان لم يكن جسماً حتماً، ولم يكن مرئياً بطريق أولى
وإدراك هذاالمفهوم وهو أن اللَّه تعالى لا يُمكن أن يكون من سنخ الأجسام- بإلالتفات إلى دلائل معرفة اللَّه تعالى لا يُعدُّ مسألةً معقّدة، ولكن، وبسبب بحث ذوي الأفكار الضيقة، واولئك الذين لم تخرج عقولهم عن إطار الحس فيبحثون غالباً عن إله جسمانيّ، كان لعقيدة جسمانية اللَّه مؤيدون في الأقوام الماضية، وحتى من قبل جماعة من المسلمين «القشريين المتحجرّين».
لذا فقد أكّد القرآن الكريم على مسألة نفي الجسميّة والمكان والجهة عن اللَّه سبحانه وتعالى.
بهذا التمهيد. ننطلق إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية:
1- «لَّاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ». (الأنعام/ 103)
2- «وَلَمَّا جَآءَ مُوْسَى
لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ الَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى وَلَكِنِ
نفحات القرآن، ج 4، ص: 168
انْظُرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ».
(الأعراف/ 143)
3- «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَاً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوْسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنَ بَعْدِ مَاجَاءَتْهُمُ البَيِّناتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً». (النساء/ 153)
4- «وَقَالَ الَّذيِنَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسَتْكبَرُوا فِى أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً». (الفرقان/ 21)
ورد في الآية الأولى من البحث بصراحة: «لَاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ»، ثم تضيف: «وَهُوَ الْلَّطِيفُ الْخَبِيرُ».
وعليه فإنّ هذه الآية تنفي كل إمكانيةٍ لرؤيته تعالى سواء في هذا العالَم أَم في العالَم الآخر.
وبديهي أنّ المقصود من معنى (لا تدركه الأبصار) هو عدم قدرة البشر على رؤيته بواسطة العين، وجَلّيٌ أيضاً أنّ كلمة (الأبصار) وردت بصيغة الجمع هنا من أجل التعميم والشمول لتشمل أي عينٍ مهما كانت قدرتها البصريّة شديدة.
وبالرغم من الصراحة التامة الموجودة في تعبير هذه الآية في بيان المقصود، نُلاحظ أنّ «الفخر الرازي» ومؤيديه استدلّوا بهذه الآية على إمكانية رؤية اللَّه، وتشبثوا لإثبات هذا المدّعى بتعابير واهية ومضحكة.
فقد قال الفخر الرازي في بعض كلامه في ذيل الآية أعلاه: «استدل أصحابنا بهذه الآية لإثبات إمكانية رؤية اللَّه يوم القيامة بطرق متعددة منها!!
نفحات القرآن، ج 4، ص: 169
1- إنّ قول القرآن الكريم (لا تدركهُ الابصار) يفيد المدح وثبت أنّ ذلك إنّما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدل على أنّ قوله تعالى:
(ولا تدركهُ الابصار) يفيد كونه تعالى جائز الرؤية، وتمام التحقيق فيه أنّ الشي إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته، فحينئذٍ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشي.
وبعدما ثبتت إمكانية رؤية اللَّه يجب التسليم بأنّ هذه المسألة تحدث في يوم القيامة! لأنّه ليس لدينا سوى رأيين حول هذه المسألة:
الأول: جواز الرؤية مع أنّ المؤمنين لا يرونه ولا تجوز رؤيته مطلقا فأمّا القول بأنّه تعالى تجوز رؤيته مع أنّه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الامة فكان باطلًا.
فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنّه تعالى جائز الرؤية في ذاته.
الثاني: لا يرى بالعين وإنّما يرى بحاسة سادسة يخلقها اللَّه تعالى يوم القيامة.
الثالث: قوله: (لا تُدركه الأبصار) يفيد أنّه لا يراه جميع الأبصار فهذا بعينه سلب العموم ولا يفيد عموم السلب» «1».
كان ذلك قسماً من استدلالاته بصورة ملخصة وموجزة، والحق أنّه يَبعث على الأسف في أن يحوك مفسّر مثلهُ ويخلط المسائل مع بعضها بصورة محيّرة، على الرغم من قدرته الفكريّة، عندما يتورط في أسر التعصُّبات الطائفيّة ويستدلُّ من دليلٍ واضحٍ على ضدّه!
ونحن لا نرغب أبداً في ذكر مثل هذه التعابير بشأن أي أحدٍ، ولكن لو شاع هذا الاسلوب، أي أن يتشبث الإنسان لإثبات مطلبٍ معين بأمورٍ تدل بالضبط على عكس ذلك المطلب، ويستدل بكل شي ء لإثبات كل شي ء لتعرضت الحقائق للاندثار والضياع، ولأمكن إيجاد استدلالٍ قرآنيٍّ لأي موضوع، ولذا كان لابدّ لنّا من الحديث بهذه الطريقة، ولزيادة توضيح هذا البحث نتطرق إلى رد تلك الاستدلالات الثلاثة المذكورة أعلاه.
أولًا: إننا نمدح اللَّه تعالى بصفات سلبية كثيرةٍ وجميعها محال بشأنه، كقولنا بأنّ اللَّه لايفنى ولا يهلك أبداً «كُلُّ شَى ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»،
ومن المُسَلَّم به أنّ هلاك واجب الوجود
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 13، ص 125 و 126.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 170
محال، فهل يُمكن أن يستدل أحد بها على إمكانية هلاك وفناء اللَّه تعالى؟ بحجة أنّه لو كان محالًا لما صحّ مدحه بعدم الهلاك كما يدّعي: فهل يتفوّه عاقل بمثل هذا!؟
وكذلك مدح القرآن للَّه تعالى بتنزيهه عن الأب والصاحبة والولد والشريك: «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ». (الأنعام/ 101)
وقال سبحانه: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». (التوحيد/ 3)
وعلى هذا الأساس فإنّ جميع الصفات السلبية أمور محالة بشأن اللَّه تعالى، لأنّها من صفات الممكنات، واللَّه واجب الوجود.
ثانياً: لايوجد في الآية المذكورة أي إشارة إلى الحاسة السادسة وما شاكلها، ولا تدخل في إطار أيٍّ من المفاهيم المعروفة الموجودة في كتب الأصول، إذن فليس اثبات الشي بمعنى نفي غيره، ولا نفي الشي ء يثبت شيئاً آخر، وعليه فإذا قالت الآية: «لا تدركه الأبصار» فليس مفهومها: إمكانية رؤية اللَّه بواسطةٍ اخرى!
علاوةً على ذلك فما هو المقصود من الحاسة السادسة؟
فإن كان المقصود منها المشاهدة القلبيّة والرؤية بعين العقل فلا أحد يُنكرها، ولا علاقة لها بالرؤية البصريّة، وإن كان المقصود شيئاً آخر فينبغي توضيحه وتشخيصه ليُمكن بحثه، لأنّ التكلّم في موضوعٍ مبهمٍ وغير مفهومٍ يعتبر لغواً.
ثالثاً: إنّ قول الآية: «لا تدركه الأبصار» معناه عدم قدرة أي بصرٍ على رؤيته، وهو من قبيل (العموم الإفرادي)، ويمر علينا مثل هذا التعبير في كلامنا اليومي بكثرة، كقولنا لا تطوله الأيدي، أو: لا يعرف الناس قَدرَهُ، أي، أيّ يدٍ وأيّ إنسان.
كما ورد في بعض الأدعية: «كلّت الألسُنُ عن غاية صفته، والعقول عن كُنه معرفته» «1»
.
وكذلك نقرأ في نهج البلاغة: «وأعجز الألسُنَ عن تلخيص
صفته» «2».
والحاصل أنّ دلالة الآية على عدم امكان الرؤية واضح جدّاً ولا يمكن باي سفسطة اتخاذها دليلًا على إمكان الرؤية.
__________________________________________________
(1) دعاء يوم الأثنين للإمام السجاد عليه السلام.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 165.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 171
تحدثت الآية الثانية عن القصة المعروفة لبني إسرائيل الذين ألحّوا على موسى عليه السلام ليريهم اللَّه تعالى، فأخذهم موسى بأمرٍ من الباري عزّ وجلّ إلى جبل (طور) ليحصلوا على جواب ماسألوا، فحدثت هناك حادثة عجيبة انكشفت فيها جميع الحقائق المرتبطة بهذا الموضوع.
قال تعالى: «وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ». فسمع موسى عليه السلام هذا الجواب الجلي الواضح من ربّه: «قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي».
فنظر موسى عليه السلام وسبعون رجُلا" من بني اسرائيل، الذين كانوا معه إلى الجبل فتجلّى اللَّه للجبل: «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً».
وكذلك الحال بالنسبة لمن معه من بني اسرائيل: «فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ».
ولتكملة تفسير هذه الآية ينبغي الإجابة هنا عن عدّة أسئلة:
الأول: إذا كانت مشاهدة جمال اللَّه مُحالةً (كما يُستنتج من عبارة «لَنْ تَرَانِي» فَلِمَ سأل موسى ربّه الرؤية مع أنّه كان رسولا"؟
يُمكن الإجابة عن هذا السؤال بسهولة وذلك بالإستعانة بآياتٍ قرآنيةٍ اخرى، وهو: إنّ هذا السؤال صدر من جُهلاء بني إسرائيل الذين كانوا يُشكلون الأغلبية، كما نجد في القرآن الكريم أنّ موسى عليه السلام قال بعد هذه الحادثة مخاطباً ربّه: «أَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا»؟
(الأعراف/ 155)
فيُستنتج من هذا التعبير أنّ هذا السؤال لم يصدر من موسى عليه السلام، بل قد تعرض لضغوط أجبرته على طرح سؤال أولئك الجهلاء ليحصل لهم
على جواب من ربّه وكذلك لألقاء الحجة عليهم.
ويستفاد بوضوح من قوله تعالى «يَسْأَلُك أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كِتَابَاً مِّن السَّمَاءِ
نفحات القرآن، ج 4، ص: 172
فَقَد سَأَلُوا مُوسَى أَكبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهرَةً فَأَخَذَتهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلمِهِم».
(النساء/ 153)
و قال أيضاً: «وَإِذْ قُلتُم يَا مُوسَى لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهرَةً فَأَخَذَتكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُم تَنْظُرُونَ». (البقرة/ 55)
إنّ تعنت سفهاء بني اسرائيل هو الذي دفعهم لتوجيه مثل هذا السؤال إلى موسى عليه السلام وكان عليه السلام قام بنقل سؤالهم فقط، ليسمعوا الجواب الإلهي الرادع.
وإن أصّر أمثال الفخر الرازي على كون هذا السؤال قد صدر من موسى عليه السلام فاستفاد منه الفخر الرازي إمكانية رؤية اللَّه تعالى البصريّة، حيث يقول: «وإلّا لما سأل رسول عظيم كموسى عليه السلام مثل هذا السؤال»، فهو إصرار في غير محلّه، وقد أبطلته الآيات أعلاه بوضوح.
عجيب حقّاً، فبالرغم من أن الآية الشريفة تصرح: (لن تراني) وكون (لن) أداة للنفي الأبدي، أي إنّك لن تراني أبداً، وعدّت الآية هذا السؤال من قبل بني إسرائيل تعدّياً ووقاحةً، وأنذرت بالصاعقة عقاباً عليه، مع كلّ ذلك نجد أنّ جماعة من المتعصبين يُصرون على عدم دلالة الآية بأي شكلٍ على نفي رؤية اللَّه، بل بالعكس!
ويجب الإعتراف أنّ آفة التعصُّب آفة عجيبة بامكانها أن تحط حتى من مستوى عالمٍ كبير إذا أُصيب بها وتجعله يتوسل بأدلة غير منطقية وبعيدة عن العقل والصواب.
والنقطة الاخرى: هي أنّ المقصود من التجلي الإلهي في هذه الآية هي (الصاعقة) بذاتها، والتي تُعد مخلوقاً من المخلوقات، وشُعاعاً من الأفعال الإلهيّة، وهي كناية عن أنّكم إذا لم تقدروا على رؤية الصاعقة التي تُعد شرارة صغيرة في هذا الوجود العظيم وما لها من تأثير عليكم،
حيث تكون مصحوبة بالهول والرعب، فهي قادرة على أن تصرعكم جميعاً، وتدكّ الجبل، وتزلزل الأرض. فكيف تُريدون رؤية الذات الإلهيّة المنقطعة النظير؟!
والحقيقة إنّ التجلي الإلهي كان إجابةً وعقوبةً لهم في نفس الوقت!
وآخر الكلام هو: لماذا طلب موسى عليه السلام التوبة من الباري بعد أن أفاق؟
إنّ هذا الطلب يُمكن أن يحملَ على احتمالين:
الأول: كما أنّ طلب موسى عليه السلام الرؤية كان نيابةً عن بني اسرائيل فإنّ طلبه التوبة من
نفحات القرآن، ج 4، ص: 173
الباري كان نيابةً عن قومه أيضاً.
الثاني: أنّ موسى عليه السلام كان يخشى من أنّ هذا المقدار من (النيابة عن بني اسرائيل) يُمكن أن يؤثر سلبياً على إيمانه وقدسية اعتقاده، لذا فانّه أعلن توبته وإيمانه لتسمو قداسته قدر الإمكان.
وكذلك نجد أنّ الفخر الرازي غرق في دوّامة تعصُّبه أيضاً، ولم ينكر دلالة الآية على استحالة رؤية اللَّه تعالى فحسب، بل أصّر في قوله على أنّ جوانب عديدة من الآية تدل على إمكانية الرؤية! ثمّ أدرج أموراً لا تستحق صرف الوقت لعرضها من جهة، ولا هي أهلًا للإجابة عليها من جهةٍ أُخرى؟ وقد لاحظتم نماذج منها في تفسيره للآية الماضية.
ويتضح تفسير الآية الثالثة من خلال تفسير الآية الثانية، ولزيادة التوضيح نضيف: إنّ اللَّه سبحانه وتعالى عَّد طلب بني اسرائيل الذين قالوا لموسى عليه السلام: «أَرِنَا اللَّهُ جَهْرَةً» ذنباً عظيماً وظلماً فاحشاً؟ وإنّه الذنب الذي أعقبه نزول العذاب الإلهي، لذا قال اللَّه تعالى: «يَسأَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيهِم كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَد سَأَلُوا مُوسَى أَكبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ».
ماذا ارتكب اليهود من ظلم في هذا المجال؟ إنّهم اعتبروا ربّهم العظيم بمستوى موجودٍ جسماني مادّي، وطلبوا مشاهدته.
وبسبب اساءتهم الأدب في اعتبارهم هذا
أخذتهم الصاعقة لتكون عقوبةً وعبرةً لهم في نفس الوقت، وليعلموا أنّهم عندما لا يقدرون على مشاهدة هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي لا يساوي أكثر من شرارةٍ في عالم الوجود العظيم، فكيف يُريدون مشاهدة خالق الشمس والقمر والنجوم وعالم الوجود!؟
إنّ هذه المسألة يستطيع كل واحدٍ أن يتوصل إليها بدون أن يطالع ويُحقق في قرائن الآية.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 174
وما ورد في بعض كلام (الأشاعرة) أنّ هذا التوبيخ والعقاب الذي نزل بهم كان بسبب طلبهم هذا الشي من اللَّه تعالى في الدنيا، مع كون الآخرة هي محل المشاهدة! «1» يُعدُّ كلاماً ضعيفاً جدّاً.
لأنّ التفاوت الموجود بين الدنيا والآخرة في مثل هذه الموارد موضوع لا يستحق التوبيخ والعقاب، ولحن الآية يدل على أنّهم قد ارتكبوا إساءة فظيعة تجاه ساحة القدس الإلهيّة، وهي وصفهم الذات الإلهيّة بصفة لا تليق به سبحانه، بل هي خاصّة بالممكنات، وإنّهم سلكوا طريق الشرك.
وأمّا ماهو مقصود أهل الكتاب بطلبهم إنزال كتاب من السماء عليهم؟ فهناك تفاسير متعددة:
قيل: إنّ مقصودهم هو الإستهانة بالقرآن، وسألوا الرسول أن يُنّزل عليهم ألواحاً كالألواح التي نزلت على موسى عليه السلام.
وقيل: إنّهم كانوا يريدون كتاباً خاصّاً بهم أو برؤسائهم وكبرائهم!
وقيل أيضاً: إنّهم كانوا يريدون كتاباً خاصّاً من اللَّه تعالى يدعوهم إلى الإيمان بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.
وأيّا كان من هذه المعاني فإنّه يدل على عنادهم والحاحهم وعدم تسليمهم للحق، وبديهي أنّ مثل هذا الطلب يستحق التوبيخ والعقوبة.
وأمّا الآية الرابعة والأخيرة فقد وبّخت وبشدة اولئك الذين سألوا الرؤية.
قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَو نَرَى رَبَّنَا». إنّ استكبارهم وعدم إيمانهم بالمعاد كان وراء طلبهم هذين الأمرين، ثم يضيف تعالى: «لَقَدِ
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير،
ذيل الآية 55 من سورة البقرة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 175
استَكبَرُوا فِى أَنفُسِهمِ وَعَتَو عُتوّاً كَبِيراً».
فهم قد سألوا أحد أمرين: إمّا نزول الملائكة عليهم أو رؤية اللَّه عزّ وجلّ، والمقصود من الملائكة هو ملك الوحي جبرائيل، أي أن ينزل عليهم بصورة مباشرة بدلا" من رسول الإسلام محمّد صلى الله عليه و آله، أو أن ينزل عليهم ليشهد على صدق الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله!
وقد نزل الجواب القرآني على شطرين أيضاً، والذي يُعتقد بأنّ الأول يخص سؤال نزول الملائكة فيقول: «لَقَدِ استكبَرُوا فِى أَنفُسِهِم» بسؤالهم هذا.
والشطر الثاني يخص سؤال رؤية اللَّه حيث قال: «وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً».
وأيُّ عتّوٍ أكبر من مقارنة الذات الإلهيّة الفريدة بالأجسام الماديّة والموجودات الممكنة الوجود، وجعلها عُرضةً للزمان والمكان والعوارض الجسمانيّة؟
ويشير لحن الآية بوضوح إلى عدم إمكانية رؤية اللَّه عزّ وجلّ، لأنّه لو كان ممكناً لما كان هنالك خلل وإشكال في سؤالهم ذاك.
يُستفاد من مجموع الآيات المذكورة عدم إمكانية رؤية اللَّه عز وجل بأي شكل، على خلاف عقيدة البعض الذين يقولون: إنّ مراد هذه الآيات هو الحياة الدنيا ولا يشمل الآخرة).
فالآيات التي ذُكرت ذات مفهومٍ واسع وعميق يشمل كلا الحياتَين، ولحنها يدل على استحالة تحقق هذا الأمر، والمحال محال في كليهما. (فتأمل جيداً).
إنّ الدلائل العقليّة الواردة في الآيات الآنفة الذكر أثبتت بأنّ المرئيّ أو المُشاهَدَ لابدّ انْ يحدد بمكان وزمان وجهة، وهذه الامور غير ممكنة بشأن الباري سبحانه. لأننا نعلم بأنّ
نفحات القرآن، ج 4، ص: 176
لكل جسمٍ أجزاء، علاوةً على خضوع جميع الأجسام للتغيُّر والتحوُّل، وكونها ذات عوارض كاللون والحجم والأبعاد.
في حين أنّ واجب الوجود ليس لَهُ جزء، وغير خاضع للتغيُّر والتحول؟ ولا يقع محلًا للحوادث، ولا يعترضُه شي ء، فجميعها من صفات الممكنات.
قال بعض مؤيدي عقيدة إمكانية الرؤية في مقابل هذا الاستدلال: (ليس لدينا أي دليلٍ على كون الرؤية البصرية مخصوصة بالأجسام؟ فما المانع في أن تُرى الأمور غير الماديّة بالعين؟ وخاصةً إذا ما تغيرت القدرة البصريّة وصارت بمستوى أقوى ممّا هي عليه الآن؟
إنّ بُطلان هذا الكلام بيّن، لأنّ الرؤية البصريّة ذات حالة ماديّة، وهذا الأمر المادي يتعلق بالأمور الماديّة حتماً، وليس من المعقول أن يرى الإنسان ما وراء المادّة بالوسائل الماديّة.
يقول العلامة الطباطبائي رحمه الله حول هذه المسألة في تفسير الميزان: «الرؤية البصرية سواءً كانت على هذه الصفة التي هي عليها اليوم أو تحولت إلى أيّ صفة اخرى، هي معها مادية طبيعية متعلقة بقدر وشكل ولون وضوء تعملها أداة مادية طبيعية فانّها مستحيلة التعلق باللَّه سبحانه في الدنيا والآخرة» «1».
علاوةً على هذا فالآيات القرآنية صرحت: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ». (الشورى/ الآية 11)
لذا فهو ليس له
شبهٌ بالأجسام الماديّة؟ وليس شيئاً مادياً يمكن مشاهدته، فلا يحدّه مكان ولا زمان، ولا يمكن الإشارة إليه بشكل محسوس.
انقسم المسلمون في مسألة رؤية اللَّه إلى ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: التي انضمّ إليها الفلاسفة والمحققون العظام، حيث تعتقد بأنّ رؤية اللَّه أمر محال مطلقاً.
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 8، ص 269.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 177
الطائفة الثانية: وهم المجسّمون الذين يعتقدون بأنّ للَّه جسماً، وعليه يُمكن رؤيته.
الطائفة الثالثة: وهم جماعة (أبو الحسن الأشعري) «1»: أحد متكلمي القرن الثالث، ولهم كلام عجيب حول هذه المسألة، فهم يقولون: «بالرغم من أنّ اللَّه عزّ وجلّ مجرّد عن الجسميّة والمادّة ولكن يُمكن رؤيته، وهذه الرؤية تتحقق في الآخرة فقط، لا في الدنيا، فهنالك يرى المؤمنون اللَّه تعالى بالعين المجردة!».
يقول (فاضل القوشچي) في (شرح تجريد العقائد للشيخ الطوسي): «اعتقد الأشاعرة بإمكانية رؤية اللَّه، فالمؤمنون يرونه في الجنّة؟ لكنها رؤية منزهة عن المقابلة وخالية من الجهة والمكان.
ثم أضاف: اتفق جميع القائلين باستحالة الرؤية البصريّة على أنّ الانكشاف العلمي التام ممكن (إمكانية رؤيته تعالى بعين العقل والقلب)، هذا من جهة، ومن جهةٍ اخرى اتفق القائلون بامكانية الرؤية البصرية أيضاً على استحالة تشكُّل صورة الباري تعالى في عين الإنسان، أو رؤيته بواسطة الاشعة الخارجة من العين» «2».
ويجدر الأنتباه إلى وجود رأيين بين الفلاسفة الماضين حول حقيقة الرؤية، فجماعة كانوا يؤيدّون خروج الشعاع ويقولون: الرؤية هي خروج شعاعٍ من عين الإنسان ووصوله إلى الشي ء المرئي فيراه الإنسان).
وجماعة آخرون اعتقدوا بأنّ حقيقة الرؤية هي تشكل صورة المرئي في العين، ونحن نعلم أنّ علماء العلوم الطبيعيّة اليوم يؤيدون النظريّة الثانية، وأثبتوها بأدلّةٍ حسيّة وقالوا:
(إنّ تركيب العين من هذه الناحية يشبه بالضبط آلة التصوير، فلابدّ أن ينعكس النور
__________________________________________________
(1) كان اسمه على بن اسماعيل، ويرجع نسبه إلى أبي موسى الأشعري، ولدَ في البصرة عام 260 أو 270، وفي البداية كان يميل إلى مباني مذهب المعتزلة، ثم عدل إلى مذهب اللَّه ومخلوقية القرآن، وابتدع مذهباً جديداً في أصول الدين كان أقرب إلى ذهن العامة وأكثر استحساناً من قبل المتعصبين، لذا فقد اعتنق الكثير مذهبه، وسلك طريقه جمع من العلماء كالغزالي وأبي بكر الباقلاني والفخر الرازي والشهرستاني وأبي اسحاق الشيرازي وقام بترويج عقائده بعض أرباب السلطة الذين اتخذوا من الدين وسيلةً لنيل مآربهم السياسيّة أمثال الأيوبيين في مصر والشام والموحدين في المغرب. (دائرة المعارف، أبو الحسن الأشعري- بتلخيص بسيط).
(2) شرح القوشچي، ص 435 و 436.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 178
الخارجي عن الجسم المرئي ليدخل العين أو آلة التصوير فتطبع صورتهُ على شبكيّة العين أو فلم التصوير).
والعجيب أنّ الأشاعرة في مقابل هذا الكلام- وهو عدم إمكانية أي واحدٍ من المعنيَين المذكورين للرؤية بالنسبة إلى اللَّه عزّ وجلّ المجرّد عن المادة- يقولون: لا تنحصر الرؤية بهذه الأمور، خصوصاً عندما يدور الكلام حول رؤية الأمور الغيبيّة أو الغائبة!
فيمكن أن يرى الأعمى الأشياء التي تبعد عنه بفاصلة مكانية كبيرة، فمثلا" يُمكن أن يرى عمارات الأندلس من هذه النقطة من العالَم!!
تدل هذه التعابير بوضوح على المغالطة اللفظية التي يستعملها هؤلاء، واعتبارهم للرؤية مفهوماً مغايراً لما هو موجود في العرف واللغة.
فانْ كان مقصودهم من الرؤية، الرؤية بعين القلب (البصيرة) والإدراك العقلي، فهذا مااتفق عليه جميع العلماء ولا حاجة للجدال والمناقشة فيه.
وإن كان مقصودهم هو الرؤية بالعين الظاهريّة، فهو لا يتحقق سوى بانعكاس نور الأجسام على شبكية العين.
وإن كان هناك نوع ثالث من الرؤية، فهو ادّعاءٌ مبهم، وغير معقول، وغير قابل للتصوّر،
نعلم أنّ التصديق بلا تصوُّ ر أمر محال.
ويظهر أن الأشاعرة تخلّوا عن ادّعائهم تدريجياً عندما عجزوا عن الإتيان بدليلٍ واقعي، واقتصروا على استعمال لفظ الرؤية فقط من دون أن يكون لها مفهومٌ غير المشاهدة بعين العقل، لأننا عندما نقول: إنّ رؤية اللَّه مجرّدة عن المكان والجهة وانعكاس صورة المرئي في العين، وأنّ مثل هذه الرؤية قد تتحقق حتى عند الأعمى أيضاً، فإنّها لا تعني سوى الرؤية الباطنية والقلبية.
والاغرب من ذلك هو أنّ البعض منهم قد جعلوا المسألة أكثر غموضاً فقالوا: إنّ اللَّه يهب للمؤمنين حاسة سادسةً يوم القيامة ليتمكّنوا من رؤيته بها!
وبغض النظر عن كون التعبير بالحاسة السادسة تعبيراً مبهماً وغامضاً، فإنّه لا يحل
نفحات القرآن، ج 4، ص: 179
مشكلة المشاهدة والرؤية، ولا يصحُّ استعمال لفظ الرؤية هنا سوى بالمعنى المجازي.
والسبب الذي أدى بالأشاعرة وأمثالهم إلى الاعتقاد بمسألة رؤية اللَّه يوم القيامة هو التقيُّد ببعض الروايات التي يوهم ظاهِرُها بشي ءٍ من هذا القبيل، وسنتعرض لها في البحث الذي يلي هذا البحث إن شاء اللَّه.
هنالك روايات وردت في نهج البلاغة، وكذلك سائر مصادر علوم أهل البيت عليهم السلام تُصرّح بانتفاء رؤية اللَّه تعالى بالعين الظاهريّة، وتتخذ من الرؤية بعين البصيرة بديلًا لها، نذكر قسماً منها كنموذج:
1- نقرأ في الرواية المعروفة الواردة في نهج البلاغة؟
وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك ياأمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: «أفأعبد مالا أرى » فقال: وكيف تراه؟ فقال عليه السلام: «لا تدركه (تراه) العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» «1»
.
2- ورد في رواية: إنّ أبا هاشم الجعفري سأل الإمام الباقر عليه السلام، وكان من أصحابه عليه السلام عن تفسير قوله تعالى: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الابصار»؟
فقال: «يا أبا هاشم أوهام القلوب أدقُّ من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون؟!» «2»
.
3- ونقرأ في حديث آخر أن أحد الخوارج سأل الإمام الباقر عليه السلام: أيّ شي ءٍ تعبدُ؟ قال:
«اللَّه تعالى»، قال: رأيته؟ قال: «بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس ولا يُشبَّه بالناس؛ موصوف بالآيات،
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 179.
(2) اصول الكافي، ج 1، ص 99، (باب في ابطال الرؤية) ح 11.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 180
معروف بالعلامات لا يجوز في حكمه؛ ذلك اللَّه، لا إله إلّاهو»؛ قال: فخرج الرجل وهو يقول: «اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته» «1».
4- في حديث آخر نقل جواب الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن سؤال: كيف يعبد العبدُ ربّهُ وهو لا يراه؟ فوقَّع «2» عليه السلام: «يا أبا يوسف جَلَّ سيدي ومولاي والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى . قال (الراوي): وسألته هل رأى رسول صلى الله عليه و آله ربّه؟ فوقَّع عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ماأحبّ» «3».
5- في حديث آخر عن عاصم بن حميد، قال: ذاكرت أبا عبد اللَّه عليه السلام فيما يروون من الرؤية (أهل السنة)، فقال: «الشمسُ جزءٌ من سبعين جزءاً من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملأوا أعينهُمْ من الشمس ليست دونها سحاب» «4»
.
فالعرش، والكرسي، والحجاب، والستر، كِناية عن العوالم الغيبيّة الإلهيّة المختلفة، أي
أنّ الشمس بعظمتها هي إحدى موجودات عالم الوجود، والإنسان الذي لايقدر أن يرى هذا الموجود الصغير بعينه كيف يقدر على مشاهدة ذات الباري المقدّسة؟ وهذا بالحقيقة شبيه ماورد في سورة الأعراف في قصة موسى عليه السلام، وبني اسرائيل، ودك الجبل بالصاعقة، وعدم قدرة بني اسرائيل على مشاهدة هذه الشرارة الصغيرة من عالم الوجود.
6- في حديث آخر عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخلهُ على أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام .... حتى بلغ سؤاله التوحيد، فقال أبو قرّة: إنّا روينا أنّ اللَّه عزّ وجلّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه و آله الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: «فمن المبلغُ
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 99، ح 5.
(2) فوقَّعَ، أي كتب.
(3) توحيد الصدوق، ص 108، ح 2.
(4) توحيد الصدوق، ص 108، ح 3؛ وأصول الكافي، ج 1، ص 98.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 181
عن اللَّه عزّ وجلّ إلى الثقلين الجن والانس «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» «ولا يحيطون به علماً» «وليس كمثله شي ءٌ» أليس محمد صلى الله عليه و آله» قال: بلى قال: «فكيف يجى ءُ رجلٌ إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللَّه وأنّه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه ويقول «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» «ولا يحيطون به علماً» «وليس كمثله شي ءٌ» ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطتُ به علماً وهو على صورة البشر، أمّا تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن اللَّه بشي ءٍ، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر»
«1»
.
إنّ الأحاديث الواردة حول هذا الموضوع كثيرة، فقد ذكر المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار حوالي 34 حديثاً، والمرحوم الصدوق في كتاب التوحيد 24 حديثاً، والمرحوم الكليني في اصول الكافي 12 حديثاً، وكلهاتدل على خلوص وطهارة المذهب التوحيدي لأهل بيت الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، الذي انتشر بين المسلمين، وما ذكرنا أعلاه يُعدُّ جانباً منه، والذي يفنّد خرافة (رؤية اللَّه) بالعين الظاهريّة «2».
خلاصة الكلام هو أنّ بطلان مسألة (رؤية اللَّه) بالعين الظاهرية أمربَيّن وواضح من حيث الدليل العقلي، وكذلك من خلال القرآن والروايات الإسلاميّة الصحيحة.
والآن نتوجه إلى شبهات القائلين بإمكان الرؤية وأجوبتها:
وكما أشرنا فيما مضى، فإنّ هناك جماعة من علماء أهل السُّنّة الماضين وحتى المعاصرين المؤيدين لمسألة الرؤية، يصرحون أحياناً بإمكانية رؤية اللَّه بالعين الظاهرية هذه، ولكن لا في الدنيا، بل في الآخرة! وأحياناً اخرى يؤوّلون ذلك بقولهم: (إنّ اللَّه يُرى في الآخرة بواسطة الحاسة السادسة التي يخلقها لعباده المؤمنين، أو بعينٍ غير هذه العين
__________________________________________________
(1) توحيد الصدوق، ص 111، ح 9.
(2) راجع بحار الأنوار، ج 4 ص 26؛ و توحيد الصدوق، ص 107- 122؛ وأصول الكافي، ج 1، ص 95- 99.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 182
والتي يمتلكها حتى الأعمى.
ويظهر أنّ الشي ء الأساس الذي قادهم إلى التسليم بهذا المعتَقد والإشتباه في تفسير الرؤية وتوجيه كلامهم بتوجيهات عجيبة، هو الروايات الواردة في كُتُبهم عن الرسول محمد صلى الله عليه و آله، بالدرجة الاولى، وبالدرجة الثانية هو ظواهر بعض الآيات القرآنية التي لم تفسَّر بصورة صحيحة.
1- ورد في الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر لاتُضامّون في رؤيته» «1»
.
2- وفي حديث آخر عن
ابي هريرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سأل أصحابه: «تضامّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ فقالوا: كلّا أيّ اننا نرى القمر بدون أن نزدحم في رؤيته».
فقال صلى الله عليه و آله: «كذلِكَ لا تُضامُّونَ في رؤيةِ ربّكم يومَ القيامة» «2».
3- وفي رواية اخرى في نفس هذا الكتاب عن «ابو رزين» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:
«ضحك ربُّنا من قنوط عباده وقُرب غيرهِ.
فقال الراوي: فسألته هل يضحك ربُّنا يارسول اللَّه؟
فقال: نعم، فقلت: لن نعدم من ربٍّ يضحك خيراً» «3».
4- وفي حديث آخر عن «أبو عاصم العباداني» ... عن جابر بن عبد اللَّه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «بينا أهلُ الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرفَ عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنّة! قال وذلك قول اللَّه سلامٌ قولًا من ربٍّ رحيم، فينظر إليهم وينظرون إليه» «4».
بعد أن نقل ابن ماجه الحديث المذكورة نقل عن السيوطي في مصباح الزجاجة كلاماً
__________________________________________________
(1) سنن ابن ماجه، ج 1 (المقدمة- الباب 13، ح 177) نلاحظ في مجمع البحرين (تَضامَّ القوم أي انضمّ بعضهم إلى بعض).
(2) المصدر السابق، ح 178.
(3) المصدر السابق، ص 64، ح 181.
(4) المصدر السابق، ص 65، ح 184.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 183
يدل على عدم الوثوق بأحاديث أبي عاصم العباداني.
وقد ورد الحديث الأول أيضاً في صحيح البخاري، الذي يُعَدُّ من أشهر مصادر الحديث لدى أهل السُّنّة، عن (جريربن عبداللَّه) في كتاب (مواقيت الصلاة) في بابين مختلفين مع اختلافٍ بسيط «1».
وقد نُقلَ بصراحة في قسم تفسير الآيات من المجلّد السادس لصحيح البخاري أيضاً
مسألة رؤية اللَّه يوم القيامة «2».
5- يُلاحظ في كتاب الصلاة من «صحيح مسلم» وجود عدّة روايات منقولة عن «أبي هريرة» حول نزول اللَّه تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، من جملتها عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ينزل اللَّه إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأوّل ...» «3».
مع أنّ هذه الرواية لا تتحدث عن مسألة الرؤية لكنّها تشتمل على مسألة تجسيم اللَّه عزّ وجلّ، ونسب العوارض إليه أيضاً، كالمكان والحركة والنزول والصعود!
إنّ هذه الروايات- ومع الاسف- قد وردت مراراً في مصادرهم الشهيرة التي ذكرنا قسماً منها أعلاه، وبما أنّها تخالف صراحة الآيات القرآنية التي تقول «لا تدركهُ الأبصار» و «قَالَ لَن تَراني» ومخالفة لحكم العقل أيضاً فيجب أن تُهمل، وإن لم يُعثر لها على تفسير وتوجيه واضح، فيجب القول: إنّها روايات مجهولة ونسبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله).
والعجيب، أنّ أكثر هذه الروايات منقولة عن طريق أبي هريرة المشكوك في أمره من عدّة جوانب.
وكما نقلنا في رواية الإمام الرضا عليه السلام: كيف يُمكن لأجير أن يُبلّغ عن اللَّه عبارات صريحة تقول بعدم إمكانية رؤية اللَّه أبداً، ثم يدّعي بأنّ المؤمنين يَرون اللَّه في القيامة، أو بأنّ اللَّه ينزل إلى السماء الدنيا كُلّ ليلة؟ وهذا تضادٌّ غير ممكن، إضافة إلى هذا، فالروايات
__________________________________________________
(1) صحيح البخاري، ج 1، ص 145 و 150.
(2) المصدر السابق، ج 6، ص 56 تفسير سورة النساء.
(3) صحيح مسلم، ج 2، ص 175، كتاب صلاة المسافرين، (باب الترغيب في الدعاء).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 184
الآنفة الذكر كما تقول بامكانية رؤية اللَّه، تُصرح أيضاً بجسمانية اللَّه، وتنسِبُ إليه الصعود والنزول والضحك
والقهقهة، وهذا شي ء لا يتقَبلهُ حتى الأشاعرة الذين يعتقدون بالرؤية، وذلك لأنّهم يقولون بصراحةٍ: إنّ رؤية اللَّه لاتعني تجسيمه، وهذا شاهد آخر على كون هذه الروايات موضوعة.
وكذلك ماورد في (سنن ابن ماجة) عن عبد اللَّه بن عمر أنّه سمعَ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:
«يُدنى المؤمن من ربّه يوم القيامة حتّى يضع عليه كنفَه ...» «1».
فلو لم تُحمل هذه التعابير على المعاني المجازيّة والكنائيّة، فهي حتماً تدلُّ على مجهولية هذه الروايات التي تجعل للَّه ذراعاً وصدراً وجناحاً، وبواسطتها تُعرض الأفكار المنحطّة للقائلين بالجسميّة، في قالب أحاديث مَجعولة.
والأعجب من ذلك وهو جود جماعة لحدّ الآن يؤيدون مسألة رؤية اللَّه، وذلك بسبب تقيدُّهم بمثل هذه الروايات المبتدَعة.
في حين أنّ مذهب أهل البيت عليه السلام قد نفى هذه العقيدة مطلقاً لأنّها مرفوضة من قِبل العقل والآيات القرآنية.
ومن بين الآيات الشريفة التي يستند عليها القائلون بالرؤية هي «وُجُوُهٌ يَومَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ». (القيامة/ 22- 23)
في حين أنّ كلمة (ناظرة) المشتقة من مادة (نظر) تأتي بمعنى المشاهدة، وبمعنى الإنتظار، وعلى أيّة حال يجب أن توضع هذه الآية إلى جنب الآيات القرآنية الاخرى التي تقول «لا تدركه الأبصار» وأن تُفسَّر هذه المتشابهة بتلك المحكمة.
وتستعمل هذه التعابير الكنائيّة بكثرة، كقولنا: (فُلان ينظر إليك فقط، أو عينه عليك) أي يتوقع منك المحبّة واللطف والرأفة، فأصحاب الجنّة أيضاً ينظرون يوم القيامة إلى ربّهم ويرجون منه اللطف والرحمة.
والملفت أنّ تقدُّم الجار والمجرور في جملة «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» يعطي معنى الحصر (أي
__________________________________________________
(1) سنن ابن ماجة، ج 1، ص 65، المقدمة، ح 183- كنف على وزن هدف، له معانٍ عديدة من جملتها الذراع، الصدر، الجناح، الجانب، والظل.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 185
إنّها
ناظرة إلى ربّها فقط)، في حين أنّهم يُشاهدون أنواع نِعَمِ الجنّة بأعيُنهم، كالأشجار والأنهر والثمار والحور العين وغير ذلك بنفس الوقت، ممّا يدلّ بحد ذاته على أن هذه النظرة إليه تعالى والمختصّة بذاته المقدّسة، هي انتظار كرمه وعفوه.
والاحتمال الآخر الوارد في تفسير الآية، هو أَنَّ المقصود من النظرة هي الشهود الباطني، والرؤية الصريحة بعين القلب والبصيرة، والخالية من كل ألوان الشّك والترديد.
والحديث النبوي المنقول عن أنس بن مالك يُعدُّ خير دليلٍ على هذا الإدعاء وهو:
«ينظرون إلى ربّهم بلا كيفيّة ولا حد محدود ولا صفةٍ معلومة» «1».
ومن المُسلَّم أنّه لو كان المقصود من الرؤية هو الرؤية البصريّة الظاهريّة فهي مستحيلة بدون وجود كيفيّة وصفة معلومة.
يقول العلّامة الكبير المرحوم (السيد شرف الدين) في كتاب (كلمة حول الرؤية)- بعد أن تطرّق إلى الأحاديث التي نقلها محدثو أهل السُّنّة بخصوص رؤية اللَّه يوم القيامة-: (إنّهم بحملهم هذه الروايات على الصحّة اضطرّوا إلى سلوك الطريق الذي سلكه القائلون بجسمانية اللَّه، الطريق المخالف للعقل والنقل، في حين أنّه لا هذه الأحاديث صحيحة، ولا ماورد فيها شي ء يقبله العقل والشرع، ولكن كثرتها أدّت بهم إلى تعطيل حكم العقل، وحتّى إلى تطبيق آيات من القرآن الكريم معها.
إنّه عمل غير متوقَّع، إِنَّا للَّهِ وإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ!.
ثم تطرّق إلى آية: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»، وأضاف قائلا": التعبير بكلمة (نظر) خصوصاً عندما تتعدى ب (إلى) لا يعني الرؤية والمشاهدة أبداً، بل يعني صرف النظر إلى شي ء حتى وإن لم يكن مرئيّاً، كما صرّح بذلك أرباب اللغة، مضافاً إلى ذلك وورد في القرآن الكريم: «وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ لَايُبصِرُونَ» (الأعراف/ 198)
والذي يتبادر إلى الذهن من الآية أعلاه هو ذلك الانتظار للفضل الإلهي يوم القيامة، (وكما
أشرنا سابقاً) فإنّ استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى والمفهوم يُعَدُّ حقيقةً لا مجازاً،
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 20 ص 204.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 186
وهي ملحوظة في الأشعار والكلمات اليوميّة التي تمر علينا كقول الشاعر:
وجوه ناظرات يوم بدرٍ إلى الرحمن تنتظر الخلاصا ويقول الشاعر الآخر:
إنّي إليك لِما وعدتَ لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر ثم أضاف قائلًا: إنّي أتعجّب من هؤلاء الأخوة كيف استدلوا بهذه الآية على إمكانية رؤية اللَّه وحصولها، وغاب عنهم معناها الظاهري؟ في حين أنّهم عندما يَصِلون إلى الآيات المشابهة لهذه الآية يؤوّلونها، كالآية: «الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى . (طه/ 5)
و «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ» (الفتح/ 10)
ولا يحملون هذه الآيات على معنى جسمانية اللَّه والمكان والحركة، بل يعتبرون الأولى بمعنى سلطة اللَّه الربوبيّة على العرش، والثانية كناية عن قدرته الفائقة جلّ وعلا.
ولا يُعلَم سبب هجرهم للمعنى الجلي لجملة «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) واندفاعهم نحو مسألة الرؤية.
مضافاً إلى ذلك فيُمكن أن تكون هذه الآية كناية عن الرؤية بعين البصيرة، كما ورد في كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام عندما قال: «لو كُشِفَ ليَ الغطاء ماازددتُ يقيناً». أو يقول في موضعٍ آخر: «أَوَ أعبُدُ ربّاً لم أرهُ»؟ ثم صرّح قائلا": «لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان».
أو ماورد في كلام ولده الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام في دعاء عرفة مخاطباً ربّه:
«عميت عين لا تراك عليها رقيباً»! «1».
والآية الاخرى التي استندوا عليها لإثبات مقصودهم هي «كَلَّا إِنَّهُم عَن رَّبِّهِم يَوْمَئِذٍ لَمحَجُوبُونَ». (المطففين/ 15)
ويستفيدون منها كون المؤمنين غير محجوبين عن الرؤية، ويرون ربّهم حتماً.
ولكن كما أنّ كلمة (حجاب) تُستعمل للحجاب الظاهري، فكذلك تستعمل للحجاب
__________________________________________________
(1) كلمة حول الرؤية، ص
48- 53 باختصار.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 187
المعنوي أيضاً، والمقصود في هذه الآية هو المعنى الثاني لا الأول، وذلك بقرينة الآية التي سبقتها حيث تقول: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (المطففين/ 14)
إنّ المقصود هنا من الرَّين هو الرَّين المعنوي لا الظاهري.
والشاهد الآخر هو الآية الخامسة من سورة فُصّلت التي تخبر عن قول الكفار: «وَمِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ». ومن المُسلَّم أنّ الحجاب الذي كان بين الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والكفّار لم يكُن حجاباً ظاهرياً.
وفي قوله تعالى: «جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً».
(الاسراء/ 45)
وعليه فإنّ الكفّار محرومون من اللقاء المعنوي مع ذلك المحبوب، وذلك لوجود الحجاب بينهم وبين اللَّه تعالى، والآية الثالثة التي استعانوا بها لإثبات مقصودهم هي: «أَنَّهمْ مُّلاقُوا رَبِّهِمْ». (البقرة/ 46)
وقالوا: إنّ الملاقاة تعني المشاهدة.
في حين أنّ الآيات القرآنية تدل بوضوح على أنّ اللقاء يوم القيامة بأي مفهومٍ كان لا يخص المؤمنين، بل يتساوى فيه المؤمن والكافر، بينما نجد أنّهم يعتقدون بأنّ رؤية اللَّه في القيامة خاصّة بالمؤمنين فقط، والدليل على عمومية اللقاء ما ورد في قوله تعالى:
«يَاايُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدحًا فَمُلَاقِيهِ». (الانشقاق/ 6)
إذن فالمخاطَب في هذه الآية جميع الناس. و كما ورد في قوله تعالى: «فَأَعْقَبَهُم نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِم إِلَى يَومِ يَلْقَونَهُ بِمَا أَخلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوه وَبِمَا كَانُوا يَكذِبُونَ». (التوبة/ 77)
فهذه الآية خاصّة بالمنافقين، وفي نفس الوقت فانّها تثبت أنّ لهم لقاء اللَّه، وعلى هذا يتضح أنّ لقاء اللَّه، بأيّ مفهومٍ كان، يشمل كلًا من المؤمنين والكافرين، في حين أنّهم يعتقدون باختصاص هذا الموضوع بالمؤمنين.
والجدير بالذكر أنّ كلمة (لقاء) في الأصل اللغوي بمعنى حدوث تماس بين شيئين، لا بمعنى
الرؤية والمشاهدة، ونحن نعلم باستحالة تحقق هذا الأمر بخصوص الباري تعالى،
نفحات القرآن، ج 4، ص: 188
والأشاعرة أيضاً لا يقولون بذلك، لذا يجب أن يُحمَل على المعنى الكنائي.
وما يُستفاد من الآيات القرآنية المختلفة هو أن (يوم لقاء اللَّه)، كناية عن يوم القيامة الذي سيلقى الناس فيه الجزاء والحساب والقصاص الإلهي، لذا فقد ورد في آيات متعددة بدلا" عن (لقاءاللَّه): «لِقاءَ يَومِهِم هَذَا». (الأعراف/ 51)
أو «لِقاءَ يَومِكُم هذا». (السجدة/ 14) (الجاثية/ 34)
وورد التعبير عنه في آيات اخرى بملاقاة يوم الحساب ويؤوّل باللقاء مثل: «انِّى ظَنَنْتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ». (الحاقّة/ 20)
لهذا فقد حمل الكثير من أرباب اللغة آيات لقاء اللَّه على هذا المعنى.
يقول الراغب في المفردات: «ملاقاة اللَّه عزّ وجل عبارة عن القيامة».
وكذلك يقول إبن الأثير في النهاية: «المراد بلقاء اللَّه المسير إلى دار الآخرة».
وقد نقل ابن منظور في لسان العرب نفس هذا المعنى أيضاً.
ويُلاحظ نفس هذا المعنى في الروايات أيضاً، كما ورد في الحديث النبوي أنّه صلى الله عليه و آله قال:
«من حلف على يمينٍ ليقتطع بها مال امرءٍ مسلم لَقِيَ اللَّه وهو عليه غضبان» «1».
والظاهر أنّ التعبير عن القيامة ب (يوم لقاء اللَّه) ينبع من هذا المعنى، وهو: أنّ الإنسان- في ذلك اليوم- يشعر بالأمر الإلهي في كل مكان، في الحساب، في عرصة المحشر، في الجنّة والنار، ويتجلّى وجود اللَّه عزّ وجلّ للجميع، بحيث يراه المؤمن والكافر بعين القلب والبصيرة.
والعجب هو استدلال الأشاعرة بآياتٍ أُخرى لا تدلّ على مقصودهم أدنى دلالة ممّا يؤيد أنّهم مصرّون على تحميل الآيات القرآنية على آرائهم، كالآية: «لِّلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنَى وَزِيَادَةٌ». (يونس/ 26)
فقالوا: إنّ المقصود من (زيادة) رؤية اللَّه!!
في حين عدم وجود أدنى إشارة في هذه الآية الشريفة على هذا
المفهوم، بل إنّ الآية
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 3، ص 51، ذيل الآية 46 من سورة البقرة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 189
تشير إلى نفس ذلك الشي الذي ورد بهذا المضمون حيث قال تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالَهَا». (الانعام/ 6)
وكذلك استدلوا بالآية: «لَهُم مَّايَشَاؤُنَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ». (ق/ 35)
فقالوا: إنّ المقصود من (لدينا مزيد) هو رؤية الخالق! في حين أننا لا نرى أدنى إشارة إلى هذا المفهوم.
وخلاصة الكلام هو أنّ مسألة رؤية اللَّه،- علاوة على كونها مخالفة للدليل القطعي العقلي والنقلي- كانت تستلزم جسمانية اللَّه (إلّاأن يكون المقصود منها الرؤية بعين القلب والباطن فلا أحد يُناقش في ذلك).
ولا يوجد دليل روائي أو قرآني عليها، والأمر الوحيد هو استعانتهم بالمتشابهات لتصديق معتقدهم هذا، في حين أنّ القرآن أمرنا بمطابقة وتفسير المتشابهات بالمحكمات.
وإنّ قسماً من الروايات المنقولة في كتب هؤلاء القوم بخصوص هذا الموضوع، هي روايات تتنافى مع حكم العقل والقرآن، ونحن مأمورون بتركها وعدم الإهتمام بها.
وقد انتقد المرحوم العلّامة السيّد شرف الدين بدوره اسناد هذه الأحاديث أيضاً في كتابه القيّم «كلمة حول الرؤية» وأثبت بأنّها موضوعة (ولزيادة التوضيح راجع الكتاب المذكور) «1».
فما أقبح عصرنا الحاضر إذ يوجد فيه من لا يزالون يؤيدون خرافة (رؤية اللَّه بالعين الظاهرية في القيامة)، على الرغم من كون البحوث العقائدية فيه تدور حول محور الأدلّة العقليّة، وقد اتضحت المسألة بصورة كافية من خلال آيات القرآن.
__________________________________________________
(1) كلمة حول الرؤية، ص 67- 80.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 190
هناك جماعة بين المسلمين وغير المسلمين تدعى ب (المجسّمة)، والتي تعتقد بجسمانية اللَّه، وتنسب إليه جميع عوارض الأجسام، وقد نُقلَت عنهم مطالب مُضحكة ومُخجلَة في نفس الوقت، إلى درجة أنّ الشهرستاني في كتاب
«الملل والنحل» ينقل عنهم أنّهم يقولون حتى بإمكانية لمس اللَّه، ومصافحته ومعانقته، من قبل المسلمين الخُلَّص!! حتى أنّه نُقِلَ عن (داود الجواربي)، الذي كان من القائلين بهذا المذهب، أنّه قال: «اعفوني من الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك، فمعبودي جسم ودم ولحم، وله جوارح وأعضاء، من يدٍ ورجلٍ، ورأس، ولسان، وعينين، وأذنَين، ومع ذلك فهو جسم لا كالأجسام وليس كمثله شي ء، ولحم لا كاللحوم!».
وكذلك نُقل عنه أيضاً بأنّه كان يقول: «إنّه «1» أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك، وإنّ له وفرة سوداء «2» وله شعر قط «3»).
ويذكر (المحقق الدواني) عنهم عجائب اخرى فيقول: «إنّهم طوائف مختلفة، فبعضهم يقول: إنّه (عزّ وجلّ) مركب من لحم ودم!!
ويقول البعض الآخر: إنّه نور متلالي كصحيفة بيضاء طوله سبعة أشبار من أشباره هو!
ويقول البعض: إنّه شاب أمرد ذو شعرٍ مجعّد!
والبعض يقولون: إنّه بشكل شيخ كبير لون شعر رأسه ولحيته سوداء بيضاء» «4».
إنّ هذا الكلام غير العقلائي يشير بوضوح إلى مقدار ما تحمله هذه الطائفة من انحطاط فكري، فعبّروا عن اللَّه تعالى بتعابير لا تصدر حتى من الأطفال الصغار، ولم يخجلوا من ذكر هذه الأمور.
طبعاً لا يمكن التصديق الآن بوجود أحد من المسلمين أو غير المسلمين يحمل مثل هذه الاعتقادات.
__________________________________________________
(1) الملل والنحل، ج 1، ص 96- 97.
(2) «الوفرة» (بفتح وسكون) شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الاذن.
(3) «شعر قط» (بالفتح والتشديد) و «قطط» (الفتحتين) وقيل قصير كثير الجعودة، حسن التجاعيد.
(4) بحار الأنوار، ج 3، ص 289.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 191
وبما أنّ كلّ إفراطٍ يتبعه تفريط، فقد ظهر في مقابل هؤلاء جماعة احترزوا عن التشبيه إلى درجة أنّهم كانوا يقولون: إذا حرّك أحد يديه
أثناء قراءة آية «خَلَقْتُ بِيَديَّ» وجب قطع يديه! أو إذا أشار باصبعيه عند قراءة هذه الرواية الواردة عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «قلبُ المؤمن بين إصبعَين من أصابع الرحمن». وجب قطع كلا إصبعيه»! «1».
وعلى أيّة حال يظهر أنّ هذه العقائد السخيفة الركيكة بخصوص جسميّة اللَّه تعالى تنبع من أحد أمرين:
الأول: الأنس المفرط بعالم المادّة والمحسوسات، الأنس المصحوب بالسّذاجة والجهل الذي لا يسمح للأنسان تقبَّل شي ء غير المادّة، الأنس الذي يؤدّي إلى مقايسة اللَّه عزّ وجلّ بالانسان وصفاته.
الثاني: التعابير الكنائية والمجازيّة الملحوظة في القرآن الكريم والروايات الإسلامية، حيث يمكن أن يتوهّم السُّذَّج منها الجسميّة.
ولكن بالإلتفات إلى نقطة واحدة يتّضح بأنّ قبول فكرة الجسميّة بالنسبة للَّه تعالى يُساوي نفي إلوهيته، ونفي وجوب وجوده، لأنّ كُلّ جسمٍ يتشكل من أجزاء، ولابدّ له من لزوم المكان والزمان، وكونه معرضاً للحوادث والتغيُّرات ويتجه دائماً نحو الهلاك والفناء، وتكفي كل واحدةٍ من هذه الصفات لنفي إلوهية اللَّه ووجوب وجوده.
مضافاً إلى ذلك أنّه لو كان جسماً لكان له شبيه ومثيل، ونحن نعلم أنّ آيات متعددة من القرآن الكريم نفت عن اللَّه تعالى أى شبيهٍ أو مثيل.
ونختم هذا الكلام بحديثٍ منقول عن الإمام الكاظم عليه السلام: «ذكر عنده قوم زعموا أنّ اللَّه تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا؟ فقال: إنّ اللَّه لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنّما منظره في القرب والبعد سواء) ....، ولم يحتج إلى شي ء بل يُحتاج إليه، أمّا قول الواصفين:
إنّه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك فإنّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرك به فمن ظن باللَّه الظنون فقد هلك وأهلك، فاحذروا في
__________________________________________________
(1) الملل
والنحل، ج 1، ص 97.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 192
صفاته من أن تقفوا له على حدّ من نقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود فإنّ اللَّه عزّ وجلّ عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوّهم المتوهمين» «1»
.
وهناك روايات كثيرة في هذا المجال ولكن وضوح الموضوع يغنينا عن التوغُّل في البحث «2».
والعجب من إصرار بعض أرباب الملل والنحل على نسب مسألة الاعتقاد بجسمانية اللَّه تعالى إلى الشيعة اتباع مذهب أهل البيت عليه السلام، لكن مطالعة كُتب الشيعة تشير بوضوح إلى انهم بلغوا القمّة في تنزيه اللَّه تعالى عن الجسمانية، وأي صفةٍ من صفات الأجسام وعوارضها، لذا فقد قال الإمام الرضا عليه السلام: «إنّه ليس منّا من زعم أن اللَّه عزّ وجلّ جسم ونحن منه بُراء في الدنيا والآخرة» «3».
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 311، ح 5 باختصار.
(2) لزيادة الأطلاع على روايات هذا الموضوع راجع توحيد الصدوق، ص 97- 104- باب أنّه عزّ وجلّ ليس بجسمٍ ولا صورةٍ (فهنالك عشرون رواية منقولة حول هذا الموضوع 205).
(3) توحيد الصدوق، نفس الباب السابق، ح 20.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 193
ليس من اليسير على أفرادٍ يعيشون دائماً في أسر عالم المادة وقد جبلوا على هذا التفكير ولم يتجاوز نطاق تفكيرهم هذا الحد أن يتصوروا وجوداً مجرّداً من المادة.
ولكن وكما قُلنا في بداية بحث الصفات الإلهيّة، فإنّ أول خطوة في طريق معرفته هي تنزيهه عن صفات مخلوقاته، خاصةً عن صفات الموجودات الماديّة من قبيل الزمان، المكان، التغيُّر، والحركة.
ومن هنا يبدو واضحاً أنّ من لوازم معرفة اللَّه معرفة حقيقية هو تنزيهه عن المكان والمحل.
فمن البديهي أنّ الاتصاف بالمحل ملازم للقول
بالتجسيم، وقد عرفنا في البحوث السابقة أنّ اللَّه عزّ وجلّ ليس بجسم ولا يتصف بصفات الأجسام، ولايحيطهُ مكان ولا يسعه زمان، وفي نفس الوقت يحيط بجميع الأمكنة والأزمنة!
بهذا التمهيد نتوجه إلى القرآن الكريم لنتأمل في الآيات التالية بأسماع قلوبنا:
1- «وَللَّهِ المَشرِقُ وَالْمَغرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ انَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».
(البقرة/ 115)
2- «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ الَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ». (الزخرف/ 84)
3- «وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ». (الحديد/ 4)
4- «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَلَاثَةٍ إِلّا هُوَ رَابِعُهُم وَلَا خَمسَةٍ إِلّا هُوَ سَادِسُهُم وَلَا أَدنى مِن ذَلِكَ وَلَا اكْثَرَ إِلّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا». (المجادلة/ 7)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 194
5- «وَلَقَدْ خَلَقنَا الإِنسَانَ وَنَعلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفسُهُ ونَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)
6- «هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ». (الحديد/ 3)
7- «وَأَنْتُم حِينَئذٍ تَنظُرُونَ* وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لّاتُبصِرُونَ» «1».
(الواقعة/ 84- 85)
حاول اليهود بعد مسألة تغيير القبلة (من بيت المقدس نحو الكعبة) إلى إيجاد شُبهة في إذهان المسلمين من خلال هذه المسألة، واعتبار تغيير القبلة دليلا" على عدم ثبات الرسول محمد صلى الله عليه و آله على رسالته، فنزلت الآية الأولى من بحثنا وبيّنت: «وَللَّهِ الْمَشرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».
فهو حاضر في كُلّ مكان وبكل شي ءٍ عليم، لذا فأينما تولّوا فثمّ وجهه، وإمّا الغرض من التوجه نحو القبلة فهو لتمركز توجُّه المؤمنين إلى أنّ اللَّه عزّ وجلّ له محل خاص او جهة معينّة وهي القبلة، فوجوده واسع إلى درجة كونه حاضراً ورقيباً في كل مكان، وفي نفس الوقت ليس له محل
أو مكان خاص!
وطبعاً ليس المقصود من كلمتي المشرق والمغرب في الآية المذكورة الجهتَين الجُغرافيّتَين، بل هو تعبير كنائي عن جميع العالم، كما أننا عندما نريد أن نقول: إنّ أعداء علي عليه السلام حاولوا إخفاء فضائله، وشيعته أخفوها أيضاً خوفاً من أعدائه، ومع ذلك فإنّ فضائله ملأت العالم، نقول: (إنّ فضائله ملأت الشرق والغرب!).
وعلى أيّة حال فإنّ تَعبير «فَأَيْنَما تَوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» هو تعبير حيّ وواضح على عدم إحاطة المكان باللَّه تعالى.
__________________________________________________
(1) ماذُكِر أعلاه هو قسم مجمل من هذه الآيات، وتوجد آيات قرآنية مشابهة للتي ذكرناها كالآية 20 من سورة البروج؛ والآية 3 من سورة الأنعام.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 195
لأنّ التواجد في كل مكان إمّا يعني امتلاك الموجود أبعاداً واسعةً وأجزاءً كثيرة تملأ المكان، وكل جُزءٍ منه موجود في جهة معينة، ونحن نعلم باستحالة هذا المعنى بالنسبة إلى اللَّه تعالى، لأنّه سبحانه ليس له أجزاء، وقول القرآن: (هو معكم) لايعني أنّ جزءاً من وجود اللَّه تعالى هناك (فتأمل جيداً).
أو يعني عدم إحاطة المكان به، أي هو فوق الزمان المكان، وطبعاً مثل هذا الوجود تتساوى فيه جميع الأمكنة والأزمنة ولا معنى للبعد والقرب عنده.
والملاحظة المهمّة هنا هي أنّ التعبير بعبارة (وجه اللَّه) تعني في القرآن الذات الإلهيّة المقدّسة.
ولكون (الوجه) أشرف أعضاء الإنسان ويحتوي على أهم حواسّه، فإنّ هذه الكلمة تُستعمل كناية عن (الذات)، ولكن بعض المفسّرين فسّروها بمعنى الرضا الإلهي، أو الثواب الإلهي، أو القبلة، ولا نعتقد بصحة أيٍّ من هذه المعاني.
قال تعالى في الآية الثانية- ضمن ردّه على المشركين والذين جعلوا له ولداً، وتنزيه ذاته المقدّسة عن هذه الصفات: «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ».
إنّ إلوهيّة اللَّه تعالى
لا تخص جهة معينة، أو مكاناً خاصاً، ومساحة إلوهيته وسعت كُلّ مكان، وبسبب وجوده في كل مكان فهو بكُلّ شي ءٍ عليم وخبير، وأفعاله حكيمة، بل إنّ هذا التعبير يشير إلى أن (العليم) و (الحكيم) الوحيد في عالم الوجود هو اللَّه سبحانه، لأنّ علم وحكمة من سواه قاصرة وناقصة ومشوبة بالجهل.
ولكنّ المشركين على مدى التاريخ قالوا: إنّ لكل واحدة من موجودات العالم إلهاً وربّاً:
إله السماء، إله الأرض، إله البحر، إله البر، إله الحرب وإله السلام، وما شاكل ذلك، والآية أعلاه تنفي جميع هذه المعتقدات الباطلة، وتؤكّد على ربوبيّة اللَّه الواحد الأحد على جميع عالم الوجود.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 196
قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية خير دليلٍ على هذا الموضوع، وهو عدم تواجد اللَّه في السماء، لأنّه يقول: «فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ الهٌ» ويعني أنّ نسبة وجوده في السماء وفي الأرض متساوية، وبما أنّ الأرض لا تعتبر مكاناً له، فكذلك السماء أيضاً «1».
وقال البعض الآخر من المفسّرين: إنّ مقصود هذه الآية هو أنّه معبود في السماء وفي الأرض، فالملائكة تعبده في السماء وفي الأرض تسجد له موجوداتها.
وفي حديثٍ ظريف ورد أنّ أحد زنادقة عصر الإمام الصادق عليه السلام وهو «أبو شاكر الديصاني» قال لهشام بن الحكم: إنّ في القرآن آية هي قولنا. قلت: وما هي؟ فقال: «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ الهٌ وَفِى الأَرضِ الهٌ»، فلم أدر بما أجيبه! فحججت فخبرت أبا عبد اللَّه عليه السلام فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل: ما إسمك بالكوفة فانّه يقول: فلان، فقل له: ما اسمك بالبصرة؟ فانّه يقول: فلان، فقل كذلك اللَّه ربّنا في السماء إلهٌ، وفي الأرض إله، وفي البحار إله وفي القفار إله، وفي
كل مكان إله، قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال: هذه نقلت من الحجاز «2».
إنّ هذا التعبير يُعَدُّ إشارةً إلى أنّ اللَّه تعالى لا مكان له من جهة، وحضوره في كل مكان من جهة اخرى، كقولنا: (إثنان زائد اثنين يساوي أربعة)، فإنّ هذه المعادلة الرياضية كما أنّها في الأرض، كذلك فانّها في السماء وفي جميع المجرّات، وفي نفس الوقت ليس لهذه المعادلة الرياضيّة محلٌّ معين، فيمكن أن نقول: بانّها في كل مكان وليس لها مكان في آنٍ واحد.
تقول الآية الثالثة بصراحة «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم». ولأنّه كذلك فهو بما تعملون بصير: «وَاللَّه بَمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 27، ص 232.
(2) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 617، ح 98.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 197
يُشير هذا التعبير بوضوح إلى أنّه جلّ وعلا لا مكان له، أو بتعبير آخر، هو فوق الزمان والمكان، ولهذا فهو حاضر في كُلّ مكان وقد أحاط بكُلّ شي ءٍ علماً.
قال بعض المفسرّين- كما ورد في تفسير (روح المعاني): يجب تأويل هذه الآية وحملها على المعنى المجازي والقول بأنّ المقصود منها هو: (علمهُ بنا لا ذاته المقدّسة).
وهؤلاء غافلون عن أن علم اللَّه تعالى علم حضوري، لا كعلمنا الذي يتم عن طريق تصوير الأشياء في الذهن، والعلم الحضوري معناه حضور كل شي ءٍ بين يديه، وبحضور ذاته في كل مكان فهي تحيط بها جميعاً «1».
وقال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: كل ممكن فوجوده من الواجب، فاذن وصول الماهية الممكنة إلى وجودها بواسطة فيض الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهيه وبين وجودها، فهو إلى كل ماهية أقرب من وجود تلك الماهية «2».
وقد ورد في
تفسير الميزان أنّ هذه المعيّة نابعة من إحاطته بكم، فلا تغيبون عنه اينما كنتم، وفي أيّ زمان عشتم، وفي أيّ حال فرضتم، فذكر عموم الامكنة «أيْنَ مَا كنتم» لأنّ الاعرف في مفارقة شي ء شيئاً، وغيبته عنه أن يتوسل إلى ذلك بتغيير المكان، وإلّا فنسبته تعالى إلى الأمكنة والأزمنة والأحوال سواء «3».
ولكن من لم يستطيعوا فهم إحاطة اللَّه الوجوديّة بجميع الممكنات بصورة صحيحة، حملوا هذه الآية على المعنى المجازي فقالوا: إنّ المراد من معيّة اللَّه للموجودات، هو شمول علمه وقدرته وحاكميته عليهم «4».
__________________________________________________
(1) ورد توضيح أكثر حول علم اللَّه في بحث علم اللَّه في نفس هذا المجلد.
(2) تفسير الكبير، ج 29، ص 214.
(3) تفسير الميزان، ج 19، ص 167.
(4) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6407، ويُلاحظ وجود معنى قريب من هذا التفسير في تفسير روح الجنان ج 11، ص 38، وقد نُقلَ أيضاً في تفسير الكبير، ج 29، ص 215، عن المتكلمين بأنّ هذه المعيّة إمّا من جهة العلم أو من جهة الحفظ والحراسة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 198
أمّا الآية الرابعة فقد أشارت إلى مسألة النجوى فقالت: «مَا يَكُونُ مِن نَّجوَى ثَلَاثَةٍ إلّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم وَلَا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا».
«النجوى»: في الأصل بمعنى المكان المرتفع المنعزِل عمّا حوله لارتفاعه، ولكون إذا أراد شخص أن يُسِرَّ شيئاً لصاحبه يأخذه إلى معزل عن الناس. فإنّ كلمة نجوى استُعملت بمعنى الهمس في الأُذن.
يعتقد البعض بوجوب وجود ثلاثة أشخاص أو أكثر لتحقُّق معنى (النجوى)، وإن كانا إثنين يُطلق على هذا العمل (إ سرار)، لكن هذه المسألة لم تثبت، خصوصاً أنّ كلمة نجوى وردت
في آيات سورة المجادلة للتعبير عن الذين كانوا يناجون الرسول صلى الله عليه و آله بصورة انفراديّة.
وللمفسرين بيانات متعددة بسبب ذكر ثلاثة وخمسة أشخاص بالخصوص وعدم ذكر الأربعة التي تقع بين الثلاثة والخمسة، أقواها هو أنّه لو ذُكرَ الأربعة أشخاص لتكرر العدد (أربعة) في الجملة الأولى والثانية، وهو ينافي البلاغة والفصاحة (سوى في حالات خاصّة)، مضافاً إلى ذلك فإنّ قوله تعالى في نهاية الآية: «وَلَا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكثَرَ» سيشمل مالم يُذكر بين هذين العددين، وعليه يشملُ ماقبل العدد ثلاثة (أي إثنين) وما بعده (أي أربعة)، وكذلك الأكثر من الخمسة، وهذه نقطة اخرى تدلّ على فصاحة هذه الآية، وعلى أن تعبير (نجوى) يشمل الشخصين أيضاً.
وقال البعض الآخر: إنّ الآية أعلاه تتحدث عن حادثتين قام بها المنافقون اشترك في الاولى ثلاثة أشخاص، وخمسة أشخاص في الثانية.
وعلى أيّة حال فإنّ المراد من المعيّة (معيّة اللَّه لعباده في نجواهم) هو نفس الإحاطة الوجوديّة المشار إليها في الآية السابقة، والعجب من بعض المفسّرين الذين أيدوا هذا المفهوم في الآية السابقة، لكنهم فسّروا المعيّة هنا بمعنى الاحاطة العلميّة، ولعل ذلك بسبب تحدُّث الآية في البداية عن سعة علم اللَّه وشموله جميع ما في السموات والأرض: «أَلَم تَرَ
نفحات القرآن، ج 4، ص: 199
أَنَّ اللَّه يَعْلَمُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ». (المجادلة/ 7)
ولكن من البديهي أنّ إحاطة اللَّه الوجوديّة بكلّ شي ء هي عين إحاطته العلمية، لأنّه وكما أشرنا سابقاً فإن علم اللَّه علم حضوري، ولازمهُ حضوره عزّ وجلّ في كل مكان (فتأمل جيداً).
نلاحظ نفس هذا المفهوم في الآية الخامسة وبتعبيرٍ جديد، حيث قال تعالى: «وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ وَنَعلَمُ مَاتُوَسوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ».
تُطلق كلمة (وريد) على أي
نوعٍ من أنواع عروق البدن، لكن الكثير من المفسّرين فسّروها بمعنى الوريدين الرئيسين الموجودَين في جانبي الرقبة، وفسرها جماعة بمعنى الوريد الرئيس المتصل بالقلب.
ولكن عندما نضيف كلمة (حبل) إلى كلمة (وريد) فلا يراد منه الأوردة الصغيرة والعاديّة الموجودة في البدن، بل يُقصد به أحد الأوردة الكبيرة والمعروفة في البدن، وقد ورد كلا التفسيرين في تفسير ذيل هذه الآية في كلام المفسّرين وأرباب اللغة «1».
لكن المناسب لهذه الآية هنا، هو الوريد الرئيس في القلب لأنّه ورد أيضاً في الآية:
من سورة الأنفال: «وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرءِ وَقَلبِهِ». (الأنفال/ 24)
وكلا الآيتين كناية عن منتهى قُرب اللَّه تعالى لجميع عباده، لأننا لو اعتبرنا قلب الإنسان مركز وجوده، لما كان هنالك شي ء أقرب إليه من وريد القلب، فالقرآن يريد أن يقول:
(ونحن أقرب إليه حتّى من هذا أيضاً).
وعلاوةً على هذا فإنّ الآية قد تحدثت في البداية عن علم اللَّه بما توسوس به نفس الإنسان، ممّا يتناسب مع القلب لا الرقبة.
على أيّة حال، إنّ هذه المسألة تصوّر عموم المكان للَّه تعالى بأفضل وجه، لأنّها تقول:
__________________________________________________
(1) التحقيق، مفردات الراغب، مجمع البحرين، لسان العرب، تفسير الميزان والقرطبي وغيرها.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 200
إنّه تعالى أقرب إلى كل إنسان من وريد قلبه، إذن فهو حاضر في كل مكان، حتّى في أرواحنا وقلوبنا، ومن الواضح أن وجوداً كهذا هو فوق المكان، لأنّ الشي الواحد لا يمُكن أن يكون بجميع وجوده في مكانات متعددة، إلّاأن يكون ذا أعضاءٍ يشغل كل واحدٍ منها مكاناً معيناً.
وقد ورد نفس هذا المفهوم في الآية السادسة والأخيرة من بحثنا والذي يخصُّ المحتضرين الذين أشرفوا على نهاية حياتهم، قال تعالى: «وَأَنتُم حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لَّاتُبصِرُونَ».
فيقول نحن
نعلم جيداً بما يجري في باطن ذلك المحتضِر، وأي غوغاء قائمة في عمق وجوده! هل هو سرور لتحرُّره من سجن البدن وانطلاقه إلى رياض الجنّة، أم هموم لمشاهدته العقوبات الإلهيّة بسبب أعماله الظلامية التي ارتكبها؟!
لكنكم لا ترون أي واحدةٍ من هذه المسائل ولا تعرفونها.
وقد حمل بعض المفسرين- الذين لم يدركوا مفهوم القرب الإلهي من الإنسان بصورة صحيحة،- هذه الآية على المعنى المجازي، فقالوا: إنّ ملائكة الموت أقرب إليه منكم ولكنكم لا تبصرونهم.
ولكن بالإلتفات إلى كون هذا التعبير وأمثاله- كما عرفنا ذلك في الآيات السابقة- لاينحصر بالشخص المحتضِر، حيث شمل جميع الناس بتعابير مختلفة، فقد اتضحَ بُطلان هذا التفسير.
وتأكيد الآية على قرب اللَّه تعالى من المحتضِر فقط، دلالة على أنّ الكلام يدور حول هذا الموضوع، وبصورة عامّة فإنّ هذه الآية تُعَدُّ دليلا" واضحاً آخر على انعدام المكان بالنسبة إلى اللَّه تعالى.
يتضح جلّياً من مجموع الآيات الآنفة الذكر أنّها تتطرق إلى حقيقة واحدة بتعابير متنوّعة، وهي أنّ اللَّه موجود في كل مكان، ويُشرف على الكون، في الوقت الذي ليس له
نفحات القرآن، ج 4، ص: 201
مكان معين يحدّه، وأن وجوده فوق الزمان والمكان، ولكون جميع الموجودات تستمد وجودها من وجوده، ولا تستغني عنه أبداً، فإنّه تعالى يُحيط بجميع موجودات العالَم إحاطة وجوديّة، هي عين إحاطته الربوبية والقيّوميّة. (فتأمل جيداً).
للفلاسفة بحوث عديدة حول حقيقة (المكان) و (الزمان)، وبالرغم من أنّ هذا الموضوع من المواضيع التي تلازمنا دائماً إلّاأنّ معرفة حقيقتهما لا تزال من المشكلات حتى بالنسبة للفلاسفة! وهذه من العجائب.
فقد اعتقد جماعة بأنّ المكان- والذي يعطي معنى الفضاء، أو هو بُعد خاص تسبح فيه الأجسام،- موجود مخلوق قبل الجسم، وكُلّ جسم بحاجة إليه.
وقال آخرون: إنّ الفضاء الخالي من كُلّ شي ء ليس إلّاوهمٌ وخيالٌ، وبالأساس، فإنّ عدم وجود الجسم يعني عدم وجود المكان، وبتعبيرٍ آخر: المكان يوجد بعد الجسم لا قبله، ويُنتزَع من مقايسة جسمَين مع بعضهما، وكيفية استقرارهما، وليس من المناسب هنا انتقاد هاتين النظريتين الفلسفيتين وتحليلهما، بل يجب القول: إنّ المكان بأي واحدٍ من هَذين المفهومين، محال بالنسبة إلى اللَّه عزّ وجلّ.
لأنّه لايمكن أن يكون هناك موجود قبل اللَّه، وفق التفسير الأول، القائل: إنّ (المكان موجود يسبق وجود الجسم)، وإذا قطعنا بأنّ الاجسام تحتاج إلى مكان، فهل يُمكن أن يحتاج واجب الوجود الغني عن الوجود إلى شي ءٍ آخر؟
وعليه يتضح استحالة تحقق مفهوم المكان طبق التفسير الأول بخصوص الباري الغني عن كلّ شي ء والمنشى ء لجميع الوجودات، وأمّا وفق التفسير الثاني فهو يستلزم وجود النظير الكفؤ للَّه تعالى ليُقاس به، ويُنتزع المكان من قياس هذين الإثنين مع بعضهما،
في حين أننا عرفنا في مباحث التوحيد أنّه تعالى ليس له كفؤ ابداً.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 202
ومن جهة اخرى، لا يمكن تصور المكان بدون محدوديّة، لأنّه ينبغي تصور جسمين بصورة منفصلة عن بعضهما ليتّضح مفهوم المكان من مقايسَتهما مع بعضهما، لذا يقول هؤلاء الفلاسفة: إنّ كُلّ العالم ليس له مكان لأنّه لا يوجد شي ء خارج عنه ليُقاس به، أمّا المكان فلأجزاء العالم فقط.
ومن جهةٍثالثة إذا كان للَّه مكان لاستلزم أن يكون له أعضاء وأجزاء، لأنّ ذرات الجسم- بالقياس مع بعضها- تمتلك أمكنة مختلفة، كأن تكون إحداها في الأعلى والاخرى في الأسفل، إحداها في جهة اليمين والاخرى في جهة اليسار، وإذا اعتقدنا بتركيب اللَّه تعالى فستبرز مسألة حاجته إلى هذه الأجزاء والتي لاتتناسب مع وجوب وجوده.
ونفس هذا البحث يرد في مفهوم الزمان، فالذين يعتقدون بأنّ الزمان ظرف مخلوق قبل الأشياء، والأشياء الماديّة تدخله بعد الخلق والتكوُّن وتحتاج إليه، وبتعبيرٍ آخر: الزمان حقيقة مستقلّة سيّالة مخلوقة قبل جميع الأشياء الماديّة، ويُمكن أن يكون موجوداً حتّى بعد فنائها، في هذه الحالة يتّضح عدم إحاطة الزمان باللَّه تعالى، لأنّه يستلزم الحاجة إلى شي ء وهو الغني عن كُلّ شي ء.
وإن اعتقدنا،- طبقاً لنظرية الفلاسفة المتأخرين،- بأنّه وليد حركة أشياء العالَم أو الحركة الجوهريّة للأشياء، فإنّه محال بشأن الباري، لأنّه وجود كامل وغير محدود من كل ناحية، ووجود كهذا لا يمكن تصور الحركة بشأنه (أي لا مفهوم لها)، إذن لا يسعه الزمان.
يعتقد جماعة من المسيحيين بأن اللَّه تعالى قد حل في المسيح عليه السلام، واعتقد جماعة من المتصوّفة بمثل ذلك في أقطابهم، إذ قالوا إنّ اللَّه تعالى قد حلَّ في وجودهم.
وكما قال العلّامة المرحوم الحلّي رحمه الله في (كشف المُراد): «لا
ريب في سخافة وزيف هذه العقيدة، لأنّ ما يُمكن تصوُّره من الحلول هو: أنّ يحل موجود قائم في موجودٍ آخر- كقولنا:
حلّ العطر في الورد- وهذا المعنى لا يُمكن تَصوره بخصوص اللَّه، لأنّه يسْتلزم اشغال حيزّ
نفحات القرآن، ج 4، ص: 203
من المكان والحاجة إليه، وهو أمر محال بالنسبة لواجب الوجود، والذين يعتقدون بحلول اللَّه في شي ء سيتورطون بنوع من الشرك، وهم خارجون عن سلك الموحدين» «1».
يُمكن أن يتصور البعض حضور اللَّه سبحانه في كل مكان كوجود قوة الجاذبّية أو وجود الأثير وهي موجات مفترضة ليس لها وزن ولا لون تملأ الوجود بأكمله وموجودة حتى في الفراغ)، في حين أن جميع هذه الامور هي من قبيل الوجود في مكان، أي وجود قسم من أمواج الجاذبية أو امواج الأثير في كل زاوية من زوايا العالَمْ، وهذا الموضوع يَستلزم: وجود الأجزاء المركّبة من ناحيه، والحاجة إلى المكان من ناحيةٍ اخرى
في حين أنّ مفهوم وجود اللَّه سبحانه في كل مكان هو أنّه تعالى فوق المكان، لذا فلا معنى للبعد والقرب عنده، وإذا أردنا أن نتصّور مثالًا- مع أنّه لا يفي بالغرض- حول هذا المفهوم، يجب أن نشبه حضوره بحضور المعادلات العلميّة، والمسائل العقليّة في كُلّ مكان، كقولنا: الكل أكبر من الجزء، واستحالة اجتماع النقيضين، و 2* 2/ 4.
وتصدق مثل هذه الأمور في الكرة الأرضية، وفي كوكب القمر، وفي كوكب المريخ، وفي ما وراء المجّرات، فالكل أكبر من الجزء في جميع هذه الأمكنة، واجتماع النقيضين محال فيها أيضاً، في حين أنّه لا يوجد مكان ومحل معين لهما.
ومن الأهميّة بمكان الالتفات إلى هذه الصفة الإلهيّة: وهي مثول العالم بأكمله بين يدي اللَّه سبحانه له تأثير تربويٌ عميق في نفس الإنسان،
فكيف يُمكن أن يكون لأحدٍ إيمانٌ بمثل هذا الأمر ويرى حضور مولاه العظيم الحكيم وولي نعمته، ويسلك طريق الخطايا ويلوّث نفسه بالذنوب المشينة ويعصي أوامره!؟
واللطيف هو أن الآيات التي ذكرناها بخصوص حضور اللَّه تعالى في كل مكان، تؤكّد
__________________________________________________
(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلّامة الحلي، ص 227.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 204
غالباً على نفس هذا الأثر التربوي، لذلك فقد ورد في بعضها: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، وفي البعض الأخر: «وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ».
فليس الحضور الإلهي خارج وجودنا فقط، فهو تعالى موجودٌ في نفوسنا وقلوبنا وأعماق أرواحنا أيضاً، كما قال مولى المتقين علي عليه السلام، في وصف اللَّه عز وجل «الباطن لكل خفيّة، والحاضر لكُلّ سريرة، العالمُ بما تكنُّ الصدور وما تخون العيون» «1».
وقال عليه السلام في خطبةٍ أخرى «فاتقوا اللَّه الذي أنتم بعينه، ونواصيكُم بيده، وتقلبكم في قبضته، إن أسررتُم علمهُ، وإن أعلنتم كتبَهُ» «2».
غالباً ما يُطرح هذا السؤال من قبل عامّة النّاس وهو: إذا لم يكن للَّه تعالى مكانٌ معيّنٌ فلماذا ننظر إلى السماء أثناء الدعاء؟ ونرفع أيدينا نحو السماء؟ فهل هو سبحانه موجودٌ في السماء «والعياذ باللَّه»؟
وقد طُرح هذا السؤال في زمان الأئمّة المعصومين عليهم السلام أيضاً، فقد روى «هشام بن الحكم» أنّ زنديقاً دخل على الإمام الصادق عليه السلام وسأله عن آية «الرحمن على العرش استوى .
فأجابه الإمام عليه السلام موضحّاً: «.... ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاوياً له، وأن يكون عزّ وجلّ محتاجاً إلى شي ء مما خلق، بل خلقه محتاجون إليه».
فقال السائل: إذن، لا فرق في أن ترفعوا أيديكم أثناء الدعاء إلى السماء أو تنزلوها إلى الأرض!
فقال الإمام عليه السلام: «ذلك في علمه واحاطته وقدرته سواء، ولكنه
عزَّ وجلّ أمر أولياءه
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 132.
(2) المصدر السابق، الخطبة 183.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 205
وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش، لأنّه جعله معدن الرزق، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول صلى الله عليه و آله حيث قال: ارفعوا أيديكم إلى اللَّه عزّ وجلّ، وهذا يجمع عليه فرق الأمة كلها» «1».
ورد في الخصال عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، في حديثٍ آخر أنّه قال: «إذا فرغ أحدكم من الصلوة فليرفع يديه إلى السماء، ولينصبّ في الدعاء. فقال ابن سبأ: ياأمير المؤمنين أليس اللَّه عز وجلّ في كل مكان؟ قال: بلى قال: فلم يرفع يديه إلى السماء؟ فقال: أو ما تقرأ: «وفي السماء رزقكم وما توعدون» فمن أين تطلب الرزق إلّامن موضع الرزق وما وعد اللَّه عزّ وجلّ في السماء» «2».
وطبقاً لما جاء في هذه الروايات فإنّ أغلب أرزاق الناس تنزل من السماء، (فالمطر الذي يُحيي الأرض الميتة ينزلُ من السماء، ونور الشمس الذي يُعَدُّ منبعاً للحياة، يشعُ من السماء، والهواء الذي يُعد العامل المهم الثالث للحياة، موجود في السماء، فإنّ السماء عُرفَتْ كمعدنٍ للبركات والأرزاق الإلهيّة، وتُرفَعُ الأيدي نحوها عند الدعاء طلباً ورجاءً من خالق ومالك كل تلك الأرزاق في حل المعضلات.
ويُستنتج من بعض الأخبار أيضاً أنّ هذا المفهوم لاينحصر بالمسلمين فقط، بل كان موجوداً في بقية الأُمم كذلك، كما نقل المرحوم (الفيض الكاشاني) في كتاب المحجّة البيضاء عن (مالك بن دينار) أنّه قال: أصاب الناس من بني اسرائيل قحط، فخرجوا مراراً فأوحى اللَّه تعالى إلى نبيّهم أن أخبرهم: «إنّما تخرجون إليَّ بأبدان نجسه، وترفعون إليَّ اكفّاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بطونكم من الحرام الآن قد اشتد غضبي
عليكم ولن تزدادوا منّي إلّابعداً» «3».
ويستنتج من بعض الروايات وجود فلسفة اخرى لهذا العمل وهو إظهار الخضوع
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 330؛ توحيد الصدوق، ج 1، ص 248، الباب 36.
(2) بحار الأنوار، ج 90، ص 308، ح 7، وقد ورد الحديثان السابقان في تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 124- 125.
(3) المحجة البيضاء، ج 2، ص 298.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 206
والتذَلُّل للباري، لأنّ الإنسان يرفع يديه حينما يظهر خضوعه واستسلامه لشخص أو شي ء معين.
وفي حديثٍ للإمام الباقر عليه السلام في تفسير آية «فما استكانوا لربّهم وما يتضرّعون».
فقال عليه السلام: «الاستكانة هو الخضوع، والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما» «1».
طُرحت هذه المسألة بشكل واسعٍ في الروايات الإسلاميّة في: أصول الكافي، بحار الأنوار، نهج البلاغة، توحيد الصدوق، وغيرها، وذِكْرُها جميعاً لا يتناسب مع طريقة اختصار الكتاب، لذا نكتفي بنفحات منها:
1- عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمان، ولا مكان، ولا حركة، ولا انتقال، ولا سكون؛ بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً» «2».
2- وجاء في حديث آخر أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سمع رجلًا يقول: «والذي احتجب بسبع طباق؛ فعلاه بالدرّه، ثم قال له: ياويلك إنّ اللَّه أجلَّ من أن يحتجب عن شي ء، أو يحتجب عنه شي ء سبحان الذي لا يحويه مكان، ولا يخفى عليه شي ء في الأرض ولا في السماء؛ فقال الرجل: أفأكفّر عن يميني ياأمير المؤمنين؟ قال: لا لم تحلف باللَّه فيلزمك الكفارة، وإنّما حلفت بغيره» «3».
3- وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ سليمان بن مهران سأله
هل يجوز أن نقول: إنّ اللَّه عزّ وجلّ في مكان؟ فقال: سبحان اللَّه وتعالى عن ذلك إنّه لو كان في مكان لكان مُحْدَثاً، لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان والاحتياج من صفات المحدث لا من صفات القديم» «4».
__________________________________________________
(1) أصول الكافي، ج 2، ص 479 (باب الرغبة والرجعة) ح 2.
(2) بحار الأنوار، ج 3، ص 309.
(3) المصدر السابق، ج 3، ص 310.
(4) التوحيد للصدوق، ص 178، ح 11.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 207
4- سُئل أمير المؤمنين عليه السلام: «أين كان ربّنا قبل أن يخلق سماءً وأرضاً؟ فقال عليه السلام: (اين) سؤال عن مكان، وكان اللَّه ولا مكان» «1».
5- وجاء في حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان، لا يخلو منه مكان ولايشغل به مكان، ولا يحل في مكان، ما يكون من نجوى ثلاثة إلّاهو رابعهم ولا خمسة إلّاوهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّاهو معهم اينما كانوا ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور لا إله إلّاهو الكبير المتعال» «2».
تدل هذه الأحاديث بمنتهى الوضوح على أنّ كل مَن سأل الأئمّة المعصومين عليهم السلام عن مكان اللَّه، سمع رداً سلبياً وتعابير متناغمة، غنية صريحة، وواضحة تدفع كل ابهام في هذا المجال عن قلوب المشتاقين.
6- ورد في (الإرشاد) و (الاحتجاج): «أنّ اثنين من أحبار اليهود دخلا المدينة وسألا عن الخليفة، فأرشِدا إلى أبي بكر، فلمّا نظرا إليه قالا: ليس هذا صاحبنا، ثم قالا له: ما قرابتك من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:
إنّي رجل من عشيرته، وهو زوج ابنتي عائشة، قالا: هل غير هذا؟ قال: لا، قالا: ليست هذه بقرابة، قالا: فأخبرنا أين ربّك؟ قال فوق سبع سموات، قالا: هل غير هذا؟ قال: لا، قالا: دُلّنا على من هو أعلم منك؟ فانّك أنت لست بالرجل الذي نجد صفته في التوراة أنّه وصي هذا النبي وخليفته! قال: فتغيّظ من قولهما وهمّ بهما، ثم أرشدهماإلى عمر، وذلك أنّه عرف من عمر أنّهما إن استقبلاه بشي ء بطش بهما، فلما أتياه قالا: ما قرابتك من هذا النبي؟ قال: أنا من عشيرته، وهو زوج ابنتي حفصة، قالا: هل غير هذا؟ قال: لا، قالا: ليست هذه بقرابة، وليست هذه الصفة التي نجدها في التوراة! ثم قالا:
فاين ربك؟ قال: فوق سبع سموات، قالا: هل غير هذا؟ قال: لا، قالا: دُلّنا على من هو أعلم منك؟ فأرشدهما إلى علي عليه السلام، فلما جاءاه فنظرا إليه قال أحدهما لصاحبه: إنّه الرجل
__________________________________________________
(1) توحيد الصدوق، ص 175، ح 4.
(2) المصدر السابق، ص 178، ح 12.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 208
الذي نجد صفته في التوراة: أنّه وصي هذا النبي وخليفته وزوج ابنته وأبو السبطين والقائم بالحق من بعده، ثم قالا لعلي عليه السلام: أيّها الرجل ما قرابتك من رسول اللَّه؟ قال: هو أخي، وأنا وارثه ووصيه وأول من آمن به وأنا زوج ابنته فاطمة، قالا له: هذه القرابة الفاخرة والمنزلة القريبة، وهذه الصفة التي نجدها في التوارة ثم قالا له: فاين ربّك عزّ وجلّ؟ قال لهما علي عليه السلام: إن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبيّكما موسى عليه السلام وإن شئتما انبئتكما بالذي كان على عهد نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله، قالا: أنبئنا
بالذي كان على عهد نبيّنا موسى عليه السلام؟ قال علي عليه السلام: أقبل أربعة أملاك: ملك من المشرق، وملك من المغرب، وملك من السماء، وملك من الأرض، فقال صاحب المشرق لصاحب المغرب: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من عند ربّي، وقال صاحب المغرب لصاحب المشرق: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من عند ربي، وقال النازل من السماء للخارج من الأرض: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من عند ربي، وقال الخارج من الأرض للنازل من السماء: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من عند ربي، فهذا ماكان على عهد نبيّكما موسى عليه السلام .... قال اليهوديان: ما منع صاحبيك أن يكونا جعلاك في موضعك الذي أنت أهله؟! فوالذي أنزل التوراة على موسى أنّك لأنت الخليفة حقاً نجد صفتك في كتبنا ونقرأُه في كنائسنا، وأنّك لأحق لهذا الأمر وأولى به ممن قد غلبك عليه، فقال علي عليه السلام: قدّما واخّرا وحسابهما على اللَّه عزّ وجلّ يوقفان ويُسألان» «1».
7- نختتم هذا البحث بجُمل واضحة من نهج البلاغة عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام:
قال عليه السلام في الخطبة 178 من نهج البلاغة: «لا يغيّره زمان، ولا يحويه مكان، ولا يصفه لسان».
وقال عليه السلام في الخطبة 186 من نهج البلاغه: «وإنّ اللَّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لا شي ء معه، كما كان قبل ابتدائها .... بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان».
وفي الخطبة 49 من نهج البلاغة قال عليه السلام: «سبق في العلو فلا شي ء أعلى منه، وقرب في الدنو فلا شي ء أقرب منه، فلا استعلاؤُه باعده عن شي ء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به».
__________________________________________________
(1) كتاب التوحيد للصدوق، ص 180، ح 15.
نفحات القرآن، ج 4،
ص: 209
هذا هو ما وصلنا من المنطق الصحيح والمعارف الحقة لأهل البيت عليهم السلام حول اللَّه سبحانه وتعالى.
أثبت تاريخ العقائد الإسلاميّة بأنّ المنحرفين عن أصول الدين المعروفة كانوا يسْتعينون بالآيات المتشابهة لإثبات مقاصدهم دون أن يلتفتوا إلى القانون الذي طرحهُ القرآن في هذا المجال، وهو تفسير المتشابهات في ظل المحكمات.
وقد لجأ القائلون بوجود مكان للَّه تعالى، والقائلون بوجود جسم له أيضاً إلى بعض الآيات المتشابهات واعتبروها كافيةً لإثبات ادّعائهم بصورة منفصلة عن بقية الآيات القرآنية، إليكم أهمها:
1- «الرَّحْمَنُ عَلى العَرشِ اسْتَوَى . (طه/ 5)
تصور هؤلاء بأنّ (العرش) سريرٌ في أعلى السموات، يجلس اللَّه عليه، ويصدر أوامره إلى الملائكة!
فهم يتغافلون عن أنّ هذا تعبيرٌ كنائي يُستعمل في الكثير من العبارات المتداولة، وهو كناية عن السلطة والقدرة.
ويجدر التوضيح بأنّ الملوك القدماء كانوا يمتلكون نوعين من العرش:
الأول: مرتفع يطلق عليه العرب إسم (العرش)، يجلس عليه الملك في الأيام الخاصّة ذات الطابع الرسمي.
والثاني: منخفض، يأتي إليه الملك كل يوم ويجلس عليه في الحالات الطبيعية ليمارس عمله ويصدر أحكامه وأوامره ويدبّر أمور البلاد، ويُطلق عليه العرب (الكرسي).
واستُعملت كلمتا (العرش) و (الكرسي) رويداً رويداً كرمزين وكنايتين عن السلطة، وهذا المفهوم واضح في التعابير التالية:
نفحات القرآن، ج 4، ص: 210
يقال: نَحَّوا الشخص الفلاني عن عرشه أي سُلبَت سلطتُهُ. أو فلانٌ فُلَّ عرشُهُ، أي انتهت حكومته، أو إنَّ الحادثة الفلانية هزَّتْ أركان عرشِ فلان أي زلزلت سلطتهُ، ومن قبيل هذه التعابير.
وَعليه فعرش اللَّه معناه العالم العلوي، وكرسيُّهُ معناه العالم السفلي، أو إنّ العرش إشارة إلى عالم ما وراء الطبيعة والمجرّدات، والكرسي إشارة إلى عالم المادّة، والشاهد على هذا الكلام آية: «وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَواتِ وَالأَرضَ». (البقرة/ 255)
فعندما يكون كُرسي اللَّه قد وسع جميع السموات
والأرض فإنّه يعني أنّ عرشه ما وراء السموات والأرض، أي ما وراء عالم الطبيعة «1».
بناءً على ذلك فحينما يُقال: الرحمن على العرش استوى، فالمقصود منه أنّ حاكميته، ومالكيته، وسلطته شملت العالم العلوي بوسعه، والعالم السفلي بتمامه.
وهذا الأمر واضحٌ جدّاً، ويُمكن للآيات القرآنية التي تنفي وجود مكان للَّه (وأوردناها في بداية الكلام)، أن تكون خير دليلٍ على تفسير هذا الأمر.
ورد في تفسير الميزان أنّ الآية التي تلت هذه الآية (طه/ 6) تقول: «لَهُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحتَ الثَّرَى ، وهي قرينة واضحة لتفسيرها «2».
وردَّ الفخر الرازي في تفسيره على استدلال المشبِّهة، بهذه الآية على جلوس اللَّه على عرشه، بعشر أدلة عقليّة ونقليّة، من جملتها: إنّ اللَّه كان موجوداً قبل خَلق العرش أو أي مكانٍ آخر، فهو لم يكُن محتاجاً إلى المكان منذ الأزل، فكيف يُمكن أن يحتاج إلى مكان بعد خلق العرش؟!
والآخر هو: لو أنّ اللَّه تعالى جالسٌ على عرشه وفقاً لتصور هذه الجماعة لاستلزم أن يكون جزء من وجوده الكائن على يمين العرش غير الجزء الموجود على يساره! ولاستلزم
__________________________________________________
(1) لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك ممّا يردف الملك، جعلوه كنايةً عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون مُلك وإن لم يقعد على السرير البتة، الكشاف ج 3، ص 52.
(2) تفسير الميزان، ج 14، ص 131.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 211
التركيب، والأخير يحتاج إلى الأجزاء بدوره، (وهذا محال).
والآخر هو قول القرآن عن إبراهيم عليه السلام: «لَآأُحِبُّ الآفِلِينَ». (الأنعام/ 76)
يُشير إلى حضوره تعالى في كل مكان، فلو كان جالساً على عرشه للزم أن يكون غائباً ومختفياً دائماً، وهذا عين الأفول!
ومن جهةٍ اخرى يشير القرآن الكريم
في الآية 17 من سورة الحاقّة إلى حملة العرش من الملائكة، وبناءً على معتَقد جماعة (المشبّهة) يستلزم أن يكون اللَّه بحاجة إلى ملائكة العرش ليحفظوه! في حين أنّ اللَّه على كل شي ءٍ حفيظ.
علاوةً على كون جميع آيات التوحيد ونفي التشبيه من المحكمات، ونحن نعلم بأنّ ما يلزم التوحيد ونفي الكفؤ عنه تعالى هو نفي الجزئية عنه بكل ألوانها، وهذا لايتناسب مع استقراره في مكان معين .... (ودلائل اخرى) «1».
ومن جملة الآيات التي استعان بها هؤلاء الجماعة، هي الآية 22 من سورة الفجر، فبعد أن شرح سبحانه حوادث نهاية الدنيا وقيام القيامة قال: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا».
طبعاً، كما قال أكثر المفسّرين: إنّ المقصود من الآية هو مجي الأمر الإلهي لمحاسبة الناس، أو حلول آيات عظمته، لأنّ هذه الآيات والدلائل عظيمة لدرجة بحيث وكأنّ مجيئها يُعبّر عن مجي الذات الإلهيّة المقدّسة وتجلو كل أنواع الريب والشك من القلوب «2».
من هنا فقد ورد بصريح العبارة في الآيات التي قرأناها سابقاً أنّ اللَّه موجود في كل مكان، ولا يخلو مكانٌ من ذاته المقدّسة، ولا يسعه مكان في نفس الوقت: «وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَ مَا كُنْتُم».
مع هذا فكيف يُمكن أن ينتقل من محلٍ لآخر، كما استنتج (جماعة المشبهّة) من ظاهر كلمة (جاء) منها: «وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَ مَا كُنتُم». (الحديد/ 4)
ومنها: «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 22، ص 5.
(2) تفاسير، مجمع البيان، الميزان، القرطبي، روح الجنان وغيرها.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 212
ومنها: «فَأَينَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللَّهِ». (البقرة/ 115)
ومنها: «هُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ الَهٌ وَفِى الأَرضِ إِلَهٌ». (الزخرف/ 84)
كيف يُتصوَّر انتقالُه من مكانٍ لآخر؟
علاوةً على أنّ التغيير، والزوال، والغروب، والأفول، والحاجة إلى المكان،
تعتبر من لوازم الانتقال.
والشاهد على هذا التفسير، قوله تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلَائِكةُ أَو يَأتِىَ أَمرُ رَبِّكَ». (أي الموت أو العذاب الإلهي). (النحل/ 33)
ولكن تُلاحظ تعابير من هذا القبيل في بعض الآيات القرآنية أيضاً مثل: «إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ». (فاطر/ 10)
و: «تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ». (المعارج/ 4)
و: «لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم». (الحج/ 37)
ومن المسلَّم به أنّ جميع هذه التعابير تُشير إلى الصعود المعنوي، والعروج الروحي، والقرب الباطني، بقرائن نفس الآيات، لأنّ العمل ليس بالشي ء الذي يصعد إلى السموات الظاهريّة، وكذلك التقوى ليس لها عروج جِسْمانيّ، (تأمل جيداً).
لكن الذين لاينتبهون إلى هذه الحقائق ويتقيّدون بالألفاظ فقط يسلكون طريق الخرافات ظنّاً بأنّهم يرون الحقيقة.
وقد وردت تعابير في بعض الآيات أيضاً تبيّن في الواقع عقيدة الكافرين، لكن الجهلاء اتخذوها مبرراً للقول بوجود جسمٍ ومكانٍ للَّه تعالى من دون الإنتباه إلى ذلك، فمثلًا نقرأ في قوله تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأتِيهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالمَلَائِكَةُ». (البقرة/ 210)
(ماأسخفه من مُعتقَد وتصورٍ ساذجٍ).
وعليه فإنّ الإستفهام الموجود في الآية هو بالحقيقة استفهامٌ إستنكاري، أي عدم إمكانية تحققُ مثل هذا الشي ء «1».
__________________________________________________
(1) فسّر بعض المفسّرين الاستفهام الموجود في الآية بأنّه استفهام تحذيري، وقدّروا كلمة (أمر) محذوفة كما مرّ في بعض الآيات السابقة، وقالوا: إنّ على هذه الجماعة من الكفار أن ينتظروا مجي أمر اللَّه بالعذاب ومجي ملائكة الحساب لمحاسبتهم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 213
وخلاصة الكلام هو أنّ وضوح تفسير مثل هذه الآيات موقوف على قليل من الدقّة، والرجوع إلى الآيات المحكمات بالنسبة إلى نفي الجسم، والمكان، والزمان للَّه سبحانه وتعالى، فلا يبقى محلٌ للاشتباه والشك والريب.
قال العلّامة الحلّي رحمه الله في
كتاب نهج الحق: «إنّ إتحاد اللَّه مع غيره بحيث يصيران شيئاً واحداً باطل، بل وبطلانه يُعَدُّ من البديهيات،، ثم أضاف قائلًا: رفض جماعة من متصوفة أهل السُّنة هذه الحقيقة وقالوا: إنّ اللَّه يتحد مع بدن العرفاء ويصيرا شيئاً واحداً!! وحتى قال بعضهم: اللَّه عين الموجودات وكل موجودٍ هو اللَّه، إشارة إلى مسألة وحدة الوجود المصداقيّة، ثم قال: هذا عين الكفر والإلحاد، والحمد للَّه الذي أبعدنا عن أصحاب هذه العقائد الباطلة ببركة الإلتزام بمذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وقال في بحث الحلول: من المسائل المسلَّم بها أنّ أيّ موجودٍ يريد أن يحلّ في آخر يحتاج إلى مكان، ولأنّ اللَّه واجب الوجود ولا يحتاج إلى شي ء، إذن فحلوله في الأشياء مُحال.
ثم أضاف قائلًا: «رفض متصوفة أهل السُّنَة هذه المسألة واعتقدوا بإمكانية حلول اللَّه في بدن العرفاء»، ثمَّ ذمَّ هذه الجماعة بشدة وقال: ولقد شاهدتُ جماعة من الصوفية في حضرة الإمام الحسين عليه السلام وقد صلّوا صلاة المغرب سوى شخصٍ واحدٍ منهم كان جالساً لم يُصلِّ، ثم صلّوا بعد ساعةٍ صلاة العشاء سوى ذلك الشخص الذي ظلّ جالساً!.
فسألتُ بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص فقال: ما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل! أَفهل يجوز أن يجْعلَ بينه وبين اللَّه تعالى حاجباً؟ فقلتُ: لا، فقال: الصلاة حاجب بين العبد وربّه!» «1».
__________________________________________________
(1) نهج الحق، ص 58 و 59.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 214
وقد ورد نفس هذا المفهوم في مقدمة الدفتر الخامس لكتاب المثنوي بنحوٍ آخر، يقول:
«يصح ذلك إذا بلغت المقصود، لذا فقد قالوا: لوظهرت الحقائق بطلت الشرائع!، وشبّه الشريعة بعلم الكيمياء (العلم الذي يمكن بواسطته استخلاص الذهب من النحاس) فقال:
ماحاجة الذهب الأصيل، أو الذهب المستخلَص إلى علم الكيمياء!؟ فكما
قالوا: طلب الدليل بعد الوصول إلى المدلول قبيح!» «1».
وقد نُقلَ عن (صاحب المواقف) في كتاب (دلائل الصدق) في شرح (نهج الحق) قوله بأنّ نفي (الحلول) و (الإتحاد) ثلاث طوائف، واعتبر بعضَ المتصوّفة من الجماعة الثانية وقال: إنّ كلامهم متذبذب بين الحلول والإتحاد (يُقصد بالحلول نفوذ اللَّه في الأشياء ويُقصد بالإتحاد الوحدة بينه وبين الأشياء).
ثم أضاف قائلًا: رأيتُ بعض (المتصوّفة الوجوديين) يُنكرون الحلول والإتحاد، ويقولون: توحي هاتان الكلمتان بمغايرة اللَّه للمخلوقين، ونحن لا نؤمن بذلك! فنحن نقول:
(ليس في دار الوجود غيره ديّار)!!
وهنا يقول صاحب المواقف: إنّ هذا العذر أقبح من الذنب «2».
وبالطبع فإنّ للمتصوفة الكثير من قبيل هذا الكلام الذي لا يتناسب مع الموازين ومنطق العقل، ولا مع منطق الشرع.
وعلى أيّة حال فإنّ الأتحاد الحقيقي بين شيئين محالٌ، كما ورد في كلام المرحوم العلّامة، لأنّ هذا الكلام عين التّضاد، فكيف يُمكن لشيئين أن يصيرا شيئاً واحداً، إضافةً إلى ذلك فلو اعتقد أحدٌ باتحاد اللَّه مع جميع المخلوقات أو خواص العرفاء والواصلين، لاستلزم أن يتصف بصفات الممكنات كالزمان، والمكان، والتغيُّر، وما شاكل ذلك.
وأمّا بخصوص (الحلول)، أي نفوذ اللَّه في الأشياء، فيستلزم خضوعه للمكان، وهذا
__________________________________________________
(1) دفتر المثنوي الخامس، ص 818.
(2) دلائل الصدوق، ج 1، ص 137.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 215
شي ءٌ لا يتناسب أبداً مع وجوب وجود اللَّه سبحانه وتعالى «1».
والخلاصة أنّ الصوفيين يعتقدون بعدم إمكانية إثبات مثل هذه الإدّعاءات بالأدلة العقليّة، وغالباً ما يفصلون طريقهم عن طريق العقل، ويستعينون بسلسلة من المسائل الذوقيّة الخياليّة التي يسمّونها (طريق القلب)، ومن المسلم به أنّه لايُمكن التوقُّع ممن يرفض منطق العقل سوى هذا الكلام المتناقض.
ولذلك فقد ابتعد عنهم كبار العلماء وطردوهم دائماً وفي جميع العصور.
فالقرآن الكريم يستند
في الكثير من آياته إلى العقل والبرهان ويعدّهما طريقاً لمعرفة اللَّه.
وبهذا الكلام، وبالبحوث التي أوردناها بصدد (نفي الشريك والشبه)، و (نفي الصفات الزائدة عن الذات الإلهيّة المقدّسة)، نصل إلى نهاية بحث (صفات جلال اللَّه) بصورة كليّة وأساسيّة، وقد اتضحت لنا جزئياته في ظل الأصول التي ذُكرت، بصورة جيدة.
ولنبحث الآن صفات الفعل الإلهي بعونه تعالى.
__________________________________________________
(1) يجدر الأنتباه إلى أنّ نفس هذا المفهوم بخصوص بُطلان الحلول والإتحاد قد ورد في شرح تجريد العقائد للعلّامة الحلّي باستدلالٍ مفصَّل. (كشف المراد، ص 227، باب أنّه تعالى ليس بحالّ في غيره ونفي الإتّحاد عنه).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 217
نفحات القرآن، ج 4، ص: 219
يُعد تقسيم صفات اللَّه إلى صفات الذات وصفات الفعل من أشهر تقسيمات بحث الصفات، وقد ذكرنا ذلك سابقاً.
ف (صفات الذات) وهي الصفات التي هي نفس الذات الإلهيّة المقدّسة كانت ثابتة للَّه حتى قبل صدور الأفعال منه تعالى، كأزليته وأبديته وعلمه وسلطانه.
أمّا (صفات الفعل) فهي الصفات التي تُطلق عليه بملاحظة صدور فعل معين من ذاته المقدّسة كالخالق والرازق، فمن المسلَّم أنّ هذه الصفة لم تكن لتُطلَق عليه قبل أن يخلق مخلوقاً ويرزقه، وبالطبع فقد كانت له القدرة على الخلق والرزق، إلّاأنّ صفة الخالق والرازق لم تكن تصدق عليه.
وعليه فصفات الفعل حادثة، وهي ليست نفس ذات اللَّه طبعاً، وبالحقيقة هي مفاهيم موجودة في أذهاننا.
فما هو موجودٌ في الخارج هو الذات الإلهيّة المقدّسة والأفعال الإلهيّة، وعندما نلاحظ صدور هذه الأفعال من الذات المقدّسة ننتزع هذه الصفات في أذهاننا- بتعبير علمائنا الكبار- ونقول هو الخالق والرازق والمحيي والمميت، (وسنوضح ذلك فيما بعد).
ولأنّ أفعال اللَّه غير محدودة، فإنّ صفاته الفعلية غير محدودة كذلك. أمّا أهم الصفات الفعليّة التي وصف القرآن الكريم الذات الإلهيّة المقدّسة بها والتي لها آثار تربوية عميقة جدّاً على حياة البشر علاوةً على اكمال معرفتهم باللَّه، وكلٌّ منها تهدي الإنسان وتعينه على سلوك مراحل تكامل الصفات الإنسانية، هي مايلي: 1- الخالق، 2- الخلّاق، 3- أحسن الخالقين، 4- الفاطر، 5- البارئ، 6- الفالق، 7- البديع، 8- المصور، 9- المالك، 10- الملك، 11- الحاكم، 12- الحكيم، 13- الرب، 14- الولي، 15- الوالي، 16- المولى
نفحات القرآن، ج 4، ص: 220
17- الحافظ، 18- الحفيظ، 19- الرقيب، 20- المهيمن، 21- الرازق، 22- الرزاق، 23- الكريم، 24- الحميد، 25- الفتاح، 26- الرحمن، 27- الرحيم، 28- ارحم
الراحمين، 29- الودود، 30- الرؤوف، 31- اللطيف، 32- الحفيّ، 33- الغافر، 34- الغفور، 35- الغفار، 36- العفو، 37- التوّاب، 38- الجبار، 39- الشكور، 40- الشاكر، 41- الشفيع، 42- الوكيل، 43- الكافي، 44- الحسيب، 45- سريع الحساب، 46- اسرع الحاسبين، 47- سريع العقاب، 48- شديد العقاب، 49- النصير، 50- نعم النصير، 51- خير الناصرين، 52- القاهر، 53- القهار، 54- الغالب، 55- السلام، 56- المؤمن، 57- المحي، 58- الشهيد، 59- الهادي و 60- الخير.
ويجدر الإنتباه أيضاً إلى هذه المسألة وهي: إنّ الصفات الستّين المذكورة أعلاه والتي وردت في الآيات القرآنية المختلفة ذات مفاهيم قريبة من بعضها، لذا سنبحث كل مجموعة متقاربة في فصلٍ خاصٍ.
وهنالك بعض الصفات أيضاً ذات مفهومَيْن متفاوتَيْن، تبعاً لإرجاعها إلى (صفات الذات) و (صفات الفعل) كما سنتطرّق إلى ذلك في قسم التوضيحات إن شاء اللَّه.
وردت هذه الصفات في آيات قرآنية عديدة وفي حالات مختلفة:
1- «قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شى ءٍ». (الرعد/ 16)
فالآية أعلاه تشير إلى خلق جميع موجودات عالم الوجود.
2- «إِنِّى خَالِقُ بَشَراً مِّن طِينٍ». (ص/ 71)
تُشير هذه الآية إلى خلق الإنسان- الذي يعتبر أفضل مافي عالم الوجود- من موجودٍ حقير كالطين.
3- «هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ». (الحشر/ 24)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 221
استُعملت صفة الخالقية هنا بصورتها المطلقة، ولم يُذكرْ أي اسمٍ من المخلوقات.
4- «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلَّاقُ العَلِيمُ». (الحجر/ 86)
أشارت الآية إلى الخلق الإلهي الواسع والمتنوّع.
5- «ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخَالِقِينَ». (المؤمنون/ 14)
وهنا اشارةٌ إلى أهم وأرفع مخلوقات اللَّه، أي الإنسان، وذلك في مرحلة نفخ الروح، لذا فقد وُصِفَ الباري هنا بصفة أحسن الخالقين.
إنّ كلمة (الخالق) مشتقة من مادّة (خَلْق) وهي في الأصل بمعنى (القياس المباشر) و (الإيجاد والإبداع لأول مرّة) «1».
وأرجعها بعض أرباب اللغة إلى أصليْن: الأول هو المعنى الذي ذكرناه أعلاه، والثاني هو بمعنى الإستواء والتسطُّح «2».
قال في مقاييس اللغة: وأمّا الأصل الثاني فصخرة خلقاء أي ملساء ويقال: اخلولق السحاب أي استوى
ولكن لا يُسْتبعد صدور المعنيين من أصل واحد، وهو القياس والتنظيم والإبداع.
وعلى أيّة حال فالفرق شاسعٌ مابين تعبير الخالقية الذي قد يُستعمل أحياناً بالنسبة إلى العباد، وبين تعبير الخالقية الذي يُستعمل بالنسبة إلى اللَّه تعالى، والمشمول أيضاً بتعبير أحسن الخالقين، بل يصدق تعبير (الخلق) بمعناه الحقيقي بالنسبة إلى اللَّه فقط الذي يوجِدُ الموجودات من العدم دون وجود أي أثر مُسبَق، في حين لو ابتدع الإنسان أثراً صناعيّاً أو فنيّاً أو معمارياً فإنّما هو نتيجة تركيب ومزج مواد مختلفة مأخوذة من عالم الطبيعة،
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب الأصفهاني.
(2) مقاييس اللغة.
نفحات القرآن،
ج 4، ص: 222
فيصنعها بأشكال كان قد رآها من قَبْل في عالم الوجود (أو يركّبُ أشكالًا مختلفةً سويةً)، وعليه، فلا المادّة من ابداعه ولا شكلها.
ويجب الإلتفات إلى كون صفة (الخالق) أو (الخلاق) من أوسع صفات الفعل الإلهي، والتي تشمل جميع عالم الوجود بأكمله، ومظهرهُ السماء والأرض وعالم المادّة وما وراء المادّة.
وخلقُ اللَّه يُعدُّ من أعظم الآيات الدالّة على وجوده، لأننا أينما نحط رحالنا نشاهد نماذج من خلقه ومخلوقاته التي تدل على وجوده.
ولذلك فكلُ واحدةٍ من الصفات الإلهيّة تحمل في معناها بلاغاً للناس، وهذا أحد الأهداف المهمّة من طرحها في القرآن الكريم الذي هو كتاب معرفة وتربية، إذ تقول هذه الصفة للإنسان: إنّ آثار الموجودات دليلٌ على وجود اللَّه، كأن تخترع أو تصنع شيئاً من الآثار العلميّة والاجتماعيّة وما شاكلها. فإن لم تترك أثراً من عندك فإنّك لا تمتلك أي شَبهٍ مع تلك الذات الإلهيّة الفريدة، ولم تتخلق بأخلاقه، ولم تتوفق لسلوك طريق القرب منه تعالى.
حاول أنت أيضاً أن تصنع آثاراً وتسْتنير بهذه الصفة الإلهيّة البارزة.
إنّ الصفات الخمس المذكورة أعلاه هي بالحقيقة مشابهة لصفة (الخالق)، لكنها ممزوجة مع مفاهيم ومعانٍ ومسائل جديدة، لنتمعن خاشعين في الآيات التالية:
1- «فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ». «1» (يوسف/ 101)
__________________________________________________
(1) ورد هذا التعبير في ست آياتٍ من القرآن الكريم: الأنعام، 4؛ إبراهيم، 10؛ فاطر، 1؛ الزمر، 46؛ الشورى، 11؛ والآية الواردة في البحث.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 223
2- «هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ الْمُصَوّرُ». «1» (الحشر/ 24)
3- «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى . (الأنعام/ 95)
4- «فَالِقُ الْإِصْبَاحِ». (الأنعام/ 96)
5- «بَدِيعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ». «2» (الأنعام/ 101)
إنّ كلمة (فاطر) مشتقة من مادّة (فَطْر) (على وزن سَتْر)، وتعني الإنفطار أو (الإنفطار الطولي)، كما ورد في الآية: «إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ». (الانفطار/ 1)
وقد وردت هذه الكلمة أيضاً بمعنى حَلْب الشاة، وإفطار الصوم، وابتداع وإيجاد شي ء لأول مرّة وقد يُراد بها انفطارُ حجابِ ظلماتِ العدم ودخول الموجودِ إلى عالمِ الوجود.
وجاءت كلمةُ (الباري) من مادّة (بُرء) على وزن (قُفل) وهي في الأصل بمعنى الشفاء من مرض أو التخلُّص من الأمور غير المرضية، وأُطلقت فيما بعد على الخالق الذي يوجِد الأشياء دون نقيصة أو خلل وبصورة موزونة تماماً.
ويعتبرها البعض بأنّها مشتقّة من مادّة (بَرْي) أي بري الخشب، ومن الواضح أنّ المقصود من بري الخشب هو صقله وتعديله وموازنة أضلاعه، وهذا مايصدق تماماً بالنسبة إلى الخالق الحكيم لأنّه يخلق كُلّ شي ء بصورة موزونة.
وصرح البعض الآخر أيضاً بأنّ (الباري) معناها مَن يُوجِد الأشياء دون أن يكون لها نمودجٌ سابقٌ.
و (الفالق) من مادّة (فلْق) على وزن (خلق) ومعناه: فلقُ الشي وفصلُ جزءٍ عن آخر، ويستعمل هذا التعبير في فلق النباتات (إنباتها) إذ ينفلق قشرُ بذورها ونواها بأمر الباري
__________________________________________________
(1) ورد هذا الوصف في الآية 54 من
سورة البقرة أيضاً.
(2) ورد نفس هذا التعبير في الآية 117 من سورة البقرة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 224
تعالى على الرغم من استحكامها وسُمكها، وتخرجُ براعم لطيفة وظريفة جدّاً من ذلك الخفاء!
وبالحقيقة أنّ انفلاق بذور النباتات أثناء تفتحها يُعدُّ من أدق وأجمل لحظات وجود النبات وتشبه بالضبط لحظة خروج الإنسان من بطن أُمّه، وهذه اللحظة الحساسة تُعد من عجائب قدرة اللَّه، إنّها لحظة التحوُّل والتغيُّر الشكلي والانتقال من عالمٍ إلى عالمٍ آخر.
ماهذه القوة التي تمنح هذا البرعم الظريف جدّاً القوة على اختراق جدار النواة المحكم ليبرز منتصباً من ذلك المهد، ويخرج من ظلمات رحم أمّه إلى عالم الظهور؟!
وكلمة (بديع) من مادة (بدع) على وزن (منع)، وكما أشرنا سابقاً فهي بالأصل بمعنى إيجاد الشي ء دون وجود نموذج سابقٍ، لذا يُطلق على البئر المحفور حديثاً (بديع)، وعلى الأعمال والسُّنن التي لا سابقة لها (بدعة).
وعندما تُستعمل هذه الكلمة بالنسبة إلى الباري فإنّها تعني إيجاد الشي دون الحاجة إلى الآلات والمكان والزمان، وهي تصدق فقط بحقه سبحانه.
وكلمة (بديع) صفة مشبّهة تدلّ على ثبوت واستمرار هذه الصفة لتلك الذات المقدّسة «1».
وجاءت كلمة (مصوّر) من مادّة (صورة)، بمعنى رسم وشكل الشي ء، وجمعها (صُوَر) وهي على نوعين: (الصورة المحسوسة) كصورة الإنسان والحيوانات والموجودات الماديّة الاخرى، و (الصورة المعقولة) وهي التصورات العقليّة والفكريّة والمفاهيم الخاصّة بكل شي ء.
وتستعمل كلمة (المصوّر) بخصوص الباري سبحانه وتعالى عندما يُراد الإشارة إلى الصور التي وهبها للموجودات المختلفة.
إلّاأنّ بعض أرباب اللغة يعتقد بأنّ هذه الكلمة تعني في لغة العرب التغيير والتحوير، (والصورة) بمعنى (الشكل والهيئة)، مأخوذة من الأصل العبري (صوراه).
__________________________________________________
(1) المفردات؛ لسان العرب؛ التحقيق؛ ومقاييس اللغة (وقد ذُكر في مقاييس اللغة مفهوم آخر لها وهو الإنقطاع والتعب).
نفحات
القرآن، ج 4، ص: 225
يُستْنتج جيداً من مجموع ما ذُكرَ أنّ صفات (الفاطر)، (الباري)، (البديع) تشير جميعاً إلى خلق الشي ء بلا أيِّ سابقةٍ إلّاأنّ هذا المعنى أكثر وضوحاً وبياناً في بعض الكلمات، وأقلُ بياناً في بعضها الآخر، وعلى أيّة حال فهو يدلّ على أهميّة هذه النقطة وهي خلقِ اللَّه بالقياس مع مايقوم به بعض بني البشر، والتي قد يُطلق عليها مصطلح (الخلق) مجازاً، علاوةً على سعتها الخارقة، وعدم محدوديتها من حيث كون المادّة والشكل في جميع مخلوقات اللَّه غير مسبوقة بحدث مُسْبق.
لذلك لا يُمكن قياسها إطلاقاً مع تغيير الأشكال التي يُمارسها الإنسان في مواد هذا العالَم والمسبوقة بعمل مُسبق.
بل إنّ كلمة (الخلق) بمفهومها الحقيقي لاتصدق أبداً بالنسبة لأعمال البشر.
نقل المرحوم الكفعمي في المصباح عن الغزالي حول تفسير الأسماء الحسنى، بأنّ البعض اعتقد بأنَّ ألفاظ (الخالق) و (الباري) و (المصور) ألفاظ مترادفة، وتعني جميعها (الخلق) و (الإبداع) في حين أنّها ليست كذلك، بل الأشياء المخلوقة من العدم ذات ثلاث مراحل: (التقدير) و (الإيجاد) و (التصوير)، ثم ضرب مثلًا حول هذا المفهوم فقال:
يلزم، لإحداث عمارة مرموقة، أن يرسم خارطتها مهندسٌ قدير، ثم يُشيدها البنّاء، وبعد ذلك يزّينها الصبّاغ وأرباب النقوش الماهرون.
وعلى هذا فكلمة (الخالق) تُشير إلى المعنى الأول، في حين أنّ (الباري) تُشير إلى المعنى الثاني و (المصوّر) إلى المعنى الثالث «1».
وعلى أيّة حال فالبلاغ الذي تحملهُ هذه الصفات الإلهيّة في طيّاتها يشبه مابيّناه في الصفات السابقة، إضافةً إلى الخصوصيّات الموجودة في صفات بحثنا هذه.
__________________________________________________
(1) مصباح الكفعمي، ص 319.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 226
إنّ لهذه الصفات الإلهيّة الفعليّة الأربع مفهوماً واسعاً جدّاً يشمل جميع الموجودات في العالم، وتأتي بعد الخلق والإيجاد من حيث التسلسل المنطقي، لذا فقد صمّمنا أن
نبحثها بعد أن بَحثْنا خلق اللَّه، بعدَ أن نمعن خاشعين في الآيات التالية.
1- «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ». (آل عمران/ 26)
2- «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» «1». (الحمد/ 4) 3- «فَتعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ» «2». (طه/ 114)
4- «.... وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ» «3». (الأعراف/ 87)
5- «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْ ءٍ» «4». (الأنعام/ 164)
6- «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «5». (البقرة/ 209)
إنّ كلمة (مَلِكْ) و (مالِك) و (مَليك) جميعها مشتقّة من مادّة (مُلك)، وكما قال صاحب مقاييس اللغة: فهي تدل بالأصل على القوّة والسلطة، أُطلقت هذه الصفات على الأثرياء والحكام والسلاطين لتَمتُّعِهم بالقوّة والسلطة.
يقول الراغب في مفرداته: تُطلقْ كلمة (مَلكْ) على الذي يتصرف في عامة الناس عن طريق الأمر والنهي.
وتطلق كلمة (ملِك) عادةً في الملكية السياسيّة، و (مالك) في المسائل الماليّة، وقال
__________________________________________________
(1) تكررت كلمة مالك ثلاث مرّات فقط في القرآن، إثنتان منها تخص الباري تعالى ومرّة تخص (مالكاً) مَلكَ النار.
(2) وردت كلمة «ملك» في القرآن أحدى عشرة مرّةً، خمس منها في وصف اللَّه (طه، 114؛ المؤمنون، 116؛ الحشر، 23؛ الجمعة، 1؛ الناس، 2).
(3) وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم خمس مرّات فقط جميعها في وصف الباري تعالى، (الأعراف، 87؛ يونس، 109؛ هود، 45؛ يوسف، 80؛ التين، 8).
(4) تكررت كلمة «رب» في القرآن الكريم أكثر من تسْعمائة مرّة وهذا يدل على الأهميّة الفائقة لهذه الصفة الإلهيّة!.
(5) تكررت هذه الكلمة في القرآن لمئة مرّة تقريباً، أغلبها لوصف اللَّه سبحانه وتعالى.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 227
البعض: بأنّ (الملك) اشمل من (المالك) لأنّ مالك الشي ء حاكمٌ وملكٌ عليه، ولكن ليس كلّ مالك يكونٌ ملكاً «1».
وقال البعضُ أيضاً: إنّ (المالكَ) مخيرٌّ ليعمل مايشاء في
ملكه: في حين أنّ (الملِكَ) لا يمتلك مطلق الخيار في تصرُّفاته.
علاوةً على عدم استطاعة المملوك التمرُّد على مالكية مالكه، في حين أنّ الرعيّة يستطيعون الخروج على حكومة حاكمهم (مَلكِهم) «2»
.
بالطبع عندما تُستعمل هاتان الكلمتان كصفتين للَّه فانّما يُراد منهما الإشارة إلى المصداق الأتم والأكمل، وبكلمة واحدة الأشارة إلى مصداقهما الوحيد وهو اللَّه تعالى لذلك فحينما يصلُ المرحوم (الكفعمي)- في كتاب (المصباح)- إلى كلمة (مَلِك) يقول: هو التام الملك، الجامع لأصناف المملوكات، وله مطلق التصرف والأمر والنهي فيما يريد من مأموريه، هو الغني عن جميع الموجودات في ذاته وصفاته، وتحتاج إليه جميع الموجودات في ذاتها وصفاتها «3».
وتجدر الإشارة إلى هذه النقطة أيضاً، وهي: أنّ المالكية والحاكمية وليدة الخلق، ولأنّ (الخالق) بمعناه الحقيقي في عالم الوجود هو اللَّه وحده (فالمالك الأصلي) هو أيضاً، وإطلاق كلمة (مالك) و (ملك) على غيره له صبغة كنائية من هذه الناحية.
و (الحاكم) من مادّة (حكم) طبقاً لما قاله صاحب مقاييس اللغة: وهي في الأصل بمعنى (المنع)، وقبل كل شي ء (المنع من الظلم)، وإنّما يُسمى (الحكيم) بهذا الاسم لامتلاكه قوة رادعة تحجبه عن الخطايا والمعاصي.
والسّر في وصف اللَّه بهذه الصفة هو منعه ونهيه جميع الموجودات عن الأعمال السيئة سواءً في عالم التكوين أَمْ في عالم التشريع.
وتُعتبر كلمة (حكيم) من صفات الذات من حيث حكايتها عن علم اللَّه، ومن صفات
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 23.
(2) نقل هذا الاختلاف بين مصطلح (المَلك) و (المالك) الفخر الرازي في تفسيره، ج 1، ص 237، عن بعض المصادر.
(3) مصباح الكفعمي، ص 318.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 228
الفعل من حيث إشارتها إلى خلق موجودات الوجود على أساس تنظيمٍ وترتيبٍ خاص، وتشريع القوانين وفق مصالح
كاملة ومُتقنة.
وقد ورد في كتاب التحقيق: أنّ الفرق بين (الحاكم) و (الحكيم) و (الحكم) ينشأ من الاختلافات الموجودة بين مشتّقات هذه الكلمات، فالحكيم تعني من هو ثابت الحُكم والحاكم هو من يَصدُرُ منه الحُكم، والحَكم ذو معنى مشابهٍ مع ثباتٍ أكثر.
يقول ابن الأثير في النهاية: (الحَكم) و (الحكيم) في أسماء اللَّه تعني (الحاكم)، ثم ذكر لها عدة معانٍ: منها الذي يوجد الأشياء بأحسن وجه، والذي يعلم بأفضل الأشياء على أفضل وجه، والذي يمنع عن الأعمال السيئة- وخاصةً الظُّلم-.
وكما أشرنا سابقاً فإنّ كلمة (ربّ) ذات مفهوم أصلي واحد، وسلسلة من اللوازم والأغصان والأوراق (الفروع)، لهذا فهي لها حالاتُ استعمالٍ كثيرة.
فكما ورد في المفردات فإنّ مفهومها الأصلي هو (التربية) والسَّوْق نحو الكمال، ولأنّ هذا العمل رافقته مفاهيمُ اخرى، كالإصلاح، والتدبير، والمالكيّة، والحكومة، والسيادة، والتعليم، والتغذية، فإنّها تُطلق أيضاً على أي واحدٍ من هذه المفاهيم.
وقد ورد في (لسان العرب) أنّ كلمة (الرب) علاوةً على إطلاقها على الذات الإلهيّة المقدّسة، فإنّها تأتي أيضاً بمعنى: المالك، السيّد، المدبّر، المربيّ، القيّم، والمنعم.
وقد ورد في مصباح الكفعمي أيضاً أنّ كلمة (رب) تعني في الأصل التربية والسوق التدريجي نحو الكمال، ثم استُعمل هذا المعنى المصدري للمبالغة في المعنى الوصفي.
وبعد ذلك ذكر لها أربعة آراء حول مفهومها الأصلي هي: المالك، السيّد، المدبّر، والمربي، واستعان بأمثلةٍ منها: ربّ الدار: «أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْراً». (يوسف/ 41)
و (ربانيون) و (ربائب)- أي ابن الزوجة من رجُلٍ آخر-.
والذي نستخلصه ممّا تقدم أنّ كل هذه المعاني لها علاقة بمفهوم «التربية».
اتضح من مجموع ما ورد أعلاه أن هذه الصفات الخمس (الملك) و (المالك)، و (الحاكم)،
نفحات القرآن، ج 4، ص: 229
و (الحكيم) و (الرب)، التي هي بأجمعها صفات فعليّة ماعدا «الحكيم» التي
يُمكن اعتبارها من صفات الفعل وصفات الذات أيضاً (كالعالِم). وهي ذات مفاهيم قريبة من بعضها ومتلازمة مع بعضها تقريباً ولا تنفصل (ربوبية اللَّه) عن (ملكه) و (حكمه) وقد امتزجت مالكيته وحاكميته مع ربوبيته.
إنّ الإيمان والتفكير بهذه الصفات بمثابة إشارات وتجليات لها آثار تربوية كبيرة على نفس الإنسان بالطبع بعد التعرف على المعنى الحقيقى لهذه الصفات والتي، تخص الذات الإلهيّة المقدّسة، فإيماني بمالكية اللَّه يبعث على الشعور بأني أمينٌ على اموالي وينبغي عليَّ التصرُّف فيها وفق أوامر مالكها الأصلي.
والإيمان بحاكميّة اللَّه يمنعني من الخضوع لسلطة الظالمين والطواغيت.
والإيمان بربوبية اللَّه يمنعني عمن سواه، واعتبرُ جميع العالم من نفحاته، وآراه منقاداً لأوامره تعالى، وبالتالي فإنّ هذا الإيمان يمنعني من السقوط في دوامة عبوديّة المخلوقات.
إنّ الصفات المذكورة أعلاه ذات مفاهيم مهمّة ومتقاربة وجميعها من صفات الفعل، لذا فقد بحثناها في محلٍّ واحد ليتضح ويكتمل تفسيرها في ظل بعضها البعض، وفي الواقع أنّ هذه المجموعة هي من الصفات الخالقيّة والربوبيّة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى جميع هذه الصفات (حيث ذُكرت أحيانا مرّة واحدة وأحياناً اخرى عدّة مرّات) والآن لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ فاللَّهُ هُوَ الوَلِىُّ». (الشورى 9)
2- «وَمَالَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ». (الرعد/ 11)
3- «بَلِ اللَّهُ مَولَاكُم». (آل عمران/ 150)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 230
4- «فَاللَّهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ». (يوسف/ 64)
5- «إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ حَفِيظٌ». (هود/ 57)
6- «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ رَّقِيبًا». (الأحزاب/ 52)
7- «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ». (الحشر/ 23)
«الولي»: من (الولاء)، بالأصل بمعنى استقرار شيئين إلى جوار بعضهما، وتأتي بمعنى القرب، سواءً من حيث المكان أم القرابة النسبيّة، أم من حيث الدين والصداقة والنّصرة والإعتقاد.
هذا ماصرّح به الراغب في مفرداته، وأضاف: (الوِلاية) بكسر الواو تعني المساعدة والنصرة (والوَلاية) بفتح الواو تعني تدبير الأمور «1».
وقد اعتبر صاحب مقاييس اللغة أيضاً أنّ أصل هذه الكلمة يعود إلى مفهوم القرب، وفسّر صاحب كتاب لسان العرب أيضاً كلمة (ولي) بمعنى الناصر والمتولّى لُامور العالم والخلائق.
وعلى أيّة حال، فلهذه الكلمة معانٍ كثيرة، لكنها عندما تُستعمل بخصوص اللَّه تعالى لا ريب في أنّها تعني الولاية وتدبير أمور العالم ونصرة العباد ومؤازرتهم.
وكلمة (مَولى) مشتقّة أيضاً من هذه المادّة، وذُكرِت لها معان كثيرة تعود جميعها إلى الأصل الذي ذكرناه أعلاه (وهو القرب).
وقد ذكر المرحوم العلّامة الأميني رحمه الله- لهذه الكلمة- سبعاً وعشرين معنىً مختلفاً
__________________________________________________
(1) ذكر المرحوم الكفعمي
في المصباح عكس هذا، وكذلك ابن الأثير في النهاية، فقد ذكر أنّ الولاية تعني تصدّي إدارة الأمور، والوَلاية بمعنى النصرة والمساعدة، ولا يُستبعد أن يكون هنالك خطأ في نقل كتاب المفردات.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 231
مستخلصاً من كتب اللغة وموارد استعمالها «1».
وكذلك فقد ذكر ابنُ الأثير في النهاية ستة عشر معنىً لها.
وصرّح في إحدى عباراته: بأنّ (مولى) تعني (ولي)، واستشهد في ذلك بقول عمر لعلي عليه السلام: (أصبحت مولى كل مؤمن).
وأضاف قائلًا: قال جماعة بأنّ سبب هذا الأمر هو قول أُسامة لعلي عليه السلام: أنت لستَ بمولاي! بل مولاي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فسمع الرسول هذا الكلام فقال: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» «2».
ومما ذكرناه يتّضح أنّ معنى كلمة (والي) أيضاً والتي هي اسم فاعل من هذه المادة.
لهذا فاللَّه (وليٌ) و (مولى) و (والي) في نفس الوقت، فهو مدبّر أمورنا ومخيَّرٌ فيها وحاكمنا وناصرنا، وهكذا شأنه مع بقية موجودات عالم الوجود.
وكلمة (حافظ) مشتقّة من مادّة (حفظ) وهي ذات معنى مشهور وواضح، وهو الحفظ، وقال الراغب: إنّها تعني رعاية ومراقبة شي ء معين، لذلك يُطلق على حالة كظم الغضب (حفيظة) لأنّها تستلزم أن يهتم الإنسان بمراقبة نفسه.
وقد ورد تعبير جامع حول هذا المجال في كتاب التحقيق:
وتعطي كلمة حفظ معانيَ مختلفة تبعاً لاختلاف الموارد والموضوعات على الرغم من كون أصلها واحد، فقد يُقال: حفِظَ المال، أي من التلف، وحفِظَ الأمانة، أي من الخيانة، وحفِظَ الصلاة، أي من الفوت، وحفِظَ فلاناً، أي رعاه، وحفظ يمينه وعهده، أي من مخالفته، وحفظ الأمر الفلاني، أي أودعه في ذهنه (بحيث لاينساه) ... «3».
__________________________________________________
(1) من معانيها رب، عم وأولاد العم، ولد، ابن الأخت، مطلق سراح العبد، مالك، تابع، المنعم
عليه، شريك، زوج، صاحب، جار، ضيف، زوج البنت، قريب، مُنعم، عقيد، ولي، أولى، سيد، صديق، ناصر، المتصرف في الأمور، مدبّر الأمور. الغدير، ج 1، ص 362.
(2) نهاية ابن الأثير، ج 5، ص 228، مادّة (ولي).
(3) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادّة (حفظ).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 232
ومن هنا يتضح معنى كلمة (حافظ) أيضاً، وتعتبر كلمة (حفيظ) التي هي صفة مشبهة أبلغ معنىً وأكثر ثباتاًمن كلمة (حافظ) التي هي اسم فاعل.
وعلى أيّة حال، فعندما تختص هذه الصفة باللَّه تعالى فإنّها تُعطي معنىً واسعاً يشمل حفظ اللَّه ورعايته لجميع الموجودات الماديّة والمعنويّة، والسماوات والأرض، وكذلك حفظ أعمال العباد، والشرائع والكتب السماوية، وحفظ الأنبياء والأئمّة المعصومين من المزالق (الخطايا)، وحفظ أي عهدٍ عاهد به عباده.
وعليه فإنّ (حافظية) اللَّه و (حفيظيته) تشمل مفاهيم اخرى (كالقيمومية).
ولولا الحفظ الإلهي لما بقي في السماء والأرض موجودٌ على قيد الحياة لحظة واحدة، كما ورد في الآية: «وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ وَيُرسِلُ عَلَيكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنَا وَهُم لَايُفَرِّطُونَ». (الأنعام/ 61)
يتضح من هذه الآية أنّ اللَّه قد أمر الملائكة بحفظ الناس من الحوادث والبلايا حتى وصول الأجل المعيَّن.
وقد ورد شبيهٌ لهذا المعنى في قوله تعالى: «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ يَحفَظُونَهُ مِن أَمرِ اللَّهِ». (الرعد/ 11)
ونظيرهُ ما جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة: «إِنَّ مع كل إنسانٍ ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليّا بَينَهُ وبَينَهُ» «1».
وقد ورد في سورة الإنفطار أيضاً مايخص الملائكة المكلَّفين بحفظ وتسجيل أعمال العباد، قال تعالى: «وَإِنَّ عَلَيْكُم لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعلَمُونَ مَاتَفعَلُونَ».
(الإنفطار/ 10- 12)
وعليه فإنّ حفظ اللَّه، بالمعنى الواسع للكلمة، يتحقق عن طريق علمه وقدرته سبحانه
من جهة، وعن طريق الملائكة المكلَّفين بإداء هذه المهمّة من جهةٍ اخرى.
وكلمة (رقيب) كما ورد في المفردات هي بالأصل مشتقّة من مادّة (رقبة) أي العنق، وأُطلقت فيما بعد على المحافظين والمراقبين، إمّا لكونهم يحفظون رقبة مَنْ يرعونَهُ
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، القصار الكلمات، الكلمة 201.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 233
ويحمونه (لأنّ الرقبة من أهم أعضاء البدن فإنّها تُعدّ كناية عن كل وجود الإنسان)، وإمّا لأنّهم يمدّون رقابهم وينظرون إلى ماحولهم بحذرٍ تحسُّباً من المخاطر، لذلك يُطلق على المحل الذي يقف فيه مثل هؤلاء الأفراد (المرقَبْ) «1»
.
إلّاأنّه ذُكر في بعض كتب اللغة عكس هذا المفهوم، أي أنّ المفهوم الأصلي لهذه الكلمة هو الحراسة والإشراف على الشي ء، وإنّما سمي العنق (بالرقبة) لأنّه يُستعان بحركاتها عند الحراسة والمراقبة بواسطة العين والأذن «2».
وقد ورد في كتاب (العين) بأنّ أصل هذه الكلمة يعني (الإنتظار)، وفي كتاب مقاييس اللغةبأنه يعني (الإستطالة برعاية شي ء وحراسته).
وعلى أيّة حال فعندما تختصّ هذه الصفة بالباري تعالى فإنّها تعني الحافظ الذي لا يخفى عليه شي ء.
ومن الطبيعي أنّ رعاية اللَّه وحفظه لما في الوجود، وجميع العباد، وأعمالهم، تكون بواسطة وجوده في كل مكان، فلا حاجةَ له إلى نظرٍ أو مدّ رقبةٍ، ولا ما شاكل ذلك من عوارض الموجودات الماديّة.
ووردت كلمة (مهيمن) في موضعين من القرآن الكريم، الأول في الآية 23 من سورة الحشر، كصفة للَّه، والتي ذكرناها أعلاه، والثاني في الآية 48 من سورة المائدة، كصفة للقرآن الكريم.
وهناك رأيان حول أصل هذه الكلمة، يتمثل الأول باعتقاد جماعة بأنّها مأخوذة من مادّة (هَيْمَنَ) أي بمعنى الرعاية والحفظ، لكن الكثير من أرباب اللغة يعتقدون بأنّها مشتقة من مادّة (إيمان) التي تبدلت همزتها إلى هاء، وتعني الواهب للسكينة والأمان، وعندما
تختصُّ هذه الكلمة بالباري تعالى فانّها تأتي بمعنى الحفيظ.
__________________________________________________
(1) المصباح المنير للفيومي.
(2) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 234
وفسّرها البعض بمعنى الشاهد والناظر أو القيّوم بأمور الخلائق «1».
وقد ورد في مصباح الكفعمي عن بعض العلماء- حول تفسير هذه الكلمة-: إنّها تعني الحافظ لأعمال العباد ومقدرات أعمارهم وأرزاقهم «2»، ولكن كما قلنا: إنّ لهذه الكلمة معنىً أوسعَ.
من مجموع ما ذكرناه في تفسير هذه الصفات السبع، التي لها مفاهيم متقاربة أو متلاصقة مع بعضها، تتجلى أمامنا صفحة اخرى من المعارف وصفات الفعل الإلهيّة، صفحة ذات آثار تربويّة ثمينةٍ وقيمّة جدّاً.
إنّها تدعو الناس إلى فعل الخيرات واجتناب أي لونٍ من القبائح والسيئات، وذلك لأنّهم يعلمون بأنّ اللَّه يراهم حيثما كانوا، وتطمئنهم إزاء الحوادث الصعبة، لأنّهم يعلمون بأنّ اللَّه هو الحافظ.
لهذا فإننا نقول: إنّ ذكر الصفات الإلهيّة في القرآن الكريم ذو هدفين اساسيين: أحدهما رفع مستوى معرفة الإنسان بربّه، والآخر تربيته في مختلف الجوانب.
إنّ لهذه الصفات الخمس- المذكورة أعلاه- مفاهيم متقاربة ومتلازمة مع بعضها، وتحكي جميعها عن تأمين أرزاق بني البشر، بل حتى جميع الكائنات الحية، وتدل على أنّ
__________________________________________________
(1) لسان العرب، مقاييس اللغة، ونهاية ابن الأثير. وقد نُقل في بعض التفاسير عن أبي عبيدة أحد علماء اللغة بأنّه قال: يوجد في كلام العرب خمسة أسماء فقط على هذا الوزن هي: (المهيمن) (المبيطر)، (المسيطر)، (المبيقر)، و (المخيمر) ... عن تفسير روح الجنان.
(2) مصباح الكفعمي، ص 318.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 235
المتولي لأمر خلق الموجودات يلتزم تأمين مايديم حياتها أيضاً، وأنّ آثار نعمته الوفيرة وسعت كل شي ء، ورحمته اللامتناهية شملت الجميع.
وعلى ضوء تلك المفاهيم نُمعن خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
خَيرُ الرَّازِقِينَ». (الحج/ 58)
2- «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ». (الذاريات/ 58)
3- «يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَاغَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ» «1». (الإنفطار/ 6)
4- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ» «2». (البقرة/ 267)
5- «وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ». (سبأ/ 26)
جاءت كلمة (رزّاق) و (رازق) من مادّة (رزق)، وفي الأصل بمعنى العطاء المستمر وفي أوقات معيّنة، سواءً كان دنيوياً أم أخروياً ومعنوياً، وقد يطلق الرزق أحياناً على (النصيب والربح).
وقال البعض أيضاً: إنّ (الرزق) في الأصل بمعنى (الإنعام والعطاء) الخاص المناسب لحال الفرد وحاجته، لتستمر حياته ومعيشته، وهنا يفترق مفهوم الرزق عن مفهوم (الإحسان) و (الإنعام) و (العطاء) و (الربح والنصيب) و (الإنفاق) «3».
والجدير بالذكر أنّ التعبير الفارسي المقابل لكلمة (رزق) وهو (روزي) يعطي مفهوم الإنعام والعطاء اليومي وفي أوقات معينة ليشمل جميع الأشخاص.
ولا يخفى أنّ الرزق الحقيقي هو الأشياء التي يحصل عليها الإنسان بالطرق المحللة، وأمّا ما يحصل عليه من الطرق المحرّمة فهو بالحقيقة رزقٌ كاذب.
__________________________________________________
(1) يجدر الانتباه إلى أنّ كلمة «كريم» قد وردت في سبعةٍ وعشرين موضعاً من القرآن الكريم، لكنها ذُكرت كصفة للباري في موارد محدودة جدّاً.
(2) وردت كلمة حميد في سبعين موضعاً من القرآن، مصحوبة غالباً بكلمة غني وذكرتا كصفتين من الصفات الإلهيّة.
(3) مفردات الراغب، مقاييس اللغة، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 236
يُستنتج ممّا ذكرناه أنّ الرزق يأتي بالمرحلة التي تلي الخلق وإيجاد الإنسان، ويرتبط باستمرار حياته الماديّة والمعنوية، ولذا اعتبر البعض أنّ أصل وجود الإنسان أو قواه وامكانياته جزء من الرزق (كالمرحوم الكفعمي في المصباح حيث يقول: إن رزق اللَّه يعني بانّه خلق الأرزاق والمرتزقين)، وهذا في الحقيقة نوعٌ من المجاز والاتساع في المعنى الحقيقي.
وعلى أيّة حال فإنّ وصف
الباري في الآيات المذكورة بصفة: (خير الرازقين) يشير إلى الأبعاد المختلفة التالية:
فالبعد الأول: إنّ أي شي ء يعطيه الباري إنّما هو من عنده، وكل ما يمنحه الآخرون فهو ليس منهم، بل هم واسطة لانتقال الأرزاق.
البعد الثاني: إنّه سبحانه يُعطي كُلّ شي ء من أنواع النعم الماديّة والمعنوية والروحية، الدنيوية والأخرويّة، الظاهريّة والباطنية، العلنية والخفيّة و ....، في حين أنّ كل شي ء يعطيه الآخرون محدودٌ من جميع النواحي.
والبعد الثالث: إنّه تعالى يأخذ بنظر الاعتبار حاجة العباد عند تقدير أرزاقهم ويرزقهم بما يُناسب حالهم، لأنّه عليم باسرار المرتزقين الظاهريّة والباطنيّة، ونعلمُ أنّ الآخرين ليسوا كذلك.
والبعد الرابع: إنّه الرّزاق الذي لا تنفد خزائنه أبداً لأنّ خزائن كل الأشياء بيده: «وَإِنْ مِّن شَي ءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ». (الحجر/ 21)
وفي حين يتصف الآخرون بالمحدوديّة التّامّة من هذه الجهة.
أمّا البعد الخامس: إنّه الرازق الذي يتناول من مائدته الصديق والعدو، وجميعهم يتزوّدون من نعمته بمقتضى كونه الرحمن والرحيم.
لكن الآخرين لا يفكرون سوى بأصدقائهم وأقربائهم.
والبعد السادس: إنّه لا ينتظر لقاء عطائه وإنعامه جزاءاً ولا شكوراً، لأنّه غني من كل ناحية، لكن الآخرين ينتظرون ألف لونٍ من قبيل ذلك.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 237
أمّا البعد السابع: فهو أنّ رزقه بدرجة من السعة والشمول بحيث يبدأ منذ لحظة انعقاد النطفة في عالم الرحم، ويستمر طيلة مرحلة وجود الجنين في بطن أُمّه، وبعد الولادة من خلال حليبها وحنانها أيضاً، حتّى لحظات الموت الأخيرة، فهل من رازقٍ يُناظره؟ أجَلْ هذا سر قوله سبحانه (خير الرازقين).
واللطيف هو ماورد في روايات عديدة منقولة عن أهل البيت عليهم السلام حول تفسير الآية الشريفة التالية: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ». (التكاثر/ 8)
(إنّ اللَّه أجلّ من أن يسأل الناس يوم القيامة عن مأكلهم ومشربهم،
فهذا فضله على عباده ولن يسألهم عنه بل عن (العقائد الحقّة) ومن جملتها (نعمة الولاية) «1».
وعليه فقد عكست لنا هذه الرواية معنىً آخر من معاني (خير الرازقين) لأنّه سبحانه- طبق ماجاء في الحديث- لايسأل عن هذه الأرزاق!
أمّا السّر من اطلاق كلمة (الرزاق) على الباري تعالى، ثم (ذو القوة المتين) فهو لأنّ كلمة (الرزّاق) صيغة من صيغ المبالغة، وترمز إلى أنواع الأرزاق التي يهبها اللَّه المنان لجميع المرتزقين، لذا لا تليق هذه الكلمة إلّابشأنه، بل وكما أشرنا سابقاً من أنّ سواه لايُمكن أن يكون (رازقاً) ناهيك عن أن يكون رزّاقاً.
لأنّ اولئك لايملكون شيئاً ليمنحوه للغير، بل يمكنهم أن يكونوا واسطةً لإيصال الأرزاق إلى الآخرين.
وكلمةُ (متين) تعني المحكم، وأخذت من مادّة (مَتْن) التي هي في الأصل تعني العضلتين
__________________________________________________
(1) واليك نماذج من تلك الاحاديث:
أ) عن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام فدعا بالغداء فأكلت منه طعاماً ما اكلت طعاماً قط اطيب منه ولا الطف فلما فرغنا من الطعام قال: ياابا خالد كيف رأيت طعامك او قال طعامنا؟ قلت: جعلت فداك ما اكلت طعاماً أطيب منه قط ولا أنظف ولكن ذكرت الآية في كتاب اللَّه عزّ وجل «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ» فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّما يسئلكم عمّا أنتم عليه من الحق».
ب) عن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام أنّه قال: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» واللَّه ماهو الطعام والشراب ولكن ولايتنا أهل البيت.
تفسير البرهان، ج 4، ص 502، ح 4، 5، 6، 7، 8، 9، 11، 12، 13.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 238
القويتين الموجودتين على جانبي العمود الفقري اللتين تقويّان ظَهر الإنسان وتجعلانه مستعداً لممارسة الأعمال الثقيلة، لذا فقد وردت
بمعنى منتهى القدرة والقوّة.
ووصفُ الباري بهاتين الصفتين يرمز إلى قدرته التامّة على إيصال الرزق إلى عباده أينما وحيثما كانوا، ولا يحتاج إلى شي ء.
إنّ التمعُّن في هذه الصفات الإلهيّة الخاصّة يمنح المؤمنين السكينة، ويُغنيهم عن السير في الطرق المحّرمة لتحصيل أرزاقهم، بل يحثهم على طلب الرزق الحلال، إيماناً بلطفه سبحانه.
كلمة (كريم) مأخوذة من مادّة (كَرَم) والتي تعني: الشرف والقيمة الذاتية أو الأخلاقية- حسب رأي مقاييس اللغة- لذا يطلق على الغيوم الممطرة (كريمة) وعلى الأرض المنتجة الخصبة (مكرمة).
ويقول الراغب أيضاً: إذا كانت كلمة (كرم) صفة للإنسان فإنّها تعني الأخلاق والأفعال الحميدة التي تبدر منه، وإذا كانت صفة للَّه فإنّها تعني الإحسان والإنعام العلني الواضح.
وللمفسّرين تعابير مختلفة حول تفسير كلمة (كريم) عندما تأتي كصفة للَّه سبحانه وتعالى.
فقد قال جماعة: إنّ كلمة (كريم) تعني الواهب الذي لايفعل إلّاالإحسان، ولا يقصد من وراء ذلك الحصول على أي ربح.
وقال جماعة آخرون: (الكريم) هو من يقبل القليل ويجزي إزاءه بالكثير.
وقال بعضهم: (الكريم) هو الذي لا ينفذُ عطائه أبداً.
وقال آخرون أيضاً: (الكريم) هو من يعطي مايجب عليه وما لا يجب.
ولا يوجد دليل خاص حول ترجيح أيّ من هذه التفاسير، ولكن بما أنّ كرم اللَّه أكملُ أنواع الكرم، فإنّه يشتمل على جميع هذه المفاهيم وغيرها.
ويجدُر الإنتباه إلى هذه المسألة أيضاً وهي أنّ هذه الكلمة قد وردت في القرآن الكريم على عدّة وجوه، فأحياناً كصفة للرزق مثل: «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ». (الأنفال/ 4)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 239
وأحيانا كصفة للملائكة مثل: «مَلَكٌ كَرِيمٌ». (يوسف/ 31)
وأحياناً كصفة للعرش مثل «رَبُّ العَرشِ الكَرِيمِ». (المؤمنون/ 116)
وأحياناً كصفة للقرآن مثل: «إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ». (الواقعة/ 77)
ولكل واحدة من هذه الأمور نوع من (الكرامة) والقيمة السامية.
واشتقت كلمة (حميد) من مادّة (حمد) وتعني الثناء، وبعكسها الذم
والتوبيخ، لذا (فالحميد) هنا يأتي بمعنى (المحمود)، ويرمز إلى استحقاق اللَّه لكل أنواع الثناء، الثناء على ذاته المقدّسة المنقطعة النظير، الثناء على صفاته وأسمائه، الثناء على أفعاله وأعماله الحميدة، وبالنهاية الثناء على كل تلك المواهب والأرزاق المادية والمعنوية المتنوعة التي وهبها لجميع عباده.
قال المرحوم الكفعمي في مصباحه: (الحميد) هو من يستحق الثناء على أفعاله في السراء والضرّاء والأفراح والأحزان «1».
وقال ابن الأثير في النهاية: (الحميد) كصفة من صفات الخالق تعني المستحق للحمد والثناء في جميع الأحوال وأضاف قائلًا:
مفهوما (الحمد) و (الشكر) متقاربان من بعضهما، ولو أنّ الحمد أكثر عموماً، لأنّ الحمد يشمل كُلًّا من الصفات الذاتية والعطايا والمواهب، في حين أنّ الشكر يشمل المواهب والعطايا فقط لا الصفات.
وعلى أيّة حال، فإنّ تعبير (الحمد) كما قلنا: ذو مفهومٍ واسعٍ يشمل الثناء على كل من الذات والصفات والأفعال.
ويجدر الإنتباه إلى أنّ كلمة (حميد) قد تكررت في ستة عشر موضعاً من القرآن، وغالباً مارافقتها صفة (الغني) أو (العزيز)، ولعل السبب في ذلك هو كون الأثرياء والأقوياء يقودهم غرورهم في الغالب إلى ممارسة الأفعال غير المتّزنة والذميمة التي هي محل للمذمّة والتوبيخ، أمّا اللَّه سبحانه ففي نفس الوقت الذي نجده غنيّاً وعزيزاً، لا يصدر منه سوى
__________________________________________________
(1) مصباح الكفعمي، ص 327.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 240
الأفعال المحمودة، ولا يوجد من بين صفات جماله وكماله أي صفةٍ ذميمة، إذن فهو (حميد) من كل ناحية ويستحق الثناء.
وجاءت كلمة (الفتاح) من مادّة (فتح)، كما قال الراغب في المفردات وابن فارس في مقاييس اللغة: إنّها تعني بالأصل فتح كلِّ مغلقٍ سواء فتح بابٍ أم حل مشاكل اخرى.
لذلك يُطلق مصطلح (الفتح) على النصر، لأنّه يحل مشكلة الحرب، ويُطلق على الحكم أيضاً، لأنّه يحل
النزاع.
ولهذا التعبير معنىً واسعٌ جدّاً عندما يُعبَّر به عن الخالق جلَّ وعلا، فهو يشمل كل من فتح الأبواب المسدودة، وحل جميع معضلات العباد المعنويّة والماديّة، والحكم بالحق، والحكم الفصل.
قال المرحوم الكفعمي في مصباحه: (الفتّاح) معناه الحاكم بين عباده، وفتح الحاكم بين خصمين إذا قضى بينهما، وأيضاً، الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، وهو الذي بعنايته ينفتح كل مغلق «1».
والأثر التربوي الناجم عن التمعُّن بهذه الصفة الإلهيّة واضحٌ جدّاً، فمن يعتقد بأنّ اللَّه وحده هو الحاكم، ويعتقد بأنّ حل المشاكل وفتح الأبواب المغلقة يسير عليه سبحانه، لا يهاب حجم المشاكل وصعوبتها أبداً، ولا تتراكم على قلبه ذرات غبار اليأس والقنوط، ولا يكف عن الجدّ والإجتهاد المصحوبين بالإيمان بالنصر بلطفه سبحانه.
و يجدر الانتباه إلى أنّ كلمة (الفتّاح) لم تتكرر أكثر من مرّة في القرآن وقد رافقتها صفة (العليم) وهذا يوضح صلتها بصفة (الفتّاح)، وذلك لأنّ حل المشاكل وفتح عُقَد المعضلات يحتاج إلى علم وفير، فالعليم بكل شي ء هو الذي يستطيع حل جميع المشاكل، وإذا ماأردت- أيّها الإنسان- أن تحل مشكلة في حياتك أو حياة الآخرين فعليك أن تحيط بها علماً بالمستوى المطلوب!
ولعل وصف الباري بصفة (خير الفاتحين)، في الآية الشريفة عن لسان قوم شُعيب: «رَبَّنَا
__________________________________________________
(1) مصباح الكفعمي، ص 321.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 241
افتَحْ بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيرُ الفَاتحينَ». (الأعراف/ 89)
يعود إلى التأكيد على هذا المفهوم أيضاً، لأنّ الفاتحين الجهلاء لا يمكنهم دائماً أداء أفعالهم بشكل لائق، لذا فخير الفاتحين هو الفتّاح العليم بكل شي ء وفي جميع الأحوال.
تُعد صفتا (الرحمن) و (الرحيم) من جملة صفات الفعل الإلهيّة التي ترد على الألسن دائماً، وتتكرر بأستمرار في كل صلاة، وبداية السور القرآنية، بل وفي بداية
كل عمل فهي تُنبيُ عن لطف الباري ورحمته اللامحدودة تجاه عباده، بل تجاه جميع الموجودات وهي رمز كونه أرحم الراحمين.
ومن مستلزمات هذا المفهوم ودُّهُ ومحبته ولطفه وعنايته ورأفته، وقد تكررت هذه الصفات السبع كثيراً في الآيات القرآنية، فلنتأمل خاشعين في نماذج منها:
1- «قُلِ ادْعُوااللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحمنَ أَيّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى «1».
(الإسراء/ 110)
2- «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُم رَحِيماً». «2»
(النساء/ 29)
3- «وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ». «3»
(الأعراف/ 151)
4- «وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ». (البروج/ 14)
__________________________________________________
(1) تكررت كلمة «رحمن» في 56 موضعاً من القرآن- عدا البسملة- مما يدل على اهتمام القرآن البليغ بهذه الصفة.
(2) تكررت كلمة «رحيم» في 114 موضعاً من القرآن- عدا البسملة- مما يحكي أيضاً عن اهميتها البليغة.
(3) وردت كلمة الراحمين أربع مرّات في القرآن الكريم، أحياناً بنحو الخطاب كما ورد في الآية أعلاه، وأحياناً كضمير غائب مثل «وهو أرحم الراحمين». (يوسف/ 64/ 92).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 242
5- «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ». «1»
(البقرة/ 143)
6- «... وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ». «2»
(الأنعام/ 103)
7- «... إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا». «3»
(مريم/ 47)
بحثنا مفهوم كلمتي (الرحمن) و (الرحيم) في المجلّد الأول من هذا التفسير بصورة مفصّلة، ولا حاجة إلى التكرار، ونكتفي هنا بالقول: إنّ كلتيهما مأخوذتان من مادّة (الرحمة).
ومعروف بين العلماء أنّ صفة (الرحمن) ترمز إلى الرحمة الإلهيّة العامّة التي تشمل الموالي والمعادي، والمؤمن والكافر، والمحسن والمسي، (كأنواع النعم والمواهب الإلهيّة العامّة التي ينتفع منها جميع العباد).
و (الرحيم): ترمز إلى (الرحمة الخاصّة) الإلهيّة التي خص بها عباده المؤمنين وجعلها من نصيب المحسنين والمتقين.
وأمّا عبارة (أرحم الراحمين) فإنّها استُعملت كصفة من الصفات الإلهيّة، لأنّ شعاعاً من رحمته قد دخل في قلوب عباده
أيضاً، فالوالدان رحيمان وعطوفان على وِلدهما، والكثير من الناس يكنّون في قلوبهم الرحمة والمحبة تجاه أصدقائهم وأحبائهم، إلّاأنّ هؤلاء جميعهم يمثّلون شعاعاً ضعيفاً من رحمة اللَّه، بل في الحقيقة إنّ جميع هذه الرحمات مجازيّة، ورحمة اللَّه هي الرحمة الحقيقيّة، لأنّ ذاته المقدّسة غنيّة عن كُلّ شي ء، في حين أنّ المحبّة والرحمة الموجودة فيما بين الناس غالباً ماتنبع من تأثيرهم في مصير بعضهم وحاجتهم إلى بعضهم.
__________________________________________________
(1) وردت كلمة «رؤوف» في أربعة عشر موضعاً من القرآن مصحوبة في أغلبها بصفة الرحمة كما هو الحال في الآية المذكورة أعلاه، وأحياناً في عبارة (رؤوف بالعباد).
(2) وردت كلمة «لطيف» في سبعة مواضع من القرآن استُعملت في جميعها كصفة للَّه سبحانه.
(3) وردت كلمة «حفي» في موضعين فقط من القرآن وفي واحدٍ منهما فقط كصفة للَّه سبحانه وتعالى (وهو الآية أعلاه).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 243
علاوةً على هذا، فإنّ رحمة غيره محدودة في أُطرٍ خاصّة، إلّارحمته فهي غير محدودة من كل ناحية.
يُستنتج بشكلٍ إجماليٍّ من موارد استعمال هذه الصفة التي وردت في أربع آيات قرآنية، أنّها استعملت في الحالات التي وصلت بها المشكلة حدّها الأقصى، فقد وردت هذه الصفة في قصة النبي أيوبَ عليه السلام بعد تحمُّله كل تلك الخطوب المنهكة، وفي قصّة يوسف عليه السلام عندما كان أخوته بمنتهى القسوة «قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيهِ إِلّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ». (يوسف/ 64)
أو بعد معرفتهم أخاهم يوسف إذ خجلوا وندموا كثيراً على مافعلوا «قَالَ لَاتَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ». (يوسف/ 92)
و ما ورد في قصة موسى عليه السلام عندما رجع إلى قومه ورآهم يعبدون العجل وعاتبَ أخاه هارون «قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وأَدْخِلْنَافِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحمُ الرَّاحِمِينَ».
(الأعراف/ 151)
ومن هنا يتضح لزوم الإعتصام بهذه الصفة الإلهيّة الملهمة للأمل والرجاء، في الظروف العصيبة، والأحداث المعقدّة جدّاً والأليمة، والتفيؤ بظل رحمته، علاوةً على لزوم السعي لكي نكون مظهراً لهذه الصفة الإلهيّة وبعث شعاع منها في وجودنا على الأقل.
لسعة رحمة اللَّه انعكاسات واسعة في الأحاديث الإسلامية، والنماذج التالية تحكي عن هذه الحقيقة:
1- في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «اللَّه رحيم بعباده، ومن رحمته أنّه خلق مائة رحمة واحدة في الخلق كلهم فبها يتراحم الناس، وترحم الوالدة ولدها .... فإذا كان يوم
نفحات القرآن، ج 4، ص: 244
القيامة أضاف هذه الرحمة الواحدة إلى تسع وتسعين رحمة فيرحم بها امة محمد صلى الله عليه و آله» «1»
.
2- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة نشر اللَّه تعالى رحمته حتى يطمع ابليس في رحمته» «2».
3- قيل لعلي بن الحسين عليه السلام يوماً أنّ الحسن البصري قال: ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنّما العجب ممن نجا كيف نجا فقال عليه السلام: «ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنّما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة اللَّه» «3».
إلهي لا يعزّ على كرمك اللامتناهي أن تشملنا بزاوية من رحمتك الواسعة هذه.
و كلمة (ودود) مشتقة من مادّة (وُدّ)- بضم الواو- التي هي في الأصل بمعنى حب الشي ء وتمنّي وجوده، لذا تستعمل في كلا المعنييْن (المحبة والتمنّي).
هذا ماورد في المفردات ومقاييس اللغة، لكن لسان العرب ذكرها بمعنى المحبّة فقط، في حين أنّ موارد استعمالها في القرآن الكريم تدل بوضوح على أنّها استُعملت في معنى التمنّي والمحبّة أيضاً.
وعلى أيّة حال فإنّ هذه
الكلمة صيغة من صيغ المبالغة وتعني الشخص الكثير المحبة، واللطيف أنّ هذه الصفة قد وردت في القرآن الكريم مصحوبةً بصفة الغفور مرّة، وبصفة الرحيم مرّة اخرى، وكلاهما تتأكدان بصفة (الودود).
يقول المرحوم الكفعمي في مصباحه: عندما تستعمل كلمة (ودود) كصفة من الصفات الإلهيّة، فإنّها تعني من يحب عباده فيرضى عنهم ويتقبل أعمالهم ... أو بمعنى مَنْ يلقي حب عبده في قلوب الآخرين حيث قال: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» «4»
. (مريم/ 96)
__________________________________________________
(1) مستدرك سفينة النجاة نمازي شاهرودي، ج 4، ص 135.
(2) بحارالأنوار، ج 7، ص 287، (باب ما يظهر من رحمته تعالى في القيامة).
(3) سفينة البحار، ج 1 ص 517.
(4) مصباح الكفعمي، ص 325.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 245
«الودود»: (الودود) فعول بمعنى (مفعول) كما يقال: هيوب بمعنى مهيب، يراد به أنّه مودود ومحبوب، ويقال: بل فعول بمعنى فاعل كقولك: غفور بمعنى غافر، أيّ يود عباده الصالحين ويحبهم، والود والوداد مصدره المودة، وفلان ودّك ووديدك أيّ حبّك وحبيبك «1».
واحتمل بعض أرباب اللغة كذلك أنّ كلمة (ودود) هنا تُعطي مفهوم اسم المفعول، وترمز إلى محبوبيّة اللَّه من قبل عباده المؤمنين «2».
لكننا نعتقد بأنّ المعنيين الثاني والثالث ضعيفان، ويظهر من موارد استعمال هذه الكلمة أنّ معناها الدقيق هو (المحبّة والتمني) الذي ذكرناه.
ومن البديهي اختلاف مفهوم المحبّة الإلهيّة مع مفهوم المحبة الإنسانية، فالمحبّة في الإنسان نوعٌ من التوجّه القلبي والرغبة الروحية، في حين أنّ اللَّه ليس له قلبٌ ولا روح، لهذا فإنّ محبته لعباده تأتي بمعنى فعله لما يُسبب خير البشر وسعادتهم، وتدل على لطفه وعنايته.
ويظهر أنّ السبب في تفسير البعض كلمة (ودود) كإسم مفعول هو أنّهم لاحظوا بأنّ المحبّة بمعنى
اسم الفاعل لا تليق بشأن الباري، لأنّها من عوارض الموجودات الإمكانية.
لكنها عندما تختصّ بالباري تعالى فانّما يُقصد منها آثارها الخارجيّة، وليس هذا هو المكان الوحيد الذي يستوجب هذا المعنى والتفسير، بل هنالك الكثير من الصفات والأفعال الإلهيّة من هذا القبيل بالضبط، كقولنا: إنّ اللَّه يغضب على المذنبين، أي يتصرف معهم تصرُّف الغضبان، وإلّا فالغضب الذي يُعطي معنى الهياج والاضطراب في نفس الإنسان لا يصدق أن يكون في الباري تعالى أبداً.
وعلى أيّة حال فإنّ الإيمان بهذه الصفة الإلهيّة له أثره التربوي العميق (كما هو الحال في بقية الصفات)، لأنّ محبّة اللَّه لعباده تؤدّي إلى إيجاد محبة العباد له، فالمحبّة الحقيقيّة لا تكون من طرفٍ واحد أبداً.
وعندما تدخل محبته في قلوب عباده ويعشقونه سيسيرون باتجاه رضاه، لأنّ العاشق يخطو وفق ما يرتضيه معشوقه دائماً.
__________________________________________________
(1) توحيد الصدوق، ص 214.
(2) مجمع البحرين، مادّة (ود)؛ توحيد الصدوق، ص 214.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 246
وجاءت كلمة (رؤوف) من مادّة (رأفة) وتعني (الرحمة)- حسب قول الراغب الإصفهاني- والجدير بالذكر أنّ تسعة حالات من الإحدى عشرة حالة التي وردت فيها هذه الصفة الإلهيّة في القرآن الكريم رافقتها صفة (الرحيم) «1»
، لذا فإنّ صِفَتيْ (رحيم) و (رؤوف) توكّدان مفهوم بعضهما البعض.
وهنالك جدال بين المفسّرين والمتكلّمين حول الاختلاف الموجود بين صفتي (رؤوف) و (رحيم)؟ فاعتقد البعض منهم بأنهما تعطيان مفهوماً واحداً، وعليه فإنّ ذكرهما إلى جنب بعضهما ذو صبغة تأكيد على الرحمة الإلهيّة اللامتناهية.
في حين وضَعَ البعضُ الآخر- كابن الأثير في نهايته- فرقاً بينهما، وهو: إنّ الرأفة مرحلة أدقّ وأسمى من الرحمة، ولا تستعمل أبداً في المسائل الرديئة، لكن الرحمة تستعمل في المسائل المكروهة التي توجد من ورائها مصلحة معينة (فقد يُمكن أن
يُقال: إنّ الرحمة التي يحملها فلان دفعت به إلى قطع إصبعه المتعفّن وقايةً من سريان العفونة إلى بقية أعضاء بدنه، لكنه لا يصح استعمال تعبير «الرأفة» هنا) «2».
يقول المرحوم الكفعمي في مصباحه حول تفسير هذه الكلمة: (قال البعض: إنّ الرأفة مرحلة أسمى من الرحمة، في حين اعتقد البعض الآخر بأنّ دائرتها أكثر محدوديّة من دائرة الرحمة).
يقول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في ذيل الآية 128 من سورة التوبة: يعتقد البعض بأنّ صفتي (رؤوف) و (رحيم) لهما مفهوم واحد، ماعدا كون الرأفة مرحلة أقوى من الرحمة، في حين قال جماعة آخرون: (تستعمل كلمة (رؤوف) في المطيعين و (رحيم) في المذنبين، ثم نقل عن بعض العلماء السالفين قولهم إنّ اللَّه لم يجمع بين هاتين الصفتين بحقِ أيٍّ من أنبيائه، لكنّه فعل ذلك كرامةً لنبيِّ الإسلام محمد صلى الله عليه و آله حيث وصفه في هذه الآية: «بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»، وكذلك وصف ذاته جلّ وعلا حيث قال: «إِنَّ اللَّه بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ». «3»
(البقرة/ 143)
__________________________________________________
(1) البقرة، 143؛ التوبة، 117؛ التوبة، 128؛ النحل، 7 و 47؛ الحج، 65؛ النور، 20؛ الحديد، 9؛ الحشر، 10.
(2) نهاية ابن الأثير، مادّة (رأف)، ونفس هذه المادّة في (لسان العرب) و (مجمع البحرين).
(3) تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 86.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 247
قال الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية: «بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ». (التوبة/ 128)
قيل: هما واحد، والرأفة شدّة الرحمة، وقيل: رؤوف بالمطيعين منهم، رحيم بالمذنبين، وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بأوليائه، رؤوف لمن رآه، رحيم بمن لم يره، وقال بعض السلف: لم يجمع اللَّه سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من اسمائه إلّاالنبي صلى الله عليه و آله فإنّه قال:
بالمؤمنين
رؤوف رحيم.
وكذلك نلاحظ هنا ما لهذه الصفة الإلهيّة من الأثر التربوي والبلاغ الخاص في قلوب المؤمنين، لأننا نرى بأنّ اللَّه رؤوف رحيم، ورسوله صلى الله عليه و آله رؤوف رحيم أيضاً، لذا يجب أن يكون شيعتهم ومحبّوهم رؤوفين رحماء أيضاً، وينعكس على وجودهم شعاعٌ من الرحمة الإلهيّة العامة والخاصة.
تكررت كلمة «لطيف» سبع مرّات في القرآن الكريم، وقد وردت كصفة من صفات اللَّه في جميع هذه الموارد وغالباً مااقترنت بصفة (خبير) «1»
. ووردت لوحدها في موضعين فقط «2».
وعلى أيّة حال فإنّ هذه الكلمة مشتقة من مادّة (لطف)، وتعني: العمل الظريف والدقيق والمحبّة والحنان، وتُطلق أيضاً على كلّ من الموجودات الصغيرة اللينّة، والحركات الظريفة، والقيام بالأعمال الدقيقة، والأمور التي لاتدركها حواس الإنسان.
وعندما تختصّ هذه الصفة بالباري تعالى فإنّها تعطي معنى الرفق والمداراة الإلهيّة بينه وبين عباده، وتوفيقهم وحفظهم من المشاكل «3».
يقول ابن الأثير في تفسير هذه الكلمة: اللطيف من يجمع بين (الرفق في العمل) و (العلم بدقائق المنافع وإيصالها إلى أصحابها).
ويقول المرحوم الكفعمي رحمه الله في (المصباح): «إنّ دعوة الباري، في المشكلات، بهذه
__________________________________________________
(1) الأنعام، 103؛ الحج، 63؛ لقمان، 16؛ الملك، 14؛ الأحزاب، 34.
(2) يوسف، 100؛ الشورى، 19.
(3) مفردات الراغب الأصفهاني ولسان العرب، مادّة (لطف).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 248
الصفة له أثر عميق في رفع وإزالة المنغّصات» «1».
وقد فسّر المرحوم العلّامة الصدوق رحمه الله، في كتاب التوحيد، هذه الصفة الإلهيّة كمايلي:
«إنّه لطيفٌ بعباده، يُحسنُ إليهم، ويُنعم عليهم، ثم أضاف قائلًا: اللطف هو نفس الإحسان والعزّة، ثم ذكر الحديث الشهير الذي يقول: «إنّ معنى اللطيف إنّه هو الخالق للخلقِ اللطيف» كما أنّه سمي) «العظيم لأنّه الخالق للخلق العظيم».
ومن الممكن الجمع بين كل هذه المعاني
في مفهوم كلمة (لطيف) الواسع.
أمّا السّر من اقتران صفة (اللطيف) ب (الخبير) في أغلب الآيات القرآنية فهو أنّ صفة (الخبير)- طبقاً لما قاله بعض المحققين تشير إلى الإطلاع العميق والعلم والإحاطة الدقيقة بالحقائق، ممّا يتناسب مع مفهوم صفة (اللطيف).
إنّ البلاغ والأثر التربوي الذي يتركه الإيمان بهذه الصفة واضح جدّاً لأنّه يؤمل الإنسان بالألطاف الإلهيّة الخفيّة والجليّة من جهة، ومن جهةٍ اخرى يحث بني البشر للتلطف والترحّم على بعضهم البعض، ومن جهة ثالثة يدفعهم إلى الاطلاع على مخلوقات اللَّه الظريفة جدّاً والتفكُّر فيها، ولكل واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة أثر بليغ في تربية الناس.
وكلمة (حفيّ) مشتقة من مادّة (حفاء) على وزن (سمَاء) ومن مادّة (حَفا) على وزن (جَفا) ولها عدّة معانٍ ذكرتها مصادر اللغة، من جملتها: سير الإنسان حافي القدمين، والإلحاح في السؤال، العلم والإطلاع على شي ء، الإلحاح في عمل الخير.
وقال جماعة أيضاً: إنّها تعطي معنى ترقق جلد القدم، وكعب الحذاء، وحافر الجواد، بسبب كثرة السير «2».
إلّا أنّه ليس مستبعداً أن يكون الأصل الحقيقي لكل هذه المعاني هو الالحاح في السير بشكل يصبح جلد القدم أو الحذاء رقيقاً أو مُستهلكاً، ثم استعملت في حالة الالحاح والمبالغة في كل شي ء من قبيل: الالحاح في السؤال عن شي ء ما بقصد الاطلاع، والالحاح في طلب علم الخير.
__________________________________________________
(1) مصباح الكفعمي، ص 322.
(2) مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ مقاييس اللغة؛ نهاية ابن الأثير؛ تاج العروس؛ وكتاب العين.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 249
ووردت هذه الكلمة في القرآن في ثلاثة موارد، الأول في مورد الإلحاح في السؤال، كما في قوله تعالى «إِن يَسْأَلكُمُوهَا فَيُحفِكُم تَبخَلُوا»!. (محمد/ 37)
وفي مورد العلم والمعرفة كما في قوله تعالى «يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا».
(الأعراف/ 187)
وفي مورد الإلحاح
في عمل الخير كما في الآية: «سَلَامٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا». (مريم/ 47)
وعلى أيّة حال فعندما تختصّ هذه الكلمة بالباري تعالى فإنّها يُمكن أن تعطى معنى العالم والخبير، وفي هذه الحالة تكون من صفات الذات وليس الفعل، وربّما تأتي بمعنى منتهى الإحسان والمحبّة أيضاً، فتُعد في هذه الحالة من صفات الفعل الإلهي.
وبالمناسبة فانّها وردت في القرآن كصفة مرّة واحدة فقط، وبمعنى منتهى الإحسان والمحبّة والتي وردت في قصة إبراهيم وعمّه التي ذكرناها سابقاً.
ويتضح البلاغ التربوي الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة في طياتها، بقرينة ما ذكرناه في الصفات المشابهة لها، وذلك لأنّها تحيي بصيص الأمل في قلوب العباد وتقربهم نحوه- سبحانه- من جهة، ومن جهة اخرى تعطي درساً في الإحسان والمحبّة والحنان.
يُعد الغفران والرحمة الإلهيّة وعفو الباري عن المذنبين وقبول توبتهم، أصول مجموعة من صفات فعل اللَّه التي أوردنا ستة نماذج منها أعلاه.
وقد وردت هذه الصفات الإلهيّة في آيات قرآنية عديدة سنطلع عليها بعد أن نتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوبِ». «1»
(غافر/ 3)
__________________________________________________
(1) وردت هذه الصفة في آية واحدة من القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 250
2- «إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَّحِيمٌ». «1»
(البقرة/ 173)
3- «... أَلَا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ». «2»
(الزمر/ 5)
4- «... إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ». «3»
(الحج/ 60)
5- «... إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». «4»
(البقرة/ 37)
6- «... المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ». «5»
(الحشر/ 23)
اشتقت كلمة (غافر) و (غفور) و (غفّار) من مادّة (غَفْر) وهي بالأصل تعني (التغطية)، و بخاصية تغطية الشي ء عن التلوُّث، وكلمة (غفير) تعني الذائبة أو الظفيرة الطويلة التي تغطّي الرقبة، و (مغفر) تعني الخوذة التي تستعمل لتغطية الرأس في القتال.
وهذه الكلمة عندما تختصّ باللَّه سبحانه فإنّها تعني المغفرة وستر الذنب، ولكن (غافر) اسم فاعل، و (غفور) و (غفّار) من صيغ المبالغة.
وقال جماعة: عندما تستعمل كلمة (غفور) كصفة من الصفات الإلهيّة فإنّها تعني الساتر على عباده بغطاء رحمته، وقد ورد هذا التعبير أيضاً في كلام بعض العلماء وهو: أُطلقت صفة (غفار) على اللَّه لأنّه يستر ذنوب عباده بمغفرته متى ما أذنب العبد ورجع إليه بالتوبة «6».
وكلمة (عفوّ) مشتقّة من مادّة (عَفْو) وكما قال ابن منظور في (لسان العرب) وابن أثير في
__________________________________________________
(1) تكررت صفة «غفور» في القرآن 91 مرّة، واقترنت بصفة «رحيم» في أغلب الموارد كما في الآية أعلاه.
(2) وردت صفة «غفار» في القرآن أربع مرّاتٍ فقط، اقترنت في ثلاثٍ منها بصفة «عزيز» كما
في الآية المذكورة أعلاه (ص، 66؛ الزمر، 5؛ غافر، 42) ووردت لوحدها في موضعين فقط (طه، 82؛ نوح، 10).
(3) وردت هذه الصفة في القرآن خمس مرّات اقترنت في أربعٍ منها بصفة غفور (الحج- 60، المجادلة، 2؛ النساء، 43 و 99)، وفي واحدٍ منها فقط بصفة (قدير) (النساء، 149).
(4) استعملت كلمة «تواب» في القرآن الكريم في أحد عشر مرّةً كصفة من صفات اللَّه واقترنت جميعها بصفة (رحيم) عدا موردين منها وفي موردٍ بصفة (حكيم) (النور، 10)، ولوحدها في موردٍ واحدٍ فقط (النصر، 3).
(5) وردت كلمة «متكبّر» في القرآن ثمان مرّات، وكصفة من صفات الباري في موضعٍ واحدٍ فقط.
(6) مصباح الكفعمي ص 320؛ توحيد الصدوق ص 208؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب؛ مقاييس اللغة، مادّة (غفر).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 251
(النهاية): هي بالأصل تعني المحو، لكن الراغب في مفرداته اعتقد بأنّ هذا المعنى ليس أصل الكلمة، بل أصلها الأساسي هو (القصد لأخذ الشي ء)، لذا تُطلق على الرياح العاصفة التي تسبب الدمار أو الذهاب بالأشياء المختلفة، وإن أُطلقت (عفوّ) على (المَحو) فلأنّه نوعٌ من القصد لأخذ شي ء معين.
وأُطلقت كلمة (عفوّ) على نمو النبات لأنّه يشق التراب ويظهر.
وقد ذُكر في مقاييس اللغة اصلان لهذه الكلمة هما: ترك الشي ء أو طلبه، ثم أرجع بقية المعاني إلى هذين المفهومين، ومن جملتها (العفو) بمعنى المحو والإبادة، و (العفاء) بمعنى التراب المتروك.
وعلى أيّة حال عندما تستعمل هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى فإنّها تُعطي معنى غفران الذنوب، ومحو آثار المعصية، وترك المعاقبة عليها، لكن بما أنّ (عفوّ) صيغة مبالغة فإنّها تعني (كثير العفو) «1»
.
وسبب التأكيد على هذه الصفة الإلهيّة هو أنّه تعالى لولا عفوه لما نجا أحدٌ من تبعات الذنوب،
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «اللهم احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك» «2».
وفي وصيةٍ له عليه السلام لمالك الأشتر: «ولا غنى بك عن عفوه ورحمته» «3»
.
إنّ عفو اللَّه من السعة بحيث لا يحدّه شي ء، والشي ء الوحيد الذي استثناه القرآن منه هو الشرك، لذا فقد ورد حديث عن الإمام الحسن العسكري أنّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه ليعفو يوم القيامةِ عفواً يُحيط على العباد حتى يقول أهل الشرك واللَّه ربّنا ماكُنّا مشركين» «4».
ومن جهةٍ اخرى فإنّه تعالى يلقّن عباده درس العفو والصفح، ويوصيهم بالعفو عن بعضهم مهما أمكنهم، راجين بذلك من اللَّه أن يعفو عن ذنوبهم.
__________________________________________________
(1) «عُفوّ» على وزن «فعول» أُدغم واواْها.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 227.
(3) المصدر السابق، الكتاب 53.
(4) بحار الأنوار، ج 6، ص 6، ح 12، الباب 19 عفو اللَّه.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 252
وقد ورد في حديثٍ نبوي تعبيرٌ عجيب يبيّن أهميّة العفو، قال صلى الله عليه و آله: «إنّه يُنادي منادٍ يوم القيامة من كان له على اللَّه أجرٌ فليقم، فلا يقوم إلّاالعافون، ألم تسمعوا قوله تعالى «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»» «1». (الشورى 40)
طبعاً أنّ العفو ليس مسألة أخلاقية فقط، بل هو مسألة اجتماعية مهمّة، لأنّه لو بُني مجتمع معين على أساس الإنتقام وسفك الدماء لحل الجدال والنزاع الذي يحدث بينهم ولما عُرف طعمٌ للعزّة والسكينة أبداً، لذا فقد ورد في حديثٍ نبويّ، أنّه صلى الله عليه و آله قال: «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّاعزّاً» «2»
.
و اصطلاح (توّاب) هي صيغة مبالغةٍ مشتقة من مادّة (توبة) و (التوبة)- حسب رأي مقاييس اللغة- تعني (العودة والرجوع)، وتستعمل عادةً في مجال (الرجوع عن الذنب)،
كما ورد ذلك في لسان العرب.
لكن للراغب الإصفهاني تعبير آخر في المفردات حول تفسير هذه الكلمة، وهو: (التوبة) ترك الذنب بأفضل وجهٍ ممكن، وقسّم الإعتذار ثلاثة أقسام:
الأول: هو أن يقول أحد: (إنني لم أرتكب هذا الذنب أبداً)، الثاني: أن يقول: (قد فعلت ذلك ولكنْ بدليل كذا وكذا أي يُبرر فعلته)، والثالث: أن يقول: (فعلت وأسأت ولن أفعل هذا فيما بعد) فمعنى التوبة هذا (أي الوجه الثالث) ولا رابع لها.
وعلى أيّة حال، فعندما تختصّ هذه الصفة باللَّه تعالى فإنّها تعني إمّا قبول توبة العباد، أو توفيقهم إلى التوبة، كما قال المرحوم الكفعمي في مصباحه.
والجدير بالإنتباه أنّ كلمة (توبة) في القرآن الكريم عندما تُنسب إلى العباد تتعدّى بحرف (إلى) مثل: «تُوبُوا إِلَى اللَّهِ». (التحريم/ 8)
وعندما تُنسب إلى اللَّه تتعدى عادة بحرف الجر (على).
وهذا التفاوت في التعبير يشير ظاهراً إلى نقطة لطيفة وهي: أنّ التوبة على أيّة حال تعني
__________________________________________________
(1) سفينة البحار، ج 2، ص 208.
(2) اصول الكافي، ج 2، ص 108، باب العفو، ح 5.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 253
الرجوع من الذنب، ولكن رجوع العباد من الذنب يتحقق بترك الذنب والإعتذار، أمّا رجوع اللَّه فيتحقق بإرجاعه لهم اللطف والرحمة اللتين منعهما عنهم بسبب اقترافهم ذلك الذنب المعيّن، ولأنّ الرجوع هنايخص مقاماً عالياً وسامياً عُبّر عنه بكلمة (على) التي تستعمل في موارد العلو عادةً.
وذكر هذه الصفة (توّاب) بشكل صيغة مبالغة يشير أيضاً إلى هذه النقطة وهي: لو أذنب العبد وتاب مرّة أو مرّات، ثم تراجع عن توبته فلا ييأس من عفو اللَّه ورحمته لأنّه تعالى توّاب أي (كثير التوبة).
والأثر التربوي للتوبة غير خافٍ على أحد، لأنّه لو كانت أبواب التوبة مغلقة في وجه العباد لكفى ذنب
واحد لإقناطهم من اللطف الإلهي، والرمي بهم في دوّامة ذنوبٍ أكبر، أمّا عندما يُشاهدون هذا الباب مفتوحاً أمامهم، وبحر الرحمة الإلهيّة واسعاً (بحكم كونه تعالى توّاباً)، فسيندفعون إلى الرجوع من ذنوبهم وإصلاح وجبران ماصدر منهم، ويُعَدُّ هذا بحد ذاته سُلَّماً للتكامل الإنساني.
ومن جهةٍ اخرى فانّها تعطي الناس هذا الدرس وهو أن لا يتشددوا تجاه أخطاء أصحابهم، ويفتحوا أمامهم طريق العودة والإصلاح، ويعطوا لغيرهم مايؤملونه من ربّهم، أي العفو.
والتعابير الواردة في الروايات الإسلاميّة بصدد التوبة من الظرافة والجمال بحيث تجذب الإنسان إلى مثل هذا الخالق التوّاب، وتوقدُ في قلبه جذوةَ العشق الإلهي.
ورد في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تعالى أشدُّ فرحاً بتوبة عبده مِنْ رجُلٍ أضَلَّ راحلَتَهُ وزادَهُ في ليلةٍ ظلماءَ فَوجَدَها» «1».
وفي حديثٍ آخرَ عن النبي صلى الله عليه و آله وصف به التوبة بأنّها أحبُّ الأعمال إلى اللَّه تعالى حيث قال: «وليس شي ء أحبُّ إلى اللَّه من مؤمنٍ تائبٍ أو مؤمنةٍ تائبة» «2».
__________________________________________________
(1) أصول الكافي، ج 2، ص 435 باب التوبة، ح 8.
(2) مستدرك الكلام البحار، ج 6، ص 21، باب التوبة وأنواعها، ح 15.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 254
واشتقت كلمة «جبّار» من مادّة (جبر) ومعناها الأصلي- كما قال الراغب-: إصلاح الشي ء بضرب من القهر، ولهذا فقد تستعمل هذه الكلمة أحياناً بمعنى الإصلاح، كقول الذي يُصلح العظم: «جبرتُ العظم»، وورد في الدعاء المأثور: «ياجابرالعظم الكسير».
وأحياناً تستعمل بمعنى القهر والغلبة، وكما قال صاحب مقاييس اللغة: هو جنس من العظمة والعلو والاستقامة، يقال: نخلة جبّاره للتي طالت وخرجت عن متناول اليد.
«الجَبْر»: يعني إرغام الشخص على فعلٍ معينٍ، وهي مأخوذة أيضاً من أصل القهر والغلبة.
وعلى أيّة حال، فعندما تُستعمل
كلمة (جبّار) بخصوص الباري سبحانه فإنّها تعني- كما قال المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد: «القاهر الذي لا يُنال، وله التجبر والجبروت أيّ التعظّم والعظمة» «1»، أو يعني الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق. كما ذكر ذلك المرحوم الكفعمي في «مصباحه» ضمن ذكره لمعانٍ اخرى «2».
وكذلك جابر الكسر، والقنوط، والندم الحاصل من اقتراف الذنوب.
قال المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان»: «لا يستحق أن يوصف به على هذا الاطلاق إلّا اللَّه تعالى فإن وصف به العباد فانّما يوضع اللفظ في غير موضعه ويكون ذماً (لأنّها تحكي عن حب الرئاسة والتكبُّر والظلم والفساد)».
إنّ هذه الصفة الإلهيّة ترشدنا من جهة إلى عظمة وعلو المقام الإلهي، ومن جهة اخرى إلى رحمته وعطفه وعنايته في جبر الكسر والحرمان والذنوب.
__________________________________________________
(1) توحيد الصدوق، ص 206.
(2) مصباح الكفعمي، ص 319.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 255
إنّ الصفات الخمس المذكورة أعلاه من صفات الفعل أيضاً، وهي مجموعة من الصفات المبينة لأنواع النّعَم والمواهب الإلهيّة، وحماية ودفاع الباري تعالى عن عباده، لهذا يُلاحظ وجود ترابُط وثيق فيمابينها، ولهذا السبب أوردناها هنا في مجموعة واحدة.
لنعود إلى القرآن الكريم ونمعن خاشعين في الآيات التالية:
1- «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ». «1»
(الشورى 23)
2- «فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ». «2»
(البقرة/ 158)
3- «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ». «3»
(الأنعام/ 51)
4- «وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ وَكِيْلٌ». «4»
(الأنعام/ 102)
5- «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ». «5»
(الزمر/ 36)
إنّ كلمتي (شاكر) و (شكور) مشتقتان من مادّة (شُكر) وهي تعني- كما جاءَ في (فروق اللغة)- الإعتراف بالنعمة من باب تعظيم المنعم، وقال صاحب (مصباح اللغة): الشكر هو الإعتراف بالنعمة واداء الطاعة وترك المعصية، لهذا فقد يحصل أحياناً باللسان وأحياناً اخرى بالعمل. وقال الراغب في مفرداته: إنَّ معناه الأصلي هو «تصوّر النعمة وإظهارها»، ويقابله (الكفر) و (الكفران): وهو نسيان النعمة وسَترُها، ويُطلق تعبير (الشكور) على الحيوان الذي يُطهِرُ آثار عناية واهتمام صاحبه من خلال السمنة، ثم قسّم الشكر إلى ثلاثة
__________________________________________________
(1) وردت كلمة «شكور» في تسعة مواضع من القرآن، أربعة منها كصفة للباري (فاطر، 30 و 34؛ الشورى 23؛ التغابن، 17).
(2) وردت كلمة «شاكر» في أربعة مواضع من القرآن، إثنان منها فقط كصفة للَّه سبحانه (البقرة، 158؛ النساء، 147).
(3) وردت كلمة «شفيع» في خمسة مواضع من القرآن، في ثلاثة منها فقط كصفة للباري سبحانه (الأنعام، 51 و 70؛ السجدة، 4).
(4) وردت كلمة «وكيل» في أربعة وعشرين موضعاً من القرآن، وفي بعض هذه المواضع فقط
كصفة للباري مثل: (آل عمران، 173؛ هود، 12؛ يوسف، 66؛ القصص، 28؛ النساء، 81 و 109؛ و ...).
(5) وردت كلمة «كافي» في موضعٍ واحدٍ فقط من القرآن الكريم وهو المذكور أعلاه.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 256
أقسام: الشكر القلبي، الشكر اللساني، والشكر العملي.
ولهذه الكلمة عدّة معان في حالة استعمالها في ما يخص الباري تعالى منها:
إنّه يتقبّل القليل من الطاعة ويعطي الكثير من الثواب، أو الذي يُعطي جزيل النعم ويرضى بما قلَ من الشّكْر. وهو في الحقيقة يعني المجازاة والمكافأة على العمل، ولكن ليس بمقدار العمل بل بمقدار لطف الخالق تعالى
واعتقد البعضُ كالمرحوم الكفعمي في «المصباح» والمرحوم الصدوق في «التوحيد» بأنّ كلمة (الشُّكر) عندما تُستعمل بخصوص الباري تعالى تكون ذات صفةٍ مجازيّة.
ولكن لو قلنا بأنّ معناها اللغوي هو ما ورد في كتاب (العين) أي (معرفة الإحسان)، لصدق استعمالها الحقيقي بالنسبة إلى الباري تعالى
إنّ الوحي الإلهي الذي بين لنا هذه الصفة الإلهيّة يدعونا من جهة إلى معرفة الحق تعالى الذي هو من العظمة بحيث يكافى ء بالثواب الجزيل على أقل الأعمال الحسنة، فيتشكر بهذه الطريقة من عباده، ومعرفة هذه الحقيقة من قبل العباد يُعد حافزاً مهماً باتجاه عمل البر و الخير، ومن جهة أُخرى تعلمنا كيفية رد جميل وإحسان الآخرين، وأن لا يقتصر الرد على مقابلة ما قدّمه الآخرون لنا بالمثل، بل يتعدى رد الجميل إلى مضاعفة الاحسان والبر.
وقد ورد في الدعاء المأثور عن الإمام الصادق عليه السلام: «يا مَنْ يشكُرُ اليسيَر ويعفو عَنِ الكثيرِ وهُوَ الغفورُ الرحيم، إغفرْ ليَ الذنوبَ التي ذهبتْ لذّتُها وبقيتْ تَبعتُها» «1».
كما ورد عنه عليه السلام أنّه كُتبَ في التوراة: «اشكرْ على مَنْ أنعَمَ عليك، وأَنْعِمْ على مَنْ شَكَرَكْ» «2».
اشتقت كلمة
(شفيع) من مادّة (شفع) على وزن نفع- التي هي في الأصل تعني ضم شي ءٍ إلى آخر للحصول على نتيجة مطلوبة، وفي مقابلها (وَتر). ويقال للشاة التي يرافقها وليدها في التنقُّل: (شافع)، ويُستعمل مصطلح حق الشفعة بخصوص شريكين باع أحدهما حصته
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 2، ص 589، باب الدعوات الموجزات، ح 28.
(2) سفينة البحار، ج 1، ص 711، مادة (شكر)؛ وأصول الكافي ج 2، ص 94، باب الشكر، ح 3.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 257
لرجُلٍ ثالث، لكن شريكه يريد شراء الحصّة التي باعها للشخص الثالث بنفس المبلغ، ليضم حصّة شريكه إلى حصته بهذه الطريقة.
ويُطلق على العين الحولاء (شافعة) أيضاً، لأنّها ترى الواحد إثنين، وقد وردت هذه الكلمة بمعنى المعين والمساعد أيضاً «1».
واستُعملت كلمة (الشفاعة) في مورد «طلب العفو عن ذنب شخصٍ من قبل فردٍ ذي شخصيّة مرموقة»، وكأنّ الشخص المحترم- صاحب المقام- يقف إلى جوار المذنب ليتلطف صاحب الحق على المذنب ويرقّ له.
والشفاعة في القرآن ذات بحوث واسعة، وسنبحثها بصورة مفصّلة في سلسلة مباحث التفسير الموضوعي إن شاء اللَّه «2»، وما نبحثه هنا هو انتخاب هذه الصفة كواحدة من الصفات الإلهيّة.
وعلى أيّة حال فإنّ إطلاق كلمة (شفيع) على اللَّه سبحانه، وخاصة في يوم القيامة، يشتقّ من سلطته المطلقة، وعدم قدرة أي أحدٍ على فعل شي ءٍ دون إذنه سبحانه، وحتى شفاعة الشفعاء كالأنبياء والأئمة والملائكة والمؤمنين المخلصين فانّها لا تُقبَل إلّا بإذنه: «مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ». (البقرة/ 255)
ولهذا السبب خاطب سبحانه رسوله الكريم في الآية: «قُل للَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلكُ السَّماوَاتِ وَالأَرضِ». (الزمر/ 44)
ولأنّه سبحانه يُعطي إذن الشفاعة، فالشفيع الواقعي هو تعالى وكأنهّ سبحانه يشفع عند ذاته المقدّسة لعبادِهِ المذنبين،
وهذه أسمى مراتب العظمة.
وقال جماعة أيضاً: إنّ سبب إطلاق اسم شفع او (شفيع) على اللَّه سبحانه هو حضوره مع عباده في كل مكان، حيث قال: «مَا يَكُونُ مِن نَّجوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم» «3»
.
(المجادلة/ 7)
__________________________________________________
(1) مصباح اللغة، مقاييس اللغة، لسان العرب، نهاية ابن الأثير، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، وكتاب العين.
(2) هنالك بحث مفصّل حول هذه المسألة في التفسير الأمثل، ذيل الآية 48 من سورة البقرة.
(3) مصباح الكفعمي، ص 344، قاموس اللغة مادّة (شفع).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 258
لكننا نستبعد هذا المعنى لأنّ كلمة الشفيع تُعطي في مفهومها نوعاً من المساعدة والحماية والتكامل والتربية.
وتجدر الإشارة إلى وجود نوعين من الشفاعة: «تكوينيّة وتشريعيّة»، فالشفاعة التشريعيّة هي ما عُرف من شفاعة شخصٍ وجيه عند صاحب حقٍّ لتخليص مذنبٍ من عقوبة معيّنة، وأمّا الشفاعة التكوينيّة فهي ربوبيّة اللَّه على الموجودات وسوقهم نحو التكامل وفق قوانين الخلق والتكوين.
وما توحي لنا هذه الصفة من بلاغٍ تربوي: هو الإنتباه إلى هذه الحقيقة، وهي عدم جواز القنوط من لطف اللَّه وعفوهِ ورحمته، لأنّه يشفع عند ذاته المقدّسة لعباده أيضاً، ويأمر الأنبياء والملائكة والأئمّة أيضاً ليشفعوا لمذنبي الأمم (طبعاً في المحل اللائق للشفاعة).
ومن المعلوم أنّ الإنتباه إلى هذه المسألة له أثر عميق في المنع من تكرار الذنب لكي يبقى الأمل في الشفاعة، وتبقى قابليته لنيلها محفوظة. هذا من جهة، ومن جهةٍ اخرى أنّها تعلّم العباد ليتأسّوا بذلك أيضاً ويشفعوا للنادمين والمحرومين والضعفاء.
وقد ورد في الحديث الشريف «إشفعوا تؤجروا» «1»
.
أمّا كلمة (وكيل) فهي مشتقّة من مادّة (وَكْل)- على وزن وصل- وهي في الأصل تعني الإعتماد على الآخرين، ولكون لازمَ هذا المعنى الضعف والعجز في بعض الجوانب فقد أُطلقت كلمة (وكل)
على الضعفاء والعاجزين، ويُطْلق (وكال) على الدواب التي تسير دائماً في مؤخّرة القافلة أوالقطيع، وكأنّها تعتمد في المسير على غيرها «2».
وطبقاً لذلك فإنّ «وكيل» من يعتمد عليه، ويلتجأ إليه الإنسان في حل مشاكله.
وعليه عندما تستعمل هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى كما قال المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد: «فإنّها تعني حافظنا وحامينا ومعتمدنا وملجأنا، نحن وجميع موجودات عالم الوجود» «3».
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 84، ذيل الآية 85 من سورة النساء.
(2) مقاييس اللغة؛ مفردات الراغب؛ ولسان العرب.
(3) توحيد الصدوق، ص 215.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 259
قال المرحوم الكفعمي في المصباح: «بأنّها تعني من وُكِلَتْ إليه جميع أمورنا» «1». وما قاله البعض في تفسيرها بتكفُّل الرزق هو في الواقع تبيان مصداقٍ واحدٍ، وإلّا فهي ليست محدودة بالرزق فقط.
يقول الزبيدي في تاج العروس في شرح القاموس: (التوكُّل) هو إظهار العجز والإتّكاء على الغير، هذا من حيث اللغة، وأمّا عند أصحاب الحقيقة، فهو الأعتماد على ما عند اللَّه واليأس ممّا في أيدي النّاس، «المتوكّل على اللَّه» يُطلق على من يعتقد بأنّ اللَّه يكفيه رزقه وجميع أموره، يتكّل على اللَّه وحده لا على غيره «2».
يُستنتج من الآيات القرآنية بوضوح أن توكّل المؤمنين على اللَّه وحده من شؤون التوحيد، لأنّ كلّ شي ءٍ وكلَّ أمرٍ يرجع إليه، كما ورد في قوله تعالى: «وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعْبُدهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيهِ». (هود/ 123)
وكذا في قوله تعالى «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ». (إبراهيم/ 12)
لِمَ لا نتوكّل عليه ونعتمد عليه في جميع أمورنا وهو العزيز الرحيم!؟ قال تعالى «وَتَوَكَّل عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ». (الشعراء/ 217)
إنّ البلاغ الذي تعطينا إيّاه هذه الصفة الإلهيّة هو أنّها توصينا بعدم الضياع في عالم الماديّات وعدم الإنخداع بالقدرات
الماديّة الظاهريّة، وعدم الاعتماد والإتّكال على المخلوقات الضعيفة العاجزة، بل التوكُّل فقط على الذات الإلهيّة المقدّسة، والإستعانة به سبحانه فقط والوثوق به والخضوع لحضرته جلّ وعلا فقط.
ومن جهةٍ اخرى علينا أن نسعى ونبذل ما في وسْعنا لنكون عوناً للآخرين من باب التخلّق بأخلاق اللَّه، ونحاول حل مشاكلهم تقرّباً إلى اللَّه تعالى
وقد ورد في حديثٍ عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «التوكُّل على اللَّه نجاة من كُلّ سوء وحرزٌ من كُلّ عدو» «3».
__________________________________________________
(1) مصباح الكفعمي، ص 326.
(2) تاج العروس، مادّة (وكل).
(3) بحار الأنوار، ج 75، ص 79، باب ما جُمع من جوامع الكلم، ح 56،.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 260
أمّا كلمة (كافي) فهي مأخوذة من مادّة (كفاية) طبقاً لما جاء في مقاييس اللغة ولسان العرب- وهي تعني الإقدام على عملٍ معيّن والتمكُّن منه، ولكن الراغب يقول في مفرداته: (الكفاية) هي رفع حاجةٍ والوصول إلى المقصود، و (كُفية)- على وزن كنية- تعني الغذاء الكافي، و (كفيّ)- على وزن (خفيّ)- تعني المطرالذي يحلُّ مشكلة الجفاف «1».
وعندما تُستعمل هذه الكلمة بخصوص اللَّه سبحانه فإنّها تعني المدير لأمور عباده وحلّال مشاكلهم والمبلّغ- من يتوكّل عليه- مناه دون أن يكله إلى غيره.
وقد مرّ علينا في الدعاء: (يا كافى المهمّات) أو مثله (يَا كَافِى مِن كُلِّ شَى ء).
إنّ مفهوم هذه الصفة الإلهيّة ذو جانبين، فمن جهة يزيل سُحُب اليأس والقنوط المظلمة عن سماء روح الإنسان، ويمنع من استسلام وركوع الإنسان لعظمة حجم المشاكل، لأنّه (أيّ الإنسان المؤمن) يعلم أنّ معبوده يُدعى بالكافي ويكفيه ما يهمّه من أموره ومشكلاته، قال تعالى «أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبدَهُ!؟». (الزمر/ 36)
ومن جهة اخرى، ومن باب التخلُّق بأخلاق اللَّه، يلهمه الجدّ والاجتهاد في كفاية
الضعفاء والمحرومين أمورهم مهما أمكنه، ويعكس شعاعاً من أنوار الصفات الإلهيّة في نفسه في هذا المجال.
تشير الصفات الخمس المذكورة أعلاه، والتي هي من صفات الفعل، إلى مسألتي الحساب والعقاب بصورة عامّة، وتُعدُّ تحذيراً للعباد ليُراقبوا أعمالهم خشية اقتراف الذنوب والتخلُّف عن أداء الوظائف والتعدّي على حقوق الآخرين، ولا ينسوا في حالات الضعف
__________________________________________________
(1) تاج العروس في شرح القاموس، مادّة (كفيّ).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 261
والقدرة، والفقر والغنى حقيقة كونهم دائماً بين يدي اللَّه الحسيب، سريع العقاب، وشديد العقاب، وقد وردت هذه الصفات الإلهيّة في آيات قرآنية عديدة، لنتأمل في قسم منها خاشعين:
1- «وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» «1». (النساء/ 6)
2- «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «2». (البقرة/ 202)
3- «وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ» «3». (الأنعام/ 62)
4- «إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ». «4»
(الأنعام/ 165)
5- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» «5». (البقرة/ 196)
كلمة (حسيب) مشتقّة من مادّة (حساب)، وقد ذُكر في مقاييس اللغة عدّة معانٍ لها هي:
العدّ، الكفاية، و (حسبان) تعني نوع من الوسائد الصغيرة، و (أحسَبْ) تعني مرض جلدي، لكنّ كتاب التحقيق أرجع جميع هذه المعاني إلى معنىً واحد وهو البحث للإطلاع على حال شي ءٍ معيّن والتحقيق عنه، ولكون العدّ وسيلة لتحقُّق هذا المعنى كما أنّ الكفاية من لوازمه ونتائجه، فإنّها استُعملتْ في هذا المجال أيضاً.
__________________________________________________
(1) وردت كلمة «حسيب» في أربعة مواضع من القرآن الكريم، في ثلاثةٍ منها كصفة للباري تعالى (النساء، 6 و 86؛ الأحزاب، 39) وفي موضعٍ واحد كصفة من صفات الإنسان في يوم القيامة عندما يُعطى كتابه بيده. (الاسراء، 14).
(2) وردت هذه الصفة في ثمانية مواضع من القرآن الكريم ممّا يدلّ دليلًا واضحاً على أهميتها (سورة البقرة، 202؛ سورة آل عمران، 19 و 199؛ سورة المائدة، 4؛ سورة الرعد، 41؛ سورة ابراهيم، 51؛ سورة النور، 39؛ سورة
غافر، 17).
(3) وردت هذه الصفة في موضعٍ واحد فقط من القرآن الكريم وهو المذكور أعلاه.
(4) وردت هذه الصفة في موضعين من القرآن الكريم هما: الآية المذكورة أعلاه والآية 167 من سورة الأعراف.
(5) تكررت هذه الصفة أربع عشرة مرّة في القرآن مما يُعدّ دليلًا على أهميتها (سورة البقرة، 211 و 196؛ سورة آل عمران، 11؛ سورة المائدة، 2 و 98؛ سورة الأنفال، 133، 25، 48 و 52؛ سورة الرعد، 6؛ سورة غافر، 3 و 22؛ سورة الحشر، 4 و 7).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 262
فكلمة (حسب) على وزن نسبْ، تعني كون الآباء والأجداد ذوي شخصيّات ومقامات يُمكن ذكرها! وكذا (احتساب المصيبة) فإنّها تعني احتساب المصيبة على اللَّه وطلب ثوابه.
«حُسبان»: على وزن (غفران) وتعني الصاعقة والعذاب، لأنّها العقوبة التي يلقاها بعض الأقوام بعد حساب أعمالهم.
وعلى أيّة حال، عندما تُستعمل كلمة (حسيب) بخصوص الباري سبحانه- كما قال المرحوم الصدوق رحمه الله- فإنّها تعطي أحد المعاني الثلاثة التالية: الذي أحصى كُلٍ شي ءٍ في الوجود وهو عليم وخبير به، والذي يتولّى محاسبة العباد في القيامة ومجازاتهم، والذي يكفي أمور العباد «1».
ولكن يُفهم من الآيات القرآنية أنّ هذه الكلمة تعني «تولّي الحساب» لأنّها جاءت بهذا المعنى على الأقل في ثلاثة مواضع من المواضع الأربعة المذكورة في القرآن الكريم.
ومن هنا يتضح أنّ كلمة (حسيب) متقاربة مع صفتي (سريع العقاب)، و (أسرع الحاسبين)
وللمفسرين آراء مختلفة حول سبب اتصاف الباري بصفة (أسرع الحاسبين).
يقول القرطبي في تفسيره: (لأنّه لا تحتاج محاسبته إلى أي نوعٍ من التفكُّر) «2».
ويقول الألوسي في روح المعاني: لأنّه سبحانه يحاسب جميع الخلق بأسرع وقتٍ دون أن تشغله محاسبة فردٍ عن محاسبة غيره «3».
وقد أورد المرحوم الطبرسي نفس
هذا المعنى في مجمع البيان «4».
وقد وردت تعابير ظريفة حول هذا الموضوع في الأحاديث الإسلامية أيضاً، فقد نُقِلَ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «معناه انه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة» «5».
__________________________________________________
(1) توحيد الصدوق، ص 202، ووردت هذه المعاني الثلاثة في كتاب مصباح الكفعمي أيضاً، ص 324.
(2) تفسير القرطبي، ج 4، ص 2443.
(3) تفسير روح المعاني، ج 7، ص 154.
(4) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 298، ذيل الآية 202 من سورة البقرة.
(5) المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 263
وفي حديثٍ آخر: «إنّه تعالى يُحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر» «1».
وورد في حديث آخر: «إنّه سُبحانه يُحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة» «2».
وقد اورد المفسرون الآخرون أيضاً نفس هذه التعابير تقريباً ولكن الحق أنّ أي واحدٍ منها لا يمكنه تبيان عمق الكلمات المذكورة، والحقيقة يجب القول: إنَّ اللَّه لا يحتاج إلى حساب لأنّ جميع أعمال العباد ماثلة بين يديه في آنٍ واحد.
والظريف هو ما توصّلت إليه العقول الألكترونية المصنوعة التي تستطيع القيام بمئات الملايين أو الملياردات من الحسابات الرياضيّة في ثانية واحدة أو عدّة ثوان، ممّا يدل على عمق ما توصلت إليه سرعة الحساب في عصرنا الحالي!
ففي الوقت الذي يستطيع البشر- بكل ضعفه ونقائصه- التوصُّل إلى هذه السرعة الحسابية، فلا توجد حاجة إذن إلى توضيح (إثبات) سرعة حساب القادر العلي الذي قدرته غير محدودة وعلمه غير متناهٍ.
وكما أشرنا في التفسير الأمثل أيضاً، أنّ آثار أعمال الإنسان ستبقى وتتضاعف وتصير بذاتها خير وسيلة للحساب، وهي على وجه التشبيه كالمعامل التي تحتوي مكائنها على عدّادات لإحصاء عدد دورات الماكنة أو كالسيّارات التي يتصاعد العدد الذي يعدّه عدّاد
المسافة الموجود فيها كلما قطعت مسافة أكبر، فلا توجد حاجة إلى الحساب لمعرفة معدّل عمل مكائن ذلك المعمل أو المسافة التي قطعتها هذه السيّارة، فكل شي ءٍ واضح ومُهَيأ.
لهذا يجب أنْ ندرك إن علمَ اللَّه اللامحدود وأنّ ديمومة حضور الباري في كل مكانٍ من عالم الوجود من جهة، وبقاء آثار الأعمال وتراكمها من جهةٍ اخرى سيؤدّي إلى تسريع حساب الخلائق كلّها كلمح البصر.
إنَّ التعليمات التي تحملها هذه الصفات الإلهيّة (حسيب، سريع الحساب، أسرع الحاسبين) هو أنّها تحذّر جميع الناس من تناسي أبسط الذنوب وأصغرها، وتجعلهم على
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 298، ذيل الآية 202 من سورة البقرة.
(2) تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 313 وروح المعاني، ج 7، ص 154.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 264
يقين بأنّ الذي يحاسبهم هو مَنْ لا تخفى عليه ذرّة من أعمال الناس الصالحة والطالحة، وَأن النسيان لا يجدي نفعاً في محوها، وسيُنهي تعالى حساب جميع هذه الأعمال يوم القيامة بلمحة بصر، هذا من جهة، ومن جهةٍ اخرى تلقّن الناس درس المحاسبة في جميع أمور الحياة، ليحسبوا لكل عملٍ وكل شي ءٍ وكل أمرٍ من حياتهم حسابه دون أن يتركوه سُدىً.
أمّا كلمة «عقاب» فهي مشتقّة من مادّة (عَقِب) على وزن (خَشِن) المستعملة بمعنى كعب القدم، وأُطلقت فيما بعد على مؤخّرة كلّ شي ء، ولكن ذُكر لها في مقاييس اللغة معنيان:
الأول تعاقب شي ء مع آخر، والثاني: المرتفع والشدّة والصعوبة (لذا وردت عقَبَة بمعنى منعطف).
وإنّما أُطِلقَ على عقوبات الأعمال (عقاب) لكونه عذاباً يصيب الإنسان عقب ارتكابه الأعمال السيئة.
وكذلك يُطلق على الأولاد والأحفاد (أعقاب) لأنّهم يأتون عقب الأب والجد، ويطلقون على الطير المعروف اسم العقاب لأنّه يعقب فريستهُ بسرعة.
وعلى أيّة حال فإنّ
وصف الباري بصفة (شديد العقاب) لا يعني أبداً أن يتجاوز عقابُهُ على مقتضى أصول العدالة بل لكون مجازاته وعقوباته دنيويّة وأخرويّة، جسمية وروحيّة، ولا يأمن منها أي أحد من المجرمين، ولا تقوى أيّة قدرةٍ على التصدي لها.
فقد يُهلك اللَّه قريةً ظالمة في لحظةٍ واحدةٍ أحياناً، فيمطر حجارة على الأشرار، وأحياناً يأمر أمواج البحر لتغرق فرعون وجنده والمتغطرسين في زمن قصير لتحيلهم طعاماً لأسماك البحر.
وأحياناً يأمر الريح العاصفة لتهلك الظالمين وتذري قصورهم في الفضاء وترمي بها في نقاطٍ نائية.
وأحياناً يُرسلُ طيراً أبابيل لترمي أصحاب الفيل بحجارةٍ من سجّيل وتُهلكهم وتجعلهم كعصفٍ مأكول لتمنعهم من التقدم لهدم الكعبة.
وبالتالي يأمر اللَّه تعالى السماء لتمطر مطراً غزيراً ويأمر عيون الأرض لتتفجّر بالماء فيغطي سطح الأرض سيلٌ عظيم ولا يُبقي عليها إلّاسفينة النجاة للأطهار المحسنين!
أجلْ إنّه شديد العقاب في المحل المناسب، وهذه الصفة تُعدُّ تحذيراً لكل الذين
نفحات القرآن، ج 4، ص: 265
يستهينون بمعصية الباري ويرتكبون ما شاؤوا من الذنوب دون أن يتفكّروا في عواقبها، مستغلين لطف الباري وكرمه.
أجل إنّه «أرحم الراحمين» ولكن في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة!
اللهم عاملنا بلطفك ورحمتك، وخلّصنا من أسر عذابك، فنحن نُقرّ لك بذنوبنا، ونعتذر إلى جنابك من تقصيرنا.
لا شك أنّ قدرة الإنسان المحدودة غير قادرة على حلّ المشاكل اللامتناهية، ولولا عناية الباري في عالم التكوين والتشريع، لما وصل- الإنسان- إلى مقصوده ولَضَلّ الهدف العظيم الذي خُلِقَ من أجله، وهو التكامل والتقرّب من اللَّه، في هذا العالَم المتلاطم.
فاللَّه العظيم هو الذي يعين الإنسان ويمدّه بعنايته عن طريق القوانين التكوينيّة والتشريعية وإمداده الظاهر والخفيّ، ويأخذ بيده إلى حيث بلوغ الهدف المنشود متجنّباً طرق الحياة الملتوية.
لنمعن خاشعين في الآيات التالية الواردة
في هذا المجال:
1- «وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا» «1». (النساء/ 45)
2- «وَاعتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَولَاكُم فَنِعمَ المَولَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» «2». (الحج/ 78)
3- «بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ» «3». (آل عمران/ 150)
__________________________________________________
(1) وردت كلمة «نصير» في أربعة وعشرين موضعاً من القرآن، وفي عدّة مواضع منها فقط كصفة للَّه، مثل (النساء، 45؛ الفرقان، 31؛ البقرة، 107).
(2) وردت صفة نعم النصير في موضعين من القرآن وفي كليهما وردت كصفة للَّه، أحدهما الآية المذكورة أعلاه والاخر الآية 40 من سورة الانفال.
(3) وردت صفة «خير الناصرين» مرّة واحدة فقط في القرآن وهي كصفة للباري تعالى
نفحات القرآن، ج 4، ص: 266
كلمة (نصير) و (ناصر) من مادّة (نصر) على وزن (عصر) وهي بالأصل تعني عمل الخير وإعطائه- كما قال صاحب مقاييس اللغة-، أمّا الراغب الاصفهاني فقد قال: إنّها تعني المعونة، وقال صاحب كتاب لسان العرب بأنّها تعني معونة المظلوم، وجميع هذه التفاسير تعود إلى معنىً واحدٍ تقريباً.
وأحياناً يُطلق على المطر (نصر)، وعلى الأرض التي تعرّضت للأمطار (منصورة)، وعلى مسير ومجاري المياه (نواصر)، وكلّ ذلك بسبب الإمدادات التي توصلها الأمطار للموجودات الحيّة.
وهذه الكلمة عندما تستعمل كصفة من الصفات الإلهيّة فإنّها ترمز إلى الامداد الإلهي اللامتناهي الذي يمدّ به سبحانه عباده.
فالنطفة تنتهل من منهل الامداد الإلهي منذ اللحظة الأولى لدخولها الرحم، وتُحاط من كل جانب بالنصر الإلهي عن طريق القوانين التكوينية، وتقضي بعنايته سبحانه مراحل التكامل بسرعة، حتى تنتهي من مرحلة الجنين ويأتي الإذن الإلهي في الولادة.
ولا تَزال يد العناية الإلهيّة محيطةً به وترعاه كرعاية الأم التي توفّر له الحليب ذلك الغذاء الكامل الشامل لأنواع مواهب الحياة، فكل هذه الأمور أشعةٌ وأنوارٌ من ألوان النصرة الإلهيّة في
هذه اللحظات الحسّاسة.
وعندما يبلغ هذا الإنسان ويخضع للقوانين الإلهيّة التشريعيّة يضع يده في يد الأنبياء ويُظلّه اللَّهُ بظلّ الوحي والكتب السماوية.
وهو- أي الإنسان- مُهدَّدٌ طيلة حياته بالموانع والآفات من جهة، والشياطين والأهواء النفسانية من جهةٍ اخرى، فلولا نصرة (خير الناصرين) لما نجا أحدٌ من هذه المخاطر العظيمة.
والتفكّر بهذه الحقيقة يُلْهم الإنسان الأمل من جهة، ويكشف عن سماء روحه سُحب اليأس والقنوط المظلمة في مواجهة المشاكل طيلة حياته، ويثبت أقدامه ويقوي عزمه
نفحات القرآن، ج 4، ص: 267
وإرادته ويجعل قراراته حدّية قوية لطيِّ طريق التربية والتكامل.
ومن جهة اخرى فإنّ (التخلق بأخلاق اللَّه) يعلّمه هذه الحقيقة، وهي أن يكون للمظلومين عوناً، وللمحرومين ناصراً ونصيراً.
أشرنا فيما مضى إلى أنّ بعض الصفات الإلهيّة يمكن أن تكون ذات بعدين، ذاتي وفعلي ولكن بمفهومَيْن.
ويُمكن أن تكون صفتا (القاهر) و (القهّار) من هذا القبيل، فلو اعتبرناها مرادفة لصفتي (قادر) و (قدير) لصارت من صفات الذات، أمّا لو حُمِلَتْ على مفهوم القهر والغلبة الفعلية الخارجيّة لصارت من صفات الفعل.
وعلى أيّة حال فإنّ قدرته غير متناهية ومن جميع الجوانب فهو قاهر وغالب لكل شي ء بالطبع، ومسيطر على جميع الأمور، لا مانع يحول دون مشيئته، ولا يصعب عليه أيّ أمرٍ.
وقد وردت هذه الصفات الإلهيّة الثلاث في الآيات القرآنية، فلنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ». «1»
(الانعام/ 18)
2- «ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ». «2»
(يوسف/ 39)
3- «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ». «3»
(يوسف/ 21)
__________________________________________________
(1) وردت كلمة «قاهر» في موضعين من القرآن الكريم (الانعام، 18 و 61).
(2) وردت كلمة «قهّار» في ستة مواضع من القرآن الكريم جميعها كصفة من صفات الباري. (يوسف، 39؛ الرعد، 16؛ ابراهيم،
48؛ ص، 65؛ الزمر، 4؛ غافر، 16).
(3) وردت كلمة «غالب» في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، ولكن في موضعٍ واحدٍ منها فقط كصفة للَّه سبحانه، وتكررت كلمة (غالبون)- بصيغة الجمع- ست مرّات.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 268
كلمة (قاهر) و (قهّار) من مادّة (قهر)، وهي بالأصل- كما جاء في (مقاييس اللغة)- تأتي بمعنى الغلبة والتفوُّق، لذا يُطلق على الصخور القويّة (قهقر)، وقال الراغب في مفرداته: إنّ (القهر) معناه النصر المصحوب بإذلال الطرف المقابل، لذلك تستخدم في كلا المعنيَيْن، وقال الخليل بن أحمد في كتاب العين: (القهر) معناه الغلبة والتسلُّط على أحد أو شي ء معيَّنْ، وجاء بهذا المعنى في «لسان العرب» و «تاج العروس».
وعندما تُستعمل كلمة (قاهر) و (قهّار) بخصوص اللَّه سبحانه وتعالى فإنّها تأتي بمعنى التغلُّب على جميع الجبابرة، والتسلُّط على جميع المخلوقات، وعجزها جميعاً إزاء إرادته وأمره عزّ وجلّ، بحيث لايستطيع أي موجودٍ أن يحول دون مشيئته وإرادته، ولكن لكون (قهّار) من صيغ المبالغة فإنّها تعطي نفس هذا المفهوم وتبيّنه بتوكيدٍ أكثر.
والبلاغ الذي تحمله هاتان الصفتان الإلهيتان في طيّاتهما للمؤمنين، هو أنّهما تحذّران المؤمنين من غرور النفس والظلم والشعور بالتسلُّط والغلبة، لأنّ غرور السلطة كان مصدر الكثير من التعاسة وحالات الفشل على مدى التاريخ، بل يجب عليهم أن يعتبروا أنفسهم خاضعين لإرادة اللَّه، ويعتقدوا بأنّ ليس لقدرتهم أدنى تأثير على الإرادة الإلهيّة، ولا ريب من أنّ الإنتباه إلى قاهرية وقهّارية اللَّه يمكنها أن تصدّ الإنسان عن التهوّر عند الغلبة.
أمّا كلمة (غالب) فهي من مادّة (غلبة) وتأتي بنفس معنى القهر، وتدل على القوة والشدّة والغلبة، لهذا يُطلق على الأفراد المتمرّدين (أغلب)، و (مغلّب) وتعني المنتصر على عدوّه «1».
ولكون مفهوم (غالب) يشبه مفهوم (قاهر)، فإنّ هذه
الصفة الإلهيّة تعطي نفس البلاغ السابق أيضاً للعباد وأهل المعرفة والسلوك.
والظريف بالأمر هو أنّ الأديان المذكورة عندما تتحدث عن قاهرية وغلبة اللَّه على جميع الأشياء تختم بالعبارة التالية: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ».
أجل لأنهم لايعلمون بأنّ زمام عالم الوجود بيد اللَّه تعالى !
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة؛ ومفردات الراغب؛ ولسان العرب.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 269
أجلْ إنَّ أمر اللَّه تعالى نافذ، فالماء والهواء والتراب كلّها مُسلمة لأوامره تعالى ولأنّهم لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة يتيهون في عالم الأسباب فيفرحون إذا ما كانت الأسباب مساعدة ويقنطون بخلافها، في حين لو كان لهم إيمان بغلبة الباري وقاهريته لما دبَّ اليأس في قلوبهم أبداً، ولما غرّتهم الإنتصارات أيضاً.
وبالمناسبة، إنّ الآية المذكورة تحدّثت عن يوسف عليه السلام الذي أراد إخوته أن يقتلوه ولكنهم ألقوه في غيابة الجبّ، آملين أنْ يخلُوَ لهم وجه أبيهم (أي حبّه)، لكن اللَّه جعل كيدهم سبباً في وصوله إلى السلطة!
أجل، إنّ من إحدى أشكال قاهرية اللَّه، هي أن يجعل وسائل غلبة ونجاة الإنسان على يد عدوّه في أكثر الأحيان، وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أغلب الناس ولا يعلمونها.
إنَّ صفة (السلام) هي اسمٌ آخر من أسماء اللَّه الحسنى التي لها معنيان، فعلى أساسٍ تعتبر من صفات الذات، وعلى أساسٍ آخر تُعدُ من صفات الفعل، فإذا كانت صفة (السلام) بمعنى السلامة من أي لونٍ من العيوب والنقائص والآفات- فهي من صفات الذات (الصفات السلبيّة) وهي تناظر صفة (القدّوس) تقريباً، أمّا لو كانت بمعنى سلامة الناس من ناحيته تعالى وتركه لأي لونٍ من ظلم العباد ورعايته للعدل والإنصاف معهم- لصارت من صفات الفعل.
أجل، إنّه سلامٌ لدرجة بحيث لايستوحش أو يهاب سالكو طريق قربه من صدور ظلمٍ أو إجحافٍ من ناحيته
سبحانه، علاوةً على ذلك، فهو المؤمن الذي يمنح أحبائه السكينة والأمان، وقد وردت هذه الصفة في موضعٍ واحدٍ فقط من القرآن الكريم وهو قوله تعالى
«هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤمِنُ». (الحشر/ 23)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 270
إنْ كلمة (سلام) ذات مفهومٍ مصدري، وأحياناً يستعمل هذا المصدر كصفة، فمعناه في الحالة الأولى كما ورد في مقاييس اللغة- (الصحّة والعافية)، وإنّما سمّي (الإسلام) بهذا الاسم لأنّه يمنع الإنسان من معصية الحق ومخالفته، يُحفِّزه على الإنقياد والطاعة، وكذلك سمّيت (التحية) سلاماً لأنّها دعاء للسلامة.
وتستعمل كلمة (سلام) بمعنى (الصلح) أيضاً، لأنّه سلامٌ من الحرب وسفك الدماء، ويُسمى المبلغ الذي يُدفع كمقدمة لشراء شي ء (سَلَم) لعدم امتناع المشتري عن دفع المبلغ المذكور على الرغم من عدم استلامه ذلك الشي ء الذي اشتراه، وسمّي السُّلَّمُ بهذا الاسم لكونه الوسيلة التي يصعد وينزل بها الإنسان من المكان المرتفع بسلام.
وعلى أيّة حال، عندما تُستعمل هذه الكلمة كصفة من صفات الباري تعالى تكون ذات معانٍ مختلفة:
فقد قال البعض: إنّها تعني المنزّه عن كل عيبٍ ونقصٍ وفناءٍ وعدمٍ يصيب المخلوقات «1».
وقال البعض الآخر: إنّها تعني الذي يواجهك بسلام دون أن يؤذيك «2».
وقال آخرون: إنّها تعني الوجود الذي يفيض على الآخرين بالسلامة والسكينة والأمان «3».
ولكن لايوجد أي دليل على تحديد هذه الصفة وحصرها بأحد المعاني المذكورة، بل إنّها ذات مفهومٍ أوسع وأشمل بحيث يضم جميع هذه المعاني، فهو سالمٌ من أي عيبٍ ونقص، وسالمٌ من الفناء والعدم، وَسالمٌ من الظلم والجور على عباده، وهو واهب السلامة.
وبلاغ هذه الصفة هو أنّها تمنح الإنسان المؤمن الشعور بالأمن والإطمئنان من العدل الإلهي، ويدفع به إلى الاحتراز من الاعمال التي تمسّ سلامة روحه وبدنه،
هذا من جهة،
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة، مصباح الكفعمي، لسان العرب، مجمع البحرين.
(2) تفسير الميزان، ج 19، ص 256.
(3) مصباح الكفعمي، ص 318؛ وفي ظلال القرآن، ج 8، ص 50.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 271
ومن جهةٍ اخرى فإنَّ التخلق بهذه الصفة الإلهيّة يقول للإنسان: كُن بحيث يسلم من لسانك وبدنك جميع الناس وكن ذا صُلحٍ وصفاءٍ معهم جميعاً.
أمّا كلمة (مؤمن) فهي مأخوذة من مادّة (أمن)، كما قال صاحب مقاييس اللغة، وهي ذات مَعْنَيين متقاربَيْن من بعضهما: أحدهما هو الأمانة في مقابل الخيانة التي تبعث على سكون القلب، والآخر هو التصديق بشي ءٍ معين.
ولكن لم يذكر الراغب في مفرداته سوى معنىً واحد وهو سكون النفس وزوال الإضطراب والخوف، ولكون قبول الأصول العقائدية يمنح الإنسان السكينة والأمان فإنّه سُمّي بمصطلح (الإيمان)، وقولنا آمين بعد الدعاء معناه: «اللّهم صدِّق ذلك وحقِّقْه»، لذا فقد فسّروه بمعنى طلب الاستجابة، وكذلك يُسمَّى البعير المطمئِنٌ النشِطُ الذي لايَزِلُّ (أمون).
وعلى أيّة حال، عندما تستعمل هذه الكلمة كأسم من أسماء اللَّه وندعوه ب «المؤمن» فإنّها تعني من يمنح أولياءه وأحباءه الأمان ويترحم عليهم بالإيمان، وقال البعض: إنّه تعالى يدعى بهذا الاسم لأنّه أوّل من آمن بذاته المقدّسة وصدّقها.
وقد احتمل الفخر الرازي، في تفسيره، هذا الإحتمال أيضاً وهو أنّ وصف الباري بصفة المؤمن معناه المصدّق رسُلَهُ بإعطائهم المعاجز «1». وقد قال المرحوم الكفعمي في مصباحه:
«يحتمل أن يكون مفهومها من يُصدّق وعوده التي وعد عباده بها، ويحققها»، ثم نقل حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «سُمّي سُبحانه مؤمناً لأنّه يؤمّنُ عذابَهُ مَنْ أطاعه»، وقال البعض الآخر من المفسّرين: «المؤمن مَنْ يؤمّنُ ظلمه وجوره عباده» «2»، وقد ذُكرَ لها في تفسير «روح البيان» معنىً
جامعٌ يضم أغلب المعاني المذكورة أعلاه وهو: المؤمن والذي لا يتحقق أي أمانٍ وسكينة إلّامن عنده.
وقد ذكر المرحوم الصدوق في كتاب التوحيد ثلاثة معانٍ لها: «من يحقق وعوده، ومن
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 293.
(2) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6525 (ذكر هذا المعنى كأحد الاحتمالات).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 272
يعلم عباده حقيقة الإيمان عن طريق آياته ودلائله، ومن يؤمّن ظلمه وجوره عباده» «1».
ولكن الحق هو أنّ مفهوم (المؤمن) لايتحدد بأي واحدٍ من هذه المعاني، بل لها معنىً جامعٌ يشتمل على جميع ما ذكرناه، واستعمال كلمة (مؤمن)، كصفة من صفات اللَّه، في هذا المعنى الشامل لايستوجب استعمال اللفظ في معانٍ مختلفة، لأنّها شاملة بما فيه الكفاية (علاوةً على عدم وجود مانع من استعمال لفظ مشترك في معانٍ متعددة).
لذلك فهو (المؤمن)، لأنّه يؤمن عباده المؤمنين من عدّة نواحٍ، وأيضاً لأنّه يوجِدُ روح الإيمان في قلوب عباده عن طريق إراءتهم آياته في الافاق وفي أنفسهم، علاوةً على أنّه يصدّق ويؤيّد رُسله عن طريق إظهار المعجزات، وكذلك لأنّه يفي بما وَعَدَ به عباده من الثواب والعقاب.
أمّا البلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة في طيّاتها فهو أنّها تبيّن عظمة مقام (المؤمن)، لأنّ هذا الاسم هو أحد أسماء اللَّه، هذا من جهة، ومن جهة اخرى إنّ الإنسان المؤمن يحسّ بالأمن والسكينة في ظلّ هذه الصفة لأنّها مصدر جميع أنواع الأمان.
ومن جهة ثالثة أنّ الإنسان المؤمن في حال التخلق بهذه الصفة الإلهيّة، يسعى لمشاركة الآخرين في هذا الأمان فيأمَنُ الناس من لسانه ويده وفكره أيضاً!.
لذا فقد ورد في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «المؤمن من آمن جارُهُ بوائقه».
وقال أيضاً: «المؤمن الذي يأتمنهُ المسلمون على أموالهم
وأنفسهم» «2».
تُعد مسألة الحياة من أبرز آيات اللَّه في عالم الوجود، فالحق أنّ الكائنات الحيّة أعقد
__________________________________________________
(1) توحيد الصدوق، ص 205 (باب أسماء اللَّه تعالى .
(2) كلا الحديثين عن توحيد الصدوق، ص 205، والحديث الأول ورد أيضاً في أصول الكافي، ج 2، ص 668 (باب حق الجوار، ح 12).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 273
وأعجب آثار عظمته (جلّ وعلا)، لهذا فقد استند إليها القرآن كثيراً في مباحث التوحيد وذكر اللَّهَ سبحانه وتعالى باسم (محيي الموتى .
مع أنّ كلمة (محيي) لم ترد في القرآن سوى مرّتيْن: «إِنَّ ذَلِكَ لُمحْىِ المَوتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». «1»
(الروم/ 50)
وهي كما تُلاحظون تتحدّث عن إحياء الموتى لكن مشتقاتها وردت تكراراً في آيات عديدة من القرآن حول حياة وموت النباتات، الحيوانات، البشر، وتعتبر من أهم صفات الفعل الإلهي.
إنَّ كلمة (محيي) مشتقة من مادّة (حياة) التي لها معنيان- كما ذُكر ذلك في مقاييس اللغة:
الأوّل: بمعنى الحياة أي ضد الموت، والثاني: بمعنى الحياء أي ضد الوقاحة والتهور.
ولكن بعض المحققين أرجعوا المعنى الثاني إلى المعنى الأوّل وقالوا: الحياء أو الخجل بمعنى انقباض النفس إزاء الرذائل من آثار الكائن الحي، أو بتعبيرٍ آخر الحياء هو حفظ النفس من الضعف والنقصان والعيب والسوء.
والجدير بالذكر هو أنّ (حي) أحد أسماء المطر، لأنّه مادّة حياة الأرض، ويطلق أيضاً على القبيلة اسم (حي) لأنّها تحتوي على حياة اجتماعية، ويُطلق على الأفعى الكبيرة (حيّة) أيضاً لأنّها تتمتع بكامل صور الحياة ولها قابليّة كبيرة على الانتقال والتحرّك «2».
وقد ذكر الراغب في مفرداته ستّة مصاديق للحياة هي:
1- الحياة النباتية، 2- الحياة الحيوانية، 3- الحياة العقلية للإنسان، 4- الحياة العاطفية (زوال الهم وحصول النشاط واللّذة)، 5- الحياة الأخرويّة الخالدة، 6- الحياة
التي هي إحدى صفات اللَّه (وتعتبر أكمل وأتم أنواع الحياة أي كمال العلم والقدرة).
__________________________________________________
(1) (الموضع الثاني) سورة فصلت الآية 39: «إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لَمُحْىِ المَوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».
(2) مقاييس اللغة؛ المفردات؛ لسان العرب؛ نهاية ابن الأثير؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 274
ويمكن تصور أنواع اخرى من الحياة، ومن جملتها الحياة المعنوية أي الإيمان، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في آياتٍ عديدة.
وعلى أيّة حال فقد تجلّت صفة «المحيي» في اللَّه سبحانه وتعالى من عدّة جهات: في عالم النبات حيث نلاحظ أنّ الكرة الأرضية مغطّاة من أقصاها إلى أقصاها بأنواعٍ مختلفة من الأشجار، الأزهار، الأعشاب الصغيرة والكبيرة، المائية والبرّية، في الغابات وفي الصحراء، الطبيّة والغذائية، بحيث إنّ التدقيق في تنوّعها وعجائبها يهدي الإنسان إلى ذلك المُبدى ء العظيم لعالم الوجود.
وأمّا في عالم الحيوان فقد خلق سبحانه أنواع وأقسام الأحياء المائية والبرّية، الطيور، الحشرات، الحيوانات الوحشية والأليفة، الأحياء المجهرية والعملاقة، وبالتالي الإنسان الذي يعدّ النموذج الأتم للحياة.
ومن البديهي أنّه كلّما ازدادت الحياة تعقيداً ازدادت أسرارها وصارت أكثر دهشة، وهذا في الحال الذي لا يزال أصل حقيقة الحياة وكيفية خروج الحي من الميت مجهولة، ولم تزل مساعي وجهود آلاف العلماء الفطاحل فاشلة في طريق حلّ هذا اللغز.
وعندما نجتاز هذه المرحلة، تبدأ مرحلة الحياة المعنوية الروحانية التي وضع اللَّه أُسُسَها عن طريق الوحي وانزال الكتب السماوية وإرسال الأنبياء والرسُل، كما قال سبحانه: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحيَينَاهُ». (الأنعام/ 122)
وقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً». (النحل/ 97)
وقد أشارت الآيات القرآنية وأكّدت مراراً على هذا النوع من الإحياء الإلهي.
والأعلى من هذه المرحلة أيضاً، هو مرحلة الإحياء
الأخروية، حيث يحيي سبحانه العظام وهي رميم، يُحييها حياةً خالدة لا تعرف بعدها أي لونٍ من الموت.
وعلى هذا الترتيب يكون اتّصاف الباري بصفة الحياة (المحيي) في الدنيا والآخرة مصدراً لأهم وأوسع مظاهر خلقه، وأمّا بلاغ هذه الصفة الإلهيّة، فمن جهة الانتباه إلى هذه
نفحات القرآن، ج 4، ص: 275
الحقيقة، وهي كونه سبحانه (منبع) كل ألوان الحياة، لذا يجب أن نتوجّه إليه سبحانه في حفظ الحياة الظاهرية والحياة الباطنية، ونطلب منه الحياة، لأنّهُ مُحيي كلَّ شي ء.
ومن جهة اخرى إنّ التخلّق بهذه الصفة يُعَدُّ مصدراً لاعانة الحياة المادية والمعنوية للبشر، ولتخليص عباد اللَّه من الموت، ولمحاولة هدايتهم إلى اللَّه وأعمال الخير.
تُعد صفة (شهيد) من الصفات التي لها معانٍ مختلفة، وهي من صفات الذات طبقاً لبعض هذه المعاني (لأنّ أحد هذه المعاني هو «العلم المصحوب بالحضور والشهود»، فهي فرعٌ من صفة العلم في هذه الحالة).
وإذا كانت بمعنى الشهادة على أعمال العباد فتُحتَسبْ من صفات الفعل، وذكرها هنا أيضاً وفق هذا المعنى ولنمعن خاشعين في الآيتين التاليتين:-
1- «وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعمَلُونَ». (آل عمران/ 98)
2- «قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَينِى وَبَينَكُم». (الأنعام/ 19)
«شهيد»: من مادّة (شهود وشهادة)، وهي بالأصل- كما ورد في مقاييس اللغة- تعني «الحضور» و «العلم» و «الإعلام»، والشهادة تستلزم كلًّا من العلم والحضور والإعلام.
لكن الراغب قال في مفرداته: إنّ هذه الكلمة تعني الحضور المقارن للمشاهدة سواءً بالعين الظاهرة أم بعين القلب.
و (مشاهد الحج) هي الأمكنة المقدّسة التي يحضر فيها المؤمنون والملائكة.
ويُسمّى المقتول في سبيل اللَّه (شهيداً) إمّا لحضور ملائكة الرحمة عنده، أو لمشاهدته
نفحات القرآن، ج 4، ص: 276
النّعم العظيمة التي أُعدّت له، أو لحضوره بين يديّ اللَّه، أو لكون جهاده في سبيل الشهادة بالحق، أو لسقوطه على الأرض، لأنّ إحدى أسماء الأرض (شاهدة).
ويُسمّى يوم الجمعة أيضاً (شاهداً) لأنّه يشهد اجتماع المسلمين، ويُسمّى يوم عرفة (مشهوداً) لحضور حجّاج بيت اللَّه الحرام فيه.
وعلى أيّة حال، إنّ اطلاق هذه الصفة على الذات الإلهيّة المقدّسة إمّا بسبب حضوره في كل مكان، أو لشهادته على جميع أعمال العباد «1».
والبلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة إلى الجميع هو أنّها تلفتهم إلى حضوره جل وعلا في كُلّ مكان، واطّلاعه على أعمال العباد، فليس الملائكة وكتبة الأعمال فقط، ولا أعضاء بدن الإنسان والزمان والمكان الذي يعيش فيه يشهدون أعماله، بل الأدهى من ذلك كُلّه هو شهادة الذات الإلهيّة المقدّسة، ومن
المسلَّم به هو أنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها له أثر بليغ في أن يصلحَ الإنسانُ أعماله وحركاته.
أجَلْ، إنّ الإيمان باللَّه سبحانه وتعالى ومعرفة صفاته يُعَدُّ من أهم وسائل تربيتنا.
الهداية كُلّها من عند اللَّه، سواءً كانت من حيث التكوين وقوانين الخَلْق، أمْ من ناحية التشريع والتعليم والتربية والأحكام الشرعيّة.
فهو الذي يرعى النطفة الحقيرة ويهديها في مراحل تكامل الجنين ويصنع منها إنساناً عظيماً.
وهو الذي يأخذ بأيدي العباد ويخلّصهم من وادي الضلال ويهديهم إلى جادّة الهداية
__________________________________________________
(1) يقول ابن منظور في لسان العرب والزبيدي في شرح القاموس: «الشهيد» من بين أسماء اللَّه يعني الأمين في شهادته، وقال البعض: الشهيد: هو مَنْ لا يخفى عن علمه شي ء، والشهيد معناه الحاضر (طبعاً لا بمعنى الحضور (المكاني) بل بمعنى الإحاطة الوجودية.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 277
عن طريق إنزال الوحي وبعث الأنبياء والرسُلْ، لذا ندعوه في كُلّ صلاة ونقول: «إِهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» ... (سورة الحمد)، وثبت أقدامنا، و ... لأنّه هو الهادي، ولنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
وُصِف اللَّه سبحانه بصفة «الهادي» مرتين فقط في القرآن هما:
1- «وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَ نَصِيراً». (الفرقان/ 31)
2- «وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ» «1». (الحج/ 54)
إنَّ كلمة (هادي) مشتقة من مادّة (هداية)، وتأتي بالأصل بمعنى الدلالة والإرشاد المصحوب باللطف، وسُميّت (الهديّة) بهذا الأسم لهذا السبب أيضاً، هذا ما ذكره الراغب في مفرداته، أمّا في «مقاييس اللغة» فقد ذكر لها معنيَيْن هما: الإرشاد، وإرسال الهديّة، ولو أنّ الرأي الأول الذي يُرجِع كلا المعنيين إلى أصلٍ واحد أكثر تناسباً من غيره.
ويُطلق في العربية على اليوم (هادي) أيضاً، لأنّه وسيلة لاهتداء الناس، ويُطلق على العصا التي يهتدي بها العمي (هادية)، وتُسمّى الحيوانات التي تسير في مقدّمة القطيع (هوادي) وكذا رقاب الخيول.
ويُطلق على البعير والنياق التي يُؤتى بها إلى بيت اللَّه كقرابين (هَدْي)- على وزن سَعْي- لأنّها هدايا المؤمنين إلى بيت اللَّه الحرام «2».
وعلى أيّة
حال، عندما تستعمل هذه الكلمة كصفة من صفات الفعل الإلهي فإنّها تدلّ على مسألة هدايته في جميع شؤون الحياة الماديّة والمعنوية، الظاهرية والباطنية، التكوينية والتشريعية.
__________________________________________________
(1) وردت كلمة «هادي»- وأحياناً بلفظ (هادِ)- في عشرة مواضع من القرآن الكريم في اثنتين منها فقط كصفة للباري تعالى
(2) كتاب العين؛ مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ تاج العروس؛ لسان العرب؛ مجمع البحرين مادّه (هدى .
نفحات القرآن، ج 4، ص: 278
إنَّ اللَّه الذي غطّت أمواج هدايته جميع مَنْ في الوجود، لو حُرِمْنا من هدايتِهِ التكوينيّة والتشريعيّة لحظة لضلَلْنا وهلكنا.
وقد ذُكِرَ في المفردات للهداية أربع مراحل (بالاستشهاد بالآيات القرآنية).
1- الهداية العامّة التي تشمل جميع المكلّفين، وهي نوعٌ من (الهداية التكوينية) والتي تشمل العقل، والذكاء، والمعلومات الفطرية والضرورية، وهي ماوردت في الآية 50 من سورة طه: «رَبُّنَا الَّذِى أَعطَى كُلَّ شَى ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى .
2- الهداية التي تتحقق بواسطة أنبياء اللَّه ورسُله والكتب السماويّة (الهداية التشريعية)، وقد أشارت إليها الآية 24 من سورة السجدة: «وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمْرِنَا».
3- الهداية بمعنى (التوفيق) الخاصّ بجماعةٍ من العباد، وقد أشارت القرآن اى هذا المعنى في قوله تعالى «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى». (محمد/ 17)
4- الهداية الأخروية إلى الجنّة (أي بمعنى الثواب الإلهي)، كما ورد عن لسان أهل الجنّة: «الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا». (الأعراف/ 43)
وهذه المراحل الأربع المتتالية، فإن لم تحصل الأولى لن تحصل الثانية وإن لم تحصل الثانية، لن تحصل الثالثة، وهكذا ....
وأخيراً، إنّ البلاغ الذي تحمله هذه الصفة الإلهيّة في طيّاتها هو إنّها تقول لنا من جهة: أنّ كل ما في الوجود مسخّرٌ بأمر اللَّه لهدايتكم، وعليكم أنتم أن تستعينوا بهذه السُبُل، وتلبّوا هذا النداء الإلهي، وتطووا هذه المرحلة بالطاعة التكوينية والتشريعيّة
لتنجوا من الظلمات والضلال.
ومن جهةٍ اخرى: إنّ التخلق بهذه الصفة الإلهيّة يوجب على أي واحدٍ منّا أنْ يسعى لهداية الآخرين، ويُعين أبناء نوعه، ويسلك بهم مراحل الكمال المختلفة ليوصلهم إلى الهدف المنشود (بيت القصيد)، أي معرفة اللَّه وتجلّي أسمائه وصفاته.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 279
تستعمل كلمة (خير) أحياناً بمعنى (حَسنْ) وفي الكثير من الأحيان بمعنى (أحسن)، وقد وردت في عشرة مواضع من القرآن الكريم بهذا المعنى الأخير، مضافةً إلى صفات اخرى، وسنطالع ذلك في الآيات القادمة.
«الخير»: مساوٍ للوجود، والوجود مساوٍ للخيْر، ولكون وجود اللَّه وجوداً مطلقاً لا محدوداً فهو أحسن (خير) الوجود، أجل هو «خير الحاكمين» وخير الرازقين وخير النّاصرين ....
وجميع هذه الصفات من صفات الفعل الإلهي، وقد جمعناها هنا في مكانٍ واحد لنختتم بحثنا بخير.
ولنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ». (المؤمنون/ 109)
لأنّ رحمتك العامّة والخاصّة شملت الجميع، خصوصاً عبادك المؤمنين.
2- «وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ». (الأعراف/ 87)
3- «وَهُوَ خَيرُ الفَاصِلِينَ». (الأنعام/ 57)
4- «وَأَنتَ خَيرُ الفَاتِحِينَ». (الأعراف/ 89)
5- «وَاللَّهُ خَيرُ الرَّازِقِينَ». (الجمعة/ 11)
6- «بَلِ اللَّهُ مَولَاكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ». (آل عمران/ 150)
7- «فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيرُ الغَافِرِينَ». (الأعراف/ 155)
8- «وَقُل رَّبِّ أَنزِلنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيرُ المُنزِلِينَ». (المؤمنون/ 29)
9- «وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ». (الأنفال/ 30)
10- «رَبِّ لَاتَذَرنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ» «1». (الأنبياء/ 89)
__________________________________________________
(1) يُلاحظ في القرآن الكريم وجود بعض التعابير الاخرى الحاوية على كلمة (خير) وكصفة من الصفات الإلهيّة، مع أنّ المضاف إليه العائد لم يُذكر بصيغة الجمع، وهو في موردٍ واحد فقط: «فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (يوسف/ 64).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 280
إنَّ كلمة (خير) وفق المشهور بين أرباب اللغة والنحويين هي من (أفعل التفضيل)، وقد كانت بالأصل (أَخْيَرْ)- على وزن أفضل- فحُذفت همزتها وانتقلت الفتحة إلى الخاء فصارت (خَيرْ).
وطبقاً لما قاله الراغب في مفرداته فإنَّ كلمة (خَيرْ) تعني الشي ء المفضّل لدى الجميع، كالعقل، والعدل، والفضيلة، والأشياء المفيدة، وضدّه (شرّ)، ثم قسّم (خير) إلى نوعين:
الخير المطلق الذي يميل
إليه الجميع، كالجنّة، والخير النسبي المفيد بالنسبة لبعض الأفراد كالمال الذي قد يصير منشأً لسعادة البعض، وتعاسة البعض الآخر!
ولكن ذُكِرَ في مقاييس اللغة بأنّ معناه الأصلي هو: (الرغبة إلى شي ء معيّن)، ثم أُطلق على «الأشياء المحبّبة»، وفي مقابله (شَر)، وقد فسّره بعض أرباب اللغة أيضاً بمعنى الكَرَم والإنعام، في حين اقتنع البعض الآخر بأنّ الخير هو النقطة المقابلة (المعاكسة) للشّر.
وأحياناً استُعمِلَتْ هذه الكلمة بمعنى خاص (مثلًا بمعنى المال، أو هو نهر في الجنّة ينبع من عين الكوثر، أو المنازل الخاصّة في الجنّة)، وكلمة (خَيار) أو (اختيار) المشتقّة من هذه الكلمة تعني انتخاب الشي ء الأفضل.
وعندما تُطلق هذه الكلمة على الذات الإلهيّة المقدّسة فَلها حالتان: فأحياناً تكون مطلقة ومجرّدة عن أيّ قيدٍ أو شرطٍ، مثل قوله تعالى «وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبقى . (طه/ 73)
هذا ماقاله سَحَرَة فرعون بعد أن آمنوا بموسى عليه السلام.
ففي هذه الحالة تعني الأفضليّة من جميع الجهات، وفي الواقع، ليس هناك خير مطلق في عالم الوجود سوى اللَّه سبحانه وتعالى فهو الأفضل والأحسن والأشرف وجوداً من جميع النواحي، وأحياناً اخرى تُطلق هذه الكلمة على الذات الإلهيّة المقدّسة بعد أن تُضاف إلى شي ء كالأسماء المقدّسة المذكورة في الآيات العشر.
وفي جميع هذه الموارد ذُكِرَ اللَّه في القياس مع الآخرين، وطبعاً أنّ هذا القياس من قسم من الجهات فقط وإلّا فالذات الإلهيّة المقدّسة لاتُقاس أبداً مع سائر الموجودات.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 281
فوصفت الآية الأولى اللَّه سبحانه ب «خَيرُ الرَّاحِمِينَ»، لأنّ رحمته لا متناهية وتشمل المحب والمبغض، الصالح والطالح، فرحمته العامّة شملت الجميع، ورحمته الخاصّة خصّ بها عباده المؤمنين، وهو على أيّة حال لايريد منهم أي جزاءٍ أو ردٍ للجميل.
وقد وُصِفَ الباري في الآية الثانية بصفة «خَيرُ الحَاكِمِينَ»،
لأنّ ما يحكم به الآخرون مقرون بأنواع الأخطاء والانحرافات الناتجة عن الميول الشخصيّة والطائفيّة، أو الأهواء المادية، لكنّ حُكمه جلّ وعلا منزّهٌ عن أي خطأ وأي إفراطٍ وتفريط، وأي ميلٍ إلى الباطل، لأنّ علمه غير محدود وهو غنيٌّ عن العالمين.
وقد ذُكِرَ في الآية الثالثة باسم «خَيرُ الفَاصِلِينَ»، لأنّ الناس لو أرادوا أن يميّزوا الحق من الباطل فإمّا أن يقعوا في الكثير من الإشتباهات ولا يميّزوا بينهما بصورة صحيحة، وإمّا أنْ يلتبس عليهم التمييز بين الحق والباطل بسبب جهلهم، أو يخلطوا بينهما بسبب تحكيم أهوائهم النفسانيّة.
أمّا الذي يعلم السرّ وما تخفي الصدور، وأحاط بكل شي ءٍ علماً فلا معنى عنده سبحانه لكل هذه الأمور، فهو خير الفاصلين.
علاوةً على هذا فقد يشخّص الإنسان الحق من الباطل بصورة جيّدة لكنّه عاجزٌ عن إعمال علمه ومعرفته، ولكن اللَّه تعالى هو القادر الأزلي الوحيد الذي يستطيع إعمال علمه في كُلّ حال.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 282
والآية الرابعة تحدّثت عن «خَيرُ الْفَاتِحِينَ»، وكلمة (فاتح) مشتقّة من مادّة (فتح)، فإن كانت بمعنى الحكم والقضاء فإنَّ مفهومها يعني «اللَّه خير الحاكمين»، وقد ذكرنا سبب ذلك فيما مضى وإن كانت (فتح) بمعنى فتح كل شي ءٍ مغلق، لكان سبحانه وتعالى أيضاً «خير الفاتحين»، لأنّه لايصعُب شي ء مقابل قدرته، وإن كان المقصود منها فتح أبواب الرحمة فهو ذو رحمةٍ وسعت كل شي ء في الوجود، في حين لو كانت هنالك رحمة في الموجودات الاخرى فهي محدودة وجزئيّة.
وبالحقيقة أنّ لكلمة (فتح) معاني كثيرة جدّاً تعود جميعها إلى أصل الفتح المطلق، فأحياناً فتح أبواب العلم والرحمة، وأحياناً حلّ عقدة النزاع بين شخصين، أو فتح (حل) عقدة الحرب، ويظهر أنّ تعبير «خَيْرُ الْفَاتِحِينَ» ذو معنىً واسعٍ جدّاً يشتمل على جميع هذه
المعاني والمفاهيم.
وقد وصفت الآية الخامسة الباري تعالى بصفة «خَيْرُ الرَّازِقِينَ»، فالأرزاق التي يعطيها البعض لغيرهم (إنّ أمكن أن نسميّها بهذا الأسم) مشوبة بنقائص عديدة: محدودة، سريعة الزوال، لايُؤمَّل مُستقبلها، وأحياناً تعقبها المنّة والأذى الجسماني أو الروحاني، وأحياناً مصحوبة بالتحقير أو توقُّع ردّ الجميل.
في حين أنّ الأرزاق الإلهيّة لا تعرف الحدود، ولا يُخشى عليها من الزوال، ولا فيها أدنى شي ء من المنّة والأذى وانتظار ردّ الجميل، بل هي تشمل حال الإنسان أو غيره منذ لحظة انعقاده كنطفة تكوينة في رحم امّه، وحتّى آخر لحظات حياته، وتشمل حال المستحقين والمؤهلين لها في يوم القيامة أيضاً، وبمستوىً أعلى وأسمى
نقل أحد المفسّرين حكاية عن أحد خلفاء بغداد مع (بهلول) تعكس المباحث الواردة بصورة لطيفة.
يقول: قال خليفة بغداد لبهلول: تعال أُعطِكَ رزقك كل يوم لأُريحك من التفكير في طلب الرزق، فأجابه بهلول قائلًا: لولا بعض النقاط السلبيّة في عملك لقَبِلْت! أولًا: إنّك لا تعرف ما احتاجه، ثانياً: إنّك لا تعرف وقت حاجتي، ثالثاً: ولا تعلم مقدارها، رابعاً: قد
نفحات القرآن، ج 4، ص: 283
تغضب عليَّ ذات يومٍ فتسترجعها منّي، لكنَّ اللَّه الذي يرزقني منزّهٌ عن جميع هذه النقائص والعيوب ويرزقني حتى في اليوم الذي أعصيه فيه! «1».
وكم يكون رائعاً لو أضاف بهلول هذه الجملة أيضاً: من يضمن بقاءك في السلطة إلى الغد حتى تقدر على رزقي أو رزق الآخرين؟
نختتم هذا الكلام بحديثٍ مبارك منقول عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، حيث قال في بداية خطبة الأشباح:
«الحمد للَّه الذي لا يَفِرُهُ المنع والجمود ولا يُكديه الإعطاء والجود، إذْ كلّ معطٍ منتقصٌ سواه، وكلّ مانعٍ مذمومٌ ما خلاه، وهو المنّان بفوائد النّعم، وعوائد المزيد والقِسَمْ، عيالُهُ الخلائق، ضمِنَ أرزاقهم وقدّر أقواتهم
ونهج سبيل الراغبين إليه والطالبين ما لديه، وليس بما سُئِلَ بأجود منه بما لم يُسألْ» «2».
وفي الآية السادسة وُصِقت ذاته المقدّسة بصفة «خير الناصرين»، لأنّ الناصر الحقيقي هو من يقدر على النصرة ضدّ كلّ عدوّ، وفي أي مكان وزمان، وفي أي ظرف، هو الناصرُ الذي لا يُغلَبُ أبداً، ولا تستطيع أيّةُ قدرة من الوقوف ضدَّه، إضافةً إلى ذلك فهو يحيط علماً بجميع مؤامرات الأعداء، ونقاط ضعف من يحتمي بهم، وبغض النظر عن جميع هذا، فهو سبحانه لاينتظر ردّاً للجميل الذي يصنعه (النصرة).
ونحن نعلم أنّ هذه الصفات لم تجتمع إلّافي الذات الإلهيّة المقدّسة، في حين نلاحظ أنّ الناصرين الآخرين فاقدون لهذه الصفات.
علاوةً على جميع ذلك فإن استطاع أحدٌ ما أن ينصُرَ آخر فنصرتُه محدودة بدار الدنيا فقط، أمّا اللَّه سبحانه وتعالى فهو الناصر الوحيد الذي يقدر على النصرة الدنيوية والاخروية.
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 9، ص 528.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 91.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 284
أمّا الآية السابعة فقد وُصِفَ فيها الباري بصفة «خَيْرُ الغَافِرِينَ»، يقول الفخر الرازي حول هذا الموضوع: «إنّ سبب وصفه تعالى بهذه الصفة هو لكون الآخرين إِنْ غفروا ذنباً إمّا لكسب مدح وثناء الناس، أو للحصول على الثواب الإلهي الجزيل، أو لدفع قساوة القلب، وخلاصة الكلام إنّ عفو وغفران الناس لبعضهم إمّا لكسب منفعةٍ، أو لدفع ضررٍ ما، في حين أنّ الغفران الإلهي ليس كذلك أبداً، بل هو نابعٌ من فضله وكرمه لا غير» «1». وعلاوةً على هذا فإنّ حقوق الناس على بعضهم حقيرة جدّاً بالقياس مع الحقوق الإلهيّة، وعفوهم في هذه الحقوق الحقيرة قليلٌ جدّاً أيضاً، والوحيد الذي يتجاوز عن عظيم الحقوق والخطايا، ورحمته ومغفرته غير مشروطةٍ بشي ء هو
اللَّه سبحانه وتعالى لذا هو «خَيرُ الغَافِرِينَ».
أضف إلى ذلك أنّه تعالى لايغفر ذنوب عباده فقط، بل ويستر عليهم أيضاً ليحفظ كرامتهم في الدنيا والآخرة، ولا يُفتضحون أمامَ الخلائق، بل وأحياناً يُبدّل سيئاتهم حسنات شريطة أن لا يخرقوا جميع الحجب، وأن يكون لديهم استعداد قليل لتقبّل كل هذا اللطف والإحسان.
إنَّ معرفة سبب نزول الآية المذكورة، التي تحكي عن بني إسرائيل وارتكابهم أحد أكبر الذنوب وهو طلبهم رؤية اللَّه بالعين الظاهرية كشرط مُسْبَق لإيمانهم به، يُبيّن عمق مفهوم هذه الصفة الإلهيّة أي (خير الغافرين).
ووُصِفَ الباري في الآية الثامنة بصفة: «خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».
فبعد أن أشارت الآية إلى قصّة نوح والطوفان العظيم الذي أصاب قومه، ذكرت دعاء نوح عليه السلام بعد أن هدأ الطوفان ورست سفينته: «ربِّ انزلني مُنزلًا مباركاً وأنت خير المنزلين».
ويُمكن أن تكون كلمة «منزل» اسم مكان أي (مَنزِلًا) أو مصدر ميمي بمعنى (النزول والهبوط).
وعلى أيّة حال: فمن الواضح أنّ النزول من السفينة في تلك الظروف العصيبة، وبالنظر
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 15، ص 20.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 285
لعدم وجود بيت ولا مظلَّة ولا قوت ولا غذاء لايُمكن أن يتحقق سوى في ظل لطف اللَّه «خَيرُ الْمُنْزِلِينَ»، ويُنجيهم من المخاطر التي كانت تهدّدهم بعد رسوِّ السفينة.
وكذلك تتسبب قدرة اللَّه اللامحدودة وعلمه بحاجات ضيوفه في أن يكون «خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».
وتحدثت الآية التاسعة عن المكر الإلهي الفريد إزاء مؤامرات المنحرفين والظالمين ووصفته جلّ وعلا بصفة «خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».
فكلمة (ماكر) مشتقةٌ من مادّة «مكر»، وكما قال الراغب: إنّها تعني بالأصل صرف الغير عن الوصول إلى المقصود عن طريق المكر والحيلة، وهو على قسمين: ممدوح، وهو ما كان الهدف منه الوصول إلى مقصودٍ حَسن، ومذموم: وهو ما كان هدفه قبيحاً.
ومن هنا يتّضح أنَّ
ما يختلج في أذهاننا حول اقتران كلمة (مكر) دائماً بنوع من الشرّ والفساد ليس صحيحاً، كما هو الحال في كلمة (حيلة) التي لها مفاهيم مشتركة عديدة بالرغم من تداعي المفهوم السلبي منها إلى أذهان عامّة النّاس.
يقول القرطبي في تفسيره: (المكر) معناه (التدبير الخفي في داء عمل معيّن).
ولكن يُسْتنتج من بعض كلام أرباب اللغة أنّهم يعتقدون باقتران كلمة المكر بنوع من المذمّة، لذا فهم يقولون «إنّ هذه الكلمة ذات معنى مجازي عندما تستعمل بخصوص الباري تعالى ، ولكن تعميم مفهوم (المكر) كما يُلاحظ عند الكثير من المفسّرين والمتكلمين، يبدو أصحّ بنظرنا.
وعلى أيّة حال فإنّ السرّ في وصفه تعالى بصفة «خَيرُ المَاكِرِينَ» إمّا لكون قدرته على المكر والحيلة أكبر ممن سواه، أو لأنّ (مكر) من سواه يُحتمل فيه الخير والشرّ، لكن المكر الإلهي ممدوح دائماً.
وقد ذكر الزبيدي في شرح القاموس عدّة معانٍ للمكر، عندما يُنسَبُ إلى اللَّه سبحانه
نفحات القرآن، ج 4، ص: 286
وتعالى منْ جُملتها: إنزال البلاء على العدو لا على الصديق والعقوبات الاستدراجيّة أي الإنعام مقابل الأعمال السيئة (ليحسب) الشخص المسي ء أنّه يُحسن صنعاً، ثمَّ يعاقبه بعدها، والثالث: مجازاة العباد على أعمالهم «1».
وعلى أيّة حال فإنّ المكر الصحيح هو ما يصدر عن العالِم بعواقب الأمور وحقائق الأشياء الماضية والمستقبلية، إضافةً إلى قدرته المطلقة على القيام بتدبيره، ولكون هاتين الصفتين (العلم والقدرة اللامحدودتين) منحصرتين بذات الباري جلّ وعلا فهو «خير الماكرين».
والظريف هو أنّ وصف الباري بصفة «خَيرُ المَاكِرِينَ» قد ورد فقط في موضعين من القرآن الكريم، أحدهما في قصّة الهجرة التي تُعدّ من أهم مراحل حياة الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله في قوله تعالى «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو
يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ». (الأنفال/ 30)
وكما نعلم فإنّ مؤامرة قريش على قتل الرسول صلى الله عليه و آله زادت من عزيمته وقوّت من إرادته على الهجرة، الهجرة التي صارت سبباً في حدوث أكبر التحوّلات في تاريخ الإسلام وانتشار الحكومة الإسلامية في أنحاء العالَمِ، وهنا يتّضح غلبة المكر الإلهي.
والآخر في المؤامرات المشتركة التي حاكها اليهود والنصارى في محاربة الإسلام والرسول الأكرم صلى الله عليه و آله- الآية 54 من سورة آل عمران- والتي كانت من أخطر المؤامرات، لكن اللَّه سبحانه قد أبطلها جميعاً.
وأخيراً فقد وُصِفَ الباري تعالى في الآية العاشرة والأخيرة بصفة: «خَيرُ الْوَارِثِينَ».
وهذه الصفة وردت مرّة واحدة فقط في القرآن الكريم عن قول زكريّا عليه السلام، في حين يُلاحَظ تكرار وصف الباري بصفة «وارث».
والسّر من وراء وصف الباري بهذه الصفة واضح تماماً لأنّه الوحيد الذي يبقى ويدوم ويرث العالمين، وأمّا سواه من الوارثين فسيكونون موروثين يوماً ما.
__________________________________________________
(1) تاج العروس في شرح القاموس، مادّة (مكر).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 287
علاوة على هذا فإنّ ما يرثه الورثة العاديّون محدود وهم بحاجةٍ إليه، إضافةً إلى بخلهم في صرفه غالباً، لذا يُلاحَظُ حصول الكثير من المشاكل والنزاعات بين الأقرباء من أجل أموالٍ ورثوها، أمّا اللَّه تعالى وهو الوارث النهائي للجميع فهو غير محتاج، ولا يوجد حدّ لصفته هذه، ولا طريق للبخل إلى وجوده فهو «خَيرُ الوَارِثِينَ».
وكما قال «الآلوسي» في «روح المعاني»: «إنَّ هذه الصفة تُشير إلى بقاء الذات الإلهيّة المقدّسة، وفناء جميع الأشياء» «1».
وتعتبر طبعاً من صفات الذات إذا كانت تشير فقط إلى مسألة البقاء (أي أبدية وجوده المقدّس)، ومن صفات الفعل إذا كانت تشير إلى مفهوم تملُّك مايبقى من الآخرين (فتأمل).
كما لاحظنا في
الآيات العشر التي ذكرناها، فقد وُصِفَ اللَّه سبحانه وتعالى بصفات: «خير الراحمين والحاكمين والرازقين والناصرين و ...».
فهل يُمكن قياس الباري مع غيره!؟ (نظراً إلى كون كلمة (خير) في مثل هذه الموارد ذات صيغة تفصيليّة).
هناك جوابان عن هذا السؤال:
الأول: إنَّ كلمة (خير) تفقد مفهومها التفصيلي في مثل هذه الموارد، وتعطي معنى الكثرة، وعليه فالصفات أعلاه تُشير إلى رحمة اللَّه الواسعة، وحكومته الواسعة، ورزقه الوفير، ونُصرته اللامحدودة، دون أن يكون هنالك قياس في الموضوع، «ما للترابُ وربّ الأرباب»؟ «2» __________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 17، ص 180.
(2) يقول المرحوم الكفعمي في مصباحه حول تفسير «خير الناصرين»: «معناه كثرةُ تكرار النّصر منه كما قيل خير الراحمين لكثرة رحمته» (المصباح، ص 346).
- ورد نفس هذا المعنى في توحيد الصدوق مع فارقٍ قليل. (توحيد الصدوق، ص 216).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 288
الثاني: إنَّ هذه الصفات لها مفهوم تفضيل وقياس، لكنّه قياسٌ صوريٌّ وظاهري كما هو الحال في «أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ»، والحقيقة فقد اعتُبِرَ الذين هم واسطة لإيصال الأرزاق إلى غيرهم «رازقين»، وحُملت الرحمات الجزئيّة الصادرة من البشر على حساب «الرحمة»، وهكذا بخصوص النصرة والحاكميّة والغفران، ومن قبيل هذه التعابير ليست قليلة في القرآن الكريم (انتخب المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار التفسير الثاني) «1».
وبتعبيرٍ آخر: (من الناحية الفلسفية) فإنّ الوجود الحقيقي المستقل القائم بذاته هو الذات الإلهيّة المقدّسة، وما سواه عدم، وجود ظاهري، كسراب الماء، لذا فإنّ الموجودات الممكنة لا هي خالقة ولا ناصرة ولا راحمة ولا رازقة، فجميع هذه الأمور تخص تلك الذات المقدّسة الفريدة، ومن سواه يأكلون من فتات مائدة إحسانه جل وعلا، لذا فقد قيل:
«ليس في الدار غيره ديّار!».
ولكن من حيث التحليل العادي المتعارف فإنّ
الممكنات لها وجودها الخاص أيضاً، ورحمتها ونصرتها وقدرتها وحاكميتها الخاصّة، وورود مثل هذه التعابير في القرآن الكريم إنّما هو من باب تكليم الناس بلسانهم: «وَمَا أَرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَومِهِ».
(ابراهيم/ 4)
من المتعارف عليه أنّ عالَم الوجود محلُّ بروز وظهور الصفات الإلهيّة، وهذه المسألة واضحة تماماً خصوصاً بالإلتفات إلى صفات الفعل، لأنّ جميع ما نشاهده في هذا العالَم من الخلق والتكوين مظهر لخالقيته سبحانه وتعالى
وجميع ما نشاهده من الرحمة الماديّة والمعنويّة مظهرٌ لرحمانيته.
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 4، ص 207 (يقول: الخير بمعنى التفضيل ولا حاجة إلى ما تكلّفه).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 289
وكل تدبير في هذا العالم يدلّ على ربوبيته، وجميع الأرزاق الظاهريّة والباطنيّة هي مظاهر لرازقيته سبحانه.
وكما أشرنا سابقاً، ونظراً لكون صفات الفعل مشتقّة من أفعاله جلّ وعلا، وأفعاله لا تعدّ ولا تحصى فإنّ صفاته الفعلية لا تعدّ ولا تحصى أيضاً.
وقد ذكرنا في البحوث السابقة ستين صفة من أهم (صفات الفعل) الواردة في القرآن الكريم، والتي تتشعّب من كلٍّ منها صفات اخرى، وتطرّقنا إلى تفسيرها وتحليلها.
إنَّ الانتباه إلى هذه الصفات لا يُعرفنا بالأفعال الإلهيّة فحسب، بل إنّ معرفة أفعاله تؤدّي إلى تخلّقنا بها وتربية نفوسنا وتهذيب أرواحنا، (فتأمّل).
وينبغي التذكير بهذه المسألة أيضاً وهي أنّ بعض الصفات الإلهيّة لا ريب في انتسابها إلى صفات الذات (مثل عالِم) وبعضها إلى صفات الفعل (كالرازق والخالق)، وبعضها الآخر ذات جانبين؛ ذاتية من ناحية، وفعليّة من ناحية اخرى كالقيّوم مثلًا فإن فُسّرت بمعنى (القائم بالذات) صارت من صفات الذات، وان فُسّرت بمعنى (مقوّم الموجودات) صارت من صفات الفعل.
هنالك أفعال في القرآن الكريم تنسب إلى اللَّه تعالى دون ذكر مصطلحها الوصفي، وقد ذكرها علماء العقائد بعنوان صفات الفعل أو أسماء اللَّه الحسنى ولأنّهُ كان من المقرّر أن نبحث في مباحثنا الصفات المذكورة في القرآن الكريم فقط، لذا لم نتطرّق إليها ضمن الأسماء والصفات التي ذكرناها، في الوقت الذي
نعتقد بوجوب الإشارة إلى أهمها هنا، ومن جملتها (متكلّم) و (صادق).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 291
لم يُصرّح القرآن الكريم بصفة «المتكلّم» لكنّه ذكر الفعل الدال عليها: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكلِيًما». (النساء/ 164)
ولذا عُرِفَ موسى عليه السلام بأنّه (كليم اللَّه).
علاوةً على هذا فقد ورد في القرآن الكريم تعبير (كلام اللَّه) في ثلاثة مواضع «1»، وتعبير (كلامي) في موضعٍ واحد «2».
ويُلاحظ أيضاً تعبير (كلمة ربّك) أو (كلمة اللَّه) في موارد عديدة.
يُمكن الإستنتاج من مجموع هذه الموارد بأنّ صفة (متكلِّم) هي من إحدى صفات اللَّه سبحانه وتعالى
وكما قال «القوشچي» في «شرح تجريد العقائد»:
«إنَّ وصف اللَّه بصفة (المتكلّم) لا ينحصر بالمسلمين فقط، بل إنّ جميع أرباب الملك والمذاهب يعتقدون بكلام اللَّه بالرغم من اختلاف وجهات نظرهم في تفسير معنى كلام اللَّه وتكلّمه سبحانه».
هنالك اختلاف شديد بين المسلمين حول تفسير معنى كلام اللَّه، وفسّرته كل طائفة
__________________________________________________
(1) البقرة، الآية 75؛ التوبة، الآية 6؛ الفتح، الآية 15.
(2) الأعراف، 144.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 292
بشكل معيَّن: فقد قال جماعة من الحنابلة: إنَّ كلام اللَّه مركّب من الحروف والأصوات القديمة والقائمة بذاته المقدّسة، ثم أصرّوا على هذا الكلام التافه إلى الحدّ الذي قالوا: إنّ جلد القرآن أيضاً قديم وأزلي ناهيك عن رسوم حروفه.
وقالت جماعة اخرى: إنّ كلام اللَّه معناه تلك الحروف والأصوات، وهي أمور حادثة وقائمة بالذات الإلهيّة المقدّسة في نفس الوقت، وتفاهة كلام هؤلاء ليس بأقلّ من الحنابلة.
وذهبت طائفة ثالثة إلى أنّ كلام اللَّه معناه تلك الحروف والأصوات، وهي حادثة وغير قائمة بذاته المقدّسة، بل هي من زمرة مخلوقاته التي أوجدها اللَّه في وجود جبرائيل أو الرسول محمّد صلى الله عليه و آله، أو شجرة موسى عليه السلام.
وقالت جماعة رابعة وهم «الاشاعرة»: إِنَّ كلام اللَّه ليس من سنخ الأصوات والحروف، بل هو مفاهيمٌ
قائمة بذاته ويسّمونه (كلام نفسي)، ويعتقدون بكونه قديماً «1»، وحتى كانوا يعتقدون بكفر من يعتقد بحدوث كلام اللَّه (أي القرآن) (وأوجبوا قتله!) «2».
وقد شهدت القرون الأولى من تاريخ الإسلام نزاعات شديدة ودمويّة حول (كلام اللَّه) وكونه حادثاً أو قديماً، ووصلت الحالة إلى تكفير بعضهم الآخر، نزاعات وقفنا اليوم على بطلانها، ويمكننا القول وبجرأة: إنّها كانت من سياسة حكومات ذلك الوقت لتخدير الشعب المُسلمِ والعمل بسياسة (فرّق تسُدْ).
على أيّة حال فهنا توجَدُ مطالب عديدة، جميعها واضحة، ونعتقد بأن لا محلّ للمناقشة فيها.
1- إنّ اللَّه قادرٌ على إحداث أمواج صوتية في الفضاء، وإيصالها إلى مسامع أنبيائه
__________________________________________________
(1) شرح تجريد العقائد للقوشچي، ص 417.
(2) الملل والنحل للشهرستاني، ج 1، ص 106.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 293
ورسله لإبلاغهم بهذه الطريقة، كما ذكر القرآن حول تكليم اللَّه موسى بن عمران عليه السلام في الوادي (الأيمن)؛ حيث أوجد اللَّه في تلك الشجرة المباركة الخاصّة أصواتاً دعا موسى بواسطتها إليه.
2- (التكلَّم) بمعنى التحدُّث باللسان وعن طريق الأوتار الصوتيّة، من عوارض الأجسام، ولا معنى له بخصوص اللَّه المنزّه عن الجسمانيّة، سوى ماذكرناه من إيجاد أمواج صوتية في الأجسام.
3- القرآن الكريم الذي في متناول أيدينا هو عين هذه الألفاظ والحروف التي قد تظهر في قالب الكلام أحياناً، وفي قالب الكتابة أحياناً اخرى، ولا ريب في أنّ كليهما من الحوادث، وما قاله البعض من كون هذه الألفاظ والحروف قديمة أو وجوب الاعتقاد حتى بقدم جلد القرآن وأزليته، خرافات لاتستحق أن نبحثها.
ويبدو أنّ الذين اعتقدوا بِقِدَم كلام اللَّه، كان منشأ اعتقادهم هو ذكر القرآن الكريم (التكلُّم) كإحدى صفات اللَّه، ومن هنا سمي القرآن بكلام اللَّه، هذا من جهة، ومن جهةٍ اخرى هو كون
وجود اللَّه أزلياً، إذن فصفاته يجب أن تكون أزلية أيضاً، ومنه استنتجوا بأنّ كلام اللَّه أزليٌّ أيضاً.
إنَّ هؤلاء وبسبب ضعف إدراكهم وقلّة معلوماتهم لم يستطيعوا التمييز بين (صفات الذات) و (صفات الفعل)، فصفات ذاته أزليّة (كالعلم والقدرة)، أمّا الصفات التي ينتزعها عقلنا بسبب صدور أفعال معينة من قِبَلِهِ جلّ وعلا، فهي أمور حادثة، لأنّ هذه الصفات غير قائمة بالذات الإلهيّة، بل هي مفاهيم عقليّة منتزعة تحصل من ملاحظة أفعاله.
وبتعبيرٍ آخر لا شك من وجود أفعال إلهيّة حادثة كخلق السموات والأرض، وخلق آدم، ومسألة الرزق، وغفران ذنوب العباد، وإرسال الأنبياء والرسُل، وعندما يُشاهد العقل صدور هذه الأفعال من جهته ينتزع منها صفات للَّه سبحانه (كالخالقيّة والرازقية والغفارية)، ومن المسلَّم به أنّ هذه الصفات لم تكن تصدق على اللَّه قبل أن يخلق موجوداً أو يعطيه رزقاً أو يشمله بمغفرته، (طبعاً كان قادراً على هذه الأمور، لكن الحديث لا يدور حول القدرة بل حول صدور عين هذه الأفعال).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 294
وبناءً على هذا فإنّ هذه الصفات التي تُدعى (صفات الفعل) تختلف عن (صفات الذات) القائمة بالذات الإلهيّة المقدّسة، بل هي عين ذاته، وعدم فهم هذه الحقيقة من قبل المعتقدين بقِدَم كلام اللَّه وأزليته جرّهم إلى معتقدات مُضحكة كقدم جلد القرآن.
4- اضطرّ جماعة من الأشاعرة، ممن كانوا يُدركون هذه المسائل، إلى طرح مسألة (الكلام النفسي)، الكلام الذي يُمكن أن يكون قديماً وقائماً بذات اللَّه، وقد تمسّك هؤلاء لإثبات هذا المطلب بالآية القرآنية التالية التي تتحدّث عن جماعة من المنافقين:
«وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِم لَولَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ». (المجادلة/ 8)
أو بالشعر المعروف عن (الأخطل) أحد شعراء العصر الأموي:
إنّ الكلام لَفي الفؤاد وإنّما جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلًا وأرادوا
بهذا التخلُّص من التّضادّ الموجود بين حدوث كلام اللَّه وقِدَم صفاته.
ولكنهم تورّطوا بهذا في مشكلةٍ أكبر، وهي أنْ لو كان المقصود من الكلام النفسي هو (تصوير الألفاظ والجمل وإمرارها من الذهن والفكر)، فإنّ هذه الأمور لا معنى لها بخصوص اللَّه تعالى لأنّ ذاته المقدّسة ليست محلًّا لمثل هذه العوارض الجسمانيّة.
وإن كان المقصود منه علم اللَّه الأزلي بمحتوى القرآن الكريم، فلا ريب في أنّه تعالى قد أحاط علماً بجميع هذه الأمور منذ الأزل، ولكن في هذه الحالة يعود الكلام النفسي إلى علم اللَّه ولن يكون صفة مُستقلّة.
والخلاصة هي أنّ محتوى الكتب السماويّة كانت في علم اللَّه دائماً (منذ الأزل)، وهذا الشي ء لا يخرج عن صفة (العلم) وأمّا عين الألفاظ والحروف فلا ريب من كونها حادثة، ولا يوجد هنا شي ء ثالث تحت عنوان (الكلام النفسي) ليكون قديماً ومغايراً لصفة (علم اللَّه).
إنَّ هذه الأمور واضحة كلها، لكنّه ومع الأسف الشديد فقد سوّدت النزاعات حول كون كلام اللَّه قديماً أم حادثاً، صفحات كثيرة من تاريخ الإسلام، وسببت حوادث دامية.
فأحياناً مالت الحكومات إلى جماعة المعتزلة (كبعض خلفاء بني العباس)، فأجبرت الجميع على الاعتقاد بحدوث كلام اللَّه، وضربوا أعناق البعض بسبب عدم اعترافهم بذلك.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 295
وفي المقابل، كان الكثير من حكّام بني العبّاس يميلون إلى الأشاعرة، ويضربون أعناق القائلين بحدوث كلام اللَّه، في حين أننا اليوم نعلم بأنّ كل هذه الأمور كانت ألاعيب سياسيّة ظهرت بشكل مسائل عقائدية، وكان الحكّام الجبابرة آنذاك يلعبون بمعتقدات المسلمين من أجل بلوغ مقاصدهم المشؤومة ومواصلة تسلُّطهم على رقاب الناس.
نواصل هذا الكلام برواية منقولة عن الإمام الصادق عليه السلام، نقلها الشيخ الطوسي رحمه الله في (الأمالي) عن أبي بصير عن الإمام الصادق
عليه السلام أنّه قال:
«لم يزل اللَّه جلّ اسمه عالماً بذاته، ولا معلوم، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور، قلتُ:
جُعِلْتُ فداك: فلم يزل متكلّماً؟ قال: الكلامُ محدث، كان اللَّه عزّوجلّ ليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام» «1».
وقد نقل المرحوم الكليني قدس سره نفس هذا الحديث في الكافي مع تفاوُتٍ بسيط، حيث ورد في ذيله بصراحة:
«إنَّ الكلام صفةٌ مُحدَثة ليستْ بأزليّة، كان اللَّه عزّوجلّ ولا متكلّم» «2».
تُبيّن هذه العبارات بوضوح الفرق الموجود بين (صفات الذات) و (صفات الفعل)، صفات الذات التي كانت منذ الأزل كالعلم والقدرة، ولا تحتاج (في تحقُّقها) إلى وجود المخلوقات، أمّا (صفات الفعل) فهي صفات خارجة عن الذات الإلهيّة وقد انتزعها العقل عند صدور الأفعال من قِبَلِ اللَّه تعالى ومنسوبة إليه (كالخالقيّة والرازقيّة)، وصفة (التكلُّم) من هذا القبيل أيضاً لأنّها نوع من الفعل والحركة، ونحن نعلم بأن ليس للحركة طريقٌ إلى الذات الإلهيّة المقدّسة.
__________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 4، ص 68، الباب 1، ح 11،.
(2) أصول الكافي، ج 1، ص 107 (باب صفات الذات).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 297
بعد وصف الباري تعالى بصفة التكلُّم تتوجّه الأنظار إلى هذه الصفة وهي: «صدق اللَّه» في كلامه.
إنّ هذه الصفة، التي تعد من أهم الصفات الفعليّة، تشكل العمود الأساس في الوثوق بدعوات الأنبياء، لأنّه- نعوذ باللَّه- لو كان يُمكن تصور صدور الكذب عنه جلّ وعلا لما بقيت هنالك ثقة لا بمسألة الوحي، ولا بالوعود الأخرويّة، ولا بالأخبار التي تتحدث عن المعارف الدينيّة، أو عن عوامل سعادة البشر وشقاوتهم، وبتعبيرٍ آخر فإنّ أسس المسائل الدينيّة تنهار بصورة تامّة بنفي هذه الصفة.
ومن هنا يتضح مدى تأثير الإيمان بصدق اللَّه في فهم حقائق الدين.
ولعل هذا هو السّر من ملاحظة
وصف الباري في آيات قرآنية عديدة بالصادق وبتعابير متنوعة ومختلفة تماماً، ومن زوايا متنوّعة.
بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية:
1- «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً». (النساء/ 87)
2- «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا». (النساء/ 122)
3- «وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ». (آل عمران/ 152)
4- «قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» «1». (الأحزاب/ 22)
__________________________________________________
(1) وقد وردت نفس هذه المفاهيم في آيات قرآنية اخرى (كالذاريات، 5؛ الأنعام، 115؛ الزمر، 74؛ الفتح، 27؛ وكذا ورد تعبير «إنّا لصادقون» في الآية 146 من سورة الأنعام؛ والآية 64 من سورة الحجر).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 298
إشتقتْ كلمة «صادق» من مادّة «صدق»، وكما قال الراغب: إنّها ضدّ الكذب، وبالأصل من أوصاف الكلام والأخبار، فأحياناً صادقة وأحياناً كاذبة، وأحياناً تُستعمل عرضاً في الإستفهام والأمر والدعاء أيضاً، كأنّ يقول أحد: (أَفُلان في الدار) أي إنّه يقصد بأنّه لا يدري بوجود فلان في الدار أو عدم وجوده، (لذا فقد نقول أحياناً: إنّه يكذب، فهو يعلم بوجود فلان في الدار).
وَحقيقة الصدق هي تطابُق الحديث مع الأعتقاد والواقع، لذا فلو تحدّث أحد طبق الواقع ولكن خلاف ما يعتَقِدُ به فهو كاذب، كقول المنافقين لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ»، فقال تعالى ردّاً عليهم: «وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ». (المنافقون/ 1)
وقد يُستعمل الكذب والصدق في مورد الأفعال والأعمال أيضاً، فمن يؤدّي أعماله وفق وظيفته الواجبة يُدعى صادقاً، وإذا عمل على خلافها يُدعى كاذباً، فمثلًا يُقال لِمَن يؤدّي حق الحرب والقتال: (صدق في القتال) وإن لم يفعل يُقال (كذب في القتال)، وآية: «لَقَد صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ»، التي نزلت بشأن تحقق رؤيا الرسول صلى الله
عليه و آله بخصوص فتح مكة ودخول المسلمين المسجد الحرام منتصرين، نموذج على هذا المطلب «1».
و كلمة «صدقة» التي تُستعمل بخصوص الأموال التي يبذلها الإنسان في سبيل اللَّه بقصد القربة، إنّما سُميت بهذا الاسم لأنّ الإنسان يُصدّق بواسطتها إخلاصه بعمله، وكذلك تسمية المهر «صداق» لأنّه دليل عمليٌّ على صدق الزوج إزاء زوجته.
ولكن ما قاله الراغب حول عناصر الصدق الأساسيّة، ووجوب مطابقة الكلام للواقع، واعتقاد المتكلّم، محل اختلاف شديد بين العلماء، فاعتقد البعض منهم كفاية تطابُقه مع المُعتَقد فقط، واشترط البعض الآخر تطابُقه مع الواقع فقط، ولا محل هنا لشرح ذلك.
هذا في حين اعتقد (ابن فارس) في (مقاييس اللغة» بأنّ أصل «الصدق) هو القوّة الموجودة في شي ء وإنّما سُمي الكلام المطابق للواقع صدقاً بسبب قوّته، لذا يُسمّى الرمح
__________________________________________________
(1) المفردات، مادة (صدق)، باختصار.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 299
القوي (رُمح صَدق)، ومهر المرأة (صداق) لأنّه حق مفروض وذو قوّة.
ولكننا نعتقد بأنّ ما ورد في مفردات الراغب حول أصل هذه الكلمة أصَحّ.
و لسائر أرباب اللغة نفس هذا الرأي أيضاً، ويُنقلُ في (شرح القاموس) عن (الخليل) أنّه قال: (الصدق) معناه: الكمال من كل شي ء، وأضاف قائلًا: إنّ إطلاق (صَدق) على الأشياء المستوية القويّة (كالرمح القوي) ينشأ من معنى الجَودة والقوّة (الصلابة)، أي مايُقال بخصوص صلابته وجودته يُطابق الحقيقة، وإذا كان ال (صدق) يعني الصلابة والقوّة لأُطلق على كل شي ءٍ قوي (صدق)، في حين أنّه ليس كذلك.
«صدّيق»: معناه كثير الصدق أو من لا يكذب أبداً أو استحالة صدور الكذب منه لأنّه اعتاد على الصدق، أو مَن يصدق في كُلٍّ من الإعتقاد والقول والعمل، (كل هذا لكون كلمة صدّيق من صيغ المبالغة والتي يُمكن أن تكون في إحدى الأمور
المختلفة المذكورة أعلاه).
ويُستعمل تعبير «لسان صدق» بخصوص الشخص الصالح من جميع النواحي، وإن مُدِحَ وأُثنيَ عليه فهو عين الواقع.
وعلى أيّة حال، فإنَّ وصف الباري بالصادق ينشأ من جهات متعددة: من جهة صدقه في أخباره، وفي وعوده بإثابة المحسنين ومعاقبة المسيئين.
ومن جهة تنفيذه لجميع ما صرّح به في القرآن الكريم، وسيأتي شرحه في تفسير آيات البحث.
تحدثت الآيتان الأولى والثانية حول أنّ اللَّه سبحانه وتعالى أصدق كل شي ء حيث قال تعالى وباستفهامٍ استنكاري: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» و «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا» «1».
__________________________________________________
(1) قيل وقول: مصدر.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 300
وقد اعتقد بعض المفسّرين بأنّ التعبير بكلمة (أصدق) يخص الكميّة فقط (أي مَن هو أكثر صدقاً في الموارد)، لا الكيفيّة، لأنّ الكلام الصادق هو ما طابق الواقع وإلّا فهو كذب، ولا يُمكن تصوُّر الزيادة والنقصان في كيفيته «1».
ولكن الحق هو إمكانية تصوُّر درجات مختلفة للصدق من حيث الكيفيّة، وهو عندما يكون الواقع ذا أبعاد مختلفة، فمن المسلَّم أنّ المتكلّم الذي يُطابق كلامه الواقع في جميع الأبعاد يُعتَبر أصدق ممن يُطابق كلامه الواقع في أبعاد مُعينَّة.
فمثلًا عندما يُشبّهُ مؤمنٌ (بسلمان الفارسي)، والآخر يُشبَّهُ (بأبي ذر)، فمن المسلَّم أن أصدقهما هو من أخذ بنظر الإعتبار في تشببهه أبعاداً أكثر.
واللَّه أصدق حديثاً ممن سواه، إنّما هو كذلك، لكون منشأ الكذب إمّا من الجهل وعدم معرفة الواقع، أو من الضعف والعجز والحاجة، ولكون ذاته المقدّسة منزّهة عن جميع هذه الصفات، فهو أصدق حديثاً.
وتحدثت الآيتان الثالثة والرابعة عن صدق اللَّه في وعوده، لكن الآية الثالثة تحدثت عن الوعد الإلهي حول النصر على الأعداء في معركة أُحد، حيث انتصر المسلمون في البداية طبق هذا الوعد، لكن تثاقل وعصيان جماعة
منهم أدت إلى انكسارهم في نهاية الأمر، قال تعالى: «وَلَقْدَ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ»، ولكن اختلافكم وتماهلكم وعصيانكم في نهاية الأمر أدّى إلى انكساركم، والتقصير إنّما جاء من عندكم، ولم يخلف اللَّهُ وعدَهُ.
وكان هذا ردّاً على من كانوا يعتقدون بأنّ هزيمتهم في معركة أُحد، هي خلاف للوعد الإلهي.
أمّا الآية الرابعة فقد تحدثت عن لسان حال المؤمنين حول واقعة الأحزاب، حيث إنّهم عندما وقفوا أمام جيش الأحزاب قالوا: «هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ».
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 5، ص 95، ذيل الآية 87 من سورة النساء.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 301
والكلام هنا يدور حول كُلّ مَن صدق اللَّه وصدق رسوله الذي: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى ، وقوله قول اللَّه، ووعده وعد اللَّه أيضاً.
وهنالك عدّة احتمالات حول ما وعد به اللَّه ورسوله المؤمنين وتحقق عند مشاهدتهم جيش الأحزاب: الأول: إنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان قد قال لهم: ستقصدكم جيوش الأحزاب بعد تسعة أو عشرة أيّام، فعندما حضرت جيوش الأحزاب في الموعد المقرر قال المؤمنون قولهم هذا: «هَذَا مَا وَعَدَنا اللَّه وَرَسُولُه» «1». (النجم/ 3- 4)
و الأمر الآخر هو أنّه تعالى قال مُخاطباً المسلمين: «أَمْ حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ». (البقرة/ 214)
وجدوا أنفسهم مقابل ذلك الجيش العظيم عرفوا تحقق الوعد الإلهي وإشرافهم على دخول امتحانٍ عظيم «2».
وقال البعض أيضاً: إنَّ الرسول صلى الله عليه و آله كان قد بشّر المؤمنين بالنصر بعد محاصرتهم من قبل جيش الأحزاب، وانتشار الإسلام في أرجاء
العالم وسقوط قصور (الحيرة) و (المدائن) و (كسرى في أيدي المسلمين فيما بعد.
فعندما رأى المسلمون القسم الأول من هذا الوعد فرحوا وقالوا: أبشروا بالنصر النهائي «3».
قال علماء العقائد: إنَّ جميع المسلمين يتفقون على مسألة صدق اللَّه، لكن الأشاعرة
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 21، ص 151.
(2) تفسير الميزان، ج 16، ص 306، وقد ورد نفس هذا التفسير في تفسير الكبير بشكل مختصر.
(3) تفسير القرطبي، ج 8، ص 5239.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 302
الذين لا يعتقدون (بالحسن والقُبح) يعجزون عن إثبات هذه المسألة، لأنّه لا ينفع معهم الدليل العقلي، والدليل النقلي ينفع في بحثنا هذا، لأنّهم إن يستندوا على الآيات القرآنيّة الدّالة على صدق اللَّه يجر الكلام حتى يصلَ إلى هذه الآيات. وبعبارة اخرى فإنّ الاستدلال بالآيات يستلزم الدور (تأمل جيداً).
وهنا يعجزون عن الجواب وإثبات مدّعاهم.
وبما أنَّ مسألة الحسُن والقُبح العقليّين- بغض النظر عن التعصّب والأذواق المنحرفة- من المُسَلَّمات، فإنّ أفضل طريق لإثبات صدق اللَّه هو هذه المسألة.
يُعد الكذب، حتى من قِبَلِ الإنسان العادي، من أقبح الأعمال، بل يعتبر بؤرة أغلب القبائح، ودليلًا بارزاً على انحطاط الشخصيّة، فمن المسلَّم به قُبح مثل هذا العمل من كلّ ناحية بالنسبة إلى الباري تعالى، أي أن يكذب سبحانه أو يَعِدَ كذباً- معاذ اللَّه.
وإن احتمل أحد مثل هذا الإحتمال اللامعقول بالنسبة إلى الذات الإلهيّة المقدّسة لتهدمت جميع مباني معتقداته، لأنّ القسم الرئيس من هذه المباني مأخوذ عن الوحي، وَلَو وُجد احتمال الكذب ومخالفة الواقع إليه سبيلًا، لما بقيت هنالك ثقة بالوحي، والأخبار الإلهيّة، والوعد والوعيد، ولتزلزلت جميع المعتقدات الدينية وتعرضت للعدم، وهذه المسألة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى توضيح.
وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ عوامل الكذب أي
(الجهل) و (الحاجة) ليس لها إلى ذات الباري من سبيل، وهذا بحد ذاته دليلُ آخر.
لا ريب أنّ لبحث صفات اللَّه طابعاً عقائدياً، والهدف منه هو تكميل المعارف الإلهيّة، ولكن ينبغي أن لا يُغفلَ عن أثره التربوي في تكامل النفوس الإنسانية، وغالباً ما كان هذا هو هدف القرآن من طرح هذه الصفات.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 303
فعندما نصف اللَّه بالذات الكاملة، وبأنّه سبحانه أمل جميع العباد، وتبذل جميع الجهود والمساعي من أجل التقرُّب منه، وإليه تنتهي جميع الخطوط التكاملية، فإنّ من الواضح أنّ هذا البحث يقول للإنسان بكل صراحة وجزم: (إنّك ستنتصر وتنجح في جهودك ومساعيك، وستبلغ السعادة عندما تستطيع أن توهِّج نوراً في قلبك من صفات الجلال والجمال الإلهيّة تلك).
أو بتعبير آخر، فإنّك تصير مظهراً لأسماء اللَّه وصفاته وتطغى عليك صبغته، وتصير روحك ونفسك مرآةً لأسمائه، ومظهراً لصفات جلاله وجماله.
وأن تحاول التشبُّه به من حيث العلم، القدرة، الإرادة والمشيئة، المديريّة والربوبيّة، والرحمانيّة والرحيميّة، و ...، ولو بمقدار قليل.
ويُلاحظ وجود إشارت لطيفة إلى هذه المسألة التربويّة المهمّة وردت في الأحاديث الإسلامية، ومن جُملتها ما ورد في (تنبيه الخواطر) عن الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله أنّه قال:
«جعل اللَّه سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق صلةً بينَهُ وبين عباده فحسبُ أحدكم أن يتمسك بخلقٍ متّصلٍ باللَّه» «1».
وفي حديثٍ آخر عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «تخلّقوا بأخلاق اللَّه» «2».
__________________________________________________
(1) تنبه الخواطر، ص 2 و 3، طبق ماورد في ميزان الحكمة، ج 3، ص 149.
(2) زبدة المعارف في أصول العقائد، ص 87، المحقق اللاهيجي.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 305
نفحات القرآن، ج 4، ص:
307
إنّ لصفة (العدالة) خصوصيات خاصّة من بين صفات الفعل الإلهي، ممّا حدى بعلماء العقائد إلى بحثها بالتفصيل وبصورة مستقلّة، إلى الدرجة التي نلاحظ استقلالها من بين أصول الدين، وأنّها ذُكِرَت كأحد أصول الدين العقائدية الخمسة، في حين أنّها لا تتفاوت عن بقية الصفات حسب الظاهر، وينبغي دمجها في مباحث معرفة اللَّه، في بحث (الأسماء والصفات).
إنّ شرح هذه الخصوصيّات قبل البحث حول أصل المسألة غير ممكن، لذا سوف نوكله إلى ما بعد، ونكتفي هنا بالقول: إنَّ لمسألة العدل الإلهي علاقة بأصل الإيمان بوجود اللَّه من جهة، وبمسألة المعاد من جهةٍ اخرى، وبمسألة النبّوة من جهةٍ ثالثة، وبمسائل من قبيل، الثواب والعقاب، الجبر والتفويض، التوحيد والثنويّة، فلسفة الأحكام، وغيرها، من جهة رابعة، لذا فقد يُمكن أن يُغيّر الإعتقاد بهذا الأصل أو نفيهُ شكل جميع المعارف والعقائد الدينيّة.
إضافةً إلى هذا فإنّ أثر العدل الإلهي في المجتمع البشري، في مسألة العدالة الاجتماعية، والعدالة الأخلاقية والمسائل التربويّة، غير قابل للإنكار.
وبسبب المسائل التي ذكرناها أعلاه، فإننا أيضاً نبحث هذه الصفة على حِدة وأكثر تفصيلًا، ولكن، وكما يستوجب اسلوب التفسير الموضوعي، ينبغي علينا قبل كلّ شي ء أن نتعرض إلى الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال، لنستنير بها في طريق حل المشاكل المعقّدة لهذه المسألة المهمّة، بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية.
1- «إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكنَّ النَّاسَ انفُسَهُم يَظلِمُونَ». (يونس/ 44)
2- «وَلَا يَظلِمُ رَبُّكَ احَداً». (الكهف/ 49)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 308
3- «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظلِمُونَ».
(التوبة/ 70) (الروم/ 9)
4- «فَاليَومَ لَاتُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً وَلَا تُجزَونَ إِلّا مَا كُنتُم تَعمَلوُنَ». (يس/ 54)
5- «وَمَا تُنْفِقُوا مِن خَيرٍ ... يُوَفَّ الَيكُم وَانتُم لَاتُظلَمُونَ». (البقرة/ 272)
6-
«بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظلَمُونَ فَتِيلًا». (النساء/ 49)
7- «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلماً لِّلعَالَمِينَ». (آل عمران/ 108)
8- «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ».
(آل عمران/ 18)
9- «انَّهُ يَبدَؤُا الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجزِىَ الَّذِينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالقِسطِ».
(يونس/ 4)
10- «وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً».
(الأنبياء/ 47)
11- «وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامِ لِّلعَبِيدِ». (فصلت/ 46)
12- «ام نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ فِى الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ». «1»
(ص/ 28)
إِنَّ كلمة (ظلم)- كما ورد في مقاييس اللغة- في الأصل ذات معنيين مُتفاوتَين: أحدهما (الظُلمة)، والآخر: (وضع الشي ء في غير محلّه)، وفي مقابله (العدل) وهو وضع الشي ء في محلّه المناسب.
__________________________________________________
(1) وردت آيات قرآنية كثيرة اخرى بصدد هذا المجال، وقد انتخبنا من الآيات ذات المضمون الواحد ولكن بعبارتين متفاوتتين، ونموذجاً من الآيات ذات العبارات المتشابهة، من جملتها الآيات التالية: «النساء، 40 و 77؛ العنكبوت، 40؛ الأنفال، 60؛ البقرة، 281 (إضافة إلى أربع عشرة آيةً تحتوي كل منها على تعبير «لا يُظلمون»، وتشير بدون استثناء إلى نفي الظلم عن اللَّه تعالى ويونس، 47 و 54.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 309
و يُحتَملُ أن يعود كلا المعنيين إلى أصلٍ واحد لأنّ الظلم (ضد العدالة) سبب الظُّلمة أينما كان، ولعل هذا هو السبب الذي دفع بالراغب في مفرداته، إلى اعتبار (الظُّلمة) أصل هذه الكلمة.
وقد وردت في لسان العرب أنّ أصل الظُّلم هو: «الجور والتجاوُز عن الحد)، وأضاف في تعبير آخر: الظلم معناه: (الانحراف عن الحد المتوسط).
طبعاً: إنّ هذه المعاني الثلاثة للظلم أي (وضع الشي ء في غير محله) و (التجاوز عن الحد) و (الانحراف عن الحد المتوسّط)، تعود إلى أصل واحد).
وقد قسّم بعض العلماء
الظلمَ إلى ثلاثة أقسام: ظلم الإنسان ربَّهُ، وأظهر مصاديقه الكفر والشرك والنفاق، وظلم الإنسان الآخرين، وظُلمه نفسَهُ، وذكروا لكلٍّ منها شواهد قرآنية، ولكن من زاوية معينة نرى أنّ الأقسام الثلاثة تعود إلى أصل ظُلم النفس، لأنّ الإنسان منذ اللحظة الأولى من تصميمه على الظلم يوجّه الضربة الأولى إلى نفسه، كما قال تعالى: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُم يَظلِمُونَ». (الأعراف/ 160)
وضّد الظلم (العدل)، وقد ذكروا له معنيَين متضادّين هما:
الأول: هو معناه المعروف أي وضع الشي ء في محلّه المناسب، ولهذا المفهوم الواسع مصاديق كثيرة من جملتها العدالد بمعنى الإعتدال، العدالة بمعنى رعاية المساواة ونفي كل ألوان (التمييز)، العدالة بمعنى رعاية حقوق الآخرين، والعدالة بمعنى رعاية الحقوق والإستحقاقات، وأخيراً العدالة بمعنى التزكية والتطهير.
وإن استعملها القرآن الكريم أحياناً بمعنى الشرك فسببه أن المشرك يتخذ للَّه ندّاً وعديلًا، قال تعالى في الآية الأولى من سورة الأنعام: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِهِم يَعْدِلُونَ».
الثاني: كما ورد في المقاييس: هو الإعوجاج والانحراف.
وقال بعض أرباب اللغة: إنّه يعني الظلم (أي) أنّ العدل من الألفاظ التي لها معنيان متضادّان، لذا يُطلق على الانحراف عن شي ء (عدول).
وكلمة (قسط) في الأصل تعني الحصّة والنصيب العادل، ولذلك فإنّها قد تأتي أحياناً
نفحات القرآن، ج 4، ص: 310
بمعنى (العدالة)، وهو عندما يُعطى نصيب كل واحد بالعدل، وأحياناً اخرى تأتي بمعنى (الظلم)، وهو عندما يُسلب منه نصيبه العادل.
ويُستعمل الأول عادةًبصيغة (افعال)، لذا فقد سُمي اللَّه باسم (المُقسِط)، والثاني بلفظة (قِسط) (من الثلاثي المجرّد) لذا فالقاسط يعني (الظالِم)، قال تعالى «وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ...». «1»
(الجن/ 15)
وكذلك قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ ...». (المائدة/ 42)
ويجدر ذكر هذه المسألة أيضاً وهي أنّ كلمتي (القسط) و (العدل) كلمتان قد تُستعملان أحياناً بصورة
منفصلة وبمفهومَين متقابلين مع بعضهما تقريباً، ولكن تستعملان أحياناً اخرى في موضعٍ واحد، كالحديث الشهير المنقول عن مصادر الشيعة وأهل السُّنة.
عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتى يخرح رجل من وُلدي فيملأها عَدلًا وقسِطاً كما مُلِئَت جَوراً وظُلما» «2».
فقد ذُكرَ (العدل) و (القسط) إلى جوار بعضهما في هذه الرواية، كما هو حال كلمتي (الجور) و (الظلم).
وحول ماهية التفاوت الموجود بين هذين التعبيرين؟
يُمكن القول: إنّ (القسط)- كما ذكرنا هذا في تفسير مفهومه اللغوي- معناه التقسيم العادل وضدّه (التمييز)، وعليه فإنّ القسط معناه اعطاء كل ذي حقٍّ حقه لا غير.
لكن العدالة ضدّ الجور والتجاوز على حقوق الآخرين، كأن يغصب أحد حقَّ الغَير ويستولي عليه، ونحن نعلم بأنّ العدالة الكاملة في المجتمع البشري تتحقق عندما لا يكون هنالك تجاوز من قبل أحد على حقوق الآخرين، ولا يُعطى حق أحدٍ لغيره.
ويُستنتج (تباينٌ) آخر أيضاً من التعبير الوارد في بعض الأحاديث وهو كون العدالة
__________________________________________________
(1) لسان العرب، مفردات الراغب؛ مقاييس اللغة؛ ومجمع البحرين.
(2) منتخب الأثر، ص 247؛ وقد نُقل في هذا الكتاب 123 حديثاً بهذا المضمون (مع تفاوتٍ قليل)، وقد ورد هذا المضمون أيضاً في كتاب نور الأبصار للكاتب محمد الشبلنجي، من خلال روايات متعددة، ص 187- 189.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 311
تخص الحكم والقضاء والقسط يخصّ تقسيم الحقوق، وقد ورد في لسان العرب نقلًا عن بعض الأحاديث «إذا حكموا عدلوا وإذا قسّموا أقسطوا» «1».
ويُحتمل أيضاً أن يكون العدل ذا مفهومٍ أوسع وأعمق من القسط، لأنّ القسط يُستعمل بخصوص التقسيم، والعدل يُستعمل فيه وفي موارد اخرى.
الجدير بالانتباه هو استعمال القرآن الكريم كلمة (العدل) في
المواضع المتعلّقة بوظيفة العباد، وعدم استعماله هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى وبالمقابل يلاحظ تعبير (نفي الظلم) عن اللَّه بكثرة، وتعبير إقامة اللَّه القسط ليس بقليلٍ أيضاً.
وأمّا ترك استعمال كلمة (عدل) بخصوص الذات الإلهيّة المقدّسة فيُحتملُ أن يكون سببه هو ما أشرنا إليه سابقاً وهو كون كلمة (العدل) قد تُعطي معنى (الشرك) أحياناً، (أي اتخاذ الكفوء والند للَّه تعالى ، فما أراد سبحانه أن يُستعملَ هذا اللفظ المشترك بخصوص ذاته المقدّسة!
وعلى أيّة حال فقد قال تعالى في الآية الأولى من البحث: «إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ انْفُسَهُم يَظلِمُونَ».
يُمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى الكلام الذي ورد في الآيات التي سبقتها، من قوله تعالى: «وَمِنهُم مَّنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ وَلَو كَانُوا لَايَعقِلُونَ* وَمِنهُم مَّنْ يَنظُرُ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تَهدِى العُمْىَ وَلَو كَانُوا لَايُبصِرُونَ* إِنَّ اللَّهَ لَايَظلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ انفُسَهُم يَظلِمُونَ».
وبتعبير آخر: إنّها سنّةٌ إلهيّة أن لو لم تُستعمل الأبصار والأسماع السليمة في الأتجاه
__________________________________________________
(1) لسان العرب، ج 7، مادة (قسط).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 312
المخلوقة من أجله لفقدت قدراتها، لذا فلو لم ينتبه أحدٌ إلى مثل هذه الحالة لكان قد ظلم نفسه بنفسه، لا مظلوماً من قبل اللَّه تعالى.
وقد أيدّ الكثير من المفسّرين هذا التفسير، ولكن العجب من ترك البعض الآخر منهم (كالفخر الرازي) هذا المطلب الواضح وانصياعهم لعصبيّتهم المذهبية في مسألة العدالة، فقالوا: (لأنّ كل ما في الوجود ملكٌ له، فكل ما يعمله ليس بظلمٍ).
في حين أنّ الآية تشير بدقّة إلى خلاف هذا المطلب، فظاهر الآية يُفهم منه انتفاء تصوُّر الظلم بشأنه جلّ وعلا، بل إنّه لن يظلم أحداً في نفس الوقت الذي يقدر فيه على ذلك.
ومن قبيل هذا التعبير
كثير، فلو قيل: إِنّ الطبيب الفلاني، لم يُعالج المريض الفلاني فإنّه يعني، أَنّه كان قادراً على علاجه، لكنّه لم يفعل، فلا يُقال أبداً: إِنّ الأُميّ الفلاني لم يُعالج فلاناً من الناس.
أمّا الآية الثانية فقد أشارت إلى هذا المعنى بتعبيرٍ آخر، حيث قالت: «وَلَا يَظْلِمُ رَبِّكَ أَحَداً» ويُمكن أن يكون ذكر تعبير (رب) إشارة إلى رعايته تعالى للإنسان بالتربية والتكامل، لا الظلم والجور الذي يؤدّي إلى النقصان والتخلُّف (الذي هو خلاف اصول الربوبيّة).
وقد ذكرت هذه الجملة بعد بيان حال المجرمين في القيامة، عندما يرون كُتبهم فيقولون:
«يَاوَيْلَتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً». (الكهف/ 41)
لذا فإنّهم هم الذين ظلموا أنفسهم لا اللَّه سبحانه وتعالى، وتتضح مسألة انتفاء الظلم عن اللَّه سبحانه وتعالى نهائياً من خلال تصريحِهِ تعالى في القرآن بتجسُّم أعمالهم هناك (أي يوم القيامة).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 313
وأشارت الآية الثالثة إلى العذاب الدنيوي الذي أصابَ ستةً من الأقوام السالفة بسبب طغيانهم وظُلمهم وعنادهم «1»، قال تعالى «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظلِمُونَ».
لقد منَّ اللَّه عليهم بالعقل والفهم والمعرفة، وأرسل إليهم الأنبياء والكتب السماويّة الواحد تلوَ الآخر، وحذّرهم مِراراً، فعندما لم ينفع معهم أي واحدٍ من هذه الأمور، أنزل عليهم العذاب وأهلكهم، فمنهم من أغرقه بالماء، ومنهم بالريح العاصفة، ومنهم بالزلزلة، ومنهم من أخذته الصيحة.
وهذا الكلام تحذيرٌ ضمنيٌّ للأقوام الحاليّة، والطغاة، والمتمردين العصاة، ليكونوا على وجل لئلّا يحطّموا أنفسهم بأيديهم ويُحرقوا حاصل حياتهم بنار أعمالهم.
وجملة: «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ»، التي اجتمع فيها الفعل الماضي (كان) والمضارع (ليظلمهم)، تشير إلى نفي ظلم اللَّه لأي أحدٍ وفي أيٍّ من الأزمنة الماضية، واستمرار هذه الصفة والسُّنة الإلهيّة وثباتها وعدم
كونها أمراً مقطعيّاً مؤقتاً وعابراً.
أمّا الآية الرابعة فقد أشارت إلى الجزاء الأخرويّ وأحوال يوم القيامة، حيث قال تعالى:
«فَاليَومَ لَاتُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً وَلَا تُجزَونَ إِلَّا مَا كُنتُم تَعمَلُونَ».
مع أنّ فعل (تُظلَمُ) في هذه الآية قد ذُكِرَ بصيغة المجهول، لكنّه من الواضح أنّ الحاكم الوحيد في محكمة القيامة هو اللَّه سبحانه وتعالى، إذن يُعتبر نفي الظُّلم في هذه الآية نفياً للظلم عن ساحة قُدسه تعالى وعليه فإنّه لا يرتضي الظُّلم لأحد لا في الدنيا ولا في الآخرة، إنّها أعمال الناس التي سوف تتجسّم أمامهم هناك وترافقهم، فإن كانت صالحة منحتهم اللّذة والنشاط والبهجة، وإن كانت طالحة صارت سبب عذابهم وأذاهم، لذا قال سبحانه: «وَلَا تُجزَونَ إِلَّا مَا كُنتُم تَعمَلُونَ».
__________________________________________________
(1) قوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ وقوم ابراهيم وقوم شعيب وقوم لوط.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 314
وقالت الآية الخامسة بصراحة- والتي وردت بخصوص حالة خاصّة وهي الأنِفاق- «وَمَا تُنفِقُوا مِن خَيرٍ ... يُوَفَّ الَيكُمْ وَانتُم لَاتُظلَمُونَ».
فسّر جماعة من المفسّرين (الظلم) هنا بمعنى النقصان، (أي لا تُنقَصون)، ولكن يبدو بأنّ (الظلم) هنا له نفس ذلك المعنى الواسع على الرغم من كون مصداقه هنا النقصان الكمّي أو الكيفي.
والملفت للإنتباه هو أنّ- كما لوّح به صدر الآية، وصرّح به شأن النزول- هذه الآية نزلت بخصوص الإنفاق حتى على فقراء الكفّار، فشوّق القرآن جميع المسلمين لينفقوا عليهم أيضاً عند حاجتهم، إنّهم غير مسؤولين عن إيمان الكفّار، فهدايتهم وتوفيقهم للإسلام بيد اللَّه، فليطمئن المسلمون بأنّ كل انفاقٍ خالص لمساعدة الفقراء الحقيقيين سيوفّى إلى المُنفقين يوماً ما ويعود إلى حوزتهم.
أمّا في الدنيا فلأنّه (أي الإنفاق) يؤمّنُ ويحفظ أموالهم، حيث عندما يضغط الفقر على طائفة من المجتمع فستسودهُ الفوضى، وينعدم الأمن في المجتمع، وستتعرض الأموال
للتلف ليست لوحدها فقط، بل الأرواح أيضاً.
أمّا في الآخرة فانهم سيحصلون على أضعافه المضاعفة من الرحمة الإلهيّة والثواب العظيم.
وبالمناسبة إنّ هذا التعبير يُعَدُّ ترغيباً للمُنفقين لإنفاق أفضل مقدار ونوعٍ من أموالهم في سبيل اللَّه، لأنّه سيوفَّى إليهم، فهل يُحبّ أحدٌ أن يسترجع ثياباً رثّةً أو أموالًا غثة؟ إذن يجب أن لا يكون سعيه الوحيد هو إنفاق أمواله الحقيرة في سبيل اللَّه.
وتحدثت الآية السادسة عن الذين كانوا يزكّون أنفسهم ويعتقدون بأفضليتهم على من سواهم، كاليهود الذين قالوا: نحن أبناء اللَّه، وكانوا يعتقدون بأنّ اللَّه يغفر في الليل ما يرتكبونه من الخطايا في النهار، ويغفر في النهار ما يرتكبونه من الخطايا في الليل! أو
نفحات القرآن، ج 4، ص: 315
النصارى الذين كانوا يعتقدون لأنفسهم من قبيل هذه الأمور (حول شأن نزول هذه الآية، أشار الكثير من المفسّرين إلى إدعاءات هاتين الفئتين).
فالقرآن يقول (إنّ هذه التزكية الناشئة من التعصُّب والعُجب والغرور، لا قيمة لها، إنّما القيمة في تزكية اللَّه من يشاء من عباده)، قال تعالى: «بِلِ اللَّهُ يُزَكّى مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظلَمُونَ فَتِيلًا».
أجَل، إنّ علمه بجميع وجود الإنسان، ظاهره وباطنه، خلقه وطبعه، أعماله السريّة والعلنية، يؤدّي إلى أن تكون تزكيته لفردٍ ما حقانية، أي لا أقل ولا أكثر من اللازم، في حين أنّ تزكية الآخرين مشوبة بالجهل في أبعاد مختلفة، ومصحوبة بأنواع الحب والبغض والغفلة والغرور.
وعليه فانَّ الكلام في هذه الآية يدور فقط حول الظلم وتجاوز الحد بالنسبة إلى تزكية الأشخاص من قِبلِ اللَّه سبحانه وتعالى، ولكن يُحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الذنب الكبير الذي كان يرتكبه المزكّون أنفسهم بسبب عجبهم، لأنّهم كانوا يعتقدون بخصوصيّتهم عن غيرهم واستحقاقهم لكل ألوان الكرم الإلهي.
فالقرآن يقول: إنّ من وراء
هذا الكلام عقوبة ثقيلة ولكن لا ظُلم فيها.
ولكن يبدو أنّ التفسير الأول أقرب إلى المعنى.
أمّا مادّة (فتْل) على وزن (قتل) فهي تعني البرم، لذا فإنّ (فتيل) يعني الحبل المبروم، وتُطلق عادةً على ذلك (الخيط) الرقيق الموجود في شق نواة التمر، وهو كناية عن الشي ء القليل جدّاً.
ويُلاحظ في الآية السابعة نفس هذا المعنى بتعبيرٍ جديد، فإن كانت الآيات الاخرى قد نفت ظلم اللَّه لعباده، فهذه الآية نفت ظلمه للعالمين جميعاً، فليس فقط لا يظلم، بل حتى لا تتعلق إرادته بالظلم، قال سبحانه: «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلماً لِّلعَالَمِينَ».
نفحات القرآن، ج 4، ص: 316
ولو اعتبرنا كلمة (عالمين) جمع عاقل، لشملت جميع الموجودات العاقلة في الوجود، من الناس، والجن والملائكة، وإن حملناها على (التغليب) لشملت جميع موجودات عالم الوجود، من العاقلة وغير العاقلة، ومن الحيّة وغير الحيّة (الجمادات)، ولأثبتت العدل الإلهي بخصوصها جميعاً (أي وضع كل شي ء في محلّه المناسب).
والتعبير بكلمة (ظُلماً) وبصيغة المفرد النكرة وسبقه بالنفي، إنّما هو من أجل التعميم، ويشمل أدنى وأقلَّ ظُلمٍ وجَور.
وقد ورد في تفسير الميزان أَنّ التعبير بكلمة (العالمين) يُشير إلى هذه الحقيقة، وهو:
انعكاس أثر الظلم في جميع العالم بأي مقدارٍ كان ومن أي إنسان صَدَر. (لأنّ العالم وحدة مترابطة) «1».
والجدير بالإلتفات هو أنّ جماعةً من العلماء توسّلوا بهذه الآية لإبطال مذهب الجبر وما يتفرع منه، فقالوا: إذا كانت أعمال العباد من فعل اللَّه وصادرة من ذاته المقدّسة، لا ستوجب أن يكون ظلمهم بعضهم أو أنفسهم من فعله تعالى، ولكن الآية المذكورة أعلاه عندما نفت أي ظُلمٍ من قبل اللَّه للعالمين فإنّها تدلّ على انتفاء كون هذه المظالم من فعله تعالى، بل هي من أنفسهم، لأنّها لو كانت من فِعله لتعلقت بها الإرادة
الإلهيّة، وقوله: «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلماً» يدّل على نزاهة ذاته المقدّسة عن هذه المظالم.
والعجيب هو أنّ الفخر الرازي قد نقل هذا الكلام في تفسيره من دون أن يكون له جواب عنه، على الرغم من تعارُضه مع عقيدته حول الجبر والتفويض «2».
وعلى أيّة حال، إنّ هذه الآية لها صيغة تعميمية من ثلاث جهات: (العالمين) و (الظلم) و (الإرادة) وتُعَدُّ من أجمع آيات نفي الظلم عن اللَّه تعالى.
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 3، ص 1414 (مع شي ءٍ من الإقتباس).
(2) تفسير الكبير، ج 8، ص 174.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 317
أمّا الآية الثامنة فعلى خلاف الآيات السابقة، التي كانت تتحدث عن نفي الظلم، أكّدت إثبات القِسط والعدل كسُنّة دائميّة وأبديّة، قال تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ».
والجدير بالإنتباه هو كون العدالة الإلهيّة من أحد شروط (الشهادة)، وعدالته شرطٌ لمنع عباده عن أي انحرافٍ عن طريق الحق، وتمّ التأكيد هنا على عدالة اللَّه لتكميل شهادته، وهذه العدالة تثبت بوضوح بنظرةٍ عميقةٍ واحدة إلى عالم الوجود، لأننا نرى كُلّ شي ءٍ في محلّه، ونشاهد منتهى الدقة والإستحكام في النظام الموجود في الوجود، وإذا لاحظنا وجود بعض العيوب في بعض حوادث وأشياء العالم، فإنّها تتضح لنا شيئاً فشيئاً بزيادة التدقيق والتطور العلمي، وإن بقيت حالات نادرة في قيد الإبهام، فإننا وبأخذنا بنظر الاعتبار الحوادث المكتشَفة في العالَم، سنعلم بأنّ سبب بقاء إبهامها هو جهلنا وقلّة علمنا.
ومن جهةٍ اخرى، إنّ عدالة اللَّه دليل أيضاً على وحدانيته، لأنّه لو كان هنالك خالقٌ وحاكمٌ في الوجود سواه لأدّى إلى حدوث اختلاف في التدبير والفساد بالنتيجة، وعليه فإنّ النظم الموجودة، ووحدة التدبير خيرُ دليلٍ على وحدانيتة.
وبهذا فإنّ وحدانيته تدل
على عدله، وعدله يدل على وحدانيته، وهذا مطلب ظريف يُستحصَلُ من الآية أعلاه «1».
والظريف (هو استدلال الزمخشري في الكشاف بهذه الآية على نفي الجبر، لأنّ الجبر يتنافى مع عدالة اللَّه).
وهذا مطلب واضح سنتطرق إليه في البحوث القادمة إن شاء اللَّه، فأي ظُلمٍ أكبر من أن يجبر شخصٌ أحداً على فعلٍ معين ثم يؤاخذه عليه ويعاقبه؟
لكن الفخر الرازي، وانطلاقاً من تعصُّبه الخاص حول هذه المسألة، تهجمّ بشّدة على صاحب الكشّاف ووصفه عدّة مرّات بالمسكين أو بغير المحيط بجميع رموز العلم، وتوسّل بالإشكال الشهير المعروف (بعلم اللَّه) في مسألة الجبر، وهو إن لم يعصِ المذنبون ولم
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 3، ص 119 (مع شي ء من الأقتباس).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 318
يرتكبوا الذنوب الموجودة في علم اللَّه منذ الأزل، لصار علم اللَّه جهلًا! «1»
في حين أنّ الرد على هذا الإشكال من البساطة والوضوح بحيث يعلمه جميع من لهم أدنى اطلاع حول مسألة الجبر والتفويض، وسيأتي شرحه في البحوث القادمة إن شاء اللَّه تعالى.
وأمّا الآية التاسعة فقد أشارت أيضاً إلى مسألة عدالة اللَّه في القيامة في مسألة الثواب والعقاب، وأكّدت على كلمة (القِسط)، قال تعالى: «إِنَّهُ يَبدَؤُا الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجزِىَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالقِسطِ».
وهذه الآية بالواقع تشير إلى كُلٍّ من الدليل العقلي على إمكان المعاد، ودليل وقوعه، أمّا إمكانه فلأنّ مَنْ بدَء الخلق قادر قطعاً على إعادته وإحيائه من جديد.
أمّا وقوعه، فلو لم يكُن (المعاد) لما تحقق القسط والعدل، فهنالك الكثير من المحسنين ممن لم يحصلوا في هذه الدنيا على ثواب عملهم، ومن المسيئين الذين لم يذوقوا- في هذه الحياة الدنيا- قصاص أعمالهم، فلولا المعاد لما تحقق العدل والقِسْط.
والجدير بالإنتباه هو أَنّ الآية قد أشارت
في نهايتها إلى العذاب الأليم الذي سيلقاه الكافرون في الآخرة: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِّن حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكفُرُونَ».
(يونس/ 4)
دون أن تتطرّق إلى مسألة القسط والعدل، والسبب في هذا هو أنّ إجراء القسط والعدل في جزاء الكافرين واضح من قرينة بداية الآية، علاوةً على كون جملة: «بما كانوا يكفرون» دليلًا واضحاً على كون ما يلقونه من العذاب جزاء ولقاء ما كانوا يعملون، وكأنّ المقصود من ذكر (القسط) بعد جزاء الصالحين هو بيان كونه الهدف الأصلي للخلق والإيجاد، وما يوم القيامة والحساب إلّالأجلهم وله حالة تبعيّة تخصّ الآخرين.
واحتمل بعض المفسّرين حول تفسير هذه الآية أنّ القسط هنا يخص أعمال المؤمنين،
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، 7، ص 206.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 319
أي: إنّ اللَّه سيجزي المؤمنين في يوم القيامة لقيامهم بالعدل والقسط الذي يقتضيه الإيمان «1».
لكن المفسّر هذا لم ينتبه إلى هذه الحقيقة وهي كون (العمل الصالح) يتماشى مع أُسس العدالة، ولا تحتاج إلى قيدٍ أو شرط، إلّاأن يكون ذا حالة تأكيديّة، ونحن نعلم بأنّ حمل الكلام على التأكيد خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة.
وأشارت الآية العاشرة إلى نفس هذا المعنى مع وجود هذا التفاوت، وهو بَيانها القسط والعدل كصفتين لموازين الأعمال، ونحن نعلم بأنّ مُقيم هذه الموازين هو اللَّه العادل، إذن لابدّ من التسليم بأنّها من صفات ذاته المقدّسة.
والتفاوت الآخر في هذه الآية عن الآية السابقة هو كون مفهوم هذه الآية عامّاً، ويشمل كلًا من المؤمن والكافر، لأنّ (ميزان القسط) لا يزن إلّاقِسْطاً وعدلًا، ولا يظلمُ أحداً. قال تعالى: «وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً».
والظريف هو وصفه تعالى هذه الموازين (بالقسط)- (العدل بالمعنى المصدري)- وقوله:
إنّ هذه الموازين عين العدل، ممّا يعكس
نهاية التأكيد كقولنا: (زيدٌ عدلٌ)، أي أنّه عين العدل، فعليه لا حاجة في هذه الآية إلى التقدير.
وسيأتي هذا المطلب في المجلد الخامس من هذا التفسير في بحوث المعاد إن شاء اللَّه، وهو كون المقصود من (الميزان) هنا شيئاً مماثلًا للموازين الماديّة ليصير مجالًا لطرح هذا الإشكال، وهو كون أعمال الإنسان ليست ذات وزنٍ يُذكَرُ، فكيف يمكن وزنها بهذه الموازين؟ فنضطر إلى القول كما قال الفخر الرازي: إنّ المقصود منها وزن كتب الأعمال!
أو الحسنات تتجسّم بشكل جواهر بيضاء نورانية! والسيئات تتجسّم بشكل جواهر سوداء ظلمانية! «2»
__________________________________________________
(1) تفسير المنار، ج 11، ص 299.
(2) تفسير الكبير، ج 22، ص 176.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 320
بل المقصود من (الموازين) هو وسيلة القياس، وكما نعلم أنّ وسيلة قياس كل شي ءٍ تتناسب مع ماهية ذلك الشي ء، كقياس الوزن، قياس الحرارة، وقياس ضغط الدم، و ...، لذا فإنّ وسيلة قياس الأعمال أيضاً هي تلك المعايير الخاصّة التي تُقاس بواسطتها، كما ورد في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام: «السلام على ميزان الأعمال!».
أجل، إنّ الإنسان الكامل ميزان قياس أعمال مختلَف الأفراد، لأنّ وزن كُل انسانٍ يُعادل نظيره!
والظريف هو ما ورد في بعض التفاسير بأَنّ داود عليه السلام طلب من اللَّه أن يُريه (ميزان الأعمال)، فعندما رآه صُعِقَ! فلمّا أفاق قال: إلهي ميزانٌ بهذه العظمة!؟ مَنْ ذا الذي يقدر أن يملأ كفّته بالحسنات؟ فقال سبحانه وتعالى مخاطباً إيّاه: «يا داود إِذَا رَضِيتُ عَن عَبدِي مَلأَتها بِتَمرةٍ!».
(أجل إنّ المعيار هناك هو نوعيّة العمل لا كميّته) «1».
استعملت الآية الحادية عشر مصطلح (ظلّام) الذي هو من صيَغِ المبالغة، ويعني كثير الظلم، قال تعالى: «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامِ لِّلعَبِيدِ».
ذكر القرآن هذه الجملة بعد أن أخبر بأنّ
كل انسانٍ مرتَهَنٌ بعمله، إن عمل صالحاً فلنفسه و إن أساء فعليها، وإن تورّط الناس بعواقب مشؤومة فبما كسبت أيديهم، وأنّ اللَّه ليس بظالمٍ لهم.
ونفي صفة (ظلّام)- كثير الظلم- عن اللَّه تعالى- مع كونه لا يظلم أحداً أدنى شي ء- فيه كلام، فقد قال البعض: إنّ صدور (ادنى شي ء من الظلم) ممن يعلم بقباحته وليس له أي حاجةٍ إليه، يُعَدُّ ظُلماً عظيماً «2».
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 22، ص 176.
(2) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 18.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 321
ويُحتمل أيضاً أن يؤدّي ترابط عالم الوجود، وبالأخص حياة البشر، مع بعضه إلى أنّه لو افترضنا صدور ظلمٍ معينٍ من ذاته المقدّسة بشأن أحدٍ ما، لسَرى إلى الآخرين واتخذ صفة (ظلّام).
كيف يُمكن أن يوصف اللَّه، المنزّه عن كل عيبٍ ونقصٍ، والموصوف بجميع صفات الجمال والجلال، بصفة (الظلّام)؟
والتفسير الرابع هنا، والذي يَبدو أفضل من جميع هذه التفاسير، والمشار إليه في بعض الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام، هو أنّ الآية المذكورة- ونظراً لما ورد في صدرها- تُبطل عقيدة الجبر: فتقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا». (فصلت/ 46)
فعليه الجميع مفوّضون في ممارسة الأعمال، وإذا أجبرهم اللَّه على ارتكاب الذنوب وآخذهم عليها لكان ظلّاماً قطعاً، ولأنّ اللَّه ليس بظلّامٍ للعبيد فهو لا يجبرهم على ارتكاب القبائح ويؤاخذهم عليها فيما بعد.
ورد في حديثٍ عن الإمام الرّضا عليه السلام أنّه سُئِلَ من قِبَل أحد أصحابه: هل يجبر اللَّه عباده على الذنب؟ فأجابه عليه السلام: «لا، بل خيّرهم وأمهلهم ليتوبوا»، فسأله كذلك: فهل يكلّفهم ما لا يُطيقونه؟ فقال الإمام عليه السلام: «كيف يفعل ذلك وهو يقول: «وَمَا رَبِّكَ بِظَلَّامِ لِّلعَبِيدِ»».
(لاحظوا أنّ الإعتقاد بالجبر يوجب التكليف بما
لا يُطاق، لأنّ العبد المجبور على المعصية، لا طاقة له على الترك، في حين أنّ اللَّه قد فرض عليه تركها) «1».
والجدير بالإلتفات هو أنّ كلمة (ظلّام) قد وردت. خمس مرّات في القرآن الكريم أربعٌ منها بخصوص مسألة حريّة إرادة العباد «2».
__________________________________________________
(1) تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 555، ح 71.
(2) وردت عبارة «وما ربك بظلام للعبيد»، في آل عمران، 182؛ و فصلت، 46 والتي يدور البحث حولها و الانفال، 151.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 322
أشارت الآية الأخيرة الثانية عشر من بحثنا إلى نفس هذه الحقيقة من خلال تعبير ظريف آخر، دون أن تُصرّح بكلمة العدل، أو القسط، أو مصطلحات نفي الظلم، وما شاكل ذلك.
قال تعالى: «ام نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ فِى الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ».
إنّ هذا الاستفهام هو نوعٌ من الاستفهام الإستنكاري، أي: إنّ مثل هذا الشي ء غير مُمكن، لأنّ المساواة بين المصلح والمفسد، والمتقي والفاجر، ظلمٌ فاحش، واللَّه العادل لا يفعل ذلك أبداً.
وإن كانت المسألة كما اعتقد البعض من الجهلاء، في كون العالَم ملكاً للَّه والعباد عباده، وكل ما يفعله بحقّهم هو عين العدالة، لفقدت الآية أعلاه معناها.
ويجدر الإلتفات إلى أنّ الآية أعلاه قد عرضت المسألة على الوجدان البشري الحي، وخاطبته بصيغة الاستفهام الإستنكاري: (فهل يُمكن أن يفعل اللَّه هذا؟).
وقد أشارت هذه الآية بصورة ضمنية إلى مسألة المعاد، لأنّه لو لم يَكن هناك معاد لتساوى المصلح والمفسد، ففي الدار الدنيا يُمكن أن لا يلقى أيٌ منهم جزاء عمله، وهذا ممّا لا يتلائم مع عدله تعالى إذن يجب أن يكون هنالك يومٌ للحساب لتحقق أسس العدالة.
نستنتج من مجموع الآيات التي ذكرناها أنَّ الذات الإلهيّة المقدّسة منزّهة عن الظلم والجور بكل أشكاله، وبكل مقاديره، قليله أمْ كثيره، في الدنيا أَمْ في الآخرة، وبحق أيّ أحدٍ كان.
إنّه تعالى لا يظلم أحداً بصورة مباشرة وغير مباشرة، ولا يعمل عملًا يؤدّي (ولو بمئات
نفحات القرآن، ج 4، ص: 323
الوسائط) إلى ظلم أحد، وهذه المسألة طُرِحَتْ في الآيات المختلفة الآنفة الذكر بتعابير وعبارات متنوعة.
وهنالك بحوث كثيرة حول هذه المسألة، سواءً من الناحيّة الفلسفيّة والكلاميّة والعقائديّة، أو من الناحية الروائيّة، أو التاريخيّة، ونتطرق إليها في البحوث القادمة.
تشير القرائن إلى وجود مخالفين ومؤيدين للعدل الإلهي من بين الفلاسفة وعامة الناس منذ أقدم العصور، وبشكل ملحوظ. وتأييد العدل نشأ من كونه من صفات الكمال وعدم تجرّد اللَّه الذي هو منبع كُلّ الكمالات منه أبداً.
وانصار نفي هذه الصفة نشأ تصورهم هذا من وجود قسم من العيوب الظاهرية، والآفات، والبلايا، والمصائب التي تبدو ولأول وهلة على الأقل متنافية مع مسألة العدل الإلهي.
لكن هذه المسألة اتخذت طابعاً آخر بين المسلمين، فجماعة منهم يدعون (بالأشاعرة) خالفوا هذه الأصل الديني لا من حيث إنكارهم عدالة اللَّه، بل من حيث كونه تعالى مالك الوجود، وعدم تحقُّق صفة الظلم من قِبَلِهِ، فكل شي ءٍ يفعله هو عين العدالة (حتى معاقبة جميع المحسنين وإثابة جميع المسيئين)!
إنّ الدافع الأساس للاتجاه نحو هذا النوع من التفكير هو الوقوع في أسرالتفكير بمسألة الجبر وعدم التفويض من جهة، لأنّ الأشاعرة من المؤيدين المتعصبين لمسألة «الجبر وعدم تفويض العباد في أفعالهم».
ومن جهةٍ اخرى وحسب ما صرّحت به الآيات القرآنية، وطبقاً لضرورة الدين الإسلامي فإنّ اللَّه يدخل المحسنين الجنّة والمسيئين النار.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 324
وهنا واجهوا هذا الإشكال وهو: إذا كان
الإنسان مجبراً على أفعاله فما معنى الثواب والعقاب على هذه الأعمال الإجبارية وغير الإختياريّة؟ وكيف يتناسب هذا مع عدالة اللَّه سبحانه؟ لذا فقد اضطرّوا إلى إنكار مسألة العدالة الإلهيّة بالشكل الذي ذكرناه آنفاً.
ومن جهةٍ ثالثة أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ إنكار العدل الإلهي نوعٌ من التوحيد الكامل، وكانوا يظنّون الوصول إلى مرحلة التوحيد العليا إذا ما اعتقدوا بأنّ اللَّه فوق مسألة العدل والظلم.
وفي مقابل هذه الجماعة كانت تقف جماعة (المعتزلة) الذين كانوا يعتقدون بأنّ العدل الإلهي من أهم المسائل العقائدية، وبإمكانية تصوُّر كل من العدل والظلم بالنسبة إلى اللَّه تعالى، لكن اللَّه لا يظلم أبداً، والعدالة بمعنى الكلمة موجودة فيه.
أمّا الشيعة ومعتنقو مذهب أهل البيت عليهم السلام فإنّهم وقفوا في زمرة مؤيدي العدل الإلهي، لذا يُطلق عليهم وعلى المعتزله اسم (العدليّة).
إنّ الأهميّة التي يوليها شيعة أهل البيت عليهم السلام لمسألة العدل الإلهي من العمق بحيث اعتقدوا بأنّ (العدل) و (الإمامة) رُكنان أساسيّان في مذهبهم، في مقابل (التوحيد) و (النبّوة) و (المعاد) التي تُعد الأركان الأساسيّة الثلاثة للدين الإسلامي.
وسنلاحظ في البحوث القادمة إن شاءاللَّه أنَّ إنكار مسألة العدل الإلهي قَدْ يُؤدّي أحياناً إلى إنكار علم اللَّه أو قدرته، ويؤثّر على الصفات الإلهيّة الاخرى أيضاً، لهذا فقد عُرفَ (العدل) كصفة مرتبطة ببقيّة الصفات.
ولعل هذا هو دليل ما ورد في الرواية التي مفادها أنَّ رجلًا دَخَلَ على الإمام الصادق عليه السلام فقال له: «إنَّ أساس الدين التوحيد والعدل» وأضاف قائلًا: «اودُّ أن تُبيّن لي شيئاً في هذا المجال يسْهلُ حفظهُ».
فقال الإمام عليه السلام: «أمّا التوحيد فأن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك، وأمّا العدل فأن لا تنسَبَ إلى خالقك ما لامك عليه» «1».
__________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 5، ص
17، الباب 1، ح 23.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 325
إنَّ هذا الجواب المُتْقَنَ جدّاً هو بالواقع دليلٌ على (التوحيد) و (العدل) ملخصٌ في عبارات موجزة، لأنّ صفات الممكنات لا يُمكن أن تكون صفات للَّهِ الذي هو واجب الوجود لأنّ هذه الصفات مقرونة بالنقص والمحدوديّة، في حين أنّه جلّ وعلا كاملٌ وغير محدودٍ من كل الجهات، وكذا كيف يُمكن أن يُؤاخذنا اللَّه على أفعالٍ تنسبُ إليه ونحن نقوم بها.
ولكن على أيّة حال، فإنّ جواب الإمام عليه السلام هذا يدلُّ على تأييده عليه السلام لكلام الراوي: «إنّ أساس الدين التوحيد والعدل».
وقد جمع أمير المؤمنين علي عليه السلام هذين الركنين في عبارته المختصرة والمفيدة جدّاً، وشرح حقيقة التوحيد والعدل باسلوبٍ رائعٍ جدّاً، حيث قال: «التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه). (فما تحيط به الأوهام محدود ومخلوق واللَّه تعالى أكبر من ذلك). (والعدل أن لا تتهمه يعني أن لا تنسب إليه ما كسبت يداك من قبائح الأعمال) «1».
اعتقد أغلب علماء المسلمين بأنّ هذه المسألة من ناحية البعد العقلي هي فرعٌ من مسألة (الحُسن والقُبح)، لذا يتوجب علينا هنا متابعة هذه المسألة، وذكرنا عصارة منها هنا:
كان الأشاعرة (جماعة أبو الحسن الأشعري المدعو علي بن اسماعيل والذي كان من متكلمي أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري) يُنكرون (الحسن والقبح) العقليين بالمرّة، ويقولون: إنّ عقلنا ليس بقادر لوحده على إدراك الصالح والطالح، والحسن والقبيح من الأشياء، ومعيار معرفتهما هو الشرع.
فما يستحسنه الشرع فهو حَسنٌ، وما يستقبحه فهو قبيح، حتى الأمور التي نعتقد اليوم
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 470.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 326
بحُسْنها وقُبحها، فإذا قال الشرع خلاف ما نعتقد لقلنا مثل قوله، حتى وإن سُئِلوا:
هل يُدرك العقل حُسْن العدالة والإحسان، وقبح الظلم والبخل، وقتل الأبرياء؟ لقالوا: لا! فيجب الإستعانة فقط بتوجيهات الأنبياء وأولياءِ اللَّه.
وفي مقابل هؤلاء يقف (المعتزلة) و (الشيعة) الذين يعتقدون باستقلال العقل في إدراك الحسن والقبح، فمثلًا يعتبرون حُسن الإحسان، وقبح الظلم من بديهيات حكم العقل.
طبعاً إنّهم لا يقولون: إنّ العقل قادرٌ على إدراك جميع المحاسن والمساوي، لأنّ إدراكه محدود على أيّة حال، بل يقولون: إنّ العقل يدرك القسم الواضح جدّاً منها، ويُعدّونها من المستَقلات العقليّة.
ذكر (فاضل القوشچي) ثلاثة معانٍ للحسن والقبح:
1- (صفة الكمال والنقص)، كقولنا: الِعلمُ حسنٌ، والجهل قبيحٌ، لأنّ العلم يمنح صاحبه الكمال، والجهل يخلّف النقصان.
2- الحسن بمعنى (التنسيق مع المقصود)، والقبح بمعنى (عدم التنسيق مع المقصود).
هذا هو ما يُعبَّر عنه أحياناً ب (المصلحة) أو (المفسدة) فنقول: العمل الفلاني حسن ومن ورائه مصلحة، أي يُقربنا أو يقرب المجتمع الإنساني من أهدافه، أو الأمر الفلاني فيه مفسدة وقبيح، لأنّه يُبعدنا عن الأهداف الأساسيّة، سواءٌ كانت هذه الأهداف ماديّة أو معنويّة.
3- الحسن بمعنى (الأمور المستحقّة للثناء والثواب الإلهي)، والقبح بمعنى (الأمور المستحقة للتوبيخ والعقاب).
ثم أضاف قائلًا: وموضع الشجار والنزاع بين الأشاعرة والمعتزلة هو هذا المعنى الثالث «1» «2».
ولكن الحق هو أنّ هذه المعاني الثلاثة غير منفصلة عن بعضها، لأنّ الثواب والثناء يعود إلى الأفعال والأعمال التي فيها مصلحة معينة، وتقرّب الإنسان إلى مراحل الكمال طبعاً،
__________________________________________________
(1) شرح تجريد القوشچي، ص 441.
(2) هنالك معنى رابعٌ للحسن والقبح والذي هو خارج عن بحثنا، وهو الحسن بمعنى موافقة الطبع (الوجه الجميل) والقبيح بمعنى منافرة الطبع.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 327
كما هو حال الصفات الكمالية كالعلم الذي يُقرّب الإنسان من هذه الأهداف.
وعليه فإنّ هذه المعاني الثلاثة لازمة وملزومة ببعضها، وإن
فرّق «فاضل القوشچي» بينها فإنّما هو لتعبيد الطريق للإجابة على استدلالات جماعة (الحسن والقبح العقليين)، فمثلًا يَرُدُ على استدلالهم هذا عندما يقولون: (نحن ندرك حسن الإحسان وقبح الظلم بحكم ضرورة الوجدان). فيقول: إنّ هذا الكلام صحيحٌ بالمعنى الأول والثاني، وغير صحيح بالمعنى الثالث.
لذا يُمكن القول في تعريف (الحسن والقبح) بأنّ الأفعال الحسنة هي الأفعال التي تقرّب الفرد أو المجتمع البشري من الكمال المطلوب، أو تربّي فيه الصفات الكماليّة، وتقرّبه من الأهداف التكاملية، ومثل هذه الأعمال فيها مصلحة طبعاً ومحببة من قبل اللَّه سبحانه وتعالى وتستحق الثواب، وعكسها الأفعال القبيحة.
الآن وبعد أن عرفنا معنى (الحسن والقبح) والأراء المختلفة حول عقلانيتهما وعدم عقلانيتهما، لننظر أيّاً منهما أحق من صاحبه.
لا ريب في أنّ الذهن الفارغ من تأثيرات هذا وذاك يعتقد إجمالًا بعقلانية الحسن والقبح، ويبدو أنّ المنكرين كانوا قد خضعوا لتأثيرات مسائل اخرى أدّت بهم إلى الوصول إلى هذه النتيجة (كالطريق المسدود الذي وصل إليه دعاة مسألة الجبر والتفويض التي أشرنا إليها سابقاً)، والدليل على إثبات هذا الموضوع إجمالًا أمران:
أ) عندما نُراجع وجداننا نلاحظ أَنَّهُ حتى على فرض عدم ارسال اللَّه أيّ رسولٍ أو نبي، تبقى مسائل الظلم والجور وإراقة دماء الأبرياء وسلب الأموال، وحرق بيوت الأبرياء ونقض العهود وإثابة المسي ء، من القبائح، وبالعكس، فالإحسان، التضحية، الفداء، السخاء، مساعدة الضعفاء، الدفاع عن المضلومين، حسن وذو قيمة.
فنحن نعتقد بأنّ هذه الأعمال- التي ذكرناها أخيراً- ناشئة من صفات الكمال، وباتّجاه أهداف المجتمع البشري وتستحق الثناء والثواب، في حين أنّنا نعتبر أعمال المجموعة الأولى ناشئة من النقص، وتؤدّي إلى الدمار والفساد الفردي والاجتماعي وتستحق التوبيخ والعقاب.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 328
لذا فإنّ جميع العقلاء، حتى اولئك الذين لا يدينون بشريعة أو
دين معين وينكرون جميع الأديان، يعترفون بهذه الأمور، ويؤسسون نظامهم الاجتماعي (ولو في الظاهر) وفقها، ويعتبرون أي نغمةٍ مخالفةٍ قد تظهر من زاويةٍ معينة، بأنّها حتماً ناشئة من (الأخطاء) أو نوع من النزاع اللفظي واللعب بالألفاظ.
فأي عقلٍ يسْمح بأن نقتل جميع المحسنين والصالحين ونلقي بهم في البحر، ونفتح أبواب السجون أمام الجناة والأشقياء ونمنحهم الحريّة ونسلّمهم مقاليد الأمور؟!
ب) إن أنكرنا مسألة الحسن والقبح لتزلزلت أسس جميع الأديان والشرائع السماويّة، ولما أمكن إثبات أي دين، لأنّ من يُنكر الحسن والقبح عليه أن يقبل بكذب الوعود الإلهيّة التي أعطاها اللَّه في جميع الأديان، وإن كان اللَّه قد قال: إنّ الجنّة مأوى المحسنين، والنار مثوى المسيئين، فما المانع لو كان الأمر بعكس ذلك!؟
وكذّب اللَّه (العياذ باللَّه) في جميع هذه المسائل، ولا قباحة في الكذب!!
وكذا ما المانع من أن يجعل اللَّه المعاجز في تصرّف الكذّابين؟ ليخدعوا عباده ويحرفوهم عن الطريق الصحيح!
وعليه فلا تبقى هنالك ثقة بالمعاجز، ولا بما يأتي به وحي السماء، إلّاأن نقبل بقباحة هذه الأمور، ونزاهة اللَّه عن فعل القبيح، فتقوى الأسس الشرعيّة وتصير المعجزة دليلًا على النبوة، ويصير الوحي دليلًا على بيان الحقائق.
1- تنقسم الأفعال الإنسانية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هي التي يسهل إِدراك حسنها وقبحها للجميع، أو التي تُعَدُّ اصطلاحاً من (المستقلّات العقليّة)، ولا تتغير أيضاً بتغيُّر الظروف (كحسن الإحسان وقبح الظلم.).
والقسم الثاني: هي التي يسهل على الجميع إدراك حسنها وقُبحها، لكنها تتأثر بالظروف
نفحات القرآن، ج 4، ص: 329
المختلفة، كقولنا بحسن الصدق وقبح الكذب، في حين أنّنا نعلم بأنّ الكذب المصلحي ليس قبيحاً في بعض الأحيان، لا سيما إذا كان للمحافظة على أهداف أهم وأسمى (كإصلاح ذات البين)، وبعكسه الصدق الذي يؤدّي إلى
الفساد وسفك الدماء والاختلاف، فهو قبيح ومذموم.
أمّا القسم الثالث: فهي الأفعال التي ليس لحسنها وقُبحها صيغة ضروريّة، بل نظريّة، فالبعض يقولون بحسنها وغيرهم يقولون بقبحها، أو يسكتون بتاتاً عن تشخيص حسنها وقُبحها، فلا سبيل في مثل هذه الموارد سوى اللجوء إلى أحضان الوحي.
ومن خلال ملاحظة الأقسام الثلاثة، تتضح أجوبة الكثير من الإشتباهات حول مسألة الحسن والقبح، التي وقع فيها البعض.
2- يعتقد البعض بأنّ إتفاق العقلاء في تعريف الحسن والقبح وتشخيص موارده ومصاديقه هو شرطٌ. وقالوا: الحسن هو ما اتفق العقلاء على مدح فاعله، والقبح هو ما اتفق العقلاء على ذمّ فاعله، في حين أنّ هذا التعريف خطأ، فإنّ اتفاق العقلاء يكون في أمرٍ يتعلّق بالقوانين الوضعية المصطلح عليها بالتشريعية، كما لو اتفق جميع العقلاء على قبول أصل المالكيّة (بالرغم من اختلافهم في حدّها وحدودها ومصاديقها)، أمّا الأمور التي تخلو من الأبعاد التشريعيّة ولها أبعادٌ عينية وتكوينية، فإنّ المعيار فيها هو إدراك أي إنسان.
فهل ينتظر أحدٌ اتفاق العقلاء في تشخيص جمال زهرة معينة، أو قصيدة طويلة رائعة!؟
وكذا في مسألة إدراك جمال وقبح الإحسان والظلم، فلا توجد أي حاجة إلى انتظار اتفاق العقلاء وحكمهم العام، هذا هو ما ندركه بصراحة الوجدان.، كسائر إدراكاتنا بخصوص القبائح والمحاسن.
طبعاً إنّ من الممكن أن تَتفِقَ عقيدة الأفراد في تشخيص الحسن والقبح في بعض الموارد، وتختلف في موارد اخرى، لكن هذا لا ينحصر بمسألة (الحسن والقبح) فقط، بل يُلاحظ في جميع الأمور التي يحكم بها العقل أيضاً.
ومن الممكن أن يتفق جميع العقلاء على قبول استدلالٍ عقلّي ءٍ معين، ويختلفوا في
نفحات القرآن، ج 4، ص: 330
آخر، فمن قَبِلَ ذلك الاستدلال وتيقن من صحته لا ينتظر موافقة الآخرين أبداً، وإن قال أحدٌ خلاف ذلك
لخطّأه، لا أنْ يتراجع عن عقيدته.
وخلاصة الكلام هو أنّ الحسن والقبح عقليان لا عقلائيان، والفرق شاسعٌ بين هذين الأمريْن، فدائرة أحدهما تشمل الحقائق الخارجيّة، والاخرى تشمل العقود القانونية.
وَنختتم هذا الكلام بجملة قصيرة حول أصل مسألة الحسن والقبح وهي: إنّ منكري هذه المسألة شأنهم شأن منكري الكثير من المسائل العقليّة الاخرى- فهم عادةً يُنكرونها باللسان أو عندما يتعرضون لضغط المسائل الاخرى التي لا يجدون لها حلّاً- فيتكلّمون بمثل هذا الكلام، وإلّا فهم من مؤيدى هذه العقيدة بعملهم، فلو وجّه إليهم أحدٌ صفعة قوية، أو أهان كرامتهم في المجتمع دون مبرر، أو قتل أبناءهم أمام أعينهم، لما تردّدوا حتى لحظة واحدة في توبيخه وذمّه ولجوّزوا لأنفسهم معاقبته!؟ سواءً كان هنالك قانون أو شريعة نازلة من قبل اللَّه أمْ لم تكن.
بعد اتضاح مسألة الحسن والقبح، نعود إلى أصل الكلام، أي: الأدلة العقليّة على العدل الإلهي، ويوجد هنا دليلان مهمّان يُمكن إرجاع الأدلّة الاخرى إليهما.
الدليل الأول: ومصدره نفس نظرية الحسن والقبح تلك، فالظلم قبيح، واللَّه الحكيم لا يفعل القبيح أبداً، والظالم يستحق التوبيخ والملامة، ومُسَلَّمٌ أنّ وجوداً كاملًا لا يفعل شيئاً من هذا القبيل ليستحق اللوم والتوبيخ.
والعدل عكس ذلك، فهو دليل كمال الوجود وحكمته، والوجود الكامل من كل ناحية، والمنزّه عن كل عيبٍ ونقص لن يتخلى عن مثل هذا الشي ء.
وهذا الدليل بقدرٍ من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى شرحٍ وتفصيلٍ أكثر، فهل يحتمل أحدٌ أن يلقي اللَّه جميع الأنبياء والأبرار والصالحين في نار جهنم، ويرسل جميع أشقياء وظالمي العالم إلى الجنّة؟!
نفحات القرآن، ج 4، ص: 331
أفَسَقِمَ الأفراد حتى أنكروا كل حقيقة، أم اضطرّ الذين وقعوا في حصار مسائل اخرى (كمسألة الجبر والتفويض)، إلى إنكار مثل هذه الأمور؟
الدليل الثاني:
يُمكن تلخيص منابع الظلم في عدّة أمور من خلال تحليل واضح:
وينشأ الظلم أحياناً من (احتياج الإنسان)، وعوضاً من أن يصل الظالم إلى مقصوده ويسدّ حاجته ببذل الجهود والمساعي الصحيحة، يسعى لتأمين حوائجه عن طريق غصب حقوق الآخرين.
وأحياناً ينشأ من (الجهل) وعدم الإطّلاع، فالظلم لا يعلم الحق ولا يدرى ماذا يصنع وأي ذنبٍ يرتكب!
وأحياناً ينشأ الظلم من (عبادة الهوى) و (الأنانية)، لأنّ الظالم يعجز عن الوصول إلى مقصوده، ولا يستطيع أن يضبط نفسه أمام فقدان الشي ء فيلتجى ء إلى الظلم.
وأحياناً ينشأ الظلم من (دافع الإنتقام) و (الحقد)، فينتقم الإنسان أضعاف ما لاقاه من الظلم.
وقد يكون الظلم صادراً من الضعف والعجز، فحين يعجز الظالم من تحقيق أهدافه ولا يتمكن من السيطرة على نفسه، يلتجى ء إلى ظلم الآخرين.
وأحياناً قد ينبع الظلم من (الحَسد)، فالحسود الذي يُعاني من نواقص معينة، ولا يستطيع أن يشاهد غيره منعّماً ومرفّهاً فينازعه ليسلب منه النعمة بالظلم والجور، وما شاكل هذه العوامل والدوافع التي تحكي جميعها عن وجود نوع من النقصان والإنحطاط.
اذن، فكيف يُمكن في هذه الحالة أن يصدر الظلم والجور من الوجود الذي هو عين الكمال المطلق، في حين أنّه منزّةٌ عن الحاجة والجهل والضعف والأنانية والغرور والحقد والانتقام، ولا يوجد من هُو أكمل منه ليحسده، ولا يستطيع أحد أن يسلب منه الكمال لكي يدفعه ذلك إلى الإنتقام؟
فهل يصدر شي ء من مثل هذا الرب سوى الخير والعدل والرأفة والرحمة؟
وإن يعاقب الظالمين فبما كسبت أيديهم، فما هو بحاجة إلى معاقبتهم، ولا ذنب المذنبين يمس ساحة كبريائه.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 332
والظريف هو أنّ القرآن الكريم قد استعان بالوجدان البشري العام حول هذا الموضوع، وطلب منهم أن يحكموا بأنفسهم في هذه المسألة، خلاف ما يعتقده الأشاعرة
من كون الحسن والقبح ذا أبعادٍ شرعيّة فقط لا وجدانية.
يقول تعالى: «أَفَنَجْعَلُ المُسلِمِينَ كَالُمجرِمِينَ* مَالَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ». (القلم/ 35- 36)
لاحظوا أنّ القرآن الكريم قد بين هذا الكلام بعد ذكره عظيم ثواب المتقين، ممّا يدل بوضوح على اعتراف القرآن الكامل بمسألة تحكيم العقل في موضوع العدل والظلم، حيث شجب الظلم واستحسن العدل، بحكم العقل.
أولت الروايات الإسلاميّة أهميّة كبيرة إلى معرفة العدل الإلهي، ومسائل كثيرة اخرى تتشعّب منه، بشكل بحيث يتضح من مجموعها أن مسألة العدل الإلهي كانت أمراً أذعن له الجميع، وتعتبر من الامور الفطرية والضرورية في وجدان بني البشر.
1- عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «ارتفع عن ظُلمِ عبادهِ، وقام بالقسط في خلقه، وعدَلَ عليهمْ في حُكمهِ» «1».
2- وقال عليه السلام في موضعٍ آخر: «واشهدُ أنّهُ عَدلٌ وحَكمٌ فَصْلٌ» «2».
3- وقال أيضاً: «الّذي عَظُمَ حِلمُهُ فعَفى وعَدَلَ في كلِّ ما قضى «3».
4- وفي حديثٍ نبويٍ شهير أنّه صلى الله عليه و آله قال: «بِالعَدلِ قَامَتِ السَّمَواتِ وَالأَرضِ» «4».
ومن الواضح أنّ العدالة مستعملة هنا بمعناها الواسع وتعني: «وضع كل شي ء في موضعه»، وتشمل كلًا من العدالة مع العباد، والعدالة والنظم في مجموعة عالم الوجود.
5- وفي حديثٍ نقله المرحوم العلّامة المجلسي قدس سره في بحار الأنوار، حول وصف
__________________________________________________
(1) نهج البلاغه، الخطبة 185، ص 428.
(2) المصدر السابق، الخطبة 214.
(3) المصدر السابق، الخطبة 191.
(4) تفسير الصافي، ذيل الآية 9 من سورة الرحمن.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 333
الباري، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «هو نورٌ ليس فيه ظُلمة، وصدق ليس فيه كذب، وعدل ليس فيه جور، وحق ليس فيه باطل» «1».
6- ورد في صحيح الترمذي: «هُو اللَّهُ ... العدلُ اللّطيفُ» «2».
7- ورد في كتاب
الخمس من صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه و آله ضمن ردّه على رجل جسور شكّك بعدالته، قال: «فمَن يَعدلُ إذا لَم يَعدل اللَّهُ وَرسُولُهُ» «3».
8- ورد في الدعاء الخامس والأربعين من الصحيفة السجادية أنّ الإمام السّجاد عليه السلام كان يناجي ربّه ويقول: «وَعَفوكَ تَفضّلٌ وَعُقوبَتِكَ عَدلٌ».
9- يُلاحظ وجود تعابير في الكثير من الروايات المنقولة عن مصادر الشيعة وأهل السُّنة حول المسائل المتعلقة ببطلان الجبر، والعقوبات الإلهيّة، تدل على اتفاق الجميع القطعي على مسألة العدل الإلهي، وأنّه كان مُرتَكزَ الإستدلالات، ومن جملتها (أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام سأل الإمامَ عليه السلام وقال: أيجبر اللَّه عباده على أعمالهم؟ فاجابه الإمام عليه السلام:
«اللَّه أعدل من أن يجبر عبداً على فعلٍ ثم يعذّبه عليه» «4».
10- وفي حديثٍ نبوي منقول من مسند أحمد بن حنبل أنّه صلى الله عليه و آله قال: «من أذنب في الدنيا ذنباً فعوقب عليه فاللَّه أعدل من أن يُثنّي عقوبته على عبده» «5».
11- عن الإمام الرضا عليه السلام في توضيح «أمرٌ بين أمرين»، (نفي الجبر والتفويض)، في إجابته عن سؤال أحد أصحابه: هل فوّض اللَّه الأمور إلى عباده؟ فقال عليه السلام: «اللَّه أعزّ من ذلك» (أي أعزّ من أن يترك تدبير أمور العالَمِ أو عباده كُليّاً ويكله إليهم)، فسأله: فهل أجبرهم على المعاصي؟ فقال عليه السلام: «اللَّه أعدل وأحكم من ذلك»، (أي أنّ هذا العمل يتنافى نهائياً مع عدل اللَّه وحكمته) «6».
__________________________________________________
(1) بحارالانوار، ج 3، ص 306، الباب 13، ح 44.
(2) المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبوي، ج 4، ص 155.
(3) المصدر السابق، ص 152.
(4) بحارالأنوار، ج 5، ص 51، ح 83.
(5) مسند أحمد بن حنبل،
ج 1، ص 99.
(6) اصول الكافي، ج 1، ص 157، باب الجبر والقدر، ح 3.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 334
12- وأخيراً نختتم هذا البحث بمقتطفات من الأدعية المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام:
ورد في دعاءٍ يُقرأ بعد الفراغ من صلاة الليل: «وقد علمت يا إلهي أنّه ليس في نقمتك عجلة ولا في حكمك ظُلم، وإنّما يعجل من يخاف الفوت، وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً» «1».
إنّ الروايات والأحاديث الموجودة في هذا المجال كثيرة، وما نقلناه يُعدُّ مقتطفاً من نماذج هذه الروايات المختلفة.
قُلنا فيما مضى: إنّ منكري مسألة العدل الالهي قد تعرّضوا لضغوط مسائل اخرى جرّتهم إلى سلوك هذا الطريق، وهي إجمالًا ما يلي:
1- إنكار المستقلّات العقليّة- إنّهم يقولون: إنّ العقل لا يميزبين الحسن والقبيح، بدون حكم الشرع، فالحسن والقبح، الصالح والطالح، الواجب وغير الواجب جميعها تُؤخَذُ من الشرع وتصلنا عن طريق الوحي، حتى الحكم بحسن العدالة وقبح الظلم، فلا شي ء يُدرَكُ عن طريق العقل!
2- الوجود بأكمله ملك للَّه- وهو حاكم وولي وصاحب كل شي ء، وبإمكانه أن يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يحق لأحدٍ أن يسأله حول ذلك، وفعله عين العدالة حتى وإن عاقب المحسنين أو أثاب المسيئين.
يقول الشهرستاني في (الملل والنحل): كان ابوالحسن الأشعري يعتقد ويقول: (إنّ اللَّه غير ملزم بفعل شي ءٍ معينٍ يفرضه العقل، لا الصالح ولا الأصلح ولا اللطف .. ثم أضاف: إنّ
__________________________________________________
(1) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي، ص 173 تعقيبات صلاة الليل.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 335
اللَّه غير ملزمٍ بأصل التكليف لأنّه لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرراً، فهو بامكانه أن يُجازي عباده إمّا الثواب وإمّا العقاب، وبإمكانه أن يشملهم بعفوه،
وبأنواع الثواب والنعم من دون أي سبب، فلطفه تمام الفضل وعقابه وعذابه تمام العقل، لا يُسئل عمّا يفعل وهم يُسئلون) «1».
3- إنّهم يقولون: لا يُمكن وضع معيار ومقياس معين لأفعال اللَّه، وبتعبيرٍ آخر، لا تعني عدالة اللَّه التزامه بقوانين تدعى: (قوانين العدل)، بل تعني: أنّه تعالى عين العدل وما يفعله عين العدالة، فالعدل ليس بمقياسٍ لتشخيص فعل اللَّه، بل إنّ فعل اللَّه ميزان ومقياس للعدل:
فلو أدخل جميع جُناة العالم الجنّة فهو عين العدالة، وكذا لو ألقى جميع المحسنين، والطاهرين، والأئمّة، والأنبياء المعصومين في النار فهو عين العدالة أيضاً!
4- يعتقد الأشاعرة بأنّ الإنسان غير مخيّر أبداً في أعماله، وكل ما يفعله فإنّما هو بارادة اللَّه!
وعندما واجهوا هذا السؤال وهو: كيف يُمكن أن يُصدّق العقل بأنّ اللَّه يجبرنا على المعصية ثم يؤاخذنا عليها؟ حيث إنّ هذا أمرٌ يُنافي عدالته تعالى.
ومن أجل الرد على هذا الإشكال أنكروا مسألة العدل والظلم وقالوا: (كل ما يفعل فهو عين العدل، ولا يحق لأحدٍ أن يسأله عمّا يفعل).
5- يُمكن أن يكون اتجاه بعضهم إلى نظرية نفي العدالة ناتجاً عن وقوفهم حائرين أمامَ هذا السؤال الذي يرتبط بالمسائل المتعلقة بالمعاد، والعذاب، ومجازاة الكافرين، وهو: كيف يُمكن أن يخلد في نار الغضب الإلهي مَنْ أذنب وكفر وأشرك بربّه خمسين سنةً مثلًا؟ وكيف يتماشى هذا مع أصل العدل؟!
ولأنّه لم يكُن لديهم جواب على هذا السؤال فقد أنكروا أصل مسألة العدل.
6- إنّ شك البعض الآخر منهم في هذه المسألة ناشى ءٌ من مشاهدتهم بعض النقائص الظاهرية، من قبيل الآفات، والبلايا، والعواصف والزلازل، وحوادث اخرى من هذا القبيل، وكذا الأمراض، الاحباطات، وحالات الفشل في حياة البشر، ولأنّهم باتوا عاجزين عن تفسير هذه الأمور الفلسفيّة، فقد سلكوا طريق إنكار
العدالة.
__________________________________________________
(1) الملل والنحل، ص 102.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 336
كانت هذه مجموعة من الأمور التي تشكّل دوافع وأُسسَ مذهب منكري العدل في الماضي والحاضر.
1- أمّا فيما يخصُّ الدليل الأول فقد تحدثنا بما فيه الكفاية عن كون إنكار العدل يقود إلى إنكار المستقلّات العقليّة، ويلزم أن نؤكّد من جديد بأنّ منكري الحسن والقبح، لا ينكرون هذا المعنى أبداً من الناحية العمليّة، فما يقولونه لا يتجاوز ألسنتهم وحواراتهم ونقاشاتهم، وأمّا لو وجّه أحدٌ صفعةً إلى أحد أطفالهم الصغار، أو أحْرقَ دارهم من دون مبرّر، لا ستقبحوا هذا العمل، ولما تردّدوا في التسليم بقبحه عن طريق تشخيص الوجدان، وسيحكمون قطعاً بوجوب معاقبة هذا الشخص، ولما صبروا أبداً لينظروا إلى كون قباحة هذا العمل وردت في آية أو رواية أمْ لا.
ولو أصابهم الجوع والعطش في الصحراء، وجاءهم أحدٌ بالماء أو الغذاء، أو حمل مريضهم على كتفه عدّة كيلومترات ليوصله إلى المستشفى، وينجيه من الموت المحتَّمِ، لما تردد أحدٌ منهم في حُسن هذا العمل والثناء على فاعله، ولما قالوا: أمهلونا لنرى فيما إذا كانت الروايات والآيات قد مدحته وشكرته ومجّدته أم لا!
ويوجد الكثير من قبيل هذه البحوث في المباحث العقلية وهو أن يتعرض أفراد مُعَيَّنون لضغوط مسائل جانبيّة فينكرون حقائق معينة بألسنتهم، في حين أنّهم يؤمنون بها تماماً من الناحية العمليّة (كالسوفسطائيين الذين ينكرون الوجود الخارجي لجميع الأشياء، لكنهم عملًا يجتنبون النار ويذهبون لتناول الماء عند العطش).
علاوةً على هذا فإنّ قبول المستقلّات العقليّة هو العمود الأساس في قبول نبوّة الأنبياء، وبدونها لا يمكن تصديق كلام أي نبي، ولما كانت معجزاتهم دليلًا على صدقهم، لأنّ بإنكار
نفحات القرآن، ج 4، ص: 337
المستقلّات العقليّة لا يُسْتبعْدُ احتمال افترائهم، وظهور المعجزات على
أَيدي دعاة الباطل.
2- إنّ مسألة مالكية اللَّه لجميع عالم الوجود وجميع ذرّات وجودنا ليست مطلباً خافياً على أحد، ولكن المالكيّة ليست دليلًا على صدور تصرّفات غير حكيمة منه، أي أنّ صفة المالكية تقترن بالحكمة، فلا يُمكن التصديق بأحدها وإنكار الاخرى.
من الممكن أن يدّخر شخصٌ أموالًا من أتعابه المشروعة خلال سنوات طويلة ويكون مالكها، لكنه لا يحق له أن يحرقها بأكملها، لأنّ العقل يحكم بقباحة هذا العمل، حتى وإن صدر من مالكه.
كذلك اللَّه الحكيم أيضاً، فلا يفعل مثل ذلك، كأن يُهلك كل ما في الوجود، أو يحرقه من دون سبب، أو كما قال الأشاعرة: يُلقي جميع الأنبياء والصالحين والطاهرين في أعماق نار جهنّم، ويدخل الأشقياء والأشرار في الجنان العُلى، فهذا العمل قبيح وينافي الحكمة، حتى وإن صدر من المالك.
إذن، فالمالكية ليسَتْ دليلًا على حسن جميع أفعال المالك، سواءً كان حقيقياً وتكوينياً أي اللَّه، أَمْ صوريّاً وظاهريّاً كالبشر.
إنَّ الأشاعرة يعتقدون بأنّه: لو آمنّا بكون اللَّه (فعّالًا لما يشاء) بسبب مالكيته، وكلامهم هذا يعني إلغاء لحكمة اللَّه.
ومن المسلمات أنّ الإله غير الحكيم ليس لأقواله اعتبار، ولا لوعوده ثقة، لأنّه من الممكن أن تكون أقواله فاقدة المحتوى، ومغايرة للواقع. «سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً».
3- إنّ قولهم: إنّ اللَّه فوق الحسن والقبح ولا يُمكن قياس أفعاله بهذه الضوابط- بل هو سبحانه المعيار والمحور في تعيين الضوابط- ليس إلّامغالطة ولا أكثر، وهو موضوع متناقض معروض بزيٍّ جميل، فهذا الكلام يخص القوانين التكوينية، وقد استُعمِلَ خطأً في مجال القوانين التشريعيّة.
ويجدر التوضيح في عدم وجود قوانين قبل الخلق والتكوين الإلهي، وبخلق الأشياء،
نفحات القرآن، ج 4، ص: 338
المقارن للنظام والحساب، ظهرت مسألة التقنين، فمثلًا قبل خلق المجرّات، لم يكن هناك قانون الجاذبية
لكي يستعمله اللَّه في خلقه، ولكن انبثق بعد خلق المجرّات، وبتعبيرٍ آخر: إنّ قانون الجاذبية خُلقَ بعد خلق المجرّات مباشرةً.
ويصدُق هذا الكلام بخصوص جميع قوانين عالم الخلق والتكوين.
أمّا بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة، فالمسألة ذات طابعٍ آخر، لأنّ اللَّه عندما خلق الإنسان، الذي يُعد النموذج الأتم للخلق، لكي يسير في طريق التكامل، وأودع فيه جميع وسائل الوصول إلى الكمال، فمن المُسَلَّم لزوم تناسب قوانينه التشريعيّة مع هذا الهدف، أي أن تكون القوانين بشكل تسوق الإنسان نحو الكمال، وإلّا لتنافت مع حكمة اللَّه.
أفيمكن أن تتناقض وتتضاد أفعال الحكيم؟!
فالظلم سبب فساد وسقوط وتأخُّر العالم، والعدل سبب تكامله وارتقائه، وما اللَّه بظالم ولا بمخرّب قواعد تكامل الإنسان.
وبتعبيرٍ آخر فإنّ أفعال اللَّه التشريعيّة تنبع من أفعاله التكوينيّة، ومن هنا ينشأ الحسن والقبح بالضبط، لا أن يكون اللَّه خاضعاً لقانونٍ آخر، بل إنّ جميع القوانين الموجودة هي قوانينه في عالم الدين والشريعة متناغمة مع قوانينه في عالم الوجود، وإلّا لكان ناقضاً لقوانينه بذاته، وهذا ليس من فعل الحكيم.
وقول البعض: (إنّ اللَّه لا يخضع لحكم العقل، ولا يُمكن للعقل أن يفرض عليه شيئاً معيناً) يُعَدُّ مغالطة صبيانية، لأنّ وظيفة العقل هي الإدراك لا تعيين الوظيفة، أي التفكّر والفهم لا التقنين والتشريع.
فالعقل يقول: إنني أفهم أَنَّ الحكيم لا يفعل الأفعال المتناقضة والمتضادة، أفهم أَنّ اللَّه لا ينتقض وعده، وأفهم أنّ الموجود الكامل من جميع النواحي لا يظلم، أي لا يضع الشي ء في غير محلّه المناسب.
إنّ كل هذه الأمور هي من إدراك وفهم العقل، لا تعيين التكليف والوظيفة للَّه تعالى، لذا فكما يدرك العقل أَنّ 2+ 2/ 4، كذلك يدرك أَنّ الحكمة تتنافى مع نقض الغرض، فاللَّه
نفحات القرآن، ج 4، ص: 339
الحكيم الذي خلق
الوجود من أجل الصلاح والكمال لن يدفع به نحو الإنحطاط والفساد، فلم يقنّن العقل بأنّ 2+ 2/ 4، إنّما هو فقط من إدراكه.
وكذا الحال في مسائل الحسن والقبح التي تعود جذورها إلى المسائل التكوينيّة، فدور العقل فيها هو إدراك الحسن والقبح فقط لاالتقنين، (فتأمل).
ولا يخفى أنّ العقل يحاول إدراك الموجودات والمعدمات، الواجبات وغير الواجبات، وهو ذو بعد إرشادي، بالضبط كأوامر الطبيب، فعندما يُدرك الطبيب ضرر غذاءٍ ما للمريض يقول له: يجب عليك أن تتجنب تناول هذا الغذاء، فكلمة (يجب) هذه ليست قانوناً تترتب على تركه عقوبة معينة، بل هي مجرّد إرشاد وتوجيه لا غير، وإن لم يعمل ذلك المريض بموجبه فإنّه سوف لن يؤدّي سوى إلى ضرره (ولكن من الواضح أنّ أوامر العقل الإرشادية ليس لها علاقة بساحة القدس الإلهيّة).
وخلاصة الكلام هو أنّ دور العقل بالنسبة إلى الأفعال الإلهيّة هو فهم الحقائق، لا تعيين تكليف للَّه تعالى ليُقال: إنَّ اللَّه أكبر من أن تعيّن عقولنا له تلكيفاً معيناً.
4- يجب أن لا يَصير الاعتقاد بمسألة الجبر منشأً لإنكار العدالة والظلم- صحيح أنّ الأخطاء تؤدّي إلى أخطاء، اخرى دائماً، والزلات تصدر من زلات اخرى، ولكن ينبغي عدم الإصرار على الأخطاء بحيث يؤدّي إلى إنكار الواضحات.
لا ريب في أنّ مسألة (العدل الإلهي) أو (حسن العدل) و (قبح الظلم) أوضح من مسألة حريّة إرادة الإنسان، وعلى فرض عدم وضوح مسألة الجبر والتفويض بالنسبة للبعض فإنّها لا تكون دليلًا لإنكار مسألة العدل.
لقد واجه (الجبريّون) هذه المعضلة دائماً، وهي كيف يُمكن التصديق بأنّ اللَّه يجبر عباده على المعاصي ثم يؤاخذهم عليها؟ وهذا يتنافى مع عدالته!
هذا دليلٌ منطقيٌ واضح، لكن الجبريين وبدلًا من أن يقوموا بتصحيح آرائهم في مسألة الجبر، ذهبوا إلى إنكار
العدل الإلهي أو قالوا: كل ما يصدر منه عين العدل حتى معاقبة المجبرين.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 340
إنّ الصورة التي رسمها هؤلاء في أذهانهم عن اللَّه عجيبة ورهيبة حقاً، اللَّه الذي من الممكن أن يُلقي جميع الأنبياء، والمرسلين، والملائكة المقرّبين، والشهداء، والصديقين في قعر جهنّم، ويُدخل جميع الأشقياء والظالمين، وأشرار التاريخ البشري، والشياطين في أعلى عليين في الجنّة، اللَّه الذي يجبر جماعة على المعصية وجماعة اخرى على الطاعة، دون مبرّر، ثم يثيب المحسن ويعاقب المسي ء، والحال أنّه لا يوجد أي تفاوت بين حقيقة حالهم!
ومن المسلَّم به أنّ هذه الصورة القبيحة والموحشة تُبعّد الناس عن اللَّه وتغلق باب معرفة اللَّه، وستؤدّي إلى نشوء كل ألوان القبائح والمظالم في المجتمع البشري، وتُظهر الدين بمظهر الأفيون والفساد والفوضى، وتُسبب سوء الظن تجاه جميع عالم الوجود.
وخلاصة الكلام هو أنّ الإصرار على مسألة الجبر يجب ألّا يؤدّي إلى إنكار العدل، بل بالعكس، يجب أن يؤدّي إلى وضوح مسألة العدل الإلهي إلى تجديد نظر الجبريين في عقيدة الجبر.
وما أكثر المسائل البديهية الواضحة التي اختفت خلف حجب الإنكار بسبب الإصرار والعناد في إثبات بعض المسائل النظرية غير الواقعيّة.
5- ذكرنا سابقاً أنَّ إشكالات بحوث المعاد قد تؤدّي أحياناً إلى التشكيك في مسألة العدل الإلهي، فعندما يدور الكلام حول مسألة خلود جماعة من المذنبين في النار يُطرَحُ هذا السؤال: كم كان مجموع عمر هذه الجماعة؟ 50 سنة، 70 سنة، أو مائة سنة، فالعدالة تفرض تَساوي الذنب والعقوبة، فما معنى العذاب الأبدي مقابل هذا العمر القصير إذن؟
لكن وكما قُلنا يجب التفكير بأسلوب منطقي لحل المسائل في مثل هذه الإشكالات، وبالمناسبة فإنّ حل إشكال الخلود له طرق واضحة، لأنّ الإشكال أعلاه ينشأ من خطأ قياس العقوبات
الإلهيّة- التي هي نتيجة أعمال نفس الإنسان- مع العقوبات الوضعيّة.
ويجدر توضيح ما يبدو من الآيات والروايات والشواهد العقلية أنّ العقوبات الأخروية لها شَبهٌ كبير بالآثار الطبيعيّة لأعمال الإنسان الدنيوية، فمثلًا أنّ مَنْ يُفرط في تناول
نفحات القرآن، ج 4، ص: 341
المشروبات الكحولية يُصَبْ بقرحة المعدة، وضعف القلب والأعصاب، ويُمكن أن تُرافقه هذه الأمراض طيلة عمره أحياناً.
فلو قال أحدٌ الآن: أمِنَ العدل أن يُعاني مَنْ تعاطى المشروبات الكحولية شهراً واحداً مِنْ قرحة المعدة واضطراب القلب والأعصاب طيلة عمره!؟
في الرّد على ذلك يُقال له: هذا ما قدّمت يداه، وليست هذه الأمراض عقوبة وضعيّة، لاسيّما وأنّ هذا الشخص قد نُهي عن هذا العمل وذُكّرَ بهذه العواقب الإلهيّة.
فلو كان لهذا الشخص عمرٌ خالدٌ في دار الدنيا، لوجب أن يُعاني من هذه الأمراض إلى الأبد، دون أن يمسّ موضوعه مسألة العدل الإلهي (تأمل جيداً).
وكذا الحال بالنسبة إلى مسألة الخلود في النار، فأعمال الإنسان لا تمحى أبداً، بل تبقى وتترك آثاراً في جسمهِ وروحه أيضاً، وهذه الآثار سترافق الإنسان في جميع العوالِم، وسينال العذاب والاذى بسببها إن كانت طالحة، وسنتطرق إلى تفصيل هذه المسألة بصورة أكثر في بحوث المعاد إن شاء اللَّه تعالى.
6- إنَّ مشكلة حوادث الحياة الأليمة: كالآفات والبلايا والعواصف والزلازل والآلام والمتاعب وحالات الفشل والاحباط لا تتنافى مع أصل العدل، وتحتاج إلى توضيح نذكره أدناه:
إنّ لكلّ واحدة من هذه الأمور فلسفة تتضح بقليل من الدقّة، فعندها يُصدّق الإنسان بكون هذه الأمور في اتجاه العدل الإلهي لابعكسه.
ويُلاحظُ وجود مسائل في حياة الإنسان لا نجد لها تفسيراً واضحاً في بادي ء الأمر، وقد يتزلزل إيمان البعض بالعدل الإلهي أحياناً، أو باثبات وجود اللَّه أحياناً اخرى عندما يواجهون مثل هذه المسائل من دون
أن يبذلوا جهوداً لزيادة المطالعة أو التدقيق فيها.
وتُشير القرائن المختلفة إلى وجود هذا النوع من التفكير بين بعض الفلاسفة منذ قديم الزمان.
بل وكان موجوداً عند بعض الأدباء نوعاً ما أيضاً، وقد أنشد بعضهم أبياتاً من الشعر
نفحات القرآن، ج 4، ص: 342
العربي والفارسي في هذا الخصوص، ظهر من خلالها شكهم في هذه المسألة أو إنكارهم لها.
ويُمكن تلخيص الظواهر غير المحبذة بعدّة نقاط:
1- الفرق في القابليات: تختلف درجة الذكاء من إنسان لآخر، فمنهم من يتمتع بذكاء خارق، ومنهم ذو ذكاء متوسط، وبعضهم أقلّ مستوى من الطرفين، وهذا التفاوت موجودٌ أيضاً في القوى الجسمانية، وكذلك الحال بالنسبة لظاهر الناس، فمنهم القبيح، ومنهم الحسن، وهكذا التفاوت في اقتناء الثروات والأموال فهو موجودٌ أيضاً.
2- النقائص والعيوب: إنَّ أغلبية الناس يولدون سالمين، في حين يُعاني البعض من نقص عضوٍ معين، وهذا النقص يجعلُهُ يعيش في أزمةٍ نفسيةٍ حادّة طيلة حياته.
3- الإنكسارات والهزائم: إنّ الحياة الإنسانية مفعمة دائماً بأنواع المشاكل المُنهكة، كالأمراض، حالات الفشل، الاحباطات، وما شاكل ذلك، فكيف يرتضي عدل اللَّه أن يُعاني الأنسان من هذه الأمور، وتتحول حلاوة الحياة في فمه إلى حنظل؟
4- الحوادث المُّرة: تحدث في حياة الإنسان حوادث طبيعيّة مفجعة ينتج عنها هلاك الحرث والنسل، فَمَن الذي لم يسمع بدمار وضحايا الزلازل، والعواصف، وسنوات الجفاف والمجاعات؟ وعند حلول هكذا كوارث مُدمرّه يُطرَحُ هذا السؤال عادةً: أو لَمْ تكن جميع العوامل والأسباب الطبيعيّة منقادة لأمر اللَّه تعالى؟
وإذا كان كذلك ألمْ يكنْ الماء والهواء والنار من جنوده تعالى، ويُطيعون ما يأمرهم به؟ ألا تتنافى مثل هذه الأمور مع أصل العدل والحكمة الإلهيّة؟ إِنَّ الإجابة عن مسألة الحوادث المُرّة هي:
إنّنا نعترف بأنّ الإنسان المؤمن عندما يواجه مِنْ قَبيلِ هذه الأسئلة يقع
في ضيق، إلى الدرجة التي لا يَسلَمُ البعض من هذا المنزلق، وربّما يقع في هاوية الكفر والإنكار.
لكن الظريف في هذا الأمر هو أنّنا كُلّما تفكّرنا ودَرسْنا جوانب هذه المسألة أكثر، توصلنا إلى آفاقٍ أكثر وضوحاً.
بالضبط كالمسافرين الراكبين في القطار الذي يجتاز نفقاً مُظلماً حيث يتملكهم القلق
نفحات القرآن، ج 4، ص: 343
والإضطراب، ولكن بتقدم القطار إلى الأمام يلوح بصيص نورٍ شيئاً فشيئاً، ثم يتّسع مع استمرار التقدم، حتى يتلاشى ظلام النفق تماماً بخروج القطار.
وعلى أيّة حال هنالك جوابان إجماليّان في مقابل هذه الأسئلة المحيّرة، مال البعض إلى الجواب الأول، والبعض الأخر إلى الثاني، وجماعة إلى كليهما.
والمهم هو أنْ نعزّز الأجوبة بإيضاحات جديدة، والاستعانة بالآيات القرآنية أيضاً بشكل يتناسب مع البحث التفسيري.
بمراجعة النقاط التالية نحصل على جواب واضح وقصير لجميع هذه الأسئلة، والذي يُمكن أن يُخرجنا من هذا المأزق:
لا ريب في كون ما نعلمه من المجهولات قليلًا جدّاً، وما نعلمه عن أسرار الخلق والوجود بالقياس إلى ما نجهله منها كقطرةٍ من بحرٍ عظيم.
هذه حقيقة اعترف بها جميع العلماء الإلهيين والمادييّن، لذا، فإنّ جميع وجهات نظرنا تجاه حوادث هذا العالَمِ تقع في حدود دائرة معلوماتنا وليست مُطلقة بتاتاً.
فإذا عجزنا عن معرفة أسرار هبوب العواصف، أو حدوث الزلازل فإننا لا نستطيع أن نتّهم مُسببّها بشي ء، فهل نحن متيقّنون من عدم وجود أثر إيجابي من الدمار الناشي ء عن العاصفة أو الزلزلة يطغى على سلبيات هذا الدمار؟
كُنّا في الماضي نُعِدُّ الكثير من المسائل من الآفات والبلايا، لكننا اليوم وفي ظل التطورات العلمية وكشف أسرار جديدة عن الكون نعتقد بفائدتها، فمثلًا كان الرأي السائد في السابق هو أنْ بكاء الأطفال المواليد لا ينجم إلّاعن ألمٍ أو أذى لا غَيْر، في
حين يُقال اليوم بأنّه لولا هذا البكاء لكان من المحتمل أن يفقد هذا المولود سلامته بالمرّة، وأنّ البكاء خير رياضةٍ لبدنه، فهو ينشّط الجهاز التنفّسي ويُسرّع جريان الدم في عروقه، ويُغذي جميع ألياف البدن، ويقوّي عضلات اليدين والرجلين والصدر والبطن، علاوةً على طرده الرطوبة
نفحات القرآن، ج 4، ص: 344
الزائدة الموجودة في دماغه والتي يُمكن أن تُحدث التهابات معينة فيه.
وما إلى ذلك من قبيل هذه النماذج.
ومن جهةٍ اخرى، إنّنا نقف على النظام الدقيق المدهش الحاكم على أغلب الموجودات، عندما ننظر إلى عالم الوجود، وقد ذكرنا شرحه بصورة تامّة في بحوث معرفه اللَّه، وليس لهذا النظام من تفسير سوى وجود عقلٍ كُلّيٍ وعلم غير محدود في ما وراءه.
علاوةً على ذلك، فإنّنا في البحوث المنطقية في مجال صفات اللَّه، توصّلْنا إلى أنّه تعالى لا يحتاج إلى أي أحد وهو بكل شي ء عليم، لذا فذاته المقدّسة منزّهة عن الظلم الناشي ء من الجهل والعجز، فما المبرر في أن يظلم أصغر عباده؟
إذن، إنّ ما نعتقد بكونه ظُلماً أو خلافاً للعدل ناجمٌ قطعاً عن محدوديّة اطلاعنا وعلمنا.
وبتعبيرٍ أوضح: كما يحتوي القرآن الكريم (كتاب التدوين) على آيات محكمات وأُخر متشابهات، أي أنّ أغلب الآيات مجملة لا تخلو من الإبهام لوحدها، فعلّمنا القرآن هنا اسلوباً منطقياً لحل ابهام واجمال المتشابهات، وأمرنا بالاستعانة بالمحكمات في تفسير وتحليل المتشابهات، وأمرنا بالمقارنة فيما بينها لدفع جميع الإشكالات.
وتوجد في (كتاب التكوين) أي عالم الكائنات- آيات محكمات كثيرة أيضاً، وهي النُّظم والقوانين المفيدة الحاكمة فيه، وإلى جنب هذه المحكمات يُلاحظُ وجود بعض المتشابهات كالزلازل والعواصف، التي تحدث أحياناً، وبغض النظر عن بعض المشوّهين للحقائق الذين يشكّلون نسبة ضئيلة بين الناس فانَّ الإنسان العاقل والمدرك يؤمن بأنَّ لهذه الآيات التكوينية
الواضحة مسائل وحسابات معينة، مع أنّنا نجهلها بسبب محدودية علمنا.
فلو أُعطينا كتاباً ضخماً (يحتوي على ألف صفحةٍ مثلًا) مليئاً بالعناوين البديعة، والبحوث الغنيّة، والحقائق القيّمة الواضحة، لكنّنا تحيّرنا في تفسير عدّة جُملٍ منه لأنَّ فيها شيئاً من الإبهام والإجمال، فهل من الصحيح أن ننفي علم ومعرفة ومنطق الكاتب بسبب بعض العبارات التي لا نُدرك تفسيرَها؟ بل بالعكس فبالنظر إلى كثرة المطالب العلمية في الكتاب سنعترف بعجزنا عن تفسير تلك العبارات المعدودة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 345
إذا وجدنا عمارة عظيمة تجلّى فيها رونقُ الفن المعماري بكل أشكاله، وصادفنا جانباً صغيراً منها لم نستطع أن نفهم فلسفته، فهل نخطّي ء المعمار؟ أم أنفسنا؟ لا سيّما إذا عرفنا من القرائن الأُخرى مهارة معمار تلك البناية وكماله العلمي، وصفو وصدق نيّته أيضاً.
وخلاصة القول: هو أنّنا لو ألقينا نظرة على هذه الحوادث الخاصّة، بل ولو نظرنا إليها إلى جانب مجموعة نظام العالَم، وحَكَمْنا حُكماً شموليّاً لتوصلنا مجملًا إلى هذه النتيجة وهي:
إنّ هذه الأمور ذات أسرار خاصّة أيضاً، بالرغم من جهلنا، ويُحتمل انكشاف قسم منها بمرور الزمان وتطوّر العلم، كما انكشف قسمٌ منها لحد الآن، وفي نفس الوقت يُحتمل أن يبقى قسمٌ آخر منها مستوراً عنّا إلى الأبد، لكننا مع ذلك نعلم بأنّ في جميع هذه الأمور أسراراً خفيّة.
إنّ القرآن الكريم الذي يُري الطريق ويُعين في الوصول إلى المقصود في جميع المسائل الفكريّة، له إشارات كثيرة أيضاً في هذا المجال من جملتها:
1- قال تعالى في موضعٍ: «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلمِ إِلَّا قَلِيلًا». (الأسراء/ 85)
فاحذروا أن تحاولوا بعلمكم المحدود أن تُنظّروا في كُلّ شي ء، وتتصوروا بجهلكم بأسرار الحوادث عدم وجود تلك الأسرار.
2- بعد أن أشار تعالى في سورة النساء إلى قسمٍ من
الاختلافات التي قد تحدث بين الزوجَيْن، أمر الرجال بحسن معاملة النساء فقال: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئاً وَيَجعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً». (النساء/ 19)
وقد ورد نفس هذا المفهوم بتعبيرٍ آخر، بالنسبة إلى الجهاد في سورة البقرة، كقوله تعالى:
«كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌلَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعلَمُونَ». (البقرة/ 216)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 346
مع أنّ الآية الاولى تخص المعاشرة الزوجيّة، والآية الثانية تخصُّ الجهاد المسلّح ضد العدو، لكن ما ورد في نهايتهما قانون كُلّيٌّ حيث يقول: إنّ محدودية علمكم في الكثير من الموارد تحول دون تمييزكم الخير والشّر، وعليه لا يُمكن النظر فقط إلى ظاهر الحوادث والقضاء بشأنها، فمن المسلَّمِ أن الحوادث البشريّة المُرّة تقع في دائرة هذا القانون الكلّي أيضاً.
3- إنّ قصة الخضر وموسى عليهما السلام التي وردت في سورة الكهف والتي تُعدُّ من القصص القرآنية الغنيّة الرامية إلى أهداف متعددة، تشير بوضوح إلى بحثنا، والتي يُمكن القول: إنّ أحد ألاهداف الأساسية من طرحها هو هذه المسألة وهي: عندما يصدر فعلٌ معينٌ من حكيم، يجب عدم الحكم بظاهره والقضاء بشأنه استناداً إلى ذلك، فما أكثر الحالات التي يبدو فيها ظاهر العمل قبيحاً، لكنّه يحتوي في باطنه على أسرار عميقة.
فمثلًا خرق سفينة المساكين المستضعفين التي كانت تشكّل مصدر عيشهم (رزقهم) المحدود، أو قتل الغلام الذي كان يبدو بريئاً ولم يرتكب جرماً وخيانةً ظاهراً، أو إقامة الجدار الذي أو شك على الانهيار بدون ثمن، في قرية البخلاء الذين أبْوا أن يضيّفوا (موسى وصاحبه عليهما السلام) كانت جميعها أعمالًا يُعد كلٌّ منها أقبح من الآخر.
ولهذا السبب كان موسى عليه السلام يعترض كُلّما
ارتكب الخضر عليه السلام أحد هذه الأعمال ويقول له: لِمَ فعلت هذا!؟
ففى الموقف الأول قال له: «أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهلَهَا لَقَد جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً». «1» (الكهف/ 71)
وفي الموقف الثاني استنكر قائلًا: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيرِ نَفسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً».
(الكهف/ 74)
وفي الموقف الثالث أراد مِنَ الخضر عليه السلام أن يتقاضى أجراً مقابل عمله «قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً». (الكهف/ 77)
__________________________________________________
(1) «إمر» على وزن «بِئْر» تُطلق على العمل المهم والعجيب، أو المبغوض والقبيح جدّاً.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 347
وكان يبدو لموسى عليه السلام أنَّ العمل الأول اتلاف مال الغير، والثاني اتلاف النفوس، والثالث اتلاف الحق الخاص.
ولكن عندما كشف (الخضر عليه السلام)، ذلك العالم الكبير الذي كان يُعَدُّ في هذه الواقعة بمنزلة استاذ ومعلّم لموسى عليه السلام، حجباً عن أسرار عمله تأسف موسى عليه السلام على استعجاله في القضاء بشأن تلك الأمور، لأنّه عرف أنّ من وراء ظاهر هذا العمل القبيح أسراراً خفيّة تعود بالمصلحة للمستضعفين في النهاية!
فخرق السفينة وإعابتها المؤقتة حال دون غصبها من قبل سلطانٍ جبّارٍ غاصبٍ كان يغصب جميع السفن السليمة.
وبقتل ذلك الشاب غير المؤمن والكافر الظالم (الذي كان مستحقّاً لمثل هذه العقوبة حسب القوانين الإلهيّة) قد خلّص أبويه المؤمنَيْن من الخطر.
وبترميمه ذلك الجدار الذي كان مُشرفاً على الإنهيار كان قد حفِظَ كنزاً لطفلَيْن يتيميْن، والذي كان يُعدُّ إرثاً خلّفه لهما أبوهما المؤمن ليستفيدا من أوان بلوغهما سنَّ الرشد.
كان الخضر عليه السلام إنساناً عاقلًا حكيماً ولكنه بالقياس إلى علم اللَّه وحكمته لا يُساوي شيئاً مذكوراً، وكانت أعماله في الظاهر بدرجة من القباحة بحيث لا يُمكن في بادي ء الأمر توجيهها بأي بيان، وكان هذا هو السبب في استنكار موسى واعتراضه عليها، لكن أسرارها
الإنسانية والمنطقيّة انكشفت تماماً بتوضيحٍ قصير ومختصر من قبل الخضر عليه السلام، واقتنع بها موسى عليه السلام بصورة تامّة.
يمكن الاستفادة من هذا البيان القرآني كقانون كُلّي، والإستنارة به لمعرفة حقائق الأمور الظاهرية التي قد نشاهدها أحياناً في عالم الوجود، واعتباره جواباً إجمالياً لنستيقن بالأسرار الخفية المحتمل وجودها من وراء هذه الظواهر.
4- وتُلاحظ إشارة اخرى إلى هذا الموضوع في قصّة قارون، ذلك الرجل الثري والأناني الظالم من بني اسرائيل، في الموضع الذي استعرض قارون يوماً ما كان يملكه من الثروات الطائلة والنفيسة (من الخيول والغلمان والإماء والمجوهرات الذهبية) أمام أنظار
نفحات القرآن، ج 4، ص: 348
بني اسرائيل، فدُهشَ جماعة من الأفراد ذوي النظرة الظاهرية، من هذا المشهد بحيث قالوا:
«يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ». (القصص/ 79)
ولكن في اليوم التالي الذي خُسفت فيه الأرض بقارون وأمواله وتبيّن بأنّ من وراء ذلك الجمال الظاهري قبحٌ باطني وعقوبة أليمة، قالوا مستوحشين: «لَوْلَا أَن مِّنَّ اللَّهُ عَلَينَا لَخَسَفَ بِنَا». (القصص/ 82)
علاوة على ما تحمله هذه القصّة من التجليات التربويّة فإنّها تُشير إلى هذه المسألة وهي: استحالة إمكانية القضاء بشأن أمرٍ معينٍ خيراً كان أو شرّاً على أساس ظواهر الأمور.
فأحياناً ما يراه الإنسان خيراً في الظاهر فانّه شرٌفي باطنه بحيث لو عرف نتائجه لولى منه فراراً. ومن قبيل هذه الحوادث تُعَدّ الأرضيّات المنطقية للجواب الإجمالي على الأسئلة المطروحة في داخل روح الإنسان.
5- في المسائل المتعلّقة بالوصيّة في القرآن الكريم، بعد أن أشار تعالى إلى إرث الطبقة الأولى (الأبناء والوالديْن) قال: «آبَائُكُمْ وَأَبْنَائُكُمْ لَاتَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقرَبُ لَكُم نَفعاً». (النساء/ 11)
مع كون الأب والأم والولد اقرب إلى الإنسان ممن سواهم، ويقضي أغلب سنين عمره معهم، إلّاأنّ القرآن يقول: أنتم لا تدرون أيّاً من آبائكم وأبنائكم
أقرب لكم نفعاً، وأيّهم صاحب الدور في حياتكم، لذا لم يوكل أمر تعيين حصّة الارث إليكم.
فالإنسان الذي لا تسمح له محدودية علمه في أن يحكم حكماً قطعياً في مثل هذه المسائل كيف يُمكنه أن يحكم سَلفاً على حدَثٍ ينتج عنه الألم في الظاهر بأنّها مسألة غير موزونة في عالم الخلق؟
خلاصة الكلام هو أنّ الأدلّة العقلية بل والآيات القرآنيه أيضاً تدل بوضوح على هذا الجواب الإجمالي الكلّي حول الأسئلة المطروحة أعلاه، وعلى الأقل إنّها قد منعت الإنسان من القضاء القطعي بشأن الأمور، وحثّته على التريُّث والتفكُّر بصورة أكثر.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 349
وردت في المصادر الإسلاميّة روايات كثيرة عن المعصومين عليهم السلام حول بحث الرضا والتسليم، وبالرغم من كونها تُشير إلى بحثٍ أخلاقيّ واسع، فهي تحتوي أيضاً على أشارات حول بحثنا، ومن جملتها ماروي عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه سبحانه وتعالى يُجري الأمور على ما يقتضيه لا على ما ترتضيه» «1».
أي لا تقلقوا من كون الشي ء خلافاً لرغبتكم ورضاكم، فهنالك أسرار ومصالح لا تعلمون بها.
وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ أعلم الناس باللَّه أرضاهم بقضاء اللَّه» «2».
أجَلْ، إنّ الذي يؤمن بعلم اللَّه وحكمته ولطفه ورحمته وإحاطته بهذه الأمور، على يقين بأنّ (كل ما يأتي منه خير) ولو أنّه لم يدرك أسرارها بدقّة.
وفي حديثٍ آخر عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام: «أجدر الأشياء بصدق الإيمان الرضا والتسليم» «3».
أي أنّ أوضح أثرٍ على صدق الإيمان بعلم اللَّه وحكمته ورحمته هو التسليم لإرادته التكوينيّة والتشريعيّة. لا تسليماً عن كراهة، بل عن رضىً، لأنّ المُسلم يعلم بأنّ كل ما يصدر من اللَّه تعالى يحتوي في طيّاته على حكمة خفيّة.
طبعاً إنّ هذا الكلام لا يعني أبداً أن نحتسب مصائبنا وعدم الموفقيه والفشل و ... التي تحصل بما كسبت أيدينا، على القضاء الإلهي ونُسلّم ونرضى بها.
__________________________________________________
(1) غرر الحكم، الفصل 9، الحكمة 56.
(2) بحار الأنوار، ج 68، ص 144، ح 42.
(3) غرر الحكم.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 350
ولا يعني أيضاً أن نتقاعس عن التصدّي للآفات والحوادث والمشاكل، لأنّ بروز هذه الحوادث ناتج من أعمالنا وتعود نتائجها علينا في هذه الحالة، ولا يُمكن احتسابها على الإرادة الإلهيّة، لأنّه إن أوجد الألم فهو قد خلق العلاج أيضاً.
فإذا قصّرنا في مثل هذه الحالات فإننا ليس
لم نبلغ مقام الرضا والتسليم فقط، بل نتحمل مسؤولية أمام اللَّه سبحانه وتعالى، لأننا بتقصيرنا نكون قد ألقينا بأنفسنا في التهلكة، وسيأتي شرح مفصل بخصوص هذا الكلام في بحث الرضا والتسليم إن شاءاللَّه تعالى.
غالباً ما يُشتبه بين (التفاوت) و (التبعيض) ويأخذ الثاني الذي له صفة سلبية مكان الأول الذي له صفة إيجابية في الكثير من المواقع.
ولزيادة التوضيح: يُقصد من (التبعيض) هو أن نُفرّقَ بين موجودين يحملان نفس الشروط تماماً، مثلًا أن نُعطي أحد العامليْن اللذيْن أنجزا عملًا متشابهاً أجراً ضعف أجر الآخر، أو نعاقب أحدهما نصف عقوبة الآخر إذا ارتكبا عملًا قبيحاً، وهما يحملان نفس الشروط أيضاً، أو أن نعفو عن أحدهما تماماً ونعاقب الآخر أشَدّ العقاب.
ولكن إذا كانت الأعمال الإيجابية والسلبية متفاوته مع بعضها أو اختلف الفاعلون عن بعضهم، لكان التفريق فيما بينهم عين العدالة.
هذا من حيث الثواب والعقاب، أمّا من حيث الخلق والتكوين فإنّ عالم الخلق مجموعة من الموجودات المتفاوتة تماماً، لأنّ لكلٍ منها وظيفتها الخاصّة، ويلزم تناغم الخلق والوسائل والإستعدادات معها.
ومن خلال نظرة إلى أعضاء بدن الإنسان نُشاهد أنّ بعض خلايا البدن بدرجة من الظرافة بحيث يختل نظامها لأقل ضربة، أو حتّى هبوب نسيم معين، أو انبعاث نور شديد،
نفحات القرآن، ج 4، ص: 351
(كشبكيّة العين) لذا نجد أنّها موضوعة في محفظة قوية جدّاً لكي تكون بعيدة تماماً عن ساحة الحوادث، وهذه الخلقة اللطيفة والظريفة جدّاً، إنّما هي بسبب الواجب الحسّاس جدّاً الملقى على عاتقها وهو (التصوير المستمر للمشاهد المختلفة من مسافات بعيدة وقريبة وفي أجواء متفاوتة).
وهنالك خلايا صلبة ومحكمة ومقاومة جدّاً، كخلايا عظام كعب القدم، أو عظام الساق التي علاوةً على تحمّلها جميع وزن البدن، يجب أن تكون مُقاومة للضربات
القوية والصدمات.
فلا يُمكن إذن لأي عاقل أن يعترض على تفاوت بُنية هذيْن العضويْن؟ أو يعترض على عدم خلق جميع خلايا البدن بنفس ظرافة خلايا شبكيّة العين، أو بنفس صلابة خلايا الساق، أو القدم، أو بنفس سُمك جلد كعب القدم؟
ويُمكن إجراء نفس هذه الحسابات بخصوص أعضاء شجرة أزهار صغيرة مع شجرة كبيرة ابتداءً من جذورها القويّة، إلى سيقانها، وأغصانها الصغيرة والكبيرة، وبالتالي أوراقها مع أوراق الأزهار والشعيرات الصغيرة الدقيقة الموجودة في داخل كُلّ زهرة.
ولو أمعنّا النظر جيّداً لوجدنا أنّ أقسام المجتمع البشري تشبه تماماً أعضاء بدن الإنسان أو شجيرة أزهار صغيرة وشجرة كبيرة.
فصنع النظام الأحسن يفرض وجود التفاوت في استعدادات وأذواق أفراد المجتمع وبنائهم الروحاني والجسماني، ليتناسب كُلُّ واحدٍ منهم مع الواجب الذي يُلقيه نظام الخلق على عاتقه ويتمكّن منه، وإلّا لتبعثر كُلّ شي ء، ولما كان هنالك نظامٌ أحسن، ولصار الوجود كالشجرة التي جميعها جذور أو سيقان أو أوراق فقط، ومن قبيل هذه الشجرة لا تستطيع أن تواصل الحياة لأكثر من فترة قصيرة، وإن كانت قادرة فلا فائدة منها.
فلا يُمكن أن يتساوى تركيب وجود الأم، التي يجب أن تكون كتلة من العواطف لتقوى على تحمل كل مشقّات حفظ وتربية الأولاد، مع تركيب وجود الأب، الذي يجب أن يُمارس عمله دائماً في قلب المجتمع، لأنّ العكس معناه إمّا تلاشي دور الأمومة أو تعطيل دور الأبّوة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 352
وكذا لا يُمكن أن يتساوى تركيب أعصاب جرّاح للقلب مع اعصاب شاعرٍ دقيق النظر، أو عالمٍ في الرياضيات مع مهندسٍ زراعي، أو كلاهما مع عامل صناعاتٍ ثقيلة، وهؤلاء الثلاثة مع جندي أو ضابطٍ عسكري، وهؤلاء الأربعة مع قاضٍ مُعيَّنْ، لأنّ لكل واحدٍ منهم وظيفته الخاصّة في المجتمع وله ذوق
واستعداد وبناء جسماني روحاني خاص مناسب لذلك.
وهذا المطلب بدرجة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى زيادة في التوضيح، وبالأساس أنّ من إحدى دلائل عظمة اللَّه هي هذا التقسيم الدقيق للأذواق والاستعدادت التي تُشكّل جميعها مجموعة متعادلة ومتوازنة كلٌّ في محله الخاص!
وخلاصة الكلام هي أنّ البشر ليس كالأواني المتشابهة التي تُصنع في معملٍ واحد، ولجميعها فائدة واحدة، فلو كان كذلك لما استطاعوا العيش مع بعضهم حتى يوماً واحداً، فالمهم في حياة البشر وجميع عالم الخلق هو العدالة لا المساواة، ووضع كل شي ءٍ في محلّه لا التشابه.
وللقرآن الكريم إشارات غنيّة في هذا المجال، حيث قال في موضعٍ: «وَرَفَعنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيّاً». (الزخرف/ 32)
«سُخريّاً»: مشتقة من مادّة (تسْخير)، ومفهوم الآية هو: إنّ تفاوت درجات الناس تؤدّي إلى تسخير بعضهم بعضاً، أو تدفع بهم إلى التعاون المتقابل، فالمريض مُسَخّرٌ للطبيب والطبيب مُسخّر للمعمار في حوائج اخرىْ، أو الفلاح مسخّر للتاجر، لأنّ لكل واحدٍ منهم أفضليّة على الآخر من جهة معينة، وهذه بذاتها تُوجِد (الخدمات المتقابلة) أو (التسخير) وفق التعبير القرآني.
وقد اتفق أغلب المفسّرين الإسلاميين من الشيعة والسُّنة على تفسير الآية بهذا الشكل، أي كون المقصود من (سُخريّاً) هنا هو التسخير في الخدمات المتقابلة «1».
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 46؛ تفسير الميزان، ج 18، ص 104؛ القرطبي، ج 9، ص 5903؛ تفسير الكبير، ج 27، ص 209؛ تفسير روح المعاني، ج 25، ص 72؛ تفسير المراغي، ج 25، ص 85.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 353
والقول بأنّ المقصود من (سُخريّاً) هو (الإستهزاء) احتمالٌ ضعيفٌ جدّاً طُرح في بعض التفاسير بعنوان رأي غير مقبول.
ونُلاحظ في موضعٍ آخر: «وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِّيَبلُوَكُم فِى
مَا آتَاكُمْ». (الأنعام/ 165)
ونظراً إلى عدم كون هدف الإمتحان الإلهي معرفة حقيقة الأشخاص واكتشاف الأمور الخفيّة، لأنّ اللَّه محيط بكل شي ءٍ علماً، بل المقصود منه تربية البشر في البلاء والإمتحان ليخلُصوا ويقوى تحملهم، وبتعبيرٍ آخر: إنّه وسيلة لتكاملهم، لذا فالآية تقول: إنَّ هذا سبب التكامل (المادي والمعنوي).
وهناك نموذجٌ آخر: هو ما جاء في الآيات التي تُشير إلى تفاوت واختلاف نصيب الناس من الأرزاق، فغالباً ما يَسأل بعض الأفراد: لِمَ هذا غنيٌّ وذاك فقير؟ والقرآن يُجيب عن هذا السؤال بصورة إجمالية من خلال الآيات المختلفة ويقول: إنّ تقسيم الرزق بين العباد يجري وفق حسابٍ دقيق وبرنامج منظّم مفعم بالأسرار، ولو أنّ الناس لا يعلمونه، كما ورد في سورة الإسراء: «إِنَّ رَبَّكَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقدِرُ إِنَّه كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً».
(الاسراء/ 30)
طبعاً يجب عدم خلط التفاوت الإلهي الواقعي والطبيعي مع التفاوت الوضعي الناشى ء عن الإستثمار والاستعمار، واحتسابها جميعاً على إرادة اللَّه، فالمسألة تتخذ طابعاً آخر في هذه الحالة وتخرج بشكل تفسيرٍ انحرافي وتؤدّي إلى التخلُّف الأقتصادي والاجتماعي، والقرآن مخالف جدّاً للنوع الثاني، بل ويُحاربه أيضاً.
ويُلاحظ في الروايات الإسلامية وجود إشارت غنيّة بشأن هذا المطلب، كقول علي عليه السلام:
«لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا» «1».
__________________________________________________
(1) منتهى الأمال، ج 2، ص 229.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 354
يُصاب الإنسان في حياته بمصائب كثيرة هي بالواقع من صنعه هو، ولكن الكثير من الأفراد ولأجل تبرئة أنفسهم، والتغاضي عن تقصيرهم، واهمالهم اللذين ينتج عنهما حدوث المشاكل، نراهم يحتسبونها على قضاء اللَّه وقدره، ويوجهون التقصير إلى المشيئة الإلهيّة، وبعدها يشكّكون في عدالة اللَّه أحياناً، في حين أنّنا لو دقّقنا جيّداً لوجدنا أنّ الكثير من الحوادث
الأليمة، والفشل، والمصائب التي يعاني منها الناس، هي بما كسبت أيديهم، وأنّ الفرد أو المجتمع هو العامل الأصلي والمقصّر الحقيقي فيها، مع أنّهم يُبرّئون أنفسهم ظاهرياً.
والمصائب التي تصيب الناس بسبب تعسّف الحكومات الظالمة والمستبدة، هي من هذا القبيل عادةً، لأنّ الظلمة والجبابرة افرادٌ معدودون، وسكوت الناس حيال جرائمهم البشعة وتعاون بعض الناس معهم هو السبب الذي يكسبهم القدرة والقوّة للتسلُّط على رقاب الناس، وخلق المشاكل الكثيرة لهم.
والكثير من الأمراض مَنشأُها هوى النفس، والكثير من الاحباط وحالات الفشل تنبع من ترك المطالعة والإستشارة المطلوبة، وعاملها الأساسي أنانية واستبداد الإنسان برأيه.
وسبب الكثير من حالات الفشل التقاعس وترك الجهاد والسعي.
وكانت الفوضى دائماً سبب الفاقة والاختلاف، والفرقة سبب المصيبة والبلاء.
والعجب هو أنّ كثيراً من الناس نَسُوا علاقة العلّة بالمعلول واحتسبوا جميع الأمور على الخالق!
علاوةً على هذا فإنّ من المصائب التي تلاحظ في المجتمعات البشريّة ناتجة من ظلمهم لبعضهم، أو ظلم جماعةٍ لجماعةٍ اخرى، فمثلًا إذا سمعنا بأنّ هنالك خمسين مليون انسان تقريباً في عصرنا الحاضر يموتون جوعاً، أو بإصابة أكثر من هذا العدد بأنواع الأمراض بسبب سوء التغذية، فإنّه لا يعني بأنّ سببه هو أنّ اللَّه قد حرمهم من لطفه، بل سببه هو سوء استغلال جماعة اخرى من أبناء الدنيا للحرية الإلهيّة، وقيامهم بغصب حقوق الآخرين.
فصار استعمار واستثمار هذه الجماعة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 355
إنّ الأمراض والموت الناشي ء من الجوع، يحصل في الوقت الذي تلقي الكثير من الدول الثريّة- الغافلة عن ذكر اللَّه- كثيراً من المواد الغذائيّة في البحر، أو يلقونها في المزابل، ويُعانون من أنواع الأمراض الناشئة من الإفراط في الشبع.
وكذا إذا رأينا أنّ أطفالًا يُعانون من أمراضٍ أو نقص أعضاء معينة بسبب ذنوب آبائهم وأمهاتهم الذين أسرفوا
في تناول المشروبات الكحولية أو سوء التغذية وما شاكل ذلك، فهو ظُلمٌ صادرٌ من آباء أو أمهات هؤلاء الأطفال أو مسؤولي مجتمعهم بحقّهم، وبالضبط كأن يأخُذ أبٌ خنجراً ويفقأ به عين طفله الرضيع، أو كذبح الأطفال من قبل الجبابرة كفرعون مثلًا.
حينئذٍ لا يُمكن احتساب أي عملٍ من هذه الأعمال على فعل اللَّه، بل جميعها ممّا كسبت يد الإنسان ذاته، والتي أعدّها الإنسان لنفسه أو للآخرين.
1- يُلاحَظُ وجود آيات قرآنية كثيرة توضح بصراحة علاقة قسم عظيم من المصائب بأعمال الإنسان السيئة، إلى الحدّ الذي يُلاحظ فيه أنّ تعبير بعض الآيات جاء بصيغةٍ عموميّة تشمل جميع المصائب: قال تعالى: «مَّا أَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِئَةٍ فَمِن نَّفسِكَ». (النساء/ 79)
والظريف هو أنّ المخاطب في هذه الآية هو شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، لتأكيد وبيان أهميّة الموضوع، فعندما يكون الرسول صلى الله عليه و آله مُخاطباً بهكذا أسلوب يتضّح أنّ التكليف واقعٌ على الأخرين حتماً، وإلّا فمن المعلوم أن الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله لا يفعل فعلًا يُوْدي إلى ابتلائه بمصيبةٍ من نفسه.
ونَسْب (الحسنات) إلى اللَّه إنّما هو لأنّ اللَّه قد وضع جميع إمكاناتها تحت تصرُّف الإنسان، ونَسْب (السيئات) إلى الإنسان إنّما هو لأنّها تحرف هذه الإمكانات عن الأهداف
نفحات القرآن، ج 4، ص: 356
التي خلقها اللَّه لأجلها، وإلّا فمن حيث كونه مسبّب الأسباب يُمكن نَسْبُها إليه جميعاً.
ولعل هذا هو السبب في نَسْب بعض الآيات القرآنية جميع الأعمال إلى اللَّه، لذا فإنّ التفاوت الموجود انّما هو بسبب تفاوت جهات البحث وزوايا النظر، (تأمل جيداً).
ولا يُمكن إنكار كون الكثير من الحوادث الأليمة الموجودة في حياة الإنسان من صنع نفس
الإنسان، فمثلًا إنَّ سبب الكثير من الأمراض هو عدم الاهتمام بأصول الصحّة وقواعدها، أو الإفراط في تناول الغذاء إلى حد التخمة، أو عدم التدقيق في النظافة، أو الإنزواء وعدم التحُّرك، أو عدم الإحتراز من المناطق الملوثة أو الأفراد الملوثين. ولو راعى الإنسان الأسُس والقوانين التي وضعها اللَّه في عالم الخلق والتكوين لما أُصيب بها.
ولكن مع هذا لايُمكن انكار كون قسم من الأمراض التي تُصيب الناس ذات عوامل خارجة عن قدرتهم، كالتغيُّر المفاجي ء في حالات الطقس التي تحصل خلافاً لمقتضى طبيعة الفصل، فيُصابُ البعض بمختلف الأمراض.
ويُمكن ملاحظة نفس هذا التقسيم بخصوص بقيّة المصائب والحوادث الاخرى، لذا فإنّنا نقول: بالرغم من كون صيغة الآية الآنفة الذكر عامّة لكن مقصودها الأصلي أغلب الموارد.
ولأنّ (الفخر الرازي) لم يستطع حل هذه المعضلة، فقد فسّر (السيئة) الواردة في الآية بمعنى (المعصية) في الوقت الذي نجد بأنه معنىً غير متزّن جدّاً، لأنّ مفهوم الآية سيصير كالتالي (ما أصابك من معصيةٍ فمن نفسك)، وهذا الشي ء من قبيل توضيح الواضحات، وعليه فإنّ تعبير (سيئة) له مفهوم عام.
2- وفي موضعٍ آخر اعتبر الفساد الذي يظهر في البر والبحر كنتيجة لأعمال الناس، حيث قال: «ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِى النَّاسِ». (الروم/ 41)
ونظراً لكون الفساد المذكور في الآية معرّف بألف لام التعريف ويفيد العموم، فإنّه يدل على كون الفساد الذي يظهر في البر والبحر من صُنع الإنسان، وتشير إلى المفاسد الاجتماعية.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 357
ويُضيف قائلًا في تكملة الآية: «لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ».
اعتقد بعض المفسرين بأنّ هذه الآية تُشير إلى العقوبات والمجازاة الإلهيّة التي تصيب الناس بسبب (أعمالهم السيئة)، ولكن يبدو أن صدر الآية يُشير إلى وجود نوع من الرابطة التكوينيّة
فيما بين (الفساد) و (الذنب)، وذيل الآية يُصدّق هذا المعنى أيضاً، لأنّه لم تُذكر كلمة (عقوبة) فيها، بل: «لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا» لا (جزاء الذي عملوا)، ويُمكن أن يكون سبب استعمال كلمة «بعض» هو إبطال اللَّه مفعول بعض هذه النتائج الطبيعيّة بلطفه ورحمته.
وعلى أيّة حال فإنّ الآية أعلاه تدلّ على أنّ المفاسد الاجتماعية: كانعدام الأمن، الحروب، تسلُّط الظالمين، ابتلاء المظلومين، وأمثال ذلك وليدة عمل الإنسان نفسه، ويجب أن لا تُحتَسب أبداً على الخالق ويُشكّك بالعدل الإلهي بسببها. (تأمل جيّداً).
3- يُفهم من آيات أُخرى أن سبب تغيّر النعم الإلهيّة هو تغيُّر أحوال الناس، حيث قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم». (الرعد/ 11)
وقد بين نفس هذا المطلب في موضعٍ آخر مستعملًا كلمة (النعمة) بصريح العبارة، حيث قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يكُ مُغيِّراً نِّعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم». (الأنفال/ 53)
وبتعبيرٍ آخر أوضح: إنّ الفيض والرحمة الإلهيّة عامّة وواسعة، لكنها تُقسَّمُ بين الناس وفق الإستعدادت والاستحقاقات، فإن استفادوا من النعم بصورة صحيحة كانت دائمية أبديّة، وإن صارت وسيلةً للطغيان والظلم والجور والغرور والكفر، فلا ريب في أنّها تكون بلاءً، وهذا تأكيدٌ على أنَّ الكثير من المصائب التي تصيب الإنسان هي مِمّا كسبت يداه.
4- وفي موردٍ آخر، وضمن الإشارة إلى ضيق صدور الناس، أشارت الآية التالية إشارةً لطيفة إلى العلاقة بين (المصائب) و (أعمال الناس).
قال تعالى: «وَإِذَا أَذقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ إِذَا هُم يَقنَطُونَ». (الروم/ 36)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 358
إنّ أكثر المفسّرين اعتقدوا بأنّ مثل هذه الآيات تُشير إلى العذاب الإلهيّ، ولكن يبدو من ظاهر الآيات أنّ المصائب ناتجة عن أعمال الإنسان
نفسه، وبتعبيرٍ آخر ذُكرت الأعمال بعنوان (سبب)، والمصائب بعنوان (مُسبّب).
وإن حصلت هنا عقوبة معينة فهي كأثر طبيعي للعمل، وانعكاس عن أفعال وتصرُّفات الناس، ولا يوجد دليل واضح على تأويل كلمة العقوبة والعذاب في جميع هذه الموارد، كما ورد ذلك في كلام أغلب المفسّرين.
إنّ البعض الآخر من المصائب التي تُصيب الإنسان عبارة عن عقوبات إلهيّة تصدرُ منه تعالى وفق استحقاق الأفراد، وهي تخص الأفراد الذين ارتكبوا ذنوباً إما كثيرةً وكبيرةً جدّاً، بحيث تستوجب العذاب الدنيوي والعذاب الأخروي، وإمّا طفيفة بحيث تُمحى بالعذاب الدنيوي فقط، وهو بالواقع نوع من اللطف الإلهي بحق هؤلاء الأفراد.
ويُحتمل أن تكون هناك فاصلة زمنية بين (الذنب) و (العقوبة) لكن العلاقة محفوظة، وأحياناً أُخرى تنزل العقوبة مباشرة ويكون الحساب سريعاً.
وتفاوت هذا البحث عن البحث السابق هو أننا تحدّثنا في البحث السابق عن الأثر الطبيعي للأعمال، وفي هذا البحث عن العقوبة الإلهيّة.
وعلى أيّة حال فإنّه لا يُمكن للمؤمنين والمعتقدين بالعدل الإلهي إنكار وجود هذه المسألة، وهي تحقُّق العقوبة الإلهيّة الدنيويّة بحق فئة معينة على الأقل، ولكن يُمكن أن تكون تلك المصيبة بالنسبة للذين يجهلون سببها عجيبة وأليمة.
وصفحات التاريخ تُخبر عن حال الذين ارتكبوا جنايات فجيعة عند الاقتدار، وكان مصيرهم أنْ هلكوا بعقوبات أليمة ومصائب موجعة، بحيث لا يكفي كتاب أو عدّة كتب لذكرها بالتفصيل.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 359
وغالباً ما رأينا بأمّ أعيُننا في حياتنا اليوميّة نماذج من هذه المسألة بحيث لا يبقى لنا مجال للشّك في وجود هذه العلاقة والآصرة بصورة إجمالية.
والقرآن المجيد أيضاً علاوةً على إشارته إلى هذه المسألة كأصل كُلّي، فقد وضع إصبعاً على مواضع خاصّة أيضاً، وأشار إلى الأقوام الذين ذاقوا أشدّ العذاب كعقوبة دنيويّة، وإليكم أدناه نماذج من
كلا القسمين:
1- «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُّطمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ». (النحل/ 112)
إنَّ هذه الحادثة سواء كانت تُشير إلى مصير جماعة من بني إسرائيل، أو الى قوم سبأ، أو كانت مثلًا عامّاً- وردت كل من هذه الاحتمالات في كلام المفسّرين- فإنّها شاهدٌ حي على موضوع بحثنا، وتوضح وجود العلاقة فيما بين الذنب وقسم من المصائب.
فلو دخل جماعة مدينةً معينة أثناء إصابتها بالقحط، والخوف، والبلاء، دون أن يعرفوا ماضيها، لكان من الممكن أن يتعجبّوا، ويستوحشوا، ويسألوا أنفسهم قائلين: كيف يُمكن أن تتناسب كل هذه التعاسة والبلاء مع عدالة اللَّه سبحانه!؟
ولكنهم عندما يطّلعون على ماضيها يُقرّون بعدالة الجزاء، وأحياناً يرونَهُ أقل من الإستحقاق.
2- بخصوص (فئات) من الأمم السابقة أُصيبت كل فئةٍ منها بعقوبة معينة بسبب ما ارتكبت من الذنوب.
قال تعالى: «فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُمْ مَّن أَرْسَلنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهم مَّن أَخَذَتْهُ الصَّيحَةُ وَمِنْهُمْ مَّن خَسَفْنا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَّن أَغْرَقنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظْلِمُونَ». (العنكبوت/ 40)
ووِفقاً لهذه السنّة فقد أصاب قومَ عادٍ حاصبٌ هدّم منازلهم، وهلكَ قومُ ثمود بالصاعقة، وخسفت الأرض بقارون، وغرِقَ فرعون ووزيره هامان في البحر، فإنّ هذا البلاء المتنوع لا يُنافي أصل العدل الإلهي فقط، بل يعتبر عين العدالة لأنّ الجميع كانوا مستحقّين لذلك.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 360
وقد نقلت بعض التفاسير قصّة لطيفة في تفسير ذيل الآية (90/ يونس) بخصوص فرعون تُعدُّ شاهداً حيّاً على موضوع بحثنا، وهي: دخل جبرائيل عليه السلام على فرعون ذات يومٍ بهيئة إنسان واشتكى إليه قائلًا: يا صاحب الجلالة! كان لي غلامٌ على سائر عبيدي، وسلّمته مفاتح كنوزي، فعاداني وعادى
من يُحبّني وأحبَّ أعدائي، وقربّهم إليه، فاقض أنت بشأنه وعيّن عقوبته!
فقال فرعون: لو كان هذا غُلامي لأغرقته في البحر!
فقال جبرئيل عليه السلام: اكتب لي هذا الأمر (الحكم) يا صاحب الجلالة (لكي استفيد من خطّك)، فأمر فرعون باحضار دواةٍ وقلم وورقٍ فكتب: (إنني أحكم على العبد الذي يتمرّد على مولاه ويكفر بأنعُمِهِ بأن يُقتلَ غرقاً).
(انتهت هذه الحادثة) وعندما أوشك فرعون وجنوده على الغرق في البحر، ظهر إليه جبرئيل وأراه خَطّهُ وقال له: «هذا ما حكمت بنفسك» «1».
والجدير بالذكر هو أنّه لو كان أحدٌ حاضراً في هذه الأقوام عند نزول البلاء كالعاصفة والصاعقة، والسيل، والزلزلة، من دون أن يعرف شيئاً عن ماضيهم، ويرى بأُمّ عينيه الدمار الناجم عن السيل وكيفيّة تهدُّم المنازل على رؤوس أصحابها بسبب العواصف، وكيف تحوّل الصاعقة كُلّ شي ءٍ إلى رماد في لحظة واحدة، لتعجب ودُهِش ولأمكن أن يُشكّك في مسألة العدل الإلهي في عالم الوجود.
ولكن لو اطّلع على الحوادث السابقة وأعمال تلك الأقوام الماضية لزال شكّهُ.
وهذه فلسفة قسم من الآفات والبلايا (وسبب قولنا- قسمٌ- هو وجود فلسفة خاصّة لكل قسم من أقسام البلاء).
3- أشار القرآن الكريم في سورة سبأ إلى قصّة مفصّلة وغنيّة وموقظة بشأن قوم من اليمن ذوي تمدُّنٍ ملحوظ، وكان هذا التمدُّن ناتجاً عن وجود سدٍّ عظيم مُحْدَثٍ بين الجبال يحصر مياه البراري والجبال ليوزعها بتنظيمٍ دقيق على المزارع والحقول، فصارت أرضاً خصبةً مليئة بالنعم الإلهيّة (جنّة).
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 4، ص 77.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 361
اضافةً إلى ذلك فقد ساد الأمن فيها، وابتعدت عنها الآفات والبلايا والجفاف والمجاعة والخوف والوحشة، وحتى قيل: إنّ الحشرات المؤذية قد هجرت تلك الديار أيضاً.
ولكن لم تمض مدّة قليلة حتى أُصيبوا
بغرور النعمة وغفلة الرفاه، فطغوا وكفروا بالنعمة في عدّة جوانب.
قال تعالى في هذا المجال: «فَأَعْرَضُوا فَأَرسَلنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلنَاهُمْ بِجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَينِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَى ءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَينَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِى إِلَّا الكَفُورَ». «1»
(سبأ/ 16- 17)
العجيب هو ماورد في بعض الروايات بأنّ مقدّمات انهيار ذلك السدّ الترابي العظيم قد حدثت مُسْبقاً من قِبل الفئران البريّة التي نفذت في السد وأحدثت فيه ثقباً كان يتّسع لحظةً بلحظة على أثر جريان الماء منه.
أجَلْ، إنَّ سيلًا عظيماً متشكّلًا بالحقيقة من قطرات المطر، وفعل عدد من الفئران البريّة قد أفنى حضارةً عظيمة، وأهلك القوم الطغاة المتجبرين.
ومن قبيل هذه الحوادث حوادثٌ كثيرة توضّح علاقة قسم من البلايا مع أعمال الإنسان وعقوبته، بحيث لو جُمعت لصارت كتاباً عظيماً.
وخلاصة الكلام وَوِفقاً للاستدلالات العقلية والمنطقية، وآيات قرآنية كثيرة، ووِفقاً للروايات والتأريخ، فإنّه لا يُمكن إنكار كون قِسم ملحوظ من المصائب والبلايا النازلة بالظالمين والطواغيت ذات صيغة جزائية، بالرغم من عدم إدراك الجهلاء والغافلين العلاقة بين العلة والمعلول هذه.
ومُسَلَّماً أنّ اللَّه لم يكن ليظلمهم في مثل هذه الموارد بل كانوا أنفسهم يظلمون، كما قال تعالى: «ذَلِكَ مِن أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيكَ مِنهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ* وَمَا ظَلَمنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُم». (هود/ 100- 101)
__________________________________________________
(1) ورد تفسير هذه الآيآت وشرح هذه القصة في التفسير الامثل ذيل الآية المذكورة من سورة السبأ.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 362
ما ذكرناه آنفاً ملحوظٌ أيضاً في الروايات الإسلاميّة بشكل واسع بحيث إنّ قِسماً ملحوظاً على الأقل من المصائب والبلايا التي تُصيب المجتمعات الإنسانية ذات صيغة جزائية وقصاص للذنوب: وكنموذج على ذلك:
1- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إن اللَّه تعالى إذا غضب على
أمّةٍ، ثم لم يُنزل بها العذاب أغلى أسعارها وقصّر أعمارها ولم تربح تجارتها ولم تغزُر أنهارها ولم تُزكّ ثمارها وسلّط عليها شرارها وحبس عليها أمطارها» «1».
2- ورد في حديثٍ آخر عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: «كُلّما احدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون أحدث لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون» «2».
3- في رواية اخرى عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممّن يعيش بالأعمار» «3».
4- وعنه أيضاً عليه السلام: «إنّ الرجُل ليُذنب الذنب فيُحرمُ صلاة الليل وإنّ عمل الشّر أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم!» «4».
يُمكن لهذه الأحاديث أن تكون شاهداً على هذا البحث أو البحث السابق بخصوص العلاقة الطبيعيّة بين الذنب والحوادث المُّرة، (تأمل جيداً).
5- عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «وجدنا في كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (الروايات النبويّة» أنّه قال: «إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفّف المكيال والميزان أخذهم اللَّه بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كُلّها، وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلط اللَّه عليهم عدّوهم، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم
__________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 70، ص 353.
(2) المصدر السابق، ج 7، ص 345.
(3) المصدر السابق، ص 354.
(4) المصدر السابق، ص 358، ح 74.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 363
ينهُوا عن المنكر، ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلط اللَّه عليهم شرارهم، فيدعوا خيارهم فلا يُستجاب لهم!» «1».
6- نُقِلَ- في تفسير سورة نوح عليه السلام- حديث
لطيف في هذا المجال عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: نقل القلانسي وهو (أحد كبار علماء أهل السُّنّة) في تفسيره أنّ رجُلًا جاء إلى علي عليه السلام وقال له: يا أمير المؤمنين! أذنبتُ كثيراً من الذنوب وسوّدت بها صحيفة أعمالي فادعو ليغفر لي ربّي، فقال عليه السلام: «عليك بالاستغفار».
وجاءه رجلٌ آخر وقال: أصاب مزارعي الجفاف بسبب قلة المياه فادعو اللَّه ليُنزّل الغيث، فقال عليه السلام: «عليك بالاستغفار».
وجاءه آخر وقال: أنا رجل فقير وقد أنهكني الفقر فادعو اللَّه ليمنَّ عليٍّ من عميم لطفه، فقال له: «عليك بالاستغفار».
وجاءه رابعٌ وقال: لي ثروة طائلة ولكن لا ذريّة لي فادعو اللَّه سبحانه وتعالى ليهب لي ذريّة، فقال له: «عليك بالاستغفار!».
وقام إليه آخر وقال: يا سيّد الوصيين، إنّ بستاني شحيح الثمار، فادعو اللَّه ليبارك فيها، فقال عليه السلام: «عليك بالاستغفار».
وقال آخر: يا علي! جفّت عيون المياه في أرضنا، وشحّت فروع الأنهار، وحلّ بنا القحط، فأسألك الدعاء يا سيدي، فقال عليه السلام: «عليك بالاستغفار!».
يقول ابن عبّاس: كنت حاضراً عند أمير المؤمنين عليه السلام فقلت له: يا أمير المؤمنين سألوك أسئلة مختلفة وأجبتهم جواباً واحداً (ووصفت دواءً واحداً لجميع هؤلاء المرضى وهو الاستغفار!) فقال عليه السلام: «يا ابن عمّي! أولَمْ تسمع هذه الآيات (عن لسان نوح عليه السلام) التي تقول: «فَقُلتُ اسْتَغفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُمْ مِّدرَاراً* وَيُمِددكُم بِأَموَالٍ وَبَنِينَ وَيَجعَل لَّكُم جَنَّاتٍ وَيَجعَل لَّكُم أَنهَاراً» ...» «2».
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 2، ص 374، ح 2.
(2) تفسير منهج الصادقين، ج 10، ص 119، في تفسير الآية 12 في سورة نوح. (مع شي ء من الإختصار).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 364
وقد نقل جمعٌ من المفسّرين الحديث المذكور عن الحسن
البصري، وإن كان منقولًا عنه حقّاً، فإنّه على الأقوى قد سمعه عن أميرالمؤمنين على عليه السلام مباشرةً لأنّه استفاض من نور الإمام عليه السلام كثيراً.
إنّ الروايات المذكورة والروايات الكثيرة الاخرى المنقولة في التواريخ وكتب الأخبار تُعدُّ من أفضل الشواهد على وجود علاقة بين قسم من المصائب مع الذنوب والمعاصي (طبعاً إنّ قِسماً من هذه الروايات يشير إلى الأثر الوضعي للأعمال، وقسماً آخر يُشير إلى العقوبات الإلهيّة وبعضها الآخر يحمل كلا المعنيين).
لا ريب أنّ لقسْمٍ من الحوادث المزعجة أثراً ايجابياً في تمزيق حُجب الغرور، وإيقاظ الإنسان من نوم الغفلة، وتخليصه من مخالب عبادة الهوى والتشبُّث بالرأي، وتُعتبر الكثير منها منعطفاً في حياة الأفراد ذوي الإستعداد للهداية.
فوفرة النعمة، وقدرة السلطة، والعافية قد تغُر الإنسان لدرجة بحيث ينسى نفسه بالمرّة، فيعتقد بكونه مصدراً لجميع المواهب، وبأفضليته على الآخرين، وكأنّه يتصّور خلود الحياة فيتبدّل في هذا الحال إلى موجودٍ خطير، ظالمٍ، أناني، عنيد وعابث، ويستمر على هذه الصفات مالم يُصادف مشكلة في حياته، فيخسر حياته ويخسر الآخرين.
فهاهنا تخرج يد العناية الإلهيّة من كُمّ رحمانية الباري لُتعين الإنسان، فتحدث مصيبة عظيمة ثقيلة، كأن يفقد أحد أعزّائه، أو يفشل في مساعيه وجهوده، أو تهدم زلزلةٌ قصر آماله، أو تُحرق صاعقةٌ قِسماً من أمواله.
فيتعرّض لوخزة قد توقظه فيدخُل في عالم التفكير، ويعود من التَيْه والضياع فيخطو في جادّة الصواب.
وقد لاحظنا المطبّات الإصطناعية التي توضع في الطرق المستوية بهدف الحد مِن نوم
نفحات القرآن، ج 4، ص: 365
قادة السيارات والحيلولة دون سقوطهم في المزالق.
وقسم من المصائب بمثابة المطبّات في طريق حياة الإنسان التي تهز كيانه بقوّة لتمنعه من نوم الغفلة الذي يؤدّي إلى هلاكه.
ويُمكن أن يصدُق هذا الكلام بخصوص الإنسان، أو مجتمع
معين، أو جميع المجتمعات البشريّة، ويُعطي فلسفة قيّمة لقسم من حوادث الحياة الأليمة.
ولقد وصل الإنسان اليوم، في ظل التقدم الصناعي، إلى درجة من القدرة بحيث سخّر السماء والأرض وكشفت أجهزته الفضائية الستر عن أسرار أبعد سيّارات المنظومة الشمسيّة أيضاً، وحصل منها على أخبار عجيبة مذهلة.
وضجّت أصداء العقول الألكترونية، بحيث صار تركيب أعضاء الإنسان عملًا بسيطاً.
ويُحتمل أن تؤدّي مجموعة هذه الظواهر إلى اغترار الكثير من العلماء، لكنهم عندما يَرون بقاء مرض السرطان يفتك بالناس بالرغم من كثافة جهود آلاف بل ملايين العلماء المبذولة على مدى التاريخ، أو مرض (الأيدز) الحديث الظهور الذي ينشأ من مكروب أو فيروس صغير جدّاً وقد حيّر الجميع وأرعبهم- والجدير بالاشارة إلى أنّ هذا المرض يأخذ قرابين من الدول الصناعية المتقدمة أكثر من غيرها- سيتعّرضون لهزّه فكريّة عنيفة، وسينتبهون لحظة إلى ضعف وعجز هذا الإنسان القوي مقابل عظمة الكون وخالقه.
ولا يُمكن إنكار أَنّ قِسْماً عظيماً من سكّان العالم لايعتبرون من هذه الحوادث أبداً، ولا يعيرون لها اهتماماً، بل يستمرون في مواصلة سلوكهم المنحرف، ويبقون منغمسين في عالَم الخيال، ولكن من المُسَلَّم أن قِسْماً منهم يعتبرون بها ويتوجهون إلى إصلاح أنفسهم. وهذه فلسفة مهمّة جديرة بالملاحظة.
ولا يلتبس الأمر عليك فإنّنا لا نقصد بأنّ جميع المصائب والحوادث الأليمة من هذا القبيل، ولا نُقر بوجوب الاستسلام أمام الحوادث والتقاعُس عن مكافحة المشاكل والمصائب، بل نقول: إنّ قِسْماً من الحوادث مُرّة لدرجة بحيث إنّ الإنسان لا يستطيع التكهُّن بها ولا يستطيع مواجهتها، وقسم من هذا النوع يدخل في موضوع بحثنا وفي زمرة المصائب الموقظة والحوادث الأليمة المنبّهة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 366
نعود الآن إلى القرآن لنتأمل في ما يقول في هذا الخصوص، حتى يتسنى لنا
وضع الدليل العقلي على محك البيان النقلي لنؤيده بواسطته.
ولكون القرآن كتاباً تربوياً عظيماً، ولارتباط موضوع بحثنا بالمسائل التربوية ارتباطاً وثيقاً جدّاً فقد تحدّث القرآن كثيراً حول هذه المسألة وبتعابير متنوعة ومختلفة من جملتها:
1- «وَمَا أَرسَلنَا فِى قَريَةٍ مِّن نَّبىٍّ إِلَّا أَخَذنَا أَهلَهَا بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَضَّرَّعُونَ». «1» «2»
(الأعراف/ 94)
يُستنتَجُ من هذه الآية بوضوح أنّ الإيقاظ والتنبيه هو أحد أهداف الحوادث المزعجة التي كانت تُصيب الأقوام الغارقة في بحار الذنوب، وكان سِرّ مقارنة هذه الحوادث مع دعوات الأنبياء هو تهيأة الأرضية الخصبة لقبول دعواتهم، وتناغم (التكوين) مع (التشريع) يقّوي تأثير مواعظهم.
2- «ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُون». (الروم/ 41)
يُمكن الإستفادة من هذه الآية في بُعدَين مُختلِفين هما:
بُعد البلايا الذاتية (التي يُسببها الإنسان بنفسه) وبُعد البلايا والمصائب الموقِظة، وتوضِّحُ تناغُمَ هذا القسم من المصائب والحوادث غير المطلوبة، مع المسائل التربويّة وبرامج التكامل الإلهيّة.
3- «وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ العَذَابِ الأَدْنى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ». (السجدة/ 21)
إنَّ تعبير (العذاب الأدنى) ذو مفهومٍ واسع يشمل أغلب الاحتمالات التي ذكرها المفسّرون، كُلًّا على حِدة، (المصائب والآلام والمتاعب، الاضرار الماليّة، الجفاف، القحط
__________________________________________________
(1) وردت آية مماثلة لهذه الآية في سورة الأنعام، الآية 42.
(2) «يضّرّعون» من مادّة «تضرّع» وتعني الخضوع والطلب المصحوب بالتواضع (و هي بالأصل مأخوذة من مادّة ضرع وتعني نزول الحليب في الثدي).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 367
والجوع، الهزائم في الحروب، وما شاكل ذلك).
ولكنّ ما ورد في كلام بعض المفسّرين من احتمال كون المقصود من العذاب الأدنى هو عذاب القبر لا يتناسب مع ظاهر الآية، لأنّ جملة لعلّهم يرجعون تُحدّد هدف هذا العذاب (العودة والرجوع) ممّا لا يتناسب مع عذاب القبر
(تأمل جيداً) «1».
4- «وَلَقَد أَخَذنَا آلَ فِرعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقصٍ مِّنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».
(الأعراف/ 130)
بالرغم من أنّ هذه الآية خاصّة بآل فرعون، إلّاأنّنا نعلم عدم اختلافهم عن بقية الأقوام بإصابتهم بمشاكل مُنهكة ليسْتيقظوا وينزلوا من مركَب الغرور، ويعودوا إلى طريق الحق.
والظريف هو أنّ بعض الآيات المذكورة قد ذكرت هدف هذه المسألة (التذكّر)، وبعضَها الآخر (التضرُّع)، وبعضَها (الرجوع والعودة) والتي هي بالحقيقة تُشكل المراتب المختلفة والمنظمة للرجوع إلى اللَّه، فأولًا يتذكّر الإنسان، ثم يتضرّع إلى اللَّه، ويرجع إليه منيباً مستغفراً.
أو بتعبيرٍ آخر فالمرحلة الأولى (الفكر) والمرحلة الثانية (الذكر) والمرحلة الثالثة (العمل)، ومن قبيل هذه النقاط تُعطي بلاغاً جديداً من هذا الكتاب السماوي عندما تُقارَنُ الآيات القرآنية مع بعضها وتُفَسَّرُ بصورة موضوعيّة.
طبعاً كما أشار التأريخ وكما صرّح القرآن أيضاً فإنّ الكثير من الأقوام المنحرفة السالفة لم تُبدِ رد فعل إيجابي إزاء هذه المصائب والعذاب، واستمرّت في غيّها حتى هلكت بالعذاب الإلهي النهائي، كما ورد في الآية: «وَلَقَد أَخَذنَاهُم بِالعَذَابِ فَمَا استَكَانُوا لِرَبِّهِم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ». (المؤمنون/ 76)
__________________________________________________
(1) ورد نظير هذا المعنى في سورة الاعراف، الآية 168؛ سورة الزخرف، الآية 48.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 368
مع هذا فقد كان هنالك أقوامٌ أبدَوْا ردود فعل ايجابية إزاء مثل هذه الحوادث، أو خرج من بين هذه الأقوام العنيدة افرادٌ اعتبروا واهتدَوْا، لذا كانت مثل هذه المصائب عامل ايقاظ للبعض، وعاملَ إتمام الحجّة للبعض الآخر.
يُلاحظ في الروايات الإسلامية أيضاً وجود تعابير واضحة تحكي عن العلاقة بين بعض مصائب ومشاكل الحياة، والمسائل التربويّة، وتؤيد ما استنتجناه عن طريق العقل والآيات القرآنيّة، مثل:
1- ورد في إحدى خُطَب نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه يبتلي عبادَهُ عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات
وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائبٌ، ويُقْلعَ مُقلعٌ ويتذكّر متذكّرٌ ويزدجر مُزدجرٌ!» «1».
2- وعنه عليه السلام: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان وللأنبياء درجة وللأولياء كرامة!» «2».
3- وفي حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «المؤمنُ لا يمضي عليه أربعون ليلة إلّا عرض له أمر يُحزنه يذّكر به» «3».
4- وعنه عليه السلام: «إذا أراد اللَّه عزّوجل بعبدٍ خيراً فأذنب ذنباً تبعَهُ بنقمة فيُذكّره الإستغفار، وإذا أراد اللَّه بعبدٍ شرّاً فأذنب ذنباً تبعَهُ بنعمة ليُنسيهُ الإستغفار، ويتمادى به، وهو قول اللَّه عزّوجل: «سنستدرجهم من حيث لايعلمون» بالنِعَمِ عِنْدَ المعاصي!» «4».
5- نختتم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام علي عليه السلام: «إذا رأيت اللَّه سُبحانه يُتابع عليك البلاء فقد أيقظك، وإذا رأيت اللَّه سُبحانه يُتابع عليك النعم مع المعاصي فهو استدراجٌ لك» «5».
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 143.
(2) بحارالأنوار، ج 64، ص 235، ح 54.
(3) المصدر السابق، ص 211، ح 14.
(4) اصول الكافي، ج 2، ص 452 باب الاستدراج، ح 1.
(5) غررالحكم، عن (ميزان الحكمة) ج 1، ص 489.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 369
نحن نعلم تفاوت الابتلاء الإلهي عن الإبتلاء البشري بصورة تامّة، فالناس يمتحنون شخصاً أو شيئاً لتتوضّح لهم بعض المجهولات، وتتبيَّنَ قيمة وقابلية واستعداد ذلك الشخص أو ذلك الشي ء خلال الإمتحان.
لكن اللَّه لا يخفى عليه شي ءٌ في جميع عالم الوجود، في الأرض والسماء وما وراء السموات، وفي داخل وخارج الأشياء لكي يعرفه عن طريق الإمتحان.
إذن لِمَ وكيف يمتحن!؟
إنّ للإبتلاء الإلهي صيغة تربويّة، إنّ الذهب عندما يلقى في النار فمن أجل تهذيبه وتنقيته من الشوائب أو عندما يُدرّبُ الجنود بالأعمال الشاقّة على تمرين المقاومة والإستقامة فمن أجل رفع مستوى لياقتهم
البدنية، فالابتلاء الإلهي مثلهُ مثلُ هذه الحالات بالضبط. فهي تزيد من تحمُّل ومعرفة ونقاء البشر، وبكلمة واحدة، إنّ الإبتلاء وسيلة لتكامُل وتربية روح الإنسان وجسمه.
لذا فلا عجب من كون قسم من مصائب ومشاكل الحياة في هذا الصدد من الامتحان والاختبار، (نكرر بأنّ قسماً من المصائب داخلة في هذا النوع وليس جميعها).
لا يوجد شَعْب في العالَم تمكّن من التقدُّم والرقي في الميادين الصناعية والعسكرية والعلميّة دون أن يتعّرض لضغوط معيّنة، وكما قال الفيلسوف والمفسّر التاريخي المعروف (تو اين بي):
الحضارات اللامعة التي ظهرت في العالم كان سبب ظهورها هو تعرّض شعبٍ لهجوم شديد من قبل عدّوٍ خارجي (فاستعمل ذلك الشعب جميع قدراته واستعداداته واستعان بمُدّخراته في مواجهة ذلك العدو).
فالقادة الذين يخوضون الحروب يمتازون بالعظمة والقوة والصبر، والتجّار الذين يمرّون بأزمات اقتصادية شديدة يتعلمون تجارب قيّمة، والسياسيّون الذين يجتازون أزمات مختلفة سيكونون أقوياء ومقتدرين.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 370
وتزداد صلابة الثوريين في السجون وتحت التعذيب، لا نقول بوجوب دخولهم السجن، بل نقول بأنّ السجن يزيدهم قوّةً وصلابة.
أعتقد بأنّ علاقة مشاكل ومصائب الحياة مع تربية وتكامل الإنسان قد اتضحت بهذه الأمثلة والتحليلات، وطبعاً لا ينبغي هنا حساب (المصائب الذاتية)، وما ذكرناه لم يكُن عُذراً من أجل ترك مواجهة المشاكل والمصائب.
نعود الآن إلى القرآن الكريم مرّةً اخرى لنرى ما لهذه المسألة من أصداء في الآيات القرآنية:
1- «وَنَبلُوكُم بِالشَّرِ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ». (الأنبياء/ 35)
إنَّ كلمتي (الشر) و (الخير) هنا ذواتا معنىً واسع يشمل أنواع المصائب والأمراض والمشاكل والإبتلاء والفقر والفاقة، وكذا أنواع الإنتصارات والصحّة والعافية والغنى وما شاكل ذلك.
ويجدر الإلتفات إلى تقدُّم ذكر (الشر) على (الخير) في الموارد الامتحانية التي يواجهها الإنسان، لأنّ الإمتحان بالبلاء أصعب وأعقدُ (ينبغي الانتباه
إلى أنّ هذه الشرور ذات صيغة نسبيّة).
وجملة (وإلينا تُرجعون) المذكورة في ذيل الآية تُعد إشارة لطيفة إلى حقيقة كون الدنيا دار ابتلاء واختبار لا دار مقرٍ وخلود.
وعلى أيّة حال تُعد الآية دليلًا واضحاً على كون قسم من المصائب والآلام ذات صبغة ابتلاء وامتحان لتمحّص صبر الإنسان، كما هو الحال في كون قسم من النّعمِ امتحانية أيضاً لمعرفة مقدار شُكره إزاء النعم الإلهيّة.
2- «وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَى ءٍ مِّنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِّنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالَّثمَرَاتِ وَبَشِّرِ
نفحات القرآن، ج 4، ص: 371
الصَّابِرِينَ». (البقرة/ 155)
ذكرت هذه الآية خمسة أنواع من مصائب ومشاكل الحياة كخمس موادٍّ من مواد الامتحان الإلهي، ففي المقدّمة يأتي (الخوف)، والذي هو أهم من الجميع، ثم (الجوع): ثم (نقصٍ من الأموال) ثم (الأنفس) ثم (الثمرات).
ويجدر التذكير إلى كون ذيل الآية يدل على أنّ هذا الإبتلاء يرفع من مستوى قوّة مقاومة تحمُّل الإنسان، ويزيده صلابةً وهو يمرّ بهذه الحالات العصيبة (يجدر الإنتباه إلى أنّ تعبير (نقص الثمرات) قد فُسّرَ بمعنى فقد الأولاد الذين هم ثمرات قلب الإنسان، ويُمكن أن يكون ذا تفسيرٍ واسع يشمل كلا المعنييْن، وكذلك فُسّرَ (نقص الأنفس) بمعنى المرض أيضاً).
وفي الحقيقة إنّ من أهم مواهب الحياة هي: الأمْن والأنفس والأموال ومنابع الإنتاج، واللَّه سبحانه وتعالى يمتحن الإنسان بواسطة الآفات التي تُصيب هذه الأمور ليتضح مقدار صبره وتحمّله.
والتعبير بكلمة (شي ء) يُعدُّ شاهداً حيّاً على هذا المعنى وهو عدم كون جميع حالات الخوف والجوع ونقص الأنفس ذات صيغة إمتحانية إلهيّة، بل إنّ قسماً منها فقط من هذا النوع، ومن المسلّم به أنّ الابتلاء لا يشمل أبداً المصائب الذاتية والناشئة من الجهل والتقاعُس والتهاون، وهذه الآية يجب أن لا يتخذها البعض حُجّةً لترك الجهاد والسعي، والتوجُّه إلى الكسل
والخمول.
3- «وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ». (الفجر/ 16)
من المُسلَّم به أنّ هذه الآية تخص الذين يُبدون ضعفاً وخمولًا في ساحة الإمتحان وبمستوىً من ضيق التحمَّل، بحيث إذا نزلت عليهم نعمةٌ أصابهم الغرور، وبمجرّد أن تصيبهم مصيبة معينة يأخذهم اليأس والقنوط، ولكن على أيّة حال، تعتبر هذه الآية دليلًا واضحاً على كون قسم من مشاكل الحياة ذات فلسفة إمتحانية.
4- «هُنَالِكَ ابتُلِىَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالًا شَدِيداً». (الأحزاب/ 11)
تشير هذه الآية إلى واقعة الأحزاب التي كانت واحدةً من أعظم ميادين الإمتحان الإلهي
نفحات القرآن، ج 4، ص: 372
لمسلمي صدر الإسلام، ففي ذلك اليوم الذي هجم جيش الأحزاب الجرّار على المدينة من الأعلى والأسفل، وحاصر جمع المسلمين القليلين عدداً، وزاد الطين بلّة إشاعات منافقي الداخل، فتعقدّت الأمور من كل ناحية، إلى الحد الذي قال القرآن في وصفه: «وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ». (الأحزاب/ 10)
يقول القرآن: إنّ هذه المصيبة والعاصفة الشديدة التي زلزلت جماعة من المؤمنين كانت مظهراً من الإمتحان الإلهي ...، وهذه الآية تأكيد آخر على ما ذكرناه.
يُلاحظ في الروايات الإسلامية أيضاً وجود إشارات واضحة إلى هذه الحقيقة، وهي كون قسم من المصائب والبلايا ذات صيغة إمتحانية:
1- ورد في الحديث الذي نقلناه سابقاً بمناسبة اخرى عن على عليه السلام: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان» «1».
2- قال الإمام علي عليه السلام في إحدى خُطبه في وصف الأنبياء: «قد اختبرهم اللَّه بالمخمصة وابتلاهم بالمجهَدَة وامتحنهم بالمخاوف، ومحضهم بالمكاره» «2».
3- وذكر عليه السلام من قبيل هذا الكلام بالنسبة لعامة الناس بتعابير اخرى في نفس الخطبة:
«ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره» «3».
__________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 64، ص 235، ح 54.
(2) نهج البلاغة،
الخطبة 192 (القاصعة).
(3) المصدر السابق.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 373
لايُمكن لأحدٍ أن ينكر هذه الحقيقة، وهي عدم معرفة الإنسان قيمة النعمة عندما يكون غارقاً فيها، ولا يلتذ بها، ولا يؤدّي شكرها، وأحياناً قد لا ينتبه إلى أصل وجودها!
فلو لم يمرض الإنسان أبداً لما عرف نعمة السلامة بكل مالها من أهميّة وعظمة، وكموهبة إلهية عظيمة.
ولو لم تهتزّ الأرض أحياناً لما عُرف قدر هذا السكون العجيب الذي يسودها طيلة السّنة ويدور في ظلّه كل شي ء حول محوره.
ولا تعرف حقيقة الظلمة والنور إلّاإلى جنب بعضهما، وإن لم تهيّج عواصف الحوادث بحر افكار الإنسان أحياناً لما فهِمَ قدْر ساعات الهدوء والسكون.
أو بتعبيرٍ أدق إنّ بعض المشاكل بمثابة ظل نور الحياة الذي لا يمكن للإنسان أن يرى شيئاً بدونه، يقول العلماء اليوم: بأنّه (لو وُضعَ جسمٌ كرويٌّ وسُلّطَ عليه نورٌ متساوٍ من جميع الجهات لما أمكن رؤيته!):
إنّ وعورة سطح الجسم واختلاف زوايا انعكاس النور هي التي تُمكّن الإنسان من رؤية الجسم، وكذا النعم الإلهيّة بالضبط، فلو كانت على وتيرةٍ واحدة وبصورة دائميّة لما أمكن معرفتها.
ومن حيث كون اللَّه قد خلق هذه المواهب العظيمة متاعاً للإنسان من جهة، ووسيلة للتقرب إليه من جهةٍ اخرى (عن طريق شكر النعمة)، فمن المنطقي جدّاً أن يقبضها ويبسطها أحياناً ليتحقق الهدفان أعلاه.
ويُلاحظ وجود إشارات ظريفة وغنية في الآيات القرآنية إلى هذه الحقيقة- ولو بصورة غير صريحة- والتي تُبّين قدْر النّعمِ بالقياس مع لحظات سلبها، ومن جُملتها:
1- «قُل مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ تَدعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئْن أَنجَانَا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ». (الأنعام/ 63)
أجَلْ، لم يكن هؤلاء ليعرفوا قدر النور والأمن قَبلَ أن يُبتلوا بظلمات البر والبحر
نفحات القرآن، ج 4، ص: 374
الرهيبة،
ولكنهم عندما يُسْلَبون هذه النعمة سيذكرون مُبدئها ويعلنون عن إستعدادهم للشكر.
2- «وَلَئِن أَذَقنَاهُ نَعَماءَ بَعدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِئَاتُ عَنِّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ». (هود/ 10)
وتأكيد القرآن على إذاقة النعماء بعد الضرّاء هدفه تبيان قدر النعمة بصورة جيدة ليرفع بالعباد إلى الشُّكر، ولو أنّ جماعة من المغرورين والمُعجبين بأنفسهم فسّروه بشكل آخر.
3- «وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَآءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعْمتِهِ إِخوَاناً». (آل عمران/ 103)
إنّ القرآن الكريم ومن أجل أن يُبيّن في هذه الآية قدر نعمة الإتحاد وتأليف القلوب قارنها بالوقت الذي كانت هذه النعمة مسلوبة نهائياً، وعندما كانت نار الفرقة والنفاق تلتهمُ كُلّ شي ء، وذكّر المسلمين بمعرفة هاتين الحالتين بالقياس إلى بعضهما ليعرفوا قدر هذه النعمة الإلهيّة الحقيقي.
ويُلاحظ وجود بعض الإشارات إلى هذا القسم من المصائب والآلام في الروايات الإسلامية أيضاً، ومن جملتها: ماورد في حديث المفضّل عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ هذه الآفات وإن كانت تنالُ الصالح والطالح جميعاً، فإنّ اللَّه جعل ذلك صلاحاً للصنفين كليهما، أمّا الصالحون فإنّ الذي يُصيبهم من هذا يردُّهم (يذكّرهم) نعم ربّهم عندهم في سالف أيامهم، فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر، وأمّا الطالحون فإنّ مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش» «1».
ذكرنا فيما مضى أن من جملة المسائل التي أوجدت التشكيك في مسألة عدالة الخالق
__________________________________________________
(1) بحارالأنوار، ج 3، ص 139.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 375
إزاء إشكال البعض هي التركيب الثنائي للعالم من (الخير) و (الشر)، بحيث يتعدّى الإشكال أحياناً إلى أبعد من مسألة العدالة ليبلغ حد التشكيك في أصل وجود الخالق.
تُعد هذه المسألة من المباحث الفلسفية والكلاميّة التي توحي للإنسان بنوع من الظُّلمة والإبهام عندما يدخلها، لكنه كُلّما
تعمّق فيها بتأنٍّ، ودقق أكثر في تحليلها، ظهرت أمامه آفاق جديدة واضحة، إلى أن يُحسَّ في قلبه بالسكينة اللازمة، بعدما يحصل على الحل النهائي لمسألة الخير والشر.
وبهذه المناسبة ولحل هذه القضية، نجد من الضروري الإلتفات إلى النقاط الموجزة التالية:
(الخير) هو كل ما يتناغم مع وجودنا ويُسبب تكامله وتقدمّه، و (الشر) هو كل مالا يتناغم معه، ويُسبب الإنحطاط والتخلّف، ومن هنا يتضح جيدّاً بأنّ الخير والشر ذوا صبغة نسبّية، فيُمكن أن يكون أمرٌ ما خيراً لنا وشرّاً للأخرين، أو خيراً لجميع الناس، وشراً بالنسبة لنوع من الحيوانات.
كأن تظهر في السماء غيومٌ، فتمطر السماء، وتنمو مزارعٌ وتتلقّح أشجارٌ معينة، ولكن نفس هذه الأمطار تُسبّب سيلًا في نقطةٍ اخرى وتؤدّي إلى الدمار، أو يتهدّم عش طائرٍ بقطرات بسيطة من المطر، في حين أنّها تُلطف لنا الجو.
فكل جماعة هنا تنظر إلى هذه الظاهرة بمقياسِ وجودها ومنافعها الخاصّة، وتُسمّيها خيراً أو شرّاً.
فإبرة الحشرات، ومخالب وقواطع الحيوانات المفترسة خيرٌ بالنسبة لها لأنّها وسيلة دفاعية أو للحصول على الصيد والغذاء، ولكن قد تكون شرّاً بالنسبة لنا نحن البشر.
من هذا البيان يُمكن الإستنتاج جيداً أنّه ليس من السهل الحكم على كون الحادثة المعينة شرّاً، فيجب أن نأخذ بنظر الاعتبار مجموع آثارها في مجموع المحيطات، بل في
نفحات القرآن، ج 4، ص: 376
مجموع الأزمنة من الحال والمستقبل، أو جذورها الماضية، لكي نتمكن من القول: إنّ أضرارها أكثر من منافعها مثلًا ويجب التصديق بأنّ هذا الحكم ليس سهلًا.
ومن جهةٍ اخرى يُمكن تقسيم الخير والشر إلى مايلي:
أ) الخير المطلق. ب) الشر المطلق. ج) الخير والشر النسبيان.
الخير المطلق: هو الخير الخالي من أي صِفة سلبيّة، وضدّه الشّر المطلق الذي ليس له أي صفة إيجابية، ونادراً
ما يوجد مصداق لهذين النوعين، فغالباً ما نواجه أشياء أو حوادث أو ظواهر مركّبة من صيغٍ إيجابية وسلبيّة، فما فيها صفحات إيجابية أكثر تُسمى خيراً، وما فيها حالات سلبيّه أكثر تُسمى شرّاً، وإذا تعادلت حالات الخير والشّر فيها فهي لا خير ولا شر.
طبعاً يجب الالتفات إلى أنّ حالات الخير والشّر متفاوتة بين الأفراد والأقوام، والمهم هو وجوب الأخذ بنظر الاعتبار في الحكم النهائي مجموع آثار تلك الظاهرة في جميع العالَمِ وفي جميع الأزمنة والأمكنة.
ومن وُجهة نظر المؤمن يُمكن وجود قسمين فقط من هذه الأقسام (الخير المحض) أو (الأكثر خيراً) أو (الشر المحض) أو (الأكثر شرّاً) أو (ما تساوى خيره وشرّه) فيستحيل وجودها، نظراً لكون اللَّه تعالى حكيم لأنّ صدور هذه الأقسام الثلاثة من (الحكيم المطلق) قبيح وغير مُمكن.
عُرِف بين الفلاسفة والعلماء أن (الشّر) يعود في النهاية إلى (أمرٍ عدمي)، (أو إلى أمر وجودى يؤدّي إلى العدم)، ولعل أول من صرّح بهذا الرأي هو (أفلاطون) والذي وصف الشّر بالعدم.
وعليه فضدّه، أي الخير، لايحكي إلّاعن الوجود، وكلما كان الوجود أوسع وأكمل كان
نفحات القرآن، ج 4، ص: 377
منبعاً لخيرٍ أكثر، إلى أن يصل إلى الوجود الإلهي المطلق اللامحدود الذي هو عين الخير المحض، ومصدر جميع الخيرات والبركات.
وعادةً مايلتجئون إلى هذا المثال البسيط لتوضيح عدميّة الشّر وهو: أننا نقول: (ذبح إنسانٍ بري ء شرٌّ)، ولكن لنرى ما هو الشر هنا؟ هل هو قوة ذراع القاتل، أم قاطعية السكّين وجودة عملها، أم تأثُّر رقبة المقتول وظرافتها التي يستطيع الإنسان بواسطتها ممارسة كل أنواع الحركة (حركات الرقبة)؟ فمن المسلّم به أنّ أيّاً من هذه الأمور ليست بشرٍّ ونقص، فالشّر هنا هو انفصال أجزاء الرقبة والأوداج والعظام عن بعضها، ونحن نعلم
بأنّ الإنفصال ليس إلّاأمراً عدميّاً.
وكذا قد يؤدّي أمر وجودي أحياناً- كغذاءٍ مسموم- إلى الموت، الذي هو أمر عدمي، لذا فهو شر، أو يؤدّي مكروب معين، الذي هو أمر وجودي، إلى الاصابة بمرض معين، ونحن نعلم بأنّ الموت ليس سوى انعدام الحياة، والمرض ليس إلّافقد السلامة.
ومن هنا يتضح للجميع جواب هذا السؤال وهو: (من خلق الشرور)؟
لأنّه عندما تكون الشرور أموراً عدميّة لايصح أساساً تصوّر وجودها أو موجدها.
نعم، يُمكن أحياناً أن تكون الأمور المسببّة للعدم أموراً وجودية (كالغذاء المسموم)، ولكن وكما قلنا لو تساوى خيرها وشرها أو غلب شرها أو كان شرها مطلقاً فإنّه لا يُمكن أن تلبس خلعة الوجود.
ويجدر التركيز في هذه النقطة أيضاً وهي: تساوي (الشر المطلق) مع (العدم المطلق) الذي ليس له وجود خارجي بتاتاً، لأنّ العدم المطلق نقيض الوجود.
أمّا (الشر النسبي) (الشي ء الذي يُعد خيراً من جهة وشّراً من جهة ثانية) فله حصة من الوجود طبعاً، أو بتعبيرٍ آخر: فهو خليط من الوجود والعدم، ولكن كما قلنا فإنَّ قسماً واحداً من الشّر النسبي يتماشى مع حكمة اللَّه وهو الشي ء الذي تغلب عليه حالة الخير، (تأمل جيداً).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 378
نظراً لنسبية الخير والشّر، والتأثير المتقابل للأشياء في بعضها الآخر: كثيراً ما يتفق أن تصير الحوادث والظواهر التي تُعدُّ شروراً في الظاهر منبعاً لخيرات وبركات مختلفة.
فكثير من حالات الحرمان تصير سبباً في تفتحُّ الإستعدادات والجهود العظيمة، لأنّ الإنسان على أيّة حال ينتفض ويُجنّد جميع ما يمتلكه في باطن وجوده للحصول على ما يصبوا إليه، وهذه المسألة بالذات ستصير سبباً في القفزات العلمية والاجتماعيّة.
وكثيرٌ من حالات الحرمان صارت سبباً للوصول إلى اختراعات كبيرة، وكثير من حالات النقصان صارت مقدمة للتوصل إلى منابع مهمّة
جديدة.
فالأشجار التي تنمو في المناطق الصخريّة، والنباتات البريّة التي تنمو بالرغم من افتقارها لكثير من مُسببّات النمو، فهي أصلب عوداً، وأقوى وقوداً من النباتات التي تنمو على ضفاف الأنهار بعدّة أضعاف، والبشر يخضعون لهذا القانون أيضاً.
والبدو الذين يواجهون أنواع المشاكل دائماً، ويصارعون أنواع الحيوانات الوحشيّة، يتّصفون بالشجاعة والقوّة وشدّة التحمُّل، في حين نجد سكّان المدن الذين يتمتعون بالنّعم الوفيرة والأمان نجدهم ضعفاء بالقياس إلى البدو.
وللقرآن الكريم بيان لطيف في هذا الخصوص حيث يقول: «فَإِنَّ مَعَ العُسْر يُسْراً* إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً». (ألم الشرح/ 5- 6)
يجدر الإشارة إلى أن تلازُم هذين الأمرين بدرجة من القوّة والقرب بحيث وكأنّهما متجاوران، كما يُستنتجُ من كلمة (مع).
وهذه المسألة أيضاً جديرة بالإنتباه وهي كون (العسر) معرفاً بالف لام التعريف، وتعبير (يسر) مذكور بصيغة النكرة، والمقصود منه تبيان العظمة أي مع العسر يسرٌ عظيم.
يعتقد بعض المؤرخين بأنّ سيل المشاكل كان من أحد العوامل المهمّة لتقدُّم المسلمين الأوائل السريع، حيث ترعرع المسلمون في وسط تلك المشاكل، وصاروا في ظلّها مجاهدين أقوياء ومقتدرين، في حين كان من أحد عوامل تراجع وتخلُّف المسلمين في
نفحات القرآن، ج 4، ص: 379
القرون المتأخرة هو العيش المرفّه، والتلذذ بأنواع النعم، والركون إلى الدعة.
ونختتم هذا الكلام بعدّة جملٍ مقتطفة من آراء العلماء العظام حول هذا الأمر.
يقول أحد الكتّاب الغربيين: «لا اعتقد بوجوب تحملُّ كل فرد لمصيبة معينة، ولكن أعلم بكون المصيبة مفيدة في الغالب بل ضروريّة، ولكن شريطة أن يُتقن كل فرد كيفية مواجهة المشاكل، وأن يعتبر هذا العمل من الأعمال الأساسية والمفيدة» «1».
وهذا التعبير دقيقٌ جدّاً، وهو عدم لزوم استقبال الإنسان للمصائب، أو الجلوس إزاءها مكتوف اليدين، وعدم مكافحة عوامل المصيبة، ولكن مع هذا يجب عدم نسيان
إمكانية تحويل قسم من المصائب اللا إرادية، التي نعجز عن مواجهتها، إلى عوامل بنّاءة في حياتنا.
يقول الفيلسوف والطبيب الفرنسي المعروف (ألكيس كارل) في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): «غالباً ما ينزوي أبناء الأثرياء، الذين قضّوا عُمراً بالثروة والنعمة وكانوا مقتدرين في كل الجوانب، عن العمل اتّكالًا على ثروة آبائهم، ويخلقون في أنفسهم أسباب الضعف وسحق قواهم واستعداداتهم الخلّاقة» «2».
وبالعكس فهناك كثير من الذين يترعرع أبناؤهم وسطَ خضم من المشاكل، فإنّهم يحققون انتصارات ملحوظة ونجاحاً كبيراً.
نختتم هذا الكلام بكلامٍ لأميرالمؤمنين علي عليه السلام.
قال عليه السلام في الكتاب الخامس والأربعين من نهج البلاغة في الإجابة عن سوالٍ وُجّه إليه وهو: كيفية قدرته عليه السلام على مبارزة شجعان العرب بالرغم من تناوُلِهِ أغذية بسيطة جدّاً؟!
«ألا وإنّ الشجرة البريّة أصلب عوداً، والرواتع الخضِرة أرقّ جلوداً، والنباتات العِزْية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً».
للخير والشر معنىً واسع في القرآن الكريم يشمل مصاديق متنوعة وأفراداً متفاوتين.
__________________________________________________
(1) سرّ النجاح.
(2) الإنسان ذلك المجهول، ص 152.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 380
ورد الخير في القرآن بمعنى (المال) (البقرة/ 180) وبمعنى (العلم) (البقرة/ 269)، وبمعنى (الجهاد) (النساء/ 19)، وبمعنى (الأعمال الصالحة) (النساء/ 149)، وبمعنى (الإيمان) (الأنفال 23)، وبمعنى (القرآن) (النحل/ 30).
وبمعانٍ أُخرى أيضاً مثل (الناس الأخيار)، (الظن الحسن) (الولد الصالح)، (البستان والزرع) وما شاكل ذلك.
ويجدر الإلتفات إلى أنّ هذه الكلمة قد ذُكرت في القرآن 176 مرّة بصيغة المفرد و 12 مرّة بصيغة الجمع، في حين نجد أنّ الشر مذكور 30 مرّة فقط بصيغتي المفرد والجمع!
وكلمة (شر) المضادّة لكلمة (خير) وردت بمعنى البلاء والمصيبة، العذاب، أنواع المكاره والشدائد، وجميع أنواع الوسوسة والفساد.
والمسألة الاخرى التي يلزم الإلتفات إليها هي أنّ القرآن قد اعتبر (الشّر) من مخلوقات اللَّه
في قوله تعالى «مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ». (الغلق/ 2)
ويتبادر إلى الأذهان هنا سؤالان:
الأول: كيف يتناسب هذا التعبير مع عدميّة الشرور؟
والثاني: قول القرآن في آيةٍ اخرى: «الَّذِى أَحسَنَ كُلّ شى ءٍ خَلَقَهُ». (السجدة/ 7)
فكيف تتناسب هاتان الآيتان مع بعضهما؟ وبتعبيرٍ آخر: يظهر من الآية الثانية أنّ كل ما في الوجود ويصدق عليه تعبير (شي ء) ومن مخلوقات اللَّه فهو حَسن، في حين أنّ الآية الأولى تأمر بالإستعاذة من (شرّ ما خلق).
وفي الإجابة عن السؤال الأول يجب القول: إنّ الآية المذكورة لم تعتبر أي مخلوقٍ شرّاً، بل تقول بإمكانية صيرورة بعض المخلوقات سبباً للشّر، أي بأن تعدم كمالًا، أو تغصب حقّاً، أو تُبعثر نظماً معيناً، لذا يبقى الشّر بنفس مفهومه العدمي الذي يُمكن أن يتحقق من قبل الناس الأشرار أو الشياطين. (تأمل جيداً).
ويُحتملُ أيضاً أن يكون قصد الآية هو الشّر النسبي لا المطلق، أو الشّر الغالب كأنياب الأفعى التي هي وسيلة دفاعيّة بالنسبة لها، ووسيلة شر بالنسبة للإنسان (أحياناً)، فالإنسان يعوذ باللَّه من قبيل هذه الموجودات.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 381
وقد فسّر بعض المفسّرين (الشّر) هنا بمعنى: الشياطين أو جهنّم، أو أنواع الحيوانات المؤذية، أو الناس والشياطين الأشرار، وأنواع الأمراض والآلام والمتاعب والقحط والبلايا.
ولكن كما ذكرنا فإنّ الآية ذات مفهوم عام، ونحن نعلم بأنّ أي واحدة من هذه الأمور ليست شرّاً مطلقاً أو شراً غالباً، كما شرحنا ذلك في البحوث السابقة، ولكن يُمكن أن تصير سبباً للشّر، فيعوذ الإنسان باللَّه من شرّها.
ومن هنا يتضح جواب السؤال الثاني أيضاً وهو أنّ جميع ما خلق الباري سبحانه خيراً، «إما مطلقاً أو غالباً»، وما نُسميه نحن بالشّر إما هو ذو صبغة عدميّة لا يسعه مفهوم الخلق، وإمّا ذو صبغة نسبيةّ أو من
الأمور الوجوديّة التي تُسبب العدم، كالسموم القاتلة التي لها استعمالات طبيّة كثيرة أيضاً في نفس الوقت.
وبهذا تتضح جميع التعابير القرآنية في الخير والشّر، ويتضح ردّ الإشكالات الاخرى المختلفة المطروحة في هذا المجال، ومن جملتها الإشكالات التي نقلها الفخر الرازي عن بعض الملحدين والماديين وتركها دون جواب.
وردت هاتان الكلمتان في الروايات الإسلامية الواردة عن الرسول صلى الله عليه و آله، والأئمّة المعصومين عليه السلام، بشكل واسع وفي صَيغٍ مُختلفة.
ما يتناسب مع موضوع بحثنا أولًا هو تصريح الكثير من الروايات بكون الخير والشر مخلوقين إلهيّين، من جملتها:
ورد عن الإمام الباقر، عليه السلام: «إنّ اللَّه يقول أنا اللَّه لا إله إلّاأنا، خالق الخير والشّر، وهما خلقان من خلقي ...» «1».
وقد ورد نفس هذا المعنى في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: «إنّي أنا
__________________________________________________
(1) بحارالانوار، ج 5، ص 160، ح 20.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 382
اللَّه لاإله إلّاأنا، خلقت الخلق، وخلقت الخير وأجريته على يدي من أُحبّ، فطوبى لمن أجريته على يديه، وأنا اللَّه لا إله إلّاأنا، خلقت الخلق وخلقت الشّر وأجريته على يدي من أريده، فويلُ لمن أجريتهُ على يديه» «1».
وعن الإمام الصادق عليه السلام، أيضاً: «الخير والشّر كُلّه من اللَّه» «2»
وهنالك أحاديث عديدة اخرى في المصادر الإسلامية، وذكرها بأجمعها يخرجنا عن صُلب الموضوع «3».
وقد طُرحَتْ أسئلة مختلفة بصدد هذه الأحاديث أهمها السؤال التالي:
أولًا: إذا كان الشر أمراً عدميّاً فكيف عُبّر عنه بالخلق هنا؟
يمُكن العثور على جواب هذا السؤال في البحوث السابقة، وهو كثيراً ما يحدث أن تُطلق لفظه الشّر على الأمور الوجوديّة التي تُسبب العدم، كأنواع المكروبات والمواد السّامة والأسلحة المخرّبة والتي تعتبر جميعها أموراً وجودية لكنها مصدر «الأمراض» و «الموت»
و «الخراب»، التي هي أمور عدميّة، «دقق جيّداً».
علاوةً على هذا فإنّه يُحتمل أن يكون التعبير الوارد يشير إلى الشرور النسبية ذات الصبغة الوجوديّة والتي يغلب خيرها على الرغم من تركها أثاراً سلبيّة لبعض الأفراد.
يقول العلّامة المرحوم المجلسي (رضوان اللَّه تعالى عليه) في «مرآة العقول» عن المحقق الشيخ الطوسي، في شرح أمثال هذه الروايات: المقصود من الشّر هو الأمور التي لا تناسب طبع الإنسان على الرغم من وجود مصلحة معينة فيها.
ثم أضاف في توضيحه عن كلام المحقق: «للشر معنيان».
1- الشي ء الذي يخالف الطبع ولا يتناسب معه كالحيوانات المؤذية.
2- الشي ء المؤدي إلى الفساد وليس فيه مصلحة ما.
وما يُنفى عن اللَّه سبحانه هو الشّر بالمعنى الثاني لا الأول، ثم أضاف قائلًا: يعتقد
__________________________________________________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 154، باب الخير والشر، ح 1.
(2) بحارالانوار، ج 5، ص 161، ح 21.
(3) لزيادة الإطلاع راجع المجلد الأول من اصول الكافي: باب الخير والشر، والمجلد الثاني من كتاب الدعاء: باب ما يمجد به الرب، الحديث الأول والثانى، ص 515 و 516، وبحارالانوار، ج 5، باب السعادة والشقاوة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 383
الفلاسفة بأنّ الأمور على خمسة أنواع: الأشياء التامّة الخير والتي يُستلزم صدورها من اللَّه عزّوجل، والأشياء التامّة الشر التي يستحيل صدورها من اللَّه عزّوجل، والأشياء التي يغلب خيرها وهي ضرورية الصدور من اللَّه أيضاً، والأشياء الغالبة الشّر أو التي تساوى خيرها وشرّها، فكلاهما لا يصدران من اللَّه تعالى وما نراه من الحيوانات المؤذية في عالمنا فانَّ فوائده الوجوديّة أكثر من شره، «ولذلك خُلقوا» «1»
. لذا يُحتمل أن يكون المقصود من خلق الشّر من قبل اللَّه تعالى هو الأمور التي فيها نسبة من الشّر، لكن خيرها غالب في
المجموع.
والسؤال الآخر المطروح بصدد هذه الرواية هو: أنّ الرواية تقول بأنّ اللَّه يجري الخير والشّر على يد فئات مُختلفة من الناس، أفلا تُعطي هذه المسألة رائحة الجبر؟ وكيف يمكن للخالق الحكيم أن يجعل أفراداً وسيلة للشرّ والفساد؟ والجواب على هذا السؤال أيضاً، بالنظر لما مضى سابقاً، ليس بأمر مُعقّد، لأنّ هذه التعابير تُشير إلى التوحيد الأفعالي الإلهي، أي أنّ ذاته منتهى كُلّ شي ء ولكن اللَّه قد منح الإنسان حرّية الإرادة وخيارها ومكّنه من أسباب الخير والشّر والصلاح والفساد ليبتليه، فالبشر هم الذين يُصمِّمون التصميم النهائي في انتخاب نوع الطريق، ونوع البرنامج السلوكي، ومُسلّماً أنّ اللَّه يجري أنواع الخير على يد الذين ينتهجون طريق الإيمان والعمل الصالح.
ومن هنا يتضح تفسير الآيات التي تقول: «فَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ». (الزلزال/ 7- 8)
وخلاصة الكلام هو أنّ الشر بمفهومه العدمي ليس بمخلوقٍ إلهيّ، وما هو مخلوق شيئان:
1- الأمور الوجوديّة الأصل لكنها أسباب الأمور العدميّة، وقد ذكرنا أمثلتها.
2- الأمور التي خيرها يغلب شرّها، أو بتعبير أخر شرها نِسْبي، كالكثير من سموم الحيوانات التي تؤدي إلى موت وهلاك الإنسان في حالات معينة، لكنها وكما نعلم مادّة صناعة الكثير من العقاقير الشافية من جهة اخرى، ويوجد في مراكز صناعة الأدوية أقسام لحفظ الثعابين الخطرة وذلك للاستفادة من سمومها، علاوةً على هذا فإنّ أنياب وسُمّ هذه
__________________________________________________
(1) مرآة العقول، ج 2، ص 171، باب الخير والشر، ح 1.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 384
الحيوانات هي وسيلتها الدفاعية لمواجهة الأعداء، أو جمع الغذاء من أجل البقاء.
وكذا المكروبات المعروفة بالشّر هي امور وجوديّة، فبالإضافة إلى آثارها السلبية فانَّ لها أثاراً إيجابية أيضاً، وتعمل الكثير من هذه الموجودات المجهرّية
على تفسيخ أجساد الموتى وجثث الحيوانات، ولولاها لما مضت إلّامدّة وجيزة حتْى تمتلى ء الأرض بالأجساد المتعفّنة وتتلّوث بسببها، وَلَحَلَّ الدمار الشديد بالبيئة الإنسانية.
وأيضاً تعمل مجموعة منها على إحداث افعال وانفعالات معينة داخل التربة لتهيّأها للزرع.
وحتى المكروبات المؤذية المسببة للأمراض فإنّ هجماتها المستمرة على بدن الأنسان، عن طريق الغذاء والماء والهواء، تُنشّط جميع خلاياه وتجعلها في حالة دفاعية دائماً وتكون سبباً في اقتدارها، إلى الدرجة التي يعتقد البعض بأنّه لو لم تكن هذه المكروبات الهجوميّة لكان بدن الإنسان ضعيفاً جدّاً ولكان أطول إنسان لا يتجاوز طول قامته الثمانين سنتمتراً!
والسؤال الأخير المطروح بصدد خلق الشّر هو: لم لا تنحصر مخلوقات اللَّه بالخير المحض؟ وتوجد أشياء غالبة الخير، فمثلًا نجد أنّ النار مادّة حارقة ينتج منها الكثير من شؤون الحضارة الإنسانية، والمواد الحياتية والأشياء المفيدة، لكنها أحياناً قد تُحرق أفراداً، أو تحول بيتاً بأكمله إلى رماد بسبب سوء استخدامها.
ولكن يجب الإنتباه في مثل هذه الموارد إلى أنّها لو جُرّدت عن صيغة الشّر فقدت محتواها، أي أن لا يخلق اللَّه ناراً، لأنّ النار التي تُحرق أحياناً ولا تُحرق أحياناً اخرى ليست بنار.
وبتعبير آخر: يحتوي عالم المادّة بطبيعته على مثل هذه النقائص إلى جنب كمالاته، وإذا كان من المقرر حذف هذه النقائص لصار معناه نقض خلق عالم المادّة أساساً، «أي أن لا يُخلَقْ»، في حين أنّه ذو خيرٍ غالب وكمال نسْبي، وخلقه عين الحكمة (تأمل جيداً).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 385
في نهاية هذه المباحث بقي هنالك سؤالان جديران بالإهتمام والإلتفات:
كما نعلم ووفق تقسيم الصفات الإلهيّة، تقع صفة العدل في قسم الصفات الفعلية، وتُعتبر واحدة منها، لأنهّا صفة للفعل الإلهي، ويخطر هنا السؤال الثاني: لأي الخصوصّيات فُصلتْ هذه الصفة عن سائر الصفات، وأخذت مكانها كأصل مُستقل من أصول الدين الخمسة؛ وأحياناً توصف مع، «الإمامة»، كأصلين خاصّين في المذهب الشيعي؟
للاجابة عن هذا السؤال يجب الإلتفات إلى عدّة أمور:
1- الظرف الزماني لهذه المسألة، التي مرّت علينا في بداية البحوث من ناحية أصل ظهورها التاريخي هي من أوضح أسباب انفصال هذه الصفة عن بقية الصفات الإلهيّة.
لأنّه كما ذكرنا فقد شهد القرن الأول الهجري نزاعاً شديداً بين علماء العقائد الإسلاميّة، حيث كان في أحد طرفيه جماعة الأشاعرة الذين كانوا يعتقدون بعدم إمكانية وصف الأفعال الإلهيّة بالعدل والظلم، فهي فوق هذه الأمور، وكل ما يصدر من اللَّه هو عين العدل، حتى وإن أدخل جميع الأنبياء في النار، وجميع الأشقياء في الجنّة؛ وكان طرفه الأخر جماعة الشيعة وجماعة المعتزلة، «جماعة كانت تعتبر العقل كأحد المصادر الإسلاميّة»، الذين كانوا يقولون ويعتقدون بحكمة اللَّه وعدله وعدم صدور شي ء منه خلاف ذلك، فلن يثيب الظالم ولن يعاقب المظلوم، وعقلنا يدرك الحسن والقبيح بمقدار واسع، ولا يصدر من اللَّه العادل والحكيم إلّاالفعل الحسن.
وكما لاحظنا فإنّ كثيراً من الآيات القرآنية أيدت هذه الحقيقة أيضاً.
وأدّى هذا الإختلاف إلى ظهور جماعة عُرفت باسم «العدلية»، وعُرف أصل العدل، وأصل الإمامة كأصلين خاصّين في المذهب الشيعي.
2- علاوةً على هذا، فإنّ الكثير من صفات الفعل الإلهي تعود بالحقيقة إلى أصل العدل،
نفحات القرآن، ج 4، ص: 386
فمثلًا حكمة اللَّه ورازقيته ورحمانيته ورحيميته جميعاً واقعة في ظلّ عدالته، وبالأساس إنّ العدالة بمفهومها الحقيقي الواسع،
أي وضع كل شي ء في موضعه المناسب، تشمل جميع الصفات الفعلية، والأهم من الجميع هو أنّ مسألة «المعاد»، و «مالكية اللَّه ليوم الدين»، تنشأ بالحقيقة من عدالته سبحانه، وهذه الخصوصّية تستلزم الإلتفات إلى هذا الأصل بصورة مستقلّة.
3- للعدل مفهوم واسع بحيث يشمل كُلًّا من العدالة العقائديّة، والعدالة الأخلاقية، والعدالة الاجتماعيّة، وبذلك سينعكس من مسألة العدل الإلهي نورٌ على الملكيات الأخلاقية الإنسانية، وعلى كافة القوانين الاجتماعيّة، وكم لائقٌ بمثل هذا الاصل العقائدي الذي له مثل هذا الانعكاس الواسع أن يُعرّف كأحد أركان الإسلام، ولو أنّنا لم نعثر في المصادر الإسلامية على آية أو رواية تدل بوضوح على صدور هذا الإنتخاب من قبل الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ويبدو انه انتخاب صادرٌ من قبل علماء الكلام والعقائد، ولكن الدافع الأساسي له هو التأكيد والإهتمام الكثير الذي أولته الآيات والروايات لهذه المسألة بشكل كُلّي «1».
يلاحظ وجود مواضيع مختلفة في القرآن والروايات الإسلاميّة تبدو بأنّها غير متناغمة مع مسألة العدل الإلهي من الناحية الإسلامية أحياناً، ومن وجهة نظر بعض العلماء أحياناً اخرى، مثل:
1- مسألة الشفاعة.
2- مسألة الجبر والتفويض.
3- مسألة القضاء والقدر.
4- تفاوت تقسيم الأرزاق، ووجود الغنى والفقر معاً في المجتمات الإنسانية.
__________________________________________________
(1) ورد تأييد ضمني فقط لهذا الكلام في الرواية المنقولة عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله رجل: «إنّ أساس الدين التوحيد والعدل» وطلب منه توضيحاً أكثر حول ذلك. (راجع بحار الأنوار، ج 5، ص 17).
نفحات القرآن، ج 4، ص: 387
ومن المسلّم أنّ لكل واحدة من هذه المسائل من حيث الماهيّة والمحتوى بحثاً خاصاً ومفصلًا سنتطرق إليها جميعاً في محلّها الخاص، ولكن يتوجّب هنا فقط أن نبحثها من ناحية عدم وجود تضاد فيما بينها وبين مسألة العدل الإلهي.
أمّا
بالنسبة للشفاعة فالذين يعتقدون بأنّ الشفاعة معناها أن يشفع النبي صلى الله عليه و آله، أو إمام معصوم عليه السلام، أو ملك مقرب في دخول مذنب معين الجنّة، في حين من المقرر أن يدخل نظيره في الذنب والظروف النار، يحق لهم أن يعتقدوا بتضاد مثل هذه الشفاعة مع أصل العدل.
ولكن نظراً لكون الشفاعة تخص الذين أبدوا من ناحيتهم لياقة خاصّة في هذا المجال، وحازوا على حق شفاعة الشافعين بالأعمال الصالحة، بحيث صار وعد الشفاعة من الناحية العملية درساً تربوياً لإصلاح المذنبين وسوقهم نحو الصراط المستقيم أو مانعاً لهم على الأقل من زيادة التلوث بالذنوب، يتضح جيداً عدم انتفاء مسألة الشفاعة مع عدالة اللَّه وحكمته، بل تؤكّدها كذلك «1».
وأمّا مسألة «الجبر والتفويض»، فالذي يتنافي مع العدل هو مسألة «الجبر»، فإمّا أن نقول بالجبر وننكر العدالة، وإمّا الاقرار «بالعدل» وترك «الجبر» وكما لاحظتم في البحوث السابقة فقد اضطرّ المعتقدون بالجبر إلى مسألة العدالة، وهذه إحدى أكبر الإشكالات على مذهبهم.
نكرر بأن ليس الهدف هو طرح مسألة الجبر والتفويض ودلائل بُطلان الجبر، فلها محل أخر خاص بها، والهدف الوحيد هنا هو النظر إليها بمنظار مسألة العدالة لنرى هل يمكن أن يُجبر أحدٌ على ذنبٍ معين ثم يُعاقبُ عليه، فمن الواضح أنّ هذا السؤال يجاب عنه بالنفي، وأمّا بالنسبة إلى مسألة «القضاء والقدر» و «مصير الإنسان» بالشكل الذي سيمر علينا في بحث القضاء والقدر، فإنّ المفهوم الواقعي والمنطقي «للقضاء والقدر»، ليس بمعنى التقدير المُسبق لمصير الإنسان، من حيث السعادة والشقاء، والطاعة والمعصية، بشكل إجباري
__________________________________________________
(1) لزيادة الإطلاع راجع التفسير الأمثل، ذيل الآيتين 47 و 48 من سورة البقرة.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 388
وحتمي وغير قابل للتغيير، فليست هذه المسألة
بأكثر من خرافة، أي حمل بعض الجهلاء مسألة «القضاء والقدر الإلهي»، على هذا المعنى فالقضاء والقدر الإلهي يشير من جهة إلى قانون العلية، أي أنّ اللَّه قدّر نجاح وتوفيق الساعين العاملين، وأفشل الكسالى والخاملين «ووجود بعض الإستثناءات المحدودة لا تُلغي كُليّة هذه المسألة».
وكذا تعلق القضاء والقدر الإلهي بعمل الإنسان بأن يسعد المطيعون، ويشقى العاصون ويهزم الذين يَسلكون طريق الفرقة والاختلاف.
والقضاء والقدر الإلهي هكذا دائماً، ومن المُسلّم تناغمه الكامل مع مسألة العدل الإلهي إن فُسّر بهذا الشكل، وإن حملناه على ما فسّره بعض الجهلاء فسوف يتنافى مع العدل الإلهي، وليس هنالك طريق لحل هذه المعضلة «1».
وأمّا مسألة تفاوت الناس من حيث الفقر والغنى فهي أيضاً مسألة من قبيل القضاء والقدر الإلهي المشروط، أي أنّ الأفراد أو الشعوب المثابرة، المنظمة، والمتحدة أغنى من الأفراد والشعوب الكسولة العديمة النظم والإتحاد عادة، ونحن نلاحظ نماذج عينية لها في مجتمعنا والمجتمعات العالمية، ولا يُمكن للموارد الاستثنائنة أن تُلغي هذا الأصل الكلّي.
أجل، فهنالك موارد أيضاً يفرض الفقر فيها على فرد أو مجتمع معين من الخارج، ويؤدّي الاستعمار والاستثمار من قبل جماعة إلى فقر واستضعاف جماعة اخرى، وهذه المسألة أيضاً لا تفسح المجال للتشكيك بمسألة العدل الإلهي، فلا ريب في أنّ اللَّه قد منح الإنسان الحرّية، لأنّه تعالى لو لم يفعل لما أمكن سلوك طريق التكامل تحت ظروف الجبر، ولا ريب أيضاً في قيام جماعة باستغلال هذه المسألة بصورة سيئة، وطبعاً سينتصر اللَّه للمظلوم من الظالم، ولكن إذا كان من المقرر أن تؤدّي الإستغلالات السيئة إلى سلب اللَّه الناس الحرّية بصورة تامّة لتعطلت قافلة السير التكاملي الإنساني، هذا من جهة ومن جهة اخرى، إن سوء استغلال العباد لنعمة الحرية لا تخدش عدالة
اللَّه أصلًا «2».
__________________________________________________
(1) ولتمام التوضيح حول مسألة القضاء والقدر والمصير راجع كتاب دوافع ظهور المذاهب، ص 17- 41، والتفسير الامثل ذيل الآية 49 من سورة القمر.
(2) ورد توضيح أكثر حول هذا البحث في نفحات القرآن، ج 2، ص 290- 294.
نفحات القرآن، ج 4، ص: 389
آخر الكلام حول مسألة العدل الإلهي: انعكاس العدل الإلهي في «الأخلاق» و «العمل».
فقد أشرنا سابقاً إلى عدم انفصال «المسائل العقائدية» عن «المسائل العلميّة» في الإسلام، وإلى كون التفكّر بالصفات الإلهيّة يؤدّي إلى تفتُّح بصيرة الإنسان، وربطها بذلك الكمال المطلق، والسعي للتقرب إليه تعالى بالسير الظاهري والباطني، وهذا القرب سيؤدّي بالنتيجة إلى تخلق الإنسان بالأخلاق الإلهيّة، وانعكاس صفاته تعالى في أخلاقه واعماله.
لذا فكلما تقرب الإنسان إليه أكثر، تأصلت هذه الصفات فيه أكثر، لا سيما في مسألة العدل الإلهي، «سواءً أفسّرنا العدالة بمفهومها الواسع أي وضع كل شي ء في محلّه المناسب، أم بمعنى أداء الحقوق ومحاربة كل ألوان التبعيض والإجحاف»، فهذه العقيدة تترك أثراً في الفرد المسلم والمجتمعات الإسلامية، وتدعوهم نحو إدارة الأعمال بصورة صحيحة، ورفع راية العدل ليس فقط في المجتمعات الإسلاميّة، بل في العالم أجمع.
ومسألة العدالة في الإسلام بدرجة من الأهميّة بحيث لا يحول دونها شي ء، فلا أثر للحب والعداوة والقرابة والأرحام، البعد والقرب فيها وأي انحراف عنها يُعدّ اتباعاً للهوى كما ورد في قوله تعالى «يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرضِ فَاحكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» (ص/ 26)
قوله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قَومٍ عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا». (المائدة/ 8)
وهذا الموضوع بدرجة من الأهميّة بحيث لو لم يتيسّرْ تطبيق العدالة بالطرق السلميّة لجاز تعبئة المظلومين ودعوتهم إلى الثورة العامة من جهة، ومقاتلة الظالم للدفاع
عن حقهم من جهة اخرى، كما ورد في الآية: «وَمَا لَكُم لَاتُقاتِلُونَ فِى سِبيلِ اللَّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وِالوِلْدانِ». (النساء/ 75)
نفحات القرآن، ج 4، ص: 390
نختم هذا البحث بعدة روايات موثوقة تزين خاتمة هذا المجلّد:
1- قال الإمام علي عليه السلام في كلامٍ مختصرٍ وبتعبيرٍ لطيف غني: «العدل حياة» «1» 2- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «العدل أحلى من الماء يُصيبه الظّمآن» «2».
3- وعن الإمام علي عليه السلام أيضاً: «جعل اللَّه العدل قواماً للأنام وتنزيهاً من المظالم والاثام وتسنية للاسلام».
4- وعنه عليه السلام أيضاً: «العدل رأس الإيمان وجماع الاحسان وأعلى مراتب الإيمان».
وأخيراً ورد تعبير سامٍ عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه و آله: «عدل ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيامُ نهارها، وجورُ ساعة أشدّ وأعظم عند اللَّه من معاصي ستين سنة».
اللّهمّ! أنر قلوبنا بنور معرفة ذاتك، وصفات جمالك وجلالك، لكي لا نعبد سواك، ولا نسلك إلّاسبيلك.
اللّهمّ! نَوِّر أرواحنا وقلوبنا بعشق جمالك لتصطبغ أعمالنا وأخلاقنا بصبغتك وتقترن بها «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنَ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً». (البقرة/ 138)
اللّهمّ! هب لنا تقوىً مقرونة بالإيمان بأسمائك الحسنى تصوننا عن الإفتراق عن خط العدالة، وسلوك خط الانحراف، ولو بمقدار رأس إبرة.
آمين ربّ العالمين
15- ربيع الثاني- 141
__________________________________________________
(1) غررالحكم نقل عنه ميزان الحكمة، ج 6، ص 81.
(2) بحارالانوار، ج 72، ص 36، ح 32، وقد نقل نفس هذا المضمون بشكل آخر عنه عليه السلام حيث قال: «العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك».
نفحات القرآن، ج 5، ص: 7
لو ألقينا نظرة إجمالية على آيات القرآن المجيد لما وجدنا بحثاً يتصدّر جميع البحوث العقائدية للدين الإسلامي بعد بحث التوحيد، مثل بحث المعاد والحياة الآخرة وجزاء الأعمال والثواب والعقاب وإجراء العدالة.
إنّ وجود ما يقارب 1200 آية من مجموع آيات القرآن المجيد تهتم ببحث المعاد وهو ما يساوي ثلث آيات القرآن تقريباً، وما جاء من ذكر للمعاد في جميع صفحات القرآن تقريباً وبلا استثناء، وتكريس الكثير من السور الأخيرة في القرآن بأجمعها أو بغالبيّتها للمعاد ومقدماته وعلاماته ونتائجه، ما هي إلّاأدلة مؤيدة لهذا الادّعاء.
فالقرآن المجيد يتحدث عن عالم الآخرة في كلّ مقطعٍ تطرّق فيه لموضوع الإيمان باللَّه، وقد اقترن ذكر الموضوعين معاً في 30 آية تقريباً: «وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الْاخِر» أو بتعبيرات مشابهة، وأشار لليوم الآخر أو في أكثر من 100 موضع ولم لا يكون كذلك؟ في حين أنّ:
1- كمال الإيمان باللَّه وحكمته وعدالته وقدرته لا يتمّ بدون الإيمان بالمعاد.
2- الإيمان بالمعاد يُعطي لحياة الإنسان قيمةً، ويُخرج الحياة الدنيا عن اللَّغو والعبثية.
3- الإيمان بالمعاد يخطّ طريقاً واضحاً لتكامل الحياة الإنسانية.
4- الإيمان بالمعاد يضمن تطبيق كلّ السنن الإلهيّة، وهو الدافع الرئيسي لتهذيب النفوس واحترام الحقوق والعمل بالواجبات وإيثار الشهداء وتضحية المضحين، وهو الذي يدفع الإنسان لمحاسبة نفسه.
5- الإيمان بالمعاد يُضعِف حبّ الدنيا التي هي رأس كل خطيئة، ويُخرِجُ الدنيا عن
نفحات القرآن، ج 5، ص: 8
كونها «هدفاً نهائياً» ويجعل منها «وسيلة» لنيل السعادة الأبدية، وكم الفارق شاسعٌ بين هذين المنظارين!
6- الإيمان بالمعاد يعطي للإنسان القوة لمواجهة الشدائد، ويحيل صورة الموت المرعبة- التي تخطر على فكر الإنسان على هيئة كابوسٍ ثقيل وتسلبه راحته- من مفهوم الفناء والعدم إلى نافذة نحو عالم الخلود.
7-
الكلام الفصل هو أنّ الإيمان بالمعاد- إضافةً إلى الإيمان بمبدأ عالم الوجود- يُعدّ الخط الفاصل بين الإلهيين والماديين.
بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «اللَّهُ لَاالهَ الَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ الى يَوْمِ القِيَامَةِ لَارَيْبَ فيهِ ومَنْ اصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً». (النساء/ 87)
2- «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَّنْ يُبعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّئُونَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ». (التغابن/ 7)
3- «وَيَسْتَنْبِؤُنَكَ احَقٌ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى انَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزينَ». (يونس/ 53)
4- «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ».
(سبأ/ 3)
5- «رَبَّنا انَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَارَيْبَ فيهِ انَّ اللَّهَ لايُخلِفُ المِيْعادَ».
(آل عمران/ 9)
6- «أَلا انَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي الساعَةِ لَفِى ضَلَالٍ بَعيدٍ». (الشورى 18)
7- «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ولِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ اعْمَالُهُمْ هَلْ يُجزَونَ الَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». (الاعراف/ 147)
8- «وَأَنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ اعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً الِيماً». (الاسراء/ 10)
9- «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُم لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ». (الجاثية/ 34)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 9
10- «وَانْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ءَإِذَا كُنَّا تُرَاباً ءَانَّا لَفِى خَلْقٍ جَديدٍ اولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَاولئِكَ الْأَغْلَالُ فِي اعْنَاقِهِمْ وَاولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». (الرعد/ 5)
لقد ذُكر المعاد والحياة بعد الموت بشكلٍ مؤكّد وبصور مختلفة في الآيات الآنفة الذكر، كل ذلك من أجل بيان الأهميّة البالغة التي يوليها القرآن لهذا الأمر.
الخطاب في الآية الاولى يؤكِّد على جمع البشر في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه.
قال تعالى: «اللَّهُ لَاإِلهَ الَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَارَيْبَ فِيهِ»، ثم يبالغ بالتأكيد فيقول: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً».
إنّ بداية الآية ونهايتها وجميع إجزائها تؤكِّد
على هذه المسألة، وتشكِّل مقياساً للأهميّة التي يكنّها القرآن لذلك الموضوع «1»، ومن الجدير بالذكر أنّ «الريب» يعني أساساً كما ورد في مقاييس اللّغة هو الشّك، أو الشّك، المشوب بالخوف والقلق، أمّا إطلاق كلمة ريب على «الحاجة» فذلك لأنّ المحتاج إلى شي ء عادةً يشك في الحصول على ذلك الشي ء فيكون شكّه مشوباً بالخوف من الحرمان!
وفي «فوارق اللغة» ذُكِرت عدّة فروق بين «الشك» و «الريب»، منها أنّ «الارتياب» شكٌ مشوب بالتهمة.
فمن المحتمل أن يكون السبب في استعمال القرآن الكريم لهذا الاصطلاح بشأن المعاد هو أنّ المعارضين لأمر المعاد كانوا بالإضافة إلى تظاهرهم بالشك في عقيدة المعاد يتّهمون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله باختلاق تلك الامور.
__________________________________________________
(1) وهنالك آيات كثيرة اخرى في القرآن أيضاً تؤكّد جميعها على هذا الموضوع وهو أنّه لا شك في الرجعة، مثل آية 7 من سورة الحج؛ والآية 9، 25 من سورة آل عمران؛ والآية 12 من الانعام؛ والآية 21 من الكهف؛ والآية 59 من غافر؛ والآية 7 من الشورى والآية 26 و 33 من سورة الجاثية.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 10
ولكن يبقى هنالك سؤال يحتاج إلى الإجابة وهو: لِمَ اكتفى القرآن في هذه المواضع وفي مواضع مُشابهه بالمدّعى من دون ذكر دليلٍ عليه؟
وأسباب ذلك كثيرة؛ وأوّلها: إنّ أدلّة إثبات المعاد وردت في مواضع كثيرة من القرآن المجيد وبُحثت باستمرار، فلم يكن من الضرورة تكرارها في هذه الآية، وثانياً: كأنّ القرآن يريد أن يوضّح هذه الحقيقة وهو أنّ الشواهد على إثبات المعاد بلغت من الوضوح حداً بحيث لم تُبقِ مجالًا للشّك أو التردد «1».
وفي الآية الثانية امِرَ النبي صلى الله عليه و آله بأن يُقسِم مؤكِّداً على أنّ هنالك قيامةً وحشراً ونشراً
حيث قال تعالى: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَّنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّئُونَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ».
نحن نعلم بأنّ القسم عادةً من الأعمال غير المحبذة، على الأخص عندما يكون القسم باللَّه تعالى من أجل هذا نهى القرآن الناس عنه في الآية الكريمة: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَ يْمَانِكُمْ». (البقرة/ 224)
ولكن أحياناً وعندما يكون الأمر مهماً جدّاً فإنّ القسم لدعم ذلك الأمر لا يكون غير مستحسن فحسب بل يكون لازماً.
وفي هذه الآية، علاوة على ذكر التأكيد في «لتبعثن» و «لتنبئُن» فإنّ الآية في آخرها تُصرِّح على أنّ هذا الأمر يسير على اللَّه، ولذلك فلا يجب أن ترتابوا أو تترددوا فيه «2».
__________________________________________________
(1) يجب الانتباه إلى «اللام» في «لَيجمعنكم» للقسم، ثم صاحبتها نون التوكيد الثقيلة، وبعد ذلك اكِّدَت بجملة «لاريب فيه» وأخيراً اشتدّ التأكيد بجملة: «ومن أصدق من اللَّه حديثاً». (ولكن لماذا تعدت «ليجمعنَّ» هنا ب «إلى ، مع أنّ القاعدة تقتضي التعدي ب «في»؟ فإنّ المفسرين اجابوا: إنّ السبب هو أنّ كلمة «ليجمعن» أتت بمعنى «ليحشرنَّ» التي تتعدى ب «إلى ، أو أن تكون «إلى هنا بمعنى «في».
(2) «زعْم» على وزن «طعم» في الأصل بمعنى الخطاب المحتمل كذبه أو المتيقّن من كذبه، وأحياناً تأتي بمعنى الظن الكاذب أيضاً من دون أن يكون هنالك أي خطاب، روى بعض المفسرين مثل الشيخ الطوسي في «التبيان» والقرطبي مؤلف كتاب «روح البيان» بأنّ «زعم» كناية عن الكذب.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 11
وفي الآية الثالثة طُرحت هذه المسألة على شكل استفسار ومحاورة تجري بين النبي صلى الله عليه و آله والمشركين: «وَيَسْتَنْبِؤُنَكَ أَحَقٌ هُوَ»؟!
ويجب الالتفاف إلى أنّ «يستنبؤنك» من «النبأ» وهو «الخبر المهم».
قال «الراغب» في «المفردات»
النبأ هو الإخبار النافع المصاحب للهول والعظمة لدى الإنسان الذي لديه علمٌ أو ظنٌ غالباً بذلك الإخبار، ومادام الخبر لايتصف بهذه الامور الثلاثة (الفائدة والعظمة والعلم) فإنّه لا يسمى «نبأ»، (بناءً على هذا فالخبر المشكوك أو قليل الأهميّة أو عديم الفائدة لايسمى «نبأ» وأما ما نراه في سورة النبأ من وصف النبأ ب «العظيم» فإنّه لشدّةِ التأكيد) وعندما يطلق على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذلك فبسبب اتصاف ما أخبر به بهذه الصفات الثلاث أيضاً.
ثم يأمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه و آله: «قُلْ اىْ وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌ»، والملفت للنظر هنا هواستعمال كلمة «الرب» في الآية الكريمة للاشارة إلى أن القيامة هي دوام ربوبية الخالق واستمرارها، وإنّ القيامة هي من مظاهر الربوبية، وسيأتي توضيح هذا الكلام عند البحث في أدلّة المعاد بإذن اللَّه.
وإزداد التأكيد شدّةً في آخر الآية في جملة: «وَمَا انْتُمْ بِمُعْجِزِينَ».
ويعتقد عدد من المفسرين بأنّ هذه الآية تشير إلى صدق القرآن أو نبوّة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، بينما تصِّرح الآية السابقة والآية اللاحقة لهذه الآية بوضوح أنّ المراد من النبا هو مسألة المعاد ومجازاة المذنبين في يوم القيامة التي طُرحت بعنوان أمرٍ واقعٍ لا شك فيه من خلال اضفاء أنواع التأكيدات عليها.
إنّ كلّاً من كلمة «إيْ»، والقسم «ربّي» و «إنَّ» و «اللام» في «لحقٌ»، ونفس كلمة «حق» وكون الجملة اسمية، وجملة «وما أنتم بمعجزين» هي تأكيدات لبيان أهميّة هذه المسألة.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 12
وفي الآية الرابعة طرحت هذه المسألة بشكل جديد فهي تنقل قول الكافرين أولًا «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَأْتِينَا السَّاعَةُ».
ثم يأمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ».
من الممكن
أن يكون ذكر «عالم الغيب» هو للالتفات إلى السبب الذي أدّى إلى إنكار المعاد من قِبَل الكافرين وذلك لأنّهم كانوا يقولون: مَن يقدِر على جمع الرفات المتناثرة في أكناف الأرض على شكل ذرات؟ ومن يقدر على إحصاء أعمال الإنسان التي بادت وانمحت ولم يبق منها أي أثر ليثاب ويعاقب عليها؟ يجيب القرآن هنا بجملة وجيزة، ويقول: اللَّه الذي يعلم الغيب ويعرف خفايا الإنسان يتكفّل بذلك.
ولكن لماذا اطلق اسم «الساعة» على القيامة في أحد اسمائها؟ لأنّ «الساعة» بتصريح أصحاب اللغة وضعت في الأصل للجزء الصغير من أجزاء الزمن أو بتعبيرٍ آخر هي اللحظة السريعة الانقضاء، وبما أنّ حساب العباد في يوم القيامة أو أصل قيام القيامة يتمّ بسرعة اطلق هذا الاسم على يوم القيامة «1».
ومن الجدير بالذكر أيضاً هو أنّ كلمة «ساعة» كما جاء في لسان العرب تطلق على لحظة انتهاء العالم المفاجئة وعلى قيام يوم القيامة معاً؛ لأنّ قيام يوم القيامة يكون مفاجئاً أيضاً.
وقسّم البعض «الساعة» إلى ثلاثة أنواع: «الساعة الكبرى و «الساعة الوسطى و «الساعة الصغرى .
فالساعة الكبرى هي يوم الحشر، والساعة الوسطى هي الموت المفاجى ء لقومٍ في أحد الأزمنة (مثل قوم نوح الذين غرقوا في وقت الفيضان) والساعة الصغرى هي ساعة الموت لكل إنسان «2».
__________________________________________________
(1) فعل «ساعَ» أتى بمعنى زوال، والزوال يحمل في طياته مفهوم سرعة الانقضاء، قال في المنار: ساعة في الأصل بمعنى الزمان القصير الذي يُعَّين بواسطته مقدار عملٍ معيّن حدث في خلال ذلك الوقت. (تفسير المنار، ج 7، ص 359).
(2) تاج العروس في شرح القاموس ومفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 13
وفي الآية الخامسة جاء هذا المعنى على لسان «الراسخين في العلم» فهؤلاء أيضاً خلال مناجاتهم مع اللَّه
أكّدوا على أمر المعاد والحشر واعتبروه من أوضح الامور المسلّمة حين قالوا: «رَبَّنَا انَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَارَيْبَ فِيهِ».
ولشدّة التأكيد أضافت الآيةإلى ذلك: «انَّ اللَّهَ لَايُخْلِفُ المِيْعَادَ».
وفي هذه الآية أيضاً جاء عدد من التأكيدات مثل كلمة «إنّ» و «الجملة الاسمية» وجملة «لاريب فيه» وجملة «إِنّ اللَّه لا يخلف الميعاد».
إلى هنا كان الكلام في التأكيدات على مسألة المعاد، ولكن الآيات الخمس المتبقية من آيات بحثنا تشتمل على تهديدات مختلفة وجِّهت إلى جاحدي الحشر والمعاد وكل آية لها تعبير خاص، ففي الآية السادسة مثلًا قال تعالى: «الا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفى ضَلَالٍ بَعْيدٍ».
«يمارون»: من «المراء» أو «المرية»، قال في «مقاييس اللغة» إنّها على معنيين:
الأول: شَدّ اليد على ثَدْي الحيوان لحلب اللبن، والمعنى.
الثاني: الصلابة والرصانة، لكن الراغب لم يذكر في المفردات إلّاالمعنى الأول.
ثم إنّ هذه الكلمة جاءت بمعنى الشك والترديد، وإن قال الراغب إنّ لها مفهوماً أضيق دائرةً من الشك (من المحتمل أنْ يكون السبب في ذلك هو أنّ «المرية» يُفهَمُ منها معنى الشك المقرون بالبحث والتحقيق، كما هو الحال في حالِب اللبن فإنّه يبذل جهداً لاستخراج اللبن من الثدي).
أمّا «المماراة» فهي بمعنى المجادلة في البحث والتعصب في الجدل أو أنّ كلّاً من الطرفين يريد أن يقرأ أفكار الطرف الآخر، أو كما قال صاحب المقاييس إنّ كِلا المعنيين يشتملان على الصلابة والتزمُّت في البحث، كما اشيرَ أعلاه بأنّ الصلابة هي أحد معاني المرية.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 14
ومن الجدير بالذكر أنّ استعمال «ضلالٍ بعيد» جاء في عشر آيات في القرآن المجيد، وكانت أغلبها خطاباً للكفّار والمشركين وجاحدي المعاد، وهذا التعبير يبيَّن بوضوح بأنّ الضلال البعيد يختص بهذه المجموعة، وذلك لأنّ الإيمان باللَّه ويوم الحساب
إنّ وجِدْ يجعل وجود الضلال سطحياً ويزيد من احتمال العودة إلى طريق الحق، بينما يقود جحد التوحيد والمعاد الإنسانَ ويجرُّه إلى آخر درجة من الضلال ويبعده عن صراط الهداية القويم إلى أدنى حد، أو بتعبيرٍ آخر إنّ الأدلّة على معرفة اللَّه وإثبات المعاد على حدٍ من الوضوح يجعلها تشابه الامور الحسيّة الملموسة، والذي يصاب بالضلال في هذين الأمرين فضلاله عظيم.
وفي الآية السابعة اشير إلى مسألة «حبط الأعمال» أي أعمال الجاحدين للمعاد في قوله تعالى «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ولِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ اعْمَالُهُمْ هَلْ يُجزَونَ إِلّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».
«الحبط»: في الأصل بمعنى البطلان أو التمّرض «1»، وفي تعبير الآيات والروايات جاء بمعنى محو ثواب الأعمال بسبب إرتكاب عدد من الذنوب.
وجاء في «لسان العرب» إنّ «الحبط» هو أن ينجز الإنسان عملًا ما ثم يُبطله.
ولعلماء علم الكلام نقاشٌ في مسألةِ هل يكون «الحبط» حاكماً دائماً في تأثير المعاصي والطاعات على بعضها الآخر أم لا؟ وسوف نتعرض بالبحث مفصلًا في هذه المسألة في محلها إن شاء اللَّه، ولكن لا يوجد على نحو القضية الجزئية شكٌ في صحة هذه المسألة، فإنّ بعض الامور مثل «الكفر» تكون سبباً في حبط ثواب جميع الأعمال الصالحة، فلو مات أحدٌ على الكفر فإنّ جميع أعماله الصالحة سوف تتلاشى كنثر الرماد في ريحٍ عاصفٍ، إنّ الآيات الآنفة الذكر تنسب هذا الاحباط لجاحدي الآيات الدالّة على إثبات اللَّه والمعاد، وهذا دليلٌ واضح على أهميّة المعاد في رأي القرآن المجيد.
__________________________________________________
(1) مقاييس اللغة مادة (حبط).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 15
وفي الآية الثامنة هدّد القرآن بشكلٍ صريح بتعذيب الذين لا يؤمنون بالآخرة عذاباً أليماً، قال تعالى «وَأَنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ اعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً الِيماً».
فهو من جانب يقول: إنّ
الجزاء مُعدٌ وجاهز كي لايظنّ أحد أنّ الجزاء وعد مؤجلٌ، ومن جانبٍ آخر يصف العذاب الإلهي ب «الأليم» وهذا الوصف من أجل المبالغة في بيان أهميّة الإيمان بالمعاد.
وكلمة «عذابٌ أليم» تكرر ذكرها في القرآن المجيد عشرات المرّات وفي آياتٍ مختلفة، وخوطِبَ بها الكفّار والمنافقون غالباً، ووردت أحياناً في تهديد من يقترف الذنوب الكبيرة مثل ترك الجهاد (سورة التوبة/ 39) والاجحاف عند القصاص (البقرة/ 178) أو اشاعة الفحشاء (النور/ 19) أو الظلم والعدوان (الزخرف/ 65) وما شابه ذلك من الكبائر.
وفي الآية التاسعة ذُكِرت ثلاث عقوبات أليمة للذين لا يبالون بيوم القيامة، قال تعالى:
«وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا». «وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ». «وَمَالَكُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ».
إنّ الغفلة عن يوم القيامة أو نسيانه هو مصدر جميع أنواع الضلال في الواقع، كما جاء في القرآن! «.... إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ» «1».
(ص/ 26)
من الطبيعي أنّ اللَّه موجودٌ في كل مكان، وأنّ جميع الأشياء حاضرة بين يديه، ولا معنى لنسبة النسيان إليه، فالمراد من النسيان هنا هو أنّ اللَّه تعالى يحرم هؤلاء من رحمتة إلى أبعد الحدود بحيث يُتَصوَّر أنّه نسيهم!
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 13، ص 50.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 16
وأخيراً ففي الآية العاشرة والأخيرة وعَدَ اللَّه عزّ وجلّ جاحدي المعاد بالخلود في النار وهَدَّدهم بالعذاب الدائم.
قال تعالى بعد أن وجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله: «وانْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ءَإِذَا كُنَّا تُرَاباً ءَإنَّا لَفِى حَلْقٍ جَدِيدٍ».
ثم يضيف إلى ذلك: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْاغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
الحديث في بداية الآية عن تعجّب الكفّار، ثم يَعِدُّ هذا التعجب
من غرائب الامور، أي هل هناك عجبٌ من هذا الأمر الواضح المُعزز بِكل هذه الأدلة؟ ويصورهم في نهاية الآية بصورة السجناء المكبَّلين بالأغلال والسلاسل في أعناقهم، وأي أغلال وأي سلاسل أكثر تقييداً من التعصب والجهل والهوى الذي يسلبهم كل أنواع حرية التفكّر إلى حدٍ تصبح فيه المسألة الواضحة كل الوضوح مدعاة لَعَجبِهم، وذلك لأنّها لا توافق هواهم وتقليدهم الأعمى
فيجب الالتفات إلى أنّ ظاهر الآية هو التقييد بالأغلال والسلاسل في الوقت الحاضر لا بعد ذلك في يوم القيامة، كما جاء في الشعر العربي: لَهُمْ عن الرُّشدِ أغلالٌ وأقيادُ، ولكن بعض المفسرين يرى أنّ الآية تشير إلى حالهم يوم القيامة ويعتقد بأنّ الأغلال والسلاسل ستوضع على أعناقهم في ذلك اليوم «1»، وذكر البعض الآخر كلا الاحتمالين «2» ولكنَّ عدداً من المفسرين يعتقد بأنّ الآية تشير إلى حالهم في الدنيا، كما صرح بذلك المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان فإنّه قال: «وَأُولَئِكَ الْأَغلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ» إشارة إلى اللازم الثاني وهو الاخلاد إلى الأرض والركون إلى الهوى والتقيد بقيود الجهل وأغلال الجحد والإنكار «3».
ومن الواضح أنّ قيوداً وأغلالًا من هذا القبيل والتي يضعُها الإنسان في يديه ورجليه
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان ذيل الآية 5 من سورة الرعد؛ وتفسير القرطبي، ج 5، ص 3513.
(2) تفسير الكبير، ج 19، ص 9.
(3) تفسير الميزان، ج 11، ص 300.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 17
وعنقه سوف تظهر له يوم القيامة على صورة أغلال وسلاسل من نار، وسوف تَصُدّه عن الارتقاء إلى درجة القرب الإلهي.
يتّضح جيداً من مجموع الآيات السابقة- وآيات اخرى سوف تُذكر في الأبحاث اللاحقة- مدى اهتمام القرآن المجيد بالإيمان بالمعاد، وكيف يَعُدُّهُ من أركان واسس الإيمان التي
يسبب تركها الضلال البعيد والابتعاد عن الحق والخلود في النار والعذاب الأليم، ويُعدُّ إنكار المعاد دليلًا على فقدان حرية التفكير والتكبُّل بسلاسل الجهل والعناد.
وبالتأكيد فإنّ هذه الامور هي السبب في احتلال بحث المعاد المرتبة الثانية بعد بحوث التوحيد ومعرفة اللَّه بالنسبة لسعة البحوث في القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 19
نفحات القرآن، ج 5، ص: 21
ورد ذكر المعاد في القرآن المجيد في مئات من الآيات وبتعابير متنوعة، ويُعد كل تعبير من تلك التعابير بمثابة إشارةً إلى بعدٍ من أبعاد مفهوم المعاد، وتلك التعبيرات بمجموعها توضح عمق هذه المسألة وأهداف الحياة الآخرة.
وبما أنّ مطالعة عبارات القرآن المتنوعة للمعاد تفتح أمامنا آفاقاً جديدة في هذه المسألة العقائدية المهمّة، فإننا نتعرض لدراسة تلك العبارات.
وأهم العبارات القرآنية في هذه المسألة هي العبارات الثمانية التالية والتي تشكّل أساس الآيات الشريفة:
1- «قيام الساعة».
2- «إحياء الموتى».
3- «البعث».
4- «الحشر».
5- «النشر».
6- «المعاد».
7- «لقاء الرّب».
8- «الرجوع».
بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في نماذج من التعبيرات الآنفة الذكر:
1- «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الُمجرِمُونَ». (الروم/ 12)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 22
2- «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وانَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَانَّهُ عَلَى كُلِّ شى ءٍ قَدِيرٌ». (الحج/ 6)
3- «وَانَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّارَيْبَ فِيهَا وَانَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ». (الحج/ 7)
4- «وَانَّ ربَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ انَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ». (الحجر/ 25)
5- «وَاللَّهُ الَّذِى ارْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ». (فاطر/ 9)
6- «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ». (الاعراف/ 29)
7- «قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ». (يونس/ 45)
8- «كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ الَيْنَا تُرْجَعُونَ». (العنكبوت/ 57)
«القيامة»: هي أكثر العبارات شيوعاً عن المعاد وهي مأخوذة من مادّة «القيام»، وقد عبّر القرآن المجيد عن ذلك اليوم العظيم في 70 موردا بتعبير «يوم القيامة»، وفي بعض الآيات مثل الآية الاولى من آيات بحثنا ذكره بتعبير «يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ»، حيث قال تعالى: «وَيَوْمَ تَقُوُم السَّاعَةُ يُبْلِسُ الُمجْرِمُونَ» «1».
ومن الطبيعي أن ييأس المذنبون ويكتئبوا في ذلك اليوم ويلزموا جانب الصمت؛ لأنّهم يرون نتائج أعمالهم بعد أن لم
يبق أمامهم طريق لتدارك ما مضى يقول الفخر الرازي في تفسيره بعد أن يقسّم اليأس إلى نوعين:
«يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو احدى الراحتين، وهذا لأنّ الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمراً غير ضروري يستريح الطامع من الانتظار وإن
__________________________________________________
(1) «يبلس» من مادة «ابلاس»، قال الراغب: الابلاس هو الغم والهم الحاصل من شدّة اليأس والقنوط، وفسر البعض الابلاس باليأس بينما فسره البعض الآخر من المفسرين واللغويين بأنّه يعني السكوت الناشى ء من عدم وجود الادلّة. (المفردات؛ والصحاح؛ والتحقيق؛ وتفسير روح المعاني؛ وتفسير الميزان).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 23
كان ضرورياً بالابقاء له ينفطر فؤاده أشدّ انفطار، ومثل هذا اليأس هو الابلاس» «1».
فأحياناً، يحلُّ اليأس في مواردٍ يحتاج الإنسان إلى مقصوده احتياجاً مبرماً، فمن البديهي في مثل هذه الموارد يكون اليأس سبباً للحيرة والضياع ومصَدراً للألم والغم القاتل، فكلمة «إبلاس» تستعمل في المعنى الثاني (بينما كلمة «يأس» ليست كذلك).
ثم إنّ القرآن الكريم يعبّر عن المعاد ايضا ب «يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ». (إبراهيم/ 41)
وتارةً يقول: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ». (المطففين/ 6)
وتارة يذكره بعبارة: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوُحُ وَالْمَلَائِكَةُ». (النبأ/ 38)
وأخرى بعبارة: «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ». (غافر/ 51)
بلى إنّ ذلك اليوم هو يوم القيامة، يوم قيام الساعة وقيام الحساب وقيام الناس وقيام الملائكة وقيام الأشهاد ويوم قيام كل شي ء.
والملفت للنظر هو أنّ التعبير بقيام الساعة له مفهوم خاص من بين هذه التعبيرات؛ لأنّ الساعة- كما قلنا سابقاً- تعني الجزء من الزمان فهل يعني هذا أنّ للزمان قيام؟ يعتقد البعض أنّ هذا التعبير يدلّ على أنّ يوم القيامة يمكن أن يُتَصوّر له التلبس بالقيام والنهوض كما هو الحال في الموجودات الحيّة (فتأمل).
احياء الأموات هو
عنوان آخر يُشاهد بشكل واسع في الآيات المختصة بالمعاد، وكما سيأتي- بإذن اللَّه- في بحث أدلّة المعاد أنّ عدداً كبيراً من هذه الأدلة تُوْكّد على هذا العنوان، وتُصّور إمكان الإحياء بعد الممات بطرق مختلفة.
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 25، ص 101.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 24
ومن جملتها الآية التي هي مورد بحثنا، فبعد أن ذكر القرآن المجيد ثلاثة امور مهمّة هي (مسألة خلق الإنسان من التراب، والتطوّرات المختلفة للجنين، وإحياء الأرض بعد نزول الغيث) قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَانَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وانَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».
«الحق»: يعني الواقع والثبوت، والتعبير السابق- على حد قول «الميزان» يُشير إلى أنَّ اللَّه عزوجل هو عين الواقع لا أنّه وجودٌ له واقع، إنّه عين الثبوت والواقع، وبالاحرى أنَّ واقعية وثبوت كل شيّ في العالم مترشح من فيض وجوده «1».
وما يقابل الحق هو الباطل، فإنّه لا واقع ولا ثبوت له، بل هو خيالٌ وظنٌ باطل وسرابٌ لا غير.
والملفت للنظر في هذه الآية هو الامور الثلاثة المذكورة أعلاه (خلق آدم من التراب، وتطورات الجنين، واحياء الأرض الميّتة) فإنّها جاءت كدليل على إثبات المبدأ الأول أي إثبات أصل وجود اللَّه، وعلى إثبات المعاد وإثبات صفات اللَّه (مثل القدرة).
إنّ هذه التغيّيرات الواسعة والمهيمنة على كل موجودات العالم هي في الواقع دليل على وجود محورٍ ثابت في عالم الوجود، وهذا النظم العجيب الذي يُهيمن على الظواهر المختلفة هو دليلٌ على حكمة وقدرة ذلك المحور، وتدلّ كل هذه الامور بوضوح على إمكان الحياة بعد الموت.
وكما أشرنا سابقاً بأنّ تعبير «احياء الموتى ورد بشكل واسع في آيات المعاد، فإنّ هذا التعبير يدلّ بوضوح على كون المعاد جسمانيّاً، لا عودة الروح فحسب، بل
يعاد في الآخرة الجسم المتعلق بها أيضاً (ولكن على مستوىً أعلا وأرقى كما ستأتي الإشارة إليه لاحقاً) فلو كان المعاد بالروح فقط لما كان للحياة الآخرة مفهوم أصلًا، لأنّ الروح بعد انفصالها عن البدن تستمر في الحياة وتحافظ على بقائها.
ومن التعابير الاخرى التي وردت في آيات القرآن عن القيامة هو «البعث»، ففي الآية
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 14، ص 378.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 25
اللاحقة لتلك الآية السابقة من سورة الحج من آيات البحث قال تعالى «وَانَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيبَ فِيهَا وَانَّ اللَّه يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ».
لقد ورد هذا التعبير في القرآن بشكل واسع جدّاً فأحد أسماء القيامة هو «يوم البعث» (الروم/ 56)، أو «يوم يُبعثون» وجاء هذا التعبير في ست آيات من القرآن «1».
وهذا التعبير تكرر ذكره كثيراً حتى في أسئلة المشركين التي كانوا يسألونها من النبي الأكرم مثل: «ءَاذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» «2». (الصافات/ 16)
«البعث»: له مفهوم واسع في اللغة، فقد حمله البعض على أنّه بمعنى «الارسال» والبعض الآخر على أنّه بمعنى «الايصال»، وفّسره آخرون، ب «النشر» ولكن يظهر من موارد استعماله المختلفة أنّ له مفهوماً واحداً، إلّاأنّه يتغيّر تبعاً لمورد استعماله بما يناسبه، كارسال النبي صلى الله عليه و آله لابلاغ الرسالة، وبعث الجيش للجهاد، أو الإنسان النائم لأداء وظيفته، أو نشر الأموات للحساب، أو ارسال الحيوان للحركة «3».
والسبب في اطلاق هذا التعبير على القيامة للمناسبة الموجودة بين البعث وابتداء الحركة في الأموات الذين يخرجهم اللَّه من القبور، ومن ثم يبعثهم للحساب نحو محاكم القيامة، وبعدها نحو الجنّة أو النار، فكلّ واحد من هذه المراحل هو مصداق «للبعث».
ويلاحظ أنّ هناك تعبير آخر في آيات القرآن يقارب في
افُقِه مادة «البعث» وهو مادة «بَعْثَرة» (على وزن مَنْقَبَة).
ولم يأتِ هذا التعبير في القرآن إلّافي آيتين، الموضع الأول: «وَاذا القُبُورُ بُعْثِرَتْ». (الانفطار/ 4)
وفي الموضع الآخر هو الآية: «أَفَلَا يَعْلَمُ اذَا بُعثِرَ مَافِى القُبُورِ». (العاديات/ 9)
وبالرغم من أنّ ارباب اللغة فسّروا مادة «بعثرة» بالتقليب والنشر، لكنّ الراغب في المفردات احتمل أن تكون هذه الكلمة مركبة من كلمتي «بعث» واثيرت»، فتكون الاولى
__________________________________________________
(1) الأعراف، 14؛ الحجر، 16؛ المؤمنون، 100؛ الشعراء، 86؛ الصافات، 144؛ ص، 79.
(2) جاء هذا المعنى في الآيات التالية: الاسراء، 49 و 98؛ المؤمنون، 83؛ الواقعة، 47؛ الانعام، 29؛ المؤمنون، 37.
(3) المفردات للراغب؛ ومقاييس اللغة؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 26
بمعنى الانهاض، والثانية بمعنى النشر، ولذلك اشتملت هذه الكلمة «بعثرة» على المعنيين.
أمّا «البيضاوي» فإنّه نقل هذا المطلب بتعبير آخر وهو أنّ «بعثرة» مركبة من «بعث» و «رأى في «اثارة» «1».
لقد ورد تعبير آخر عن القيامة في آيات عديدة من القرآن المجيد وهو «الحشر» كما جاء في آية بحثنا: «وَانَّ ربَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ انّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ».
«حكمته»: توجب أن لا ينتهي كل شي ء بموت الإنسان، وإلّا فإنّ الحياة الدنيا والنوم والأكل والشرب واللّبس لا قيمة لها حتى تكون الهدف من خلق الإنسان الرفيع المستوى ويكون الهدف من خلق هذا العالم الوسيع، «علمه» أيضاً يكون رافعاً للعقبات في أمر معاد العباد وحشرهم ونشرهم وحسابهم (جمع ذرات أبدانهم المنتشرة في التراب وكذلك جمع أعمالهم وأقوالهم)، وذلك لأنّه عالم بكل شي ء وقد أحصى كل شي ء.
التعبير ب «الحشر» عن القيامة استخدم فيما يقارب 30 مرّة في آيات القرآن المجيد وفي سورٍ مختلفة، وهذا المقدار من الاستعمال هو دليل على أهميّة الحشر في
القرآن.
«الحشر» في اللغة- نقلًا عن «مقاييس اللغة»- بمعنى الجمع المقارن للسَوق والقوْد، ويطلق أحياناً على كل جمع أيضاً، وعن «مفردات الراغب» بمعنى اخراج مجموعة من مقرّهم لساحة الحرب أو ما شابه ذلك، ولذا جاء في الروايات: «النّساءُ لا يُحشَرْنَ» أي لا يُسَقْنَ نحو سوح القتال.
وجاء في «التحقيق» إن مادة «حشر» تحمل في طياتها ثلاثة معانٍ: «البعث» و «السَوق» و «الجمع».
فحشرات الأرض تعني الدواب الصغيرة وسُميت بذلك لكثرتها وتحركها ولكونها منبوذة.
__________________________________________________
(1) تفسير البيضاوي ذيل الآية 4 من سورة الانفطار.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 27
واستُخدم هذا التعبير للمعاد ويوم القيامة لأنّ جميع البشر الذين عاشوا على مرّ التاريخ الإنساني سوف يجمعون في ذلك اليوم في مكانٍ واحد، ويساقون للحساب نحو محكمة العدل الإلهي، ثم يساقون نحو الجنّة أو النار.
علاوةً على هذا فإنّ ذرات بدن كل إنسان والتي انتشرت في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية وحتى التي انتشرت أحياناً في البحر والفضاء فإنّها سوف تجمع في ذلك اليوم بأمر اللَّه، وتعاد الروح إليها، ولايقتصر الأمر على جمع الذرات فقط بل يشمل جمع الأعمال أيضاً، وعلى هذا فإنّ يوم القيامة هو يوم الجمع والحشر في ابعادٍ مختلفة.
بل يستفادُ أيضاً من الروايات الإسلامية أنّ الأمر لايختص بأهل الأرض فقط بل يجتمع معهم في هذا الأمر سكان السماوات أيضاً ولهذا السبب جاء في تفسير «يوم التلاق» الذي هو أحد اسماء القيامة الوارد في سورة غافر الآية 15 عن الإمام الصادق عليه السلام: «يوم يلتقي أهلُ السماء واهلُ الأرض» «1».
«النشر»: أو «النشور» هو تعبير آخر ليوم القيامة ورد في القرآن المجيد في آياتٍ متعددة، يُبيّن بُعداً آخراً من أبعاد حياة الإنسان بعد الموت، كما تشير إلى ذلك الآية
الخامسة من آيات بحثنا هذا: «وَاللَّهُ الَّذِى ارْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ». (فاطر/ 9)
«النشر»: و «النشور» في الأصل- على ماقاله الراغب في المفردات- بمعنى التوسيع والبسط، كما هو المستعمل في بسط القماش وصفحات الورق والغمام والنِّعَم في تعبيرات الأحاديث.
ورد في «مقاييس اللغة»: النشر في الأصل «يدل على فتح شي ء وانتشاره».
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار، ج 7، ص 59، ح 5.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 28
ومن أجل هذا اطلق لفظ «النشر» على انتشار العطور الطيبة في الهواء.
واطلِق هذا التعبير على المعاد إما لِأجل انتشار البشر في نقاط مختلفة في محشرهم، كما اشير إلى ذلك في الآية المذكورة، أو لأجل انتشار كتب الأعمال، كما جاء في قوله تعالى «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ». (التكوير/ 10)
وقد جاء في بعض الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أراد اللَّه عزّ وجلّ أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحاً فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم» «1».
وبذلك تنشق الأرض ويخرج الموتى من تحت التراب (وكأن الأرض بمثابة الرحم لهم).
ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصاً سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «كيف يحيي اللَّه الموتى؟ فقال ما مضمونه: هل مررت على أرضٍ يابسة لاماء فيها ولا كلأ، ثم مررت عليها مرّة أخرى وهي مخضرة؟ فقال السائل: نعم يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال صلى الله عليه و آله: هكذا يُحيي اللَّه الموتى أو قال «هكذا الحشر» «2».
عبّرت مجموعة اخرى من الآيات عن يوم القيامة ب «العود» ورجوع البشر، والمراد هنا هو العود إلى الحياة مرّة اخرى كما جاء في الآية السادسة من آيات بحثنا: «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ».
وسنرى بإذن اللَّه- من
خلال البحث عن أدلة المعاد أنّ هذه الجملة أقصر وبنفس الوقت أوضح دليل على إمكان المعاد، إذ تجعل امكان الخلق ابتداءً دليلًا على إمكان الخلق مرّة أُخرى
__________________________________________________
(1) تفسير روح البيان، ج 7، ص 323 (باختصار)؛ وبحار الأنوار، ج 7، ص 33.
(2) تفسير روح البيان، ج 7، ص 323.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 29
ومن الملفت للنظر أنّ التعبير ب «العود» جاء على لسان المشركين وجاحدي المعاد أيضاً:
«فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَّرةٍ». (الاسراء/ 51)
والتعبير ب «المعاد» اخِذَ من هنا أيضاً، بالطبع أنّ هذا التعبير دليل واضح على مسألة المعاد الجسماني، وذلك لأنّ الروح لا معاد لها، بل إنّها تحافظ على بقائها حتى ما بعد الموت، والذي يعاد في يوم القيامة هي الحياة الجسمانية للجسم، حيث تحل الروح بالجسم ثانية.
والنقطة المهمّة التي تجب الإشارة إليها هي أنّ التشبيه هنا طبقاً للتفسير الوارد في آية بحثنا هذه هو تشبيه لأصل العود إلى الحياة (أتى بهذا التفسير المرحوم الطبرسي في أول كلامه عن هذه الآية، وورد هذا التفسير في روح البيان أيضاً).
ولكن عدداً من المفسرين من بينهم الفخر الرازي في «التفسير الكبير» والعلّامة الطباطبائي في «الميزان» وصاحب المنار في تفسيره وآخرون قالوا: إنّ التشبيه هنا بالنحو التالي، وهو أنّ اللَّه خلق الناس في البداية على فريقين: فريق مؤمن وفريق كافر (انتخب فريق طريق الهداية تحت ظل هداية الأنبياء، وانتخب الآخر طريق الضلالة تحت تأثير وساوس الشيطان) وفي يوم القيامة أيضاً يحشرهُم على شكل فريقين: فريق مؤمن سعيد وفريق كافر شقي مستشهدين بالآية التالية: «فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ».
(الاعراف/ 30)
والأعجب من ذلك هو أنّ الفخر الرازي جعل هذه الآية دليلًا على الجبر
في السعادة والشقاء الذاتيين!
بينما لو دقّقنا النظر في آيات القرآن الأخرى المشابهة لهذه الآية لوجدنا أنّ التشبيه إنّما هو في مسألة الهداية بعد الموت لا في الهداية والضلالة الحاصلين في الدنيا، جاء في قوله تعالى «اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِليهِ تُرْجَعُونَ». (الروم/ 11)
وفي الآية (27) من نفس السورة قال تعالى «وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ». (الروم/ 27)
وهناك آيات اخرى أيضاً تُعطي نفس هذا المعنى (سورة يونس/ 4، النمل/ 64، العنكبوت/ 19).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 30
ومن الممكن أن يقال هنا أن تفسير الآية بمسألة السعادة والشقاء هو الوارد في التفسير المنقول عن علي بن إبراهيم عن أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام حيث قال: «خَلَقَهُمْ حِينَ خَلَقَهُمْ مؤمناً وكافراً وسعيداً وشقياً وكذلك يعودون يومَ القيامة مُهتدياً وضالًا ...» «1».
ولكن لا شك في كون هذا الحديث من المتشابه، وراوية «أبوالجارود» وهو «زياد بن المنذر» وهو مذموم بشدّة في كتب الرجال حتى أنّ البعض اطلقوا عليه اسم «سَرْحُوب» وهو أحد أسماء الشيطان وفي بعض الروايات عُدَّ كذاباً وكافراً، وينسبون إليه تأسيس الفرقة «الجارودية» المنحرفة وهي (فرقة من الزيدية).
وعلى هذا فالتفسير الأول هو الصحيح.
التعبير الآخر الذي ورد في آيات متعددة من القرآن الكريم والذي أشار إلى يوم القيامة و البحث، هو تعبير «لقاء اللَّه» و «لقاء الرب»، حيث نلاحظ هذا في الآية السابعة التي وردت في بحثنا هذا.
حيث قال تعالى: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ» «2».
والتعبير ب «لقاء اللَّه» و «لقاء الرب» الذي تكرر ذكره في آيات القرآن له معنىً عميق جدّاً، رغم أنّ عدداً من المفسرين قد مرّوا عليه مرور الكرام.
فقالوا حيناً: إنّ المراد من
«لقاء اللَّه» ملاقاة ملائكة اللَّه في يوم القيامة، وقالوا حيناً آخر:
إنّ المراد هو تلقي حسابه وجزاءه وثوابه.
وقالوا حيناً ثالثاً: إنّه بمعنى ملاقاة حكمه وأمره.
وعلى هذا الترتيب فإنّ كل واحد منهم جاء بكلمة لتقدير المعنى مع أننا نعلم بأنّ التقدير
__________________________________________________
(1) تفسير القمي، ج 1، ص 226؛ وتفسير نور الثقلين، ج 2، ص 18.
(2) جاء هذا التعبير أيضاً في آيات اخرى مثل: الانعام، 31 و 145؛ يونس، 7 و 11 و 15؛ الرعد، 2؛ الكهف، 105 و 110؛ الفرقان، 21؛ العنكبوت، 5 و 23؛ الروم، 8؛ السجدة، 23؛ فصلت، 54؛ السجدة، 10 و 20.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 31
خلاف الأصل وما لم يتوفر الدليل على التقدير فلا يجب الأخذ به.
وبناءً على هذه الحقيقة نعود إلى التفسير الأول، فممّا لا شك فيه أنّ ملاقاة الربّ ليست حسيّة، وذلك لأنّ الملاقاة الحسيّة تصدق في موارد الجسم الذي له مكان وزمان ولون وكيفيات اخرى على نحوٍ يمكن مشاهدتها بواسطة العين.
بل المراد هو المشاهدة الباطنية والملاقاة الروحية والمعنوية مع اللَّه، وذلك لأنّ الحُجُب تُرفع يوم القيامة، وتظهر آيات اللَّه في المحشر وجميع مشاهد ومواقف القيامة بنحوٍ يجعل الكافرين أيضاً يشاهدون اللَّه ويلاقونه ببصائر القلوب! (وإن كانت تلك اللقاءات متفاوتة كيفياً).
يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان: «ينبى ء أنّه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير فهو أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربّما يعبر عنه بالعلم وهذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أنّ اللَّه هو الحق المبين، كما أشار إلى ذلك الآية الكريمة: «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ»» «1». (النور/ 25)
وفي حديث طويل أتى رجل إلى الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام وقال: حصل لي شك في القرآن المجيد!
قال له الإمام عليه السلام: «ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب اللَّه المنزل؟».
قال الرجل: إني وجدت الكتاب يكذِّبُ بعضهُ بعضاً ... ثم قال بعد طرحه عدَّة إشكالات:
يقول القرآن الكريم: «وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرةٌ»، ويقول في موضع آخر:
«لَّاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ»، فقال له الإمام عليه السلام: «اللقاء هنا ليس بالرُّؤية، بل اللِّقاءُ هنا بمعنى البعث فافهَمْ جميع ما في كتاب اللَّه من لقائهِ فانَّهُ يَعني بذلك البعث» «2».
وفي الحقيقة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يفسّر مسألة لقاء اللَّه تعالى بشي ء يكون اللَّه تعالى من
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 15، ص 95 و ج 10، ص 69.
(2) توحيد الصدوق، ص 267 (مع التلخيص).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 32
لوازمه، أجل، فيوم القيامة يوم زوال الحجب وظهور آيات الحق جلّ وعلا، وتجلّيه للقلوب، ومن تعبير الإمام هذا، يدرك كل شخص ما المقصود منه كلٌ حسب استعداده واختلاف مستواه، وكما قلنا سابقاً إنّ الشهود الباطني لأولياء اللَّه يوم القيامة يختلف كثيراً عن شهود الأفراد العاديين.
وأخيراً، ورد تعبيرٌ آخر بصورة واسعة (عشرات المرات) في الآيات القرآنية لوصف القيامة، وهو عبارة «الرجوع إلى اللَّه» أو عبارة «العود إلى اللَّه» ومشتقاتها ومن ضمنها الآية الأخيرة من آيات بحثنا، قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ».
التعبير بالرجوع والعود- كما قلنا- تكرر ذكره في الآيات فقد ورد أحياناً: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً». (المائدة/ 48)
وأحياناً خاطب به النفس المطمئنة والروح المتكاملة حيث قال تعالى «ارْجِعى إِلَى رَبِّكِ». (الفجر/ 28)
وأحياناً لبيان قدرة اللَّه يقول: «انَّهُ
عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ». (الطارق/ 8)
وأحياناً يقول نقلًا عن لسان المؤمنين: «إِنَّا للَّهِ وإِنَّا إِلَيْه رَاجِعُون». (البقرة/ 156)
ويقول أحياناً: «إِنَّ الَى رَبِّكَ الرُّجْعَى . (العلق/ 8)
هذه التعبيرات التي لها نظائر كثيرة في القرآن المجيد تُشير إلى أنّ القيامة والحشر في نظر القرآن هي نوع من الرجوع، ويتّضح من مفهوم تلك الكلمة أنّ الشي ء الذي يأتي من نقطةٍ ما، يعود إلى تلك النقطة.
وهناك سؤال يطرح نفسه وهو كيف ينطبق هذا المعنى على يوم القيامة؟ وبأيّ نحوٍ أتينا من عند اللَّه وكيف نرجع إليه؟!
للجواب عن هذا السؤال قدّر بعض المفسرين كلمة في الآية وقالوا: إنّ التقدير هو «إلى
نفحات القرآن، ج 5، ص: 33
حُكمه ترجعون» كما يقال أحياناً: «رَجَع امرُ القوم إلى الأمير».
ولكن هل من الصحيح أن نعتبر حذف مثل هذه الكلمة في جميع الآيات؟ وما هو الداعي أساساً للتقدير والقول بالحذف؟، بل إنّ هناك سبب خاص لهذا التعبير القرآني حتماً والذي يجب علينا البحث عنه من خلال سعينا المتواصل، ومن أجل الحصول على جواب لهذا السؤال علينا أن نعود إلى بداية خلق الإنسان.
خاطب تعالى الملائكة في القرآن بقوله: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِديِنَ». (الحجر/ 29)
ممّا لا شك فيه أنّه لا يُقصَد من الروح في الآية الروح التي انفصلت عن ذاته تعالى وذلك لأنّه واجب الوجود وأنّه بسيط وفاقد للأجزاء التركيبية في جميع الأبعاد، بل المقصود هو نفخ روحٍ منفصلة عن روح عظيمة، والتي هي من أشرف مخلوقات اللَّه، (وباصطلاح الحكماء إنّ هذه الإضافة هي «إضافة تشريفية»).
وعلى هذا فإنّ روح الإنسان الرفيعة سيقت من العالم العِلوي إلى العالم الترابي واتحدت بهذا التراب المظلم، كي ترقى إلى درجات الكمال ثم تنفصل عن التراب وتعود إلى
العالم العِلوي ثانية.
ومن الصحيح أنّ الجسم والروح كلاهما يعادان في يوم القيامة طبقاً لمبنى المعاد الجسماني، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الروح هناك لا تعود إلى الجسم بل الجسم هو الذي يعود إليها فيرتقي ويتكامل! ولذلك فإنّ الجسم الاخروي يخلو من النواقص والعاهات الجسمية التي حلت به في الدنيا، فتلف وفساد الأبدان والكهولة وقابلية الفناء والألم والمرض والتعب كلها تزول في ذلك اليوم (فتأمل).
ولتصوير مسألة حلول الروح في البدن ومن ثم العودة إلى العالم العِلوي فقد شبه بعض العلماء روح الإنسان بالغوّاص الذي يربط في رجله جسم ثقيل للغوص في أعماق البحر لاستخراج الجواهر الثمينة، فإنّه عندما يصل إلى قعر البحر ويجمع الجواهر يُلقي بذلك الجسم الثقيل من أجل العود إلى سطح البحر، وهذا هو معنى «الرجوع» (فتأمل).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 34
وخلاصة البحث أنّ يوم الحساب له مراحل ومواقف عبّر القرآن المجيد عن كلٍ منها بتعبير خاص.
فأولًا: جرى البحث عن «قيام الساعة» وتحولات العالم.
ثم يصل البحث إلى مرحلة «احياء الموتى .
بعد ذلك يبعثهم اللَّه وتبدأ مرحلة «البعث».
ثم يجمعهم، وهذه هي مرحلة «الحشر» وبعد ذلك يفرّقهم وهذه هي مرحلة «النشر».
ثم يعيدهم إليه وهذه هي مرحلة «المعاد».
ثم يسوقهم إلى لقائه وهذه هي مرحلة «لقاء اللَّه».
وأخيراً يتجهون نحو ذلك الوجود الّلامتناهي والكمال المطلق وهذه مرحلة «الرجوع» إلى الرّب.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 35
نفحات القرآن، ج 5، ص: 37
بعد أن تعرضنا للتعبيرات العامة التي أوردناها في البحث الماضي نلاحظ أنّ القرآن انتخب «للمعاد» اسماءً كثيرةً تشير جميعها إلى جزئيات أوصاف ذلك اليوم العظيم، والمسألة الملفتة للنظر هي أنّ القرآن المجيد لا يعبّر عن القيامة بتعبير واحد وذلك بسبب ما يظهر في يوم القيامة من حوادث مختلفة ومتنوعة كثيرة، وكل واحد من تلك الأحداث تمثّل وجهاً وبعداً من أبعاد ذلك اليوم.
إنّ القرآن ومن أجل توضيح هذه الخصائص والمميزات، ذات الآثار التربوية العميقة استخدم أسماءً متنوعة؛ وذلك لإعطاء صورة دقيقة من خلال الآيات لذلك اليوم العظيم والأحداث المهيبة جدّاً.
ولا شك أنّ المقصود من «الاسم» هنا ليس هو «الاسم العَلَم الشخصي» بل ما هو أوسع معنىً والذي يشمل «الأسماء الوصفية» أيضاً، أي العناوين التي تعبّر عن صفات ذلك اليوم ومميزات تلك الحياة.
بعد هذه الإشارة نذهب لنتعرف على أسماء القيامة في القرآن، ونودّ أن نذكّر القّراء الكرام ثانيةً بهذه المسألة وهي أنّ التعمّق في هذه الأسماء له آثار تربوية عميقة وله تأثير كبير في تهذيب النفوس وإصلاح القلوب والدعوة إلى التقوى والردع عن ارتكاب السيئات في الصحوة والغفلة.
قال المرحوم «الفيض الكاشاني» في «المحجّة البيضاء»: «... تحت كل اسم من أسماء القيامة سرّ، وفي كلّ نعتٍ من نعوتها معنى، فاحرص على معرفة معانيها، ونحن الآن نجمع
نفحات القرآن، ج 5، ص: 38
لك أساميها ...». ثم ذكر مائة اسم ليوم القيامة «1».
ولم يأت ذكر هذه الأسماء جميعها في القرآن المجيد، بل استُخرجَ قسم منها من الأحاديث الشريفة، لذلك فهي خارجة
عن بحثنا التفسيري، ونحن لا نتابع فعلًا إلّااسماء القيامةالواردة في القرآن. هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر فإنّ الأسماء التي ذكرها الفيض الكاشاني لم ترد لا في صريح القرآن ولا في صريح الأحاديث، بل هي استنباطات إجمالية من الكتاب والسنّة، لذا من الأفضل متابعة الأسماء التي صُرِّح بها في القرآن المجيد (وليس المهم أن تكون تلك الأسماء من الأسماء الخاصة التي لها عدد محدّد أو ممّا يقصد بها الوصف والبيان لخصوصيات ذلك اليوم).
ويمكن تقسيم تلك الأسماء إلى ثلاثة أقسام:
الأسماء المركبة من كلمة «يوم» باضافة كلمة اخرى وهذه الاسماء تبيّن أحد أبعاد أو خصوصيات ذلك اليوم، وهي عبارة عن:
هذا الاسم هو من أشهر أسماء ذلك اليوم، وقد تكرر ذكره بالتحديد سبعين مرّة في القرآن المجيد، فمنها قوله تعالى: «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَومِ الْقِيَامَةِ». (الأنبياء/ 47)
وللجواب عن سبب تسميِتِه بيوم القيامة فالقرآن نفسه يميط اللثام عن هذا السر فيقول: لأنّ ذلك اليوم هو: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ». (المطففين/ 6)
وهو يومٌ يقوم فيه أشرف ملائكة اللَّه الذي يسمى «الروح» مع سائر الملائكة، وفيه أيضاً
__________________________________________________
(1) المحجّة البيضاء، ج 8، ص 331.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 39
يقوم الشهود للشهادة على أعمال الناس: «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشهَادُ». (غافر/ 51)
وأخيراً في ذلك اليوم يقوم الحساب: «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ». (إبراهيم/ 41)
إنّ هذا الأمر من الامور المتَّبعة في المحاكم، فعند اعلان رأي المحكمة يقوم جميع الحاضرين من القضاة والمتهمين وغيرهم ثم يُعلَن الرأي النهائي، فهذا القيام لأجل احترام رأي المحكمة والخضوع أمامه.
وفضلًا عن هذا الأمر فإنّ الإنسان إذا أراد أن ينجز عملًا جاداً فإنّه يقوم حتى يتهياً لإنجازه، لذلك فإنّ مسألة «القيام» تدل على الإرادة الصلبة والتهيؤ والاحترام لانجاز مثل هذا العمل، ومن المحتمل إن تكرار كلمة «القيامة في القرآن المجيد هو لهذه العلّة».
بالإضافة إلى ذلك فإنّ قيام الموتى وخروجهم من القبور من أحد أسباب تلك التسمية.
جاء في حديث عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: «أشدُّ ساعات ابن آدم ثلاثُ ساعات:
الساعة التي يُعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقومُ فيها من قبره، والساعةُ التي يقفُ فيها بين يدي اللَّه تبارك وتعالى «1».
اليوم الآخر هو الاسم الثاني، وهو مشهور ومعروف وورد بشكل واسع في القرآن المجيد مثل: «الدار الآخرة» و «اليوم الآخر» وجاء باختصار مثل «الآخرة» وقد تكرر ذكر هذه الأسماء مائة وأربعين مرّة في القرآن المجيد وفي سورٍ
مختلفة.
ورد في توضيح معنى البرّ، قوله تعالى «وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِييِنَ». (البقرة/ 177)
وفي عبارة اخرى قال تعالى «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَايُرِيدُونَ عُلُوّاً فى الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً». (القصص/ 83)
__________________________________________________
(1) بحارالانوار، ج 7، ص 105، ح 19.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 40
وفي تعبير آخر أيضاً قال تعالى: «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون». (البقرة/ 4)
أمّا التعبير ب «اليوم الآخر» أو «الدارُ الآخرة» أو «الآخرة» فيقع مقابل التعبير عن دار الدنيا ب «النشأة الاولى كما جاء في قوله تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ».
(الواقعة/ 62)
وفي آية أخرى أيضاً: «وَلَلْآخِرَةُ خَيرٌ لَّكَ مِنَ الْاولَى . (الضحى/ 4)
قال فقهاء اللغة: إنّ «الآخِر» هو ما يقابل الاوّل، و «الآخَر» هو ما يقابل «الواحد».
قال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: سمّيت الآخرة بذلك لكونها بعد الدنيا، والدنيا من أجل دنوِّها من الناس سميت بالدنيا (من مادة دُنُو) وقال آخرون من أجل دنائتها وضعتها بالنسبة للآخرة «1».
وجاء في تفسير روح البيان وتفسير الفخر الرازي أيضاً ما يشابه ذلك «2».
وهذا التعبير يبيّن هذه الحقيقة، وهي أن مسير تكامل الإنسان يبدأ من هذا العالم ويستمر، وأنّ العالم الآخر هو نهاية هذا المسير، فالدنيا هي بمثابة منزل استراحة في وسط ذلك الطريق، والآخرة هي المقرّ النهائي والأبدي.
وهذا هو تحذير لجميع البشر كي لا يعتبروا الدنيا منزلًا للخلود وكي لا تتعلق بها قلوبهم ولا يعتبرونها الهدف الرئيسي ولا يبذلوا قصارى جهدهم للحصول على نعيمها، بل ليجعلوها ممرّاً للوصول إلى دار الآخرة.
«يوم الحساب»: أيضاً من الاسماء المشهورة للقيامة، وقد ورد في خمس آيات من القرآن الكريم، والسبب في هذه التسمية هو أنّ جميع أعمال الإنسان صغيرها أو كبيرها،
__________________________________________________
(1)
تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 40.
(2) تفسير روح البيان، ج 1، ص 41؛ وتفسير الكبير، ج 2، ص 32.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 41
جزئية أو كلية، معنوية أو مادية، من أعمال الجوارح أو الجوانح، يشملها الحساب بدون استثناء في ذلك اليوم.
جاء في قوله تعالى على لسان موسى بن عمران عليه السلام: «وَقَالَ مُوسَى انِّى عُذتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّايُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ». (غافر/ 27)
وعبّر عن ذلك تارةً ب «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ». (إبراهيم/ 41)
ورد في مقاييس اللغة أربعة معان لمادة «حساب»: «العدُّ» و «الاكتفاء» و «الحسبان» بمعنى الوسادة الصغيرة و «احْسَب» أي الذي ابيضّ لون بشرته وسقط شعر رأسه إثرَ المرض.
وذكر عدد من أصحاب اللغة معانيَ أكثر للحساب، وقد بلغت سبعة معانٍ، منها الجزاء والعذاب «1».
ولكن الظاهر على ما يفهم إجمالًا من مفردات الراغب إنّ جميع تلك المعاني المذكورة تعود إلى معنىً واحد وهو المحاسبة، وإن استُعمل بمعنى الاكتفاء فهو يعني أنّ هناك محاسبة وصلت إلى حد الاكتفاء، وهكذا في الجزاء فإنّه يعني أنّ الجزاء يأتي بعد الحساب، والمعاني الاخرى أيضاً تعود إلى هذا المعنى بنحوٍ ما (فمثلًا، السبب في اطلاقه على نوع من الأمراض الجلدية هو تشبيهه بالمجازاة الإلهيّة التي تتم بعد الحساب، ومن المحتمل أنّ اطلاق حسبان على الوسادة الصغيرة لأنّ المحاسبين عند انجاز عملية الحساب يتَّكئون عليها).
على أيّة حال فإنّ الحساب الإلهي- الذي سيأتي توضيح كيفيته بعون اللَّه في أبحاث منازل الآخرة- من أبرز الأعمال التي تمارس يوم القيامة، وفي الواقع أنّ قيام يوم القيامة إنّما هو لأجل الحساب.
__________________________________________________
(1) نهاية ابن الأثير؛ ولسان العرب.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 42
استعمل هذا الاسم أيضاً بشكل واسع في القرآن الكريم، وقد
بلغ عدد الآيات التي ورد فيها التعبير ب «يوم الدين» ثلاثة عشر آية، وأكثر ما يَرِدُ على الألسن هو ما جاء في سورة الحمد: «مَالِكِ يَومِ الدِّين».
يعتقد بعض أصحاب اللغة أنّ «دين في الأصل بمعنى الخضوع والطاعة والانقياد، وإذا اطلقت هذه الكلمة على معنى الجزاء فإنّه إمّا من أجل وجوب قبول الجزاء أو من أجل أنّ الجزاء من مخلفات الطاعة».
وفُسِّر يوم الدين أيضاً بمعنى يوم الحساب في بعض الروايات، وهو في الواقع من قبيل ذكر العلّة وارادة المعلول؛ وذلك لأنّ الحساب مقدمة للجزاء.
ورد هذا التعبير مرتين في القرآن المجيد، منها قال تعالى «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ». (التغابن/ 9)
وأخرى «لِتُنذِرَ امَّ القُرَى وَمَنْ حَولَهَا وتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ». (الشورى/ 7)
وكيف لايكون ذلك اليوم يوم الجمع حيث إنّ جميع الاولين والآخرين وجميع الجن والانس وحتى الملائكة المقربين يجمعون في ذلك اليوم، ولم يُجْمَعوا لوحدهم فحسب بل يجمعون مع جميع أعمالهم، فيتأهبون للمثول امام محكمة العدل الإلهي.
وقد ورد هذا الاسم بصورة اخرى «ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ». (هود/ 103)
«يوم الفصل» (يوم الافتراق) هو اسم آخر من اسماء يوم القيامة، وقد تكرر ذكر هذا
نفحات القرآن، ج 5، ص: 43
الاسم في القرآن المجيد ست مرات «1»، قال تعالى «انَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً». (النبأ/ 17)
إنّ هذا التعبير عميق جدّاً يدلّ على الافتراق في ذلك اليوم العظيم مثل: افتراق الحق عن الباطل وافتراق صفوف المؤمنين والصالحين عن صفوف الكفار والمجرمين وافتراق الأخ عن أخيه والام والأب عن الأبناء وافتراق مصير الصالحين عن مصير (الطالحين) الفاسقين.
ويأتي هذا التعبير تارةً بمعنى يوم القضاء والتحكيم؛ ذلك لأنّ القاضي يفصل النزاع بحكمه، لذا أُطلِقَ «الفصل» على الحكم والقضاء لأنّه السبب في نهاية النزاع.
جاء هذا التعبير في آية واحدة من القرآن المجيد في سورة ق الآية 42 وذلك من خلال الإشارة إلى نفخ الصور الثاني، قال تعالى «ذَلِكَ يَوْمُ الْخُروجِ». (ق/ 42)
نعم، إنّه يوم الخروج من الموت إلى الحياة ومن عالم البرزخ إلى عالم الآخرة ومن الباطن إلى الظاهر ومن الخفاء إلى العلن!
وجاء هذا المعنى بصورة اخرى قال تعالى «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» «2». (المعارج/ 43)
ويدلُّ هذا التعبير على أنّ أحداث يوم القيامة في أوّل الأمر تمرُّ بسرعة هائلة، وفي نفس الوقت استُعمل هذا التعبير للطعن والاستهزاء بعبدة الأوثان الذين يعتبرون الأوثان من أهم الامور في حياتهم، وقد استقطبت الأوثان أكثر أصحاب العقول الناقصة، فقد وصلوا إلى حدٍ
__________________________________________________
(1) الصافات، 21؛ الدخان، 40؛ المرسلات، 13 و 14، 38؛ النبأ، 17.
(2) «سراع» جمع «سريع» (على وزن ظِراف وظريف) بمعنى الشخص أو الشي الذي يسير بسرعة. و «نُصُب» جمع «نصيب» و «نُصب» «نَصْب» على وزن (كَسْب) في الأصل بمعنى الشي الذي ينصب في مكانٍ ما،
لذا لم يطلق إلّاعلى المحل الذي يُنْصب فيه. قالوا إن الفرق بين النصب والصنم هو أنّ الصنم له شكل معيّن لكن النصب حجر خالٍ من أي صورة، وكانوا يعظمونه ويذبحون له القرابين.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 44
من الجهل جعلهم يعتبرون الهرولة نحو الأصنام من اوضح مصاديق «الاسراع» في العبادة، إذ كانوا يعدون بسرعة نحو الأوثان في أيّام الفرح أو أيّام العزاء أو عند العودة من السفر ومن هنا يظهر السّر المكنون في هذه الآية.
ورد هذا التعبير مرّة واحدة في آية واحدة من القرآن أيضاً بصورة قَسَم عظيم حيث قال تعالى: «وَالْيَومِ الْمُوعُودِ»، (أى اليوم الذي هو موعد الجميع وقد وعد جميع الأنبياء بذلك).
(البروج/ 2)
وفسَّر بعض المفسرين اليوم الموعود على انَّه إشارة ليوم الخروج من القبور أو اليوم الذي يشفع فيه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكن المعنى الأول يشمل جميع هذه المعاني «1».
وورود هذا القَسَم في القرآن المجيد بعد القسم: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ»، هو إشارة إلى عظمة ذلك اليوم وأنّ عظمته كعظمة السماء، أو إشارة إلى أن خلق هذه السماء العظيمة وذلك النظام الدقيق المهيمن عليها لا يتمّ إلّامن أجل ذلك اليوم الموعود؛ ذلك لأنّ هذه الدنيا الفانية لوحدها لا تستحق مثل هذا النظام العظيم المترامي الأطراف.
ومهما يكن من أمر فقد ورد تعبير آخر يشابه هذا التعبير، قال تعالى «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ» «2». (الزخرف/ 83)
لم يرد هذا التعبير في آيات القرآن إلّامرّة واحدة في قوله تعالى: «أُدخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 30، ص 86.
(2) ورد ما يشابه هذا التعبير في الآية 43 من سورة المعارج؛ والآية 60 من سورة الذاريات أيضاً.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 45
يَوْمُ الْخُلُودِ». (ق/ 34)
ورد هذا التعبير بعد وصف «الجنّة» في آيات سورة ق، وإن دلّ على شي ء فإنّه يدلّ على خلود ودوام تلك النعمة الإلهيّة والمكافأة العظيمة وجميع نعمه تعالى التي وهبها للمحسنين إلى الأبد، وفي الحقيقة إنَّ يوم الخلود يبدأ من وقت الدخول إلى الجنّة.
وهذا التعبير يؤيد بوضوح ما قلناه مسبقاً وهو أنّ كلَّ واحد من أسماء وصفات القيامة يحمل في طياته إشارة إلى أحد أبعادها، والكلام هنا
عن الدوام الأبدي، ومن الطبيعي أنّ عذاب جهنم كذلك ولكن لم يعبّر القرآن ب «يوم الخلود» إلّافي هذا المورد، أمّا بشأن جهنم فيوجد تعبير مشابه آخر وهو «دار الخلد» قال تعالى «ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ». (فصلت/ 28)
ورد اطلاق وصف اليوم العظيم في آيات متعددة من القرآن المجيد، منها: قوله تعالى
«فوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَروُا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «1». (مريم/ 37)
ومن الجدير بالذكر أنّ التعبير ب «عذاب يوم عظيم» جاء أيضاً في آيات القرآن في موارد العذاب الدنيوي المهيب، وبمجرد البحث في الآيات السابقة واللاحقة يمكن تمييزه عن عذاب يوم القيامة بسهولة.
على أيّة حال فإنّ نعت ذلك اليوم بالعظمة انّما جاء لأمورٍ مهمة كثيرة تحصل في ذلك اليوم العظيم مثل: المكافأة والمجازاة العظيمة، والقضاء والحساب العظيم، والحضور العظيم للمخلوقات في ذلك اليوم، وعظمة امتداد ذلك اليوم، وعظمة الخوف والرهبة والفزع، وهيبة المحشر والحساب، وفي عبارة مختصرة هي العظمة في جميع جوانبها.
__________________________________________________
(1) جاء أيضاً ما يشابه هذا التعبير في الآية 15، يونس؛ 15، الانعام؛ 59، الاعراف؛ 135، الشعراء؛ 21، الاحقاف؛ 13؛ الزمر؛ 5، المطففين.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 46
ورد هذا التعبير في آية واحدة من القرآن وهو من التعبيرات التي تهز المشاعر عن يوم القيامة، فهو يوم الحسرة والأسف والندامة، قال تعالى: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذ قُضِىَ الْأَمْرُ وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ». (مريم/ 39)
«الحسرة»: من مادة «حَسْر»، قال صاحب (المفردات) وصاحب (مقاييس اللغة) وعدد آخر من اللغويين: إنّها بمعنى الكشف، فمعنى حسرتُ عن الذراع كشفتُ عنها ورفعتُ عنها الكُم، ثم اطلقت كلمة حسرة على الغم والهم الحاصل من ضياع الفرص أو بعض الامور، فكأن حجاب الجهل يُرفع عن الإنسان فيكتشف اضرار الأعمال التي كان يمارسها وتظهر له الحقيقة على ما هي.
لكن البعض الآخر يعتبر الأصل في الحسر هو «الانسحاب»، ولكن الحقيقة أنّ الانسحاب من لوازم المعنى الأول، فعندما ينسحب ماء البحر إلى الخلف مثلًا فإنّ من الطبيعي أن
تظهر السواحل التي كان يغطيها الماء، أو عندما يسحب الإنسان كُمَّه إلى الخلف فإنّ ذراعه سوف تنكشف «1».
على أيّة حال فإنّ الحزن والأسف والندامة من لوازم مفهومه، وأنّ يوم القيامة هو يوم الهم والندامة والحسرة حقاً، لا للمذنبين فحسب بل للمحسنين أيضاً؛ ذلك لأنّهم عندما يشاهدون المكافآت الإلهيّة العظيمة فإنّهم يتأسفون على أنّهم لماذا لم يحسنوا أكثر ممّا احسنوا!؟
وقد صرّح بهذا عدد من المفسرين «2»، إلّاأنّ الفخر الرازي يقول: إنّ الحسرة لا تشمل أصحاب الجنّة بل تكون من نصيب المُسيئين فقط وذلك لعدم إمكان وجود أي غم أو هم في الجنّة «3».
__________________________________________________
(1) التحقيق، ج 2.
(2) تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 515؛ وتفسير روح البيان، ج 5، ص 335؛ وتفسير روح المعاني، ج 16، ص 85.
(3) تفسير الكبير، ج 21، ص 221.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 47
ولكن يجب الاعتراف بأنّ غماً كهذا هو نوع من الكمال وليس منبعاً للعذاب الروحي، وبناءً على هذا فإنّ وجوده في الجنّة لامانع منه (فتأمل).
فإن كان التأسف والحسرة ممّا ينجبر في هذه الدنيا فإنّه لا مجال لذلك هناك، ولذا يجب أن يسمى ذلك اليوم بيوم الحسرة الحقيقية والحسرة الكبرى وقد جاء نفس هذا المعنى ولكن بصورة اخرى «انْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنبِ اللَّهِ» «1».
(الزمر/ 56)
ورد هذا التعبير في القرآن مرّة واحدة وذلك في قوله تعالي: «يَومَ يَجْمَعُكُمْ لِيَومِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ الْتَّغَابُنِ». (التغابن/ 9)
«التغابن»: من مادة «غَبْن» وهنا جاءت بمعنى انكشاف الغبن، أي يظهر في ذلك اليوم من هو المغبون «2».
قال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: «وهو تفاعل من الغبن وهو أخذ شر وترك خير أو العكس، فالمؤمن ترك
حظه من الدنيا واخذ حظه من الآخرة فترك ما هو شرّ له وأخذ ما هو خير له فكان غابناً، والكافر ترك حظه من الآخرة وأخذ حظه من الدنيا فترك الخير وأخذ الشر فكان مغبوناً، فيظهر في ذلك اليوم الغابن والمغبون».
وفي صحاح اللغة «الغبن» بمعنى الخدعة والمكر، والمغبون من وقع ضحية الخداع والمكر، وعندما تستخدم في موارد التفكّر والتعقّل فإنها تعني الضعف وعدم الاقتدار، لذا «غبين» جاءت بمعنى ضعيف الفكر.
على أيّة حال ففي يوم القيامة يكشف عن الحُجب وتظهر نتائج الأعمال والاعتقادات
__________________________________________________
(1) ورد أيضاً ما يشابه هذا المعنى في سورة الانعام الآية 31.
(2) مفردات الراغب.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 48
والنيّات، ويرى الإنسان نفسه بين كميّة عظيمة من نتائج وآثار أعماله، وهناك يُخبَر المسيئون عن خسارتهم وفشلهم وعن خداع ومكر الشيطان وعن ضياع رأس مالٍ عظيم وعن فقدانهم للسعادة الخالدة والوقوع في مخاطب العذاب الإلهي، وهذا هو الغبن الحقيقي.
ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد عندما كان مؤمن آل فرعون يحذّر الفراعنة من العذاب الإلهي الذي يحلُّ بهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى «وَيَاقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ». (غافر/ 32)
«التناد»: جاء في الأصل من «التنادي» حذفت ياؤه واضيفت الكسرة في آخره للدلالة على حذف الياء، وهو من مادة «نداء».
ذهب كثير من المفسرين إلى أنّ «يوم التناد» من أسماء القيامة «1»، وجاء كل منهم بدليل لاثبات مدّعاه.
قال بعضهم: إنّ الدليل عليه هو أنّ أصحاب النار ينادون أصحاب الجنّة كما في الآية الكريمة: «وَنَادى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَليْنَا مِنْ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» فيجيبهم أهل الجنّة: «قَالُوا انَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ». (الاعراف/ 50)
نُقل هذا المعنى في
كتاب «معاني الأخبار» خلال حديث روي عن الإمام الصادق عليه السلام.
وقال آخرون: إنّ العلّة في هذه التسمية هي أنّ الناس في يوم الحشر ينادي بعضهم بعضاً يطلبون العون.
أو أنّ الملائكة تنادي الناس للحساب وينادي الناس الملائكة لطلب العون! أو لأنّ المؤمن عندما يرى صحيفة أعماله ينادي من شدة الفرح: «هَاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَه». (الحاقة/ 19)
وينادي الكافر عندما يُعطى كتابه بيده من شدّة الفزع: «يَالَيْتَنِى لَمْ اوْتَ كِتَابِيَه».
__________________________________________________
(1) ادّعى الفخر الرازي في تفسيره (الكبير ج 27، ص 61) الإجماع واتفاق المفسرين على هذا القول.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 49
(الحاقة/ 25)
وهنالك وجوه اخرى ذكرت لهذه التسمية، ففي بعض التفاسير عدّوها ثمانية وجوه، ولكن بعضَ تلك الوجوه ضعيفة، ومن الممكن أنّ جميع هذه المعاني قد جُمعت في مفهوم الآية وذلك لعدم المنافاة.
ورد هذا التعبير مرّة واحدة في القرآن المجيد في قوله تعالي: «يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ». (المؤمن/ 15)
المراد من لقاء الروح بقرينة الآيات الاخرى هو الوحي والكتب السماوية، كما جاء في خطابه تعالى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله في قرآن الكريم: «وَكَذلِكَ أَوْحَينَا الَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا».
(الشورى/ 52)
وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن المجيد روحٌ نُفختْ في المجتمع الإنساني من قبل اللَّه عزّوجلّ!
قال الراغب في المفردات: سُمي القرآن روحاً لأنّه هو السبب في إيجاد الحياة المعنوية.
والهدف من لقاء هذه الروح هو الانذار من هول يوم التلاقي العظيم.
إنّ كل أنواع اللقاءات التي جُمعت في مفهوم الآية تحصل في ذلك اليوم، وإن أشار المفسرون إلى بعض زوايا تلك اللقاءات.
إنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بربهم: «يَا ايُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ». (الانشقاق/ 6)
وهو اليوم الذي
يلتقي فيه الإنسان بملائكة الحساب والثواب والعقاب: «وَتَتَلقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ». (الأنبياء/ 103)
وهو اليوم الذي يلتقي فيه الإنسان بحساب الأعمال والأقوال: «إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ
نفحات القرآن، ج 5، ص: 50
حِسَابِيَهْ». (الحاقة/ 20)
إنّه اليوم الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون.
يوم تلاقي دعاة الحق ودعاة الباطل بأعوانهم.
يوم تلاقي الظالم والمظلوم.
يوم تلاقي أهل الجنّة وأهل النار!
نعم، إنّ الهدف الرئيس من بعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير وانذار العباد من ذلك اليوم، يوم التلاقي العظيم وما أعجبه من مفهوم واسع ورهيب.
وهذا الاسم أيضاً من الأسماء التي وردت مرّة واحدة في قوله تعالي: «إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوماً ثَقِيلًا». (الإنسان/ 27)
إنّ نعت ذلك اليوم بالثقيل هو وصف واسع وعميق المعنى ثقيل من حيث المحاسبة وثقيل من حيث المجازات وثقيل من حيث الفضائح وثقيل من حيث شدائد الحشر وثقل المسؤوليات وثقيل من حيث الذنوب التي تثقلُ كاهل المجرمين! وعبّر ب «يذرون وراءهم» مع أنّ القاعدة تقتضي أن يقال «أمامهم» وذلك من أجل الإشعار بأنّ المجرمين نسوا ذلك اليوم إلى حدٍ كأنّه تركوه وراءهم.
إنّ كل اسم من أسماء يوم القيامة يحمل في طياته خطاباً متميزاً، ومنها اسم «يوم الآزفة» الذي ورد مرّة واحدة في القرآن المجيد (التعبير ب «الازفة» ورد مرتين، ولكن «يوم الازفة» مرّة واحدة) قال تعالى «وَأَنْذِرهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ».
نفحات القرآن، ج 5، ص: 51
(المؤمن/ 18)
«الآزفة»: من مادة «ازَف» على وزن (صَدَف)، قال في مقاييس اللغة والمفردات ومصباح اللغة وكتب اخرى ازَف بمعنى اقترب، ولكن البعض الآخر قال إنّها بمعنى الاقتراب المشوب بضيق الوقت.
هذه التسمية تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ موعد وقوع القيامة اقرب ممّا يتصوره الناس، كي لا يقول الغافلون لدينا متّسع من الوقت وأنّ يوم القيامة موعد مؤجل! فإنّه يوم قريب تصل القلوب فيه إلى الحناجر من شدّة الخوف وتبلغ الروح الحلقوم، إنّ الهمّ المشوب بالخوف في ذلك اليوم يخنق الناس.
نعم يجب التأهب في كل لحظة لمثل هذا اليوم.
وقد أشار القرآن الكريم وبتعبير آخر إلى نفس هذا المعنى في الآية الاولى من سورة الأنبياء: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعِرضُونَ»، وهو إشارة إلى أنّ حساب يوم القيامة قريب جدّاً.
ولابدّ من الالتفات إلى أنّ
جملة (اقترب) فيها تأكيد للمعنى أكثر من (قرب) وهو إشارة إلى أنّ يوم الحساب قريب جدّاً.
فالقرآن الكريم- لقرب القيامة وحتمية وقوعها- أخبر عنها بصيغة الماضي في كثير من تعبيراته، مثل قوله تعالى «إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقرّاً وَمُقَاماً».
(الفرقان/ 65- 66)
وغيرها من الآيات الشريفة.
ورد هذا التعبير مرّتين في القرآن المجيد في الآية الاولى: «فَذَلِكَ يَؤْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ».
(المدثر/ 9)
وفي الآية الثانية: «وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً». (الفرقان/ 26)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 52
وورد هذا التعبير مرّة واحدة بلفظ «عَسِر» (على وزن خَشِن) قال تعالى «يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ» «1». (القمر/ 8)
من البديهي أن يكون ذلك اليوم منهِكاً ومؤلماً ومحزناً للكافرين، بنحوٍ ينهار فيه القوي منهم ويصبح عاجزاً ذليلًا منهك القوى
يقول الفخر الرازي في تفسيره: «عسرُ ذلك اليوم على الكافرين لأنّهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوَدّ وجوههم ويحشرون زرقاً وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الاشهاد» «2».
وهذه إحدى مراحل صعوبات المحشر، والمراحل الاخرى أصعب واكبر بلاءً من تلك المرحلة عندما يساقون إلى جهنم ثم يرون أنواع العذاب ويقعون في نار الغضب الإلهي، فذلك اليوم ليس بيسيرٍ حتى على المؤمنين، إنّ حساب جميع الأعمال حتى إذا كان بمثقال ذرّة والعبور من تلك المسالك الصعبة أمرٌ عسيرٌ جدّاً.
ورد هذا التعبير مرتين أيضاً في القرآن المجيد (وإن وردت كلمة «أليم» مجردةً عشرات المرات في وصف عذاب القيامة في سور مختلفة من القرآن الكريم).
إحداها في سورة هود نقلًا عن لسان النبي نوح عليه السلام عندما كان يخاطب قومه، قال تعالى:
«إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ». (هود/ 26)
والاخرى في سورة الزخرف عن لسان الوحي الإلهي: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ». (الزخرف/ 65)
إنّ وصف ذلك اليوم بالأليم ليس من حيث العذاب المؤلِم فحسب، بل علاوة على
__________________________________________________
(1) «عسير» و «عَسِر» كلاهما صفة مشبّهة.
(2) تفسير الكبير، ج 30، ص 197.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 53
هذا فإنّ ذلك اليوم هو مصدر الألم والعذاب من عدّة وجوه، من حيث
الفضيحة ومن حيث الندامة والحسرة القاتلة، ومن حيث أنواع الآلام الروحية الاخرى فمثلًا الإنسان الذي يرى الآخرين قد دخلوا الجنّة بواسطته في حين يجد نفسه من أهل النار، وأليم لعدم إمكان العودة ثانيةً وأليم لدوام العذاب في ذلك اليوم.
ومن الجدير بالذكر هو أنّ إحدى الآيتين السابقتين تحدثت عن المشركين والاخرى تحدثت عن الظالمين، ونحن نعلم بأنّ الشرك نوع من الظلم، وأنّ الظلم والاضطهاد أيضاً هو من دوافع الشرك على نوعيه الجليّ والخفيّ.
وردت هذه التسمية مرّة واحدة في القرآن المجيد بأجمعه حيث قال تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ». (ق/ 20)
ولا يخفى أنّ كلمة «وعيد» تكرر ذكرها في القرآن كثيراً، ولكن التعبير ب «يومُ الوعيد» لم يرد إلّافي مورد واحد.
كلمة «وعيد» اشتُقّت من مادة «وعد»، قال الراغب في المفردات: «وعد» تستعمل في موارد الخير والشر معاً، ولكن «وعيد» لا تستعمل إلّافي موارد الشر، ولذا فسّرَها «ابن منظور» في لسان العرب بالتهديد، وكلمة «ايعاد» جاءت بهذا المعنى أيضاً.
على أيّة حال فإنّ هذا التعبير إشارة عميقة إلى جميع أنواع عقوبات يوم القيامة، فهو إشارة إلى عقوبات المحشر وإلى محكمة العدل الإلهيّة وإلى عقوبات النار وجميع العقوبات الماديّة والمعنوية مثل الخزي أمام الناس والبعد عن فيض وقرب الرّب.
وللمفسرين أقوال في مسألة نفخ الصور التي وردت في هذه الآية، فهل هو نفخة الموت وانتهاء الحياة الدنيا، أم هي نفخة عودة الحياة وبداية الآخرة؟ ولكن جاء في الآية التالية لهذه الآية: «وَجَاءَت كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ». (ق/ 21)
وهذا دليل على أنّ المراد منها هو النفخ الثاني وهذا اليوم (يوم الوعيد) هو نفس ذلك
نفحات القرآن، ج 5، ص: 54
اليوم أيضاً «1».
ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد، وقد عُبّر به عن يوم القيامة، قال تعالى: «ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ». (النبأ/ 39)
نعم إنّها حقيقة لا تنكر، وحقيقةٌ تعطي مفهوماً لفلسفة خلق كل ما في الدنيا، ولولا ذلك اليوم لما بقي هدف ومفهوم لخلق هذا العالم.
إنّ الدنيا في الواقع ليست أكثر من سراب، وهي «مجاز» وليست «حقيقة»، بل هي فناءٌ لابقاء، وموتٌ لا حياة، نعم إنّ حقيقة المفهوم الرئيسي للحياة يتجلى في يوم القيامة «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوانُ». (العنكبوت/
64)
وأشار بعض المفسرين في تفسيرهم لحقانية ذلك اليوم إلى ثلاثة امور:
1- ذلك اليوم هو الحق وغيره باطل، وذلك لأنّ باطل أيّام الدنيا أكثر من حقها.
2- الحق بمعنى الوجود الثابت ولذا اطلقوا كلمة الحق على اللَّه تعالى لأنّهم قالوا باستحالة تصور الفناء له، ويوم القيامة كذلك أيضاً، وعلى هذا فإنّ القيامة حق.
3- إنّ ذلك اليوم يستحق اطلاق كلمة اليوم (بمعنى النهار) عليه وذلك لأنّ في ذلك اليوم المنير يُكشف عن الأسرار الخفية بينما تكون أحوال الخلق مجهولة ومكتومة في الدنيا (كما هو الحال في الليل) «2».
__________________________________________________
(1) رَجَّحَ هذا المعنى كثير من المفسرين مثل أبو الفتوح الرازي والعلّامة الطباطبائي والفخر الرازي والآلوسي في روح المعاني والمراغي في تفسيره عند تعليقه على تلك الآية.
(2) التفسير الكبير، ج 31، ص 25.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 55
ورد هذا الوصف مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد وذكر ذلك اليوم بعد ذكر عذاب الآخرة، قال تعالى: «وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ». (هود/ 103)
ولا يكون ذلك اليوم مشهوداً من قبل الأولين والآخرين فحسب، بل سوف تشاهد في ذلك اليوم الأعمال والحساب ومحكمة العدل الإلهي ومكافآت وعقوبات الأعمال أيضاً.
وعن المرحوم الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في الميزان أنّهم قالوا: إنّ هذه الآية تدل على أنّ الإنسان لايحضر لوحده ويشاهد ذلك اليوم بل إنّ الجن والملائكة أيضاً سوف يحضرون ويشهدون ذلك اليوم فإنّه يوم الجمع الشامل «1».
وقال القرطبي أيضاً إنّ سكان السموات يحضرون ويشهدون ذلك اليوم أيضاً.
ومن البديهي أنّ جميع الأيّام يمكن مشاهدتها، ولكن انتخاب هذا الوصف ليوم القيامة يقع تارةً من حيث الدلالة على حتمية وقوعه، واخرى للدلالة على أهميّة تلك الأحداث التي تقع في ذلك اليوم والحضور الشامل لسائر الخلق فيه.
ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن الكريم في جواب استفسار الكفّار عن الحياة ما بعد الموت، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْاوّلِينَ وَالْآخِرِينْ* لَمجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».
(الواقعة/ 49- 50)
إنّ العلم بذلك اليوم يمكن أن يكون له مفهومان:
1- «العلم التفصيلي» أي العلم بذلك اليوم وتاريخ وقوعه الدقيق، ونحن نعلم بأنّ هذا العلم يختصُ باللَّه تعالى، ولا أحد يعلم بذلك حتى الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، لكنّه ثابت ومقطوع به ومعلوم من جميع الجهات في علم اللَّه عزّ وجلّ.
2- «العلم الإجمالي» أي العلم بأنّنا سوف
نواجه جميعاً مثل هذا اليوم، فبما أنّ علمنا نابع من أعماق فطرتنا- كما سيأتي في الأبحاث اللاحقة إن شاءاللَّه- ومع وجود الدلائل المتعددة عن طريق العقل التي يمكن أن يحصل عليها العالم والعامي بالإجمال، وباضافة علم جميع الرسل والأنبياء، يكون ذلك اليوم يوماً معلوماً وحتمياً وضرورياً وإن لم يعلم
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 11، ص 7؛ وتفسير مجمع البيان، ج 5، ص 191 ورجّح «المراغي» هذا القول في تفسيره أيضاً.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 56
أحد تاريخه بالدقة.
وأكثر المفسرين رجحوا المعنى الأول، لكن الأكثرية أخذوا بالمعنى الثاني واستدلوا على شمولية هذا العلم بكلمة «قُل» وذلك لأنّ مفهومها يتضمن تبليغ هذا الأمر للجميع «1».
لكن يمكن الجمع بين التفسيرين في مفهوم الآية أيضاً.
إنّ الخطاب الذي يوجهه الينا تعبير (يوم معلوم) هو أن نكون صادقين في تعاملنا مع هذا اليوم وأن نتأهب للقائه، وأن نعلم علم اليقين بأنّ القيامة على أيّة حال واقعة بجميع آثارها ونتائجها، وهذا العلم واليقين له أثر كبير في التربية.
ورد هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في القرآن المجيد في نقل خطاب «الأبرار» «2» عند قولهم: «إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً». (الانسان/ 10)
كلمة «عبوس» هي من صفات الإنسان وهذا ممّا لا يحتاج إلى تفسير، وتطلق هذه العبارة على الإنسان الذي تقطّب وجهه وكان حاله على غير مايرام، ووصف ذلك اليوم ب «عبوس» كناية حيّة عن وضع ذلك اليوم الرهيب المرعب، أي أنّ وقائع ذلك اليوم بلغت من الصعوبة والإيلام حدّاً كبيراً لا يكون الإنسان لوحده عبوساً في ذلك اليوم، بل كأن اليوم بنفسه عبوسٌ مقطّبٌ بشدّة!
و «القمطرير»: عند كثير من المفسرين بمعنى «الصعب الشديد» أو الإنسان العبوس السّيئ الخلق، وبناءً على هذا يكون
مفهومه قريباً من مفهوم العبوس، ثم إنّ هذه الكلمة مشتقة من مادة «قطر» على وزن (قفل) والميم زائدة فيها، وقيل إنّها مشتقه من مادة «قمطر» (عى وزن خنجر).
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 29، ص 172.
(2) والمعلوم أنّ هذه السورة نزلت في بيان شأن الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين (سلام اللَّه عليهم أجمعين) الذين هم في الركب الأول من «الأبرار والصالحين».
نفحات القرآن، ج 5، ص: 57
على أيّة حال فإنّ التعبير المذكور يشير إلى أن أحداث ذلك اليوم تبلغ من الصعوبة والشدّة والألم درجة يجعل آثارها تظهر من بواطن الناس على وجوههم، ويسيطر الخوف والاضطراب على تمام وجودهم، وذلك لأنّ أحداً لا يعلم إلى أين ينتهي مصيره، والجميع ينتظرون الحساب وينتظرون لطف اللَّه.
قال بعض المفسرين في شدّة هذا اليوم: سبحان اللَّه ما أشدَّ اسم هذا اليوم وهو من اسمه أشد.
ورد هذا التعبير مرّتين في القرآن المجيد وذلك في آية واحدة وهي: «وَقَالَ الَّذيِنَ اتُوا الْعِلمَ وَالإِيمانِ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَومِ الْبَعْثِ فَهذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». (الروم/ 56)
من الواضح أنّ التعبير عن احياء الموتى ب «البعث» (والأفعال المشتقة منه) في آيات القرآن المجيد كثير جدّاً واستعمل استعمالًا واسع النطاق كما أشرنا إليه سابقاً، وكل تلك التعبيرات تبيّن هذه الحقيقة وهي أنّ ذلك اليوم يوم حياة الجميع بعد موتهم، وبما أنّنا أشرنا إليه بما فيه الكفاية في هذا الصدد فلا نرى ثَمّة حاجة إلى توضيح أكثر.
إلى هنا ينتهي القسم الأول: ومن خلال الأسماء والاوصاف والتعبيرات المختلفة التي وردت في هذا القسم تتجلى لنا بوضوح هذه الحقيقة وهي أنّ القرآن جاء لينبّه الناس من غفلتهم، ومن أجل تربيتهم وتعليمهم وهدايتهم إلى التكامل والسمو،
وكذلك من أجل عرض وتوضيح الصور المختلفة للمعاد، فقد انتخب للمعاد أسماءً متنوعة يشير كل واحد منها إلى بُعدٍ من أبعاد ووقائع ذلك اليوم وأحداثه العظيمة المزلزلة التي لا نظير لها، فكل واحد من هذه الأسماء، أو بتعبير آخر كل واحد من أوصاف ذلك اليوم يحمل في طياته خطاباً متميزاً
نفحات القرآن، ج 5، ص: 58
لجميع البشر وعلى مرّ القرون والعصور.
خطابٌ إذا ما اعتُبِرَ به فإنّه سيكون عاملًا مؤثراً في الردع عن الانحرافات والسيئات والخطايا والجرائم والمنكرات والمظالم.
إنّه خطاب يكشف البحث فيه بوضوح عن أبعاد فصاحة وبلاغة القرآن في الميادين المخلتفة وخصوصاً في المواضيع التربوية، وهو أفضل هادٍ لسالكي طريق الحق وللباحثين عن طريق القرب الإلهي (فتأمل).
والآن نبحث في قسم آخر من أسماء القيامة والتي لا تصف القيامة في كلمة واحدة بل من خلال جملة كاملة.
بعض هذه التعبيرات تتحدّث عن الوقائع التي تحدث في العالم عند ظهور مقدمات القيامة، والبعض الآخر يتعلق بأحوال البشر في ذلك اليوم، ويخبر قسم آخر عن انتهاء كل شي.
التعبير أعلاه هو من ضمن التعبيرات التي تتعلق ب «مقدمات القيامة» بعد الإشارة إلى عدد من مكافآت المحسنين وعقوبات المسيئين، قال تعالى «يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ». (الانبياء/ 104)
«السجل»: من مادة (سَجْل) على وزن (سَطْل) بمعنى الدلو الكبير المملوء بالماء، وقيل إنّه بمعنى «الجمع والادِّخار لأجْل الاراقة والنثر»، من أجل هذا اطلقوا كلمة «سَجْل» على الدلو الكبير، واطلقوا كلمة «سِجِلّ» (بكسر السين والجيم وتشديد اللام) على الصحائف
نفحات القرآن، ج 5، ص: 59
التي تكتب عليها المطالب وتطوى أحياناً كما كانت تطوى «الوثائق» في السابق، ويستعمل طي السجل في هذا المورد.
ويعتقد البعض أنّ السِجلّ بمعنى الملفّات التي تكتب وتحفظ فيها الدعاوى وامور اخرى مشابهة، لذا جاء التسجيل بمعنى التقرير والإثبات «1».
على أيّة حال فإنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ السماء كلها تطوى عندما يفنى العالم وتبدأ القيامة، فتصير بصورة قطعة واحدة كما كانت عليه في البداية، وهذا ممّا صرح به العلم الحديث، وهو أنّ العالم في البداية كان على شكل حزمة واحدة ثم دار حول نفسه بسرعة تحت تأثير علل خفية وتناثرت اجزاءه تحت تأثير القوة الطاردة عن المركز وهو الآن في حال الاتساع والانبساط ثم يعود ثانيةً وبسرعة إلى الانقباض والاتجاه نحو المركز، ثم أخيراً تعود الأجزاء إلى بعضها وتشكّل حزمة واحدة، وهذه هي نهاية
نظام هذا الكون.
ثم تبدأ حركة جديدة وتظهر سموات وأرض جديدة لعالم اخر، وعلى هذا المعنى فلا حاجة إلى تفسير الآية بالمعنى الكنائي، ولو أنّ كثيراً من المفسرين مالوا إليه، وربّما كان ذلك بسبب عدم وجود هذا التفسير في ذلك الزمان.
لكن انطواء السموات في أيّة صورةٍ كان، لا يعني فناءها المطلق وانعدام العالم المادي؛ وذلك لأنّ القرآن أشار في آياتٍ متعددة وبصراحة إلى أنّ الناس يخرجون من القبور وتعود الحياة إلى رفاتهم وتبقى الذرات الحاصلة من تفسخ أبدانهم وتجمع وتبدأ حياةً جديدة.
من خلال ما قيل في البحث السابق بشأن القيامة يتضح معنى هذا التعبير القرآني أيضاً، هذا التعبير الذي ورد مرّة واحدة لا غير في القرآن المجيد، يدل على الانتقام الإلهي من الظالمين والمجرمين، قال تعالى: «يَوَم تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّموَاتُ».
__________________________________________________
(1) القاموس؛ والمفردات؛ والتحقيق وكتب اخرى
نفحات القرآن، ج 5، ص: 60
(ابراهيم/ 48)
في أول الأمر يُبَعثَر كل شي ء، ثم يضع باني عالم الوجود تصميماً جديداً، ويُبدعُ ارضاً وسماءً جديدة تكونان أرقى وأعلا مرتبةً من سابقتيهما حتى تليق بطبيعة يوم القيامة.
وللمفسرين نقاش حول المُبدَّل، هل هو ظاهر الأرض وصفتها أم هو ذاتها؟ فقال بعضهم: إن جميع الاجبال والغابات وغيرهاتُبدّل وتصبح الأرض مستوية بيضاء اللون كالفضة، وكأنما لم يُرقْ على تلك الأرض دم ولم يرتكب عليها ذنب قط، وتبدل السموات بذلك النحو أيضاً.
وقال البعض الآخر: إن هذه الأرض وهذه السماء تفنيان بالمرّة ويحلّ محلهما أرضٌ وسماءٌ جديدتان، لكن هذا الاحتمال- كما أشرنا سابقاً- لايتلائم مع الآيات القرآنية الاخرى التي تتحدث عن قبور الناس وعن تراب ابدانهم التي تبقى كما كانت عليه، فإن قيل إن تبديل الأرض هذا يتم بعد انتهاء الحياة البشرية، قلنا إنّ
هذا الكلام ينافي ذيل الآية، لأنّ ظاهرها يدل على ظهور وبروز الخلق بعد تبديل الأرض. حيث قال اللّه تعالى «وَبَرَزُوا لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ». (إبراهيم/ 48)
ورد هذا التعبير مرّة واحدة فقط في القرآن الكريم، وقد جاء بعد بيان وقوع العذاب الإلهي حيث لا مانع ولا دافع لوقوعه، قال تعالى: «إِنَّ عَذَابَ رَبِّك لَوَاقِعٌ* مَّالَهُ مِن دَافِعٍ* يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً* وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً». (الطور/ 7- 10)
«المور»: على وزن (موج) وله معانٍ مختلفة- على حد قول أصحاب اللغة-: حيث جاء بمعنى الحركة الدائرية وبمعنى الموج وبمعنى الحركة السريعة وبمعنى الذهاب والاياب وبمعنى الغبار الذي يذهب به الريح في كل جانب «1»، وأكثر المعاني مناسبةً هنا هو الحركة
__________________________________________________
(1) لسان العرب؛ ومفردات الراغب؛ وتفسير مجمع البيان، ج 9، ص 163؛ وتفسير روح البيان، ج 9، ص 189.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 61
السريعة.
فمن الممكن أن تكون هذه الحركة بياناً لتلك الحركة السريعة نحو مركز الكون التي تحدث عند انقباض أجزاء عالم المادّة كما أشرنا إليها في الصفحات السابقة، ومن الممكن أيضاً أن تكون بياناً لحركة العالم المستديرة في مسير انبساط وانقباض المجموعة الكونية.
وقال الفخر الرازي خلال تعليقه على هذه الآية: وقوله «وتسير الجبال» يُحتمل أن يكون بياناً لكيفيّة مور السماء، وذلك لأنّ الجبال إذا سارت وسير معها سكّانها يظهر أنّ السماء كالسيّارة إلى خلاف تلك الجهة كما يشاهده راكب السفينة، فانّه يرى الجبل الساكن متحرّكاً «1».
مفهوم هذا الكلام هو أنّ السموات ثابتة في الحقيقة ولكنّها تبدو للانظار متحركة، لكن هذا على خلاف ظاهر الآية.
هذان التعبيران عن يوم القيامة متشابهان في أحد أبعادهما.
ففي الآية الاولى قال تعالى: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمَامِ». (الفرقان/ 25)
وفي الآية الثانية قال تعالى: «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً». (ق/ 44)
إنّ انشقاق الأرض من فوق الناس له مفهوم واضح وهو بيان لزلزال القيامة الذي يشق القبور ويحيى الناس بأمر
اللَّه ويخرجون بسرعة للحساب والجزاء.
أمّا تمزق السموات بالغمام فيمكن أن يكون بياناً للانفجارات الهائلة التي تحدث في الأجرام السماوية عند فناء الكون وأنّ الغمام الحاصل من هذه الانفجارات يملأ السماء (هذا على أنّ «الباء» في «بالغمام» باء الملابسة أي يلابس ويصطحب مع الغمام).
أو أنّ السموات أي «الأجرام السماوية» تتمزق بتأثير الغيوم التي تحمل أمواجاً قوية هائلة حاصلة من الانفجارات النووية أو غيرها (وفي هذه الحالة تكون الباء سببية) «2»- «3».
__________________________________________________
(1) تفسير الكبير، ج 28، ص 243.
(2) قال بعض المفسرين إنّ «الباء» بمعنى «عن» فيكون المعنى هو أن تتمزق وتتنحى عن واجهة السماء لكن هذا المعنى بعيد جدّاً.
(3) «الغمام» من مادة «غم» بمعنى الحجب، ومن حيث إنّ الغيوم تحجب السماء فإنّهم اطلقوا عليها «الغمام» ومن حيث إنّ الهم والحزن يملًا قلب الإنسان فإنّهم اطلقوا على ذلك الغم.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 62
قال المرحوم العلّامة الطباطبائي في تعليقهِ على هذه الآية: «ليس من البعيد أن يكون هذا الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم السماء وهو من الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الأرضي موطن الإنسان» «1».
ولكن بما أنّ الحمل على الكناية يحتاج إلى قرينة ولا قرينة عليه في الآية فإنّ التفسير الأول يظهر على أنّه أكثر مناسبةً، وهكذا في الآية الثانية أيضاً فإنّ انشقاق الأرض يحمل المعنى الظاهري لا الكنائي والمعنوي.
والشاهد الآخر وجود الآيات الكثيرة في القرآن المجيد والتي تدل على حدوث تغيّرات وانقلابات شديدة في جميع شؤون عالم المادّة لا في السماء والأرض والجبال والبحار فقط.
هذا وصف آخر ليوم القيامة والتغيّرات الحادة التي تطرأ على العالم، وقد ورد هذا التعبير مرّة واحدة في القرآن حيث قال تعالى: «يَوْمَ
تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ». (المعارج/ 8)
و «مُهْل»: على وزن (قُفْل) فسروها تارة بمعنى المعادن المنصهرة، وتارةً بمعنى الثُقل أو الرسوبات التي تترسب في قعر إناء الزيت وأمثاله، وتارةً اخرى بمعنى الفضة المذابة وتارة بمعنى رسوبات الزيت «2»، هذا ولكن المعنى الأول أرجح عند إمعان النظر في آيات اخرى تحدثت عن وقائع يوم القيامة.
والمراد بالسماء هنا هو إمّا الأجرام السماوية أو واجهة السماء التي تصبح على هيئة
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 15، ص 202.
(2) تفاسير مجمع البيان؛ الكبير؛ الميزان وتفاسير اخرى في التعليق على الآية.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 63
معدن منصهر بفعل انفجار الأجرام.
قال بعض المفسرين: من المحتمل أنّ عدداً كبيراً من الأجرام السماوية والتي هي حالياً على هيئة غازات مضغوطة تتبدل صورها يوم القيامة وتتحول إلى أشكال ذائبة، وهي الصورة الجديدة لتلك الغازات والتي تكون مقدمة لحدوث القيامة «1».
لوحظ هذا الوصف في آيتين من القرآن المجيد على تفاوت ضئيل بينهما في وصف يوم القيامة، وجاء هذا الوصف في الآية: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ والْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلًا». (المزمل/ 14)
و كذلك قوله تعالى «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ». (النازعات/ 6)
اليوم الذي تتعرض فيه كل الأرض للزلازل العنيفة وتَتحطّم الجبال بشدّة حتى تصبح أكواماً من الرّمل، فما هو حال الإنسان الضعيف المنهك في ذلك اليوم؟!
جميع تلك الامور تتعلق بالوقائع التي تؤدّي إلى فناء هذا العالم، ثم تبدأ مرحلة العالم الآخر، فالقرآن جمع بين هاتين المرحلتين ووضعهما في وصفٍ واحد.
فتارةً يبين ضعف الإنسان واخرى يُخبر عن التطورات الرهيبة عند فناء العالم وثالثة يصور تغيّرات العالم الممهِّدة لقيام القيامة، كل هذه التعبيرات جاءت من أجل تربية الإنسان وتشكّل انذاراً مؤكداً ومتواصلًا له.
إنّ «ترجف وراجفة» من مادة «رَجْف» بمعنى الاهتزاز الشديد ولذا
اطلق على البحر المائج «بحرٌ رَجّاف»، و «ارجاف» بمعنى بث الشائعات التي تهز المجتمع، و «اراجيف» تطلق على جذور الفتن والوقائع.
__________________________________________________
(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 8، ص 278 و 279.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 64
وقد احتملوا لمعنى «الراجفة» في الآية السابقة معانٍ مختلفة منها الواقعة والصيحة الكبرى و ...، ولكن الآية الآخرى تشكّل قرينة على أنّها الأرض التي تُزَلزَل بشدّة في ذلك اليوم.
و «الكثيب»: بمعنى «الرمل المتراكم» والبعض حملها على معنى «التل الكبير من الرمل».
و «المهيل»: بمعنى الرمل الناعم جدّاً الذي يتطاير عند وضع القدم عليه، وإذا ما خُلّي جانبه انهال ما تبقّى منه، ولذا فسّره البعض بالرمل السيّال «1».
التعبيران أعلاه، واللذان يتقاربان في الافق هما أيضاً وصفان آخران لذلك اليوم العظيم، ففي الآية الاولى «يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ». (ق/ 42)
نحن نعلم بأنّه عند انتهاء الدنيا وابتداء القيامة تطلق هنالك صيحتان على حد تعبير القرآن المجيد واللتان عبّر عنهما أحياناً ب «نفخ الصور» وهما: «الصيحة الاولى» وهي صيحة فناء العالم والموت الشامل، و «الصيحة الثانية» صيحة الحياة الجديدة والقيامة، والآية التي وردت أعلاه تدلّ على الصيحة الثانية وذلك بقرينة «ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» التي جاءت في آخر الآية.
أمّا ما هي كيفية هذه «الصيحة العظيمة»؟ وبأي الوسائل يحدث هذا الصوت؟ وما هو تأثيره في احياء الموتى فإنّ هذه الامور لايعلم أحد تفاصيلها، بَيد أنّ القرآن أشار إليها إشارةً اجمالية، ولا عجب من جهلنا بها في هذا الزمان؛ وذلك لأنّ كل ما يتعلق بالقيامة يختلف اختلافاً تاماً عمّا في الدنيا، ومحفوف بهالة من الابهام، كما هو الحال في الجنين فإنّه
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب؛ وتفسير مجمع البيان؛ وتفسير الكبير وتفاسير اخرى في
التعليق على آيات البحث.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 65
لا يمكن أن يُدرك حياة هذه الدنيا وإن كان بالفرض يمتلك قدرة فكرية عظيمة.
وفي الآية الثانية قال تعالى: «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ».
(الطور/ 45)
«يصعقون»: من مادة «اصعاق» اشتقت في الأصل من «الصاعقة»، وبما أنّ الصاعقة لها صوت عظيم بالإضافة إلى أنّها مهلكة فقد فُسِّرت هذه الجملة بهذين المعنيين معاً، فإن كانت بمعنى الهلاك فتكون دليلًا على إرادة النفخة الاولى وفناء الكون، كما جاء في الآية:
«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّموَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ». (الزمر/ 68)
وإن كانت كلمة (صعق) بمعنى الصوت فإنّها من الممكن أن تكون دليلًا على النفخة الاولى أو الثانية التي هي نفخة يوم القيامة، فعلى هذا تكون مرادفة للآية السابقة.
ورجّح كثير من المفسرين المعنى الأول، وفي نفس الوقت لم يهجروا المعنى الثاني «1».
وأمّا ما احتمله البعض من أنّ الآية تشير إلى هلاك مجموعة من المشركين في غزوة بدر فيبدو بعيداً جدّاً (بدليل الآية 68 من سورة الزمر التي مرّ ذكرها).
ورد هذا التعبير أربع مرات في القرآن المجيد ففي الآية الاولى قال تعالى «وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ». (الانعام/ 73)
وفي الآية الثانية قال تعالى «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الُمجرِمِينَ يَؤمَئِذٍ زُرْقاً».
(طه/ 102)
وفي الآية الثالثة قال تعالى: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ». (النمل/ 87)
وفي الآية الرابعة قال تعالى: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأتُونَ افْوَاجاً». (النبأ/ 18)
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 169؛ وتفسير القرطبي، ج 9، ص 6247؛ وتفسير روح المعاني، ج 37، ص 34؛ وتفسير الميزان، ج 19، ص 23؛ وتفسير روح البيان، ج
9، ص 205.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 66
يتحدث القرآن المجيد- كما سيأتي في بحث «نفخ الصور» إن شاء اللَّه- عن نوعين من نفخ الصور: ففي النفخ الأول تموت جميع الاحياء الموجودة في الأرض والسماء، وفي النفخ الثاني والذي هو نفخة الحياة يحيا الجميع ويتأهبون للحساب والكتاب، لكن الآيات الاربع السابقة الذكر كلّها أو جلّها تتعلق بالنفخ الثاني أي نفخ الحياة في القيامة.
ومهما يكن من شي ء فإنّ هذا التصوير للقيامة من قبل القرآن يصور للانظار الوقائع العديدة التي تقع عند ذلك اليوم، وهذا التعبير هو أحد التعابير العديدة التي تحتوي على معنىً دقيق والتي تصوّر للضمائر وقائع ذلك اليوم الصعبة المرعبة فتنبّهها من غفلتها.
أمّا البحث عن معنى «الصور» ومفهوم «النفخ» والخصوصيات الاخرى فسوف نتناوله في محله إن شاء اللَّه، ولكن ولأجل الاطّلاع على محتوى هذا التعبير نتطرق لذكر الحديث النبوي الشريف الذي يذكر مجموعة من تلك الوقائع والذي ورد في تفسير الآية الرابعة من بحثنا هذا (الآية 18 من سورة النبأ):
قال «معاذ بن جبل» سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن تفسير الآية: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً» فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يامعاذ بن جبل سألت عن أمرٍ عظيم» ثم أرسل عينيه باكياً، ثم قال: «يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتاً قد ميّزهم اللَّه تعالى من جماعات المسلمين، وبدلّ صورهم، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون، أرجلهم أعَلاهم، ووجوههم يسحبون عليها، ....، ....، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مُدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعاباً، يتقذرهم أهل الجمع، ....، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من
القطران لاصقة بجلودهم؛ فامّا الذين على صورة القردة فالقَتَّات من الناس- يعني النمام- وأمّا الذين على صورة الخنازير، فأهل السحت والحرام والمَكس، وأمّا المنكسون رؤوسهم ووجوههم، فأكلة الربا، ....، ....، والذين يمضغون ألسنتهم: فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم، ...، والمصلبون على جذوع النار: فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق اللَّه من أموالهم، والذين يلبسون الجلابيب: فأهل الكِبْر والفخر والخيلاء» «1» پ.
__________________________________________________
(1) ذكر هذا الحديث عدد كبير من المفسرين مثل أبي الفتوح الرازي والقرطبي وروح البيان وقد أوردنا الحديث باختصار.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 67
وصف القرآن المجيد وفي آيتين يوم القيامة بأنّه يومٌ طويل للغاية، قال اللَّه تعالى في أحد الآيتين: «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ». (المعارج/ 4)
وقال في محلّ آخر: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ». (السجدة/ 5)
لا شك في أنّ الآية الاولى تختص ببيان يوم القيامة، والآيات التي أتت بعدها تتعرض لصفات القيامة ولعذاب المجرمين في ذلك اليوم وكذلك إلى أوصاف جهنم.
وقد اختلف المفسرون في مورد الآية الثانية فهناك عدة آراء «1» فالبعض قالوا: إنّها إشارة إلى المنحنى النزولي والصعودي للتدبير الالهي في هذه الدنيا، أو بتعبير آخر إشارة إلى مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم والتي تتم كل مرحلة منها في مدّة الف عام على يد الملائكة المكلّفين بأمرٍ من اللَّه بإجراء هذا التدبير التكويني، ثم بعد انتهاء هذه المرحلة تبدأ مرحلة اخرى وهلمّ جرّا.
لكن بعد البحث في الآيات القرانية التي تحدثت عن انطواء السماء والأرض، وكذلك الروايات التي وردت في شرح هذه
الآية يفهم منها أنّها تتحدث عن يوم القيامة.
ولذا رجّح المرحوم العلّامة الطباطبائي في الميزان هذا التفسير أيضاً بعد أن ذكر عدّة احتمالات لهذه الآية «2».
لكن يبقى هنالك سؤال وهو كيف قُدِّر ذلك اليوم في الآية الاولى بخمسين الف سنة- من سنين الدنيا- وفي الآية الثانية بالف سنة؟
اجيبَ بوضوح عن هذا السؤال في حديثٍ نقله المرحوم الشيخ الطوسي في أماليه عن
__________________________________________________
(1) ذكر الآلوسي في تفسير روح المعاني، ج 21، ص 107 سبعة تفاسير للآية، أحدها هو القيامة.
(2) تفسير الميزان، ج 16، ص 261، وجاء نفس هذا المعنى أيضاً في تفسير ظلال القرآن ج 6، ص 511.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 68
الإمام الصادق عليه السلام، قال عليه السلام: «إنَّ في القيامة خمسين موقفاً؛ كُلُّ موقفٍ مثلُ الف سنةٍ ممّا تعدون ثم تلا هذه الآية: «فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»».
والكلام في أنّ العددين (الف وخمسين الف) سنة هل جاءت هنا لبيان العدد أم للدلالة على الكثرة؟ فيه احتمالان، ولكن على أيّة حال فإنّ مضمون خطاب هذه الآية هو أنّ ذلك اليوم يومٌ صعبٌ جدّاً ومعضل، ولا يتيسر لأحد تجاوزه بسهولة، ويجب على الجميع أن يتأهبوا لمثل هذا اليوم الطويل الملي بالمخاطر.
وهناك أمرٌ يثير الاهتمام وهو أنّ اليوم (أي دوران الكواكب السماوية حول محورها دورة كاملة) يختلف تماماً من كوكب لآخر، فالكرة الأرضية تدور حول محورها في كل 24 ساعة دورة كاملة بينما تطول مدة الدوران الموضعي في القمر لمدّة شهر تقريباً (فالنهار فيه يبلغ اسبوعين والليل فيه يبلغ اسبوعين تقريباً) وهكذا الحال في الكواكب الشمسية الأخرى فكل منها له ليلٌ ونهار يختص به ويمتد زمانه بمقدار متميز، والآن في هذا الزمان من الممكن
أن تكون في عالم الوجود كواكب يمتد دورانها الموضعي إلى مئات أو الاف من السنين، بناءً على هذا فلا عجب من أن يكون امتداد كل يوم في القيامة يعادل خمسين الف سنة.
ونواصل التأكيد على أنّ هدف القرآن الرئيسي هو الجانب التربوي الكامن في مثل هذه التعبيرات.
كل ما قرأنا لحد الآن في وصف ذلك اليوم كان يتحدّث عن الوقائع المزلزلة التي تقع في مقدمة ذلك اليوم في عالم الدنيا وإن كل وصف يحمل في طياته خطاباً خاصاً، ففي الوصف الأخير طرحت مسألة طول وامتداد ذلك اليوم وهذا أيضاً يحمل انذاراً متميزاً.
والآن نذهب صوب الأوصاف التي تصوّر حال الناس في ذلك اليوم، ونلتفت إلى أنَ
نفحات القرآن، ج 5، ص: 69
تعبيراتٍ كل واحد منها أقوى تأثيراً من الآخر وكأنّها تأخذ بيد الإنسان وتسير به في اروقة المحشر وتعرفه على كل موضع منه فتجسّم له وقائع ذلك اليوم العظيم وكأنّه يراه بعينه المجردة.
في الوصف الذي نتناوله بالبحث والذي ورد مرّة واحدة في القرآن المجيد فقط حيث يصور وضع الناس المروع في ذلك اليوم بهذا النحو: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ».
(القارعة/ 4)
وجاء مثل هذا التعبير ولكن باختلاف ضئيل عندما قال تعالى «كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ».
(القمر/ 7)
وللمفسرين آراء مختلفة في سبب تشبيه الناس في ذلك اليوم بالفراش، ومن جمله ما قالوا هو أنّ السبب في هذا التشبيه هو كثرة الناس واضطرابهم وخوفهم وفرارهم في كل صوب وضعفهم وتخبّطهم.
ومن الممكن أيضاً أن تكون هذه المسألة من مكنونات التعبير المذكور أعلاه وهي أنّ الفراش عادةً يرمي بنفسه باتجاه نور الشمع والمصباح بصورة جنونية فيحترق، وأنّ المجرمين أيضاً في ذلك اليوم تعتريهم هذه الحالة عند مواجهتهم لنار جهنم، وكل هذا يدلّ
على الحيرة والضلال الشديد والاضطراب والرعب العظيم الحاصل في ذلك اليوم.
على أيّة حال فإنّه تعبير ناطق وتصوير واضح عن حالة الناس العجيبة الحاصلة في ذلك اليوم والتي عبّر عنها القرآن بتعبير وجيز، ويرى البعض أنّ السبب في دوران الفراشة حول النار حتى الاحتراق هو فقدانها للذاكرة، فإنّها تقترب من الشعلة وتحس بحرارتها فتهرب ولكنها تنسى بسرعة وتعود ثانيةً وتقترب من شعلة النار وتكرر هذا العمل حتى تلقي بنفسها في النار وتحترق.
وكذلك الحال بالنسبة للمسيئين والمجرمين، فمن شدّة الاضطراب والجزع كأنّهم يفقدون صوابهم ويلقون أنفسهم في النار كما تفعل الفراشات.
وذكر أهل اللغة والمفسرون معاني متعددة ل «الفراش»: فالبعض فسّره بمعنى الجراد الذي
نفحات القرآن، ج 5، ص: 70
ينتشر بكثافة في السماء، والبعض فسّرها بمعنى البعوض الذي يطير على شكل أفواج، ولكن أغلب المفسرين واللغويين فسروها بذلك المعنى وهو الفراش، على الأخص ما قاله «الخليل بن أحمد» في كتاب «العين» فإنّه قال: «الفراشُ التي تطيُر طالبةً للضوء» وقال في صحاح اللغة أيضاً: «الفراش» جمع «فراشة» تلك الحشرة الطائرة التي تطير وتقع في النار.
هذان الوصفان يبينان خلال تعبيرين اثنين حقيقة واحدة عن ذلك اليوم العظيم (وقد وردا في الآية 9 من سورة الطارق والآية 16 من سورة المؤمن)، ويقرران أمراً خطيراً إذا ما آمن به الناس كان له أثر عميق في تربيتهم.
ففي ذلك اليوم لا تخفى خافية؛ وذلك لارتفاع الاستار الطبيعية مثل الجبال والتلال، وتكون الأرض كما أشار إلى ذلك في الآية: «قَاعاً صَفْصَفاً»، (أي صافية خالية من المرتفعات). (طه/ 106)
ومن ناحية اخرى يخرج الناس من القبور وتُخرج الأرض ما في باطنها: «وَأَخْرَجَتِ الْارْضُ أَثْقَالَهَا». (الزلزال/ 2)
وثالثة، تنشر صحف أعمال الناس والامم ويُعلن عن محتواها أمام الملأ:
«وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ». (التكوير/ 10)
وتنطق الأيدي والأرجل وجميع الجوارح حتى الجلود، وتبدأ بالعويل واعلان الفضائح.
فالأرض والدهر كلها تنطق وشهداء الأعمال يشهدون على أعمال الناس، ففي ذلك اليوم يعلن أمام الملأ حتى عن نيّات الناس واعتقاداتهم فضلًا عن أعمالهم، إنّه يوم الفضيحة الكبرى للمسيئين ويوم الفخر العظيم للمحسنين حقاً.
ويجب الانتباه إلى أنّ «تُبلى من مادة «بلاء» بمعنى الامتحان وبما أنّ حقائق الأشياء تظهر عند الاختبار فقد فُسِّر البلاء هنا بمعنى الاتضاح.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 71
جاء في الحديث عن «معاذ بن جبل» أنّه قال: (سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة، فقال: «سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض لأنّ الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء قال الرجل صليت ولم يصل وإن شاء قال توضأت ولم يتوضأ، فذلك قوله يوم تبلى السرائر» «1».
والجدير بالذكر هو أنّ ما جاء في الحديث الشريف المذكور هو بيان أمثلة من هذه الحقيقة الكلية، وإلّا فإنّ الآية الشريفة تشتمل على جميع «العقائد» و «النيات» وأعمال الناس» سواء الحسن منها أم السي ء.
ومن هنا يظهر أنّ العناوين البراقة الكاذبة التي حصلت عليها الكثير من الشخصيات بواسطة التضليل والتستر في هذه الدنيا سوف تذهب هباءً بفعل زوابع المحشر وتحل محلها الفضيحة العظمى وما أروع من سقوط هؤلاء الأفراد وأصحاب الواقع السي المتلبسين بالظاهر الأنيق، من اوج العزّة والكرامة إلى قعر الذّلة والمهانة!
وما أحلى الكرامة التي حاز عليها المؤمنون المخلصون الذين لم يراؤوا وحافظوا على اخفاء ارتباطهم باللَّه في هذه الدنيا وما أجمل ظهورهم في ذلك اليوم وجلوسهم على عرش العزة والعظمة!
هذا هو النداء الذي يقدّم لنا الوصف المذكور
أعلاه وهو انذار لجميع الناس العالِم منهم والجاهل.
هذان التعبيران أيضاً يوضحان أحد الحقائق التي صُبَّت في قالبين، ويبينان حقيقة مهمّة اخرى لذلك اليوم تقصم الظهر وتزلزل القلوب وتجعل الإنسان يسرح في تأمّل عميق.
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 471.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 72
ففي الآية الاولى قال تعالى: «يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرءُ مَاقَدَّمَتْ يَدَاهُ». (النبأ/ 40)
بما أنّ مسألة تصور الأعمال في ذلك اليوم العظيم ومشاهدة جميع الأعمال التي ارتكبها الإنسان في هذه الدنيا يُعتبر أمراً غير معقول لكثير من المفسرين فإنّهم فسّروا «ينظر» حيناً بمعنى «ينتظر»، وحيناً آخر بمعنى مشاهدة كتاب الأعمال أو مشاهدة ثوابها وعقابها.
والسبب الذي دفعهم إلى ذلك هو أنّ المفسرين في تلك العصور لم يمعنوا النظر في مسألة تجسّم الأعمال، وإلّا فما الضرورة لهذه التقديرات والتأويلات؛ وذلك لأنّ القرآن يقول: إنّ الإنسان سوف يشاهد بعينيه في ذلك اليوم كل ما ارتكب من قبل، أي أنّ نفس أعماله التي فنيت مادياً في الظاهر لم تفن في الواقع وسوف تبقى وتظهر للعيان بصورةٍ ما، وليس بالضرورة أن يراها جميع أهل المحشر، كما جاء نفس هذا المعنى أكثر وضوحاً في الآية: «وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً»! (الكهف/ 49)
وورد نفس هذا المعنى بجلاء في الآية الثانية أيضاً قال تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً».
(آل عمران/ 30)
وممّا يثير الاهتمام هنا هو ما قاله المرحوم «الطبرسي» في «مجمع البيان» في تعليقه على الآية الثانية، قال: «فأما أعمالهم فهي اعراض قد بطلت ولا يجوز عليها الاعادة، فيستحيل أن ترى محضرة»، لذا ذهب إلى تفسيرين آخرين أحدهما حضور كتب الأعمال، والثاني حضور
جزاء الأعمال من ثوابٍ وعقاب.
ولكن كما أشرنا في كتاب (التفسير الأمثل)، أنّ أعمال الإنسان هي نوعٌ من الطاقة مثل جميع أنواع الطاقة الموجودة في العالم، فإنّها لا تفنى أبداً بل تتغير اشكالها وهي باقية قطعاً.
وقلنا أيضاً بأنّ تحوّل «المادة إلى «طاقة» والطاقة» إلى «مادة» كلاهما أمر ممكن من الناحية العلمية، فعلى هذا لا مانع من بقاء أعمال الإنسان وتحولها في ذلك اليوم إلى مادة، وظهور كل واحد منها على هيئة مناسبة لحاله، وبناءً على هذا فإنّ الآيات المذكورة تُمثّل في الواقع جزءً من المعجزات العلمية للقرآن والتي لم تكن حين نزول القرآن معروفة لأحد،
نفحات القرآن، ج 5، ص: 73
وهذه الحقيقة اتضحت لنا بسبب الاكتشافات العلمية الحديثة.
وممّا يثير الاهتمام أيضاً أنّ الروايات الإسلامية تحدثت كثيراً أيضاً عن تجسم الأعمال في البرزخ والقيامة، ولكن لا يعلم علّة عدم اهتمام المفسرين السابقين بهذه الروايات، ومن المحتمل أن يكون السبب في ذلك هو اعتقادهم بأنّ الأعمال «اعراض» وبأنّها فانية وبأنّ إعادة المعدوم محال، بينما اتّضح لنا في هذا الزمان بطلان هذا الاستدلال كلياً (وسوف نقرأ في بحث تجسم الأعمال تفصيلًا أكثر في هذا المجال).
التعبيران المذكوران في الآيتين أعلاه واللذان يجمعهما شبه كبير يرفعان الستار عن أسرار اخرى من أسرار ذلك اليوم العظيم، ويحملان لجميع الناس نداءات جديدة.
ففي الآية الاولى قال تعالى «يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والْابْصَارُ». (النور/ 37)
وفي الآية الثانية قال تعالى «إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ». (إبراهيم/ 42)
حلبة المحشر رهيبة من عدة جوانب: من جانب ما يستجد فيها من الوقائع الرهيبة التي تقع عند قيام القيامة، ومن جانب استعداد الملائكة مع حضور الاشهاد لمحاسبة العباد، ومن جانب نشر الصحف التي تحتوي على سائر أعمال الإنسان
التي ارتكبها خلال حياته صغيرها وكبيرها، ومن جانب اتضاح ملامح النار والعذاب الإلهي واستحالة العودة لإصلاح مافات وعدم وجود خليلٍ ومنقذ!
إنّ هذه الوقائع والتي يكفي كل واحد منها بوحده لقلب افئدة الناس، تقع جميعها في وقت واحد، تجعل الإنسان في حصار شديد ممّا يؤدّي به إلى أن يقلّب عينيه في كل جانب بدون إرادة ويتلفت إلى كل جانب باضطراب يطلب العون، وعلى حد تعبير القرآن أنّها تقلب الأبصار وأحياناً تقف عن الحركة نهائياً وتبقى الأجفان مفتوحة وكأن روح الإنسان فارقت جسده!
نفحات القرآن، ج 5، ص: 74
ومن الجدير بالذكر أنّ الآية الاولى تختص بالمؤمنين والآية الثانية بالظالمين، وهذا يدل بوضوح على أنّ الجميع من المحسنين والمسيئين سوف يستولي عليهم الرعب في ذلك اليوم المفزع، وذلك (لجهل الناس بعواقب أعمالهم بسبب الدقة والشدة في الحساب الإلهي فلا أحد يعلم بالضبط إلى اين ينتهي مصيره.
«تتقلب»: بمعنى انقلاب الشي ء رأساً على عقب وبمعنى التحوّل، وللمفسرين تعابير مختلفة في تفسير هذه الجملة تشير جميعها إلى الخوف والاضطراب الشديد الذي يهيمن على ظاهر وباطن الإنسان وعلى بصره وبصيرته.
«تَشْخَصُ»: من مادة «شخوص» بمعنى توقف العين والأجفان عن الحركة والتركيز بالنظر على نقطةٍ دون التفات.
والأصل في «شخوص» على وزن (خلوص) هو بمعنى القيام أو الخروج، و «الشخص» من حيث إنّه يبدو من بعيد على هيئة بارزة اطلق عليه كلمة شخص، وخروج الإنسان من محلٍ آخر يطلق عليه الشخوص أيضاً.
و «شاخص»: المشتق من نفس هذه المادة أيضاً بمعنى الجسم المرتفع الذي يستخدم لقياس الوقت وأمثال ذلك «1».
وبما أنّ عين الإنسان حين التعجب والتحديق كأنّها تريد أن تخرج من حدقتها فقد استعمل هذا التعبير في عدة موارد، بلى إنّ الناس في عرصة المحشر
يصبحون أُسارى الخوف بنحوٍ يجعل عيونهم تتوقف عن الحركة وتشخص وكأنّها تريد أن تخرج من حدقتها، وهذه الحالة تظهر لدى الإنسان أحياناً في حال الاحتضار.
ومن البديهي أن تكون هذه الحالات أشد بكثير عند المذنبين والمجرمين، ولذا جاء في القرآن المجيد: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا». (الأنبياء/ 97)
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب؛ ومقاييس اللغة؛ والمصباح؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 75
هذا التعبير أيضاً من التعبيرات التربوية التي وردت مرّة واحدة في القرآن المجيد، قال تعالى: «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى . (النازعات/ 35)
هذا التذكّر والانتباه إمّا أن يحصل بسبب مشاهدة صحيفة الأعمال، وإمّا بسبب تجسم الأعمال، أو بسبب شهادة الجوارح أو الملائكة التي تشهد على الأعمال أمام اللَّه، أو بسبب ارتفاع الحجُب عن قلب وروح الإنسان وزوال ما يسبب الغفلة والنسيان.
ولذا تبرز جميع الحقائق المكنونة ويتذكّر الإنسان كل سعيه ومحاولاته، ولكن ياللحسرة فلا مجال أمامه لجبران الخطايا والتقصير والغفلة.
وجاء هذا التعبير بصورة اخرى في الآية «وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ، ثم يضيف إلى ذلك: «يَقُولُ يَالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى». (الفجر/ 23)
إنّه أسف وحسرة لا فائدة منها هناك أبداً سوى مضاعفة المعاناة والألم.
وكلمة «لحياتي» تثير الانتباه، وهي تدل على أنّ الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة، وأنّ الحياة الدنيا لا تستحق حتى اطلاق اسم الحياة عليها، وعلى حد تعبير القرآن ماهي إلّالهو ولعب.
والهدف هو انذار سائر بني الإنسان بأن يستفيدوا من الفرصة المتاحة أمامهم قبل الابتلاء بمثل هذا البلاء فالتذكّر في ذلك اليوم لا ينفع مثقال ذرّة.
هذا التعبير يرسم صورة اخرى لذلك اليوم العظيم، قال تعالى «يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا». (النحل/ 111)
نعم إنّ الرعب والخوف من العذاب والعقاب الإلهي يسيطر على وجود الإنسان ممّا
نفحات القرآن، ج 5، ص: 76
يجعله ينسى أعزّ أحبائه، فهو لا يهتم بالأبناء ولا بالزوجة ولا بالوالدين ولا بأعز الأصدقاء، ولا يهتم إلّابانقاذ نفسه لا غير.
وجاء في الحديث الشريف: «كُلُّ احدٍ يقولُ يومَ القيامة نفسي نفسي من شدّة هول يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه و آله فإنّه يُسألُ في امته» «1».
هذا التعبير في الواقع هو توضيح لاسم (القيامة) في قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ». (المطففين/ 6)
إنّه قيام يدل على جدّية الموقف في ذلك اليوم، ودليلٌ على الحضور في محكمة كبرى ودليل على خضوع جميع الأعمال للحساب.
ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن المجيد أتى بهذا التعبير في سورة المطففين لتحذير وتنبيه الذين يبخسون الميزان، قال تعالى «أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» ثم يضيف «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَميِنَ». (المطففين/ 4- 5)
أي أنّهم لو كانوا على يقين بأنّ مثل هذا «الحضور» و «القيام» في يوم كهذا واقع حتماً لما ارتكبوا السيئات أبداً، ولكن للأسف أنّ حب الدنيا والغفلة والغرور وطول الأمل ظلل على أفكارهم وقلوبهم وأرواحهم ظِل الشؤم والظلام ممّا جعلهم يغفلون هذه الحقائق.
جاء في احدى الروايات «عن إبن عمر وهو من أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه وعند قراءته لسورة المطففين: لمّا بلغ قوله «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمينَ» بكى بكاءً شديداً أعجزه عن مواصلة القراءة» «2».
__________________________________________________
(1) تفسير القرطبي، ج 6، ص 3809.
(2) تفسير الكبير، ج 31 ص 90؛ تفسير القرطبي، ج 10،
ص 7046.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 77
التعبيران المذكوران أعلاه يذكّران بجانب آخر من أبعاد ذلك اليوم العظيم ويتركان أثراً اخلاقياً كبيراً لدى الإنسان، ويشتملان على مناجاة تستهوي القلب والروح.
في التعبير الأول يصف ذلك اليوم ب «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ». (المؤمن/ 51)
و «أشهاد»: جمع «شاهد» أو «شهيد» (مثل «أصحاب» التي هي جمع «صاحب»، و «اشراف» جمع «شريف») والأشهاد هنا هم شهود يوم القيامة، ويرى بعض المفسرين أنّ المراد من الأشهاد هم فقط الملائكة الذين يراقبون الأعمال، ويرى البعض الآخر أنّ المراد بهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون جميعاً.
ويرى آخرون أنّ المراد منهم جميع ماذكر بالإضافة إلى الجوارح التي تشهد على أعمال الإنسان أيضاً، ولكن نظراً لوجود التعبير «يقوم» فإنّ هذا التفسير يبدو بعيد الاحتمال.
والتعبير ب «قيام» في مواردٍ كهذه هو بيان للوضع الخاص المتعارف عليه في المحاكم وهو قيام الشهود عند الادلاء بشهادتهم؛ وذلك تأكيداً لجدّهم وحزمهم في أداء الشهادة واحتراماً لرسمية ووضع المحكمة.
على أيّة حال فهو يومٌ لايكفي فيه شاهد واحد فحسب بل يشهد فيه شهود كثيرون في تلك المحكمة العظمى شهادة تكون مصدر عز وفخر للمؤمنين وتأتي بالخزي والذلة للمجرمين، شهادة تحيط بكل شي ء ولا يخفى على شهودها شي ء، شهادة لا يسع المجرمون انكارها أبداً وتكون مدعومة بالقرائن الكثيرة حتى لا يبقى أمامهم طريق إلّاالتسليم والاذعان.
ومن هنا ينبغي الامعان في المعاني التي يحملها هذا الوصف عن القيامة وإلى مدى ما بلغت من التأثير والجذابية.
وفي الآية الثانية عبّر عن ذلك اليوم ب «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والْمَلَائِكَةُ صَفاً». (النبأ/ 38)
بما أنّ «الصف» له معنىً مصدري ويستعمل في الجمع والمفرد على السواء، فقد رأى
نفحات القرآن، ج 5، ص: 78
جمع من المفسرين احتمال أن يكون المراد من الصف هو
بيان صفوف مختلف الملائكة، أو المراد منه صفّان على الأقل يستقر الروح في الصف الأول وفي الصف الثاني بقية الملائكة.
وفي الجواب عن ما هو المراد من «الروح» هنا؟ اختلفوا على أقوال عدّة بلغت الثمانية أقوال أو أكثر، ومن بين هذه التفاسير المشهورة:
1- الروح هو أحد ملائكة اللَّه المقربين، وهو أفضل من جميع الملائكة حتى جبرائيل عليه السلام، وهو الذي كان يرافق الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام.
2- المراد به هو جبرائيل الأمين حامل وحي اللَّه.
3- المراد به هو أرواح الموتى ولكن قبل إلحاقها بالأبدان.
4- المراد به هو مخلوق عظيم لا من صنف البشر ولا من صنف الملائكة.
5- المراد به هو القرآن المجيد، ومعنى قيامه هو ظهور آثاره في مشهد المحشر.
وقد استُدل على كلٍ من هذه التفاسير المذكورة ببعض آيات القرآن.
مع أنّ للروح معانٍ مختلفة في مختلف آيات القرآن، وأكثر هذه التفاسير قرباً للصحة كما يبدو هو التفسير الأول، وقد ورد هذا التفسير صريحاً في بعض روايات المعصومين عليهم السلام.
فعن علي بن إبراهيم باسناده عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل» «1».
وروي عن ابن عباس أيضاً بأنّه قال: أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «الروح جند من جنود اللَّه ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل، ثم قرأ: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً» قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند» «2».
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 427.
(2) تفسير القرطبي، ج 10، ص 6777.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 79
ينعكس في هذين التعبيرين نداءان آخران متقاربان في الافق حول اوضاع ذلك اليوم العظيم، ففي التعبير الأول قال تعالى: «يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَابَنُونَ* إِلَّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». (الشعراء/ 88- 89)
وفي
التعبير الثاني قال تعالى: «يَوْمٌ لَابَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ». (إبراهيم/ 31)
في الواقع أنّ رأسمال هذه الدنيا يتلخص في ثلاثة أشياء: المال والثروة، والأولاد الراشدون، والأصدقاء الأوفياء، لكن معضلات المحشر وابتلاءاته المهيبة لا يمكن الخلاص منها بالمال والثروة ولا بمعونة الأولاد ولا الأصدقاء، ولو افترضنا أنّ جميع أموال الإنسان تنقل إلى هناك وكان جميع الأولاد والأصدقاء إلى جانبه فهذا لا يحل حتى عقدة واحدة من مشاكله، وذلك لأنّ المقاييس والمعايير هناك شي ء آخر، والمنقذ في المحشر هو الإيمان والعمل الصالح والقلب السليم، القلب الخالي من أي شرك ورياء ولا يوجد فيه مكان لما سوى اللَّه.
أغلب المشكلات في هذه الدنيا يمكن حلّها عن طريق المال والثروة وتقديم الفدية والخسائر والرشوة وما شابه ذلك بصورةٍ مشروعة أو غير مشروعة، ويمكن حل كثير من المصاعب أيضاً بواسطة الجهود الإنسانية بالأخص الأولاد الطيبين والأصدقاء المخلصين، وبناءً على ذلك فإنّ أغلب مشاكل هذا العالم تُحل بهذه السبل، بينما لا يكون لهذه الامور أي تأثير هناك.
ولا شك في أنّ المراد من المال والأولاد هنا هو غير الأولاد الذين استخدموا في الطريق المؤدي إلى رضوان اللَّه، أو الأصدقاء الذين يمكنهم الشفاعة عند اللَّه، بل المراد هو أنّ هذه الامور لو نقلت إلى هناك بمجرّدها فهي لا تغني شيئاً.
ولذا جاء في قوله تعالى: «الْأَخِلّاءُ يومَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلّا الْمُتَّقِينَ»!
(الزخرف/ 67)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 80
أحد طرق الاخلاص من مخاطب العقوبات في هذه الدنيا هو أن يتقبل شخص التبعات التي تترتب على الآخر نيابة عنه ويؤدّي الغرامات المالية التي تحملها الشخص الآخر ويتقبل عقوبة ذنبه برحابة صدر وطيب نفس.
يبيّن القرآن الكريم في الآيات المذكورة أعلاه والتي هي من صفات يوم القيامة عدم
جواز إلقاء أوزار أعمال أحد على عاتق الآخرين مطلقاً، فالكل مسؤول عن أعماله وهو لوحده يتحمل جزاءها فيؤدّي ثمن ما اقترف من جرائم وذنوب.
ففي الآية الاولى التي وردت في القرآن المجيد مرتين قال تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً لَاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفسٍ شَيْئاً». (البقرة/ 48- 123)
وجاء هذا المعنى باختلاف ضئيل في الآية الثانية، قال تعالى: «يَوْمَ لَاتَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً». (الانفطار/ 19)
وفي الآية الثالثة ركّز على مورد متميز فقال: «وَاخْشَوا يَوْماً لَّايَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً». (لقمان/ 33)
إنّ العلاقة بين الأب والأولاد تقوم على أساس «العاطفة والمحبّة»، وتقوم العلاقة بين الأولاد والأب على أساس «الاحترام والمحبّة»، وفي الواقع أنّ هاتين العلاقتين هما أقرب وأقوى الروابط العاطفية لدى الإنسان، ولكن رعب وخوف يوم القيامة يبلغ حداً من الهول العظيم ممّا يجعل هذه الروابط تتلاشى وتذوى وتبلغ حدّاً يؤدّي إلى أن لا يفكّر أحد إلّا بنفسه، دون غيره.
وأفادَ عدد من المفسرين في تفسير الآيات المذكورة بأنّ «لا تجزي» أتت بمعنى «لا تغني» «1».
__________________________________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 103؛ وتفسير الميزان، ج 16، ص 251؛ وتفسير روح البيان، ج 1، ص 127.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 81
قال «الراغب» في «المفردات»: الجزاء في الأصل بمعنى الاستغناء والاكتفاء، واطلقوا على الثواب والعقاب جزاء لأنّهما يكفيان لإصلاح العمل المرتكب، وجاء نفس هذا المعنى في مقاييس اللغة أيضاً.
ومن الجدير بالذكر أنّ الخطاب في الآيتين الاوليين موجّهٌ إلى بني اسرائيل الذين يضرب بهم المثل على مدى الدهور بالتعصّب العرقي والقومي، فالقرآن ينذرهم بقوله: أنتم الذين تحملون روح التعصب فيما بينكم فسوف تنسون كل شي ء في ذلك اليوم العظيم، كل شي ء إلّاأنفسكم.
والحقائق الناصعة التي تحملها هذه الآيات
لا تحتاج إلى توضيح؛ وذلك لأنّها تُثبتُ بوضوح أنّ أهوال يوم القيامة والوقائع الصعبة التي تقع في ذلك اليوم العظيم لا مثيل لها في هذه الدنيا، ففي هذه الدنيا يوجد الكثير ممن يضحّي للآخرين بنفسه من أجل الروابط العاطفية، ولكن هذا الأمر لا يَصْدُق في يوم القيامة على أحد.
هذا التعبير الذي جاء في مورد واحد من القرآن المجيد هو بيانٌ لبعدٍ آخر من أبعاد ذلك اليوم العظيم ويعكس صورة اخرى عن يوم المحشر، قال تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ». (آل عمران/ 106)
والوجوه المنيرة هي لأولئك الذين تنعّموا بنور الإيمان فيظهر هذا النور على وجوههم لأنّ يوم «القيامة هو يوم تبرز فيه السرائر» قال تعالى: «وَ أَمَا الَّذِين ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيَها خَالِدُونَ». (آل عمران/ 107)
أمّا أصحاب القلوب المظلمة الذين خَلَتْ قلوبهم من النور، والكفار والمجرمون الذين اسودّت قلوبهم فإنّ ظلمات باطنهم تخرج إلى ظاهرهم، ويُغمرون في عذاب اللَّه ويقال لهم:
«فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ». (آل عمران/ 106)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 82
وهذا التعبير المذكور أعلاه انعكس بصورة اخرى في آيات القرآن المجيد أيضاً، ففي احدى الصور قال تعالى «كَأَنَّمَا اغْشِيَتْ وُجُوهُهُم قِطَعاً مِّنَ الَّيْلِ مُظلِماً». (يونس/ 27)
وجاء في صورة اخرى قال تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ». (عبس/ 38- 39)
وفي الثالثة: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ». (عبس/ 40- 41)
متى تَحِلُّ هذه الواقعة؟ ومتى تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ اخرى
يرى البعض أنّ هذا سيقع عندما تتفرق الصفوف عن بعضها للورود إلى الجنّة أو الدخول إلى النار، ويرى البعض الآخر أنّ هذا سيقع عند مشاهدة صحائف الأعمال، ويرى آخرون إنّه سيقع عند الخروج من القبور أو عند الوقوف إزاء ميزان
العدل الإلهي.
ولكن بما أنّ ذلك اليوم هو يوم إبراز وظهور حقائق الأفراد والأعمال فإنّه يبدو أنّ وقوع هذا الأمر يتمّ في أول وهلة عند خروج الناس من القبور ويستمر فيما بعد.
من هم أصحاب الوجوه البيض ومن هم أصحاب الوجوه السود؟
للمفسرين في الجواب على ذلك احتمالات عديدة، وأحياناً حصروا ذلك في أشخاص محدودين، ولكن الظاهر أنّ جميع المؤمنين أصحاب العمل الصالح يكونون في صف أصحاب الوجوه المبيضة وجميع أهل الكفر والمجرمين في صف أصحاب الوجوه المسودّة.
وأخيراً أراد بعض المفسرين أن يحمل هذين التعبيرين على مفهومهما المجازي فقالوا البياض هو لبيان السرور والفرح والسواد لبيان الغم والهم «1».
ولكن لا يوجد هناك ضرورة لارتكاب مثل هذه المخالفة للظاهر، بل يجب حمل الآية على المعنى الحقيقي لها، فعندما يقول القرآن:
«يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ». (حديد/ 12)
فما الذي يثير العجب من أن تكون هناك وجوه بيض منيرة ووجوه سود مظلمة؟
__________________________________________________
(1) تفسير المراغي، ج 4، ص 25.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 83
وما أعظم خوف ذلك اليوم حقّاً! عندما يظهر ما في قلب الإنسان وروحه على وجهه، إنّه يوم الخزي العظيم لسود القلوب ويوم الكرامة الكبرى لبيض القلوب، ولهذا السبب يكون المؤمنون في ذلك اليوم موضع احترام وتكريم في المحشر ويكون الكافرون مورد لعنٍ وطرد!
هذا التعبير جاء في موردٍ واحد من القرآن الكريم عند وصف الأبرار والمحسنين، قال تعالى: «وَيَخَافُونَ يَوْماً كَان شَرُّهُ مُسْتَطِيراً». (الإنسان/ 7)
«مستطير»: من مادة «طيران» وهي هنا بمعنى واسع ومذبذب، لذا فسّرها البعض بمعنى الشي الذي اتّسع بشكل خارق للعادة، واطلق هذا التعبير على الفجر عندما ينبسط في الافق فقالوا: «فجرٌ مستطيرٌ».
و «الشر»: جاء هنا بمعنى عذاب يوم القيامة، أو الخوف والرعب من ذلك
اليوم الذي ينتشرُ حتى يغطي جميع الأرض والسماء ممّا يجعل الملائكة أيضاً يتملَّكهُمُ الخوف، هناك يَتَمَلَّكُ الخوفُ الجميعَ لا المجرمين والمسيئين فحسب، بل حتى المؤمنين والمحسنين يتملّكهم الخوفُ وذلك لأنّهم لا يعلمون ما ينتهي إليه مصيرهم أو مآلهم.
والجدير بالذكر أنّه يُعتبرُ في الآية المذكورة الخوفُ من مثل هذا اليوم من الصفات الممدوحة والامور الايجابية في أخلاق الأبرار الطاهرين؛ وذلك لأنّ خوفاً كهذا يكون نابعاً من التقوى والتوجُّهِ إلى الطاعة المطلقة للخالق جلّ شأنهُ.
التعبير أعلاه والذي ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد هو تجسيم آخر بَيِّنٌ لمشهدِ يومِ القيامة، قال تعالى «يَوْمَ يَفِرٌّ الْمَرْءُ مِن أَخِيْهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيْهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيْهِ* لِكُلِ
نفحات القرآن، ج 5، ص: 84
إِمْرءٍ مِّنْهُمْ يَؤَمِئذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ». (عبس/ 34- 37)
من الطبيعي أن يكون أقرب وأحبّ الأفراد للإنسان هم الأخوة والأم والأب والزوجة والأولاد، ومن العجيب أنّ القرآن لم يقُلْ إِنَّ الإنسان في غفلة عن هؤلاء في ذلك اليوم بل قال: إنّه يفرُّ من الأُمِّ التي كان يحبها كثيراً أو الأب الذي يكُنٌّ له التقديرَ والاحترام ومن الزوجة التي كان يعشقها، والأولاد الذين كانوا ثمرة قلبه ونور عينيه! بلى إنّه يفرّ منهم جميعاً!
إنّ هؤلاء كانوا ملجأً له من مشاكل الدنيا، وسكناً له في المصائب الشدائد ولكن ما الذي يحدثُ هناك بحيث يفرّ منهم؟!
إن صيحة يوم البعث والذي عبر عنها القرآن الكريم ب «الصاخة» والتي وردت في الآية التي سبقت الآيات المذكورة في موضوع بحثنا، حيث وصفت هذه الصيحة بالعظمة بحيث تمزق عُرى كافة الأواصر، وهذا الصوت من الرهبة بحيث يدخل الرعب والرهبة على القلوب ويصم الآذان.
فلماذا يفرّ المرءُ؟
هل يفرّ خوفاً من الفضيحة أمام أقرب الخلق إليه؟
أو خوفاً من تبعات الذنوب التي
ارتكبها؟
أو يفرّ من حقوق الناس التي تثقل عاتقه؟ فمن المحتمل أن يطالبه هؤلاء بحقوقهم في ذلك اليوم الذي تكون فيه يد الإنسان خالية من كلّ شي ء!
أو لا هذا ولا ذاك بل إنّه يهرب من شدّة الخوف والرعب في المحشر حيث إنّ هذا الموقف يُرغمُ كلَّ إنسانٍ على الهرب أحبّته والاهتمام بنفسه ولا غير، كي يجد لها مخلصاً ممّا هي فيه.
إنّ كل واحد من هذه الامور الأربعة يكفي لوحده أن يكون مدعاة للهرب والخلاص فكيف الحال إذا اجتمعت معاً؟
جاء في الحديث الشريف إنّ أحد أقرباء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله سأله عن: ثلاثة مواقف يوم القيامة لا يفكر أحد إلّابنفسه: 1- الميزان 2- الصراط 3- تطاير الكتب «1».
__________________________________________________
(1) تفسير البرهان، ج 4، ص 429، ح 1.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 85
هذا التعبير الذي ورد ذكره في القرآن المجيد مرّة واحدة تصوير أو تجسيد آخر للوقائع المروّعة لذلك اليوم العظيم، فقد خاطب الكفار والمشركين فقال تعالى «فَكَيَفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفْرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً» «1»
- «2». (المزّمل/ 17)
إنّ هذا التعبير من أبلغ التعابير التي تميط اللثام عن الوقائع المرعبة لذلك اليوم كما تؤثِّر تلك الوقائع على عالم الطبيعة وعلى الجبال والصحراء وتجعلها هباء وتؤثر كذلك في هذا الإنسان الترابي بحيث الاضطراب والخوف والانقباض إلى درجة تشيبُ الولدانُ من هولها.
وحمل بعض المفسرين هذا التعبير على معناه الحقيقي أي أنّ آثار المشيب تظهر على الأطفال حقيقة وإن كانت الفاصلة الزمنية بين الطفولة والمشيب كبيرة، وجاءوا لإثبات ذلك بأدلة أيضاً، فإننا في هذه الدنيا نشاهد أفراداً يبيضُّ شعر رؤوسهم خلال عدّة أيّام أو حتى لعدّة ساعات من شدّة المصاب الذي يحلّ بهم، فإن كان بوسع أحداث
هذه الدنيا أن تؤثر مثل هذا التأثير على الإنسان فإنّ وقائع المحشر التي هي أشدّ وأصعب كثيراً ستؤثر مثل هذا التأثير لا محالة.
ولكنَّ جمعاً من المفسرين حملوه على المعنى المجازي لأنّ مثل هذه الكناية من الامور الشائعة على ألسنة العرب وغيرهم، فإنّهم من أجل بيان عظمة احدى الشدائد يقولون:
«شيبني هذا الأمر»!
وكلا التفسيرين وجيه بالنسبة لهذه الآية، أمّا ما قيل بأنّ مشيب الأطفال يحصل من طول ذلك اليوم فهذا بعيد، لأنّ هذه الآية مثل كثير من الآيات الاخرى المختصة بالقيامة ناظرة إلى الوقائع المروعة لذلك اليوم، والآيات السابقة لهذه الآية والتي تتحدث عن دَكِّ الجبال تصلح دليلًا مؤيداً لهذا القول.
__________________________________________________
(1) يرى جمع من المفسرين أنّ «يوماً» الذي جاء في الآية المذكورة أعلاه هو ظرف ل «يتّقون»، ولكن احُتمِل بأنّه «مفعول به» ليّتقون، ففي هذه الصورة قدّروا كلمة عذاب في الآية فتصبح الآية على هذا بهذه الصورة: فكيف تتقون إن كفرتم (عذاب) يوم يجعل الولدان شيباً.
(2) «شيب» على وزن (فِعْل) جمع «أشْيَب» بمعنى الشيخ المُسِن، ومادة شَيب على وزن (فَعْل) بمعنى تغيّر لون الشعر من الاسود إلى الابيض.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 86
ورد ذكر هذا التعبير مرّة واحدة أيضاً في سورة المرسلات، قال تعالى «هذَا يَوْمُ لَايَنْطِقُونَ». (المرسلات/ 35)
هل يكون الفزع والخوف العظيم الحاصل في القيامة السبب في توقف ألسنتهم عن النطق كما هو الحال في الدنيا عندما تصيب الإنسان داهية تجعله لايستطيع الكلام؟!
أم لأنّهم لا يمتلكون خطاباً ولا عذراً وحجة؟! أم تتوقف الألسن عن التكلم بأمر اللَّه وتشهد الجوارح على أعمالهم؟ كما جاء في الآية الكريمة: «الْيَومَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». (يس/ 65)
من الممكن أن تجتمع هذه
التفاسير الثلاثة معاً في الآية، وإن كان التفسير الثالث أكثر مناسبة، على أيّة حال فإنّ هذا لايمنع من أن يتكلّم الإنسان في بعض مواقف القيامة بأمر اللَّه، لأنّ القيامة لها مواقف مختلفة، وقد اتضح من خلال الآيات القرآنية أنّ المجرمين في بعض هذه المواقف يكونون صُمّاً بُكْماً لاينطقون وأنّهم في مواقف اخرى يتكلمون بأمر اللَّه.
ونواجه هنا أيضاً من خلال هذا التعبير الدقيق والفريد من نوعه وجهاً عبوساً آخر لذلك اليوم العظيم، قال تعالى : «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَونَ إِلَى السٌّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ». (القلم/ 42)
يرى الكثيرُ أو جمعٌ من المفسرين بأنّ التعبير: «يُكْشَفُ عَن سَاقٍ» هو كناية عن هولِ المطلعِ وشدّة الخوف والفزع، وذلك لأنّ الناس قديماً كانوا يرفعون الأكمام عن أذرعهم ويرفعون أذيال ثيابهم إلى المحزم تأهباً عند مواجهة الشدائد والحوادث وفي هذه الحالة تكون السيقان مكشوفة طبعاً.
ويرى بعضٌ من المفسرين أنّ هناك احتمالًا آخر في تفسير هذه الآية وهو إن «ساق»
نفحات القرآن، ج 5، ص: 87
بمعنى الأصل والأساس لكل شي ء (مثل ساق الشجرة)، وبناءً على هذا تكون جملة «يُكشَفُ عن ساقٍ» دليل على ظهور وبروز حقائق الأشياء في ذلك اليوم «1».
وعلى أي حال فإنّ الجميع يُدعون في ذلك اليوم المرعب للسجود أمام عظمة خالق الكون فيسجد المؤمنون، ومن المحتمل أن تكون هذه السجدة من بواعث اطمئنان القلب والروح، أما من تلوث قلبه بالكفر والذنوب فلا يستطيع السجود.
جاء في الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام في قوله: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَونَ إِلَى السُّجُودِ» قال: «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجداً وتدمج اصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود» «2».
وقال البعض إنّ المراد من «يَوْمَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ» هو ظهور النور الإلهي.
هذا التعبير أيضاً يوضّح واقعة اخرى مؤلمة من وقائع ذلك اليوم، قال تعالى «يَوْمَ لَايَنْفَعُ الظَّالِميِنَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ». (غافر/ 52)
من المتعارف في هذه الدنيا اللجوء إلى الاعتذار وطلب المغفرة من أهل النجاة من مخالب العقوبات، لكنّ طبيعة يوم القيامة تكون على نحوٍ لا مجال فيه لعذر الظالمين، لأنّ ذلك اليوم وُضِع أساساً لجني
الأعمال لا لترميم الماضي الذي يعتبر نوعاًمن العمل.
في بعض الآيات السابقة اتضح لنا عدم الاذن لهم بالاعتذار في ذلك اليوم، وفي البعض الآخر من الآيات اتضح أنّهم وإن اعتذروا بألسنتهم إلّاأنّ ذلك الاعتذار أيضاً لا ينفعهم، فبناءً على هذا لا يبقى أمامهم إلّاطريق الاستسلام للغضب الإلهي وبئس المصير.
ويخاطب القرآن الكريم جميع الناس في هذا التعبير بأن يسارعوا لطلب العفو من اللَّه
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 29، ص 35؛ تفسير القرطبي، ج 10، ص 6728.
(2) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 395، ح 49.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 88
لمحو آثار الذنوب فإنّ محوها غير ممكن إلّافي هذه الدنيا، ومحو آثار الظلم عن طريق أداء حق المظلومين، فيجب الاستفادة من هذه الفرصة وإلّا فإنّ في ذلك الموقف العظيم والمحكمة الكبرى لا ينفع الندم ولا الاعتذار ولا البكاء والعويل.
هذا التعبير من التعبيرات الرهيبة أيضاً، وقد ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد، قال تعالى «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» ثم أعقبه تعالى «يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذ فُلَاناً خَلِيلًا». (الفرقان/ 27- 28)
يعضُّ الإنسان أحياناً على أصابعه عند الندم للتأسُّفِ الشديد من الأعمال الماضية، ويعضُّ أحياناً على ظاهر كفّه أيضاً، وعندما يكون الندم والتحسّر شديداً جدّاً فإنّه يعضٌّ على كلتا يديه بالتناوب، وهذا أروعُ تعبير لبيان شدّة الندامة والأسف.
بلى إنّ الظالمين يعضّون على أيديهم في ذلك اليوم العظيم بصورة مستمرّة، لأننا نعلم بأنّ أحد أسماء ذلك اليوم هو: «يَوْمُ الْحَسْرَة». (مريم/ 39)
ولكن ما الفائدة من ذلك؟ هل أنّ إدماءَ الأيدي بالأسنان والذي هو نوع من الانتقام من النفس يصلح لحلّ المشكلة، أو لجلب الاطمئنان؟ أم يزيدُ من ألم الظالمين
ويجعل فضيحتهم اشنع؟!
جاء في تفسير «الميزان» إن «الظالم» في هذه الآية يشمل جميع الظالمين، كما أنّ «الرسول» أيضاً يشمل جميع الرُّسُل، (أي اللام فيهما للاستغراق) وإن كان الخطاب في هذه الآية موجهاً إلى ظالمي هذه الامة والمراد من الرسول هو رسول اللَّه محمد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله.
وقد ذكروا أسباباً مختلفة لنزول هذه الآية يطول تفصيلها، ولكننا نعتقد بأنّ أسباب النزول لا تحدد مفهوم الآيات «1».
__________________________________________________
(1) للاطلاع أكثر راجع التفسير الأمثل، ذيل الآية 28 من سورة الفرقان.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 89
يلاحظ هنا أيضاً تعبيران متشابهان ومتقاربان لوصف مشهد ذلك اليوم العظيم: ففي التعبير الأول والذي ورد ذكره مرّتين قوله تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ».
(الاحقاف/ 20- 34)
ففي الآية الاولى بعد ذكر هذا المقطع قال تعالى «أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ».
وفي الآية الثانية قال تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ».
لقد ورد التأكيد في الآية الاولى لبيان أنّ السبب يقع على الجانب العملي، أي تلك اللّذات اللامشروعة والاستفادة المحرمة من الهبات الإلهيّة، وفي الآية الثانية جاء التأكيد على الجانب الاعتقادي الذي يكون سبباً في هلاك أهل النار.
و من الملفت للنظر: إنّ بعض الآيات القرآنية تَذْكرُ بأنّ يوم القيامة يؤتى بالنار صوب المجرمين «وَجِئَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ». (الفجر/ 23)
ولكن في هذه الآية التي هي محلّ بحثنا ذُكِرَ بأنّ الكفار هم الذين يساقون تجاهَ النار، وكأنّما هنالك قوّة جذب بينهما، فتارة يؤتى بجهنم صوبهم وأخرى يؤتى بهم إلى النار! ليتجرّعوا العذاب.
وفي التعبير الثاني يُشار
إلى نوع آخر من أنواع العذاب المؤلم ليوم القيامة ويسمى ذلك اليوم باسم ذلك العذاب، قال تعالى «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرّسولَا». (الاحزاب/ 66)
وللمفسرين اقوال عدّة في المراد من تقلّب الوجوه في ذلك اليوم، فتارةً قيل إنّ المراد من التقلّب هو تغيّر لون الوجوه، فتكون مصفرّة وذابلة وأُخرى تصير محمرّة كالنار وثالثة تسودُّ وتصبح كقطع الليل.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 90
وقال البعض منهم إنّ المراد من التقلّب هو تقليب الوجوه كما تقلب الأشياء على النّار للطهي من طرفٍ إلى آخر، فهكذا يُفعلُ بوجوه المجرمين أيضاً في ذلك اليوم العظيم.
وقيل إنّ المراد إلقاؤهم على وجوههم في النار، والحكمة من ذكر الوجوه هنا هو إنّ الوجوه أشرف أعضاء بدن الإنسان وأجلّها لديه.
وهناك احتمال آخر أيضاً وهو الجمع بين التفاسير الثلاثة في هذه الآية وإن كان التفسير الأول والثاني أقرب للصحة فعلى أيّة حال فإنّ الآية تُنبئُ عن الفاجعة الكبرى والعذاب العظيم الذي يواجهه المجرمون والكافرون والمعاندون يوم القيامة.
والخطاب الذي تحمله هذه الآية هو دعوة الناس إلى الاجتهاد في طاعة اللَّه ورسوله في الدنيا قبل حسرة ذلك اليوم العظيم وقولهم ياليتني ... والتي لا تعود عليهم بأيّة فائدة حينئذٍ؟ لماذا يرجّحون اليوم طاعة العباد الذين يتخلّقون بأخلاق الشيطان وطواغيت العصر على طاعة اللَّه؟ الأمر الذي يكون السبب الرئيسي في ندمهم يوم القيامة.
هذا التعبير أيضاً له شبه كبير بالتعبيرات السابقة، قال تعالى «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَّارِ جَهَنَّمَ دَعّاً». (الطور/ 13)
ثم يقال لهم: «هَذِهِ النَّارُ الَّتى كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ* أَفَسِحرٌ هَذَا أَمَ أَنْتُمْ لَاتُبْصِرُونَ».
(الطور/ 14- 15)
«يُدَعُّون»: من مادة «دَعّ» كما قال الراغب في المفردات بمعنى «الطرد الشديد»، فهذا التعبير يدلّ على
أنَّ نَفْسَ الأَخْذِ إلى جهنم أيضاً يكون مقروناً بالشدّة والفزع والخوف والاضطراب الشديد في يوم القيامة العظيم، إن تصوّر هذا التعبير يكفي لأنّ يرتعد الإنسان ويفكر في عاقبة أمره، ويوضح للإنسان عِظَمَ المصير الذي سوف يلاقيه.
وما أكثر التباين بين أصحاب جهنم وأصحاب الجنّة، حتى في كيفية انتقالهم إلى مقرّهم
نفحات القرآن، ج 5، ص: 91
النهائي! فقد جاء في القرآن الكريم عن كيفية انتقال أهل الجنّة إليها: «سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». (النحل/ 32)
وجاء في موضع آخر بأنّ الملائكة تقول لهم: «سَلَامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرتُم فَنِعْمَ عُقبى الدَّارِ». (الرعد/ 24)
التعبير الأول تعبيرٌ مروّع عن ذلك اليوم العظيم، وذلك لأنّ اللَّه عزوجل بعظمته وقدرته الخالدة يهدد الكافرين والمجرمين بأشدّ اسلوب فيقول: «يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ». (الدخان/ 16)
فكلما أمعَنَ الإنسان النظر في مفردات هذه الآية؟ كالتعبير ب «البطش» الذي يعني الأخذ بالقوة والمصحوب بالهجوم، والتعبير ب «الكبرى الذي هو دليل على قوة البطش أو عظمته، والتعبير ب «إنا منتقمون» الذي هو جملة اسمية وبنفس الوقت مؤكّد ب «إنّ» فسوف يرتعد له بدنه، لأنّ اللَّه الرحيم الغفور واللَّه القادر القاهر يهدد بمثل هذا التهديد.
قال جمع من المفسرين واحتمل آخرون أنَّ الآية تدلّ على العقاب الشديد الذي أصاب المشركين في غزوة بدر الكبرى لكنّ مفردات الآية تتناسب مع عذاب أكبر وأشدّ وأشمل، وهذا ممّا لا يصدق إلّاعلى عذاب الآخرة، بالإضافة إلى أنّ الآيات السابقة لها لا تناسب النزول في غزوة بدر الكبرى
وفي التعبير الثاني أشير إلى بُعد آخر من أبعاد ذلك اليوم، قال تعالى «يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ». (الشورى 47)
فلا يوجد هناك سبيل لجبران الماضي ولا سبيل للعودة إلى هذه الدنيا لتدارك
ما فات.
ويرى بعض المفسرين أنّ هذه الجملة تدل على حتمية وقوع ذلك اليوم لأنّه تعالى قال:
نفحات القرآن، ج 5، ص: 92
«يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ»، أي أنّه واقعٌ حتماً، فعلى هذا المعنى يكون مفهوم الآية قريباً من جملة «لا ريب فيه» التي وردت للتعبير عن يوم القيامة، لكنّ ذيل الآية: «مَالَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَالَكُمْ مِن نَّكِيرٍ» يناسب التفسير الأول.
وهناك احتمال آخر هو أنّ المراد من الآية أنّ أحداً لايستطيع في ذلك اليوم مَنْعَ وايقاف العذاب الإلهي عنكم، وهذا المعنى يتناسب مع ذيل الآية.
فعلى أيّة حال فإنّ أيّ تفسيرٍ نرجّحه من بين هذه التفاسير فهو يحمل خطاباً بليغاً وشديداً.
هذا التعبير الذي ورد ذكره في القرآن المجيد مرّة واحدة هو تعبير غامض ومُقزعٌ، وينبّه الإنسان إلى امور مهمّة فيما يتعلق بذلك اليوم، قال تعالى «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَى ءٍ نُّكُرٍ». (القمر/ 6)
وللمفسّرين احتمالات عدّة في مسألة من هو «الداعي» فهل هو اللَّه؟ أم الملائكة المقربون؟ مثل جبرئيل، أو اسرافيل الذي يدعو الناس إلى القيامة بواسطة نفخ الصور، فلو أخذنا بنظر الاعتبار الآية الشريفه: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَستَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ». (الاسراء/ 52)
فإنّ المعنى الأول يكون مناسباً، وإن كانت الآيات اللاحقة أكثر تناسباً مع الملائكة وعمّال الحساب والجزاء.
ما هو المراد من «شي ء نُكُر»؟
هل يكمن هذا الشي ءُ في أنواع العذاب الرهيب التي لم تخطر على بال أحد من البشر؟
أم هو الحساب الدقيق للأعمال الذي لم يكن يتوقّعة أحد من قبل؟ أم هو مجموع هذين؟
فمهما يكن من شي ء فهو أمر رهيب ومُفزع وعسير ومؤلم.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 93
إنّ الانذار الشديد الذي يحتوي عليه هذا التعبير عن القيامة عجيبٌ حقاً، قال تعالى
«يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ». (القمر/ 48)
نحن نعلم بأنّ الوجه أشرف محل في الإنسان وفي نفس الوقت ألطف جزء من أعضاء البدن، ونعلم بأنّ كثيراً من الأجزاء المهمّة مثل العين والفم والأنف توجد في الوجه، ومن جانب آخر نعلم بأنّ نار جهنم أشد من نار الدنيا بكثير فإنّ نار الدنيا في مقابل تلك النار ضئيلة أو محدودة جدّاً.
تصوروا ماذا سيحدث إذا سُحبَ أحدٌ في النار على وجهه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا العمل دليل على شدّة التحقير لهؤلاء المستكبرين عُبّاد الذات، فعلى هذا يجتمع هناك العذاب الجسمي والعذاب الروحي في آنٍ واحد.
ويوجد هناك احتمالان في معنى «سَقَر» التي هي على وزن (سَفَر):
الاحتمال
الأول: هو أنّها نفس جهنم
الاحتمال الثاني: أنّ المراد منها قسم معّين من جهنم الذي هو مقرّ المتكبرين وذو حرارة عالية واحراقٍ شديد، والاحتمال الثاني تؤيده رواية الإمام الصادق عليه السلام، قال عليه السلام: «إنّ في جهنم لوادٍ للمتكبرين يقال له سقر شكا إلى اللَّه شدّة حره وسأله أن يأذن له أن يتنفس فأحرق جهنم» «1».
هذا التعبير الذي ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد يعتبر من جملة صفات يوم القيامة ومن التعبيرات التي تبعثُ على الرهبةِ والهلع أيضاً، ويشير إلى حجم النار الكبير وكثرة أصحاب جهنم، هذا المشهد يبعث الرعب والخوف في قلب كل إنسان لئلا يكون أحد
__________________________________________________
(1) تفسير الصافي، ج 5، ص 104- 105 في تعليقه على الآية.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 94
هؤلاء، قال تعالى «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ». (ق/ 30)
ويوجد في تفسير هذه الآية رأيان: الأول هو أنّ الاستفهام هنا «استفهام إنكاري»، أي أنّ جهنم في الجواب عن هذا السؤال هل امتلأت؟ تقول بتعجب هل هناك زيادة على هذا؟
للدلالة على أنّه لم يبق فيها مكان فارغ.
والاحتمال الثاني أنّ الاستفهام «استفهام تقريبي»، أي هل هناك أفراد آخرون يردون جهنم؟ على هذا المعنى تكون النار دائماً في حالة البحث عن الظالمين المجرمين، ويشبه حالها حال الإنسان الشره الذي يطلب دائماً طعاماً كثيراً ولا يشبع من ذلك أبداً، ولا عجب أن لا تشبع النار من المذنبين الظالمين ولا تشبع الجنّة من الصالحين.
إلّا أنَّ بعض المفسرين أوردوا على هذا التفسير إشكالًا بأنّه لا يتناسب مع هذه الآية:
«لَأَمْلَئَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اجْمَعِينَ». (السجدة/ 13)
وعلى هذا الأساس فلابدّ من الرجوع إلى التفسير الأول «1»، ولكن يمكن الجواب على هذا
الإشكال بأنّ الامتلاء له درجات، كما لو مُلى ء صحن من الطعام وأعطي لشخص فيطلبُ أن يُزادَ له فيه.
وفي مسألة كيفية الاستفسار من جهنم وجوابها قال البعض: إنّه سؤال من خزنة وحفظة جهنم وجوابهم، وقال البعض إنّ هذا الاستفسار والجواب هو بلسان الحال وقيل أيضاً إنّه يفهم من مجموع آيات القرآن وبعض الأخبار بأنّ جهنم موجود حىّ قادرة على النطق ونباءً على هذا فإنّه من الممكن تفسير الآية بنفس المعنى الظاهري لها «2».
وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية توحي بكثرة أصحاب النار وجدّية التهديد الإلهي لهم، وتنذر الجميع أن لا يكونوا من هذه الزمرة فيها فهذه التحذيراتُ من الممكن أن توقظ الإنسان وتجعله يراجع نفسه ويتوقف عن الاستمرار في ارتكاب الذنوب والخطايا.
__________________________________________________
(1) هذا الإشكال في تفسير الكبير، ج 28، ص 174؛ وتفسير روح المعاني ج 26، ص 17؛ وتفسير الميزان، ج 18 ص 384 نقلًا عن بعض المفسّرين.
(2) ذكر في تفسير روح البيان ج 9، ص 127، شواهد من الآيات والروايات لإثبات هذا المعنى
نفحات القرآن، ج 5، ص: 95
هذا التعبير عن يوم القيامة ورد ذكره مرّة واحدة في القرآن المجيد في قال تعالى «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ»، (أي ألقوا علينا نظرة حتى نستلهم من نوركم، أو أمهلونا حتى نستفيد من نوركم). (الحديد/ 13)
هذا والحال أنّ المؤمنين والمؤمنات يمرّون على الصراط بسرعة خاطفة وأشعة أنوارهم تسطع أمامهم وعن أيمانهم: «يَوْمَ تَرَى المُؤمِنيِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ...». (الحديد/ 12)
اما المنافقون فإنهم ينظرون إلى المؤمنين بحسرة ولهفة يطلبون حزمة أو قبضة من نور المؤمنين ولكنهم يجابون حينها «قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالَتمِسُوا نُوراً». (الحديد/
13)
إنّ القيامة وساحة المحشر ليستا محلًا لكسب النور، بل محل ذلك هو الدنيا فارجعوا إليها إن استطعتم واطلبوا النور والضياء لأنفسكم من مصباح الهداية المنير والعمل الصالح، فما أسوا حال المنافقين أصحاب القلوب الغلف والأفكارِ المظلمة! وما أجمل نورَ الإيمان والعملِ الصالح وما اعظمَ فحوى هذا الخطاب الذي تحمله لنا الآية الكريمة في بيانها لحال الفريقين معاً!
التعبير السبعون وهو الأخير في وصف يوم القيامة هو التعبير المذكور أعلاه الذي ورد ذكره مرّتين في سورة آل عمران، قال تعالى «رَبّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَومٍ لَّارَيْبَ فِيهِ».
(آل عمران/ 9)
وورد هذا التعبير في نفس هذه السورة أيضاً، قال تعالى «فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ». (آل عمران/ 25)
وبما أننا تحدثنا في بحث «حتمية يوم القيامة في نظر القرآن الكريم»- بالقدر الكافي-
نفحات القرآن، ج 5، ص: 96
في موارد هذه الآيات (في هذا الجزء من الكتاب، فلانرى ضرورة لتكرار ذلك، لكننا نشير إلى مسألة واحدة فقط وهي أنّ حتمية وقوع ذلك اليوم وتحقق الوعود الإلهيّة فيه ليست من المسلمات والبديهيات في القرآن الكريم فحسب، بل هي كذلك عند جميع المؤمنين الراسخين في إيمانهم، فإنّهم يعترفون ويجمعون على أنَّ المقولاتِ السابقة ليوم القيامة تخبرُ عن وقائعِ ذلك اليوم العصيب، بينما يخبرُ هذا التعبير عن حتمية وقوعه بلا شكّ، وفي الواقع فهذا التعبير تأكيد لجميع تلك التعبيرات ولهذا انتخبنا هذا الوصف ليكون آخر حلقة تُذكر من سلسلة التعبيرات الواردة في يوم القيامة.
وهذه المسألة من المسائل الجديرة بالذكر لأنَّ المؤمنين عندما يتحدثون عن ذلك اليوم العظيم فإنّهم يأتون بالدليل عليه ودليلهم ماجاء في ذيل الآية الاولى «إِنَّ اللَّهَ لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ»، وهذا دليلٌ على حتمية وقوع ذلك اليوم وعدم إمكان الشك
فيه.
من خلال هذا البحث الواسع حول «أسماء القيامة في القرآن» اتضح لنا بأنّ «ليوم القيامة» في القرآن المجيد على الأقل «سبعون اسماً»، وبديهيِّ إن ما نريده من الاسم هنا ليس هو الاسم العلم بل جميع التعبيرات التي وردت في مورد اسم القيامة في القرآن الكريم التي ابتدأت بكلمة «يوم» (اسم توصيفي).
لكنّنا قسّمنا هذه الأسماء إلى مجموعتين إحداهما الأسماء التي احتوت على كلمة واحدة فقط للتعبير عن ذلك اليوم العظيم، مثل «يوم البعث ويوم القيامة ويوم الدين ويوم الحساب» البالغة أربعة وعشرين اسماً، والاخرى الأسماء التي وصفت يوم القيامة من خلال جملة واحدة (وهي بقية التعبيرات).
وهذه الأسماء والصفات السبعون غنية جدّاً بالمواضيع فهي تنظر إلى يوم القيامة من نوافذ وزوايا مختلفة، وقد كشفت عن جميع الوقائع التي تقع في ذلك اليوم العظيم من بدايته
نفحات القرآن، ج 5، ص: 97
التي هي إحياء الموتى حتى نهايته عندما يُساقُ أصحاب الجنّة إلى الجنّة وأصحاب النار إلى النار.
إنّ هذه الأسماء السبعين ترسم لنا لوحة عجيبة ورهيبة وواضحة وناطقة عن ذلك اليوم العظيم، وتتحدث عن كل ما يمكن أن يقال عنه، وتخبُر عن عاقبة جميع البشر في مواقف المحشر جميعاً.
إنّه ليس من المعقول أن يتأمل الإنسان في هذه الاسماء وينظر إليها نظرة موضوعية فلاتؤثر فيه الأثر التربوي العميق، فالهدف منها في الواقع هو ايقاظ الإنسان من خلال هذه التعبيرات التي صوّر كل واحد منها زاوية معينة من المعاد، فإنّها تدعوه إلى الخروج من الضلال إلى الهدى ومن الرجس إلى الطهارة، ومن حبّ الدنيا إلى الزهد فيها، ومن الفسق إلى التقوى ومن الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الشرك إلى التوحيد.
إنّ هذا القرآن كتاب هدايةٍ حقّاً، وما أعجب
سبله التربوية العالية.
ضَعُوا هذه الأسماء إلى جنب بعضها مرّة اخرى ومرّوا بها على نوافذ قلوبكم، وتأملوا في كل موردٍ وردت فيه، وماهي العواقب التي يصوّرها للإنسان؟ ثم استفيدوا منها في تربية أنفسكم.
اللّهم أعطنا إدراكاً وبصيرة نرى ذلك اليوم العظيم من جميع زواياه التي بينتها لنا في القرآن الكريم.
ونصغي لنداء هذه الآيات.
ونحفظ فحوى هذه الأسماء.
ووفِّقنا للتأهب لذلك اليوم العظيم آمين يا ربّ العالمين.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 99
نفحات القرآن، ج 5، ص: 101
نظراً للأهميّة الفائقة التي أولاها القرآن الكريم للمعاد في بعد المعارف الدينية ومن حيث التأثير التربوي لها في الآخرين معاً، فإنّه خصص آيات متعددة لبيان أدلة إثبات المعاد.
وهذه الأدلة في الواقع تنقسم إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: الأدلة التي استدل بها على إثبات وقوع المعاد وإثبات وجود الحياة بعد الموت من طرق متعددة.
القسم الثاني: الأدلة التي تُمثل في الواقع جواباً على الإشكالات التي أوردها المخالفون، الذين يعتقدون باستحالة الحياة بعد الموت.
وادّعوا من خلال تعبيرات مختلفة «عدم إمكان» وقوعها.
لقد طرح القرآن المجيد في مقابل ذلك مجموعة من الأدلة «العقلية» و «الحسية التجريبية» واثبت لهم «إمكان المعاد الاخروي» ودحض ادّعاءهم.
إنّ الاسلوب الطبيعي للبحث يوجب علينا طبعاً أن نطرح أولًا أدلة «إمكان» المعاد، فنبتدئ بالإنطلاق من مرحلة «الجحود المطلق» إلى مرحلة «الإمكان المطلق»، بعد ذلك نطرح «أدلّة حتمية» على المعاد و «أدلة إثبات الوقوع» كي نتعرف من خلال ذلك وبصورة صحيحة ومنطقية على حقيقة المعاد ومراحله جميعها.
والملاحظة المهمّة التي يجب أن نؤكد عليها هنا: إنّ جميع مناظرات القرآن الكريم في مجال إمكان المعاد جاءت لاقناع منكري المعاد الجسماني، والقرآن الكريم يؤكدّ على
نفحات القرآن، ج 5، ص: 102
مسألة إعادة «الروح» و «الجسم» معاً في الدار الآخرة وأنّه امر ممكن بلا شك وذلك لأننا نشاهد في هذا العالم نماذج مختلفة لمصاديق ذلك.
على أيّة حال فإنّ الطرق التي يسلكها القرآن لإثبات ذلك كثيرة جدّاً ومتنوعة ويمكن تلخيصها في ستِّ طرق:
1- آيات الخلق الأول (خلق العالم والإنسان).
2- آيات شمول القدرة الإلهيّة.
3- آيات احياء
الأرض.
4- آيات تطور مراحل الجنين.
5- آيات عودة الطاقة.
6- آيات النماذج الحيّة والتأريخية للمعاد في هذه الدنيا.
ومن أجل التعرف على هوّيةِ المخالفين الذين يعنيهم القرآن الكريم وعلى مقصود الآيات في ذلك يجب قبل الدخول في البحث أن نطرح بعض الجوانبِ من منطق المخالفين الذي بينته آيات القرآن الكريم، ذلك المنطق الذي يطرحه المخالفون في يومنا هذا أحياناً ويؤكّدون عليه.
بعد هذا التوضيح نتوجه للبحث في أدلة (امكان المعاد) ونتحدث أولًا في تحديد منطق المخالفين ووجهة نظرهم فيه:
نفحات القرآن، ج 5، ص: 103
قلنا بأنّ القرآن المجيد من أجل تهيئة الأرضية الفكرية اللازمة لاستيعاب هذه المسأله يبدأ أولًا بالحديث عن «إمكان المعاد»، ويثبت ذلك بطرق مختلفة (الطرق الستّ)، بعد ذلك يبدأ بذكر أدلة «وقوع المعاد».
ويحتمل أن لا تكون هناك ضرورة للتنبيه على أنّ المخالفين للمعاد لا يمتلكون دليلًا معيناً لإثبات مقصدهم فهم عادةً يؤكّدون على مسألة استحالة الحياة بعد الموت بسبب عقليتهم الساذجة، حتى يعتبرون الاعتقاد بمسألة الحياة بعد الموت من علامات الجنون وكانوا يسخرون ممن يقول بذلك ويتهمونه بالافتراء على اللَّه.
بعد ذكر هذه المقدمة نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية:
1- «وَقَالُوا ءَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً». (الاسراء/ 49- 98)
2- «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ». (سبأ/ 7- 8)
3- «وَقَالُوا ءَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْارْضِ ءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ». (السجدة/ 10)
4- «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ءَإِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا ءَإِنَّا لُمخْرَجُونَ* لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». (النمل/ 67- 68)
5- «فَقَالَ الْكَافِرونَ هَذَا شَي ءٌ عَجِيبٌ* ءَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ
بعَيِدٌ».
(ق/ 2- 3)
6- «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّم وَكُنتُم تُرَاباً وعِظَاماً أَنَّكُمْ مُّخرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ
نفحات القرآن، ج 5، ص: 104
لِمَا تُوعَدُونَ* إِنْ هِىَ إِلّا حَيَاتُنَا الدٌّنيَا نَمُوتُ ونَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».
(المؤمنون/ 35- 37)
7- «إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ* إِنْ هِىَ إِلّا مَوتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحنُ بِمُنشَرِينَ» «1».
(الدخان/ 34- 35)
هذه الآيات وإن كانت ذات مضامين مشتركة إلّاأنّ هناك تفاوتاً في تعبيراتها ومحتوياتها وتحتاج إلى الدقّة وإلامعان.
ففي الآية الاولى إشارة إلى مقولة مشركي العرب، قال تعالى «وَقَالُوا ءَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَانَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً».
كيف يمكن للإنسان بعد أن يتفسخ لحمه ويصبح تراباً ثم تندرس عظامه وتصبح رميماً ورفاتاً أن تجمع ثانياً ثم تلبس ثوب الحياة من جديد فأين العظام الرميمة والمتلاشية من الإنسان الحيّ المتحرك القوي؟!
«رُفات»: من مادة «رَفْت» (على وزن فَعْل) بمعنى حطام، وعدّ البعض «الالتواء» من معانيه أيضاً، وقال البعض إنّ «الرفات» بمعنى الذرات العتيقة المتفسخة وهي الحالة التي تحصل للعظام بعد أن تمضي عليها سنون متمادية وهذه التفسيرات جميعها كثيرة الشبه ببعضها «2».
وما فسّره البعض- نقلًا عن روح المعاني- بأنّه بمعنى التراب أو الغبار أو ما اصبح دقيقاً إِثْرَ الدّقِّ الكثير فهو في الواقع بيان لبعض مصاديقه.
__________________________________________________
(1) يوجد في هذا المجال آيات متعددة اخرى متقاربة الافق مع هذه الآيات المذكورة مثلًا ما جاء في سورة الواقعة الآية 47 و 48؛ وفي سورة الصافات الآية 53؛ وسورة يس الآية 78 و ...
(2) مفردات الراغب ومقاييس اللغة والتحقيق وتفسير روح المعاني.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 105
والآية الثانية تصور الأسلوب الخشن، المعاندَ والأكثر غروراً للمشركين في قوله تعالى
«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» (لانّه يدعّي أنّ هذا الخبر من اللَّه) «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» (فكلامه كلام المجانين) (والعياذُ باللَّه).
هكذا كان يتصور هؤلاء بأنّ أخبار النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن المعاد الجسماني ناتج عن أحد أمرين فكانوا يقولون: إمّا أن يكون هذا الرجُل
عاقلًا وفطناً لكنّه من أجل الطموحات الشخصيّة نَسَبَ هذه الامور إلى اللَّه كذباً كي يجمع الناس حوله، وإمّا أن لا يكون لديه غرض شخصي ولكنّه (والعياذ باللَّه) اصيب بالجنون! وإلّا فإنّ العاقل لا يمكن أن يقول بأنّ العظام البالية والتراب المنثور الذي ركبت ذرّاته أمواج الرياح وذهبت في كل صوب أن تجتمع يوماً وتحيى من جديد!
إنّ هؤلاء الحمقى المغرورين الذين لم يذكروا النبي إلّابعنوان «رجُل» وبصيغة نكرة قد نسوا نشأتهم الاولى بالمرّة وخيّمتْ على بصائرهم حُجب الجهل فمنعتهم من مشاهدة مصاديق المعاد في حياتهم اليومية، وسوف نتطرق للبحث في هذا المجال بإذن اللَّه بعد ذكر هذه الآيات.
و «مُزِّقْتُم»: من مادة «تمزيق» بمعنى الشّق والتقطيع، وجاءتَ هنا للدلالة على تحلل الإنسان وتناثرِ عناصره واختلاطها بالتراب والماء والهواء.
وفي الآية الثالثة نجد تعبيراً جديداً في هذا المجال، قال تعالى «وَقَالُوا ءإِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ ءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ».
التعبير بالضلال في الأرض يكون تارةً للدلالة على تحول أعضاء جسم الإنسان إلى تراب بحيث تكون كالارض، وتارةً اخرى للدلالة على تشتتها في مناطق متوارية من العالم على نحوٍ لا يمكن تمييزها أبداً.
بهذا الأسلوب كانوا يريدون أن يثبتوا بأنّ عودةً كهذه أَمرٌ محال جدّاً! بينما قد تحقق
نفحات القرآن، ج 5، ص: 106
نفس هذا الأمر في بداية خلق الإنسان، فإنّ العناصر المنبثقةَ في عالم الطبيعة اجتمعت بقدرة اللَّه ووجد منها الإنسان (والوقوع أفضل دليل على الإمكان).
ورد ذكر هذا الإدّعاء في الآية الرابعة مع بعض الإضافات الاخرى قال تعالى «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ءَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤنَا ءَإِنَّا لُمخْرَجُونَ* لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَآبَاؤنَا مِن قَبْلُ إِنْ هذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ» «1».
يفهم من هذا التعبير أنّ مسألة المعاد وبالتحديد المعاد الجسماني لم
تكن من مختصات القرآن والشريعة الإسلامية فحسب، بل ممّا أخبر عنه الأنبياء المتقدمون أيضاً، ولكن للأسباب التي سوف نذكرها لاحقاً- إن شاء اللَّه- لم يخضع متكبِّرو الامم للحق أبداً، وكانوا يعتبرونه أمراً خرافياً واسطورياً بعيداً عن العقل والمنطق، فالآية الشريفة ذكرت أنّ هؤلاء تمسّكوا بأمرين لانكار المعاد:
الأول: أنّ عودة الحياة للتراب تبدو أمراً مستبعداً.
والثاني: بما أنّ جميع الأنبياء السابقين وعدوا الامم السالفة ولم يتحقق وعدهم أبداً، فهذا دليلٌ على أنّ هذا الأمر اسطورة وخرافة لا غير، (وكأنّهم يتوقعون بأنّ القيامة يجب أن تتحقق على الفور وإلّا فهي كذب وافتراء).
__________________________________________________
(1) «اساطير» جمع «اسطورة» ويرى بعض اللغويين أنّها جمع «أسطار» وهي بدورها جمع «سطر» بمعنى الشي المدوّن كذباً، وقال البعض أيضاً: بما أنّ «اسطورة» من الصّيغ «المزيد فيها» فإنّها تدل على زيادة في السطر المعهود، ولذا اعتبروها بمعنى «السطر المنّمق»، ومهما يكن من أمر فإنّ الاسطورة بمعنى المقولة الباطلة الخرافية التي لا أصل لها. (مقاييس اللغة- المفردات- مصباح اللغة- التحقيق).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 107
وفي الآية الخامسة يَردُ تعبير آخر عن ذلك الإنكار والاستبعاد، قال تعالى «فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَى ءٌ عَجِيبٌ* ءَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» «1».
فهم في مبتدأ مقولتهم يعتبرون ذلك أمراً «عجيباً»، وفي ذيل مقولتهم يعتبرونه «بعيداً» ولكنهم لم يفكّروا بخلقهم وإن هذا الأمر «العجيب والبعيد» قد تحقق بوضوح في خلقهم الأول، بل كما سوف يأتي لاحقاً بأنّ مسألة المعاد وتجدد الحياة من الامور التي شاهدناها ونشاهدها دائماً في هذه الدنيا، فكيف يكون هذا الأمر عجيباً وبعيداً؟
وفي الآية السادسة نرى المخالفين يكررون هذا اللون من الانكار ولكن بأُسلوبٍ آخر، فكانوا يقولون لقرنائهم وأقربائهم مشكّكين متخذين أسلوب الاشاعة والاثارة: «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتٌّم
وَكُنْتُمْ تُرَاباً وعِظَاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ* هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ».
ثم إنّ هؤلاء الحمقى لايخالون أنّ هناك حاجة للاستدلال فيقولون بِتَعَسُّفٍ: «إِنْ هِىَ إِلّا حَيَاتُنَا الدٌّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِيَن».
وهذا من أشد تعبيرات المنكرين المعاندين في مجال إنكار المعاد، وذلك من دون أن يفكروا في فلسفة خلق الإنسان وأنّه هل من الممكن أن تكون هذه الحياة القصيرة المليئة بالمصائب والمشاكل الهدف والغرض الرئيسي من خلق الإنسان؟ ومن دون أن يفكّروا بفلسفة الأوامر الإلهيّة وأنّه هل من الممكن أن يعامل اللَّه العادل، الصالحين والطالحين على حدٍ سواء؟ وأن لا يفرّق بينهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن دون أن يفكّروا بنشأتهم الاولى حين كانوا في البداية تراباً وعناصر متفرّقة.
قد يكون تقدم كلمة التراب على العظام في الآية الكريمة- مع أنّ بدن الإنسان يتحول إلى عظام رميمة أولًا ثم يكون تراباً- وذلك للإشارة بالتراب إلى اللحم الذي يصبح تراباً
__________________________________________________
(1) بعض المفسرين لا يرون فرقاً بين «رَجْع» و «رجوع» (مثل صاحب الميزان) بينما يعتقد البعض الآخر بأنّ «رَجْع» استعمل متعدياً و «رجوع» لازم (تفسير روح البيان، ج 9، ص 103) وجاء في تفسير فخر الرازي أيضاً الفرق بين هذين التعبيرين، ولكن الآية تحتمل كلا المعنيين (تفسير الكبير، ج 28، ص 152).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 108
قبل العظام، أو الذكر له بالتراب على الأجداد والماضين الذين تحولت أبدانهم إلى تراب تماماً، وللدلالة بالعظام إلى الأباء والامهات الذين فارقوا الحياة قريباً، أو لأنّ عودة الحياة إلى التراب أبعد إلى التصديق من عودته إلى العظام، لذا تقدمت كلمة التراب، وفي كل الأحوال فيه بيان لشدّة معارضتهم لهذه المسأله.
وفي الآية السابعة والاخيرة نلاحظُ تعبيراً جديداً أيضاً، وهو إن مشركي العرب
ومنكري المعاد من دون أن يتحدّثوا عن الرفات والتراب وأمثال هذه الامور، ادّعوا بدون دليل: «إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ* إِن هِىَ إِلّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحنُ بِمُنْشَرِينَ».
الأمر العجيب في هذه الآية أنّ هؤلاء قالوا إن هي إلّاموتتنا الاولى فلماذا اتوا بهذا التعبير بينما كان عليهم أن يقولوا: إن هي إلّاحياتنا الاولى
وقد أجاب المفسرون عن هذا السؤال بأجوبة مختلفة، ولكن الجواب الأكثر مناسبة أن يقال إنّهم كانوا يقصدون من كلامهم هذا إنّه لا يوجد بعد هذه الحياة إلّاالموت ولا شي ء يحدث بعد الموت، أيْ لا يوجد هناك حياة اخرى
وآخر الكلام في هذه الآية قال الزمخشري بعد أن طرح هذا الإشكال في الكشاف: إنّه قيل لهم إنّكم تموتون موتة تتعقبها حياة، كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عزوجل: «وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ». (البقرة/ 28)
فقالوا: «إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى يريدون: ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلّا الموتة الاولى دون الموتة الثانية وما الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلّا للموتة الاولى خاصة «1».
لكنّ التكلف واضح على هذا التفسير، والتفسير الأول هو المناسب (فتأمل).
__________________________________________________
(1) تفسير الكشاف، ج 4، ص 279 في ذيل الآية مورد البحث.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 109
السؤال الآخر الذي طرح في مورد هذه الآية إنّ كل «أول» يجب أن يكون له «ثانٍ» فعلى هذا كيف يمكن أن لا يتلو «الموت الأول» «موت ثانٍ»؟
والجواب على هذا السؤال واضح، وهو أنّه ليس من الضروري أن يكون لكل أولٍ ثانٍ، فمثلًا لو نذر الإنسان على نفسه أن يسمّي أوّل ابنٍ يهبه اللَّه له «محمداً»، فمن الممكن أن لا يهب اللَّه له إلّاذلك الابن، أو أن
ينذر للَّه على نفسه أن يهدي أوّل كتاب يؤلفه إلى أبيه، ومن الممكن أن لا يؤلّف كتاباً غيره، ونحن نعلم أيضاً أنَّ أحد أسماء اللَّه تعالى هو الأول مع أنّه لايوجد هناك إلهٌ ثان.
تعرفنا من خلال الآيات السبع المذكورة والآيات الاخرى المقاربة لها على منطق منكري المعاد وبالأخص اولئك الذين عاصروا نزول القرآن، ويمكن تلخيص اقوالهم في مجال إنكار المعاد الجسماني غالباً في عدّة جمل ادّعائية:
كيف يمكن للعظام الرميم أن تلبس ثوب الحياة من جديد؟
كيف يمكن لِلَحْمِنا وعظامنا التي تحولت إلى تراب وتفرقت عناصرها في كل صوب وتحللت واختلطت بالأرض وتلاشت أن تجمع ثانية وتدبَّ فيها الحياة من جديد؟ أليس هذا افتراء على اللَّه أو من علائم الجنون؟!
لا يوجد هناك غير هذه الحياة الدنيا وهذا الموت، فهل قام أحد من مرقده كي نصدق هذا الادّعاء؟ إنّ هذا الإدعاء لا أساس له وهو أمرٌ عجيب وغير ممكن فلا يمكن تصديقه!
إنّ هؤلاء المنكرين الغرورين الذين لم يتأملوا حتى في خلقهم الأول، ولم يعوا نماذج الحياة بعد الموت التي يشاهدونها باستمرار في حياتهم، وهؤلاء الذين يعتمدون على الادّعاءات الواهية، لا شي ء إلّامن أجل العناد والحميّة لا يختصون بذلك الزمان فحسب ولا بأيّ زمانٍ معيّن، فنحن في هذه الأيّام أيضاً نسمع مثل هذه الأقاويل على لسان أفراد آخرين من الذين حشروا أنفسهم بين الفلاسفة والعلماء.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 110
وعلى أيّة حال فإنّ القرآن المجيد أجاب عن هذه الادّعاءات بكل قوّة كما سوف يأتي ذلك في البحوث القادمة، فهي إجابات لجميع فرق منكري المعاد وعلى جميع المستويات العلمية، ومن الممكن أن تقنع هذه الأجوبة حتى اولئك الذين لم يمتلكوا شيئاً من العلم، ولكن على شرط أن يكونوا من طلّاب
الحقيقة.
والآن نستمع لبيانات القرآن في مجال أدلة إمكان المعاد.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 111
1- الخلق الأول
2- القدرة الإلهيّة المطلقة
3- آيات احياء الأرض
4- التطورات الجنينية
5- المعاد في عالم الطاقة
نفحات القرآن، ج 5، ص: 113
لقد وردت طرق كثيرة لإثبات إمكان المعاد في القرآن المجيد جميعها على شكل استدلالات منطقية، فصوّرها القرآن بتعابير راقية جدّاً.
ويمكن تلخيص ما جاء في القرآن- كما أشرنا سابقاً- إلى ستة مواضيع:
1- الخلق الأول.
2- شمول القدرة الإلهيّة.
3- تكرر حدوث الموت والحياة في عالم النباتات.
4- التطورات الجنينية.
5- اعادة الطاقة.
6- النماذج الحيّة لوقوع المعاد.
إنّ القرآن الكريم أوردَ آيات متعددة لكلٍ من العناوين المذكورة، والتدبر في هذه الآيات لايوصلنا إلى إثبات إمكان المعاد فحسب، بل ويدلّنا على مواضيع مهمّة اخرى أيضاً.
بعد هذه الإشارة الوجيزة نعود إلى القرآن المجيد فنمعن النظر خاشعين في القسم الأول من الآيات المتعلقة بالخلق الأول:
1- «وَضَرَبَ لَنَا مَثلًا وَنَسِىَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحىِ العِظَامَ وَهِىَ رَمْيِمٌ* قُلْ يُحيِيهَا الَّذِى انشَأَهَا اوَّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ». (يس/ 78- 79)
2- «افَعَيِينَا بِالخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّن خَلقٍ جَدِيدٍ». (ق/ 15)
3- «وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهوَنُ عَلَيْهِ». (الروم/ 27)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 114
4- «اوَلَمْ يَرَوَا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».
(العنكبوت/ 19)
5- «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ». (الاعراف/ 29)
تبدأ الآية الاولى بسرد القصة المعروفة للرجل المشرك و هو إمَّا «ابَي بن خلف» أو «العاص بن وائل» أو «اميّة بن خلف» الذي جاء يحمل بيده عظماً رميماً وهو يقول سأذهب وأخاصم محمداً صلى الله عليه و آله بهذا الدليل القاطع! وابطلُ ما جاء به عن المعاد!
فذهب إلى النبي صلى الله عليه و آله ونادى قائلًا: «من الذي يحيي هذا العظم الرميم؟» ومن يصدق هذه الدعوى ومن المحتمل أنّهُ من أجل التأكيد على خطابه سحق جزءاً من ذلك العظم ونثره على الأرض: «قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ».
وبعد
وقوع تلك الحادثة خاطب القرآن النبي صلى الله عليه و آله (في خمس آيات) وأمره أن يجيب على هذا الرجل وأمثاله بقوّة ومن طرق متعددة إحداها الإشارة إلى الخلق الأول وقد بينها القرآن بعبارة وجيزة ولطيفة جدّاً، قال تعالى: «ونَسِىَ خَلْقَهُ»!
ثم قام تعالى بشرحها فقال: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنْشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ» فإن كنت تتصور أنّ العظام بعد أن تبلى وتنشر كل ذرّة منها في ناحية فإعادة جميع الأوصاف الاولى إليها أمرٌ محال حيث لا يوجد أحدٌ يحيط بها علماً، فإنك في ضلالٍ بعيد، لأنّ اللَّه تعالى الذي خلق كل شي ء: «وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».
و «انشأها»: من مادة «انشاء» بمعنى الإيجاد والهداية وهي هنا كأنّها إشارة لهذه الحقيقة وهي أنّ الذي خلقها في البداية من لا شي ء فإنّه من الأَولى أن يتمكن من خلقها مرّة اخرى من التراب.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 115
وهناك احتمالان في المراد من نسيان الخلق في هذه الآية، الاحتمال الأول: إنّ الإنسان نسيَ خلقه الأول الذي بدأ من نطفة حقيرة وقطرة ماءٍ مهين ثم بدأ يتردّدُ ويشكك بقدرة اللَّه على الإحياء الجديد.
والاحتمال الثاني: إنّ هذه الآية تشير إلى خلق آدم من التراب، وكأنّها تريد أن تقول: ألم نخلق الإنسان من تراب في بادئ الأمر؟ فكيف يكون من المحال تكرار هذا الأمر؟ وذلك لأنّ «حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد».
ومن اليديهي أنّ «النسيان» هنا إمّا جاء بمعنى النسيان الحقيقي الواقعي أو تنزيل الشخصِ منزلة الناسي وإن لم يكن في الواقع كذلك، وذلك لأنّه لم يعمل وفق علمه بل اتّخذ موقفَ المُنكِرِ «1».
وفي الآية الثانية أشير إلى هذه الحقيقة ببيانٍ آخر، فقد قال تعالى في جواب منكري المعاد: «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ»؟ حتى نعجز
عن خلقه مرّة اخرى
ثم يضيف تعالى إنّ هؤلاء لم يشكوا في قدرة اللَّه تعالى على الخلق الأول، بل ترددوا وشككوا بالاحياء المجدد بسبب غفلتهم ونسيانهم أو بسبب تعصبهم وعنادهم أو أنّهم اعتادوا على ما يشاهدونه في حياتهم أنّهم لم يروا أحداً خرج من قبره حياً بعد موته: «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّن خَلْقٍ جَدِيدٍ».
وهكذا ورّطوا أنفسهم في تناقضٍ واضح لايجدون له مخرجاً أبداً.
«عيينا»: من مادة «عَيّ» تأتي أحياناً بمعنى العجز وعدم القدرة وأحياناً بمعنى التعب والألم، وقد جاءت هنا على المعنى الأول، أي أننا لم نعجز عن الخلق الأول.
والمراد من «الخلق الأول» إمّا الإيجاد الأول لكل إنسان أو يختص بخلق آدم، وأمّا ما احتمله بعض المفسرين من أنّ المراد من الخلق الأول هو خلق عالم الوجود فإنّه لا يتناسب مع بحثنا.
__________________________________________________
(1) جاء هذان الاحتمالان في تفسير روح المعاني، ج 23، ص 50.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 116
و «لبس»: على وزن «حَبْس» في الأصل بمعنى ستر الشي ء واللباس سُمّيَ بذلك لأنّه يستر ويغطّي البدن، أمّا الراغب فإنّه يرى أنّه يستعمل في الامور المعنوية أيضاً، فيدلّ على ستر الحقائق، وفي الآية المعنية جاءَ هذا المعنى أي أنّ أمر المعاد هو حقيقة التبست عليهم.
وفي الآية الثالثة نلاحظ تعبيراً آخر في هذا المجال، هو إجراء المقارنة بين «مبدأ» الحياة و «المعاد»، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِى يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».
فسّر عدد من المفسيرين جملة «يبدأ» على أنّها تدل على الماضي، أيْ أنّ اللَّه تعالى بدأ الخلق، لكن ماهو المانع من تفسير «يبدأ» بمعناه الحقيقي بما أنّه فعل مضارع؟ وبما أنّ الفعل المضارع يدل على الاستمرار فيكون معنى الآية هنا: «إنّ اللَّه يخلق ويعيد على
الدوام» أي أنّ عالم الوجود هو عبارة عن تكرار الحياة والموت واستمرار المبدأ والمعاد، فعلى هذا الأساس لا يمكن الشك في إمكان وقوع المعاد.
فعالمنا يموت ويحيى ويخلق من جديد باستمرار، ومن هنا تكون الإعادة إلى حياة جديدة أمراً غير مستغرب، فيكون هذا جواباً دقيقاً وجميلًا للجاحدين.
و جملة «و هو أهون عليه» تُبين هذا المفهوم، وهو: أنّه لايوجد في قاموس القدرة الإلهيّة المطلقة واللامحدودة أي معنى للسهل والصعب فكل شي ء لديه سهل يسير، ولا فرق بين قلع جبل من أعظم جبال العالم من مكانه وبين رفع قشة صغيرة، وخلق منظومة شمسية وخلق ذرة من تراب، لأنّ السهل والصعب في مقابل القدرة الإلهيّة لا معنى له، طبعاً بالنسبة لنا أصحاب القدرة المحدودة، فإنّ رفع حجر صغير أمر سهل أمّا رفع حجر كبير يعد من المصاعب.
فما هو المراد من قوله «أهونُ»؟ هل هناك شي ء صعب عليه وآخر أهون منه مع أنّ قدرته واحدة بالنسبة لجميع الأشياء؟
وقد أجاب المفسّرون عن هذا السؤال بعدّة أجوبة فقالوا: إنّ أفضل جواب هو أنّ هذا
نفحات القرآن، ج 5، ص: 117
الخطاب ذكره اللَّه تعالى من أجل استئناس العباد بهذا المنظار وهذا المنطق، لأنّ من ينجز عملًا يكون عليه إنجاز ذلك العمل في المرّة الثانية أهون، وإن كانت جميع الأشياء متساوية بالنسبة للقادر المتعال.
واجيب تارةً أخرى إنَّ «أهون» لم تأتِ هنا بصيغة افعل التفضيل، بل أتت بمعنى «هين» أي سهل.
وقد أتوا بتفسيرات اخرى أعرضنا عن ذكرها لعدم مناسبتها المقام.
على أيّة حال فإنّ مفهوم سهل وأسهل يصدق على الناس، وإن كل شي ء بالنسبة لقدرة اللَّه سبحانه السر مدية متساوٍ، ولا يوجد هنالك اسهل أو أصعب بالنسبة له تعالى
والآية الرابعة تحمل مضمون الآية السابقة بنحو آخر،
وماهي في الحقيقة إلّاتفسير وتوضيح لما جاء في تلك الآية، حيث قال تعالى «اوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعُيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» «1».
والإتيانُ بصيغة المضارع «يبدأ» و «يعيد» من المحتمل أن يكون تأكيداً لما جاء في الآية المذكورة سابقاً من أنّ اللَّه يُبدئ ويعيد الخلق على الدوام وبصورة مستمرّة فيتجدد العالم ويتغير ويتكرر وقوع الإيجاد والمعاد في كل آنٍ وخاصة عندما اتى بهذا التعبير: اوَلَم يروا ... الذي يشير إلى أنّ مشاهدة هذا الايجاد المستمر والاعادة المتكررة أمر ممكن لجميع الناس.
ويوجد هناك احتمالٌ أخر هو أنّ «يُعيدُ» بيان للمعاد الحاصل في يوم القيامة لا غير، ففي هذه الحالة يكون معنى الآية بهذا النحو: أولم يروا كيف يُبدئ اللَّه الخلق؟ فإنّ المُبدئ للخلق يمكنه أن يعيده مرّة اخرى
__________________________________________________
(1) يجب الانتباه إلى أنّ يُبْدي (من باب الأفعال) وَيبْدأ (من الثلاثي المجرد) كلاهما لهما معنىً واحد وهو ابداء واظهار الشي ء.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 118
وجملة «إنّ ذلك على اللَّه يسير» تشير إلى أنّ كل شي ء سهل ويسير على اللَّه تعالى ومن الممكن أن تكون دليلًا للذين فسّروا «أهون» بمعنى «هيّن» في الآية السابقة.
على أيّة حال فإنّ جميع منكري المعاد يرون بأعينهم كيف تنبت النباتات في الأرض الميتة؟، وكيف يضع البشر أقدامهم في عالم الوجود؟ وكيف تورق وتثمر الأشجار من جذع يابس؟ وكيف تتكرر عملية الخلق والايجاد في هذا العالم في كل آن؟
فهل تكون هذه الاعادة لجميع الموجودات أمراً عسيراً على خالقها؟ مع أنّ الإيجاد والاعادة كلاهما واحد بالنسبة لشمول قدرته، ووجود الشي أفضل دليلٍ على إمكانه؟
وقد بيّن سبحانه في الآية الخامسة الأخيرة لُبّ المطلب من خلال تعبير وجيز ومختصر جدّاً، حيث قال تعالى:
«كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ». (الأعراف/ 29)
إنّ هذه العبارة في الحقيقة أقصر تعبير واوضح استدلال للقرآن الكريم في مجال إمكان المعاد، فإنّه قاس إمكان الحياة الثانية على إمكان الحياة الاولى وهذا قياس منطقي لقضية عقلية، أمّا اولئك الذين يعتبرون مثل هذه الآيات دليلًا على جواز القياس في الأحكام التعبدية فإنّهم قد وقعوا في خطأ فاحش، لأنّ القياس لا يجوز إعماله إلّاإذا كان دليل الحكم الأول وعلته وحكمته واضحاً مبيناً، ويجب أن تكون هذه العلة موجودة في الحكم الثاني أيضاً، كما هو الحال في الآية المذكورة، في بحث المعاد وغيرها من الامور، لأننا نعلم بأنّ المؤثر في الخلق الأول هو القدرة الإلهيّة، وهذا الأمر بنفسه يكون مؤثراً في الخلق المستأنف، أمّا بالنسبة للقياس في الأحكام الفرعية التي لم تتضح عللها ولم يُصّرح عنها في ذلك الدليل فإنّه لا قيمة له، وذلك لأنّه قياس ظنّي وتخميني لا يقيني وعقلي.
على أيّة حال فإنّ التفسير المذكور أعلاه واضح جدّاً إذا ما استعنّا بالآيات الاخرى التي وردت في هذا المجال، ولكن العجيب تفسير بعض المفسرين من أنّ المراد من هذه الآية هو: كما بدأكم أول الأمر وخلق منكم السعداء والأشقياء والكفار والمؤمنين فإنّه سوف يعيدكم في الآخرة على تلك الحال «1».
__________________________________________________
(1) ذكر الفخر الرازي هذا التفسير واعتبره أحد الاحتمالين في تفسيير هذه الآية (تفسير الكبير، ج 14، ص 58).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 119
ومن المحتمل أن يكون السبب في هذا التفسير هو أنّ البعض أرادوا عن هذا الطريق أن يجدوا دليلًا لتعزيز عقيدتهم الباطلة في مسألة الجبر، بينما لم يكن الحديث في هذه الآية إلّا عن أصل خلقة الإنسان وإيجاده، ثم اعادته إلى حياة جديدة، ولم تأتِ حتى إشارة واحدة للسعادة والشقاء
الجبري في هذه الآية ولم يرد فيها شي ء عن ذاتية الكفر والإيمان.
اتضح جيداً من خلال هذه الآيات أنّ السبب الرئيسي في إنكار المعاد من قبل المنكرين هو غفلتهم وعدم توجههم للخلق الأول لهذا العالم والإنسان، وذلك لأنّهم لو تمعّنوا قليلًا في ذلك الأمر لحصلوا على الجواب المطلوب.
فهل من الممكن أن يكون (الخلق الأول للإنسان من التراب أمراً يسيراً بينما لا تكون إعادته كذلك)؟!
يقول العلماء إنّ الكرة الأرضية بعد انفصالها عن الشمس قبل خمسة مليارات عام تقريباً كانت على شكل كتلة من نار، وبمرور عدّة مليارات من السنين أخذت درجة حرارتها بالانخفاض تدريجياً، ثم تحولت الغيوم التي كانت تحيط بالأرض بكثافة إلى أمطار، وتلك الأمطار التي كانت تهطل بغزارة على الأرض كانت تغلي لشدّة حرارة الأرض وتتبخّر ثانياً فتتحول إلى غيوم مرّة اخرى واستمرت هذه العملية واستمر معها انخفاض درجة حرارة الأرض.
بعد ذلك بدأت إنسيابيّة المياه إلى المناطق المنخفضة من الأرض وكوّنت البحار والمحيطات، ولم يكن آنذاك للحياة أثر.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 120
ولم يكن للنبات أثر.
ولم يخفق طائر بجناحه أو يغرّد.
ولم يتحرك في تلك المحيطات العظيمة أيُّ موجودٍ حي.
وذلك لأنّ محيط الكرة الارضية لم يزل حاراً للغاية ممّا لم يفسح المجال لظهور الحياة عليها.
ثم أخذت درجة الحرارة بالإنخفاض أكثر فاكثر حتى ظهرت بقدرة اللَّه اوّلُ براعم الحياة في البحار والصحاري ثم ظهرت بعد ذلك موجودات حيّة كثيرة وأخيراً خلق الإنسان.
وبناءً على هذا لا يوجد أيّ شك في أنّ الإنسان خلق من التراب ثم يعود إليه فما المانع في أن يعاد ثانياً من التراب؟!
إنّ استئناس الإنسان بهذه الحياة وقصر نظرته وحُجب العناد والتعصب الفكري أحياناً تمنع الإنسان من أن يرى هذه الحقائق الواضحة وأن يصدق أو يعترف بها.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 121
الطريق الآخر لإثبات امكان اعادة الخلق مرة أُخرى في يوم القيامة هو ثبوت القدرة الإلهيّة غير المحدودة.
لأنّ البحث عن المعاد يأتي بعد إثبات أصل التوحيد وقبوله والتصديق بالصفات الثبوتية والاخرى السلبية للحق تعالى نحن نعلم بأنّ أحد صفاته الثبوتية هي «القدرة المطلقة» وهيمنته على كل شي ء، وأنّ أفضل طريق لإثبات قدرته هي التمعن في عظمه
عالم الخلق، بالإضافة إلى أنّ واجب الوجود له وجود غير محدود فمن الطبيعي أن تكون قدرته غير محدودة أيضاً.
إنّ سعة السماواتِ وعظمة المنظومات السماوية وعظمة المجرّات وكثرة الكواكب المحورية والسيارات التي تدور حولها وتنوّع المخلوقات الحيّة من نباتات وحيوانات والأعمال الدقيقة العجيبة التي تؤدّيها الخلايا الحيّة ومكوّنات الذرّة، كل هذه الامور دليل على القدرة اللامتناهية للَّه تعالى
فعند الاعتقاد بهذه الامور وتصديقها لا يبقى مورد للشكِّ والترديد في من هو القادر على إحياء العظام الرميم؟ أو كيف يمكن للتراب المنتشر أنْ يُجمعَ ويلبس ثوب الحياة؟!
لقد كانت هذه نبذة مختصرة عن المواضيع التي سنبحثها في هذا الباب، وقد اشير إلى هذه المواضيع في آيات متعددة من القرآن الكريم، وقبل أن نعطي توضيحاً أكثر نتأمل أولًا في هذه الآيات خاشعين:
1- «لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْارْضِ اكبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ». (المؤمن/ 57)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 122
2- «أَوَلَمْ يَرَوا انَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْارْضَ قَادِرٌ عَلَى ان يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ اجَلًا لّارَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلّا كُفُوراً». (الاسراء/ 99)
3- «اوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالارْضَ وَلَم يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى ان يُحْيِىَ المَوْتَى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (الاحقاف/ 33)
4- «اوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْارْضَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ». (يس/ 81)
5- «قُلْ سِيرُوا فِي الْارْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ» «1». (العنكبوت/ 20)
في الآية الاولى يقيس اللَّه تعالى إحياء الموتى بخلق السموات والأرض، قال تعالى
«لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».
فحتماً يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولًا، فهذا برهان
جلي في إفادة هذا الأمر.
قال الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية: وكان من حقهم أن يقروا بأنّهُ القادر على خلق السماواتِ والأرض ... فقد ظهر بهذا المثال أنّ هؤلاء الكفار يجادلون في آيات اللَّه بغير سلطان ولا حجّة، بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب «2».
وصَرّح آخرون مثل «الطبرسي» في مجمع البيان و «القرطبي» و «روح البيان» بأنّ هذه الآية خوطب بها منكرو المعاد وهي تقول: من قدر على خلق السماوات والأرض
__________________________________________________
(1) أشير إلى هذا المعنى في آيات اخرى أيضاً مثل الآية 9 من سورة الشورى والآية 2 من الحديد.
(2) تفسير الكبير، ج 27، ص 79.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 123
واختراعهما مع عظمهما وكثرة أجزائهما يقدر على إعادة خلق البشر «1».
والإتيان بجملة: «وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ» كما قال كثير من المفسّرين: ليس بمعنى أنّهم في الواقع لا يعلمون بأنّ «خلق السماواتِ بتلك الدقّة والعظمة أرقى من اعادة خلق الإنسان»، بل قد نُزِّلوا منزلة الجاهل في هذه الامور لأنّهم غفلوا عنها ولم يفكّروا ويُمْعِنوا فيها وذلك لتعصبهم واتباعهم الهوى فضلوا في أمر المعاد «2».
والعجيب هنا هو أنّ في تلك العصور لم تكتشف بعدُ عظمة السماواتِ كما هو الحال في عصرنا الحاضر، والقليل من الناس كان له اطلاع آنذاك على الأسرار العظيمة التي كُشفت عن طريق التقدم العلمي في العصور الحديثة، وكانوا لا يعلمون منها إلّاظاهرها، لكنّ القرآن الكريم المترشح من علم اللَّه اللامحدود رفع الحجاب عن تلك الأسرار.
وهناك ملاحظة هي: أنّ اللام في «لخلق» هي «لام الابتداء» ظاهراً وقد جاءت هنا للتأكيد.
وفي الآية الثانية وبعد أن نقل كلام المنكرين الذين انكروا إعادة خلق الإنسان بعد استحالة عظامه وصيرورتها تراباً، قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوا انَّ
اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ».
التعبير ب «مثل» هنا من الممكن أن يكون للدلالة على خلق البشر ثانياً، لأنّ خلقهم يكون كالسابق، ومن الممكن أيضاً أن يكون للدلالة على أنّ اللَّه تعالى قادرٌ على خلق آخرين من البشر من جديد كما خلق هؤلاء، فكأنّه يقول عندما يكون اللَّه قادر على خلق هؤلاء فإنّه قادرٌ على خلق غيرهم.
وهناك احتمال آخر هو أنّ الأبدان المخلوقة من جديد مهماكانت فهي ليست عينَ تلك الأبدان السابقة، وذلك لأنّ مادّتها الاولى تعود مع كيفية وهيئة جديدة غير تلك
__________________________________________________
(1) تفسير الطبرسي، ج 8، ص 529؛ وتفسير القرطبي ج 8، ص 5769؛ وتفسير روح البيان ج 8، ص 199.
(2) تفاسير مجمع البيان؛ الكشاف؛ وروح المعاني ذيل الآية مورد البحث.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 124
الصورة السابقة، فمن أجل هذا عبّر القرآن ب «مثل»، ولكن روح الإنسان هي تلك الروح، فبعد أن تتعلّقَ بالبدن تحافظ على وحدة شخصيتها السابقة واللاحقة، بناءً على هذا فإنّ الناس بعد إعادتهم يكونون عينهم من ناحية، ومثلهم من ناحية اخرى (فتأمّل).
ثم يجيب في ذيل الآية عن سؤال آخر للمنكرين، فأولئكَ كانوا يقولون: إذا كانت القيامة حق فَلِمَ لا تقع، قال تعالى في جوابهم: «وَجَعَلَ لَهُمْ اجَلًا لَّارَيْبَ فِيهِ».
وبتعبير آخر إنّه تعالى مع الحفاظ على كامل قدرته عيّن وقت قيام القيامة بالدقّة حيث ستقع في ذلك الزمان المعيّن من دون أيّ تأخير.
«فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلّاكُفُوراً» لأنّ هوى النفس والتعصب والعداء للحق أرخى على أفكارهم حُجبه وسدوله.
وفي الآية الثالثة ورد نفس هذا المعنى بتعبير آخر، قال تعالى «اوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوتَى بَلَى
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ».
عبارةُ «اوَلَمْ يروا» المراد منها المشاهدة بعين البصيرة والعقل، لذلك فسَّرها المفسرون بمعنى أولم يعلموا، والبعض الآخر فسّرها بمعنى العلم والاطلاع المصحوبِ بالدقّة والتمعّن.
و «يَعْيَ»: من مادة «عَيّ» بمعنى العجز وعدم القدرة على المشي عند الإنسان، واستعملت أيضاً للدلالة على شمول العجز وعدم القدرة على إنجاز عملٍ ما، أو العجز عن بيان أمرٍ ما عن طريق التحدّث للآخرين، و «داءٌ عيّاء» المرض الذي لاعلاج له سُمّي بذلك لأنّه متعب ومسبب للعجز.
وفسّر بعضهم «العي» ب «الجهل» ولكن هذا المعنى لا يناسب هذه الآية.
ومن البديهي أن يُتَصَوّرَ العجزُ وعدم القدرة في الأشخاص الذين تكون قدرتهم محدودة، ولكن هذا غير مُتَصَوَّرٍ بالنسبة للَّه تعالى الذي لا حدَّ لقدرته، فالعجز والتعب لا معنى لهما في هذا المورد.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 125
وعلى أيّة حال فإنّه من الممكن أن يكون هذا التعبير بياناً لخرافاتِ اليهود الذين كانوا يقولون: إنّ اللَّه بعد أن خلق السماواتِ والأرضَ عَييَ وتعب! فخصَّصَ يوم السبت للاستراحة ومنذُ ذلك الحين أصبح هذا الأمر سنّةً لهم.
وسخافة هذا القول من الوضوح إلى درجة أنّه لايستحقُّ أيَّ بحث.
وفي الآية الرابعة ومن خلال أجوبةٍ متعددة لمنكري المعاد وللشخص الذي جاء عند الرسول صلى الله عليه و آله يحمل العظم الرميم الذي قال: «مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ»، قال تعالى
«اوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ العَلِيمُ».
وعندما يكون الحديث عن السماوات فَمِنَ البديهي أن يراد منها جميع ما تحتوية من سيارات ونجوم ومجرّات، ونحن نعلم بأنّ الاكتشافات الأخيرة لعلماء الفلك تنصُّ على أنّ منظومتنا الشمسية تقع ضمن مجرّة درب التّبّانة المعروفة، وقالوا: إنّ هذه المجرّة تحتوي على عدد من النجوم
يبلغ مائة مليار نجمة! والشمس التي نراها إحدى النجوم المتوسطة الحجم لتلك المجرّة!
وقالوا أيضاً: إنّ التلسكوبات العملاقة تمكنت حتى الآن من اكتشاف مايقارب المليار مجرّة!
فلو ضربنا هذه الأعداد ببعضها لحصلنا إجمالًا على رقم هائل من تلك الأَجرام السماوية، مع العلم أنّ هذه الارقام هي ما توصَّل إليه علم البشر لحد الآن ومن الممكن أن نكتشف في الأزمنةِ القادمة عوالم اخرى كثيرة ممّا يَجعلُ ما اكتشف الآن بالنسبة لها شيئاً قليلًا لايُعتدُّ به، كل هذا كان بالنسبة للحديث عن السماء، أمّا عندما يكون الحديث عن الأرض فإنّه يشمل جميع أَسرارها وعجائبها أيضاً.
فهل يعجزُ ويكلُّ خالق هذا العالم العظيم العجيب الذي يحتوي على نظام دقيق أن يُعيد خلق الإنسان ثانياً؟!
والتعبير ب «خلّاق» (اي كثير الخلق) من الممكن أن يكون للدلالة على أنَّ اللَّه تعالى في
نفحات القرآن، ج 5، ص: 126
حالة إيجاد الخلق على الدوام، وفي حالة خلق موجودات جديدة في كل يوم، وكذلك في حالةِ إفناء وإعدام مخلوقاتٍ اخرى في كل يوم، من أجل هذا استخدمت كلمة «خلّاق» بصيغة المبالغة.
ومن الممكن أيضاً أن يكون التعبير ب «عليم» للدلالة على أنّ جمع ذرّات البشر الذين يموتون ويصبحون تراباً وينتشر ترابهم في كل مكان ليس بأمرٍ صعب على اللَّه العالم المطّلع على كل شي ء، كما أنّه ليس من الصعب أيضاً محاسبتهم على أعمالهم التي ارتكبوها طيلة حياتهم (يجب الالفتات إلى أنّ «عليم» صفة مشبّهة، وبما أنّها جاءت مقارنة لصيغة المبالغة خلّاق فإنّها هنا تفيد التأكيد).
الآية الخامسة والأخيرة في هذا المجال تضع أمام منكري المعاد دليلًا حسياً وتجريبيّاً.
قال تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه و آله: «قُلَ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَئ قَدِيرٌ». و «السير في الأرض»: يزيد الإنسان علماً بمعرفة نشأة وظهور الحياة على الكرة الأرضية، وذلك لأنّ الموجودات الحيّة التي وجدت منذ ظهور الحياة على هذا الكوكب بقيت آثارها في طيات القشرة الأرضية، والعلماء في هذا اليوم- عن طريق مطالعة تلك الآثار- توصَّلوا إلى كشف الكثير من أسرار خلق الموجودات الحيّة.
ومن الممكن أيضاً أن يكون الهدف من السير في الأرض كشفَ أسرار تكوّن الكرة الأرضية الذي يتم عن طريق فحصِ الطبقات المختلفة للأرض والعناصر المختلفة الموجودة فيها.
ومن الممكن كذلك أن يكون دليلًا على الخلق الذي يتكرر وقوعه في كل يوم على الكرة الأرضية، ففي كل يوم تظهر إلى الوجود موجودات حيّة كثيرة وتغيب عن الانظار موجودات اخرى
نفحات القرآن، ج 5، ص: 127
فكيف يعجز عن إحياءِ الموتى الهٌ قادر على الإتيان بخلقٍ كهذا وتطورات كهذه؟ وهكذا اعتُبرتْ قدرة الحق المطلقة دليلًا على إثبات إمكان إحياء الإنسان ثانياً.
ولكن يبقى هناك احتمال أيضاً هو أنّ الآية المذكورة دليل على النشأة الأولى للإنسان، وقياس عقلي لإثبات الخلق المستأنف على الخلق الأول، ففي هذه الصورة تكون الآية في عداد الآيات المذكورة سابقاً، وعلى أيّ تقدير تكون دليلًا على نفس المدّعى
يبقى هناك تساؤل وهو: كيف أمر القرآن الكريم البشر بالسير في الأرض لاكتشاف أسرار ظهور الحياة عليها، مع أنّ بداية ظهور الحياة على هذه المعمورة تعود إلى مليارات خلت من السنين ولا يمكن مشاهدتها في هذا اليوم؟ والجواب عن هذا التساؤل يتضح بصورة جليّةٍ من خلال التفسير الذي ذكرناه لهذه الآية آنفاً، فقد ذكرنا فيما سبق ثلاثة أجوبة عن هذا التساؤل «فتأمل».
والجدير بالذكر التعبير عن المعاد هنا ب «النشأة الآخرة» و «نشأة» كما قال
الراغب: هي بمعنى إيجاد وتربية الشي، وهذا يدلّ على أنّ في يوم القيامة يوجد خلق جديد وتربية جديدة أيضاً.
هذا القسم من الآيات بمثابة تذكُّر لمنكري المعاد، لعلهم يعون قدرة اللَّه المطلقة، فتقول لهم: فإن لم تؤمنوا فألقوا بنظرة فاحصة على عالم خلق السماوات والنجوم الثابتة والكواكب السيارة والمجرات والمنظومات السماوية، ثم انظروا إلى الأرض ولما تحتويه من عجائب وأسرار وإلى النظام المهيمن عليهما جميعاً.
فهل في ذلك شك بعد مشاهدة كل هذه الدلائل؟ وهل يمكنكم أن تنكروا قدرة اللَّه المطلقة؟! فإن آمنتم بقدرته المطلقة فكيف تشكّون في مسألة المعاد وإحياء الموتى وتعتبرون ذلك من الامور العجيبة التي لايمكن التصديق بها؟!
نفحات القرآن، ج 5، ص: 129
الإحياء بعد الموت الحاصل في عالم النباتات يمثل ظاهرة اخرى من ظواهر المعاد التي أشار إليها القرآن المجيد مرّات متعدّدة، وقد رسم منها لوحة جميلة لاثبات هذا الأمر ووضعها امام أنظار الجميع.
فهذه الظاهرة يتكرر حدوثها في كل عام أمام الملأ، ونحن نشاهد ذلك مراراً بعدد السنين التي نعيشها في هذه الدنيا.
القانون السائد بالنسبة للحياة والموت هو نظام موحد في كل زمان ومكان، فإن كان احياء الإنسان بعد موته وتحوله إلى تراب من المستحيلات فكيف يَتُمُ إحياء النباتات التي تموت وتتفسّخ مرّة اخرى !
وما بال هذه الأرض الميتة تهتز وتربو بعد نزول المطر وتلبس ثوب الحياة وتخرج النباتات من أعماقها وتنمو وتُظِهرُ ازهارها وتبتسم ورودها؟ إن كل مشاهد الحياة تدل على أنَّ هناك حشراً وحياةً جديدة.
إنّ القرآن الكريم لَفتَ أنظار جميع البشر لهذا الأمر، والآيات الآتية من أهم النماذج لذلك، فلنمعن فيها خاشعين:
1- «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَانبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ* وَالنَّخلَ بَاسِقاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِّزقاً لِّلْعِبَادِ وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيتاً كَذَلِكَ الخُرُوجُ». (ق/ 9- 11)
2- «يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَىِّ وَيُحىِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوتِهَا وَكَذَلِكَ تُخرَجُونَ». (الروم/ 19)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 130
3- «فَانْظُرْ الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيفَ يُحىِ الارْضَ بَعْدَ مَوتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لُمحْىِ الْمَوتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ». (الروم/ 50)
4- «وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ* ذَلِكَ بِانَّ اللَّهَ هُوَ الحَقٌّ وَأَنَّهُ يُحْىِ المَوْتَى وَانَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (الحج/ 5- 6)
5- «وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْارْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبتْ إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لُمحىِ المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىٍ ء قَدِيرٌ». (فصلت/ 39)
6- «وَاللَّهُ الَّذِى أَرسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحْيَينَا بِهِ الَارْضَ بَعْدَ مَوتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ». (فاطر/ 9)
7- «وَهُوَ الَّذِى يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحمَتِهِ حَتَّى إِذَا اقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالًا سُقنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».
(الاعراف/ 57)
لقد اهتم القرآن الكريم في الآية الاولى من هذا البحث بشرحِ جذورِ الحياةِ الرئيسيةِ أيْ قطراتِ المطر، قال تعالى: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مَّبَارَكاً فَانْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ».
أشار القرآن الكريم بهذه الآية إلى جميع بساتين الفواكه ومزارع الغلّات والبقول «1».
ثم أشارَ إلى النخيل الباسقات التي تحمل ثمراً كثيراً وهذا النوع من النخيل يعتبر من أرقى واكمل أنواع النخيل، فأضاف تعالى «وَالنَّخْلَ بَاسِقاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ» «2».
__________________________________________________
(1) يجب الالتفات إلى أنّ المراد من «حب الحصيد» الحبوب القابلة للحصد (و «حصيد» بمعنى «محصود»).
(2) «باسقات» جمع «باسق» أي المرتفع.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 131
والجدير بالذكر أنّه ذكر النخيل الباسقات من جهة أنّها خُلقتْ ونشأتْ من تلك الأرض الميتة، وتلك البذور الصغيرة التي نمت وأصبحت بهذه الهيئة العجيبة.
ومن ناحية
اخرى أشار إلى ثمارها المتراصة التي تحملها في ارتفاع شاهق، تلك الثمار اللذيذة المغذية «الحيوية»، تحتوي على أنواع من المواد الضرورية التي يحتاج إليها جسم الإنسان «1».
وأخيراً نصل إلى هذه النتيجة وهي:، إنّ الهدف من هذا أنّ اللَّه سبحانه يهب (رزقاً للعباد)، «وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيِتاً» «2» «ك مقدمه لك الخرو عيد مبارك».
إنّ هذه الآية تكشف عن حقيقة وهي أنَّ خروج الإنسان يوم القيامة تابع لتلك القوانين المهيمنة على النباتات والبذور والأشجار بفواكهها المتنوعة، ذلك الأمر الذي نشاهده كل عام بأعيننا، ولكن بما أننا اعتدنا على ذلك فإننا نعتبره أمراً عادياً، وبما أننا لم نشاهد عودة البشر إلى الحياة بأعيننا فإنّ البعض يعتقد بأنّ ذلك امر غير معقول وأحياناً يعتقد بأنّه من المحالات، مع أنّ النظام المهيمن على الأمرين واحد.
وفي الآية الثانية طُرحت نفس المسألة ولكنْ بتعبيرٍ آخر، قال تعالى «يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحَىِّ».
إنّ الفاصلة الزمانية التي ترونها بين الحياة والموت لا تكون امراً يُعتنى به بالنسبة للذات المقدّسة الإلهيّة، فهو على الدوام يُخرجُ الحىَّ من الميّت وبالعكس، (يجب الانتباه إلى أن «يخرج» فعل مضارع وهو يدل على الاستمرارية، أي أنّ هذا العمل مستمر ودائم) على هذا فإنّ منظر نهاية هذا العالم الذي هو عبارة عن خروج الموت من باطن الحياة، وكذلك منظر
__________________________________________________
(1) «الطلع» هو اسم ثمار النخيل في بدء ظهورها، و «نضيد» بمعنى متراكم، ومن الغرائب هو أنّ الأشجار نادراً ما تحتوي على فواكه عنقودية الشكل والأكثر غرابه من ذلك أنّ عناقيد ثمار النخيل ثقيلة.
(2) جاء هنا بالصفة «ميتاً» بصيغة المذكر مع أنّ الموصوف «بلدة» مؤنث والسر في ذلك هو أن «بلدة» هنا جاءت بمعنى المكان.
نفحات القرآن،
ج 5، ص: 132
المعاد الذي هو عبارة عن خروج الحياة من باطن الموت امرٌ مستمر ويتكرر وقوعُه أمام أعيننا دائماً ولو على مستوىً محدود، فما المانع من أن تموت جميع الموجودات الحيّة مرّةً واحدة ويُعاد البشر إلى حياة جديدة في يوم الحشر؟ أيْ أنْ يتحقّقَ قانونُ تبديل الموت بالحياة والحياة بالموت بصورة أوسع وأشمل ممّا عليه حالياً.
وأمّا بالنسبة لعروض الموت على الحياة فإنّه أمرٌ بديهي وواضح لدى الجميع، ولكن بما أنّ عروض الحياة بعد الموت يخفى على البعض ويحتاج إلى شي ء من التأمل فقد قال تعالى في ذيل الآية: «وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ».
وجملة «كذلك تُخرجون» تشير بوضوح إلى هذه الحقيقة وهي أنّه لا يوجد هناك ايّ تفاوت بين القيامة الصغيرة التي تحدث في عالم النباتات والأرض الميتة وبين تلك القيامة الكبرى الشاملة.
وبمجرّد أن يتأمل الإنسان قليلًا في هذا الموضوع فإنّه سوف تزول عنه كل ظنونه الخاطئة والوساوس الشيطانية التي تنتابه في أمر المعاد.
إنّ في كل لحظة تمرُّ على هذا العالم الوسيع تنفلق فيها الآلافُ المؤلفة من البذور وتخرج منها براعم جديدة للحياة، وفي كل لحظة تبدأ أرض واسعةٌ بالحياة بعد أن كانت ميتة، إنّها سُنّة اللَّه السرمدية والتي تُوحي بها الآية الثالثة وبعد بيان كيفية تكوّن الأمطار بعد تسيير الرياح وتراكم الغمام على بعضها، قال تعالى: «فَانْظُرْ الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا»، «إِنَّ ذَلِكَ لُمحىِ الْمَوتَى ، نعم إنّه: «عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». و «آثار»: جمع «أَثَر»، قال في «مقاييس اللغة»: إن الأَثَرَ له ثلاثةُ معانٍ، الشي الذي له سابق، والذكر الباقي بعد الموت، وما بقي من رسم الشي، لكن بعض علماء اللغة حَصَروا معنى الأثر في المعنى الثالث، وذلك
لأنّ المعنيين الأولين ناتجان عن الآثار الباقية من أجل الفضيلة وعوامل علوّ الشأن.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 133
والمراد من «رحمة اللَّه» هنا هو المطر الواهب للحياة الذي يعتبر نموذجاً حياً وبيِّناً للرحمة الإلهيّة التي تتجلّى آثارها في كل مكان، فهو يحيي الأرض الميتة ويفيض بالحياة على القلوب الميّتة ويهب النشاط والحياة للهواء الملوّث الميِّت وأخيراً يجود بنور الحياة على جسم الإنسان.
واستعمال كلمة «ذلك» في الآية للإشارة إلى اللَّه تعالى في حين أنّه يستعمل للإشارة إلى البعيد للدلالة على عظمة مقامه وعلى أنّه لا تدركه العقول والأبصار.
والإِتيانُ ب «أنّ» التي تفيد التوكيد و «اللام» في «لَمُحيي» الذي يفيد التوكيد أيضاً بالإضافة إلى «الجملة الإسمية» التي تفيد التوكيد كذلك، كل هذا من أجل إثبات حقيقة إنّ الذي يحيي الأرض الميتة عن طريق إنزال مطرِ رحمتِهِ باستمرار بإمكانه أن يُحييَ أمواتَ البشر وبعيدَ لهم الحياة من جديد.
واستعمال كلمة «انظر» تجلب الانتباه من جهة أنّها تشير إلى أنّ مسألة المعاد أمرٌ حسيّ مشاهد، ظاهرٌ للعيان دائماً، فكيف تُنكرون ذلك أو تتخذونه سخريّاً؟!
وفي الآية الرابعة بعد أنْ ذكر المراحل التكاملية للنطفة في الرحم وبعد ذِكْرِ تطوراتِ الجنين بانّها دليل واضح على مسألة إمكان المعاد، ينتقل إلى الحديث عن بذورِ النباتات التي تنمو في أعماق الأرض، قال تعالى «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً» «1».
«فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الَماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوجٍ بَهِيجٍ».
إنّ القرآن المجيد كتاب عجيب حقاً، فإنّه عندما يريد أن يؤكّد على احدى الحقائق ويرسخها في الأذهان ويكرر ذكرها يصورها بألوان مختلفة، فيشعر الإنسان عند سماع تلك
__________________________________________________
(1) «هامدة» من مادة «همود» قال الراغب في المفردات: الهمود في الأصل بمعنى انطفاء النار (وذهاب حرارتها ونورها)، لكنّ عدداً من
أصحاب اللغة والمفسرين ذكروا لها معاني اخرى أيضاً، ومن جملة معانيها: الجفاف، والسكوت، والموت، وصيرورة الشي بالياً عتيقاً، وهذه المعاني جميعها يمكن أن تنطبق على هذه الآية، فالأرض تموت وتخمد وتطفأ في فصل الشتاء، بينما تدبّ الروح فيها وتأخذ بالحركة في فصل الربيع وكأنّها تصرخ!
نفحات القرآن، ج 5، ص: 134
الحقيقة كأنّه يواجِهُ حقيقةً غيرَ التي سمعها سابقاً ويجد نفسه أمام صورة جديدة من صور تلك الحقيقة، فلا يصبح تكرارها مملًّا أو غير نافعٍ له، فالإنسان يتلقّى دروساً جديدة باستمرار، ونحن نشاهد في مسألة احياء الأرض الميتة في الآيات المعنيّة بالبحث نموذجاً لذلك.
ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم في هذه الآية التي عطفها على مسألة التطورات الجنينية يؤكد على أنّ حياة الإنسان والحيوان والنبات تقع جميعها تحت مقولة واحدة، وكل نموذج نراه ونلمسه في هذه الثلاثة، يكون دليلًا على إمكان المعاد لغيرها من المخلوقات، فالتعبيرُ ب «ترى كالتعبير ب «انظر» في الآية السابقة وكلاهما للتأكيدِ على أنّ قيامة النباتات أمرٌ محسوس ومشاهد.
و «اهتزّت»: من مادة «اهتزاز» المشتقّة من «هزّ» بمعنى الحركة الشديدة، وفسّرها البعض بمعنى الحركة الجميلة الجذّابة، وقد جاءت هنا للدّلالِة على التغيرات الجميلة والحركات المختلفة التي تحصل بفعل نمو أنواع النباتات التي تظهر على سطح التربة.
و «رَبَتْ»: من مادة «ربوّ» وجاءت هنا بمعنى نموّ الأرض لا نمو النباتات، والمراد من نمو الأرض هنا هو بروز اجزاء من التربة بفعل خروج النباتات وتوغّل الجذور وظهور سيقان النباتات، أمّا الذين فسّروا هذه الجملة بأنّها تدلّ على نموّ النباتات فإنّهم في الحقيقة غفلوا عن مفاد الجملة المتأخرة عنها، لأنّه تعالى يقول: «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوجٍ بَهِيجٍ».
وتحمل الآية الخامسة في طيّاتها نفس محتويات الآية السابقة ولكنّها تختلف عنها بعدّة
أمور: أولًا أنّها اعتبرت احياء الأرض الميتة دليلًا على أصل التوحيد بالإضافة إلى دلالتها على المعاد، قال تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ»، (إِنَّ الَّذِى أَحيَاهَا لُمحْىِ الْمَوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شىٍ ء قَدِيرٌ».
وثانياً عبّرت عن الأرض الميتة ب «الخاشعة»، قال في «الميزان» هي الأرض القاحلة،
نفحات القرآن، ج 5، ص: 135
وقد شبّهها هنا بالفقير الذليل المسكين الذي لا يمتلك شيئاً، ثم شبّهها بعد نزول المطر بالذي أُوتيَ مالًا كثيراً ولبس أفضل الثياب، حيثُ يمشي بنشاط مرتفعَ الرأس مستقيماً تبدو آثار النعمة على وجهه «1».
وهناك أمرٌ آخر يمكن أن نستخلصه من هذا التعبير وهو درس من دروس الأخلاق، فكما أنّ الأرض الخاشعة الخاضعة تشملها رحمةُ اللَّه فتحصل على كل آثار البركات والنمو والنشاط، فإنّ عباد اللَّه الخاشعين والخاضعين تنالهم رحمة اللَّه الواسعة أيضاً، وتنمو في نفوسهم براعم العلم والإيمان والتقوى
و وردت هذه المسألة في الآية السادسة بتعبير جديد من خلال بيان كيفية نزول المطرِ، قال تعالى «وَ اللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَاحْيَينَا بِهِ الْارضَ بَعْدَ مَوتِهَا»، «كَذَلِكَ النُّشُورُ».
وهذِهِ الآية في الحقيقة من أدلة إثبات المُبدئ تعالى أيضاً، أي إثبات الذات الإلهيّة المقدّسة، وفي نفس الوقت تستعمل دليلًا على المعاد، فهو يشير في البداية إلى الآيات والبراهين الدالة على وجوده تعالى عن طريق بيان النظام الدقيق المهيمن على حركة الرياح والسحاب وسقي الأرض الميتة وإحيائها، وأخيراً يشير إلى دليلٍ حيّ وعميق المعنى لإثبات المعاد.
وجملةُ «كذلك النشور» بالإضافة إلى أنّها تشبّه إحياء الإنسان بإحياء الأرض الميّتة، إلّا أنّها من الممكن أن تكون دليلًا على سوق الأرواح إلى الأبدان في يوم القيامة ويساق التراب المنتشر فيُجمع
وتحلّ فيه الروح، كما هو الحال في سوق الرياح للسُحُبِ وجمعها إلى بعضها كي تتلاقح وتهطل ثمارها التي هي عبارة عن قطرات المطر.
وفي الحديث الشريف أنّ أحد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سأله قائلًا: كيف يحيي اللَّهُ
__________________________________________________
(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 419.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 136
الموتى وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أمَا مَرَرْتَ بوادِيْ أهلِكَ مُمْحِلًا ثمَّ مَرَرْتَ بهِ يهتزُّ خَضِراً؟» «1» فقال الصحابي: بلى يارسول اللَّه: فقال صلى الله عليه و آله: «فكذلك يُحيي اللَّهُ الموتى وتلك آيتُهُ في خلقه» «2».
وفي الآية السابعة والأخيرة تحدّث سبحانه أيضاً عن إرسال الرياح واعتبرها تُبشِّر عن نزول مطر رحمته، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِى يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَانْزَلْنَا بِهِ المَاءَ» «3».
وبعد ذلك مباشرةً قال تعالى: «فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرون».
وجملةُ «لعلّكم تذكّرون» جاءت للدلالة على أنّ اللَّه يريكم هذه المشاهد في هذه الدنيا كي يثبت لكم وجوده تعالى من ناحية، ومن ناحية اخرى يُثبتَ لكم أنّ هناك معاداً وقيامة في العالم الآخر.
والعجيب ما جاء في الحديث المنقول عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث قال: «ثمَّ يُرسلُ اللَّهُ مَطَراً كأنّهُ الطَّلٌّ فتنبُتُ مِنهُ أجسادُ الناس، ثم يُقال: يا أيٌّها الناسُ هَلُمُّوا إلى ربِّكُمْ، وقفوهُم إنّهم مسئولون» «4».
ويُستفاد من أقوال بعض المفّسرين إنّ ذلك المطر ليس كالمطر المعتاد، بل له شبه بماء النطفة التي يتكوّنُ الإنسان منها! ويستمرّ هطول هذا المطر مدّة أربعين يوماً، فيؤثّر في أجزاء الإنسان الميّتة بشكل عجيب وينفخُ فيها الروح.
__________________________________________________
(1) «ممحل» من
مادة «مَحل» على وزن «نخل» ويعني سَنة الجفاف وانقطاع الأمطار، وموت النباتات، مجمع البحرين، مادة (محل).
(2) تفسير القرطبي وتفسير روح البيان في ذيل الآية مورد البحث.
(3) يجب الانتباه إلى أنّ «سحاب» تفيد الجمع من جهة المفهوم لذلك جاءت الصفة «ثقال» بصيغة الجمع، لكنّها من جهة اللفظ مفردة لذلك جاء الضمير في «سقناه» مفرداً.
(4) تفسير القرطبي، ج 4، ص 2667.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 137
جواب عن سؤال:
أَعطى القرآن المجيد في الآيات المذكورة آنفاً جواباً قاطعاً لمنكري المعاد وذلك عن طريق مثال حسيّ واضح، وجعل «الشاهد» دليلًا على «الغائب» و «اليوم» دليلًا على «الغد».
وذلك لأنّ الأرض الميّتة تحيى في كل عام مرّة أو مرّتين أو أكثر بفعل هطول مطر الرحمة الإلهيّة، بل يمكن القول بأنّ هذا الأمر يتكرر وقوعه في كلّ يوم في العالم، فينبت في كل يوم نبتٌ جديد في الأرض الميتة، وتظهر في كل يوم ظاهرة المعاد أمام نظر الإنسان.
ومن هنا يُطرح هذا السؤال: إنّ العلماء المعاصرين اتفقوا على أنّ جميع التجارب أعطت نتيجة واحدة هي أنّ الموجودات الحيّة لا تولد إلّامن موجودات حية اخرى فإن لم توجدْ في الأرض بذور نباتية فسوف لن يكون نزول المطر مؤثراً أبداً.
ومن ناحية اخرى إنّ البذور تتكوّن من قسمين، وأحد هذين القسمين والذي يعتبر القسم الأكبر من البذرة يشكّل المادّة الغذائية فيها، والقسم الآخر أي القسم الأصغر من البذرة عبارة عن خليّة حيّة، وهذه الخلية إذا توفرت لها الظروف المساعدة (على الأخص الماء) فإنّها سوف تنمو وتترعرع بواسطة التغذّي على المادة الغذائية الموجودة في البذرة والموادّ الموجودة في التربة، فإذا ماعُدمت هذه الخلية الحية فإنّه من المستحيل أن تحيى الأرضُ الميّتة.
وجوابنا عن ذلك هو: إنّ هذا
ممّا لا شكّ فيه، وهو كما تقولون وإنّ تلك الخليّة الحيّة الصغيرة تتغذى على الأجزاء الميّتة التي تمتصها من التربة وتحولها إلى جسم حيّ وموجود حيّ (فتأمل).
وبتعبير آخر: إنّ النخلة التي يصل وزنها أحياناً إلى طن واحد كانت في البداية خليّة صغيرة تأخذ مكانها في النواة، ووزنها لا يتعدّى المليغرام الواحد، ثم بعد ذلك امتصّت ما يقارب الطنّ الواحد من الموادّ الميّتة الموجودة في التربة والماء والهواء التي تعتبر جميعها موجودات غير حيّة، فأعطت الحياة لجميع هذه الموجودات، وهذا في الواقع هو معنى
نفحات القرآن، ج 5، ص: 138
تبديل الأرض الميّتة إلى موجودات حيّة.
والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يقول: تُحيى الأرض الميّتة (ولا يقول تُحيى الأشجار والبذور الميّتة، لأنّ هذه لم تمُت بالكامل) أي أنّ هذه الأرض الميّتة أصبحت جزءاً من بدن النباتات والشجر ثم تبدّلت إلى خلايا حيّة.
ومن البديهي إنّنا لو امعَنّا النظر في ظهور الحياة على الكرة الأرضية لصار الأمر أكثر وضوحاً، لأنّ الأرض بعد انفصالها عن الشمس كانت كتلة من النار ولم يوجد أيّ موجود حي في ذلك الحين طبعاً، ولكن بعد أن بردت الأرض وأصبحت مستعدة لاستقبال الموجودات الحيّة وهطلت الأمطار بغزارة عليها فبردت الأرض بفعل هطول المطر أكثر وأعدّها ذلك المطر لاستقبال الحياة فظهرتْ آنذاك أول براعم الحياة النباتية التي لم يكتشف لحدّ الآن سرّ ظهورها، وبقي هذا السرّ مخفياً عن العلماء وكأنّ ظهورها من تلك الموادّ الميّتة التي تحتوي عليها التربة، وبهذا النحوِ غمرت الحياة تلك الموجودات الميّتة (فتأمل جيّداً).
نفحات القرآن، ج 5، ص: 139
الطريقة الاخرى التي اتبعها القرآن في إثبات إمكان المعاد بالاستفادة من آيات متعددة هي طريقة التغييرات التي تطرأ على «النطفة» مند استقرارها في عالم
«الرحم» العجيب والغامض حتى مرحلة الولادة، وكل مرحلة من هذه المراحل في الحقيقة هي حياة جديدة ونموذج من نماذج المعاد! فالمراحل الكيفية لهذه التطورات كثيرة جدّاً، ممّا تثيرُ مطالعتها ومشاهدتها تعجّبَ الإنسان وتجعله يغرق في التمعّن في كيفية هذا التحول العجيب الذي يطرأ على النطفة الحقيرة في هذه المدّة الوجيزة.
من هنا تعتبر هذه التحولات العجيبة التي لا تتوقف في أي وقت دليلًا على وجود باري هذا العالم القادر، الذي أوجد جميع هذه العجائب في ظلمات الرحم الثالث، ومن ناحية اخرى فإنّ هذه التحولات لها شَبَهٌ كبير بمسألة الحياة بعد الموت، والقرآن المجيد في كلا الأمرين (التوحيد والمعاد) يعتمد على هذه الآيات والدلالات، وحقاً إنّ مثل هذه الظاهرة تستحق أن يُعتمدَ عليها بهذا الشكل.
بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن المجيد ونمعن خاشعين في الآيات التي وردت في هذا المجال:
1- «يَا ايٌّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيبٍ مِّنَ البَعْثِ فَانَّا خَلَقنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرٌّ فِي الْارْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى اجَلٍ مُّسَمّىً ثُمَّ نُخرِجُكُمْ طِفْلًا ...* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقٌّ وَانَّهُ يُحىِ المَوْتى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». (الحج/ 5- 6)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 140
2- «الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالانثَى الَيسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلى انْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى . (القيامة/ 37- 40)
3- «وَانَّهُ خَلَقَ الزَّوجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْانثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيهِ النَّشْأَةَ الاخْرَى . (النجم/ 45- 47)
4- «قُتِلَ الْانسَانُ مَا اكفَرَهُ* مِنْ أَىِّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ* مِن نُطفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَاقبَرَهُ* ثُمَّ إِذَا شَاءَ انْشَرَهُ». (عبس/
17- 22)
5- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النٌّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحمَاً ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلقَاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ احْسَنُ الخَالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعدَ ذَلِكَ لَمَيِّتونَ* ثُمَّ إِنَّكُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبعَثُونَ». (المؤمنون/ 12- 16)
فالآية الاولى في هذا الباب هي نداء لجميع البشر، البشر الذين لا يحدّهم زمان ولا مكان، قال تعالى «يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثَ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبيِّن لَكُمْ».
فهو يشير إلى أربع مراحل من خلق الإنسان (وهي مرحلة التراب، ثم النطفة، ومن بعدها العلقة، ثم المضغة، وكل مرحلة هي بنفسها تعتبر عالماً عجيباً وصعب المنال).
ثم يواصل البيان فيقول تعالى «وَنُقِرٌّ فِي الْأَرْحَامِ مَانَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَّمىً»، وأخيراً وبعد سلوك هذا الطريق الوعر «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا».
بعد ذلك يبيّن المراحل المختلفة لحياة الإنسان في هذه الدنيا، ثم يلتفت إلى عالم النبات ويأتي بمثال آخر من امثلة استقرار البذور النباتية في باطن الأرض ويشير إلى إحياء
نفحات القرآن، ج 5، ص: 141
الأرض الميّتة بواسطة المطر فيضيف تعالى قائلًا: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شى ءٍ قَدِيرٌ».
فهو يسلّط الأضواء على البعد التوحيدي لهذه الظواهر المهمّة للوجود حيناً، ويُسَلِّطُ الأضواء على بُعد المعاد حيناً آخر.
وفي هذه الآية توجد إشارات دقيقة ولطيفة تساعدنا على التوصّل إلى هذه الغايات وهي:
1- مع أنّ منكري المعاد يقطعون بنفي المعاد إلّاأنّ القرآن يخاطبهم بالقول: «إن كنتم في ريبٍ ...» وهنا يدل على أنّه لا يوجد هناك أيّ دليل على إنكار هذه الحقيقة، وأكثر ما هنالك هو أنّكم
من الممكن أن ترتابوا في أمر المعاد، ومن الواضح أنّ المرتاب ما عليه إلّاالفحص والتحقيق لا الانكار!.
والجدير بالذكر هنا أنّ «ريب» جاءت بصورة النكرة، وفي هذه الموارد تأتي لبيان حقارة الأمر، أيْ إنَّ شكّكم في هذا المجال هو شكٌّ سقيم ولايُعتدُّ به أيضاً، لأنّ أدلةَ المعادِ نشاهدها جليّة التردّد.
2- قد يكون شروع الآية بالحديث عن خلق الإنسان من التراب إشارة إلى خلق آدم عليه السلام أو جميع الناس منه، لأنّ أصل المواد التي تشكل القسم المهم من جسم الإنسان من التراب، وعلى أيّة حال فإنّ خلق الإنسان من تراب دليل واضح على إمكان إحياء الموتى
3- الحديث في هذه الآية كان أولًا عن خلق الإنسان من التراب، وبعد ذلك تحدثت الآية عن مسألة «البلوغ الجسمي والروحي» ثم عن «الكهولة والمشيب» فيصبح عدد تلك المراحل المختلفة سبع مراحل، وإنْ كان هدفنا هو المراحل الخمس الاولى التي تمثل كل واحدة منها حياة جديدة وولادة جديدة ومنظر من المعاد.
4- وجملة «لنبيّن لكم» يمكن حملها على محملين، فمن الممكن أن يكون المراد من البيان هو بيان علم وقدرة الخالق ومسألة التوحيد، كما أنّه من الممكن أن يكون المراد هو بيان مسألة المعاد أي الحياة بعد الموت.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 142
5- والظريف في الأمر هو أنّ كافة التحولات الهائلة والعجيبة التي تحدث في مرحلة الحياة الجنينية، حيث إنّ الفترة التي تمربها النطفة، تلك الذرة الصغيرة حتى تصل إلى مرحلة الإنسان الكامل، تمثل فترة قصيرة تساوي التسعة أشهر، ففي هذه الفترة تحدث أمور عجيبة وغريبة، لو سطرناها في كتاب فإنّ الوقت اللازم لقراءة هذا الكتاب يستغرق زماناً أطول من تسعة أشهر، فأمام هذه الآيات والعلامات الواضحة، هل يمكن لأحد أن
يفسح مجالًا للشك والريبة في مسألة إمكان المعاد؟!
وفي الآية الثانية جي بنفس هذا المعنى ولكنها أَتَتْ بنحوٍ آخر وهي في الحقيقة بيانٌ لما جاء في بداية سورة القيامة في قوله تعالى «أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أنْ لنْ نَّجمَعَ عِظَامَهُ»؟!
فإنّه تعالى يتحدّاهم ويقول لهم ماذا تظنون؟ «الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنىٍ يُمنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالْانْثَى . «أَلَيسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوْتَى .
فهو يكتفي في هذه الآية بذكر أربع مراحل لتطورات الجنين فقط: مرحلة النطفة، فالعلقة، فتسوية الأعضاء، وظهور جنس الجنين ذكراً هو أم انثى
و «النطفة»: على ماقاله بعض أصحاب اللغة هي بمعنى الماء الصافي، ولهذا اطلقوا كلمة نَطَفَ» على اللؤلؤ «1».
لكنّ البعض فسّروها بمعنى الكميّة القليلة من ماء، أو ما تبقّى من الماء في الأناء «2».
وصرّح البعض الآخر أيضاً بأنّ النطفة هي بمعنى الماء الصافي، قليلهُ أم كثيرهُ «3».
والبعض الآخر اعتبر هذه المعاني كلّها جزءً من معاني النطفة ولكنّ الفرق هو أنّ «النُّطْفَة» بمعنى الماء الصافي أو الماء القليل و «النُّطفَة» بمعنى اللؤلؤ.
__________________________________________________
(1) مقاييس اللّغة ومفردات الراغب.
(2) لسان العرب.
(3) قاموس اللّغة ومجمع البحرين ولسان العرب.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 143
ومن الجدير بالذكر أنّه طبقاً للتحقيقات التي اجراها مؤخراً بعض العلماء هو أنّ هذا الماء القليل الذي يسمى «بالنطفة» مركّب من مياه مختلفة تترشّح من غدد مختلفة في الجسم، فقسمٌ منه يترشّح من البيضتين اللتين تحتويان على مادّة «الاسبرماتوزوئيد»، وقسمٌ منه يترشّح من أكياس البَيْض التي توجد بالقرب من غدّة «البروستات»، القسم الثالث يترشّح من نفس غدّة «البروستات» فيستمدّ شكله الظاهري ورائحته الخاصّة من تلك الغدّة والقسم الرابع يترشّح من غدد «الكوبر» وغدد «الليترة» اللتين تقعان
جنب مجاري الادرار.
وهذه المياه الخمسة تختلط مع بعضها بنسب دقيقة ومبرمجة وتشكّل مادّة الحياة، ومكتشف هذه المعلومات عالم فرنسي شُغف بحب القرآن والإسلام وكتب كتاباً في هذا المجال، ويعتقد هذا العالم بأنّ كلمة «امشاج» (أي مختلط) التي ورد ذكرها في القرآن كان محتواها خفياً على الناس والعلماء. أقتبست هذه العبارات من كتاب (المقايسة بين التوراة، والانجيل والقرآن والعلم) تأليف الدكتور بوكاري وترجمة المهندس ذبيح اللَّه دبير (ص 271).
وعلى أيّة حال فإنّ اطلاق هذه العبارة على الماء الذّي يتدفّق من الرجل عند ممارسته العملية الجنسية هو من أجل التناسب الواضح الموجود بينها وبين المعنى الرئيسي.
و «مَنيّ»: من مادة «مَنْي» (على وزن مَنْعْ) وهي بمعنى تعيين العاقبة والتقدير، لذلك أطلقُوا «المنيّة» على الموت و «الأُمنيّة» على الآمال، والسبب في اطلاق هذه الكلمة على الماء الذي يخرج من صلب الرجل لأنّه قُدّر له أن يكون إنساناً «1».
بناءً على هذا يكون مفهوم جملة: «أَلَمَ يَكُ نُطْفَةً مِنّ مَّنىٍّ يُمْنَى هو: ألمْ يكن الإنسان في بدايته ماءً مهيناً قُدِّر أن يُخلق الإنسانُ منه «2»؟
إنّ كل مرحلة من المراحل الأربعِ التي بينتها هذه الآية نموذج واشعاع جديد من الحياة الدنيا والحياة بعد الموت، ومن الممكن أن تكون كل مرحلة دليلًا واضحاً على قدرة الخالق
__________________________________________________
(1) تاجُ العروس في شرح القاموس.
(2) لكنّ عدداً من المفسرين لم يفسروا «يُمنى بمعنى التقدير، بل فسّروها بمعنى تدفّق ذلك الماء في الرحم. على أيّة حال فإنّ «من» هنا بيانية لا تبعيضية.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 144
من جهة، ودليلًا على إمكان مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اخرى على الخصوص في مجال تعيين جنس النطفة من ذكرٍ أو أُنثى
إنّ المسائل المتعلّقة بعلم الجنين
من أعقد وأعجب المسائل، والقانون المهيمن على هذا العلم لم يتضح لحدّ الآن حتى لدى الحاذقين من العلماء، وكل ما لدينا من العلم أنّ مسألة تشخيص جنس الجنين في رحم الام غير ممكن أبداً، ولا يتميّز إلّابعد وصول الجنين إلى المراحل النهائية من الحمل، ونحن نعلم أيضاً بوجود قوانين دقيقة تهيمن على تلك الأُمور، هذه القوانين التي توجد التعادل والتقارب بين تعداد كلٍّ من الجنسين، لكنّ جزئيات وتفاصيل تلك الامور ظلّت مخفية وراء حجاب الابهام.
فلو افترضنا أنّ في كل عشر ولادات تسع منها إناث وواحد منها ذكر أو بالعكس، فسوف يحدث اختلال عجيب وفوضى مخيفة وصراع رهيب في المجتمع الإنساني!
وفي الآية الثالثة بعد أن بيّن اللَّه تعالى قدرته، قال: «وَانَّهُ خَلَقَ الزَّوجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْانْثَى مِنْ نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشأَةَ الْأُخْرَى .
فالقرآن وإن لم يصرّح بهذه الحقيقة وأنّه يمكن أن نتوصل إلى إثبات النشأة الآخرة عن طريق المقايسة بينها وبين تطورات الجنين، إلّاأنّه يمكننا عن طريق ارتباط الآيات فيما بينها أن نجعل الأمر الأول دليلًا وشاهداً على الأمر الثاني كما انتبه إلى ذلك بعض المفسرين أيضاً «1».
و «النشأة الآخرة»: بمعنى «الايجاد الآخر» والمراد منه برأي الأكثرية الساحقة من المفسرين «الحياة الاخرى لكنّ البعض أصرَّ على أنّ المراد منه مرحلة نفخ الروح في الجنين وجعلوا آية: «فَكَسَونَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ». (المؤمنون/ 14) دليلًا على مدّعاهم الآنف.
__________________________________________________
(1) تفسير في ظلال القرآن، ج 7، ص 631.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 145
لكن عند مراجعة هذا التعبير: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِى ءُ النَشْأَةَ الْآخِرةَ». (العنكبوت/ 20)
و ما شابه هذا التعبير في آيات اخرى من القرآن يتضح لنا جليّاً أنّ
المراد من النشأة الآخرة يوم القيامة، حيث قال تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّروُنَ».
(الواقعة/ 62)
وفي الآية الرابعة وردت هذه الحقيقة أيضاً وبشكل آخر وبصورة اجمل واوجز واوضح، قال تعالى «قُتِلَ الْإِنسَانُ مَااكْفَرَهُ* مِنْ أَىِّ شَى ءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَاقبَرَهُ* ثُمَّ إذا شَاء أَنْشَرَهُ».
أشارت هذه الآيات أولًا إلى خلق الإنسان من نطفة، ثم أشارت إلى تكامل الجنين إشارة مبهمة، بعد ذلك أشارت إلى مسألة الموت، ثم إلى الحياة بعد الموت، أمّا العلاقة والرابطة الموجودة بين هذه المسائل فهي إمكان الاستدلال بكل واحد من هذه الامور على إثبات الأمر الآخر.
وهنا توجد عدّة امور تجلب الانتباه:
1- إنّ جملة «خلقهُ فقدّره» جملة عميقة المغزى فقد صُبّت فيها جميع مراحل تطورات الجنين في مرحلة الحمل، فالتقدير في أصل وجوده، وفي أعضاء بدنه، وفي تركيب أجزائه، وفي احتياجاته المتعددة وفي الفواصل الزمانية المختلفة التي عليه أن يقطعها للوصول إلى مراحل تكامله، إنّ اللَّه تعالى قدّر كل ذلك له، ووضع له نظاماً متقناً.
بناءً على هذا جي ء بجملة «خلقه» للدلالة على المرحلة الاولى لخلق الإنسان من النطفة وبجملة «قدّرهُ» للدلالة على جميع المراحل التي تلي فيما بعد.
2- وجملة «ثُمَّ السَبِيلَ يَسّرَهُ» أيضاً من الجمل العميقة المغزى ومن الجمل الجذّابة التي يمكن أن تكون دليلًا على الامور الآتية:
تسهيل طريقِ الولادة أمامه بعد خوض مراحل التكامل، فالجنين الذي يكون رأسه إلى
نفحات القرآن، ج 5، ص: 146
الأعلى في حالته الطبيعية يتغيّر وضعه فجأة ويتدلّى رأسه إلى الأسفل، وذلك لإعداده للولادة الطبيعية وفي نفس الوقت ترتخي عضلات الأُمِّ الموجودة في طريق الولادة وتتهيأ لوضع هذا المولود، ثم يحصل ضغط على الجنين من جميع أنحاء الرحم كي يتيسّر
عليه طريق الخروج من الرحم، بعد ذلك يتمزّقُ فجأة الكيس المملوء بالماء الذي كان يسبح فيه الجنين أيّام الحمل العاديّة فيترطّب مسير الخروج المعدّ للمولود، وخلاصة الكلام إنّ جميع الأمور تُعدّ وتتيسرُ له من أجل دخوله إلى دنيا جديدة.
ومن جهة اخرى أودعه اللَّه العقل وأنواع الغرائز، وكلّ واحد من هذه الامور يفتح أمامه طريق الحياة.
ومن ناحية اخرى أرسل إليه الرسل والكتب السماوية كي يتيسر له سبيل الطاعة وعبادة اللَّه وطريق سعادته.
إضافة إلى ذلك دلّ هذا التعبير على أنّ الإنسان خُلِقَ مريداً ومختاراً في تصرفه، لأنّه تعالى لم يقل وسلكناه السبيل بل قال يّسرنا له السبيل، فهو مختارٌ في سلوكه.
وفي الآية الخامسة والأخيرة إشارة إلى مراحل تكامل الجنين أيضاً بصورٍ مفصّله، بل جاء هنا بتفاصيل أكثر ممّا جاء في جميع الآيات التي تحدثت عن ذلك، فتعرضت هذه المرّة إلى جزئيات دقيقة، قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاه نُطفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ (الرحم)* ثُمَّ خَلَقْنَا النٌّطْفَةَ عَلَقَهً (دم متخثر) فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً (تَشْبَهُ اللحم الممضوغ) فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحْماً».
وبعد أن بيّن المراحل الخمس (النطفة والعَلَقةَ والمضغة والعظام واللحم) أشارَ إلى امرٍ آخر والذي يعتبر من أهمّ المراحل وهو مرحلة نفخ الروح الإنسانية، فقال تعالى «ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ» «فَتَبَارَكَ اللَّهُ احْسَنُ الْخَالِقِينَ».
وجملة «فكسونا العظام لحماً» لم تُذكر ضمن مراحل تكامل الجنين إلّافي هذه الآية
نفحات القرآن، ج 5، ص: 147
التي كشفت الستار عن أهميّة خلق العظام.
ولقد ثبت حديثاً بأنّ العظام لا تكون هيكلًا لحفظ استقامة البدن وحفظ أعضاء الإنسان فحسب، بل إنّ في عهدتها أَهمَّ الوظائفِ الحياتية والبايلوجية للبدن.
فالعظام تحتوي على جميع ما يحتاجه الجسم من قبيل الفسفور والكالسيوم والاملاح الاخرى
التي تنظم الأعمال الحياتية لجسم الإنسان وضربات القلب وتقويم حركة العضلات، والأهمُّ من ذلك أنّ العظام تُقدِّم للجسم ما يحتاجه من كريات الدّم الحمر والبيض طيلة عمر الإنسان! ويكفينا أن نعلم بأنّ في الدقيقة الواحدة تموت مايقارب 180 مليون كرية حمراء وأنّ العظام تملأ الفراغ الحاصل من موت هذه الكريات بواسطة كريات جديدة ونشطة! «1».
والجدير بالذكر أنّ بعض المفسرين قالوا: ثبت حديثاً أنَّ أوّل ما يظهر في الجنين هي خلايا العظام، ثم خلايا اللحم، وهذه الحقيقة رفع القرآن الستار عنها قبل أربعة عشر قرناً عندما لم يكن لأحد علم بها «2».
والتعبير ب «الكسوة» عن اللحم هو تعبير جميل وجذّاب، فالملابس تُجمِّل جسم الإنسان وفي نفس الوقت تحفظه من اضرار مختلفة، والعضلات كذلك فلو عُدِمَت وبقيت العظام لوحدها فما أقبح منظرها! ومن ناحية اخرى إنّ العظام تتأثّر بأدنى ضغط يرد عليها من أىّ جانب وتصاب بعطبٍ كبير جرّاءَ ذلك، والذي يحفظ العظام تلك الكسوة التي هي العضلات.
وهذا التعبير: «ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ» الذي ورد ذكره بعد مرحلة تكامل الجنين لم يأتِ إلّا في هذه الآية من القرآن، وهذا البيان العجيب وإن كان قد ذُكِرَ سابقاً إلّاأنّه يختلف كثيراً عن ذلك، ذلك لأنّه سمّي هنا «خلقاً آخر»، حيثُ يرى أكثر المفسرين أنّ هذه الجملة جاءت للدلالة على خلق الروح، لأنّنا نعلم بأنّ الجنين من يومه الأول وحتى يبلغ ما يقارب
__________________________________________________
(1) قرآن برفراز اعصار، ص 187.
(2) تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 16.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 148
الشهر الرابع من الحمل أكثر ما يشبه النبات، فهو ينمو بسرعة من غير أن يمتلك أيّ حسٍ أو حركة، ثم تبدأ الأعضاء المُعَدّة لإدراك الحقائق بالظهور تدريجاً وهذا
التحول المفاجي (الذي يشبه الطفرة) ظلّ مبهماً على جميع العلماء ولا يعلم مايطرأ على الجنين حينما ينتقل من مرحلة إلى اخرى إلّااللَّه العالم القادر.
على أيّة حال فإنّ اجتياز هذه المراحل خلال هذه المدّة الوجيزة دليل على عظمة مُبدئ عالم الوجود الذي هو اللَّه احسن الخالقين، وفي نفس الوقت دليل على إثبات وقوع الحياة بعد الموت التي اشير إليها في ذيل تلك الآيات.
من خلال الآيات المذكورة التي صورت مراحل تكامل الجنين ووضعتها أمام انظار الإنسان الذي من طبيعته أن يكون باحثاً عن الحقيقة، أجيب منكري المعاد بوضوح، وهذه المراحل في الواقع تُعْتَبَرُ كل واحدة منها حياةً جديدة ومظهراً من مظاهر المعاد، ويكفي التمعّن في مرحلة واحدة من هذه المراحل في إثبات هذه الحقيقة.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 149
عندما تموت الكائنات الحية في هذا العالم المترامي الاطراف تُخَلِّف وراءها دائماً بقايا وآثاراً، لكن بالنسبة لتبدد الطاقة فالأمرُ عجيب، لأنّها في الظاهر عندما تتلاشى تفنى كلياً فلا يبقى لها أيّ اثر، فلو لاحظنا الشمس كمثال لكلامنا هذا لوجدنا ضوءها وحرارتها هما عبارة عن طاقة تبعثها نحو كرتنا الأرضية والسيارات الاخرى التابعة للمنظومة الشمسية، وبعد انحسار الإشعاع تفنى تلك الطاقة ولايبقى لها ايّ أثر، وإذا لم يستمر مصدر الإشعاع أي الشمس على إرسال الأشعة، فإنّه سوف لن يبقى أثر للنور والضوء وتفنى الحرارة.
لكنّ العلم الحديث أثبت بأنّ الطاقة أيضاً لا تفنى بالكامل، بل تَكمُن وتتحوّل من حالة إلى اخرى وعندما تتوفر الظروف المناسبة فإنّها تعود ثانياً وتُبعث من جديد بصورة عظيمة.
المثير للدّهشه هو أنّ القرآن المجيد من أجل إثبات مسألة إمكان المعاد يعتمد على هذه المسألة، ويتخذ من تحوُّل الطاقة الضوئيِة والحرارية في هذا العالم دليلًا على القيامة العظمى الحاصلة للبشر في العالم الآخر.
وبعد هذه الإشارة الوجيزة نذهب إلى آيات القرآن ونتأمل فيها خاشعين كي تتّضحَ لنا تلك الحقيقة:
1- «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا اوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِى جَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُمْ مِّنهُ تُوقِدُونَ». (يس/ 79- 80)
2- «افَرَأَيتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ* ءَأَنتُم أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا امْ نَحْنُ المُنشِئُونَ* نَحنُ جَعَلنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلمُقوِينَ». (الواقعة/
71- 73)
نفحات القرآن، ج 5، ص: 150
في آواخر سورة «يس» هناك بحوث جامعة ومتنوّعة وعميقة في مجال المعاد، واحد هذه البحوث الحبث عن معاد الطاقة.
لقد أجاب القرآن على شبهة من كانوا يتعجّبون من إمكان اعادة العظم الرميم إلى الحياة بِعِدّة أجوبة، فقال تعالى «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنَشَأَهَا اوَّل مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».
وهذا القسم من الأجوبةِ يتعلّق بمقايسة المعاد بالنشأة الاولى التي بحثناها سابقاً.
ثم يضيف تعالى بعد ذلك: «الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِّنهُ تُوقِدُونَ».
ومن البديهيِّ أن يكون هذا البيان دليلًا على مسألة المعاد وأن يكون جواباً آخر لمنكري المعاد.
ولكن كيف يكون ذلك، وبأيّ بيانٍ يتمّ؟
للمفسرين عدّة آراء في هذا المجال هي:
1- الكثير من المفسرين اعتبروا هذه الآية إشارة إلى الشجرتين المشهورتين لدى العرب وهما «مَرْخ» و «عَفار» وكان العرب يستخدِمونهما لإيقاد النار بدلًا من الكبريت المستخدم في عصرنا الحاضر، فكانوا يضربون الخَشَبَتينِ ببعضهما بشدّة ليحصلوا منها على قدحة أو شرارة ليتمكّنوا بواسطتها من ايقاد النار، وفي الحقيقة كانوا يستخدمون ذلك بدلًا عن حجر القدحة الذي كان يُستخدم في العصور الغابرة.
فالقرآن يقول: إنّ الذي يقدر على أن يُخرج النار من تلك الخشبتين الخضراوينِ بإمكانه أن يحيي الموتى فمن يتمكّن من جمع النار مع الماء كيف لا يتمكّن من خلق الحياة بعد الموت؟ ألا يشبه التضادُّ بين «الحياة» و «الموت» التضادَّ بين الماء والنار؟
2- وتَجَاوزَ آخرون هذا الحدَّ فقالوا: إنّ خاصيّة ايقاد النار لا تنحصر بخشب تلك الشجرتين (مَرْخ وعفار)، بل تعمّ جميع أشجار العالم، ولكنّها تشتدُّ في أخشاب تلك
نفحات القرآن، ج 5، ص: 151
الشجرتين، لذا جاء في المثل العربى: «في كُلِّ شجرٍ نار»!
فخلاصة الكلام أنّ أخشابَ الأشجار عندما تصطدم
ببعضها بقوّة تخرج منها شرارة من النار، وهذا الأمر يصدق حتى في أخشاب الأشجار الطريّة! وبسبب هذه الظاهرة تَحدُثُ حرائقُ هائلة ومرعبة في الغابات من دون أن يكون للإنسان ايُّ تدخّل فيها.
وهذه الحرائق تحدث بفعل الرياح الشديدة التي تضرب أغصان الأشجار ببعضها بشدّة فَتَسْقُطُ شراراتُها أحياناً على أوراق الشجر الجافّة فتحرقها، ثم تتسع بعد ذلك رقعةُ النار بسبب هبوب الرياح، فنرى فجأةً التهام النار لمناطق شاسعة من الغابات.
وأمّا تفسير هذه الظاهرة من وجهة نظر العلم الحديث فهي جليّة وواضحة، لأننا نعلم بأنّ الأشجار ليست الوحيدة التي تولّد شرارة من النارعند ارتطامها ببعضها بقوّة بل تتولّدُ شرارة كهربائية من ارتطام كل جسمين ببعضهما، وهذه النار موجودةٌ في جميع ذَرّاتِ العالم المادّي حتى في باطن الأشجار الخضراء.
إنّه أمرٌ عجيبٌ حقّاً، فما القدرة التي تخلط النار في الماء؟ ومن أصلح فيما بين هذين العدوّين اللّدودين اللّذينِ عرّفهما القدماء بأنّ طبع أحدهما بارد رطب والآخر حارٌ جاف؟
فهل يكون الإصلاح بين الموت والحياة أمرٌ عسير على هذه القدرة؟ أو هل يصعب على القدرة أن تجعل أحدهما في مكان الآخر؟!
وبتعبير آخر: هل يمكن لأحد أن يجمع النار والماء في مكان واحد بحيث لا يُطفي الماءُ النارَ ولا تُحرقُ النارُ الشجرَ، وهل يكون إحياء الشجر اليابس مرّة اخرى أمراً عسيراً؟!
3- وهناك تفسير آخر لهذه الآية قد خفي على المفسّرين السابقين، لكنّه أصبح واضحاً لنا بعد تطور العلم الحديث، ومن المحتمل أن يكون أنسب التفاسير، وهو: إنّ الأشجار خلال فترة حياتها تمتصُّ ضوءَ وحرارة الشمس باستمرار وتَدَّخِرُهُما في باطنها، وعندما نُحرِق الخشب الجافَّ تنبعث الحرارة والضوءُ اللتان امتصّتهما الشجرة في مدّة طويلة وتنفدُ في مدّة وجيزة ونستفيد نحن منهما، أي أنّ الطاقة الخاملة
تعودُ في هذه القيامةِ وتُظهِرُ وجودها، فبناءً على ذلك نحن نرى منظر المعاد أمام أعيننا إذا أجّجْنا ناراً!
نفحات القرآن، ج 5، ص: 152
وتوضيح ذلك: إنّ «السليلوز» يشكّل المادّة الرئيسية للأشجار، وهو مركب من «الكاربون» و «الاوكسجين» و «الهيدروجين».
فالنباتات تحصل على الاوكسجين والهيدروجين من الماء، وتحصل على الكاربون من الهواء، أي أنّها تأخذ ثاني أو كسيد الكاربون الذي هو عبارة عن تركيب من الاوكسجين والكاربون وتحلل ذلك المركب فتحتفظ بالكاربون وتُطِلق الاوكسجين، ثم تصنع الخشب بواسطة تركيب الكاربون مع الماء.
ومن الجدير بالذكر هنا بناءً على القواعد المتّبعة في علم الكيمياء إنّ الكثير من التركيبات الكيميائية لا تتمّ إلّاعند توفر نوع من أنواع الطاقة، والأشجار أيضاً تّتبع هذا القانون وتستخدم ضوءَ وحرارة الشمس في انجاز التركيبات الكيميائية (فتأمّل).
على هذا فالأشجار عندما تنمو وتكبر وتقوى سيقانها يوماً بعد يوم فإنّها تدّخر كميّة كبيرة من الطاقة الشمسية في داخلها، تلك هي الضوءُ والحرارة التي تظهر عند احتراق الخشب، فنفس تلك الطاقة المدّخرة التي قد كَمُنت في الظاهر تعودُ مّرة اخرى من خلال معادٍ موزون ودقيق.
والدليل الذي يؤيد هذا التفسير هو التعبير الوارد في القرآن لبيان هذه الامور وهو جملة:
«فإذا أنتم منه توقدون».
ولنرَ ما المراد من كلمة «وقود» لغوياً؟
بناءً على تصريح أكثر كتب اللغة أنّ «الوقود» بمعنى الحطب أو الشي المحترق «1».
بينما اطلقوا على الأشياء التي تُوجِدُ القدحةَ اسم «الزَنْد» أو «الزناد»، قال في المقاييس:
«الزند» في الأصل بمعنى زند اليد، وأُطلِق على القدحة أو الشرارة للملازمة الموجودة سابقاً بين زند اليد والآلات التي كانت تستخدم قديماً في اشعال النار.
و «القَدْح»: استُعمل أيضاً في هذا المجال، لكنّ الأمر المهمّ تأكيد القرآن على ذكر الوقود لا «الزند» أو القَدْح، بينما
فات القدماء الانتباه إلى هذه المسألة، وفسّروا الآية على أنّ المراد
__________________________________________________
(1) مفردات الراغب؛ ولسان العرب؛ ومقاييس اللّغة.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 153
منها هو القدْح، لكنَّ ماجاء في تفسيرنا الثالث ينطبقُ تماماً مع التعبير ب «الوقود» (فتأمّل).
والسؤال الوحيد الذي لم يُجَبْ عنه إنّ الخشب الذي يستخدم في الحرق يكون جافاً، بينما عبّر عنه القرآن ب «الشجر الاخضر».
هناك جوابان لهذا السؤال: الأول إنّ الخشب الاخضر قابل للاحتراق أيضاً وإنَّ إحراقه أصعب من إحراق الخشب الجاف، جاء في المثل المشهور: إذا اشتعلت النار فسوف تحرق الأخضر واليابس معاً للإشارة إلى هذا الأمر.
ولو تجاوزنا هذا، فهنالك مسألة مهمّة هي إنّ الأشجار الخضراء هي الوحيدة التي يمكنها أن تجذب وتدّخِر ضوءَ وحرارة الشمس، ويحتمل أن يكون القرآن في صدد بيان هذه المسألة العلمية الدقيقة، لأنّ الأشجار عندما تجفّ تتوقف فيها عملية جذب الكاربون نهائياً، ولا تدّخر الطاقة الشمسية بأي نحوٍ كان.
على أيّة حال فإنّ الآية المذكورة تعتبر من الآيات الرائعة في مجال إثبات المعاد، وإنّ كلّ واحد من هذه التفسيرات الثلاثة يجسِّم منظر المعاد أمام الانظار، ولايوجد أيّ مانع في أن تكون هذه التفسيرات الثلاثة مجموعة في مفهوم هذه الآية، فهذه التفسيرات منها ما يختصّ بالعوامّ من الناس، ومنها مايختصّ بالخواصّ منهم، ومنها مايختصّ بخواصّ الخواصّ، وبعضها يختصّ بالناس الذين عاشوا في العصور الغابرة، وبعضها يختصّ بالناس المعاصرين، ومن المحتمل أن تكون هنالك تفسيرات أعمق وأدقّ لعلماء المستقبل في هذه الآية.
والآية الثانية من آيات سورة الواقعة، والتي يختصّ قسم كبير من آياتها بأدلّة المعاد والقيامة، على الأخصّ ماجاء في الآية 57 فيما بعد في جوابِ منكري المعاد (المسائل السبع) الذين ذُكرتْ ادّعاءاتُهم في نفس هذه السورة في الآية 47 حيث
كان كلّ واحد من تلك الأجوبة دليلًا على مسألة المعاد بنفسه «1».
__________________________________________________
(1) ذكرت هذه الأدلة السبعة في تفسير الامثل، ذيل الآية 57 من سورة الواقعة.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 154
والآية التي يدور بحثنا حولها تعتبر في الواقع الدليل السابع والأخير، قال تعالى
«أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ «1»* ءَأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ «2»». (الواقعة/ 73- 71)
وفي تفسير معنى المراد من شجرة النار هنا، يوجد تفسيران رئيسيّان:
الأول: إنّ المراد من شجرة النار الشجرتان المعروفتان «مَرْخ» و «عَفار» اللتان كانتا تُستخدمان لدى العرب في ايجاد القدحة، حيث كانتا تُستخدمان بدلًا عن «الكبريت» لإشعال النار.
والثاني: إنّ المراد منها جميع الأشجار لأنّها لها قابلية توفير الحطب والوقود «3».
وللمفسِّرين آراء في معنى المراد من «تذكرة»، فعدد منهم يرى أنَّ المراد منها التذكّر بنار جهنم عند رؤية نار الدنيا، ففي هذه الصورة تصلح هذه الآية لأنّ تكون دليلًا لإثبات المعاد.
والرأي الثاني هو أنّ المراد منها التذكير بأمر المعاد، وذلك لأنّ الذي يقدر على أن يودع النار المحرقة في قلب الشجر الأخضر فإنّه لا يعجز عن ارجاع الحرارة الغريزية لبدن الأموات، والذي يقدر على جمع الضِّدَّينِ كالماء والنار فإنّه بطريق أولى يمكنه أن يجمع بين الموت والحياة على التوالي، أي إيجادهما الواحد بعد الآخر.
أو بتعبير آخر كيف لايتمكّن مَن يُعيد الطاقة الكامنة والضوءَ والحرارة مِن أن يهب حياة جديدة للأموات من بني الإنسان؟
والتفسير الأخير هو أكثر تناسباً مع آيات هذه السورة التي تتصدى للاجابة عن شبهات منكري المعاد طبعاً، كما إنَّ الجمع بين هذه التفاسير ممكن أيضاً.
__________________________________________________
(1) «تورون» من مادة «ايراء» بمعنى اشعال النار، قال الراغب في المفردات: ايراء في الأصل بمعنى الستر
والتغشية، لذا اطلق على ما في الخلف «وراء» وبما أنّ النار تكمن في الحطب أو في القدحة اطلق العرب كلمة «ورى أو «ايراء» على اخراجها من مخبئها.
(2) «المقوين» من مادّة «قِواء» (على وزن كِتاب) بمعنى الصحراء القاحلة، وتطلق على المسافرين الذين يقطعون الصحارى من دون متاع أيضاً.
(3) ورد هذان التفسيران في تفسير روح المعاني، ج 27، ص 129؛ وفي تفسير الكبير، ج 29، ص 184 في ذيل الآيات مورد البحث.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 155
والتعبير ب «متاعاً للمقوين» هو تلميح لفوائد وأهميّة النار في حياة الإنسان ذلك لأنّ المفسرين وأصحاب اللغة ذكروا معانيَ متعددة ل «المقوين» هي:
أولًا: ماذكرناه آنفاً أنّها من مادة «قواء» على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء القاحلة، بناءً على هذا يصبح مصداق «المقوين» هم الذين يقتحمون الصحارى القاحلة، وهؤلاء يحتاجون بشدّة إلى الحطب والخشب الجاف لإيقاد النار، أمّا احتياجهم لخشب القدْح فلا يخفى على أحد.
ومن البديهي أنّ الإنسان يحتاج إلى ذلك في المدن أيضاً، ولكن بما أنّ إيقاد النار في المدن أمرٌ يسير، لأنّ الذي يريد أن يوقد ناراً يمكنه أن يستفيد في ذلك من نار الآخرين، بالإضافة إلى ذلك لايشكّل عدم وجود النار في المدينة خطراً جسيماً على الإنسان، بينما تعدّ النار بالنسبة لقاطعي الصحراء أمراً مصيرياً بسبب الحاجة إلى إعداد الطعام ودفع البرد والاستنارة.
والرأي الآخر أنّ المراد من «المقوين» هم الفقراء، وعُدّ هذا من أحد معانيها في اللغة، ومن المحتمل أن يكون السبب في ذلك أنّ سُكّانَ الصحراء فقراء في الغالب، وقد ذكرنا أنَّ «قواء» بمعنى الصحراء القاحلة، وأنّ احتياج الجميع للنار امر بديهي إلّاأنّ احتياج الفقراء لها اشدّ من غيرهم، ذلك لأنّ النار تأخذ مكان الملابس أحياناً بالنسبة
لهم.
وقال البعض أيضاً: إنّ «المقوين» بمعنى «الاقوياء»! لأنّ الكلمة المذكورة من الكلمات التي لها معانٍ متضادّة، فيحتمل أن تكون من مادّة القوة والقدرة.
ففي هذه الحالة تكون للدلالة على استخدام الاغنياء للنار بكثرة، على الأخص في دنيانا هذا اليوم، فإنّ الحرارة والنار كلٌّ منهما المحور الرئيسي الذي تدور عليه عجلات الصناعة والمحركات، فإذا ما نَفَدَ الوقود الذي تعتبر الأشجار والنباتات المنبع الرئيسي له (سواء كان بصورة مباشرة كالخشب والفحم الحجري أو غير مباشرة كالبترول) فإنّ عجلات الحضارة البشريّة سوف تتوقف عن الحركة، وتذهب الثروات أدراج الرياح، فلا تطفأ شعلة الحضارة فحسب بل سوف تطفأ شعلة حياة جميع البشر.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 157
بالإضافة إلى ما ذُكر في البحوث السابقة حول أدلّة إمكان المعاد فإنّ القرآن المجيد يشير إلى عدد من النماذج التأريخية الحيّة للمعاد من خلال آيات مُتَعَدّدة، وكلّ هذه النماذج مصاديق واقعيّة للحياة بعد الموت، ويمكن الاستعانة بها على إثبات إمكانية المعاد، والنماذجُ عبارة عن:
1- قصة النبي عُزير عليه السلام الذي وُهِبَ الحياة بعد موته بمائة عام.
2- قصة إبراهيم عليه السلام واحياء الطيور الأربعة.
3- قصة أصحاب الكهف.
4- قصة قتيل بني اسرائيل وقصة البقرة.
من البديهي إن الاستدلال بهذه الحوادث التاريخية يتوقف على الاطمئنان بصحة وقوعها، وبما أنّ منكري المعاد يعتقدون بصحة وقوع أغلب هذه الحوادث أو على الأقل كانت مدوّنة في كتبهم التاريخية وكانت مشهورة بين الناس، فإنّ القرآن المجيد يستدلّ بها.
بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن ونمعن خاشعين في القسم الأول من هذه الآيات المتعلّقة بقصة عُزير عليه السلام
تحدّث القرآن الكريم عن هذه القصّة العجيبة في أواخر سورة البقرة من خلال آية واحدة تعتبر في الواقع دليلًا تاريخياً لدحض ادّعاءات منكري المعاد، قال تعالى
نفحات القرآن، ج 5، ص: 158
«أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شى ءٍ قَدِيرٌ» «1». (البقرة/ 259)
وتوجد هنا عدّة امور تحتاج إلى الدقّة والتّأَمُّلِ:
1- من كان هذا الرجُل؟ وأين تقع هذه القرية؟ (يجب الالتفات إلى أنّ المراد من القرية هنا التجمّع السكاني
سواء أكان قرية أو مدينة).
فالقرآن لم يوضح ذلك، والمستفاد من سياقِ الآية أنّه رجلٌ أُوحيَ إليه، أيْ كان من أحد انبياء اللَّه لكنّ المفسّرين وبالاستناد إلى الروايات الواردة في هذا المجال يذكرون اسمه بالتعيين، ففى كثير من الروايات وعبارات المفسرين ذُكر أن اسمه «عُزير» نبيّ بني اسرائيل المعروف، وذكر آخرون بأنّ اسمه «الخضر» وآخرون، قالوا إن اسمه «اشْعيا» «2».
وأياً كان فانّه لايؤثر على معنى ومحتوى الآية، أمّا ما احتمله البعض من أنّه كان رجلًا غير مؤمن وقد شك في أمر المعاد فإنّ هذا كلام مردود، لأنّ الآية تدلّ بجلاء على أنّ الوحي نزل على هذا الرجل.
أمّا «القرية» فهي «بيت المقدس» طبقاً لما جاء في الروايات، وهذه الحادثة التي وقعت بعد هدم بيت المقدس على يد «نبو خذ نصّر».
2- هل أنّ هذا الرجل المؤمن (أياً كان) قد مات حقاً أم ذهب في سباتٍ عميق؟ ظاهر الآية يدلّ على أنّه مات حقاً وعاد إلى الحياة مرّة اخرى بإذن اللَّه بعد أن مضى على موته مائة عام، وأكثر المفسرين يعتقدون بهذا الرأي، والبعضُ منهم فَسَّرَ «الموتَ» في هذه الآية
__________________________________________________
(1) جملة (أو كالّذي مَرّ ...) طبقاً لتصريح كثير من المفسرين هي عطف على الآية التي قبلها «الم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم ...» بناءً على هذا يكون معنى هذه الجملة كالتالي «الَم ترَ إلى الذي مَرّ على قريةٍ ...».
(2) تفاسير البرهان؛ نور الثقلين؛ مجمع البيان؛ روح المعاني؛ روح البيان؛ والكبير والقرطبي في ذيل الآية مورد البحث.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 159
بالنوم العميق المشابه للموت، كما هوَ الحال في نوم بعض الحيوانات التي تغط في سبات عميق في فصل الشتاء وتخرج من سباتها في فصل الربيع فتبدأ بالحركة.
وفي
مثل هذا النوم تكون النشاطات الحيوية بطيئة إلى حَدٍّ ما ويقلّ ماتحتاجه من طاقة بكثير عمّا كان عليه في حالاتها العادية، لكنّه لايُطْفِي ءُ البصيصَ من الحياة على أيّة حال.
وقد رجّح هذا الاحتمال (اي احتمال السبات) صاحب «المنار» و «المراغي» وصاحب «أعلام القرآن» حتى أنّه ذكر في أعلام القرآن أنَّ المراد من «مائة عام» ليس من الضروري أن يكون مائة سنة! بل من المحتمل أن يراد منها مائة يوم أو مائة ساعة!!
إنّ بعض المثقفين الذين يصعب عليهم تصديق هذه الامور الخارقة للعادة، فإنّهم كلّما شاهدوا شيئاً من هذا القبيل سعوا للإتيان بالتبريرات والمغالطات بينما لا توجد أي ضرورة لهذا التكلّف أبداً.
إنّ القرآن المجيد والروايات الصحيحة وباختصار كل محتويات المذاهب السماوية مليئة بهذه الامور الخارقة للنواميس الطبيعية التي لايمكن إنكارها ولا السعي في تبريرها، فإننا لو آمنّا بقدرة اللَّه تعالى على الإتيان بمثل هذه الخوارق لكان التصديق بمثل هذه الأمور أمراً يسيراً، وكل ما في الأمر أنْ نبتعد عن المبالغة، وعن تجاوز الحدود، وأَلّا ننسب كل امر إلى الاعجاز أو خرق النواميس الطبيعية.
و حتّى بالنسبة للعلماء الماديين، هُناك امور خارقة لا يمكن تفسيرها بالأساليب العلمية المعروفة فما هو الداعي لتحريف أيّة ظاهرة خارقة للعادة بمجرّد العجز عن كشف سرّها.
والقضية المذكورة، وبغض النظر عن الرجل المؤمن المذكور فيها والذي مات وبُعث من جديد وبغض النظر عن الهدف منها وهو الرغبة في تقديم مثال لاحياء الموتى يوم القيامة، تشير إلى حماره أيضاً، وقد أخبر القرآن بأنّه قد مات وتلاشت عظامه، لأنّ الآية صريحة في جمع العظام بإذن اللَّه وتغطيتها باللحم ثم نفخ الحياة فيها، فهل يجب تعليل كلّ ذلك؟
3- وأمّا ما يتعلق بالمدينة التي وقعت فيها تلك القصة فإنّ أغلب
المفسرين يعتقدون بأنّها وقعت في بيت المقدس بعد أن هُدمت على يد «نبو خذنصّر» وخُربت عن آخرها وقد عبّر عنها القرآن ب «خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا» أي بعد تهديم سقوفها وتخريب جدرانها
نفحات القرآن، ج 5، ص: 160
ومساواتها بالأرض؟ وقيل هي قرية مجاورة لبيت المقدس.
أمّا ما يتعلق بحديث ذلك الرجل المؤمن مع نفسه فانّه لم يكن بسبب الإنكار ولا التعّجب والشك بل أراد أن يشاهد احياء الموتى بأم عينيه كي يطمئن قلبه كما أراد إبراهيم عليه السلام ذلك في القصة التي سوف نذكرها عمّا قريب.
ومن الممكن أيضاً أن يكون طلبه هذا من أجل أن يقدم دليلًا مقنعاً للمنكرين والمشككين، لأنّه في بعض الأحيان لا تكفي الاستدلالات العقلية ولا حتى نداء الفطرة والوجدان في اقناع بعض الناس، فهم يصّرون على مشاهدة النماذج الحيّة لكي يأخذ الاستدلال طابع الحس وتزول جميع الوساوس عن قلوبهم ونفوسهم.
4- وأمّا ما يتعلق بنوع طعامه وشرابه فإنّ القرآن لم يصِّرح بشي ء عنه، ولكن يظهر من جملة: «لَمْ يَتَسَنَّهْ» التي هي من مادّة «سَنَه» والتي يفهم منها عدم فساد الطعام والشراب على الرغم من مرور سنين طويلة انّهما كانا من الأغذية والأشربة التي لا تفسد بمرور الزمان، وقيل بأنّ الطعام الذي كان يحمله هو «التين» و «العنب» والشراب هو «عصير الفواكه» أو «الحليب».
والملاحظ هنا أنّ اللَّه تعالى ومن أجل اظهار قدرته، حفظ المواد السريعة الفساد من التلف، بينما ترك حماره الذي يقاوم الفساد عادةً عرضةً للفساد، وبهذا أصبح دليلًا على المكوث مائة سنة ودليلًا آخر على إمكان الحياة بعد الموت، وذلك من أجل أن يشاهد الرجل المؤمن تلك الحقيقة بامِّ عينيه في كلا الأمرين (وجود نفسه ووجود حماره بعد الموت).
5- عبارة: «وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ» تدلّ
على أنّ الفائدة المرجوّة من هذه الحادثة لا تختص بذلك الرجل المؤمن لوحده، بل لتكون عبرة نافعة لجميع الناس، لأنّ الناس قد عرفوا «عُزير عليه السلام» بالقرائن المختلفة، وتيقنوا من أنّه قد مات وبُعث ثانية بعد مرور مائة عام على موته، فإن كان الجيل المعاصر لحياة عزير قد مات وفنى فإنَّ الجيل الجديد عرفوا حقيقة الأمر بواسطة المعلومات التي حصلوا عليها من آبائهم.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 161
إنَّ قصّة إبراهيم عليه السلام و «الطيور الأربعة» تعتبر من النماذج التاريخية الحيّة التي استدل بها القرآن الكريم على قضية المعاد، وقد ورد ذكر هذه القصة بعد ذكر قصة عزير عليه السلام مباشرة، قال تعالى
«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَّ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيْنَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ انَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ». (سورة البقرة/ 260)
لو أمعنّا النظر في ظاهر الآية بعيداً عن أي حكم مسبق وبعيداً عن تأثير آراء ونظرات الآخرين نراها تدلّ بوضوح على أنّ إبراهيم عليه السلام كان يريد أن يرى كيفية احياء الموتى ليطمئن قلبه، فأُمِرَ أن يمارس عملياً نموذجاً حيّاً لاحياء الموتى بإذن اللَّه، وهو أن يجعل أجساد الطيور الأربعة بعد ذبحها وسحقها كالعجين ثم يجعل عدّة أجزاء من العجين على عدّة جبال وبعد أن يدعو هذه الأجزاء إليه تصبح طيوراً أربعة كما كانت بإذن اللَّه وتُعاد إليها الحياة من جديد.
كما أنّ السبب الذي أشار إليه الكثير من المفسرين في شأن نزول هذه الآية الشريفة يؤيد هذا المدعى فقد مرّ إبراهيم عليه السلام على ساحل البحر فوجد جيفة نصفها في
الماء والنصف الآخر على الساحل تأكل منها حيوانات البحر من جانب والطيور من جانب آخر، فأثر هذا المنظر في نفسه عليه السلام وغرق في التفكير في كيفية جمع أجزاء هذا الجسد وإحيائه من جديد بعد أن صار جزءاً من حيوانات كثيرة اخرى
إنَّ إبراهيم عليه السلام كان مؤمناً بالمعاد وكل مايرتبط به لأنّه نبي وله ارتباط مع الوحي وكان إيمانه أعمق من الإيمان الحاصل عن طريق الاستدلال العقلي، لكنّهُ كان يبغي شاهداً حسياً في هذا المجال ولهذا جسَّد له اللَّه هذا المشهد كي يتجسّد أمامه المعاد الجسماني بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وليشاهده بأمّ عينيه كي يطمئن قلبه.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 162
أولًا: إنّ جملة: «فَصُرْهُنَّ» كما صّرح بذلك بعض اللغويين وعدد من المفسيرين هي من مادّة «صور» على وزن (قول) بمعنى التقطيع والتمزيق، وهي دليل على أنّ إبراهيم عليه السلام أمر بأن يذبح تلك الطيور الأربعة ثم يقطعها ويخلط أجزائها.
لكنّ بعض اللغويين فسروها بمعنى التعويد والتربية (على الأخص عندما تتعدى ب «إلى ) ومن أجل هذا أكّد بعض المفسرين الذين يسمّون أنفسهم بذوي الأفكار النيّرة على أنّ إبراهيم عليه السلام لم يقطع تلك الطيور أبداً، بل أمر بأن تعود تلك الطيور إليه وبعد أن تأنس به يضع كل واحد منها على جبل ثم يناديها كي تسعى إليه جميعاً فيحصل من خلال هذا العمل على دليل لإحياء الموتى ولكي يعلم أنّ إحياء الموتى على اللَّه يبلغ من السهولة ما يبلغه نداء إبراهيم عليه السلام لتلك الطيور ومجيئها إليه بمجرّد أن يناديها «1».
و قد فات هؤلاء أنّ إبراهيم عليه السلام أراد مشاهدة إحياء الموتى وأنّ اللَّه تعالى استجاب دعوته من هذا الباب كي
يطمئن قلبه، فلو كانت المسألة تُحلّ بتربية الطيور وإتيانها بعد دعوتها لما تحقق ما أراده إبراهيم عليه السلام من مشاهدة إحياء الموتى ولما اطمئن قلبه بذلك، بل لا علاقة لهذا الأمر بما طلبه إبراهيم عليه السلام فإنّ مثل هذا الجواب لمثل هذا الطلب قبيح وغير لائق لو صدر من الفرد العادي، فكيف يصدر ذلك من اللَّه تعالى وبالأخص عندما يرد في كلام فصيح ككلام القرآن ...؟
ثانيا: الظاهر أن تفسير كلمة «جزء» باطلاقها على كلِّ واحد من الطيور الأربعة، غير مناسب أبداً.
ثالثاً: إنّ سبب نزول هذه الآية الشريفة والوارد في روايات متعددة لا يتناسب مع هذا المعنى بل صرحت جميعها بالحقيقة التالية، وهي أنّ إبراهيم عليه السلام أخذ أربعة من الطير فذبحها وخلط أوصالها ببعضها ثم قسّمها حصصاً فوضع كلٍ منها على جبل «2».
__________________________________________________
(1) وهذا التفسير في الأساس مقتبس من أحد المفسرين المعروف باسم (أبومسلم) وقد نقل عنه هذا التفسير في «المنار» ودافع عنه وأيّده (ج 3 ص 56).
(2) للاطلاع أكثر على هذه الروايات راجع تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 275- 282؛ وتفسير الدّر المنثور، ج 1، ص 335.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 163
واما جملة «فصرهن» فهي لا تؤثر في محتوى الآية إن كانت بمعنى التقطيع أو بمعنى التعود، لأنّ الآية- على أية حال- جاءت لتوضيح كيفية إحياء الموتى بإذن اللَّه.
وكما قلنا آنفاً إنّ السبب الرئيسي في نزوع هؤلاء إلى مثل هذه التفاسير هو عدم استيعابهم للمعجزات الخارقة للنواميس الطبيعية، ولإرضاء المدافعين عن العقيدة المادية ولذلك ورطوا أنفسهم في هذه المتاهات، بينما تعتبر هذه الخوارق ووقوع المعجزات من البديهيات لدى جميع الأديان، ونحن في عالم الطبيعة نشاهد الكثير من هذه الخوارق التي عجز
عن تفسيرها العلم الحديث (فتأمل).
2- والمعروف من أنواع الطيور الأربعة هي: الطاووس والديك والحمام والغراب، وكلّ واحد من هذه الطيور يحمل صفات متميزّة وقد شبّهوا حركات الإنسان بحركات هذه الطيور، فالطاووس هو مظهر الكبرياء والرياء، والديك هو مظهر الشره الجنسي، والحمام هو مظهر اللهو واللعب، والغراب هو مظهر الآمال البعيدة المنال!
وجاء في كثير من التفاسير احتمالات اخرى أيضاً منها: أنّ تلك الطيور هي الهدهد والبوم والقصر والنسر «1».
ومن البديهي أنّ خصوصيات تلك الطيور المذكورة لا علاقة لها بأصل المسألة، غاية مانعلم هو أنّ أنواع الطيور كانت مختلفة وهذا الإختلاف جاء من أجل الحكاية عن اختلاط تراب البشر مع بعضه.
أمّا عدد الجبال التي وضع إبراهيم عليه السلام عليها أجزاء تلك الطيور فهي عشرة طبقاً لما ذُكر في الروايات ويحتمل أن يكون وقوع هذه الحادثة بعد ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى الشام، لأنّ أرض بابل خالية من الجبال.
ورد محتوى هذه القصة في سورة الكهف خلال أربع عشرة آية، وجاء في بعضها:
__________________________________________________
(1) تفاسير مجمع البيان والقرطبي والكبير ونور الثقلين في ذيل الآية مورد البحث.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 164
«وَكَذلِكَ اعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيَها». (الكهف/ 21)
نستفيد بوضوح من هذا التعبير بأنّ أحد الأهداف المتوخّاة من هذا السبات العجيب والطويل الذي له شبه كبير بالموت هو أنّ هذه الحادثة تعتبر درساً لجاحدي المعاد أو للذين ينتابهم الشك والترديد في هذا المجال.
ويعين على ذلك بالخصوص مااستنبطوه من جملة: «اذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ»، من أنّ الناس اختلفوا في ذلك الزمان في مسألة المعاد (المعاد الجسماني) فالمخالفون كانوا يسعون لمحو آثار قصة أصحاب الكهف كي يسلبوا هذا البرهان القاطع من أيدي المؤمنين بالمعاد
(لقد احتملوا في تفسير هذه الجملة احتمالات جمّة، وماقلناه هو أحد هذه الاحتمالات).
وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره خمس احتمالات اخرى في تفسير هذه العبارة، منها الاختلاف في عدد أصحاب الكهف، ومنها الاختلاف في أسمائهم أو في مدّة نومهم وفي مسألة المعبد الذي شُيّد بالقرب من الغار هل كان على غرار معابد المشركين أو معابد الموحّدين «1».
فالآيات الواردة في هذه السورة من القرآن صرحت بوضوح بأنّ مدّة نومهم امتدّت إلى ثلاثمائة وتسع سنين: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِيْنَ وَازْدَادُوا تِسْعاً». (الكهف/ 25)
إنّ نوماً عميقاً كهذا يشبه الموت، والنهوض بعده أشبه بالحياة بعد الموت بلا شك، لذا فهو يصلح أن يكون نموذجاً حياً للمعاد من وجهة نظر التاريخ.
هناك حديث طويل يدور حول هذه القصة، إلّاأنّ ما يتعلق بموضوع بحثنا هو عدّة امور:
__________________________________________________
(1) التفسير الكبير، ج 31، ص 105.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 165
إنّ ما جاء في القرآن المجيد والروايات المستفيضة في هذا المجال هو مايلي: كان هناك ملك ظالم يدعى «دقيانوس» وقيل إنّ اسمه «دسيوس» وكان متسلطاً على شعب وثني حوالي الفترة مابين القرن الأول إلى القرن الثالث الميلادي، وكانت عاصمة البلاد تدعى «أفسوس»، وكان لهذا الملك عدّة وزراء قد بانت لهم سخافة الوثنية من خلال أحد الحوادث فرجّحوا التحرر من قيود هذه الخرافات على الاحتفاظ بمناصبهم، فهجروا ديارهم سرّاً من دون أن يعينوا هدفاً لمسيرهم، وأخيراً عثروا على غارٍ فاختبؤا فيه فالقى اللَّه عليهم نوماً عميقاً يثير العجب حتى إذا استيقضوا من نومهم العميق هذا تساءلوا في ما بينهم فظنّوا أنّهم لبثوا في نومهم يوماً أو بعض يوم ولكن مظاهر وسمات أطراف الغار كانت تُنبيُ عن شيٍ آخر لذا تسرب الشك إليهم.
ولكونهم جياعاً بعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بالطعام سرّاً، لكّن المسكوكات النقدية كشفت سرّهم وساعد في ذلك أكثر تصرفاتهم وعاداتهم غير المألوفة لدى الناس في ذلك العصر، بالإضافة إلى أنّ قصة تواري عدد من الشبّان من أصحاب المناصب الرفيعة عن الأنظار كانت متداولة بين الناس في تاريخهم المعاصر، فاتحدت جميع هذه الشواهد للدلالة على أنّ هؤلاءهم الذين تواروا عن الأنظار في تلك الفترة!
فسمع الملأ بهذا الخبر والتفوا حولهم، لكن اولئك الشبان عادوا إلى كهفهم وتواروا إلى الأبد فبنى الناس هناك معبداً لتخليد ذكراهم.
هل ورد ذكر لهذه القصة في كتاب آخر غير القرآن أم لا؟ وهل ذكر في التوراة والانجيل الحاليين شيئاً عنها؟
إنّ الجواب عن السؤال الأول بنعم، أمّا الجواب عن السؤال الثاني فهو لا.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 166
لأنّ وقوع هذه الحادثة كما ذكر المؤرخون- يتعلق بالفترة التي تلت ميلاد المسيح عليه السلام، وقد
صرّح البعض بأنّ وقوع هذه الحادثة حصل في الفترة مابين عام 249- 251 ميلادي، فعلى هذا لا يمكن أن تكون مذكورة في التوراة والانجيل، نلاحظ ماورد في كتاب أعلام القرآن:
«إنّ خلاصة ما نقله المؤرخون الاوربيون عن قصة أصحاب الكهف هو: في عصر دكيوس (249 م- 251 م) الذي كان يسوم المسيحيين سوء العذاب، هرب سبعة شبان من النبلاء ولجأوا إلى غار، فأمر دكيوس أن يغلقوا فوهة الغار ببناء جدار عليه ليهلكوا جوعاً وعطشاً، لكن هؤلاء السبعة غرقوا في نومٍ عميق، وبعد مرور 157 عام استيقظوا من نومهم في عصر الملك «تيوذر الثاني» ويطلق المؤرخون الاوربيون على هؤلاء اسم النيام السبعة في أفسوس».
وجاء في فصل آخر من هذا الكتاب: إنّ أول من سرد هذه القصة هو «جاك» في القرن الخامس الميلادي، وهو من سكنة «ساروك» الذي كان يرأس الكنيسة في سوريا خلال رسالة كتبت بالسريانية، وترجم هذه الرسالة من السريانية إلى اللاتينية شخص يدعى «غوغويوس» وانتخب لها اسم «جلال الشهداء» «1».
لقد احتلت هذه القصة مقاماً متميزاً في التاريخ الإسلامي والادب الشرقي والغربي، وتمكنت هذه القصة من وضع بصماتها على الادب «الروسي» و «الحبشي» أيضاً «2».
بناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم لم ينفرد بذكر هذه الحادثة، بل ورد ذكرها في الكتب التأريخية الاخرى
المشهورة أنّ الغار يقع بالقرب من مدينة «افسوس» أحد مدن آسيا الصغرى (تركيا
__________________________________________________
(1) أعلام القرآن، ص 171- 172.
(2) المصدر السابق، ص 181.
نفحات القرآن، ج 5، ص: 167
الحالية التي تشتمل على قسم من بلاد الروم الشرقية القديمة)، بالقرب من نهر «كايستر» الواقع على بعد ما يقارب أربعين ميلًا إلى جنوب شرق «أزمير» «1».
وقد كسبت مدينة «افسوس» شهرتها العالمية من المعبد ومجمع
الأصنام الشهير «اوطاميس» الذي يعتبر من عجائب الدنيا السبع «2».
لكنّ البعض يرى بأنّ غار أصحاب الكهف يقع في موضعٍ بالقرب من الشام يدعى «طرطوس» «3».
ويوجد حالياً موضعٌ بالقرب من دمشق يزوره الناس اشتهر باسم غار أصحاب الكهف.
لكنّ الرأي الأول أشهر.
هل يمكن للإنسان أن يعمرّ ولعدّة قرون ويتساوى لديه أن يكون في حالة اليقظة أم في حالة النوم؟
ولو سلّمنا بامكانية ذلك في اليقظة فإنّ المعضلة تزداد تعقيداً في حالة النوم، لأنّ هذا يعني أنّ الإنسان يمكنه البقاء حيّاً من دون أن يتناول طعاماً أو ماءً، بينما يحتمل أن يحتاج الإنسان خلال هذه المدّة وفي الظروف العادية إلى أكثر من مائة طن من الغذاء ومائة الف ليتر من الماء!
هذه هي التساؤلات التي طرحها العلم حول هذه الحادثة، ويحتمل أن تكون هذه التساؤلات هي السبب في سلوك طريق الجحود من قِبَل لم يجدوا جواباً لها، واعتبروا هذه القصة «اسطورة» من الأساطير.
لكنّ البحوث الأخيرة للعلماء