المعاد و عالم الاخرة

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - عنوان قراردادی : معاد و جهان پس از مرگ .عربی عنوان و نام پديدآور : المعاد و عالم الاخره تالیف مکارم الشیرازی اعداد عبدالرحیم حمرانی مشخصات نشر : قم مدرسه الامام علی بن ابی طالب ع 1425ق [1383]. مشخصات ظاهری : 264 ص. شابک : 10000 ریال ‮ 964-8139-28-8 : ؛ 13000 ریال(چاپ دوم)‮ وضعیت فهرست نویسی : فاپا يادداشت : عربی. يادداشت : پشت جلد به انگلیسی: Resurrection day hereafter. يادداشت : چاپ دوم: 1428ق. = 1386. یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس موضوع : معاد موضوع : مرگ موضوع : رستاخیز شناسه افزوده : حمرانی عبدالرحیم شناسه افزوده : مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع) رده بندی کنگره : ‮ BP222 /م 7م 6043 1383 رده بندی دیویی : 297/44 شماره کتابشناسی ملی : م 83-29905

المقدمة

اشارة

أبي! أهدي هذه البضاعة الزهيدة إلى روحك الطاهرة وردّاً لخدماتك الجليلة اللامتناهية، ليبقى اسمك يذكر بخير ويكون ذلك سكينة لك في جوار الرحمة الإلهية، و كذلك علامة متواضعة على عدم إنكار ولدك للجميل وعرفانه بالحق «1».

الأيمان بالمبدأ والمعاد

الأصلان المذكوران من أهم أركان الاسلام، وذلك لتعذر إنتظام أي مشروع أخلاقي وعملي بدونهما، كما لا يسع أي إنسان أن يسلك نهج الحق والعدل والورع والتقوى. أمّا الإيمان بالمبدأ فيعني أنّ الإنسان يرى نفسه بين يدي اللَّه الذي يعلم بكافة نيّات الإنسان وأفعاله وأعماله صغيرها وكبيرها وظاهرها وباطنها، بل إنّه يعلم حركة أعين الآثمين، ويسمع حسيس المتناجين، و هو عليم بكل ما يخطر على قلوبنا و يقتدح في أذهاننا: «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَ عْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ» «1». إنّه قريب مَنّا، بل أقرب إلينا من حبل الوريد: «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «2». ليس هنالك أي حجاب يمكنه أن يحجبنا عنه، وهو لا ينفك عنّا في أي المعاد و عالم الاخرة، ص: 6

زمان ومكان: «وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنْتُمْ» «1». و أمّا الإيمان بالمعاد، فهو يعني الإيمان بمحكمة العدل الإلهي التي ليس لها أي شبه بمحاكم الدنيا وهذا العالم الذي نعيش فيه، فجميع الأعمال حاضرة لديه: «وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً» «2». و السّجل يضم كافة الأعمال بغض النظر عن صغرها و كبرها: «لَا يُغَادِرُ صَغِيْرِةً وَ لَاكَبِيرِةً الّا احْصَاهَا» «3». و نحن الذين ينبغي علينا أن نقرأ ملّف أعمالنا، كما علينا أن نقضي بشأن أنفسنا و نحكم فيها: «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الَيْومَ عَلَيْكَ حَسِيباً» «4». ونحن الذين سندلي بشهاداتنا على أعمالنا بما في ذلك أعضاؤنا وجوارحنا التي ستشهد في تلك المحكمة: «وَ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ»

«5»

فلا سبيل إلى الإنكار ولا سبيل إلى الرجوع و تلافي ما فرط منّا، وليس لنا طاقة على تحمل العذاب الإلهي، كما ليس من سبيل للهرب. المحسنون والصالحون و المقربون في جوار الحق و رحمة الله يتلذذون بالنعم التي لم ترها عين أو تسمع بها أذن أو تخطر على قلب بشر؛ بينما يتجرّع المسيئون و الآثمون و الظالمون غصص جهنم التي تطلع على أفئدتهم فتحرقهم: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعَ عَلَى الافْئِدَةِ» «6». نعم لو عشنا الإيمان بالأصلين المذكورين، بل لو كانت لأرواحنا أدنى المعاد و عالم الاخرة، ص: 7

إلتفاتة إليهما لكفانا ذلك و كان لنا معيناً في تربية أنفسنا وهدايتها، وبخلافه إذا غاب الإيمان بالمبدأ و المعاد فسوف لن يكون هناك أية شرعة أو منهاج يمكنه إصلاح الإنسان. و الكتاب الذي بين يديك- و الذي نهضت دار سرور للنشر بطبعه- هو جهد متواضع من أجل إحياء الأصل الثاني يعني المعاد، بلسان العصر وبصيغة إستدلالية سهلة الإدراك و الفهم لجميع المستويات ويتضمن أجوبة شافية لكافة الأسئلة وعلامات الاستفهام. نأمل أن نعيش السعي في بناء الذات و تهذيب النفس قبل حلول ذلك اليوم من خلال الإيمان بهذا الأصل الاعتقادي المهم. قم- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي نيسان 1997 م

ماذا نعلم عن عالم ما بعد الموت؟

1- آفاق من أبحاث الكتاب

لقد كتب القليل النادر للأسف الذي لا يتجاوز عدداً محدوداً في مجال المعاد و قيامة الأرواح و الأجساد و العالم الأخر بعد الموت رغم الأهميّة القصوى التي تحظى بها هذه الموضوعات، و على الرغم من تعطش أفراد الجنس البشري لمعرفة ماذا سيحدث بعد الموت، هل ستستمر الحياة وفي إطار أفق أوسع وأشمل أم لا؟ هل أنّ ظروف الحياة في العالم الآخر هي ذاتها بالنسبة للحياة في هذا العالم، أم

حالنا بالنسبة إلى حقائق ذلك العالم حال الجنين الذي لايمكنه أن يتصور أوضاع الحياة خارج رحم أمّه فلا يدرك من مفاهيم الحياة وشروق الشمس و ضياء القمر و مداعبة نسيم الربيع و جمال البراعم و الزهور و تلاطم الأمواج و عظمة عالم الخلق سوى أنّها قبضة من اللحم و الدم. فهل لجهودنا في ظلّ هذه الحالة أن تكلل بالنجاح؟ هل حقّاً ستكون أعمالنا السيئة والصالحة معنا في ذلك العالم، و هي التي ستسوقنا إلى العذاب والنقمة أو الراحة والنعمة؟ وهل يمكننا أن نحيط خبراً بذلك العالم رغم عدم عودة أحد منه؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 10

هل الموت أليم؟ ما الذي يشعر به الإنسان حين الموت؟ هل تبقى الروح مع تعفن الجسد و تآكله؟ ما هي الروح؟ و كيف يمكن التعرف عليها و الإرتباط بها من وجهة النظر العلمية والفلسفية؟ هل حقّاً يمكن عودة هذا الجسم إلى الحياة (المعاد الجسماني) رغم كونه في حالة تغيير على الدوام و أحياناً تنتقل بعض ذراته إلى غيره من الأبدان على مرور الزمان؟! هل للإيمان بالمعاد آثار تربوية واجتماعية وفكرية وأخلاقية على روح الإنسان وجسمه؟ وبالتالي هل يمكن البرهنة على المسائل المرتبطة بعالم ما بعد الموت على ضوء الأسس العلمية و ....؟ هذه هي الأسئلة و الاستفسارات التي يتصدى الكتاب الحاضر لمناقشتها وبحثها. و بالرغم من خضوع مضامين هذا الكتاب للبحث و الدرس لسنوات، لكن وكما ذكرنا سابقاً فإنّ قلّة الأبحاث في هذا المجال تجعل من الممكن تطرق العيوب و النقائص لهذا الكتاب، ومن هنا نناشد العلماء و المفكرين أن يبعثوا لنا بانتقاداتهم ومقترحاتهم ووجهات نظرهم لنستقبلها بكل رحابة صدر ونستفيد منها في هذا الكتاب ولهم منّا جزيل الشكر و

التقدير. وأرى من الضروري ألا يتسرع الأخوة القراء الأعزاء- و بسبب حداثة أغلب الأبحاث- في إصدار أحكامهم النهائية قبل مطالعة جميع الكتاب. و قد تبدو مباحث هذا الكتاب شيئاً هامشياً وأجنبياً عن واقع الحياة، بالنسبة لُاولئك الذين لا تعني الحياة في مدرستهم الفكرية سوى الخبز والماء

المعاد و عالم الاخرة، ص: 11

وأقصى ما يميز مدرستهم شعار الخبز والماء للجميع، مع ذلك وعلى فرض أننا نمتلك مثل هذه الرؤية الضيقة و المحدودة، فانّنا سنشاهد التأثير العميق الذي يلعبه الإيمان بعالم الآخرة- الحياة بعد الموت- في سبغ هذه الحياة المادية بالهدوء والسكينة و الدعة و الاستقرار و في الواقع أنّ الإنسان من دون الإيمان بالمعاد ليس بقادر على تطبيق العدالة الاجتماعية، ولا السير في مراحل التكامل الإنساني والمعنوي والأخلاقي. و هنا أرى ضرورة الإشارة إلى أمرين بعد هذه المقدمة:

2- كبيرة الكاتب

لقد إبتدأت و لله الحمد الكتابة في مجال العقائد الإسلامية بالاسلوب العصري في كتاب «خالق العالم» و إنتهيت بالكتاب الحاضر، و ممّا لاشك فيه أنّ مثل هذه الكتابات أحدثت تطوراً نوعياً في كيفية طرح العقائد الدينية ضمن إطار جديد يجعل من اليسير إدراكها من قبل الجميع. إلّاأنّي أراني مضطراً- لبيان حقيقة قد يتصور القاري أنّها من العُجب والأنانية أو مجرّد بيان حقيقة في هذا المجال، و هي أنّ هذه السلسلة من الأبحاث التي خاضت في أهم المسائل العقائدية الإسلامية و التي طرحت في أربعة كتب هي: 1- خالق العالم (في أدلة التوحيد و مناقشة المدارس المادية) 2- معرفة اللَّه (في صفات اللَّه و مسألة الجبر والتفويض) 3- القادة العظماء (في ضرورة زعامة الأنبياء و مسألة الوحي و ما شابه ذلك) 4- القرآن و النبي الخاتم (بشأن المضامين الإعجازية للقرآن

و معرفة نبي الإسلام) كان لها بالغ الأثر في أوساطنا و لا سيما لدى شريحة الشباب الواعي، وما كثرة طبع هذه الكتب ونفاذها من الأسواق إلّادليل واضح على صحة الادعاء

المعاد و عالم الاخرة، ص: 12

المذكور، أمّا الدليل الآخر هو أنّ هذه الكتب أخذت تعتمد كمواد دراسية منهجية في بعض الأوساط و المحافل الدينية والعلمية في داخل البلاد و خارجها، و قد ترجمت بعضها إلى اللغات العربية و الاردية والانجليزية. و لعل نجاح ذلك يعود في الحقيقة إلى أربعة عناصر هي: إجتناب المصطلحات الرنانة، الصدق في الطرح، البعد عن التعصب، التجدد، إلأأنّ البعض يعتقد بأنّ هذه السلسلة من الكتب تنطوي على عيب كبير يقلل من قيمتها؛ و إذا لم تعرب عن دهشتك و ذهولك، فعيبها الكبير برأيهم يكمن في بعدها عن المصطلحات والعبارات الطنانة الرنانة إلى جانب عدم تقعيد الجمل وايرادها بمنتهى السهولة والبساطة و تقريب المواضيع الصعبة إلى أذهان العموم؛ و لعلها هي الأمور التي تجعل مستوى البحث و اطئاً لاعالياً! و لا يسعني هنا إلّاالاعتراف بهذا «العيب» أو «الذنب» و أعلم لو تركت العنان لقلمي ليسطر ما يشاء من المصطلحات المعقدة و العبارات المغلقة لبدا البحث لذلك البعض أكثر علمية، لكني ما فعلت ذلك عامداً و أعتقد أنّ هذه هي رسالة الكاتب. و بالطبع يمكن القول بقوّة أنّه يمكن تعقيد كل بحث من أبحاث هذه السلسلة بحيث يصعب فهمها على أغلب القراء الاعتياديين، فيكتفون بالقول أنّها أبحاث علمية ذات مستوى رفيع لايسعنا إدراكه. والسؤال الذي نطرحه هنا هل يمكن التضحية بالمصالح العامّة المتمثلة بإدراك الحقائق من أجل حصول الكاتب على شخصية خيالية كاذبة؟! وهل يجيز الوجدان مثل هذا العمل لمن يملك القدرة على البساطة

في كتابة المواضيع؟! على كل حال لقد إعتدت على هذا الذنب و لا أراني أقدر لا سامح الله المعاد و عالم الاخرة، ص: 13

على التخلي عن هذا الإدمان و الإصرار. و الغريب في الأمر إنّنا نرى أغلب الكتب الجامعية و غيرها التي يمكن كتابة مطالبها بعبارات أسهل وأوضح دون أن يتطرق إليها أي خلل و نقص بغية الاقتصاد في وقت و عمر الباحثين و عمومية نفعها و ثمرتها. فلا يمكن إتهام جميع كتّابها و مؤلفيها بعدم القدرة على البساطة في التدوين. و بناءاً على هذا لابدّ من القول بأنّ البعض قد لايرغب بالقيام بهذا العمل، ولعل ذلك يؤدّي إلى فقدان الكتاب لقيمته العلمية لو اختصرت عباراته المغلقة! فلابدّ من الخروج على النظام الطبيعي لترتيب المطالب وتقديم و تأخير العبارات و الاستفادة من المفردات و الألفاظ الغريبة غير المألوفة و الطارئة أحياناً لتصبح أعظم علمية! و مازال ذلك يشكل أحد آلام مجتمعنا.

3- شهادة التأريخ

المطلب الآخر الذي ضرورة ذكره للتأريخ هو أنّ أحد الأصدقاء أخبرني ذات يوم قائلًا: كنت منهمكاً بترجمة كتاب عربي بشأن معرفة اللَّه إلى اللغة الفارسية، فشعرت بأنّ مطالب الكتاب لم تكن غريبة عليَّ، فلما تأملتها وتمعنت النظر فيها وجدت أنّ أغلب أبحاثه هي عينا ذات أبحاث كتاب «خالق العالم» الذي ألفته، فقد تبيّن أنّ الكاتب المحترم المذكور قد ترجم المطالب و الأبحاث المذكورة دون ذكره لمصادر كتاب «خالق العالم» و أنّي الآن أقوم مرّة أخرى بإعادته من العربية إلى الفارسية!

المعاد و عالم الاخرة، ص: 14

فقلت بالتالي لا مانع لديّ نشر هذه الترجمة طالما كانت خطوة في سبيل معرفة اللَّه وخدمة للعلم، ولكن على الأقل كي لا اتّهم بأنّي أقتبست منه المطالب دون ذكر المصادر و

المراجع فاكتب هذه القضية في مقدمة الكتاب! ثم رأيت أنّه لم يقتصر الأمر في الاستفادة من هذه الأبحاث على ذلك الكاتب العربي المحترم، بل قام بعض الكتّاب الآخرين بالإتيان بذات العبارات أو بعض العبارات الأخرى في كتبهم دون أدنى إشارة من قريب أو بعيد إلى المصادر. لعل هذه القضية لاتبدو بتلك الأهميّة ولكن أليس من الأفضل أن يستفرغ الكتّاب الأعزاء وسعهم و يستفيدوا من طاقاتهم في إبداعات جديدة بدلًا من مصادرة جهود الآخرين و الاستعانة بمطالبهم، فيعمل كل كاتب على ضوء إمكاناته المتاحة من أجل حلّ بعض المعضلات و المشكلات، كما يسلط الضوء على القضايا التي لم يتطرق لها الآخرون، و ليت شعري ماذا يضر الكاتب لو لم يتحفظ عن ذكر المصادر و المراجع و يعترف بحقوق الآخرين؟! طبعاً لست أنكر أنّ لكل مفكر و عالم، الحق في الاستفادة من أفكار الآخرين و إبداعاتهم، ولكن بشرط مراعاة الأمانة و الإشارة إلى مصادر الكتاب و الجهود التي بذلت من أجله إن تعرض لنقل مطالبه دون أية إضافة أو إبداع أو الإتيان بها بأسلوب عصري جديد يجعلها تختلف عن سابقها. نسأل اللَّه أن يوفقنا جميعاً لبذل الجهود من أجل حفظ دينه و خدمة خلقه.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 15

و لا يسعني هنا إلّاأن أناشد ثانية كافة الأخوة أن يتحفونا بما لديهم من توجيهات و إرشادات بهدف تكامل العمل و سد ثغراته. قم- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي ذي القعده 1396

هل الموت هو نهاية الحياة أم بداية حياة جديدة؟

اشارة

عادة ما يعيش الناس حياتهم في الزمان الحاضر و يكتفون بما هم عليه الآن، و الأفراد الذين يعيشون الزمان الماضي ليسوا قلائل أيضاً، و هذه الطائفة تنهمك على الدوام في التعامل مع النماذج الحاوية لأحداث الماضي الحلوة

والمريرة بعد إنتشالها من تحت الأنقاض، و الواقع أنّهم يقضون أعمارهم في نبش قبور الماضين. فهم لا ينفكون عن أمرين؛ إمّا ذرف الدموع على الحوادث الأليمة، و إمّا التغني ببطولات وأمجاد عظمائهم الذين دفنوا تحت التراب! نعم هناك من يفكر في المستقبل ولّا سيما المستقبل البعيد و هم قليلون، و هنا يطرح هذا السؤال: ما السبب الذي يكمن وراء التحفظ عن التعرض لحوادث المستقبل والذي يتخذ أحياناً طابع الهروب؟ ترى أيعزى ذلك إلى طبيعة المستقبل الخارجة عن دائرة الحس، والناس أبناء الحس فهم يألفون هذه الأم فقط؟ أم يعزى ذلك إلى هالة من الغموض و الإبهام التي تغطي المستقبل فتجعله يكتسي حلّة مخيفة؛ الأمر الذي يثير الهلع لدى من يقترب منه؟ أم أنّ المستقبل شئنا أم أبينا مقرون بالمشيب و العجز و الكهولة و بالتالي المعاد و عالم الاخرة، ص: 18

الموت والعدم، و هي الأمور التي يرتعش منها الفرد و يهرب منها بكل كيانه. ولكن على كل حال لامفر لنا من التعامل مع المستقبل رغم الخوف والهلع والإبتعاد و الهرب، و لا شك أنّ هذا المستقبل هو الذي يختزن مصيرنا و عاقبة أمرنا، فالماضي ولّى و إندثر و الحاضر سينتهى كلمح بالبصر إلى الماضي، و عليه فلا يبقى سوى المستقبل؛ المستقبل البعيد الذي تكتنفه الأسرار و الألغاز والذي ينتظرنا فنسير نحوه دون تريث، فلم لا ندركه و نفكر فيه؟

الموت ليس بهذا الرعب

إنّ الناس و رغم كل اختلافاتهم و تنوع مشاربهم الفكرية والعقائدية سيبلغون شاءوا أم أبوا و كيفما تحركوا و إنطلقوا نقطة مشتركة تتمثل بالموت وإختتام هذه الحياة. فنقطة إنطلاقة الحياة غنية كانت أم فقيرة، وفي وسط الجهل كانت أم العلم، و مقرونة بالسعادة أم الشقاء سيأتي عليها

الموت بغتة فيجعل الجميع يعيشون حالة واحدة تسودهم فيها المساواة التامة المطلقة التي يعجز الكل عن الإتيان بها. و لهذا يمكن تأمل مقدار العمر و طول الحياة، بينما لايمكن مناقشة الموت، حتى لو استخرجنا ماء الحياة من الظلمات واحتينا جرعة منه، فإنّ الحياة الأبدية متعذرة محالة، لأنّ طول العمر لايعني الأبدية قط. و على هذا الأساس يتفق جميع الأفراد على الإيمان بالموت رغم الفوارق الفكرية التي تسودهم، و لعل التعبير عن الموت باليقين على لسان آيتين من الآيات القرآنية هو إشارة إلى هذه الحقيقة، فقد صرحت إحدى المعاد و عالم الاخرة، ص: 19

هاتين الآيتين بالقول: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقينُ» «1». و صرحت الآية الأخرى على لسان الآثمين: «وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ* حَتَّى اتَيْنَا الْيَقِينُ» «2». و معنى ذلك لقاء المحسنين و الآثمين في تلك اللحظة القطعية واليقينة.

الشعور الإنساني حين الموت

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: بم يشعر الإنسان حين الموت؟ لا أحد يعرف الشعور الذي يخالج الإنسان حين الموت، حيث لم يعد أحد من هناك ليشرح للآخرين شعوره في تلك اللحظة الحساسة. فهل مفارقة هذه الحياة كقلع السن اثر حالة التخدير و دون أي ألم ومعاناة، أم يعاني الإنسان حينها أقسى أنواع العذاب و الشدّة بحيث يعجز الإنسان عن وصف تلك الحالة؟ أم القضية تختلف باختلاف روحيات الأفراد و أخلاقياتهم وصفاتهم وأعمالهم؟ فهو سهل يسير على البعض كاستشمام رائحة الوردة، بينما ثقيل وصعب على البعض الآخر كحمل ثقل وزنه الجبل. و لعل هناك شعورا آخر يخالج الإنسان لحظة الموت لايسعه فكرنا و ذهننا ولايمكننا إدراكه في ظل ظروف هذه الحياة. فلو قدر لوليد خرج من رحم أمّه العودة الثانية إلى توأمه الآخر في الرحم، فهل يسعه شرح

ما شاهده خارج رحم أمّه منذ الولادة حتى عودته ثانية إلى بطنها؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 20

أليس هذا الأمر أشبه شيئاً بفرد أخرس يروم وصف رؤياه وما شاهده في المنام لآخر مكفوف البصر؟!

عبثية الهرب من الواقع

إنّ أسوأ سبل مواجهة الحقائق المريرة يتمثل بالتهرب من إدراكها وإستيعابها أو إيداعها بوتقة النسيان. حقّاً ليس هناك خفة عقلية تفوق هذه القضية بأن ننسى شيئاً لاينسانا أبداً، أو نتوقع إعادة النظر بشأن مطلب حتمي لايمكن إجتنابه بأي شكل من الأشكال. لماذا لا نفكر بالموت و الحوادث التي تعقبه و مصير الروح بعد مفارقتها لهذه الحياة و مئات القضايا الأخرى ذات الصلة بالموت؟ و الحال وقوع الموت في المستقبل القريب بالنسبة لنا يعد من الحوادث القطعية الحتمية التي لا غبار عليها و لا نقاش فيها. إنّنا حين نتصفح التاريخ نرى الموت قد صرع أقوى الأفراد و أقدرهم من قبيل الاسكندر و جنكيز خان و نابليون و من كان على شاكلتهم، كما قضى على أعظم العلماء و المفكرين و أقوى الأدباء و الشعراء و الكتّاب، فقد ركع الجميع للموت و استسلموا له، و عليه فليس من المعقول أن ننساه أو نخشاه و نخافه عبثاً، فقد ورد عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّه قال «وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيْمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ» «1». فما أحرانا أن نتقدم إلى الأمام بكل شجاعة و بسالة و واقعية لنقف على الأمور المتعلقة بنهاية الحياة و نحصل على الأجوبة الشافية و الوافية

المعاد و عالم الاخرة، ص: 21

المنطقية بخصوص الألغاز و الأسرار التي تكتنف الموت.

رؤيتان لمصير الإنسان

هل لحظة الموت هي لحظة وداع كل شي ء؟ لحظة نهاية الحياة؟ لحظة الغربة الأبدية و الإنفصال المطلق عن هذا العالم، و تحلل و عودة المواد المؤلفة لبدن الإنسان إلى عالم الطبيعة؟ أم هي لحظة الولادة الجديدة؟ أم هي خروج ثاني من رحم الدنيا إلى عالم واسع و شامل آخر؟ أم تحطيم قضبان سجن رهيب؟

أم التحرر من قفص ضيق و صغير و إفتتاح نافذة نحو عالم روحي واسع بعيد عن الزخارف المادية لهذا العالم و مجانب للهم و الغم و الألم و المعاناة والعداوة و الكذب و الظلم و الجور و الإجحاف و ضيق النظر و الحقد والضغينة والحرب و القتال، و بالتالي كل المنغصات و الكدورات التي ينطوي عليها هذا العالم؟ بغض النظر عن مدعى صحة الرؤيتين المذكورتين و إقترابها من الحقيقة والمنطق- و بالطبع سنتحدث في الأبحاث القادمة باسهاب عن هذا الموضوع- فإنّ الرؤية الاولى تبدو مظلمة و مخيفة و أليمة و الثانية جميلة ورائعة و هادئة.

فصورة الموت على ضوء النظرة الاولى تجعل شربت الحياة- مهما كانت الحياة مرفهة- علقماً مريراً على الإنسان أو تضطره للخضوع لأي شي ء والاستسلام لأي ظروف من أجل الفرار من الموت. و القضية على العكس تماماً بالنسبة للنظرة الثانية التي يسعها جعل المعاد و عالم الاخرة، ص: 22

شربت الحياة عذباً و شربت الشهادة في سبيل الحق و الأهداف السامية أعظم عذوبة وحلاوة، و تلقن الإنسان بعدم الاستسلام لأي شي ء و الانحناء لأي شرط بسبب هذه الحياة، بل عليه أن يكون حرّاً في دنياه و لايخشى الموت المشرف! والخلاصة فإنّ الموت ليس مرعباً دائماً، فقد تكون هذه الحياة أعظم منه رعباً أحياناً.

لماذا نخاف من الموت؟

هنالك فردان يخافان من الموت؛ أحدهما من يفسّره بمعنى العدم والفناء المطلق، و الآخر من كانت صحيفة أعماله سوداء و مظلمة، أمّا من لم يكن من هؤلاء ولا اولئك فما مبرر خشيته من الموت، أفهناك شي ء يفقده من جراء الموت؟ مشهورة هي حكاية «ماء الحياة» و التي تتناقل بسرعة فائقة حيث أقدم الإنسان منذ قديم الأيام بالبحث عن شي ء يسمى «إكسير الشباب» و قد

نمقوه بالأساطير و الخرافات و عقدوا عليه الآمال. و لعل القضية تفيد حقيقة تكمن في خشية الإنسان من الموت وحبّه لمواصلة الحياة و الهروب من نهايتها، على غرار إسطورة «الكيمياء» تلك المادة الكيميائية الخفية التي لو أُضيفت على النحاس الذي لا قيمة له جعلته ذهباً ذا قيمة باهضة، و التي تفيد خوف الإنسان من الفقر الاقتصادي و مدى سعيه للحصول على الثروة. و إسطورة إكسير الشباب هي الأخرى تعكس هلع الكهولة و الضعف والتآكل و بالتالي الموت و نهاية الحياة.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 23

إنّ أغلب الناس يخشون الموت و يهربون من مظاهره و يشمأزون من إسم المقبرة و يسعون جاهدين لاطماس الماهية الأصلية للقبور من خلال تزيينها و إضفاء بعض الجمالية عليها، حتى أنّهم يلجأون إلى تحذير الأفراد من بعض الأشياء الخطرة- غير الخطرة التي لايريدون للآخرين أن يقتربوا منها أو يخربوها من خلال الكتابة عليها «خطر الموت» و يرسمون عليها صورة لعظمين من عظام ميت في حالة علامة في خلف جمجمة جوفاء خالية من الروح تطالع الإنسان. و قد حفلت النتاجات الأدبية لمختلف أصقاع الدنيا بما يفيد خوف الإنسان من الموت، فبعض العبارات من قبيل «هيولا الموت»، «شبح الموت»، «صفعة الموت» و «مخالب الموت» و ما إلى ذلك من التعبيرات التي تدل على مدى القلق والهلع و الضطراب. كما يؤيد ذلك القصة المعروفة بشأن رؤيا هارون الرشيد- الذي رأى في المنام سقوط جميع أسنانه- فعبّر له شخصان تلك الرؤيا قال الأول: يموت جميع أفراد أهلك قبلك. و قال الثاني: إنّ عمر الخليفة سيكون أطول من جميع قرابته، فما كان ردّ فعل هارون الرشيد إلّاأن وهب الثاني مئة دينار، بينما جلد الأول مئة جلدة،

فهذا دليل آخر على خشية الإنسان من الموت.

و ذلك لأنّ الفردين عبّرا عن حقيقة واحدة، إلّاأنّ أحدهما ذكر الموت بالنسبة لقرابة الخليفة فكان جزاؤه مئة جلدة، وعبّر الآخر عن ذلك الموت بطول عمر الخليفة فتناول مئة دينار!. ناهيك عن كل ما سبق فقد إعتاد الناس بعض الأمثال و العبارات التي تكشف عن مدى خشيتهم من الموت، فإذا أرادوا مثلًا تشبيه فرد بآخر ميت في قضية إيجابية خاطبه قائلًا «إسم اللَّه عليك» أو «أبعد اللَّه عنك» ذلك، أو

المعاد و عالم الاخرة، ص: 24

فليخرس لساني سيصبح الأمر بعدك كذا و كذا، أو ترتيب الأثر على كل شي ء يبعد احتمال الموت أو يكون مؤثراً في طول العمر، و إن بدا خرافة تماماً ولا أساس له و كذلك أدعيتهم التي تتضمن كلمة الدوام و الخلود من قبيل: دام عمره، دام مجده، دامت بركاته، خلد اللَّه ملكه، أطال اللَّه عمره و كل عام و أنتم بخير و ...! و التي تشكل كل واحدة منها دلالة على هذه الحقيقة. طبعاً لا يمكننا إنكار وجود بعض الأفراد النادرين الذي ليس لهم أدنى خشية من الموت، حتى أنّهم يسارعون لاستقباله، إلّاأنّهم قلائل، كما أنّ العدد الحقيقي أقل بكثير من اولئك الذين يزعمون ذلك.

ما مصدر هذا الخوف و القلق من الموت؟

عادة ما يخشى الإنسان «الزوال» و «العدم». يخشى «الفقر»، فهو زوال الثروة. يخشى «المرض» لأنّه زوال السلامة و العافية. يخشى «الظلمة» حيث ليس فيها نور. يخشى «الصحراء» و قد يخشى «الدار الخالية» لأنّه لا أحد فيها. بل يخشى الميت حيث لاروح فيه، و الحال لايخشى ذلك الشخص حين كان على قيد الحياة و الروح فيه! و بناءاً على ما تقدم فإن خشي الإنسان الموت فذلك لأنّه يراه «فناءاً مطلقاً» و

عدماً لكل شي ء. و إن خشي الزلزلة و الصاعقة و الحيوان المتوحش، فذلك لأنّها تهدد وجوده بالفناء و العدم.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 25

طبعاً لايبدو هذا الأمر غريباً من وجهة النظر الفلسفية، لأنّ الإنسان «وجود» و الوجود ينسجم مع الوجود الآخر، بينما ليست له أية سنخية وتناسب مع العدم، فما عليه إلّاالفرار و الهرب منه، لم لايهرب؟ إلّا أنّ هناك قضية مهمّة هنا لاينبغي الغفلة عنها و هي: كل هذه الأمور صحيحة إذا فسّر الموت بمعنى الفناء و العدم و نهاية كل شي ء، و الحق لو فسّر كذلك فليس هناك شي ء أعظم رهبة منه، و كل ما قيل بخصوص هيولا الموت هو عين الصواب. أمّا إن إعتبرنا الموت- كولادة الجنين من بطن أمّه- ولادة أخرى و آمنا بإنّ اجتيازنا لهذا الممر الصعب يعني وضع أقدامنا في عالم أوسع و أشمل وأكمل من هذا العالم و هو مليى ء بأنواع النعم التي يصعب علينا تصورها في ظل الظروف الراهنة و الحياة الفعلية. و خلاصة القول فإن اعتبرنا الموت أكمل و أسمى من هذه الحياة، و التي لا تعد سوى سجناً إن قارناها بالحياة في ذلك العالم، فمن الطبيعي سوف لن تعد للموت مثل هذه المعاني التي تشير الخوف و الهلع و النقرة لدى النفس، وستكون له معاني جمالية رائعة قريبة من القلب محببة إلى النفس.

لأنّه إن سلب من الإنسان جسمه زوده بالأجنحة ليحلق بها في سماء الأرواح الشفافة اللطيفة التي تفوق التصور و الخيال و الخالية من كافة أشكال الإقتتال و التراع و العداء و الهموم و الغموم. و هنا نتذكر ذلك الشاعر الذي له مثل هذه الأفكار و هو يأمر حكيماً عالماً بلغة الشعر: فلتمت أيّها

الحكيم من مثل هذه الحياة، فالموت من هذه الحياة لايعني سوى البقاء، و لتحلق بأجنحتك كالطيور فتطوي تلك المسيرة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 26

الكاملة، ولا تخشى من الحياة التي تنتظرك فالخشية لابدّ أن تكون من هذه الحياة الضيقة المحدودة. فمن البديهي أنّ من ينظر هكذا إلى مسألة الموت لن يقول أبداً أنّ الموت حالة عبثية لا طائل من وراءه أو هو إنتحار و قتل للنفس، بل يراه حقيقة سامية يحث الخطى من أجل معانقتها، و ما أجمله إن كان وسيلة لبلوغ الأهداف المقدسة و السامية، و خلاص الإنسان من الذلة و الخنوع والبؤس و الشقاء.

العنصر الآخر لخشية الموت

هناك طائفة أخرى تخشى الموت لا لأنّه يعني الفناء و العدم المطلق، بل لأنّ صحيفة أعمالهم بلغت درجة من الاسوداد و الظلمة بحيث يشاهدون بأم أعينهم ما سيترتب عليها من جزاء أليم و عذاب شديد سيطالهم بعد الموت، أو على الأقل أنّهم يحتملون ذلك. فهؤلاء أيضا محقون في خشيتهم الموت، لأنّهم بمثابة المجرم الذي اقتيد من قضبان السجن و حمل إلى المقصلة، طبعاً الحرية و الخلاص مطلوب، لكن لا التحرر من السجن نحو المشقة! فحرية هؤلاء من سجن البدن أو سجن الدنيا يتزامن و حركتهم نحو المقصلة، «المقصلة» لا بمعنى الإعدام بل بمعنى العذاب الأسوأ منه. ولكن ما بال اولئك الذين يخشون الموت و لايرونه فناءاً وعدماً، كما ليس لهم من صحيفة أعمال سوداء؟ لِمَ يرهبون الموت في سبيل تحقيق الأهداف المقدسة؟ لماذا؟ ...

جذور المعاد في أعماق الفطرة

اشارة

تنادينا إلهامات الفطرة: الموت ليس نهاية الحياة، و بالطبع لاتقتصر هذه الإلهامات علينا، بل تفيد كافة الشواهد الموجودة أنّه كان يؤمن بها كافة الأقوام بما فيها الإنسان البدائي الذي عاش في عصور ما قبل التأريخ. يقال: هناك ذبذبات مجهولة- تشبه الأمواج الراديوية- تبث دائماً من أعماق السموات وجوف المجرّات التي لها بالغ الأثر على الأجهزة المستقبلة. لا أحد يعلم من أين تنطلق هذه الأمواج و ما مصدرها الرئيسي؟ هل هناك حضارات في ما وراء منظومتنا الشمسية أكثر تطوراً من حضارة أهل الأرض بحيث يرسل سكنتها برسائلهم إلى العالم بواسطة هذه الأمواج؟ أم هناك مصدر آخر؟ لا نعلم. والأعجب من ذلك إننا نستقبل بانتظام من أعماقنا و باطن أرواحنا رسائل مجهولة و لا نعرف مصادرها، فنرانا مضطرين للاصطلاح عليها بالفطرة، و كل ما نعلمه إنّنا نحصل على إلهامات مختلفة ترشدنا إلى الخطوط

الأصلية حين نقف على مفترق طرق. مثلًا: تقع حادثة مفاجئة قريب منّا أو في أبعد نقطة من العالم، فتدفع المعاد و عالم الاخرة، ص: 28

بنا هذه القوة الباطنية الخفية باتجاه الحصول على أخبار تلك الحادثة، ثم نرانا نجهد أنفسنا في هذا المجال دون أن نعلم الدافع و السبب الذي يقف وراء كل هذا الشوق و اللهفة لرؤية تلك الحادثة و الوقوف على تفاصيلها التي قد لايكون لها أدنى إرتباط بأوضاعنا، فلا نستقر و لايهدأ لنا بال مالم نفهم تلك الحادثة. ترافقنا هذه الحالة منذ اللحضات الأولى للعمر ولا تنفصل عنّا حتى آخر العمر، ثم أطلقوا على ذلك فيما بعد اسم «حس حبّ الإطلاع» و قالوا إنّه جزء من فطرة الإنسان. و كثيرة هي نظائر هذه الغرائز و الإلهامات الفطرية، إلّاأنّ أحداً لا يسعه أن يزودنا بايضاحات أكثر بشأن مصدر هذه الإلهامات الفطرية، ولكن على كل حال ليس لدينا أي شك في أصل وجودها و دورها في إرشادنا و توجيهنا التكويني.

***

و الإيمان بالحياة بعد الموت واحد من هذه «الإلهامات الفطرية»: لدينا عدّة شواهد تاريخية تفيد عمق إيمان البشرية على مدى التأريخ، بل في العصور التي ما قبل التأريخ بالحياة الآخرة بعد الموت، و الدليل على ذلك الآثار المختلفة التي خلفها قدماء الناس و كيفية بناء قبورهم و الأشياء التي كانوا يدفنونها في التراب مع موتاهم- كما سيأتي شرح ذلك بالتفصيل- والتي تفيد إيمان الإنسان بحياة ما بعد الموت على ضوء إلهاماته الباطنية، حيث لايمكن التصديق بأنّ مسألة ليست بفطرية و قد تمكنت من الحفاظ على قوتها ورسوخها إلى هذه الدرجة طيلة التأريخ و لما قبله إلى أبعد العصور والأزمنة حتى بقيت عالقة في الأذهان، فمثل هذه

المسائل المعاد و عالم الاخرة، ص: 29

المتجذرة التي لاتنفصل عن البشر قط، قطعاً لها نواة غريزية و فطرية، و من هناك كانت دائمية خالدة. و قد صرّح عالم الاجتماع المعروف «صاموئيل كونيغ» قائلًا: تفيد الآثار التي عثر عليها العلماء في الحفريات أنّ أسلاف الإنسان المعاصر أي إنسان النياندرتال كانت لهم ديانة بدليل أنّهم كانوا يدفنون أمواتهم بطريقة خاصة، كما كانوا يدفنون إلى جانبهم وسائلهم و أدواتهم، و هكذا يعلنون إيمانهم بوجود عالم آخر بعد الموت. «1» نعلم أنّ إنسان النياندرتال عاش قبل عشرات آلاف السنين، حين لم يخترع الخط حتى ذلك الوقت ولم يبدأ التاريخ البشري، صحيح أن لا جدوى من هذه الوسائل و الأدوات في حياة ما بعد الموت مهما كانت، إلّاأنّ المراد هو أنّ هذه الأعمال تشكل شهادة على إيمان أسلاف الإنسان المعاصر بحياة ما بعد الموت. و يبدو أنّ المصريين كانوا قد سبقوا سائر الأقوام في هذا المجال، إذ يقول المؤرخ المعروف «آلبرماله» من بين تواريخ الأقوام يمتاز تاريخ الأقوام المصرية بأنّه أقدم الجميع، حيث يذكر حوادث وقعت لما قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. «2» فالتاريخ المصري العريق يشير إلى أنّ الأقوام المصرية كانت راسخة الإعتقاد بحياة ما بعد الموت و يرون لها أهميّة خاصة، و إن لم تسلم عقائدهم- و كسائر الأقوام- من الأباطيل و الخرافات. و يسرد المؤرخ المذكور قضية رائعة تنطوي على عدّة فوائد، فقد ذكر أنّ المعاد و عالم الاخرة، ص: 30

المصريين يعتقدون بأنّ روح الميت تفارق القبر و تحضر عند الإله الكبير «آزيريس» ... فان قادوه إلى «أحكم الحاكمين» آزيريس يمتحن قلبه في ميزان الحقيقة، فإن كانت روحه طاهرة في الحساب ذهب إلى المزرعة (والبستان) الذي

لايتصور مدى بركته ... كما كانوا يضعون إلى جوار الموتى كتاباً يرشدهم في سفرهم إلى تلك الدنيا، و يحتوي الكتاب على عبارات يجب أن يردها الميت عند آزيريس لتبرأ ذمته ويطهر: لم أغش الناس ... لم أوذي أية أرملة ... لم أكذب في المحكمة ... لم أرتكب التزوير. لم أفرض على عامل أكثر من طاقته في العمل. لم أتكاسل في القيام بوظيفتي. لم أنتهك المحرمات. لم أسع بعبد لدى سيده. لم أقطع خبز أحد. لم أبك أحداً. لم أقتل أحداً. لم أسرق أطعمة الموتى، «1» و لا أشرطتهم.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 31

لم أغصب أرض أحد. لم آخذ لبن الأطفال الرضع. لم أقطع أي نهر. أنا طاهر، طاهر ... أيّها القضاة! اليوم يوم الحساب فخذوا هذا المرحوم فهو لم يذنب و لم يكذب. و هو لايعرف السوء و لم يجانب الحق و الإنصاف في حياته و قد أتى بما يرضي اللَّه، لقد كسى العريان و ذبح للَّه و أطعم الأموات، فمه طاهر و يداه طاهرتان. على كل حال فالذي يفيده التاريخ هو حالة التدين بصورة عامّة والإعتقاد الراسخ بحياة ما بعد الموت لدى سائر الحضارات و المدنيات الأخرى والتي تزامنت مع الحضارة المصرية أو بعدها من قبيل الحضارة الكلدانية و الآشورية واليونانية و الإيرانية. والأهميّة التي حظى بها هذا الموضوع في الأديان العالمية الكبرى ممّا لاغبار عليه فلا يحتاج إلى أدنى توضيح، و سنتعرف على نماذج ذلك في أبحاث القادمة. هذا وقد نقل العالم الاسلامي المعروف كاتب «روح الدين الإسلامي» عبارة عن مجلة «ريدرزد ايجست» نوفمبر عام 1975 عن «نورمان فن سنت بيل» أنّه قال: الحقيقة هي أنّ النشاط الغريزي بوجود عالم آخر بعد الموت يعدّ

من الأدلة المحكمة على هذه المسألة، لأنّ اللَّه إذا أراد إقناع الإنسان بحقيقة غرسها في أرض غرائزه و فطرته، فالاعتقاد بحياة خالدة في العالم الآخر هو نوع من الشعور العام في باطن وجود كافة الأفراد بحيث لايمكن النظر إليه بازدراء.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 32

حقّاً أنّ الشي ء الذي نسير إليه بهذه السرعة إنّما هو ردّ فعل لجذور أساسية داخل وجودنا، إنّنا لا نؤمن بمثل هذه الحقائق من خلال الأدلة المادية، بل عن طريق الإلهام و الإدراك الباطني، فالإلهام يعتبر دائماً العامل الوحيد المهم لإدراك الحقائق، وحين يبلغ العلماء حقيقة علمية تحتاج إلى إثبات، فانّهم يدركون تلك الحقيقة بوحي من الإلهام على حدّ تعبير «برجسون». «1» و الإعتقاد بالحياة بعد الموت من هذه الإلهامات الفطرية.

المشي في المتاهات

رغم أنّ الإلهامات الفطرية تساعد الإنسان في كشف أسرار الحياة الآخرة بعد الموت، إلّاأنّها مالم توجه بصورة صحيحة فانّها تصبح هالة من الخرافات و الأساطير الغريبة، ألا ترى إلى الكهنة و الشعابذة كيف كانوا يدفنون الفتيات الجميلات إلى جوار الملوك و السلاطين في أفريقيا و المكسييك.

يبدو أنّ هناك بوناً شاسعاً بين الدنيا المعاصرة و تلك التي كانت قبل ستة آلاف سنة. لم يكن هناك من وجود لهذه الأدوات و الوسائل الفلزية المتنوعة، حيث كانت تقتصر حياة الإنسان على الحجر والخشب والعظام وجلود الحيوانات، وما أصعب العيش في ظل هذه الوسائل فقط، ولكن مع ذلك كانت تلك الحياة مقارنة بما نحن عليه أكثر هدوءاً و إستقراراً، فلم يكن هناك صوت للسيارات الفخمة و لا ضوضاء و صخب لانفجار القنابل و لا زئير للطائرات التي تكسر حاجز الصوت، فقد كانت حياة- كالموت- غاية في البساطة دون أي تعقيد!

المعاد و عالم الاخرة، ص: 33

بالمناسبة

لا ندري ما هو الشعور الذي كان يسود الإنسان آنذاك تجاه الحياة و الموت، فلو كان يحسن الكتابة لعله دوّن جانباً من مشاعره و خلفها لأبنائه المعاصرين ممن يدفعهم حبّ الاطلاع للوقوف على هذا الأمر، غير أنّ المؤسف له لم يحصل هذا العمل حيث لم يكن الخط و الكتابة قد أخترعت بعد، مع ذلك فإنّ و الكهوف و أعماق الأرض قد حفظت كنوزاً قيّمة من آثار حياة الناس آنذاك، و كما أشرنا في البحث السابق فإنّ هذه الآثار- و لاسيّما كيفية القبور التي خلفّوها- تفيد أنّهم كانوا يؤمنون بالحياة ما بعد الموت، و لهذا السبب كانوا يضعون وسائل موتاهم و أدواتهم معهم في التراب، على أمل الاستفادة منها بعد العودة للحياة ثانية. أمّا إعتقاد الإنسان بالقيامة بعد دخوله عصر التأريخ (عصر ظهور الخط وإكتشاف الفلزات فما لاتتطرق إليه شائبة و على درجة من الوضوح لا إبهام فيه وقد ثبت ذلك في جبين تاريخ الامم والشعوب. و كل ذلك- كما ذكرنا آنفا- يفيد إمتزاج هذه العقيدة بالفطرة البشرية.

الانحراف عن الفطرة و التخبط في المتاهات

عادة ما تبعث «الإلهامات الفطرية» الإنسان دائماً على شكل دافع تلقائي باتجاه مختلف المسائل التي تحتاجها روحه وجسمه، ولو لم تكن هذه الإلهامات فطرية، و أنّنا لا نكشف الأشياء إلّامن خلال الإختبار و التجربة والعقل لتعقدت أعمالنا بهذا المجال. فالتنسيق و التعاون بين هذين الجهازين (الإلهامات الفطرية والكشوفات العقلية و التجربية) أدّى إلى هذه السرعة التي بلغها الإنسان في المعاد و عالم الاخرة، ص: 34

مسيرته نحو المدنية و الكمال. ولكن لاينبغي الغفلة عن أنّ الاستنتاج الصحيح من هذه الإلهامات الفطرية إنّما يتوقف دائماً على نمط تفكير الإنسان و ما يدور في ذهنه، يعني لو كان هناك بعض الأفراد

الذين يعيشون الضعف و العجز من حيث التفكير و العلم فإنّ إلهاماتهم الفطرية ستبدو على هيئة منحطة و ناقصة وأحياناً مقلوبة. بعبارة أخرى لابدّ من سقي شجرة الإلهامات الفطرية بماء العلم على الدوام لتؤتي أكلها كل حين، و إلّافإن تلك الإلهامات ستكون مشوبة بأنواع الخرافات و الأباطيل، و قد تعطي أحياناً نتائج معكوسة. و المثال الواضع الذي يمكننا الاستشهاد به في هذا الموضع هو «الغريزة الجنسية» التي تعتبر نوعاً من الإلهام الطبيعي والفطري «لحفظ النسل» والتي تدفع بالإنسان لحفظ نسله، ولكنّها إن إمتزجت بالأفكار الوضعية والأخلاق المنحّطة، لأصبحت بؤرة فساد و فاحشة قاتلة للنسل، يعني بالضبط يحدث عكس المطلوب، من جانب آخر فإنّ كافة أقوام العالم تضع بعض المقررات و القوانين لعقد الزوجية بغية عدم تزلزل نسلها بفعل الفوضى الجنسية، و تصدع كيانها و نظامها الاجتماعي، إلّاأنّ هذه المقررات والقوانين قد تكون على درجة من الصعوبة و التعقيد التي تفرزها حالة ضيق النظر والتخلف الفكري بحيث تسوق الأفراد نحو مقاطعة الزواج و الإنغماس في الفاحشة، و كلاهما يهدد قضية حفظ النسل، و بناءاً على هذا فانّ الزعامة الخاطئة للغريزة الجنسية إنّما تعطي نتيجة معكوسة في حفظ النسل. والقضية كذلك بالنسبة للحاجات الروحية والإلهامات الفطرية المتعلقة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 35

بها، مثلًا يبحث الإنسان- على ضوء إلهام فطري- عن خالق العالم، إلّاأنّ قصر النظر و الجهل و التخلف الفكري قد يقذف به أحياناً في مخالب «التشبيه و القياس» و ذلك لأنّ هذه هي سجية محدودي الفكر حيث يجعلون أنفسهم محوراً لكل شي ء فيقيسون كل شي ء و يشبهونه بهم، و إثر هذه التشبيه و القياس يقدمون على عبادة كل شي ء سوى «الاله الحقيقي» من قبيل الحشرة

المصرية إلى الفيل الهندي بصفتهما الإله الذي ينبغي أن يعبد على حدّ تعبير المؤرخ المشهور «ويل دورانت». «1» و الأعجب من ذلك ما أخبرنا به بعض المسافرين القادمين من اليابان أنّهم رأوا بأم أعينهم المعابد التي تضم الأوثان الصغيرة و الكبيرة التي تضم بعض الأصنام بصورة «آلات تناسلية للرجل و المرأة» فيقوم البعض بعباداتها و أداء مراسم التقديس لها! و قد طبعت بهذه الأشكال قضية المعاد و القيامة التي تبناها الإلهام الفطري لمساعدة الإنسان و مهد السبيل أمامه بهدف التوجه العقلاني لعالم ما بعد الموت، لأنّ إنعكاس شعاع هذا الإلهام الفطري من الزجاجات المعوّجة لأفكار الناس قصارى النظر أدّى إلى تفاقم الإنحرافات التي غيرت بالمرة وجه هذه القضية. و في الواقع فإنّ التشبيه و القياس المذكور جعل البشرية تعيش الخرافات العجيبة التي تفوق التصور و الخيال إزاء قضية القيامة، فكان لابدّ من إيداع كافة أدوات الإنسان و وسائله التي يحتاجها في القبر ظناً بأنّ الحياة في ذلك العالم هي عين هذه الحياة على جميع الأصعدة و النواحي.

خرافات مضحكة و مؤسفة!

إنّ هذا النمط من التفكير الخرافي قد أفضى طيلة التاريخ إلى الأعمال المؤسفة و المضحكة أحياناً. على سبيل المثال كان سائداً بين أهل الكونغو دفن إثنتي عشرة فتاة جميلة على قيد الحياة مع زعماء القبائل حين موتهم بهدف دفع الأسقام والسأم الذي يعانونه فى ذلك العالم. أو أنّ بعض أهالي المكسيك كانوا يدفنون الفكاهي (أو ما يصطلح عليه بالفنان الكوميدي) مع رئيس القبيلة ليحول دون تكدر صفو خاطره في تلك الدنيا، كما كانوا يأدون أحياناً بعض الكهنة مع زعمائهم ليكونوا مستشاريهم في المسائل الدينية في ذلك العالم! «1» كما كانت بعض الأقوام إلى عدم دفن ثياب الأموات و

تعليقها على شجرة ليقوم بارتدائها الأموات فوراً بعد بعثهم فلا يمتعظوا من العري! أما تحنيط المصريين القدماء لأجساد الموتى فليس له من فلسفة سوى الاستفادة من ذلك لجسد بعد عودة الروح، فقد كان التحنيط يتم بهدف الحيلولة دون تعفن جسد الميت و تفسخه، حيث كانوا يجففون جسد الميت ببعض المواد الكيمياية المعنية، فإذا جف الجسد بصورة كاملة غطوه بعدّة أشرطة كتانية ملطخة بمواد صمغية خاصة، و كان يلزم ذلك العمل مئات الأمتار من الكتان، ثم يضعونه في توابيت خاصة، و أحياناً في عدّة توابيت أخرى و يرسمون بعض النقوش الرائعة على التابوت الكبير. والجدير بالذكر إن تحنيط الجسد قد يتطلب أحياناً سبعين يوماً! طبعاً لم يقتصر التحنيط على مصر، إلّاأنّ المصريين برعوا في هذا العمل بحيث تشاهد الحنوط

المعاد و عالم الاخرة، ص: 37

المصرية بوضوح اليوم في المتاحف العالمية و قد بقيت هذه الحنوط على صورتها السابقة دون أن يعتريها أدنى تغير رغم تقادم العصور و الأزمان على تلك الأجساد المحنطة. «1» كان أهل المصر يغطون جدران المقابر بالصور التي تشرح الأعمال اليومية للشخص الميت و خدمه و شغله في الدنيا، فمثلًا في زاوية من الصورة نشاهد العمّال الذين يخبزون الخبز أو الذين يريقون الشراب والخمر في الآنية، و في موضع آخر الخدم الذين يذبحون الشاة أو البقرة أو الذين يخرجون الأسماك من النهر، و في مكان آخر يحلبون البقر ويطبخون الطعام. «2» و كأنّهم أرادوا الإبقاء على سرور أرواح الأموات من خلال تجديد ذكرياتهم الماضية. فكل هذه الأمور تشير إلى أنّ أتباع العقائد المذكورة كانوا يرون الإنتقال إلى العالم الآخر بمثابة الأسفار في هذه الدنيا التي ينبغي أن تشمل كافة تفاصيل ومقررات هذه الحياة. و الواقع

يبدو هذا الموضوع أشبه بالطفل الذي يلد من رحم أمّه و كأنّه يعلم بلوازم السفر خارج الرحم فيصطحب معه مقداراً من الدم في جوف الرحم بهدف عدم الموت جوعاً بعد القدوم إلى هذه الدنيا، فهل هذا الاسلوب من التفكير صحيح؟!. لكن و على كل حال فإنّ وجود مثل هذه الخرافات و الإنحرافات إن دلّت على شي ء فإنّما تدلّ على إمتزاج الإلهام الفطري بالجهل و عدم التعقل، وفي المعاد و عالم الاخرة، ص: 38

نفس الوقت فإنّه يختزن حقيقة تتمثل بإيمان البشر بالقيامة على ضوء الإلهام الباطني، و إن إتخذ هذا الإيمان طابع الخرافة بفعل قصر النظر وضيق الأفق.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 39

نوافذ على العالم الآخر

كيف أزالت الأبحاث العلمية الحديثة أغلب الصعوبات التي كانت تبدو ماثلة في طريق الحياة بعد الموت و التي كان يتصورها بعض ضعاف التفكير وضيقي الأفق أنّها من المحالات؟ فقد طرب ذلك الإعرابي فرحاً حين عثر على عظم رميم لإنسان لعله كان فريسة لحيوان مفترس، أو إستسلم للموت إثر موته عطشاً في صحراء الحجاز القاحلة فصرخ من أعماقه «لأخصمن محمداً» و أثبت له إستحالة ما يزعم بخصوص إحياء الأموات. و لعله قد حدّث نفسه قبل ذلك: هل هناك من رأى أو سمع بفاكهة متعفنة ومن ثم فاسدة و جافة قد عادت فاكهة طرية غضة من جديد؟ أم هل هناك من سمع عودة هذا اللبن الذي ترتضعه الناقة من ثدي أمّها و قد أصبح جزءاً من لحمها و عظمها لبن مرّة أخرى و عاد إلى الثدي؟ ثم إنّ هذا العظم الخاوي اليوم سيصبح غداً تراباً ثم تنثره العواصف الرملية لهذه الصحاري الواسعة هنا و هناك بحيث لايبقى منه أدنى أثر، فأي عقل يرى أنّه سيعود

ثانية على هيئة طفل جميل و فتى قوي و كهل فطن؟ إنّ مثل هذا الكلام لاينطلي سوى على المجانين!

المعاد و عالم الاخرة، ص: 40

«وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكُمْ لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفَتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةُ ...» «1»

و هكذا كانت مسألة الإيمان باللَّه الذي لا يُرى تعدُّ من أعقد المشاكل التي ثقلت على أفكار أهل الجاهلية رغم سماعهم لزمزمة القيامة التي كانت تنبعث من داخل فطرتهم، إلّاأنّ ضوضاء جهلهم وصخبه كان يصادر لطافة تلك الزمزمة و يفقدها فاعليتها في أنفسهم و لعل هؤلاء لايعلمون أنّ هذه التمرة الجافة والمتعفنة التي ضاعت في طيات التراب قد تكون أصبحت جزءاً من الأرض عشرات المرات ثم ظهرت على غصن نخلة بعد أن إنطلقت من جذورها فنمت وتفتحت لتصبح ثمرة لذيذة طرية ثم جفت و وقعت ثانية على التراب، أو لبن النافة الذي أصبح لمرات جزءاً من رضيعها و ما إن مات و عاد تراباً حتى عاد إلى التراب فمر بجذور نبات أو شوكة ليصبح جزءاً من بدن ناقة أخرى ثم جرى في عروقها لينتقل إلى ثديها و بالتالي يعود لبناً جديداً! و بالطبع فإنّ هذا الفكر الجاهلي الذي يرى إستحالة عودة الكائنات الحيّة وعدم إمكانية إعادة المعدومات لم يسود عقل عقل ذلك الإعرابى فحسب، بل قد يتجلى ذلك بصورة أخرى فى عقل فليسوف ليرى قضية «إعادة المعدوم» لو كانت هناك قيامة و معاد و إعادة المعدوم محال! إلّاأنّ الرقي و التكامل الذي بلغته العلوم الطبيعية- و خلافاً لما كان يتوقعه أصحاب النزعة المادية- قد أزاح الستار عن بعض الأسرار بحيث إتضحت على ضوء ذلك قضية المعاد و

الحياة الأخرى بعد الموت بما لايدع مجالًا للشك.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 41

و في الحقيقة فإنّ أعلام العلوم الطبيعية كالباحثين الذين يقفون كل يوم في حفرياتهم على آثار جديدة تتعلق بالحضارات السابقة طبعاً قد يبذل هؤلاء الباحثون و المنقبون جهودهم بالبحث عن الأشياء القديمة والتحفية لغرض تحقيق بعض الأرباح المادية، لكن من المسلم به أنّ هناك آثاراً أخرى لهذه الجهود و التي تتمثل بالوقوف على كيفية ظهور المدنيات السابقة و مدى مهارة بناء تلك المدنيات.

توضيح ذلك: دلّ تقدم العلوم التجريبية لأول مرّة على عدم وجود الفناء المطلق والعدم التام بتاتاً بالنسبة لمواد العالم و الذي كان يستحوذ على عقول الكثير من القدماء، فقد أثبت العالم الفرنسي المشهور «لافوازيه» إنّ أي مادة في الكون لا تفنى، بل مواد العالم تتحول دائماً من شي ء إلى آخر، فلو أحرقنا شجرة ونثرنا رمادها في الهواء، أو أشعلنا مقداراً من البنزين بأكمله بحيث لا تبقى ذرة منه، فليس هناك أي فارق يحدث في المواد الموجودة في العالم، و على أساس الفرض الأول فإنّ ذرات الشجرة تحللت و انتشرت في الأرض والهواء فأصبح جزء منها رماداً و آخر تبدل إلى غازات كاربونية (مركب من كاربون الشجرة و اوكسجين الهواء) و لو توفرت الوسائل التي تقوم بجمعها من أتون أجزاء الأرض والسماء و فصلنا عنها اوكسجين الهواء ثم ركبنا بعد ذلك جميع الأجزاء لعادت تلك الشجرة الأولى دون أن ينقص منها حتى واحد بالألف من الغرام، و في الفرض الثاني (الإحراق التام للبنزين) يتبدل جميعه إلى غازات يمكن إعادتها إلى البنزين الأول ثانية دون أي نقص من خلال جمع تلك الغازات و ترتيبها من جديد، و عليه فقد

المعاد و عالم الاخرة، ص:

42

تقودنا حالة عدم الدقة التي نمارسها فنطلق جزافاً أنّ هذه الأشياء قد فنت، في حين ليس هنالك شي ء يفني بل يتحول من شي ء إلى آخر. و الواقع هو أنّ هذه العملية بالضبط كتبديل النقود من عملة إلى أخرى باسعار ثابتة- من قبيل تبديل الدولار إلى دنيار- فلم يحصل سوى تبدل شكل العملة و إلّا فقيمتها ثابتة ويمكن إعادة العملة الأخيرة إلى سابقتها في أي وقت، و هذا ما عليه الحال بالنسبة لمواد العالم التي تتحول من شكل إلى آخر. و على هذا الأساس ففي قضية تشتت ذرات بدن الإنسان ليس هنالك شي ء يفنى و يزول و قد ادخر في صندوق توفير عالم الطبيعة ويمكن سحبها في أي زمان. طبعاً هنا مسألة أخرى مطروحة و هي أنّ هذه الأجزاء قد تصبح أحياناً جزءاً من بدن إنسان آخر و يبدو أنّ ذلك يسبب بعض المشاكل بخصوص إعادة حياة الموتى، حيث يمكن أن تتصارع عدّة أرواح بغية الحصول على بعض الأجزاء المعينة حيث تدعي كل روح أنّ ذلك الجزء لها، إلّاأنّنا سنرى قريباً أنّ هذا خطأ محض و ليس هنالك أي صراع من هذه الناحية، و حتى لو فرض أنّ إنساناً إلتهم بدن إنسان آخر فليس هنالك أدنى مشكلة في أمر معادهما. على كل حال فإن حسابات لافوازية صحيحة في كافة المواضع سوى في موضع واحد تفقد فيه المادة وجودها تماماً دون أن تتبدل إلى مادة أخرى وذلك في إنقسام الذرات و الإنفجارات الذرية حيث تتحول فيها المادة إلى طاقة، و يعتبر أول من إكتشف ذلك لأول مرة «مادام كوري» و زوجها «بير كوري» أثناء مطالعتهما للأجسام الراديو كتيفية (الأجسام ذات التشعشعات الذرية و التي تكون ذراتها

في حالة تآكل وزوال). فقد إكتشفا عام 1898 في المعاد و عالم الاخرة، ص: 43

مختبرهما في باريس عنصراً جديداً يعرف بالراديوم و الذي يتصف بخاصية عجيبة تتمثل بفرزه دائماً للحرارة و الضوء، ثم توصل العلماء بعد عدّة تحقيقات في هذا المجال إلى أنّ ذرات الراديوم في حالة تآكل و زوال على الدوام، و في الواقع فإنّ هذه الأجسام إنّما تفقد جزءاً من وجودها حين تنبعث من باطنها تلك الطاقة الحرارية و الضوء، و قد أدّى الإكتشاف الكبير إلى تعديل قانون بقاء المادة للعالم لافوازية فحلّ محلّه قانون «بقاء المادة- الطاقة»؛ أي ثبت أنّ مجموع مادة العالم و طاقته ثابتة ليست متغيرة و لاينقص منها مثقال ذرة، فتحول المادة إلى مادة أخرى و الطاقة إلى طاقة أخرى و المادة إلى طاقة ممكن، أمّا الفناء و العدم فليس له من سبيل إلى هذا العالم. و بناءاً على ما تقدم فليس فقط ذرات وجودنا في هذا العالم لا تزول فحسب، بل هي محفوظة في هذا الصندوق الكبير إلى جانب أفعالنا وأعمالنا و أقوالنا وتصرفاتنا و حتى أمواج أدمغتنا المغناطيسية التي تمثل بأجمعها صوراً وأشكالًا مختلفة للطاقة حين التفكير، و لو كانت لدينا الأجهزة و الوسائل الكافية لأستطعنا سحب كافة الأمواج الصوتية لأسلافنا ودورهم في الحياة. و نعلم إنّ هذا العمل قد حصل بصورة مصغرة، حيث تمكن العلماء وبالاستفادة من بعض الأمواج الصوتية المتبقية على الظروف الخزفية لما قبل ألفي سنة حيث يحيون أصوات النحّاسين آنذاك و يسمعها الجميع. «1» و تشير المطالعات على بدنة هذه الظروف الخزفية أنّه حين صنعها قد انتقشت الأمواج لصنّاعها عن طريق رعشات أيديهم على البدنة و بمساعدة

المعاد و عالم الاخرة، ص:

44

ذلك تعود أصواتهم. أو ليست مثل هذه الأمور خطوات بارزة عريضة من أجل إثبات القيامة على ضوء الدليل العلمي! فلو كان ذلك الإعرابي حياً اليوم وإجتاز بعض المراحل الدراسية العليا لما كان مستعداً لأن يأتي بذلك العظم الخاوي ليثبت إستحالة المعاد. بل لو لم يجتاز ذلك الإعرابي بعض المراحل الدراسية العليا و إكتفى بمشاهدة أجهزة تسجيل الأصوات و إلتقاط الأفلام السائدة في عالمنا المعاصر، لما أمكنه كذلك إنكار المعاد. أفلا يدعونا ذلك إلى الإذعان على عزار ما صرّح به آدولف بوهلر الكيميائي المعروف قائلًا: «إنّ كل قانون يكتشفه الإنسان يقرّبه خطوة إلى اللَّه، و كل قانون يكتشفه يقرّبه خطوة من القيامة و الحياة الآخرة بعد الموت».

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 45

«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرْجَعُون» «1»

القيامة تهب الحياة نكهتها

لا شك أنّ للإيمان بالقيامة و البعث آثاره في شكل الحياة البشرية، و لو لم تكن هناك من حياة بعد الموت لكانت الحياة في هذا العالم جوفاء و تافهة لا قيمة لها. كان صوت حركة الماء المنحدر بسرعة على الأحجاز المبعثرة في جرف النهر و الذي يتخذ أشكالًا حلزونية حول الأشجار كصوت وقع الأقدام المعروفة التي تداعب قلبي و مشاعري فأشعر بالسكينة و الاستقرار، كانت لحظات ثمينة بالنسبة لي سيما أنّها كانت فرص نادرة، و لعلي سمعت كراراً من الكبار ذلك البيت الذي أنشده الشاعر المعروف حافظ الشيرازي حين تقع أعينهم على عيون المياه الجارية و الينابيع و الأنهار و الذي يخاطب فيه نفسه: أن إجلس على حافة النهر و انظر تصرم العمر و كأنّه يوحي إلينا بالاكتفاء بهذه البشارة حول نهاية العالم- فكانت هذه الكلمات بمثابة نسيم الربيع المعتدل الذي يهب على شغاف قلبي، فرأيتني أكرر

تلك الكلمات مع المعاد و عالم الاخرة، ص: 46

نفسي، فشعرت و كأنّي طرحت حملًا ثقيلًا عن روحي و تنفست بكل حرية، رغبت آنذاك بأن يكون لي جناحان فأحلق بهما كالطيور التي كانت تطير وترفرف بأجنحتها فوق رأسي، ولكن لما كانت الحياة تقتضي عدم إستقرار الذهن و البال فقد دار في خلدي هذا الهاجس، رغم أنّ تشبيه إنقضاء العمر بمرور الماء يمثل أروع مثال يمكن بيانه بالنسبة للحركة العامة و سرعة حركة عالم الحياة بل عالم الوجود الذي يأبى التوقف و السكون، إلّاأنّي فكرت مع نفسي ليت شعري ما هي البشارة التي يحملها تصرم العمر لنكتفي بها كدلالة على إنقضاء العالم. لنفرض أنّي قطرة من ملايين قطرات ماء هذا النهر و قد نبعت من عين حسب قوانين الخلقة و قد إندفعت خلال هذه الأحجاز و الاشجار، ولكن ما عساني أبلغ في نهاية المطاف، قطعاً لايمكنني السير إلى الأبد ... فالتفكير بالمستقبل المجهول يؤرقني، فهل سأتيه في مستنقع متعفن مليى ء بالحيوانات الوضيعة ... ما هذه البشارة! و هل تبخرنا وسط الصحراء القاحلة آخر هذه السهول الواسعة المترامية الأطراف يعد فخراً! أم سأعود مرّة أخرى إلى ذلك البحر الواسع الذي نبعت منه في البداية دون أي هدف فأعيش حياة مكررة و جوفاء! ياله من أليم تصرم العمر هذا الذي آخره مثل تلك الأمور! سأغوص في أعماق الأرض إلى جوار جذور شجرة و على ضوء قانون «إسمز» أعبر قوة الجذب الأرضية فأتسلق الأغصان بسرعة و أتنقل بين العروق اللطيفة الجميلة و الزهور العطرة فأصبح فاكهة فانهمك في صنع نفسي حتى أنضبح فتنقطع حاجتي إلى الغصن ثم أهبط من غصن الشجرة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 47

كرائد الفضاء الذي يقذف بصاروخه

إلى كرات العالم، فاقع في حضن إنسان مفكر و عالم جلس تحت الشجرة و هو مشغول بابداع مؤلف قيّم أدبي وعلمي و أخلاقي و فلسفي. فأجلب بلطافتي و طراوتي إنتباه ذلك العالم حتى أصبح جزءاً من بدنه فأواصل سعي و جهدي في دمه و عروقه و أخترق الأغطية الرقيقة والحساسة لدماغه فاتحول إلى أمواج فكرية مبدعة لخلق لوحة أدبية وفلسفية رائعة أو أتحول إلى إكتشاف علمي مميز، ثم أصبح أثراً خالداً بعد أن يسطر في قلمه على صفحات كتابه، و هكذا أكتسب صبغة أبدية فاوضع في المكتبات فاحظى باستفادة الجميع. فلو كان الأمر كذلك لكان هذا التصرم دافعاً لي نحو النشاط و الحيوية، وذلك لأنّ قطرة ماء لا قيمة لها قد إختلطت بوجود أكمل حتى تحولت آخر المطاف إلى أثر خالد. فأية بشارة و فخر و إعتزاز أعظم من هذا! أما إن كان مصيري الفناء في المستنقعات المتعفنة أو التبخر أو التطاير في الهواء أو العودة العابثة إلى البحر فياله من مصير مؤلم و مفجع. فهل هناك من فارق بين مصير أولئك الذين يرون الموت هو نهاية الحياة ومصير تلك القطرة من الماء؟ فهل يمكن أن يكون هناك من معنى صحيح لحياتهم و مماتهم؟ هل الإقرار بأصل المعاد و مواصلة الإنسان لتكامله بعد الموت و دخوله لعالم أسمى و أرفع لايمنح حياة الإنسان هدفاً و نماية؟ و يخرجها من عبثيتها؟ و من هنا نلاحظ أنّ عبثية الحياة من أهم القضايا التي تزعج إنسان المعاد و عالم الاخرة، ص: 48

عصر الفضاء، و أفضل شاهد حي على ذلك الشعور المزعج هو ظهور بعض المدارس- إن أمكن تسميتها كذلك- الفلسفية الحديثة كالمدرسة المادية. و يعترف العلماء و المفكرون

الذين يمتكلون رؤية صحيحة تجاه البلدان الصناعية التي رأوها أنّ شعوب تلك البلدان قد تغلبوا على مشاكل البطالة والأمراض و الكهولة و العجز و التعليم من خلال المعامل و المصانع الضخمة والإمكانات الصحيحة الهائلة و الأجهزة الثقافية إلى جانب الضمان و التقاعد و ما إلى ذلك، فالواقع هو أنّ حياتهم و حياة أولادهم مضمونة منذ الولادة حتى اللحظات الأخيرة للموت، مع ذلك فهم يألمون من عبثية الحياة ويرون أنفسهم يعيشون الخفة و الطيش. و لعل سر التنوع الذي ينشده عالم الغرب و مبادراتهم العجيبة هو الهروب من التفكير بشأن هذا الطيش و العبثية. و قد نلمس هذه الحقيقة في تعبيرها الفلسفي ضمن المدرسة المادية التي تقول: ينفرد الإنسان من بين سائر الكائنات بإدراكه لمفهوم الوجود والعلم بوجوده، و كما كان الوجود أمراً بديهياً للإنسان فإنّ العدم يسود ذهن الإنسان مقروناً بتصوره للوجود، ففي الوقت الذي نشعر فيه بوجودنا أو وجود شي ء آخر، كذلك من الواضح لدينا عدمنا أو عدم الشي ء الآخر، و على هذا الأساس فالإنسان يشعر بوضوح بعدمه كما يشعر بوجوده، و ما إضطراب الإنسان و قلقه إلّانتيجة لهذا الشعور بالوجود و العدم، و على حد تعبير «سارتر»- العالم الوجودي- من هنا يتضح عبث الوجود و خوائه: لماذا جئنا للوجود، و ما سبب وجودنا؟ (ليس لدينا من إجابة على ذلك) ... فحين لايرى الإنسان من سبب لوجوده يشعر بغربته في هذه الدنيا، إنّه يشعر بانفصاله عن سائر الأشياء و الأفراد، و الخلاصة فإنّ وجوده زائد لايرى المعاد و عالم الاخرة، ص: 49

لنفسه من موضع مناسب له. «1» فلو كان للجنين في بطن أمّه من علم و ذكاء دون أن يكون له حظ من علم

خارج الرحم و فكر في العيش في ذلك الوسط لما تردد في إتباع مدرسة سارتر. إنّه سيرى تلك الحياة المحدودة و المزعجة التي تدار بشكل تبعي لا تحمل أي هدف و غاية و عبثية تماماً، أمّا إن علم أنّه جاء من هناك ليستعد إلى حياة أخرى أوسع و أشمل، و أنّ هذه المدّة هي فترة تربوية خاصة لايمكن بدونها التمتع بحياة مستقله، و آنذاك سيرى معنى للحياة في فترة كونه جنيناً. و لو أيقنا بأنّ المنزل الذي ينتظرنا لاينطوي على العدم، بل هو وجود بمستوى أرفع و إستمرار لهذه الحياة بآفاق أوسع و أنّ كافة الجهود والمساعي ستنتهي بالتالي إليه، فمن المسلم به أنّ الحياة ستخرج على هذا الأساس من عبثيتها و طيشها و تتخذ لنفسها مفهوماً جدّياً واضحاً. و بناءاً على هذا لابدّ من القول: إنّ الأثر الأول للإيمان بالحياة الآخرة بعد الموت و القيامة هو منح الهدفية و الغائية لهذه الحياة و إخراجها من العبثية.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 51

عامل تربوي مؤثر

عامل مؤثر واقي و عامل محرك قوي

كان أحد الشباب المتعلمين يقول: «أعتقد أني أتمتع بضمير قوي، و لما كان ضميري قوياً فإنّي ملتزم بأصول الحق و العدل، و من هنا فلا أرى في نفسي من حاجة إلى الدين و التعاليم الدينية، فكل ما من شأنه أن يمنحني الدين في ظلّ الإيمان باللَّه و الخوف من العقاب في الدار الآخرة إنّما حصلت عليه في ظل ضميري الحي. و عليه أفلا تعتقدون أنّ الدين ضروري بالنسبة لُاولئك الأفراد دوني درجة و الذين لايمكن إصلاحهم و يأكل بعضهم البعض الآخر دون إستنادهم إلى إيمان قوي و راسخ بالدين، أضف إلى ذلك فالإيمان قد لايستطيع أحياناً إصلاحهم، بل هم يعمدون إلى الحيل الشرعية

بغية مواصلة أعمالهم الخاطئة وتحقيق بعض المنافع». طبعاً إنّنا نعلم بأنّ هذا الأسلوب من التفكير لا يقتصر على هذا الشاب، فهناك من بين الفلاسفة و المفكرين من يرى نفسه فوق الدين، و يعتقد أنّ الدين وسيلة تربوية مؤثرة بالنسية للأفراد في المستويات المتدنية، بينما هم في غنى تام عن هذه التعاليم! لكنهم كأنّهم قد غفلوا أنّ أعظم الجنايات المعاد و عالم الاخرة، ص: 52

و الجرائم إنّما ترتكب على الدوام من قبل كبار الشخصيات و العلماء الأفذاذ و الأفراد من ذوي المستويات العالية، فهم الذين يصنعون القنابل الذرية والهيدروجينية، و هم الذين يخططون للحروب الألكترونية و بالتالي هم الذين يعينون خرائط الاستعمار السياسي و الاقتصادي للبلدان. و الخلاصة فهؤلاء العلماء و المفكرون هم الذين كانوا أداة طيعة بيد قوى الدنيا الشيطانية و هم الذين رسخوا دعائم الاستعمار و الاستبداد والغطرسة من خلال بيعهم لمعلوماتهم و إبداعاتهم و إستعداداتهم العالية، ولايختص هذا الموضوع بعالمنا المعاصر، فالأزمنة الماضية هي الاخرى كذلك حيث يطالعنا الكثير من الأفراد دائماً الذين يقفون إلى جانب الفراعنة ممن على غرار هامان وقارون العالم المقتدر الثري و هو ابن عم موسى و ممثل فرعون في بني إسرائيل و قد كانت له ثروة طائلة يرى أنّه جمعها بعلمه وقدرته، كما كان العديد ممن على شاكلة عمروبن العاص و أبي هريرة إلى جانب معاوية. و بناءاً على ما تقدم فقد تكون حاجة العلماء و المفكرين و ذوي الاستعداد والمستويات العالية إلى الدين أكثر من غير هم بكثير، فهم الذين يسطيعون إشعال الدنيا أو سوقها إلى الصلح و السلام. أمّا الأفراد من ذوي المستويات المتدنية فعادة ما يأتمرون بأوامر هؤلاء فهم إلعوبة بيدهم و ضررهم أقل بكثير

إذا ما قارننا انحرافهم بمن سبقهم.

***

و لو آمن هؤلاء- و بصورة عامة كافة لبشرية- بأنّ الموت ليس نهاية الحياة، بل هو بداية حياة جديدة و كل ما في هذه الحياة الدنيا هو مقدمة لها لاكتسب كل شي ء طابع الأبدية، و سوف لن تفنى الأعمال و الأقوال والحسنات والسيئات،

المعاد و عالم الاخرة، ص: 53

و هذه هي الأمور التي ترسم معالم حياتنا الخالدة التي تنتظرنا فإمّا تمنحنا الطمآنينة و السعادة أو الاضطراب و الشقاء، و الأمر بالضبط كالجنين إن كان له عقل و قد قصر في صنع نفسه خلال تلك المدّة القصيرة من عمره في بطن أمّه و التي تعتبر فترة بناء الجسم و الروح، فإنّ عليه أن يتحمل العواقب الوخيمة لعمر مديد (قد يستغرق مئة سنة مثلًا) و يذوق الألم والمعاناة و هكذا الحال بالنسبة للإنسان إنّ قصر في صنع نفسه و تهذيبها في هذه الحياة الدنيا و كبّدها مختلف العيوب و الأمراض الأخلاقية و النفسية فإنّ عليه أن يتحمل العذاب الأليم و شدته في عالم ما بعد الموت. و من شأن هذا الإعتقاد أن يقلب حياة الإنسان رأساً على عقب، كونه يشكل درساً تربوياً عالياً ينهض بتربية روح الإنسان و نفسه، و يحول دونه ودون كل تلك الجنايات التي يمكن أن تصدر من إنسان مادي يعتقد أنّها تفنى و تزول جميعاً بفنائه و زواله. فالإعتقاد بعالم ما بعد الموت و بقاء أثر أعمال الإنسان يمكنه أن يكون عامل وقاية متين إزاء الذنوب و المعاصي، كما يمكنه أن يكون عاملًا مقتدراً للحركة و للحث على الاستثمار المادي و المعنوي في سبيل خدمة الخلق. لا شك أنّ آثار الإيمان بعالم ما بعد الموت ليفوق بدرجات دور المحاكم

وقوانين العقوبات الاعتيادية و المكافئات و التشجيعات العادية في إصطلاح الأفراد الفاسدين و المنحرفين و تشجيع الأفراد المضحين و المجاهدين، وذلك لأنّ من خصائص محكمة العدل الإلهي في القيامة هو خلوها من الاستئناف والتمييز و لا الواسطة، كما لايمكن تشويش أفكار القضاة من خلال طرح الوثائق المزيفة و ممارسة الكذب و الخداع، كما تخلو من الروتينيات و التشريفات التي تدعوا إلى الإطالة، بل و كما سنذكر ذلك المعاد و عالم الاخرة، ص: 54

بصورة مفصلة أنّ الثواب و العقاب في ذلك العالم يشبه إلى حدّ بعيد الآثار والخواص الطبيعية؛ يعني كما لايخطى ء الدواء الشافي أو السم القاتل في تأثيره و لا تجدي الرشوة و التوصية عليه شيئاً و لا تغيّر من تأثيره، فإنّ أفعال الإنسان و أعماله بنفس هذه الكيفية في العالم الآخر بعد الموت، هذا من جانب. و من جانب آخر فليس هنالك من معنى للتشجيع في المحاكم العادية لهذا العالم- التي تنطوي على آلاف العيوب- مثلًا إذا لم ينتهك فرد حرمة القانون لخمسين عاماً ولم يرتكب و لو مخالفة صغيرة، فليس هنالك من ثواب لالتزامه بالقانون، يعني ليس هناك من ثواب ليعطيه. و عليه فالضمانة الإجرائية لهذه القوانين أحادية الجانب: أي أنّه يتّجه دائماً صوب من ينتهك حرمة القانون، لاصوب ذلك الذي يحترم القانون ويلتزم به، والحال ضمانة التطبيق في الدين ثنائية، فهناك كفة الثواب التي تعدل بثقلها كفة العقاب. فمما لاشك فيه أنّ من يؤمن بذلك العالم يكون غاية الجدية في إصلاح نفسه و الإتيان بمختلف الأعمال الثقيلة و المعقدة، و كذلك و على غرار الفرد العالم بخصائص الأدوية المشفية و القاتلة فهو شديد الرغبة في الأول عظيم الخشية من الثاني، فإذا ما

أراد أن يقدم على عمل مهما كان حسب آثار ذلك العمل وتمثلها أمام عينيه. و هكذا يكون في حالة مراقبة تامة و دقيقة دائمية على نفسه، بحيث يسيطر عليها و يحول دونها و دون مقارفة الجرائم و الجنايات و المفاسد.*** إنّ الإيمان بهذه الحقيقة يبلغ بالإنسان درجة يجعله يقول: «وَ اللَّهِ لَأَنْ المعاد و عالم الاخرة، ص: 55

أَبِيْتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ في الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَ غَاصِباً لِشَي ءٍ مِنَ الْحُطَامٍ» «1»

و مثل هذا الفرد يحمي حديدة و يقربها من أخيه- ذلك الأخ الذي سأله الزيادة من بيت المال و التمييز بين الأفراد في العطاء- فيضج منها ويصرخ، فيخاطبه ناصحاً «أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَ تَجُرُّني إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ» «2»

و لما إقترح عليه بعض الأفراد من قصار النظر ترسيخ دعائم حكومته من خلال التمييز العنصري بين صفوف المجتمع الإسلامي قال: «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بَالْجَورِ فِيْمَنْ وُ لِّيْتُ عَلَيْهِ! وَاللَّهِ لَاأَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ في الَّسمَاءِ نَجْماً» «3»

حقّاً كيف ستصبح الدنيا لو أضاء بصيص من الإيمان القاطع في قلوب كافة زعماء العالم و الأفراد من بني البشر؟ فهل سيبقى فيها من أثر لهذه الأنانيات و الاستبدادات و الظلم والانتهاكات و التجاوزات؟

***

و من هنا تسعى كافة الأديان السماوية لبذل كافة الجهود من أجل تربية الأفراد و إصلاح المجتمعات من خلال إحياء الإيمان بعالم ما بعد الموت في قلوب الناس، و لاسيّما القرآن الكريم الذي أفرد جزءاً مهماً للمسائل التربوية من خلال سلوك هذا السبيل، و عليه فليس من العجيب أن ترد

المعاد و عالم

الاخرة، ص: 56

الإشارة إلى هذا الأمر لأكثر من 1400 مرّة في القرآن، و إليك بعض تلك النماذج. 1- صرّح القرآن الكريم بأنّ الإيمان و اليقين القطعي بذلك اليوم العظيم يكفي في تربية الإنسان، بل للظن أيضا دوراً عظيماً بهذا الشأن: «الا يَظُنُّ اولَئِكَ انَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَومٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» «1»

2- أكد القرآن الكريم في مختلف المواضع أنّ «الأمل» و «الرجاء» بذلك العالم يكفي الإنسان في عدم الطغيان و ترك اللجاجة إزاء الحق و الإتيان بالعمل الصالح، و هنا ينبغي الالتفات إلى أنّ القطع و اليقين لم يتطرق إلى مفهوم الأمل و الرجاء «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً» «2»

«وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَائَنَا لَوْلَا انْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» «3»

3- ورد في القرآن الكريم أنّ لأعمال و أقوال الإنسان صفة الأبدية، وكلها ستحضر يوم القيامة و تكون مع الإنسان: «يِوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» «4»

كما أكّد في موضع آخر: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً» «5»

و هكذا يتبلور في أعماق روح الإنسان؛ الإنسان الذي يؤمن بالحياة بعد الموت قبس كبير من الشعور بالمسؤولية تجاه جميع أحداث الحياة ووقائعها.***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 57

القيامة في باطنكم

إنّ هذه المحكمة التي يتحد فيها القاضي و الشاهد و منفذ الأحكام والتي تستقر في أعماق أرواحنا جميعاً هي نموذج حي على محكمة العدل الإلهي في القيامة و البعث. و اليوم حين يراد إنشاء بناية أو مصنع فانّهم عادة ما يصنعون مسبقاً نموذجاً مصغراً يشتمل على كافة مشخصات و مواصفات تلك البناية الضخمة أو المصنع الكبير ليكون مثالًا و نموذجاً يحتذونه في عملهم وهو ما يصطلح عليه بالمجسمة. و الإنسان أعجوبة

عالم الخلقة هو مجسمة صغيرة جدّاً و مختصرة للعالم، مع فارق هو أنّ هذه المجسمة قد أعدت بعد كل ذلك، لأنّ صانعها ومصممها لم يعدها على غرار الصانعين من الأفراد بهدف تلافي الأخطاء بسبب علمهم المحدود، فالمفروغ منه أنّ الصغر و الكبر يجري علينا بفضل محدوديتنا، بينما هما سيّان بالنسبة لمن كان مطلقا و لامتناهياً في علمه وقدرته. و العجيب في هذه المجسمة الإنسانية أنّها حملت نموذجاً دقيقاً لكل شي ء بما في ذلك الأسرار و القوى و العجائب و الدوافع و المنظومات و الكواكب والحيوانات بخلقها و طبائعها و الملائكة بروحياتها و هكذا كل شي ء

المعاد و عالم الاخرة، ص: 58

قد أختصر فيها، و ما أروع تلك العبارة التي وردت في الشعر الذي ينسب إلى أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنه قال:

«و تزعم أنّك جرم صغير و فيك إنطوى العالم الأكبر!»

لقد ظهر اليوم مشروع للاستفاده من المايكروفيلم في مكتبات العالم الضخمة بهدف حل مشكلة مكان الكتاب، فمثلًا يمكن حشر كبار المكتبات في صندوق من خلال استعمال أفلام غاية في الصغر، فإذا برزت الحاجة كبّروا تلك الأفلام بمجاهر خاصة ليتمكنوا من مطالعة مايريدون، و كأن هذا الإنسان بمثابة ذلك المايكروفيلم لمكتبة الخلق العظيمة، و كفاه ذلك فخراً. و هذا تشبيه رائع بين كبير العالم و صغيرة و الذي أخذ يتضح أكثر فأكثر بوسطة التطور و التقدم الذي أحرزه العلم، و إنّنا لنرى نماذج أصغر من ذلك في سائر موجودات العالم. البنية المذهلة للذرة هي مجسمة للمنظومة الشمسية العظيمة بتلك السيارات و الحركة الدورانية العجيبة، و المنظومة الشمسية بدورها مجسمة للمجرّات و كذلك بُنية الخلية التي لايمكن الوقوف على جماليتها و روعتها إلّا بالمجهر مجسمة لبُنية الشجرة و الحيوان

و الإنسان. البذرة الصغيرة للزهور و الخلية الحيّة الكامنة إلى جوار كل نواة، والنطفة الصغيرة المعلقة في صفار البيضة، كل واحدة منها نموذج لطيف وجميل لباقة ورد أو شجرة عملاقة مثمرة أو دجاجة جميلة، فكل ما كان في تلك النماذج موجود في هذه و لابدّ أن يكون كذلك، أو ليس عالم الوجود وحدة واحدة متصلة مع بعضها؟ إن هذا التشابه بين العالم الصغير (الإنسان) و العالم الكبير يجعلنا نلتفت إلى أنّ كل ما في العالم الكبير يوجد نظيره في الإنسان، و العكس بالعكس،

المعاد و عالم الاخرة، ص: 59

فما كان في الإنسان يلفت نظرنا إلى وجود شبيهه في العالم الكبير (إحتفظ بهذا في ذهنك).

***

يوجد في باطن الإنسان محكمة صغيرة يصطلح عليها اليوم «الوجدان» ويسميها الفلاسفة «العقل العملي» و وردت على لسان الآيات القرآنية باسم «النفس» أو «النفس اللوامة» و يطلق عليها العرب إسم «الضمير»، و حقاً إنّها لمحكمة عجيبة لا تعدلها كافة محاكم الدنيا بكل أجهزتها وأبهتها وعرضها وطولها. محكمة يتحد فيها «القاضي» و «الشاهد» و «منفذ الأحكام» و «الحاضر» وهو ما اصطلحنا عليه بالوجدان. و هذه المحكمة و خلافاً للمحاكم الصاخبة التي قد تطلب أصول المحاكمات فيها خمس عشرة سنة، فهي لا تحتاج إلى الوقت، نعم قد تطلب ساعة أو دقيقة أو لحظة ليتم فيها كل شي ء. ليس هنالك من سبيل للاستئناف و التمييز و إعادة النظر و الديوان العالي والتي تفيد جميعاً عدم الوثوق بممارسات المحكمة السابقة إلى هذه المحكمة، فلأحكامها مرحلة واحدة فقط، ولاغرو فالثقة و الإعتماد هي الحاكمة هنا. ليس فيها الانحرافات التي تشوب أعمال القضاة في المحاكم الرسمية من قبيل الخوف من المسؤولين و الانفعال بالوصايا و الوساطات و إصدار الأحكام

لصالح هذا و ذلك بعيداً عن العدل و الإنصاف و الإغترار بالرشوة والأموال و ما إلى ذلك، نعم، العيب الوحيد في هذه المحكمة أنّه يمكن إستغلال صفائها وطهرها و بالتالي خداعها و تصوير الحق لها باطلًا و العكس المعاد و عالم الاخرة، ص: 60

بسبب عدم عصمتها و محدودية علمها و معارفها مهما بلغا. و من هنا نقول إنّ الضمير بمفرده لايمكنه أن يحّل محل الدين، مع ذلك فلعل إنحرافه لايتجاوز الواحد بالألف مقارنة بالانحرافات التي تخترق المحاكم البشرية.

***

و من مميزات هذه المحكمة أنّها تعاقب المجرمين و كذلك تكرم المحسنين، خلافاً للمحاكم الرسمية التي لا أحظى فيها بكلمة شكر ولو إلتزمت لمئة سنة بالقوانين و لم أنتهك حرمتها، بل حتى لو خلت صحيفة أعمالي من أدنى مخالفة، فمثل هذه المحكمة ليس من شأنها التعامل مع الأعمال الحسنة و تقتصر وظيفتها على معالجة الأعمال السيئة.

القضية الأخرى التي تميز هذه المحكمة عمّا سواها هو أنّ عقابها ينبعث من باطن الإنسان و هو على درجة من الشدّة و الألم بحيث قد تضيق الدنيا برحابتها وسعتها على هذا الإنسان فتكون أضيق عليه حتى من الزنزانة الإنفرادية.

قد يكون ذنب الإنسان أحياناً كبيراً للغاية فيشتد عذابه حتى يكاد يعيش الجنون، بل قد يعاني من و طأة ذلك العذاب حتى يتمنى معه الإعدام أملًا في الخلاص من لهيب ذلك العذاب الذي قد لا تطيقه الجبال بينما لايراه من أحد.

إلى جانب ذلك فإنّ ثواب هذه المحكمة أيضاً على درجة من الجلال والعظمة بما لايمكن وصفه و هذا ما نصطلح عليه بسكينة الضمير حيث ليس لدنيا مفردة أخرى تبلغ ذلك الوصف.

يقال: إنّ أحد أسباب إتساع الأمراض النفسية في عصرنا يعزى إلى المعاد و عالم الاخرة،

ص: 61

إستفحال الخطيئة في أوساط المجتمعات المعاصرة، فالآثمون مهما تخلصوا من بعض الأمور فإنّه لايسعهم الخلاص من عذاب الضمير و تأنيبه، و ما هذه الأمراض النفسية المختلفة إلا إنعكاسات لذلك العذاب و التأنيب.

إنّنا لنعرف الكثير من الشخصيات السياسية المعروفة التي تفقد جميع قواها و طاقاتها خلال مدّة قصيرة و تستسلم للموت لمجرّد سقوطها ممّا كانت تحظى به من مقامات و مناصب.

و لعل أحد العوامل المهمّة لذلك هي أنّهم حين كانوا يتصدون للأعمال لم يكونوا يصغون لصوت الضمير- تجاه المخالفات التي كانت تسود حياتهم- أمّا الآن و قد تبخر ذلك الصخب و النشاط فقد أخذت محكمة الضمير تشدد خناقها عليهم فأخذوا يترنحون على ضربات عذابها الموجع.

هذه بعض النماذج البسيطة التي تتميز بها هذه المحكمة العجيبة والتي أسميناها الضمير.

***

فهل يمكن التصديق بوجود مثل هذه المحكمة و بهذه الأجهزة لدى هذا الإنسان الصغير بينما تنعدم مثل هذه المحكمة في هذا العالم الواسع من أجل النظر في أعمالنا صالحها و طالحها؟

أو لا تلفت نظرنا هذه المحكمة الصغيرة إلى باطن هذا العالم العظيم الذي يضم محكمة عظيمة تسع هذا العالم و بعظمة خالقه الجبار، و التي لا تعرف للعيب و النقص من حدود، و لابدّ أن يحضرها الجميع يوماً ليرى ما بدر منه من أعمال ربّما يكون نساها إلّاأنّها محفوظة هناك حيث لايضيع شي ء و لاينسى شي ء، و عقابها نار أرعب و أوجع من نار الضمير و ثوابها أكبر و أعمق من ثوابه و لكل حسب سعيه و عمله؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 62

قطعاً مثل هذه المحكمة كائنة في ذلك العالم الكبير و التي يمكننا تسميتها بضمير العالم.

***

و لعل هذا هو السبب الذي قرن محكمة الضمير بالحديث عن البعث والقيامة

العظيمة التي وردت في القرآن الكريم: «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَ لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ* ايَحْسَبُ الِانْسانُ الَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه» «1».

فقد قرنت المحكمتان مع بعضهما في هذه الآيات القرآنية.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 63

القيامة ردود على الألغاز

اشارة

لو قطعنا رابطة هذه الحياة من عالم ما بعد الموت، لأصبح كل شي ء على هيئة لغز و لتعذر علينا الردّ على أكثر التعليلات.

العالم في عين فرخ!

نريد أن نتعرف على مفهوم الحياة و الماضي و المستقبل و كذلك عالم الوجود من زاوية نظر «فرخ» لم يخرج لحدّ الآن من البيضة و يرى العالم: «آه! ياله من سجن صغير، لا أستطيع تحريك يدي و رجلي ...

لا أدري لم خلقني خالق العالم لوحدي، و لم خلق الدنيا بهذا الصغر والضيق، ماذا ينفعه سجن وحيد، و ما عساه أن يحل مشكلة؟

لا أدري مم صنع جدار هذا السجن، كم هو محكم و أصم لعل سرّ ذلك عدم سراية موج العدم المخيف من خارج هذا العالم إلى داخله، لا أدري ....

آه! لقد نفد غذائي الرئيسي من الصفار (المح) تماماً و الآن أتغذى على الزلال، و لعله سينفد سريعاً فأموت جوعاً و تنتهي الدنيا بموتى، ياله من عبث ولغو و دون طائل خلق هذا العالم مع ذلك فهو يستحق منّي الشكر، فقد منحني العزّة حيث خلقني وحدي و أنا صفوة العالم!

المعاد و عالم الاخرة، ص: 64

قلبي هو مركز هذا العالم و أطراف بدني هي شماله و جنوبه و شرقه وغربه! ... إنّي لأشعر بالفخر و الإعتزاز من تصور هذا الأمر، لكن ما الفائدة فليس هنالك من يشاهد كل هذا المجد و يبارك لهذا الموجود صفوة الخلق!

آه لقد برد الجو فجأة (لقد نهضت الدجاجة بضع لحظات من البيضة من أجل الحب و الماء) لقد إجتاح البرد الشديد جميع محيط السجن و قد دبّ في عظمي، آوه، إنّ البرد يقتلني، لقد شع نور عظيم من حدّ العدم في باطن هذا العالم فأضاء جدران سجني، أظن قد

حانت اللحظة الأخيرة للدنيا و قد أشرف كل شي ء في هذا العالم على نهايته، أنّ هذا الضوء الشديد المؤذي وهذه البرودة القارسة تكاد تقتلني.

آه! كم كان عبثياً هذا الخلق و سريعاً لاهدف له و لاطائل من وراءه، ولادة في السجن، و موت في السجن، ثم لا شي ء! ...

بالتالي لم أفهم «من أين جئت، و كيف كان!» ...

آه! يا إلهي، لقد زال الخطر (عادت الدجاجة ثانية لتنام على البيضة) بدأت تدبّ الحرارة في عظمي، و قد زال الضوء الخاطف و القاتل، أشعر باطمئنان كبير، كم هي لذيذة هذه الحياة!

يا ويلي زلزلة! أصحبت الدنيا كن فيكون (تقوم الدجاجة بتقليب البيوض تحت أقدامها للحصول على حرارة متساوية) لقد هز جميع عظامي صوت ضربة قوية مرعبة، إنّها لحظة نهاية الدنيا و سينتهى بعدها كل شي ء، أشعر بالدوار و أعضاء بدني ترتطم بجدار السجن، و كأنّه قدر لهذا الجدار أن يتحطم و يقذف بعالم الوجود بغتة في وادي العدم الرهيب ... إلهي ما الذي يحدث!

آه! ياإلهي، لقد حسنت الأوضاع وها أناذا أشعر بالإستقرار؛ فقد زالت المعاد و عالم الاخرة، ص: 65

الزلزلة، و عاد كل شي ء إلى سكونه، لم يكن لهذه الزلزلة من أثر سوى أنّها غيرت قطبي العالم فقد أصبح القطب الشمالي جنوباً و الجنوبي شمالًا! إلّا أنّ الأوضاع أصبحت أحسن من السابق، شعرت لمدّة بحرارة شديدة في رأسي و على العكس كان البرد دبّ في يدي و رجلي، و الآن عاد الاعتدال و التوازن.

كأنّها لم تكن زلزلة، بل كانت حركة للحياة! (مرّت عدّة أيّام على هذه الحالة) آه! لقد نفد غذائي تماماً، حتى أنّي لعقت كل ما في جدار السجن ولم يبق شي ء ... خطر، هذه المرة، جدي ...

إنّها نهاية الدنيا، و قد فغر الموت والفناء فاه على مقربة منّي. حسناً دعني أموت، لكن لم يعلم بالتالي الهدف من خلق هذا العالم و من هذا المخلوق السجين الوحيد؟ ياله من عبث! كم هو لغو! لا طائل من وراءه! ولادة في السجن و موت و فناء في السجن، «لست راضياً بهذه الخلقة، كانت مفروضة!».

آه! إنّ الجوع قد أخذ مأخذه منّي، لقد فقدت توازني و الموت يلاحقني، كأنّ هذا السجن بكل بؤسه هو أفضل من العدم، جاءني خاطر، كأنّي بصوت ينطلق من أعماقي إضرب بمنقارك و بشدّة جدار السجن! يالها من فكرة خطيرة! أفيمكن ذلك. هذا إنتحار، هذا آخر الدنيا، هنا الحد الفاصل بين العدم والوجود ... لكن لا، لعل هناك خبراً آخر و أنا لا أعلمه ... أنا محكوم بالموت، دعني أموت بعد جهد.

لقد إشتد هذا الصراخ في أعماقي و هو يناديني حطم الجدار ... آه! لعلي أمرت بقتل نفسي ... على كل حال ليس لي من سبيل سوى طاعة ذلك النداء الباطني (هنا يشرع الفرخ بالضرب بمنقاره الغطاء الشفاف للبيضة).

إضرب بقوة ... بقوة أشد ... لا تخف! أكثر قوة! ...

المعاد و عالم الاخرة، ص: 66

آوه! تحطم جدار الوجود و العدم، مرّت من هذه النافذة عاصفة إلى باطنها، لا نسيم لطيف و منعش، لقد تجددت حياتي! لقد تغير كل شي ء، إنّ الأرض والسماء في حالة تبدل و تغيّر، لابدّ من الطرق بقوة أكثر! لابدّ من تحطيم هذا السجن تماماً ...

آه! يا إلهي ياله من جمال! ... ياله من ساحر! ... ياله من واسع! ياله من كبير!

يالها من كواكب رائعة! ياله من ضياء لطيف! إن عيني تمتلى ء بالضوء، يالها من أزهار! يالها من أنغام! ...

أي

أمٍّ حنونة لدي! ... ما هذه الأطعمة المتنوعة و المختلفة! ...

ما أكثر مخلوقات اللَّه! ... آه كم أنا صغير و هذا العالم الكبير! كيف أكون مركز العالم! لست أكثر من ذرة غبار معلقة في فضاء واسع ...

الآن فهمت لم يكن ذلك المكان سجناً، كان مدرسة، كان مؤسسة تربوية، كان وسطاً تربوياً عظيماً أعدني للعيش في هذا العالم الواسع الجميل، الآن بدأت أفهم المعنى الذي تنطوي عليه الحياة، و ما هدفها و ما هي برامجها ومشاريعها، الآن أستطيع القول بقوة كم كانت قياساتي بسيطة بينما كبيرة جدّاً هي مفاهيم هذا العالم، و قد كنت في حلقة صغيرة ضمن سلسلة طويلة، و هناك حوادث لا تعرف بدايتها من نهايتها، و الحال كنت أرى كل شي ء منحصراً في تلك الحلقة التي تخلص فيها البداية و النهاية.

الآن عرفت أنّي فرخ صغير، و أصغر ممّا يتصور.

***

كان ذلك شكل عالم الوجود على ضوء رؤية فرخ سجين.

أفلا نتصور كذلك هو الأمر لهذا العالم الذي نعيش فيه إزاء العالم الذي المعاد و عالم الاخرة، ص: 67

يعقبه؟ هل هناك دليل يقوم على نفي ذلك؟ لقد صور التأريخ مدى الإيرادات الضخمة التي طرحتها المدارس المادية إزاء خلق الإنسان، وبصورة عامة خلق العالم و كذلك المصائب و المعاناة و الآلام و الويلات التي يواجهها الإنسان طيلة عمره القصير، و أفضل نموذج على ذلك ما أورده الشاعر العربي المادي النزعة المعروف «إيليا أبو ماضي» و الذي يختتم فيه أحد أشعاره باللازمة «لست أدري». كما نشاهد شبيه ذلك في أشعار الشاعر الفارسي المعروف «بهمني».

إلّاإنّنا نعتقد بأنّ أغلب هذه الإشكالات هي وليدة المطالعات المحدودة في الدنيا المادية لهذا العالم و الانقطاع عن الحياة القادمة و عالم ما بعد الموت،

وهي بالضبط كتلك التي أوردها الفرخ الذي لم يخرج بعد من بيضته، و قد مرّ علينا جانب من شعوره و حسابه للأمور.

طبعا إذا أغضضنا الطرف عن القيامة و حياة ما بعد الموت فسوف لن نمتلك إجابة على كثير من التعليلات، أمّا إن نظرنا إلى هذه الحياة بصفتها حلقة تكاملية وسط سلسلة طويلة من التكاملات لتغير الحال و لحلت أغلب المسائل العالقة من خلال إرتباط حاضر الحياة البشرية بمستقبلها، و أمّا قولنا أغلب المسائل- لاجميعها- فذلك لأنّ بعض هذه المسائل من قبيل الآلام و المصائب و الويلات إنّما تنبثق عادة كنتيجة لأعمالنا أو نظامنا الاجتماعي الفاسد أو الحركات الاستعمارية أو الضعف و الوهن و الكسل، وهي الأمور التي ينبغي التفتيش عن عواملها في كيفية الأنشطة الفردية والاجتماعية و العمل أجل إزالتها.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 69

القيامة في الكتب السماوية

اشارة

جهد «اليهود» إثر غرقهم في الماديات وسجودهم للثروة في محو آيات القيامة ليتسنى لهم مواصلة أعمالهم دون تأنيب من ضمير.

و أمّا «النصارى» فقد إقتعلوا الآثار التربوية للإيمان بالقيامة على ضوء مسألة الفداء و الخلاص بواسطة السيد المسيح عليه السلام و صكوك غفران القساوسة.

لقد تضمنت رسالة الأنبياء و المفكرين إلفات إنتباه الإنسان إلى أمرين والإجابة على لغزين؛ هما بداية الخليقة و نهايتها و بعبارة أخرى «المبدأ» و «المعاد».

و من المسلم به أنّ فهم معنى الحياة لايتيسر دون فهم الأمرين المذكورين، و كذلك يتعذر دون فهمهما المعرفة الواقعية للعالم.

و التربية بمعناها الحقيقي- يعني التربية التي لا تقتصر على التشريفات وآداب الضيافة و أسلوب تناول الطعام و مجاملة الأصدقاء و ما إلى ذلك، بل تلك التي تتجاوز سطحية الحياة و تغوص في أعماق حياة الإنسان وروحه- فنحتاج إلى حلّ هاتين المسألتين؛ يعني

الإلتفات إلى جهاز المراقبة الذي يحكم الإنسان و التوجه إلى الثواب و العقاب و تكامل الإنسان و سقوطه المعاد و عالم الاخرة، ص: 70

على ضوء أعماله.

و عليه فليس هناك أي كتاب سماوي و لا نبي إلّاوقد إستندت دعوته إلى الموضوعين المذكورين، ولكن دفع الجهل و قلّة العلم بالكتب و إمتداد يد التحريف إلى الكتب السماوية قد شوه صورة القيامة عن واقعها الصحيح.

و لا بأس أن نعرض هنا إجمالًا إلى مضامين تلك الكتب وتسليط الضوء على بحث القيامة الوارد فيها بغية إحراز بعض الفوائد.

الكتب التاريخية بدل الكتب السماوية

ينبغي الإلتفات هنا إلى أنّ الكتب المقدسة لليهود و النصارى اليوم هي كتب مقدسة فقط كما يرونها، لا أنّها كتب سماوية، و من هنا فهم لايصطلحون عليها بالكتب السماوية، فإنّنا لانجد يهودياً و لانصرانياً واحداً يقول أنّ هذا الكتاب هو ذلك الوحي السماوي الذي نزل على موسى وعيسى عليهما السلام، بل يعترف الجميع بأنّ هذين الكتابين قد خطّا بعد هذين النبيين العظيمين من قبل حواريها و أتباعهما و إن تضمنت هذه الكتب شيئاً من الوحي السماوي، و من هنا فقد ورد فيها الكلام عن سيرة المسيح عليه السلام و موسى عليه السلام و حتى الحوادث التي وقعت بعدهما.

توضيح ذلك:

العهد القديم (الكتاب المقدس لليهود) و يشتمل على 39 كتاباً خمسة منها المسماة بأسفار التوراة، فنقرأ على سبيل المثال في الفصل الآخير من السفر الخامس- و الذي يسمى بسفر التثنية- فموسى عليه السلام عبداللَّه و قد

المعاد و عالم الاخرة، ص: 71

توفى حسب قول اللَّه في أرض «مواب» و قد دفن في أرض مواب أمام يعور ...»

فهذه دلالة واضحة على أنّهم كتبوه بعد وفاة موسى عليه السلام.

وسبعة عشر كتاباً منها تسمى «مكتوبات المؤرخين» حيث جاء فيه

كما يفهم من إسمه تأريخ الملوك و السلاطين و ما إلى ذلك، و السبعة عشر كتاباً الباقية تحمل عنوان مكتوبات الأنبياء و رسل بني إسرائيل و سيرتهم و بيان قصار كلماتهم و مواعظهم و مناجاتهم.

و أمّا كتاب العهد الجديد (الكتاب المقدس للنصارى) فيشتمل على 27 كتاباً، أربعة منها هي الأناجيل الأربعة و التي كتبت من قبل تلامذة السيد المسيح عليه السلام أو تلامذة تلامذته. و إثنان و عشرون منها هي الرسائل التي بعث بها بولس و سائر رجال النصرانية إلى المناطق المختلفة، و الكتاب الأخير هو مكاشفات يوحنا الذي يشرح مكاشفاته على كل حال فإن هناك فارقاً واضحاً بين العهد القديم و الجديد، و هو كثرة الكلام في كتب اليهود عن الدنيا وقلّته و ندرته عن القيامة!

و الحال ليس الأمر كذلك في الإنجيل فالحديث يبدو كثيراً نسبياً عن القيامة و العالم الآخر الذي يعقب الموت و الثواب و العقاب، حتى صرّح «المستر هاكس» الأمريكي كاتب «قاموس الكتاب المقدس» قائلًا إنّ أفكار اليهود في بعض المسائل المتعلقة بعالم ما بعد الموت مجهولة و غير واضحة تماماً.

و كل الذي يمكن قوله مع أخذ بنظر الاعتبار الوضع الخاص الروحي لليهود هو أنّهم- اليهود- يشتهرون من بين كافة أقوام العالم بماديتهم وأنانيتهم وركوعهم للثروة دون أي قيد و شرط حتى قيل أن إلههم هو

المعاد و عالم الاخرة، ص: 72

المال، و حين إمتدت أيديهم إلى تحريف كلمات الأنبياء و تعاليمهم فما كان في الدنيا ومادياتها أثبتوه، و ما كان في القيامة و عقاب أصحاب الدنيا و الظلمة و الآثمة حذفوه منها، فهم لايقتصرون على تحريف أخبار العالم لصالحهم، بل لايتورعون حتى عن تحريف كلمات الأنبياء و الكتب السماوية!

و قد وردت

في القرآن الكريم بعض الآيات التي تشير إلى طبيعة اليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه و آله و مدى حرصهم على الحياة المادية: «وَ لَتَجِدَنَّهُمْ احْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيوةٍ» «1»

.و هذه هي الروحية التي تلمس فيهم اليوم كما الأمس، كأنّها أصبحت جزءاً من دمهم و طبيعتهم على مرور الزمان، و هذا مايفسر سلوكيتهم وتشردهم في الماضي و مدى لجاجتهم في العصر الراهن، و لانرى أنّهم سيخرجون من دوامتهم إلّاأن يعيدوا النظر في حياتهم و يمدوا يد السلام إلى شعوب العالم ولايقتصرون بالقيمة و القدسية على المادة فقط، على كل حال رغم عدم إهتمام كتب العهد القديم بقضية القيامة فإنّ هناك تعبيرات واضحة يمكن مشاهدتها بهذا الخصوص، نعرض الآن إلى بعض نماذجها.

1- نقرأ في الكتاب الأول لصاموئيل (الباب 2 الجملة 6):

«إنّ اللَّه يحيي و يميت و يقبر و يبعث». و العبارة- كما يفهم منها- تدل صراحة على المعاد الجسماني إضافة إلى أصل القيامة، فالقبر مكان الجسم الذي يتبدل فيه تراباً، و إلّافالقبر لايضم الروح لتنبعث منه، و هذا يشبه ما ورد في القرآن: «وَ انَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ في الْقُبُورِ». «2»

2- نقرأ في كتاب يوشع النبي (الباب 26 الجملة 19):

«سيحيى موتاك و يريدون أجسادي، انهضوا يا من سكنتم في التراب المعاد و عالم الاخرة، ص: 73

وانتبهوا و ترنموا!». فقد وصفت القيامة في هذه العبارة بأنّها نوع من الإنتباه (شبيه الإنتباه من النوم) و هو الأمر الذي ورد في الروايات الإسلامية «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا».

فتشبيه «الموت» أو «القيامة» بالإنتباه من النوم يعلمنا كثيراً من الأشياء سنتعرض لها لاحقاً إن شاء اللَّه.

و لعل المراد بالعبارة أجسادي (رغم أنّ لكل فرد جسد واحد) الأعضاء والأطراف المختلفة للجسد، أو

الأجساد التي تتغير طيلة العمر و بمرور الزمان.

3- نقرأ في مزامير داود (المزمور 23 الجملة 4 إلى 6):

«سوف لن أخشى السوء من مشي في وادي الموت لأنّك معي، سيلحقني كل إحسان و رحمة و أسكن في بيت اللَّه إلى أبد الاباد». حيث تتضح بجلاء من هذه العبارات الرابطة بين الإنسان في عالم ما بعد الموت و الأعمال التي بها في هذا العالم، فستتبعه أعماله أينما حل و لا تنفصل عنه أبداً.

*** و هكذا تكون قد وردت إشارات واضحة إلى يوم القيامة في كلمات الأنبياء كداود و يوشع و صاموئيل، إلّاأنّ اليهود تناسوا القيامة و البعث وكأن ليس هنالك من دنيا بعد هذه الدنيا و حياتها المادية.

القيامة في الأناجيل

كما ذكرنا سابقاً فإن الأناجيل كانت أكثر صراحة من غيرها بشأن الحديث عن القيامة. و إليك نموذجان منها:

المعاد و عالم الاخرة، ص: 74

1- نقرأ في إنجيل يحيى (الباب 5 الجملة 27- 28):

«ستأتي الساعة التي يسمع فيها كل من في القبور ندائه فينهضون، فمن عمل عمل حسناً له قيامة الحياة و من عمل عمل سيئاً له قيامة الحساب».

و المراد بقيامة الحياة هو الحياة الخالدة في النعم الإلهية التي تمثل ثواب المحسنين، و المقصود بقيامة الحساب هو عقاب المسيئين بمقتضى حساب اللَّه و عدله.

و أخيراً فالعبارة- بالنظر لذكرها القبور التي تمثل موضوع جسم الإنسان- إشارة إلى المعاد الجسماني.

2- وردت إشارة صريحة إلى قضية الجزاء و الثواب يوم القيامة في إنجيل متي- و هو أول الأناجيل- حيث جاء فيه: «سيأتى الابن في جلال أبيه و معه الملائكة و سيجزي كلا حسب عمله». (إنجيل متي، الباب 16 الجملة 27) و نظير هذه العبارات التي تتحدث عن الثواب و العقاب و الجنّة و النار

والحساب في عالم ما بعد الموت، و هي كثيرة في كتب العهد الجديد و الأناجيل.

***

ولكن للأسف فقد شوه بعض النصارى الآثمين الآثار التربوية العقائدية والإيمان بالمعاد و القيامة بحيث لم يعد هنالك من دور للعمل الصالح أو السيى ء في الفوز بالحياة الخالدة أو العذاب الدائم، و ذلك من خلال البدع الخطيرة التي ابتدعوها من قبيل صكوك الغفران و أنّ المسيح عليه السلام صلب ليكفر عنهم سيئاتهم و ما إلى ذلك من التحريفات.

القرآن و الآخرة

أول إرشاد

اشارة

لقد كان يوماً بين هذه الذرات المؤلفة لأبداننا مسافة تتجاوز ملايين الكيلو مترات و كانت متناثرة في كل مكان، فهل يمكن أن ترتبط مع بعضها بعد تشتتها ثانية بعد الموت؟ لقد حدثت هزة عنيفة في وسط الوثنيين فقد تزلزلت دعائهم الوثنية، فقد ظهر دين جديد، دين التوحيد، دين عبادة اللَّه الواحد الأحد و الذي أخذ ينتشر بين الناس بالسرعة و يسيطر على أفكارهم و لاسيّما الشباب الذين إستقطبهم بصورة أعمق من غيرهم. إثر ذلك عقدت الجلسات و الندوات الصغيرة و الكبيرة و نظمت الاجتماعات في الأوساط العالمية و الأندية و الأسواق و المسجد الحرام و في بيوت المشركين بهدف مواجهة هذا الدين و الحيلولة دون إنتشاره و نفوذه، و كان كل فرد يفكر في العثور على نقطة ضعف في هذا الدين الجديد الذي سدد ضرباته لدينهم القديم. و فجأة إنبرى أحدهم من زاوية في المجلس ليقول: «هَلْ نَدُّلُكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ اذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّقٍ انَّكُمْ لَفي المعاد و عالم الاخرة، ص: 76

خَلْقٍ جَديدٍ* افَتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً امْ بِهِ جِنَّة» «1»

نعم كان الإعتقاد بعالم الآخرة و بعث الموتى و وقوفهم للحساب آنذاك هو نوع من أنواع الجنون أو توجيه التهمة للَّه سبحانه، كما

أن إنبثاق الحياة من المادة الصماء التي لاروح فيها هو الآخر كان يمثل أمراً جنونياً لايمكن تصوره، و بالطبع لايبدو هذا النمط من التفكير مستغرباً من أولئك الأفراد ممن يعيشون في «ضلال مبين» و لم يشموا لسنوات مديدة نسيم العلم والمعرفة. إلّاأنّ الطريف ماينبغي معرفته من القيامة التي أحدثها القرآن الكريم بشأن مسألة يوم القيامة، حيث إعتمد الأدلة اللطيفة و الأمثال الرائعة والمنطق السهل والممتنع الذي يجتمع عليه عوام الناس ممن لاحظ لهم من معرفة وعلمائهم و مفكريهم. و لعلك لا تشاهد صفحة من القرآن خلت من ذكر عالم الآخرة و الحياة بعد الموت و المسائل ذات الصلة، و هذا بدوره يوضح الأهمية التي أولاها القرآن لهذه المسألة المهمّة. و بصورة عامة يمكن تقسيم آيات القيامة من حيث الدليل و البرهان إلى سبعة طوائف بحيث تفتح كل طائفة بدورها نافذة على هذه المسألة الكبرى المهمّة و تعد طريقاً واضحاً و مطمئناً.

الطريق الأول: التذكير بالخلق الأول

«أَفَعَيِينَا بِالْخَلقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» «1»

المعاد و عالم الاخرة، ص: 77

لقد ذهل ذلك الإعرابي حين وقعت عينه على قطعة عظم متعفن وسط الصحراء، ولم يكن واضحاً أنّ ذلك العظم لرجل قتل في نزاع قبلي أم توفاه اللَّه سبحانه، ففكر مع نفسه قليلًا: أنّ محمداً يقول بأنّ هذا العظم البالي سيكتسب الحياة مرّة أخرى و يعود الإنسان شاباً حيوياً طرياً، يالها من خرافة عجيبة! ... قسماً بهذه الأوثان سأردّ عليه بهذا الدليل المحكم. فحمل ذلك العظم و أسرع يطلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلما رآه قال: «مَنْ يُحيي الْعِظامَ وَ هِىَ رَمِيم» «2»

و هنا نزلت الآيات القرآنية كحباب المطر في الربيع على قلب رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله لتجيب بمنطق صريح جذّاب: «قُلْ يُحيِيهَا الَّذي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» «3» «أَوَ لَيْسَ الَّذي خَلَقَ السَّموَاتِ وَ الأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم» «4»

كما وردت آية أخرى شبيهة للآية المذكورة: «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعيدُهُ» «5»

***

و الآن نتصفح أوراق تأريخ ظهور البشرية فنعود إلى الوراء لنرى بداية الخليقة: ... فجأة قذفت من الشمس كتلة نارية عظيمة أطلق عليها فيما بعد إسم «الأرض» فأخذت فوراً بالدوران حول الشمس، إلّاأنّها كانّت متقدة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 78

ومحرقة بحيث إذا تأملها الناظر لما احتمل إنّها ستصبح يوماً موضعاً لكل هذه البساتين الغنّاء و الأزهار الجميلة و الشلّالات و الطيور المتنوعة و أفراد الجنس البشري. و لا ندري على وجه الدقّة كم مضى على تلك اللحظة، و لعلها تمتد إلى خمسة آلاف مليون سنة! مضت آلاف ملايين السنين و الأرض ساخنة و محرقة. ثم إتحد غاز الهيدروجين مع الاوكسجين في أجواء الأرض ليكونا بخار الماء، و بردت الطبقات العليا من الجو بمرور الزمان فاشبعت ببخار الماء فبدأت سيول الأمطار الرهيبة. إلّاأنّ الأرض كانت على درجة من السخونة بحيث لم تخترقها الأمطار، فكانت تتحول بخاراً قبل ملامستها فترتفع إلى الأعلى و هكذا بقيت البحار لسنوات مديدة- ربّما ملايين السنين- تائهة معلقة ما بين الأرض والسماء! فلم يكن لها من سبيل إلى الأرض و لا إلى جو السماء، فكلما حاولت أن تقترب من الأرض لم تدعها الحرارة، و حين كانت تندفع إلى السماء لم يكن لها القدرة الكافية لحل كل ذلك بخار الماء، فكانت دائبة الحركة. إلّاأنّ تلك الحركة أخذت تبرّد الأرض بالتدريج و تحد من جماحها. فعادت المياه إلى الأرض، حيث

تقبلتها ودعتها تستقر في الحفر، لكن لم يكن يسمع في الكرة الأرضية سوى صوت الرعد و البرق و زئير الشلّالات و أمواج البحار و صرير العواصف. فلم تتفتح وردة و لابرعم، كما لم تكن هناك فراشة تلقح الأوراق و لا أصوات لرفرفة أجنحة الطيور التي تحلق على شكل أسراب و جماعات لتحطم حاجز الصوت المرعب لتلك المقبرة، لا صوت حشرة و لا تغريد بلبل ... كان الصمت سائداً في كل مكان! و فجأة حدثت ثورة عجيبة و حادثة فريدة فقد ظهرت أولى الكائنات المعاد و عالم الاخرة، ص: 79

الحية في البحار، فأخذت النباتات بالانتشار تدريجياً، ثم أخذت إثر ذلك أولى الحشرات الصغيرة و الحيوانات المختلفة تسرح و تمرح في البحار و اليابسة. لكن إلى الآن لا أحد يعلم السبب الذي يقف وراء ظهور الكائن الحي من المادة التي لاحياة فيها، و كل الذي نعلمه هو أنّ عوامل خفية إتحدت مع بعضها لتكون هذا الإبداع العظيم، أمّا جزئيات ذلك فما زالت من الأسرار التي لم يقف كنهها العلماء لحدّ الآن.*** و بناءاً على هذا فإنّنا نلاحظ بوضوح أنّ أجزاء من بدننا الفعلي كانت سابقاً متناثرة في زوايا هذه الأرض الواسعة الخالية من الروح و الحياة، ولعل هناك ملايين الكيلو مترات من المسافة بين ذراتها. إلّاأنّ ذلك التناثر وهذه المسافة لم تكن لتمنعها من التجمع يوماً مع بعضها و تشكيلها لبدن الإنسان. فهل من العجب أن يتكرر هذه العمل مرّة أخرى فتتجمع الذرات التي أصحبت تراباً و تناثرت هنا و هناك لتلبس ثوب الحياة و تعاد الخلقة الأولى فإن رأى الإعرابي ذلك الأمر ضرباً من الجنون، فما بالنا نحن الذين نعيش في ظل هذا التطور العلمي

فنراه عملياً يمكن تحقيقة، و هو ما عبّر عنه الفلاسفة بقولهم: «حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لايجوز واحد».

الطريق الثاني: تكرر رؤيتنا للقيامة

اشارة

هناك عيب كبير يتخلل نظرتنا على الدوام و هو: لايلفت إنتباهنا عادة في حياتنا اليومية سوى الأشياء التي تصطدم بها بصورة إستثنائية، أمّا تلك التي نعيشها دائماً و بصورة مرتبة- مهما كانت خارقة و عجيبة و تنطوي على الدروس و العبر- فقلّما تسترعي إليها إنتباهنا! فعادة ما يتجمع الناس حول مشهد أو لوحة أو ثوب مهما كان عديم الأهميّة إن كان متفاوتاً مع مارأيناه لحدّ الآن على أنّه موضوع يثير التعجب و الدهشة، بينما لا تثير مشاعرنا و أفكارنا أجمل و ألطف و أعمق كائنات هذا العالم إن كانت معنا دائماً، إنّنا نعرف الكثير من الأفراد الأفذاذ والخارقين وليس لهم من عيب سوى أنّهم يعيشون بيننا و على مقربة منّا، ومن هنا لا نعير نبوغهم أيّة أهميّة ولا نكترث لأفكارهم السامية و روحهم العالية! و بالعكس فإنّنا نعرف بعض الأفراد العاديين الذين نطريهم بمختلف طقوس الإحترام والإعتزاز، و ما ذلك إلّالأنّهم ماتوا و إنقطعوا عنّا، إنّ هذا نوع من الاسلوب السطحي الساذج في التفكير، و المؤسف له أنّه يسود كافة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 82

طبقات المجتمع حتى الخواص منهم. لا نريد أن نبتعد عن أصل الموضوع، ففي عالم الطبيعة الذي نعيش فيه نرى كراراً قضية إحياء الموتى، غير أنّها و بسبب تعايشنا معها فهي لا تسترعي إنتباهنا. يحل فصل الخريف، نتجول في الصحارى و السهول و ما زال كل شي ء لحدّ الآن قد إحتفظ بصورته الطبيعية فنرى الأشياء ذابلة و شاحبة، أوراق الأشجار تلفظ أنفاسها الأخيرة و تسعى جاهدة للإلتصاق بأغصان الشجرة وبالتالي تستسلم لرياح الخريف

الباردة فتسقط على الأرض، الأغصان هي الاخرى تعيش حالة الجفاف و الذبول و كأنّ الحياة لم تدبّ فيها أبداً، فإذا لاحت بوادر فصل الشتاء تسلطت عوامله الطبيعية لتحيل الأشجار إلى جثث هامدة عارية يسودها الصمت التام فلا من طراوة و لا ورق و لا ورد و لا ظل، و لم يبق منها سوى ساق أجرد أشبه بجهاز عظمي مهموم لاروح فيه ولا حركة كالعظام النخرة التي تبقى من أجساد الأموات. و لعل هذه الصورة تتجلى بوضوح في الصحاري القاحلة القفراء كصحراء الحجاز- التي لا تصلها سوى مياه الأمطار الموسمية- فهي تبدو في فصل الشتاء بالضبط كالمقابر القديمة و المتروكة، حتى، صوت البوم لا يسمع فيها بصفته الرفيق الحميم لمثل هذه الأماكن! ثم لايلبث ذلك طويلًا تلوح آفاق فصل الربيع بنسيمه الحيوي و أمطاره المناسبة و حرارته المعتدلة الخلّابة وبالتالي بجميع بركاته التي تجعل الأرض تتنفس الحياة لتدب في تلك العظام الخاوية للأشجار، كما تفيض الحياة و الحركة و النشاط على تلك الصحاري القفار التي كانت تفوح منها رائحة القبور القديمة و المتروكة، وأخيراً فإنّ قيامة عظيمة تقوم لتجتاح أنحاء عالم الطبيعة.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 83

لا شك إنّ موت الطبيعة و بعثها الذي نشاهده كراراً طيلة سنوات عمرنا، ما هو إلّانموذج حي لقيامة البشرية و بعثها للحياة ما بعد للموت. فما الفارق في ذلك، فقانون الموت و الحياة واحد في كل مكان. فلو لم تكن هناك من حياة بعد الموت، لما إنبغى أن تستثنى الأراضي الموات من هذا القانون. و إن كان ممكناً، فهو ممكن كذلك بالنسبة لأفراد البشر. فإذا لم يكن هناك أي أثر للحياة في تلك الصحراء الجافة بالأمس، حتى لا يسمع فيها

صوت البوم الشغف بذلك المكان فيسارع للهرب منه، بينما إخضرت و غرقت في الحياة و النشاط و الحركة اليوم بفعل إرتفاع درجة حرارة الجو و هبوب الرياح المعتدلة و هطول بعض الأمطار، فما بالنا لا نعمم هذا القانون على موت الإنسان و حياته، حقاً ما الفارق بين هذين الأمرين. هذه هي إحدى صور القيامة التي نمرّ عليها دائما مرور الكرام.*** و قد تعرض القرآن الكريم على لسان العديد من الآيات إلى هذه الحقيقة بهدف الإرشاد إلى قيامة الناس، فقد جاء في بعض الآيات: 1- «وَ اللَّهُ الَّذي ارْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ الى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ» «1»

. و كما نلاحظ فإنّ قيامة البشرية قد قورنت بقيامة عالم النبات. 2- «وَ نَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَانْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصيدٍ* وَ النَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْع نَضِيدٍ* رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ» «2»

.المعاد و عالم الاخرة، ص: 84

3- «وَ تَرَى الأَرْضَ هَامِدةً فَاذَا انْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَانْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوُجٍ بَهِيجٍ* ذَلِكَ بِانَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ انَّهُ يُحيىِ الْمَوتى وَانَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِير» «1». و بهذا الشكل أصحبت قضية الحياة بعد الموت على هيئة أمر حسي وملموس يتكرر أمام العين كل سنة، بعد أن كانت تراه الجاهلية أمراً محالًا وغير معقول و حتى جنوني.

الردّ على إشكال مهم

قد يرى البعض أنّ هناك إشكالًا مهماً يمكن طرحه بهذا الخصوص و هو:

هناك بون شاسع بين حياة الإنسان بعد الموت و تجديد الحياة بالنسبة للأرض الميتة في فصل الربيع، لأنّنا نعلم أن ليس هنالك من موت حقيقي بالنسبة لمثال الأرض و النبات، كل ما هنالك، هو إندثار لجذوة

الحياة، فالأشجار لن تموت قط في فصل الشتاء، بل هناك سبات، بينما بصيص الحياة موجود في جوف الجذر و الغصن و الساق، و من هنا فهي تفرق عن الشجرة الجافة واليابسة، أضف إلى ذلك هناك موت ظاهري للأرض لا واقعي حيث هنالك البذور الحيّة للنباتات التي تتخللها فإذا توفر المحيط اللازم أخذت بالنمو و الظهور، فلو خلت تلك الأرض من البذور لما دبّت فيها الحياة و لو هطل عليها المطر لآلاف السنين و هذا يختلف تماماً و الموت الحقيقي لبدن الإنسان. و للإجابة على هذا الإشكال لابدّ من الإلتفات إلى أمرين:

المعاد و عالم الاخرة، ص: 85

1- لابدّ من التوقف عند بذرة النبات أو نواة الشجرة بفضلها خلية حيّة ليس أكثر فكيف تتبدل إلى مئات الأغصان و السيقان و الجذور و الأوراق الحيّة؟ ألم تنبثق من هذه الأتربة الهامدة الميتة و ذرات الأرض و قطرات الماء و اوكسجين الهواء و هيدروجينه و كل هذه المواد أموات عالم الطبيعة، لتشكل نفسها و تصنع كائنات حيّة من تلك الموجودات الميتة؟ أو لم تكن هذه الشجرة و ذلك البرعم و النبات الذي يحركه هبوب الرياح و ما إلى ذلك، ألم تكن كل هذه الأشياء لبضعة أيام أو عدّة شهور قبل تلك الذرات الميتة الهامدة في التراب و قد أصبحت اليوم بهذا الشكل؟ أفنجانب الواقع بأن قلنا الأرض الميتة قد تبدلت إلى أرض حية؟ جدير بالذكر هو أنّ القرآن الكريم لايقول الأشجار الميتة تصبح حيّة (لأنّها لم تمت) بل يقول: الأرض الميتة و ذرات التراب تصبح حيّة! 2- لو ألقينا نظرة على بداية إنبثاق الحياة في الكرة الأرضية، لأتضحت المسألة أكثر فأكثر، لأنّ الأرض كانت محرقة في البداية و لم

يكن فيها أي كائن حي، ثم بدأ عصر السيول و الأمطار، و اتحد عنصر الهيدروجين الخانق بالاوكسجين و أخذت السيول و الامطار تضرب الأرض لملايين السنين حتى بردت و استوت، فلما توفر المحيط اللازم للحياة، دبّت فيه بدايات الحياة وظهرت من تلك المواد الميتة للأرض بطريقة تنطوي على الأسرار التي ما زالت خافية على العلماء، و هكذا إكتسبت تلك الأرض الميتة الحياة.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 87

الطريق الثالث: معاد الطاقة وقيامتها

اشارة

إنّنا نرى بأم أعيننا قيامة كلما أشعلنا كبريتاً و تحررت منه طاقة حرارية خاصة، فالحرارة التي ربّما إنفصلت عن الشمس قبل خمسين سنة و قد ظن الجميع أنّها فنت، بينما إدخرت بصورة خفيفة في جوف عود الثقاب و قد قامت قيامته الآن.* و الطاقة الحرارية المنبعثة من قطرة النفط أو البنزين التي نشعلها قد تكون إنفصلت عن الشمس قبل ملايين السنين، و قد أودعت بشكل في أعماق تلك المواد و ننظر الآن إلى قيامتها.* كيف يشير القرآن في بحث المعاد من أجل رسم صورته في هذه الدنيا ويجسد قيامة الطاقة أمام أعيننا بمثال رائع! عليك بالدقّة في مطالعة هذا البحث. إنّ الشمس هي مصدر جميع الطاقات الموجودة على الأرض (سوى الطاقة الذرية)، و يخلو هذا الكلام من أي إستغراق أو مبالغة بل هو واقع قائم. على سبيل المثال لو تأملنا جميع المصادر المنتجة للطاقة من قبيل المعاد و عالم الاخرة، ص: 88

الفحم الحجري و الطاقة الكهربائية و الرياح و الحيوانات و الإنسان والكائنات الحيّة لاكتشفنا أنّ المصدر الأصلي لها هو ضوء الشمس. 1- «الفحم الحجري» كما يفهم من إسمه المتبقي من غابات و أشجار العصور و القرون السابقة و قد دفن في أعماق الأرض بفعل مختلف الحوادث التي مرّت على الأرض،

و قد تحولت إلى فحم أسود إثر ظروف معينة وبمرور الزمان، و سنقف قريباً أنّ الطاقة المخزونة فيها من ضوء الشمس. 2- «النفط» تفيد آخر النظريات أنه ما يتّبقى من الحيوانات البحرية الصغيرة والكبيرة للعصور السالفة و قد دفن في الأرض إثر تغير الظروف الجوية، ثم تبدلت جسيماته بعد سلسلة من الأفعال و الانفعالات المختلفة والقدرة الخلاقة العجيبة إلى هذا الذهب الأسود المذاب و الذي يقال له آلاف المشتقات التي يفوق كل واحد منها الآخر، و سندرك عمّا قريب أنّ ضوء الشمس هو مصدر ظهور الحيوانات و المواد المنتجة للطاقة في بدنها. 3- «التوربينات و المولدات الكهربائية» إمّا أنّها تتحرك بواسطة ضغطماء الشلّالات و السدود، و إرتباطها بضوء الشمس- بصفته عامل تبخير مياه البحار و تكوين الغيوم و نزول الأمطار- واضح، أو بواسطة المواد النفطيةوأمثالها والتي مرّ علينا استمدادها للطاقة من ضوء الشمس. 4- «حركة الرياح» التي تكون عاملًا لحركة بعض الأجهزة الصغيرة كالسفن الشراعية، و هي ترتبط أيضا بضوء الشمس الذي يسبب إشعاعه على النقاط المختلفة للكرة الأرضية اختلاف درجة الحرارة، و نعلم أنّ اختلاف درجة حرارة نقطتين من الكرة الأرضية يؤدّي إلى هبوب الرياح. 5- «الحيوانات» و التي تعتبر من مصادر الطاقة، مغ ذلك لايمكنها العيش دون «النباتات»، لأنّ كل حيوان- عادة- إمّا يتغذى على النباتات أو

المعاد و عالم الاخرة، ص: 89

على لحوم الحيوانات الآكلة للنباتات، و لا يستثنى من هذا القانون حتى الحيوانات البحرية التي تتغذى على أصغر النباتات البحرية. 6- لايمكن تنمية النباتات و الأشجار دون الاستفادة من ضياء الشمس- سواء بصورة إشعاع مباشر أو غير مباشر- و من هنا تنعدم النباتات في أعماق البحار (لأعماق تتجاوز الستمئة متر) و ذلك لعدم

وصول ضياء الشمس إليها. طبعا يمكن العثور على بعض الموارد النادرة للطاقة و التي لا تستندفيها إلى ضوء الشمس، من قبيل الطاقة الحاصلة من ظاهرة المد و الجزر في البحار بواسطة جاذبية القمر و التي يستفاد منها أحياناً من أجل السقي وإنتاج الكهرباء، و كذلك الطاقة الناشئة من البراكين و أمثالها، إلّاأنّ هذه الموارد نادرة جدّاً كما ذكرنا.

حرارة النار من الشمس!

صحيح ما يقال أنّ حرارة النار من ذاتها، فحيثما كانت النار، كانت الحرارة والحرقة، فإن سلبت حرارتها و حرقتها لم تعد ناراً، و كما يقال فإنّ هذه الكيفية تعتبر من الخواص الذاتية للنار. و لكن إن نظرنا من جانب آخر إلى هذه الحرارة فإنّها كانت يوماً في مركز الشمس و قد إنتقلت إلى الأرض بواسطة إشعاعها لتستقر بطريقة غير معلومة في جوف جذوع النخل و لم تطفى ء جذوتها بفعل مرور الأشهر والسنوات ونزول مالايحصى من الأمطار، و بعبارة أخرى لو بعث عود الثقاب بشعلة من النار خارجاً، أو إذا إنتشرت طاقة حرارية خارقة اثر حريق هائل المعاد و عالم الاخرة، ص: 90

في غابة أو مخزن ضخم من الأخشاب فانّها تفقد دفعة واحدة إلى الخارج كل ما إختزنته تدريجياً من ضوء الشمس خلال عشرات أو مئات أو آلاف السنين، أمّا كيفية ذلك فهو أنّ هناك قانونين في علم الكيمياء يوضحان حقيقة الموضوع المذكور، و هو أنّ أي تركيب أو تحليل كيميائي لايخرج عن حالتين إمّا إكتساب أو فقدان الطاقة. فمثلًا إذا أردنا أن نحصل على بضع قطرات من الماء، لابدّ أن نمزج مقداراً من الهيدروجين و الاوكسجين في زجاجة محكمة و جافة، إلّاإنّنا نشاهد عدم تركبها و إتحادهما لتكوين الماء، فإن أشعلنا عود ثقاب و قربناه من فوهة

الزجاجة لسمعنا صوتاً عظيماً يشبه صوت إنفجار المواد المنفجزة، فيتحد هذان العنصران مع بعضها و تظهر قطرات الماء على جوانب الزجاجة. و من هنا نستنتج أنّ الماء يساوي الحرارة بالاضافة إلى الاوكسجين والهيدروجين، يمكن أن نتحفظ بذلك الماء في قنينة محكمة لسنوات، وأمّا إن أردنا تحليل ذلك الماء في جهاز تحليل فاننا سنحصل على نفس نسبة الهيدروجين و الاوكسجين بالاضافة إلى الحرارة التي يمكن تحسسها من خلال جهاز التحليل. و نقول في الصورة الأولى إنّ مركبنا الكيميائي قد إكتسب طاقة، و نقول في الصورة الثانية: إنّ تحليلنا الكيميائي قد فقد طاقة، و نعود الآن لدراسة «أخشاب الأشجار» حيث تفيد المطالعات الكيميائية أنّها مركبة من اوكسجين وهيدروجين و كاربون و مقداراً من الأملاح المختلفة، و كما نعلم فإنّ الأملاح مأخوذة من الأرض، و الهيدروجين و الاوكسجين من الماء، وأمّا الكاربون فمن الهواء، لأنّ أحد الغازات الموجودة في الهواء هو غاز

المعاد و عالم الاخرة، ص: 91

الكاربون الذي يتكون من إتحاد الاوكسجين بالكاربون، فتقوم خلايا الأشجار في ظل ضوء الشمس بتحليل هذا الغاز فتأخذ الكاربون و تطرح الاوكسجين (و من هنا نقول أنّ الأشجار تنّقي الهواء و تزودنا بالاوكسجين، كما تمنح الغابات و خضرة حدائق المدن الإنسان النشاط و الحيوية). ولكن لاينبغي نسيان قولنا «في ظل ضوء الشمس» و مرادنا من ذلك أنّه حين إنبات الشجرة و تشكيل السليلوز النباتي فانّ هناك مقداراً من الطاقة الشمسية التي تدّخر في الشجرة أيضاً، فمن الطبيعي أن تنبعث تلك الحرارة المدخرة من الشمس لسنوات ضمن عمل الكربنة حين إحراق الشجرة و تحللها إلى اوكسجين و هيدورجين (يعني ماء) و تحرير الكاربون وإتحاده بالاوكسجين.

***

و في الختام لابدّ من الإلتفات إلى هذه

النقطة و هي أنّ الشجرة تقوم بعمل الكربنة و إدّخار ضوء الشمس مادامها خضراء حيّة و مصداق «للشجر الأخضر» أمّا إن جفت فليس لها مثل ذلك العمل.*** و الآن بعد أن إتضح هذا البحث، نعود إلى القرآن الكريم لنرى كيف يجسد لنا معاد و قيامة الطاقة بهذا المثال.

قيامة الطاقة بعد موتها

اشارة

إن إشعال عود الثقاب و الكوّر العظيمة التي تشعل بالأخشاب أو بالفحم الحجري تمثل كل منها إنبعاث و قيامة القيامة، كيف طرح القرآن هذه الحقيقة بعبارات قصيرة؟ الحديث عن صور متنوعة للعودة إلى الحياة في هذا العالم و التي نراه بأعيننا أو نمر عليها بينما لا ندقق فيها. القرآن الكريم من جانبه و بعباراته القصيرة البعيدة المعاني يدعو الناس إلى التمعن في مظاهر القيامة المذهلة، و من ذلك تجدد حياة الطاقة التي يفيد ظاهرها الموت. فقد أثبتنا في البحث السابق بالأدلة الواضحة أنّ كافة الطاقات الموجودة على الأرض- سوى الطاقة النووية- إنّما تستند إلى «ضوء الشمس»، فمثلًا حين يحرق الخشب و الحطب و أوراق الأشجار اليابسة فإنّ الحرارة و الضوء المنبعث منها هو عبارة عن الحرارة و الضوء التي خزنتها تدريجياً لسنوات طويلة من الشمس، و هي تفقدها الآن جميعاً خلال لحظة واحدة أو عدّة ساعات و كأنّها قد جرت إلى عرصة القيامة، نعود الآن إلى القرآن الكريم لنرى كيف يبحث هذه المسألة. فقد ورد الحديث ضمن المعاد و عالم الاخرة، ص: 94

الآيات الأخيرة من سورة يس الآية 80 مواصلة للبحث بشأن القيامة والمعاد: «الَّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ ناراً فَاذَا انْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ».

و يالها من عبارة عجيبة رائعة! و ما ينبغي الإلتفات إليه هنا هو أنّ لهذه الآية كسائر الآيات القرآنية عدّة معاني: بعضها «بسيطة»

ليفهمها عامة الناس و في كل عصر و مصر، و بعضها الآخر «عميقة» للخواص، و أخيراً «عميقة جدّاً» للنخبة من الخواص، أو للعصور و القرون القادمة (بالنسبة لزمان نزول الآية). المعنى الأول للآية الذي أشار إليه بعض قدماء المفسّرين هو أنّ العرب في العصور القديمة كانت تستفيد من بعض أخشاب الأشجار الخاصّة مثل «المرخ» و «العفار» «1» التي تنبت في صحاري الحجاز من أجل إشعال النار، فقد أشارت الآية إلى اولئك بالقول: أنّ اللَّه القادر على الإتيان بالنار من الماء (فالقسم الأعظم من الشجر الأخضر هو الماء) قادر أيضاً على خلق الحياة من باطن الموتى! أو ليس بعد «الماء» عن «النار» شبيه ببعد «الحياة» عن «الموت»؟! فمن يأتى بالنار من الماء، و يحفظ الماء في جوف النار، لا يتعذر عليه إفاضة الحياة على بدن الإنسان بعد موته. و إذا تقدمنا أكثر نرى أنّ مسألة خاصية إشعال النار بواسطة أخشاب الأشجار لايقتصر على تلك الأخشاب المعروفة بالمرخ و العفار، بل تلك الخاصية موجودة في جميع الأشجار- و إن كانت تلك الأخشاب المعروفة تتصف ببعض الخصائص و المواد التي تجعلها أكثر إستعداداً لذلك العمل المعاد و عالم الاخرة، ص: 95

من غيرها- بحيث تولد النار إن دلكت بإحكام مع بعضها. و لهذا السبب تحدث أحياناً الحرائق الهائلة الواسعة في الغابات دون أن يكون للإنسان أي دخل فيها، و لم تكن النار إلّا وليدة الرياح التي ولدت إحتكاكاً بين أغصان الأشجار اليابسة فانبعثت منها، ثم أسهمت إستمرارية الرياح في إتساع رقعة النار و إنتشارها، و هذه هي الجدحة الكهربائية التي تظهر إثر الإحتكاك، وهي تلك النار الكامنة في الواقع في مركز كافة ذرات كائنات العالم (حتى في الأشجار و المياه)

و تبرز في الظروف المعينة، فتنبعث «النار» من «الشجر الأخضر»! يبدو هذا المعنى أوسع حيث يجسد لنا جمع الأضداد في الخليقة ويدل على البقاء في الفناء. أمّا التفسير العميق الذي توصلنا إليه بفضل العلوم المعاصرة فهو عودة الطاقة المدخرة لضوء الشمس حين تركيب السليلوز النباتي (من الكاربون والاوكسجين و الهيدروجين) و التي تنبعث عند إحراق الخشب و الحطب وتحليل السليلوز و تركيب كاربونه باوكسجين الهواء و هذا هو الضوء والحرارة اللطيفة التي تفيض الدفى ء في فصل الشتاء في ذلك الكوخ وسط القرية وتضيئه، فقد قامت قيامتها، و هو يفقد الآن كل ما إختزنه من حرارة طيلة عمر دون أي نقص، بحيث لم ينقص منها حتى إشعال شمعة في لحظة (عليك بالدقة). لا شك أنّ هذا المعنى لم يكن متصوراً حين نزول الآية من قبل عامة الناس، ولكن كما قلنا فإنّ هذا الأمر ليس مدعاة لأية مشكلة، لأن لآيات القرآن عدّة معان تختلف باختلاف المستويات و تبعاً للإدراكات في العصور و القرون المختلفة. فمن عاصر القرآن كان يفهم شيئاً منه، و تفهم اليوم نحن شيئاً أكثر من ذلك.

نقطتان مهمتان

هناك تعبيران في هذه الآية هما أكثر إنسجاماً مع التفسير الأخير. 1- النقطة الأولى أنّ القرآن قال: «فَاذَا انْتُمْ مِنْهُ تُوِقدُونَ». «توقدون» من مادة «وقود» و هو عود الثقاب و الكبريت يطلق عليه في العربي الزناد، و بناءاً على هذا فالقرآن الكريم يعرض صورة حول قدرة اللَّه على الإتيان بالضوء والحرارة من الأشجار الخضراء، و هي نفس القدرة التي تفيض الحياة على الموتى. و هو الكلام الذي ينطبق تماماً على قيامة الطاقة (إنبعاثها)، و ما ذكره المفسرون بشأن أشجار النار «المرخ» و «العفار» أنسب للزناد، و الحال عبرت

الآية بالوقود لا الزناد. 2- النقطة الأخرى التعبير «الشجر الاخضر» الذي يبدو غير ممكناً للوهلة الأولى لدى الذهن بالإتيان من النار من الخشب الأخضر، فما أحراه لو قال «الشجر اليابس» ليكون أكثر إنسجاماً مع هذا المعنى، ولكن لاينبغي الغفلة عن قضية و هي أنّ الشجر الأخضر وحده الذي يستطيع القيام بعمل الكربنة وإدخار الضوء و حرارة الشمس، أمّا الشجر اليابس فلو عرض مئة سنة للشمس لما وسعه إدخار ذرة من طاقتها الحرارية، فيقتصر ذلك الأمر الأشجار الحيّة والخضراء القادرة على القيام بذلك العمل، و عليه فالشجر الأخضر لوحده الذي يمدنا بالنار و هو بمثابة مخزن للطاقة، حيث يحتفظ بالحرارة و الضوء بطريقة معيّنة في خشب البارد و الرطب، و أمّا إن تيبست هذه الأشجار و جفت فقد عطلت فيه عملية الكربنة و إدخار الطاقة. كان ذلك صورة لقيامة الطاقة في القرآن الكريم، و الذي يمثل من جانب آخر معجزة علمية لهذا الكتاب السماوي الخالد.

الطريق الرابع: لم القيامة ليست ممكنة؟

اشارة

لقد تناولنا بالدرس لحدّ الآن المنطق القرآني العميق بشأن الحياة بعد الموت من خلال ثلالة طرق هي: 1- كيفية الخلق الأول. 2- القيامة العامة لعالم النباتات التي نراها مراراً بأعيننا. 3- قيامة الطاقة حتى بشأن الموجودة الخالية من الروح ظاهريا! و نخوض الآن في الطريق الرابع و هو التوجه لمظاهر قدرة اللّة سبحانه في عالم الوجود: ورد في الآية 33 من سورة الأحقاف: «أَوَ لَمْ يَرَوُا أنَّ اللَّهَ الَّذي خَلَقَ السَّموَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحيىَ الْمَوتى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديِر».

رؤيتنا لهذا العالم

عبرنا في إحدى سفراتنا الصيفية من وسط غابة، فطالعنا المشهد الطبيعي الرائع للغابة و الأشجار الهادئة الطافحة بالأسرار، و زمزمة أوراق المعاد و عالم الاخرة، ص: 98

الأشجار التي تعبث بها الرياح، كانت هناك الحيوانات و الحشرات و الطيورولكل مميزاته وحكايته الطويلة الخاصّة به، كان كل ذلك يثير فينا نحن الضيوف العابرون دافع الحيوية و النشاط، و لاسيّما في ظل التعب و الأرهاق الذي عانينا منه بسبب حياة المكننة المعاصرة، فقد عدنا إلى أحضان الطبيعة، الطبيعة التي ملأت بالطائف و الظرائف الجميلة التي تبعث الحياة و السرور في أرواحنا الهامدة، وذلك لأنّ الخطوط و النقوش و المشاهد و المناظر كانت معروفة و مألوفة لأرواحنا، لا من قبيل المناظر المصنوعة التي تفقد الروح و الحركة. طبعاً كل ما شاهدناه هو حكاية الغابة اليوم، و الحال قد يكون لهذه الغابة تاريخ عريق بما يمتد إلى مئات ملايين السنين، و لعلها تستمر في المستقبل و يمرّ عليها مثل هذه المدّة، إن لم تأتي عليها الحياة التكنولوجية المعاصرة الخشنة و الحافة «و القاتلة» لتحيلها إلى خراب دائم. لعل هذه الشجرة الماثلة أمامنا الآن و يبدو

لها ثلاثين سنة قد ولدت مئات الآلاف من المرات لحدّ الآن، فقد ماتت و تعفنت و أصحبت تراب، ثم دبّت فيها الحياة من جديد من خلال بذرة صغيرة فانجذبت لجذورها واستأنفت حياتها، ولايعلم كم مرّة ستتكرر عليها صورة الحياة و الموت في المستقبل. لو شبهنا مجموعة عالم الوجود بتلك الغابة لكانت منظومتنا الشمسية إحدى أشجارها و كرتنا الأرضية أحد أغصانها، و من الممكن أن تكون هذه المنظومة و هذه الكرات أن تكون قد توفت و ولدت آلاف المرات، فقد تعفنت و تلاشت ثم إستعادت حياتها من جديد على غرار تلك الشجرة في الغابة- أو لم يصرّح الجيوفيزيائيون بشأن الانطفاء التدريجي للعالم و ظهور

المعاد و عالم الاخرة، ص: 99

حالة البرودة و الرتابة فيه و من ثم تجدد الحياة بانفجار جدحة عظيمة أخرى في مركز ذلك العالم الذي لاروح فيه، ففي الحقيقة إنّ حياتنا ليست بعيدة الشبه عن حياة حفنة من الكائنات الحيّة المجهرية على ورقة طافية وسط محيط عظيم، كل الذي نراه هو أمواج تعبث بشراعنا يميناً و شمالًا، غير أنّه ليس من الواضح لدينا أنّ هذه الأمواج تنطلق من أية نقطة في المحيط. و بناءاً على هذا فما نورده بشأن عظمة عالم الوجود إنّما يمثل قبس صغير لا يعد شيئاً إزاء سعة الوجود، فهو على درجة من الصغر يصعب حتى تصورها.

***

إلّا أن نفس هذا القبس الصغير هو عظيم للغابة و محيّر، و هو لوحة رائعة ومذهلة في عظمتها و بنيتها. نعلم أنّ أبعاد هذا العالم في الماضي خمنت بثلاثة آلاف مليون سنة ضوئية (ذلك المقياس الفضائي الذي تبلغ سنته مالايحصى و يقدر مقارنة بوحدات القياس الأرضية)، ولكن إصطدم أحد العلماء أخيراً في إحدى مطالعاته بكوكب

أو منظومة في الجانب الآخر من المجرّات محتملًا أنّها تبعد عنّا مسافة 12 ميلون سنة ضوئية! و إن إدعى هذا العالم أنّ الفضاء بعد ذلك الكوكب يغط في ظلمة «العدم»، و ليس ورائه شي ء، إلّاأنّ الأفضل أن نقول: في ظلمة «جهلنا وقلّة معرفتنا»، و كما تضاعفت آفاق العلم خلال بضع سنوات، فلعلها تزداد بنفس هذه النسبة خلال السنوات القادمة و كذلك .... و في هذا العالم العظيم يوجد كل نوع من أنواع الموجودات و الكائنات التي يمكن أن نتصورها، فهناك الحياة في صور مختلفة و متنوعة بأجهزة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 100

وإمكانات غاية في الاختلاف، حتى قال العلماء بأنّ كرتنا الأرضية لوحدها و في مجال الحشرات تضم أكثر من مئتي ألف نوع تختلف عضوية أبدانها تماماً عن بعضها البعض الآخر، و إن قبلنا ما أورده علماء الطبيعة أنّ في المجرّة التي تعتبر منظومتنا الشمسية جرحاً بسيطاً فيها مئات ملايين الكوالكب المأهولة، مع سائر الكائنات الحيّة المتنوعة الاخرى حتى يستحيل علينا تصور أطوار الحياة و كيفية ممارستها من قبل الكائنات، و هذا ما يقودنا إلى إدراك التنوع العجيب للحياة في هذا العالم. و هنا نتأمل قول القرآن الكريم: «اوَ لَمْ يَرَوْا انَّ اللَّهَ الَّذي خَلَقَ السَّموَاتِ وَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحيىَ الْمُوتى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَديِر» «1». و هل إحياء الموتى شي ء أرفع و أهم و أعقد من ظهور هذه العوالم الواسعة بكائناتها المتنوعة؟ حقاً لايرى ذلك صعباً إلّا من غرق في ذاته و قدرته المحدودة الزهيدة، بينما العلماء الذين ينظرون بآفاق واسعه إلى عالم الوجود و يقفون على مدى العجائب التي تكتنفه، فهم يرون بساطة عودة الإنسان إلى

تلك الحياة بعد الموت. و هذا ما صرح به القرآن الكريم بصيغة أخرى فقال: «انَّما امْرُهُ اذَا ارادَ شَيْئاً انْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذي بِيَدهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَى ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» «2». فالآيتان و بالالتفات إلى الآيات السابقة تثبتان إمكانية القيامة عن طريق عمومية قدرته سبحانه و تعالى

***

إشكال محيّر

مادام الكلام في مسألة «عمومية قدرة الخالق» و قد اعتمد عليها بشأن القيامة، لا بأس بطرح إشكال يبدو أنّه حيّر البعض: يقول الإشكال: إن أقررنا بعمومية قدرة اللَّه فاننا سنواجه تناقضاً عجيباً و هو هذا السؤال: هل يستطيع اللَّه خلق جسم عظيم و لا يستطيع أن يحركه؟ هل يستطيع خلق كائن و لايستطيع إعدامه؟ إن قلنا يستطيع، فقد قبلنا عدم استطاعته تحريكه أو اعدامه، و إن قلنا لايستطيع، فقد أنكرنا قدرته أيضاً! أو يقال: هل يستطيع خلق شبيه له؟ إن قلنا به ذلك فقد قلنا بالشريك، و إن قلنا ليس له ذلك فقد حددنا قدرته!

جواب

لايبدو هذا الإشكال كما صوره البعض صعباً محيّراً و لا مهماً، و يمكن الردّ عليه بعدّة وجوه، و يمكن توضيحه بصورة أخرى وهي: قد نصطدم في مجال الرياضيات ببعض المسائل التي يقال عنها «صورة المسألة خاطئة» يعني ليس هناك من جواب للمسألة أصلًا، مثلًا لو قال شخص: لدينا عشرة أمتار قماش نريد تقسيمها على خمسة أفراد بحيث «يحصل أي منهم على أقل من خمسة أمتار» فإننا نقول له على الفور إن هذه المسألة خاطئة ومتناقضة من أولها إلى آخرها، لأننا نقول في أول الأمر لدينا عشرة أمتار قماش، ثم نقول في الأخير لدينا خمسة و عشرين متراً، فمن البديهي ألا تكون هناك إجابة على هذا السؤال. و الأسئلة المذكورة بشأن قدرة اللَّه من هذا القبيل. فنحن نقول في المعاد و عالم الاخرة، ص: 102

البداية «يخلق اللَّه جسماً» يعني أنّ ذلك الجسم مخلوق، و بالطبع فإنّ كل مخلوق محدود (و اللَّه وحده اللامحدود) ثم نقول في الأخير «لايستطيع أن يحركه» ومفهوم ذلك أنّ ذلك الجسم لامحدود، و عليه فستكون صيغة السؤال

كالاتي: هل يستطيع اللَّه أن يخلق جسماً محدوداً و لامحدوداً؟! فمن البديهي أنّ صورة هذه المسألة خاطئة من حيث ترتيب العبارة والسؤال فلا يوجد جواب على مثل هذه السؤال. أو السؤال الآخر: فحين نقول يخلق موجودا؛ يعني حادث لا أزلي، و عند ما نقول مثله فهذا يعني أنّه أزلي، و عليه فسيكون السؤال بهذه الصيغة «هل يستطيع اللَّه أن يخلق موجوداً حادثاً و أزلياً في نفس الوقت!». فهل يحتاج مثل هذا السؤال إلى جواب؟ ... قطعاً لا. و للوقوف على المزيد بهذا الخصوص عليك بمراجعة كتاب «معرفة اللَّه» للمؤلف.

الطريق الخامس: أصحاب الكهف

هل قصة أصحاب الكهف حقيقة تاريخية، و إن كانت كذلك فما علاقتها بقضية القيامة؟ هل يقر العلم مثل هذا النوم الطويل، و هل من دليل على ذلك؟ تطالعنا في القرآن الكريم سورة الكهف التي تسرد و قائع فتية مؤمنين هربوا من قومهم الوثنيين الذين لا يؤمنون باللَّه و المعاد ثم آووا إلى الكهف. لقد دفعت الأفكار السامية اليقظة لهؤلاء الفتية و نزعتهم التحررية إلى الإعتقاد بخرافة الوثنية التي سادت الأجواء آنذاك و فرضت القيود و الأغلال على الناس التي كرست صنمية الحكومات التي إستخفت بأفكار الناس ومهدت السبيل أمام إلوهيتهم و تسلطهم. و قد كان اولئك الفتية أصحاب مراكز حساسة في الدولة و المجتمع، وقد آثرت الحرية من هذه الخراقات و الذلة و الهوان و غادرت سرّاً ديارها وأهلها إلى مكان مجهول حتى إنتهت إلى كهف فاختارته كموضع للإستقرار، و قد سيطرت عليها في الكهف حالة عجيبة من النوم الطويل العميق، فقد نامت مئات السنين، و حين نهضت من نومها العميق- و على ضوء العادة- ظنت المعاد و عالم الاخرة، ص: 104

أنّها لبثت يوما أو بعض

يوم، إلّاأنّ كافة الشواهد و الأوضاع المحيطة بالكهف كانت تشير إلى أنّ الأمر ليس كذلك، و من هنا كان هناك ترديد في الموضوع. ثم إتضحت حقيقة الأمر بعد أنّ قدم أحدهم إلى مدينة قرب الكهف يشتري طعاماً، فأخبر الجميع بالحقيقة، ففهموا أنّ حادثة عجيبة قد وقعت، فلم تكن العملة التي في أيديهم تشير إلى أنّها تعود إلى مئات السنين، بل طريقة تعاملهم مع أهل المدينة- التي غادروها قبيل قرون وقد تبدلت كل العادات والتقاليد و الأعراف و الحياة السائدة آنذاك- إضافة إلى إطلاعهم على تلك القضية التاريخية التي تفيد غياب عصبة من الشباب من ذوي المناصب العالية و التي تبرهن صحة وقوع تلك الحادثة. كانت تلك الحادثة درساً عظيماً بالنسبة لُاولئك الذين ينظرون بعين الريب والشك إلى موضوع القيامة، فإن كانت الحياة بعد النوم «أخو الموت» بل كان «نفس الموت» ممكنة، فإحياء الموتى هو الآخر لا يبدو مستعبداً، فكانت تلك الحادثة إنعطافة كبيرة في ثقافتهم الدينية ... و هذا هو الطريق الآخر الذي سلكه القرآن الكريم بهدف إزالة قضية إستبعاد المعاد و تقريبها إلى أذهان عامة الناس: «اذْ آوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّى ءْ لَنَا مَنْ أَمْرِنَا رَشَداً* فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ سِنيْنَ عَدَداً* ثُّمَ بَعَثْنَا هُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ احْصَى لِما لَبِثُوا امَداً* وَ كَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلُ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمَا اوْ بَعْض يَوْمٍ قَالُوا ربُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُم فَابْعَثُوا احَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هَذِهِ الَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرُ ايُهَا ازْكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزُقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لَايُشْعِرَنَّ بِكُمْ احَداً. انَّهُمْ انْ يَظْهَرُوا

المعاد و عالم الاخرة، ص: 105

عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ اوْ يُعيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ وَلَنْ

تُفْلِحُوا اذاً ابَداً* وَكَذلِكَ اعْثَرنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا انّ وَعْدَاللَّهِ حَقُّ وَ انَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا» «1». هل وردت هذه القصة في سائر الكتب السماوية غير القرآن؟ هل ذكرت في المصادر التاريخية؟ هل يعقل مثل هذا العمر الطويل لبشر- و في النوم و دون وجود الطعام؟ وبغض النظر عن كل ما سبق كيف لهذه الحادثة أن تساعد في إدراك مسألة المعاد؟ هذه هي الأسئلة التي تثار حول هذه الحادثة و لابدّ من الردّ عليها جميعاً.

***

للإجابة على السؤال الأول و الثاني لابدّ من القول: لم تتعرض أي من الكتب السماوية لقصة أصحاب الكهف سواء الكتب الأصلية أو المحرفة، و لابدّ أن يكون الأمر كذلك، حيث يفيد التاريخ أنّ تلك الحادثة قد وقعت في القرون التي أعقبت ظهور المسيح عليه السلام. و بالضبط وقعت على عهد دقيانوس الذي جرع المسيحيين أنواع العذاب، فقد صرّح المؤرخون الاوربيون أنّ هذه الحادثة وقعت خلال سنوات 49 إلى 251 م، كما يرون أن مدّة نومهم إستغرقت 157 سنة و يطلقون عليهم «نيام افسوس السبع» «2» بينما يعرفون عندنا ب «أصحاب الكهف». و لابدّ أن نرى الآن أين منطقة «افسوس» و من هو أول من كتب بخصوصهم، و في أي قرن كانوا، فافسوس أو افسس بضم الألف و السين هي المعاد و عالم الاخرة، ص: 106

إحدى مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية و هي قسم من روما الشرقية القديمة) تقع على بعد أربعين ميلًا إلى الجنوب الشرقي من «ازمير» التي كانت تعتبر عاصمة الملك «ايوني». و لافسوس شهرة عالمية بسبب معبدها المعروف «ارطاميس» و الذي يعد من عجائب الدنيا السبع. «1» يقال: قم العالم النصراني «جاك» زعيم الكنيسة السورية لأول مرّة في القرن الخامس

الميلادي بتأليف رسالة باللغة السريانية شرح فيها قصة أصحاب الكهف. ثم قام «جورجيوس» بترجمتها إلى اللغة اللاتينية و أطلق عليها اسم «جلال الشهداء». «2» و هذا يدل بدوره على أنّ تلك الحادثة قد اشتهرت لقرن أو قرنين قبل ظهور الدعوة الإسلامية في الأوساط المسيحية و اهتمت بها الكنيسة، و كما ورد سابقاً فإنّ هناك بعض الاختلافات- من قبيل مدّة نومهم- مع ما ورد في المصادر الإسلامية حيث ذكر القرآن تلك المدّة صراحة على أنّها كانت 309 سنة. من جانب آخر فقد نقل «ياقوت الحموي» في كتاب «معجم البلدان» (ج 2 ص 806) و «إبن خردادبه» في كتاب «المسالك و الممالك» (ص 106- 110) و «أبو ريحان البيروني» في كتاب «الآثار الباقية» (ص 290) أنّ جمعاً من السيّاح وجدوا كهفاً في مدينة «آبس» كان يضم بعض الأجساد اليابسة ويعتقدون أنّها ترتبط بأصحاب هذه القصة. و الذي تفيده الآيات القرآنية في سورة الكهف و ما ورد في الروايات المعاد و عالم الاخرة، ص: 107

الإسلامية من أسباب النزول بهذا الخصوص أنّ الحادثة المذكورة كانت مشهورة أيضا كحادثة تأريخية بين الأوساط اليهودية، و هكذا يتبيّن أنّ هذه القصة قد وردت في مختلف المصادر التاريخية للأقوام.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 109

حقيقة أم خيال؟

اشارة

قلنا أنّ قصة أصحاب الكهف (نيام مدينة افسوس) حقيقة تاريخية ذكرت أسنادها في التواريخ الشرقية و الغربية، و نسلّط الضوء الآن على هذه القصة على أساس و جهات النظر العلمية المعاصرة: ربّما يتردد البعض إزاء تلك المدّة الطويلة لنوم أصحاب الكهف و لا يراها تنسجم و الموازين العلمية فيعتقد أنّها من قبيل الأساطير و الخرافات وذلك لأنّ مثل هذا العمر الطويل الذي يستغرق عدّة مئات من السنين يبدو مستبعدا

بالنسبة لأفراد البشر في حالة اليقظة فضلًا عنهم في حالة النوم، هذا من جانب، و من جانب آخر لو سلمنا بمثل هذا العمر لمن كان في حالة اليقظة فانّنا لا نسلم به بالنسبة لمن كان في حالة النوم و الرقود، فهناك مشكلة الأكل و الشرب، فكيف يبقى الإنسان حياً هذه المدّة دون طعام وشراب، و لو فرضنا متوسط ما يلزم الإنسان من طعام و شراب كل يوم كيلواً واحداً ولتراً من الماء، فالذي يلزم لأصحاب الكهف أكثر من طن من الطعام و مئة ألف لتر من الماء، و هو المقدار الذي لايمكن خزنه في الجسم. و من جهة أخرى فلو أغضفنا الطرف عن كل ما مضى فهناك إشكال آخر يرد هنا و هو أنّ بقاء الجسد في ظل ظروف رتيبة و بهذه المدّة الطويلة إنّما

المعاد و عالم الاخرة، ص: 110

يؤثر على عضوية البدن و يسبب خسائر فادحة.

***

قد تبدو هذه الإشكالات كعقبات كؤود تعترض سبيل هذه المسألة للوهلة الأولى و الحال ليس الأمر كذلك، فالمدّة الطويلة للعمر- لمئة سنة وحتى أكثر من ألف سنة- ليست بالمسألة غير العلمية، فانّنا نعلم بعدم وجود مدّة معينة لطول العمر بالنسبة لأي كائن حي من الناحية العلمية بحيث يقطع بموته الحتمي لمجرّد حلول تلك المدّة، بعبارة أخرى صحيح أنّ القوى البدنة للإنسان بالتالي محدودة مهما كانت و آيلة إلى الافول، إلّا أنّ هذا لا يعني عدم إمكانية عيش و تعمير إنسان أو كائن حي آخر لأكثر من المدّة العادية، و مثلًا حين يبلغ الماء درجة المئة الحرارية فإنّه يغلي، و إن بلغ الصفر يجمد، فإن بلغ الإنسان مئة و خمسين سنة توقف قلبه عن الدق و حلّ أجله، بل معيار

طول عمر الكائنات الحيّة يعتمد إلى حدّ على أوضاع وظروف الحياة المعاشية و يتغير تبعاً لتغيرها. و الشاهد الحي على هذا الكلام هو إنّنا نرى من جهة أنّ أحداً من علماء العالم و مفكريه لم يصرّح بوجود ميزان معين لعمر الإنسان، و من جانب آخر فقد تمكنوا في مختبراتهم أحياناً من مضاعفة طول عمر بعض الكائنات الحيّة إلى ضعفين، بل و أحياناً أخرى إلى أثني عشر ضعفاً أو أكثر، و هم يبشروننا اليوم بأنّ عمر الإنسان سيزداد في المستقبل عدّة أضعاف عمره الفعلي في ظل تطور الأساليب العلمية. هذا خلاصة الكلام بشأن مسألة طول العمر. و أمّا بالنسبة للطعام و الشراب في هذا النوم الطويل، فلو كان النوم عادياً لكان الحق لمن أورد الإشكال في أنّ هذه القضية لا تتفق و أسس المعاد و عالم الاخرة، ص: 111

العلم، لأنّ إستهلاك طعام البدن حين النوم العادي أقل منه عادة في اليقظة، و على هذا الأساس فسيكون كثير جداً بالنسبة لتلك السنوات المديدة، ولكن ينبغي الإلتفات إلى وجود نوم في عالم الطبيعة يكون إستهلاك طعام البدن فيها قليلًا للغاية.

السبات الشتوي

هناك الكثير من الحشرات التي تنام طيلة الشتاء، أي تغط في نوم شتائي، وتتوقف تقريباً مختلف النشاطات الحيوية في مثل هذا النوع من النوم، فلا يبقى إلّابصيص منها، فالقلب يتوقف تقريباً عن الدق، أو بتعبير أدق تكون دقاته على درجة من البطى ء بحيث لا يمكن الشعور بها، و في مثل هذه الحالة يمكن تشبيه البدن بالكوّر العظيمة التي تبقى منها ولّاعة مشتعلة حين إنطفائها. فمن الواضح أنّ ما تتطلبه تلك الكورة من المواد النفطية في اليوم لتقذف بلهيبها إلى عنان السماء يمكنه أن يكفي لعشرات بل مئات السنين

لإشكال ولّاعة صغيرة (طبعاً يتوقف هذا الأمر على الشعلة العظيمة حال إيقاد الكورة وولّاعتها). يقول العلماء بشأن سبات بعض الحشرات لو أخرجنا و زغاً من مكانه حين شتاء، فانّه يبدو ميتاً، لا هواء في رئته، و دقات قلبه ضعيفة لايمكن تحسسها ... هناك الكثير من الحيوانات التي تسبت في الشتاء كالفراشات والحشرات والحلزونات و الزواحف، كما قد تسبت بعض الحيوانات من فصيلة الثدييات، فانشطة الحيوانات تبطى ء جدّاً في مدّة سباتها فتستهلك دهنياتها المدخرة في بدنها تدريجياً، و المراد من ذلك أنّ لدينا نوم تقل المعاد و عالم الاخرة، ص: 112

فيه الحاجة إلى الغذاء جدّاً، و تبلغ الأنشطة الحياتية فيه درجة الصفر، و هوالأمر الذي يحول دون إستهلاك الاعضاء و طول عمر هذه الحشرات، و يبدوأنّ السبات الشتوي فرصة ثمينة بالنسبة للحيوانات التي يحتمل عدم استطاعتها الحصول على الطعام في الشتاء.

نموذج آخر: دفن المرتاضين

لقد شوهد أيضا بشأن المرتاضين أنّ بعضهم و بمرأى من الناس الذين لفهم الذهول و الأندهاش قد وضعوا في تابوت و دفنوا في التراب لمدّة اسبوع، وما إن تمّت تلك المدّة حتى أخرجوا و قد عادوا إلى حياتهم العادية بعد أن أجري لهم تنفس صناعي. قد لا تكون الحاجة إلى الطعام خلال هذه المدّة، إلّاأنّ الحاجة إلى اوكسجين الهواء في غاية الأهميّة، فالكل يعلم أنّ خلايا الدماغ حساسة جدّاً تجاه الاوكسجين بحيث لاتستغني عنه أبداً سوى لبضعة دقائق. و السؤال الذي نطرحه: كيف يتحمل هذا المرتاض الهندي قلّة الاوكسجين لمدّة تستغرق اسبوعاً؟ لا تبدو الإجابة على هذا السؤال صعبة بالنظر لما أوردناه سابقاً، فنشاط بدن المرتاض خلال هذه المدّة يتوقف تقريباً، و عليه تقل حاجة الخلايا بشكل ملحوظ إلى الاوكسجين و إستهلاكه بحيث يكفي الهواء

الموجود في التابوت لتغذية خلايا البدن طيلة تلك المدّة.

تجميد بدن الإنسان الحي

هناك عدّة نظريات و أطروحات بشأن تجميد بدن الأحياء بما فيها

المعاد و عالم الاخرة، ص: 113

الإنسان من أجل إطالة عمرها، و قد وردت بعض تلك الأبحاث حيز التطبيق. و على ضوء هذه النظريات فإنّه يمكن إيقاف حياة الإنسان أو الحيوان بعد تعريضه إلى برودة تصل إلى الصفر دون أن يموت حقيقة، و بعد مدّة معينة يجعل في درجة حرارة مناسبة فيعود إلى حالته العادية ثانية. و قد طرح مثل هذا الإقتراح بخصوص الرحلات الفضائية إلى الكرات البعيدة التي قد تستغرق أحياناً مئات أو آلاف السنين حيث يجعل بدن رائد الفضاء في محفظة خاصة و تجميده، و بعد سنوات مديدة حين يقترب من الكرات المطلوبة تعاد إليها الحرارة الاعتيادية بواسطة جهاز تلقائي فيعود إلى حالته العادية دون أن يكون قد هدر شيئاً من عمره. لقد نشر هذا الخبر في إحدى المجلات العلمية، كما ألف «روبرت نيلسون» في السنوات الأخيرة كتاباً بشأن تجميد بدن الإنسان لإطالة عمره و قد كان لذلك الكتاب صدى واسعاً في عالم العلم و المعرفة. و قد صرّح في مقالة وردت في المجلة المذكورة بهذا الخصوص أنّ فرعاً علمياً من بين الفروع قد ظهر بهذا الشأن، و جاء في المقالة المذكورة: «إنّ الحياة الخالدة كانت من الأحلام الذهبية و العريقة للإنسان على مدى التاريخ، أمّا الآن فقد أصبح هذا الحلم حقيقة، يدين بالفضل للتطور الهائل الذي حققه العلم المعاصر الذي يعرف بعلم الكريونيك (العلم الذي يصحب الإنسان إلى العوالم المنجمدة و يحفظه كبدن منجمد على أمل أن يعيده العلماء يوماً إلى حياته). هل يعقل هذا المنطق؟ إنّ أغلب العلماء و المفكرين البارزين يفكرون في

هذه المسألة من عدّة جوانب، و قد خاضت فيه بعض الصحف العالمية،

المعاد و عالم الاخرة، ص: 114

والأهم من كذلك أنّ هناك برنامجاً الآن بهذا الخصوص في حيز التنفيذ» «1». و قد أعلنت الصحف قبل مدّة أنّه ثم العثور في الثلوج القطبية و التي تدّل أغطيتها على أنّها تعود إلى ما قبل آلاف السنين على سمكة منجمدة وبمجرّد أن قذفت في ماء معتدل بدأت حياتها من جديد وقد أصابت الجميع بالذهول لما شرعت بالحركة. واضح أنّ الاجهزة حتى في حال الانجماد لا تتوقف كما هي عليه الحال في الموت، لأنّ العودة إلى الحياة في تلك الحالة ليست ممكنة. و الذي نخلص إليه ممّا مرّ معنا هو إمكانية إيقاف الحياة و شل حركتها لتتحرك ببطى ء تام، و الدليل على ذلك مختلف الدراسات و الأبحاث العلمية الواردة بهذا الشأن. و في هذه الحالة يبلغ إستهلاك البدن للطعام الصفر، يمكن للاحتياطي الزهيد المخزون في البدن أيديم الحياة بهذا البطى ء لسنوات عديدة.

***

قطعاً نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماً عادياً طبيعياً على غرار نومنا، بل كان نوماً إستثنائياً، و عليه فليس من العجيب ألا يشكو من قضية الطعام ولا من الضرر على مستوى عضوية البدن بسبب ذلك النوم الطويل! و الطريف في الأمر أنّ الذي يفهم من آيات سورة الكهف بشأن هذه المسألة هو أنّ طريقة نومهم كانت تفرق عن النوم الاعتيادي: «وَ تَحْسَبُهُمْ ايْقَاظاً وَ هُمْ رُقُود ... لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مَنْهُمُ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مَنْهُمْ رُعْباً» «2»

.المعاد و عالم الاخرة، ص: 115

فالآية تدل على أنّ نومهم لم يكن عادياً، بل كانوا يعيشون حالة تشبه حالة الميت- بعين مفتوحة-، أضف إلى ذلك فقد صرّح القرآن بأنّ الشمس لم تكن

تشرق على جوف الكهف، و بالنظر إلى أنّ الكهف كان في أحد مرتفعات آسيا الصغرى فقد كانت منطقة باردة؛ الأمر الذي يكشف عن الشرائط الاستثنائية لنومهم، من جانب آخر القرآن قائلًا: «... وَ نُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الَيمينِ وَ ذَاتَ الشِّمالِ» «1». و هذا يدل على أنّهم لم يكونوا يعيشون عملية رتيبة واحدة، فما زالت هنالك بعض العوامل الخفية الدخيلة في الأمر و التي بقيت مجهولة علينا (فيحتمل كانت تحدث مرّة كل سنة) تقليبهم على جهة اليمنى و الشمال للحيلولة دون المساس بعضوية أبدانهم.

***

يبدو إنّ البحث العلمي بهذا الشأن قد إتضح تماماً، و النتيجة التي يخلص إليها منه لا تدع من مجال للنقاش بشأن مسألة المعاد، و ذلك للشبه الواضح بين النهوض من ذلك النوم الطويل و النهوض للحياة بعد الموت والذي يقرب قضية المعاد إلى الأذهان.

الطريق السادس: فترة الجنين شبح من القيامة

اشارة

«يَا ايُّها النَّاسُ انْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَانّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْر مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ في الأَرحَامِ مَا نَشاءُ الَى اجَلٍ مُسَمًى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» «1»

. إنّ الاعتياد على شي ء رغم أنّه يحل كثيراً من مشاكلنا إلّاأنّه قد يكون مصلّاً أحياناً، و ذلك لأنّ بعض المواضيع الساذجة التي لم نرها سابقاً ونتعودها تبدو لنا مهمّة من قبيل نمو أسنان الفرس أو الطير الذي يضع البيض الكروية أو المخروطية الشكل بحيث تتناقلها الألسن بشي ء من الغرابة، بينما تبدو لنا عادية تماماً كسائر المواضيع العجيبة للغاية و التي تنطوي على عدّة أسرار و ذلك لتعودنا عليها، فعادة ما نسمع أنّ السيدة الفلانية أنجبت ولداً فنقول: مبارك عليها إن شاءاللَّه، إلّاأنّنا لا نكلّف أنفسنا عناء أي تفكير بالحوادث العجيبة

والتغيرات التي عرضت على رحم المرأة طيلة تسعة أشهر والتي لايمكن توضيح حقيقتها بمئة كتاب، فذرة ترابية ترد البدن الإنساني عن طريق النباتات فتمتزج معه فتصير بهيئة خلية حيّة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 118

في الرحم و تختلط بخلية أنثوية لتشكل بويضة، ثم ينشط هذا الكائن الآحادي الخليّة بسرعة مذهلة ليشق طريقه التصاعدي الهندسي خلال عدّة شهور ليتحول إلى كائن له آلاف الملياردات من الخلايا. و كأنّ فريقاً من الرسّامين المهرة قد تجمعوا في ذلك الوسط المظلم وانهمكوا ليل نهار بالرسم فأحالوا كل مجموعة من هذه الخلايا بشكل و قد سبغوا عليه ألواناً و كيفيات خاصّة معينة. نعم هناك عشرات المهندسين و الفيزيائين و الكيميائين الذين يتفنون في صنع أجهزته الحساسة و الدقيقة و يصنعون كائناً من عدّة غرامات من الحديد إلى جانب بعض الغرامات من الكالسيوم و الفسفور و الكاربون و ...

ومقدار كثير من الماء الكائن الذي يعجز عن مصافاته أكبر العقول الألكترونية و أعظم الصناعات العالمية الثقيلة و أدق الأدوات و الوسائل والأجهزة و أجمل ألواح الدنيا. و الجدير بالذكر أنّ الإنسان يتابع بعد ولادته حركة هادئة و تدريجية ذات تكامل كمي لا كيفي، فحركته في المحيط الهائج للرحم سريعة جدّاً ومغيرّة وهي تكشف عن غطاء عجيب كل اسبوع بل كل يوم. إنّ التطورات المتتالية و المذهلة للجنين في عالمه هي بمثابة الذهول من جراء تحول إبرة صغيرة بعد عدّة شهور إلى طائرة تحلق دون طيار، فالجنين حين يكون في مرحلة «المورول» و خلاياه كحبّة ثمرة التوت تجتمع حول بعضها دون أن يكون لها شكل مشخص، و حين يكون في مرحلة «البلاستول» و تظهر حفرة التقسيم التي تعتبر بداية لتقسيم نواحي الجنين، و حين

يبلغ الطبقات الثلاث للكاسترول و هي «الاندوديرم» و «الاكتوديرم» و «المزوديرم» ففي كل هذه المراحل تكون خلايا الجنين المعاد و عالم الاخرة، ص: 119

شبيهة لبعضها البعض الآخر و لايوجد أدنى أثر لاختلاف أعضاء الإنسان، ولكن فجأة تحدث تغييرات في الأغشية الثلاث للجنين بحيث تتغير أشكالها بما ينسجم و الوظيفة التي تقوم بها فتبدأ الأعضاء بالبروز، لا أحد يعرف أي الظروف دعت لحصول هذه التغيرات في الخلايا المتشابهة تماماً، فأسرارها مكتومة خفيفة كسائر أسرار الجنين، و بالطبع تتم كل هذه المراحل في وسط لا سبيل للوصول إليه و يخضع تماماً للسيطرة الداخلية للبدن. القرآن الكريم من جانبه يخاطب اولئك الذين يرون إستحالة الحياة بعد الموت بأنّ القيامة و البعث سوف لن تكون أبعد ممّا تشاهدونه من هذا التبدل السريع الذي تتحول بموجبه النطفة إلى إنسان، و عليه فكيف يمكن للإنسان الشك في القيامة و هو يشاهد علم الجنين. و الآية التي تصدرت البحث، أشارت في البداية إلى تبدل التراب بكائن حي و هي طفرة عظيمة، ثم أشارت إلى المراحل المختلفة للجنين و التي تعتبر كلها قفزات متتالية نوعية بالنسبة للجنين، ثم يدعو منكري البعث و القيامة إلى التوقف عند هذه المسائل، و في عصر لم يكن فيه علم الأجنة علم مستقبل، بل لم يكن حتى جزءاً من العلوم، فلم تكن هناك سوى معلومات ناقصة بهذا الشأن، والتعبير القرآني في الآية المذكورة عن القيامة بالبعث كأنّه إشارة لطيفة إلى معنى «الطفرة» التي تحصل في القيامة على غرار دنيا الرحم، و هذا طريق آخر من الطرق التي سلكها القرآن الكريم من أجل تعريف الناس بالقيامة.

شبح القيامة

الحقيقة هي أنّنا إذا أردنا أن نجسد شبح القيامة و نقارنه بوضع الحياة

المعاد

و عالم الاخرة، ص: 120

في هذا العالم، فإنّ أفضل طريق لذلك هو ما نفكر به حول الإنسان في عالم الجنين والذي يبلغ العقل و الشعور ثم يفكر في المراحل التي تعقب الولادة، فسوف يكتشف من خلال القرائن: 1- أنّ محيط الرحم محدود جدّاً و لذاته زهيدة و إمكاناته قليلة و مدّته قصيرة مثل محيط هذا العالم إزاء العالم الآخر بعد الموت، فهو صغير ومحدود وزهيد و قصير المدّة. 2- أنّ الفترة التي يعيشها الجنين هي فترة إستعداد و تأهب من أجل القدوم على محيط أوسع و أكبر كهذا العالم- لا أنّها فترة مثالية مستقلة- فهي بمثابة الحياة في هذا العالم حيث تعتبر هذه الحياة مرحلة إستعداد وتأهب لتلك الحياة الخالدة في العالم الآخر. 3- حياة الجنين تنطوي على أنواع المشاكل و الويلات كالحياة الدنيا في هذا العالم إزاء الحياة الآخرة مشوبة بمختلف الكدورات و المنغّصات.

القيامة في تجليات الفطرة

اشارة

* إن خلقنا للفناء فكيف نفسر غريزة حبّ البقاء؟

* لو لم تكن القيامة قضية فطرية، لماذا لم تنفك هذه العقيدة عن البشر على مدى التأريخ؟

* ليس من المعقول أن تكون هناك في باطننا محكمة، و ليس هنالك من حساب و كتاب في هذا العالم الكبير!

***

تمّت الأبحاث الابتدائية حول القيامة. و حان الآن دخول ذي المقدمة فنتناول بالبحث عن أدلة إثبات ذلك العالم بخصائصه و مميزاته على ضوء ما يسعه إدراكنا نحن الذين نعيش السجن في الجدران الأربعة لهذه الدنيا.

1- الفطرة، أول دليل على الطريق

لندع كل شي ء جانباً و لنستمع إلى النداء الذي ينطلق من باطننا، فهل هناك زمزمة عن الحياة بعد الموت، هل هذه المسألة مطروحة لدى القلوب أم لا؟ لماذا إتجهنا في البداية إلى هناك؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 122

لا داعي لهذا التعطيل ... لأنّ حوادث العالم ظهرت هناك سابقاً. توضيح ذلك: كما تتألف روحنا من جهازين «تلقائي» و «غير تلقائي» فإنّ القوانين الكبرى للعالم قد تبلورت في مجالين؛ قوانين الخلق «التكوين» و قوانين التعاقد «التشريع» و كأنّ القوانين الأولى تشكل جهازنا الروحي التلقائي و الثانية غير التلقائي. فقوانين الخلق تشق سبيلها دون إرادتنا و عزمنا و توجهنا، و هي على غرار أجهزتنا التلقائية التي لا تكترث لإرادتنا، أمّا القوانين التشريعية و ما يتعلق بالتربية و التعليم فهي تابعة لإرادتنا، و ممّا لاشك فيه أنّ كل قانون بصفته قانوناً سماوياً أوحي للنبي قد كانت له جذور في الخليقة و قد صودق من قبل مجلس الخليقة، و الحقيقة هي أنّ هذين الجهازين هما الخيوط الأصلية لنسيج الوجود، فهل يمكن لخيوط قماش أن تتضارب مع بعضها؟

قطعا لا. و إلّالما كان هناك قماش و لابدّ أن تكون مكملة لبعضها البعض للحصول

على قماش جميل، على سبيل المثال وجودنا في هذا العالم دون علم يحيله إلى خواء لاروح فيه و ليس له من قيمة، و من هنا فإن عصب عالم الوجود تكاتف ليسوقنا نحو العلم والمعرفة. فقد طرح بادى ء الأمر حبّاً شديداً في أعماق روحنا بحيث لاينفصل عنّا لحظة من المهد إلى اللحد، فأحياناً بمطالعة المجرّات و أخرى بما يجري في المريخ و يوماً بخلايا أبداننا و آخر بأسرار أعماق البحار و المحيطات والغابات، والخلاصة إنّ هذا المحرك التلقائي لاينفك عنّا لحظة واحدة. و الطريف إنّنا نشاهد في التعاليم الدينية شبيه ذلك تجسيداً لنداء الخلقة والفطرة: «اطْلِبُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمَهْدِ الَى الْلَّحْدِ» «1».

المعاد و عالم الاخرة، ص: 123

و عليه فليس فقط لأصل «التوحيد» بل جميع الأصول و الفروع وتعليمات الأنبياء جذور في فطرة الإنسان و إنّ كافة و صايا الأنبياء على كافة الأصعدة إنّما تربي الفطرة الإنسانية و تنميها، و هنا نخلص إلى نتيجة مفادها إننا إذا شعرنا بتعلق فطرتنا بشي ء فلابدّ أن يكون لذلك الشي ء وجوداً خارجياً.

***

و الآن نعود لنرى جذور القيامة و نبحث عنها في وجودنا:

2- حبّ البقاء

لو خلق الإنسان للفناء حقاً لوجب أن يعشق ذلك الفناء و لتلذذ بالموت وإن حلّ به في وقته و في السنين المتقدمة، و الحال لا نراه يستسيغ الموت (بمعنى العدم) في أي وقت، ليس فقط ذلك فحسب، بل يعشق البقاء والوجود بكل كيانه، و يبرز هذا العشق من بين جميع نشاطاته، ما الجهود التي يبذلها من أجل حفظ اسمه و ذكره و بناء الأهرام و المقابر الدائمية وتحنيط أجساد الموتى بتلك التكاليف الباهضة و حتى الرغبة بحياة ولده كامتداد لحياته و ... كل ذلك دلالة واضحة على غريزة حب

البقاء لديه، إلى جانب سعيه لإطالة عمره وتعامله مع إكسير الشباب و ماء الحياة التي تشكل أدلة أخرى على ثبوت الحقيقة المذكورة. فلو خلقنا للفناء فما معنى هذا الحبّ و الرغبة بالبقاء؟ لو كان الأمر كذلك لكان هذا الحب و الرغبة ضرباً من العبث و اللغو، لقد تجلت الحقيقة المذكورة بأروع صورها في كلام الإمام علي (ع) إذ قال: «مَا خُلِقْتَ أنْتَ وَلَا هُمْ لِدارِ الْفَنَاءِ بَلْ خُلِقْتُمْ لِدارِ الْبَقاءِ».

3- القيامة لدى الأقوام السابقة

كما يشير التاريخ البشري إلى وجود الأديان لدى الأقوام السالفة، يشهد أيضا باعتقادهم الراسخ بالحياة التي تعقب الموت. و الشاهد على ذلك الآثار التي وصلتنا من الإنسان القديم لما قبل التاريخ ولاسيّما طريقة بناء القبور و كيفية دفن الأموات و التي تدل بأجمعها على أنّهم لم يكونوا يعتبرون الموت نهاية الحياة. فقد ورد في كتاب عالم الاجتماع «كنيغ» ص 192 أنّ التحقيقات تفيد وجود الأديان لدى الطوائف الأولى من البشر، كما لاسلاف الإنسان المعاصر (النياندرتال) حيث كانوا يعتمدون أساليب خاصّة في دفن أمواتهم و كانوا يضعون أدوات عملهم إلى جوارهم ليبرزوا عقائدهم للعالم. و كتب «ويل دورانت» في المجلد الأول من تأريخه ص 225 لم بنى المصريون لأهرام؟ لاشك لم يكن مرادهم بناء أثر معماري، و قد قاموا بذلك بدافع ديني. كانت أهرام مصر قبوراً ترقت شيئاً فشيئاً لتخرج من صورتها الابتدائية وتصبح بهذا الشكل. ثم تطرق بالتفصيل إلى عقائد المصريين بشأن الحياة التي تعقب الموت والتي تعدّ الدافع لبناء الأهرام. و الحق أنّ الأهرام المصرية من أعظم و أعجب البناء الذي قامت به البشرية و هي ثلاثة: هرم خوفو و خفرع و منكورع، و قد ضم هرم خوفو بمفرده مليونين ونصف قطعة حجرية تزن

كل واحدة منها طنين و نصف، و يصل وزن البعض منها إلى 150 طن. و قد إحتلت مساحة من الأرض تبلغ 46 ألف متر مربع! و قد جاءوا بهذه المعاد و عالم الاخرة، ص: 125

الأحجار من مسافات تبلغ مئات الفراسخ و قد إشتغل مئة ألف عامل خلال عشرين سنة من أجل بناء هذه الأهرام، حتى قيل إنّ تكاليف الخضرة وبعض الأدوية للعمال بلغت 16 مليون دولار خلال تلك المدّة. «1» ويتضح من كل هذا مدى رسوخ عقيدة المصريين القدماء بالمعاد (طبعاً العقيدة الممزوجة بالخرافات)، فلا يمكن تجاهل هذه العقيدة و اعتبارها مجرّد عادة أو قضية تلقينية، بل تدل مثل هذه العقائد المترسخة بين عموم الناس على فطريتها و إستنادها إلى أعماق روح الإنسان، لأنّ الفطرة والغريزة التي يمكنها الصمود إزاء العواصف الشديدة لمرور الزمان والتطورات الاجتماعية والفكرية، فتبقى ثابتة مستقرة.

4- القيامة الصغرى و الكبرى

كما أشرنا سابقاً بأنّ نموذج القيامة و المحكمة الكبرى إنّما تكمن في وجودنا، حيث تعقد في أعماق روح الإنسان فور قيامه بالأعمال الحسنة أو السيئة. فقد تنتابه أحياناً حالة من الفرح و السرور و الهدوء و السكينة الباطنية تجاه بعض الأعمال الحسنة بحيث يعجز القلم و البيان عن وصفها و بالعكس فإذا ما صدر منه خطيئة و مخالفة فإنّه يشعر بالهم و الغم و الألم الذي يعتصره بحيث قد يستعد أحياناً لأن يصلب بهدف الخلاص من مخالب ذلك الإنزعاج. ترى ما الشبه بين هذه المحكمة الداخلية العجيبة و محكمة القيامة العجيبة!

المعاد و عالم الاخرة، ص: 126

1- أنّ القاضي و الشاهد و منفذ الحكم هو واحد، كما هو عليه الحال بالنسبة للقيامة: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ انْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ» «1». 2- ليس هنالك من توصية

ورشوة و واسطة في محكمة الضمير بالضبط كما في محكمة القيامة: «وَ اتَّقُوا يَوْمَاً لَاتَجزي نَفْسُ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة وَ لَايُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لَاهُمْ يُنْصَرُونَ» «2». 3- تعالج محكمة الضمير أهم و أضخم و أعقد القضايا في أقل مدّة ممكنة و تصدر أحكامها بسرعة، فلا إستئناف و لاتمييز و لاتجديد نظر و لا أشهر وسنوات من تضييع الوقت، و هذا هو شأن محكمة القيامة: «وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لَامُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «3»

. 4- أنّ العقوبة و الجزاء و خلافاً للعقوبات العادية المتعارفة في هذا العالم فهي تنقدح في الباطن ثم تسري إلى الخارج؛ إنّها تؤرق روح الإنسان في البداية ثم تظهر آثارها على جسمه و نومه و طعامه، على غرار القيامة: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفِئدةِ» «4». 5- لاتحتاج محكمة الضمير إلى الشاهد و الحاضر و لا تحتاج في حصولها على المعلومات إلى خارج الإنسان و نفس الإنسان يدلي بالشهادة لنفعه أو ضرره كمحكمة القيامة التي تشهد فيها أعضاء الإنسان و جوارحه على أعماله: «حَتَّى اذَا مَا جَاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ» «5». فهذا الشبه العجيب بين هاتين المحكمتين هو دليل آخر على كون هذه المعاد و عالم الاخرة، ص: 127

المسألة فطرية، حيث كيف يعقل وجود مثل هذا الحساب و الكتاب الدقيق والمحكمة السرية العجيبة في الإنسان الذي يمثل قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم، بينما ليس هناك من حساب و كتاب و لا محكمة في هذا العالم الكبير، و عليه يمكن إثبات فطرية الإيمان بالحياة بعد الموت من خلال ثلاثة طرق؛ طريق غريزة حبّ البقاء و طريق وجود واستمرار هذا الإيمان طيلة التاريخ البشري

و أخيراً عن طريق وجود محكمة الضمير في باطن الانسان.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 129

الادله العقليه للمعاد

الدليل العقلي الأول: العدالة الشاملة

اشارة

إنّ الإنسان يحاكم في أربع محاكم في هذا العالم أما ... لايسع الإنسان أن يستثنى من قانون العدالة العامة للخلق. نعم يعاقب الإنسان على ما يبدر منه خلاف و ظلم في «أربع محاكم مختلفة» في هذا العالم و يدفع فيها ثمن جريمته باهضاً، الأولى المحكمةذات الأسرار «الضمير» التي تكتفي أحياناً يتصفية كافة الحسابات بحيث لايبقى شي ء. و الثانية محكمة «الآثار الطبيعة للعمل» و لاسيما في الذنوب ذات البعد «العام» حيث يتضح سريعاً تأثير حكم هذه المحكمة، و تاريخ البشرية طافح بالدروس و العبر بشأن المصير المؤلم و المأساوي للمجتمعات إثر الظلم والجور و الإحجاف و التمييز العنصري و الكذب و الخيانة و النفاق و التقاعس حيث إجتثت جذورهم و أصبحوا عبرة لغيرهم. و الثالثة محكمة «جزاء الأعمال» و هي أغمض من كل هذه المحاكم وعلاقاتها مجهولة! و كأن قضاة هذه المحكمة جلسوا يتدارسون الحكم خلف الأبواب المغلقة ليصدروا أحكامهم القاطعة و التي تنفذ بصورة خفية.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 130

ليس لدينا لحدّ الآن أي تفسير علمي لمسألة «الجزاء»، إلَاأنّه لايمكن أن نكرر رؤيتنا مراراً في حياتنا أو طالعنا في صفحات التاريخ أنّ الأفراد الظلمة قد واجهوا آخر الأمر جزاءاً جهنمياً لم يكن أحد قد تكهن به، و العلاقة القائمة بين مصيرهم الأسود الأليم و أعمالهم الشائنة التي إرتكبوها لايمكن تفسيرها عن طريق «الضمير» و لا عن طريق «الآثار الطبيعية للعمل» كما لايمكن حملها على الصدفة. و هذا يقوي الإعتقاد القديم بوجود الجزاء في الأعمال بصورة غامضة ومبهمة، إلّاأنّه يعمل بشكل قاطع و صارم. و أخيراً رابع محكمة هي «المحكمة الرسمية» و

العادية البشرية ذات القدرة الضعيفة، و التي قد لا ترى سوى مورداً واحداً من بين عشرة موارد وتغيب عنها البقية، مع ذلك فأحكامها ليست عادلة تماماً حتى في هذا المورد، لأنّه كما نعلم فهي عرضة للتأثر بهذا و ذاك، إلى جانب صعوبة تشخيص الحق و العدل والتعامل معه بحزم و من هنا فعادة ما يختل توازن هذه المحكمة.

المحاكم الخاصة

هذه هي المحاكم الأربعة التي تواجهنا، إلّاإنّنا إذا أمعنا النظر في كل واحدة منها لرأينا أنّه كتب على بوابة كل منها هذه العبارة «هذه المحكمة خاصة ولا تعالج إلّابعض الجرائم». و خصوصية هذه المحاكم لا تحتاج إلى بحث، لأنّ وظيفة المحاكم الرسمية- كما ذكرنا آنفا- واضحة و ليس لها أن تطول جميع المجرمين المعاد و عالم الاخرة، ص: 131

والآثمين، و لو وسعها ذلك و إنتصرت للمظلوم من الظالم، لما إحترق العالم اليوم بنيران كل هذا الظلم و الجور و الاستعباد و الاستعمار و الاستغلال. و أمّا محكمة الجزاء فهي الأخرى لا بُعد عمومي لها، و كأنّي بها ليست إلّا برنامج تربوي و تحذير للجميع من خلال إبانتها لبعض النماذج! و لذلك نرى بعض المجرمين الذين فروا من مخالبها، إضافة إلى أنّ بعض الجنايات قد تكون ثقيلة بحيث لايسعها الجزاء و يقتصر على التعامل مع جانب معين من جوانبها. و أمّا محكمة الآثار الطبيعية للأعمال فهي كسابقتها لها بعد خاص، لأنّ شعاع عمله إنّما يشتمل غالباً على ذنوب تتخذ بعداً عاماً، أو إن إرتكبه فرد لابدّ أن يواصل العمل به لمدّة طويلة ليتضح شؤمه و مرارته، و عليه فإنّ كثيراً من المجرمين و الجرائم خارجة عن نطاق قضاء هذه المحكمة و لم تبق إلّا «محكمة الضمير» و التي

أثبتنا خصوصيتها في الأبحاث السابقة حين تعرضنا إلى وظيفة هذه المحكمة، فلا يتمتع كافة الناس بضمير حي ويقظ، فضعف الوجدان الذي يحصل بسبب عدّة عوامل إنّما يؤدّي إلى هروب جماعة من المجرمين و الجناة الخطرين تحت ذرائع مختلفة من مخالب عقوبات هذه المحكمة. و بناءاً على ما تقدم فالنتيجة التي نخلص إليها من خلال الدراسة الشاملة للمحاكم الأربع المذكورة إلى أنّ أي من هذه المحاكم ليس لها بعداً عاماً و شاملًا بحيث تنزل العقاب بكافة الجناة و المجرمين لإرتكابهم أية جنحة أو جناية بعد مثولهم للمحاكمة، و كأنّها بمنزلة إخطارات و إشعارات متتالية تهدف إلى تربية البشر و إيقاظه ليس أكثر.

***

قانون العدالة في عالم الوجود

لابدّ أن نرى هنا هل يمكن الوثوق بوجود عدالة عامة و شاملة في ما وراء هذه الحياة، أم أنّ البشرية تنتقل من هذا المكان دون أن توفي حسابها وليس هناك من شي ء ينتظرها! لو ألقينا نظرة إلى الحياة البشرية التي تشكل جانباً صغيراً جدّاً من نظام الخلقة و طالعنا بصورة عامة الوضع العام لعالم الوجود، لرأينا قانون «النظام والعدالة» الذي يحكم جميع الأشياء، و القانون المذكور على درجة من القوّة بحيث إنّ أدنى إنحراف عنه يؤدّي إلى فناء كل شي ء «بالعدل قامت السموات و الأرض» «1». فالنظام و العدالة هي سبب تلك الحركة العظيمة و الوجود والسعة للسموات والأرض و جميع الكرات العظيمة التي ملأت أركان الوجود، و ما استمرار حبة غاية في الصغر «الذرة» خلال ملايين السنين بتلك الدقة والظرافة التي استعملت في بنيتها، و الذي ينبغي عادة أن يختل مثل هذا الجهاز اللطيف مبكراً، أنّما هو وليد تلك العدالة و الحساب الدقيق لنظام الالكترونات والبروتونات، فليس هنالك من جهاز- صغير أم كبير-

بمعزل عن هذا النظام الدقيق و العدالة العامة الشاملة سوى الإنسان!

هل الإنسان كائن إستثنائي؟

هناك فارق رئيسي بين الإنسان و كافة كائنات عالم الطبيعة، و هو إتصاف الإنسان بتلك القدرة العجيبة التي تعرف بالإرادة و المقرونة بالحرية والإختيار؛ أي إنّه يشخص الأشياء بعد المطالعة و الفكر و البحث فما كان المعاد و عالم الاخرة، ص: 133

لصالحه أتى به وما كان بضرره تركه و من هذه الناحية فإليه تعيين مصيره، و هذا الإمتياز الكبير هو الضامن لتكامله المعنوي و الأخلاقي و الإنساني، لأنّه لو لم يكن حراً مختاراً و قام مثلًا بالأعمال الحسنة و أسدى الخدمات للناس بدافع الإجبار أو تحت تأثير بعض العوامل الداخلية و الخارجية، لما كان هناك من فرق بينه و بين أحجار الصحراء التي تختزن بينها بعض الأجناس النفيسة و الغالية إلى جانب الرخيصة، و ليس في هذا الفارق بين الأجناس أي إمتياز أخلاقي. على سبيل المثال لو أجبر شخص بقوّة الحديد و النار على التبرع بعدّة ملايين لمؤسسة خيرية، و قامت تلك المؤسسة ببعض النشاطات، مع ذلك فهذا الأمر لايدعو لأي تكامل أخلاقي و إنساني لذلك الشخص، بينما لو تبرع طواعية و لو بريال واحد بدافع من حريته و إختياره لأحرز تكاملًا بذلك المقدار، و بناءاً على هذا فالشرط الأول للتكامل الإنساني و الأخلاقي التمتع بالحرية و الإرادة بحيث يسلك الإنسان طريقه بإرادته، لا من خلال الإجبار من قبيل العوامل الإضطرارية لعالم الطبيعة، و هذا هو الهدف الذي من أجله منح اللَّه سبحانه الإنسان هذا الإمتياز العظيم (عليك بالدقة). و من الطبيعي أن يستغل بعض الأفراد هذه الحرية فيرتكبون مختلف الجنايات، طبعاً إذا نوى الإنسان الذنب وأتى به فقد أران على قلبه، و إن أكل

مال اليتيم سار برجله نحو الموت، و حين يمد يده إلى سرقة- على حد زعم ذلك الرجل الأبله الذي كان يحدد وظيفة اللَّه- تتيبس فوراً و يكتب إسمه بخط واضح و كبير على صفحة السماء أنّه سارق، طبعاً ليس هنالك لإنسان أدنى فخر إمتياز إنساني و تكامل روحي فيما إذا لم يقارف الذنوب تحت طائلة الإجبار ... هذا من جانب.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 134

و من جانب آخر لايمكن للإنسان أن يستثنى من قانون العدالة الذي يمثل أمر الخالق في كافة أرجاء عالم الوجود، فليس هنالك من مبرر لهذا الاستثناء، و من هنا نوقن بأنّ هناك محكمة سيمثل فيها الجميع دون إستثناء، و سينالون نصيبهم من العدالة العامة لعالم الخليقة (عليك بالدقة أيضا).

***

الدليل العقلي الثاني: تقول فلسفة الخلق هنالك عالم بعد الموت

اشارة

إنّ معرفة فلسفة الخلق و خلقة الإنسان تساعد في التعرف على عالم ما بعد الموت بالتالي سيأتي اليوم الذي تسكن فيه المنظومة الشمسية! هل ستتوقف عجلة تكامل الإنسان بعد كل ذلك الرقي و التطور؟ أليس هذا من العبث؟ غالباً ما يطرح هذا السؤال: ما فلسفة خلقنا و هذا العالم الواسع؟ ماذا كان سيحدث لو لم نخلق؟ إن الفلاح يزرع الأشجار ليحصد الثمار، فما الذي يحصده فلاح عالم الوجود من زرعنا؟ إنّنا لا نفهم لم جئنا؟ و ما الهدف منّا؟ و لماذا سنرحل من هنا؟ و من هنا نشعر بالعبثية و إنّ هذا الشعور المؤذي لينتابنا كلما فرغنا من أعمالنا وإستغرقنا في التفكير.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 136

و يبدو من خلال المطالعات و الآثار إنّ هذا الشعور كان سائداً أيضاً لدى بعض الفلاسفة و الشعراء. و لعلنا أشرنا سابقاً أنّه لابدّ من الانطلاق من نقاط بسيطة و واضحة للإجابة على هذه الأسئلة التي

قد تبدو صعبة و معقدة، و قد تكون تلك النقاط الواضحة هي الأسس التي أرسى عليها الفيلسوف الفرنسي المعروف «ديكارت» دعائم مدرسته. لنفرض أنّنا مررنا بمنطقة فوقعت أعيننا على بناية عظيمة وضخمة قد فرغ منها للتو، فيطالعنا فيها الاسلوب الدقيق و الخارطة الممتازة و العمارة الرصينة و الانارة الكافية و الاختيار الصحيح للمواد و ما إلى ذلك من الأمور التي تشير إعجابنا، فإنّنا نرى كل شي ء قد وضع مكانه على ضوء تخطيط دقيق، إلّاأنّنا لا ندري ما هو الغرض الذي من أجله بني هذا المبنى الضخم؟ فهل يجيزنا العقل أن نعتقد بأنّ كافة أجزاء هذا المبنى قد بنيت لتحقيق هدف و وفق خارطة معينة، بينما ليس للمبنى بأجمعه أي هدف ووجد للعبث؟ ... قطعاً لا، فمن كان له هدف في الجزء كيف لا يكون له ذلك في الكل؟*** و الآن نغوص في الباطن العميق لمصنع وجودنا و نشاهد القلب الذي يعمل بصوت موزون و حركات منظمة متتالية دون أدنى توقف، كما نرى تفرعات القلب من قبيل البطين و الاذين و الأوردة و الشرايين التي تضنخ الدم و تلك التي تستقبل الدم، كما نرى هدف كل واحد منها و هي تتحرك وتنشط للقيام به، بحيث لا نرى أي شي ء زائد في هذه المضخة، ثم نتجاوز القلب و نتيجة صوب المعدة ثم الكبد و الكلية و الرئة و العظلات و ... فنرى المعاد و عالم الاخرة، ص: 137

لكل عضو هدفه ووظيفته. ثم نرد بعد ذلك جهاز الدماغ المذهل و نتعرف على هدفه و وظيفته، بعد ذلك نستغرق في التفكير لنطرح على أنفسنا هذا السؤال: أو يمكن أن يكون لأصغر أجهزة البدن و الأعضاء- حتى أهداب العين- هدفاً،

بينما لا يكون هناك أي هدف للإنسان ككل؟ فهل يسمح لنا العقل بطرح مثل هذا الاحتمال و التفكير به؟ ثم نخرج من باطننا العميق و نتسلق أجنحة الملائكة لنحلق معها و نسير في عالم الوجود لنرى كل ذرة و قد كتب على لوحة إلى جانبها الهدف من خلق هذه الذرة، و هو الأمر الذي تمكننا من الوقوف عليه في ظل تطور العلوم والمعارف. فقد وقفنا على الهدف الذي تنطوي عليه جميع ذرات العالم، أفهل يمكن ألّا يكون هناك هدف للعالم بأسره؟ أو ليس هناك من لوحة نصبت إلى جانب هذا العالم الواسع المترامي للدلالة على هدفه النهائي، إلّاأنّ عظمتها لم تجعلنا نراها للوهلة الاولى وهل من عبارة كتبت على تلك اللوحة سوى «التكامل و التربية» «1». و الآن بعد أن عرفنا بأنّ هدف الخلق هو تكاملنا و تربيتنا و هذه هي فلسفة خلق الإنسان، و لابدّ أن نرى هل سينتهي هذا التكامل بموتنا، بحيث ينتهي كل شي ء عند الموت؟ هل يمكن لهذه الدنيا بمدّتها القصيرة و كل هذه المصاعب و الويلات أن تكون هدفاً لهذا الخلق العظيم؟***

هل نحن جسر لترقي الآخرين؟

يمكن أن يقال إنّ عالم البشرية لاينتهي بموتنا، بل فمنح مكاننا لأفراد أكثر منّا رقيّاً و تطوراً، و هكذا تسير قافلة التكامل إلى الأمام فاليوم في المجالات المادية و التكنولوجية و غداً في المجالات الأخلاقية و الإنسانية، و بناءاً على هذا فإن فلسفة الخلق هو تكامل و تربية النوع الإنساني لا الأفراد، و مثل هذا التكامل لايتوقف بموت الأفراد و يسير قدماً، إلّا إنّ هذه الإجابة تشبه الدواء المسكن، فهي لا تحل المشكلة الأصلية من جذورها و ذلك لأنّه: أولًا: أليس إستمرار تكامل نوع الإنسان بفناء فرد

و زواله هو تمييز عنصري ظالم؟ فإن كانت نتيجة حياتنا هي تمهيد السبيل و توفير الأرضية الخصبة من أجل رقي و تطور الآخرين القادمين و ليس لنا من ذلك سوى أن تكون جسراً لترقيهم فيحصلون عليه دون أدنى جهد أو عناء بينما نشقى فمن أجل إعداده لهم، أفليس يتناقض هذا و العدالة المطلقة التي تحكم عالم الوجود؟ (لأنّ كل هذه الأبحاث ترد بعد الإقرار بوجود اللَّه و صفاته). و عليه فلا يمكن للموت أن يكون نقطة إنتهاء حتى بالنسبة للفرد، و إلّا لأصبحت حياة فرد حي عبثية لاطائل من وراءها. ثانياً: يخبرنا جميع العلماء: أنّ السيارة التي نعيش عليها ستؤول إلى السكون في المستقبل- المستقبل الذي ليس ببعيد من حيث المقاييس الفضائية- كما ستظفى ء بالتدريج الحضارة الرفيقه و التكامل لذلك الزمان، وتتحول الأرض إلى كرة خربة و باردة و ساكنة، و آنذاك يبرز هذا السؤال: ما الذي حصل من هذا الذهاب و الإياب؟ ألا يشبه هذا الأمر صنع لوحة نفيسة و جميلة للغاية و من ثم كسرها و تحطيمها؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 139

أمّا إن قبلنا بأنّ حياة الإنسان ستعيش اللانهاية و الخلود في عالم أوسع، آنذاك نستطيع لمس فلسفة الخلق بوضوح و نعيش استمرارية قانون التكامل. و بناءاً على هذا فإنّ فلسفة الخلق و قانون التكامل يقول للإنسان لا يمكن للموت أن يكون نهاية الحياة، و ستستمر الحياة بشكل أرفع وأسمى بعد الموت.***

إنعكاس هذا المنطق في القرآن

رغم أنّ القرآن الكريم تحدث على هامش مختلف السور القرآنية عن القيامة والحياة ما بعد الموت و خاض في تفاصيلها، مع ذلك نرى بعض السور التي تصدت لقضية المعاد من بدايتها إلى نهايتها، و من ذلك سورة الواقعة التي تعالج تقريباً

بأجمعها المعاد. و قد تعرضت آياتها (من الآية 57 إلى 73 تقريباً سبع عشرة آية) إلى بحث فلسفة الخلق و قانون التكامل بشكل رائع و بذكر عدّة أمثلة، و خلاصتها كالآتي: «كيف تشكون في المعاد والقيامة» رغم أنّه: أولًا: إنّا خلقناكم من نطفة في رحم الأم ثم طويتم مسيرة التكامل حتى أصبحتم أناساً كاملين، فهل لمن جعل النطفة تتكامل جنيناً أن يوقفه عند هذا الحد، أم هل هو عاجز عن إعادة الحياة بعد الموت؟ ثانياً: أفلا تنظرون إلى ما تحرثون من الأرض، فهل أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، فلو شئنا لجعلناه حطاماً فلا تحصلوا منه على شي ء، إلّاأنّنا نسير بهذا العالم نحو السمو و التكامل و ننبت مئات الحبات من حبة قمع واحدة،

المعاد و عالم الاخرة، ص: 140

ثم تصبح جزءاً من بدن الإنسان، فيطوي مرحلة جديدة من التكامل.

أفتنطفى ء هذه الشعلة المتوهجة للتكامل بمجرّد موت الإنسان لتتحول إلى تراب لا قيمة له؟ أفليس هذا العمل عبثاً و لغواً؟ ثالثاً: انظروا إلى هذا الماء العذب الذي تشربون و لا تنسوا أنّه كان ماءاً مالحاً و مرّاً في البحر، نحن الذين صفّيناه و بعثنا به كغيوم إلى السماء (و كنّا قادرين على نبعث بالأملاح معه إلى السماء) و نستطيع أن نجعله علقماً، إلّا أنا لم نفعل ذلك و أجرينا عليه قانون التكامل فجعلناه عذباً فراتاً ليصبح جزءاً من بدن النباتات و الناس، فهل نطوي سجل التكامل بموت الإنسان؟

أو ليس هذا ضرباً من العبث؟ رابعاً: انظروا إلى هذه النار التي توقدونها، فهل أنتم أنشأتم شجرتها؟ أم نحن المنشئون من أجل قضاء حوائجكم و تذكيركم، نحن الذين أمرنا الشمس بأن ترسل أشعتها فجعلنا تلك الشجرة تدخر الطاقة لتقوم بعد ذلك

باعادة هذه الطاقة على شكل حرارة لكم فتستفيدوا منها في حياتكم، و قد فعلنا كل ذلك من أجل تكاملكم، فهل ينتهي كل شي ء بموت هذا الإنسان؟

كلا، ليس الأمر كذلك. نعم كل هذه الأمور تدل على عدم نهاية الحياة الواقعية بموت الجسم.

الدليل العقلي الثالث: لو كان الموت نهاية لكان خلق الإنسان عبثا

لايمكن فصل الإيمان بمبدأ للعلم و الحكمة في عالم الوجود عن الإيمان بحياة ما بعد الموت، لنفرض أن فخّاراً يصنع آنية، فما إن ينتهي منها حتى يضربها بالأرض و يكسرها، فهل من شك في حماقته؟ و هل نعتبره عاقلًا مهما أضفى عليها من الجمالية و جعلها تحفة فنية واقعية إن كسرها عبثاً؟ بل إفرض أنّ مهندساً ثرياً و ماهراً و له ذوق سليم يقوم ببناء عمارة ضخمة وجميلة بأفضل مواد البناء و وفق أدق الخرائط و بتكاليف كثيرة بحيث تثير تلك العمارة إعجاب كل من ينظر إليها، أو أن يقوم ببناء سد عظيم، و ما أن ينتهي من بناء تلك العمارة الضخمة أو هذا السد العظيم حتى ينظم مراسم ويدعو جميع الشخصيات لإفتتاحه، و في الغد نطالع في الصحف أنّ المهندس المذكور قام بتفجير العمارة و السد بالديناميت، ثم تحدث للصحفيين قائلًا أنّ هدفه من تلك العمارة هو الاستراحة فيها ليوم المعاد و عالم الاخرة، ص: 142

واحد، أو العوم بسفينة لبضع ساعات في بحيرة السد! فكم طفولي هذا الكلام و بعيد عن العقل؟ لايبدو هذا العمل متوقعاً من شخص أمي فضلًا عن فرد حكيم وعالم.

***

لو نظرنا إلى منظمات ومؤسسات هذا العالم الواسع و فكرنا بالدقة و العظمة التي استخدمت في هذا العالم بصورة عامة و في الإنسان من الناحية الجسمية و الروحية بصورة خاصّة، لعرفنا أنّ «الموت» لايمكنه أن يكون نهاية الحياة البشرية و

نقطة توقف وجودها، لأنّ حياة الإنسان في هذه الحالة و العالم المحيط به سوف يكون عبثاً و غير منطقي، و هو بالضبط كفعل ذلك الفخّار و المهندس. توضيح ذلك: تفيد مطالعة عالم الخلق على مستوى عظمته و كذلك دقته حقيقة مؤدّاها أنّ هذا العالم أوسع و أجمل و أعقد ممّا نتصوره. فقد صرح «أنشتاين» في كتابه «الفلسفة النسبية»: إنّ ما قرأناه من كتاب التكوين الكبير لم يكن أكثر من صفحة (أو صفحات) و قد تعرفنا على ألف باء هذا الكتاب العظيم في ظل تطور العلوم البشرية. و لابدّ من الاضافة إلى هذا الكلام: إنّه كتاب غطاؤه الخارجي «الأزلية» وغطاؤه الداخلي «الأبدية» و قد إجتاحت أوراقه السماء و الأرض، بينما تشكل المنظومات و الكواكب و الكرات العظيمة و المجرّات كلماته و حروفه، و ياله من عمر طويل يتطلب لمن أراد قراءته إن أمكن ذلك. كما صرّح البروفسور «كارل جيلزين» في كتاب «رحلة إلى العوالم البعيدة» قائلًا: إنّ المعاد و عالم الاخرة، ص: 143

المسافة الشاسعة بين المجموعة الضخمة للكواكب أو المجرّات لهذه الجزر الفلكية التي تعوم في الفضاء و تدور حول محورها، ممّا يصعب حتى التفكير فيها، فكل واحدة من هذه المجرّات تضم ملياردات الكواكب، و إنّ مسافاتها على قدر من السعة بحيث إنّ الضوء (و بتلك السرعة الرهيبة و الفريدة) يحتاج أحياناً مئات آلاف السنين من الوقت ليطوي المسافة بين كوكبين يقعان ضمن مجرّة واحدة. «1» و بالطبع فإنّ الدقة المستعملة في بنية أصغر وحدة في هذا العالم كالدقّة المحيرة و المذهلة التي تشاهد في بنية أعظم وحدة ضخمة من وحداته، و الإنسان- في هذه الأثناء- هو أكمل موجود على الأقل عرفناه لحد الآن، و هو

أعظم محصول لهذا العالم- حسب علمنا طبعاً- بما يمتلكه من بنية عجيبة.

***

من جانب آخر: نشاهد أنّ هذا الإنسان الذي يعد أعظم نتاج لهذا العالم، يتحمل أية مشاكل و صعاب خلال هذه المدّة القصيرة من عمره التي تعتبر لحظة عابرة متبخرة إزاء عمر الكواكب و المجرّات، فمرحلة طفولته التي تعدّ أصعب و أعقد مراحل حياته حيث تتضمن برامج غاية في الثقل الذي يرهق كاهله، فقد وضع قدمه في محيط جديد لا يألف فيه أي شي ء، إنّه لا يعرف حتى كيف يحفظ لعابه و عليه أن يتوفر على تجارب كثيرة و إختبارات و إمتحانات متعددة و تمارين تأخذ أغلب أوقاته ليتعلم كيف يسيطر على عضلات شفتيه و أطراف فمه.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 144

إنّه لايعرف الجهة التي ينبعث منها الصوت، كما لايعلم الفاصلة بين عينيه والأشياء و لعله يعتقد بادى ء الأمر بأنّ جميع الأشياء على صفحة واحدة و قريبة من عينه، و ليس له أدنى إطلاع عن حركة أمواج الهواء على الأوتار الصوتية وايجاد أنواع الأصوات و من ثم تكسر و تشكل الأصوات بواسطة حركات اللسان وعضلات الفم و الحنجرة، و عليه أن يتمرن صباح مساء في مهده و يدرس ويطالع و يتدرب ليتعرف على محيطه و يستفيد من وسائله و أدواته، أضف إلى ذلك عليه أن يكافح أنواع الأمراض ليتمكن من تحمل الظروف التي تواجهه في ذلك المحيط، و على كل حال فإنّ أهميّة التمارين التي يزاولها من أجل التعرف على المحيط لتفوق التمارين المنهكة التي يمارسها رواد الفضاء من أجل التكيف على سطح القمر، وهكذا يقضي فترة الطفولة بكل معاناتها. و لايكاد يلتقط أنفاسه حتى يواجه المرحلة الصاخبة للشباب بعواصفها الشديدة الطاغية التي تعصره في

معترك أمواجها، و هكذا يتنقل من مرحلة إلى أخرى، حتى لا يكد يقف على رجليه فتنقضي فترة الشباب ليرى نفسه في حالة الكهولة و الشيخوخة و من ثم العجز، و هنا يشعر تدريجياً بأنّه أخذ يفهم بعض أخطائه الماضية- و التي لابدّ من بعضها بغية بلوغ حالة النضبح- فهو قلق و مضطرب و منهمك في كيفية تداركها، فيفكر مع نفسه بأنّه حصل الآن على تجربة تؤهله لحياة جديدة بنضبح أكبر، ولكن للأسف أنى له ذلك وقد ضعفت القوى و الموت كامن له في الطريق الذي سيحيل نضجه و تجاربه و علومه ومعارفه تراباً، و بغض النظر عن ذلك فإنّ هذه المراحل الثلاثة من عمره كانت مسرحاً لمختلف الحوادث المأساوية الطبيعية و

المعاد و عالم الاخرة، ص: 145

الاجتماعية وفقدان الأحبّة والأعزة و الأصدقاء و تحمل الهم و الغم و المرارة. و الآن نحتكم و نتساءل: أمن المعقول أن يكون هدف هذا الجهاز الجبار العظيم للخلق خاصّة الهدف من خلق هذه الدنيا الصغيرة العجيبة التي تدعى «الإنسان» إنّما يتمثل بهذه الحياة و هذا الذهاب و الإياب الممزوج بآلاف الكدورات والإزعاجات، و بعد ذلك يغلق ملف كل هذا العلم و التجارب و الإستعداد الروحي الذي يبدو أنّه كان مقدمة من أجل حياة أخرى و من ثم تبدل تلك الخلايا الدماغية العجيبة التي تضم أكبر ملفات الدنيا بالموت إلى ذرات بسيطة من تراب عالم الطبيعة؟ أليس هذا شبيه عمل ذلك المهندس الذي نسف عمارته؟ أليس هذا شبيه بعمل ذلك الفخّار الذي حطم آنيته؟ هل ينسجم هذا و حكمة البالغة سبحانه؟ إنّ الفلاح يغرس الأشجار ليقطف ثمارها، فما الذي يقطفه فلاح عالم الوجود منه؟ ... بضعة أيام منغصة! لو إفترضنا

أننا كنّا مكانه و بهذا العقل الذي لدينا أفكنا نفعل مثل ذلك العمل؟ فما بالك به و هو العقل و العلم و الحكمة المطلقة. كيف يمكن التصديق بأنّ كل هذا الضجيج من أجل هدف يساوي تقريباً اللاشي ء! أليس ذلك بمثابة الطفل الصناعي الذي يربونه في الرحم فإن نما وتأهب للحياة قتلوه؟ و نخلص ممّا سبق إلى أنّ الشخص الذي يؤمن باللَّه و حكمته لا يسعه المعاد و عالم الاخرة، ص: 146

إنكار نهاية حياة الإنسان بموته.

***

و قد أشار القرآن في عدّة مواضع إلى هذا الإستدلال حيث أورده على سبيل الاستفهام الإنكاري: «افَحَسِبْتُمْ انَّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ انَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرجَعُونَ» «1». فقد شبّهت الآية عدم الرجوع إلى اللَّه (يعني البعث و القيامة و استمرار الحياة و الحركة نحو النقطة اللامتناهية للوجود) بالبعث، أي أنّ الخليقة ستنتهي إلى العبثية لو لم يكن هناك من معاد و حياة بعد الموت. «ايَحْسَبُ الإِنْسَانُ انْ يُتْرَكَ سُدًى* الْمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِّيَ يُمْنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزُّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الانْثى* الَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوُتى «2»

. فلو كان كل شي ء ينتهي بالموت لكان الخلق عبثاً مهملًا (حيث وردت سدى في اللغة بمعنى المهل)، و من هنا قال بعض المفسرين أنّ المراد بالإنسان في الآية المذكورة «الْكَافِرُ بِالْبَعْثِ الْجَاحِدُ لِنَعِمِ اللَّهِ» «3»

. حقاً لايستحق سوى الملامة من يشاهد هذا العالم و عظمته بينما لا يرى العالم الآخر.

***

الدليل العقلي الرابع: بقاء الروح علامة على القيامة

أحد الأدلة الأخرى ذات الصلة بمسألة القيامة و الحياة بعد الموت والذي يشير إلى عدم فناء الإنسان و زواله المطلق بالموت هو بقاء الروح. إثبات وجود الروح بصفتها حقيقة مستقلة- لاخاصية عارضة على البدن- توضيح هذا الموضوع

في أنّ روح الإنسان باقية بعد الموت، و أنّ الموت لا يعني النهاية المطلقة للحياة، و إثبات هذا الموضوع في الواقع يعدّ خطوة كبيرة باتجاه إثبات عالم ما بعد الموت و المعاد، ولكن لابدّ من دراسة ثلاثة مواضيع من أجل بلوغ هذا الهدف هي: 1- إستقلال الروح 2- تجرّد الروح 3- بقاء الروح وقبل الخوض في ذلك لابدّ من الإلتفات إلى أنّ قضية الروح من أقدم وأعقد المباحث التي واجهت الفلاسفة و العلماء.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 148

لا أحد يسعه بيان مقدمة لهذا البحث، لأنّه وطبق شهادة التاريخ أنّ المصريين- و احتمالًا سائر الأقوام- قد تعرفوا قبل خمسة آلاف سنة على مسألة الروح، حتى صرّح العالم الاسلامي المعروف «الآلوسي» أنّ هناك مايقارب الألف قول و نظرية بشأن هذه القضية، و قد تحدث كل حسب طريقته عن ماهية الروح. فالإنسان- حتى إنسان ما قبل التأريخ- يشاهد في عالم النوم عدّةمشاهد وعوالم واسعة لم يرها بعد النوم في محيطه، و بالنظر إلى هذا الأمرفانّه يشعر بوجود قوّة خفية أودعت وجوده تنشط و تتجلى بصورة حين اليقظة و أخرى حين النوم، و هو مشغول بممارسة هذا النشاط حتى في حالة سكون أجهزة البدن و ارتماء الإنسان في زواية معيّنة، و قد إصطلح على هذه القوّة بالروح (أو ما يعادلها في اللغات الأخرى). ثم إحتلت الروح موقع الصدارة في أبحاث الفلاسفة حين أصبحت الفلسفة معرفة مدونة. و سنرى عمّا قريب إن شاءاللَّه- أنّ مسألة النوم هي أحد مفاتيح أبواب عالم الأرواح، بل سنرى أنّ الرؤيا يمكنها أن ترشدنا إلى عالم الأرواح من جهتين: الأولى أصل مسألة الرؤيا و المشاهد التي يراها الإنسان في المنام- سواءكان لها وجود خارجي أم لا، و

بعبارة أخرى سواء كان لها تعبير أم لم يكن- والأخرى كيفية الرؤيا التي يشاهدها الإنسان و التي تزيح الستار أحياناً عن الحوادث الموجودة أو القادمة أو الماضية. و هنا بالطبع ينبرى البعض من أصحاب الآراء السطحية ليخبرنا بأنّ الرؤيا ليست بالشي ء المهم، فهي هذه المشاهد التي نراها في اليقظة، كما قد

المعاد و عالم الاخرة، ص: 149

تكون تلك التي نراها بفعل نشاط قوّة الواهمة و المتخيلة، أو أنّها ما تفصح عن محتويات الضمير. و لسنا بصدد معرفة المصدر الذي تستند إليه الرؤيا و إلى ماذا تستند فعاليتها؟ و هل ترتبط بالماضي أم المستقبل؟ و الكلام في أنّ المشاهد الواسعة التي نراها في عالم المنام لابدّ أن يكون لها حيزاً في وجودنا، فهل هذا الحيز في خلايانا الدماغية و داخل الجمجمة، أم أنّها ترتسم على لوحات أخرى بنقوشها الكثيرة. مثلًا نرى في المنام أننا جلسنا في بستان يضم مسبحاً كبيراً في وسطه وتتقاذفه الأمواج المتكسرة و الجميلة، و يقع هذا البستان على سفح جبل شاهق يرتفع إلى عنان السماء. لا يهمنا إرتباط هذا المشهد بالماضي أم المستقبل، لكن على كل حال يلزم موضع لهذا المنظر الذهني على غرار تلك اللوحة التي رسم عليها، فهل هذا الموضع هو خلايا الدماغ؟ سنقف عمّا قريب على أنّه ليس كذلك، و عليه فموضعه شي ء آخر نسميه «الروح». و على كل حال سنرى ما المدى الذي يسع الرؤيا أن تزيحه من غطاء عن أسرار الروح، كما تدل على أنّ هذه المسألة كما كانت في البداية مفتاحاً للحركة في منطقة الروح الواسعة، فانّها أصبحت اليوم تشكل الدليل الفلسفي وحتى التجربي في هذا المجال، و نترك البحث لمتابعة الأدلة الحديثة على إثبات وجود الروح التي

توصل إليها العلم و الفلسفة، و المراد هنا فقط الإشارة إلى تاريخ ظهور الحوار بشأن الروح على مستوى العموم و أفكار العلماء.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 151

إستقلال الروح

اشارة

لا شبهة و لا شك في الفارق بين الإنسان و الحجر و الخشب الخالي من الروح، لأننا نشعر بانّنا نختلف عن الجمادات بل و حتى النباتات، فنحن نفهم وندرك و نتصور و نقرر و نعشق و نتنفر و لنا إرادة و ... بينما ليس هنالك أي من هذه المفردات للنباتات و الأحجار، و عليه فهناك عدّة فوارق أصولية بيننا وبينها و ذلك هو إمتلاك «الروح الإنسانية»، و لم يتنكر الماديون و لا غيرهم لأصل وجود «الروح» أو «النفس» و من هنا فهم يقرون بعلمي معرفة النفس و بحث النفس. و العلمان المذكوران و إن إجتازا تقريباً مراحلهما البدائية، فهما على كل حال من العلوم التي تدرس في كبار جامعات العالم ومن قبل الاساتذة والباحثين، و كما سنرى فإنّ «الروح» و «النفس» ليسا حقيقتين منفصلتين عن بعضهما، بل مراحل مختلفة لحقيقة واحدة. فإن كان الكلام عن إرتباط الروح بالجسم و التأثير المتبادل لكل منهما على الآخر، أطلقنا عليه إسم «النفس» بينما نستعمل اسم الروح حيث نتعرض للظواهر الروحية المنفصله عن الجسم. و الخلاصة ليس هناك من ينكر أن في وجودنا حقيقتان باسم الروح والنفس.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 152

و الآن لابدّ من رؤية موضع النزاع بين «الماديين» و «فلاسفة الميتافيزيقيا «1» و الروحيين»؟ الإجابة على هذا السؤال هي: يرى علماء الإلهيات و الروحيون أنّ هناك حقيقة أخرى و جوهراً كامن في نفس الإنسان من غير جنس المواد التي تشكل بدنه، و التي يتأثر بها بدن الإنسان بصورة مباشرة. بعبارة

أخرى: إنّ الروح حقيقة ما وراء الطبيعة تختلف بنيتها و نشاطها عن بنية و نشاط عالم المادة، نعم هي مرتبطة دائماً بعالم المادة إلّاأنّها لا تتصف بخصائص المادة. و بالمقابل هناك الفلاسفة الماديون الذين يعتقدون بعدم وجود موجود مستقل عن المادة يدعى الروح أو أي اسم آخر، و كل ما موجود هو هذه المادة الجسمية أو آثارها الفيزيائية و الكيميائية، لدينا بعض الأجهزة من قبيل الدماغ و الأعصاب و التي تقوم بجانب مهم من نشاطاتنا الحياتية وهي كسائر الأجهزة البدنية المادية و التي تمارس وظائفها في إطار قوانين المادة. ولدينا غدد تحت اللسان تعرف باسم «غدد البزاق» و التي تقوم بوظائف فيزيائية و كيميائية، فما إن يرد الطعام الفم حتى تبدأ هذه الغدد بممارسة وظيفتها بفرز السوائل الكافية لترطيب الطعام و سحقه، و إن كان الطعام يشتمل على بعض الماء فانّها تفرز سائلًا بالقدر الذي يرطبه أيضاً؛ أي بمقدار أقل، بينما تضاعف من هذا السائد إن كان الطعام يشتمل على بعض الحوامض بحيث يترطب بالشكل الذي لايسبب أي ضرر على جدار المعدة. فإذا ما إبتلع الإنسان الطعام قعدت هذه الغدد عن العمل، و زبدة الكلام المعاد و عالم الاخرة، ص: 153

هناك نظام عجيب يحكم هذه الغدد بحيث إذا إختل حسابها لساعة فإمّا أن يسيل الماء على الدوام من فمنا على شفاهنا، و إمّا أن يجف فمنا و بلعومنا بحيث تحشر لقمة الطعام في حناجرنا. هذه هي الوظيفة الفيزيائية للبزاق، إلّاأنّنا نعلم بأنّ الوظيفة الكيميائية هي الوظيفة الأهم للبزاق، حيث يتحد مع مختلف المواد فيتركب مع الطعام و يحد من إجهاد المعدة. يقول الماديون: إنّ سلسة أعصابنا و دماغنا تشبه الغدد البزاقية و ما شابهها حيث

لها أنشطة فيزيائية و كيميائية (و التي يطلق عليها فيزيا كيميائية) و هذه الأنشطة الفيزيا كيميائية هي التي نصطلح عليها بالروح أو «الظواهر الروحية». توضيح ذلك: حين ننشغل بالتفكير فإنّ سلسلة أمواج ألكترونية خاصّة تنبعث من دماغنا، و اليوم تؤخذ هذه الأمواج بأجهزة و تسجل على ورقة ولاسيّما في المستشفيات النفسية، فيتوصلون من دراسة هذه الأمواج إلى الطرق اللازمة للتعرف على الأمراض النفسية و سبل علاجها، هذه هي الوظيفة الفيزيائية لدماغنا. إضافة إلى ذلك، فإنّ لخلايا الدماغ سلسلة من الأفعال و الإنفعالات الكيميائية حين التفكير و سائر الأنشطة النفسية. و بناءاً على هذا فالروح و الظواهر الروحية ما هي إلّاالخواص الفيزيائية والأفعال و الإنفعالات الكيميائية للخلايا الدماغية و العصبية. ثم يخلصون من هذا البحث إلى هذه النتائج: 1- كما أنّ أنشطة الغدد البزاقية و آثارها المختلفة لم تكن موجودة قبل البدن و بعده سوف لن تكون أيضاً، فإنّ أنشطتنا الروحية وجدت بظهور

المعاد و عالم الاخرة، ص: 154

الدماغ و الجهاز العصبي و ستموت بموتهما. 2- الروح من خواص الجسم، إذن فهي مادية و ليس لها من بعد لما وراء الطبيعة. 3- تخضع الروح لجميع القوانين التي تحكم الجسم. 4- ليس للروح و لايمكن أن يكون لها من وجود مستقل دون البدن.

أدلة الماديين على عدم إستقلال الروح

تمسك الماديون بعدّة أدلة لإثبات صحة مدعاهم في أنّ الروح و الفكر والإرادة و سائر الظواهر الروحية مادية و من الخواص الفيزيائية و الكيميائية لخلايا الدماغ و الأعصاب، و إليك هذه الأدلة: 1- «يمكن الإشارة بسهولة إلى توقف طائفة من الآثار الروحية إثر توقف بعض الأعصاب عن العمل» «1». مثلا أجري إختبار برفع مقدار من دماغ طير فلم يمت، إلّاأنّه فقد الكثير من معلوماته، فإن

أعطي طعام تناوله و هضمه، و إن لم يعط و طرحت حبيبات أمامه لم يتناولها و يموت جوعاً. كما لوحظ فقدان الإنسان لجانب من معلوماته حين ترد دماغه بعض الضربات أو حين تعرضه لبعض الأمراض و العوارض بحيث تشل بعض خلاياه. قرأنا قبل مدّة في الصحف: أنّ شاباً متعلماً تعرض لحادثة و هي ضربة دماغية قرب منطقة الأهواز فنسى أغلب حوادث الماضي حتى أنّه لم يكن يعرف أمّه و أخته، و لم يكن يعرف المنزل الذي و لد وترعرع فيه، فهذه المعاد و عالم الاخرة، ص: 155

القضية و نظائرها تدل على الرابطة الشديدة بين نشاط الخلايا الدماغية والظواهر الروحية. 2- فتزايد التغييرات المادية للدماغ حين التفكير حيث يأخذ الدماغ طعاماً أكثر و يفقد مواد فسفورية أكثر، بينما تقل حاجته للطعام حين النوم و توقف الدماغ عن التفكير، و هذا دليل على كون الآثار الفكرية مادية. «1» 3- تشير القرائن إلى أنّ وزن أدمغة المفكرين عامّة أكثر من الحدّ المتوسط (الحدّ المتوسط لدماغ الرجال حدود 1400 غم و أقل منه الحد المتوسط لدماغ النساء) و هذا دليل آخر على مادية الروح. 4- لو كانت قوى التفكير و الظواهر الروحية دليلًا على وجود الروح المستقلة فلابدّ من قبول هذا المعنى بالنسبة للحيوانات، فهي تتمتع بادراكات تتناسب ووضعها. و الخلاصة فإنّهم يقولون: إنّنا نشعر بأنّ روحنا ليست موجوداً مستقلًاويؤيد ذلك تطور العلوم المرتبطة بمعرفة الإنسان. فيخلصون إلى نتيجة من مجموع هذه الإستدلالات إلى أنّ تطور فسلجة الإنسان و الحيوان يوماً بعد آخر توضح بصورة أعمق هذه الحقيقة التي تتمثل بالرابطة الحميمة بين الظواهر الروحية و الخلايا الدماغية.

ثغرات هذا الإستدلال

يبدو أنّ الماديين إرتكبوا خطأ فادحاً هنا و ذلك أنّهم خلطوا «وسائل

العمل» ب «فاعل العمل».

المعاد و عالم الاخرة، ص: 156

و إليك مثالان بغية الوقوف على هذا الخط: لقد حدث تطور في مطالعة وضع السماء منذ زمن العالم الإيطالي «غاليلو» حيث ساعده صانع للنظّارات فتمكن من صنع منظار صغير يشبه منظار الأطفال هذه الأيام، إلّاأنّ غاليلو كان شديد الفرح آنذاك، فكان يستعين به ليلًا لمطالعة كواكب السماء فكان يرى أمام عينه مشهداً مذهلًا لم يكن رآه أحد آنذاك، ففهم أنّه إكتشف شيئاً مهماً، و منذ ذلك اليوم إنهمك في مطالعة أسرار العالم العلوي. لقد كان الإنسان حتى ذلك الحين أشبه بالفراشة التي لا تعرف سوى بعض ما حولها من أغصان، بينما لاحظ مقداراً أكبر منها حين إستعان بالمنظار، و قد تكاملت هذه المسألة حتى صنعت المنظارات النجومية الكبرى يبلغ قطر عدستها خمسة أمتار أو أكثر، فكانوا ينصبونها على سفوح الجبال المرتفعة الكائنة في المناطق المناسبة من حيث صفو الهواء، فقد مكنت هذه المنظارات الإنسان من رؤية عوالم من العالم الأعلى بما تعجز العين المجرّدة عن رؤية واحد بالألف منها. و لك أن تفكر لو تطور هذا الجهاز بحيث يفوق قطر عدسته المئة متر وحجمه بقدر مدينة كبيرة، قطعاً ستكشف لنا عوالم لعلنا لا نستطيع اليوم حتى تصورها.

و السؤال المطروح: لو سلبت منّا هذه الأجهزة فمن المسلم به أنّ قسماً أو أقساماً من معلوماتنا و مشاهداتنا عن السماء ستتوقف، ولكن من المشاهد الأصلي نحن أم المنظار؟ هل المنظار و التليسكوب وسائل العمل التي نرى بواسطتها أم هي الفاعل والمشاهد الواقعي؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 157

و هنا نقول لا أحد ينكر أنّه لايمكن ممارسة التفكير دون خلايا الدماغ، ولكن هل الدماغ وسيلة عمل الروح أم موجد الروح؟! نضرب مثالًا

آخر: إنّنا نركب سفينة أو طائرة و نرتبط من داخلهما بجهاز لاسلكي مع الأرض فنتسلم التعليمات بصورة مرتبة، فمن المسلّم به إذا تعطل الجهاز فسوف لن نسمع صوتاً، يعني هناك رابطة شديدة بين سماعنا لتعليمات المركز و جهاز اللاسلكي. ولكن من الذي يسمع و يدرك نحن أم الجهاز؟ زبدة الكلام: إنّ كافة الأدلة التي أوردها الماديون هنا فقط تثبت وجود الرابطة بين خلايانا الدماغية و إدراكاتنا، إلّاأنّها لا تثبت أنّ الدماغ هو القائم بالإدراك و أنّه ليس الوسيلة (عليك بالدقّة). و من هنا يتضح أنّ الموتى لو لم يفهموا شيئاً فإنّما ذلك لزوال الرابطة بين أرواحهم و أبدانهم، لا أنّ الروح فنت، بالضبط كالسفينة و الطائرة التي خرب جهازها اللاسلكي، فالسفينة و الملاح و طاقمها ما زال قائماً، إلّاأنّ أهل السواحل لايمكنهم الإرتباط بهم، و ذلك لزوال وسيلة الإرتباط.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 159

أدلة إستقلال الروح

اشارة

كان الكلام عن الروح و أنّ الماديين يصّرون على أنّ الظاهرة الروحية من خواص الخلايا الدماغية، و الفكر و الحافظة و الإبداع و الحب و البغض و الغضب و العلم و المعرفة كلها من المسائل التجربية و التابعة لقوانين عالم المادة، وللفلاسفة الذين يقولون باستقلال الروح أدلتهم التي ترفض العقيدة المذكورة، والأدلة هي:

1- العلم بالعالم الخارجي

السؤال الأول الذي يمكن طرحه على الماديين هو: لو كانت الأفكار والظواهر الروحية هي الخواص الفيزيا كيميائية للدماغ، لما إنبغى أن يكون هناك تفاوت اصولي بين عمل الدماغ و عمل المعدة أو الكلية و الكبد، لأنّ عمل المعدة- مثلًا- مركب من وظائف فيزيائية و كيميائية فتقوم من خلال بعض حركاتها و إفراز الحوامض في هضم الطعام و إمتصاصه، و كذلك وظيفة البزاق- كما ذكرنا سابقاً- فيزيائية و كيميائية، و الحال إننا نرى بينهما فرقاً واضحاً. إنّ أعمال جميع أجهزة الجسم تشبه إلى حدّ بعضها البعض ماعدا

المعاد و عالم الاخرة، ص: 160

«الدماغ» الذي يتميز بوضع إستثنائي، و كل هذه الأمور ترتبط بالجوانب الداخلية، والحال هنالك بُعد خارجي للظواهر الروحية و أنّها تنبهنا إلى الأوضاع الخارجة عن وجودنا. و لتوضيح هذا الكلام لابدّ من الإشارة إلى عدّة نقاط: أولًا: هل هناك عالم خارج وجودنا أم لا؟ قطعاً هنالك مثل هذا العالم، و المثاليون- الذين ينكرون وجود العالم الخارجي و يزعمون أنّ كل الموجود هو «نحن» و «تصوراتنا» و العالم الخارجي بالضبط كالمشاهد التي نراها في المنام فهي ليست سوى تصورات- على خطأ عظيم، و خطأهم قد أثبتناه في محلّه. «1» ثانياً: هل نعلم بالعالم الخارجي أم لا؟ قطعاً الجواب على هذا السؤال بالإيجاب، لأنّ لنا علم كثير بالعالم الخارجي، كما لدينا معلومات واسعة عن

الموجودات من حولنا أو التي تقع في نقاط بعيدة عنّا. و الآن يطرح هذا السؤال نفسه: هل يأتي العالم الخارجي إلى باطن وجودنا؟ قطعاً لا، بل صورته لدينا، حيث نستفيد من خاصية تشابه الواقع فنقف على العالم الخارج عن وجودنا. و لا يمكن لهذا الواقع أن يقتصر على الخواص الفيزيا كيميائية للدماغ، لأنّ هذه الخواص وليدة تأثيراتنا عن العالم الخارجي، أو هي معلولاته، بالضبط كالتأثيرات التي يتركها الطعام على معدتنا، فهل يؤدّي تأثير الطعام على المعدة و فعله و إنفعاله الفيزيائي و الكيميائي إلى إلتفات المعدة وتنبهها بالطعام، إذن كيف يستطيع دماغنا أن يحيط خبراً بالدنيا الخارجة عنه؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 161

بعبارة أخرى لابدّ من إحاطة للعلم بالموجودات الخارجية و العينية، وهذه الإحاطة ليست من وظيفة الخلايا الدماغية، فخلايا الدماغ تتأثر فقط بالخارج، هذا التأثير كتأثر سائر أجهزة البدن بالخارج، أمّا الإحاطة و العلم بالوضع الخارجي فهي شي ء آخر، فإن كان التأثر بالخارج دليلًا على علمنا بالخارج، للزم أن نفهم أيضاً بمعدتنا و لساننا. و الحال ليس الأمر كذلك، والخلاصة فإنّ الوضع الاستثنائي لإدراكاتنا دليل على أنّها تستبطن حقيقة أخرى (عليك بالدقّة).

2- وحدة الشخصية

اشارة

الدليل الآخر الذي يمكن ذكره لإستقلال الروح هو مسألة وحدة الشخصية طيلة عمر الإنسان. توضيح ذلك: إنّنا في الوقت الذي نشك في كل شي ء لا نشك و نتردد في هذا الموضوع و هو «إنّ لنا وجود». «أنا موجود» و لا أشك في وجودي، و علمي بوجودي هو علم حضوري لا حصولي، يعني أنني حاضر عند نفسي و لست منفصلًا عنها، و بناءاً على هذا فإن علمي بوجودي ليس من قبيل رسم صورة لوجودي في ذهني، بل عن طريق عدم إنفصالي عن

نفسي. بعبارة أخرى: إنّ علمنا بالموجودات الخارجية، مثلًا من قبيل هذا الكتاب الذي أمامي و الذي يضم خطوطاً و صوراً من خلال رسم صورة عنه في أذهاننا، و من هذا الطريق نحيط بالوضع الخارجي، و يطلق على هذا العلم في الفلسفة اسم «العلم الحصولي» أو الإرتسامي، أمّا علمنا بوجودنا

المعاد و عالم الاخرة، ص: 162

فليس كذلك، لأنّه كما قلنا أنّ هذا العلم ليس من خلال رسم صورة ذهنية، بل من حضورنا لدى أنفسنا، و يصطلح على هذا النوع من العلم بالعلم الحضوري. على كل حال إنّ علمنا بوجودنا من أوضح معلوماتنا و ليست هناك أية حاجة أبداً إلى إستدلال، و عليه فالإستدلال المعروف الذي أورده الفيلسوف الفرنسي المشهور «ديكارت» على وجوده فقال: «أنا أفكر إذن أنا موجود» هو إستدلال زائد و يبدو غير صحيح، لأنّه إعترف بوجوده مرتين قبل أن يثبت ذلك (مرّة حين قال «أنا» و أخرى حين قال أفكر) ... هذا من جانب. و من جانب آخر فإن «أنا» هي واحدة من بداية العمر حتى نهايته «أنا اليوم» هي «أنا بالأمس» وهي «أنا قبل عشرين سنة». إني شخص واحد منذ الطفولة و لحدّ الآن، أنا ذلك الشخص الذي كنت و سأكون كذلك إلى آخر العمر و لن أصبح شخصاً آخر، طبعاً درست و تعلمت و تكاملت و سوف أتكامل أكثر إلّا أنّي لم أصبح شخصاً آخر، ومن هنا فإنّ جميع الناس يعرفونني كشخص واحد منذ الطفولة لحد الآن، فلي إسم واحد و هوية واحدة و ... و الآن أريد أن أري ما هذا الموجود الواحد الذي غطى جميع عمرنا؟

هل ذرات و خلايا بدننا أم مجموعة خلايا الدماغ و فعلها و إنفعالاتها؟ فهذه تستبدل مرات

طيلة عمرنا و تقريباً تستبدل كافة الخلايا مرّة واحدة كل سبع سنوات، لأنّنا نعلم أنّ ملايين الخلايا تموت يومياً و تحلّ محلّها خلايا أخرى، كالبناية التي يخرجون بعض طابوقها تدريجياً و يضعون مكانه طابوقاً آخر، فهذه البناية تتغير تماماً بعد مدّة و إن لم يلتفت عوام الناس إلى ذلك، أو كالمسبح الكبير الذي يرده الماء ببطى ء من جانب و يخرج من جانب آخر، فمن البديهي أن يتغير كل ماء المسبح بعد مدّة، و

المعاد و عالم الاخرة، ص: 163

إن لم يشعر أصحاب النظرة السطحية بذلك فيرونه على حالته السابقة الثابتة. و بصورة عامة فإنّ حالة التبدل و التغير تسود كل كائن يتغذى ويستهلك هذا الغذاء، وعليه يمكن أن يكون جميع أجزاء بدن رجل السبعين عاماً قد تغيرت لعشر مرات، الذي نريد أن نخلص إليه إننا لو اعتبرنا الإنسان كما يراه الماديون هو ذلك الجسم و الأجهزة العصبية و الدماغية و الخواص الفيزيائية والكيميائية لابدّ أن تكون هذه «الأنا» قد تغيرت عشرة مرات خلال السبعين سنة و لايبقى ذلك الشخص السابق، و الحال لا ضمير يقبل هذا الكلام. و من هنا يتضح أنّ هناك حقيقة واحدة ثابتة طيلة العمر غير الأجزاء المادية و هي لا تتغير كالأجزاء المادية و تشكل أساس وجودنا و هي عامل وحدة شخصيتنا.

تفادي خطأ فاحش

يتصور البعض أنّ الخلايا الدماغية لا تستبدل و يزعمون أنّهم قرأوا في كتب العلوم الفسلجية أنّ عدد خلايا الدماغ واحد منذ أول العمر حتى آخره، و هي لا تقل و لا تزداد بل تكبر فقط أنّها لا تنتج مثلها، و لذلك إن تعرضت لصدمة لما أمكن تعويضها، و عليه فلدينا وحدة ثابتة في مجموع البدن هي الخلايا الدماغية. إلّاإنّ هذا

خطأ كبير، و ذلك لأنّ من يقول هذا الكلام قد خلط بين مسألتين، فما برهنه العلم اليوم هو أنّ خلايا الدماغ من حيث العدد ثابتة طيلة العمر فهي لا تزداد و لا تنقص، لا أنّ الذرات التي تشكل هذه الخلايا

المعاد و عالم الاخرة، ص: 164

لا تعوض، وذلك لأننا كما قلنا سابقاً أنّ خلايا البدن تستقبل الطعام دائما و تستهلكه بالتدريج فتفقد الذرات القديمة، بالضبط كالشخص الذي يستلم المال من جانب ويدفعه من جانب آخر، فمن المسلم به أن رأسمال مثل هذا الفرد يتغير بالتدريج و إن لم يتغير مقداره، على غرار ذلك المسبح الذي يسكب فيه الماء من جانب ويطرح ماءاً إلى الخارج من جانب آخر فلا تمضي مدة حتى يستبدل الماء بأجمعه و إن بقي مقداره ثابتاً. و يبدو أنّ كتب الفسلجة قد أشارت إلى هذا الأمر، و من ذلك كتاب الهورمونات ص 11 و كتاب الفسلجة الحيوانية ص 32 لمؤلفة الدكتور محمود بهزاد وزملائه. و بناءاً على ما تقدم فخلايا الدماغ ليست ثابتة و تتعوض كسائر الخلايا.

***

تبريرات و تفاسير

إنهمك بعض المادييون في حلّ المشكلة الكبرى المتمثلة بوحدة الشخصية، فقالوا أحياناً: «أنا» مجموعة من التصورات المختلفة و المتتالية التي تطرأ على الذهن، و بناءاً على هذا فإنّ الإتصال و الإرتباط لهذه الإدراكات تشكل سلسلة واحدة تعرّف وحدة شخصيتنا طيلة العمر. و يقول الدكتور آراني: «إنّ مفهوم الذات يوجد بصورة منظمة و بشكل متوالي في أزمان متوالية في الكائنات الحيّة السالمة، و لا تنقطع إلّا بواسطة النوم، و يمكن أن يظهر الإختلال في الذات بواسطة المواد المخدرة والمسكرات». «1»

المعاد و عالم الاخرة، ص: 165

ولكن يلزم من هذا الكلام إنقطاع الأنا و تبدل و عدم وحدة الشخصية،

لأنّ الأنا التي أتى بها الدكتور آراني بالضبط كأقمشة مصنع لحياكة الأقمشة التي تتبدل باستمرار إلّاأنّها متصلة مع بعضها. و من هنا فقد أضطر البعض للقول: للأنا حيثية نسبية، فكل شخص من جهة هو نفسه و من جهة غيره، كما يقول في نفس الكتاب: «في الوقت الذي أنا نفسي فأنا لست نفسي، أنا ذلك الثابت، و لكن المتغير أيضا، أفضل مثال لفهم هذه القضية التشبيه بالنهر، فالنهر جاري وكل لحظة تختلف عن اللحظة السابقة و مع ذلك فهو نفس النهر» «1» و يبدو هذا الكلام عجيباً، لأنّ معناه هكذا: أنا لست ذلك الشخص قبل عدّة سنوات و قد تغيّرت حقيقة إلّاأنّي أظن أنّي أنا! ... و هذا على خلاف ضمير أي شخص. و ناهيك عمّا سبق فان «أنا» لست مجموعة من التصورات، و التصورات عملي (أنا)، إذن فما هذه «الأنا» المبدأ للتصورات؟ ليس لهم جواب قانع على هذا السؤال و لايستطيعون أن يرونا موجوداً ثابتاً طيلة العمر كأساس لوحدة شخصيتنا.

3- عدم تطابق الكبير و الصغير

اشارة

كان البحث هل روح الإنسان حقيقة ثابتة و تفوق الطبيعة أم خاصية تتوقف على البدن و دائماً في حالة تغير.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 166

فهل للدماغ نشاط فكري كما للفم نشاط إفراز البزاق و الكبد الصفراء بحيث تفنى الروح بفناء الدماغ؟ أم هي كالسفن الفضائية التي تنفصل صواريخها عنها الواحد بعد الآخر بعد أن تنطلق على شكل مراحل بحيث تستمر بسرعتها في مواصلة حركتها، فروح الإنسان أيضا بعد أن تنفصل عن البدن تبقي في عالم الأرواح و تواصل مسيرتها؟ لقد ذكرنا لحدّ الآن بعض الأدلة على إثبات نظرية إستقلال الروح و إليك الآن الدليل الآخر:*** نفرض إنّنا جلسنا على ساحل بحر تتحرك فيه عدّة زوارق صغيرة

وسفينة عظيمة، و نشاهد الشمس تغرب من جانب، كما نشاهد القمر يطلع من جانب آخر، و طيور الماء الجميلة تعوم دائماً على ماء البحر تحط وتنهض، و كان بجانبنا جبل شامخ يرتفع إلى عنان السماء. و الآن لنغمض أعيننا لحظات و نتمثل كل ما رأيناه في أذهاننا: جبل بذلك الإرتفاع و بحر بتلك السعة و سفينة عظيمة بتلك الضخامة، هذا ما يتجسد في أذهاننا و هي كاللوحة الكبيرة جداً التي توجد أمام أرواحنا أو باطن أرواحنا. و الآن يطرح هذا السؤال: أين موضع هذه اللوحة الكبيرة؟ هل يسع خلايا الدماغ الصغيرة إستيعاب مثل هذه اللوحة العظيمة؟ قطعا لا، بناءاً على هذا لابدّ أن نمتلك قسما آخر من الوجود يفوق هذه المادة الجسمانية و هو على قدر من السعة بحيث يستوعب في نفسه جميع هذه اللوحات. هل يمكن تطبيق خارطة عمارة ذات خمسمائة متر على أرض ذات مائة متر؟ هل يمكن بناء صالة رياضية بعشرة آلاف متر على أرض مساحتها متر واحد؟!

المعاد و عالم الاخرة، ص: 167

قطعاً إجابة هذه الأسئلة بالنفي، لأنّ الوجود الكبير و بحفظه لكبره لا ينطبق قط على الوجود الصغير، فليزم من الإنطباق التساوي أو أن يكون أصغر ممّا يراد له الإنطباق عليه. و على هذا الأساس كيف نستطيع إستيعاب الألواح الذهنية الخارقة في الكبر في الخلايا الدماغية الصغيرة؟ إننا نستطيع أن نرسم في أذهاننا الكرة الأرضية بخرامها البالغ أربعين مليون متر و كذلك نستطيع أن نتمثل في فكرنا الشمس التي تكبر الأرض بمليون و مئتي مرّة و كذلك المجرّات التي تفوق حجم الشمس بملايين المرّات، فلو أريد لهذه الصور أن تنطبق على الخلايا الدماغية الصغيرة لتعذرذلك طبق قانون عدم إنطباق الكبير على

الصغير، و عليه فلابدّ أن نعترف بوجود يفوق هذا الجسم هو مركز إستيعاب هذه الصور الكبيرة و ليس له أي بعد مادي.

سؤال ضروري

قد يقال أنّ صورنا الذهنية مثل «المايكروفيلم» أو «الخرائط الجغرافية» التي يكتب عليها عدد كسري مثل**** أو**** الذي يبيّن مقياس صغرها ويفهمنا أننا لابدّ أو نكبرها بنفس هذه النسبة لنحصل على الخارطة الواقعية، وكذلك رأينا كثيراً أنّهم إلتقطوا صورة لسفينة عظيمة لايمكنها بمفردها أن تشير إلى عظمة تلك السفينة، و من هنا جعلوا شخصاً في تلك السفينة و إلتقطوا صورة لها معاً لتتضح عظمته السفينة من خلال مقارنتها مع الشخص.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 168

فصورنا الذهنية صغيرة جدّاً وقد صغرت بمقاييس معيّنة فإن كبّرناها بتلك النسبة حصلنا على الصورة الواقعية، و من المسلّم به أنّ لخلايا الدماغ القدرة على إستيعاب هذه الصور الصغيرة في خلايا (عليك بالدقّة).

جواب

القضية المهمّة هنا هي أنّ المايكروفيلم عادة مايكبّر بواسطة البروجكتر فينعكس على شاشة، و العدد الذي يكتب تحت الخرائط الجغرافية فهو يساعدنا على ضرب الخارطة به لنتصور الخارطة الكبيرة الواقعية في أذهاننا، و السؤال الذي يطرح نفسه أين تلك شاشة الكبيرة التي ينعكس عليها مايكروفيلم ذهننا؟ هل هذه الشاشة الكبيرة هي خلايا الدماغ؟ قطعاً لا، و تلك الخارطة الجغرافية الصغيرة التي نضربها في عدد كبير و نبدلها إلى خارطة عظيمة لابدّ أن يكون لها موضع، فهل يمكن أن يكون الخلايا الدماغية الصغيرة. بعبارة أوضح: في مثال المايكروفيلم و الخارطة الجغرافية فالموجود في الخارج هو تلك الأقلام و الخرائط الصغيرة جدّاً، إلّاأنّ صورنا الذهنية ليست كذلك، فهذه الصور بالضبط بقدر الوجود الخارجي لها، و قطعاً تحتاج إلى محل بقدرها، و نعلم أنّ خلايا دماغنا أصغر من أن يمكنها عكسها و هي بتلك العظمة. و خلاصة الكلام: إنّنا نتصور هذه الصور الذهنية بذلك الكبر التي هي عليه في الخارج و لايمكن

لهذا التصوير و التصور العظيم أن ينعكس في خلية صغيرة، و بناءاً على هذا فهي بحاجة إلى محل غير ذلك، و من هنا نقف المعاد و عالم الاخرة، ص: 169

على وجود حقيقة تفوق هذه الخلايا و تفوق عالم المادة.

4- الظواهر الروحية ليست كالكيفيات المادية

الدليل الآخر الذي يمكنه أن يرشدنا إلى إستقلالية الروح و عدم كونهامادية هو: إنّنا نرى في الظواهر الروحية خواصاً و كيفيات ليس لها أي شبه بالخواص والكيفيات التي تتصف بها الموجودات المادية. و ذلك لأنّه: الموجودات المادية تتطلب «الزمان» و لها حيثية تدريجيةهذا أولًا و ثانياً تتآكل بمرور الزمان ثالثاً: أنّها قابلة للتحلل إلى عدّة أجزاء. بينما ليس هناك مثل هذه الخواص و الآثار للظواهر الذهنية، فإنّنانستطيع أن نرسم في أذهاننا عالماً كالعالم الفعلي دون الحاجة إلى الزمان والتدريج. وبغض النظر عمّا سبق فإنّ الصور المطبوعة في أذهاننا منذ فترةالطفولة لا يبليها الزمان و لا يجعلها تتآكل و تبقى محافظة على شكلها. يمكن أن يتآكل الدماغ ولكن لايتآكل بتآكله الحيز الذي إرتسم في أذهاننا قبل عشرين سنة و هو يتمتع بنوع من الثبات الذي يعدّ من خصائص عالم ما وراء المادة. و لروحنا خلاقية عجيبة بالنسبة للصور والمشاهد فإنّنا نستطيع في آن واحد و دون أية مقدمة أن نرسم في أذهاننا ما نشاء من صور و كرات سماوية ومجرّات و كائنات أرضية و بحار و جبال و ما إلى ذلك، و هذا ليس من خصائص المادة، بل هو علامة لوجود يفوق عالم المادة. أضف إلى ذلك فمما لاشك فيه أن 2 زائد 2 يساوي 4 حيث يمكن تحليل طرفي هذه المعادلة أي تحليل العد 4 أو 2، أمّا المساواة فلا يمكننا

المعاد و عالم الاخرة، ص: 170

تحليل أبداً كأن نقول للمساواة نصفان و كل نصف

غير الآخر فهذا الموضوع ليس بممكن، فالمساواة مفهوم يأبى التحليل، أمّا موجود أو غير موجود ولايمكن تنصيفه، وبناءاً على هذا فمثل هذه المفاهيم الذهنية ليست قابلةللتحليل و لذلك لا يمكن أن تكون مادية، لأنّها لو كانت مادية لأمكن تحليلها، و كذلك لا يمكن لروحنا بصفتها مركزاً لهذه المفاهيم غير المادية أن تكون مادية، و عليه فهي تفوق المادة (عليك بالدقّة).

5- الأدلة التجريبية على إستقلال الروح

اشارة

أثبتنا لحدّ الآن إستقلال الروح عن طريق أربع إستدلالات عقلية ومنطقية، و برهنا أو الروح لايمكنها على ضوء مذهب الماديين أن تكون خاصية فيزيائية و كيميائية لخلايا الدماغ، و لابدّ أن تكون حتمياً موجوداً يفوق المادة الجسمانية.

و نتجه الآن صوب الأدلة التجربية لنثبت من خلالها إستقلالية الروح وعدم كونها مادية، فقد أورد الفلاسفة و علماء الإلهيات المعاصرون الروح في مصاف المسائل التجربية و قد منحوها صورة حسية و تجربية لُاولئك الذين يتعذر عليهم قبول الإستدلالات العقلية، حتى سلّم جمع من علماء العلوم الطبيعية لتلك الأدلة التجربية فاعترفوا بالروح على أنّها وجود يفوق المادة. و يمكن الإشارة باختصار إلى أقسام الأدلة التجربية و هي:

أقسام الأدلة التجربية

اشارة

1- الإرتباط بالأرواح 2- التنويم المغناطيسي 3- النوم الاعتيادي و الرؤيا

المعاد و عالم الاخرة، ص: 171

4- الأعمال الخارقة للمرتاضين 5- إنتقال الفكر من بعيد

***

و نخوض الآن في تفاصيل كل واحد منها بصورة مختصرة.

1- الإرتباط بالأرواح
اشارة

لقد أصبح موضوع الإرتباط بالأرواح و التحدث معها اليوم بصورة علم، وقد تشكلت جمعيات بهذا الاسم في مختلف نقاط العالم، و قد قال العالم المصري المعروف فريد وجدي (في المجلد الرابع من موسوعته في مادة الروح) أنّ ثلاثمائة مجلة و صحيفة تنتشر في أنحاء العالم من قبل «جمعيات الروح» ويشترك في هذه الجلسات طائفة من كبار علماء العلوم المختلفة. و قد عقدت عدّة جلسات في أمريكا و إنجلترا و فرنسا و ألمانيا و أغلب البلدان بهدف التعامل مع هذا الموضوع و قد حضرها أفراد معروفون من مختلف الشخصيات و قد عقد الإتصال بالأرواح بحضورهم و حصلت عدّة أعمال خارقة للعادة، و من ذلك ما ورد في كتاب اصول علم النفس لفرويد ص 32: شكلت هيئة من 33 شخص من أساتذة جامعات إنجلترا و عدد من القضاة لدراسة هذا الموضوع، فاستغرقت دراستهم سنة و نصف، هل الإرتباط بالأرواح حقيقة أم خرافة؟ فلما فرغوا من تحقيقهم و دراستهم قدموا آرائهم الإيجابية بشأن صحة هذه الموضوع إلى «جمعية لغويين إنجلترا» التي كلّفوا من قبلها، وقد وردت مسائل مدهشة عمّا يشاهد في تلك الجلسات في كتب العالم بعد الموت لمؤلفه ليون ديني و علم النفس لفرويد

المعاد و عالم الاخرة، ص: 172

و كتاب على إبطال المذهب المادي، و منها: 1- التحدث بلغة غير اللغة الأم (يعني الشخص الذي يتصل بالأرواح في التنويم المغناطيسي يمكنه أحياناً أن يتحدث معها بلغة لم يكن يجيدهاحتى ذلك اليوم!). 2- حل المسائل الرياضية المعقدة في

التنويم المغناطيسي من قبل أفراد ليس لهم أي إستعداد لحل مثل هذه المسائل. 3- كتابة بعض المطالب على ألواح جعلت في صندوق و قد أحكم غلقه! 4- حمل أجسام من الأرض بواسطة الأرواح دون أن تمتد إليها أي يد! 5- ظهور الأرواح بشكل أشباح في هذه الجلسات. و كما ذكرنا فإنّ هذه الأمور قد شوهدت من قبل كبار العلماء و قد إعترفوا بها و سجّلوها في مختلف الكتب و المجلات. فهل يمكن القول و بالنظر لهذه المشاهدات الحسية أنّ الروح هي تلك الخواص الفيزيائية و الكيميائية لخلايا الدماغ؟

ماذا يقول الماديون بشأن هذه المطالب المدهشة؟

ليس لهؤلاء سوى ثلاثة أجوبة: 1- أحياناً يقولون: إنّ مثل هذه الأمور من قبيل الشعبذة و خفّة اليد والاستفادة من الوسائل الألكترونية أو الدسائس التي حيكت مسبقاً. 2- قد لايكون هناك وجود واقعي لمثل هذه الظواهر و لعلها تستند إلى تلقينات متتالية و متكررة بواسطة أفراد مهرة. 3- يمكن أن يكون بعض هذه الظواهر من حالة اللاشعور، أي أنّ هناك سلسلة من الأمور في اللاشعور للشخص و هو غافل عنها و عند التنويم المعاد و عالم الاخرة، ص: 173

المغناطيسي يرفع الستار عنها، و الأفراد الذين لايعلمون بوجود هذا اللاشعور يتصورون أنّهم يرون مسألة خارقة. إلّاأنّ علماء الروح قد أغلقوا جميع هذه المنافذ و قد مارسوا بعض الأفعال التي لا تبقي من مجال لاحتمال الدسائس و الشعبذة و الاستفادةمن مختلف الوسائل الألكترونية بحيث يزول أي إبهام و غموض و منها: أولًا: يختارون الواسطة «1» ممن لايزيد عمره على عامين و يسمعون كلام الأرواح عن طريقه، و إن كان كبيراً جعلوه في قفص خاص و قيدوا يديه و رجليه و عصبوا عينيه حتى لايتسنى لهم الاستفادة من أية وسائل خاصة. ثانيا: كما

أوردنا سابقاً فإن حضّار الجلسة ينتخبون أحياناً من بين كبارالعلماء، و من البديهي أن يستحيل عادة احتمال تلقين مثل هؤلاء الأفراد. من جانب آخر أحياناً تحشر بعض الحيوانات في تلك الجلسات ليدرسواردود فعل المشاهد المرعبة عليها و يبدو أنّها نتيجة إيجابية، يعني أنّهاتتأهب للفرار من جراء رؤية تلك المشاهد أو أنّها تهرب فعلًا، و لا شك أوالتلقين بهذا الشأن لا يمكن الأذعان له. ثالثا: أحياناً يصرّح الواسطة حين التنويم المغناطيسي بأمور لم تطرق سمعه سابقاً قط كما لا يحتمل أن تكون كامنة في اللاشعور (راجع الكتب التي ذكرت سابقاً بهذا الخصوص).

ملاحظات مهمّة

لابدّ من ذكر بعض المواضيع لكي تتضح جوانب البحث: 1- إنّ قضية الإرتباط بالأرواح و إن كانت قطعية كما ذكرنا من وجهة نظر

المعاد و عالم الاخرة، ص: 174

الحاذقين في هذا الفن و جمع من العلماء، و قد أوردنا اسم جماعة كثيرة من العلماء و المحققين ممن إعترفوا صراحة بهذا الموضوع في كتاب «عودة الأرواح» إلّاأنّ هذا لايعني إننا نقرّ بالزعم الأجوف لبعض السذّج و البّله ممن يدعي الإرتباط بالأرواح. فمما يؤسف له أنّ مسألة الإرتباط بالأرواح قد استغلت إستغلالًا بشعاً، فقد يدعى ذلك عدد كبير من المنتهزين المحترفين أو السذّج البلهاء ويرون أنّهم يرتبطون بجميع الأرواح فيحصلون من خلال ذلك على بعض الأرباح، و لسوء الحظ فإنّ مثل هؤلاء الأفراد يضفون صبغة خرافية على هذه المسألة العلمية والتجربية فيشوهونها لدى الآخرين، و قد دفعت بعض الأوهام و التخيلات البعض إلى إنكار أصل الموضوع و الحال هناك فارق كبير بين هؤلاء الأفراد والعلماء و المفكرين بالنسبة لهذا البحث، و قد لايصدق واحد من عشرات الذين يزعمون إرتباطهم بالأرواح، و عليه لابدّ أن نتحلى بالوعي و

اليقظة و ننأى بهذا البحث بعيداً عن الإستغلال الذي يمارسه المهووسون و الجهّال فلا نخدع بالمزاعم التي يطلقها الدجّالون و لا ننسب أعمالهم الطائشة إلى هذا البحث العلمي. و لاسيما اللعبة الخاصة التي راجت في الأوساط باسم الإرتباط بالأرواح بواسطة الطاولة المستديرة، فادعى البعض ممن ليس له أي إستعداد علمي أو عملي سوى إعداد طاولة مستديرة مع مخطط أنّه حصّل على مفتاح الأرواح وله أن يتصل بصغيرها و كبيرها، و هذا من أوضح النماذج المزيفة لمثل هذا الإرتباط الذي ينبغي الحذر منه بشدّة (ذكرنا هذا الموضوع بالتفصيل في كتاب عودة الأرواح).

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 175

2- هل يوجد دليل على إمكان الإرتباط بالأرواح في المصادر الإسلامية؟ الجواب على هذا السؤال بالإيجاب، حيث ورد في التواريخ الإسلامية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر بعد معركة بدر بالقاء قتلى الكفّار في القليب ثم وقف على القليب فناداهم: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَاوَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقّاً فَانّي قَدْ وَجَدْتُ مَاوَعَدَني رَبّي حَقّاً». فقال له البعض أتحدثهم يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و لم تبق إلّاجيفتهم. فردّ النبي صلى الله عليه و آله بأنّكم لستم بأسمع لكلامي منهم. «1» و ورد في نهج البلاغة أنّ علياً عليه السلام لما رجع من صفين و أشرف على القبور بظاهر الكوفة قال: «يا أهل ديار الموحشة، و المحال المقفرة، و القبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق، أمّا الدور فقد سكنت، و أمّا الأزواج فقد نكحت، و أمّا الأموال فقد قسمت. هذا خبر ماعندنا فما خبر ما عندكم» ثم إلتفت إلى أصحابه و قال:

«أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ «خير الزاد التقوى». «2» و بالنظر إلى هذه الأخبار و ماشابهها يتضح ومن خلال المصادر الإسلامية أنّ الإرتباط بالأرواح ليس بالأمر المتعذر.

***

3- هل تعلم الأرواح بكل شي ء؟ و هل تستطيع الإخبار عن كل ما تعلمه؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 176

قطعاً الجواب بالسلب، لأنّ الروح بعد إنفصالها عن هذا العالم و إن كانت لها فعالية أوسع، مع ذلك فمعلوماتها محدودة، و هي ليست عالمة بكل شي ء، وعلى فرض المحال أنّها كذلك، فلا يعلم أنّها تستطيع الإخبار عن كل ذلك، والعبارة «لو أذن لهم في الكلام» التي وردت في نهج البلاغة تدل على أنّهم ليسوا مأذونين بذكر جميع الأشياء.

*** 4- الموضوع المهم الآخر الذي قد يلتبس أحياناً هو خلط قضية «الإرتباط بالأرواح» مع «عودة الأرواح» حيث يرى البعض ضرورة إلتزام من يؤمن بالإرتباط بالأرواح بموضوع عودة الأرواح، يعني يعتقد بأنّ الروح بعدإنفصالها عن البدن تقر في جنين أم أخرى فتولد من جديد، و يمكن أن يتكرر هذا العمل عدّة مرات، فتقدم روح واحدة إلى هذا العالم عدّة مرّات. إلّاأنّ هذه العقيدة و التي تعرف بتناسخ الأرواح خطأ محض، فالحياة التكرارية ليست ممكنة، و الروح بعد مفارقتها البدن لا تستقر في بدن آخر. هذا و قد أوردنا عدّة أدلة تبطل هذه العقيدة في كتاب «عودة الأرواح» ومن أراد المزيد فليراجعه.

2- التنويم المغناطيسي
اشارة

توصل العلماء منذ القديم إلى وجود قوّة خفية في بدن الإنسان يمكنها التأثير على الأجسام الأخرى دون اللجوء إلى الوسائل العادية و التي اصطلح عليها فيما بعد باسم «القوة المغناطيسية». و لعل هذه القوّة الخفية موجودة لدى كافة الأفراد، غاية ما في الأمر أنّها

المعاد و عالم الاخرة، ص: 177

تكون ضعيفة جدّاً

لدى البعض، بينما تكون خارقة للغاية لدى البعض الآخر، كما يمكن تقويتها و تنميتها بواسطة التدريب و التمرين، حتى ورد أنّ بعض الحيوانات- و منها الأفعى- تستطيع بواسطتها شل حركة أعدائها أو فريستها، وإن شككنا في وجودها لدى الحيوانات فلسنا نشك في وجودها عند الإنسان. لقد كشفت هذه القوّة في البداية في مشرق الأرض حيث أدركها الكلدانيون و المصريون و الهنود، لكنّها لم تكن مسألة عامة حتى طرحت كاكتشاف علمي أواخر القرن الثامن عشر (عام 1775 م) من قبل الطبيب النمساوي «مسمر» فقال: هناك قوّة خاصة لدى الإنسان يمكن بواسطة معالجة بعض المرضى. طبعاً حسب العادة فإنّه كل إكتشاف غالباً ما يواجه بالحملات اللاذعة من قبل الأفراد غير المطّلعين و حسد الحاسدين، و من هنا فقد واجه «مسمر» عاصفة من الإعتراضات آنذاك حتى رآه البعض مجنوناً، و بالطبع فإنّ طموحات «مسمر» الخيالية قد زادت من حدة تلك الحملات و أصبحت ذريعة بيد مخالفيه، فقد إضطر إلى مغادرة النمسا و التوجه إلى فرنسا لمواصلة عمله، إلّاأنّ أبحاثه إقتصرت على السيّالة المغناطيسية دون الحديث عن التنويم المغناطيسي، حتى تعرف «بويسغور» على طريقة أستاذه مسمر، فكان يستفيد من هذه القوّة الخفية في البدن لمعالجة المرضى حيث كان يدخل هذه الأمواج المغناطيسية الخاصة إلى بدن المرضى. ذات يوم و بينما كان يعالج قروياً فوجى ء بأنّه نام، فأصيب بالذهول و الدهشة فأراد أن يوقظه فصرخ به إنهض! إنهض!

المعاد و عالم الاخرة، ص: 178

و هنا إزدادت دهشته حين نهض ذلك الرجل و ما زال في حالة النوم وقد أخذ يمشي! فقال له مذهولًا! قف. فوقف ففهم بعد ذلك أنّ المريض يغط في حالة تشبه النوم و هي تفرق كثيراً عن النوم

الإعتيادي و كان يمتثل كل ما يقال له. أخيراً أيقظه و أعاده إلى حالته الطبيعية، و هكذا كشف موضوع التنويم المغناطيسي في ذلك الوسط و تبيّن أنّه يمكن الحصول على «التنويم المغناطيسي» عن طريق «السيّالة المغناطيسية». و باستمرار التحقيقات في هذا المجال إتضح أنّه يكفي لتنويم الأفراد مغناطيسياً النظر الطويل إلى نقطة شبه مضيئة إلى جانب التلقينات المتتالية مع الاستفادة من السيّالة المذكورة، و هكذا يمكن تنويم الأفراد مغناطيسياً بواسطة العناصر الثلاثة السابقة. ثم استمرت الأبحاث و الإختبارات لتتوالى كل يوم كشف غرائب وعجائب هذا النوم الذي يشير إلى فرقه الشاسع مع النوم الطبيعي، و القضية المهمّة هنا هي أنّ العامل «المنوِّم» يستطيع أن يحلّ محلّ إرادة و عزم المعمول «المنوَّم»، بحيث يستسلم المعمول تماماً لإراداة العامل فيمتثل كل ما يؤمر به دون نقاش سوى في بعض الحالات الاستثنائية. و من ذلك: 1- يستطيع العامل من خلال التلقينات المتابعة تخدير بدنه بحيث لايشعر بأدنى ألم. و قد استفيد اليوم في الطلب من هذا العمل بدلًا من الدواء المخدر، وهنالك اليوم الأبحاث المسهبة في الصحف و المجلات حول الاستفادة من المعاد و عالم الاخرة، ص: 179

التنويم المغناطيسي بدلًا من الأدوية المخدرة و قد إتخذت هذه القضية طابعاً عملياً في بعض البلدان حيث يرى البعض أنّ آثاره أفضل من الأدوية المخدرة وعوارضه أقل. 2- يمكن للعامل أن يلقّنه مثلًا أنّك آمر لجيش أو سجين مقيد، فيتخذلنفسه مباشرة هيئة قائد عسكري فيتحدث بصوت وحركات خاصة بالنسبةلذلك الآمر، و في الحالة الثانية يبدي ردود فعله و كأنّه سجيناً مقيداً؟ و قد رأيت في منطقة خرم آباد في أحد أسفاري مشهداً من مشاهدالتنويم المغناطيسي في منازل أحد الأصدقاء و باقتراح

البعض الآخر من الأصدقاء، فالمنوِّم كان رجلًا محترماً، كما كان الفرد المراد تنويمه شاباًمؤدباً، فأمره بالإستلقاء على الأرض وأخذ يدخل السيّالة المغناطيسية في بدنه و هو دائم النظر إلى عينيه و يلقّنه باستمرار «الآن ستنام» و «ستنام سريعاً» و ما إلى ذلك من العبارات و قد كانت الغرفة شبه مظلمة و كان مايقرب خمسة عشر من الفضلاء قد حضروا هناك، و أخيراً جعله ينام، ثم قطع بواسطة التلقين إرتباطه عن جميع الأفراد سوى نفسه، بعد ذلك لقّنه أنّ بدنه سيكون كالخشب الجاف. و لم تمض مدّة حتى أصبح كذلك بحيث أخذ فرد برجله و آخر برأسه ورفعوه من الأرض فجعلوا رجله على الحافة العليا لكرسي و رقبته على الحافة الأخرى لكرسي آخر ثم وضعوا قطعاً من القماش تحته كي لايتأذى من الكرسي وحافاته و الطريف في الأمر أنّه إستقر على الكرسيين كأنّه قطعةخشبية جافة، حتى حين كانوا يضغطون على بطنه فإن ظهره كان يتحرك بمرونة دون أن يعوّج أو يسقط على الأرض، ثم طرحوه على الأرض و أخذ العامل يلقّنه حتى أعاده إلى حالته العادية دون أن يوقظه من نومه.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 180

ثم لقّنه ثانية و بصورة مكررة فخدر بدنه بحيث لم يشعر بألم، و هناأشعل سيجارته و وضعها على يده، إلّاأنّه لم يبد أي رد فعل، لكنه لما أوقظمن نومه قال أشعر بقليل من الحرقة في يدي. 3- أحياناً يأمر العامل المعمول بالتحدث بلغات مختلفة حتى تلك التي لم يكن يعرفها. 4- أحياناً يذكره العامل بالذكرات التي نساها بالمرة و يبعث به إلى حياته الماضية، و الغريب في الأمر أنّ جميع ردود فعله في كل هذه الحالات كتلك التي أبداها في السنين الماضية! 5- أحياناً يأمره العامل بالسفر إلى المناطق النائية و يتحدث

عن مشاهداته. «1» و كل هذه الأمور تدل على وجود قوّة أخرى في وجودنا غير خلاياناالدماغية و أفعالها و إنفعالاتها، و هي تفرق كثيراً عن القوى المادية التي نعرفها، كما تفوق القوى المادية قدرة و نشاطاً حيث أمكن التعرف عليهااليوم بواسطة العلم، كما تبدي بعض الظواهر و الآثار التي تختلف و ما نراه ونعرفه في عالم المادة.

***

نقلت عدّة مشاهدات عن أفراد موثوقين بشأن «تجرّد الروح» يعني الإنفصال المؤقت عن البدن و الذهاب إلى نقاط مختلفة بحيث يستطيع الإنسان الاطمئنان من مجموعها إلى وجود الروح بصفتها حقيقة مستقلة وتفوق المادة، نورد نموذجا منها:

المعاد و عالم الاخرة، ص: 181

كان المرحوم الشيخ هاشم القزويني من كبار علماء و أساتذة الحوزة العلمية في مدينة مشهد، و الحادثة التي ننقلها قد سمعها منه الكثير من أصحابه وتلامذته، و من ذلك روى أحد تلامذة ذلك المرحوم- و هو من فضلاء الحوزة العلمية في قم- قائلًا: ذهبت يوماً إلى المرحوم الشيخ هاشم القزويني وطلبت منه أن يقص علي تلك الحادثة بشأن تجريد الروح وإنفصالها المؤقت عن البدن الذي حدث له، فردّ عليَّ قائلًا: «كان هناك رجل ضالعاً بهذا العلم فقصدته و سألته أن يجرّد روحي من بدني. فوافقني، و حين تأهبت لذلك، رأيت فجأة بدني في زاوية و قد إنفصلت عنه! فقلت: لابأس أن أستغل الأمر و أتوجه إلى قريتنا الواقعة أطراف منطقة قزوين، فرأيت نفسي قرب القرية، فرأيت خارج القرية رجلًا قام بسرقة ماء من النهر حين السحر وحمله إلى ملكه، و لم تمض مدّة حتى رأيت صاحب الماء، فلما علم بالأمر غضب و إنهال بالضرب على السارق بالمسحاة حتى قتله. كنت أشاهد تلك الحادثة إلّاأنّه لم يراني، أخيراً هرب القاتل و بقى

جسد المقتول على الأرض، فلما جاءت نسوة القرية لأخذ الماء علمن بحادثة القتل، فنقلن الخبر مبهوتات إلى أهالي القرية، فجاء أهل القرية جماعات جماعات لرؤية الحادثة، و لكن ليس هناك من خبر عن القاتل، و من هنا شعروا بالقلق والاضطراب و لم يعرفوا ماذا يفعلون، أخيراً إستعدوا لدفن بدن المقتول. فلما أفقت إلى نفسي كان ذلك قريباً من طلوع الفجر و لم أكن صليت الصبح حينها، فرأيت نفسي فجأة في بدني، و قال لي الشخص الذي جرّد

المعاد و عالم الاخرة، ص: 182

روحي: كيف حالك؟ فأخبرته بكل ما رأيت و أطلعته على تاريخ الحادثة بالضبط، و بعد شهرين قدم عدد من أهالي تلك القرية فلما إلتقوني، سألت عن المقتول دون أن أذكر الحادثة فقلت كيف حاله؟ قالوا: للأسف لقد قتل قبل شهرين و عثرنا على جثته قرب النهر إلّاإنّنا لم نعرف قاتله، و بعد سبع سنوات ذهبت إلى القرية لرؤية أقاربي وأصدقائي، فجاءني عدد كثير من الناس حتى كان القاتل أحدهم، و لما خلى المجلس دعوته إلى قربي و قلت له: قل الصدق من قتل فلاناً؟ فاعرب عن عدم علمه وقال: لا أدري.

قلت: فمن رفع تلك المسحاة و قتل بها فلاناً؟ فشحب وجهه و فهم أنّي أعلم بالموضوع، فاضطر إلى سرد الحادثة. قلت: كنت أعلم، لكنّي أردت أن أقول لك إذهب و إدفع الدية لورثة المقتول أو أطلب منهم أن يعفو عنك».

ما ردّ الماديين على هذا الموضوع؟

طالما لايمكن التنكر لموضوع التنويم المغناطيسي، فقد صرّح القائلون بمادية الروح قائلين: إنّنا نقرّ هذه الظاهرة، إلّاأنّها قضية بسيطة، و لا تدل على أنّ الروح هي أكثر من الخواص الفيزيائية و الكيميائية لمادة الدماغ، لأنّ هذا النوم جاء إثر التلقين إلى جانب التعب بسبب

تكرار عمل واحد جعله ينام (فالصوت الرتيب للمقص أو محرك السيارة يجعل الإنسان ينام أحياناً) ولكن يفقد الإنسان في هذا النوم إرادته فتستبدل بما يلقن، ثم تظهر آثاره الناتجة عن ذلك التلقين.

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 183

و الذي ينبغي الإلتفات إليه أنّ التنويم المغناطيسي مقبول إذا إنحصر بهذا الأمر في أنّ الإنسان ينام و يظهر بعض الحركات إثر التلقين، إلّاأنّ سفر الروح إلى الأماكن الأخرى و التحدث باللغات التي لم تكن معروفة و العلم بالمسائل الخارجة عن حدود معلومات الشخص فهذه من الأمور التي لا يمكن حلّها على ضوء التفسير الذي أقررناه، و لابدّ أن نعترف أنّ في وجود الإنسان حقيقة كامنة أخرى غير ما تفيده العلوم الطبيعية و المادية والتي تبدى الآثار العجيبة التي لا تنسجم و الاصول و القوانين المادية.

3- النوم و الرؤيا
اشارة

لقد شغلت قضية النوم أفكار العلماء من ناحيتين. 1- ما النوم؟ لماذا ينام الإنسان؟ ما هي التغييرات الفسلجية التي تطرأ على الإنسان حين النوم؟ 2- ما المشاهد التي يراها الإنسان في المنام و التي يطلق عليها اسم الرؤيا وكيف يحصل ذلك؟ لقد وردت لحدّ، الآن حسب تصريح بعض العلماء مئات النظريات بشأن النوم و حقيقة الرؤيا التي تشير إلى أنّ هذه المسألة قد خضعت للدرس والبحث منذ قديم الزمان، و ما سنورده هنا مختصراً من أهم النظريات التي عالجت هذا الموضوع. و سنخوض في البداية في أصل حقيقة النوم لنرى ما الذي يحصل لينام الإنسان؟ ثم نتابع البحث بتسليط الضوء على حقيقة الرؤيا التي تشكل المحور الأصلي للبحث.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 184

النوم يعني تعطيل قسم من الأنشطة الدماغية للإنسان (الأنشطة الشعورية). من البديهي أنّ جميع أنشطة هذا المركز القيادي لا تعطل حيث

إنّ التعطيل العام للدماغ يعني الموت! يعتقد فريق من العلماء أنّ النوم يشمل كافة الكائنات الحيّة، فجميع الحيوانات و حتى النباتات تخلد إلى النوم، يعني هناك سكون لبعض أنشطتها الحيوية بصورة متناوبة خلال الليل و النهار. «1» أمّا ما الذي يحدث لتتوقف مجموعة من دماغ الإنسان عن النشاط ويغط في النوم و تتباطى ء فعاليات الجسم، و بعبارة أسهل ما الذي يحصل لينام الإنسان؟ لقد وردت عدّة أجوبة على هذا السؤال، و أهمّها النظريات الثلاث الآتية: 1- نظرية العامل الفيزيائي 2- نظرية العامل الكيميائي 3- نظرية العامل العصبي للنوم عامل فيزيائي و سببه الرئيسي إنتقال الدم من الدماغ إلى الاطراف السفلى للبدن و الأرجل، و حين يتجه الدم إلى الأطراف السفلى و يقل عن الدماغ، فإنّ الدماغ يوقف جانباً من أنشطته فنقول في هذه الحالة نام. و قد إستفاد أنصار هذه النظرية من أسرّة خاصة- تسمى الأسرّة الميزانية- لإثبات صحة آرائهم، فالشخص الذي يريد أن ينام يستلقي عليها

المعاد و عالم الاخرة، ص: 185

و قد أثبتت التجربة أنّ رأسه يصبح أكثر ثقلًا قبل أن ينام، لأنّه سحب مقداراً كبيراً من الدم، أمّا إن نام أصبحت أطراف رجليه أكثر ثقلًا ليدل ذلك على أنّ الدم قد سار نحو هذه الأطراف. و هذه النظرية و إن كانت مقبولة ذاتاً- لأنّها تستند إلى التجربة- لكن لا يمكنها أن تكون العامل الرئيسي للنوم، لأنّ هناك سؤال يطرح نفسه و هو:

ما الذي جعل الدم يترك الدماغ و يتجه نحو الأقدام، و بعبارة أخرى فالنظرية تبيّن نتيجة النوم لا العامل الأصلي الذي يقف وراءه.

***

يقول أنصار النظرية الثانية (العامل الكيميائي): تتجمع بعض السموم في بدن الإنسان حين الجهد و السعي و التي تشل جانباً

من الدماغ عن العمل فإن جذبت هذه السموم من قبل البدن صحا من نومه. إلّاأنّ أصحاب هذه النظرية لم يستطيعوا بيان هذا الأمر، و هو لماذا ينام الإنسان و ينهض فجأة من نومه، والحال نعلم أنّ التسمم موضوع تدريجي و زواله تدريجي أيضاً؟ و عليه فلابدّ أن يتجه الإنسان بالتدريج من حالة اليقظة إلى حالة شبه المنام و من ثم حالة النوم الكامل، و نهوضه يجب أن يكون كذلك، و الحال ليس الأمر كذلك، وغالباً ما تحصل الظاهرتان في آن واحد، طبعاً ممكن أن يستلقي الإنسان ساعة على الفراش محاولًا النوم، إلّاأنّ فترة الإنتقال إلى النوم لحظة ليس أكثر، و كذلك اليقظة من النوم تحصل في لحظة واحدة، و لا تنسجم هذه القضية و التدريج. و أمّا النظرية الثالثة فتقول: هناك جهاز فعال في دماغ الإنسان يضطره للعمل، فإن توقف هذا الجهاز عن العمل، نام الإنسان، هذا الجهاز العصبي له حكم معجل السيارة حيث يتوقف عند التعب. لكن ما هذا التعب؟ و لم المعاد و عالم الاخرة، ص: 186

يتوقف هذا الجهاز العصبي الفعال عن العمل؟ هذه أسئلة لم تجد جواباً شافياً لحد الآن. و النتيجة التي نخلص إليها ممّا سبق أنّ العامل الأصلي للنوم ما زال مبهماً غير معروف رغم جميع الدراسات و التحقيقات التي أجريت بهذاالشأن، و لعل المستقبل كفيل بالتوصل إلى كنه حقيقة هذا الموضوع.

الرؤيا و الأحلام

الأهم من النوم الرؤيا، و هي المشاهد القبيحة و الجميلة و المحببة والموحشة التي يراها الإنسان في المنام، و ما زال الإنسان لحدّ الآن يتساءل ما هذه المشاهد و المناظر التي يراها في المنام و ما مصدر الرؤيا؟ ما العامل الخفي الذي يجسد هذه المشاهد للإنسان في ساعات النوم؟ هناك عدّة

تفاسير بشأن حقيقة الرؤيا و يمكن تقسيمها إلى قسمين: 1- التفسير المادي 2- التفسير الروحي يزعم الماديون أنّ للرؤيا عدّة أسباب هي: الف: يمكن أن تكون الرؤيا نتيجة لأعمال الإنسان اليومية؛ يعني ما فعله الإنسان في الأيام الماضية يمثل لدى فكره عند النوم. ب: يمكن أن تستند الرؤيا إلى بعض الأمنيات التي لم تتحقق، كأن يرى العطشان ماءاً، و ذلك الذي ينتظر السفر أنّه قدم من السفر (و من هنا قيل قديماً أنّه يحلم ...). ج: يمكن للخوف من الشي ء أن يدعو الإنسان لرؤيته، فقد تكرر بالتجربة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 187

أن من يبقى وحيداً في البيت و يخشى اللص يراه في المنام. و لفرويد و أنصاره و أتباع مدرسته تفسير و تعبير مادي آخر للرؤيا؛ فبعد مقدمات طويلة عريضة يصرحون بأنّ الرؤيا هي عبارة عن إشباع الرغبات المكبوتة. «1» و توضيح ذلك: أنّ للنفس بعدان: «الشعور» و ما هو يرتبط بالفكر اليومي و المعلومات الإرادية و الإختيارية للإنسان و «اللاشعور» و ما يختفى في الضمير الباطني للإنسان بصورة رغبة لم تشبع، فهم يقولون عادة ما تكون لنا رغبات لم نستطع إشباعها فبقيت هذه الرغبات مكبوتة فإن؟ نمنا برزت إلى السطح و قد لا تحتاج أحياناً إلى تعبير (كالعاشق الذي يرى حبيبته المفقودة في المنام) و أحياناً تتغير إلى أخرى و بهذه الحالة تحتاج إلى تعبير، و بناءاً على هذا فالرؤيا إنّما ترتبط دائماً بالماضي و ليس لها من صلة بالمستقبل لتخبر عنه، و هي وسيلة ممتازة للإطلاع على اللاشعور، و من هنا يعتمد عليها في عالج الأمراض الروحية التي تستند إلى كشف اللاشعور عن طريق تنويم المريض، ويعتقد بعض علماء الأغذية أنّ هناك علاقة

بين الرؤيا و الحاجة البدنية للغذاء، فيرون مثلًا أنّ الإنسان إذا رأى في المنام أنّ الدم يخرج من أسنانه فمعنى ذلك قلّة فيتامين «*» في بدنه و إن رأى مشيب شعر رأسه فهو يعاني من نقص فيتامين «*».

*** و أمّا فلاسفة الروح فلهم تفسير آخر للرؤيا و النوم حيث يرون النوم و الرؤيا على أقسام: 1- النوم الرؤيا المتعلقة بماضي الإنسان و رغباته و آماله و التي تشكل المعاد و عالم الاخرة، ص: 188

القسم المهم من رؤى الإنسان. 2- النوم المضطرب و المبهم المعلول لفعالية الوهم و الخيال (و إن أمكن أن يكون له دوافع روحية). 3- النوم والرؤيا ذات الصلة بالمستقبل و المدّلة عليه. لاشك أنّ الرؤيا و الأحلام المرتبطة بالماضي و تجسم المشاهد التي رآها الإنسان طيلة حياته ممّا لا تحتاج إلى تعبير خاص، و كذلك الرؤيا المضطربة و التي يصطلح عليها بأضغاث الأحلام التي تفرزها الأفكار القلقة و على غرار الأفكار التي تسيطر على الإنسان حين إرتفاع الحمى و الهذيان هي الأخرى ليس لها من تعبير خاص بالنسبة لمسائل الحياة المستقبلة، و إن إعتبرها علماء النفس نافذة للتعرف على اللاشعور و الاستفادة منها كعلاج لبعض الأمراض النفسية، و عليه فتعبير الرؤيا يهدف إلى كشف أسرار النفس و التعرف على علل الأمراض، لامن أجل الحوادث المستقبلة. و أمّا الأحلام المتعلقة بالمستقبل فهي على قسمين؛ قسم صريح و واضح لايحتاج إلى تعبير بأي حال من الأحوال و قد يتحقق أحياناً و ياللعجب في المستقبل القريب أو البعيد دون أدنى إختلاف، و قسم آخر يتحدث عن حوادث المستقبل لكنّه يحتاج إلى تعبير حيث يطرأ عليه التغيير بسبب بعض العوامل الذهنية و الروحية الخاصة. و لكل

قسم نماذج كثيرة لايمكن إنكارها جميعاً، و بالطبع لم يقتصر ذكر هذه النماذج على المصادر الدينية و الكتب التأريخية، بل حدثت كراراً في حياتنا الخاصة أو حياة الأفراد من معارفنا بحيث لا يمكن نسبتها جميعاً إلى الصدفة. و نورد هنا بعض النماذج التي تزيح الستار بصورة عجيبة عن المستقبل المعاد و عالم الاخرة، ص: 189

وقد سمعناها من أفراد لا نشك أبداً في وثوقهم: 1- نقل أحد العلماء و الثقاة المعروفين في همدان المرحوم الميرزا عبد النبي و الذي كان من كبار أعلام طهران قائلًا: حين كنت في سامراء كان يبعث إليَّ كل سنة بمبلغ مئة تومان من «المازندران»، فكنت أستدين بعض المبالغ لقضاء الحاجة على أساس المبلغ المذكور، فاذا وصل ذلك المبلغ سارعت إلى تسديد الديون، ذات سنة أخبرت بأنّ وضع المحاصيل هذه السنة سيى ء للغاية و عليه فسوف لن يبعث لي بذلك المبلغ، فشعرت بالإنزعاج والإمتعاظ حتى نمت كذلك، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المنام فناداني قائلًا: فلان قم و افتح باب تلك الخزانة (و أشار إلى خزانة كانت في البيت) فإنّ فيها مئة تومان. نهضت من النوم، و لم تمض مدّة حتى دق الباب، كان الرجل مبعوث المرحوم الميرزا الشيرازي المرجع الشيعي الكبير فقال: الميرزا يريدك، فتعجبت ما الذي جعل ذلك الرجل العظيم يطلبني الآن، فذهبت إليه و كان جالساً في غرفته، و كنت قد نسيت الرؤيا، فقال لي المرحوم الشيرازي:

الميرزا عبد النبي إفتح تلك الخزانة فإنّ فيها مئة توماً فخذها! فتذكرت فوراً الرؤيا و أنا مذهول ممّا أشاهد، أردت أن أقول شيئاً، شعرت بعدم رغبته في سماع شي ء بهذا الشأن، فتناولت المبلغ و خرجت. 2- نقل صديق ثقة

أنّه كان لكاتب «ريحانة الأدب» المرحوم التبريزي ولد ويبدو أن يده اليمنى كانت مصابة بالروماتيز (التهاب المفاصل) بحيث كان يشق عليه الإمساك بالقلم فتقرر أن يذهب إلى ألمانيا ليتلقى العلاج. قال: كنت في السفينة، و لما نمت رأيت في المنام أنّ أمي قد توفت، ففتحت دفتر المذكرات و كتبت فيه اليوم و الساعة لتلك الحادثة، و بعد

المعاد و عالم الاخرة، ص: 190

مدّتي عدت إلى إيران لأرى طائفة من أقربائي الذي أتوا لإستقبالي و قد إرتدوا الملابس السوداء، فتعجبت و كنت قد نسيت تلك الرؤيا تماماً، أخبروني بالتالي أنّ أمي قد فارقت الحياة، و هنا تذكرت الرؤيا، و لما فتحت الدفتر و سألت عن يوم الوفاة كان كما دونت في الدفتر. 3- نقل أحد الثقاة أنّه إشترى قرب قزوين أرضاً بائرة واسعة بثمن غال جدّاً بحيث لامه جميع الأصدقاء على أنّه إرتكب خطأ فاحشاً، فليس هنالك من أمل في تهيئة الماء لتلك الأرض، و قد بذل مساعيه و استشار هذا و ذاك من المهندسين من أجل حفر بئر و الحصول على الماء، إلّاأنّه لم يحصل على نتيجة. فأثّر عليه ذلك تأثيراً كبيراً، لكنه كان نشطاً مكافحاً و لا يكف عن السعي، إلّاأنّه يأس بعد كل ذلك حتى نام ليلة فرأى في المنام أنّه يتجول في تلك الأرض من أجل العثور على الماء، و فجأة بلغ نقطة كان ينبع منها الماء، فلما نهض من نومه و أصبح الصباح إنطلق إلى تلك النقطة التي رآها في المنام، فأمر بحفرها، ولم تمر مدّة على الحفر حتى نبع منها الماء الوفير. 4- كتب الكاتب الإسلامي المعروف سيد قطب صاحب تفسير في ظلال القرآن في تفسيره للآيات المرتبطة بسورة يوسف أنّه لو

إستطاع إنكار كل ما قيل في الأحلام لما وسعه أن ينكر ماحدث له حين كان في أمريكا، فقد رأى في المنام أنّ نزيفاً دموياً قد أصاب عيني بنت أخته (و قد كانت حينها في مصر) بحيث لم تعد ترى الأشياء، فاستيقظ من النوم مذعوراً و كتب رسالة إلى أهله في مصر و قد سأل بالذات عن وضع عيني بنت أخته، فلم تمض مدّة حتى أتاه الجواب أنّها أصيبت بنزف داخلي ولا تقدر على الرؤية و هي الآن تتلقى العلاج.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 191

ثم يستطرد قائلًا: جدير بالذكر أنّ النزف الداخلي كان لا يمكن مشاهدته بالعين المجرّدة، و لايتسنى ذلك إلّامن خلال الوسائل الطبية. على كل حال فقد حرمت من البصر، و قد شاهدت حتى هذا النزف الداخلي في المنام بشكل واضح.

***

و الحق أنّ الأحلام التي أشارت إلى الحقائق المرتبطة بالمستقبل والحقائق الخفية المتعلقة بالحاضر و التي أزالت الستار عن بعض الحوادث لأعظم و أكبر من أن يفكر البعض بإنكارها، أو حتى حملها على الصدفة ولكل أن يقف على ذلك من خلال التعرف على بعض النماذج التي تعرض لها ممن حوله من الأصدقاء. إنّ مثل هذه الأحلام لا يمكن تفسيرها على أساس النظرية المادية، ولايمكن تفسيرها إلّاعلى ضوء ما أورده فلاسفة الروح و من يعتقد بإستقلالها، وبناءاً على ذلك يمكن الاستفادة من مجموع هذه الأمور بصفتها شاهداً على إستقلال الروح.

4 و 5- الأعمال المذهلة للمرتاضين
اشارة

الطريق الرابع و الخامس من الطرق التجربية لإثبات إستقلال الروح قضية إنتقال الأفكار و لاسيّما من الطرق البعيدة، و هذا هو الشي ء الذي يصطلح عليه اليوم باسم «الحاسة السادسة». حيث يقوم شخصان ممن لهم إستعداد روحي كافي و بعد عدة تمارين بالتحدث إلى بعضهما البعض من

بعيد دون الاستفادة من أية وسائل، كما يقرأ كل منهما أفكار الآخر، و قد يحصل هذا الأمر في جلسة أو منطقة أو منطقتان نائيتان.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 192

كثيراً مايشعر الآباء و الأمهات و الأقرباء و الأصدقاء المقربين بحالة من القلق و الاضطراب دون أن يعرفوا السبب الذي يقف وراء ذلك، فلا تمضي مدّة حتى يتبيّن أن حادثة مأساوية وقعت لفرد يحبّونه و كأنّهم تحسسوا ذلك من بعيد وقد إتصلت القلوب مع بعضها لتخبر بتلك الحادثة. و قد نقل «فلا ماريون» العالم الفلكي المعروف في كتاب «أسرار الموت» نماذج كثيرة بهذا الخصوص عن عدّة أفراد و في مختلف نقاط العالم، و لو فرضنا أنّ بعضها كان مصادفة أو خيال أو سذاجة، لكن هل يمكننا إنكارها جميعاً. فهل يمكن تبرير قضية إنتقال الفكر عن طريق التفاسير المادية للروح؟

و إذا إعتبرنا الفكر ظاهرة مادية صرفة، فكيف يمكن أن ينتقل بهذه الصورة دون الاستفادة من الوسائل المادية حتى أنّ مسألة الزمان و المكان ليست مطروحة بهذا الشأن.

***

يقوم المرتاضون و استناداً إلى قوّة الإرادة و دون اللجوء إلى الوسائل بتحريك بعض الأجسام في الهواء أو إيقافها عن الحركة، كما يكتفون بنظرة واحدة لإعوجاج فلز أو كسره (حيث ذكرت الصحف أخيراً نماذج من ذلك، حيث قام شاب مرتاض في إنجلترا و بحضور عدد من الصحفيين والمراسلين و أمام العديد من الأفراد بثني الأشياء الفلزية، بل كان يقوم بذلك العمل في العديد من البلدان و كان المراسلون يتناقلون ذلك). أو يضعون مرتاضاً لمدّة أسبوع في تابوت ثم يدفنونه تحت التراب و بعد المدّة المذكورة يخرجونه و يعملون له تنفساً إصطناعيا فيعود تدريجياً إلى حالته الطبيعية، و قد ذكروا أحد نماذج ذلك في الصحافة

حيث قام بذلك المعاد و عالم الاخرة، ص: 193

المرتاض «هاريك لوس» في إحدى المدن الهندية أمام الحاكم الإنجليزي «كلوديوس فايدو». فقد جعلوه في تابوت و أقفلوه ثم دفنوه تحت التراب وأوكلوا من يحرسه ليل نهار و قد حضر عند قبره الآلاف من صحبه و أتباعه وهم يشاهدون ذلك المنظر العجيب، و بعد مدّة أخرجوه و قد بدا بدنه ذابلًا وجلده ميتاً بحيث لا تشاهد فيه آثار الحياة، ثم أخذوا يرشّون عليه الماء الحار شيئاً فشيئاً و عملوا له تنفساً إصطناعياً حتى عاد إلى وضعه، فكيف نفس هذه القضية و سابقاتها إن إعتبرنا الروح من الخواص الفيزيائية والكيميائية الصرفة لخلايا الدماغ، و هل للخواص الفيزيائية و الكيميائية لخلايا الدماغ القدرة على حركة جسم أو ثني فلز و ما شابه ذلك من الأفعال العجيبة؟

النتيجة

النتيجة التي يمكن أنّ نخلص إليها من مجموع الأبحات ذات الصلة باستقلال الروح بما فيها الأدلة العلمية و التجربية هي أنّ الروح حقيقة فوق المادة، و عليه فليس لخواص المادة من قبيل الفناء و العدم و التآكل من سبيل إليها، و هكذا فهي تستطيع البقاء بعد فناء البدن. و إثبات بقاء الروح بعد الفناء و إن تفاوت مع مسألة المعاد و القيامة، ولكن مع ذلك فهو خطوة باتجاه القيامة و العالم الأبدي الذي يعقب الموت، و سيكون ردّاً على اولئك الذين يرون الموت آخر مراحل الوجود الإنساني ونقطة زواله وفنائه، و يعتقدون أنّ الإنسان حين يموت يعود إلى عالم ميت فتضيع ذرات وجوده في طيات التراب و الماء و الهواء و ينتهي كل شي ء!***

ملاحظة مهمّة

هل من تلازم بين إثبات القيامة و عالم ما بعد الموت و إستقلال الروح؟

و إن أنكرنا إستقلال الروح و اعتبرناها من الخواص الصرفة للمادة، فهل تبقى مسألة المعاد ثابتة؟ لابدّ من القول صراحة الإجابة على هذا السؤال: إنّ إثبات إستقلال الروح وكونها ليست مادية و إنّه كانت خطوة عريضة باتجاه إثبات المعاد و الحياة بعد الموت، لكن مع ذلك لا مانع أن يقول بالقيامة و الحياة بعد الموت الأفراد الذين ينظرون إلى الروح على أساس النزعة المادية و يرون الروح مادية، بحيث يقولون: إذا مات الإنسان تلاشى بدنه و الروح أيضاً التي من خواص المادة تزول أيضا، إلّاأنّ الذرات تبقى في الهواء، و حين القيامة تتجمع هذه الذرات بالضبط كما كانت متفرقة في بداية حياة هذه الدنيا ثم إتصلت مع بعضها بفعل بعض العوامل، فسوف تتجمع تلك الذرات في ذلك اليوم و تعيد وجودناً من جديد وستلتحق بنا أعمالنا التي بقيت

في هذه الدنيا على هيئة طاقة. و إذا تذكرون فقد قلنا سابقاً: أنّ أغلب الفاكهة و الثمار و النباتات والبذور والحبوب يمكن أن تكون أصبحت تراباً عدّة مرّات ثم عادت إلى وضعها الأصلي، مثلًا فاكهة شجرة تنفصل عن الغصن بعد نضجها و تقع على الأرض، ثم تتعفن وتتحلل و تتحول بعد ذلك إلى مواد غذائية مؤثرة تمتصها الأشجار عن طريق الجذور فتطوي المسار السابق و تظهر بشكل فاكهة، وهذا في الحقيقة نوع من الحياة بعد الموت و نموذج مصغّر للمعاد، و الحال نعلم أن ليس للفاكهة والحبوب من روح، و بناءاً على هذا فإثبات المعاد لايعتمد إلزاماً على مسألة إثبات الروح، و إن كان إستقلال الروح قطعياً على المعاد و عالم الاخرة، ص: 195

ضوء الأدلة المذكورة. و الجدير بالذكر أنّ الآيات القرآنية المتعلقة بأبحاث المعاد قلّما ركزت على مسألة الروح و بقائها، و يبدو أن علة ذلك هو أننا نستطيع إثبات المعاد دون إثبات بقاء الروح.

بقاء الروح في القرآن

لا ينبغي الإلتباس إنّنا نريد القول بأنّ القرآن لم يتطرق إلى مسألة الروح وبقائها، بل نريد أن نقول أنّه لم يوقف إثبات المعاد عليها، فهناك عدّة آيات في القرآن أشارت صراحة أو تلميحاً إلى بقاء الروح و إستقلالها و عدم فنائها بفناء البدن، و من ذلك ما ورد في الآية 170 من سورة آل عمران بشأن الشهداء في سبيل اللَّه: «وَ لَاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبْيلِ اللَّهِ امْوَاتاً بَلْ احْياءٌ عِنْدَ رَبِّهْمِ يُرزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتيهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ الّا خَوْفٌ عَلَيِهُمِ وَ لَاهُمْ يَحْزَنُونَ». فالآية صريحة في بقاء أرواح الشهداء، و نعلم أنّ هذا الحكم لايختص بالشهداء في سبيل اللَّه،

و ذلك لعدم وجود الفارق بين روح هؤلاء و الآخرين من حيث المادية و عدمها، و إن إقتصر الذكر عليهم فذلك لأنّ الكلام كان بشأن وضع الشهداء من قبل الناس (كما يستفاد ذلك من سبب نزول الآية). كما ورد في الآية 46 من سورة المؤمن: «النَّارُ يُعْرَضونَ عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِيّاً وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ اشَدَّ الْعَذابِ».

المعاد و عالم الاخرة، ص: 196

هذه الآية أيضا و إن كانت في آل فرعون، إلّاأنّ المسلّم به أنّها لا تختص بهذه الحفنة من الظلمة و الآثمة، و عليه فالآيتان تفيدان أنّ لأرواح المحسنين و المسيئين بعد الموت الحياة برزخية، و لذلك فهي من الأدلة على إستقلال الروح. و يستفاد من الآية القرآنية: «قُلْ يَتَوَفَّيكُمْ مَلَكُ الْمُوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» «1»

و سائر الآيات المشابهة كالآية 50 من سورة الانفال و الآية 42 من سورة 7 الزمر والآية 36 من سورة يونس و غيرها أنّ في الوجود الإنساني شي ء يؤخذ منه عند موت الجسم حيث عبرت عن الموت بالأخذ، و هذا يدل على عدم فناء الإنسان كلياً بموت الجسم حيث يبقى منه شي ء، فالتعبيرات إشارة لطيفة إلى بقاء الروح.***

المعاد الجسمي و الروحي

اشارة

هل الحياة بعد الموت تقتصر على الجانب الروحي؟ يعني الجسم ينفصل عنّا دائماً حين الموت و الحياة الخالدة تتعلق بالروح فقط؟ أم يحصل المعادبالنسبة إلى الجانبين فيعود الجسم و الروح معاً؟ أم للمعاد بعد روحي و شبه جسمي، أي تعود الروح و يعود الجسم، لكن لا هذا الجسم المادي الاعتيادي، بل يعود جسم لطيف يفوق هذا الجسم وهو عصارته. أم أنّ المعاد جسماني فقط، و هذه عقيدة الأفراد الذين لايقولون باستقلال الروح و يرونها من آثار و خواص هذا الجسم. لكل من

هذه النظريات الأربع أتباعها.

النظرية الأولى: المعاد الروحي

أغلب فلاسفة القدماء هم من أنصار هذه العقيدة و يزعمون أنّ الروح تنفصل للأبد عن البدن حين الموت و تبقى في عالم الأرواح، و بناءاً على ذلك فإنّ مسألة المعاد لا تنطوي على مفهوم فليس هناك من عودة، بل تواصل الروح بقائها، إنّهم يعتقدون كما أنّ الفرخ يحتاج إلى مدّة يقضيها

المعاد و عالم الاخرة، ص: 198

داخل البيضة وكذلك الجنين في بطن أمّه، فإن طوى مسيرته التكاملية وإنفصل عنه، فإنّه لن يعود إليه أبداً، لا الفرخ إلى داخل البيضة و لا الجنين بعدالولادة إلى رحم الأم، و الإنسان كذلك و بناءاً على هذا فإنّ لجميع الثواب والعقاب واللذة و الألم بُعد روحي في العالم الآخر بعد الموت.

النظرية الثانية: المعاد الجسماني و الروحاني

و هو الرأي الذي إختاره طائفة من العلماء و الفلاسفة القدماء والمعاصرين و كما سنرى لاحقاً- قد أيدت الآيات القرآنية هذا الرأي في أنّ الأجزاء المتناثرة من البدن ستجمع يوم القيامة و تجدد و تكتسب الحياة، طبعاً على مستوى أرفع وفي عالم و حياة أسمى.

النظرية الثالثة: المعاد الروحي و شبه الجسمي

يرى بعض الفلاسفة القدماء و الروحانيين أن لا عودة لهذا الجسم المادي والعنصري، فإن إنفصلت الروح عن البدن قرّت في جسم لطيف فعّال للغاية من حيث الزمان و المكان و حتى قادر على إجتياز الموانع و ليس للفناء و الفساد من سبيل إليه، و به تواصل حياتها الخالدة. و في الحقيقة إنّ هذا الجسم ليس كالمادة، بل يشبه الأمواج، و لكن حيث يشبه هذا الجسم من بعض الجوانب و يعتبر شبحاً منه فقد إصطلحوا عليه باسم «الجسم المثالي».

النظرية الرابعة: المعاد جسماني فقط

اشارة

و هو رأي بعض قدماء العلماء و المعاصرين، الذين يعتقدون بانّنا إن متنا

المعاد و عالم الاخرة، ص: 199

إنتهى كل شي ء، بالضبط كالمولد الكهربائي الذي ينتهي فتنفد طاقته وتزول مادته، و حين القيامة تجمع الأجزاء المتلاشية لهذا المولد الكهربائي أي بدن الإنسان و تلحق مع بعضها و تكتسب صبغة الحياة و بالطبع فإنّ الروح بفضلها من آثارها و خواصها كالطاقة بالنسبة لذلك المولد الكهربائي تعودإليها.

الإسلام و المعاد

سنتناول في البداية رأي الإسلام بهذه المسألة ثم نورد الأدلة العقلية بهذا الخصوص. طبعاً يعتبر القرآن من أهم المصادر بالنسبة للمسائل الإسلامية، فهذاالكتاب السماوي تحدث في أكثر من موقع عن المعاد الجسماني (طبعاًالمقرون بالمعاد الروحاني) و أدنى معرفة بالآيات القرآنية تكفي لنفي إقتصارالمعاد على المعاد الروحاني، لأنّ- كما بيّنا ذلك بالتفصيل في صدر هذاالكتاب- القرآن بهدف تقريب المعاد إلى أذهان المنكرين قد ضرب أمثالًارائعة للردّ على إيرادتهم و هي ممزوجة بنوع من الإستدلال الحي، حيث أراد تجسيد قضية المعاد و القيامة إلى حدّ المشاهدة و الإحساس لدى الناس، و لذلك فإنّ جميع هذه الأمثلة و التشبيهات القرآنية بشأن المعادإنّما تؤيد المعاد الجسماني. فأحياناً يدعو الناس إلى مشاهدة تكرار عملية الموت و الحياة في عالم النباتات و كيف تكرر قضية المعاد كل سنة أمام الأعين. فالأرض تتجه في فصل الخريف تدريجياً نحو الموت، تكتسب الزهوروالأغصان و النباتات صبغة الموت، و تموت في الشتاء، إلّاأنّها تستعيد

المعاد و عالم الاخرة، ص: 200

الحياة من جديد حين يداعبها نسيم الربيع و تتساقط عليها قطرات المطر (و قد أوردنا الآيات المتعلقة بذلك في بداية الكتاب)، فهل يفيد هذا سوى المعاد الجسماني؟ أحياناً يشير القرآن إلى بداية الخلق فيصرّح بأنّ الذي خلقكم أول مرة سيعيدكم بعد الموت تارة أخرى. فمن البديهي أنّ هذا

التشبيه لأجل إثبات المعاد الجسماني و إلّافإنّ بقاء الروح بعد فناء الجسم ليس له أي إرتباط بهذا التشبيه. أضف إلى ذلك فإنّ أبحاث القرآن بشأن معاد الطاقة الذي مرّ عليناتفصيله في أول الكتاب و قصة أصحاب الكهف أو سائر القصص كقصةإبراهيم مع الطيور و مجيئ ذلك الإعرابي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و هو يمسك بعظم و يسأل عن كيفية إفاضة الحياة عليه و الإجابة التي أوردها القرآن في سورة يس و التي مرّت علينا في بداية الكتاب، إنّما ترتبط جميعاً بالمعادالجسماني، و إلّاليست هناك من مناسبة للمعاد الروحاني دون الجسماني بهذه الأبحاث (عليك بالدقّة). والجدير بالذكر إنّ عرب الجاهلية كانت تعتقد ببقاء الروح، و الذي أثار دهشة الإعرابي و دفعه للإنكار مسألة المعاد الجسماني و عودة هذا الجسد إلى الحياة بعد الموت، و لذلك قال القرآن على لسانهم: «ايَعِدُكُمْ انَّكُمْ اذَا مِتُّم وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً انَّكُمْ مُخْرَجُونَ» «1». و قال في موضع آخر: «وَ قَالُوا ءَاذَا ضَلَلْنَا في الأَرْضِ أَءِنَّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ» «2». و قال: «وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ اذَا مُزِّقْتُمْ كُلَ المعاد و عالم الاخرة، ص: 201

مُمَزِّقٍ انَّكُمْ لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ* افَتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً امْ بِهِ جِنَّة بَلِ الَّذِينَ لَايُؤُمِنونَ بِالآخِرةِ في الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعيدِ» «1». فالذي يستفاد من كل هذه الآيات أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يتحدث عن عودة الجسم و المعاد الجسماني و لذلك كان يتعجب المخالفون فكان القرآن يرد عليهم و يقول: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ ثُمَّ الَيهِ تُرجَعُونَ» «2». و خلاصة القول فإنّ الف باء المعاد في القرآن الكريم هو المعاد الجسماني- العنصري و أنّ

مَن يُوجه أو الأصح «يُحرف» كل هذه الآيات الحاكية عن المعاد الجسماني و يفسرها بالجسم المثالي و ماشابه ذلك فلا يروم سوى التملص عن الحقائق!

المعاد الجسماني على ضوء العقل

اتضح تماماً من الأبحاث السابقة أنّ القرآن الكريم إنّما أراد «المعاد الجسماني» في كل موضع تعرض فيه لمسألة المعاد، و قلّما نجد في محيط نزول القرآن من أنكر «المعاد الروحاني فقط»، و من هنا فإنّ الرهبة التي أصابت العرب الجاهلية من طرح القرآن لقضية المعاد إنّما تعود لبعده الجسماني. و الآن لابدّ أن نرى هل للعقل من دليل يؤيد هذا الكلام؟ يقول العقل: إنّ الروح و البدن حقيقتان لا تنفصلان عن بعضهما، بل هما متصلتان تماماً، فهما معاً كلزوم «المادة» لملزومها «الطاقة»، فهما يتكاملان معاً، و عليه فاستمرار بقاء أي منهما (لمدّة طويلة) ليس بممكن، هذا من جانب.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 202

و من جانب آخر فكما أنّ جسم إنسانين لايتشابهان قط من جميع الجهات، و بشهادة التحقيقات الواسعة التي تمت بشأن الأفراد فإنّه لا يتشابه فردان حتى في بنانهما، فإنّ روحين لا تتشابهان أبداً، و كما أنّ الجسم ناقص بدون الروح فإنّ الروح تنقص دون الجسم، و إن إنفصلا عن بعضهما في عالم البرزخ (العالم الفاصل بين الدنيا و الآخرة) فانّه إنفصال مؤقت تكون فعالية الروح فيه محدودة و لذلك ليس للحياة البرزخية سعة الحياة لعالم القيامة أبداً. بعبارة أخرى الروح آمر و عامل مؤثر و البدن مأمور و وسيلة العمل، وكما لا يستغني الآمر عن المأمور و أدوات العمل، فإنّ الروح لاتستغني عن الجسم في مواصلتها لفعالياتها، غاية ما هنالك حيث تستقر الروح في عالم آخر أرفع وأسمى من هذا العالم فلابدّ أن يكون لها جسم أكمل و

أرفع وسيكون الأمر كذلك، على كل حال فإنّ الجسم و الروح مكملان لبعضهما، وعليه فلا يمكن أن يكون المعاد أحادياً كأن يكون روحانياً أو جسمانياً، وتتضح هذه الحقيقة من خلال تأمل وضع ظهور الجسم و الروح. لكن تبقى هنا أربعة إشكالات أو كما يصورها البعض أربعة مطبات لابدّ من الخوض فيها بالتفصيل و هي: 1- شبهة الآكل و المأكول. 2- قلّة التربة على الأرض. 3- أي جسم يعود، حيث يتبدل جسم الإنسان طيلة عمره. 4- أين ستقع القيامة و المعاد؟ لأنّ سطح الأرض لا يسعه حشر و نشر كافة الناس. و الآن نسلّط الضوء على كل واحد من هذه الإشكالات.

الاشكالات الاربعه حول معاد الجسمانى

1- شبهة الآكل و المأكول
اشارة

هذه من الإشكالات القديمة التي أوردت على المعاد الجسماني وخلاصتها: إفرض أنّ إنساناً حين القحط و المجاعة الشديدة تغذى على لحم آخر بحيث أصبح جزء من بدن الإنسان الأول أو جميعه من لحم الإنسان الثاني، فهل ستنفصل هذه الأجزاء في المعاد عن الإنسان الثاني أم لا؟ فإن كان الجواب بالإيجاب أصبح بدن الإنسان الثاني ناقصاً، و إن كان الجواب بالسلب كان بدن الإنسان الأول ناقصاً. أصلًا ليست هناك من حاجة لهذه الفرضية، فهذا الموضوع يجري دائماً في الطبيعة حيث يموت الناس و يصبح بدنهم تراباً و يصبح التراب جزءاً من الأرض ثم يتبدل بعد إمتصاصه من قِبل جذور الاشجار تدريجياً إلى نبات أو ثمرة فيتغذى عليها سائر الناس، أو الحيوانات، بعد ذلك يتناول الإنسان لحوم هذه الحيوانات.

و عليه فأجزاء الأفراد السابقين تصبح من هذا الطريق جزءاً من بدن الأفراد اللاحقين. و لاينبغي لكم أن تتعجبوا إذا ما علمتم بأنّ هذه التفاحة التي توضع أمامنا قد تكون أصبحت لعشر مرات جزءاً من بدن إنسان ثم عادت

إلى التراب، وامتصت ثانية من قبل جذور و تحولت إلى تفاحة ثم تناولها إنسان آخر وأصحبت جزءاً من بدنه، و على هذا الأساس فإن كان المعاد جسماني تصارعت عشرة أبدان يوم القيامة على بعض الأجزاء و سيكون لكل جزء من يدعيه له، فكيف سيكون المعاد جسمانياً؟

إجابة و تحقيق

قلنا أنّ الإيراد المذكور من أقدام الإيرادات التي وردت على المعاد الجسماني و قد أجاب عليها الفلاسفة و المتكلمين القدماء كالخواجة نصير الدين الطوسي و العلّامة الحلي و ... كل حسب مبانيه، و أهم جواب طرحه قدماء العلماء على ذلك الإيراد عن طريق «الأجزاء الأصلية» و «الأجزاء غير الأصلية». و طبق ذلك فهم يقولون: لبدن الإنسان قسمان من الأجزاء هي: الأجزاء الأصلية و الأجزاء الإضافية. الأجزاء الأصلية هي الأجزاء التي تبقى طيلة عمر الإنسان فلا تتعوض ولا تفنى و لا تصبح جزءاً من بدن إنسان آخر أبداً، حتى و إن تناولها شخص آخر فلا تصبح جزءاً من بدنه. أمّا الأجزاء الإضافية فهي قابلة للتغيير و التعويض و هي دائماً في حالة تغيّر و يمكن أن تكون جزءاً من بدن إنسان أو حيوان آخر، و هكذا تحلّ المشكلة، يعني في يوم القيامة فإن الأجزاء الأصلية لبدن كل شخص تنمو في مدّة قصيرة كبذور النباتات أو نطفة الإنسان و تصنع البدن الأصلي. و السؤال الوحيد الذي يبقى أمام هذا الجواب و الذي يبدو بصورة فرضية مبهمة هو: أي الأجزاء من البدن هي الأصلية و كيف يمكن تمييزها عن سائر الأجزاء؟ هناك عدّة إجابات على هذا السؤال لعلها تزيل الإبهام و منها: 1- الأجزاء الأصلية هي «الجينات» الواقعة على الكروموسومات في وسط نواة الخلايا، و عليه فهذه الجينات جزء من نواة الخلية

الثابتة الوضع طيلة العمر وتشكل الأجزاء الأصلية لبدن الإنسان.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 205

2- الفقرة الأخيرة في العمود الفقري يعني أسفل عظم في هذا العمود هو الجزء الأصلي لبدن الإنسان حيث لايزول أبداً و لايستقطبه بدن حيوان أو إنسان آخر. 3- الأجزاء التي لا نعرفها على وجه الدقة، إلّاأنّنا نعلم أنّها موجودة في بدن الإنسان و خاصيتها أنّها لا تزول أبداً و لا تنتقل إلى بدن حيوان أو إنسان آخر. لكن أي من هذه الاحتمالات ليس بمقبول من الناحية العلمية لأنّه:

الجينات من حيث المواد دائمة التغيير حيث تتعوض بمرور الزمان و الباقي والثابت هو خواص الجينات. من جانب آخر، آخر عظم للعمود الفقري لا يختلف و سائر العظام من حيث البنية، و الزعم المذكور ليس مبرهناً في العلوم المعاصرة، فهذا العظم كسائر العظام في حالة تغير و تبدل و سيصبح تراباً بعد الموت و عليه فيمكن أن ينتقل إلى حيوان أو إنسان آخر. أضف إلى ذلك فإنّ موضوع الأجزاء غير المعروفة الثابتة أشبه بالفرضية منه بالموضوع القطعي، يعني ليس لدينا من دليل على وجود مثل هذه الأجزاء في البدن و إنّنا لا نرى من فارق بين أجزاء البدن و يفيد قانون النمو أنّ الكل في حالة تغيير و سيتحول إلى تراب بعد الموت و يمكنه أن يعود إلى بدن حيوان أو إنسان آخر. و بناءاً على هذا فمسألة الأجزاء الأصلية و غير الأصلية مجرّد فرضية يحتاج إثباتها إلى دليل، و للأسف ليس لدينا من دليل.

***

إجابة أوضح

لدينا سبيل أوضح لحل هذا الإشكال و الذي يحتاج شرحه إلى مقدمات لابدّ من تأملها بدقة. «1» 1- إنّ بدننا يتغير خلال عمرنا عدّة مرّات، كالمسبح الكبير الذي يرده الماء

من قناة صغيرة و يخرج بالتدريج من قناة صغيرة أخرى فبعد مرور مدّة طويلة يتغير كلّه دون أن يشعر به، و كما قلنا في بحث إستقلال الروح أنّ هذا القانون جاري و لا يستثنى منه أي من خلايا البدن حتى خلايا الدماغ. و يرى البعض أنّ المدّة الزمانية اللازمة لتبدل جميع أجزاء البدن بالأجزاء الجديدة قد تكون سبع أو ثمان سنوات، و هكذا يكون الإنسان الذي له سبعون سنة قد تبدل عشر مرّات منذ بداية عمره إلى نهايته. 2- كل بدن يتبدل ينقل صفاته إلى الخلايا التي إستبدلته، و من هنا فإن لون بشرة الإنسان و شكله ولون عينيه و سائر مميزاته باقية على حالها طيلة عمره، رغم أنّ مواده قد تكون تغيرت عشر مرات، و ذلك يعزى إلى أنّ الخلايا حين التغير و التبدل تودع خواصها إلى الخلايا الجديدة، و الواقع هو أنّ البدن الإنساني إلى آخر العمر يشتمل على جميع المميزات و الصفات والكيفيات التي كانت في البدن السابق، و من هنا يمكن القول: أنّ آخر بدن للإنسان هو عصارة جميع الأبدان طيلة عمره. 3- ما يفهم بوضوح من الآيات القرآنية إنّ الذي يعاد يوم القيامة آخر بدن للإنسان و الذي يتبدل إلى تراب و له في الواقع جميع صفات الأبدان المعاد و عالم الاخرة، ص: 207

التي تغيّرت طيلة العمر. فقد ورد في الآيات القرآنية الثلاث: «فَاذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلونَ» «1»

، «يَخْرجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٍ مُنْتَشِر» «2»

و «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِراعَاً» «3»

. فالآيات تبيّن أن آخر بدن يعاد يوم القيامة، لأنّ الذي في القبر ليس سوى تراب آخر بدن. طبعاً هذا إذا دفن البدن، أمّا إذا تبدلت

الأبدان مثلًا في حريق إلى تراب أو فنت بسبب عوامل أخرى فإنّما تعود يوم القيامة ذرات آخر بدن و إن لم يكن هناك من قبر. و قد ورد في آخر سورة يس بشأن المعاد: «قُلْ يُحْييَها الَّذي انْشَاهَا اوَّلَ مَرَّةٍ» «4»

فالآية تفيد أنّ الذي يبعث هو آخر بدن للإنسان، و هنالك عدّة آيات أخرى تؤيد هذه الحقيقة. و عليه نخلص إلى هذه النتيجة: إنّ ما يعود يوم القيامة هو آخر بدن الذي يشتمل على كافة الصفات و الخصائص طيلة العمر. 4- هل يمكن إتحاد بدنين بصورة تامة؟ و بعبارة أخرى هل يمكن أن يتبدل جميع بدن شخص بفعل التغذية إلى جميع بدن شخص آخر؟ الجواب بالسلب، لأنّ بدن الإنسان يمكنه أن يكون جزءاً من بدن إنسان آخر فقط لا كل بدنه، و دليل ذلك واضح فالشخص الذي يتغذى على آخر كان موجوداً و عن طريق التغذية على بدن الآخر يجعله جزءاً من بدنه لا كل بدنه، صحيح أنّ بدن الشخص الأول يحلّ بصورة كاملة في بدن الشخص الثاني، لكن الشخص الأول لا يمكن أن يكون تمام الشخص الثاني قط

المعاد و عالم الاخرة، ص: 208

وليس له أن يكون جزءاً منه (عليك بالدقّة). نعم لو فرضنا أنّ إنساناً تغذى على بدن آخر لمدّة سبع سنوات بحيث لم يتناول شيئاً غيره بما في ذلك الماء و الهواء، ففي هذه الحالة سيكون بدن الإنسان الأول جميع بدن الثاني، و لكن واضح أنّ هذا الموضوع ليس أكثر من فرض، و لايمكن لشخص أن يستغني سبع سنوات عن الماء و الهواء، إضافة إلى أنّ هذا الأمر ليس له عادة صورة خارجية بأن يقتصر غذاء الإنسان على مواد بدن آخر (بغض النظر

عن مسألة الماء و الهواء). و النتيجة لايمكن إتحاد بدنين بصورة تامة و من جميع الجهات، بل يمكن البدن أن يكون جزءاً من بدن آخر (عليك بالدقّة أيضاً). 5- كل خلية من خلايا بدننا تضم جميع شخصيتنا بحيث لو نمت لاستطاعت تشكيل بدننا، و بعبارة أخرى فإنّ كافة خصوصيات بدننا كامنة في كل خلية، و يتضح هذا الموضوع سيّما بالنظر إلى أبحاث الجينات و أنّ في نواة كل خلية داخل الكروموسومات ذرات غاية في الصغر تعرف باسم الجينات التي تحمل كافة صفات الإنسان، و لاينحصر هذا الموضوع ببدننا، بل هو قانون يصدق على جميع الكائنات الحية، و من هنا نرى كيف يكثرون الأشجار حيث يغرسون غصن صغير في وسط مساعد ثم يتحول تلقائيا إلى شجرة كاملة، و قد أجريت بعض التجارب على الحيوانات البسيطة مثل بعض الدود أنّه إذا قطّعت عدّة قطع فإنّ كل قطعة تتبدل بالتدريج إلى حيوان كامل. و يبدو هذا الموضوع ليس بمستبعد عن الإنسان من الناحية الاصُولية و الكلية، يعني لو أمكن توفير ظروف مناسبة فإنّ كل خلية من خلايا بدن الإنسان تستطيع بمفردها أن تكوّن إنساناً يشبهه بكل شي ء، بل هو نفسه، أو لم نكن يوماً خلية أحادية نمت تصاعدياً حتى تكونت الأعضاء

المعاد و عالم الاخرة، ص: 209

المختلفة بالتدريج، أو ليست هذه الأعضاء والأجزاء قد ظهرت من إنقسام تلك الخلية الأحادية؟ أي أنّ الخلية الأولى نمت وتحولت إلى خليتين ثم نمت هاتان الخليتان و تحولتا إلى أربع خلايا و هكذا تزايدت فكونّت جميع عضلات البدن، و عليه فكل خلية يمكنها بمفردها أن تبني جميع بدن الإنسان. و أحياناً نرى قطعة قد فصلت من بدن الإنسان بفعل حادثة، و سرعان ما

تقوم الخلايا المجاورة لها تملأ مكانها و استعادة ذلك الجزء. 6- هل تتغير شخصيتنا من الناحية الجسمية بزيادة و نقصان و صغر وكبر موادها؟ قطعاً لا. مثلًا كنّا في اليوم الأول نطفة ذات خلية واحدة، و أصبحنا بعد عدّة أسابيع جنيناً يزن عدّة غرامات، ثم يصبح وزننا بعد أشهر كيلوين أو ثلاثة كيلو غرامات و يعقب ذلك ولادتنا و يختاروا لنا إسماً، و لكن لم نكن حين الولادة نزن أكثر من ثلاث كيلوات فإن كبرنا بمرور الزمان قد نصل إلى سبعين كيلو غرام، و ربّما ضعفت عضلاتنا و عظامنا في حياتنا المستقبلية فيهبط وزننا إلى أربعين كيلو غرام. فهل تبدل هذه التغييرات شخصيتنا من الناحية الجسمية؟ يعني لم نعد ذلك الوليد في اليوم الأول؟ ذلك الجنين والنطفة الآحادية الخلية، و إن هبط وزننا بفعل المرض و الكهولة فبلغ نصف الوزن الفعلي، فهل لسنا ذلك الشخص السابق؟ ألا توجد شخصية واحدة في ظل كل هذه التغييرات و التبدلات؟ الإجابة على هذه الأسئلة واضحة و هي: هناك واقعية واحدة في ظل كل هذه التغييرات و التحولات و التي نعبّر عنها باسم زيد أو عمرو أو مسعود أو فاطمة، و عليه فشخصية الإنسان لا تغيير تبعاً لتغير مادته الجسمية

المعاد و عالم الاخرة، ص: 210

وزيادتها و نقصانها.

***

و بعد أن إتضحت هذه المقدمات الست نعود إلى أصل البحث لنرى هل تخلق تغذية إنسان على بدن آخر مشكلة بالنسبة للمعاد الجسماني أم لا؟ الحقيقة أنّها لا تخلق أية مشكلة، لأنّ الأجزاء الأجنبية الموجودة في بدن الإنسان تعود إلى موضعها الأصلي يوم القيامة و لا تبقى سوى أجزاء نفس البدن، لأنّه كما قلنا أنّ البدن لايصبح جميع بدن إنسان آخر أبداً، بل

يصبح جزءاً منه، و عليه فإن إنفصل منه ستبقى له بعض الأجزاء (عليك بالدقّة). و هذا مسلّم من أنّ البدن الثاني إنّما يصغر و يضعف بنفس النسبة التي يفقد بها الأجزاء الأجنبية المتناثرة في جميع البدن، و لكن واضح أنّ ذلك لا يخلق مشكلة، فكما قلنا لو بقيت من البدن الثاني خلية واحدة لأمكنها أن تنمو و تكوّن البدن الأصلي، فضلًا عن بقاء الكثير من البدن الثاني. و بناءاً على ما سبق فإنّ الأجزاء الباقية من كل بدن مهما كانت قليلة ستنمو و تتكامل يوم القيامة (في مدّة زمانية قصيرة أو طويلة) و تشكل البدن الأولي وليس هنالك أية مشكلة تترتب على هذا الأمر فالبدن هو البدن و الشخصية هي الشخصية و الصفات و المشخصات هي نفس الصفات و المشخصات و لذلك ستكون العينية و الوحدة محفوظة بين البدنين. لعلنا لا نحتاج إلى التذكير بأنّ هذا السبيل لحلّ مشكلة الآكل و المأكول لا يرتبط بفرضية الأجزاء الأصلية و غير الأصلية، لأنّ جميع الأجزاء أصلية من وجهة نظرنا وكلّها قابلة لأن تستقطب من البدن الآخر.

سؤال

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا: على ضوء هذه النظرية فإنّه يمكن العثور على أجزاء معينة كانت يوماً جزء بدن آثم و بعد تحولها إلى تراب و جزء من النباتات إلى جزء بدن إنسان صالح، فهل عودة هذه الأجزاء التي كانت يوماً في مسير الذنب و آخر في مسير الطاعة إلى بدن الأول و هو بدن الآثم ينسجم والعدالة؟

جواب

يتضح جواب هذا السؤال من الالتفات إلى نقطة و هي أنّ الروح هي مركز الآلام و الأوجاع و كذلك الهدوء و الراحة، و ما الجسم إلّاوسيلة، و لذاإنّ بضّع بدن ميت إلى قطع قطع فأنّه لن يشعر بأي ألم، كما لايشعر بأي وجع لو قطع جسمه حين التخدير، و عليه فالثواب و العقاب يترتبان على الروح و الجسم وسيلتها، حيث يستند الثواب و العقاب و المعصية إلى الروح و البدن وسيلتها كذلك في هذا الأمر، و إننا لا نستند قط في مسألة المعادالجسماني إلى هذا المطلب في أنّ البدن الفلاني أذنب أو البدن الفلاني أحسن بل نعتمد هذا المعنى في أنّ الروح لايمكن أن تكون لها حياة كاملةدون البدن، و من هنا لابدّ أن تعود الروح إلى جسمها الأصلي و تواصل حياتها الكاملة. و النتيجة هي أنّ وجود أجزاء معينة في بدنين (بعد حل مشكلة وحدةالشخصية) لايخلق مشكلة من حيث الثواب و العقاب. و هكذا يتبيّن حلّ شبهة الآكل و المأكول التي شغلت أفكار أغلب الأفراد ولعل عدم حلّها جعلهم يترددون في إقرار مسألة المعاد الجسماني، أي يمكن الردّ على الإيراد المذكور من خلال قبول المعاد الجسماني بهذا

المعاد و عالم الاخرة، ص: 212

البدن العنصري المادي كما صرّح بذلك القرآن. (يمكن مطالعة البحث من البداية ثانية لمن بقى لديه شك في الموضوع).

2- قلّة التربة على الأرض

اشارة

الإيراد الآخر الذي طرح بشأن المعاد الجسماني هو لو تقرر أنّ تعود أجساد كافة أفراد بني الإنسان يوم القيامة بهذا البدن المادي، فإن التراب الذي على الأرض لا يكفي لكل هؤلاء الأفراد، و عليه ستكون لنا مشكلة المواد الأساسية لبناء كل هؤلاء الأفراد! و إن قلنا بأنّ الأفراد سوف لن يكونون بهذه الهيئة الفعلية وسيتبدلون إلى أفراد صغار جدّاً، فانّ هذا

الأمر عجيب و لايمكن تصديقه؟

جواب:

يبدو أنّ من يطلق هذا الكلام و يتحدّث عن أزمة التراب اللازم لبناء جميع أفراد البشر إنّما يطلق سهمه في ظلام دامس و قد خاب سهمه، فما أحرى من يتفوه بذلك أن يتناول ورقة و قلماً و يحسب الأمر بصورة رياضية ليعلم مدى الخطأ الذي يرتكبه في هذا المجال. يقال أنّ الماء يشكل 65- 70 بالمئة من جسم الإنسان، و عليه فإنّ المواد المعدنية و الآلية لبدن الإنسان تقريباً ثلث وزن بدنه، يعني الإنسان الذي يزن ستين كيلو غرام تقريباً عشرون كيلواً- أو أقل- من بدنه تراب ومواد معدنية وآلية و الباقي ماء، و الآن نحسب لو كان لدينا متراً مكعباً من التراب فكم عساه يكفي كمواد لبناء بدن الإنسان؟

المعاد و عالم الاخرة، ص: 213

سنتوصل بسهولة إلى أنّ هذا المقدار من التراب (المتر المكعب) يكفي لأكثر من مئة شخص، و الآن تستطيع التعرف بسهولة على أنّ الكيلو متر المكعب من التراب يعني قطعة أرض طولها و عرضها و إرتفاعها ألف متر تكفي لمئة مليارد إنسان- يعني في الكيلومتر المكعب مليارد متر مكعب يكفي كل منها لمئة إنسان. و بعبارة أوضح: يمكن لهذا المقدار من التراب أن يكفي لخمس و عشرين ضعفاً من سكان الكرة الأرضية، و هل تصدق أنّ هذا المقدار من التراب يشغل مساحة زهيدة من سطح الكرة الأرضية؟ و إذا تابعنا القضية من حيث الزمان، فمتوسط عمر الإنسان لايتجاوز الخمسين عاماً فاذا ضربنا العدد 25* 50 متوسط عمر كل جيل يكون الناتج 1250 سنة، يعني يكفي كيلومتر مكعب من التراب لبناء المادة الأصلية لجميع البشر على الكرة الأرضية بمدّة 1250 سنة، و عليه فلو فرضنا أنّ عصر تأريخ

الحياة البشرية على الأرض مثلًا كان إثني عشر ألف و خمسمائة سنة، و نفرض أيضا أنّ أي جزء من بدن إنسان لم يصبح جزءاً من بدن إنسان آخر فإنّ عشرة كيلو مترات مكعبة من التراب تكفي لتشكيل أبدان جميع الأفراد. و إن اعتبرنا طول عمر الإنسان في الكرة الأرضية مليونين و خمسمائةألف عام و الذي يتأتى من كشف آخر جمجمة و لعله لايمكن الذهاب أبعدمن ذلك، ففي هذه الحالة يكفي ألفي كيلومتر مكعب من التراب لتشكيل أبدان جميع الأفراد طيلة 000/ 500/ 2 عام، و نعلم أنّ هذا المقدار من التراب لايشغل سوى مساحة صغيرة من الأرض، و النتيجة لو أخذنا بنظر

المعاد و عالم الاخرة، ص: 214

الاعتبار مساحة إيران بعمق ألف متر من التراب فانّها تلبي بناء أبدان ملياردات مليارد من أفراد البشر خلال ميلونين و خمسمائة ألف سنة، رغم أنّ بلدنا يشغل زاوية صغيرة من سطح الكرة الأرضية و هذا ما يتضح من أدنى نظرة إلى الخارطة الجغرافية. فيتضح ممّا ذكرنا عدم صحة الزعم القائل بعدم كفاية تراب الكرة الأرضية لتلبية حاجة أبدان جميع أفراد البشرية.

3- ما الجسم الذي يشمله المعاد؟

اشارة

السؤال الآخر الذي يطرح بشأن المعاد هو: إذا كان المعاد جسمانياً، فأي بدن من الأبدان التي إكتسبها الإنسان طيلة عمره سيكون المعاد؟ لأنّنا نعلم أنّ البدن و الجسم يتغير عدّة مرّات طيلة عمر الإنسان، و يحتمل أن تعوض خلايا البدن كل سبع سنوات و تستبدل بخلايا جديدة. و طبعاً فإنّ هذا التغيير إنّما يتم بصورة تدريجية و دقيقة بحيث لايبدو محسوساً قط، و الطريف أنّ الخلايا الجديدة تجتذب جميع مميزات وخصوصيات الخلايا القديمة، أي أنّها تكون بنفس الحجم و الشكل و اللون، أو ليست هي وليدة وراثة الخلايا القديمة، فكيف لاتشبهها في كل

شي ء؟ على كل حال فبالنظر لما قيل يبقى سؤال و هو: إنّ الإنسان قد عوّض بدنه عشر مرات خلال سبعين سنة و قد أتى بكل واحد منها أعمالًا حسنة أخرى سيئة، فهل يعود بمجموع هذه الأبدان بحيث يصبح هيولا عجيبة؟

أم ببدن واحد منها، و ذلك ترجيح بلا مرجح، أضف إلى ذلك فإن لكل بدن صحيفة أعمال بحيث يمكن أن تكون متفاوتة تماماً مع صحيفة أعمال المعاد و عالم الاخرة، ص: 215

البدن الآخر، أمّا إن كان المعاد روحانياً فليست هنالك أية من هذه المشكلات.

جواب:

يمكن العثور على جواب هذا السؤال في ذات السؤال، فكما ورد في المتن أنّ كل بدن يجتذب جميع مميزات و صفات البدن السابق، و عليه فآخر بدن هو مخزن جميع الصحف طيلة العمر و هو خلاصة و عصارة لجميع مميزات الأبدان السابقة. و لذلك فإنّ عودة و بعث آخر بدن تعني عودة جميع الأبدان و بعثها، والجدير بالذكر هو أنّ الخلايا حين التعويض تجتذب حتى العوارض الإكتسابية، مثلًا الخال الموجود على البدن يمكن الّا يقارقه طيلة العمر رغم أنّ الخلايا تتعوض، و هذا مايشير بوضوح إلى نقل حتى الصفات الإكتسابيةإلى الخلايا الجديدة. و كما ذكرنا سابقاً فالمفهوم من أغلب الآيات القرآنيةأنّ المعاد يوم القيامة سيكون بآخر بدن، فقد ورد في الآية 51 من سورةيس: «وَ نُفِخَ في الصُّورِ فَاذِاهُمْ مِنَ الَاجْدَاثِ إِلَى رِبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» و الآية 7 من سورة الحج «وَ انَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ في الْقُبُورِ». فالذي يستفاد من هذه الآيات وشبيهاتها أنّ المعاد يحصل بآخر بدن، و هذا ما يقتضيه قانون العقل، لأنّ البدن الذي يكون عصارة و خلاصة جميع أبدان مدّة العمر هوفي الحقيقة مع الروح دائماً و له سنخية و تناسب معها

في كل جهات، و لاتستطيع الروح سوى به أن تكتمل، و عليه فليس هنالك من مشكلة من المعاد و عالم الاخرة، ص: 216

هذه الناحية في أمر المعاد الجسماني.

4- أين تقام القيامة؟

اشارة

السؤال الأخير الذي يطرح بشأن المعاد الجسماني و هو إذا أراد أن يعودكافة الناس منذ بداية الخليقة إلى الحشر فسوف لن يكون هناك من مكان على الأرض يسعهم، و نحن نعلم أنّ الأرض لا تستطيع تلبية التعداد السكاني في بعض مناطق العالم، و من هنا هناك مواجهة شديدة لازدياد عدد السكان، فاذا أريد تجمع كافة الناس من الماضين و الحاضرين والقادمين في مكان واحد، فكيف ستكون الحالة مزرية، أمّا إن كان المعاد روحانياً فليست هنالك أية مشكلة حيث لاتوجد مضايقات في عالم الأرواح.

جواب:

لعل من أورد هذا الإشكال غفل عن نقطة و هي كما ورد صريحاً في القرآن فإنّ نهاية هذا العالم ستشهد إختلال نظام كرات عالم الوجود:

فالشمس تكوّر و القمر يصبح مظلماً و الجبال تنسف و تصبح كذرات الغبار، ثم يقام عالم جديد على أنقاض هذا العالم و تبدأ حياة جديده للناس في ذلك العالم، و من هنا فليست هنالك من مشكلة بالنسبة لصغر مساحة الكرةالأرضية، حيث لن تكون هناك كرة أرضية بهذا الشكل حتى نقلق من قلّةمساحتها، و سنستعرض مستقبلًا بصورة أعمق- إن شاء اللَّه- هذا الموضوع.

شهداء المحكمة الكبرى للمعاد

اشارة

والحساب و الكتاب و الميزان القيامة محكمة عظيمة لابدّ أن يحضرها الجميع دون إستثناء و يمثلواللمحاكمة، ولكن كما ذكرنا أنّ ألفاظنا قد أبتدعت منذ اليوم الأول بشأن حياتنا اليومية، و لذلك سيتعذر علينا التحدث بمجرّد أن نخرج عن إطارحياتنا اليومية، لأنّنا لا نجد الألفاظ التي تبيّن المفاهيم التي سنتعمل معها! خاصة بشأن الحياة في العالم الآخر؛ العالم الذي يختلف تماماًعن هذاالعالم، حيث يفوق بمراتب هذا العالم سمواً و رفعة، و لاينطوي على حياته المملة المتعبة. بالضبط كالتوأمين في بطن أمّهما- فرضاً- يضعون ألفاظاًمن أجل قضاء حاجاتهما، فمن البديهي أنّهما حين يلدان و يريان أنواع المشاهد والمناظر و الكائنات و الظواهر و الأفراد و الأشخاص فليس أمامهمامن سبيل سوى التفاهم عن طريق الإشارات و حركة العيون و الحواجب من أجل إفهام الآخرين ما يريدان، لأنّ قاموسهما في مرحلة الجنين قد لايشتمل على عشر مفردات، و الحال يحتاج العالم الواسع الفعلي إلى عشرات آلاف المفردات للتعامل مع مطالبه و مفاهيمه، فسعة ذلك العالم بالنسبة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 218

لعالمنا كنسبة هذا العالم إلى عالم الجنين، و عليه فليس من العجيب ألّاتستطيع الألفاظ والمفردات التي نتحدث بها في

هذا العالم أن ترسم لناصورة كاملة عن شكل الحياة في العالم الآخر، فنشعر بالإعياء و العجز لوصف روعة النعم و عظمة تكامل تلك الحياة، بل يصعب علينا نحن الذين نعيش في سجن الدنيا حتى تصورها.

***

على كل حال فحين نقول سيمثل جميع الأفراد للمحاكمة في ذلك العالم، فإن ذلك لايعني ستنصب عدّة طاولات في المحشر و سيحمل كل فرد ملفه صغيراً كان أم كبيراً تحت إبطه و يرد مع الشهود، فيمثل مثلًا بين قضاة و حكام تلك المحكمة الذين يكونون من الملائكة، ثم تبدأ المحاكمة العلنية بعد الإستماع إلى الإفادة و التحقيق و السؤال و الجواب و يهب المتهم للدفاع عن نفسه ثم يتداول القضاة- الملائكة- الحكم فيصدرون أحكامهم بتبرأة الأفراد أو إدانتهم، و بعد إمضاء الحاكم المطلق- الذات الإلهية المقدسة- للحكم يبلّغ مأموري إجراء الأحكام الإلهية؛ أي ملائكة الجنّة و النار بتطبيقها، كلا ليس الأمر كذلك أبدا! فهناك تتخذ الألفاظ صبغة و مفهومها آخراً، فهناك شبح للمحكمة إلّاأنّه على مستوى أرفع بالشكل الذي لم نره و نسمعه قط. و إن ورد الكلام عن ميزان الأعمال فهذا لايعني وضعها في كفة من ميزان ويضعون عدداً من الأثقال في الكفة الثانية حتى تحصل حالة التوازن فيعلم الوزن الواقعي، أو إن كان أكثر جيى ء بميزان ضخم ليحسب وزن الأعمال، كلا ليس الأمر كذلك. قلنا إنّ الألفاظ هناك تتخذ شكلًا آخر (و لابدّ أن تكون كذلك) لأنّ الحديث عن عالم يختلف تماماً عن عالمنا هذا.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 219

طبعاً لا ينبغي أن تكون هذه الحقيقة وسيلة للتفاسير الخاطئة والمنحرفة ومدعاة إلى نوع من الفوضى في الألفاظ المتعلقة بالعالم الآخر، بل لابدّ من توضيح مفاهيم هذه الألفاظ في ظل القرائن الموجودة،

من جانب آخر فإن مفاهيم الألفاظ إنّما تتغير بمرور الزمان في الحياة الدنيوية:

فحين كانت تطلق كلمة السراج يراد بها تلك القارورة المملوءة بالزيت و في فوهتها فتيلة طويلة يخرج جزء منها للإشعال و يأخذ الزيت بالإحتراق شيئاً فشيئاً، و أحياناً توضع عليها مظلة متواضعة لإحتواء الدخان. أمّا اليوم فتطلق هذه الكلمة و يراد بها المصباح الكهربائي الذي يعلق في السقف فلا من زيت و لا فتيلة، و لا يحمل من السراج القديم سوى خاصيته في مكافحة الظلمة، و يصدق هذا الكلام على سائر وسائل الحياة القديمة والجديدة على أنّ تلك الوسائل و الأدوات تغيرت تماماً، غير أنّ النتيجة باقية ثابتة، فإن كان هذا الاختلاف و التغيير إلى هذه الدرجة بشأن زمانين في هذا العالم، فما بالك بذلك العالم الذي يختلف بكل تفاصيلة عن هذا العالم، بحيث إذا لم نحصل على ألف باء آخر لبيان مفاهيمه فلابدّ على الأقل أن نفكر في إستعمال ألفاظ أكثر بالنسبة لنتائجها، طبعاً لا نقول إنّنا نفسّرها كيفما نشاء ونصرّح بأنّ لهذه الألفاظ وضع خاص. و نخوض الآن في تفسير هذه المفاهيم بعد تلك المقدمة.

الف- شهداء القيامة

اشارة

تعرض القرآن الكريم على لسان آياته إلى طائفة من شهداء المحشر وهم بالترتيب:

المعاد و عالم الاخرة، ص: 220

1- الذات القدسية المطهرة: «وَ مَاتَكُونْ في شَأْنٍ وَ مَاتَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرآنٍ وَ لَاتَعْمَلُونْ مِنْ عَمَلٍ الّا كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اذْ تُفِيضُونَ فِيْهِ وَ مَا يَعْزَبُ عَنْ ربِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأَرْضِ وَ لَافي السَّماءِ وَ لَاأَصغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَ لَاأَكْبَرَ الّا في كِتَابٍ مُبينٍ» «1». 2- الأنبياء: «فَكَيْفَ اذَا جِئْنًا مِنْ كُلِّ امَّةٍ بِشَهيدٍ وَ جِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً» «2». 3- الأعضاء كالرجل و اليد:

«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيْهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «3». 4- الجلود: «وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذي أَنْطَقَ كُلَّ شَى ءٍ» «4». 5- الأرض تشهد على الأعمال: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثْ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَها» «5». 6- الملائكة: «وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سَائِقٌ وَ شَهيد» «6».

***

كيفية هذه الشهادة

يتضح من خلال عد اللسان و اليد و الرجل و أعضاء البدن و كذلك الأرض في عداد الشهود، أنّ تلك الشهادة ليست من قبيل الشهادات البشرية التي لا تتجاوز الكلام و ليست لها أية مطابقة للواقع، فهي شهادة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 221

«عملية» و «أثرية» لا سبيل للكذب إليها. توضيح ذلك، أحياناً نقول تشهد عين فلان أنّه لم ينم البارحة! يشهد شحوب وجهه و لعثمة لسانه أنّه يخشى من شي ء! تشهد نظافته الفائقة لملابسه و داره أنه ينتظر ضيفاً. فهذه (الشهادة الطبيعية و العلمية) تفيد أنّها أبلغ و أصدق شهادة ولايسمع أحد إنكارها. غالبا ما ينكر المتهم شهادة جميع الشهود، ولكن بمجرّد أن يسمعوه كلامه من على شريط أو يروه الصور حين إرتكابه للجريمة يشعر بإغلاق كافة الطرق بوجهه فلا يملك سوى الإعتراف، و سبب ذلك هو أن شهادة الشريط و الصورة هي شهادة طبيعية و أثرية لا يسع أي أحد التنكر لها، لا ينبغي الغفلة أنّ روحنا و جسمنا إرشيف عجيب لكافة أعمالنا و تصرفاتنا وأقوالنا طيلة عمرنا، يعني كما أنّ الغذاء الذي تناولناه منذ بداية عمرنا لحدّ الآن في جسمنا- قد أثرت وأن آثار كل غذاء موجود في دمنا و خلايا بدننا و في عظامنا و شرايينا و أنّ هذه الآثار ستنتقل إلى الخلايا القادمة حين تغيير هذه الخلايا و تبدلها،

بحيث لو كان هناك جهاز دقيق يدرس دمنا و خلايا بدننا لأمكنه إطلاعنا على جميع الأغذية مع تأريخها التي تناولناها لحدّ الآن، كذلك لكل عمل من أعمالنا إنعكاس في روحنا و جسمنا: فللكذب و الخيانة و إنتهاك حق الآخرين و صفع البري ء و الشهادة الظالمة، لكل هذه الأمور بصماتها على روحنا و جسمنا و ترسم خطوطاً تسهل قراءتها في محكمة القيامة التي تمثل على الظهور و البروز، فكل هذا من شهود تلك المحكمة. بالمناسبة لو كان المجتمع يؤمن بمثل هذه الحقائق فكم سيكون مراقباً

المعاد و عالم الاخرة، ص: 222

لأعماله و تصرفاته؟ و ما أعظم الآثار التربوية التي سيفرزها هذا الإيمان بمثل هذه القيامة.

ب- الحساب في تلك المحكمة

يتضح ممّا قيل أنّ هناك صبغة أخرى لمسألة صحيفة الأعمال و الحساب في محكمة القيامة، فوجود المجرمين و الصالحين هو صحيفة عمل، و هكذا أبواب و نوافذ البيت المسكون كل منها صحيفة، و لاشك أنّ الكتاب الذي يعطى يوم القيامة إلى الصالحين بيمينهم و إلى الطالحين بشمالهم و الذي تحدثت الآيات القرآنية عن تعذر إنكاره هو من قبيل هذه الصحف الأثرية التي يصعب علينا اليوم حتى تصورها، و من هنا تحل لدينا مشكلة أخرى يقول بشأنها القرآن: «وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب» «1». لأنّ الحساب واضح هناك و هو مجموع آثار الأعمال الحسنة و السيئة في وجود كل شخص و نتيجتها معلومة واضحة. و لتقريب هذه الحقيقة للذهن يمكن أن نضرب مثلًا بسيطاً فنقول لعل السيارات العادية قد طوت عدّة طرق كثيرة طيلة عمرها دون أن يستحضرها حتى سائقها فضلًا عن حسابها، ولكن إن أدرنا نظرنا إلى العدّاد فاستطعنا تعيين مقدار الطريق الذي إجتازته و هذه أيضا شهادة أثرية، عادة ما يتخلل الحساب

العادي بعض الأخطاء و حتى حسابات الأدمغة الألكترونية، إلّاأنّ لدينا حساب في هذا العالم لا يتسلل إليه الخطأ، مثلًا تضيف الأشجار المقلوعة كل سنة إلى نفسها بعض القشور التي تكشف عن عمرها، و كذلك المعاد و عالم الاخرة، ص: 223

طبقات الثلج، فهذه حسابات لا سبيل للخطأ إليها، و الحق أنّ حساب يوم القيامة من أرفع أنواع هذه الحسابات.

ج ميزان الأعمال

كثر الكلام في المتون الإسلامية عن ميزان الأعمال و يرى البعض أنّ هناك ميزاناً كالذي نراه في هذا العالم، و لذلك تكلّفوا عناء وجوده و ماذايزن. 1- نفس الأفراد 2- صحف الأعمال 3- تجسم الأعمال له وزن و كل ذلك لأنّهم فسّروا الميزان و الوزن على ضوء المفاهيم العادية التي نتعامل معها في الحياة اليومية و الحال ورد مفهوم أوسع و أجمع له في القرآن الكريم: «وَ السَّماءَ رَفَعَهَا وَ وَضَعَ الْمِيزَانَ» «1». «وَ أنْزَلْنا مَعَهُمْ الْكِتَابِ وَ الْمِيزَانَ» «2»

توضيح ذلك: هناك مع يار لدى كل قوم وملّة لتعيين القيم حيث يمكن القول لهذا الميزان إمكانية تحديد مصيرها، على سبيل المثال فمقياس العلم و العالم في دنياه المادة غير مقياس مدرسة الأنبياء و الأولياء والوحي، فاليوم يطلق العالم على من يمتلى ء دماغه بأكثر عدد من القواعد و المعادلات و له معرفة بطبيعته و أسراره و كيفية الاستفادة منه و قد قضى المعاد و عالم الاخرة، ص: 224

شطراً من عمره في الجامعات و المختبرات و تفوق في الإمتحانات، و لا فرق في أن يسخر هذا العلم لخدمة البشرية أو لخدمة القنابل و الصواريخ العابرة للقارات أو الرؤوس النووية أو صنع المخدرات، أو الدفاع عن عصابات اللصوص الدوليين حين يمثلون في المحاكم أو في خدمة المنظمات الإستعمارية و الاقتصادية العالمية. بينما تكتسب هذه

الكلمة معنى آخر لدى أولياء اللَّه كعلي (ع) الذي يرى العالم من يقوم على مصالح الناس و يوظف العلم في سبيل نجاة البشريةويتحمل هموم الامة و إلّافليس هو بعالم. «وَ مَاأَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَماءِ الّايُقارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لاسَغَبِ مَظْلُومٍ» «1»

. نعم، فمقياس العلم و الشخصية و القيم الإنسانية و السعادة و الشقاء مختلف تماماً بين الشعوب و أقوام، فمحيط عرب الجاهلية الذي يرى الشخصية في السلب و النهب و كثرة الأولاد الذكور إنّما ناتجه حفنة من اللصوص بتعدد الزوجات دون حساب، أمّا حين أصبح العلم و الورع والتقوى هو المقياس بظهور الإسلام فقد تغيّرت الأوضاع كلياً و ظهرت حصيلة أخرى تباين سابقتها. إنّ أحد أهداف رسالات الأنبياء هو منح الضوابط و المعايير الواقعية الصانعة للإنسان، و الآية 25 من سورة الحديد إشارة إلى هذه الحقيقة، ومن هنا نرى الميزان بوسيلة المعيار المعنوي الذي يشبه الميزان الحسي فقط في النتيجة يعني تعيين الوزن الواقعي- جدير بالذكر ورد في إحدى زيارات أميرالمؤمنين علي عليه السلام: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مِيزَانَ الَاعْمَالِ». فهنا يصبح الإنسان الكامل هو الميزان للأعمال ولكل أن يعلم وزنه المعاد و عالم الاخرة، ص: 225

وقيمته على أساس مدى شباهته به في الإيمان و العمل و التقوى و العدالةوالشجاعة، فهو ميزان دقيق ووسيلة إختبارية تامة و كاملة للقيم الإنسانية. و نرى اليوم بعض الموازين الدقيقة تؤثر عليها حتى حركة الريح و كتابة كلمة واحدة، و كذلك هناك ميزان ضغط الدم و الحرارة و حتى مقدار إستعداد الإنسان و ذكائه، بينما ليس لدينا أي ميزان للعمل الصالح والسيى ء مقدار الإخلاص وحسن النية و دوافع الأعمال. مثلًا ورد في روايةأنّ مثل الشرك في الأمّة أخفى من دبيب

حشرة سوداء في ليلة ظلماء على حجرة صماء. فمن المسلم به أنّ حركة تلك الحشرة تؤثر على الحجرة و ينبعث من حركتها عليها صوت مرتفع، إلَاأنّه زهيد إلى درجة أننا لا نستطيع حسابه بأية وسيلة، فبطريق أولى ليس لدينا من وسيلة لمعرفة نفوذ الأفكارالمنحرفة إلى نيّة الإنسان التي تعتبر أدق و أظرف من سابقتها، لكن من المفروغ منه أنّ هناك مثل هذه الوسائل في العالم الآخر، نعم كل ما نعرفه أنّها موجودة، بينما لا نعلم كيفيتها و خصائصها.

***

الثواب و العقاب

إنّ القراءات غير السليمة لمسألة الثواب و العقاب في عالم ما بعد الموت جعلها تنطوي على هالة من الإبهام و الغموض، فهنالك عدّة علامات استفهام ونقاط مبهمة بشأن الثواب و العقاب في القيامة و العالم الآخر، والتي عادة ماتستند إلى التفسيرات الخاطئة للثواب و العقاب. فمثلًا يتساءل البعض: ما تأثير ذنوبنا على اللَّه ليؤاخذنا بها و يعاقبنا عليها؟ إنّنا نذنب لكنّه هو الكبير و القادر و العالم فلماذا يعاقبنا؟ إذن ما الفرق بيننا و بينه؟ فهو الذي يصفح و يعفو. و بغض النظر عمّا سبق فإن أقصى ما يعمر أعتى الظلمة و أعظم الأثمة لا يزيد على مئة سنة، فما معنى هذا العذاب لملايين السنين و الخلود فيه؟

إنّ فلسفة العقاب لا تتجاوز أحد ثلاث: الاستناد إلى روح الثأر أو من أجل اعتبار الآخرين أو تربية الخاطئين. و لايصح أي من هذه المواضيع الثلاثة بشأن العقاب في العالم الآخر، فأمّا الثأر و الإنتقام فاللَّه منزّه عنه، لأنّ الإنتقام (و خلانا لما يتصور) لا يفيد القدرة، بل هو علامة على ضعف الإنسان و عجزه الروحي، و الانتقام مسكّن للأرواح المجروحة، أو الأصح عامل من المعاد و عالم الاخرة، ص: 228

أجل تخدير الأرواح المريضة و العاجزة،

وعليه فالعقاب الإلهي لاينطوي على أي عنصر إنتقام. كما لا ينطوي على «عنصر تربوي» بالنسبة لمرتكب الذنب أو الآخرين، فمركز التربية هو هذا العالم و ليس هنالك من فرصة في العالم الآخر، و عليه فإنّ العقوبات في العالم الآخر ليست مثل القوانين الجزائية و لعقوبات في عالم الدنيا، فمثل هذه العقوبات تختزن الجانب التربوي، بينما لا معنى له في الحياة الآخرة.

***

يمكن الردّ على التساؤلات السابقة من خلال الإلتفات إلى حقيقة و هي أنّ العقاب الاخروي و الجزاء في القيامة ليس إلَاآثار و نتائج الذنوب والمعاصي في روح الإنسان و جسمه و كذلك تجسمها. توضيح ذلك: هنالك عدّة آيات قرآنية و روايات إسلامية ذات عبارات رائعة بشأن رابطة هذا العالم بعالم الآخرة يمكنها كشف الإغماض المذكور، مثلًا ورد في الآية 20 من سورة الشورى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الَاخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ». فالتعبير بالحرث يفيد أنّ الثواب و العقاب في ذلك العالم ليس سوى نتائج أعمال الإنسان. و ورد في الآية 15 من سورة الجن: «امَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبَاً». و نخلص من ذلك إلى أنّ النار ليست سوى الصورة الأخرى لأعمال الأفراد، وجاء في الآية 39 من سورة الصافات: «وَ مَا تُجْزُوْنَ إِلَا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ». و يفهم من ذلك أنّ الثواب أيضا هو ذات الأعمال و الذي يستفاد من المعاد و عالم الاخرة، ص: 229

هذه العبارات أنّ الذي سيلازمنا في العالم الآخر هو الأعمال الحسنة و السيئة والتي صدرت منّا في هذا العالم و هي التي ستبلغ بنا التكامل أوالتسافل. فستخرج هذه الأعمال آنذاك من خفاياها و تظهرلنا بشكل جديد، فإمّا أن تنير أعماقنا و تشعرنا بالحيوية و النشاط و إمّا أن تحرقنا، على كل حال فهي معنا

ولا تفارقنا، فهي أبدية بإذن اللَّه كسائر الأشياء في ذلك العالم لايتطرق إليها الفناء و الزوال، و هكذا فمسألة الثواب و العقاب ليست مثل أجرة العمال و معاقبة العبيد، و ليس لها بعد الإنتقام، كما ليس فيها عبرةللمذنبين أو غيرهم، بل هي نوع آخر يمكن التعبير عنه ب «أثر العمل». و الطريف في الأمر أنّه ورد في الرواية المعروفة «الدنيا مزرعة الاخرة».

وبالإلتفات إلى مفهوم المزرعة يتضح أنّ ما نحصده هناك هو المحصول لبذور الأعمل الحسنة و السيئة التي غرسناها هنا، فلو نثرنا عدّة بذور من الأشواك ورأينا أنفسنا بعد سنوات أمام ميدان واسع مليئى بالشوك و لابدّ لنا من عبوره، فهل نكون قد حصلنا على شي ء غير الذي زرعناه؟ و بالعكس لو نثرنا بذور الزهور في مزارعنا و واجهتنا بعد مدّة حديقة غنّاء مليئة بالزهور و الأوراد ذات الروائح العطرة التي تبعث النشاط و السرور في قلب الإنسان، فهل تكون سوى نتيجة عملنا؟ فلا في الحالة الأولى هناك ظلمنا و لا في الحالة الثانية ما تلقيناه عبثاً دون حساب، و لم نحصل في الصورتين سوى على نتيجة عملنا (عليك بالدقّة). و الآن نسأل: إذا كانت تلك الأشواك و هذه الزهور خالدة أبدية، تجعلنا نعيش الألم أو اللذة دائماً، فهل هناك من مقصر؟ أم أنّ ذلك ينافي العدل؟ أم لنا الحق في الشكوى إذا فهمنا الثواب و العقاب على أساس ما تقدم فسوف تزول كل علامات الإستفهام (عليك المعاد و عالم الاخرة، ص: 230

بالدقّة أيضاً). و سنتحدث بالتفصيل عن ذلك في بحث «الخلود» و «تجسد الأعمال».

***

المعاد و عالم الاخرة، ص: 231

تجسم الأعمال

اشارة

كيف ستكتسب أعمالنا في الآخرة صفة الحياة بحيث يتجسم كل عمل بالصورة التي تناسبه؟ إنّ من بين

الخصائص التي يتصف بها ذلك العالم و تميزه عن هذا العالم هو مسألة تجسم الأعمال، فأقوالنا وأعمالنا في هذه الدنيا التي نعيش فيهاتبدو حركات عابرة ليس لها من دوام و بقاء و عادة ما تمحى و تزول بعدالظهور، يمكن أن يكون هناك مصور ماهر وعارف بالوقت فيحضر في لحظةوقوع الجريمة فيلتقط عدّة صور لجميع مراحل الجريمة أو يسجّل الأصوات بحيث يمنحها بنوع صبغة الدوام، لكن أصل القول و العمل مهما كان حصل لعدّة لحظات ثم تم و إنتهى. ولكن نفس هذه الألفاظ و الكلمات و الأعمال الحسنة و السيئة التي أتينا بها في هذه الحياة و يبدو أنّها نسيت و زالت و كانت تعتمد علينا في وجودها حتى في تلك اللحظات، ستظهر يوم القيامة بصيغة موجودات مستقلة تبدو فيها جليستنا الأصلية التي لاتبتعد عنّا أبداً. ورد في الحديث النبوي الشريف أنّ: «الظُّلْمُ هُوَ الظُّلُمَاتُ يَوْمَ المعاد و عالم الاخرة، ص: 232

الْقِيَامَةِ» «1»

.، و أموال اليتامى تتجسم بصورة نار: «انَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً انَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً» «2»

. كما يكون الإيمان نوراً: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنَيِنَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِايْمانِهِمْ» «3». و الخلاصة فإنّ كل عمل سيتجسم بالصورة التي تناسبه، أحياناً تتبدل الكيفيات العملية بكيفيات روحية و جسمية، فمثلًا المرابين الذين يعثرون بأعمالهم القبيحة المسيرة المتوازنة لإقتصاد المجتمع يعيشون نوعاً من مرض الصرع بحيث لايستطيعون التوازن حين قيامهم من الأرض: «الَّذِيَن يَأْكُلُونَ الرِّبا لَايَقُومُونَ الّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» «4». أما الأموال التي إحتكرها الأغنياء و البخلاء و جهدوا في جمعها ولم يبدو أية رحمة تجاه من حولهم من الفقراء و المساكين الذين يعانون من الجوع و الحرمان، بل حتى هم أنفسهم لم يستفيدوا

من تلك الأموال و لم تجلب لهم سوى مسؤولية الحفاظ عليها و الهم و الغم من أجل عدم فقدانها وتشتتها و بالتالي لم يكن لهم بد من مفارقتها و الإرتحال عنها، فإنّهم سيطوقون بها و تكون وبالًا عليهم: «سَيُطَوَّقُونَ مَابَخِلوُا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» «5». فإضافة إلى الإشارات في الموارد الخاصة الماضية حول تجسم الأعمال الذي ورد في مختلف الآيات القرآنية، فهناك إشارة إلى هذا الموضوع في المعاد و عالم الاخرة، ص: 233

عدّة موارد أخرى بصورد حكم كلي و من ذلك: 1- «وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً» فكل ما يحبّونه انّما هو من صنع أيديهم وحاضر لديهم من هنا أردف بقوله: «وَ لايَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» «1». 2- «وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤنَ» «2». 3- «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ اشْتَاتًا لِيُروَا اعْمالَهُمْ» «3». 4- «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ» «4». فالآية الأخيرة تفيد أنّ الإنسان سيرى نفس العمل لا ثوابه و عقابه وكذلك الآيات السابقة، طبعاً يمكن تفسير ذلك على أنّه مشاهدة النتيجة وثواب وعقاب العمل أو مشاهدة صحيفة الأعمال، و لكن يبدو هذا التفسير خلاف ظاهر الآيات و ليست هناك من قرينة على ذلك. أضف إلى ذلك فهناك الكثير من الروايات الواردة في المصادر الإسلامية والتي تصدنا عن مثل هذا التفسير و ترشد إلى كيفية تجسم الأعمال الحسنة والسيئة هناك.

هل يمكن تجسم الأعمال؟

المسألة المهمّة التي ترد هنا هي: هل تنطبق هذه المسألة و الموازين العلمية؟ و تتضح الإجابة على هذا السؤال بعد الإلتفات إلى عدّة مقدمات مختصرة: 1- نعلم أنّ العالم مركب من «مادة» و «طاقة» و إنّنا نراهما أينما نظرنا في السموات و

الأرض مع بعضهما و يبديان في صور مختلفة. أمّا المتصور سابقاً هو أنّ هناك حدّاً فاصلًا لايمكن عبوره بين المادة والطاقة، فالمادة مادة دائماً و الطاقة طاقة كذلك، إلّا أنّنا و بفضل تطور العلوم المعاد و عالم الاخرة، ص: 234

الطبيعية قد وقفنا على الأسرار الكامنة في هذين الأصلين الأساسيين لعالم الخلقة، حيث تبيّنت مدى العلاقة الحميمة بينهما إلى درجة أنّ كل واحدمنهما أب و كذلك إبن الآخر. و أخيراً فقد إنهارت آخر قلعة محكمة للذرة بصفتها الحدّ الأخير لعالم المادة، حيث إخترقها العلم و التطور التكنولوجي ليتبيّن أنّه ليس في داخلها سوى الطاقة، و لم تكن هذه المادة سوى طاقة مضغوطة، و هكذاأصبح تحول المادة إلى طاقة أمراً عادياً. و قد أثبتت الأجسام الراديو كتيفية التي تنبعث منها أشعة ذرية في الحالة العادية و الطبيعية، يعني أنّ مادتها في حالة تآكل و إنهيار وتحول إلى طاقة، عدم الحاجة في كل موضع إلى المفاعلات الذرية القوية بغيةتجزأة الذرة وتحطيم أغطيتها، بل إنّ أغلب ذرات العالم الثقلية في حالةتجزأ تلقائي- أو بصورة تدريجية و بطيئة- هذا جانب من المسألة. و السؤال المطروح: هل يمكن تبديل الطاقة إلى مادة على غرار تجزأالذرة وتبدلها إلى طاقة، مثلًا يمكن ضغط و فتح السلك المرن فهل يمكن هذا في عالم الطاقة بحيث يمكن ضغطها و تبديلها إلى مادة، طبعاً- حسبمانعلم- لم يستطع العلم المعاصر القيام بذلك العمل، و لكن لا دليل على نفي ذلك أيضاً، فما دامناً أقررنا أن بينهما رابطة حميمة، بل إنّهما و جهان لعلمةواحدة، فمن الممكن تبدل أحدهما إلى الاخر، و عليه فلا مانع من تبديل الطاقة بمادة. 2- إنّ أعمالنا أشكال مختلفة للطاقة، فكلامنا طاقة صوتية مخلوطة بالطاقات الميكانيكية للسان و الشفة و تستمد العون

من الطاقة الخاصة للدماغ. حركاتنا و أفعالنا و أعمالنا الحسنة و السيئة و الظلم و العدل و

المعاد و عالم الاخرة، ص: 235

الإحسان والبخل و العبادة و الدعاء كلها أشكال أخرى للطاقة الميكانيكية أو الخليط من الطاقة الميكانيكية و الصوتية. و هنا خطأ كبير لابدّ من إجتنابه و هو أنّ الأغلب يتصور بأنّ المواد الغذائية في بدننا إنّما تتبدل إلى طاقات وحركاتنا و أعمالنا المختلفة، و الحال إنّ هذه خطأ، فالمواد الغذائية لا تتبدل إلى الطاقة قط (تبديل المادة إلى طاقة يختص بتجزأة الذرة أو التشعشعات الذرية في الأجسام الراديو كتيفية). فما تفسير مايقال من أنّ الغذاء وقود البدن و يتبدل فيه إلى طاقة؟ لا تبدو الإجابة صعبة على هذا السؤال لأنّ في بدننا ماكنة كسائر المكائن التي تقوم بتحويل الطاقة من شكل إلى آخر، لا أنّ المادة تتبدل إلى طاقة (عليك بالدقّة).

***

توضيح ذلك: إنّ كل تحليل أو تركيب كيميائي إمّا أن يحرر طاقة أو يكتسبها، فمثلًا حين نشعل حطباً فانّ الكاربون الموجود فيه يتحد مع اوكسجين الهواء، فتنبعث منه الطاقة الحرارية التي إدخرها في جوفه خلال سنوات حين القيام بعملية الكربنة دون أن يتبدل شي ء من كاربون الأشجار أو اوكسجين الهواء إلى طاقة. و الآن يمكن أن نجعل هذه الطاقة الحرارية تحت قدر من الماء و نبدلها إلى بخار فنستفيد من القوة البخارية لتسيير العجلات، فقد تبدلت هنا الطاقة الحرارية إلى طاقة ميكانيكية و حركية. كما نستطيع عن طريق الضغط ضخ البخار عبر إنبوب لايجاد صوت عظيم، أي تبدلت الطاقة الحرارية إلى طاقة صوتية و كذلك ....

المعاد و عالم الاخرة، ص: 236

ففي جميع هذه الحالات لم يقل شي ء من المادة، بل تغيّر شكل الطاقةالكامنة في

جوف المواد. و يصدق هذا الموضوع على المواد الغذائية في بدننا، لأنّ المواد الغذائيةفي أبداننا تتحد مع الاوكسجين فتنبعث منها طاقة حرارية بفعل الإحتراق، فتتغير هذه الطاقة لتتبدل إلى حركة و صوت و ما شابه ذلك.

***

نعود إلى الموضوع، فأعمالنا و أفعالنا و أقوالنا إنّما تنتشر بصورة طاقات متنوعة في الأوساط المحيطة بنا، و هي تؤثر على كل شي ء بما فيه بدنناوالأرض التي نعيش عليها، و أثرها باقي لايعتريه الفناء و يحفظ دائماً في صحيفة الطبيعة، فكما قلنا سابقا لا مفهوم للعدم و الفناء هناك، بل هناك تغيير في الشكل. و بالتالي سيأتي اليوم الذي تجمع فيه هذه الطاقات التي تبدو منسية منتهية فتكتسب الحياة و تبيّن أنّها لم تعدم. لقد سمعنا بأنّه اخترع جهاز يستطيع تصوير السرّاق الذين يفرون من الموضع (يعني يصور مكانهم الخالي) لأنّ الأشعة تحت الحمراء التي بقيت بصورة حرارة بدنية في الموضع يمكن تصويرها، أو نسمع أنّ العلماء استطاعوا إستعادة الأمواج الموجودة على بدنة الأواني الفخارية التي خلفّها المصريون قبل ألفي سنة فيجعلون الأصوات قابلة للسماع، و على ضوء ذلك سيمكننا التسليم و الإقرار بحلول مثل هذا اليوم بالنسبة بجميع أعمالنا و أقوالنا، و طبق المقدمة الأولى لإمكانية تبديل الطاقة إلى مادة لا تبقى مشكلة بشأن تجسم الأعمال و تبدلها إلى موجودات مادية، و عليه فتجسم الأعمال مقبولة من وجهة النظر العلمية، و هذا بدوره يكشف عن مدى المعاد و عالم الاخرة، ص: 237

اختلاف الحياة في ذلك العالم عن الحياة هنا، لو فرضنا أنّ هذا التجسم يحصل في عالمنا المعاصر فمثلًا يتبدل السب و الكلام الفاحش إلى موجود مؤذي إلى جانبنا، أو يكمن لنا كمستنقع نتن، أو أن يتجسم صفع البري ء

وغصب حق الآخرين إلى موجود مشوّه مكروه، فكيف ستصبح حياتنا؟ سيقال: ما أحسن أن تكون كذلك، كي تكون خشيتها دافعاً للناس لعدم سلوك السبيل المنحرف، بل يسارعون إلى الخيرات (عليك بالدقّة). و لكن لاينبغي الغفلة أنّه على هذا الأساس سوف لن يكون هناك من تكامل في أرواحنا و أنفسنا، بل سيكون هنالك نوع من العمل الإجباري، يعني كمن يحمل قسراً لمساعدة مؤسسة خيرية حيث لايترتب أي تكامل أخلاقي أو معنوي على عمله، و من هنا أكتفي بأوامر العقل و تعاليم الأنبياء في هذا المجال. لكن على كل حال للإيمان بأصل تجسم الأعمال دور بارز في بلورة الجانب التربوي لدى الإنسان، إلى جانب حثه الإنسان على الإتيان بالصالحات و الحيطة و الحذر من الطالحات و القبائح، و يفتح قلبه و فكره في الأمور التي تتطلب الفداء و التضحية (عليك بالدقّة أيضاً).

الجنّة و النار

اشارة

لو أقيمت علاقة بين أم و طفلها التي في بطنها و استطاعا التحدث معاً، فسوف لن تكون هناك أم قادرة على التعبير عن المنظر الجميل الساحر والخلّاب لحظة شروق الشمس أو غروبها على ساحل بحيرة رائعة تتناثر حولها الحشائش و الأشجار بأغصانها التي تداعب أمواج البحيرة. إنّها لاتسطيع تصوير حالة النسيم المنعش الممزوج بالرائحة العطرة للزهور و التي تحمل رسالة الحب، كما لا تستطيع شرح ألم فراق صديق حميم يتلظى بنار حبيبه، و ليس لها تمثيل سهره الليالي و تطلعه إلى السماء و الكواكب والنجوم، و أنى للجنين إدراك هذه المفاهيم و لم يتعامل سوى مع قبضة من اللحم و الدم؟ إنّ شرح نعم الجنّة و الآلام المفجعة لعذاب النار بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في جنين هذه الدنيا بالضبط كم مرّ معنا في إدراك

الجنين. حقاً- كما قلنا- فإنّ كلماتنا المحدودة في هذه الحياة لأعجز من أن تصور الحقائق الخارجة عن دائرة الحياة الدنيا، و عليه فلابدّ من ألفاظ أخرى و مشاعر و أحاسيس و إدراكات أخرى لكي يمكن التحدث عنها أو سماعها، و ما أروع ما قاله القرآن الكريم بشأن تلك الحياة: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْس مَا اخْفِىَ المعاد و عالم الاخرة، ص: 240

لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ اعْيُنٍ» «1»

و ورد في الحديث: «فِيهَا مَا لَا عَيْنُ رَاتْ وَ لَااذُنُ سَمِعَتْ وَ لَاخَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر» «2»

. و لعلنا نتعرف على أهميّة الأمر إذا ما تأملنا المفهوم الواسع لكلمة النفي «لا أحد»، هذا من جانب. و من جانب آخر فإنّ الصفات و الخصائص التي ذكرها القرآن الكريم لنعم الجنّة لا يمكن مقارنتها قط بما في هذه الدنيا: 1- «اكُلُهَا دَائِمُ وَ ظِلُّهَا» «3». 2- لا تتعفن مياهها أبداً و فيها أنهار من لبن لا يتغير طعمه (و كأنّه بصورة دائمة في محيط و فضاء مكشوف دون أن يفقد شكله الطبيعي) كما فيها أنهار من الخمرة التي تشتمل على اللذة دون السكر و العفونة: «فِيهَا انْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ انْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ انْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِلْشَارِبِينَ» «4». 3- «وَ دَانِيَةٍ عَلَيْهِمْ ظِلَالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْليلًا» «5». 4- «يُسْقُونَ مِنْ رَحيقٍ مَخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْك» «6». 5- ليس هنالك من حدّ لنعمها من حيث النوع أو الجنس، بل فيها كل ما تشتهيه النفس: «وَ فِيهَا مَا تَشْتَهيِهِ الأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْاعْيُنُ» «7». 6- ليس فيها أي من معاني البغض و الحقد و الحسد و الصفات الذميمة، وهي مفعمة بالحب و الطهر و الاخوة: «وَ نَزْعْنَا مَا

في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ اخْواناً» «8».

المعاد و عالم الاخرة، ص: 241

7- محيط يفيض أمن وأمان، فلا وجود فيها للحرب و سفك الدماء، بل ولا النزاع و الجدال و كلها صلح و سلام: «لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنُدَ رَبِّهِمْ» «1». 8- ليست هناك من لذة تفوق لذة مناجاة اللَّه و الاستغراق في جمال الحق وجلاله سبحانه و الشعور بالسرور لرضى اللَّه: «دَعْوِيهِمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَ آخِرٌ دَعْويهُمْ انِ الْحَمْدُ لِلّهِ رِبِّ الْعَالَمِينَ» «2». 9- تنبعث نار جهنم من نفس الناس و هم وقودها و حطبها: «وَ امَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» «3»

، «وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الحِجَارَةُ» «4». 10- تختلف هذه النار و سائر النيران فهي تحرق من الداخل و تسري إلى الخارج و أول إقتداحها في قلب الإنسان: «نَّارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة* الَّتي تَطَّلِعَ عَلَى الْأفْئِدَةِ» «5».

***

و نخلص إلى نتيجة ممّا سبق في أنّ العالم الذي يعقب الموت هو عالم أوسع بمراتب من هذا العالم و بمفاهيم جديدة تماماً و حيّة و نعم جمة إلى جانب العذاب الأشد الذي لا نتصور سوى شبحه.

الخلود و العذاب الأبدي

اشارة

كما لا تتساوى خدمات و مخالفات كل الناس- من حيث الكمية والكيفية- كذلك ثوابهم و عقابهم لايمكن أن يكون واحداً، و هذا ما عليه المعاد و عالم الاخرة، ص: 242

الحال بالنسبة لقوانين العقوبات العادية لأفراد البشر فعقوبة من يسرق خاتماً زهيد الثمن ليست كعقوبة من يهجم على دار الآخرين فيسرق ويسلب ما يشاء ثم يعمد لقتل النساء و الأطفال في الدار. و من هنا فإنّ هنالك تناسباً دقيقاً بين الثواب و العقاب الإلهي- و الذي يجري وفق خطة محسوبة و بعيداً عن كافة أشكال الخطأ التي لا تخلو منها القوانين البشرية عادة-

و طبيعة الأعمال، و لاسيّما أننا أشرنا سابقاً إلى أنّ هناك رابطة تكوينية و طبيعية قائمة بين العمل و الثواب و العقاب، وعليه فاختلاف ثواب و عقاب الأفراد أمر واضح لا نقاش فيه. إلّاأنّ المستفاد من المصادر الإسلامية- بما فيها القرآن و كتب الحديث- هو أنّ جميع المؤمنين سيخلدون في الجنّة، أمّا الأفراد العصاة الذين مردوا على الكفر و الإلحاد و الذنب و المعصية فانّهم سيخلدون في العذاب، و قد عبّر القرآن عن ذلك بالخلود التي تعني في اللغة بقاء الشي ء على حاله، و من هنا يطلق الخالد على الشي ء الذي يأبى الفساد. وردت كلمة «الخالدون» 25 مرّة في القرآن الكريم و أنّ 14 مرّة منها في عذاب جهنم و الخلود فيه، ووردت مفردة «الخالدين» 44 مرّة في القرآن وأنّ 13 مرّة منها متعلقة بما سبق أيضاً، كما وردت بعض العبارت الأخرى إلى مفردة الخلود، مثلًا جاء في سورة هود بشأن المحسنين: «وَ امَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّموَاتُ وَ الأَرْضُ إِلّا مَاشَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» «1»

. و قال بشأن الأشقياء: «خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّموَاتُ وَ الأَرْضُ الّا مَاشَاءَ رَبُّكَ» «2». واضح أنّ الاستثناء الذي ورد آخر الآية (الّا ما شاء ربّك) لا يعني قطع المعاد و عالم الاخرة، ص: 243

الثواب و العقاب، بل بيان قدرة اللَّه سبحانه، يعني لايتصور بأنّ المسألة قد خرجت من يد اللَّه بمثل ذلك الثواب و العقاب، كلا فكل شي ء مازال في قبضته سبحانه وتعالى و شاهد ذلك العبارة: «عطاء غير مجذوذ» بعد الاستثناء المذكور. أضف إلى ذلك فإن كان هناك من يتردد في دوام عقاب المذنبين فإنّه ليس هناك من ترديد في خلود ثواب

المحسنين، و هذه قرينة أخرى على ما ذكرنا (عليك بالدقّة).

سؤال مهم

هنا ينقدح سؤال مهم في جميع الأذهان و مفاده: كيف نفسر هذه الحالة من عدم المساواة بالنسبة للَّه تعالى؟ كيف يمكن قبول هذا الأمر في أن يقضي الإنسان جميع عمره الذي لايتجاوز الثمانين أو المأة سنة في عمل الخير أو الشر بينما يكون ثوابه أو عقابه ملايين الملايين من السنوات بل أكثر؟ مع ذلك هذا المطلب ليس مهماً بالنسبة للثواب، لأنّ الثواب مهما كان كثيراً فذلك دليل على فضل و كرم المثيب، و عليه فلا إشكال في هذا الخصوص، إلّاأنّ الإشكال في كيفية العذاب الخالد إزاء الذنب و الظلم و الكفر و الإنكار المحدود، فهل ينسجم هذا الأمر وأصل العدالة؟ فمن لم يتجاوز ظلمه و طغيانه أكثر من مئة سنة لم يخلد في النار وعذابها؟ أفلا تقتضي العدالة نوعاً من الموازنة بحيث يعاقب لمئة سنة أو أكثر على قدر ما صدر منه معصية؟!

إجابات غير مقنعة

إنّ صعوبة الردّ على هذا الإشكال دفعت البعض لتوجيه آيات الخلود، ففسروها بعدم إعتماد الخلود في العقاب على أنّه يخالف العدل برأيهم. 1- قال البعض: المراد بالخلود معناه الكنائي أو المجازي، يعني مدّة طويلة نسبياً و هذا من قبيل مايطلق على من يحكم في السجن إلى آخر عمره فيقال حكم عليه بالسجن المؤبد، و الحال ليس هناك من أبدية في أي سجن حيث تنتهي هذه المدّة بانتهاء العمر، و منه ما تعارف لدى العرب من قولهم «يخلد في السجن». 2- و قال البعض الآخر: إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين أفنوا أعمارهم في الذنب والخطيئة حتى أحاطت بهم وأصبح وجودهم معصية فإنّهم و إن خلدوا في النار، إلّاإنّ هذه النار لا تبقي على حالها و بالتالى سيأتي اليوم الذي تخمد فيه هذه النار- كسائر

النيران الأخرى- فيشعر أهلها بنوع من الهدوء الخاص. 3- و أخيراً احتمل البعض حصول حالة من الإنسجام مع النار بعد مرور مدّة من الزمان و تحمل شدّة العذاب حيث يكتسبون خصائص الوسط فيتكيفوا معه بالتدريج و يعتادوه، و على ذلك فلا يعودون يشعرون بأي عذاب وألم!

***

طبعاً كما ذكرنا فإنّ كل هذه التوجيهات بسبب العجز عن حلّ مشكلة العذاب الأبدي، و إلّافإنّ ظهور الآيات في خلود عذاب طائفة معيّنة ممّا لايمكن إنكاره.

حلّ الإشكال

لحلّ هذه المشكلة لابدّ من العودة إلى الأبحاث السابقة و إصلاح الخطأ الناشى ء من مقارنة عذاب يوم القيامة و عقوبته بسائر العقوبات، ليتضح من خلال ذلك عدم وجود أي منافاة لمسألة الخلود مع عدالة الحق سبحانه، ولإتضاح الأمر لابدّ من تسليط الضوء على ثلاث مقدمات: 1- كما ذكرنا آنفا فإنّ العقاب الأبدي و الخالد يختص بالأفراد الذين أغلقوا على أنفسهم كافة سبل النجاة و قد مارسوا الكفر و النفاق عمداً و قد طبع الذنب على قلوبهم حتى عادوا أنفسهم معصية و خطيئة كما وصفهم القرآن الكريم: «بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةِ وَ احَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَاولئِكَ اصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «1». 2- يخطى ء من يظن أنّ مدة العذاب لابدّ أن تتناسب و مدّة الذنب، لأنّ الرابطة بين «الذنب» و «العقاب» ليست زمانية بل رابطة كيفية، أي أنّ زمان العقاب يتناسب و كيفية الذنب لا مقدار زمانه، مثلًا يمكن أنّ يرتكب فرد قتل نفس في لحظة فيحكمه القانون بالسجن المؤبد، فنرى هنا أنّ زمان الذنب لحظة بينما قد تكون عقوبتها ثمانين سنة في السجن. و عليه فالقضية تتوقف على «الكيفية» لا «كمية الزمان». 3- قلنا سابقاً أنّ لعقاب الآخرة حيثية الأثر الطبيعي للعمل و خاصية

الذنب، و بعبارة أوضح: الألم و المعاناة التي يعانيها المذنبون في العالم الآخر هو أثر ونتيجة أعماله، فقد جاء في القرآن الكريم: «فَالْيَومَ لَاتُظْلَمُ نَفْس شَيْئاً وَ لَاتُجْزَونَ الّا مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»، «وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَاعَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»، «فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ المعاد و عالم الاخرة، ص: 246

عَمِلُوا السَّيِّئاتِ الَّا مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ». و قد أوردنا عدّة توضيحات بهذا الخصوص في بحث تجسم الأعمال.

***

و بعد أن إتضحت هذه المقدمات الثلاث لا تبدو الإجابة على الإشكال صعبة، و يكفي في الوصول إليها الإجابة على هذه الأسئلة: لنفرض شخصاً أصيب بقرحة في المعدة إثر تناوله المشروبات الكحولية لاسبوع متتالي بحيث لابدّ له من تحمل هذا الألم إلى آخر عمره، فهل هذا التناسب بين العمل السيى ء و نتيجته على خلاف العدل؟ و إذا فرضنا أنّ عمر هذا الفرد بدلًا من ثمانين سنة كان ألف أو مليون سنة و لابدّ أن يتحمل الألم لمليون سنة بسبب تهوره لاسبوع، فهل هذا يناقض العدالة؟ و الحال قد أنذر سابقاً من العاقبة الخطيرة لهذا العمل. و لنفرض أنّ فرداً ضرب عرض الحائط قوانين المرور التي تعود رعايتها بالنفع العام و الحد من الحوادث، و لم يصغ لأقوال الأصدقاء و تحذيراتهم فارتكب حادثة في لحظة ففقد عينيه أو يديه و رجليه، و عليه أن يتحمل لسنين طوال هذا العمى أو قطع اليد و الرجل، فهل هناك من تناقض والعدالة؟ و قد ضربناً سابقاً مثالًا بهدف تقريب المطالب العقلية للذهن، فقلنا نفرض شخصاً زرع شوكاً ثم رأى نفسه بعد بضعة أشهر وسط مساحة شاسعة من الشوك فهي تؤذيه دائماً ... أو نثر بذور الزهور- عن علم- ليرى بعد مدّة أنّه وسط حديقة

غنّاء مليئة بالأوراد و الزهور بروائحها العطرة، فهل مثل هذه الأمور التي تمثل نتائج عمله تتنافى و العدل، و الحال ليست هناك من مساواة بين كمية العمل ونتيجته، و نستنتج ممّا سبق:

المعاد و عالم الاخرة، ص: 247

حين يكون الثواب و العقاب نتيجة و أثر لنفس عمل الإنسان لا يعد هنالك من مجال لطرح مسألة المساواة من حيث الكمية و الكيفية، فربّما كان العمل بظاهره صغيراً و أثره عمراً من الحرمان و العذاب و الألم، و لعله يكون صغيراً و يكون مصدراً للخير و البركة طيلة العمر. (طبعاً مرادنا من العمل الصغير من حيث المدّة الزمانية و إلّافالأعمال والذنوب التي تؤدّي إلى العذاب الأبدي سوف لن تكون قطعاً صغيرة من حيث الكيفية و الأهميّة). و عليه فإن أحاط الذنب و الكفر بجميع كيان الإنسان و تمام وجوده حتى يؤدّي به في نار كفره و نفاقه فلم التعجب من حرمانه من النعم الواسعة في ذلك العالم وخلوده في العذاب و الألم؟! ألم يأته النذير و يحذر من هذا الخطر العظيم؟ بلى ... فقد أنذره الأنبياء من جانب و حذره العقل من جانب آخر. هل وقع في ذلك دون إرادة و إختيار فابتلى بذلك المصير؟ كلا، لقد بلغه عن علم و إختيار. فهل صنع هذا المصير سواه و عمله؟ فكل ما هنالك من آثار عمله و نتائجه، و عليه فليس هنالك من مجال للشكوى و لا إشكال على أحد و لا من منافاة مع عدل الحق سبحانه. بقيت قضية واحدة نختتم بها البحث، فقد قال الصادق عليه السلام: «انَّما خُلِّدَ اهْلُ النَّارِ في النَّارِ لأَنَّ نِيّاتِهِمْ كَانَتْ في الدُّنيَا انْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا انْ يَعْصُوا اللَّهَ ابَداً وَ

انَّما خُلِّدَ اهْلُ الْجَنَّةِ فِى الْجَنَّةِ لأَنَّ نِيّاتِهِمْ كَانَتْ في الدُّنْيا انْ لَوْ بَقُوا فِيهَا انْ يُطيعُوا اللَّهَ ابداً، فَبِالنِّيّاتِ خُلِّدَ هؤُلاءِ وَهؤُلاءِ» «1».

المعاد و عالم الاخرة، ص: 248

فلو نظرنا لهذا الحديث لبدت لنا في البداية بعض الأسئلة التي لا يسهل الردّ عليها، لأنّ عقد العزم على الذنب لايكفي لكل ذلك العقاب بالاضافة إلى ما ورد في الروايات بشأن نيّة الذنب لوحدها ليست ذنباً فضلًا عن عقوبته الخالدة، إلّاأنّه يمكن القول بعد التمعن أنّ هذا الحديث إشارة لطيفة إلى الأبحاث السابقة، لأنّ نيّة الذنب الأبدي فقط لُاولئك الذين طبع وجودهم بالذنب و قد أغلقوا على أنفسهم كافة سبل النجاة و إحترقوا بمعاصيهم. و بعبارة أوضح: إنّ هذه النيّة لا تؤثر بمفردها، بل «الخلود» خاصية تلك الروح الملوثة و الطائشة المصممة على الذنب الدائم، و من يبتلي بمثل هذه الحالة إثر الذنب فإنّه يبتعد عن اللَّه بحيث لا يبقي له من سبيل إلى العودة و هذا من آثار أعماله.

أين النار و الجنّة؟

هل النار و الجنّة موجودتان الآن؟ ... أم في طريقهما إلى الإيجاد؟ ... و إن كانتا موجودتين فأين؟ و على فرض عدم وجودهما الآن و سيوجدان فأين سيكون موضعهما؟ من جانب آخر فإننا نقرأ في بعض الآيات القرآنية أنّ الجنّة عرضها السموات و الأرض، فاذا كان كذلك فهل سيبقى من مكان لجهنم؟! هذه هي الأسئلة التي تعترض هذا البحث، لكن قبل الإجابة عليها لابدّ من الإلتفات إلى نقطة و هي أنّ للنار و الجنّة ثلاثة معاني مختلفة وردت في الآيات القرآنية و الروايات الإسلامية: 1- جنّة الدنيا.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 249

2- جنّة البرزخ. 3- جنّة المأوى في العالم الآخر. جنّة الدنيا ظاهراً هي هذه البساتين النضرة

لهذا العالم، فمثلًا ورد في القرآن الكريم بشأن قوم سبأ- اولئك القوم المتحضرون الذي عاشوا في أرض اليمن ومازال علماء الاثار يهتمون بآثار مدنيتهم- قوله: «لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ في مَسْكَنِهِمْ آيَة جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شَمِالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقٍ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَة طَيِّبَة وَ رَبّ غَفُور» «1». و لا تقتصر مفردة «الجنّة» على حدائق الدنيا المخضرة بهذا المورد، فقد ورد هذا التعبير في مواضع أخرى من القرآن، و الاحتمال القوي أنّ جنّة آدم كانت إحدى حدائق الأرض الخضراء، و هبوط آدم عليه السلام من الجنّة إلى الأرض هو نوع من الهبوط المقامي «2»، لأنّ آدم عليه السلام انتخب منذ البداية خليفة للَّه في الأرض، هذا من الناحية المادية؛ و من الناحية المعنوية فقد سميت مجالس العلم بستان من بساتين الجنّة.*** الجنّة و النار البرزخية، مركز للنعمة و العذاب للمحسنين و المسيئين في «عالم البرزخ» يعني العالم الكائن بين الدنيا و الآخرة، كما ورد بشأن الشهداء في سبيل اللَّه: «... بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رِبِّهِمْ يُرزَقُونَ» «3»

. أو أنّ الشهيد حين يقع على الأرض يسقط في أحضان أهل الجنّة «4». أو سائر العبارات من هذا القبيل التي تفيد دخول بعض الأفراد الجنّة

المعاد و عالم الاخرة، ص: 250

حين موتهم «1»، كل هذا يتعلق بالجنّة البرزخية. كذلك العقاب الذي ورد في الآيات القرآنية و الروايات الإسلامية بشأن الظلمة و الطغاة إنّما يرتبط بالنار البرزخية. و الجنّة و النار البرزخية التي يعبر عنها أحياناً بجنّة المأوى أو جنّات عدن وأحياناً أخرى ناراً خالداً فيها هي مركز للرحمة أو العذاب الأليم في عالم القيامة الذي يفوق هذا العالم سعة، لكن أحياناً يحصل خلط في هذه المعاني الثلاث للجنة و

النار والذي أدى إلى نتائج خاطئة بهذا الشأن.*** و نعود الآن إلى أصل البحث: كان السؤال الأول هل للجنّة و النار الآن من وجود خارجي؟ و الحال أنّ عدداً من علماء الإسلام المعروفين- من الفريقين- مثل علم الهدى السيد المرتضى و السيد الرضي و كذلك عبد الجبار و أبو هاشم و هما من علماء العقائد يرون عدم وجود الجنّة و النار الآن و ستجدان فيما بعد، بينما يؤمن أغلب العلماء بوجودهما الآن، و هنالك العديد من القرائن والشواهد على هذا الموضوع و منها: 1- «وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً اخرى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنتَهى* عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى» «2». فالآيات تتحدث عن معراج النبي صلى الله عليه و آله و تفيد وجود الجنّة. 2- «وَ انَّ جَهَنَّمَ لُمحيطَة بِالْكَافِرينَ» «3»

فالتعبير في الآيتين يفيد الإحاطة الفعلية للنار بالكافرين حيث تطلق المعاد و عالم الاخرة، ص: 251

جهنم عادة على النار. 3- «اعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» و «اعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ» التي وردت في مختلف الآيات القرآنية هي شاهد آخر على الموضوع «1». هذا من جانب. ولكن من جانب آخر يستفاد من بعض آيات القرآن أنّ عرض الجنّة السماوات و الأرض: «وَ سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمواتُ وَ الأَرْضُ اعِدَّتْ لِلْمُتَقِينَ» «2»

فقد عبرت الآية عن عرض الجنّة بعرض السموات و الأرض، بينما عبرت آية أخرى بعرض السماء و الأرض، و الفارق بين التعبيرين واضح. فقد ورد في آية: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرضِ السَّماءِ وَ الأَرْض» «3». (من الواضح أنّ العرض في الآية لايراد به العرض الهندسي الذي يقابل الطول بل المراد به العرض اللغوي بمعنى السعة). و هنا يطرح هذا السؤال: فمن جانب يَقول ظاهر الآيات

القرآنية أنّ الجنّة والنار موجودان الآن، و من جانب آخر فإنّ سعة الجنّة بقدر سعة السماء والأرض، فأين سيكون هذا المكان؟ أضف إلى ذلك ففي هذه الحالة سوف لن يكون هناك من موضع لجهنم؟ و هنا يساورنا هذا الفكر أنّ كلاهما في باطن هذا العالم، و لا نرى اليوم هذا البطن، إلّاأنّها يظهران ذلك اليوم بمقتضى: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطائَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديدٍ» «4»

و كل إنسان يحصل على نصيبه بقدر إستعداده!

المعاد و عالم الاخرة، ص: 252

يمكن أن يخطر هذا الكلام العجيب إلى أذهاننا، إلّاأنّنا نستطيع تقريب ذلك إلى الذهن بمثال: نعلم إنّنا لا نسمع الأمواج الصوتية لهذا العالم و ليس لنا سوى سماع بعض الأصوات التي لها ذبدبات معينة و لا نسمع غيرها بأي شكل من الأشكال. من جانب آخر نعلم أيضاً أنّ محطات إرسال الدنيا تبث أمواج خاصة مستمرة ليل نهار لا نتمكن من سماعها دون أجهزة لاقطة. و لنفرض أنّ مرسلتين قويتين تقوّي أمواجها فضائيات كبيرة و تغطى جميع أنحاء الكرة الأرضية واحدة في الشرق و الأخرى في الغرب، تبث أحدهما آيات قرآنية بصوت مليح يداعب روح الإنسان و يجعله يعيش الجذبات الإلهية. بينما يبث من المرسلة الثانية صوت مزعج و مؤذي يسبب تعب الروح وإرهاقها إلى جانب الأذن و بالتالي تستبطن العذاب الأليم! و هاتين المجموعتين من الأمواج تسير مع سائر الأمواج الصوتية في الفضاء و قد ملأت كل مكان، ولكنها ليست قابلة للإحساس في الحالة العادية، فإن كانت لنا مستقبلة ذات موجة واحدة تلتقط مركزاً واحداً و ذلك مركز إرسال الصوت اللطيف و المليح، فمن الطبيعي إنّنا نفتحه كل لحظة لنغرق في هالة من السرور و اللذة و المعنوية، و الويل لنا

لو إقتصرت مستقبلتنا على سحب أمواج المرسلة الثانية و نجبر أيضاً على رؤيتها، و لَكَم أن تتصوروا مدى الألم و الإنزعاج الذي نعاني منه ليل نهار. طبعاً لم نرد سوى بيان مثال من أجل تقريب المطلب إلى الذهن، و الآن عليك بالتمعن و التأمل: ألا يمكن أن تكون الجنّة و النار موجودة في أبعاد أخرى من هذا العالم لا نشعر بها، أي في عمق وجوف هذا العالم،

المعاد و عالم الاخرة، ص: 253

بحيث يسعنا إدراكه لو كان لنا إدراك و رؤية أخرى ! ألا تنسجم الآية المذكورة بشأن النار و التي قالت و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين و هذا التفسير؟ ألا تتضح أكثر على هذا الأساس الآيات التي صرحت بأنّ سعة الجنّة كسعة السماء و الأرض (بالنظر إلى عدم وجود شي ء خارج السماء و الأرض). ألا تعني الآية: «يَوْمَ تُبَدَّلٌ الارْضُ غَيْرَ الأَرْضَ و السَّموَاتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ» أنّ هذه الأرض و المساء يوم القيامة تحطم أبعادها الفعلية وتظهر أبعاد القيامة الكامنة اليوم في العالم. فتصور هذه المسألة- كسائر المسائل المتعلقة بالحياة بعد الموت و المعاد- لا تخلو من تعقيد، لكن بالإلتفات إلى المقدمات المذكورة، فلعل ذلك احتمال قوي بخصوص التفسير الفعلي لوجود الجنّة و النار، جدير بالذكر أنّ ماذكرناه آنفا واحد من الاحتمالات بشأن مكان الجنّة و النار و هنالك احتمالات أخرى نعرض عن الخوض فيها إبتعاداً عن الإطالة.

***

علامات القيامة

اشارة

نزلت أغلب السور القرآنية في مكّة و التي صرّحت بالتذكير بالمعاد والحياة بعد الموت إلى جانب ذكرها للعلامات التي تسبق القيامة. و كان لابدّ لذلك الإنسان الوادع و البعيد عن المسؤولية و المجانب لمسيرة الهدف النهائي للخلقة و التائه في صحراء الحياة، أن يتحرك

و لاسيما في ذلك الوسط الجاهلي الملوث، و عليه ينبغي أن تكون هناك صرخة عالية توقظه من سباته، و ليس هنالك أفضل من إلفات الإنتباه إلى الحوادث المرعبة في الحياة الآخرة يمكنه أن يقوم بهذا الدور. و الآيات المتعددة التي نزلت بشأن علامات القيامة تدل بأجمعها على انّ القيامة لا تقم بهذه البساطة و الهدوء، بل يتزامن معاد الإنسان و قيامته مع قيامة عالم الخلق و التي تقترن بتغييرات عظيمة تجتاح كافة أنحاء نظام الكائنات. طبعاً يقول العقل و المنطق أنّ النظام الجديد للحياة لابدّ أن يقم على عالم جديد، لاعلى أنقاض العالم السابق، و يحصل هذا التقدم و التجدد كسائر التطورات و التجددات المهمّة التي تكتنف العالم على أساس قفزات عظيمة تشمل أنحاء عالم الوجود.

المعاد و عالم الاخرة، ص: 256

و الآن نسلّط الضوء على الآيات الواردة بهذا الشأن.

1- الزلزلة العظيمة

«يَا ايُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ انَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَى ءٌ عَظيمٍ* يَوْمَ تَرَوُنَهَا تَذْهَلُ كُلّ مُرضِعَةٍ عَمَّا ارضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلُهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَ مَا هُمْ بِسُكَارَى وَلكِنْ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» «1». قطعاً تقع هذه الزلزلة قبل القيامة و على أعتابها، لا في يوم القيامة، وذلك لأنّه لايوجدها في ذلك اليوم و لامرضع، على كل حال فإنّ تلك الزلزلة العظيمة بداية تغيير واسع و شامل في عالم الوجود، أي هو بداية الأمر و من ثم- كما سنرى- يستمر حتى نهاية الكرات السماوية، و أخيراً إنبثاق عالم الآخرة.

2- إنطفاء جذوة الشمس و القمر

«إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ* وَ إِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَ إِذَا الْعِشَارُ عُطِلَتْ* وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِّرَتْ* وَ إِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ* وَ إِذَا الْنُفُوسُ زُوِّجَتْ* وَ إِذَا الْمُوءُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَىِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ* وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِّرتْ* وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ* وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ* وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ» «2». فالواقع هو أن هذه التغييرات العامة تشمل الناس و الحيوانات و الجبال والبحار و الأرض و السماء و كلها تحضر القيامة. لابدّ من الإلتفات إلى أنّ هذه الآيات تعرضت إلى علامت القيامة و كذلك المعاد و عالم الاخرة، ص: 257

جانب من حوادث يوم القيامة بحيث مزجهما معاً باسلوب رائع.

3- اليوم الذي يحطم فيه كل شيى ء!

«الْقارِعَةُ* مَاالْقَارِعَة* وَ مَا ادريكَ مَاالْقَارِعَة* يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالفَراشِ الْمَبثُوث* وَ تَكُونُ الْجِبَالُ كَالِعِهْنِ الْمَنفُوش» «1». فالحقيقة هي أنّ الزلزلة آنذاك شديدة إلى درجة بحيث تدك كل شي ء وتقام القيامة! و قد أشير هنا إلى أوضاع الناس الحيارى الذين يخبطون خبط عشواء حين تلوح بوادر القيامة، يعتقد البعض و خلافاً للتصور المشهور و الشاعري السائد في الأذهان بشأن الفراشة و الشمع، حيث أنشدوا الأشعار و سردوا القصص التي تتحدث عن عشقها و تضحيتها من أجل معشوقها القاسي، ويبدو أنّ الفراشة لا تضحي أبداً من أجل عشق الشمع، و هي ضحية نسيانها فقط، لأنّ حافظتها ضعيفة و عاجزة بحيث تنسحب فور إقترابها من شعلة الشمع و شعورها بالحرارة، إلّاأنّها تنسى بعد برهة فتعود ثانية إلى الشعلة وتكرر هذا العمل مراراً حتى تخاطر بحياتها إثر هذا النسيان. و لعل تشبيه الناس في الآيات المذكورة بالفراش المبثوث حين بروز أولى العلامات المخيفة للقيامة من أجل بيان عظيمة الحادثة التي تخطف العقول وتزيل الحافظة

بالمرة.*** كان ذلك جانب من علامات القيامة و التي تفيد بأجمعها مدى التفاوت المعاد و عالم الاخرة، ص: 258

الهائل بين ذلك العالم و هذا العالم الذي نعيش فيه، و الذي سيقام على أنقاض هذا العالم. و بهذا نختتم بحثنا بشأن المعاد و العالم الذي يعقب الموت، و إن كانت هنا و هناك بعض المسائل التي تتخلل هذا البحث و تحتاج إلى الدرس والبحث، إلّاإنّنا إبتعدنا عن ذلك خشية الإطالة. أضف إلى ذلك فإن عالم البرزخ و هو العالم الفاصل بين عالم الدنيا والآخرة هو الآخر من المواضيع التي كثرت فيها الأبحاث و الذي يتطلب دراسة مستقلة.

***

اللّهم وفقنا لأن نهذب أنفسنا إستعداداً لتلك الحياة. اللّهم وفقنا لحياة أبدية إلى جوار رحمتك. اللّهم خذ بأيدينا لخدمه دينك و عبادك بما توفقنا به لرضاك و ترزقنا الشهادة في سبيلك و الإستقرار في مسكن رحمتك.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.