انوار الفقاهة

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : انوار الفقاهه کتاب الحدود و التعزیرات مکارم شیرازی حققه و علق علیه ابراهیم البهادری مشخصات نشر : [قم : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع ، 1418ق = - 1376. شابک : 10000ریال ج 1) ؛ 10000ریال ج 1) يادداشت : عربی یادداشت : کتابنامه موضوع : حدود (فقه موضوع : تعزیرات (فقه شناسه افزوده : بهادری ابراهیم محقق شناسه افزوده : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع رده بندی کنگره : ‮ BP195/6 /م 7‮الف 8 1376 رده بندی دیویی : ‮ 297/375 شماره کتابشناسی ملی : م 78-2504

كتاب البيع (الجزء الأول)

[المدخل

أنوار الفقاهة كتاب البيع الجزء الأوّل آية اللّه العظمى ناصر مكارم الشّيرازىّ (مدّ ظلّه)

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 2

هوية الكتاب اسم الكتاب: انوار الفقاهة (كتاب البيع) مؤلّف: آية اللّه العظمى مكارم الشّيرازي الطّبعة: الاولى (المنقّحة) تاريخ النّشر: 1425 ه عدد النسخ: 1000 نسخة رقم الصّفحات و القطع: 584 صفحة/ وزيري المطبعة: أمير المؤمنين عليه السّلام- قم النّاشر: مدرسة الإمام علي بن ابي طالب عليه السّلام عنوان النّاشر: ايران- قم- شارع شهداء- فرع 22- تلفكس: 7732478- 251- 98 ردمك: 4- 16- 8139- 964 السّعر: 2000 تومان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

[مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كلمة المؤلف في المقدمة يحسن التنبيه على امور:

1- الفقه الإسلامي يتكفل بيان جميع الأحكام التي تمسّ علاقات الإنسان في حركة الحياة بنحو من الانحاء، علاقته مع اللّه، علاقته مع الناس، علاقته مع عالم الخلقة و الطبيعة، علاقته مع نفسه، فعلى هذا لا يخلو شي ء من أعمال الإنسان صغيرها و كبيرها، حتى نواياه الباطنية، عن حكم فقهي.

و هذه الدائرة الواسعة جدّا للفقه الإسلامي تكشف عن عظمته من جانب، و عن معضلات الفقهاء و المجتهدين و جهودهم في حلّ مشاكله من جانب آخر، و إليه يشير ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته: «الاجتهاد هو أشدّ من طول الجهاد ...»!

فعلى جميع من يقصد ورد هذا الميدان التهيؤ للجهاد الشديد و ذلك بوقف العمر و جميع القوى الجسمانية و الروحانية في هذا السبيل، مع تحمل مرارة العيش و المشاق الكثيرة، و من الواضح أنّ النتائج المترتبة عليه أيضا عظيمة، و مقترنة بالعنايات الإلهية و التأييدات الربانيّة.

2- إنّما تدوم عظمة الفقه الإسلامي و يتقدم و ينمو في ضوء فتح باب الاجتهاد

في جميع الأعصار، و عدم حصره بزمن معين و جمع خاص من المتقدمين، كما تدلّ عليه جميع الأدلة الواردة في الكتاب و السنّة الناظرة إلى هذا المعنى، فليس فيها أي أثر من مزعمة حصر الاجتهاد و استنباط الأحكام عن أدلتها في قوم أو أفراد معينين.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 6

و معه يتمكن العلماء الكبار المتضلعون في الفقه على الغور في مسائله، و كشف النقاب عن حقائقه، و الوصول إلى دقائق لم يصل إليها المتقدمون منهم (جزاهم اللّه عن الإسلام خير الجزاء) و يتقدم هذا العلم بمرور الزمان كتقدم سائر العلوم الإسلامية و غيرها.

و لذا نرى الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الفقه على أنفسهم، و حصروه في أئمّتهم الأربعة، و منعوا الآخرين أن يحوموا حول هذا الحمى، إنّهم لم يتقدموا في هذا العلم إن لم نقل أنّه مال عندهم إلى الغروب و الافول، بينما نرى الفقهاء الذين اقتدوا بأنوار أهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله قد ازدهر الفقه عندهم قرنا بعد قرن و عصرا بعد عصر، حتى بلغ إلى كثير من غاياته و أثمرت أغصانه، و طلعت أنواره، هذا و في الآونة الأخيرة شوهدت- و الحمد للّه- معالم حركة من قبل فقهاء الطائفة الاولى نحو التجاوب مع فقهاء أهل البيت عليه السّلام لفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، و لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا!

و من الجدير بالذكر أنّ فقهاء أهل البيت عليه السّلام لم يقنعوا بفتح باب الاجتهاد فحسب، بل أتّفقوا في ضوء إرشادات الأئمة المعصومين عليه السّلام على عدم جواز تقليد الفقهاء الماضين ابتداء، و فرضوا على الناس تقليد العلماء الأحياء فقط، فصار هذا عندهم رمز حياة الفقه و حركته المطّردة، مع ظهور آفاق

جديدة في جميع شئونه و مسائله.

3- لا شكّ في أنا نواجه اليوم مسائل كثيرة مستحدثة في أبواب المعاملات و العبادات لا بدّ من الجواب عنها، لأنّ الإسلام دين خالد و أحكامه خالدة إلى الأبد و قد أكمل اللّه لنا دينه و أتمّ علينا نعمته، و من المعلوم عندنا أنّ شيئا من هذه الأسئلة لا يبقى بلا جواب، بل وردت أحكامها في الاصول الكليّة و القواعد العامّة في الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل، و في ضوء الاهتداء بهذه الأنوار الإلهية (لا سيما الكتاب و السنة) يتمّ كشف النقاب عنها، أ لم تسمع ما ورد في خطبة حجّة الوداع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أيّها الناس ما من شي ء يقرّبكم إلى الجنّة و يباعدكم عن النّار إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقربكم إلى النار و يباعدكم عن الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه» بل قد وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت عليه السّلام أنّه: ما من شي ء تحتاجه إليه الامّة إلى يوم القيامة إلّا و قد ورد فيه نصّ حتّى أرش الخدش!

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 7

و لذلك فانّ مهمّة المجتهدين و الفقهاء لا تدخل في دائرة تشريع الأحكام، و وضع القوانين، و إنّما وظيفتهم هي استنباط أحكام المسائل المستحدثة عن مداركها الدينية و استخراجها من منابعها الشرعية، فلا ترى موضوعا من الموضوعات ممّا لا نصّ فيه حتى تصل النوبة إلى الاجتهاد بمعناه الخاص (أي تشريع حكم فيه بالقياس أو الاستحسان أو غيرهما) بل كلّها واردة في النصوص الخاصة أو الأدلة العامّة و القوانين الكليّة.

4- ممّا يلفت النظر في الفقه في بدء الأمر أنّ المجتمعات البشرية تتبدل و

تتحول كلّ يوم، إلّا أنّ اصول الأحكام الإسلامية ثابتة و لا تتغيّر، و حلال محمّد صلّى اللّه عليه و آله حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة، و مع ذلك تنطبق هذه الاصول الثابتة الخالدة على تلك الحاجات المتغيرّة دائما!

و ليس ذلك إلّا من جهة عموم تلك الاصول و شمولها و جامعيتها، كيف و قد صدرت من ناحية الخالق الحكيم العالم بعواقب الامور، الخبير بحاجات نوع الإنسان على الأيّام و الدهور، كما هو الحال في القوانين الطبيعة الإلهية الثابتة طيلة آلاف، بل ملايين سنة و لكن الإنسان مع ذلك يوافق نفسه في حياته المتغيّرة في كل عصر و زمان مع تلك القوانين الثابتة.

5- إنّ فقهاءنا الأعلام (قدّس اللّه أسرارهم) و إن ألّفوا مئات بل آلاف الكتب في جميع أبواب الفقه، من الطهارة إلى الديات، و من العبادات إلى المعاملات إلّا أنّ ذلك لا يعني بلوغ الفقه إلى غايته، و وصوله إلى نهايته، و عدم الحاجة إلى تأليف جديد في هذا العلم، فكم ترك الأول لآخر، و كم بلغ المتأخر إلى ما لم يصل إليه المتقدم، و لكلّ إنسان حظّه من العلم و الحكمة، فإنّ العلم ليس مقصورا على قوم خاص، فلا يغرنّك وسوسة بعض القاصرين في ترك الجد و الاجتهاد في كلّ مسألة من مسائله، حتى ما يعدّ من الواضحات المشهورات، فقد يستخرج بالغوص في هذه البحار من الجواهر الثمينة و الدرر القيمة ما لم يستخرجه الأوائل!

و على هذه الفكرة و بهذه الامنية بدأنا في هذا الكتاب- أعني كتاب البيع من أنوار

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 8

الفقاهة- و إن كتبت في هذا الباب كتب كثيرة عسى اللّه أن يجري على قلمي ما ينفع

به هذه الامّة، و يفتح لها بعض الأبواب المغلقة، فإنّه ليس هذا على اللّه بعزيز، و ترى فيها بحمد اللّه أبحاثا جديدة في مسائل مهمة من مسائل المعاملات.

اللّهمّ اجعله لنا ذخرا و كرامة و مزيدا، و الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرفة- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي رمضان المبارك 1411 ه.

كتاب البيع

تعريف البيع لغة و عرفا تعريفه في كلمات الفقهاء

اشارة

و لنذكر أولا ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بدء كلامه في المقام تيمنا به، و استمدادا من نفسه القدسيّة، و مقدمة لما يبنى عليه من الأبحاث الآتية.

فنقول: و منه سبحانه و تعالى نستمد التوفيق و الهداية: قال في صدر البحث عند بيان معناه اللغوي و العرفي ما حاصله:

إنّ البيع في الأصل- كما عن المصباح المنير- مبادلة مال بمال.

ثم قال: الظاهر اختصاص المعوض بالأعيان، فلا يطلق البيع على أبدال المنافع إلّا مجازا و مسامحة، كالتعبير ببيع خدمة العبد المدبّر، و بيع سكنى الدار، و بيع الأراضي الخراجية، ثمّ قال: هذا بالنسبة إلى المعوّض، أمّا العوض فلا يخلو عن امور أربعة:

1- العين. 2- المنافع. 3- عمل الحر. 4- الحقوق.

أمّا الأوّل فلا شك في صحته، و أمّا المنافع فكذلك، كما صرّح به غير واحد منهم، و ما يقال من أنّ البيع لنقل الأعيان يراد به بيان المبيع، و أمّا عمل الحر فهو يبنى على كونه مالا قبل المعاوضة عليه، و فيه إشكال.

و أمّا الحقوق فهي على أقسام:

1- ما لا يقبل النقل و الاسقاط (كحق الولاية)، فلا إشكال في عدم وقوعه ثمنا، و دليله ظاهر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 10

2- ما يقبل الاسقاط فقط (كحق الخيار و حق الشفعة) فهو أيضا كذلك، للزوم كون الثمن ممّا يقبل النقل إلى البائع.

3- ما يقبل الانتقال (كحق التحجير) ففيه إشكال، لأخذ

المال في عوضي البيع لغة و عرفا، و ظهور كلمات الفقهاء في ذلك.

و ذكر في الجواهر عدم الخلاف و الإشكال في اعتبار كون المبيع عينا، و لكن جوّز وقوع الثمن عينا أو منفعة أو حقّا قابلا للنقل أو الاسقاط بعد ما حكى عن استاذه منع وقوع حقّا «1».

و للمحقق اليزدي و الخراساني قدّس سرّهما كلام في المقام ستأتي الإشارة إليه.

هذا و تحقيق ما ذكره يحتاج إلى بسط الكلام في امور
اشارة

: 1- كيف نشأ البيع و المعاملات بين أبناء البشر؟ و ما هو مصدر الثمن و القيمة؟

2- هل اللازم كون المثمن من الأعيان دائما؟ و عليه كيف يجوز بيع السرقفلية و بيع ما يسمى بامتياز مشروع الماء و الكهرباء و أمثال ذلك ممّا هو متداول اليوم بين العقلاء و العرف؟

3- ما المراد بالعين؟ هل هو العين الخارجية، أو أعم ممّا في الذمة، و الكلّي المشاع، و الكلي في المعين و غير ذلك؟

4- إذا كان كلّ من العوضين من العروض أو من الأثمان، فهل تكون المعاملة بيعا أو معاوضة اخرى؟

5- هل يصحّ جعل المنفعة ثمنا؟

6- هل يكون عمل الحرّ مالا؟

7- الحقوق و دورها في البيع و الشراء.

1- كيف نشأت البيوع و المعاملات؟

الذي يظهر من مراجعة المجتمعات البدوية و الموجودة في زماننا أيضا، أنّ البيع عندهم يكون بمبادلة الأعيان بالأعيان، مثلا من كانت عنده كميّة كبيرة من الحنطة زائدة عن حاجته، فإنّه يعطي بعضها لغيره، ليأخذ ما عنده من الثياب أو غيرها، فالبيع يكون بهدف الحصول على ما يحتاج الإنسان إليه من خلال بذل ما يحتاج إلى غيره و أخذ ما يحتاجه منه.

و لكن هذه العملية تستبطن مشاكل جمّة على مستوى التبادل التجاري بين الناس:

«منها» مشكلة عدم توفّر العوض الذي يحتاج إليه صاحب الحنطة مثلا أحيانا لعدم حاجة صاحب الثياب إليها، لأنّ المعاملات على هذا الفرض تدور مدار حاجة الطرفين فقط، فلا تجري في غير هذه الموارد.

و «منها» مشكلة ادخار كميات كبيرة من أجناس مختلفة للتوصّل إلى ما يحتاج إليه في عملية المبادلة بواحد منها، و غير ذلك من المشاكل.

نعم لما كانت مبادلة العين بالعين تتضمّن هذه المشاكل العظيمة، مسّت الحاجة إلى ما يكون قليل الحجم، كثير القيمة، لا يندرس بسرعة

و يمكن حمله بسهولة ليجعل عوضا في جميع المعاملات، فوجدوا الذهب و الفضة جامعتين لهذه الصفات، فجعلوا الأول للمبادلات الخطيرة، و الثاني لليسيرة، و أيسر منهما النقود المتخذة من سائر المعادن.

و لما كثر حجم المعاملات، و اتسع نطاقها، و زادت عددها، رأوا أنّ الدراهم و الدنانير أيضا لا تقومان بما يحتاج إليه الإنسان في هذا المجال، لما فيهما من كثرة الحجم في المعاملات الخطيرة، مثلا إذا كان ثمن معاملة مليون درهما، فإنّها قد تربو على ألفين كيلو بحسب الوزن قريبا.

هذا مع ما في نقلهما من أنواع المشقّة و الخطر في السفر و في ادخارهما في الحضر، بل قد لا يكون في بعض الاصقاع الكمية اللازمة من الذهب و الفضة للمعاملات الخطيرة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 12

جدّا، و غير ذلك، فأوجب ذلك الفحص عن طريقة للخلاص من هذه المشاكل، فرأوا ادخارهما في حرز منيع، ثم يكتبوا الحوالة إليها، و دارت المعاملات مدار الحوالة، و من هنا ظهرت النقود الورقية!

فهي في الحقيقة لم تكن مالا في بدء الأمر، بل معرفا لما يحال عليه من الأموال ممّا سمّوه «غطاء و رصيدا» «1».

هذا و كانت هذه النقود الورقية قابلة للتبديل بما يحاذيها من الدرهم و الدينار في أوائل ظهورها، لكن لم يقف الأمر إلى هنا، حتى احتاجت السلطات الحاكمة إلى نقود و رقية أكثر من الرصد المدّخر، فطبعوا أوراقا و فرضوا على ذمتهم ما يحاذيها من الذهب و الفضة، و سمّوه الاستقراض من البنك المركزي (أي مركز ادخار الرصيد).

و صار هذا سببا لانحياز هذه الأوراق عن الرصيد انحيازا تدريجيا.

أضف إلى ذلك أن أحدا من الناس لم يكن يرجع إلى البنك ليأخذ ما يعادل النقود الورقية من الذهب و الفضة، و

على فرض الرجوع لم يقبل هذا الأمر منه.

مضافا إلى أنّ نفس هذا الاستقراض- الذي لا يتمّ تسديده إلى سنين بل قد لا يسدّد أبدا- أوجب كون الرصيد أمرا صوريا لا واقع بإزائه، و من هنا أصبحت هذه النقود نقدا رائجا بذاتها لا بشي ء آخر ورائها!

و لا عجب في ذلك بعد كون الملكيّة بذاتها أمرا اعتباريا، بل إنّ مالية كثير من الأشياء ليست إلّا اعتبارية، فهل الجواهر الثمينة التي لا نفع فيها لحياة الإنسان، أو الأشياء الأثرية التي هي كذلك، أو أسوأ حالا منها، و كذلك الطوابع التي مرّ عليها زمان كثير، هل تكون ماليتها بغير الاعتبار العقلائي؟ بل كثير ما تكون منافعها وهمية خيالية لا يقبلها بعض العقلاء، فكيف بالنقود الورقية التي لها إمكانية حل مشاكل البيوع و المعاملات؟

و من أوضح ما يدل على استقلال هذه الأوراق فعلا أنّه إذا استدان شخص مبلغا منها من غيره، كألف تومان مثلا، ثم مرّ عليه عدّة أعوام و ارتفعت قيمة الذهب و الفضة كثيرا في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 13

هذه المدّة، فانّه لا يرى نفسه ملزما بأداء أكثر من ألف تومان، و لا يفتي فقيه بغير ذلك، و كذلك في الصداق الذي يدور مدار هذه النقود الرائجة إذا مرّت عليه عدّة أعوام، و لو كانت النقود الورقية إشارة إليها للزم تغيير مقدار الدين.

و هذا أمر ظاهر واضح، و على هذا يمكن الحكم عليها بمثل الحكم على الدراهم و الدنانير و ليست حوالة عليها.

و ليكن هذا على ذكر منك يفيدك في كثير من المباحث الآتية و المسائل الفقهيّة، و سنتلو عليك إن شاء اللّه منه ذكرا.

2- هل اللازم كون المبيع من الاعيان؟

صرّح الشيخ الأعظم و صاحب الجواهر قدّس سرّهما بلزوم كونه من الأعيان، بل

ادعى الأوّل منهما استقرار اصطلاح الفقهاء عليه.

و قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: لا خلاف و لا إشكال في اعتبار كون المبيع عينا، و لذلك اشتهر بينهم أن البيع لنقل الأعيان، كاشتهار كون الإجارة لنقل المنافع، و يظهر ذلك من بعض كلمات الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك، و قد استدل له السيّد قدّس سرّه في الحاشية بالتبادر و صحة السلب عن تمليك المنفعة بعوض، و هما علامة كونه كذلك في العرف، الكاشف عن كونه كذلك لغة «1»، ثم أجاب عن اطلاق كلام المصباح المنير (مبادلة مال بمال) بانه مبنيّ على المسامحة.

و قال في مصباح الفقاهة: الظاهر أنّه لا ريب في اشتراط كونه من الأعيان، بداهة اختصاص مفهوم البيع عند أهل العرف بتمليك الأعيان فلا يعم تمليك المنافع ... ثم حكي عن بعض المالكية و الحنابلة جواز اطلاق البيع على تمليك المنافع، ثم قال: و لكنه على خلاف المرتكزات العرفية «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 14

نعم، ورد اطلاق البيع في الروايات على تمليك المنافع:

منها: بيع خدمة العبد المدبّر، ففي الباب الثالث من أبواب التدبير توجد روايات عديدة أطلق البيع فيها على المنافع، مثل ما روى عن القسم بن محمد عن علي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعتق جارية له عن دبر في حياته، قال: «إن أراد بيعها باع خدمتها في حياته» الحديث «1».

و ما روى السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليه السّلام قال: «باع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خدمة المدبّر و لم يبع رقبته» «2».

و منها: ما ورد في بيع سكنى الدار، مثل ما روى اسحاق بن عمار عن عبد صالح قال:

سألته عن رجل في يده

دار ليست له: قال: «ما أحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده فيقول: أبيعك سكناي و تكون في يدك كما هي في يدي، قال:

نعم يبيعها على هذا» «3».

و لكن الإنصاف أنّ الأخير أشبه شي ء ببيع «السرقفلية» و لذا ليس فيه تعيين لمقدار مدّة المنافع كما في الإجارة.

و كذا ما ورد في الأراضي الخراجية و بيعها مثل رواية زرارة قال، قال عليه السّلام: «لا بأس بأن يشتري أرض أهل الذمّة إذا عملوها و أحيوها فهي لهم» «4».

فإنّها أيضا أشبه شي ء بمسألة «السرقفلية» أعني من قبيل بيع نوع من حق الأولوية كما لا يخفى، فتأمل.

نعم بيع خدمة العبد من قبيل بيع المنافع، و لا دليل على أنّ اطلاق البيع عليها من قبيل المجاز، نعم اطلاقه منصرف عن مثله فتأمل، و لا تستعمل الإجارة هنا لعدم معلومية مقدار عمر العبد، و لا تعتبر في البيع ذلك فتأمل.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 15

هذا كلّه في المنافع، أمّا بيع الحقوق فهو ممّا لا ينبغي انكاره، مثل ما ذكرنا آنفا من بيع حق الانشعاب في الكهرباء و الماء، و بيع حقّ التليفون، فهو ليس بيع لنفس الهاتف أو الأنابيب و الأسلاك، بل بيع حقّ الانشعاب و إن خلي عن جميع ذلك، و كذلك بيع «السرقفلية» المتداول بين العقلاء في عصرنا، إذا هو نوع من حقّ الأولوية.

بالجملة لا يمكن منع إجراء أحكام البيع على بيع أمثال هذه الحقوق كما لا يخفى بعد شيوعها بين أهل العرف شيوعا تامّا يعلمه الصغير و الكبير، و لا مانع من كونها بيعا، و عمومات الكتاب و السنّة تشملها.

3- ما المراد من العين؟

لا إشكال في جواز وقوع العين ثمنا و مثمنا في البيع، و لكن

الكلام في أقسامه فإنّ العين تارة تكون على نحو شخصي، و اخرى على نحو كلّي.

و الكلّي أيضا على أقسام:

1- الكلّي في ذمّة الإنسان نفسه.

2- الكلّي في ذمّة غيره (الدّين)

3- الكلّي المشاع.

4- الكلّي في العين.

و العين الشخصي تارة تكون بالفعل و اخرى بالقوة كما في الأثمار المتجددة في بيع الثمرة على الشجرة الداخلة في البيع للأعيان الموجودة.

فتحصّل لدينا ستة أقسام، و لا إشكال في العين الشخصي الموجود، و أمّا الشخصي بالقوة فهو أيضا لا إشكال فيه بعد صحّة بيع الثمرة على الشجرة، مضافا إلى ما يحصل بعده، و الوجه فيه اعتبار العقلاء له بمنزلة الموجود فيتعلق به الإضافة الاعتبارية.

و أمّا الكلّي في الذمّة فهو أيضا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه بعد صحّة بيع السلف.

نعم هنا إشكالات ذكرها السيّد قدّس سرّه في الحاشية و لا بدّ من الجواب عنها:

1- إنّ الملكية تحتاج إلى محل لعروضها عليه، و هو هنا غير موجود.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 16

2- إنّ الكلّي في الذمّة قبل تحقق العقد لا يعدّ مالا، فلا يقال فلان ذو مال باعتبار فرض الكلّي في ذمّته.

3- كيف يبيع الإنسان ما لا يملكه؟

و الجواب: عن الأول واضح، لأنّ الملكية من الامور الاعتبارية، و هي قائمة بأمر اعتباري، و هو الكلي الذي يعتبر في الذمّة، كما أنّ الأمر في الاجارة بالنسبة إلى المنافع المستقبلة و الثمرة المتجددة على الشجرة كذلك، بل هي أسوأ حالا منه من بعض الجهات كما لا يخفى.

و ليست الملكية من الأعراض، و الملكية التي تعدّ من الأعراض في أبواب الجوهر و العرض هي أمر تكويني لا ربط له بالمقام.

و يمكن الجواب عن الثاني بأنّ المالية هنا ثابتة لأنّ مائة منّ من الحنطة مثلا في الذمّة مال

يبذل بإزائه المال، و المالية تدور مدار نظر العرف و العقلاء، و هي حاصلة هنا.

و عن الثالث بأنّ ملكية الإنسان لما في ذمّته ثابتة على نحو الإجمال و بالقوة، فله أن يملكه غيره، و لذا إذا لم يقدر أحد على شي ء قطعا لا يعتبر ذمّته، كما إذا باع إنسان ألف طنّ من الحنطة مع عدم قدرته على اكتساب طنّ منها، فانّ هذا البيع فاسد عند العقلاء، لعدم اعتبارهم ذمّته بهذا المقدار، لعدم قدرته عليه، و هكذا غيره من أشباهه.

و بالجملة القدرة القريبة من الفعل تجعل الإنسان مالكا للشي ء بالقوة، نظير المنافع المتجددة للأعيان في الإجارة، و الثمرات المتجددة لأشجار في بيع الثمرة على الشجرة.

هذا كلّه في الكلّي في الذمّة (ذمّة الإنسان نفسه)، و أمّا إذا كان في ذمّة الغير فهذا أوضح و أحسن حالا، لأنّه مال قطعا و ملك كذلك، فلا يأتي فيه واحد من الإشكالات الثلاثة و قد مرّ جوابها.

أمّا الكلّي المشاع، و كذا الكلّي في العين، فهما أيضا ظاهران، و الأول، مثل أن يبيع نصف الدار، فإنّه كلّي، أو صاعا من صبرة، و لا يأتي فيهما شي ء من الإشكالات السابقة.

و ذكر في الجواهر: أنّ الكلّي في الذمّة على قسمين: كلّي مضمون كما في السلم، و كلّي موصوف حالا، (و كلا القسمين متداول بين العقلاء).

4- حكم ما إذا كان كلّ من العوضين من الأثمان أو العروض

قد يقال: إذا كان أحد العوضين من الأعراض، و الآخر من النقود، فالأمر فيه واضح، فإنّه بيع قطعا، و باذل السعلة بايع، كما أنّ باذل النقود مشتر، و يجري عليهما أحكامهما.

أمّا إذا كانا من العروض أو من النقدين، فقد يفصّل بين ما إذا أراد أحدهما الربح و الآخر رفع حاجته، فالأول بايع و الثاني مشتر، و أمّا إذا أراد

منهما الربح أو رفع حاجته، فليس بيعا، و لا بايع هناك و لا مشتر، بل نوع تجارة داخلة في قوله تعالى: تِجارَةً عَنْ تَراضٍ.

و فيه: أولا: أنّه لا دليل على ما ذكره من التفصيل، و لا من الشرع و لا من العرف و العقلاء.

و ثانيا: الظاهر من الصورة الثانية أنّ كلّا منهما بايع من جهة و مشتر من جهة، و لا يبعد جريان أحكام كلّ منهما عليه، و لكن لا بدّ من ملاحظة الأدلة في كلّ مقام و شمولها أو انصرافها عن هذا المصداق، فتدبر جيدا.

5- هل يصحّ جعل المنفعة ثمنا؟

قد عرفت تصريح شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره بجواز وقوعها ثمنا، بل قد ادّعى عدم الخلاف فيه، و لكن صاحب الجواهر نقل عن بعض المتأخرين، اعتبار كون العوضين من الأعيان، و لعل المراد من كلام الشيخ من نسبته إلى بعض الأعيان لزوم كون الثمن عينا، و يحكي أنّه المحقق الوحيد البهبهاني قدّس سرّه، و على كلّ حال لا دليل عليه بعد شمول مفهوم البيع للجميع عدا امور مذكورة في كلماتهم:

منها: أنّ المشهور بينهم أنّ الإجارة لنقل المنافع كما أنّ البيع لنقل الأعيان.

و أجيب عنه: بأنّ النظر في هذا الكلام إلى المبيع فقط بقرينة الإجارة، فانّ المنافع إنّما تكون في المستأجر لا العوض كما هو ظاهر.

و منها: أنّ وقوع المنفعة ثمنا أمر نادر تنصرف اطلاقات البيع عنه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 18

و فيه: إنّ ندرته ليست بحيث تنصرف الاطلاقات عنه بعد قبوله من ناحية العقلاء و العلم بعدم الخصوصية هنا، فقد تباع بعض الأراضي الزراعية لبعض الزراع و يجعل الثمن أو بعضه، عمله فيها لصاحب الأرض.

و منها: أنّ المنافع لم توجد بعد، فكيف تجعل ملكا للبائع في مقابل تمليك العين؟

و

فيه: ما عرفت آنفا من أنّها موجودة بالقوّة، و لذا نفع عليها الإجارة و تكون مهرا كما في قصة موسى و شعيب عليهما السّلام، و مثل هذا في الامور الاعتبارية غير نادر، و بالجملة لا ينبغي الإشكال من هذه الناحية.

6- هل يكون عمل الحر ثمنا في البيع؟

قد عرفت إشكال الشيخ قدّس سرّه في كون عمل الحرّ مالا، فإذا لم تثبت ماليته لا يمكن وقوعه ثمنا لاعتبار المالية في المتعاوضين.

و لكن ما ذكره مشكل أو ممنوع.

توضيح ذلك: إنّ محل الكلام عمل الحر قبل وقوع المعاملة عليه، و أمّا بعد وقوعها فلا إشكال في كونه مالا و ملكا، كما إذا آجر الإنسان نفسه سنة في مقابل عوض، فانّ المستأجر يملك عمله، و يجري عليه جميع أحكام الملك من الغنى و الاستطاعة و غيرهما.

و أمّا قبله يستشكل فيه من ناحية المالية تارة، و الملكية اخرى.

و الانصاف أنّ ماليته ممّا لا ينبغي الكلام فيها، لبذل العقلاء المال في مقابله.

و أمّا ملكيته فإنّها و إن لم تكن بالفعل لكنها بالقوّة، و لذا يحصل به الغنى، و لا يبعد حصول الاستطاعة به، بل و لا يبعد الضمان لو اتلفه عليه متلف، كما لو حبسه إذا كان كاسبا فتدبر.

و قد صرّح المحقق الخراساني قدّس سرّه بأنّه لا إشكال في كون عمل الحرّ من الأموال، لأنّه يبذل بإزائه المال، و كون ممّا يرغب فيه، و إن كان قبل المعاوضة لا يكون ملكا، بخلاف انوار الفقاهة، ج 1، ص: 19

عمل العبد، ثم قال: لا شبهة في عدم اعتبار الملكية قبلها، لوضوح جعل الكلّي عوضا في البيع مع عدم كونه ملكا قبله، انتهى «1».

7- الحقوق و دورها في البيع و الشراء

و الكلام فيها تارة يكون من حيث حقيقة الحق و الفرق بينه و بين الملك و الحكم.

و اخرى من حيث أقسامه.

و ثالثة من حيث وقوعه عوضا.

أمّا الأوّل: فذكروا في تعريفه عبارات مختلفة:

فقال السيّد المحقق اليزدي قدّس سرّه: «الحق نوع من السلطنة على شي ء متعلق بعين، أو غيرها، كالعقد أو على شخص، و هو مرتبة ضعيفة من الملك بل

نوع منه» (و مثّل للأول بحق التحجير، و للثاني بحقّ الخيار، و للثالث بحقّ القصاص) «2».

و كأنّه أخذه من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث قال: إنّ مثل هذا الحق سلطنة فعلية (أشار إلى حق الشفعة و الخيار).

و لكن المحقق الخراساني قدّس سرّه قال في حاشيته: إنّ الحق بنفسه ليس سلطنة، و إنّما كانت السلطنة من آثاره، كما أنّها من آثار الملك، و إنّما هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة، منها السلطنة على الفسخ كما في حقّ الخيار، أو التملك بالعوض كما في حق الشفعة، أو بلا عوض كما في حق التحجير.

و ذكر في مصباح الفقاهة: «إنّ حقيقة الحق و الحكم واحد كلّها من اعتبارات الشرع» «3».

و الانصاف: أنّ الحق في مصطلح الفقهاء و عبارات أهل الشرع هو سلطنة على فعل خاص، فالملك سلطنة على عين أو منفعة، و الحق سلطنة على فعل غالبا أو دائما، فحق انوار الفقاهة، ج 1، ص: 20

الخيار سلطنة على فسخ العقد، و حق الشفعة سلطنة على أخذ سهم الشريك بعوض، أحق التحجير و إن كان سلطنة على عين ظاهرا، و لكن يمكن ارجاعه إلى الفعل أيضا فتدبر، و حق الولاية سلطنة على التصرف في أموال المولّى عليه و غير ذلك، لذا يقال إنّه أولى بالتصرف فيه من غيره، و لعل حق التحجير أيضا من باب الأولوية في التصرف من غيره، و قد قال صلّى اللّه عليه و آله في خطبة الغدير: «أ لست أولى بكم من أنفسكم».

و من هنا يظهر الفرق بينه و بين الملك من جانب، و بينه و بين الحكم من جانب آخر، أمّا الأول فقد عرفته، و أمّا الثاني فحاصله: إنّ الحكم مجرّد تشريع

من ناحيته تعالى من دون اعتبار تسليط فيه، بخلاف الحكم فانّه يجعله مسلطا على فعل من الأفعال.

و من هنا يظهر أنّ نفي الفرق بينهما مخالف للتحقيق، كما أنّ ما أفاده المحقق الخراساني قدّس سرّه من أنّه ليس سلطنة، و إنّما كانت السلطنة من آثاره، و إنّما هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة، فهو ممّا لا يسمن و لا يغني أيضا، فانّه تعريف بأمر مبهم من جميع الجهات مع أنّ التعريف لا بدّ أن يكون بأمر واضح.

و يحقّ لنا أن نتساءل: إنّ الاعتبار له أنواع معلومة معروفة، فما هذا الاعتبار الخاص و ما هو حقيقته و مفاده مغزاه؟

و إن شئت قلت: الحق يوجب نفعا لذي الحق غالبا مع أنّ الحكم مختلف جدّا، و كذلك الحق لا يكون فيه إلزام في الغالب بل لصاحبه الانتفاع به و تركه، و الحكم ليس كذلك، فتحصل أنّ الفرق بينهما يكون في امور ثلاثة.

إن قلت: حق الولاية على الصغير ليس فيه نفع لوليه، و ليس له تركها، فليس بحق.

قلت: إن تمّ ما ادعيته فليس حقّا، بل نقول أنّه من الأحكام الإلزامية على الولي و لكن ليس كذلك على مذاق المشهور، فتدبّر.

و ليعلم أنّ النزاع في مفهوم الحق إنّما يثمر إذا كانت هناك أدلة اخذ في موضوعها كلمة الحق بقول مطلق أو إجمالا كما فيما هو المشهور من أن «ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه»، و ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الشفعة الاستدلال بالمرسل في المسالك و غيرها عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه» و ذكر بعض شراحه أنّه لم يعثر

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 21

على مصدر لهذا المرسل في كتب

أخبار الخاصّة و العامّة، و إنّما اشتهر على ألسنة الفقهاء فراجع «1».

أمّا الثاني: فقد ذكروا للحق أقساما كثيرة:

1- ما لا يقبل الاسقاط و النقل بل و لا الانتقال القهري بالموت أيضا، و مثّل له بحق الولاية للحاكم و حق الاستمتاع للزوج.

2- ما يجوز اسقاطه و لا يقبل النقل و لا الانتقال بالموت، كحق الغيبة بناء على وجوب ارضاء صاحبه.

3- ما يجوز اسقاطه و انتقاله بالموت و لكن لا يجوز نقله، كحق الشفعة على وجه.

4- ما يجوز اسقاطه بعوض و اسقاطه، و ينتقل بالموت، كحق الخيار.

5- ما يجوز اسقاطه و نقله لا بعوض، كحق القسم للزوجة على ما ذكره جماعة فيجوز نقله إلى سائر الزوجات (و لا ينتقل بالموت).

6- ما هو محل الشك من حيث صحّة الاسقاط أو النقل و الانتقال، و عدّ من ذلك حق الرجوع في العدّة الرجعية، هذا ملخص ما ذكره السيد في الحاشية «2».

و العمدة في المقام أن يقال: إنّ الحقّ له معنيان: معنى عام، شامل للملك و الحكم أيضا، مثل حق اللّه على عباده، و حق الراعي على الرعية، و حق الرعية على الراعي و غير ذلك ممّا ورد في رسالة الحقوق لسيد الساجدين و زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام.

و له معنى خاص في مقابل الملك و الحكم، و هو بهذا المعنى سلطنة على فعل كما عرفت، سواء كان متعلّقا بعين، أو عقد، أو شخص، أو غير ذلك، و من آثاره أحد الامور على سبيل منع الخلو:

1- جواز اسقاطه.

2- جواز نقله بعوض أو بغير عوض.

3- جواز انتقاله القهري بارث أو شبهه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 22

و أمّا ما ليس فيه شي ء من هذه الامور فليس بحق، بل هو نوع من

الحكم كولاية الأب على ابنه و حق الاستمتاع، فإنّ الأول يرجع إلى جواز تصرف الأب في أموال الولد مع مراعاة المصلحة أو وجوبه، و الثاني إلى جواز التمتع بها، كما أنّ الملك، و هو السلطنة على المال، يظهر أثره في النقل و الانتقال، بل و الإعراض الذي هو كالإسقاط في الحق.

و لو كان هناك ملك ليس فيه هذه الآثار، فهو من قبيل الحكم لا الملك، فحسب التصور في مقام الثبوت يوجد فيه أنواع سبعة:

1- ما يقبل الاسقاط و النقل (بعوض أو بغير عوض) و الانتقال.

2- ما يقبل الاسقاط فقط.

3- ما يقبل النقل فقط.

4- ما يقبل الانتقال فقط.

5- ما يقبل الاسقاط و النقل.

6- ما يقبل الاسقاط و الانتقال.

7- ما يقبل النقل و الانتقال.

و أمّا مصاديقها، فنتساءل: هل يوجد لجميعها مصداق، أو يكون لبعضها فقط؟ فبحسب مقام الإثبات هناك مصاديق مشكوكة، بل بعض المصاديق مشكوكة بين الحق و الحكم، و لا ينبغي خلط مقام الإثبات و الثبوت هذا، و لكن بحسب مقام الإثبات، فقد يوجد لبعضها مصداق، فإنّ ما يقبل الانتقال بالموت لعله يقبل النقل بغيره.

هذا و لو شكّ في كون شي ء حقا أو حكما، أو شكّ في كونه قابلا للإسقاط أو النقل أو الانتقال بعد العلم بكونه حقّا (و إن علم بجواز أحد هذه الامور إجمالا)، فما هو مقتضى الاصول؟

أمّا الأوّل: فلا شكّ أن مقتضى الأصل عدم كونه حقّا، أي لا يجري عليه أحد الأحكام الثلاثة.

أمّا إذا علم بكونه حقا، و شكّ أنّها من الحقوق القابلة للإسقاط، فالأصل عدم سقوطه بالاسقاط، و كذا إذا شكّ في كونه من الحقوق القابلة للنقل أو الانتقال فاصالة عدمهما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 23

أيضا حاكم، و العلم الإجمالي بجواز بعضها بمقتضى

كونه من الحقوق غير مفيد إلّا نادرا.

نعم، إذا كان شي ء من الحقوق المعتبرة عند العرف و العقلاء القابلة لهذه الامور الثلاثة أو بعضها عندهم، أمكن القول بامضائها من ناحية الشرع بعد عدم الردع عنه، فلو كان حق الشفعة مثلا قابلا للإسقاط و الانتقال، و شك في جواز ذلك شرعا يمكن القول بجوازه كذلك.

أمّا في غير هذا المورد، فلا دليل على الجواز، و ليس هنا محل التمسك بأوفوا بالعقود و أحلّ اللّه البيع، و الصلح جائز بين المسلمين، لأنّه من قبيل الشبهات المصداقية، كما أنه مع ثبوت هذه الخصوصيات عرفا، لا حاجة إلى هذه العمومات كما لا يخفى.

نعم، قد يكون هناك بعض القرائن الدالة على عدم جواز النقل أو الانتقال كما في حق الوصاية أو الولاية (لو قلنا بكونهما من الحقوق لا من المناصب) فإنّ مثل هذه الحقوق قائمة بالشخص لا تتعدى منه إلى غيره، أو مثل حق ولاية الفقيه فإنّه قائم بعنوان الفقيه الجامع للشرائط و لا ينقل و لا يورث.

أمّا في غير ذلك ممّا يكون بحكم العرف قابلا لأحد هذه الامور على سبيل منع الخلو، فالأصل ثبوته في الشرع إلّا ما خرج بالدليل التعبدي.

الثالث: في جواز كون المبيع أو الثمن من الحقوق و عدمه.

ظاهر كلام الجواهر جواز وقوعها ثمنا.

و ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه عدم جواز وقوعها ثمنا و لا مثمنا، و قد عرفت أنّه قسّمه إلى ثلاثة أقسام: ما لا يقبل حتى الاسقاط فلا معنى لكونه عوضا و ما يقبل ذلك، و لا يقبل غيره، فلا يكون عوضا، لأنّ البيع تمليك في مقابل تمليك لا في مقابل الاسقاط.

و أمّا ما يقبل النقل فإنّه و إن أمكن كونه مبيعا أو ثمنا و لكنه

خلاف ما يظهر من اشتراط كون العوض مالا، و الحق ليس كذلك.

و لكن يرد عليه: أولا: إنّ ما لا يقبل الاسقاط و النقل فليس بحق، كما عرفت، بل هو من الأحكام لعدم الفرق بينه و بينها.

و ثانيا: إنّ الحقوق من الأموال لأنّها ممّا يرغب فيها و يبذل بإزائها المال، فلو كانت انوار الفقاهة، ج 1، ص: 24

قابلة للنقل فلا إشكال في وقوعها عوضا، و ذلك كمن يبيع كتبا أو ثيابا له، في مقابل حق انشعاب الماء و الكهرباء و التليفون، أو في مقابل حق تحجير أرض له، أو غير ذلك، و لا مانع من شمول عمومات البيع له.

يبقى الكلام في ما يقبل الاسقاط فقط، فإن قلنا البيع تمليك في مقابل تمليك فلا يصحّ وقوعه عوضا، و إن قلنا هو تمليك في مقابل عوض فهذا يمكن وقوعه عوضا، و إمّا بأن يكون العوض نفس الفعل، أعني الاسقاط، أو بأن تكون سائر الأفعال عوضا، كما إذا باعه كتاب في مقابل خياطة ثوب، أو بأن يكون العوض الدين مثلا، على وجه الاسقاط لا النقل.

و ثالثا: لا مانع من كون الحقوق القابلة للنقل عوضا، و كون «الحق سلطنة فعلية و لا يعقل أن يتسلط الإنسان على نفسه»، لا دخل له بما نحن بصدده، لأنّ الحق المنتقل إليه قد يكون مثل حق التحجير الذي هو تسلط على العين، أو حق الخيار الذي هو تسلط على الغير و أمثال ذلك.

و بالجملة لا نجد مانعا من شي ء من ذلك.

و من هنا يظهر جواز وقوع الحق مثمنا أيضا إذا كان قابلا للتمليك كحق «السرقفلية» و حق انشعاب الماء و الكهرباء، فتدبر جيدا فانّ المقام من مزال الأقدام.

عود إلى تعريف البيع:
اشارة

قد عرفت الإشارة إلى تعريفه من بعض

أهل اللغة، و لكنه تعريف شرح الاسم ظاهرا، و لذا تصدى فقهاؤنا الأعلام منذ العصر الأول لإيجاد صياغة دقيقة في تعريفه، بعد قبول عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه، بل حكي عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه الاتفاق على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه.

و عرّفوه بتعاريف كثيرة، و إليك نماذج منها:

1- هو انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي (عن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 25

مبسوط و السرائر و غير واحد من كتب العلّامة قدّس سرّه كالتذكرة و التحرير و القواعد و غيرها).

2- نقل الملك من مالك إلى غيره بصيغة مخصوصة (عن المحقق الكركي قدّس سرّه).

3- أنّه العقد الدال على الانتقال المذكور (عن الوسيلة و المختلف).

4- أنّه عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع و الثمن و تسليمهما (كما حكي عن الكافي لأبي الصلاح).

5- أنّه اللفظ الدال على نقل الملك من مالك إلى آخر بعوض معلوم (كما اختاره في الشرائع).

إلى غير ذلك ممّا ذكروه في كلماتهم (قدّس اللّه أسرارهم).

و قد ذكر في الجواهر أنّ تعاريف القوم على اختلافها في القيود ترجع إلى أحد الامور الثلاثة: «النقل، و الانتقال، و العقد».

أقول: التعاريف التي ذكرها المحققون من بعده أيضا كذلك من قبيل:

1- أنّه إنشاء تمليك عين بمال (ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

2- أنّه تمليك إنشائي (كما أفاده السيد قدّس سرّه في الحاشية).

و الظاهر أنّه ناظر إلى تعريف شيخنا الانصاري قدّس سرّه فمراده «أنّه تمليك إنشائي لعين بمال».

3- أنّه إنشاء تبديل شي ء من الأعيان بعوض في جهة الاضافة (كما ذكره في مصباح الفقاهة).

و مراده من جهة الاضافة ما ذكره في مقام آخر أنّه مقابل للمبادلة في المكان و اللبس و الركوب إلى غير ذلك

من المبادلات التكوينية «1».

فاللازم أن نتكلم في المحور الأصلي للبيع، ثم نتكلم في قيوده، فهل أنّ المحور الأصلي هو الإنشاء و العقد، أو النقل أو الانتقال؟

و الإنصاف أنّ الأصل في حقيقة البيع بحسب متفاهم العرف و ما يتبادر منه، هو: إنشاء

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 26

التمليك، و لكن بما له من الأثر، و إن شئت قلت: هو التمليك الإنشائي كما اشير إلى سابقا، فليس البيع نفس الإنشاء بماله من المعنى المصدري (و لا العقد كذلك) بل لا العقد بما له من معنى اسم المصدر، بل بإيجاد الملكية بسبب العقد و الإنشاء و إن شئت قلت: هو التسبب بالإنشاء إلى المنشأ.

و بعبارة أخرى: قد يقسم البيع إلى: البيع السببي و المسببي، و الأول هو الإنشاء، و الثاني هو الأثر الحاصل منه، و حقيقة البيع ليس هذا و لا ذاك، بل هو التسبب بالانشاء نحو المسبب.

و لعل من قال أنّه العقد نظر إلى ذلك، كما أنّ من قال أنّه النقل ناظر إليه، و أمّا القائل بأنّه الانتقال، فإن كان مراده النقل، فهو كذلك، و إن كان بمعنى الأثر الحاصل بعد النقل، أو ما هو معنى المطاوعة، فلا شك أنّه أجنبي منه.

و بالجملة لا أظن وجود خلاف كثير بينهم و إن اختلفت التعبيرات.

و أمّا قيوده، فالظاهر عدم اعتبار أزيد من المالية في العوضين، فيقال: «هو تمليك مال بعوض».

لما عرفت من عدم لزوم كون المثمن و لا الثمن من الأعيان، بل يجوز كونهما من الحقوق، و كون الثمن من المنافع، نعم إذا كان البيع منفعة كان من الاجارة لا من البيع.

و بقي الكلام في ما أورد عليه من الإشكالات الخمس التي ذكرها شيخنا الانصاري قدّس سرّه و أجاب عنها:

أولها: إنّ

لازمه جواز إنشاء البيع بلفظ، ملكت، و أجيب عنه: بأنا نلتزمه و لا مانع منه.

ثانيها: أنّه لا يشمل بيع الدين على من هو عليه، لأنّ الإنسان لا يملك على نفسه شيئا.

و أجيب: بجواز ذلك آنا ما، و أثره سقوط الدين.

ثالثها: شموله للمعاطاة مع أنّه ليس ببيع عندهم، و لكن سيأتي إن شاء اللّه أنّ الأصل في البيع- على خلاف ما هو المعروف في الأذهان- هو المعاطاة، و إنّما نشأ البيع بالصيغة بعدها، فإن الناس في أول أمرهم كانوا يبادلون أموالهم من خلال المعاطاة و لم يكن هناك إنشاء لفظي، ثمّ لمّا نشأت القوانين الإلهية و العرفية بينهم، جعلوا له صياغة قانونية إنشائية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 27

بالالفاظ أو بالكتابة كما لا يخفى على الخبير.

و كيف لا تكون المعاطاة بيعا، و أكثر ما يقع في البيع هو من هذا الباب، حتى أنّ البيع بالصيغة عندهم قليل بالنسبة إليه، و لذا ذهب جمع من الأكابر إلى كون بيعا لازما.

رابعها: صدقه على الشراء، فانه أيضا تمليك مال بمال (أو تمليك عين بمال).

و أجيب عنه: بأنّ حقيقة الشراء التملك في مقابل العوض، فالتمليك فيه تبعي، و التملك أصلي، و هو غير بعيد.

(و منه يعلم الفرق بين البائع و المشتري إذا كان كلّ من الثمن و المثمن من العروض).

و قد أورد على هذا الوجه في مصباح الفقاهة بما حاصله: إنّ التمليك الضمني ليس له معنى محصل، و لا معنى لكون أحد التمليكين أصلا و الآخر تبعيا، فانّ التمليكين من ناحية البائع أو المشتري يتحققان في مرتبة واحدة، و إذن فلا أصالة و لا تبعية في المقام، و ظهور لفظ الإيجاب و القبول في ذلك غير مفيد، لأنّه يرجع إلى مقام الإثبات،

فلا يوجب فرقا بينهما في مقام اللب و الثبوت.

أقول: لا شك في أنّ ألفاظ الإيجاب و القبول تحكي عن كيفية اعتبار المعتبر لهما، و مقام الإثبات حاك عن مقام الثبوت، و إن شئت قلت: إنّ حقيقة اعتبار البيع هو تمليك شي ء بعوض، و حقيقة اعتبار الشراء هو تملّك شي ء بعوض، فماهية الأول أولا و بالذات التمليك، و أمّا التملك فهو تبع في كيفية الاعتبار و الإنشاء، كما أنّ ذلك في الشراء بالعكس، سواء تقدم القبول على الإيجاب أو تأخر عنه.

و لا يوجد مشتر يملك الثمن ليتملك المثمن، فليست الأصالة و التبعية بحسب مقام الإثبات فقط، بل اللب و كيفية الاعتبار.

هذا و يمكن أن يقال: بأنّ الصادر عن البائع إنشاءان، إنشاء تمليك المبيع للمشتري و إنشاء تملك الثمن لنفسه، و الذي يصدر عن المشتري هو قبول ذلك فقط، لا أقول القبول ليس من قوام الإيجاب، بل أقول إنّ حقيقة أحد الاعتبارين شبيه الفعل، و الاخرى شبيه الانفعال، و لا في اللفظ فقط، بل نحو الاعتبار، و هذا التفاوت يوجب أحكاما مختلفة و لا مانع من ذلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 28

و في الحقيقة فان هذا المورد يشابه صورة العمل الخارجي بالنسبة إلى عالم الاعتبار، فكما أنّ من يبيع الخبز بالدراهم يعطي الخبز ليأخذ الدرهم، و المشتري يقبله منه في مقابله، فكذا في كيفية الاعتبار، و تقديم القبول أحيانا مثل تقديم دفع النقود لا يكون مغيّرا لهذه الحقيقة.

خامسها: انتقاض طرده بالصلح و الهبة المعوضة، و اجيب عن الأول بأنّ حقيقة الصلح ليست هي التمليك على وجه المقابلة، بل معناه الأصلي التسالم على شي ء، و هذا غير منطبق على ما عرفت من تعريف البيع.

أقول: قد وقع الكلام في مفتتح

كتاب الصلح في الفقه في مقامين:

الأول: في أنّه هل يعتبر في حقيقة الصلح التجاذب و التنازع أم لا؟ حكي عن ظاهر الأصحاب الاتفاق على عدم اعتباره، و إن حكي عن بعض أهل الخلاف اعتباره.

قال في المسالك: إنّ الحكمة فيه و إن كانت رفع الخلاف و النزاع، و لكن الحكمة ليست لازمة في جمع الأفراد، كما في المشقة في السفر، و عدم تداخل المياه في العدّة، و ذلك لعموم أدلة الصلح، مثل قوله عليه السّلام: «الصلح جائز بين المسلمين» أو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا» «1».

هذا و الإنصاف أنّ اطلاق أدلة الصلح محل إشكال أو منع بعد كون التنازع و التجاذب مأخوذا في مفهوم هذه الكلمة عرفا، و أنّه ممّا لا ينبغي الشك فيه.

و يمكن أن يقال- كما يظهر من بعض- إنّ كون شي ء ممّا يترقب منه النزاع مظنة للتجاذب أيضا كاف في ذلك، لا سيما أنّ العقود إنّما شرعت في الشرع و العرف لأغراض لا يتأتى من غيرها، فلو كان للصلح أثر البيع و الاجارة و غيرها، فأي داع في تشريعها، بل الظاهر أنّه لا بدّ فيه من وجود نوع من الخلف و لو بالقوّة، كما في الحقوق المبهمة و الدعاوي المشكوكة و الديون غير الثابتة، أو الثابتة غير معلومة المقدار أو غير ذلك، و تمام الكلام في محله.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 29

الثاني: هل الصلح عقد مستقل برأسه، أو هو فرع لغيره كما اختاره الشيخ قدّس سرّه في المبسوط حيث قال: إنّه فرع على عقود خمسة (البيع و الإجارة و الهبة و العارية و الابراء)، و هو مذهب الشافعي أيضا، و لكن المعروف

من الأصحاب هو الأول.

و لعلّ القول بفرعيته نشأ من عدم اعتبار التجاذب و الخلف في ماهيته، فلا يكون حينئذ عقدا برأسه، و أمّا لو قلنا بأنّه شرع لدفع الخلف في موارد الشك و الابهام و مظنّة تضارب الحقوق، ممّا لا تتمّ فيه شرائط البيع و الإجارة و غيرهما حيث إنّها تقع على امور معلومة محققة، كان الفرق بين الصلح و غيره و كونه عقدا مستقلا واضحا، فتدبر فإنّه حقيق به.

إذا عرفت ذلك ظهر لك عدم الإشكال على طرد التعريف بانتقاضه بالصلح.

و أمّا انتقاضه بالهبة المعوضة، فقد اجيب عنه بأنّه ليس تمليكا بعوض، بل كل واحد تمليك مستقل من دون عوض، و لكن تخلف «المشروط عليه» عن الشرط يوجب جواز الرجوع للمشروط له في هبته.

أقول: الهبة المشروطة المعوضة على أقسام:

1- ما يكون فيه العوض من دون اشتراط، و ذلك كما ورد في الحديث الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا عوض صاحب الهبة فليس له ان يرجع» «1» بناء على أنّ المراد اعطاء العوض من دون شرط أو كونه أعم.

و أظهر منه ما رواه عبد اللّه بن سليمان و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق عليه السّلام عند السؤال عن جواز الرجوع في الهبة: «تجوز الهبة لذوي القرابة و الذي يثاب عن هبته، و يرجع في غير ذلك إن شاء» «2».

و هذا القسم لا دخل له بما نحن بصدده.

2- ما ذكر فيه العوض بعنوان شرط الفعل.

و هذا أيضا ليس فيه معاوضة كما هو ظاهر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 30

3- ما ذكر فيه بعنوان شرط النتيجة، و هذا شبيه المعاوضة، و لكن الإنصاف يقتضي التأمل في أصل صحة هذه الهبة و كونه من هذا الباب.

و

سادسها: بانتقاضه بالقرض، فإنّه أيضا تمليك بعوض، و اجيب عنه بأنّه ليس من باب التمليك بعوض، بل من باب التمليك على وجه الضمان، و لذا لا تجري فيه أحكام المعاوضات مثل ربا المعاوضة و لا الغرر فيها، و لا ذكر العوض و لا العلم به فتأمل.

أقول: و يمكن تطرق الإشكال إليه بأن التمليك على وجه الضمان إن كان المراد منه كون نفس العين المقترضة في الضمان، فلازمه عدم اشتغال ذمّة المقترض بشي ء، و هو مخالف للإجماع ظاهرا، و إن كان بمعنى ضمان المثل، فهو عين التمليك بعوض لأنّ معناه تمليك عين في مقابل تملك ما في ذمته من المثل.

إن قلت: معنى القرض هو تمليك المقرض ما له للمقترض على وجه ضمان المثل (كما في مصباح الفقاهة).

قلت: ضمان العين ما دامت موجودة إنّما يكون بنفسها، نعم عند فقدانه يتنزل إلى المثل، و مع فقدانه إلى القيمة، و أمّا ضمان المثل مع وجود العين فليس إلّا بمعنى تمليك مال في مقابل مال، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ للمالك أن لا يطالب الضامن بخصوصيات العين، بل يطالب خصوصياتها النوعيه أو ماليتها.

و بعبارة اخرى: لكل عين ثلاث مراتب: مرتبة الأوصاف الشخصية، و مرتبة الأوصاف النوعية، و مرتبة المالية، و يجوز للمالك تضمين الغير بكل واحد منها، فإن ضمنه بأوصافه الشخصية، فعلى الضامن ردّ عينه و إن لم يطالبه بذلك بل ضمنه بأوصافه النوعية، فعلية ردّ مثله، و إن ضمنه بماليته، فعليه أداء قيمته.

و على هذا يكون القرض من هذا القبيل، و منه يعلم جواز تخيير المقترض يوم الأداء بمثله أو بعينه.

و لعل ما هو المتداول اليوم من ايداع النقود في البنوك أيضا كذلك، لأن اللازم في الوديعة حفظ عينه،

إلّا أنّ المالك قد لا يكون مراده وديعة العين بل وديعة ماليته فقط،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 31

و هذا و إن لم يكن معروفا عند فقهائنا، و لكن لا مانع منه بعد جريانه عند العقلاء.

و إن شئت قلت: لا شك في عدم وجوب حفظ عين النقود على البنك و ردّها على صاحبه، فإن هذا مخالف لارتكاز العرف و مقاصد الطرفين، بل يجب عليه ردّ مثل النقود فقط، بحسب المالية.

و حينئذ إمّا أن يكون من قبيل الإقراض للبنك، أو من قبيل وديعته، و الأول مخالف للارتكاز العرفي، فيتعين الثاني، و لكن وديعته بماليته لا بشخصه. و إن كان أثرهما واحدا دائما أو غالبا فتدبر.

بقى الكلام فيما ذكره قدّس سرّه من آثار عدم كون القرض معاوضة، أمّا عدم ذكر العوض و عدم العلم به في القرض فهو كما ترى، لأنّ العوض معلوم لا يحتاج إلى ذكر بل عنوان القرض كاف.

أمّا جواز الغرر فيه، فهو مبني على صحة القرض بمقدار مجهول، و هو محل للإشكال في كتاب القرض، فجوّزه جماعة و منعه آخرون نظرا إلى أدلّة نفى الغرر، و اختصاص رواية النهي بالبيع «نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله عن بيع الغرر» لا ينافي عموم الحكم لما ذكرنا في محله فتأمل، فجريان نفي الغرر فيه و عدم جواز القرض بصخرة مجهولة مثلا، لا ربط له بكون القرض من المعاوضات و عدمه، بل هو فرع عموم دليل نفي الغرر لكل معاوضة و عدمه.

و أمّا عدم جريان ربا المعاوضة فيه، فمعناه أنّ الربا فيه محرم من دون اشتراط بالمكيل و الموزون، و وحدة الجنس، ففي القيميات لا تكون وحدة الجنس، و في الأوراق النقدية لا يكون هناك مكيل و موزون،

و لكن الربا جار فيهما عند القرض.

و قد أورد عليه: بإمكان تفاوت أنواع المعاوضة بحسب الأحكام و لو كان القرض من المعاوضات، و هذا كلام متين.

أضف إلى ذلك أنّ الإقراض في القيميات غير معمول عرفا، و إن صرح بجوازه فقهاؤنا، و لكن في النفس منه شي ء، و تمام الكلام فيه في محله.

بقي هنا امور:
1- في معاني البيع:

الظاهر أنّ للبيع معنيان معروفان:

«أحدهما» ما عرفت تعريفه، و هو المقابل للشراء.

«ثانيهما» الايجاب المتعقب للقبول، و هو المراد فيما لم يكن فيه مقابلة، بل اريد منه البيع المؤثر.

و الإنصاف أنّ اطلاقه على كليهما أمر شائع ذايع، و قد يكون من قبيل الاشتراك اللفظى أو المعنوي، و الجامع بينهما هو التمليك بعوض لا بشرط لحوق القبول، و لكن ينصرف إليه أحيانا بقرينة الحال أو المقال إذا اريد ما هو المؤثر في النقل و الانتقال، كما اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه قال: «القيد مستفاد من الخارج لا أن البيع مستعمل في الايجاب المتعقب للقبول، نعم تحقق القبول شرط للانتقال في الخارج لا في نظر الناقل، إذا التأثير لا ينفك عن الأثر فالبيع و ما يساويه من قبيل الايجاب و الوجوب لا الكسر و الانكسار كما تخيله بعض، فتأمل» انتهى ملخصا.

أقول: الإنصاف أنّ استعمال البيع في المعنى الثاني كثير، بل هو العمدة من موارد استعمالاته، بل هو المتبادر منه غالبا، بحيث يعلم أنّه من معانيه الحقيقية، بل الظاهر أنّه لم يستعمل في القرآن الكريم إلّا فيه (و قد ذكر فيه سبع مرات) قال اللّه تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا «1».

و قال تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «2».

و قال تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ «3».

و

قال تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 33

إلى غير ذلك ممّا هو كالصريح في كون المراد منه الايجاب المتعقب للقبول، بل الظاهر أنّ القبول داخل فيه بعنوان التركّب، لا بعنوان الشرط، فهو مركب من البيع و الشراء.

نعم، إذا ذكر في مقابل الشراء، كان ظاهرا في خصوص فعل الموجب، و كذا في مشتقاته عند الإنشاء مثل «بعت»، هذا أولا.

و أمّا ثانيا: ما ذكره من أن تعقب القبول شرط في الخارج لا في نظر الناقل.

فيرد عليه: أنّ الناقل يعلم أنّه بصدد العقد و أنّ الأثر أثر للعقد، و العقد لا يكون إلّا بفعل الاثنين، ففي الحقيقة أنّ الموجب يتمّ الأمر من ناحية نفسه، و ينتظر تكميله من الجانب المقابل، لا أنّه يرى العقد و الأثر تاما كاملا، فإن هذا ممّا لا معنى له بعد العلم بترتب الأثر على العقد الكامل، و إلّا كان من الايقاعات.

و ثالثا: ما أفاده من أنّه من قبيل الإيجاب و الوجوب لا الكسر و الانكسار، إن كان مراده أنّ الايجاب كما لا ينفك عن الوجوب في نظر الموجب و إن انفك عنه في الخارج لعدم تحقق شرطه فكذلك إنشاء البيع، لا أنّه من قبيل الكسر و الانكسار بحيث لا ينفكان خارجا و وجود أحدهما ملازم دائما للآخر.

فقد أورد عليه: بأنّه دعوى جزافية، إذ الايجاب أيضا لا ينفك عن الوجوب، إلّا أنّ عدم انفكاك أحدهما عن الآخر في نظر الموجب فقط لا في الخارج. «1».

قلت: و كفى بذلك فرقا بينهما، مضافا إلى ما عرفت آنفا، هذا و لكن الانصاف أنّ البيع ليس من هذا القبيل، و لا من قبيل الكسر و الانكسار

بعد كونه من العقود لا من الايقاعات، و البائع عالم بذلك، فتدبّر جيدا.

هذا و قد ذكر للبيع معنيان آخران:

«أحدهما»: نفس العقد المركب من الايجاب و القبول كما عرفت في بعض التعاريف المذكورة في صدر الكلام.

«ثانيهما»: الأثر الحاصل من الايجاب و القبول، و هو الانتقال، و قد عرفت في التعاريف ما يشهد له.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 34

هذا و الانصاف أنّ شيئا منهما ليس من معاني البيع، بل الأول من قبيل مقدماته و الثاني من قبيل نتائجه، و إلّا ليس العقد مع قطع النظر عن محتواه و تأثيره بيعا بالضرورة، كما أنّ الانتقال بمفهوم اسم المصدر ليس البيع الذي يشتق منه المشتقات الفعلية.

2- هل البيع و شبهه موضوع للصحيح أو الأعم؟

و هذه هي المسألة التي أشار إليها شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذيل كلامه في المقام أنّها جزئي من جزئيات مسألة الصحيح و الأعم، و هي محررة في الاصول و ليس هنا مقام بيانها، إلّا أنا نشير إليها إشارة إجمالية و حاصلها:

«الف» المراد من الصحيح كما حققناه في محله هو ما يترتب عليه الأثر المترقب منه و لو بالقوة القريبة من الفعل، سواء اجتمعت فيه جميع الأجزاء و الشرائط المتعارفة أو الواجبة، أم لا؟ فالسراج الصحيح هو ما يستفاد منه في مقابل الظلمة لمشاهدة الأشياء، و الساعة لتعيين الوقت، و السيارة للركوب فيها و الانتقال من محل إلى آخر غير ذلك حتى لو كان بعض أجزائها مكسورا أو معيبا، نعم إذا انعدمت الاستفادة منه بالمرة، لم يكن مصداقا للصحيح بالمعنى الذي ذكرنا، و هو المقابل للفاسد لا للمعيوب.

«ب» الحق هو وضع الأسامي للصحيح، سواء في الحقائق التكوينية، أو الاعتبارات العرفية أو الشرعية، للتبادر، و صحة السلب عن الفاسد، و الاطراد (لأنّه عندنا من علائم

الحقيقة)، و حكمة الوضع، و تمام الكلام في محله.

«ج» بما أنّ الصحة في العرف و الشرع في مثل البيع و غيره من العقود متفاوتة، فإذا ذكرها أهل العرف بما أنّهم كذلك انصرف الذهن إلى الصحيح العرفي، و إذا ذكره أهل الشرع و المسلمون بما أنّهم معتقدون باصول الإسلام و تشريعاته، انصرف الذهن إلى الصحيح الشرعي، و في الدعاوي و الاقرارات أيضا تتبع هذه القاعدة.

«د» كيف يجوز التمسك بالاطلاقات على القول بالصحيح عند الشك في اعتبار شي ء شطرا أو شرطا في بعض العقود مع أنّه من قبيل الأخذ بالعام في الشبهات المصداقية، مثلا إذا شككنا في اعتبار الصيغة في البيع، فكيف يصحّ لنا الأخذ بعموم أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ مع أنّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 35

البيع موضوع للصحيح، و هو هناك مشكوك؟

و الجواب عنه: إنّ القرينة هنا قائمة على أنّ المراد منه البيع هو الصحيح عند العقلاء و أهل العرف، فإنّه لا معنى لأن يقول: «أحلّ اللّه البيع الصحيح شرعا» فإنّ هذا تحصيل الحاصل (أولا) و إحالة على المجهول (ثانيا)، بل الذي يفيد هو أن يقول: «إنّ اللّه أحلّ البيع الصحيح عند العقلاء إلّا ما خرج بالدليل الشرعي».

و أمّا ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في وجه تمسك العلماء بالاطلاقات هنا، من أنّ الخطابات صدرت على طبق العرف، فغير كاف، لأن خطابات الشرع لا بدّ أن تكون على النحو الصحيح الشرعي لا العرفي، و لكن القرينة التي عرفتها تدلنا على ذلك.

و هنا كلام لبعض أعلام العصر ذكره في كتاب بيعه و حاصله: إنّ البيع و نحوه لو كان موضوعا للمسببات، فلا تتصف بالصحة و الفساد، بل أمرها دائر بين الوجود و العدم.

و على فرض وضعها للأسباب فالتحقيق

أنّها موضوعة للأعم من الصحيح منها، و لو فرض وضعها للصحيح، فلا شبهة في عدم وضعها للصحيح الشرعي، لعدم الحقيقة الشرعية فيها.

و لو فرض وضعها للصحيح عنده، فلا ينبغي التأمل في لزوم كون اختلافه مع العرف في المفهوم، لأنّه مع اتفاقهما في المفهوم لا يعقل الردع و التخطئة في المصداق.

و على فرض وضعها للأسباب الصحيحة الراجعة إلى الاختلاف في المفهوم لا يصحّ التمسك بالاطلاق إذا شك في اعتبار و قيد أو شرط، انتهى ملخصا «1».

أقول: و في كلامه مواقع للنظر:

أولا: قد عرفت أنّ الألفاظ، سواء ألفاظ العبادات و المعاملات بل الموضوعات العرفية كلها، وضعت للصحيح المؤثر للأثر المرغوب منه، و هو الذي يكون محلا للابتلاء في جميع الأحوال و جميع شئون الحياة، بل هو الداعي لوضع الألفاظ بطبيعة الحال، و أمّا الفاسد فهو شي ء خارج عن محط الأغراض و الأنظار، و قد يبتلى به أحيانا، فالصحيح هو الأصل، و الفاسد هو الفرع، و الموضوع له هو الأول بحكم التبادر و غيره ممّا عرفت.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 36

ثانيا: الموضوع له بناء على المختار- و هو الصحيح- عبارة عمّا يكون مؤثرا للأثر، أعني النقل و الانتقال في مثال البيع، و غاية الأمر أنّ الشارع لا يرى بيع الربا مصداقا لهذا العنوان، و أهل العرف يرونه مصداقا، فليس الخلاف بينهما في المفهوم الكلي، أعني الصحيح المؤثر للأثر، بل في المصداق.

نعم، ليس للبيع الذي هو أمر اعتباري، واقع ثابت في الخارج حتى يكون ردع الشارع من باب التخطئة كما هو كذلك في التكوينيات، بل باعدام الموضوع، أعني الصحيح في افق اعتباراته، بينما يراه العرف مصداقا له.

ثالثا: التمسك بالاطلاقات صحيح على كل حال، ففي حال كون المفهوم واحدا، فهو ظاهر،

لما قد عرفت، أمّا لو كان المفهوم متعددا، فالقرينة قائمة على أنّ الاطلاقات ناظرة إلى المفهوم العرفي من البيع، و إلّا فلا معنى لقوله: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ أو قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لأنّه من قبيل الإحالة على المجهول، بل و من قبيل تحصيل الحاصل كما لا يخفى على الخبير.

3- ما هي حقيقة الإنشاء؟

المعروف أنّ الإنشاء هو: إيجاد المعنى باللفظ، و لكن أورد عليه بعض أعاظم العصر بما حاصله: إنّ الإيجاد إن كان بمعنى الإيجاد الخارجي، فهو ضروري البطلان، بداهة أنّ الموجودات الخارجية مستندة إلى عللها الخاصة التكوينية.

و إن كان المراد الإيجاد الاعتباري في نفس المتكلم، فهو واضح الفساد أيضا لأن الاعتبار النفساني الذي هو من أفعال النفس لا حاجة له إى الألفاظ أساسا.

و إن كان المراد منه اعتبار العقلاء، فهو مترتب على تحقق الإنشاء أولا من المنشئ حتى يعتبره العقلاء و الشرع.

و بالجملة لا يعقل معنى محصل لتعريف الإنشاء بإيجاد معنى باللفظ، و التحقيق أنّه ابراز الاعتبار النفساني بمبرز خارجي، كما أنّ الخبر عبارة عن إبراز قصد الحكاية، (انتهى ملخصا) «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 37

أقول: أولا: إنّ كون الإنشاء أمرا إيجاديا هو أمر وجداني، سواء في البيع و الهبة و النكاح أو النداء و التمني و الترجّي و غيرها، فالوجدان أصدق شاهد بأنا عند ذكرنا هذه الصيغ نوجد أمرا اعتباريا، لا أنا نعتبر شيئا في أنفسنا ثم نخبر و نكشف عنه.

و ثانيا: أنّه لو كان الإنشاء إبراز الاعتبار النفساني، كان كالخبر يحتمل الصدق و الكذب، فإن الذي ينفي عن الإنشاء احتمال الصدق و الكذب، إنّما هو كونه إيجاديا، و عند إنكاره يكون كالخبر بعينه.

إن قلت: بينهما فرق واضح، فإنّه ليس في الإنشاء وراء الاعتبار النفساني شي ء بخلاف الإخبار

الذي يحكي عمّا بإزائه في الخارج.

قلت: نعم، و لكن إذا ذكر المبرز (بالكسر) و لم يطابق المبرز (بالفتح) و لم يكن أمرا ثابتا في النفس، كان كاذبا في إبرازه و اظهاره.

و ثالثا:- و هو العمدة- أنّ حقيقة الإنشاء ليست مجرّد الاعتبار النفساني، و لا مجرّد الألفاظ، بل اعتبار عقلائي يوجد بما دلّ عليه مع النّية و القصد.

توضيح ذلك: إنّ حقيقة الملكية في بدء الأمر هي السلطنة الخارجية على شي ء، و تمليك الغير عبارة عن تسليطه عليه خارجا، ثم لما أخذت المجتمعات البشرية تتسع و تتنوع تبدلت هذه السلطنة بشكل اعتباري قانوني، و قام الإنشاء مقام الاعطاء الفعلي الخارجي، فمجرّد الاعتبار النفساني لا أثر له عند العقلاء، و لا يوجد السلطة الاعتبارية القانونية، و إنّما توجد هذه السلطة بالفاظ أو أفعال وضعت لها، مع قصد إيجادها، فإنشاء الملكية هو إيجاد اعتبار عقلائي قانوني بأسبابه، لا إيجاد أمر تكويني، و لا إيجاد أمر نفساني حتى لا يحتاج إلى الألفاظ و شبهها، بل إيجاد سلطة قانونية عقلائية و هو يحتاج إلى أسباب خاصة عندهم، و كذلك الطلاق مثلا، هو إيجاد فرقة قانونية عقلائية بأسبابه، و هكذا في سائر الإنشائيات من العقود و الايقاعات، فتدبّر فإنّه حقيق به.

بيع المعاطاة و أحكامها

اشارة

وقع الكلام بين الأعلام أولا: في صحة بيع المعاطاة و عدمها من العصر الأول إلى زماننا هذا، و في المراد منه ثانيا، و في معنى صحته ثالثا.

و الحق أنّه بيع صحيح لازم لا يجوز فسخه إلّا بأحد الخيارات الثابتة في البيع، و بسط الكلام فيه يقع في مقامات:

المقام الأول: في الأقوال في المسألة
اشارة

و حكي فيها سبعة أقوال:

1- أنّه بيع لازم مطلقا، سواء كان ما دلّ على التراضي هو اللفظ (غير الصيغة المخصوصة)، أو الفعل الخالي عن اللفظ، نسب ذلك إلى المفيد قدّس سرّه حيث قال في المقنعة:

«و البيع ينعقد على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا و تراضيا بالبيع و تقابضاه و افتراقا بالأبدان» فقد ذكر خمسة شرائط للبيع و لم يعد الإنشاء اللفظي منها، و لكن قد يقال: إنّه أوكل الأمر إلى وضوحه و اشتهاره بين الأصحاب (و فيه ما فيه).

و صرّح في المختلف بأنّ كلام الشيخ المفيد قدّس سرّه غير صريح و لا ظاهر فيه بل يتوهّم منه «1».

و حكي عن بعض علماء العامّة أيضا ذلك، و لكن عن الشافعية عدم صحته إلّا باللفظ، و عن أبي حنيفة صحته في المحقرات.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 40

2- أنّه بيع لازم إذا كان الدال على المعاملة لفظا (أي ما دلّ على التراضي) نسبه في الحدائق إلى المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في شرح الإرشاد و صاحب الكفاية و الفيض في المفاتيح و جمع من المحدثين.

و قد نقله الشهيد الثاني قدّس سرّه عن بعض مشايخه، و لكن الذي حكاه في مفتاح الكرامة هكذا: و في الكفاية أن قول المفيد غير بعيد، و هو خيرة مجمع البرهان و المفاتيح و نقله في الحدائق عن الشيخ سليمان البحراني «1».

3- إنّها

تفيد الملكية الجائزة لا اللازمة، و إنّما يحصل اللزوم بذهاب العينين أو أحدهما، و أول من نسب إليه هذا القول هو المحقق الثاني قدّس سرّه، و قد حمل كلمات القائلين بالاباحة عليه، و أتعب نفسه الشريفة في تأييد مباني هذا القول و دفع إشكالاته، و لكن الإنصاف أنّ حمل كلمات القائلين بالاباحة عليه مشكل جدّا.

4- إنّها تفيد الإباحة فقط، و بما أنّ هذه الاباحة تشمل جميع التصرفات حتى التصرفات المتوقفة على الملك، فقد ذهب بعضهم إلى حصول الملك آنا ما قبل هذه التصرفات، و نسب هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب، و هو صريح المبسوط و الجواهر و الغنية و السرائر و الشرائع و المسالك و غيرها «2».

5- إنّها تفيد إباحة جميع التصرفات ما عدا التصرفات المتوقفة على الملكية، كالبيع و الوطي في الأمة و الوقف و شبهها، و حكي هذا عن حواشي الشهيد قدّس سرّه على القواعد.

6- إنّه بيع فاسد، كما حكي عن العلّامة قدّس سرّه في النهاية، و لكن حكي عنه رجوعه عنه في كتبه المتأخرة، و لازمه عدم جواز أي تصرف فيهما.

7- قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بعد ذلك: و هنا قول سابع، و هو أنّها معاملة مستقلة مفيدة للملكية و ليست بيعا و إن كانت في مقامه، و قد حكي هذا عن الشيخ الكبير الشيخ جعفر قدّس سرّه «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 41

و هذا و لكن لمّا كان المشهور بين الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) القول بالاباحة دون الملك، وقع بين أعاظم المتأخرين حوار شديد، و معركة عظيمة في هذا المقام لأنّ مراد المتعاطيين كان هو الملكية، و لم تقع بل وقع ما لم يقصداه، و هو الاباحة، فما قصد لم

يقع و ما وقع لم يقصد.

مضافا إلى أنّ ظاهر هم جواز التصرفات الناقلة و المتوقفة على الملك، و كيف يصحّ مثل الوقف و البيع و الوطي في الأمة و شبه ذلك و ليس مملوكا؟

و عمدة المعركة بين ثلاث من كبار اساطين الفقه و هم المحقق الثاني، و صاحب الجواهر، و شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس اللّه أسرارهم).

فقال الأول منهم بأنّ مراد المشهور من الإباحة، الملك الجائز دون اللازم، قال: و ما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب من أنّها تفيد الاباحة و تلزم بذهاب إحدى العينين، يريدون به عدم اللزوم في أول الأمر، و بالذهاب يتحقق اللزوم، لامتناع إرادة الاباحة المجرّدة عن أصل الملك، إذ المقصود للمتعاطيين إنّما هو الملك، فإذا لم يحصل كانت فاسدة، و لم يجز التصرف في العين، و كافة الأصحاب على خلافه (انتهى) «1».

و قال في الجواهر بعد أن استجود هذا المقال في كلام طويل له: إن حمل كلمات قدماء الأصحاب على ما ذكرناه من أنّ مرادهم بيان قابلية الأفعال للإباحة لو قصداها و أنّ ذلك مشروع دون التمليك البيعي مثلا، خير من ذلك «2».

و بهذا الاعتبار جعل محل النزاع ما لو قصدا الإباحة.

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعد ذكر كلمات جمع من الأصحاب (الظاهر أو الصريحة أنّ محل الكلام ما لو قصدا الملك دون الاباحة كما أنّ مرادهم من الاباحة هو نفس الاباحة لا الملك الجائز، بل بعض عباراتهم صريح أو كالصريح في ذلك): إنّ الاولى إبقاء كلماتهم في المقامين على ظاهرها و نجتهد في حلّ مشكلات هذه الإباحة (انتهى محل الحاجة).

و الانصاف أنّ ما ذكره أحسن و أوجه ممّا ذكره العلمان السابقان، و إن كان لا يخلو

انوار الفقاهة،

ج 1، ص: 42

أيضا من مشكلات و معضلات، و عمدتها أمران:

الأول: كيف تحصل الاباحة مع عدم قصدها، فما قصداه و هو الملك لم يقع، و ما لم يقصداه و هي الاباحة وقعت.

قال في الجواهر: ليس له وجه فضلا عن نسبته إلى المشهور أو الإجماع، ضرورة أنّهم إن أرادوا أنّها من المالك، فالفرض عدمها لكون المقصود له أمرا خاصا لم يحصل، فارتفع الجنس بارتفاعه.

و إن أرادوا إباحة شرعية، فهو مع أنّه من الغرائب بعد أن جعل الشارع أمر المال إلى مالكه، لا دليل عليها (انتهى محل الحاجة).

الثاني: حصول الملك بالتصرفات الناقلة مقارنا لها أو آنا مّا قبلها.

هذا، و لكن قد ذكر في وجه الاباحة هنا أمران:

1- الإجماع كما أشار إليه، في مصباح الفقاهة آخذا من كلام الشهيد قدّس سرّه في القواعد و غيره حيث ادعوا الإجماع على افادتها الاباحة دون الملك.

و لكن يرد عليه: أنّ التعبد المحض في هذه الأبواب بعيد جدّا بعد كون بناء الشارع على امضاء بناء العقلاء فيها، و امضاء مقصود المتبايعين، كما أشار إليه في الجواهر، مضافا إلى أنّ ظاهر كلامهم عدم استنادهم فيه إلى نص.

2- ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال: إنّ الاباحة لم تحصل بإنشاء ابتداء، و إنّما حصلت- كما اعترف به في المسالك- من استلزام اعطاء كل منهما سلعته مسلطا عليها، مع الاذن في التصرف فيه بوجوه التصرفات (انتهى).

و هذا و إن كان صحيحا في الغالب، و لكن توجد مصاديق ليس فيها اباحة بدون الملك من ناحية مالكه، و حينئذ يشكل الأمر فيها.

و إن شئت جعلت هذا من وجوه ضعف قول المشهور.

و أظنّ أنّ الذي دعاهم إلى ذلك، أنّهم رأوا عدم بناء العقلاء و أهل العرف و الشرع

على الاقدام على البيع في الامور الخطيرة، كالضياع و العقار و البيت و غيرها من الامور المهمّة إلّا بإنشاء لفظي أو كتبي أو كليهما، هذا من ناحية، و من ناحية اخرى رأوا أنّ العرف لا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 43

يعتني بشرائط البيع في الامور اليسيرة جدّا، كإعطاء قطعة من النقود إلى البقال أو السقاء في مقابل أخذ شي ء من البقل أو الماء من دون العلم بمقدار العوض و سائر شرائط (كما مثل به كثير منهم).

فمن هنا قالوا باعتبار الإيجاب و القبول اللفظي في البيع، و كون المعاطاة في الامور اليسيرة مفيدة لمجرّد الاباحة، مضافا إلى ما نعرف منهم من البناء على الاحتياط في أبواب الفقه.

هذا و لكن يرد عليهم أنّ ما بين هذين، بيوع و تجارات كثيرة- و ما أكثرها- متداولة بين أهل العرف، و هم يرون أنفسهم ملزمين برعاية شرائط البيع من تعيين الثمن و المثمن و غيره من دون الالتزام بشي ء من الألفاظ في الإنشاء كما في الثياب و اللحم و الفواكه و الحبوب و سائر ما يحتاجون إليه، مع أنّهم يرونها بيعا مملكا و يتعاملون معه معاملة الملك في جميع تصرفاتهم.

ما يلزم القول بالاباحة من الإشكالات:

هذا و ممّا يلزم على القول بالاباحة ما ذكره المحقق كاشف الغطاء قدّس سرّه من لزوم تأسيس قواعد جديدة على هذا القول، ثم ذكر هنا ثمانية إشكالات لا بأس بذكرها (و إن كانت عمدتها ما عرفت) و ذكر ما اجيب عنها حيث نرى أنّها مجرّد استبعادات، أو امور يمكن أن تذكر بعنوان الدليل، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

الإشكال الأول: إنّ العقود و ما قام مقامها، تتبع القصود، و لازم القول بالاباحة هدم هذه القاعدة.

و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه

في جوابه أمرين:

أولا: إنّ المعاطاة عند القائل بالاباحة ليست من العقود، لأنّ الإنشاء الفعلي لا يقوم مقام الإنشاء القولي عندهم، و أمّا الاباحة فهي حكم شرعي دلّ الدليل عليه.

ثانيا: إنّ تخلف العقود عن القصود كثير، ثمّ ذكر أمثلة خمسة له:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 44

1- تأثير العقد الفاسد لضمان قيمة المثل مع أنّ المتبايعين قصدا قيمة المسمى.

2- الشرط الفاسد، فإنّه ليس مفسدا عند أكثر القدماء مع أنّ العاقد لم يقصد العقد إلّا مقرونا به.

3- بيع ما يملك و ما لا يملك، و كذا ما يملك و ما لا يملك الذي ذكروا صحته فيما يملك أو فيما يملك دون غيره.

4- بيع الغاصب لنفسه، حيث ذكروا دخوله في البيع الفضولي مع أنّه لم يقصد المالك الأصلي.

5- إن ترك ذكر الأجل في المتعة يوجب انقلابها عقد دائما مع أنّهما لم يقصداه (انتهى ملخصا).

أقول: و يرد عليه: إنّ مفروض كلام المحقق قدّس سرّه المذكور، كون الاباحة مملّكة، لأنّ الاباحة الشرعية من دون إذن المالك في باب الأموال عجيب، كما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه، فإذا فرض أنّ الاباحة مالكية، لزم تخلف العقود عن القصود.

و الإنصاف أنّ هذا التخلف و إن لم يكن محالا عقلا، و لكن إثباته شرعا يحتاج إلى دليل قوى يصلح لتأسيس مثل هذه القاعدة الجديدة.

و أمّا الموارد التي أشار إليها و جعلها من مصاديق التخلف، فلا يتمّ شي ء منها، بل أمرها دائر بين ما هو ثابت (و ليس من التخلف) و ما هو غير ثابت و إن كان من مصاديقه.

«توضيحه»: أنّه لا ينبغي الإشكال في كون الضمان في العقد الفاسد- كما حققناه في محله- مستندا إلى مسألة الاقدام و اليد، فلا دخل له بمسألة تخلف العقود عن

القصود.

أمّا مسألة شرط الفاسد فقد يقال أنّها من قبيل الالتزام في الالتزام، و فساد أحد الالتزامين لا يسري إلى الآخر، و لكن التحقيق أنّ أحد الالتزامين مقيد بالآخر، و إنّما لا يسري فساده إليه لأنّه في نظر العرف من قبيل تعدد المطلوب، نعم لا يبعد الالتزام بالخيار عند فساده.

و منه يظهر الحال في بيع ما يملك و ما لا يملك، فإنّه أيضا من هذا الباب و لو فرض كونه في بعض المقامات من قبيل وحدة المطلوب بنظر العرف و العقلاء، فسوف يسري الفساد منه إليه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 45

و أمّا مسألة بيع الغاصب لنفسه، فيمكن الجواب عنه:

أولا: بأنّ الغاصب يرى نفسه مالكا ادعاء، فإذا اشترى لنفسه اشترى للمالك واقعا.

ثانيا: بأنّ أركان البيع هي العوضان، و أمّا المالكان فليسا من أركانه، بخلاف النكاح و الوكالة و شبههما ممّا يدور مدار الأشخاص.

و أمّا مسألة المتعة فالمشهور كما في المسالك انعقادها دائما بترك ذكر الأجل، و استدل عليه بما رواه ابن بكير عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ سمّى الأجل فهو متعة، و إن لم يسمّ الأجل فهو نكاح ثابت» «1».

و يمكن أيضا الاستدلال له بروايتي أبان بن تغلب و هشام بن سالم المذكورتين في نفس الباب «2».

و لكن الإنصاف أنّ هذا الحكم ممنوع جدّا، لعدم قيام دليل عام و لا خاص عليه، و النص إنّما هو دليل على أنّ تفاوت العقد الدائم و المتعة إنّما هو بذكر الأجل و عدم ذكره، و لا تعرض له لما إذا قصدا المتعة و نسيا ذكر الأجل.

و في المسألة قولان آخران يقومان على أساس التفصيل بين الموارد، فراجع الجواهر و المسالك.

فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم وجود نقض واحد لقاعدة تبعية

العقود للقصود.

و بالجملة هذا الإشكال و إن لم يكن دليلا قطعيا على بطلان القول بالاباحة و لكنه من المبعدات القوية له.

الإشكال الثاني: حصول الملك بالتصرفات الناقلة، و لازمه كون إرادة التصرف مملكا، فإذا أراد وقف ما أخذه بالمعاطاة مثلا أو هبته أو بيعه صار بمجرّد إرادته القريبة من العمل ملكا له، و كذا إذا تصرف فيه بالاتلاف، فان جواز الاتلاف و إن كان لا يلزم الملكية إذا كان برضا مالكه أو باجازة مالك الملوك، و لكن المفروض ضمانه بالمسمى لا بالقيمة، و هذا غير ممكن بدون دخول العوض في ملكه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 46

هذا و قد أجاب عنه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه و تبعه عليه غيره بأنّه لا مانع من التزامه إذا كان مقتضى الجمع بين الأصل، و دليل جواز التصرف المطلق، و أدلة توقف بعض- التصرفات على الملك، كتصرف ذي الخيار و الواهب فيما انتقل عنهما بالوطي و البيع و العتق و شبهها.

أقول: إن أراد أنّه لا مانع منه عقلا فهو صحيح، و إن أراد أن لا مانع منه شرعا فهو قابل للإشكال، فانّ مثل هذا من الغرائب في أحكام الشرع لا يمكن المسير إليه إلّا بدليل قوى، لما ذكرنا في محله من أنّ إثبات مثل هذه الأحكام الغريبة لا يمكن بمجرّد أصل أو خبر واحد و لو كان صحيحا.

و أمّا ما ذكره من الأمثلة فهي أجنبية عمّا نحن فيه، فانّ تصرف ذي الخيار منطبق على موازين القواعد و هو الفسخ العملي و إعمال الخيار، و كذا في الواهب و شبهه، و اين هو ممّا لا ينطبق على شي ء من القواعد بل هو تعبد صرف.

الإشكال الثالث: و ممّا يلزم هذا القول من الامور المخالفة

للقواعد المعروفة تعلق الأخماس و الزكوات و الاستطاعة و الديون و المواريث بما في اليد مع العلم ببقاء مقابله و عدم التصرف فيه.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه: بأنّه استبعاد محض، و دفعه بمخالفته للسيرة رجوع إليها (أي الاستدلال بالسيرة لا بما ذكره).

أقول: لبّ الكلام، أنّ تعلق الخمس و الزكاة و ... بما هو مباح للإنسان و ليس ملكا له، ممّا لم يعرف له دليل في الشرع، بل جميع الأدلة دالة على تعلقها بالأملاك.

فهذا أيضا ممّا لا يعرف أهل الشرع شبيها له في الفقه، و إثبات مثل هذا الحكم المخالف لكثير من قواعده دونه خرط القتاد، و كذا بالنسبة إلى الإرث و شبهه.

و لهذا كان ترك بعض الأدلة الضعيفة الدالة على قول المشهور، و إن بلغت بعض مراتب الحجّية (لو كان لهم دليل كذلك) أولى من ارتكاب هذه الامور التي لا تناسب قواعد الفقه و الاصول المعروفة من المذهب.

الإشكال الرابع: كون التصرف من جانب مملّكا للجانب الآخر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 47

و أجاب عنه في المكاسب بأنّه ظهر جوابه.

أقول: كأنّ مراده أنّه مجرّد استبعاد بعد ما اقتضى الجمع بين الأدلة ذلك.

و أنت خبير أنّه أيضا مخالف للقواعد المعروفة من الشرع المقدس، و لا يمكن المسير إليه بسهولة، و لم يعرف مثل هذا الحكم في موضع آخر، و هذا ممّا يوجب الظنّ القوي المتاخم للعلم للفقيه، على أنّ مسيره في هذا الحكم غير صحيح و إلّا لما انتهى إلى هذه الأحكام العجيبة المخالفة لأصول المذهب من كل جانب.

الإشكال الخامس: إنّ التلف المساوي من جانب، مملّك للجانب الآخر، و التلف من الجانبين مع التفريط (أو الاتلاف من الجانبين) معين للمسمى، و لا رجوع إلى قيمة المثل حتى

يكون له الرجوع بالتفاوت.

و أجاب عنه في المكاسب بما حاصله: إنّ الجمع بين الأدلة الثلاثة (أصالة عدم الملك إلّا في الزمان المتيقن، و عموم على اليد، و الإجماع على الاباحة) يقتضي كون كل منهما مضمونا بعوضه لا بالمثل، فيقدر كلّ منهما آنا ما قبل التلف في ملك من بيده، فينتج كونه مضمونا بعوضه، نظير تلف المبيع قبل قبضه فإنّه من مال بايعه و يكون مضمونا بعوضه لا بالمثل.

قلت: أمّا تلف المبيع قبل قبضه، فهو في الواقع شبيه الفسخ القهري، لأنّ الاقباض من تمام البيع، فإذا لم يحصل، لم يتمّ البيع و انفسخ قهرا، بخلاف المقام، فإنّ التلف يوجب ملك كل منهما لما في يده، و هذا ممّا لا يناسب قواعد المذهب و لم يعرف له نظير.

نعم، بالنسبة إلى غصب الغاصب الذي ذكره في كلامه، يمكن قبول جواز مطالبة كل من المالك و المباح له، و حكم تلفه في يد الغاصب حكم التلف في يد المباح له، و الكلام هو الكلام فيما سبق.

و الإنصاف أنّ بعض هذه الوجوه يرجع إلى بعض آخر.

الإشكال السادس: إن التصرف لو كان من النوافل القهرية بدون النّية فهو بعيد، و إن كان متوقفا على النّية، كان الواطئ للجارية بدون نيّة التملك، واطيا بالشبهة.

و العجب أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه لم يجب عنه، و أجاب على ما بعده و لعله أو كله إلى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 48

وضوحه عنده، و أنّ سبيله سبيل ما مرّ من أنّه مقتضى الجمع بين الأدلة و أنّ الملك يحصل هنا و لو بدون النّية.

و أنت خبير بأن حصول الملك بمجرّد التصرف المتوقف على الملك حتى بدون أي نيّة من الغرائب التي لم نعرف لها شبيها في

الفقه، و ليس هذا مجرّد استبعاد، بل المراد أنّه حكم مخالف لقواعد الفقه لا يثبت إلّا بدليل قوى لا نجده في المقام.

الإشكال السابع: و من المشكلات المترتبة على هذا القول، حكم النماء، فإنّه لا شك في حلية النماء الحاصل من العين المأخوذة بالمعاطاة، مع أنّه لو قيل بأنّ حدوثه مملك له دون العين كان بعيدا و معها كذلك، و كلاهما مخالف لظاهر الأكثر (فإنّ ظاهر هم ليس ملكية النماءات مع أنّ السيرة مستمرة على معاملة الملك معها) و شمول الاذن له خفي.

و أجيب عنه: أولا: بأنّ ظاهر المحكي عن بعض أنّ القائل بالاباحة لا يقوم بتملك النماءات، بل يرى حكمها حكم أصل العين، يعني مجرّد الاباحة.

ثانيا: يحتمل أن يحدث النماء في ملكه بمجرّد الاباحة (ذكرهما في المكاسب).

ثالثا: إنّ النماء و أصله يصيران ملكا للمباح له بمجرّد حصول النماء، و ذلك لأنّ مقتضى كون المعاطاة بيعا عرفيا حصول الملكية من أول الأمر، و لكن يمنعنا الإجماع، حيث إنّه دليل لبّي يقتصر على القدر المتيقن، و هو ما إذا لم يحصل النماء، فإذا حصل كان كلامهما ملكا له (ذكره مصباح الفقاهة).

أقول: حاصل الجواب الأول: أنّ الأصل إذا كان مباحا و مأذونا كان النماء الذي فرعه كذلك، لا ملكا، و لكنك خبير بأنّه يعامل مع النماءات معاملة الملك، فاللبن الحاصل من البقرة المأخوذة بالمعاطاة، و كذا الثمرة الحاصلة من الشجرة تحسب ملكا و يتصرف فيها المشتري تصرف المالك في ملكه.

لكن يمكن أن يقال: بأنّ النماء يصير ملكا بإرادة التصرف، فالكلام فيه كما في سابقه، نعم يلزم هنا زيادة الفرع على الأصل كما لا يخفى.

و أمّا الثاني فيرد عليه، بأنّ كون اباحة الأصل سببا لملك الفرع ممّا لا نعرف

له وجها، بل النماء تابع للأصل.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 49

و أمّا الثالث فهو من العجائب، فإنّ لازمه صيرورة كثير من الأعيان المأخوذة بالمعاطاة ملكا، بزمان يسير، لظهور النماء فيه، و هذا لا يوافق ظاهر كلمات المشهور كما لا يخفى.

و الإنصاف أنّ يقال: إنّ هذا أيضا من الغرائب و لا تساعده القواعد المعروفة في الفقه، بأن تكون النماءات ملكا و لو كان الأصل مباحا غير ملك.

الإشكال الثامن: و آخر ما ذكره من هذا الباب، أن يكون المتصرف في المباح له، موجبا قابلا، لأنّه يملكه لنفسه باذن المالك، ثم يقبله اصالة فيكون موجبا قابلا، و إذا جاز ذلك فلم لا يجوز هذا في نفس القبض عند التعاطي؟ بل هو أولى من سائر التصرفات لأنّه مقرون بقصد التمليك (هذا مفاد كلامه).

و لكن التحقيق أنّ هذا لا يعدّ إشكالا جديدا بعد إشكال كون إرادة التصرف مملّكا، و إنّما يرد هذا على من يقرر الجواب من إشكال التصرف من طريق الاذن في الإيجاب من قبل المالك، ثمّ القبول من قبل نفسه، لا على الجميع.

و بالجملة هذه الإشكالات الثمانية و إن رجع بعضها إلى بعض و كانت في الواقع أقل عددا من هذا، و لكنها في المجموع تعدّ إشكالا قويّا على القول بالاباحة، و حاصله أنّ الالتزام بلوازم الاباحة مشكل جدّا لا يمكن المصير إليه إلّا بأدلة قوية قادرة على تخصيص القواعد المعروفة في الفقه، و هي مفقودة في المقام، بل ليس لهم إلّا دعوى الإجماع، و هو ضعيف جدّا، و أمّا تسليط المالك المباح له على ملكه، فالظاهر أنّه فرع علمه بكونه مالكا من طريق التعاطي لا مطلقا.

فتحصل من جميع ذلك أنّ القول بالاباحة يقوم عليه دليل، بل هناك ما

يدلّ على خلافه، و فيه معضلات و عويصات يشكل حلّها.

[المقام الثاني في الأدلة]
أدلة صحة المعاطاة:

أمّا أدلة القول بكون المعاطاة بيعا شرعيا موجبا للملك فهي كثيرة:

الأول: و هو العمدة، شمول اطلاقات أدلّة البيع و عموماتها، فإنّها بيع عرفي بلا إشكال انوار الفقاهة، ج 1، ص: 50

و تجارة عن تراض، و مصداق للعقد بما له من المعنى العرفي و اللغوي، و هو العهد أو ما في معناه، فيشملها قوله تعالى: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ «1» و تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «2» و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «3» بل و اطلاقات بعض الروايات الواردة في أبواب المعاملات الواردة على عنوان البيع أو عنوان التجارة أو غير ذلك من أشباهها، فإنّها جميعا عامّة شاملة للمعاطاة و غيرها، و إنكار كونها بيعا أو تجارة و عقدا عرفا، مكابرة واضحة، كيف و جلّ معاملات الناس و تجاراتهم من هذا القبيل، بل قد عرفت أنّ الأصل في البيع كان بصورة المعاطاة و إنما حدث البيع بالصيغة بعد ذلك.

و إن شئت قلت: الإنشاء العقدي و إن لم يكن بصراحة الإنشاء اللفظي من بعض الجهات، و لكن أصرح منه من جهات اخرى، كما لا يخفى على الخبير.

و الحاصل: أنّ المسألة من قبيل الشك في اشتراط شي ء في صحة المعاملة، فكما يتمسك بالعمومات لنفي سائر ما يشك فيها، فكذا بالنسبة إلى الإنشاء اللفظي.

الثاني: السيرة المستمرة من زمن النبي الأكرام صلّى اللّه عليه و آله إلى زماننا هذا، بل و قبله، فلا يزالون يتعاملون بالمعاطاة و يرتبون جميع آثار الملك عليها و يرونها بيعا مملّكا من غير حاجة إلى الإنشاء اللفظي.

بل و كذا في غير البيع من الهدايا التي تهدى إلى المؤمنين و أهل العلم و غيرهم، و كذا إجازة المساكن و المراكب و غيرها،

و إنكار استقرار سيرة العقلاء و أهل الشرع طرا على ذلك مكابرة واضحة.

و من أعجب ما يمكن أن يقال في المقام القول بأنّ هذه السيرة نشأت من قلة المبالاة في الدين، مع العمل بها من أرباب التقوى و الصلاح، بل لو لم تقبل السيرة المستمرة الواضحة الظاهرة هنا لن تقبل في أي مورد آخر.

و لم يردع عنه الشارع المقدس بل أمضاه قطعا، و لو وردت هنا رواية ناهية لشاعت و ذاعت، لتوفر الدواعي على نقلها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 51

بل جعله بعض الأكابر دليلا مستقلا، قال: إنّه لو كان الإنشاء اللفظي شرطا بحكم الشرع وجب على الشارع بيانه، و لو كان لبان، فعدم الدليل في مثل هذه المسألة دليل على العدم.

الثالث: إجماعهم على جواز التصرفات الموقوفة على الملك، و قد عرفت أنّ صحة هذه التصرفات غير ممكنة على القول بالاباحة إلّا بتكلّفات بعيدة و تعسفات عجيبة، و توجيهات ضعيفة جدّا، حتى أنّه قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في بعض حواشيه: لا ينبغي صدورها عن الفقيه.

و لذا رجع شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذيل كلامه و اختار القول بالملك بعد ذكره التوجيهات السابقة لهذا القول.

أضف إلى ذلك ما عرفت من أنّ القول بالاباحة تعبدا من الشارع مع قصد المتعاطيين للملك، من البعد بمكان لا يوجد نظير له في الفقه، بل المتراءى منه جعل أمر الملك في المعاملات بيد مالكه، و الاباحة المالكية أيضا مفقودة، إلّا ببعض التوجيهات الضعيفة.

أدلّة القائلين ببطلان المعاطاة:

الأول: الروايات التي قد يتوهّم دلالتها على اعتبار الإنشاء اللفظي في البيع، أو على كونه متداولا في أعصار المعصومين عليهم السّلام، منها ما ورد في أبواب بيع المصحف من قبيل:

1- ما رواه عبد الرحمن بن سيابة عن أبي

عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «إنّ المصاحف لن تشترى فإذا اشتريت فقل إنّما اشتري منك الورق» «1» الحديث.

2- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كتاب اللّه و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفتين و قل اشتري منك هذا بكذا و كذا» «2».

3- ما رواه عثمان بن عيسى قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كلام انوار الفقاهة، ج 1، ص: 52

اللّه و لكن اشتر الحديد و الجلود و الدفتر و قل اشتري هذا منك بكذا و كذا» «1».

4- ما رواه عبد اللّه بن سليمان قال: سألته عن شراء المصاحف فقال «إذا أردت أن تشتري فقل أشتري منك ورقه و أديمه و عمل يدك بكذا و كذا» «2».

لكن الإنصاف أنّ هذه الطائفة لا دلالة لها على ما ذكر أصلا، بل المراد منه حفظ حرمة المصاحف، فإنّه إذا أعطى الثمن في مقابلها معاطاة، فظاهر العمل كونه في مقابل تمام المصحف، و إنّما ينفصل حكم الجلد و الأديم عن الخطوط بالتصريح به لفظا.

و لا دلالة فيها أصلا على كون ذلك في مقام إنشاء البيع، بل يكفي كونها في المقاولة، حتى تكون المعاطاة مبنية عليها، و يشهد له أو يؤيده تقديم الإنشاء بالشراء في جميعها.

5- ما ورد في جواز بيع بعض ما في الأنبار مثل ما رواه بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن قصب في أنبار بعضه على بعضه من أجمة واحدة، و الأنبار فيه ثلاثون ألف طن فقال البائع: قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن، فقال المشتري:

قد قبلت و اشتريت و رضيت، فأعطاه من ثمنه ألف درهم و وكّل المشتري من يقبضه فأصبحوا و قد وقع النار في القصب فاحترق منه عشرون ألف طن و بقي عشرة آلاف طن، فقال عليه السّلام: العشرة آلاف طن التي بقيت هي للمشتري و العشرون التي احترقت من مال البائع» «3».

و لكن الظاهر أنّه أيضا أجنبي عمّا نحن فيه، بل هو قبيل بيع الكلي في المعين، و حيث لا يمكن المعاطاة فيه، لا محيص عن ذكره باللفظ، و إن شئت قلت: ليس فيها ما يدل على حصر صحة البيع بالإنشاء اللفظي، بل و ليس في مقام البيان من هذه الناحية.

6- ما رواه سماعة (في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح مع الضميمة) قال: سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟ فقال: «لا، إلّا أن يشتري معها شيئا من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 53

غيرها رطبة أو بقلا فيقول: أشتري منك هذه الرطبة ... بكذا و كذا» «1».

و هذا أيضا لا دلالة له على حصر البيع في ما ينشأ بالالفاظ، بل مورده ممّا لا يمكن فيه المعاطاة، أو يشكل ذلك فيه، فان الثمر الذي لم يخرج طلعه لا يمكن في البيع، فإذا ضمّ إلى الموجود لا يتأتى بيعه إلّا بالكلام.

7- و هو العمدة، ما دلّ على حصر المحلل و المحرم في الكلام، و هو ما رواه يحيى بن الحجاج (أو يحيى بن نجيح) عن خالد بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يجي ء فيقول: أشتري هذا الثوب و اربحك كذا و كذا، قال عليه السّلام: «أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟

قلت: بلى، قال: لا بأس به إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام» «2».

و قد ذكر فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه احتمالات أربعة حاصلها:

1- المراد، حصر المحلل و المحرم في الكلام، و حينئذ تدلّ على المطلوب.

2- أن يكون تعبير محللا و تعبير آخر محرما، كعقد النكاح بلفظ النكاح أو التمليك.

3- كون كلام واحد في مقام محللا و في مقام آخر محرما، كإنشاء بيع ما لا يملك قبل تملكه، و إنشاءه بعده.

4- كون المقاولة محللا و الإيجاب محرما، في بيع ما ليس عنده.

فالأول دليل على عدم صحة المعاطاة، و الثاني لا ربط له بها، و الأخيران هما المرادان من هذه الرواية، بقرينة المقام، و بقرينة سائر ما ورد في هذا الباب من الروايات.

أقول: الإنصاف أنّ الرواية مع ضعف سندها لجهالة ابن الحجاج أو ابن نجيح كليهما، لا دلالة لها على بطلان بيع المعاطاة، أو عدم إفادته الملكية أو عدم لزومها أصلا، بل هي أجنبية عمّا نحن بصدده، و ليس مفادها إلّا الاحتمال الرابع بقرينة قوله عليه السّلام: «أ ليس إن شاء ترك، و إن شاء أخذ، قال لا بأس به»، و هذا كالصريح في أنّ بعض أنواع الكلام يحلل، (و هو المقاولة) و بعضها يحرم و (هو إنشاء عقد البيع).

نعم قد يستدل بها بطريق آخر، و هو أنّ حصر المحلل في الكلام على كلّ حال، دليل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 54

على حصر البيع المحلل فيما ينشأ بالصيغة اللفظية.

و لكن يجاب عنه: بأنّ المقام ممّا لا يتأتى فيه المعاطاة عادة، لأنّ المفروض عدم حضور المتاع قبلا، فلا يمكن اعطائه.

إن قلت: تجوز المعاطاة و لو باعطاء الثمن، كما سيأتي إن شاء اللّه.

قلت: نعم و لكن هذا غير متعارف في

بيع ما ليس عنده، كما لا يخفى على من راجع العرف هنا، فلا يبقى إلّا المقاولة أو الإنشاء اللفظي من دون عقد البيع.

هذا و ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في المتأخر: إنّ الاحتمال الأول من الأربع (الذي يمكن التوسل به لنفي صحة المعاطاة) مضافا إلى عدم ارتباطه بمورد الحديث و صدره، يوجب تخصيص الأكثر، لأنّ المحلل و المحرم في الشريعة لا ينحصران في الكلام (فكثير من أسباب التحريم في باب النكاح و المآكل و المشارب و غيرها لا ربط لها بالكلام).

و قد أورد عليه بعض الأكابر في كتاب البيع: بعدم لزوم تخصيص الأكثر، لأنّ جميع المحرمات و المحللات ترجع إلى سببية الكلام لهما، حتى أنّ المعاطاة حلال لقوله تعالى:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فهذا الكلام موجب للحلية بعد اندراج المعاطاة في عنوان العقد «1».

هذا و في كلامه مواقع للنظر:

أولا: و هو العمدة، إنّ سببية الكلام هنا للحلية و الحرمة من قبيل العلية أو ما يشبه العلية لا الكشف، مع أنّ كلام الشارع أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أو غيره من أدلّة الشرع كاشف عن الحلية و الحرمة لا علّة لهما، كما هو ظاهر، فقد وقع الخلط هنا بين «السببيّة» و «الكاشفية» كما لا يخفى.

ثانيا: بناء على ما ذكره لا يبقى مورد للمفهوم، لأنّ جميع المحرمان غير اللفظية ترجع بالأخرة إلى حكم الشارع و ألفاظه، إلّا أن يكون المراد حصر الحلال و الحرام في خصوص مورد التصريح به في الشرع، و هو بعيد جدّا عن مساق الرواية.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 55

و بالجملة هذه الرواية لا دلالة لها و لا إشعار على بطلان بيع المعاطاة.

و يشهد لذلك ما ورد في هذا الباب بعينه من رواية اخرى ليحيى بن الحجاج قال:

«سألت أبا عبد

اللّه عليه السّلام عن رجل قال لي اشتر هذا الثوب و هذه الدابة و بعينها اربحك فيها كذا و كذا قال: لا بأس بذلك اشترها و لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها» «1».

و ما رواه منصور بن حازم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل طلب من رجل ثوابا بعينه قال: ليس عندي، هذه دراهم فخذها، فاشتر بها، فأخذها فاشترى بها ثوبا كما يريد، ثم جاء به،، أ يشتريه منه؟ فقال: «أ ليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ قلت بلى، قال: إن شاء اشترى و إن شاء لم يشتر؟ قلت: نعم قال: لا بأس به» «2».

و ما رواه إسماعيل بن عبد الخالق قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن العينة ... فقال: أ ليس أنّه لو شاء لم يفعل لو شئت أنت لم تزد؟ فقلت: بلى، لو أنّه هلك فمن مالي، قال: لا بأس بهذا» «3».

و هي رواية طويلة شاهدة على أنّ المراد كون المقاولة سببا للحلية، و الإيجاب اللفظي في بيع ما ليس عنده سببا للحرمة.

و كذا ما رواه فضالة عن العلاء قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يبيع البيع فيقول أبيعه بده دوازده أو ده يازده، فقال: لا بأس إنّما هذه المراوضة، فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة» «4».

و ممّا يستدلّ به على عدم صحة المعاطاة ما ورد من النهي عن بيع «المنابذة» و «الملامسة» و بيع «الحصاة» كما أشار إليه ابن زهرة في محكي الغنية و قال: و لما ذكرنا (أي عدم انعقاد البيع بالمعاطاة) نهى صلّى اللّه عليه و آله عن بيع المنابذة و الملامسة و عن بيع الحصاة

انوار الفقاهة، ج 1، ص:

56

على التأويل الآخر، ثم قال: معنى ذلك أنّ يجعل اللمس بشي ء، و النبذ له، و إلقاء الحصاة، بيعا موجبا، انتهى.

أقول: فقد لا حظت بعض كلماتهم في معنى هذه البيوع و هي لا تخلو عن إجمال و إبهام، فإن كان النهي عن هذه البيوع لمجرّد كون الإيجاب باللمس و النبذ و إلقاء الحصاة، كان دليلا أو مؤيدا لهذا القول بلا إشكال، و لكن الذي يظهر بالتأمل فيما روى في هذا المعنى في الأحاديث و تفسيرها، أنّ النهي عنها كان للجهل و الغرر لا غير، فحينئذ لا تدل على المطلوب أصلا.

ففي سنن البيهقي عن أبي هريرة: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن بيع الغرر و عن بيع الحصاة» «1».

فإن عطفهما في كلام واحد دليل على ما ذكرنا.

و فيه أيضا عن أبي سعيد الخدري عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه نهى عن لبستين و بيعتين، نهى عن الملامسة و المنابذة في البيع، و الملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار لا يقلّبه إلّا ذلك، و المنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه و ينبذ الآخر ثوبه، و يكون ذلك بيعهما من غير نظر و لا تراض» الحديث، ثم فسّر البيتين «2».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

و بالجملة لا دلالة لهذا النهي على المنع عن بيع المعاطاة، و لا أقل من ابهامه و أنّه بسبب الغرر، و هو كاف في عدم دلالته.

و تلخص من جميع ما ذكرنا أنّ بيع المعاطاة موجب للملك، و يترتب عليه جميع أحكام النقل و الانتقال، بل يظهر ممّا ذكرنا «كونه بيعا لازما» لأنّه مقتضى جريان سيرة العقلاء، و أهل الشرع، مضافا إلى ظهور قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

في ذلك، بعد كونه عقدا، و كذلك غيره ممّا استدل به على أصالة اللزوم في المعاملات، مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله:

«الناس مسلطون على أموالهم» و أنّه «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» إلى غير ذلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 57

و دعوى الإجماع على عدم اللزوم كما ترى، لعدم الاعتداد الإجماع في أمثال المقام لو كان ثابتا، كيف و لم يثبت؟

بقي هنا شي ء: و هو أنّك قد عرفت أنّ بيع المعاطاة و إن كان أمرا شايعا، بل أشدّ شيوعا من البيع بالصيغة عند العقلاء، إلّا أنّه غير متعارف في البيع الخطيرة جدّا، فلا يتعارف بيع الدار أو الضياع و العقار بمجرّد التعاطي، بل المتعارف فيها إنشاء البيع لصيغ، أو التوقيع كتبا، أو كليهما، فالاكتفاء بالمعاطاة في أمثال ذلك لا يخلو عن إشكال بعد انصراف اطلاق الأدلة إلى ما هو المتعارف من العقود.

و بهذا يمكن الجمع بين بعض كلمات الأصحاب التي يظهر منها الخلاف، و ذكر المثال باعطاء الدرهم للبقل و شبهه لعله ناظر إلى ذلك، فتأمل.

[المقام الثالث في تنبيهات
التنبيه الأوّل: هل يعتبر في المعاطاة جميع شروط البيع؟

الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف المباني في مسألة المعاطاة.

و توضيح ذلك: أنّ المسألة لا تخلو من وجوه:

الوجه الأول: إن قلنا بأنّ المعاطاة مفيدة للملك بعد أن قصد بها ذلك و أنّ الذي يدور عليه رحى المعاملات المتعارفة غالبا هو هذا المعنى- كما هو المختار بل قد عرفت أنّها تفيد اللزوم أيضا- فلا ينبغي الكلام في كونها بيعا عرفا و شرعا و يشترط فيها جميع شرائط البيع، ما عدا الصيغة اللفظية: من عدم جهالة العوضين، و القدرة على التسليم، و غير ذلك، بل يحرم فيها الربا، و يجري فيها الخيارات كلّها، و سيأتي إن شاء اللّه أنّ

الإشكال في جريان بعضها فيه في غير محله.

هذا و قد يقال: إنّها «معاوضة مستقلة» كما حكاه السيد قدّس سرّه في الحاشية عن مفتاح انوار الفقاهة، ج 1، ص: 58

الكرامة «1» و نسبه إلى ظاهر العلماء، فلا يشترط فيها شروط البيع، و لكنه بعيد جدّا و لعله مبني على القول بالاباحة.

الوجه الثاني: إذا قلنا بأنّ المقصود من المعاطاة، التي هي مورد كلام الأصحاب، الاباحة و نتيجتها أيضا اباحة التصرفات، أو قلنا إنّ المعاطاة على نوعين، و ما يراد به الاباحة نوع منها، فحينئذ لا ينبغي الشك في عدم صدق عنوان البيع عليها، لا عرفا و لا شرعا، لما عرفت في تعريف البيع في أوّل هذه المباحث، و أنّه تمليك مال بعوض، و المفروض أنّ المعاطاة ليست كذلك، فحينئذ لا وجه للأخذ باطلاقات أدلّة الشروط، و لا الإجماعات فيها، و لا الأحكام و الآثار المترتبة على البيع، من الخيارات، و أحكام الصرف و السلم، و غيرها، و لعلها تكون معاوضة مستقلة حينئذ، و على كلّ حال المرجع عند الشك هو الأدلة الدالة على صحة هذه الاباحة المعوضة، و قد ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه أنّه لو تمسكنا فيها بالسيرة لزم الاقتصار على القدر المتيقن، فكلّ شرط شك فيه لا بدّ من اعتباره.

و أمّا إذا أخذ باطلاق أدلّة السلطنة، كان مقتضى القاعدة نفي جميع الشروط عنه إلّا ما ثبت بدليل (فلا يعتبر فيه معلومية العوضين و لا غير ذلك من أشباهه، أمّا حكم الربا و شبهه فسيأتي إن شاء اللّه).

و قد أورد عليه في «مصباح الفقاهة»:

أولا: بأنّ دليل السلطنة ضعيف السند.

ثانيا: بأنّ مفاده لا يثبت موضوعه، فإنّه يدلّ على عدم منع المالك من كلّ تصرف مشروع في أمواله،

و أمّا أنّ هذا التصرف مشروع أم لا؟ فلا دلالة عليه.

و ثالثا: إنّ السيرة إن كانت عقلائية فلا تصحّ إلّا بعد امضاء الشرع، و إن كانت سيرة المتشرعة فلا إشكال في قيامها على أصل اباحة التصرف، أمّا إذا شك في جواز بعض التصرفات كالتصرفات المتوقفة على الملك فلا بدّ أن يرجع في كلّ تصرف شك في جوازه إلى دليل صحته.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 59

أقول: الحق كما ذكرنا في محله- من القواعد الفقهية- أنّ دليل السلطنة تام لا غبار عليه، هذا أولا.

و ثانيا: فهو و إن كان لا يثبت موضوعه، إلّا أنّه إذا كان التصرفات الكذائية مباحة عند العقلاء، فلا ريب في شمول دليل السلطنة لها، و إن شئت قلت: إنّ قاعدة السلطنة كانت موجودة عند العقلاء قبل الشرع، و قد امضاها الشارع بما لها من السعة- إلّا ما خرج بدليل الخاص، فيجوز العمل بها فيما ثبت عند العقلاء.

و ثالثا: السيرة العقلائية ممضاة بسكوت الشارع (مع قطع النظر عن دليل السلطنة) و أمّا سيرة المتشرعة فقد جرت أيضا على جواز جميع التصرفات فلا حاجة إلى دليل آخر.

فتلخص من جميع ذلك أنّ للمالك اباحة ما له بما هو متعارف بين العرف و العقلاء، و من المعلوم أنّ اباحة التصرفات المتلفة و الناقلة رائجة بينهم في المعاطاة، اللّهم إلّا أنّ يقال: إنّه اذن في التملك و ليس ببعيد في بعض المقامات.

الوجه الثالث: المفروض أنّ مقصودها هو التمليك و البيع، و لكن لما كان فاقدا للصيغة حكم بفساده شرعا، ثم قام الإجماع على اباحة التصرفات، فعلى هذا «ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد» و لازم ذلك الأخذ بالقدر المتيقن، أعني ما اجتمع فيه جميع شرائط البيع،

و المعلومة منها و المشكوكة، لأنّ المفروض عدم كون الاباحة مالكية لتؤخذ بدليل السلطنة، أو بناء العقلاء و سيرتهم، بل الاباحة الشرعية ثابتة بالإجماع و هو دليل لبّي يؤخذ منه بالقدر المعلوم، و هو واضح.

أمّا حكم الربا، فهو أيضا يختلف على المباني، فان قلنا أنّ المعاطاة تفيد الملك، فلا إشكال في كونها بيعا يجري فيها الربا، و كذا إن قلنا أنّها تفيد الاباحة و لكنّها معاوضة مستقلة، بناء على جريان الربا في جميع المعاوضات كما هو المشهور، و أمّا لو قلنا أنّ المقصود هو الملك و إنّما حصلت الاباحة تعبدا، فليست بيعا و لا معاوضة، و حينئذ يشكل جريان الربا فيها، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الربا يجري فيما يفيد فائدة المعاوضة و إن لم يكن كذلك فتأمل.

أمّا الخيارات، فهل تجري في المعاطاة مطلقا، أو تجري كذلك، أو يفصل بين ما ثبت انوار الفقاهة، ج 1، ص: 60

بدليل خاص فلا يجري (مثل خيار المجلس) و ما ثبت بدليل عام يجري (مثل خيار الشرط و الغبن) وجوه، و الإنصاف هنا أيضا ابتناء الحكم على المباني السابقة ...

فإن قلنا بالملكية و اللزوم، فمن المعلوم أنّها بيع تجري فيه جميع أحكامه و منها الخيارات عموما و خصوصا.

و أمّا لو قلنا أنّها لا تفيد إلّا الاباحة، فقد يقال بصدق البيع عليها عرفا و إن قام الإجماع على عدم تأثيرها شرعا، فتكون مشمولة للعمومات، و حينئذ إن قلنا أنّ الخيار هو التسلط على الفسخ فعلا، فلا شك أنّها غير مشمولة لها، و أمّا إن قلنا أنّ ثبوت الخيار بمعنى إلغاء ما يكون بالقوة مؤثرا في النقل و الانتقال، فشمول أدلّته لها ممكن.

أقول: فيه نظر من وجوه:

أمّا أولا: فلأنّ صدق البيع عليها

عرفا مع ابطاله من ناحية الشرع و منعه منها لا يبقى لها أثر أو فائدة، و القول بشمول العمومات لها حينئذ عجيب جدّا.

و امّا ثانيا: إنّ الاباحة هنا إن كانت مالكية فهي منوطة برضا المالك، فترتفع بارتفاع رضاه من غير حاجة إلى الفسخ، و إن كانت اباحة شرعية فلا معنى لدخول الخيار فيها، اللّهم إلّا أن يقال: «الاباحة المعوضة نوع معاوضة يجري فيها الخيار فليست الاباحة لوحدها دائرة مدار رضى المالك، بل هي معاوضة تحققت بين المالكين».

و ثالثا: سلمنا أنّها بيع، أو أنّها معاوضة مستقلة، لكن الانصاف أنّ أدلة الخيار منصرفة عن عقد لا يبتني على اللزوم بحسب ذاته، و إنّما تجري فيما يكون لازما ذاتا، لا أقول: لا يعقل جريان الخيار في مثله من جهة اللغوية، حتى يجاب بظهور أثره في ما إذا حصل أحد ملزمات المعاطاة، بل أقول: إنّ ظاهر أدلة الخيارات إثبات حق الفسخ فيما ليس في طبيعته ذلك، و أمّا ما كان من طبيعته الجواز فلا تشمله و إن آل أمره أحيانا إلى اللزوم.

هذا مضافا إلى لزوم التفصيل بين الخيارات الخاصة بالبيع و غيرها، لأنّ هذه المعاوضة المستقلة لا يصدق عليها عنوان البيع على الفرض.

و أمّا إن قلنا بأنّها تفيد الملكية الجائزة، فلا إشكال في صدق البيع عليها، لذا قد يقال بشموله أدلّة الخيارات لها، و دعوى اللغوية ممنوعة لظهور أثر الخيار عند ظهور الملزمات،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 61

و لذا لا مانع من ثبوت أنواع الخيارات في عرض واحد، كخيار المجلس و الشرط و الحيوان و غيرها مع أنّ الإشكال واحد.

هذا و لكن قد عرفت أنّ انصراف أدلّة الخيارات إلى العقد المبنى على اللزوم بحسب ذاته قوي، و حينئذ قياس تعدد

الخيارات على ما نحن فيه قياس مع الفارق، لأنّ عقد البيع المبني على اللزوم يقتضي جريان أنواع المجوزات للفسخ فيه، و أمّا ما بني على الجواز بحسب طبيعته فلا تشمله أدلة الخيارات كما مر.

فحصل من جميع ما ذكرنا أنّ شمول أدلّتها للمعاطاة ممنوع مطلقا إلّا على القول بلزومها كما هو المختار.

نعم إذا حصل السبب (سبب الخيار) بعد وجود أحد الملزمات أمكن القول بشمولها لها، فتدبر جيدا.

التنبيه الثاني: هل المعاطاة مشروطة بالتعاطي من الطرفين، أم لا؟

لا إشكال في حصولها بتعاطي الثمن و المثمن من الجانبين من ناحية المالكين، إنّما الكلام في غيره، و هو على أقسام:

تارة: تكون المعاطاة نسية باعطاء المثمن فقط.

و اخرى: سلفا باعطاء الثمن فقط.

و ثالثة: بأنّ يباع كلّي حاضر كما إذا وقعت المقاولة على بيع منّ من حنطة فأعطاه ثمنه أو بالعكس.

و رابعة: بايصال الثمن و المثمن كما هو المتعارف في أيّامنا من وضع النقود في صندوق موضوع لهذا الغرض، ثم أخذ المتاع منه بواسطة أجهزة كهربائية أو في الأزمنة السابقة بوضع الفلوس عند محل السقاء إذا كان غائبا أو نائما و أخذ الماء من إنائه و أشباهه.

و خامسة: إذا وقعت المقاولة فقط أو وقعت صيغة فاقدة للشرائط على بيع حاضر مع رضى الطرفين به، من غير اعطاء و أخذ في الحال.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 62

سادسة: إذا كان واحد منهما عين عند صاحبه، كالوديعة مثلا فتقاولا ثم قصد كلّ منهما أن يكون ما عنده بازاء ما عند صاحبه، فهذه ستة أقسام، و مع قسم التعاطي من الجانبين تكون سبعة أقسام:

و السؤال هو: هل هذه كلّها من أقسام المعاطاة، أو يصحّ بعضها دون بعض؟

لا إشكال في صحة القسمين الأولين و إن لم يصدق عليهما عنوان المعاطاة، فإنّه ليس هناك دليل لفظي يدور

مدار هذه اللفظة، إنّما المهم صدق البيع عليهما عرفا و هو ثابت، فإنّ البيع نسية أو سلفا بدون الصيغة أمر شايع ذايع بينهم، من دون شك، و بهذا يدخل تحت العمومات الدالة على الصحة.

مضافا إلى أنّ نفس السيرة العقلائية من الأدلّة بعد عدم ردع الشارع عنها، و هكذا الكلام في القسم الثالث لعين ما ذكر.

و أمّا القسم الرابع فالانصاف أنّه داخل في التعاطي، غاية الأمر أنّه ليس بالمباشرة بل بنوع من التسبب، فإنّ الاعطاء لا ينحصر بما يوضع في يد الآخر، بل بما إذا وضعه في محل يكون في دائرة تصرفه، كما لو وضعه في الصندوق الخاص أو المكان المعدّ له.

و من هنا يظهر الإشكال فيما حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه كما يظهر الإشكال في ما ذكره في «مصباح الفقاهة» من الإشكال على جميع الأمثلة لهذا الأمر، حيث جعل أخذ الماء عن محل السقاء و جعل الثمن في محله من قبيل الاباحة بالعوض، لعدم معلومية مقدار ما يرتوي به، فلو كان بيعا كان غرريا.

و كذا جعل اجرة الحمامي على طاولته لعدم معلومية مقدار الماء الذي يستعمله بل و لا مقدار مكثه في الحمام، فلا يصحّ بيعا و لا اجارة.

و أمّا أخذ المتاع المعين من بعض الدكاكين و جعل ثمنه في محله، فهو من قبيل توكيل المشتري، ثم نقل عن بعض الأعلام القول بعدم صحة هذا التوكيل لعدم معلولية شخص الوكيل، ثم أجاب بأنّ المعلومية إنّما تعتبر في الوكيل الشخصي دون النوعي، كمن و كلّ علماء النجف مثلا على بيع متاعه أو ايجار داره، انتهى ملخصا.

و أنت خبير بما فيه:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 63

أمّا الأول: فلما عرفت أنّ ذلك

كلّه من قبيل البيع بالتعاطي، و لا يلزم في التعاطي الأخذ باليد، بل يكفي جعله في المحل المعدّ له، فإنّه أخذ عرفا.

و ثانيا: إنّ هذا المقدار من الجهل مغتفر قطعا، و إن شئت قلت: إنّ المقدار المتعارف لارتواء الضمآن أو الغسل أو المكث في الحمام معيّن عند العرف، و إن كان يدور بين الأقل و الأكثر، و لكن هذا المقدار من الاختلاف لا يوجب الغرر، و إلّا اشكل الأمر في جميع الاجارات أو غالبها، نعم لو خرج عن المتعارف كمن مكث في الحمام ساعات كثيرة أو اغتسل بكر من الماء أو شبه ذلك، بل و أقل منه، لم يجز قطعا بالمبلغ المتعارف، بل لا بدّ من قيمة المثل أو اجرة المثل.

و ثالثا: الوكالة لا تصحّ إلّا بالمعين، سواء كان شخصا أو عدّة أشخاص و الوكالة النوعية لا دليل على صحتها مضافا إلى كونها مخالفة لما هو المتعارف عند العقلاء، و ما ذكره من توكيل علماء النجف مع عدم معرفة عددهم و أشخاصهم، مشكل جدّا.

و أمّا الخامس: فالمقاولة بذاتها غير مفيدة ما لم يكن هناك إنشاء لفظي أو فعلي، و كلاهما مفقودان هنا على الفرض.

و أمّا إذا كانت الصيغة غير جامعة عندهم لشرائط الصحة، فإن كانت ظاهرة في الإنشاء فهي معتبرة على كلّ حال، و إن لم تكن ظاهرة، لم تكف في مقام الإنشاء، فليس هناك صيغة لفظية و لا إنشاء عملي، فيبطل البيع لعدم صدق عنوانه.

و أمّا السادس: فإن كان ابقاء العينين عندهما ظاهرا في الإنشاء الفعلي (و لو بعد المقاولة) كما هو غير بعيد، فيصدق عليه عنوان البيع و يجري عليه أحكامه، و إلّا خرجت هذه الصورة عن المعاطاة.

هذا كلّه على القول بقصد الملكية

في المعاطاة و حصول الملك عقبيه، إمّا لازما أو جائزا، أمّا على القول بافادتها الاباحة، أو مع قصد الاباحة و أنّ دليل الصحة هو الإجماع أو السيرة، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن من هذه الصور، و لا يبعد جريانه في الصور الثلاثة الاولى، أمّا غيرها فمحل تأمل.

فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنّ الملاك على المختار هو إنشاء البيع بأي قول و أي فعل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 64

كان، حتى ابقاء العين عند غير مالكه، أو جعله في المحل المعدّ له، أو شبه ذلك، و لا يدور الأمر مدار الاعطاء و الأخذ فضلا عن التعاطي من الطرفين، و اللّه العالم.

التنبيه الثالث: طريق تمييز البائع من المشتري في المعاطاة

و قد يشتبه الحال في بعض مصاديق المعاطاة و لا يعرف البائع من المشتري حتى يجري عليهما أحكامهما الخاصة التي وردت في بعض الموارد لعدم وجود لفظ صريح فيها.

توضيح ذلك: إنّ بيع المعاطاة من هذه الناحية على أقسام:

1- ما يعلم المشتري من البائع بسبب المقاولة الخاصة قبلا

2- ما يعلم فيه ذلك بسبب اعطاء المتاع أو النقود، فالذي يعطي النقد هو المشتري و المعطي للمتاع بايع.

3- ما يكون العوضان فيه كلاهما من العروض أو من النقود و لكن يقصد بأحدهما بدل النقد، فصاحبه المشتري و مقابله البائع.

4- ما لا يقصد به ذلك، أو يجعل كلاهما بدلا عن النقود و لكن أحدهما يقصد بالبيع رفع حاجته، و الثاني تنمية ماله، فقد يقال «1»: إنّ الأول هو المشتري بسبب متفاهم العرف، و الثاني هو البائع، و هو و إن كان كذلك في الغالب لكن عمومه محل نظر، لأنّ البائع لمتاعه قد يكون بحاجة إلى متاع الآخر أو إلى نقوده كما لا يخفى على من راجع العرف.

5- ما

إذا أراد كلّ منهما رفع حاجته بالمتاع، أو أراد كلّ منهما تنمية مال و لم يكن فيه شي ء آخر من علامات البائع و المشتري، فيشكل الأمر معرفتهما فقد ذكر فيه وجوه:

أحدهما: كونه بيعا و اشتراء بالنسبة إلى كلّ منهما لصدق تعريفهما عليهما، فإن البيع مبادلة مال بمال، و الاشتراء ترك شي ء و التمسك بغيره، و كلاهما صادقان عليهما جميعا، و إن لم تترتب عليه الأحكام الخاصة للبائع و المشتري لانصراف أدلّتها عنهما.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 65

ثانيها: كون المعطي أولا هو البائع، و الأخير هو المشتري.

ثالثها: كونها صلحا معاطاتيا لا بيع معاطاة.

رابعها: كونها معاوضة مستقلة.

و قد أورد على الأول السيد قدّس سرّه في الحاشية، و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة، بأنّ لازمه صدق البائع و المشتري على الطرفين جميعا في جميع البيوع و هو باطل.

و أضاف إليه السيد قدّس سرّه أنّ هذا معنى آخر للبيع و الشراء لا معناهما المعروف، لأنّ البائع هو المملّك ماله بعوض، و المشتري هو المتملك، و هما لا يجتمعان في مورد واحد «1».

هذا و لكن صرّح بعض الأكابر في كتاب البيع بعدم اعتبار كون المشتري منشأ للقبول بل القبول بالحمل الشائع لازم في البيع، و كلّ منهما موجب باعتبار و قابل اعتبار آخر، ثمّ قال:

إنّ انصراف أدلّة أحكامهما عنهما هنا أيضا محل إشكال «2».

أقول: لا شكّ أنّ الأحكام الخاصة بكلّ واحد منهما إنّما تلحقه فيما إذا كان أحدهما متّصفا بوصف البائع في مقابل الآخر، ليمتازا موضوعا و حكما، و أمّا إذا كان كلّ منهما موصوفا بهذا الوصف، فلا تلحق أحكامه الخاصة، فالنزاع في صدق العنوانين عليهما و عدمه قليل الجدوى.

أمّا الثاني: أعني كون المعطي أولا هو البائع، و هو الذي اختاره

شيخنا الأعظم قدّس سرّه، فقد أورد عليه بأنّه لا يتمّ بناء على جواز تقديم القبول على الايجاب، و لكن يمكن دفعه بأن تقديمه عليه و إن كان جائزا و لكنه مخالف للظاهر، إلّا إذا ثبت بالدليل فتأمل.

هذا و لكن يرد عليه بأنّه أخص من المدعي لإمكان التبادل معا، أو كون كلّ من العينين عند الآخر، فنويا في آن واحد تملكه بإزاء الآخر.

أمّا الثالث: فقد عرفت أن الصلح إنّما يصحّ فيما كان مظنة للخلاف و النزاع و لو بالقوة، و ليس كلّ تراض صلحا، و تمام الكلام في محله.

أمّا الرابع: فهو الذي قواه السيد السند في التعليقة و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 66

و لكنه لا يخلو من إشكال، لأنّ أثره أثر البيع عرفا و لا يعدّ عندهم شيئا غيره، و الظاهر أن عناوين المعاملات المختلفة نشأت من حاجة خاصة إليها إذا لم يوجد إليها طريق آخر.

مثلا: تارة يريد الإنسان تمليك ماله، و اخرى تمليك منافعه، و ثالثة تمليك انتفاعه، و رابعة اباحته له من غير تمليك شي ء من أصله أو منافعه، إلى غير ذلك فاخترعوا لكلّ واحد من هذه الأغراض عنوانا، و يبعد اختراع عنوان خاص يمكن تحصيل غرضه بالعناوين الموجودة الاخرى.

و بما أنّ البيع بماله من الغرض و المعنى- و هو تمليك مال بعوض عام- يشمل ما نحن فيه، فاختراع عنوان مستقل آخر يفيد فائدته بعينه يكون لغوا.

فالانصاف أنّ القول بصدق عنوان البائع و المشتري على كل منهما (و إنّ لم يترتب عليهما الأحكام الخاصة بالبايع أو المشتري لما عرفت من الانصراف) قوي في المقام.

التنبيه الرابع: أقسام المعاطاة

كان الكلام في الأمر الثاني في تقسيم المعاطاة بحسب المورد، و هنا بحسب قصد المتعاطيين، و

حاصل الكلام هنا أنّه يتصور فيها وجوه، عمدتها و جهان:

1- أن ينوي كلّ منهما تمليك ماله بازاء مال الآخر.

2- أن يقصد اباحة ماله بعوض، أي إباحة في مقابل تمليك.

و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه صورتين آخرين و أنهاهما إلى أربعة صور، و هما:

3- أن يقصدا تمليك مال في مقابل تمليك آخر، ففي الاولى المقابلة بين الملكين، و هنا المقابلة بين التمليكين.

4- أن يقصد اباحة مقابل اباحة.

هذا و يتصور هنا صور اخرى أيضا في مقام التصور و إن قلّ وقوعها خارجا مثل ما يلي:

5- أن يقصد الباذل تمليك ماله بازاء اباحة الآخر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 67

6- أنّ يقصد اباحة في مقابل تمليك لا في مقابل عوض، و إن شئت قلت: اباحة بشرط التمليك لا بشرط العوض.

و قال السيد قدّس سرّه في التعليقة: إنّ المقابلة إمّا أن تكون بين المالين على وجه الملكية أو على وجه الاباحة، و إمّا أن تكون بين الفعلين على وجه التمليك بأن يكون تمليك بازاء تمليك، و إمّا أن يكون بينهما على وجه الاباحة بأن تكون الاباحة في مقابل الاباحة، و إمّا أن يكون أحدهما مالا و الآخر فعلا ... إلى غير ذلك ممّا ذكره «1».

و لا يهمنا تكثير الأقسام بعد كون محل الحاجة و البلوى أقساما خاصة، فلنرجع إلى بيان أحكامها و نقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية.

أمّا الصورة الاولى، و هي المعمولة في المعاطاة كما عرفت، فقد يقصد فيه الإيجاب و القبول بدفع العين الاولى، و تتمّ المعاطاة به و يكون دفع العين الثانية من باب الوفاء، و اخرى يكون بدفع العينين، فيقصد بدفع الأولى الإيجاب، و بدفع الثانية القبول و لا مانع منه.

و من هنا يرد على

شيخنا الأعظم قدّس سرّه حصره هذا القسم بالصورة الاولى، أعني ما قصد بدفع العين الاولى و أخذها الإيجاب و القبول، و لم نفهم وجها لإصراره على ذلك، بل يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني قدّس سرّه فيما حكي عنه من منافاته لما ذكره سابقا: من أنّ المتيقن من المعاطاة صورة التعاطي من الجانبين، و ما أجاب عنه بعض تلامذته غير تام «2».

و على كلّ حال لا إشكال في صحة هذا النوع من المعاطاة بكلا شقيه و كونه بيعا لازما على المختار.

أمّا الصورة الثالثة (و سيأتي حكم الثانية إن شاء اللّه) فقد يقال: إنّها غير معقولة لأنّ مبادلة السلطنتين، أي التمليك بازاء التمليك، تحتاج إلى سلطنة اخرى، و هكذا يتسلسل.

و لكن يرد عليه: أنّه ليس المراد انتقال سلطنته إلى غيره في مقابلة نقل سلطنته إليه، بل المراد تمليك بشرط تمليك، أعني يملكه ماله بشرط فعل الآخر مثله، فكلّ من الفعلين انوار الفقاهة، ج 1، ص: 68

مشروط بالآخر و اين هذا من التسلسل و المحال؟!

و أمّا حكم هذا القسم فالظاهر أنّه لا يدخل في البيع، لعدم صدق تعريفه عليه بعد عدم كون المبادلة بين المالين.

و لا تعريف الهبة المعوضة عليه، لأنّ الهبة إنّما يعتبر فيها المجانية، و كونها معوضة، إمّا بحسب الداعي أو بدون الداعي و لكن الموهوب له يعوضه بشي ء بعد هبته به مجانا، كما لا يخفى على من راجع كتاب الهبة و رواياتها.

كما أنّ صدق عنوان الصلح أيضا عليه مشكل بعد ما عرفت من اختصاصه بموارد وقع فيها النزاع بالفعل أو بالقوة، فيبقى كونه عقدا جديدا و معوضة مستقلة، و قد عرفت أنّ هذا أيضا لا يخلو عن إشكال و عدم كونه متداولا بين العقلاء و

كفاية البيع عنه، و عدم الحاجة إلى تأسيس مثل هذا العقد، و أنّ العقود و عناوين المعاملات إنّما وجدت لأغراض دعت إليها لا لمجرّد اقتراح المتعاملين و قصدهم، فالحكم بالصحة هنا ما لم يرجع إلى عقد البيع مشكل.

أمّا الصورة الثانية، أعني الاباحة في مقابل العوض، و كذا الصورة الرابعة، أي الاباحة في مقابل الاباحة، فالكلام فيهما من جهات:

الاولى: في جواز الاباحة المطلقة، أعني اباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك كالعتق و البيع و الوقف و أشباهها.

الثانية: و هي مختصة بالقسم الأول، و هي الإشكال في صحة الاباحة بالعوض لتركب العقد من اباحة و تمليك.

و الثالثة: في الدليل على صحة الاباحة في مقابل الاباحة بعد عدم دخوله في العقود المعروفة

أمّا الاولى: فعمدة الإشكال فيها أنّ اباحة المالك الناشئة عن تسلطه على أمواله لا تكون مشروعة، و قضية قاعدة التسلط هي جواز كلّ فعل و تسليط مشروع بحكم العقلاء و الشرع، فلا يشمل ما هو ممنوع أو مشكوك، و منه اباحة البيع و الوقف لغير المالك، نعم لو دلّ دليل خاص في مورد على جواز بعض هذه التصرفات لغير المالك فلا محيص من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 69

الالتزام بالملكية آنا ما قبل البيع أو العتق جمعا بين الأدلّة، و كذا يجوز توكيل المالك لغيره في بيعه عن المالك و تمليك ثمنه لنفسه، أو تمليكه أولا لنفسه ثم بيعه لنفسه، و كل ذلك مفروض العدم في المقام، فلا وجه لا باحة جميع التصرفات.

أقول: هذا كلّه حق لو ثبت عدم صحة البيع إلّا لمالكه، و كذا العتق و الوقف، و لكن لقائل أن يقول بجواز بيع ملك غيره لنفسه، و لكن بأذن مالكه و كذا العتق و الوقف

باذن مالكه.

و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام: «لا بيع إلّا في ملك» إنّما ورد في مقام المنع عن بيع ما ليس عنده، أو البيع بغير اذن مالكه، و كذا العتق و الوقف فتأمل، فعلى هذا يمكن أن يقال بصحة قول القائل:

«خذ هذا الدرهم و اشتر خبزا لنفسك أو ثوبا لك» و أنّه ليس توكيلا للمأمور في تملك الثمن أو المثمن، و كذا الوقف و العتق و شبهها، و هذا أمر واقع في العرف ولدى العقلاء، و لكن مع ذلك لا يخلو عن إشكال، لا من ناحية عدم صحته عقلا نظرا إلى أنّ حقيقة البيع تبديل الاضافات، أي جعل اضافة الثمن إلى البائع بدل اضافة المثمن إلى المشتري، لإمكان منع هذا المعنى، بل العمدة فيه عدم الدليل على جواز هذه الامور، فلو قام دليل على جواز اشتراء شي ء لنفسه بمال غيره مع اجازته قلنا بصحته، و لم يناف حقيقة البيع، و لكن قد عرفت الإشكال في ثبوته في العرف و الشرع و إن كان هناك بعض الشواهد لما يتراءى في العرف من تجويز ذلك أحيانا، و لكن تفسيره بالتوكيل غير بعيد.

أمّا المقام الثاني فالانصاف أنّ الاباحة في مقابل العوض أمر رائج بين العقلاء، نعم ليست داخلة في عناوين البيع و الصلح و الهبة لما عرفت آنفا، بل هو معاوضة مستقلة متداولة و هو معمول في ما يؤتى في الفنادق و المطاعم من الأغذية، و كذا في الحمامات و شبهها، كلّها داخلة في الاباحة، و لكن لا اباحة مجانية، بل اباحة العين أو المنفعة في مقابل العوض.

إن قلت: إنّ هذا كله اباحة مع الضمان، فليس هناك معاوضة بل جواز الاتلاف مع ضمان المثل.

قلت: كثيرا ما يكون مثليا

مع عدم التزامهم بغير القيمة، و هذا دليل على المعاوضة كما لا يخفى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 70

و لكن هنا إشكال آخر من ناحية عدم العلم بالعوض في كثير من هذه الأمثلة، فتبطل من ناحية الغرر، اللّهم إلّا أن يقال حدود القيمة و العوض معلوم غالبا، و المسألة غير صافية عن الإشكال و احتمال كونها اباحة مضمونة أيضا غير بعيد.

و من هنا يظهر الكلام في المقام الثالث، فإنّ المعاوضة بين الاباحتين غير معروفة عند العقلاء، و التمسك بأدلة وجوب الوفاء بالعقود أو المؤمنون عند شروطهم مشكل إذا لم يكن العقد معروفا عندهم كما عرفت آنفا، نعم يجوز لكل منهما التصرف فيما عنده برضا مالكه، و لا ينافي ما ذكره صحة العقود المستحدثة عندهم و شمول أدلة وجوب الوفاء لها لما عرفت من عدم كونها معروفة عندهم.

التنبيه الخامس: جريان المعاطاة في سائر العقود
اشارة

هل المعاطاة جارية في غير البيع من سائر العقود كالإجارة و الهبة و الرهن و الوقف و غيرها، أو لا تجرى فيها مطلقا، أو يفصّل بين ما لا يتصور فيه العقد الجائز كالرهن، لمنافاة الجواز لكون المال وثيقة، و كالوقف لعدم معروفية الوقف الجائز، و بين غيرها؟ وجوه أو أقوال:

لم نر لقدماء الأصحاب و متأخريهم حكما عاما بجريان المعاطاة في جميع أبواب العقود، و إنّما هو قول مال إليه المعاصرون أو افتوا به.

نعم في كلام المحقق الثاني قدّس سرّه و غيره جريانها في بعض العقود غير البيع من دون التعرض للعموم.

و أمّا التفصيل الذي ذكرناه فيظهر أيضا من بعض كلمات المحقق الثاني قدّس سرّه.

و هناك تفصيل آخر يمكن أن يعدّ قولا رابعا في المسألة، و هو الفرق بين العقود التي يمكن المعاطاة فيها بالفعل، كالبيع و الهبة و الإجارة، و

بين ما لا يمكن فيها كالوصية و الضمان و ما أشبههما.

هذا و مقتضى القاعدة عند القائلين باعتبار اللفظ في صحة العقود بطلان المعاطاة في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 71

غير ما ثبت اعتبارها بالإجماع أو السيرة كالبيع، أو الإجارة و الهبة أيضا، و أمّا ما عداها مشكل.

و لكن على المختار من جواز إنشاء المعاوضات باللفظ أو بكل عمل دل عليها فالظاهر صحة المعاطاة في جميعها إلّا ما خرج بالخصوص، كما ستأتي الإشارة إليها، هذا مضافا إلى جريان السيرة في الهبة و العارية و الاجارة و في الفنادق و الخانات بل المساكن أيضا، و كذا في وقف الكتب و الفراش و السراج على المساجد و كذا في الرهن باعطائه بيد المرتهن، فان جميعها من قبيل المعاطاة، نعم قد يكون أمر الأجير بفعل و علمه بعد ذلك كالإباحة بالعوض أو استيفاء المنفعة مع الضمان إذا لم تكن مال الإجارة معلوما فيها، لما حققناه في محلة من بطلان الاجارة الغررية، و لكن وقوع هذا في بعض الموارد لا يمنع من صحة المعاطاة فيها عند اجتماع الشرائط فيها.

و بالجملة لما كانت المعاطاة موافقة للقواعد جرت في جميع أبواب العقود إلّا ما خرج بالدليل.

هذا و قد عرفت كون العقد المعاطاتي لازما، و لا يعبأ بدعوى الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة بعد ما عرفت من أن المقام ليس مقام دعوى الإجماع.

فعلى هذا لا مانع من جريانها في الرهن المبنى على اللزوم لكونه وثيقة، و في الوقف بعد عدم معروفية الوقف الجائز.

و من هنا أيضا يظهر أن تفصيل المحقق النائيني قدّس سرّه فيما حكي عنه بين ما لا يمكن إنشاؤه بغير الألفاظ مثل الضمان و الوصية و غيرها، ممّا لا وجه

له، بعد كونه من قبيل الانتفاء بانتفاء موضوعه، أضف إلى ذلك أنّ الكتابة و الإشارة في نظرهم بحكم المعاطاة، و كذا الصيغ غير المعتبرة، و هذا ممكن في الضمان و الوصية فتدبّر.

بقي هنا امور:
الأول: المعروف بين الأصحاب بل حكي الاتفاق و الإجماع على اعتبار- اللفظ في [النكاح

النكاح، بل حكي في الجواهر اتفاقهم على العربية و عدم كفاية العقد بالفارسية و غيرها، إلّا مع العجز عنها، فحينئذ لا تأتي المعاطاة فيه.

و هذا و قد يقال: بأنّ جريان المعاطاة فيه ملازم لضده، و هو الزنا، و من البين أنّه لا يمكن إنشاء شي ء من الامور الإنشائية بضده، فان المعاطاة في النكاح ليس إلّا الزنا!

أقول: الفرق بين «الزنا» و «النكاح» ليس في كون أحدهما إنشاء فعليا و الآخر قوليا، بل الفرق بينهما أن الزنا لا يقصد فيه إلّا التمتع من دون عقد الزوجية لا قولا و لا فعلا، و النكاح يقصد به التمتع من طريق الزوجية بأحكامها الخاصة سواء كانت الزوجية دائمة، أو مؤقتة، و من المعلوم أنّ الزوجيه حقيقة وراء التمتع المجرّد عن كل شي ء الموجود في الزنا.

و تظهر الثمرة فيها إذا قصد عقد النكاح و اكتفى بمجرّد الكتابة و التوقيع كما هو المتداول بين البعض، أو كان المبرز للقصد و الإنشاء أمرا وراء الإنشاء اللفظي.

فالعمدة في عدم صحة المعاطاة في النكاح هو الإجماع على اعتبار الصيغة فيه و ارتكاز المتشرعة أيضا.

هذا مضافا إلى أنّ النكاح فيه شوب من العبادة التوقيفية، كما صرّح به في الجواهر و غيره «1».

و المراد منه ليس اعتبار قصد القربة فيه، لأنّه واضح الفساد، بل المراد أنّ الأحكام التوقيفية غالبة عليه، فهو من هذه الجهة شبيه العبادات، لا سائر المعاملات، فاللازم فيه الأخذ بالمتيقن.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع لم يتصرف في سائر المعاملات الرائجة بين

العقلاء كتصرفه في أمر النكاح و شئونه المختلفة، و كذا الطلاق، فيشبهان الامور العبادية، فلا يصح هنا الرجوع إلى عرف العقلاء و سيرتهم و الأخذ به بدعوى أنّ عدم الردع امضاء له، بل اللازم الاكتفاء بالقدر المتيقن كما عرفت.

الثاني: قد يقال بعدم جريان المعاطاة في «الرهن» و «الوقف»

نظرا إلى أنّ ماهيتهما مبنية على اللزوم، فالرهن لا يكون وثيقة بدونه، و أمّا الوقف فحيث إنّه للّه، و ما كان للّه فلا يرجع فيها أبدا- كما في الحديث- فلا يتصور فيه الجواز أيضا، و حيث قد عرفت أنّ المعاطاة لا تفيد اللزوم فلا تجري فيهما.

الجواب عنه: ما عرفت آنفا من أنّ المعاطاة لازمة، و الإجماع المدعي على عدم اللزوم ممنوع جدّا، لأنّه نشأ عن شبهة حصلت للمجمعين أولا كما مرّ، و لا تطمئن النفس بكشفه عن قول المعصوم ثانيا، نعم العقود التي طبعها الجواز كالهبة المعاطاة فيها تفيد الجواز أيضا.

الثالث: قد يقال بعدم جريانها أيضا في «القرض» و شبهه

لاشتراط القبض فيها، فالقبض لا يمكن أن يكون مصداقا لإنشاء أصل العقد و لشرطه، للزوم الجمع بين «المقتضى» و «الشرط» و هما متباينان.

و يرد عليه: أنّه من باب الخلط بين الحقائق و الاعتبارات، فإنّ المقتضى و الشرط في الامور الاعتبارية يرجعان إلى الدواعي جعل المولى، و شرائط موضوعه و قيوده، فلا مانع من اجتماعهما في شي ء واحد، و لا دليل على لزوم كون القبض بعد العقد في هذه العقود، مضافا إلى إمكان القول بكون القبض إنشاء للعقد بحدوثه و تحققا للشرط ببقائه.

الرابع: الظاهر جريان المعاطاة في الايقاعات أيضا

، مثل العتق، فمن أطلق سراح عبد، و أنشأ عتقه بهذا العمل، صحّ عتقه، و كذا الوقف لو قلنا أنّه من الايقاعات، و كذا الابراء و شبهه.

قال في الجواهر بعد ذكر عنوان المسألة في العقود و الايقاعات جميعا، و الاعتراف بعدم كونها محررة في كلماتهم، و عدم ورود نص خاص فيها، ما نصه: «إنّه يمكن دعوى حصولها (السيرة) في جميع على وجه يلحقها اسم تلك المعاملة القائمة مقامها محكمها، عدا ما كان بالصيغة منها كاللزوم ... فينكشف بذلك حينئذ عدم اعتبار الصيغة في أصل الصحة» «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 74

و قال أيضا في كلام آخر له في المقام ما حاصله: إنّ القول بالزوم في غير البيع أيضا غير بعيد، لعدم قيام دليل على خلافه، إن رجع عنه في أواخر كلامه و لم يستقر على هذا الفتوى خوفا من قيام الإجماع ظاهرا على اعتبار الصيغ في صحتها أو مسمّاها «1».

و هذا و قد عرفت أنّ الخوف من هذا الإجماع لا وجه له، لعدم اشتماله على شرائط الحجية، لجريان السيرة العملية على خلافه، فالقول بالصحة بل اللزوم في الايقاعات أيضا هو الأقوى عدا ما خرج

بالدليل كالطلاق، و اللّه العالم.

التنبيه السادس: في ملزمات المعاطاة (و اصالة اللزوم في جميع المعاملات)
اشارة

قد عرفت أنّ المعروف بينهم عدم لزوم عقد المعاطاة، بل هو إمّا مفيد للإباحة أو الملكية الجائزة، و لم ينقل كونها لازمة إلّا عن ظاهر المفيد رحمه اللّه، و لكن عرفت أيضا أنّ الحق كونها لازمة كالبيع بالصيغة، و كذا في غير البيع من العقود اللازمة، و نزيدك هنا بأن الأصل في جميع المعاملات الصحيحة هو اللزوم كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه «2» و غيره.

و استدل على ذلك بوجوه ثمانية معروفة لا بدّ من ذكرها و ذكر ما عندنا فيها على سبيل الإجمال:

1- الاستصحاب

الاستصحاب الجاري بعد اجراء الفسخ المشكوك تأثيره على الفرض، و بعد رجوع المالك الأصلي، و قد وقع الكلام فيه بأنّه من قبيل الاستصحاب الكليّ أو الشخصي؟ و لو كان كليا فهل هو من قبيل القسم الأول من الكلّي، أو من القسم الثاني؟ و لو كان من قبيل القسم الثاني، فهل هو حجّة في المقام كما في سائر المقامات، أو للمقام خصوصية تسقطه عن الحجية؟ و قد تكلّم بعضهم في جميع ذلك، و أكثر فيه إكثارا يمكن الاستغناء عن كثير منه و صرف العمر فيما هو ألزم و أنفع!

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 75

و عصارة البحث فيها ما يلي:

لا ينبغي الشك في كون الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب الشخصي، لأنّ حقيقة الملك لا تتفاوت بتفاوت جواز فسخه و عدمه، و لقد اجاد شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام حيث قال: «إنّ المحسوس بالوجدان أن إنشاء الملك في الهبة اللازمة و غيرها على نهج واحد» «1» فالاختلاف بين القسمين، أعني الملك اللازم و الجائز و إنّما هو في أحكامهما، لا ما يرجع إلى ماهيتهما، فكما أنّ جعل الخيار في بعض العقود لا يجعله قسما

آخر في مقابل ما لم يجعل فيه الخيار، كذلك ما كان جائزا لفسخ بحكم الشرع من دون جعل خيار.

و بالجملة لا ينبغي الشك في كون المقام من الاستصحاب الشخصي.

و لو سلمنا أنّه من الكلي، لكنه من قبيل القسم الثاني من الكلّي الذي يدور أمر المستصحب فيه بين ما هو طويل العمر أو قصيره، كمن علم بوجود حيوان في الدار لا يدري هل عصفور أو غراب، و كمن يعلم بخروج بلل منه تردد أمره بين البول و المني، فإذا توضأ شك في بقاء الحدث و ارتفاعه فيستصحب.

و قد أورد عليه أولا: بمعارضته ببقاء علقة المالك الأول في ما نحن فيه.

و ثانيا: بعدم حجيّة القسم الثاني من الكلّي، لأنّ أمره دائر بين قصير العمر فارتفع قطعا، و طويل العمر و هو مشكوك الوجود من أول الأمر، و الأصل عدم وجوده.

و لكن يجاب عن الأول: بأنّ العلقة إن كانت بمعنى الملكية فقد زالت قطعا، و إن كانت شيئا آخر فلا نعقل له معنى، و إن كان بمعنى حكم الشارع بجوازه فهو حكم شرعي مشكوك من أول الأمر، ليس موردا للاستصحاب بل المورد له هو موضوع حكم.

و عن الثاني: بما ذكر في محله من أنّ أصالة عدم الفرد الطويل لا يثبت عدم الكلّي لأنّه من اللوازم العقلية لأمرين: انعدام الفرد القصير بعد وجوده قطعا، و عدم الفرد الطويل من أول أمره.

فالاستصحاب هنا لا غبار عليه، سواء كان شخصيا أو كليّا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 76

بل يمكن إجراء الاستصحاب على نحو آخر، و هو الاستصحاب الحكمي بأنّ يقال: إنّ هذا المال كان جائز التصرف للمشتري و ممنوعا للبائع، و بعد الرجوع و الفسخ يشك في بقاء هذا الحكم و عدمه فيستصحب،

اللّهم إلّا أن يقال بأنّه بعد الشك في بقاء موضوع الملك لا وجه لجريانه، فتأمل.

هذا و قد يورد على الاستصحاب الشخصي هنا أولا: بأنّه لا يتمّ على مبنى القائلين بعدم حجيّته في الشك في المقتضى، فإنّ الشك هنا في مقدار اقتضاء الملكية للبقاء و أنّه هل كان ملكا لازما له اقتضاء البقاء و لو بعد الرجوع و الفسخ، أو ملك جائز قصير عمره؟

لكن هذا الكلام أيضا مبني على تخيل تفاوت الملك الجائز و اللازم بحسب الماهية، مع أنّه ليس كذلك كما عرفت، بل الملك إذا حصل فانه يبقى إلى الأبد إلّا أن يرفعه رافع، فالشك هنا على كل حال في الرافع.

و ثانيا: إنّ هذا الاستصحاب محكوم لاستصحاب خيار المجلس الثابت في كل بيع.

و فيه: إنّ أصالة اللزوم لا تختص بالبيع و لا بموارد ثبوت خيار المجلس، بل هي قاعدة عامة في جميع العقود التي يشك في لزومها.

مضافا إلى أنّ خيار المجلس يرتفع بافتراق المتبايعين قطعا بصريح روايات الباب، فلو بقي الجواز بعد ذلك لبقي في ضمن حكم آخر غير حكم خيار المجلس، فلو جرى فيه الاستصحاب كان من قبل القسم الثالث من الكلي، و قد حقق في محله عدم حجيّته لعدم اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة فيه، فتأمل.

و ثالثا: و هو العمدة في هذا الباب، إنّ الاستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية- على المختار- و المقام منها فيسقط من الاعتبار، فلا يمكن الركون إليه في إثبات اللزوم في شي ء من المعاملات بالمعنى الأعم من البيع.

2- التمسك بآية الوفاء بالعقود
اشارة

و ممّا استدل به لقاعدة اللزوم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 77

و العقد بأي معنى فسّر يشمل جميع المعاملات من البيع و غيرها،

سواء قلنا أنّه «العهد» أو «العهد المشدد».

قال الراغب: العقد الجمع بين أطراف الشي ء و ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع و العهد ... و قال تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ و منه قيل لفلان عقيدة، و قيل للقلادة عقد ... و العقدة اسم لما يعقد من نكاح.

و لا يخفى على من راجع موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب العزيز أنّها غير شاملة للمعاملة الاذنية التي تتبع اذن صاحبها و تبقى ما دام الاذن موجودا.

و الأمر بالوفاء و إن كان حكما تكليفيا في بدء النظر إلّا أنّه في أمثال المقام ظاهر في الحكم الوضعي، فان وجوب الوفاء بالعقد دليل على اعتباره و لزومه وضعا، كما هو ظاهر.

نعم، قد يقال بعدم إمكان الأخذ بعمومها و إن كان الجمع المحلّى باللام ظاهرا في العموم لا سيما مع كونه في مقام البيان و الاطلاق، و ذلك للزوم تخصيص الأكثر بعد خروج المعاملات الجائزة، و هي كثيرة، و خروج البيع و شبهه بأنواع الخيارات.

و لكن الانصاف عدم وجود مانع من هذه الناحية، فان العقد الذي هو متحد مفهوما مع العهد بل المعاهدة، لا تشمل العقود الجائزة الاذنية إلّا مجازا، و إن شئت قلت: مفهومه التزام في مقابل التزام، و هذا المعنى غير موجود في مثل الهبة و العارية و الوديعة و شبهها، فهي خارجة عن الآية رأسا، و أمّا اشتمال البيع و شبهه على كثير من الخيارات، فهي و إن كانت كذلك، و لكن زمان تزلزل البيع بالخيار في مقابل زمان لزومه قصير جدّا، فأكثر البيوع في أكثر الأوقات لازمة، و إنّما الجواز يقع في فترات يسيرة كما لا يخفى.

بقي هنا شي ء:

و حاصله أنّ الأمر

بوجوب الوفاء بالعقود مسلّم، و لكن بعد الفسخ يكون من قبيل الشبهة المصداقية، للشك في بقاء العقد، و فيه: أنّه ناش عن عدم تحقيق معنى الوفاء، فان الظاهر من الأمر بالوفاء هو الأمر المولوي الذي لازمه الحكم الوضعي بلزوم العقد، و هذا الأمر بنفسه ينفى أثر الفسخ، فان إرجاع العين و تجديد النظر في العقد مناف للوفاء، فلا يجوز استرجاع العين بهذا الفسخ.

3 و 4- التمسك بآية حرمة أكل المال بالباطل:

و قد دلّ الكتاب العزيز على حرمة أكل المال بالباطل إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «1»، فالفسخ عند الشك في صحته يقع مصداقا لحرمة أكل المال بالباطل، كما أنّه مصداق لعدم كون التجارة عن تراض.

فقال تعالى شانه: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ «2».

و قد استدل بصدر الآية على المطلوب تارة و بذيلها اخرى.

امّا الأول: فلأن أخذ أموال الناس بغير رضاهم بعد الانتقال إليهم بعقد من العقود هو أكل للمال بالباطل، فهو منهي عنه، فما لم يثبت حق الرجوع شرعا كان الفسخ باطلا، فهو نظير ما ورد في الآية 188 من سورة البقرة: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ الخ، و مثل ذم اليهود في قوله تعالى: وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ «3».

و أمّا الثاني: فلأن ذيلها يدل على اعتبار كون التجارة عن تراض في جواز الأكل، و من الواضح أنّ الفسخ و الرجوع من جانب واحد ليس تجارة عن تراض بينهما.

و قد أورد على الوجه الأول بما يسقط الاستدلال بالوجه الثاني أيضا، و حاصله: أنّ الآية بصدد المنع عن الباطل الواقعي، لا الباطل العرفي، فإذا شك في شي ء أنّه باطل واقعا و

عند اللّه أم لا؟ لم يجز التمسك بعموم الآية، لأنّه من قبيل التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية «4».

أقول: و هو عجيب، لأنّ الأصحاب لا يزالون يحملون الالفاظ الواردة في أبواب المعاملات على مفاهيمها العرفية، و لو لا ذلك لم يجز الاستدلال بالعمومات الواردة فيها مطلقا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 79

أضف إلى ذلك أنّه لو كان المراد منه الباطل الواقعي، كانت الآية قليل الفائدة جدّا في ذاتها، لعدم طريق إليه إلّا بدليل آخر يغني عنها.

و بالجملة المراد بالآية النهي عن أكل المال بكل ما يعد باطلا عرفا، كالغصب و الرشاء و التطفيف و غيرها، و من المعلوم أنّه إذا باع شيئا ببيع المعاطاة، ثم أراد استرجاعه بغير رضا المشتري كان أكلا بالباطل عرفا، و لم يكن مصداقا للتجارة عن تراض، و بالجملة كل ذلك امضاء لما عند العقلاء من الأحكام.

و العمدة في الاستدلال بالآية و غيرها من أشباهها كون الفسخ في المقام مردودا عند العقلاء و باطلا عندهم، فلا يلزم التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.

هذا و لكن يرد على الاستدلال بها أمران آخران:

أحدهما: أنّه يختص بباب الأموال و لا يشمل العقود جميعا، فلا تثبت أصالة اللزوم كقاعدة كلية في جميع أبوابها، نعم يفيد في المقام أعني المعاطاة.

ثانيهما: إنّ حصر سبب الحلية في «التجارة عن تراض» موجب لتخصيص الأكثر لتكثر أسبابها من الاباحة و الإرث و الهدية و الوصية و الجعالة و غيرها من أشباهها و هذا كاشف عن كون الحصر إضافيا، فحينئذ يشكل الاستدلال بذيلها و يكون الذيل من قبيل ذكر مصداق لما ليس بالباطل المذكور في صدرها.

5- التمسك بآية حلية البيع:

و استدل للقاعدة أيضا بقوله تعالى: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «1».

و صدر الآية يدلّ على أن

قيام المرابين في الحشر كقيام المصروع و من مسّه الشيطان بالجنون، لا يقدرون على المشي و يتخبطون فيه، كما أن قيامهم في الدنيا أيضا كذلك، فلهم جنون جمع الثروات من أي طريق، و لو بظلم أحوج الناس و افقرهم، و ما هناك تجسم لما هنا.

ثم تقول الآية: إنّ عذابهم هذا ناش عن قولهم «إنّما البيع مثل الربا» زعما منهم أنّ كليهما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 80

تجارة عن تراض من الطرفين، فما الفرق بين معاملة و معاملة؟ ثم يجيب القرآن عنه بأنّه أي فرق أوضح من أن اللّه «أحل البيع» و «حرم الربا» و فعل اللّه مشحون بالحكم و المصالح العالية.

و هذه المصالح أيضا لا تخفى على الخبير إجمالا، فالانسان العاقل إذا نظر بعين البصيرة يرى الفرق العظيم بينهما، فالبيع فيه نفع للبائع و المشتري في الغالب، بينما الربا فيه ضرر على المدين و نفع للدائن دائما، و يترتب عليه استثمار الناس، و حلول الأزمات الاقتصادية، و تكريس العداوة و البغضاء، و ترك اصطناع الناس المعروف «و هو القرض الحسن» كما ورد في الحديث، و مفاسد عظيمة اخرى لا تخفى.

هذا و معنى الحلية هنا إمّا الحلية التكليفية بالنسبة إلى ما يستفاد من البيع من الأموال، أو الحلية الوضعية التي من آثارها الحلية التكليفية.

و الثاني أظهر، و الاستدلال بالآية لأصالة اللزوم في البيوع على الثاني ظاهر لا غبار عليه، لأنّ هذه الحلية بمعنى نفوذ أمر البيع و امضائه على ما عند العقلاء، و قد عرفت أنّ بنائهم على اللزوم حتى في المعاطاة، فلا يجيزون انفراد أحد الطرفين بالفسخ، و قول الشارع «أحل اللّه البيع» امضاء له.

و الإشكال عليه: بأنّه من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، قد عرفت

الجواب عنه، و أنّ نفس إمضاء البيع بما عندهم من الأحكام ينفى احتمال تأثير الفسخ.

هذا و الذي يوجب الإشكال في الاستدلال بها أمر آخر، و هو أن الآية ليست في مقام البيان من ناحية حلية البيع مطلقا، بل في مقام بيان الفرق بين البيع و الربا إجمالا، و هذا كقول القائل: إنّ ذبيحة المسلم حلال و ذبيحة الكافر حرام، في جواب من يسأل عنهما، و من الواضح أنّه لا اطلاق فيه من سائر الجهات، فلو شككنا في اعتبار الاستقبال أو البسملة في الذبيحة فلا يمكن نفيهما عنها بهذا الاطلاق.

6- حديث التسلط:

و استدل له أيضا بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «الناس مسلطون على أموالهم».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 81

و تقريب الاستدلال به بحيث يندفع عنه الإشكال: إنّ مقتضى تسلط الناس على أموالهم أن أمرها بيدهم، فلا يجوز للغير التصرف بها بدون رضاهم، فرجوع المالك الأصلي بعد انتقاله عنه و قطع تسلطه، ممنوع، و تفرده بالفسخ غير مجاز، فلا تصل النوبة إلى الشبهة المصداقية كما هو ظاهر لا ريب فيه.

و قد أورد عليه: تارة بضعف السند، و اخرى بضعف الدلالة نظرا إلى أنّ مفاد الحديث استقلال المالك بالتصرفات المشروعة و عدم كونه محجورا عنها، فلا دلالة له على امضاء جميع تصرفاته، كما أنّه لا دلالة له على استمرار السلطنة الفعلية للمالك و بقائها حتى بعد رجوع المالك الأول في مورد المعاطاة «1».

أقول: أمّا الأول فلا ريب في انجباره بالشهرة، مضافا إلى ورود روايات كثيرة مشتملة على هذا المضمون و لو لم يكن بلفظ التسلط (فراجع القواعد الفقهية قاعدة التسلط ج 2 و تأمل فيها فانه حقيق به).

و أمّا الثاني: فلما عرفت غيره مرّة من أنّ إمضاء التصرفات المشروعة

عند العقلاء كاف فيما نحن بصدده، لأنّ منها عدم جواز تفرد أحد الطرفين بالفسخ، و أمّا استمرار تلك السلطنة فهو مقتضى الاطلاق، و أمّا عدم تأثير الرجوع فلما عرفت من منافاة التأثير لتسلط الناس على أموالهم، فالحديث من أوضح ما يدل على المقصود.

7- التمسك بلزوم الوفاء بالشروط

و ممّا استدل به على القاعدة، الرواية المشهورة عنه صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم»، و قد رواه في الوسائل بطرق مختلفة عن عبد اللّه بن سنان «2» تارة و عن اسحاق بن عمار «3»

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 82

اخرى، بعضها صحيحة، و إن كان بعضها الآخر محلا للكلام.

هذا مضافا إلى أنّه ورد في بعضها «المسلمون» بدل «المؤمنون» و الأمر فيه سهل، ففي رواية منصور بزرج «المؤمنون عند شروطهم» «1».

هذا مضافا إلى اشتهار سند الرواية اشتهارا تامّا يغنينا عن البحث في سندها.

و أمّا دلالتها فيتوقف على فهم معنى «الشرط»، فإن قلنا أنّه بحسب اللغة بمعنى مطلق الالتزام اللفظي و العملي، الابتدائي و في ضمن العقد، كان كل عقد داخلا فيه، سواء البيع المعاطاتي أو الصلح المعاطاتي أو غير ذلك إلّا ما خرج بالدليل.

و أمّا إن قلنا: إنّ الشرط هو الالتزام التابع لالتزام آخر (كما عن القاموس: إنّ الشرط هو الالتزام في بيع، و نحوه ما يظهر من غير واحد من كتب اللغة، بل يظهر ذلك من موارد استعماله في الأخبار و كلمات العرف أيضا) فحينئذ يشكل الاستدلال بها على غير ما وقع ضمن العقد، و لا يشمل نفس الالتزامات العقدية، و لا أقل من الشك في ذلك فيسقط الاستدلال بها.

اللّهم إلّا أن يقال: إذا كان الشرط الذي هو أمر تبعي لازم المراعاة، فأصل المعاملة كذلك بطريق أولى.

نعم، قد يورد عليه بايراد

آخر و إن كان غير وارد عليه ظاهرا، و هو أنّه لا يستفاد منه إلّا الالتزام التكليفي و لا يراد منه الالتزام الوضعي، و على هذا فشأن الرواية شأن قولنا «المؤمن عند عدته» «2».

أقول: لا ينبغي الشك في أنّه يستفاد من هذه التكاليف في أبواب المعاملات ثبوت الحق، و ثبوت الحق دليل على الحكم الوضعي، و أمّا التكليف المجرّد عن الحق ففي، هذه الأبواب غير مأنوس، فلو حكم الشارع بوجوب الوفاء بالعقد، أو وجوب ردّ الثمن أو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 83

شبهه، دلّ على ثبوت حكم وضعي، فان طبيعة المعاملات قائمة على ذلك، و ليست من قبيل سائر الأفعال، فتدبّر جيدا.

8- الاستدلال بعدم حل مال الغير إلّا برضاه
اشارة

و قد يستدل له أيضا بقوله (عجل اللّه تعالى له الفرج): «لا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه» الوارد في التوقيع المعروف الذي وصل إلى الشيخ محمد بن عثمان العمري رضى اللّه عنه، وكيل الناحية المقدسة، فيما رواه الصدوق قدّس سرّه في اكمال الدين باسناده عنه «1».

و نفي الحلية هنا إنّما هو عن التصرف في الأموال بدون الاذن، و لكن في رواية «زيد الشحام» و «سماعة» عن الصادق عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث حجة الوداع: «أنّه لا يحل دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيب نفسه» «2».

و نفي الحلية هنا عن نفس المال و الدم لا عن خصوص التصرف فيهما.

و مثله ما رواه محمد بن زيد الطبري ممّا كتبه مولانا أبو الحسن الرضا عليه السّلام في جواب رجل من تجار فارس يسأله الاذن في الخمس، و فيه: «لا يحل مال إلّا من وجه أحله اللّه» «3».

و قريب من هذه الروايات، روايات مرسلة عن غوالي

اللئالي و تحف العقول و بعض اسناد هذه الأحاديث مثل الرواية الثانية معتبرة مضافا إلى تظافرها، و شهرتها رواية و فتوى.

و أمّا وجه الاستدلال بها: فهو أنّ أصل الحل في اللغة هو حل العقدة، قال الراغب في «المفردات»: أصل الحل حل العقدة ... و حللت نزلت، أصله من حل الاحمال عند النزول (بالمكان) ثم جرد استعماله للنزول ... عن حل العقدة استعير قولهم «حل الشي ء حلا».

و قال ابن فارس في «مقاييس اللغة»: «أصلها كلها عندي فتح الشي ء لا يشذ عنه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 84

شي ء» ثم ارجع جميع معانيه من حل العقدة و الحلول بالمكان و الإحليل و المحلة و تحله اليمين و الحل مقابل الحرم و الحل بمعنى الحلال، إليه.

هذا و «الحلية» في مقابل «الحرمة» في الأحكام قد تستعمل في الحكم الوضعي، مثل أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، و قد تستعمل في الحكم التكليفي مثل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ و اخرى في كليهما مثل أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا على احتمال آخر.

و من المعلوم و لو بقرينة ما ورد في الأحاديث السابقة أنّ المراد منها هنا الأعم من الوضع و التكليف، فان من يسأل الإمام عليه السّلام أن يجعله في حل من الخمس لا يريد الحلية التكليفية فقط، بل يريد افراغ ذمته و أن يعامل مع الخمس معاملة سائر أمواله (و هكذا غيره).

و ما قد يظهر من بعض، أنّه فرق بين قوله: «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره» و بين قوله: «لا يحل مال امرئ إلّا بطيب نفسه» فان الأول معلق على التصرف، و الثاني على المال، فالأول ناظر إلى الحكم التكليفي دون الثاني، تفصيل غير صحيح، فان التصرف أيضا له معنى عام

يشمل التصرفات الناقلة و غيرها فيشمل الوضع و التكليف.

و قد أورد على الاستدلال بها بأمور:

أولا: إنّ التمسك بها من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، لأنّه بعد الفسخ يشك في تأثيره فيشك في كون المال من مالكه.

و قد عرفت غير مرّة أن الحديث أو أشباهه بنفسه يمنع عن تأثير الفسخ إلّا برضا صاحبه، فان الفسخ بنفسه تصرف في مال غيره، فلا يحل و لا يجوز إلّا برضاه.

ثانيا: إنّ الحلية تشمل الوضع و التكليف، لكن في كل مورد بحسبه و بمناسبة متعلقاته، ففي المقام، المناسب لحلية المال هو حلية التصرفات الواقعة فيه من الأكل و الشرب، كما أنّ المراد من حلية المأكولات حلية استعمالها كذلك، فالرواية أجنبية عن ما نحن فيه.

و أنت خبير بأنّ ما ذكره لا شاهد عليه، لأنّ المناسب للمال أنواع التصرفات الناقلة و شبهها، فكيف لا تشمل الوضع و التكليف كليهما؟ مضافا إلى ما عرفت من محل ورود الحديث فراجع.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 85

ثالثا: و قد يقال: إنّ الجمع بين الحكم التكليفي و الوضعي لا يجوز في استعمال واحد، ففي المقام إمّا يراد الوضعي فقط، أو التكليفي، و حيث لا يجوز إخراج التكليفي منه، فلا دلالة له على الحكم الوضعي.

و فيه: أولا: أنّه قد حقّقنا في محله جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

و ثانيا: إنّ المعنيين يعودان إلى جامع، فالاشتراك هنا معنوي لا لفظي، فان الحل- كما عرفت آنفا- في الأصل هو حل العقدة و جواز المضي في الأمر، و لا فرق فيه بين الجواز الوضعي و التكليفي.

و إن شئت قلت: إنّ هذه الرواية امضاء لما عند العقلاء من عدم تجويزهم للتصرفات بغير رضا المالك إلّا في موارد ثبت من قوانينهم جوازها، و من الواضح أنّه لا

فرق عندهم بين التصرفات الوضعية و التكليفية هنا.

9- رواية «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»

و من أقوى ما يدل على أصالة اللزوم (في خصوص البيع دون غيره من المعاملات) الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب خيار المجلس (بل و خيار الحيوان أيضا) و هي روايات كثيرة متضافرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عن علي عليه السّلام و عن الصادق عليه السّلام و عن الامام على بن موسى الرضا عليه السّلام، حتى أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر في بعض كلماته أنّها متواترة، و إن ذكر في غيره أنّها مستفيضة «1».

و قد رواها الجمهور أيضا في صحاحهم المعتبرة عندهم بطرق شتى، و قد عقد له «ابن ماجه» في سننه بابا، روى فيه عدّة روايات «2».

و من هنا لا يبعد دعوى التواتر فيها بملاحظة مجموع ما رواه الخاصة و العامة. و أمّا دلالتها فظاهرة، لأنّ صدق البيع على المعاطاة بناء على القول بالملكية (كما هو الأقوى) واضح، فبعد انقضاء المجلس يجب البيع و لا يجوز فسخه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 86

و من محاسن هذا الدليل أنّه لا يجري فيه إشكال التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية فان الحكم هنا ثابت بعنوان البيّعان، و هذا المعنى ثابت لهما لا يزول، فانه بمعنى أحداث البيع بلا إشكال.

و لكن قد يورد عليه: بأنّ المراد منها الحكم باللزوم من ناحية خيار المجلس بعد افتراقهما، فهي ناظرة إلى خيار المجلس إثباتا و نفيا، و لا دلالة لها على لزوم البيع من سائر النواحي.

و هذا الإشكال ممنوع جدّا بعد اطلاق الأحاديث و عدم وجود أي قرينة فيها على اختصاصها بهذا الخيار، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ عدم ذكر سائر الخيارات فيها من العيب و الشرط و الغبن

و ... قرينة عليه.

و فيه: إنّ كل عام و مطلق قابل للتخصيص و التقييد، فلما ذا لا تسقط سائر العمومات و المطلقات عن العموم و الاطلاق في سائر المقامات بورود ذلك عليه؟

و بالجملة هذا الإيراد ممّا لا نجد له وجها، نعم الإشكال الوحيد عليها أنّها أخص من المدعى لو كان المدعى هو أصالة اللزوم كقاعدة كلية، و لو كان الكلام مقصورا على البيع تمّت دلالتها و قامت حجتها و لا غبار عليها.

10- بناء العقلاء على اللزوم:

لا ينبغي الشك في أنّ بناء العقود عندهم على اللزوم، فالبيع و النكاح و الإجارة و غيرها من أشباهها لازمة لا تفسخ إلّا بدليل قائم على حق الفسخ، فالخيارات عندهم استثناءات في هذه القاعدة الثابتة اللازمة عندهم.

بل يمكن أن يقال: إنّ ذلك مأخوذ في طبيعة العقد و ماهيته، فلو لم يكن العقد لازم المراعاة لم يكن بمثابة العهد الذي يعتمدون عليه، فالعهود و العقود كلها تعهدات في مقابل تعهدات تلزم الطرفين بمراعاتها، و عدم التعدي عن طورها، فلو كان لكل واحد منهما رفضها و تركها متى ما أراد، و جاز الخروج عن مقتضى وظيفتها، لم تفد أي فائدة، بل لم تكن معاهدة في الحقيقة، نعم لكل منهما اشتراط الخيار كاستثناء في لزوم العقد إلى مدّة معلومة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 87

و لا يقاس ذلك بالعقود الاذنية كالوكالة و العارية و الهبة و الوديعة و الأمانة و ما أشبهها، فان لها ماهية وراء البيع و شبهه، فهي اعطاء من أحد الجانبين مع الاحتفاظ بحق المنع كلما أراد منعه، لا اعطاء شي ء في مقابل شي ء يتعهد الطرفان بمراعاته، و الحاصل: أنّ بناء العقلاء و الشرع على اللزوم في المعاملات ناشئ في الحقيقة عن طبيعتها و هويتها

لا أنّ اللزوم حكم ثبت لها من الخارج، فتدبّر فانه حقيق به.

فتحصل من جميع ما ذكرنا امور:

الأول: إنّ الأصل في جميع العقود و المعاهدات، اللزوم من دون تفاوت بين البيع و غيره.

الثاني: إنّ الأدلة التي أقاموها على هذا الأصل بعضها ضعيفة، و لكن في الباقي من الآيات و الروايات الكثيرة غني و كفاية، بل قد عرفت أن ذلك مقتضى طبيعة العقد بحسب اعتبار العقلاء و الشرع الذي هو رئيسهم.

الثالث: إنّ مقتضى بعضها أصالة اللزوم في جميع المعاملات و العقود، و لكن مقتضى بعضها اللزوم في خصوص البيع.

الرابع: إنّ أكثرها يجري على القول بالملكية في المعاطاة، نعم بعضها مثل «المؤمنون عند شروطهم» يجري في الاباحة المعوضة أيضا.

و أمّا إن كانت الاباحة بحكم الإجماع لم يجر فيها إلّا الاستصحاب الذي عرفت حاله.

عود إلى ملزمات المعاطاة:

إذا عرفت أنّ الأصل في المعاملات هو اللزوم، و أنّ الجواز فيها أمر عارض، فلو قلنا أنّ المعاطاة عقد لازم- كما هو المختار- فلا كلام، و إن قلنا أنّها عقد جائز فينبغي الكلام فيما يوجب لزومها، و إن كان هذا المعنى قليل الفائدة بعد اختيار اللزوم كما عرفت، و لكن مع مراعاة جانب الاختصار نقول و منه جل ثناؤه نستمد التوفيق:

إنّ عمدة ما يتعرض له في هذا الباب امور:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 88

1- تلف العينين.

2- تلف أحدهما.

3- نقل العينين أو أحدهما بعقد لازم.

4- امتزاجهما بغيرهما من أموال البائع و المشتري امتزاجا يمنع إمكانية الرجوع، أو امتزاج أحدهما كذلك.

5- التصرف المغير للصورة كطحن الحنطة و قصّ الثوب- كل ذلك على مبني الملكية الجائزة أو الاباحة- و الأصل في جميع ذلك أنّ الدليل الدال على عدم اللزوم على القول بالملكية في المعاطاة أو الاباحة ما هو؟ و

ما مقدار دلالته؟

فان قلنا بأنّ الإجماع انعقد على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة، فإذا لم يكن هناك عقد لفظي كان عقدا جائزا، فاللازم إجراء جميع أحكام العقد الجائز عليه، و أمّا إن قلنا بأنّ الإجماع- أو القدر المتيقن منه- دلّ على جواز الرجوع في العينين في المعاطاة، فكلّما أمكن الرجوع قلنا بجوازه، و إذا لم يمكن، إمّا من ناحية انعدام العينين أو أحدهما أو نقل أحدهما بناقل لازم أو غير ذلك، كان مقتضى اطلاق أدلة اللزوم لزومها، خرج صورة إمكان التراد و بقي الباقي تحتها.

و لكن هذا إنّما يتمّ بناء على القول بأنّ لها عموما أو اطلاقا بحسب الأزمان، و إلّا كان المقام مقام إجراء استصحاب حكم المخصص (بناء على جواز إجرائه في الشبهات الحكمية) و بما أنّ المعروف ثبوت العموم الزماني لها لم يكن هناك مانع.

أضف إلى ذلك أنّه لا يبعد دعوى قيام الإجماع أو السيرة القاطعة على عدم الرجوع في المعاطاة بعد تلف العينين أو أحدهما، أو النقل بناقل لازم، و ألّا وقع التشاجر الدائم بين الناس، و لو كان ذلك لبان و لم يخف على أحد، و هذا أمر ظاهر لا غبار عليه.

و هكذا حكم الامتزاج، و الحكم بالشركة كما احتمله بعض بعيد جدّا، فإنه مخالف للسيرة المستمرة و ارتكاز العقلاء و اطلاقات أدلة اللزوم.

و كذا إذا تصرف فيه تصرفا مغيرا للصورة، و التمسك باستصحاب جواز التراد مشكل، لا لتبدل الموضوع فقط بل لما عرفت في سابقه من الأدلة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 89

هذا كلّه على القول بالملكية، و أمّا على القول بالاباحة فان قلنا إنّ الاباحة اباحة معوضة مالكية فلا يبعد لزومها، لأدلة اللزوم و اطلاقاته فتأمل، و القدر المتيقن الخارج منه

صورة إمكان التراد، و أمّا غيره فلا دليل عليه.

بل يمكن القول بالملكية آنا ما عند التصرفات الناقلة و شبهها، و كون التلف في موارد التلف من مال مالكه الأصلي لأنّه كان باذنه، فلا معنى للتراد.

و إن قلنا بأنّها اباحة شرعية ثبتت بحكم الشارع المقدس، كان العينان باقيين على ملك مالكهما و لا تجري فيه أصالة اللزوم، و جاز رجوع المالك متى ما أراد، إلّا إذا تصرف فيه تصرفا موجبا للتلف، أو موجبا للنقل، فان القول بالملكية آنا ما ممّا لا محيص عنه.

و هذا تمام الكلام في أنواع هذه التصرفات و لا نحتاج إلى التفصيل في كل واحد مستقلا كما وقع من بعضهم بعد اشتراك الملاك، و الموضوع، و الأدلة.

التنبيه السابع: جريان أحكام الخيار في المعاطاة

قد مضى شطر من الكلام في جريان أحكام الخيار في المعاطاة عند الكلام في التنبيه الأول في جريان شرائط البيع و أحكامه عليها مطلقا، أو يفصل في ذلك، و لكن ينبغي هنا تكميل هذا ببيان آخر، و حاصل الكلام فيه أنّ المباني في المعاطاة مختلفة كما أنّ الخيارات أيضا مختلفة.

فإمّا أن نقول في المعاطاة بالملكية اللازمة، أو الملكية الجائزة، أو الاباحة المعوضة اللازمة، أو الجائزة (سواء كانت من ناحية المالك أو بالاباحة الشرعية).

و الخيارات أيضا إمّا تدور مدار عنوان البيع، كخيار المجلس و الحيوان، أو هي عامة تشمل المعاوضات كلّها، مثل خيار الشرط، أو التخلف عن الشرط، أو خيار الغبن بل العيب في وجه، فان دليلها عموم «المؤمنون عند شروطهم» بل الغبن أيضا يرجع إلى شرط ضمني، و هو مساواة العوضين إجمالا، و كذا العيب، أو دليل لا ضرر أو شبه ذلك، و هي تشمل المعاوضات كلّها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 90

إذا عرفت ذلك فاعلم:

إنّه إذا قلنا

بأنّ المعاطاة عقد لازم، صدق عليه عنوان البيع بلا إشكال، و جرى فيها جميع أحكامه، و منها الخيارات العامة و الخاصة.

و أمّا إذا قلنا: بأنّها تقتضي الملك الجائز، فعنوان البيع و إن شملها أيضا إلّا أنّ الكلام في ظهور أدلة الخيارات، فان قوله في روايات متعددة «و إذا افترقا وجب البيع» ظاهر في البيع المبني على اللزوم بحيث إذا انقضى زمن خيار المجلس كان لازما.

و ما قد يقال من أنّ اللزوم هنا إضافي بالنسبة إلى خصوص خيار المجلس، و لذا لا ينافي وجود خيار الحيوان و الشرط و غيرهما.

مدفوع: بأنّ الظاهر بناء طبيعة البيع على اللزوم، و أنّ خيار المجلس كالاستثناء فيه، و وجود استثناء آخر لا ينافي ما ذكره، فظهور أدلة الخيارات كلّها في جريانها في بيع مبني على اللزوم بحسب طبيعته، ممّا لا ينكر، و لا نقول بالاستحالة أو اللغوية حتى يقال بظهور أثره عند وجود الملزمات، بل نقول بانصراف ظواهر هذه الأدلة إلى ما ذكر.

نعم إذا صارت المعاطاة لازمة بأحد الملزمات، كما إذا تلف الثمن في الثلاثة في خيار الحيوان، أو ظهر الغبن بعد تلف أحد العينين بناء على كون ظهور الغبن سببا للخيار، فحينئذ لا يبعد القول بشمول الاطلاقات له.

و إن قلنا بأنّ مقتضاها هو الاباحة المعوضة اللازمة و لم نستوحش من القول بوجود مثل هذه الاباحة، جرى فيها الخيارات العامة غير المختصة بعنوان البيع كما لا يخفى، و لا يجري فيها مثل خيار المجلس و الحيوان، و أمّا إن قلنا بأنّ الاباحة هنا اباحة جائزة (شرعية أم مالكية) لم يجر فيها شي ء من الخيارات.

نعم لو آل أمر المعاطاة إلى اللزوم بأحد الملزمات الخمس، أمكن القول بجريان بعض الخيارات أو جميعها

على بعض المباني فيها.

التنبيه الثامن: هل البيع الفاسد بحكم المعاطاة؟
اشارة

الحق، كما يأتي إن شاء اللّه، أنّ البيع بالصيغة لا يعتبر فيه أزيد من الصيغ الظاهرة في أداء

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 91

المقصود و إنشاء البيع، و جميع ما ذكر فيه من الشرائط الزائدة على هذه ممّا لا دليل عليه، نعم لا يجوز بالكنايات و المجازات التي لا ظهور لها ظهورا عرفيا.

و أمّا لو قلنا باشتراط شرائط فيها مضافا إلى ما ذكر، أو أجرى العقد بما لا صراحة و لا ظهور لها من الصيغ، فآل أمر البيع إلى الفساد، ثم وقع التعاطي بعده أو لم يقع فهل هو بحكم بيع المعاطاة أو لا؟

فيه أقوال:

1- أنّه بحكم المعاطاة مطلقا كما يظهر من غير واحد منهم.

2- أنّه بيع فاسد لا أثر له مطلقا كما يحكى عن بعض آخر.

3- التفصيل بين ما إذا استمر الرضا و وقع التقابض مع هذا الرضا فتصحّ المعاطاة و تجري عليه أحكامها، و بين ما إذا لم يحصل ذلك فيكون بيعا فاسدا، و ذكر شيخنا الأعظم رحمه اللّه بعد كلام طويل له أنّ للمسألة صورا أربعة، و حاصل ما ذكره أنّ التقابض بعد العقد يقع على أنحاء:

الأول: أن يقع بغير رضى منهما بل بالقهر بعنوان الوفاء بالعقد السابق الفاسد.

الثاني: أن يقع باختيارهما زعما منهما لزوم العقد بحيث لو علما فساده لم يقدما عليه أو أقدما تشريعا لصحته.

الثالث: أن يقع بعنوان إنشاء جديد بعد الاعراض عن العقد السابق أو نسيانه بالمرة.

الرابع: أن يقع لا بعنوان إنشاء جديد؛ بل برضى منهما الحاصل من استمرار الرضا السابق، و بعبارة اخرى: كان كلّ منهما راضيا بتصرف الآخر فيما انتقل إليه بعد العلم بفساد العقد، بل و مع عدم العلم بالفساد و لكن كانا بحيث لو علما به كان

الرضا منهما موجودا، و هذا هو الرضا التقديري.

ثم حكم بفساد الأولين و حرمة التصرف في المقبوض فيهما لعدم صحتهما على المفروض و عدم أولهما إلى المعاطاة، كما حكم بصحة الصورة الثالثة بلا إشكال لأنّه عقد جديد معاطاتي، لكن بنى صحة الرابعة على أمرين:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 92

«أحدهما»: كفاية الرضا التقديري الحاصل في بعض شقوقه، و لم يستبعده لصدق طيب النفس عليه.

«ثانيهما»: عدم اشتراط الإنشاء في المعاطاة، لا إنشاء الاباحة و لا التمليك، بل يكفي فيها مجرّد الرضا مع وصول كلّ من العوضين إلى الآخر.

و لكن أشكل عليه على القول بالملكية في المعاطاة و لم يستبعده على القول بالاباحة.

أقول: الانصاف أنّ ما ذكره في الصور الثلاث الاولى حق لا ريب فيها، و أمّا الصوره الأخيرة فالرضا التقديري فيها بحكم الرضا الفعلي بلا إشكال، و الشاهد عليه استقرار سيرة العرف و العقلاء على الاكتفاء به في كل ما يعتبر فيه الرضا و لعل الأكل من بيوت من تضمنته الآية الشريفة من القرابة و الصديق من هذا الباب، و كذا التصرف في أموال كثير من الناس في غيبتهم، و كذا إذا علم بخطإ المالك في العنوان، كما إذا زعم أنّ الداخل في البيت رجل أجنبي، فزجره و أظهر عدم الرضا، و الحال أنّه ولده، فان من الواضح أنّ الولد لا يعتني بهذا الزجر بل يعلم منه الرضا الباطني الشأني الذي يتبدل بالفعلي بعد كشف عنوان الموضوع، سواء طال الزمان أم قصر.

و أمّا كفاية مجرّد هذا الرضا في المعاطاة فممنوع جدّا، سواء قلنا بالملك فيها أو بالاباحة المعوضة، نعم الإباحة المجرّدة عن عنوان المعاوضة حاصلة، و لكن مثلها خارج عن عنوان المعاطاة، و لا ينبغي عدّها منها.

و الحاصل: أنّ

العمدة في المسألة أنّ المتبع صدق عنوان البيع، أو قيام الإجماع على الصحة، أمّا الأول فهو غير حاصل بدون قصد الإنشاء، و أمّا الثاني فلم يثبت على الصحة في موارد الرضا الخالي عن قصد الإنشاء، و ما قد يظهر من بعض الكلمات من استقرار السيرة على القناعة بمثل هذا الرضا المرتكز في النفوس كما في صاحب الحمام و غيره ممن لا يحضر عن المعاملة، ففيه ما قد عرفت سابقا من أنّ الإنشاء في أمثال ذلك موجود، فمن يفتح باب دكانه أو حمامه و يأذن لكل أحد أن يأخذ شيئا معينا بازاء وجه معلوم، فقد انشأ إنشاء عاما فعليا لهذه المعاملة، و يجوز للمشتري قبوله بفعله و عمله، فتتم أركان البيع أو الاجارة المعاطاتية أو غيرهما.

و هذا بخلاف الرضا الحاصل بعد إنشاء البيع الفاسد، سواء كان رضى فعليا أو تقديريا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 93

و الحاصل: أنّ المعاملة مع العقود الفاسدة معاملة المعاطاة ممّا لا وجه لها إلّا فيما عرفت من الصور الخارجة عن محل البحث موضعا، و اللّه العالم.

التنبيه التاسع: هل الكتابة ملحقة بالمعاطاة أم لا؟

ظاهر كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة من البيع و النكاح و الطلاق أنّ الكتابة غير كافية في مقام الإنشاء، حتى أنّهم جعلوها بدلا عن الإشارة للأخرس عند العجز عنها، فهي سواء حالا عندهم عن الإشارة أيضا، بل يظهر من بعض الكلمات في كتاب الوصية أنّه لو كتب إنسان كتابا مشتملا على وصاياه، ثم قال: هذه وصيتي. لا يقبل حتى يتكلم بها واحدا بعد الآخر.

بل حكى صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الوصية عن صريح الحلي عن الفاضل و ولده و الشهيدين و المحقق الثاني و القطيفي «قدّس اللّه أسرارهم»، عدم الاكتفاء بالكتابة في حال الاختيار، و انحصار

صحتها بحال العجز، و عن السرائر نفي الخلاف فيه «1».

نعم، حكي عن التذكرة احتمال الاكتفاء بها في الوصية في بعض كلماته، و عن الرياض أنّه لا يخلو عن قوّة.

و إذا كان أمر الكتابة في القيود الجائزة مثل الوصية بهذه الصعوبة، فكيف حال البيع و غيرها؟

هذا و لكن يشكل الاعتماد على مثل هذه الشهرة أو دعوى الإجماع بعد كون الكتابة من أظهر مصاديق الإنشاء، و لعلها لم تكن بهذه المثابة في الأعصار السابقة، لعدم معرفة أكثر الناس بها، و الامور العرفية تابعة لما يتعارف و يتداول بينهم، و الموضوعات تتخذ من العرف، و الأحكام من الشرع، و على كل حال هي من أظهر ما يتمّ به إنشاء العقود في عصرنا، لأنّ جميع أسناد المعاملات إنّما يتمّ بالتوقيع عليها، بل قد لا يعد مجرّد الإنشاء اللفظي في الامور الهامة شيئا أزيد من المقاولة، و الإنشاء الحقيقي عندهم إنّما هو بالكتابة و التوقيع.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 94

و قد دلّت روايات متعددة على الاهتمام بالكتابة في الوصية، و أنّ المؤمن لا يبيت إلّا و وصيته تحت رأسه، و حديث الدواة و الكتف عند ما أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله الكتابة في أمر الخلافة و منع بعض المخالفين عنها، و كلامه الجارح للقلب و الجالب للهمّ، معروف في كتب العامة و الخاصة.

أضف إلى ذلك أنّ أطول آية في كتاب اللّه، آية الكتابة «1»، و هي و إن لم تكن في مقام بيان حكم إنشاء العقد، و لكنّها شاهدة على اهتمام الشارع بأمر الكتابة و مؤيدة لما سبق.

و بالجملة فانّ إجراء حكم المعاطاة على الكتابة و سلب أحكام العقد اللفظي منه مشكل جدّا، و لا دليل عليه من العقل

و النقل، و لا يساعده الاعتبار و لا إجماع عليه، فالحق الاكتفاء بالكتابة في مقام الإنشاء، نعم يشكل في مثل النكاح لما عرفت من أنّه كالأمور التوقيفية شبيه العبادت أو فيه شائبة ذلك، فلا يجوز إجراؤه إلّا بما ثبت في الشرع، و لم يثبت جوازه بالكتابة.

التنبيه العاشر: حكم النماء

لا شك أنّ النماء بناء على القول بالملكية اللازمة ملك، لكن انتقل إليه، فنماء الثمن للبائع و نماء المثمن للمشتري، و كذا على القول بالملك الجائز، لأنّ النماء تابع للملك.

و إذا فسخ كان الفسخ من حينه لا من أصل العقد، فلا تعود النماءات المنفصلة، نعم النماءات المتصلة تعود إلى ملك المالك الأول.

و أمّا بناء على الاباحة الجائزة فالظاهر أنّ النماءات لصاحب المال، نعم يجوز التصرف فيها متصلة كانت أو منفصلة، لأنّها تابعة لها في الاباحة، و إذا عاد في العين اعيدت معها، نعم لا ضمان عليه بالنسبة إلى ما أتلفه منها لأنّه يكون مجازا في ذلك على المفروض.

عقد البيع و ألفاظه

اشارة

البيع كما يصحّ بالمعاطاة يصحّ بالصيغة، بل المشهور بين الأصحاب أنّ هو الأصل في الإنشاء، و إن كان فيه ما عرفت من أنّ الأصل في البيع هو المعاطاة، و البيع بالصيغة فرع لها، فيصحّ إنشاء المعاملة بكلّ من القول و الفعل، و حينئذ يقع الكلام فيما يعتبر في الإنشاء اللفظي من خصوصيات اللفظ من حيث المادة و الهيئة و سائر الامور المرتبطة بها.

و لكن قبل التكلم في هذا الموضوع لا بدّ من بيان أنّ العاجز عن الألفاظ كالأخرس هل يكتفي عن الألفاظ بالإشارة، أم لا؟ و أنّ غيره هل يمكنه ذلك أيضا و إن قلنا بخروج عقده عن العقد اللفظي و دخوله في المعاطاة أم لا؟

الظاهر أنّ غير الأخرس لا يكتفي بالإشارة، لعدم ظهورها منه ظهورا عرفيا في أداء المقصود، بل تكون الإشارة من غير الأخرس كالكتابة التي لا يعتمد عليها في باب العقود و العهود على قول المشهور، و إن كان فيه ما عرفت.

اللّهم إلّا أن يكون له ظهور تام من دون أيّ ابهام في أداء

المقصود، كما إذا تكلّم المشتري و قال: أنا آخذ هذه السلعة بهذه القيمة و أعطيك ثمنها غدا مثلا، فأشار المالك برأسه أو بيده إشارة مفهمة بأنّه راض بهذه المعاملة.

و كذا إذا كان هناك محذور عن بيان المقاصد صريحا، و إن لم يكن خرس في اللسان، كما إذا خاف من اطلاع اللصوص على سلعته، فأشار البائع أو المشتري إشارة مفهمة مقصده في البيع و الشراء، و أشار بأصابعه مثلا إلى مقدار الثمن و مقدار المثمن، أو كانت لغة البائع تختلف عن لغة المشتري و لم يفهما صيغة البيع و الشراء من ألفاظهما، فأشار كلّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 96

منهما إلى مقصده من البيع و الشراء و مقدار السلعة، و مقدار الثمن، بإشارات مفهمة- كما هو المتداول في أيّامنا في موسم الحج بين الحجاج من البلاد المختلفة و بين أهل مكّة و مدينة- و كذا الحال بالنسبة إلى الأصم.

ففي هذه الصور الأربع و شبهها لا يبعد جواز ايقاع العقد بالإشارة، أو أداء بعض الخصوصيات باللفظ و بعضها بإشارة اليد و عقود الأصابع، و لكن إذا لم يوجد شي ء من هذه الضرورات يشكل الاكتفاء بالإشارة، لأنّه لا تعدّ حينئذ عقدا متعارفا بين العقلاء.

و على كل حال يدخل هذا العقد في المعاطاة، و لا تشمله أحكام الإنشاء اللفظي لو فرض له أحكام خاصة، هذا و لقد أجاد المحقق قدّس سرّه حيث قال في الشرائع: «و يقوم مقام اللفظ، الإشارة من العذر» و في معناه كلام الشهيدين قدّس سرّهما في اللمعة و شرحها، و لعله لعدم حكم خاص للألفاظ عدا النقل و الانتقال.

و هذا و لكن مع ذلك كله لا يمكن الركون إليها في الأشياء الخطيرة كبيع الدور و المزارع

و المعامل و شبهها لعدم الاعتناء بها عند العقلاء و أهل العرف في هذه الامور، و من الواضح أنّ أدلة الصحة منصرفة إلى ما يتعارف.

و أمّا الأخرس فقد ادّعى الإجماع أو عدم الخلاف على جواز اكتفائه و كون عقده بالإشارة جاريا مجرى العقد بالصيغة لا داخلا في المعاطاة.

و يشهد لذلك مضافا إلى أنّه المتعارف بين أهل العرف و العقلاء بالنسبة إليهم، ما ورد في بعض النصوص، مثل ما ورد في أبواب الطلاق كرواية البزنطي أنّه: «سأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الرجل تكون عنده المرأة يصمت و لا يتكلم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، يعلم منه بغض لامرأته و كراهة لها، أ يجوز أن يطلق عنه وليه؟ قال: لا، و لكن يكتب و يشهد على ذلك، قلت: فإنّه لا يكتب و لا يسمع كيف يطلقها؟ قال: بالذي يعرف به من أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته و بغضه لها» «1».

و أيضا ما رواه أبان بن عثمان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن طلاق الخرساء قال:

يلفّ قناعها على رأسها و يجذبه» «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 97

و ما رواه النوفلي عن السكوني قال: «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها و يضعها على رأسها و يعتزلها» «1».

و ما رواه أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها و يضعها على رأسها ثم يعتزلها»»

.فإنّ الجواز في مثل الطلاق الذي هو أهم من البيع و أشباهه في نظر الشارع دليل على جواز الإشارة في غيره.

و قد ورد ذلك في أبواب الوصية أيضا، مثل ما رواه عبد اللّه بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن رجل اعتقل لسانه عند

الموت، أو امرأة، فجعل أهاليها يسائله: اعتقت فلانا و فلانا؟ فيؤمي برأسه (أو تؤمي برأسها) في بعض نعم و في بعض لا، و في الصدقة مثل ذلك؟ قال: نعم هو جائز» «3» و كذا سائر ما ورد في هذا الباب، نعم هي عقد جائز و أمره أسهل من العقود اللازمة.

و ما ورد فيها من التصريح ببعض الإشارات المعينة مثل لف المقنعة على رأسها في الطلاق لا خصوصية لها، بل المراد ما يفهم منه المقصد بوضوح.

ثم ليعلم أنّ لجماعة الأخرسين في زماننا لسانا خاصا يتركب من إشارات خاصة يتكلّمون بها فيما بينهم، و الظاهر اعتبار الاستفادة منها في بلدان يتعارف فيها هذا اللسان، و التعدي منه إلى إشارات اخرى لا تخلو من إشكال بعد تعارفها بينهم كالألفاظ فيما بيننا كما لا يخفى على الخبير بلسانهم.

ثمّ إنّه هل يعتبر العجز عن الوكالة في جواز عقد الأخرس بالإشارة أم لا؟ ظاهر ما عرفت من الروايات الكثيرة السابقة عدم اشتراط ذلك فيه، لإطلاقها و عدم تقييدها بشي ء، بل التصريح في بعضها بذلك (كما عرفت).

مضافا إلى ما حكي عن عدم الخلاف فيه، أضف إلى ذلك أنّه ينقل الكلام في توكيل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 98

الغير و أنّه لا يكون إلّا بالإشارة، فالأمر ينتهي إليها لا محالة، اللّهم إلّا أنّ يقال: إنّ الوكالة لما كانت من العقود الجائزة كان أمرها أسهل من العقود اللازمة.

أو يكتفي باجازة الفضولي هنا من طريق الإشارة، و لكنه أيضا كما ترى، نعم إذا شك في شي ء من هذا كانت أصالة الفساد حاكمة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هنا مقامات:

المقام الأول: في مواد الصيغة

اعلم أنّ المنقول من كلمات الأصحاب في هذا الباب مختلف جدّا بحسب الظاهر و إليك نموذج منها:

1- «العقود

الشرعية بما هي متلقاة من الشارع لا ينعقد بلفظ آخر ليس جنسها» (عن جامع المقاصد).

و مثله ما عن فخر المحققين: «إنّ كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة معينة فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن» و كذا ما عن كنز العرفان من أنّ «اللازم العقد اللفظي المتلقى من النص لأنّه حكم شرعي حادث يحتاج إلى الدليل».

و ظاهر هذه العبارات لزوم الاكتفاء بالعناوين الواردة في النصوص المشتملة لبيان أحكام هذه العقود، ففي البيع بعنوان «البيع» و في النكاح بعنوان «النكاح» إلى غير ذلك.

2- يشترط فيها «الحقيقة» و لا تكفي المجازات سواء القريبة و البعيدة (حكي عن بعض من دون تسمية باسمه).

3- يجوز بالمجازات القريبة دون البعيدة (حكي عن بعض في مقام الجمع بين كلمات القوم).

4- يعتبر في إنشاء العقود كون الصيغة صريحة فلا تنعقد بالكنايات (عن التذكرة).

5- تعتبر الدلالة الوضعية اللفظية، فالمجازات التي تعتمد على قرينة لفظية يجوز الإنشاء بها دون ما تعتمد على القرائن الحالية و شبهها (احتمله الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 99

6- المعتبر فيها كل لفظ له ظهور عرفي في أداء المقصود من العقود من غير فرق بين عناوينها الخاصة و غيرها، و بين الحقائق و المجازات (حكي عن جماعة من المتأخرين).

و هذا هو الحق، لعدم الدليل على أزيد منه، و لصدق عنوان البيع بكل ما يكون ظاهرا في هذا المعنى بحسب متفاهم العرف، و يؤدي هذا المقصود بالألفاظ الظاهرة فيها، فيصدق أنّه باع أو اشترى و تترتب عليه أحكامها.

و هكذا جميع عناوين العقود، من الإجارة و الجعالة و المضاربة و الهبة و غيرها، بل لا يبعد ذلك النكاح و الطلاق و إن كان

فيهما إشكال من حيث التوقيفية و شائبة العبادة كما عرفت قريبا.

«و من هنا يظهر حال سائر الأقوال و الاحتمالات في المسألة»، و ما استدل به عليها، و هي امور تستنبط من كلماتهم:

1- الاستدلال بأصالة الفساد و الأخذ بالقدر المتيقن.

و فيه: أنّه لا وجه له بعد العمومات الواردة في لسان الآيات و الروايات في بيان أحكام هذه العقود، و أمّا الموضوعات من البيع و غيره فهي امور عرفية عقلائية تصدق بكل لفظ يكون ظاهرا في إنشائها.

2- الاستدلال على لزوم خصوص ألفاظ عناوين هذه المعاملات بورودها في لسان الشارع، فلا يجوز في البيع الإنشاء بعنوان «ملكتك بكذا» و في الشراء بعنوان «تملكت» و هكذا.

و فيه: أنّه إذا أمكن بيان معناه و مؤداه بألفاظ اخر، و لو بسبب القرائن الموجودة فيه أو من الخارج، فسوف تشمله عمومات أدلة الأحكام و اطلاقاتها.

3- و من هنا يظهر الإشكال أيضا في ما احتمله العلّامة الأنصاري قدّس سرّه من لزوم الاقتصار على الدلالة اللفظية، فلا يكفي القرائن الحالية، و ذلك لأنّ الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة- لو فرض وجوده- فالقدر المتيقن منه إنّما هو بالنسبة إلى أداء أصل المقصود إجمالا، فلا مانع من الاعتماد على القرائن الحالية، و لا يخرج بذلك عن العقد اللفظي المنشأ بالكلام.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 100

فتلخص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل لنا في أبواب صيغ العقود غير اعتبار إنشائها بألفاظ ظاهرة في أداء المقصود ظهورا عرفيا، سواء كان بنفس عناوينها أو بغيرها، و سواء كان بألفاظ حقيقة أو مجازية، و اللّه العالم.

و ممّا يؤيد قويا جواز الاعتماد على القرائن الحالية، نفس الإنشاء بالفعل الماضي أو المضارع، فإنّهما وضعا أولا و بالذات للإخبار، و استعمالها

في الإنشاء أيضا و إن كان بعنوان الحقيقة، لكثرة استعمالهما في ذلك حتى بلغا حدّ الحقيقة، و لكن كون المتكلم في مقام الإنشاء أو الإخبار لا يعلم إلّا بقرائن الحال، فالاعتماد على القرائن الحالية ممكن في الجملة.

و يؤيده أيضا أنّ النكاح الذي هو أشد من جميع العقود في دائرة اهتمام الشارع ينشأ بألفاظ كنائية مشتملة على القرائن الحالية أو المقالية، فإنّ لفظ التمتع من الكنايات قطعا، بل الزواج و النكاح أيضا، في الأصل وضعا لمعان اخر، و لو سلم نقل النكاح عن معناه الأصلي (و هو مأخوذ من نكحه الدواء إذا خامره و غلبه) لا نسلم ذلك في «التمتع» و «الزواج» فإنّ الأول لمطلق الانتفاع بشي ء، و الثاني لمطلق المقاربة بين شيئين، إلّا أنّهما إذا ذكرا في مقام خاص يعلم بالقرائن هذا العقد المعين، كما أنّ الألفاظ المستعملة في معنى الجماع كلها كنايات كما لا يخفى.

المقام الثاني: الألفاظ الخاصة لإنشاء البيع
اشارة

و إذ عرفت الأصل الكلي في هذا المقام، فلنعد إلى عدّ ما ذكروه من الألفاظ الخاصة لإنشاء البيع أو الشراء فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية): قبل كلّ شي ء لا بدّ من التنبيه على أمر، و هو أنّ الظاهر في بادي النظر عدم كون تعيين هذه الألفاظ من وظائف الفقيه، لأنّ ذلك من الموضوعات، و وظيفة الفقيه بيان أحكام الشرع.

و إن شئت قلت: إنّه بعد كون الحكم الشرعي هنا، الاكتفاء بكل ما هو ظاهر في أداء المقصود من الألفاظ، يرجع إلى العرف في تشخيصها، و هذا أمر يفهمه المقلدون و ليس الفقيه بأعرف من المقلد فيها، فلما ذا وقع هذا الكلام الطويل في تعيين هذه الألفاظ؟

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 101

و لعله لهذه الجهة حكي عن الشيخ و

الديلمي و القاضي و الحلبي و غيرهم الاقتصار على الايجاب و القبول من دون ذكر لفظ أصلا.

و حكي عن جمع آخرين كالعلّامة قدّس سرّه في غير واحد من كتبه، و الشهيد الأول و الثاني قدّس سرّهما ذكر بعض الألفاظ بعنوان المثال، حتى أن «المحقق» في «الشرائع» و «الشهيد الثاني» في «المسالك» لم يحوما حول هذه المباحث، بل أو كلوا أمرها إلى العرف عملا.

هذا و لكن يمكن أن يكون عذر المتأخرين في طرح هذه المباحث أنّ أهل العرف كثيرا ما يحصل لهم الشك في هذا الأمر، و لا يتبيّن لهم حال هذه الألفاظ، و ليس لجميعهم دقّة تسلط على هذه الامور كما لا يخفى على من راجع كثيرا من الناس، لا سيما الاميين منهم، فلذا ينوب عنهم الفقيه في تشخيص هذه الموضوعات بأخذها من أعماق أذهانهم و يردها إليهم بوضوح و صراحة و لا غرو في ذلك.

فاذن لا فرق في مسألة رجوع الجاهل إلى العالم، و المقلّد إلى المجتهد، بين الأحكام و الموضوعات المشكلة لاتحاد الدليل.

مضافا إلى استقرار سيرة فقهائنا (رضوان اللّه عليهم) على ذلك، فكم من موضوع تصدوا لبيانه و شرحه في كتب الفقه، مثل ما عرفت في صدق عنوان البيع و التجارة على المعاطاة، بل التعاطي من جانب واحد، و كذا في صدق عنوان «الاعانة» في أبواب بيع العنب ممن يعمله خمرا، و التولي من قبل الظالم، و في صدق المال على بعض الأشياء، و صدق «المأكول» و «الملبوس» في أبواب ما يسجد عليه، على كثير من الأشياء، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة في جميع الأبواب، و فرعوا عليها فروعا كثيرة كما لا يخفى.

و إذا تبين لك هذا فاعلم: أن الألفاظ التي

ذكروها في باب إيجاب البيع امور:

1- الإيجاب

بلفظ «بعت» و قد حكي عن جميع أهل اللغة: كما في محكي مصابيح الطباطبائي قدّس سرّه على انوار الفقاهة، ج 1، ص: 102

ما حكاه عنه في الجواهر «1» اشتراكه بين البيع و الشراء و أنّه من الاضداد، و لكن القرائن توجب ظهوره في الإيجاب و القبول، و لذا حكي الشهرة العظيمة بل كادت أن تكون إجماعا على جواز الإيجاب به.

و هل هو مشترك لفظي كما صرّح به في «مصباح الفقاهة» و كثرة استعماله في البيع فقط توجب انصرافه إليه عند الاطلاق «2»، أو مشترك معنوي كما ذكره السيد قدّس سرّه في «الحاشية» فيكون بمعنى التمليك بالعوض، سواء كان بالتصريح بالعوض، كما في البائع، أو تمليكا ضمنيا، كما في المشتري؟

أقول: إنشاء القبول بلفظ «بعت» لا يخلو عن إشكال، نعم لا مانع من إنشائه بلفظ «ابتعت» و لو كان مشتركا في الازمنة السابقة فلعلّه اختص بأحد الطرفين، و من العجب أنّه بصرافة أذهانهم ذكروا في عباراتهم في المقام (كما في العبارة الذي ذكرناها عن المصابيح) ما يظهر منه كون عنوان «البائع» في مقابل عنوان «المشتري» فلا يصدق هذا العنوان على كليهما، و مع ذلك ذكروا أنّ عنوان «البيع» من الاضداد و مشترك لفظي أو معنوي.

نعم صيغة الثلاثي المجرّد ظاهر في الموجب، و باب الافتعال في المشتري، و لعله لم يستعمل في الكتاب العزيز البيع إلّا في أحد أمرين:

البيع في مقابل الشراء، مثل قوله تعالى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ «3» و البيع بمعنى مجموع البيع و الشراء، كما في قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ «4» و كذا في قوله عليه السّلام: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» استعمل في مجموع

البيع و الشراء.

و الحاصل: أنّ القبول بلفظ «بعت» مشكل جدّا، نعم لا إشكال في جواز إيجاب البيع بهذا اللفظ.

2- الشراء

و قد صرّحوا أيضا باشتراكه بينهما أيضا، كما حكي عن كثير من أهل اللغة بل حكي عن مصابيح الطباطبائي قدّس سرّه عدم خلافهم في ذلك.

فيجوز على هذا المبنى إنشاء البيع بصيغة «شريت» و كذا قبوله بهذه الصيغة نفسها، أمّا إنشاء إيجاب البيع به فلا ريب في جوازه، بل لم يستعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في هذا المعنى، مثل قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «1».

و قوله تعالى: وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ «2» إلى غير ذلك، و قد ورد استعماله في الكتاب العزيز في أربعة مواضع:

اثنان منهما قد مرّا، و الباقي قوله تعالى: وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «3».

و قوله تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ «4».

و لكن ذكر في الجواهر و غيرها أنّه قد ادّعى هجر ذلك في العرف المتأخر، و لكنه ممنوع، و في المكاسب استوجه الشيخ قدّس سرّه احتياجه إلى القرينة لعدم نقل الإيجاب به في الأخبار، و كلمات القدماء، و قلّة استعماله عرفا في البيع.

و قال في مصباح الفقاهة؛ أنّه ليس لكلامه قدّس سرّه معنى محصل بعد الاعتراف بأن لفظ «شريت» لم يستعمل في القرآن المجيد إلّا في البيع، لأنا لا نسلم وقوع الاستعمالات العرفية على خلاف القرآن، ثم لا نسلم تقديم الاستعمالات العرفية على القرآنية «5».

أقول: و هذا الكلام منه عجيب، لأنّ القرآن نزل بلسان القوم، و يمكن أن يكون استعمال لفظ في زمن نزوله في معنى خاص شايعا، ثم في الاعصار المتأخرة نقل إلى معنى جديد، و

هجر المعنى السابق، و هذا لا يمسّ كرامة القرآن بشي ء، و لا ربط له انوار الفقاهة، ج 1، ص: 104

بأحكامه و تعليماته حتى يقال لا نسلم تقديم الاستعمالات العرفية على القرآنية، نعم للبحث في الصغرى مجال، و لكن لا ينبغي الإشكال في الكبرى بعد قبول لزوم الإنشاء بما هو متفاهم العرف في كل عصر و زمان، فتدبّر جيدا.

ألا ترى أنّ لفظ «المكروه» في عرف القرآن يطلق على أكبر المحارم، كما ورد في قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً «1». بعد ذكر أكبر المحرمات كالزنا و قتل النفوس الأبرياء، و أكل مال اليتامى، في الآيات السابقة عليها، مع أنّ هذه الكلمة صارت حقيقة في المكروه في مقابل الحرام، في عرف أهل الشرع في الاعصار المتأخرة، و على كل حال فالانصاف أنّ إيجاب البيع بلفظ «شريت» بدون ذكر قرينة مشكل في هذه الأعصار.

هذا و احتمل جواز الإيجاب بلفظ «اشتريت» و حكاه في مفتاح الكرامة عن بعض نسخ التذكرة، و تعليق الإرشاد، و هذا أشكل من سابقه جدّا، لأنّ الاشتراء في القرآن المجيد لم يستعمل إلّا في مقابل البيع، فقد ورد واحد و عشرون مرّة في القرآن بصيغة «اشترى» و «اشتروا» و «تشتروا» و «يشترون» و غير ذلك كلها بالمعنى الذي ذكرنا، غير مورد واحد و هو قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «2».

فان ظاهر الآية كما ذكر جمع من المفسرين أنّه بمعنى «البيع» فقد باعوا أنفسهم الكريمة بثمن قليل من متاع الدنيا و زخارفها، مع أنّه ليس لها ثمن إلّا الجنّة كما قال به أمير المؤمنين على عليه السّلام في ما ورد في نهج البلاغة «3».

و لكن ناقش فيه في

«المصباح» بما حاصله: إنّ علماء اليهود اشتروا أنفس العوام بثمن بخس، و هو التوادّ و التحاب إليهم، كما أنّ العوام اشتروا أنفسهم علماءهم بثمن زهيد، و هو ما منحوهم من البر و الصلة و متاع الدنيا، فصار كل منهما مشتريا لنفوس الآخرين «4».

و لا يخفى ما فيه من التكليف و التعسف الشديد المخالف لظاهر الآية الموجب لعدم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 105

اتحاد مرجع الضمائر، هذا و لكن مجرّد استعمال واحد غير كاف في المقام كما هو ظاهر.

3- ملكت

و من الألفاظ التي يصح إنشاء إيجاب البيع به «ملكت» و ذكر في الجواهر أن المشهور جواز الإيجاب به، بل حكي عن جامع المقاصد ما يشعر بالإجماع عليه.

نعم أورد عليه تارة بأنّه ظاهر في التمليك مجانا، فلا يجوز إنشاء البيع به، و اخرى احتماله غير البيع من الصلح و غيره، و لا يجدي ذكر العوض، لإمكانه في الهبة و الصلح.

و يرد على الأول: أنّه لا ظهور له في التمليك المجاني إلّا إذا خلا عن ذكر العوض، و على الثاني: بإمكان تعيين البيع بقرائن لفظية أو حالية، و قد عرفت جواز ذلك مطلقا.

مضافا إلى ما قد يقال أنّ الأصل في التمليك بالعوض هو البيع (و الأصل هنا بمعنى الغالب الذي ينصرف إلى الكلام) و هو الأقوى.

هذا مضافا إلى ما عرفت سابقا من أنّ حقيقة الصلح أمر وراء البيع، و لا يمكن التمليك بالعوض بعنوان الصلح إلّا إذا كان المقام مظنة للخلف، فيتصالح فيه، أو كان الخلاف فعليا.

كما أنّه عرفت أنّ حقيقة الهبة هي التمليك الجاني، و لذا ذكر المحقق قدّس سرّه في الشرائع في تعريفها: «هي العقد المقتضي تمليك العين من غير العوض ...» و أمّا الهبة المعوضة فيمكن

أن يكون ما يعوض عنها بعد إنشاء الهبة لا في ضمن العقد، و إن كان ظاهر كلماتهم جواز أخذ العوض في العقد، و لكنّه لا يخلو عن إشكال، لمنافاته لما يتبادر من أخذ المجانية في مفهومها عرفا، كما لا يخفى على من راجعهم إلّا إذا كان العوض بعنوان الشرط لا المقابلة في العقد، و حينئذ يتفاوت مع التمليك بالعوض الذي هو حقيقة البيع.

و بالجملة إنشاء التمليك بالعوض بعنوان المقابلة بقصد الهبة مشكل جدّا، و روايات الباب لا تنافي ما ذكرنا، و تمام الكلام فيه في محله.

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في جواز إنشاء البيع بالتمليك مع ذكر العوض، و هو كالصيغ الصريحة فيه، و الوسوسة في ذلك عجيب بحسب متفاهم أهل العرف.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 106

أمّا القبول: فالحق أنّه من حيث الأصل الكلي شبيه بالإيجاب- كما أشار إليه في الجواهر- فلا بدّ فيه أيضا الظهور العرفي على المختار، كما أنّ اللازم على سائر المباني ما يليق بها.

و قد صرّح شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعدم الإشكال في وقوعه بلفظ «قبلت» و «رضيت» و «اشتريت» و «شريت» و «ابتعت» و «تملكت» و «ملكت» مخففا انتهى.

و لكن كل ذلك مقبول عندنا إلّا «شريت» لما عرفت من استعماله كثيرا في البيع، مضافا إلى كونه مهجورا في الاستعمالات المتداولة اليوم، فلا يطلق الشاري على المشتري.

و أوضح إشكالا منه إنشاء القبول بلفظ «بعت» لكونه حقيقة في البيع مقابل الشراء، و لو سلّمنا كونه من الألفاظ المشتركة، فلا شك في كونه مهجورا بالنسبة إلى الشراء إلّا إذا بني على الافتعال.

ثمّ إنّه قدّس سرّه ذكر أنّ في انعقاد القبول بأمضيت، و أجرت، و أنفذت وجهين، من دون أي شرح لذلك.

و عن المحقق الأصفهاني

قدّس سرّه الإشكال على ذلك بما حاصله: أنّ هذه العناوين إنّما تتعلق بما له المضي و الجواز و النفوذ، أي السبب التام، و هو العقد المركب من الإيجاب و القبول، كالإجارة في الفضولي، و لا معنى لكونها في جزء السبب.

و أجيب عنه: بأنّ المعاملة الفضولية أيضا لا تزيد على الإيجاب الساذج لكون الإجارة ركنا.

و هذا و الانصاف وجود التفاوت بين الفضولي و الإيجاب بدون القبول، لأنّ الإنشاء قد تمّ هناك إيجابا و قبولا و لكن مع ذلك، الحق جواز إنشاء القبول بهذه الصيغ الثلاث إذا ظهر من القرينة كونها في مقام إنشاء القبول.

المقام الثالث: اعتبار العربية في العقد و عدمها
اشارة

و ممّا وقع الكلام في اعتباره من حيث مادة الإنشاء بل و هيئته، اعتبار العربية، فقد حكي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 107

عن المحقق و الشهيد الثانيين و الفاضل المقداد (رحمهم اللّه) و بعض آخر اعتبار ذلك، بل حكي عن المبسوط و التذكرة الإجماع على عدم الصحة بغير العربية في صيغة النكاح مع القدرة.

و عن ابن حمزة استحباب العربية.

و ذهب كثير من المحققين و المتأخرين و المعاصرين إلى عدم اعتبار ذلك بل و ظاهرهم عدم استحبابه أيضا و هو المختار.

دليلنا: اطلاقات أدلة صحة العقد، حلية التجارة عن تراض، و المؤمنون عند شروطهم و غير ذلك، و من الواضح المقطوع به صدق هذه العناوين على كل عقد سواء كان ألفاظ عربية أو غيرها، بل يمكن دعوى استقرار السيرة عليه بالنسبة إلى البيع و الإجارة و شبهها، لعدم التزام المتشرعة بخصوص الألفاظ العربية.

نعم قد استدلّ على اعتبارها بوجوه ضعيفة جدّا:

أحدها: و هو الأظهر من بينها، التمسك بأصالة الفساد بعد عدم الدليل على الاكتفاء بغيرها، انصراف الآية و غيرها إلى العقد بالألفاظ العربية.

ذكره في الجواهر و

عقبه بقوله: «كغير المقام ممّا علق الشارع الحكم فيه على الألفاظ المنصرفة إلى العربية ... و لذا كان القرآن و غيره من الأدعية و الأذكار الموظفة عربية» «1».

و هذا منه قدّس سرّه عجيب مع سعة اطّلاعه و وفور علمه و احاطته بعموم مسائل الفقه، فانّ حقيقة العقد و التجارة و البيع و الإجارة ليست من الألفاظ، بل هي امور اعتبارية تنشأ بالألفاظ، و الألفاظ آلات لها، و العقود و العهود الموجودة بين سائر الأقوام البشرية هي عقود و عهود معتبرة قطعا مع عدم كونها بالعربية، و قياسها على القرآن و الأدعية قياس مع الفارق بعد كون الألفاظ في كلام اللّه لها موضوعية، لأنّ النازل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عين هذه الألفاظ لا مجرّد المعاني، أضف إلى ذلك أنّ العبارات و منها الأدعية امور توقيفية و لا دخل لها بما نحن فيه.

و لو أراد قياس العقود على شي ء فلما ذا لا يقيسها على الشهادة عند القاضي و غيره،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 108

و القذف و شبهه، فهل هناك فرق بين الألسنة المختلفة في إجراء أحكامها؟ و بالجملة هذا الدليل و هذا القياس ضعيفان جدّا.

ثانيها: و هو أضعف و أعجب، إنّ العقد لا يصدق على العقد بغير العربية مع التمكن من العربية!

و ليت شعري أ و ليس العقد مطلق العهد أو العهد المشدد بين شخصين؟ أو ليس هذا من مقولة المعنى؟ فأي ربط له بهذا اللفظ دون ذاك؟

ثمّ إنّ لازمه بطلان عقود جميع الأقوام في العالم ما عدا العرب، و هو عجيب.

ثالثها: إنّ التأسي بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و بالأئمّة عليهم السّلام و أصحابهم يقتضي ذلك، و هو أيضا في الضعف مثل

سابقه، إذ التأسي إنّما هو في الشرعيات، من العبادات و الأدعية و الواجبات و المستحبات، لا في العرفيات و الموضوعات الخارجية، فهل التأسي بهم صلوات اللّه عليهم أجمعين يوجب التكلم بالعربية لجميع الناس؟ هل الاقتداء بهداهم عليهم السّلام يقتضي لبس ما لبسوا و أكل ما أكلوا ممّا لا صلة له بأحكام الشرع من الواجب و المستحب و آداب الإسلام؟

رابعها: إنّ عدم صحة العقد بالعربية بغير الماضي يدلّ بطريق أولى على عدم صحة بغير العربية، و هو أهون من الجميع، لأنّ غير الماضي على القول بعدم جوازه في مقام الإنشاء إنّما هو للاختلال بصراحة اللفظ، أو ظهوره في هذا المقام، و أين هذا من اللفظ الظاهر أو الصريح في الإنشاء إذا كان بغير العربية؟!

و بالجملة قلّما يرى في فرع من الفروع الفقهية استدلالات بهذه المثابة من الوهن، مع مالهم (قدس اللّه أسرارهم) من دقّة النظر و عمق الفكر و البصيرة، و لكن الجواد قد يكبو، و لعل الذي دعاهم إلى ذلك شدّة الاحتياط و تأثير محيط المجتمع، و على كل حال لا ينبغي الشك في جواز العقد بأي لسان.

نعم ذكر في الشرائع في باب النكاح أنّه لا يجوز العدول إلى ترجمة ألفاظ العقد بغير العربية، و ادّعى في الجواهر أنّه مورد الاتفاق كما في المبسوط و التذكرة.

و لو لا كون النكاح ممّا فيه شائبة العبادة و التوقيفية لقلنا فيه أيضا الجواز لو هن هذا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 109

الإجماع المدعى، بما عرفت من استنادهم إلى أدلة ضعيفة، و لكن الاحتياط لا يترك في خصوص النكاح و الطلاق، و لقد أجاد السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في ما ذكره في المقام حيث قال: لا ينبغي الإشكال فيه (في

صحته بغير العربية) و إلّا لاشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار (الصحيح رائعة النهار، و الرائعة بمعنى الضحى أي حين يرتفع النهار و هو مثل يضرب لغاية الشهرة) إذ كان الواجب على جميع أهالي الأمصار في جميع الأعصار تعلم الصيغة العربية لكل معاملة، كتعلمهم للحمد و السورة، إذ كثرة الابتلاء بالمعاملات ممّا لا يكاد يخفى مع أنّه لم يرد في خبر من الأخبار و لا أثر من الآثار ذلك و لو على سبيل الإشارة، إلى أن قال: نعم حكي عن المبسوط و التذكرة الاتفاق على عدم كفاية غير العربي في النكاح لمن كان متمكنا منه، فانّ تمّ و إلّا فالاقوى جوازه فيها أيضا «1».

بقي هنا امور:

الأول: هل يجوز الإنشاء بالعربي الملحون من حيث المادة أو الهيئة أو الاعراب أم لا؟

الأقوى: التفصيل بين ما هو مغير المعنى، أو مسقط له، و ما ليس كذلك، بحيث يبقى ظهوره ثابتا، فيجوز في الثاني دون الأول، لما عرفت من أنّ المعيار على الظهور العرفي، فالاغلاط المشهورة التي يتداول التكلم و التفاهم بها يجوز استعمالها في مقام الإنشاء، و القدر المتيقن من أدلة اعتبار الإنشاء ليس أزيد منه فيؤخذ بالاطلاقات.

نعم لو قلنا باعتبارها من ناحية كونها القدر المتيقن من الصحة و تجري أصالة الفساد في غيرها، أمكن القول بأنّ المتيقن هنا العربي الصحيح لا الملحون، و لكن فيه ما لا يخفى.

و هكذا الكلام بالنسبة إلى اللحن في الفارسية و غيرها من الألفاظ، فما يتكلم به العوام من اللغات الدارجة الظاهرة في أداء المقصود كاف في مقام الإنشاء و إن كان غلطا بحسب موازين اللغة و الادب.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 110

فإذن لا ينحصر البحث عن المحلون باعتبار كون الصيغة عربية بل يجري

في سائر فروض المسألة كما لا يخفى.

و من هنا يعلم أنّه لا فرق بين أن يكون للملحون معنى صحيح آخر أم لا.

الثاني: هل يعتبر العربية على القول بها في ذكر المتعلقات، أم يكفي فيها الفارسية و غيرها، أو يفصل بين القول لزوم ذكرها في البيع و عدمه؟

و الانصاف هو ما عرفت من كفاية الانفهام العرفي و الظهور المتعارف، فلو ذكر جميع المتعلقات في المقاولة أو كتب في كتاب ثم قال البائع مشيرا إليها: بعت، و قال المشتري:

اشتريت، كفى، و لا يحتاج إلى ذكر العوضين و الشروط فضلا عن كونها بالعربية أو الفارسية.

نعم لو قلنا بلزوم ذكرها، قلنا أنّ الأصل في العقود الفساد، كان اللازم ذكر جميعها بالعربية، كما أنّه لو كان الدليل على اعتبارها التأسي و شبهه كان المتيقن منه ذكر الجميع بالعربية، و لكن فيه ما عرفت.

الثالث: هل يعتبر العمل بتفاصيل المعاني و وقوع أي جزء من اللفظ بازاء أي جزء من المعنى، أو لا يعتبر؟ مثلا إذا علم أنّ قولنا «بعت هذا بهذا» إجمالا بمعنى «اين جنس را به آن قيمت فروختم» من دون معرفة الجزئيات، فالظاهر صحة الإنشاء أولا، و كونه عربيا ثانيا، بناء على الاعتبار العربية، لصدقها عليه قطعا، فما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لوزم كونه عارفا بالفرق بين «بعت» و «أبيع» و «و أنا بايع» لم يقم عليه دليل، و كذلك الكلام في صيغة النكاح و سائر العقود، و اختار هذا القول السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في حاشيته «1» و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة «2».

الرابع: هل يعتبر العلم بحقيقة الإنشاء؟ الظاهر عدم اعتبار ذلك تفصيلا بالفرق بين الامور الاعتبارية و التكوينية، و كيفية الاعتبار في البيع

و النكاح، و الفرق بين البيع و الصلح و الهبة المعوضة و أشباه ذلك، بل المعتبر العلم الإجمالي، فمن وهب ماله لغيره، قال هذا لك، قاصدا لإنشاء الهبة، كفى. و هذا على إجماله واضح للعوام و الخواص، و مثله انوار الفقاهة، ج 1، ص: 111

إنشاء البيع و النكاح، فما يقع فيه من بعضهم من الوسوسة و القول بعدم جواز إجراء الصيغة من العوام لأنّهم لا يعرفون معنى الإنشاء فاسد لا دليل عليه.

و إن شئت قلت: إنّ حقيقة الإنشاء هي الإيجاد (خلافا لما ذكره بعض الأعلام العصر أنّ حقيقته هو ابراز ما في النفس من الاعتبار) و لكنه إيجاد في عالم الاعتبار، أعني الاعتبار العقلائي بأسبابه (كما عرفت سابقا) و اللازم أن يعرف المنشئ للعقد أنّه ليس بصدد الإخبار، بل هو بصدد إيجاد التمليك أو علاقة الزوجية أو غير ذلك و يفرق بين الإخبار و الإنشاء إجمالا، و أمّا أزيد من ذلك ممّا لا يعلمه إلّا العلماء الأعلام فغير لازم قطعا، و المعنى الإجمالي منه معروف لغالب الناس و إن كان لا يعرف معناه التفصيلي إلّا الأوحدي.

المقام الرابع: هل يشترط الماضوية؟

قال في القواعد: لا بدّ من صيغة الماضي، فلو قال اشتر، و ابتع أو أبيعك لم ينعقد و حكي اختيار هذا القول عن الإرشاد و شرحه لفخر المحققين و الروضة و المسالك.

و ادّعى في مجمع البرهان أنّه المشهور، و كذا عن المفاتيح و عن التذكرة الإجماع عليه، و نسب إلى الشيخ قدّس سرّه و غيره الفتوى به، و إن قال في مفتاح الكرامة لم أجد في الخلاف و المبسوط تصريحا بذلك «1».

و قال في مفتاح الكرامة في كلام آخر له في المسألة: «إن كان الإجماع منعقدا على اشتراط الماضوية كان

الإجماع قرينة على عدم تسمية الخالي عنها عقدا في زمانهم عليهم السّلام و إلّا فالشهرة معلومة و منقولة، فيحصل لنا بسببها الشك في كونه عقدا في ذلك الزمان، و الشك كاف في المقام، و كون ذلك عقدا الآن لا يجزي كما هو الشأن في المكيل و الموزون فتأمل جيدا» «2».

و عن غير واحد من القدماء و المتأخرين جوازه بغير الماضي أيضا، و هو الأقوى إذا كان له ظهور عرفي.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 112

و عمدة ما استدل به المخالفون عدم صراحة المضارع أو الأمر في الإنشاء، و احتمالهما الوعد أو الاستدعاء، هذا أولا، و العلم بعدم صدق العقد عليهما و لا أقل من الشك، و الشك كاف في الحكم بالفساد ثانيا، و نقل الإجماع عليه ثالثا.

و يجاب عن الأول: بعدم اعتبار الصراحة في صيغ العقود، بل يكفي الظهور العرفي، و هو حاصل مع وجود القرائن، بل قد عرفت أنّ الماضي أيضا ليس بصريح، بل و لا ظاهر فيه ما لم تكن هناك قرينة دالة على أنّه ليس في مقام الأخبار بل الإنشاء لاشتراك الماضي بينهما.

و منه يظهر الجواب عن الثاني لصدق العقد عليه قطعا بعد كونه ظاهرا في أداء المقصود.

و أمّا الإجماع المدعى فهو ضعيف لوجود المخالف أولا، و عدم استكشاف قول المعصوم منه ثانيا، بعد ما عرفت من وجود أدلة اخرى في المسألة.

أضف إلى ذلك كلّه ورود الإنشاء بالمضارع في روايات كثيرة مثل ما روى عبد الرحمن بن سيابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ المصاحف لن تشترى فإذا اشتريت فقل: إنّما اشتري منك الورق» «1».

و ما روى سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن بيع المصاحف و

شرائها فقال: لا تشتر كتاب اللّه و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفتين، و قل: أشتري منك هذا بكذا و كذا» «2».

و كذا روايات اخرى وردت في باب بيع المصحف و أيضا مثل ما روى عثمان بن عيسى عن سماعة قال: «سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها فقال عليه السّلام: لا إلّا أن يشتري معها شيئا من غيرها رطبة أو بقلا فيقول: أشتري منك هذا الرطبة ...» «3».

و ما ورد في أبواب النكاح الذي أمرها أشدّ من البيع و أحوط من جواز الإنشاء

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 113

بالمضارع مثل ما روى أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال تقول: أتزوجك متعة ... الحديث» «1».

و ما روى هشام بن سالم قال: «قلت كيف يتزوج المتعة؟ قال: يقول: أتزوجك كذا و كذا ... الحديث» «2».

و كذا الحديث 2 و 4 و 6 من نفس الباب.

و قد ورد الإنشاء بصيغة الأمر أيضا مثل ما رواه الأحول قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام قلت: ما أدنى ما يتزوج الرجل به المتعة؟ قال: كف من بر يقول لها: زوجيني نفسك متعة على كتاب اللّه ...» «3».

إلى غير ذلك ممّا هو كثير، و العجب مع وجود هذه الأخبار الكثيرة المتفرقة في مختلف الأبواب من دعوى الشهرة أو الإجماع على عدم جواز الإنشاء بغير الماضي.

و ليعلم أنّ الإنشاء بالمضارع أكثر من الإنشاء بصيغة الأمر، بل لم نر في أخبار إنشاء البيع الإنشاء به، نعم في النكاح بعض ما يظهر منه ذلك مثل ما عرفت و ما رواه سهل الساعدي في المشهورة (رواه في المستدرك، ج 2،

ص 65).

بقي هنا شي ء: و هو أنّه هل يجوز الإنشاء بالجملة الخبرية مثل قول البائع «هو لك بكذا و كذا»؟ الظاهر ذلك إذا كان بقصد الإنشاء، بل هو أكثر و أشهر من الإنشاء بصيغة الأمر، و له نظائر في الأبواب الآخر، مثل باب العتق: «أنت حرّ لوجه اللّه» و باب الطلاق «هي طالق» و باب الوقف «هي صدقة في سبيل اللّه» و باب النذر «للّه علىّ كذا» و باب الضمان «أنا به زعيم» و كذلك الوصية «أنت وصيي» كما ورد في الآيات أو الروايات، فلا تختص الجمل الخبرية بباب دون باب كما قد يتوهم.

المقام الخامس: تقديم الإيجاب على القبول
اشارة

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد: و في اشتراط تقديم الإيجاب نظر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 114

و عن المختلف: إنّ الأشهر اشتراطه، و نسب إلى الشيخ قدّس سرّه في المبسوط و الاشتراط خيرة الخلاف و الوسيلة و السرائر، و في التذكرة و الايضاح و التنقيح أنّه الأقوى، و في جامع المقصد و صيغ العقود أنّه الأصح.

و اختار جماعة عدم الاشتراط، كما في الشرائع و المسالك و نهاية الأحكام و في اللمعة و الروضة و مجمع البرهان و غيرها، بل نسب ذلك إلى كل من لم يتعرض لذكر هذا الشرط.

و قد استدلوا للاشتراط بأدلة ضعيفة:

1- إنّ الأصل عدم تمام العقد و بقاء الملك على ما كان، و حاصله أصالة الفساد في المعاملات ما لم تثبت الصحة.

2- القبول إضافة فلا يصح تقديمها على أحد المضافين.

3- القبول فرع الإيجاب، فلا يصح تقديمه و لا يصحّ إلحاقه بالنكاح لمكان الحياء في النكاح.

هذا ملخص ما ذكره في مفتاح الكرامة من الأدلة التي ذكرها في المسألة «1».

و لكن اللازم قبل كل شي ء التحقيق في حقيقة القبول في البيع

و غيره و ماهيته، فقد ذكر فيه وجوه:

الأول: أنّ حقيقته تقرير ما أوجد الموجب و تثبيته، و أنّه من قبيل «شكر اللّه سعيك» الذي يقال لمن أوجد فعلا «2».

الثاني: ما حكي عن بعض الأعاظم و حاصله: أنّ الموجب ينشئ التمليك بالمطابقة و التملك بالتبع، و القابل بالعكس ينشئ التملك بالأصالة و التمليك بالتبع.

الثالث: أنّه الرضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ما له في الحال إلى الموجب على وجه العوضية.

هذا و الانصاف أنّ العقد أمر يقوم بطرفين لا يتمّ بفعل أحدهما، فما ذكر في الوجه الأول من أنّ عمل القابل هو تثبت ما فعله الموجب غير تام، لأنّ الموجب لا يعمل شيئا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 115

إلّا من قبل نفسه، و إن شئت قلت: الموجب يبني العقد من قبل نفسه فقط، ثم يتبعه القابل، فيتمّ أمر العقد المتوقف على الطرفين، فليس فعل القابل مثل «شكر اللّه سعيك» الذي يقال بعد تمام العمل.

إلّا أنّ القابل لما كان يعطف عهده إلى عهده، و إنشاءه إلى إنشائه، فلا يحتاج إلى ذكر إنشاء العقد بجميع خصوصياته، و إلّا فلا فرق في الواقع بين فعلهما، و إن افترقا في اللفظ و الظاهر، و كان أحدهما كالفاعل و الآخر كالقابل.

و الحاصل: إنّ كلّا منهما «مملك» و «متملك» و طرف للمعاقدة و المعاهدة، لا ينقص أحدهما عن الآخر شيئا، لأنّه مقتضى معنى المعاهدة و المعاقدة، لأنّه أمر بين اثنين كل واحد منهما طرف له من دون أي تفاوت من هذه الجهة.

نعم، في مقام البيان و شرح هذا المعنى، فالقابل يعطف إنشاءه على إنشاء البائع من غير حاجة إلى بيان أكثر، فيقول: قبلت هذا العقد، أو قبلت هكذا، أو قبلت، مجرّدا عن كل شي ء.

و

من هنا يظهر النظر في جميع الوجوه الثلاثة المذكورة و عدم تمامية شي ء منها.

هذا كله على فرض القول بوجوب تركب العقد من الإيجاب و القبول و كون الثاني كالمطاوع لفعل الأول، و لكنه بعد محل إشكال بل منع، لإمكان تركّبه من إنشاءين متشابهين، سواء سمّيته إيجابين أم لا، بأن يقول كل منهما: ملكتك ملكي هذا بازاء ملكك، أو جعلت هذا المال بازاء هذا المال، أو قالا: قبلنا المبادلة بين المالين.

و السرّ في ذلك كلّه ما عرفت من أنّ حقيقة العقد معاهدة بين الطرفين لا يفترق أحدهما من الآخر من هذه الجهة- و تفاوت البائع و المشتري من بعض الجهات لا دخل له بأصل العقد- و لا يلزم أن يكون إنشاء أحدهما بلفظ القبول دائما حتى يشبه المطاوعة، بل للثاني أن ينشئ بلفظ القبول و يعطف إنشاءه على إنشاء الأول، أو ينشئ بلفظ آخر و يذكر فيه جميع خصوصيات العقد، فيقول الأول: ملكتك مالي هذا بازاء مالك، و يقول الثاني: أنا أيضا ملكتك مالي هذا بازاء مالك، فتدبّر فانه حقيق به.

و بهذا تنحل عقدة الإشكال في إنشاء النكاح بقول الزوج «أتزوجك على كتاب اللّه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 116

و سنة نبيّه» إلى آخر ما ورد في الأخبار الكثيرة، فانّه ليس فيه من المطاوعة عين و لا أثر، و كذا ما ورد في البيع بقوله: اشتري منك كذا بكذا، و لا يجتري أحد على رد هذه الأخبار الكثيرة.

فتلخص من جميع ذلك أن تركب العقد من الإيجاب و القبول و إن كان جائزا إلّا أنّه ليس بلازم بل يجوز تركبه من إنشاءين متماثلين يدلان على المعاهدة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه قسم ألفاظ القبول هاهنا

إلى ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون بلفظ قبلت و رضيت.

الثاني: أن يكون بطريق الأمر و الاستيجاب نحو: بعني، فيقول المخاطب: بعتك.

الثالث: أن يكون بلفظ اشتريت و ملكت محققا.

ثم ذكر في الأول ما حاصله عدم جواز تقديمه بل حكي عن بعضهم عدم الخلاف فيه، ثم استدل له بكونه خلاف المتعارف. أولا، و كون القبول فرع الايجاب. ثانيا، و ليس القبول مجرّد الرضا بشي ء حتى يمكن تعلقه بالمستقبل، بل هو عبارة عن الرضا بالإيجاب على وجه يتضمّن الإنشاء.

ثم أشكل على الثاني أيضا بما أورده على تقديم القبول المنشأ بلفظ قبلت، و ذكر أنّ غاية ما يستفاد من الأمر و طلب المعاوضة هو الدلالة على الرضا بها، و لكن ليس فيه إنشاء و نقل في الحال.

ثم أورد على الاستدلال بالفحوى بالنسبة إلى النكاح بمنع الفحوى، و قصور دلالة الروايات عليه في النكاح أيضا.

و لكن اختار الجواز في الثالث نظرا إلى تضمنه إنشاء المعاوضة كالبائع، غاية الأمر أن البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بازاء ماله، و المشتري ينشئ عكس ذلك، و وجود معنى المطاوعة في القبول غير لازم، و لكن تردد فيه في آخر كلامه نظرا إلى أنّ المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب فقال: الحكم لا يخلو عن شوب الإشكال (انتهى ملخصا).

هذا و لكن يظهر من بعض المحشّين أنّ القسمين الأخيرين لا ينبغي أن يكونا محطّ

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 117

الكلام، أمّا بالنسبة إلى القسم الثالث فإن قول المشتري: اشتريت كذا بكذا، إيجاب من قبله و لا يبقى بعده محل لا يجاب البائع، بل يبقى قبول البائع و تنفيذ ما أوجبه المشتري.

و أمّا القسم الثاني ففي الحقيقة هو إذن بايقاع العقد بعده، و حقيقة المعاملة تحصل بالإيجاب فقط بعد ما

كان بإذن المشتري، فلا يبقى إلّا الأول، ثم قال: و التحقيق جواز تقديمه عليه لأنّه و إن كان مطاوعة إلّا أنّه يمكن إنشاؤه مقدما على نحوين:

أحدهما: بنحو الاشتراط نظير الواجب المشروط بأن يقول: إن ملكتني هذا بهذا قبلت.

و الثاني: أن يكون على نحو الواجب المعلق فإنشاؤه حالي و المنشأ استقبالي (انتهى ملخصا) «1».

أقول: و في ما أفاده مواقع للنظر:

1- الصورة الاولى التي ذكرها من جواز الإنشاء على نحو الواجب المشروط ليس من قبيله، بل من قبيل التعليق في الإنشاء الذي يأتي بطلانه.

2- الصورة الثانية، أعني الإنشاء على نحو الواجب المعلق، فهو أيضا باطل لما ذكرنا في محله من فساد المبني، و أن الواجب المعلق يعود إلى التناقض في الإنشاء، و هو غير جائز.

3- سلمنا جواز ذلك كله، و لكن مثل هذا الإنشاء، أعني تقديم القبول بلفظ قبلت، ممّا لا يعرفه العقلاء من أهل العرف، مع أن عموم «أوفوا» منصرف إلى ما هو المعروف المتداول بينهم قطعا، و إلّا جاز لكل أحد اختراع عقد لنفسه و لزميله و المعاملة على وفقه من دون أن يعرف لدى العقلاء و يتداول بينهم، و لا أظن الالتزام به من أحد.

4- و أشكل من الجميع الاكتفاء بالإيجاب فقط بعد الاذن، فهل يجوز لمن اذن له في أمر النكاح أن يقول «زوجت فلانة لنفسي» و يتمّ الأمر من دون إنشاء القبول، و هذا منه مبني على توهّم كون الإنشاء تاما من قبل الموجب، و أنّ موقف القبول موقف «شكر اللّه سعيك» و أمثاله، و لكنك عرفت بطلان هذا المبنى فيما مرّ آنفا و أنّ العقد و المعاهدة أمر قائم بطرفين.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 118

5- أنّه لا يعتبر في حقيقة العقد المطاوعة

من أحد الجانبين، بل الظاهر كما عرفت إمكان تركب العقد من جملتين يدلان على إنشاء العقد من الجانبين و المعاهدة و التوافق و الالتزام بأمر ترتبط بكليهما و إن لم يكن أحدهما من قبيل المطاوعة، كما إذا قال أحدهما:

ملكتك هذا بهذا، و قال الآخر، أنا أيضا ملكتك هذا بهذا.

و الذي يتحصل من جميع ما ذكرنا أن تقديم القبول بلفظ «قبلت» و شبهه مشكل جدّا بل ممنوع لما عرفت من صدق العقد عليه عرفا، لعدم تعارفه عندهم قطعا و عدم اعتدادهم بمثله، فلا تشمله عمومات وجوب الوفاء بالعقود و شبهها.

و ما ذكر في توجيهه بمشابهته للواجب المشروط أو المعلق على فرض صحته لا يفيد في ما ذكر.

و أمّا تقديمه بصورة الأمر و الاستيجاب، فلو لا وروده في بعض أخبار أبواب النكاح أو البيع لأمكن الإشكال عليه أيضا، بمثل ما مر في قبلت، مضافا إلى ظهوره في الاستدعاء كما لا يخفى على من تدبّر.

و أمّا ما ورد في هذا المعنى في روايات النكاح من حديث سهل الساعدي فدلالته لا بأس به، و ليس فيه أثر من قبول الرجل بعد تزويج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إيّاه وكالة عن قبل المرأة، و لو كان لنقل إلينا عادة، و هذا المقدار من الفصل بين الإيجاب و القبول غير قادح كما سيأتي إن شاء اللّه عن قريب.

نعم فيه إشكال ظاهر من حيث السند نظرا إلى أنّه مرسلة عوالي اللئالي «1» و لكن بمضمونه رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه السّلام يحكى قصة امرأة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تشبه ما ورد في رواية سهل، بتفاوت يسير، و هي معتبرة الاسناد ظاهرا «2» و ليس في

سندها من يتكلم فيه.

و أوضح من هذه الرواية، دلالة ما ورد في موثقة سماعة (و قد وصفه المحقق اليزدي قدّس سرّه في تعليقته بالصحة)»

في أبواب البيع في بيع اللبن في الضرع و أنّه لا يصح حتى يضم إليه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 119

شيئا مثل أن يحلب في الاسكرجه فيبيعه مع ما في الضرع و يقول اشتر مني هذا اللبن الخ «1».

فقد ورد الإنشاء فيه بلفظ الأمر، و سند الحديث معتبر، و في مصباح الفقاهة نقل هذه الرواية بلفظ المضارع لا الأمر، و الظاهر أنّه خطأ منه، فان المذكور في الرواية أنّه من قول صاحب اللبن، و ذكر بعده لفظة «مني»، و هذا كالصريح في كونه «اشتر» بلفظ الأمر لا بلفظ المضارع.

و مع ذلك يشكل نفي الجواز، بل قد عرفت أنّه مقتضى القواعد أيضا إذا كان محفوفا بالقرائن الدالة على أنّ الأمر ليس بصدد الاستدعاء بل ورد في مقام الإنشاء.

و أمّا الإنشاء بقوله «اشتريت»، فالانصاف أنّه لا غبار عليه، بل يصح عدّة إيجابا من ناحية المشتري يتعقبه القبول من ناحية البائع، و لا دليل على لزوم كون البائع موجبا دائما و المشتري قابلا، كما أنّه لا دليل على وجوب كون الزوج قابلا دائما، بل يجوز بالعكس كما ورد في كثير من روايات باب النكاح، و قد مرت الإشارة إليها و هي روايات كثيرة.

بقي هنا أمران:

الأمر الأول: إنّ العلّامة الأنصاري قدّس سرّه ذكر في آخر كلامه في المقام أنّ العقود على قسمين، ثم قسم كلّا منهما إلى قسمين، و محصل ما ذكره في الأقسام الأربعة ما يلي:

الأوّل: ما يكون فيه التزامان متساويان (كالصلح).

الثاني: ما يكون فيه التزامان مختلفان (كالبيع و الإجارة) فان التزام البائع يغاير التزام المشتري، و

كذا الموجر و المستأجر.

الثالث: ما لا يكون في قبوله إلّا الرضا مع مطاوعة الإيجاب (كما في الرهن و الهبة و القرض).

الرابع: ما لا يكون فيه سوى الرضا بالإيجاب (كما في الوكالة و العارية و شبهها).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 120

و ذكر بعد هذه التقسيم أنّ «تقديم الإيجاب على القبول لا يكون إلّا في القسم الثاني من القسمين» يعني القسم الثاني و الرابع ممّا ذكرنا، و لم يذكر فيه أزيد ممّا عرفت، و الظاهر بقرينة ما سبق في كلامه أنّ الأول، أي المصالحة و شبهها، لا يتصور فيها تقديم القبول على الإيجاب لأنّ إنشاءهما سيان.

و في الثالث لا يتصور تقدم القبول لما عرفت من لزوم المطاوعة فيه، فلا يبقى إلّا الثاني و الرابع، و يجوز فيهما تقدم القبول بلفظ «اشتريت» في مثل البيع، و بلفظ «رضيت» في مثل الوكالة و العارية و أشباههما.

هذا و ما أفاده و إن كان جيدا من بعض الجهات إلّا أنّه لا يخلو عن بعض الإشكالات لجواز تقديم القبول في القسم الثالث أيضا على الأقوى، إذا لم يكن الإنشاء بما يشتمل على مفهوم المطاوعة بأنّ يقول المرتهن: أخذت هذا منك بعنوان الرهن، و كان في مقام الإنشاء، قول الراهن: أعطيتك هذا بعنوان الرهن، أو أعطيتك إيّاه كذلك.

فيتحصل من ذلك جواز تقديم القبول في جميع هذه العقود إذا لم يكن بلفظ «قبلت» و ما أشبهه، و يشكل في ما كان بهذا اللفظ و شبهه لما عرفت من عدم عرفيته.

الأمر الثاني: أنّه قد تقسم العقود إلى قسمين: «عهدية» و «إذنية».

فالعهدية ما تحتاج إلى إنشاء القبول، و الاذنية ما لا تحتاج إلّا إلى الرضا بالإيجاب فقط، بلا حاجة إلى إنشاء آخر غير ما صدر من الموجب.

و

مثّلوا للأول بالبيع و النكاح و غيرهما من أشباههما، و للثاني بالوديعة و العارية بل الوصية أيضا، و صرّح بعضهم بأنّ الوكالة على قسمين: عهدية: و هي من العقود تحتاج إلى الإيجاب و القبول، إذنية: و هي ما إذا أذن المالك لزيد مثلا في بيع داره صحّ له بيعها، و لكن لا يترتب عليه أحكام الوكالة العهدية، ثم ذكر عدم حاجة شي ء من العقود الاذنية إلى اعتبار تقدم الإيجاب على القبول «1».

قلت: أمّا حكم القبول في العقود المختلفة فقد عرفته، و أمّا كون شي ء من العقود لا يحتاج إلى إنشاء غير الإيجاب، فهو محل إشكال بل منع، فانّ العقد أيّا ما كان أمر دائر بين انوار الفقاهة، ج 1، ص: 121

اثنين، و يحتاج إلى إنشاءين، لأنّه من الامور القائمة بطرفين، و لا معنى للمعاهدة القائمة بطرف واحد، كما يظهر بمراجعة أهل العرف في فهم معنى العقد و المعاهدة و ما يسمّى في الفارسية ب «قرارداد».

و أمّا الوديعة، فهي التزام في مقابل التزام، لأنّ الودعي يلتزم بحفظ الوديعة، و لذا قد لا يقبلها، و لا يلتزم بحفظها و كذلك العارية و شبهها.

و المتهب أيضا ينشأ قبول الهبة، أوضح منه الوكالة، و أمّا لو أجاز المالك التصرف في ماله بالبيع و نحوه أو بالانتفاع منه، فهذا ليس من العقود قطعا بل مجرّد اباحة مالكية تستلزم اباحة شرعية، فيجوز للمأذون له التصرف فيه شرعا بل يجوز بيعه إذا أجاز، و عمله يكون من قبيل الأعمال التسببية للمالك و إن لم يكن هناك وكالة.

فكأنّ الخلط هنا نشأ من الخلط بين «الاباحة المالكية» و «العقدية» فتدبّر جيدا، و الجملة فالعقد أمر يدور بين اثنين يتوافقان على شي ء و ينشئان العقد عليه،

و لا معنى لتركبه من إنشاء واحد و رضى به.

المقام السادس: اعتبار الموالاة في العقد

هل يعتبر التوالي بين الإيجاب و القبول و عدم الفصل الطويل بينهما، أم لا؟ عن جماعة من أكابر الفقهاء اعتباره.

و من العجب أنّ المحقق قدّس سرّه لم يتعرض له في البيع في الشرائع و لا في النكاح، و لم يذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه هنا إلّا كلاما موجزا للغاية، فانّه بعد نقل اعتبار الاتصال عن جماعة قال: «قلت: المدار في هذه الموالاة على العرف فإنّه الحافظ للهيئة المتعارفة سابقا في العقد، الذي نزلنا الآية عليه، فإنّ الظاهر عدم تغيرها» انتهى. «1»

و على كل حال فغاية ما استدل أو يمكن الاستدلال به على هذا الشرط امور:

الأمر الأول: و هو العمدة، عدم صدق العقد إذا كان هناك فصل مفرط بين الإيجاب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 122

و القبول، لأنّ للعقد هيئة اتصالية في نظر العرف، بل هو بطرفيه (الإيجاب و القبول) بمنزلة كلام واحد يرتبط بعضه ببعض، فكما لا يجوز الفصل الطويل بين أجزاء كلام واحد و إلّا لم يصدق عليه كلام واحد، فكذلك العقد.

هذا و قد أورد عليه بوجهين:

أحدهما: إنّ الدليل على صحة المعاملات عموما و البيع خصوصا، ليس خصوص وجوب الوفاء بالعقود، بل يجوز التمسك بما دلّ على حلية البيع و التجارة و صدقهما مع الفصل ظاهر.

ثانيهما: المنع من عدم صدق العقد على ما كان فيه فصل بين الإيجاب و القبول، و ذلك لأنّ العقد ليس اسما للفظ المركب منهما، بل هو عبارة عن الأمر النفساني الذي هو العهد، و هذا لا ينفصم بمجرّد الفصل بين الإيجاب و القبول، غاية الأمر أنّ الاعتبار القائم بالنفس يحتاج إلى مظهر، و إن شئت قلت: العقد عبارة عن اتصال

الالتزامين، و هذا المعنى حاصل ما لم يرجع الموجب عن التزامه، مهما كانت الفاصلة (انتهى ملخصا).

هذا و لكن الانصاف أنّ شيئا منهما غير صالح للجواب، لأنّ البيع و إن كان بعنوان المعاطاة كان خارجا عن محل الكلام، و إن كان بعنوان العقد اللفظي و البيع بالصيغة أمكن المنع عن صدق البيع، إذا قال البائع: بعت هذه الدار بهذا المبلغ، فقال المشتري بعد شهر في مجلس رأى البائع فيه: قبلت ما ذكرت قبل أو سنة، فإن صدق البيع و التجارة على مثل ذلك محل منع أو محل شك، و إن بقي البائع على نيّته و اعتباره.

و أمّا حديث كون الإنشاء اعتبارا مبرزا فقد عرفت الإشكال فيه بما لا يحتاج إلى التكرار، و أنّ حقيقة الإنشاء إيجاد الاعتبارات العقلائية بأسبابها، فإنّهم يعتبرون الملكية لمن اشترى شيئا و أوجدها في عالم الاعتبار بأسبابها، فليست الملكية أمرا تكوينيا كما أنّه ليس مجرّد اعتبار في نفس المنشئ بل هي اعتبار عند العقلاء و أهل العرف يوجد بأسبابه.

فالعقد هو هذا الإنشاء اللفظي أو الكتبي أو غير ذلك بماله من المعنى، و لكن بعد ما حصل الإنشاء بأسبابها يرون له بقاء، و لذلك يجعلون للعقد تاريخا معينا، و إن شئت قلت: العقد اسم للعقد السببي.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 123

سلّمنا، و لكن هذا الأمر النفساني بمجرّده لا يصدق عليه العقد إذا لم ينظم إليه إنشاء القبول في زمن مناسب، و لا أقول: إنّ الالتزام النفساني ينعدم، بل أقول: إنّ وجوده غير كاف في صدق العقد بدون الانضمام في زمن قريب، و إن شئت اختبر نفسك في ما إذا انشأت بيعا، بعد عدّة شهور أو سنين جاء المشتري و قبله، فهل تراه عقدا يجب

الوفاء به بحكم الشرع و العقلاء؟

الأمر الثاني: عموم وجوب الوفاء منصرف إلى العقود المتعارفة، سلّمنا صدق العقد على المنفصل في الجملة لكنه خارج عن منصرف العموم لأنّه متعارف، و هذا هو الذي أشار إليه صاحب الجواهر قدّس سرّه فيما عرفت، و الانصاف أنّه كذلك حيث ينصرف الذهن في هذه الاطلاقات و العمومات بما دارت بين العقلاء من عقودهم و بيوعهم و تجاراتهم إلّا ما خرج بالدليل، و المعمول بينهم هو العقد المتصل عرفا.

الأمر الثالث: ما حكي عن بعض المشايخ من أنّ حقيقة البيع و ما يشبهه من العقود هي من قبيل الخلع و اللبس، فإذا وقع خلع لا بدّ أن يقاربه لبس و لا يتأخر عنه.

و فيه: إنّ هذا كلام شعري لا يساعد عليه دليل، مضافا إلى أنّ الخلع لا يكون بفعل الموجب، و اللبس بفعل القابل، بل الخلع و اللبس كلاهما يقعان في آن واحد بمجموع العقد، أعني الإيجاب و القبول كليهما.

هذا و قد يستدل على عدم اعتبار الموالاة بالسيرة القطعية على ارسال الهدايا من البلاد النائية و وصولها إلى أيدي المهدى إليهم بعد شهر أو شهور، و لم يسمع من أحد الإشكال فيها للفصل الطويل بين الإيجاب و القبول.

و كذا ما يقع بين التجار من البيع و الشراء بالكتابة و شبهها مع ما بين الإيجاب و القبول فيها من الفصل الطويل و لم يناقش فيها أحد من أهل العرف.

و استدل أيضا بقصة مارية القبطية الموهوبة للنبي صلّى اللّه عليه و آله من النجاشي بعد إسلامه و لا فرق بين الهبة و غيرها (انتهى ملخصا).

و أنت خبير بأنّ شيئا من ذلك لا يسمن و لا يغني، بل هي أجنبية عمّا نحن بصدده.

أمّا مسألة الهدايا،

و منها حديث مارية زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله فلا شك إنّها هبة معاطاتية و ليس بين إيجابها و قبولها فصل و لو بلحظة، إنّ إيجابها إنّما يتمّ عند وصولها إلى يد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 124

المهدى إليه، الذي هو قبول من ناحيته، و في لحظة واحد يتمّ الإيجاب و القبول باعطائها و قبولها.

و كأنّه زعم أنّ إيجابها إخراجها من يد مالكها و إن لم تصل إلى يد المهدى إليه، بل كان بيد وكيل المهدي أو رسوله، مع أنّه ممّا لا ينبغي التفوه به، و ما قد يقال من أن المهدي قد يكون في لحظة الوصول غافلا أو نائما، غير مانع قطعا، بعد كون يد الرسول أو الوكيل كيده، و كفاية كون قصد التمليك في صقع نفسه و كمون إرادته.

و أمّا قياس مسألة الكتابة على الألفاظ، فإنّه قياس مع الفارق جدّا، لأنّ الكتابة بعينها أمر باق حتى تصل إلى يد الطرف الآخر، فيوقع عليها، و يحصل الربط المعتبر في العقد و الانسجام اللازم بينهما، و أمّا ألفاظ الإيجاب فإنّها تنعدم بمجرّد التكلم بها، فلو لم تقع ألفاظ القبول بعده بلا فصل طويل فسوف يخلّ بالهيئة الاتصالية المعتبرة في العقد عند العرف.

و الحاصل: أنّ العرف يرى الإيجاب الحاصل بالكتابة أمرا باقيا فلذلك لا مانع عندهم في رجوع أحد الطرفين- بعد تمام المقاولة- إلى مكاتب الاسناد الرسمية و يتمّ توقيعه، و الآخر يرجع إليه بعد يوم أو أيّام مثلا و يوقع عليه، و أمّا الألفاظ فليست عندهم بهذه المثابة كما هو ظاهر لمن راجعهم في ذلك.

و تلخص ممّا ذكرنا أنّ اعتبار الموالاة في العقود اللفظية ممّا لا ينبغي الريب فيه، و ما قد يدعى من الإجماع

عليه أيضا راجع إلى ما عرفت، لا أنّه إجماع تعبدي كما يظهر أنّ مقدار الفصل المعتبر فيه هو أن لا يضر بالهيئة الاتصالية المتعارفة بين العقلاء في العقود اللفظية فتدبّر جديا.

و من يعرف أنّ الموالاة المعتبرة بين إيجاب العقد و متعلقاته أضيق نطاقا ممّا يعتبر بينه و بين القبول، كما هو كذلك بالنسبة إلى آيات السورة، و كلمات نفس الآية و حروف كلمة واحدة، و لعل ذكر المستثنى و المستثنى منه في كلام الشهيد قدّس سرّه في القواعد بعنوان الأصل لهذه المسألة، ناظر إلى شدّة ارتباطها من بين أجزاء الكلام كما لا يخفى.

المقام السابع: اعتبار التنجيز في العقد
اشارة

قد وقع الكلام بينهم في اعتبار التنجيز في العقود و عدمه، فعن المشهور، بل ادّعى عليه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 125

الإجماع غير واحد من الأصحاب رضوان اللّه عليهم، اعتباره، نعم حكي التأمل في البطلان عن المحقق الأردبيلي و المحقق السبزواري (رحمهم اللّه)، بل عن المحقق القمي قدّس سرّه الجزم بالصحة في الوكالة المعلقة، و اختاره بعض أكابر المعاصرين أيضا في جميع العقود «1» و عن جماعة من العامة أيضا عدم اعتباره.

و قد تعرض الأصحاب للمسألة في أبواب الوكالة، و الوقف، و النكاح أكثر من البيع، و الظاهر أنّ ذلك لعموم البلوى بها في تلك الأبواب دون البيع، فانّ الإنسان كثيرا ما لا يريد اتخاذ الوكيل في كل حال بل يريده في حال خاص لا يمكنه القيام بفعل من الأفعال، كما أنّه قد لا يريد الوقف حاليا و بدون شرط بل يريده استقباليا أو مع الشرط.

و هكذا في أبواب النكاح كما لا يخفى، و التعليق في إنشاء البيع أقلّ منه.

و كيف كان فقد صرّح باعتبار الشرط المذكور العلّامة قدّس سرّه في القواعد في

كتاب الوقوف و العطايا «2»، و كذلك في كتاب النكاح «3» و في كتاب الوكالة «4».

و ذكر المحقق قدّس سرّه في الشرائع، التنجيز من الشرائط الأربعة للوقف في كتاب الوقف، و من شرائط الوكالة كذلك.

و ذكر المحقق الثاني قدّس سرّه أيضا في كتاب الوكالة و ادّعى إجماع علمائنا حيث قال:

«يجب أن تكون الوكالة منجزة عند جميع علمائنا فلو علّقها على شرط و هو ما جاز وقوعه كدخول الدار، أو صفة و هي ما كان وجوده محققا كطلوع الشمس لم يصحّ، و ذهب جمع من العامة إلى جوازها معلقة لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في غزاة مؤته: «أميركم جعفر، فإن قتل فزيد بن حارثة ...» و التأمير في معنى التوكيل، و لأنّه لو قال: أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاج صحّ إجماعا» «5» و ذكر هو هذا الشرط في كتاب الوقف أيضا «6» و كذا في النكاح «7».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 126

و ذكره في المسالك و شرح الإرشاد و غاية المرام و غيرها مع دعوى الإجماع أو عدم الخلاف في بعضها، كما حكى عنهم.

هذا و الذي يظهر من كلماتهم أنّه ليس كل تعليق في كل عقد عندهم موجبا للفساد أو مجمعا على بطلانه، و لذا صرّح غير واحد باستثناء بعض صور التعليق عن هذا الحكم.

فالأولى استعراض الصور المتصورة في المقام، ثم التعرض إلى أدلة هذا الحكم و البحث في مقدار دلالتها على المطلوب، فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية):

إنّ الصور التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه تبلغ ست عشر صورة، فان التعليق إمّا أن يكون على أمر معلوم التحقق، و إمّا أن يكون محتمل التحقق، و على كل تقدير

إمّا يكون تحققه في الحال أو المستقبل، فيكون لدينا أربع صور، و أمثلتها واضحة، فالأول: كأن يقول: إن كان هذا اليوم يوم الجمعة فقد بعته (مع كون الجمعة معلوم التحقق)، و الثاني: كأن يقول: إذا جاء يوم الجمعة فقد بعته منك، و الثالث: كأن يقول: إن كان والدي راضيا الآن فقد بعته، مع الشك في رضاه.

و الرابع: كأن يقول: إذا رضي والدي في المستقبل فقد بعته منك.

و كل هذه الصور إمّا أن يكون الشرط مأخوذا في مفهوم العقد، أو مصححا له، مثل أن يقول: إنّ كان هذا لي فقد بعته، أو إن كانت هي زوجتي فقد طلقتها، أو إن كنت تقبل هذا البيع فقد بعته منك، و إمّا أن لا يكون كذلك، كأن يقول: إن رضي والدي بهذا فقد بعته أو اشتريته منك.

فهذه ثمانية صور، كل واحد إمّا مصرّح به كالأمثلة المذكورة، أو غير مصرّح به، بل هو لازم الكلام كأن يقول: ملكتك هذا بهذا يوم الجمعة، يريد به التعليق.

أدلّة بطلان التعليق في الإنشاء:

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما قيل أو يمكن أن يقال في دليل البطلان، فقد ذكر فيه وجوها خمسة:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 127

الوجه الأول: إنّ التعليق في الإنشاء محال و غير معقول، فانّ الإنشاء بمعنى الإيجاد في عالم الاعتبار، فهو أمر إمّا يوجد أو لا يوجد، و لا معنى لكون شي ء موجودا على تقدير و معدوما على تقدير آخر.

و إن شئت قلت: الإنشاء نوع من الإيجاد و هو متحد مع الوجود، و الاختلاف بينهما إنّما هو بالاعتبار، و بالنسبة إلى الفاعل تارة و القابل اخرى، و من الواضح أنّ الوجود في الخارج لا يتصور فيه تعليق.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه: بأنّ التعليق في

الإنشاء بمعنى إنشاء الملكية المتحققة على تقدير دون آخر، أمر متصور واقع في العرف و الشرع كثيرا في أبواب الأوامر و العقود و الايقاعات (انتهى).

و ظاهر كلامه هذا ارجاع التعليق إلى المتعلق لا إلى نفس الإنشاء، و كأنه اعترف بعدم إمكان التعليق فيه، و هذا نظير ما اختاره هو بنفسه في ما حكى عنه في تقريراته في بحث الواجب المشروط من أنّ القيد (أي الشرط) راجع إلى المادة لا الهيئة، فكان الواجب المشروط عنده مساوقا للواجب المعلق الذي ذكره صاحب الفصول قدّس سرّه.

و لعله من هنا أخذ عنه مصباح الفقاهة، و صرّح بأنّ المستحيل إنّما هو التعليق في الإنشاء بداهة أنّ الإنشاء- بأي معنى كان- قد فرض وجوده في الخارج، و عليه فلا يعقل تعليقه على شي ء ما (انتهى).

و الظاهر أنّ مبني على مختاره من أنّه ليس الإنشاء بمعنى الإيجاد، بل «هو ابراز لأمر نفساني من اعتبار الملكية أو شي ء آخر» و كما يمكن اعتبار الوجوب أو الملكية الفعلية، يمكن اعتبار الملكية أو الوجوب على تقرير، و اين هذا من تخلف الإيجاد عن الوجود «1».

أقول: هذه مسألة عويصة غامضة في بابي «الأوامر» و «المعاملات» و حلّها يتوقف على تحقيق امور:

1- إنّ الظاهر بحسب القواعد العربية، أو قواعد سائر الألسنة، أن الشرط في القضية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 128

الشرطية قيد للهيئة، أي الوجوب في الواجب المشروط في مثل قولك: «إنّ استطعت فحج» و للتمليك في قولك: «إن جاء زيد فهذا لك» لا أنّه قيد «للملكية» المنشأة أو الواجب، أي «الحج» بأن يكون المعنى: يجب عليك الحج المقيد بالاستطاعة، أو: جعلت لك الملكية المقيدة بمجي ء زيد.

فصرف هذه الكلمات عن ظاهرها يحتاج إلى دليل قاطع، مع أنّ الوجدان أصدق

شاهد على كون المعلق عليه نفس الوجوب أو التمليك لا غير، و لا يرى بالوجدان في هذا التعليق أمر محال بل و لا مشكل.

فجميع ما قيل بارجاع القيد إلى المادة أو المنشأ، غير قابل للقبول، و ما يدعي من الدليل على استحالة التعليق في الإنشاء، و شبهة في مقابل صريح الوجدان لا بدّ من حلّها و سنكشف النقاب عنها.

2- و من ناحية اخرى فانّ الدليل المذكور على استحالة التعليق في الإنشاء صحيح في بادي النظر، لأنّ الإنشاء إيجاد، و الإيجاد لا يمكن أن يكون معلقا على شي ء، بل أمره دائر بين الوجود و العدم.

و ما ذكره بعض الأكابر- فرارا عن هذا الإشكال و أشباهه- من أنّ الإنشاء ليس أمرا إيجاديا، بل هو ابراز ما في الضمير من الإرادة أو الاعتبار النفساني أيضا، و مخالف للوجدان كما لا يخفى، لأنّ كلّ واحد يرى في نفسه أنّه إذا أنشأ عقد البيع أو النكاح أو غيره أنّه يوجد شيئا لم يكن من قبل، لا أنّه كان موجودا من قبل فأظهره، و هذا أمر ظاهر بمراجعة الوجدان الصريح.

و ما قد يقال من أنّ الإيجاد هنا بأي معنى كان لا وجه له، أمّا الإيجاد في التكوين فغير معقول هنا، و في نفس المنشئ لا يحتاج إلى ألفاظ و صيغ، فقد عرفت جوابه و أنّ الإنشاء إيجاد في اعتبار العقلاء، لأنّهم اعتبروا الملكية لكل من يتوصل إليها بأسبابها المعروفة عند العقلاء، فتدبّر فانه حقيق به.

3- و بعد ذلك كله نقول: إنّ مفتاح حلّ هذه المشكلة هو كشف معنى الشرط، فما حقيقة معناه، و ما حقيقة مفهوم «إن» الشرطية؟

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 129

الذي يظهر بالمتأمل أنّ مفهومها و مفهوم أدوات الشرط هو

نوع من الفرض و التقدير بمعناه الحرفي، فإذا قال المخبر: إذا طلعت الشمس فالنهار موجود، فانّه يفرض طلوع الشمس أولا، ثمّ يرى وجود النهار عقيبه فيخبر عنه، و إذا قال الآمر: إن استطعت فحج، فقد فرض الاستطاعة موجودة، فبعث نحو الحج عقيب هذا الفرض.

و الحاصل: أنّ الإنشاء كالإخبار المشروط أمر متحقق في عالمه، و لكن كل واحد عقيب فرض و مرتبط به، فالإنشاء بمعنى الإيجاد حاصل، و لكن لما كان عقيب فرض خاص لا أثر له في بعث المكلّف إلّا بعد تحقق ذاك الفرض، فالمولى في الواجب المشروط يفرض نفسه عند استطاعة العبد فيأمره بالحج في هذا الظرف.

و كذا المخبر بوجود النهار عند طلوع الشمس يفرض أنّ الشمس قد طلعت فيحكم بوجود النهار حينئذ، و الحاصل أنّ حقيقة الاشتراط و التعليق حكم إخباري أو إنشائي جزمي لكن بعد فرض خاص يفرضه.

و بهذا تنحل مشكلة الواجب المشروط و إمكان التعليق في نفس الإنشاء في المعاملات جميعا، فتدبّر.

4- لا بدّ لنا أن نقوم بتحليل معنى القضية الحقيقة و بيان محتواها أيضا، و الفرق بينها و بين القضية الخارجية، فنقول، و منه عزّ اسمه نستمد التوفيق: إنّ القضية الحقيقية التي يدور الحكم فيها مدار موضوع مفروض الوجود ترجع بالمآل إلى قضية شرطية كما صرّح به المنطقيون، كما أنّ القضايا الشرطية تعود إلى قضية حقيقية أحيانا، فقول القائل، إن استطعت فحج، يطابق قول: يجب الحج على المستطيع، لا فرق بينهما أصلا، كما أنّ قولنا «الكر من الماء لا ينجسه شي ء» في قوّة قولنا «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي ء».

فعنوان الموضوع في هذه القضايا ينحل إلى شرط و أداته، و المحمول يكون بمنزلة جزائه، و تعبيرهم بأنّ الموضوع

في القضايا الحقيقية مفروض الوجود أيضا يؤكد ما ذكرنا.

فإذا أراد القائل الإخبار عن الموضوع الموجود الخارجي أشار إليه بأي عنوان أراد و ذكر حكمه.

أمّا إذا أراد حكما عاما يشمل الموجود و مقدر الوجود أخذ عنوانا شاملا لما هو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 130

موجود أو سيوجد، و فرضه في افق حكمه أمرا موجودا، فأجرى الحكم على الجميع على نحو واحد.

فتلخص من جميع ما ذكرنا أنّ التعليق في الإنشاء فضلا عن التعليق في المنشأ أمر معقول واقع في الخارج في أبواب الأوامر و النواهي و العقود و الايقاعات، و لا ينبغي التأمل في إمكانه و عدم استحالته، فالتمسك بالاستحالة لبطلان التعليق في العقود لا وجه له.

الوجه الثاني: ممّا استدل به غير واحد منهم على اعتبار التنجيز في العقود إنّها متلقاة من الشارع، يقتصر فيها على ما هو المعلوم من الشرع، و لم تثبت الصحة في غير ما هو منجز.

و فيه: ما عرفت كرارا من أنّها امور عقلائية قبل أن تكون في الشرع، و أنّ الشارع امضاها مع قيود خاصة، فاطلاقات أدلّة الامضاء و عموماتها شاملة للجميع إلّا ما خرج بالدليل، نعم لا يبعد صحة دعوى التوقيفية في خصوص «النكاح» و «الطلاق» لتصرف الشارع فيها تصرفا كثيرا أخرجهما عمّا هو دارج في العرف و الحقهما بالتوقيفيات، و لذا يقال: إنّ فيهما شائبة العبادة!

الوجه الثالث: إن التعليق على الشرط تعليق على أمر مجهول، و هو ينافي الجزم المعتبر في المعاملات.

و يظهر ذلك من كلام العلّامة قدّس سرّه في التذكرة حيث قال:

«إنّ التعليق مناف للجزم حال الإنشاء، إلى أن قال: فلو علق العقد على شرط لم يصحّ، و إن كان الشرط المشيّة للجهل بثبوتها حال العقد و بقائها» انتهى.

و فيه: مضافا

إلى أنّه يقتضي البطلان في خصوص بعض فروض المسألة، و هو صورة الجهل بتحقق الشرط لا ما هو معلوم في حال أو المستقبل، أنّه مصادرة بالمطلوب و دعوى بلا برهان، لعدم استناده في اعتبار الجزم و لزومه في العقد إلى ركن وثيق.

الوجه الرابع: إنّ ظاهر أدلّة سببية العقد لآثاره أنّه تترتب عليه تلك الآثار حين وقوعه و لكن التعليق يوجب انفكاكه عنها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 131

و قد أجيب عنه بوجوه: أحسنها أن ترتب الأثر على كل عقد ممّا لا شك فيه، و لكن ذلك تابع لمدلول العقد و محتواه، فلو كان منجزا كان أثره كذلك، و لو كان معلّقا كان أثره معلّقا.

و أمّا لو اريد لزوم الأثر المنجز في كل عقد كان هذا مصادرة واضحة.

أضف إلى ذلك أنّ هذا الدليل أخص من المدعى لخروج التعليق على الشرط الحالي خارجا منه كما هو ظاهر.

الوجه الخامس: إنّ التعليق في إنشاء العقود خلاف ما تعارف بين أهل العرف و العقلاء في عقودهم، لأنا لا نرى من يبيع ماله معلّقا على مجي ء يوم الجمعة، أو قدوم الحاج، أو تزويج امرأة معلّقا على شهر فلان أو غير ذلك من أشباهه.

و من المعلوم انصراف أدلّة صحة العقود و حليّة البيع و التجارة إلى ما هو المتعارف بين العقلاء كما مرّ مرارا.

و لعمري هذا من أحسن الأدلة في المقام، و كأن ما يرى في كلماتهم ممّا يشبه المصادرة على المطلوب من تسلّم اعتبار التنجيز في العقد، نشأ من هذا الارتكاز العرفي الموجود في ذهن هؤلاء الأعلام.

نعم التعليق في بعض العقود أو الايقاعات متعارف، بل لعله جزء لمفهوم بعضها، كالتدبير، فانّه عبارة عن العتق معلقا على وفاة المولى، أو أعم منه، على كلام

فيه في محله، و يظهر من كلماتهم في التدبير أنّه خرج عن حكم بطلان التعليق للنصوص الواردة فيه، و لذا اقتصروا فيه بالنسبة إلى جميع خصوصياته على القدر المتيقن منه «1».

و كذا الوصية التمليكية (بل العهدية من بعض الجهات) أيضا تمليك معلق على الوفاة، و لذا قال في صاحب الجواهر قدّس سرّه في بعض كلماته في كتاب الوصية: «إنّ التعليق ممنوع في البيع لا في الوصية التي مبناها على ذلك» «2».

و لكن مع ذلك لم يرخصوا ظاهرا التعليق فيها و في التدبير بالنسبة إلى غير ما هو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 132

مقتضى طبيعتهما، قال المحقق قدّس سرّه في باب التدبير من الشرائع: «الشرط الثاني (من شرطي صيغة التدبير) تجريدها عن الشرط و الصفة في قول مشهور للأصحاب فلو قال: «إن قدم المسافر فأنت حر بعد وفاتي» أو إذا أهلّ شهر رمضان مثلا، لم ينعقد» انتهى. و كذا الأمر في النذر شكرا أو زجرا، كأن يقول: إن عافاني اللّه فللّه عليّ كذا، أو إن فعلت هذا الأمر فللّه على كذا (لا النذر تبرعا من دون شرط) بل قد يقال: إنّ الصحيح من النذر هو الأولان، و أمّا النذر التبرعي فهو أمر مشكوك فيه.

و الحاصل: إنّ بعض العقود بطبيعة ذاته مشتمل على التعليق في الإنشاء لا يمكن تجريده منه، و من المعلوم أنّه لا يضرّه ذلك، و لكن غيره ممّا ليس كذلك، بل و لا نفس هذه العقود بالنسبة إلى الشرائط الزائدة لا يجوز فيها التعليق ارتكاز الفقهاء المأخوذ ظاهرا من ارتكاز العرف في ذلك.

و لعل السرّ فيه أنّ المعاقدة و المعاهدة إنّما شرعت لحلّ مشاكل الناس في الامور التي لها صلة بأموالهم و حقوقهم، و هذه المشاكل

لا تنحل بالعقود المعلقة على شروط مختلفة، لا سيما المجهولة منها، و لا سيما المستقبلة، بل تزيدهم مشاكل جديدة، فتأمل جيدا.

الوجه السادس: الإجماع المدعى في كلمات الأكابر، و الظاهر أنّه ثابت، و لا يعبأ بخلاف شاذ، أو تردده فيه، هذا و لكن الإشكال كله في كشفه عن قول المعصوم عليه السّلام و الظاهر أنّه غير كاشف بعد احتمال استناد المجمعين إلى ما سبق من الأدلّة، مع عدم وروده في شي ء من آثارهم، و لكن الأمر سهل بعد ما عرفت من الأدلّة السابقة أنّ بعضها تام لا ريب فيه.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفصيل الحكم المزبور فنقول: إنّ حكم الأقسام السابقة يتفاوت بحسب الأدلّة، و القدر المتيقن من الجميع أنّ التعليق على أمر مستقبل مجهول لا دخل له في العقد، كما إذا علق العقد على مجي ء والده، أو الاستغناء عن المتاع في المستقبل، أو غير ذلك مع كونه مشكوكا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 133

و أمّا إذا كان التعليق على المستقبل المعلوم كحلول شهر فلان، أو تمام الموسم فإنّه لا يفسد على قول من استند إلى عدم جواز الجهل بوقوع العقد، و يفسد على المختار لعدم تعارف ذلك أيضا، بل الظاهر أنّه داخل في معقد الإجماع.

أمّا الأمر المشكوك الحالي، فهو باطل على مبنى القائل بقدح الجهل، و كذا على كثير من الأدلّة الاخرى، دون من يستند إلى عدم جواز انفكاك أثر العقد عنه، فإنّه يصححه.

و أمّا المعلوم الحالي فأقل إشكالا منه، و لكن الظاهر دخوله في معقد الإجماع، و كذلك ما اخترناه من الدليل.

يبقى الكلام فيما هو معلق عليه في الواقع، و هو على أقسام ثلاثة:

1- ما يكون من أركان إنشاء العقد، مثل تعليقه على قبول المشتري.

2- ما

يكون من شرائط صحته، كالملكية في البيع و الزوجية في الطلاق.

3- ما لا يكون شيئا من ذلك، و لكن يكون من آثار العقد، كالتعليق على الوفاء بالعقد.

و قد يقال بصحة الجميع لأنّه لا يزيد شيئا على العقد، فهي امور ثابتة ذكرت أم لم تذكر، و لكن الانصاف أنّها أيضا لا تخلو عن إشكال، نعم بالنسبة إلى الشرائط كالملكية و الزوجية، و أشبههما، و لا يبعد الجواز لتعارفها، لا سيما في موارد الجهل، و إلّا اشكل الأمر في العقود التي يؤتى بها احتياطا، كالصلح فيما يشك في وجود الملك فيه، لا في ما يعلم بوجوده و يشك في مقداره.

و كذا الطلاق في موارد الشك في الزوجية و الهبة في موارد الشك في الملكية، و كذا غيره.

و ما قد يقال من أنّ الطريق في الاحتياط في أمثال ذلك هو الإنشاء على سبيل التنجيز لا التعليق، و الإنشاء خفيف المئونة، كما ترى، لأنّ مثل هذا الإنشاء البات لا يصدر من الشاك كما يظهر بمراجعة الوجدان (و اللّه العالم بحقائق الامور).

المقام الثامن: التطابق بين الإيجاب و القبول

و المراد به التطابق بينهما من جميع الجهات، و هو أمر واضح ظاهر يستفاد من التدبير في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 134

مفهوم العقد، و عناوين المعاملات، و شبه ذلك، و لعله لذلك لم يتعرض له الأكثرون على الظاهر.

توضيح ذلك: إنّ حقيقة المعاهدة و المعاقدة لا تحصل إلّا بالتوافق على أمر واحد، فلو اختلفا في شي ء من اصولها و فروعها لم تتحقق مفاهيمها.

و هي تجتمع في امور ثلاثة:

1- التطابق في ماهية العقد، فلو أنشأ الموجب، البيع، و قبل القابل بعنوان الهبة أو الإجارة أو الصلح أو غير ذلك، بطل.

2- التطابق في أركان المعاملة من البائع و المشتري و المتاع،

و حينه و مقداره و وصفه، فلو باع من زيد فقبل عمرو لم يصحّ، أو باع الكتاب فقبل الثياب لم يصحّ، أو باع مأئة طنّ من الحنطة فقبل خمسين طنا لم يصحّ، أو باع الحنطة المستحصلة من البلد الفلاني، فقبل غيرها لم يصحّ، و هكذا غيرها من أشباهها.

3- التطابق في الشرائط، فلو باع بشرط تحويل الثمن إلى زمن كذا، فقبل إلى زمن آخر لم يصحّ، أو باع بشرط خياطة ثوبه أيضا فقبل بدونه لم يصحّ، كل ذلك معلوم ظاهر، و لذا قيل إنّ هذا الشرط من القضايا التي قياساتها معها، و دليل المسألة هنا هو ما يستفاد من معنى المعاقدة و المعاهدة و عناوين المعاملات.

المقام التاسع: بقاء أهلية المتعاقدين إلى آخر العقد

و هذا الشرط أيضا من الشرائط التي قلّما تعرضوا له، و أكثر ما ورد الكلام عنه إنّما هو في كتب المتأخرين و المعاصرين، و لكن مع ذلك فيه أقوال:

1- ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من اعتبار ذلك مطلقا، و لزوم كون كل من البائع و المشتري حائزا لجميع شرائط الصحة و الأهلية من أول العقد إلى آخره بل جعل المحقق الثاني قدّس سرّه من القضايا التي قياساتها معها.

2- عدم اعتبار هذا الشرط مطلقا، ذكره بعضهم في كتاب البيع.

3- التفصيل بين ما لو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير قابل للتخاطب من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 135

جهة الإغماء أو الجنون أو النوم فلا يصحّ، و أمّا غير هذه الامور فيصحّ، ذكره المحقق الطباطبائي قدّس سرّه في حواشيه على مكاسب الشيخ قدّس سرّه.

4- التفصيل بين ما إذا لم يكن للمشتري أهلية الإنشاء حال الإيجاب، فهو صحيح، و إذا كان الأمر بالعكس فهو فاسد، ذكره بعض الأعاظم في حواشيه.

هذا

و للمسألة شقوق مختلفة:

فتارة يكون فقدان الشرائط بالخروج عن أهلية التخاطب و التملك كالموت، و اخرى بالخروج عن أهلية التخاطب فقط من دون الموت كالإغماء و النوم، و ثالثة بالخروج عن أهلية التصرف لسفه أو مثل ذلك أو عدم كونه أهلا له بعد كالصغر.

هذا و العمدة في المقام كما يظهر من مراجعة كلماتهم هو الإشكال في صدق المعاقدة عرفا بدون هذه الأهلية، فلذا صرّح بعضهم بعدم تحقق معنى المعاقدة عرفا بدونها، و بعض آخر أنّ الربط اللازم بين المتعاقدين لا يحصل بدونه، و لكن صرّح ثالث بحصولها بدونه، فالأمر يدور مدار الصدق العرفي هنا.

و الانصاف عدم صدقها في صورة الخروج عن الأهلية بالموت، و العجب ممّا ورد في كتاب البيع لبعض الأعلام «من أنّه لو مات صحت معاوضته و إن احتاجت إلى امضاء الورثة، لأنّ المال قبل القبول انتقل إليهم، و الورثة قائمون مقامه في ذلك فتأمل».

و فيه: ما عرفت سابقا من لزوم التطابق بين الإيجاب و القبول بمقتضى مفهوم العقد، و هو هنا غير حاصل، و البائع لا يتعاقد مع مالك المال أي شخص كان بعنوان القضية الحقيقية كما هو ظاهر.

و أمّا لو خرج عن قابلية التخاطب بالنوم أو الإغماء، فهو أيضا كذلك، سواء كان البائع أو المشتري، و إن كان الأمر في المشتري أوضح من البائع، و لا أقل من الشك و هو كاف في المقام، لعدم إمكان الأخذ بالعمومات حينئذ، و أمّا انتفاء سائر الشروط فهو أيضا لا يخلو عن الإشكال بل المنع، و إن لم تكن بتلك المثابة، فمن عقد مع صغير محجور ثم صار بالغا عند القبول أو خرج البائع عن الأهلية بالحجر بعد الإيجاب، يشكل تحقق مفهوم العقد معه،

و الشك هنا كاف في المنع، فاعتبار هذا الشرط في جميع فروض المسألة قوي جدّا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 136

و أمّا التمسك بالسيرة في مثل مكاتبة التجار و الحال أنّ الكتاب قد يصل إلى الطرف الآخر و الكاتب نائم، ممنوع بالفرق بين الإنشاء بالكتابة و الإنشاء اللفظي، و كفى في الفرق بينهما التعارف في أحدهما دون الآخر، و قد مرّ مرارا خروج ما لم يتعارف من العقود بين العقلاء عن العمومات و الاطلاقات.

المقام العاشر: اختلاف المتعاقدين اجتهادا أو تقليدا
اشارة

و هنا مسألة اخرى لها صلة بما مرّ من اختلاف المتعاقدين من شروط العقد، و هي أنّه قد يكون كلاهما واجدين للشرائط المعتبرة في المتعاقدين، كل واحد بحسب اجتهاد أو تقليده و لكنه لا يتوافق بحسب اجتهاد الآخر أو تقليده بالنسبة إلى شروط العقد أو العوضين أو الشروط، و الأمثلة هنا كثيرة، فمن جهة شروط المتعاقدين مثلا قد يكون البائع بالغا في نظره و بحسب تكليفه، و ليس بالغا في نظر المشتري لاختلافهما في السنّ المعتبر في البلوغ اجتهادا و تقليدا.

و قد يكون الاختلاف من جهة شرائط العقد، فقد يصحح البالغ مثلا العقد بالفارسية و لا يصححه المشتري.

أو من جهة العوضين، فقد يكون شي ء موزونا في نظر البائع مثلا دون المشتري، أو من جهة الشروط، فقد لا يرى البائع الشرط الفلاني مخالفا لمقتضى العقد و يراه المشتري كذلك، و هكذا أشباهه، و هذه مسألة سيالة لا تختص بباب العقود و المعاملات بل تجري في العبادات و الشهادات و القضاء و غيرها، مثلا قد يختلف رأي الإمام و المأموم في مسائل الصلاة أو شرائط الجماعة، فتكون صلاة الإمام غير صحيحة بنظر المأموم، كمن صلى في اللباس المشكوك أو صلّى بغير أذان و لا إقامة

أو اكتفى في التسبيحات بمرّة واحدة، بينما لا يرى المأموم صحة هذه الصلاة بحسب فتواه أو فتوى مقلّده.

و أمثلته كثيرة كذلك في أبواب الشهادة و شرائطها و كيفية أدائها، و في باب الوقف و شرائط تملك الأشياء بعد ما أراد وقف هذا الملك، أو هبته أو وصيته لغيره، و كذا في أبواب الطهارات، فقد لا يرى شخص نجاسة أهل الكتاب و لا يجتنب عنهم و يعاشر غيره انوار الفقاهة، ج 1، ص: 137

ممن يرى نجاستهم، إلى غير ذلك ممّا هو كثير في أبواب الفقه، و يعمّ به البلوى، و يتفرع عليها فروع كثيرة و أحكام مختلفة.

و قد تعرض للمسألة المحقق اليزدي قدّس سرّه في أبواب صلاة الجماعة في المسألة 31 من فصل «أحكام الجماعة» من العروة الوثقى.

و قد فصّل هناك بين ما يتعلق بالقراءة نفسها التي يأتي بها الإمام عن الجميع، و ما لا يتعلق بها، و كذلك بين صورة علم المأموم بالبطلان و ظنّه بحسب الأحكام الظاهرية الظنيّة.

و قد ذكرنا في تعليقاتنا أنّه لا دليل يعتمد عليه في القول بالصحة في باب الجماعة من دون فرق بين القراءة و غيرها و العلم و الظن، و لا سيما أنّه قد يقال بأنّه ليس في أبواب الجماعة عمومات تدل على الصحة تمسك بها عند الشك، و هذا هو العمدة.

نعم، عند الشك في اختلاف الفتاوى، أو الشك في العمل بمحل الخلاف مع العلم الإجمالى بوجوده إجمالا، لا يبعد جواز الاقتداء عملا بالسيرة المستمرة من زماننا إلى زمن الأئمّة عليهم السّلام.

نعم، قد ورد الدليل الخاص على جواز الاقتداء بأهل الخلاف، فلو قلنا بصحة الصلاة حينئذ و عدم الحاجة إلى الإعادة كان اطلاق هذه الأخبار دليلا على جوازه حتى مع

العلم بإتيانهم لبعض ما نراه مفسدا للصلاة، كترك البسملة أو الجهر بها في الجهرية و قول آمين و التكفير و غيرها، و لكنه نوع تقية و إن لم تكن تقية من موقع الخوف بل من موقع التودد، و اين هو ممّا نحن بصدده؟

و أمّا في أبواب البيع و شبهها فقد ذكر فيه وجوه أو أقوال:

1- جواز اكتفاء كل من المتبايعين بما يقتضيه مذهبه مطلقا.

2- عدم جوازه كذلك.

3- اشتراط أن لا يكون العقد المركب منهما ممّا لا قائل بكونه سببا للنقل، كما إذا كان مذهب أحدهما جواز العقد بغير العربية، و الآخر جوازه بغير الماضي، و لم يكن أحد يقول بجوازه بالمضارع غير العربي، و الحال أنّ العقد وقع كذلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 138

4- التفصيل بين العلم بالبطلان من ناحية أحدهما إذا أتى بمقتضى مذهب الآخر، و بين مجرّد الظن الحاصل من الأمارات فيبطل في الأوّل فقط.

5- التفصيل بينما ثبت الحكم فيه من طريق الاصول العمليّة فيصح، و بين الأمارات الشرعية فلا يصح، و لازمه البطلان من ناحية المقلد دائما، لأنّه يعتمد على الأمارة، و هي قول الفقيه المجتهد.

و هذه الأقوال تبنى على ما ذكر في محله من باب الإجزاء، و اختلاف الأقوال فيه فاللازم الإشارة إلى تلك المباني إجمالا فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية).

إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه بنى المسألة على أن الأحكام الظاهرية التي اجتهد فيها بمنزلة الأحكام الواقعية الاضطرارية، كصلاة المتيمم أو كإشارة الأخرس في باب البيع، أو أحكام عذرية لا يعذر فيها إلّا من اجتهد فيها أو قلّد.

و قد أورد عليه المحقق الطباطبائي قدّس سرّه: بأن لازمه القول بالتصويب (لكون الواقع تابعا لاجتهاد المجتهد بناء على هذا القول).

و قد

ذبّ عنه في كتاب البيع بأنّه ليس المراد تبعية الواقع لظن المجتهد، بل المراد أنّ المستفاد من أدلة اعتبار الاصول و الأمارات هو لزوم ترتب آثار الواقع عند الشك، فالعقد الفارسي عند الشك في اعتبار العربية بمنزلة العقد بالعربية في لزوم ترتيب الآثار عليه، فهو بمنزلة الواقع في الأثر «1».

هذا و لكن التوجيه المذكور مضافا إلى كونه مخالفا لظاهر كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه لا سيما ما ذكره من مثال الأخرس و المتيمم، أنّ ترتيب آثار الواقع عند الشك إنّما هو لمن قامت عنده الأمارة و الأصل، لا لمن يعلم ببطلانه لعدم قيامه عنده كما لا يخفى.

أضف إلى ذلك أنّ مجرّد وجود الحكم الظاهري غير كاف في الحكم بالصحة بعد كونه مخالفا للواقع بنظر الآخر، و أمّا حديث حكومة أدلة الأحكام الظاهرية على أدلة اعتبار الشرط فسيأتي الكلام فيه قريبا إن شاء اللّه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 139

فالأولى أن يقال: إنّ المسألة مبنيّة على أنّ الحكم الظاهري الثابت لبعض المكلّفين هل هو ثابت لغير قام عنده أم لا؟ و هل هو معتبر في حقه أم لا؟

و حينئذ نقول: إنّ الجواب بالنفي و أنّه لا حجّية بالنسبة إلى من لم يقم عنده لعدم شمول أدلته له قطعا، فالحكم الظاهري الثابت عند كل واحد منهم لا يجري إلّا في حقّه، كما هو واضح، لأنّ المفروض أنّ الأمارات المعتبرة أو الأصل المعتبر حصل عنده لا عند غيره، فكيف يكون حجّة في حق الغير؟

هذا و قد يتوهّم أنّ ما ذكروه من التفصيل في باب الإجزاء بين الاصول و الأمارات، من القول بالإجزاء في الأول كمن صلّى اعتمادا على أصالة الطهارة، و عدم الإجزاء في الثاني كما إذا صلّى اعتمادا على

قول البينة، آت هنا.

و هو توهّم فاسد، لأنّ القول بالصحة في الاصول هناك أنّما هو في موارد يكون الأصل حاكما على أدلة الشرطية لا مطلقا حتى يكون قوله «كل شي ء طاهر» حاكما على «لا صلاة إلّا بطهور» مثلا، و سببا للتوسعة دائرة الشرط.

و من البعيد أن يقول أحد بأنّ حديث الرفع الجاري في حق من يشك في اعتبار شي ء من الشروط البيع حاكما على دليل الشرطية، لأنّه ليس في مقام توسعة أدلة الشرائط قطعا بل هو حكم ظاهري يعذر من عمل به لا غير.

و الحاصل: أنّ مجرّد اشتمال الأصل على الحكم الظاهري (دون الأمارة) لا يوجب حكومته على أدلة اعتبار الشرائط، بل لا بدّ أن يكون ناظرا إلى توسعتها كما في دليل أصالة الطهارة مع قوله قدّس سرّه «لا صلاة إلّا بطهور» (بناء على ما اختاره المحقق الخراساني قدّس سرّه و من تبعه) لا مطلقا.

نعم، هنا شي ء آخر ذكرناه في مبحث الإجزاء، و مبحث تبدل رأي المجتهد، و هو أنّ أدلة حجّية الأمارات و الاصول يشكل شمولها للوقائع السابقة التي قامت أمارة أو أصل فيها، فهي منصرفة إلى الحال و المستقبل، و لعل سيرة العقلاء في أماراتهم أيضا مستقرة على ذلك، فلا يعتقدون بشمول الأمارات و الاصول للوقائع الماضية و لما سبق من أعمالهم، و لذا قلنا بالإجزاء في الأحكام الظاهرية المستفادة من الأمارات و الاصول، من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 140

دون فرق بين ما قام في خصوص الشرائط أو غيرها، و عليه بنينا عدم وجوب الإعادة و القضاء بعد تبدل رأي المجتهد.

و لكن هذا المعنى أيضا لا يجري في محل الكلام من شرائط البيع و شبهه عند اختلاف رأي المتعاقدين كما هو ظاهر.

فتحصل من

جميع ما ذكرنا أنّ طريق الاكتفاء بأعمال خالفت الأمارة الموجودة عند المكلّف فعلا أو الأصل كذلك و الاجتزاء بها، أحد امور ثلاثة، بعضها فاسدة و بعضها لا يجري في المقام:

أولها: كون الأحكام الظاهرية الاجتهادية بمنزلة الأحكام الواقعية الاضطرارية، و قد عرفت أنّه لا دليل عليه، لو لم نقل بأن الدليل على خلافه، نظرا إلى أنّ فيه نوعا من التصويب.

ثانيها: حكومة أدلة الاصول على أدلّة الشروط، و قد عرفت عدم تماميتها أيضا إلّا في موارد خاصة.

ثالثها: عدم شمول أدلة الاصول و الأمارات للوقائع المجتهد فيها من قبل، و قد مرّ أن هذا و إن كان صحيحا، إلّا أنّه لا أثر له في اختلاف المتعاقدين و إن كان مفيدا في مباحث تبدل رأي المجتهد.

بقي هنا امور:

1- لا ينبغي الشك في أنّ هذا النزاع إنّما يجري في غير الشرائط التي تقوم بفعل المتبايعين، مثل الموالاة و تطابق الإيجاب و القبول بل التعليق في الإنشاء، فان كل واحد من هذه الشرائط تكون من فعلهما لا فعل واحد منهما و معه لا يصح لمن يعتقد بطلان عقد فاقد لبعض شرائطه من ناحية ترتيب الآثار عليه كما هو واضح، و الإشكال في بعض مصاديق هذا الأمر لا دخل له في أصل المقصود و الكبرى الكلية.

2- الاكتفاء بالحكم الظاهري الثابت في حق الآخرين- لو قلنا به- فإنّما هو إذا لم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 141

يحصل القطع بفساد الأصل و الأمارة، و أمّا في صورة العلم بالخلاف فالأمر فيه أشكل، بل لا دليل عليه مطلقا إلّا على القول بحكومة الاصول هنا على أدلة الشرط فيكون الشرط أعم من الظاهري و الواقعي.

3- هناك موارد قد يدعى جريان السيرة المستمرة على قبول الأحكام الظاهرية الثابتة للبعض،

في حق الآخرين، و هي كثيرة:

منها: ما إذا اعتقد صحة العقد بصيغة المضارع أو الأمر، أو بالفارسية، أو مع التعليق في الإنشاء، أو مع بعض شرائط خاصة العقد أو غير ذلك، فتزوج امرأة بمقتضى الفتوى بينما، اعتقد شخص آخر بطلان هذا العقد.

فهل يمكن له العقد على هذه المرأة بعقد جديد لنفسه صحيح عنده؟ و هل يتفوه أحد بجواز ذلك؟!

و منها: ما يرى في بعض المذاهب الإسلامية من جواز بيع أشياء نحكم بحرمة بيعها، كبيع جلد الميتة بعد الدباغة أو بيع الحيتان المحرمة عندنا و أشباه ذلك، فلو علمنا بأنّه حصل على أموال كثيرة من خلال هذا البيع فهل يجوز قبول هداياه من ذاك المال و أخذه ثمنا للبيع؟ لا يبعد ذلك.

و منها: من لا يعتقد الخمس مطلقا إلّا في غنائم الحرب من علماء العامة، أو في بعض الأشياء كالهبة و الهداية و شبهها من الخاصة، فهل يمكن الحكم بعدم جواز أخذ بعض أمواله هدية أو ثمنا للإجارة و البيع و بعنوان المهر، الظاهر جوازه بحسب السيرة كما أنّه يشكل أخذ الخمس منه جبرا مع عدم اعتقاده.

و منها: إذا وصى بوصية أو وقف مالا على أشخاص، و كانت الوصية و الوقف صحيحة باجتهاده و باجتهاد الموصي و الموقوف عليهم، و لكن لم تكن صحيحة في اجتهادنا، لا ينبغي الشك في جريان السيرة على التعامل بالحلّية مع أموالهم.

إلى غير ذلك.

بل و لو لا ذلك أشكل الأمر في معاشرة أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة بعضهم مع بعض، و فسدت معاملاتهم، بل في أتباع المذاهب الواحد إذا اختلف الآراء و الاجتهادات،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 142

كما في اتباع المراجع الدينية المختلفين في الفتاوي عندنا.

و من هنا يمكن التمسك بقاعدة نفى العسر

و الحرج، و القول بعدم لزوم العسر و الحرج مطلقا لعدم العلم التفصيلي و الإجمالى في محل الابتلاء لا يصدر إلّا ممن لا خبرة له بالآراء و المذهب المختلفة و ما يلزمها من اللوازم.

هذا مضافا إلى السيرة المستمرة من لدن أعصار الأئمّة قدّس سرّه إلى زماننا هذا و لا سيما في معاشرة أصحابهم مع أهل الخلاف.

بل يمكن القول بعدم الدليل على الحكم بفساد هذه العقود و شبهها بمقتضى اجتهاد من كان أجنبيا عنها، فان القدر المتيقن صحة اجتهاده في نفسه و مقلديه لا في حق غيره، لانصراف الأدلة عنه، فيلقي الحكم بالصحة و حجة اليد و غير ذلك حاكما على أموالهم و ازواجهم و غير ذلك ممّا صدر عنهم.

فالدليل ذلك لا ينحصر بالسيرة بل الدليل الأخير أيضا حقيق بالتصديق، القول بأن أدلة حجية الإمارات و الاصول مطلقة لا تنحصر ببعض دون بعض فإذا قامت عنده شملت المجتهد و من خالفه في ذاك الاجتهاد و كذا مقلديه و غيره، ممنوع، بل الانصراف هنا قوي كما لا يخفي.

أحكام العقد الفاسد

اشارة

كان الكلام في المباحث السابقة في أحكام العقد الصحيح و شرائطه، و نبدأ هنا بعون اللّه تعالى في بيان أحكام العقد غير الجامع لشرائط الصحة فنقول: فيه مسائل و أحكام كثيرة:

المسألة الاولى: الضمان
اشارة

و هي أن البيع الفاسد لا يوجب ملكا، و يكون كل من البائع و المشتري ضامنا لما أخذه بعنوان الثمن أو المثمن.

أمّا عدم الملك، فهو من الواضحات و القضايا التي قياساتها معها، و أمّا كونه ضامنا لما أخذه فهو المعروف بين الأصحاب، بل حكي الإجماع عليه عن بعضهم، و هذا الحكم من جزئيات القاعدة المعروفة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كما أن «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فاللازم بسط الكلام في أصل القاعدة و عكسها حتى يظهر حال البيع بعنوان مصداق لها، و تمام الكلام فيها يستدعي رسم امور:

الأول: من تعرض للمسألة

اعلم أنّها من القواعد المشهورة المتداولة على ألسن المتأخرين و المعاصرين، و لكن من المعلوم كما صرّح به جمع من أعاظم المعاصرين أو ممن قارب عصرنا أنّها لم توجد بهذه العبارة في كلمات أصحابنا الأقدمين، و لا في معقد إجماع و لا في متن رواية.

نعم حكي عن الشيخ قدّس سرّه في مبسوطه ما يقرب منه أو يفيد معناه حيث علل الضمان في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 144

واحد من العقود بانّه «دخل على أن يكون المال مضمونا عليه».

هذا و لكن كثر الاستدلال بها بعين العبارة المذكورة في كلمات المعاصرين بل المتأخرين، و في مقدمهم الفقيه البارع صاحب الجواهر قدّس سرّه فقد استدل بها أو بعكسها بنفس العبارة في طيات كتب الفقه: منها كتاب «التجارة» في بحث المقبوض بالعقد الفاسد، و كتاب «الإجارة» في مسألة اشتراط سقوط الاجرة، و كتاب «العارية» في مسألة تلف العين في يد المستعير، و كتاب «الشركة» في مسألة قسمة الربح على المالين، و في كتاب «السبق» في شرح قول المحقق قدّس سرّه: إذا فسد عقد السبق.

إلى غير ذلك ممّا

ذكرناه بعين عبارته في كتابنا «القواعد الفقهية» فلا نعيده هنا «1».

هذا و لم ينقل إنكار من أحد فيما رأينا و إن حكي من بعض كلمات الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك الترديد فيها في بعض كلماته.

الثاني: مفاد القاعدة

و قد تصدى شيخنا الأعظم قدّس سرّه لتنقيح مفاد القاعدة من شتى الجهات و النواحي.

فمن ناحية أنّ العقد في قولنا: كل عقد يضمن ... يشمل جميع العقود، بل ما يشبه الايقاع كالجعالة.

و من ناحية أنّ المراد بالعقد هل هو أنواعه، أو أصنافه، أو أشخاصه؟ و من أن المراد بالضمان ما ذا؟ و هل هو ضمان المسمى أو المثل؟

و من أنّ المراد بالباء في قولنا «بصحيحه» أو «بفاسده» للظرفية أو السببية؟

و من أن اقتضاء الصحيح للضمان هل هو اقتضائه بذاته، أو يشمل ما إذا كان بسبب الشرط أيضا (كالهبة المعوضة أو العارية المضمونة)؟ إلى غير ذلك.

هذا و لكن الإنصاف كما أشار إليه جمع من المحققين أنّه لا ينبغي اتعاب النفس في هذا الطريق، لما عرفت من أنّ القاعدة بهذه العبارة لم ترد في نص الكتاب أو السنة أو معقد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 145

إجماع، بل و لا في فتاوى المتقدمين من أصحابنا، فالبحث عن هذه الخصوصيات ممّا لا طائل تحته، بل الأولى التصدي للأدلة حتى يعلم منها مقدار دلالتها على هذه القاعدة فإنّها المعيار الوحيد في هذا المجال سعة و ضيقا و إثباتا و نفيا كما يخفي.

الثالث: مدارك القاعدة

لقد استدل الشيخ قدّس سرّه في المبسوط بقاعدة الاقدام، و الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك أضاف إليها قاعدة على اليد، فصار الدليل عليها أمرين: «قاعدة الاقدام» و «اليد» ثم اضيفت إليها أدلة اخرى، فنذكر الجميع مع ما هو المختار الذي هو اس الأساس في المسألة، و إن أهمله كثير منهم، فنقول: يمكن الاستدلال على المطلوب بما يلي:

الدليل الأول: و هو العمدة عندنا، قاعدة احترام الأموال و المنافع و الأعمال التي جرت عليها سيرة العقلاء جميعا، في جميع الأعصار و

الأمكنة، فان من حصل له مال أو منافع من طريق مشروعة قانونية، أو كان له عمل مشروع، لا يرخصون لأحد التغلب عليها و التصرف فيها بغير أذنه و رضاه (إلّا في موارد خاص تقتضي قوانينهم ذلك لضرورت تدعو إليها) و يفرضون على من اتلفها أو تغلب عليها و تلفت في يده تداركها بمثلها أو قيمتها.

و الظاهر أن هذه القاعدة نتيجة معنى الملكية و السلطنة و مفهومها، فان حقيقتها ليست إلّا اختصاص شخص بشي ء على نحو خاص يمنع غيره عنه تكليفا و وضعا بحيث لو تسلط عليه بدون رضاه كان عليه ردّه في أول زمان ممكن، و إن لم يقدر عليه لتلف أو اتلاف وجب عليه دركه.

و هكذا بالنسبة إلى المنافع التي تحت ملكه و سلطنته شرعا أو بحسب القوانين العقلائية، و كذا أعماله (عند استيفائه منه).

و الظاهر أن جميع ما ورد في روايات المعصومين عليهم السّلام من أنّه «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه».

و أن «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 146

و أنّه «لا يصلح ذهاب حق أحد».

و قوله عليه السّلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» و غير ذلك، كلّها تشير إلى امضاء هذا البناء العريق العقلائي، و ليست أحكاما تأسيسية، كما أنّها ليست أدلة اخرى مستقلة على المطلوب كما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و مصباح الفقاهة و غيرها، حتى يتكلم فيها بالنقض و الإبرام كما فعلوه.

كما أنّ السيرة المدعاة في المقام ليست سيرة المسلمين و المتشرعة فحسب، بل سيرة العقلاء جميعا، من قدم الأيام و قبل طلوع شمس الإسلام و بزوغها إلى زماننا هذا، و هذه السيرة مأخوذة- كما عرفت- من حقيقة معنى الملكية و السلطنة.

و

الحاصل: أنّ قاعدة الاحترام وليدة الاعتراف بأصل الملكية الشخصية و شئونها كما لا يخفي، و قد أمضاها الشارع، و لكن هناك أمران ينبغي التنبيه عليها:

أحدهما: إن قاعدة «ما يضمن» أوسع نطاقا من قاعدة «الاحترام» لأنّها تجري في الأموال و المنافع و غيرها حتى في مثل النكاح، و لكن قاعدة الاحترام غير جارية في بعضها، اللّهم إلّا أن يقال باندراج النكاح و مثله في المنافع فتأمل.

ثانيهما: إن تلف العين أو المنافع يكون على أربعة أقسام:

فتارة: يكون بالاتلاف، عمدا أو غير عمد.

و اخرى: من ناحية التفريط في حفظها.

و ثالثها: ما يكون بمتلف سماوي من غير تفريط و لكن لو لم يكن عنده لما تلف كما إذا سرقه سارق من بيته مع سائر أمواله من دون أي تفريط.

و رابعة: ما يكون بمتلف سماوي خاص أو عام و كان التلف في هذا المال حتميا سواء كان عنده أم لم يكن.

و التلف السماوي الخاص مثل أن يكون الحيوان مريضا بمرض يموت به، سواء كان عند صاحبه الأصلي أو عند المشتري أو في البيع الفاسد أو عند الغاصب، الثاني: و هو التلف العام مثل وقوع زلزلة أو سيل في قرية فاتلف الأموال جميعا، أموال البائع و المشتري، المفروضين في محل الكلام، و في ضمنه المقبوض بالعقد الفاسد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 147

و الذي يمكن القول باستقرار بناء العقلاء على تداركه هو الصور الثلاث الاولى، أمّا الصورة الأخيرة فلا دليل على لزوم تداركه و إن كان ظاهر كلمات الفقهاء (قدس اللّه اسراهم) عاما شاملا للجميع، و الظاهر انصراف قوله عليه السّلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» عن ذلك، نعم لو كان هذا الحكم حكما تعبديا أمكن الأخذ باطلاق الحديث لعدم قصور فيه،

و لكن لما كان امضاء لبناء العقلاء، و قد عرفت عدم بنائهم على ذلك ظاهرا، فيشكل إلّا بهذا الإطلاق، بل يمكن الترديد في بناء الفقهاء على ذلك، و لعل محل كلامهم غير هذه الصورة فتأمل.

و سيأتي إن شاء اللّه مزيد توضيح ذلك.

الدليل الثاني: قاعدة الاقدام التي استند إليها الشيخ قدّس سرّه في ما عرفت من المبسوط و حاصلها: أن البائع أو مثله إذا دخل في المعاملة على أن يكون ضامنا للعين بالعوض المسمى فقد أقدم على ضمانه، و رضي بذلك، و لما كان البيع فاسدا و لم يتمّ المسمى يكون الضمان بالمثل أو القيمة ثابتا لازما.

أقول: الاقدام بحسب الصغرى و إن كان معلوما لا ريب فيه، و لكن الإشكال في كبراه، فان كون الإقدام سببا للضمان ممّا لم يدلّ عليه دليل عقلي و لا شرعي.

نعم: إذا كان الإقدام من الطريق المعروفة الصحيحة عند الشرع و العقلاء، أعني من طريق البيع الصحيح و نحوه، كانت أدلة صحة البيع و نحوه دليلا على المقصود، لكن المفروض كون البيع أو العقد فاسدا فيما نحن فيه.

اللّهم إلّا أن ترجع هذه إلى قاعدة احترام المال و المنافع و الأعمال، و لكن الإنصاف أنّ قاعدة الاحترام تقضي الضمان و إن لم يكن من قصده الاقدام على الضمان.

و بعبارة اخرى: تمام الموضوع في قاعدة الاحترام هو التسلط على مال الغير أو منافعه و المزاحمة في سلطانه بغير إذنه و رضاه، سواء قصد الضمان أو لم يقصد بل قصد المجانية، فرجوع الاقدام إليها بعيد جيدا.

هذا و قد أورد عليها: بإنكار الصغرى تارة، و عدم كونها جامعة مانعة ثانيا.

أمّا الاولى: فإنّه أقدم على المسمى و لم يتحقق، و أمّا الضمان بالمثل فلم يقدم عليه

فالاقدام منتف.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 148

و أمّا الثاني: فللنقض على جمعه بتلف المبيع قبل قبضه، فقد أقدم المشتري الى الضمان مع أنّ التلف حينئذ من مال البائع، و النقض على طرده بالبيع بلا ثمن و مثله فان الاقدام على الضمان منتف فيه مع أنّ الضمان ثابت قطعا.

قلت: و كلاهما قابلان للمنع، أمّا الأول فلأنّ الاقدام هنا من قبيل الاقدام على العقد مع شرط فاسد (بناء على عدم كونه مفسدا) أو بيع ما يملك و ما لا يملك، الذي ينحل بحسب بناء العقلاء بأمرين، و فساد أحدهما لا يسرى إلى الآخر، و الحاصل: أنّ الاقدام هنا وقع على أمرين بحسب القصد النوعي المعتبر في أمثال المقام:

«أحدهما» أصل الضمان، «ثانيهما» كونه بمقدار خاص، و عدم المضاء الثاني لا يكون دليلا على نفي امضاء الأول.

و أمّا الثاني فلفساد كلا النقضين، أمّا الأول فلأنا لا نسلّم كون التلف قبل القبض من قبيل الاقدام على الضمان، فإنّ الضمان في البيع و نحوه ليس بمجرد الانشاء عند العقلاء بل الإنشاء مع القبض.

و أمّا الثاني فلأنّ البيع بلا ثمن من قبيل التناقض، لصحة سلب مفهوم البيع عنه، فان كان بيعا فلا معنى لكونه بلا ثمن، و إن كان بلا ثمن لم يكن بيعا، بل كان من قبيل الهبة، و حينئذ لا نسلّم كونه من باب الاقدام على الضمان، بل هو أشبه شي ء بالهبة التي لا ضمان فيها.

الدليل الثالث: و استدل عليه أيضا بقاعدة الضرر، فان الحكم بعدم الضمان المأخوذ بالبيع الفاسد و نحوه ضرر على البائع قطعا، و كذا على المشتري بالنسبة إلى الثمن، و قد أورد عليه بوجوه.

الوجه الأول: ما هو المعروف بين المتأخرين من أنّ قاعدة نفي الضرر إنّما تنفي

الأحكام الضررية، و لا تكون مبدء لإثبات حكم كالضمان فيما نحن فيه.

هذا و لكن ذكرنا في كتابنا «القواعد الفقهية» وجوها ثلاثة لعموم القاعدة و شمولها للعدميات أيضا، و اختار العموم شيخنا الأعظم قدّس سرّه في رسالته المعمولة في المسألة.

و العمدة من هذه الوجوه أنّ مفاد لا ضرر إمّا نفى الضرر من ناحية الشرع على المكلّفين، أو من ناحية بعضهم على بعض، و لعل ظاهر المشهور هو الأول، و المختار هو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 149

الثاني، و على كل حال لا مانع من عمومها و شمولها لنفي الأحكام و إثباتها.

أمّا على الثاني و هو المختار فظاهر، فانّ جواز أخذ البيع في العقد الفاسد بلا تداركه بالمثل أو القيمة ضرر عظيم من ناحية المكلّفين بعضهم على بعض، لا يرخصه الشارع الأقدس، و معناه هو الضمان لا محالة.

و على الأول فمعنى القاعدة أنّ الشارع لا يفعل شيئا في محيط التشريع يوجب الضرر، سواء في أحكامه و تشريعاته، أو ترك تشريعه لما يترقب منه تشريعه، و السر في ذلك أن محيط التشريع بجميع شئونه محط حكومة الشارع، و الأمر فيه بالنسبة إلى جميع أعمال المكلّفين و حركاتهم و سكناتهم إليه، فما ينشأ من اهمال جعل بعض الأحكام من الضرر مستند إليه، كأحكامه المجعولة، من دون أي تفاوت في هذه النسبة.

و الحاصل: أن اسناد الضرر إلى الشارع لا فرق فيه بين جعل الأحكام الضررية، أو عدم جعل ما ينفي الضرر.

الوجه الثاني: أنّه قد يعارض هذا الضرر بالضرر الحاصل من الجانب الآخر، لأنّ قيمة المثل قد يكون أكثر من المسمى بكثير مع أنّه لم يقدم عليه.

و فيه: أنّ الضرر هنا في الجانب الآخر ممنوع جدّا، لأنّ المفروض أنّه أخذ ما يعادل هذه

القيمة، و عدم اقدامه على هذا الضمان لا ينافي ما ذكرناه من عدم الضرر، و بالجملة الضرر إنّما يصدق إذا لم يصل ما يعادله إليه و لا ربط له بمسألة الاقدام، فتدبّر تعرف.

الوجه الثالث: إن قاعدة نفي الضرر أخص من المطلوب لعدم شمولها لما إذا وقع التلف بمتلف سماوي من غير تفريط، لأنّه لم يقع ضرر على البائع مثلا من ناحية المشتري، نعم هي حاكمة في فرض الإتلاف و شبهه.

أقول: قد عرفت أنّ الضمان في هذه الصورة (و هي القسم الرابع من الأقسام الأربعة المتقدمة) غير ثابت عندنا، لا سيما إذا كان العذر عاما، و إن كان ظاهر المشهور ذلك (فراجع).

الدليل الرابع: الإجماع المدعى في المقام في كلمات غير واحد منهم، في ثبوت قاعدة ما يضمن، و الإنصاف أن الاستدلال به في أمثال المقام ممّا يتوفر فيه أدلة اخرى مشكل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 150

جدّا، لعدم إمكان حدس قول المعصوم منه، مضافا إلى أنّ الإجماع قابل للمناقشة.

الدليل الخامس: و استدل أيضا بما ورد في باب الأمة المسروقة من الروايات الكثيرة الدالة على أنّه لو سرقت الأمة فبيعت من دون علم المشتري فأولدها ترد إلى صاحبها و أن الولد له بالقيمة، مثل ما رواه جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل اشتري جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: «يأخذ الجارية صاحبها و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «1».

و حيث قلنا بالضمان في المنافع التي لم يستوفها، ففي العين بطريق أولى، و الرواية مرسلة، و كون جميل من أصحاب الإجماع لا يوجب انجبارها كما ذكرنا في محله، و لكن العمدة مضمونها متظافر و مؤيد بروايات اخرى في نفس الباب، مثل ما

رواه زرارة قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام: الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء الرجل فيقيم البينة على أنّها جاريته: لم تبع و لم تهب، فقال: «يرد إليه جاريته و يعوضه بما انتفع» «2».

و ما روى جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء مستحق الجارية قال: «يأخذ الجارية المستحق و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد» الحديث «3».

فالإشكال في اسنادها ممّا لا وجه له، إنّما الإشكال في دلالتها و هو من ناحيتين:

الاولى: أنّها ناظرة إلى بيع الغاصب، و أين هو ممّا نحن فيه، أي المأخوذ بالبيع الفاسد، و لا يجوز التمسك بالأولوية و لا إلغاء الخصوصية بل الأولوية على العكس.

الثانية: إن الاستيلاد من قبيل استيفاء المنفعة و اتلافها، و هذا خارج عما نحن بصدده، لأنّ الكلام هنا في التلف، و أمّا الإتلاف فحكمه واضح بمقتضى قاعدة من اتلف.

أقول: يمكن الجواب عن الأول بأن مفروض الروايات عدم علم المشتري بالغصب، و حينئذ لا يتفاوت حاله عن المأخوذ بالعقد الفاسد، بل اطلاقها يشمل لما إذا كان البائع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 151

أيضا غير عالم بالغصب، و حينئذ يكون الأمر واضح.

و إن شئت قلت: إنّ المأخوذ بالعقد الفاسد أعم من أن يكون لعدم مالكية البائع للبيع أو انتفاء غيره من شرائط العقد و أركانه.

و أمّا الثاني: فلأنّ الاستيلاد كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه بمعنى جعل الولد غير داخل في ملك أحد، لأنّ المفروض أنّه يكون حرّا فليس هو من الاستيفاء أو الإتلاف.

إن قلت: نطفة الأمة أيضا دخيلة في تكوّن الولد، و كذا رحمها، فالاستيلاد اتلاف لنطفة المرأة و كذا إتلاف لمنافع الرحم (كذا قيل).

قلت: مضافا إلى

أن هذه تدقيقات عقلية لا يساعد عليها العرف، فان لازمها إعطاء قيمة نطفة المرأة أو منافع الرحم، لا قيمة الولد كما هو صريح الرواية فتأمل.

هذا مضافا إلى أنّه لا فرق بين «التلف» و «الإتلاف» فيما نحن فيه، و شمول قاعدة الإتلاف لأحدهما، و قاعدة على اليد للآخر، لا يكون فارقا، لأنّ هاتين القاعدتين كلاهما من شئون قاعدة الاحترام كما لا يخفى على الخبير.

فكون الاستيلاد من قبيل الاستيفاء لا يمنع من الاستدلال بالروايات.

إن قلت: في الروايات زرارة أنّه يعوضه بما انتفع «1» و في رواية اخرى له أيضا «يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها «2»» و هما غير قيمة الولد.

قلت: أمّا قوله «يعوضه بما انتفع» فهو شامل لقيمة الولد، بل قد ورد التصريح بذلك في تفسير مذكور في ذيل الرواية، و إن كان لا يعلم أنّ هذا التفسير من زرارة أو غيره، و لكنه مؤيد للمقصود على كل حال.

و أمّا اعطاء قيمة اللبن و الخدمة فهو غير مناف لا عطاء قيمة الولد، و يمكن الجمع بينهما فتأمل.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بهذه الروايات على المقصود وجيه و إن كان مفادها بعض المطلوب.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 152

فتحصل من جميع ما ذكرنا أن العمدة في الاستدلال على القاعدة امور ثلاثة: قاعدة الاحترام، و لا ضرر، و الروايات الواردة في الأمة المسروقة، و إن كان مضمون الأخير أخص من المدعى كما هو واضح.

فالحكم هنا يدور مدار مقدار دلالة هذه الأدلة فإذا لم يكن هناك إضرار و لم يكن داخلا في حريم قاعدة الاحترام و الروايات المذكورة لم يكن وجه للضمان.

و من هنا يعلم أنّ مثل عقد المسابقة الفاسدة يشكل القول بالضمان فيها و إن كان صحيحها مضمون،

لعدم شمول شي ء من هذه الأدلة لها، لعدم ما فيه هتك احترام المال أو العمل، فان احترام العمل معناه أنّه لو استفاد منه أو أتى به بأمره كان ضامنا لقيمته، لا في مثل المسابقة، لا سيما إذا كانا عالمين بالفساد، أو كان السابق عالما به.

نعم لو كان الدليل الإجماع أو الاقدام و شبهه أمكن القول بدخولها تحت القاعدة.

وجوه البيع الفاسد و صوره:

بقي هنا شي ء: و هو أنّ بيع الفاسد (بعنوان المثال) يتصور على وجوه:

«أحدها»: أن يكون البائع و المشتري كلاهما عالمين بالفساد و مع ذلك أقداما عليه.

«ثانيها»: أن يكونا جاهلين.

«ثالثها»: أن يكون أحدهما عالما و الآخر جاهلا.

أمّا صورة جهلهما فالحكم فيه واضح.

و أمّا في صورة علمهما فقد يتوهّم عدم ضمانهما، لأنّهما سلطا غيرهما على مالهما مع علمهما بفساد العقد و عدم تأثير، فهل هذا إلّا التسليط المجاني؟ فلو بقيت العين كان له أخذها، أمّا لو تلفت في يد أحدهما لم يكن ضامنا نظرا إلى هذا التسليط المجاني، و لكن إشكاله واضح، لأن التسليط المجاني غير معقول بل التسليط يتحقّق منهما بناء على الصحة لعدم المبالاة بحكم الشارع فيكتفيا بالصحة عند العقلاء أو عندهما فقط، و لذا لا يرضيان بأي نقص في مقدار الثمن و المتاع و لو درهما أو مثقالا، فكيف يكون تسليطهما مجانيا؟

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 153

و توهّم كونه من قبيل ضمان الأمين كما ترى، لأنّه لم يعطه المال بعنوان الأمانة بل بعنوان الوفاء بالعقد المبني على الصحة غير مبال بالفساد كما هو ظاهر.

و أمّا في صورة علم أحدهما و جهل الآخر، ففيه إشكال الغرور، فان الجاهل أقدم على المعاملة بزعم أنّ الضمان بقيمة المسمى- و كانت قيمة المثل أكثر منه بأضعاف مثلا- فتسليط البائع العالم له

على المال مع علمه بالفساد هو الذي أوجب غروره و وقوعه في هذا الضرر، فلو قلنا بضمانه جاز رجوعه إلى البائع الغار بتفاوت ما بين المسمى و المثل لا أقل، و وقع التهاتر بين دينه من ناحية الضمان و حقه من ناحية الغرور، أو بالنسبة إلى الجميع لأنّه مغرور في الكل.

هذا و لكن غروره في الكل واضح الفساد، لعدم كونه مغرورا بالنسبة إلى المسمى، لأنّ المفروض دخوله في المعاملة لا على نحو المجانية.

و أمّا بالنسبة إلى التفاوت فهو إنّما يصح إذا كان البائع هو الباعث له في إلقائه في هذا الضرر، مثل ما إذا قال البائع له: تعال و اشتر هذا المتاع مني و البيع صحيح شرعا، و لا نلتزم بغير المسمى.

أمّا إذا جاءه المشتري و لم يسأله عن صحة المعاملة شرعا و فسادها، و أقدم هو بنفسه على المعاملة فكونه مصداقا لقاعدة الغرور محل إشكال ظاهر.

عكس القاعدة:

هذا كله في أصل القاعدة، أمّا عكس القاعدة: و هو «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فقد استدل له أيضا بامور:

1- الإجماع: و فيه ما مر في أصل القاعدة، من عدم حجيته في أمثال المقام لو سلّم قيام الإجماع صغرويا.

2- الأولوية: و قد أشار إليها الشيخ قدّس سرّه في ما حكي من رهن المبسوط، و حاصلها: أنّ العقد الصحيح مثل الهبة أو الإجارة إذا لم يقتض الضمان و وقع مجانيا ففاسده لا يقتضي ذلك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 154

بطريق أولى، و الوجه فيه على ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنّ سبب الضمان إما الاقدام أو حكم الشارع، أمّا الاقدام فالمفروض عدمه في المقام، و أمّا حكم الشارع فهو أيضا منفي، لأنّ العقد الفاسد بحكم العدم.

و

أمّا وجه الأولوية فالصحيح إذا كان مفيدا للضمان، يمكن أن لا يكون فاسده موجبا له، لأنّه كالعدم، و الاقدام إنّما وقع على المسمى و هو غير حاصل، و أمّا المثل فلم يقدم عليه، فإذا لم يكن الصحيح موجبا له فالباطل لا يكون موجبا بطريق أولى.

لكن الإنصاف أن الأولية هنا بالعكس، فان نفي الضمان عن الهبة الصحيحة أو الإجارة مثلا إنّما هو لاقتضاء الصحة ذلك، بعد تراضي الطرفين و حكم الشارع و إمضائه، و أمّا إذا كان فاسدا فلا وجه لنفيه مع أن مقتضي اليد هو الضمان.

هذا مضافا إلى ما قد عرفت من أن قاعدة الاقدام لا دليل عليها من رأس و أنّ الاقدام ما لم ينضم إلى إمضاء الشارع لا أثر له.

3- و هو العمدة في المقام لإثبات عدم الضمان، و هو عدم جريان الأدلة السابقة الدالة على الضمان هنا، و عدم وجود دليل آخر عليه، و الأصل ينفيه.

توضيحه: إن قاعدة احترام الأموال غير شاملة لما إذا كان التسليط المجاني من ناحية المالك كالهبة، و لو كانت فاسدة، و كذلك إذا رضى بعدم الضمان كالإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين و كذا الأمة الفاسدة.

و أمّا قاعدة الضرر فهي أيضا غير شاملة إذا كان برضى المالك و إجازته، و أمّا عدم شمول روايات الأمة المسروقة للمقام فهو أوضح من أن يخفى.

و كذلك قاعدتا «على اليد» و «الإتلاف» و قد عرفت رجوعهما إلى قاعدة الاحترام بل هما من شئونها، فحينئذ لا يبقى وجه لضمان العقد الفاسد لا يضمن بصحيحه، و الأصل عند الشك عدم الضمان.

نعم، يمكن استثناء صورة واحدة و هي ما إذا كان المالك جاهلا بالفساد، و كان تسليطه على المال بظن صحة العقد، بحيث لو كان

عالما بالفساد لم يكن يسلط الغير على ماله، و كان الآخذ عالما بذلك، ففي هذه الصورة يشكل الحكم بنفي الضمان، أمّا إذا كانا عالمين انوار الفقاهة، ج 1، ص: 155

أو كان المالك عالما، أو كان جاهلا لكن لو علم بالفساد كان راضيا بالتسليط، كان الحكم بنفي الضمان قويا.

4- و قد يستدل بقاعدة الاستيمان و أنّ من استأمنه المالك على ملكه فهو غير ضامن، و هذه قاعدة مستفادة من بناء العقلاء و النصوص الكثيرة الواردة في أبواب مختلفة من الإجارات و غيرها.

و لا بأس به، و لكنه في الحقيقة من قبيل الاستثناء لقاعدة احترام الأموال، فان عدم الضمان عند استيمان المالك لا ينافي الاحترام، و لذا يمكن القول بخروجه تخصصا أيضا.

نعم، الاستثناء السابق و هو صورة جهل المالك و عدم رضاه على فرض العلم جار هنا، و لعل كلام الأصحاب أيضا غير ناظر إلى هذه الصورة.

و من هنا يظهر أنّه لا فرق بين مورد العقد و غيره، و الأول مثل الهبة، و الثاني مثل الإجارة، فان مورد الإجارة هو المنافع، و أمّا ضمان العين و عدمه خارج عنه، و لكن الحكم جار في الصورتين، و ذلك لا تحاد الدليل في البابين.

المسألة الثانية: وجوب الرد

هذا الحكم، أعني وجوب ردّ المقبوض بالعقد الفاسد فورا، ممّا ادعى عدم الخلاف فيه، بناء على عدم جواز التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد، فاللازم أولا التكلم في جواز التصرف فيه و عدمه، فنقول «و منه سبحانه نستمد التوفيق»:

إنّ الحكم بعدم جواز التصرف أمر ظاهر في بدو الأمر، نظرا إلى أنّه مال الغير، و إنّما أراد نقله إلى غيره بعقد فاسد لا أثر فيه، و المفروض أنّه لم يؤذن له بالتصرف فيه على غير هذا الوجه.

و إذا

استدل له بما ورد من أنّه «لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلّا باذنه» «1».

أو «لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلّا بطيبة نفسه»، و قد عرفت أن جميع ذلك من شئون انوار الفقاهة، ج 1، ص: 156

قاعدة الاحترام المعروفة عند العقلاء، و قد أمضاها الشرع، و هي أيضا من شئون السلطنة على الأموال المتولدة من مفهوم الملكية الشخصية.

و قد أورد على الاستدلال- و الظاهر أنّ الموارد المحقق الخراساني قدّس سرّه في تعليقة: بأن الاستدلال على وجوب الردّ بحرمة الإمساك مبني على أنّ النهي عن الشي ء يقتضي الأمر بضده، و هو خلاف التحقيق، كما أنّ الأمر بالشي ء أيضا لا يقتضي النهي عن ضده.

و فيه إشكال ظاهر، فانّ المسألة غير مبنيّة على دلالة الأمر و النهي، بل لما كان الأمر دائرا بين ضدين لا ثالث لهما كان طريق الخلاص عن الحرام التوصل إلى ضده بحكم العقل، بل لا يبعد دلالته عليه بالدلالة الالتزامية العرفية كما لا يخفي، و تمام الكلام في محله.

هذا و قد فصّل المحقق اليزدي قدّس سرّه في تعليقته بين صورة جهل الدافع و علمه، و قال: لا ينبغي الإشكال في عدم جواز التصرف فيه مع جهل الدافع، أمّا مع علمه فيمكن الإشكال فيه و إن كان باقيا على ملكه، و ذلك للإذن فيه، في ضمن التمليك.

و قد أورد عليه في «مصباح الفقاهة» بما حاصله: إن هذا الإذن كان مبنيّا على صحة المعاملة لا أنّه اذن جديد بالتصرف في هذا المال.

و هذا البيان وجيه في بادي الأمر، و قد مرّ نظيره سابقا، و لكن يرد عليه: أنّه إذا علم الدافع بعدم صحة هذا العقد شرعا و مع ذلك اعطاه العين، فلا محالة يكون

اقدامه بأحد أمرين: إمّا بعنوان التشريع، أو بعنوان عدم المبالاة بحكم الشرع و الاكتفاء بحكم العقلاء، أمّا الأول فهو نادر جدّا، و أمّا الثاني فمعناه رضاه بالتصرف في هذا المال بازاء التصرف في عوضه، فان العلم بالفساد لا ينفك منه، فعلى هذا لا يبعد جواز تصرف كل منهما انتقل فيما انتقل منه في مقابل تصرف الآخر فيه، لا مطلقا حتى يحتاج إلى إذن جديد يكون المفروض عدمه.

إن قلت: ما قلت من رضاه بالتصرف في ماله بازاء التصرف في مال الآخر ممنوع، فان المفروض أنّ هذا الرضا كان معلقا على عنوان الملك، و هو غير حاصل «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 157

قلت: نعم لكن المفروض أنّه سلّط الغير على ماله و هو يعلم أنّه ليس بمالك شرعا فلم هذا التناقض؟ فليس هناك إلّا أنّه إمّا قصد التشريع و المفروض عدمه، أو الاكتفاء بالملكية العرفية و الرضا به و إن لم يأذن به الشرع، و هو حاصل، فيجوز لكل منها التصرف فيما انتقل إليه.

إن قلت: يمكن القول بالجواز من جهة أن الملكية من قبيل الداعى لا العنوان، و من المعلوم أن تخلف الداعي غير قادح بخلاف تخلف العنوان.

قلت: كلّا، بل المسألة من قبيل العنوان، فهو يدفع العين للقابض بعنوان أنّه مالك لا غير، فالوجه في الصحة ما ذكرناه.

فالتفصيل بين صورة العلم و الجهل غير بعيد، و ممّا ذكرناه ظهر أن الاعتماد في حرمة التصرف على «أن الإذن إنّما تعلق بعنوان الملكية لا مطلقا و ليس هنا إذن جديد على الفرض»، لا ينفع مع علم الدافع بعدم حصول الملك، و إن شئت اختبره بما إذا اذن واحد للوارد عليه بالتصرف في ماله بعنوان أنّه أخ له مع علمه بعدم

كونه أخا فالاذن حينئذ لا يكون إلّا بادعاء كونه أخا و ما أشبه ذلك، و إلّا فكيف يجمع الإذن مع العلم بنفي العنوان؟

و أظهر ممّا ذكرنا، الإذن في العقود التي لا تشتمل على المعاوضة، كما إذا وهبه بهبة فاسدة، فان كان جاهلا لم يجز التصرف بلا إشكال إلّا باذن جديد أو العلم برضاه حتى مع العلم بالفساد، و أمّا إن كان عالما بالفساد جاز له بغير إشكال، لأنّه المفروض اكتفائه بالملكية بحسب بناء العقلاء و هو حاصل، أو بتشريعه في نيته، و إن كان قصد التشريع في المعاملات الفاسدة نادر جدّا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا:

أولا: إنّ التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد لا يجوز إلّا مع علم الدافع بالفساد، أو جهله بالفساد، و لكن لو علم به رضي به.

ثانيا: أنّ الدليل على الجواز في هذه الصور، الرضا الناشئ عن اعتبار القابض مالكا في عرف العقلاء مع علمه بعدم كونه كذلك في عرف الشرع، و الرضا التقديري في أمثال انوار الفقاهة، ج 1، ص: 158

المقام كالرضا الفعلي كما حققناه في محله.

ثالثا: أنّ عمدة الدليل على حرمة التصرف هو قاعدة احترام الأموال، و كذلك ما ورد في إمضائه من الروايات.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم وجوب الردّ- فقد عرفت دعوى عدم الخلاف في وجوب الردّ و استدل له تارة: بما دلّ على عدم جواز التصرف في مال الغير بغير إذنه، و اخرى: بما دل على عدم حلية مال امرئ إلّا بطيبة نفسه، و ثالثه: بقاعدة على اليد، و له بيانان:

أحدهما: أنّه يعمّ الحكم التكليفي و الوضعي كليهما، فمفاده وجوب ردّ العين مع وجوده، و ردّ بدله مع تلفه (و هذا محكي عن المحقق الإيرواني قدّس سرّه).

ثانيهما: إنّ مفادها ليس

إلّا الحكم الوضعي بالدلالة المطابقية، و لكن يستفاد منه الحكم التكليفي، أعني وجوب الردّ بالدلالة الالتزامية (و هذا محكي عن المحقق النائيني قدّس سرّه).

هذا و قد يناقش في الجميع، أمّا في الأول: فلعدم صدق التصرف على مجرّد الإمساك، و على الثاني: بأن مجرّد عدم الحلية لا يدل على حرمة الإمساك، و على الثالث: بعدم دلالته إلّا على الحكم الوضعي و أكثر منه ممنوع.

و الإنصاف أنّ وجوب الردّ في الجملة ممّا لا ينبغي الشك فيه، لأنّ إمساك مال الغير بغير اذنه و رضاه مناف لقاعدة احترام الأموال الثابتة عند العقلاء، و إمضاء الشارع المقدس بما دلّ على حرمة التصرف في مال الغير، قاعدة على اليد و غير ذلك من أشباهها.

و لكن لا بدّ من تفصيل في المسألة ..

فتارة: يكون كلاهما جاهلين بالفساد، فإذا تجدد للقابض علم له فعليه ردّه إليه و لا أقل من تخلية اليد و اعلامه بذلك، فان الردّ في المقام أعم من ذلك، فحينئذ لا يتعين عليه دفعه إليه فضلا عن كون مؤنته عليه.

و اخرى: يكون مع علم الدافع سواء علم القابض أم لا و هنا أيضا لا يجب عليه إلّا التخلية و عدم المزاحمة للمالك أي منعه عن أخذ ماله مهما أراده.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 159

و ثالثة: يكون مع علم القابض و جهل الدافع بالفساد فالواجب عليه حينئذ أن لا يأخذ من أول الأمر، و لو أخذه فعل حراما و عليه ردّه إلى صاحبه، و لا يكفي هنا مجرّد الإعلام و تخلية اليد، لأنه السبب في خروج المال عن يد مالكه بعد كونه عالما و المالك جاهلا، فعليه أن يرده إلى صاحبه، بل مؤنة الردّ عليه أيضا، سواء كان كثيرا أو قليلا

و لا تشمله أدلة نفي الضرر، للأقدام.

المسألة الثالثة: حكم المنافع المستوفاة و غير المستوفاة
اشارة

من أحكام العقد الفاسد «ضمان المنافع المستوفاة» كما هو المحكي عن المشهور، و المراد به المنافع التي استوفاها المشتري من البيع و البائع من الثمن، سواء كان من قبيل سكنى الدار و ركوب الحيوان، أو من قبيل اللبن و النتاج و ثمرة الشجرة.

و لكن أختار «ابن حمزة» في «الوسيلة» عدم الضمان، و إليك نص عبارته: قال في ما حكي عنه في حكم البيع الفاسد:

«فإذا باع أحد بيعا فاسدا و انتفع به المبتاع و لم يعلما بفساده ثم عرفا و استرد البائع المبيع لم يكن له استرداد ثمن ما انتقع به، أو استرداد الولد إن حملت الام عنده و ولدت، لأنّه لو تلف لكان من ماله و الخراج بالضمان» (انتهى).

هذا و مقتضى قاعدة احترام الأموال التي مرّت الإشارة إليها غير مرّة و عرفت مبانيها في الشرع و بين العقلاء، و هو الضمان، لأن المفروض فساد البيع، و عدم نقل العوضين عن ملك صاحبهما، فبقيت المنافع على ملك صاحبها و لم يجز استيفاؤها و لو استوفاها كان عليه عوضها، و قد عرفت أنّ حديث «على اليد» و «لا يحل» و «لا يجوز» و أشباهها كلها إمضاء لهذه القاعدة.

نعم، يمكن استثناء صورة واحدة و هي ما إذا علم المالك بالفساد و مع ذلك رضي بالقبض و الإقباض، و قد عرفت أنّ هذا دليل رضاه بالبيع الصورى العرفي، و إن لم يكن شرعيا، إمّا تشريعا أو تركا لحكم الشرع لعدم المبالاة في الدين، و لكن مقتضاه الرضى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 160

بالتصرف فيه في مقابل التصرف في بدله.

و إن شئت قلت: إنّه من قبيل الإباحة المعوضة بالنسبة إلى المنافع.

فالضمان ثابت على كل

حال، و إنّما التفاوت في ضمان المسمى أو المثل، ففي صورة الجهل يثبت ضمان المثل، و في صورة علمهما و رضاهما يثبت ضمان المسمى، (فتدبّر).

اشارة إلى قاعدة «الخراج بالضمان»:

هذا و الدليل على القول الثاني، أعني الضمان، و هو القاعدة المعروفة عند المخالفين غير الثابتة عندنا: «الخراج بالضمان» و قد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا «القواعد الفقهية» و نشير هنا إلى ملخصها:

فنقول: إن مفاد هذه القاعدة و مغزاها أنّ «كل من ضمن شيئا و انتفع به كانت هذه المنافع له بغير عوض، في مقابل ضمانه لأصل العين».

هذا هو المشهور بين العامة، و لكن الخاصة لم يوافقوا عليه إلّا في موارد خاصة تدل عليها أدلة اخرى، ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه، و يظهر ممّا حكي عن أبي حنيفة و غيره، عموم القاعدة عندهم حتى في موارد الغصب و البيع الفاسد، كما صرّح به في قضية أبي ولاد المعروفة في قصة «كراء البغل» الذي جاوز به الحد الذي أجازه المالك.

و على كل حال يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بطائفتين من الروايات:

الطائفة الاولى: ما حكي عن طريق الجمهور من قضائه قدّس سرّه «الخراج بالضمان» الذي رووه بطريق مختلفة «1» كلها تنتهى إلى «عائشة»، و في طريقها «عروة بن الزبير» و لكنها رويت تارة مجرّدة عن كل شي ء، مثل ما رواه أحمد في مسنده عنها عن النبي قدّس سرّه قال:

«الخراج بالضمان» «2».

و اخرى في ذيل مسألة بيع المعيب، مثل ما روته هي: أن رجلا اشترى عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا فردّه، فقال: يا رسول اللّه قدّس سرّه إنّه قد استغل غلامي. فقال رسول اللّه قدّس سرّه:

«الخراج بالضمان» «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 161

و الظاهر أنّهما و غير هما من طريق الحديث و متونه كلها

ناظرة إلى موضوع واحد و قضية واحدة، فالقدر المعلوم ورودها ذيل بيع المعيب، و من الواضح أنّ هذا البيع صحيح، و بمقتضى صحته تكون المنافع لمن المنتقل إليه، و المراد بالضمان هنا تلفه في ملكه، و هذا موافق للقواعد، بخلاف ما إذا كان البيع فاسدا، أو كان الكلام في المغصوب.

إن قلت: لفظ الحديث عام و إن ورد في مورد خاص.

قلنا: نعم لو كانت الألف و للأم للجنس، أمّا لو كانت للعهد المذكور في الرواية فلا، هذا كله مضافا إلى ضعف اسناد هذه الأحاديث عندنا.

إن قلت: قد ثبت في محله أنّ التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له، و هذا ينافي كون التلف من المشتري عند خيار العيب.

قلت: أولا: قد ذكرناه في محله من بحث القواعد أنّ تلك القاعدة لما كانت بنفسها مخالفة للقواعد، فانه يقتصر فيها على المقدار الثابت شرعا، و القدر المعلوم من أدلتها هو ثبوت القاعدة في خيار الحيوان أو الشرط إذا كان المبيع حيوانا.

ثانيا: أنّه فرع كون العيب بنفسه موجبا للخيار لا بظهوره، و هو محل الكلام في محله.

أمّا الطائفة الثانية: و ما ورد من طريق الخاصة، و هي عدّة روايات:

1- ما رواه في دعائم الإسلام نظير ما ورد في كتب العامة «1».

2- ما رواه اسحاق بن عمار «2»، قال: «حدثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام و سأله رجل و أنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: أبيعك داري هذه، و تكون لك أحبّ إلي من أن تكون لغيرك، على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن ترد عليّ، فقال: لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه

قلت: فانّها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة، لمن تكون الغلة؟ فقال الغلة للمشتري، ألا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله؟».

و سند الحديث معتبر إلّا أنّه يظهر من العلّامة قدّس سرّه في الخلاصة عدم الاعتماد على ما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 162

ينفرد به «اسحاق» نظرا إلى أنّه فطحي، و لكن الإنصاف وثاقته كما صرّح به جمع من أعاظم علماء الرجل و لا يضرّ كونه فطحيا، و باقي السند لا غبار عليه.

إن قلت: ورد فيه أنّ اسحاق رواه عن بعض من سمع الصادق عليه السّلام، و هذا نوع ارسال.

قلت: التصريح بأنه سمعه عنه عليه السّلام دليل على اعتماده بالرجل كما لا يخفى، و نظيره ما يظهر من الفرق في مرسلات الصدوق قدّس سرّه بين ما يذكره بقوله: روي عن الصادق عليه السّلام و بين قوله: قال الصادق عليه السّلام فتأمل.

3- ما رواه معاوية بن مسيرة قال: «سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل باع دارا له من رجل و كان بينه و بين الرجل الذي اشتري منه الدار حاصر فشرط أنك إن أتيتي بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله. قال: له شرطه، قال أبو الجارود: فان ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين. قال: هو ماله، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ رأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت تكون الدار دار المشتري» «1».

أبو الجارود و إن كان ضعيفا ينسب إليه مذهب الجارودية و لكن الظاهر أن «معاوية بن مسيرة» كان حاضرا عند سؤاله عنه عليه السّلام، فلا يضرّ عدم وثاقته، و لكن معاوية نفسه مجهول لا يعتمد على روايته.

هذا و الاستدلال

بها مبني على كون «قوله ألا ترى أنّه لو احترقت كان من ماله» بمنزلة العامة و يؤدي معنى «الخراج بالضمان» و إن لم يكن بلفظة، و لكن الإنصاف أنّه و إن لم يخل عن إشعار بذلك لكن يحتمل أن يكون المراد منه بيان الدليل على كونه مالكا للغلة لذكر ما يدل على كونه مالكا لأنّه إذا كان الاحتراق من ماله ثبت كونه مالا له منتقلا إليه بالبيع، فالمنافع له على كل حال.

و مع هذا الاحتمال لا يصح الاستدلال بها.

و قد يستدل مضافا إلى ما ذكر بما رواه اسحاق بن عمار عن أبي ابراهيم عليه السّلام: «الرجل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 163

يرهن الغلام و الدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال: على مولاه» الحديث «1».

و الرواية و إن كانت معتبرة ظاهرا بحسب السند، و لكن يمكن أن يناقش في دلالتها بأن الكلام فيها من ناحية الزيادة السوقية، أعني زيادة قيمة العين في السوق، و هذا غير المنافع المستوفاة، و قياسها عليها بالأولوية كما ترى.

و على فرض دلالتها يأتي فيها ما مرّ في ما قبله من احتمال كونها ناظرة إلى بيان كون المنافع تابعة للملك حيثما كانت.

فتبيّن من ذلك كله أن شيئا من روايات القاعدة النافية لضمان المنافع لا تقوم بإثباتها بعنوان كل يشمل البيع الفاسد أو المعيوب.

فلا يبقي هنا إلّا أحكام الضمان بحسب قاعدة احترام الأموال.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه ما المراد من لفظي «الخراج» «و الضمان»؟

و قد ذكر فيهما وجوه:

الأول: المراد من الخراج ما هو المعروف في الأراضي الخراجية من الضريبة على الأرض و شبهها.

و من الضمان ما يحصل بسبب تقبل الأرض أو الإجارة، أي إجارة الأرض توجب الخراج (و كأن الباء هنا للسببية

لا المقابلة).

الثاني: أنّ المراد بالخراج ما ذكر، أعني المضروب على الأراضي أو الرؤوس، و المراد من الضمان تكفّل والي المسلمين لنظم امورهم و تدبيرهم في مقابل ذلك (و الباء للمقابلة).

الثالث: المراد من الخراج الخسارة الحاصلة للضامن بالنسبة إلى المنافع، كخسارة منافع العبد، و بالضمان ضمان رقبته، يعنى أنّ خسارة المنافع تتبع ضمان العين، و لما لم يكن في مسألة العبد المعيوب ضمان العين، فليس هناك ضمان للمنافع المستوفاة «2» (و الباء للسببية).

و هذه الاحتمالات الثلاث كلها بعيدة لا شاهد عليها لا سيما الأول و إن جعله في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 164

«مصباح الفقاهة» أقرب ما يحتمل في معنى الحديث، و هو عجيب.

أمّا الأول: فلأنّه لا يتصور في الأراضي الخراجية ضمان، و أمّا التقبل أو الإجارة ليست إلّا قبول الخراج و تعهده، فيتحدان.

و أمّا الثاني: فلأن تعهد والي المسلمين في تدبير الامور ليس أمرا يصح اطلاق الضمان عليه إلّا بنوع من المجاز و الكناية كما هو ظاهر.

و الثالث: أبعد من الجميع، فان ضمان المنافع لا يسمى خراجا، مضافا إلى أنّه ليس بسبب ضمان العين بل هما معلولان لعلة ثالثة، و هو التسلط على العين بغير رضاه صاحبه، أضف إليه أن الاحتمالين الأولين لا يساعدان مورد الحديث و شأن و روده في منافع الغلام في بيع المعيوب، و قد عرفت أنّ الظاهر أنّها حكاية لقضية واحدة رواتها عائشة تارة مستقلة عن موردها، و اخرى مع بيان موردها.

الرابع: المراد من الخراج «المنافع المستوفاة»، و من الضمان «الضمان الحاصل في العقود الصحيحة» فقط، أي هذه المنافع إنّما حصلت له و ابيحت لإقدامه على البيع و قبول الضمان و تعهد الثمن.

و هذا أقرب الاحتمالات بحسب مورد الحديث كما عرفت، و

إن كان اطلاق الضمان على ما يحصل بسبب البيع الصحيح، ليس ممّا ينصرف إليه الذهن في بدء النظر، و لكن مع وجود القرينة الظاهرة الواضحة لا محيص عنه.

الخامس: المراد من الخراج المنافع المستوفاة، و من الضمان أعم من الضمان الحاصل في العقود الصحيحة أو الفاسدة أو الغصب، و هذا العموم و أن أمرا محتملا في نفسه و لكن لما لم يدل عليه دليل لا يمكن المساعدة عليه كما هو ظاهر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أن الاستدلال بالرواية على نفي الضمان للمنافع المستوفاة في البيع الفاسد لا يصح على كل حال، و أنّه لا دليل آخر على نفي هذا الضمان الثالث بأدلته، فالضمان ثابت على كل حال، نعم إذا علم البائع بالفساد، و رضي بالبيع الصوري العرفي، فقد رضي باتلاف المنافع و استيفائها في مقابل التسلط على الثمن، و الضمان حينئذ مشكل جدّا.

حكم المنافع غير المستوفاة:

هذا كلّه في حكم المنافع المستوفاة، و أمّا «غير المستوفاة» كما إذا اشترى دارا أو دابة و قبضها و لم ينتفع بمنافعها و مضي عليها مدّة طويلة أو قصيرة، فهل هو ضامن لكراء الدار أو الدابة، أو ليس بضامن؟

المشهور بل ادعي عليه الإجماع في محكي التذكرة و السرائر الضمان بالنسبة إلى المغصوب، و لكن بعبارات قد يلحق به البيع الفاسد أيضا، و إن كان الإلحاق لا يخلو عن إشكال.

قال في التذكرة: إن منافع الأموال من العبد و الثياب و العقار و غيرها مضمونة بالتفويت و الفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبدا أو جارية أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه، اتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده، بأن بقيت مدّة لا يستعملها عند علمائنا أجمع (انتهى).

و لكن إلحاق البيع الفاسد بالغصب و

اليد العادية ممنوع.

و مع ذلك في المسألة أقوال ثلاثة:

الأول: ما عرفت من الضمان مطلقا.

الثاني: عدم الضمان مطلقا كما أختاره في إيضاح القواعد.

الثالث: التفصيل بين صورة العلم بالفساد (فلا يضمن) و عدمه (فيضمن) كما حكي عن بعض، و أمّا التوقف فليس قولا، و شيخنا الأعظم قدّس سرّه رجح عدم الضمان في أول كلامه، ثم مال إلى التوقف، و مال أخيرا إلى الضمان، و لكن لم يستقر عليه أيضا.

و الذي يدل على الأوّل، مضافا إلى ما مرّ من دعوى الإجماع الذي عرفت الإشكال فيه، قاعدة الاحترام في الأموال، فانها تقتضي عدم التسلط على مال الغير بغير إذنه، و ضمانه لمنافعه لو تسلط عليه، و الاذن الموجود هنا مبني على فرض صحة البيع و كونه مالكا لا مطلقا، فهو غير كاف.

و قد يستدل بقاعدتي الاتلاف و على اليد، و لكن الجميع قابل للإيراد.

أمّا الأوّل (و هو العمدة في هذه الأبواب) فبناء العقلاء بالنسبة إلى المنافع غير

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 166

المستوفاة غير ثابت، حتى في مورد الغصب، فلو غصب كتابا أو فرشا أو حليا ثم ردّه عليه لا يؤخذ منه كراء الكتاب و الفرش و الحلي.

نعم إذا كان معدا للكراء و الانتفاع بمنافعها من هذا الطريق، كالعبد الكسوب و الدابة المعدّة للكراء أو الآنية و الكتب و الفرش و السيارات التي هي كذلك، فيمكن القول بضمان منافعها و يؤخذ مثل الكراء منه.

و الظاهر صدق الاتلاف عليه في هذه الصورة أيضا.

و منه يظهر الإشكال في التمسك بقاعدة الاتلاف و أنّه لا يصح إلّا في هذا الفرض.

و اما قاعدة على اليد فالظاهر عدم شمولها لغير الأعيان، لانصراف عنوان «الأخذ» و «الاداء» عنه، و اطلاقهما عليه ببعض التمحلات غير كاف في مقام

الأخذ بالظهور.

فالتفصيل بين الأعيان المعدّة للكسب و الانتفاع بها بعنوان الكراء و شبهه، و بين غيرها، قريب جدّا، و إن لم نر من ذهب إليه، و الظاهر أنّ الحكم في المغصوب أيضا كذلك.

و إن كان يظهر من بعضهم عدم القول به، و لكن لا يكون هذا إجماعا، و لو فرض الإجماع فيه كان مستندا بحسب الظاهر إلى تلك القواعد المعروفة و شبهها بل يكفى احتمال ذلك.

هذا كلّه في الجاهل، أمّا لو كان البائع عالما بالفساد و اكتفى بالبيع الصوري العرفي و رضي بالتصرفات في مقابل التصرف في العوض أشكل الحكم بالضمان هنا كما عرفت في سابقه.

فيتحصل من ذلك قول رابع في المسألة، و هو التفصيل بين الأعيان المعدة للانتفاع بكرائها، مع الجهل بالفساد، فتضمن منافعها غير المستوفاة، و بين ما ليس كذلك، فالضمان مشروط بشرطين: الجهل و كون العين معدّة لما ذكر.

و قد يستدل على عدم الضمان هنا بامور:

الأول: سكوت الروايات الواردة في بيع الجارية المسروقة عن ضمان منافعها غير المستوفاة، مع أنّها في مقام البيان من هذه الجهة، و قد عرفت اعتبار اسنادها في الجملة،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 167

ففي بعضها الاقتصار على ردّ ثمن الولد إذا استولدها المشتري، مثل ما روى جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة، قال: يأخذ الجارية صاحبها، و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «1».

و أيضا ما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق، و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد»، الحديث»

.و في بعضها: يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها مثل روى زرارة قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجل: اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه فولدت منه أولادا ثم إن أباها يزعم أنّها له و أقام على ذلك البيّنة، قال يقبض ولده و يدفع إليه الجارية، و يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها» «3». و في بعضها الآخر: يعوضه بما انتفع «4».

و كل ذلك دليل على نفع الضمان عن غير المستوفاة من المنافع.

و الظاهر أنّها لا تنافي ما ذكرناه من التفصيل بالشرطين المذكورين.

الثاني: صحيحة أبي ولاد حيث حكم عليه السّلام بلزوم رد المنافع المستوفاة إلى صاحب البغل دون غيره «5»، و هذا السكوت أيضا دليل على المطلوب.

هذا و لكن فرض المنافع غير المستوفاة في هذه القضية غير ثابت بعد كون أبي ولاد دائما في طلب غريمه من بلد إلى بلد، هذا مضافا إلى ما قيل من عدم الفتوى بذلك في المغصوب، و لكنه سهل لو تمّت دلالة الحديث على الحكم.

الثالث: و استدل أيضا بقاعدة «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فانّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 168

المنافع الفائتة بغير استيفاء لا تضمن في البيع الصحيح لأنّها ملك المشتري مجانا، فلا تضمن بفاسده.

إن قلت: يجرى هذا الدليل في المستوفاة أيضا.

قلت: نعم و لكنّها داخلة في قاعدة الاتلاف بخلاف غير المستوفاة.

إن قلت: لازمه القول بعدم الضمان في الغصب أيضا لعدم الفرق بينه و بين العقد الفاسد.

قلت: كلّا و قياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق، و إلحاق العقد الفاسد بالغصب إنّما هو من بعض الجهات لا من جميعها.

هذا و لكن الانصاف أن المنافع سواء ما استوفاه و ما لم يستوفه ليست مجانا في العقد الصحيح بعد كونها تابعة للملك الذي مضمون بالعوض،

ففي الحقيقة يعطى العوض على المنافع، و إلّا فنفس الملك لا قيمة له مع قطع النظر عن منافعه، فتأمل.

المسألة الرابعة: ضمان المثلي و القيمي بالقيمة
اشارة

و من أحكام البيع الفاسد بعد ما عرفت من ثبوت أصل الضمان فيه، هو ضمان المبيع أو الثمن إذا تلف بمثله إن كان مثليا، و بالقيمة إن قيميا، و الكلام هنا يتمّ في مقامين:

الأوّل: في أصل الحكم كبرويا.

الثاني: في موضوعه صغرويا.

أمّا الأوّل فقد ادعى الإجماع فيه إلّا عن شاذ، و قد اعتمد عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه بحيث رأى نفسه غنيا عن إقامة الرهان عليه لوضوحه، و بعد اشارة قصيرة إلى أصل الحكم تكلم في موضوعه و شرحه شرحا وافيا.

و الظاهر أنّ المسألة من الواضحات و إن تكلف بعض المحشين بإقامة دلائل كثيرة عليه، و الايراد على كل واحد واحد منها، و ذلك لأنّ مقتضى قاعدة احترام الأموال ردّها لو أخذها بغير اذن صاحبها، فيجب ردّ عينها إن أمكن، و إن لم يمكن ردّ العين لتلفها، وجب ردّ ما يكون أقرب إليها فالأقرب، و لا شك في أنّ المثل أقرب إليها إذا وجد لها مثل، و إلّا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 169

فالمتعين القيمة، و لهذا استقر عليه بناء أهل العرف و العقلاء عليه في أحكامهم كما لا يخفى على من راجعهم، و لا يبعد أنّ الإجماع أيضا نشأ من هنا.

هذا و يمكن الاستدلال عليه، مضافا إلى ما ذكر، بالروايات المختلفة الواردة في أبواب الضمانات، مثل صحيحة أبي ولاد «1» بالنسبة إلى ضمان البغل بقيمته.

و ضمان قيمة الولد في الأمة المسروقة، مثل ما روى جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: يأخذ

الجارية صاحبها و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «2».

و غيرها ممّا ورد في نفس الباب.

و ما ورد في باب اقتراض الخبز و الجوز الذي يظهر منه أنّها من المثليات مثل ما روى الصباح بن سيابة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إن عبد اللّه بن أبي يعفور أمرني أن أسألك قال: انا نستقرض الخبز من الجيران فنرد أصغر منه أو أكبر، فقال عليه السّلام نحن نستقرض الجوز الستين و السبعين عددا، فيكون فيه الكبيرة و الصغيرة فلا بأس» «3».

و ما روى اسحاق بن عمار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام استقرض الرغيف من الجيران و نأخذ كبيرا و نعطى صغيرا، و نأخذ صغيرا و نعطى كبيرا، قال: لا بأس» «4».

و ما ورد في أبواب ضمان المستأجر، مثل ما ورد في ضمان الزيت روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل رجل جمّال استكرى منه ابلا، و بعث معه بزيت إلى أرض، فزعم أن بعض زقاق الزيت انخرق فاهرق ما فيه، فقال: إن شاء أخذ الزيت»، الحديث «5».

إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه الخبير المتتبع.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 170

و قد يستدل عليه أيضا بقوله تعالى و أنّه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «1» و صدرها ناظر إلى حكم القتال في الشهر الحرام و أنّه حرام إلّا بعنوان المقابلة و القصاص، فقال اللّه تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أي إن كان عملكم نقضا لحرمة الشهر الحرام فإنّما هو في مقابل نقضهم لذلك، و الحرمات قصاص، أي حرمة الشهر و حرمة البلاد و حرمة الاحرام إن توقفت فإنّ توقفت قصاصا لنقضهم (و في الآية تفسيرات اخرى و لعل ما ذكرنا أظهر

من الجميع) فالحرمات قصاص بمنزلة التعليل لقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ و أمّا قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى ... فهو تفريع على ما ذكر و اجازة للمقابلة بالمثل في فرض الاعتداء حتى لا يتجاسر العدو على الغارة على المسلمين بظن عدم اقدامهم على الحرب في هذه الأشهر.

و «ما» في قوله تعالى: «ما اعتدى» أما «مصدرية» فهو يعطى المماثلة بين الاعتدائين و يدخل فيه مورد الآية، أعني نقض احترام الشهر الحرام و كذا جميع ما يؤتى به بعنوان قصاص النفس و الاطراف، لعموم الحكم و إن كان المورد خاصا.

و أما «موصولة» فيدخل فيه الأموال و الأفعال، و لكن التعبير بالقصاص أو الاعتداء عليه بالمثل يناسب الأفعال، فانّه يجوز فيها «النفس بالنفس و الجروح قصاص» و أمّا الأموال فلا يجوز اتلاف المال في مقابل اتلافه، و أخذ المثل و القيمة لا يعد قصاصا كما هو ظاهر، و لا يصدق عليه الاعتداء عليه بمثل ما اعتدى، هذا أولا.

و ثانيا: أنّه لو سلمنا دلالتها على ما نحن بصدده كان مفادها لزوم المثل دائما، و تخصيصه باخراج القيميات لو لم يكن تخصيص الأكثر، لا أقل من أنّه تخصيص مستهجن لأن المستثنى لا بدّ أن يكون قليلا بالنسبة إلى المستثنى منه، مع أنّ القيميات ليست قليلة، لا بحسب الأفراد و لا العناوين فتأمل.

و ثالثا: سلّمنا، لكن يبقى هذا الدليل ناقصا بالنسبة إلى تمام المطلوب كما هو ظاهر.

و قد يورد على الاستدلال به أيضا بأن المراد المماثلة في أصل الاعتداء، لا في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 171

مقداره، يعنى كما أنّهم يعتدون عليكم فاعتدوا عليهم.

و استشهد له بأن الحرب على كل تقدير داخلة في مورد الآية و لا يمكن إرادة المماثلة في مورده

لأنّ العدو إذا قتل من المسلمين عددا معينا لا يلزم عليهم قتل هذا العدد منهم في الحروب.

و لكن ما ذكره مخالف لظاهر الآية، و المماثلة في موردها هي المماثلة في نقض حكم الشهر الحرام كما عرفت.

و على كل حال هذه المسألة أوضح من أن تحتاج إلى هذه التكلّفات.

ما هو المثلي و القيمي؟

هذا كله في ناحية الكبرى، أمّا صغرى المسألة:

فقد عرّف «المثلي» و «القيمي» بتعاريف كثيرة تبلغ سبع تعريفات في كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و ربّما تبلغ اثنى عشر تعريفا من طرق الخاصة و تعريفا واحدا من طرق العامة في كلمات صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الغصب «1» و لكنّها متقارب المضمون و عمدتها ثلاث تعريفات:

1- «المثلي ما تتساوى أجزاؤه من حيث القيمة» و هذا هو المحكي عن المشهور.

2- «أنّه ما قدر بالكيل و الوزن».

3- «ما هو كذلك و يجوز بيعه سلما».

و من الواضح أنّ هذين اللفظين لم يردا في نص آية أو رواية حتى يتكلم في مفهومهما، نعم ذكرا في معقد الإجماعات، و لكن قد عرفت الإشكال في دعوى الإجماع في مثل هذه المسائل.

و من هنا يعلم أن الطريقة التي اختارها شيخنا الأعظم قدّس سرّه و من تبعه و اقتدى به، من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 172

الأخذ بالقدر المتيقن في المسألة و هو المجمع عليه، و الرجوع في غيره إلى الأصل، أيضا غير تام بعد عدم الاعتماد على الإجماع (فتأمل).

كما أنّ القول بأن هذه التعاريف كلها تعاريف «شرح اسميه» لا تعاريف «حقيقية» ينافي جسدا ما ذكروه في نقضها و طردها و سدّ الخلل فيها باضافة بعض القيود أو نقصه، فانّ هذه الامور لا تجري في تعريف يبنى على شرح الاسم كما هو ظاهر، بل هي دليل

واضح على أنّهم تلقوها بعنوان تعاريف حقيقية.

و قد صرّح بذلك في الجواهر حيث قال: لا وقع لما اعتذر به الكركي عن التعريف المزبور بأن الظاهر منه إرادة ضبط المثلي بحيث يتميز فضل تميز ... ضرورة أنّك قد عرفت كون المراد بالتعريف المزبور ما لا يحتاج إلى الاعتذار المذكور «1».

هذا و الأمر سهل بعد ما كان المبدأ في هذا الحكم قاعدة احترام الأموال و سيرة العقلاء و شهادة العرف و الذي يظهر من الرجوع إلى هذا الدليل، أنّ المعتبر عند أهل العرف و العقلاء ردّ العين مهما أمكن، و إلّا فيرّد الأقرب فالأقرب. و من الواضح أنّ المثل أقرب إليه من القيمة، و لكن المثل قد لا يوجد إلّا نادرا، و التزام الضامن بوجدان هنا الفرد النادر غير متعارف بينهم، فالزموا الضامن بالمثل إذا وجد بمقدار معتد به، و هذا هو المثلي أي ما يوجد مثله كثيرا، و لا أقل أنه ليس مثله من الأفراد النادرة، و القيمي بخلافه.

ثم ليعلم أنّ المراد من المماثلة، هو التقارب في الصفات التي يختلف فيه الرغبات و يختلف بها القيمة لا ما ليس كذلك كما هو ظاهر.

و يحتمل قويا رجوع جميع التعاريف الاثنى عشر أو الثلاث عشر أيضا إلى ذلك، فانّ التعريف المشهور بين فقهائنا رضوان اللّه عليهم و هو أنّه «ما يتساوى قيمة أجزائه» الذي أشار إليه المحقق قدّس سرّه في الشرائع في «كتاب الغصب» حاصله أنّه يوجد له أجزاء أو أفراد متماثلة في القيمة و الأوصاف التي تختلف بها الرغبات، و من الواضح أنّ المراد من التساوى هو التقارب، و إلّا قلّما يوجد ما يستاوى بالدقة العقلية، كما أنّ المراد من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 173

الأجزاء هو الأفراد،

أو الأجزاء التي يصدق عليها اسم النوع، ففي الحنطة، هي ما يسمى حنطة من الحبات لا القشور أو الألباب فقط، كما أنّ الظاهر أنّ مرادهم من ذلك هو ملاحظة الاصناف من كل نوع مع ما هو من صنفه، و إلّا فالأصناف المختلفة من نوع واحد كالحنطة من هذا البلد و ذاك البلد، و الحنطة من بذر فلان و بذر فلان تختلف جدّا و لا تكون مثلية.

فبالنظر إلى هذه التفسيرات الثلاث التي تفهم من أمثلتهم في المقام يظهر أن الإيراد على التعريف بمثل ما اعترضه في المسالك من أنّه «إن اريد بالأجزاء كل ما تركب عنه الشي ء لزم أن لا تكون الحبوب مثلية لتركبها من القشور و الألباب، و إن اريد الأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة لزم أن لا تكون الدراهم و الدنانير مثلية لما يقع في الصحاح من الاختلاف في الوزن و الهيئة» (انتهى ملخصا).

و ذلك لأنّ المراد كما عرفت ما يقع عليه الاسم، كما أنّ المراد هو الأصناف ففي الدراهم من الصنف الواحد لا اختلاف في الوزن، كما أنّ الهيئات غير المؤثرة في القيمة لا أثر له كما عرفت.

بقي هنا امور تتعلق بالمثلي و القيمي:
الأمر الأول: اختلاف المثلي و القيمي باختلاف الأزمان

لا ينبغي الشك في اختلاف المثلي و القيمي باختلاف الأزمان، ففي الأزمنة السابقة كانت الفرش و الألبسة و الأحذية و أشباعها من القيميات، و كذا الآنية المصنوعة من أنواع الفلزات أو الخزف و غيرها، و كذا ما كان يصنع من الأخشاب من السرير و الباب و أنواع ما يستعمل في البيوت، و ذلك لأنّها كانت مصنوعة بالأيدي.

و من المعلوم عدم المساواة بين مصنوعات أرباب هذه المشاغل، بل بين مصنوعات صانع واحد غالبا، و لو وجد المثل له كان قليلا لا كثيرا.

و أمّا في زماننا

هذا حيث اتسعت فيه عملية نسج الملابس أو صناعة الأحذية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 174

بالمكائن الحديثة، و كذا الأبواب و السرر، و ما ينتفع منها في البيوت من أنواع الآنية و غيرها فقد لا يكون بين مئات من أفرادها أي تفاوت بحيث يشتبه بأدنى سبب، و لا يمكن تشخيص أحدها من غيره، بل قد يكون تماثلها أشد و أكثر من تماثل حبوب الحنطة و الشعير و غيرهما كما هو واضح.

و لا شك أنّها مثلية عندئذ بشرط صنعها في معمل واحد على نهج واحد، لا في معامل مختلفة على مناهج متفاوتة.

بل يمكن أن يقال: إن أنواع الحيوان التي كانت كلها على الظاهر قيمية، تكون في زماننا من المثليات كالدجاج الذي يتم انتاجه في المصانع الحديثة، بل و بعض أنواع الغنم، لا سيما إذا كان يرغب فيها باعتبار اللحم فقط، و كذا المراكب الحديثة من أنواع السيارات و غيرها.

و ذلك كلّه لانطباق ما عرفت من تعريف المثلي على ذلك أجمع، بل و سائر ما ذكره القوم من التعاريف.

الأمر الثاني: هل يجوز للمالك أن يطلب من الضمان القيمة بدل المثل؟

و هل يجب عليه قبوله، أو يجوز له الامتناع منه و الاكتفاء باداء المثل؟ لم أر من تعرض له، و لكن الظاهر أنّه لا يلزم بغير المثل في المثلي، و أن كانت القيمة أنفع للمالك فانّه حكم نوعي لا شخصي، و القول بأن أداء المثل لمراعاة حال المالك لكونه أقرب إلى التالف من القيمة، فإذا لم يرض به بل رضي بالقيمة كان على الضامن أداؤها، هو كما تري.

فانّ الدواعي الشخصية غير معتبرة في باب الضمانات، بل المعاملات كلها تدور مدار الأغراض النوعية، و كذا الكلام في عكسه، و هو ما إذا قال الضامن: خذ منّي المثل بدل القيمة في القيميات،

فانّه و إن كان أقرب إلى العين منها و لكن لا يجبر المالك على قبولها، بل له إلزام الضامن في القيميات، لما عرفت من أن المدار في هذه الامور الأغراض النوعية التي استقرت عليها سيرة العقلاء، و اقتضتها قاعدة الاحترام في الأموال.

الأمر الثالث: بعض الاشياء في بعض البلاد مثليا و في بلد آخر قيميا

يمكن أن يكون بعض الأشياء في بعض البلاد مثليا و في بلد آخر قيميا، و ذلك إمّا لوفور المثل في بلد دون آخر، أو عدم الاعتداد ببعض الصفات في تفاضل العين في مكان دون مكان، ففي البلد الذي لا يراد من الشاة إلّا لحمها مثلا تكون قيمية، و في البلد الذي يرغب في سائر أوصافها فهي مثلية.

الأمر الرابع: قد يكون شي ء مثليا في بعض فصول السنة

قد يختلف شي ء باختلاف الزمان في عصر واحد فقد يكون شي ء مثليا في بعض فصول السنة، إمّا لوفور مثله في ذلك الزمان أو عدم الاعتداد ببعض الصفات النادرة فيها، و عدمه في زمان آخر.

و الظاهر معاملة كل مكان أو زمان بما يقتضيه.

و لا مانع من اختلاف الأمكنة و الأزمنة في ذلك، بعد كون جميع ذلك تابعا للاعتبار و سيرة العقلاء في ذلك، لا عجب في اختلاف سيرهم باختلاف الأزمنة و الأمكنة كما لا يخفي.

الأمر الخامس: إذا شك في شي ء أنّه مثلي أو قيمي

إذا شك في بعض الأشياء أنّه مثلي أو قيمي، فما هو مقتضى الأصل و القاعدة فيه؟ كبعض الحيوان و الفرش و الألبسة و الأثواب التي لا يعلم أنّها مثلية أو قيمية.

الانصاف أنّ موارد الشك كثيرة في المقام، فلا بدّ من تبيين مقتضى الأصل و القاعدة في ذلك فنقول، و منه عزّ اسمه التوفيق:

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المسألة وجوها أربعة:

1- الضمان بالمثل.

2- الضمان بالقيمة.

3- تخيير المالك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 176

4- تخيير الضمان.

و قد يذكر هنا وجهان آخران:

«أحدهما»: الرجوع إلى القرعة.

«ثانيهما»: الرجوع إلى الحاكم ليصلح بينها صلحا، و لكنهما ضعيفان جدّا، أمّا القرعة فانّما هي للموضوعات المشتبهة الخارجية التي لا طريق إلى حلّها من الأمارات و الاصول، و هنا ليس كذلك لأنّه من الشبهة في الحكم، و لو جاز القرعة في مثله رجع المجتهد إلى القرعة في جميع ما يشك فيه من الأحكام! و هو واضح البطلان، هذا أولا، و ثانيا للمسألة طريق حل اخرى من الاصول العملية أو غيرها كما سيأتي إن شاء اللّه، و معه لا يبقى مجال للقرعة.

و أمّا الثاني، أي الرجوع إلى الحاكم، فهو أيضا كذلك، لأنّ الرجوع إليه للصلح إنّما هو في الشبهات الموضوعة التي هي

محل الخلاف بعد وضوح الحكم، و هنا نشك في أصل حكم الشرع.

و استدل للأول من الصور الأربع بأن اشتغال ذمّة الضامن يقتضي ذلك، لأن المثل أقرب إلى التالف و إنّما يتنزل منه إلى القيمة لقيام الدليل فيه، و هو سيرة العقلاء و شبهها، فالأصل عدم براءة ذمّة الضامن إلّا بالمثل، فهو مقتضى قاعدة الاشتغال.

كما أنّه يمكن الاستدلال للثاني بأصالة براءة ذمّة الضامن عمّا زاد على القيمة، أو أنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر، لأنّ المثل يشتمل على القيمة و الأوصاف.

و يمكن الاستدلال على تخيير المالك بين المطالبة بالمثل أو القيمة بأنّ ذمّة الضامن مشغولة بأحدهما بحسب العلم الإجمالي، و لا تفرغ إلّا بالاحتياط أو تخيير المالك و رضاه به، و لما لم يكن الأول واجبا بالإجماع بقي الثاني.

و أمّا تخيير الضامن بين أداء القيمة أو المثل فلأن العلم الإجمالي باشتغال ذمته بأحدهما و إن كان يقتضي الجمع، و كان لما كان الجمع غير واجب بالإجماع كان مخيرا بينهما.

هذا إذا قلنا إن المثل و القيمة من قبيل المتباينين، أمّا إن قلنا إنّهما من قبيل الأقل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 177

و الأكثر لاشتمال المثل على القيمة مع إضافة الأوصاف كان مقتضى القاعدة الأخذ بالأقل و هو القيمة.

هذا و الأقوى من بين هذا الوجوه هو القول بتخيير المالك، و ذلك لأنّ المقام من موارد قاعدة الاشتغال، لأن شغل الذمّة بالعين التالف معلوم، و لا بدّ من الخروج عن عهدته، و لا يعلم الخروج منه بأداء المثل أو القيمة، و لا يجب عليه الاحتياط بالجمع بينهما لقاعدة نفي الضرر، و لا تحصل البراءة بتخيير الضامن، فلا يبقي إلّا تخيير المالك، و إن شئت قلت: إذا

جعل الضامن المثل و القيمة تحت اختيار المالك، و قال: اختر ما شئت، فقد برئت ذمّته ممّا عليه من الضامن على كل تقدير.

هذا و لكن يرد الإشكال عليه: بأن الضامن و إن كانت ذمته تبرأ بذلك، و لكن كيف يجوز للمالك أن يختار مالا يعمله أنّه حقه؟ فعلى الضامن أن يخيّره، و على المالك أن لا يختار!

فلا يبقي طريق لتخلصهما عما عليهما من الوظيفة إلّا بالتصالح بأحدهما.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ قاعدة الأقرب إلى التالف فالأقرب الجارية في ضمان التالف تقتضي المثل أولا، إنّما يتعدى منه إلى القيمة إذا ثبت كونه قيميا، و حيث لم يثبت في المقام فالأصل هو الأخذ بالمثل، و هذا هو الأحوط لو لم يكن أقوى.

الأمر السادس: إذا لم يوجد المثل إلّا بأكثر من قيمته

المثل قد يوجد بأقل من المثل، و قد يوجد بأكثر منه ممّا يكون مجحفا أو غير مجحف، و قد يكون ساقطا عن القيمة لوفوره كالماء على الشاطي، فهذه صور ثلاث.

لا ينبغي الشك في عدم كفاية المثل في الأخير لأنّه لا يقوم مقام التالف قطعا و وجوده كالعدم، لكثرة الوجود، و حينئذ ينتقل إلى القيمة، و لا يبعد قيمة يوم التلف كما سيأتي إن شاء اللّه، و ما احتمله بعضهم من كفاية المثل حينئذ كما ترى.

أمّا إذا وجد بأقل منه لنقصان القيمة السوقية، فالظاهر كفايته في الجملة، و قد ذكر السيد قدّس سرّه في الحاشية: «أنّ الظاهر إجماعهم على ذلك، و أنّه مطابق للقاعدة أيضا، إذ لا فرق بين المقام و سائر الموارد التي يكون في ذمّته كلي من حنطة أو شعير أو نحو ذلك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 178

قرضا أو ثمنا للمبيع أو مثمنا أو نحو ذلك، و كان مما طلا في أدائه زمان علوّ

قيمته ثم أعطاه في زمان نقص قيمته، فانّه لا شي ء عليه غيره، و كذا الحال لو نقص قيمة العين مع بقائها، فانّه لا ينتقل إلى البدل و لا يضمن التفاوت نعم يشكل الحال في بعض الصور، كما إذا صدق عليه أنّه فوت عليه مقدارا من مالية ماله، و هذا إنّما يكون فيما لو كان بانيا على بيع غيره، عينه في حال زيادة قيمتها فغصبها منه ثم ردّها بعد ما نقصت لكن الظاهر عدم التزامهم بذلك فانّهم صرّحوا بعدم ضمان تفاوت القيمة من غير تفصيل، و من غير خلاف بينهم» «1».

و حاصل ما أفاده أنّ العين إذا كانت كليا في الذمّة، سواء كان بسبب البيع أو القرض، أو بسبب ضمان التالف، فعليه أداء المثل سواء نقصت قيمة أو لا، و كذلك إذا كانت العين الخارجية موجودة عنده فلا يضمن نقصان القيمة مطلقا و لو كان غاصبا.

و الانصاف أنّه مشكل جدّا إذا لزم منه الضرر، كالمثال الذي ذكره، و غيره من أشباهه، كما إذا غصب منه شاة يوم العيد في منى مع وجود الباذل للقيمة الغالية و قد هيأ شياهه للبيع ذاك اليوم، ثم ردّها عليه بعد تلك الأيّام التي لا يشترى فيها الغنم بعشر قيمته، لعدم الباذل و عدم الطالب لها مثلا.

و كذا إذا اشترى منه الشياه في الذمّة بثمن غال (بناء على صحة السلم في مثل ذلك كما قالوا) و كان وقت تسليمها قبل العيد مثلا لبيعها إلى الحجاج، لكنه سلّمها إليه بعد تلك الأيّام مما لا تشترى فيها بعشر قيمتها أو بنصفها، و كذا سائر ما تعد للموسم و غيره (و كذا لو كان من قبل الدين).

الظاهر صدق الإضرار هنا، لا سيما إذا كان

متعمدا، فيشملها أدلة نفي الضرر نعم يمكن دفع الضرر في السلم بفسخ البيع، و لكنه لا يجري في مثل القرض أو صورة غصب نفس العين، فالقول بلزوم اعطاء التفاوت و تدارك الضرر حينئذ لو لم يكن أقوى فلا أقل أنّه أحوط، و دعوى الإجماع في هذه المسائل مشكلة جدّا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 179

و أمّا إذا وجد بأكثر من قيمة المثل، إما لزيادة القيمة السوقية، أو لأجل عدم وجدانه إلّا عند من لا يعطيه إلّا بأزيد ممّا يرغب الناس فيه، فقد نفى شيخنا الأعظم قدّس سرّه الإشكال في وجوب اعطاء المثل في الصورة الاولى، بل و قد ذكر عدم الخلاف فيه و نقل الإجماع عليه.

ثم احتمل شمول أدلة نفي الضرر للثاني، ثم رجع عنه و قوى وجوب الشراء، و الإنصاف هنا أيضا التفصيل بين ما إذا طالب المالك بأداء المثل و لم يعطه الضامن أو ما طل في أدائه، فحصل هنا ضرر من جهة انحطاط القيمة جدّا، فشمول أدلة لا ضرر له غير بعيد و لا أقل أنّه أحوط، بخلاف ما إذا لم يكن قصور من ناحية الضامن بل كانت المسامحة من المالك أو لعلل اخرى.

و ليعلم أنّ ما ذكرنا لا يجري في تفاوت القيم السوقية المتعارفة، فان السوق قد يزداد و قد ينقص و هذا حاله دائما، إنّما الكلام في غير ذلك.

الأمر السابع: حكم تعذر المثل في المثلي
اشارة

لو تعذر المثل في المثلي، إمّا لكون المبيع ممّا يتغير حاله في فصول السنة كالفواكه (إذا قلنا بأنّها مثلية أو بعضها على الأقل) أو لكونه ممّا يؤتي به من خارج البلاد، و انقطع الطريق للحرب أو السيل أو عدم أمن السبيل و أمثال ذلك، فهنا صورتان:

الاولى: إذا رضي المالك بالصبر إلى حصول المثل

و القدرة عليه، الظاهر عدم جواز إجبار المالك بأخذ القيمة و افراغ ذمة الضامن، كما صرّح به غير واحد منهم، و لا ينافيه كلمات الآخرين، و الدليل على ذلك أنّه مشغول الذمة بالمثل (بل بأصل العين على احتمال) و لا دليل على تبدله بالقيمة إذا لم يطالب بحقّه، فالأصل بقاء اشتغال ذمته و عدم الفراغ منه بالقيمة كما لا يخفي.

الثانية: إذا طالب بحقّه، فلا شك في الانتقال إلى القيمة حينئذ لأنّها أقرب الأشياء إلى العين في هذا الحال و لا طريق آخر إلى اعطاء ذي الحق حقّه.

و هذا أوضح من أن يحتاج إلى الاستدلال له بقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 180

عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (نظرا إلى أنّ الاعتداء بالمثل هنا هو بأخذ القيمة) كما فعله شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و ذلك لما عرفت من عدم شمول الآية لغير أبواب القصاص و ما أشبهها، مضافا إلى أنّ اطلاق المثل على القيمة هنا لا يخلو عن شي ء، و إن كان المراد منه معناه اللغوي.

هذا كله واضح، إنّما الكلام في أنّ المدار عند اختلاف القيم «قيمة يوم الدافع» لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة و قبله يكون المثل في ذمته ...

أو «قيمة يوم المطالبة» لأنّه زمان التكليف بالاداء ...

أو «قيمة يوم الإعواز» و تعذر المثل لأنّه وقت الانتقال إلى القيمة ...

أو «أعلى القيم من زمان الإعواز إلى زمن المطالبة» ...

أو «أعلى القيم من زمان الاعواز إلى زمن الدافع» لأنّ الغاصب يؤخذ باشق الأحوال؟

فهذه عمدة الوجوه المتصورة في المقام (وجوه خمسة).

و ذكر بعضهم وجها آخرا و هو الاعتبار بقيمة يوم تلف العين، كما ذكره بعنوان الاحتمال في «مصباح الفقاهة» و الإنصاف أنّه لا وجه له

بعد فرض المثل موجودا حين التلف، فكان عليه اعطائه، و لم يكن هناك دليل على الانتقال إلى قيمة حينئذ.

و الإنصاف أنّ الأقوى من بينها هو «قيمة يوم الدفع» لعدم الدليل على الانتقال إلى القيمة في أي زمن قبله، لا في زمن التعذر و الإعواز، و لا في زمن المطالبة، بل اشتغال الذمة باق إلى زمن الأداء و لذا لو صبر المالك إلى زمن حصول المثل كان حقّه باقيا.

تنبيهات:
«الأول»: إذا تعذر المثل من أول الأمر

، أعني من حين التلف، فهل الحكم فيه أيضا ما مرّ في صورة التعذر بعد التلف، من الانتقال إلى قيمة المثل حين الأداء، أو المدار فيه على القيمة حين التلف؟

الذي يظهر من تقييد غير واحد منهم كالعلّامة في التذكرة و الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك، بكون التلف بعد الإعواز، هو الفرق بينها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 181

بل حكي عن جامع المقاصد استظهار دفع قيمة التالف في هذا الفرض.

و استدل له بأن المال يصير قيميا حين التلف لفقد مثله، و لعله لمنافاة ضمان المثل مع تعذره.

و قد ناقشه في الجواهر في كتاب الغصب بعدم المنافاة بين ثبوت المثل في الذمة، و بين تعذر أدائه في ذلك الوقت، و دعوى صيرورته قيميا واضحة المنع «1».

و يمكن الجواب عن هذه الدعوي بوجهين:

أولا: لازمه الحكم بذلك في المسألة السابقة أعني صورة تعذر المثل بعد التلف، مع أنّك قد عرفت أنّ المشهور و المختار تلك الصورة هو وجوب قيمة يوم الأداء، لا يوم الإعواز.

ثانيا: لازم ذلك عدم وجوب أداء المثل لو تعذر عند التلف ثم وجد مثله قبل الأداء مع أنّه لا يقول به من أحد حسب الظاهر.

و القول بأنّه صار قيميا بالاعواز، ثم صار مثليا بعد الوفور غير مفيد، لأنّه إذا

اشتغل ذمّته بالقيمة عند الإعواز فكيف يتبدل بالمثل؟ لعدم تحقق سبب الضمان و هو التلف مجددا، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ استقرار القيمة في الذمّة كان لأنّه أقرب إلى التالف عند ذاك، فإذا وجد ما هو أقرب منها و هو المثل استقر في الذمّة.

و العمدة هنا أنّ المثل لا ينقلب عن كونه مثليا بهذه العوارض الخاصة، بل يبقي بحاله، و لذا لو صبر المالك إلى حين وجدان المثل لم يضره و كان له ذلك، فالأقوى لزوم قيمة يوم الأداء على كل حال، و يشهد لذلك أنّه لو استقرض مقدارا من الحنطة مثلا أو دراهم و دنانير ممّا هو مثلي استقر في ذمته المثل، و كان عليه قيمة يوم الأداء سواء كان تعذر المثل حينه أو بعده.

و لعله لذلك كله لم يفرق بين المسألتين في المقام الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، و العلّامة قدّس سرّه في الإرشاد، و الشهيد قدّس سرّه في الدروس و كذا المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب، و صاحب الجواهر أيضا.

«الثاني» ما المراد بالاعواز في أمثال المقام؟

فيه وجوه أو أقول:

«احدهما» ما حكاه في الجواهر عن التذكرة و المسالك من أنّ المراد بالفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد و ما حوله.

«ثانيها» ما عن جامع المقاصد من أنّ المراجع فيه العرف.

«ثالثها» أنّ المراد فقدانه مطلقا و لو في البلاد النائية.

و حيث لا يوجد في المسألة نص و لا دليل إلّا الرجوع إلى سيرة العقلاء، فاللازم الرجوع إليها، و الظاهر أنّها مستقرة على ما ذكره العلّامة و الشهيد الثاني قدّس سرّه و لا يلزمون الضمان على تحصيل المثل من البلاد النائية بل يكلّفونه بأداء القيمة.

نعم، في زماننا هذا الذي يسهل النقل من بلد إلى بلد فالمدار فيه

على ما يشكل نقله منه إليه عادة، و لا يمكن الوصول إلى المثل بسهولة، و حينئذ القول بوجوب تحصيله بأى صورة كانت، لا سيما إذا كان غاصبا يؤخذ بأشق الأحوال، كما ترى.

«الثالث» كيف يمكن معرفة القيمة مع عدم وجود المثل

، و هل المراد فرضه موجودا في غاية القلة، أو في غاية الوفور، أو المتوسط بين ذلك؟ الظاهر أنّ خير هذه الوجوه هو الأخير كما يعرف من أشباهه في الفقه و سيرة العقلاء، لعدم وجود دليل هنا إلّا سيرتهم، و لو شك في بعض المصاديق فاصالة الاشتغال محكّمة كما لا يخفى.

الأمر الثامن: حكم القيمي و مدار القيمة.
اشارة

قد عرفت أنّ القيميات مضمونة بالقيمة، كما عرفت الدليل عليه من الأخبار و بناء العقلاء في ذلك، و قد أمضاه الشرع، و ما يحكى من الخلاف في ذلك من بعض، لا يعبأ به، و الظاهر أنّه لا فرق بين وجود المثل له اتفاقا كمن يملك فرسين توأمين شبيهين من جميع الجهات، فباع أحدهما ثم اتلفه بعد الاقباض، فهل يمكن إلزامه بتداركه بما عنده من الفرد الآخر الذي يكون مثله في جميع الجهات؟ لا يبعد عدم الإلزام، كما أنّه لا يمكن إلزام المشتري بقبوله، فانّ الأحكام في هذه الامور تدور مدار الأنواع لا الأفراد الخاصة كما يظهر بمراجعة سيرة العقلاء في أمثاله.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 183

و لكن مع ذلك لا يترك الاحتياط فيه، لا سيما مع ملاحظة قاعدة الأقرب فالأقرب، و مع ملاحظة ما ورد من طريق أهل الخلاف من «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة اخرى» «1» مع أن القصعة في ذلك الزمان كانت قيمية و الظاهر أنّه أخذه صلّى اللّه عليه و آله لمشابهة القصعتين، و كذلك ما روى من حكمة صلّى اللّه عليه و آله بضمان عائشة إناء حفصة و طعامها بمثله (الذي يظهر من سنن البيهقي أنّها كانت صفية لا حفصة و كانت من أحسن النساء طبخا كما اعترفت به عائشه).

«2». و إذا قال المحقق

قدّس سرّه في الشرائع في كتاب القرض «و لو قيل يثبت مثله (في القيمي) أيضا كان حسنا».

و قال في محكي التذكرة «مال القراض إن كان مثليا وجب ردّ مثله إجماعا، و إن لم يكن مثليا فان كان ممّا ينضبط بالوصف و هو ما يصح السلف فيه كالحيوان أو الثياب، فالأقرب أنّه يضمن بمثله من حيث الصورة» ثم استدل له بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله استقرض بكرا و أمر برد مثله «3».

و لقد أجاد صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب القرض بعد ذكر أقوال المخالفين: إنّ الإنصاف عدم خلو القول به من قوة ... فالاحتياط فيه لا يترك «4».

بل الظاهر تعميم الحكم بغير القرض، فلا يترك الاحتياط في أبواب الضمانات كلّها عند وجدان مثل للقيمي.

ثم إن المهم في المقام تعيين مدار القيمة، و أنّ المعتبر هل قيمة يوم الضمان، أو التلف، أو المطالبة، أو الأداء، أو أعلى القيم؟ (فهذه وجوه خمسة)، و المحكي عن الأكثر هو الاعتبار بقيمة يوم الضمان، كما أشار إليه المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب و إن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 184

وقع الترديد فيه من صاحب الجواهر قدّس سرّه، و عن جماعة كثيرة من قدماء الأصحاب و المتأخرين منهم الشيخ قدّس سرّه في الخلاف و المبسوط و ابن ادريس و الشهيد الأول و العلّامة «أعلى القيم من زمان الغصب إلى حين التلف» و لكن هذا بالنسبة إلى الغاصب المأخوذ بأشق الأحوال، و أمّا غيره فلعل نظرهم إلى حين التلف.

و ذكروا لأعلى القيم وجوه لا يهمنا التعرض لها بعد ضعف أصله.

و على كل حال اللازم التعرض لمقتضى القاعدة، ثم الرجوع إلى ما يقتضيه النص في الباب.

فنقول، منه سبحانه نستمد

التوفيق: إن مقتضى القاعدة يختلف باختلاف الأنظار، فأمّا أن نقول بأن المستقر في الذمّة هو العين، و عدم إمكان تداركها بشخصها لا ينافي استقرارها في الذمّة لوجود الأثر لهذا الأمر الاعتباري (و قد ذهب إليه بعض أعاظم المحشين على المكاسب و هو السيد السند المحقق اليزدي قدّس سرّه).

أو نقول بأن الذمّة مشغولة دائما بالمثل، سواء في المثلي أو القيمي كما يظهر من بعضهم.

فعلى هذين الفرضين تجب قيمة يوم الأداء لأنّه يوم الانتقال إلى البدل، و البدل الذي يسد فراغها عندئذ هو قيمة ذاك اليوم.

و أمّا لو قلنا بأن المستقر في الذمّة هو القيمة في القيميات، فلا ينبغي الشك في أنّها قيمة يوم التلف، و بما أن الأقوى هو الأخير، لأنّ استقرار نفس «العين» في الذمة ممّا لا محصل له، فالخارج المعدوم لا يمكن جعله في الذمّة، بل و لا الخارج الموجود، لأنّ المستقر في الذمّة دائما أمر كلي و ذلك لا يتصور إلّا في المثل لا «العين» و أمّا المثل فقد عرفت أنّه خلاف التحقيق في القيميات.

أضف إلى ذلك أنّ اللازم تدارك الخسارة يوم حصلت و تداركها يومئذ لا يكون إلّا بقيمة ذلك اليوم إن كان قيميا، و بمثله إن كان مثليا.

فمقتضى القاعدة هو قيمة يوم التلف، و هو يوم الانتقال إلى القيمة و جبران الخسارة.

و أمّا بالنظر إلى روايات الباب فالعمدة فيها هو صحيحة أبي ولاد، و يمكن الإشكال في كونها صحيحة باعتراف في متن الحديث يكونه غاصبا للبغل، و لرضاه بالرجوع في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 185

القضاء إلى من لا يصلح له، اللّهم إلّا أن يقال أنّه كان يعلم بشاهد الحال برضا صاحب البغل باعطائه ما يرضاه من الثمن، و الرجوع إلى ما

لا يصلح لتصدى القضاء كان بسبب التقية فتأمل.

هذا و لكن الوثاقة في الحديث لا تلازم العدالة، مضافا إلى أن الأصحاب تلقوها بالقبول.

و أمّا دلالتها فانّها مشتملة على أحكام كثيرة نافعة تبلغ سبعة أحكام.

و لكن محل الاستشهاد به هو قوله «نعم قيمة بغل يوم خالفته» في جواب سؤال أبي ولاد «أ رأيت لو عطب البغل أو نفق أ ليس كان يلزمني»؟! و لكن في بعض نسخ الحديث «نعم قيمة البغل يوم خالفه».

و استدل القائلون باعتبار قيمة يوم الضمان بهذه الفقرة، و طريق الاستدلال بها من وجوه:

«الأول»: القيمة مضافا إلى البغل، ثم اضيفت ثانيا إلى اليوم، و حاصله وجوب قيمة البغل يوم المخالفة (كأنّه قال: نعم قيمة بغل، قيمة يوم خالفته).

«و فيه»: أنّ إضافة شي ء مرتين غير مأنوس في كلام العرب و غير معروف في كلمات أهل الأدب.

«الثاني»: اليوم ظرف و قيد للاختصاص المفهوم من إضافة «القيمة» إلى «البغل»، و حاصله القيمة المختصة للبغل يوم المخالفة.

و هذا أحسن من السابق، و لكن يرد عليه أنّ ذكر البغل بصورة النكرة على هذا ممّا لا يرى وجه، و المفروض أنّ البغل نفسه موجود يوم المخالفة، غير معدوم حتى يفرض مثله.

بل يستشم منها كون القيمي مضمونا بالمثل الذي هو خلاف القاعدة و خلاف متفاهم الأصحاب، مضافا إلى أنّ البغل إذا كان نكرة شمل أي بغل و لو لم يكن مثله، اللّهم إلّا أن يقال بانصرافه إلى مثله و ليس ببعيد.

«الثالث»: القيمة مضافا إلى البغل، و المجموع مضاف إلى اليوم، فحذف اللام في البغل للإضافة فيكون مثل قولنا «خاتم فضة عمرو» أو «ماء ورد زيد» فليس لزيد في هذا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 186

المثال ورد بل «ماء ورد» و لا لعمر و

فضة بل «خاتم فضة».

و فيه: أنّه و إن كان ممكنا بحسب قواعد اللغة، و لكنه تركيب غير مأنوس، يشكل حمل الرواية عليه، و لا أقل أنّه ليس من الاحتمالات الظاهرة فيها.

«الرابع»: اليوم ظرف للقيمة بأن يكون للقيمة معنى حدثيا، و معناه أنّه يقوّم البغل يوم المخالفة.

و فيه: إن استفادة معنى الحدثية من القيمة بعيد جدّا، لا يساعده الذوق العرفي.

«الخامس»: أن يكون القيمة مضافا إلى البغل، و البغل مضافا إلى اليوم فيكون من تتابع الإضافات يعنى تعتبر قيمة البغل في يوم المخالفة.

و فيه: إن اضافة البغل إلى اليوم بأن يقال: بغل هذا اليوم، و بغل أمس، و بغل غد، أيضا غير مأنوس و مخالف للظاهر.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بها لهذا القول لا يساعده ظاهر الصحيحة بأي احتمال من احتمالات.

و قد يؤيد الاستدلال بها بفقرة اخرى منها، و هو قوله: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا و كذا فيلزمك» حيث إنّ ظاهره لزوم قيمة يوم الإجارة، و لكنه لما لم يقل له واحد، و الغالب أنّ الاكتراء لمثل هذه المسافة القريبة التي كان أبو ولّاد بصددها (و هي المسافة بين الكوفة و ابن هبيرة) يكون في زمن قريب للسفر، كما أنّ مفروض الرواية وقوع التخلف في أول يوم من سفره، و من الواضح عدم تغيير القيمة في هذه المدّة القليلة بحسب العادة، فينطبق على قيمة يوم الضمان لا محالة، فالفقرتان متوافقتان بالمآل.

هذا و لكن يمكن أن يقال بأن ذكر يوم الاكتراء إنّما هو من باب إمكان إقامة الشهود عليه لكونه بمرئى و منظر من جماعة، ثم بعد ذلك تستصحب على ما كان.

هذا، و لعل الأظهر في معنى الفقرة الأولى من الرواية

كون «نعم» بمعنى «يلزمك» و «كون اليوم» ظرفا له فيكون مفهوم الجملة نعم يلزمك في يوم المخالفة قيمة البغل لو عطب أو هلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 187

و هذا و إن كان ساكتا عن ملاك التقويم و لكنه ينصرف إلى قيمة يوم التلف لا يوم المخالفة، لأنّه إذا قيل: يلزمك قيمة العين إذا تلف، يفهم منه قيمة ذلك اليوم لا سيما بملاحظة سيرة العقلاء المستقرة على ذلك، و لأنّ تلك القيمة قائمة مقام العين التالفة.

و يؤيد هذا المعنى امور:

1- المحكي عن بعض النسخ هو ذكر «البغل» مع الألف و اللام، و هو ظاهر فيما ذكرنا كما لا يخفى.

2- من البعيد إلزام الشارع في هذه الأبواب بحكم تعبدي على خلاف سيرة العقلاء و لا سيما أنّهم لا يرون قيمة يوم المخالفة تداركا للمال التالف، و موجبا لجبران خسارة إذا فرض كون القيمة يوم التلف أكثر من يوم المخالفة و لازمه عدم وجوب تدارك التالف تعبدا، و هو و إن لم يكن محالا إذا قام الدليل عليه، و لكن احتماله بعيد في أمثال المقام.

3- الظاهر عدم تفاوت قيمة البغل في خلال هذه المدّة القليلة (خمسة عشر يوما) إلّا أن تحدث حادثة مهمّة كما إذا هلك كثير من البغال، أو وقعت حرب يحتاج فيها إلى البغال، أو شبه ذلك ممّا هو نادر، فليست الرواية ناظرة إلى خصوصية هذه الأيّام المختلفة و إنّما ينصرف إلى ما ذكرنا لما عرفت من السيرة.

4- قد ورد في ذيل الحديث قوله: «عليك قيمة ما بين الصحة و العيب يوم تردّه عليه» في جواب سؤال «أبي ولّاد» عن حكم العيوب الواردة على البغل و هذه الفقرة دليل على أن الاعتبار بيوم الرّد مطلقا في العيوب

و غيرها، لعدم الفرق بين ضمان العيوب و ضمان أصل المال، و هذا لا يساعد القول باعتبار يوم الضمان فينافي صدر الحديث، و لكنه ينافي القول باعتبار قيمة بغل يوم التلف، أيضا فلا بدّ من حمل هذه الفقرة على كون «يوم ترده» ظرفا لقوله عليه السّلام «عليك» (بمعنى يلزمك) فيكون شاهدا لكون اليوم في قوله عليه السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته» أيضا كذلك فتكون الرواية بصدرها و ذيلها بصدد بيان أصل الضمان، و أمّا ملاك القيمة فيعرف من سيرة العقلاء التي أمضاها الشرع، و هو قيمة يوم التلف فتدبّر جيدا.

هذا و لكن الذي يسهل الخطب عدم ورود كلمة «يوم» في بعض النسخ بل ورد فيه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 188

«عليك قيمة ما بين الصحة و العيب تردّه عليه» من دون ذكر اليوم.

هذا مضافا إلى إمكان كون اليوم قيدا للعيب، لأنّ العيب لو تناقض لم يبعد كون العبرة بيوم الردّ لا يوم حدوثه، خلافا لما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و تمام الكلام فيه في محله.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بها على اعتبار يوم الضمان مشكل جدّا و لا أقل من كونها مجملة، لو لم نقل بظهورها في اعتبار يوم التلف بما عرفت بيانه، فالاستدلال بها لاعتبار يوم الضمان مشكل جدّا.

إشكالات ترد على صحيحة أبي ولاد:

ثم إنّه على نفس الرواية إشكالات اخرى من نواح آخر، و طريق دفعها ربّما يؤيد بعض الأقوال السابقة:

1- إذا وقع الخلاف بين المالك و الضامن في مقدار القيمة فظاهر الصحيحة كون القول قول المالك مع يمينه، مع أنّه مدع للزيادة و الضامن منكر لها، و القاعدة تقتضي كون القول قول الضامن.

هذا مضافا إلى أنّ ظاهرها تخيير المالك بين إقامته البيّنة و الحلف، و هذا أيضا ممّا

لا تساعده القواعد، لأنّ من كان القول قوله بحلفه، فالبيّنة بيّنة صاحبه.

و الحاصل: أنّ «البيّنة للمدعي» «و الحلف لمن أنكر» و الجمع بينهما غريب لا يساعده القواعد المعروفة في أبواب القضاء.

و قد اجيب عنه: تارة بأنّ البيّنة هنا على القاعدة لأنّه مدع، و أمّا الحلف فليس حلفا قضائيا، بل حلف متعارف لإثبات الامور، كما هو المعمول من قول أحد المتحالفين للآخر أحلف على هذا الأمر و خذ المال، و به يختم النزاع.

و لكنه مخالف للظاهر كما لا يخفى، لا سيما مع رجوع المتخاصمين هنا إلى القاضي في ما هو أقل منه و هو الكراء، فكيف يحمل الحلف على غير القضاء؟

«و اخرى» بأنّه تعبد خاص ورد في خصوص الدابة المغصوبة، أو مطلق القيمي، لإمكان تخصيص القواعد بنص خاص.

و الانصاف أنّ تخصيص القواعد العامة الجارية في مواردها بمثل هذا مشكل جدّا،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 189

لا سيما مع عدم ظهور استقرار فتوى الأصحاب عليه، مضافا إلى أنّ ذلك يكون دائما ذريعة لدعوى المالك إلى كل زيادة أرادها، و هو بعيد جدّا من مذاق الشرع، و كون الضامن غاصبا هنا لا يرخص ذلك.

«و ثالثة» بأنّ البيّنة إنّما هي على القاعدة فيما يدعي صاحب البغل الزيادة، و أمّا الحلف فانّما هو فيما إذا اتفقا على قيمته سابقا ثم اختلفا في تنزيل قيمته بعد ذلك، فانّ القول قول مدعى عدم النقصان، فيكون مساعدا للقول بكون القيمة قيمة يوم التلف، لأنّه قد ينفك عن يوم الاجارة، و أمّا يوم المخالفة و الضمان المفروض في مورد الرواية اتحاده معه أو قربه منه جدّا.

هذا و لكن ظاهر الصحيحة تخيير المالك بين الأمرين لا اختصاص كل واحد من الحلف و البيّنة بصورة خاصّة، مضافا إلى

أنّه يبقى بعض صور الاختلاف لم يذكر حكمه فيها، كما إذا ادعى المالك زيادة قيمة يوم التلف على يوم الاجارة، و لا يمكن توجيهه إلّا ببعض التكلّفات.

و الاولى ترك العمل بذيلها و ردّ علمه إلى أهله، أو القول بأنّ الذيل ممّا يضعّف الركون على أصل الرواية.

2- حكمه بأنّ العلف على المستأجر لأنّه كان غاصبا عند المخالفة مع أنّ العلف عليه و إن لم يكن غاصبا.

و يمكن الجواب عنه بأنّه لعل المتعارف في تلك الأزمنة كون العلف على المالك في الاجارات الصحيحة و كان يحسبه المستأجر من الكراء فتأمل، أو يقال بأنّ التعليل بكونه غاصبا في مقابل الأمين الذي يجوز له حفظ الدابة بتعليفها ثم أخذ قيمة العلف من صاحبها، كما صرح به غير واحد منهم في كتاب اللقطة.

3- ظاهر الصحيحة كون الاجارة بحسب طي مسافة الدابة، لا بحسب مقدار زمانها، مع أنّ المتعارف خلافه.

و يمكن أن يقال بعدم التفاوت بينهما في مورد الرواية، أو أنّ المدار عليهما جميعا و الأمر فيه سهل.

القول بضمان أعلى القيم:
اشارة

بقي الكلام فيما عرفت سابقا من أنّ جماعة من الأصحاب (منهم الشيخ قدّس سرّه في الخلاف و ابن ادريس قدّس سرّه في السرائر و صاحب الوسيلة و الغنية، و جماعة من متأخري الأصحاب كالشهيد و العلّامة و ولده الفاضل (قدّس اللّه اسرارهم) اختاروا ضمان أعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف، و مال إليه المحقق و الشهيد الثاني قدّس سرّهما في الشرائع و المسالك.

و استدل له بامور عمدتها:

1- أنّه مقتضى القاعدة، لأنّ العين في ضمان الضامن في جميع الحالات إلى يوم التلف، و من جملتها أعلى القيم، مضافا إلى أخذ الغاصب بأشق الأحوال (إذا فرض الكلام في الغصب).

و فيه: أنّه من قبيل

الخلط بين الضمان التقديري الحاصل عند ثبوت العين و الضمان الفعلي عند فقدانه، و الأوّل لا أثر له إذا لم يتلف العين فارتفاع القيمة غير مضمون إلّا إذا وقع التلف حينه، و لو كان ضمانه لارتفاع القيمة فعليا لزم ردّه إلى المالك مع ردّ العين، و هو ممّا لم يقل به أحد كما صرح به في الجواهر في «كتاب الغصب».

و أخذ الغاصب بأشق الأحوال لا دليل له، بل هو مأخوذ بما يقتضي العدالة من تدارك العين و الخسارات الحاصلة، و قد عرفت أنّه يتمّ بأداء قيمة يوم التلف.

و لقد أجاد الشهيد الثاني قدّس سرّه في ما قال في المسالك «و مؤاخذة الغاصب بالاشق لا يجوز بغير دليل يقتضيه و قد تبيّن ضعفه» «1».

2- إنّ الغاصب أو الضامن حاصل بين المالك و العين بما له من المالية في كل زمان، و من تلك الأزمنة زمان ارتفاع القيمة السوقية، فهو ضامن لهذه القيمة و الباقي مندرج تحتها.

و فيه: إنّ مدار الضمان الفعلي هو التلف و مجرّد الحيلولة حرام تكليفي لا يوجب ضمانا إلّا تقديرا، أعني على تقدير التلف، نعم قد تدخل المسألة في «قاعدة لا ضرر» كما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 191

إذا كان العين في معرض التجارة و المعاملة الحاضرة بأعلى القيم فمنعه الظالم الغاصب، و لكن هذا فرض خاص لا دخل له بجميع فروض المسألة.

3- التمسك بقاعدة الاشتغال للشك في براءة الذمّة بغير أعلى القيم، أو استصحاب بقاء العين في ضمانه بدونه.

و فيه: التمسك بالأصل إنّما هو على فرض الشك، و نحن نعلم أنّ الضامن غير مأمور بما عدا تدارك العين على فرض التلف، و تداركه إنّما هو بقيمة يوم التلف لا غير.

4- و قد استدل بصحيحة

أبي ولاد أيضا كما أشار إليه الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك و شرح اللمعة، و أحسن ما يمكن أن يقال في توجيه الرواية و دلالتها على هذا المعنى إنّما هو من ناحية قوله: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» لأنّ يوم المخالفة و هو يوم الغصب، و الضمان ليس خصوص اليوم الأوّل، بل جميع هذه الأيّام إلى يوم التلف مصداق ليوم المخالفة و تكون نتيجته أعلى القيم.

و إن شئت قلت: ذكر يوم المخالفة في الحقيقة من قبيل تعليق الحكم على الوصف، فالمخالفة كانت سببا للضمان، و هذا المعنى حاصل في سائر الأيّام إلى التلف و لا خصوصية لليوم الأوّل.

و لكن الانصاف أنّه أيضا لا يخلو عن تكلف و ارتكاب لخلاف الظاهر، مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في أصل دلالة الحديث على أنّ المدار هو يوم المخالفة.

فالقول بأعلى القيم ضعيف هنا و في جميع أبواب الضمانات.

و العجب أنّه ذكر في المسالك بعد تقوية القول بكون المدار على قيمة يوم التلف، ما نصه: إلّا أنّ في صحيحة أبي ولّاد فيمن اكترى البغل و تجاوز به محل الشرط ما يدل على وجوب أعلى القيم بين الوقتين و لولاها لما كان عن هذا القول عدول «1».

و قد عرفت ما يمكن توجيهه به و الا يراد عليه فتوقفه في الفتوى بيوم التلف نظرا إلى اشعار ضعيف في الصحيحة غير صحيح.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 192

فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم وجود دليل يدل على أعلى القيم و إن كان الاحتياط حسنا في كل باب، و ربّما استدل عليه بامور ضعيفة اخرى نحن في غنى عنه بعد ما عرفت و اللّه العالم.

و هنا فرعان:
الأوّل: كل ما مرّ في ارتفاع القيمة و انخفاضها كان بحسب الأزمنة و الأيّام المختلفة

فلو كان الاختلاف بحسب الأمكنة بأن كانت قيمة العين

في مكان الضمان مقدارا، و في مكان التلف مقدارا آخر، و كذا في محل المطالبة، أو الأداء، فهل المدار على مكان التلف، أو غيره، أو أعلى القيم؟ فإذا كان قيمته في الكوفة مثلا مائة، و في بغداد عند تلفه مائة و خمسين، و في البصرة عند المطالبة أو الأداء مائتين فالواجب عليه أداء أيّ هذه القيم؟ لم أر كلاما للأصحاب هنا و لكن ذكروا نظيره في باب المثلي.

و كلمات الأصحاب هناك مختلفة، فعن ابن ادريس أنّه لو ظفر المالك بالغاصب في غير مكان الاتلاف فله إلزامه به في ذلك المكان، و إن كان أعلى قيمته من مكان الغصب، لأنّه الذي تقتضيه عدالة الإسلام و الأدلة و اصول المذهب.

و قد حكى ذلك عن الشهيد و العلّامة و فخر المحققين و المحقق الثاني (قدس اللّه اسرارهم)، و استدلوا عليه بأنّ وجوب ردّ المظلمة فوري.

و لكن عن القاضي و الشيخ في المبسوط، الاعتبار ببلد الغصب.

و لكن الانصاف أنّ الأمر في المثلي واضح، فانّ الذمّة، مشغولة بالمثل فللمالك مطالبته في أي مكان كان، نعم يشكل القول بجواز إلزام المالك بقبوله إذا استلزم عليه الضرر لسقوط القيمة في ذاك المكان، لأدلة نفي الضرر، و أمّا القيمي فالظاهر أنّه يختلف على المباني.

فمقتضى القاعدة العقلائية السابقة هو تدارك العين بقيمته في نفس زمان التلف و مكانه فانّها هي التي تقوم مقامه و تسد فراغه.

و لكن بناء على كون المدار قيمة يوم المخالفة استنادا إلى صحيحة أبي ولاد فلا يبعد الاعتبار بمكان المخالفة، لأنّ اطلاق الحديث يقتضيه كما لا يخفى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 193

و لكن قد عرفت ضعف الاستدلال بها هناك فكيف هنا، بل الانصاف أنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة

حتى يؤخذ باطلاقها.

هذا و لكن لم يثبت لنا طريقة خاصة للعقلاء عند اختلاف هذه القيم حتى تكون سيرة أمضاها الشرع بل لو غصبه غاصب و قيمته غال جدّا، ثم أتاها في مكان يكون قيمته رخيصا، ثم تلف هناك (كما إذا أتى الماء على فرض كونه قيميا، من «المفاوز» إلى «قريب الشاطي» لا نفسه حتى يسقط عن القيمة بالمرة) لم يكن أداء القيمة الرخيصة كافيا في جبران خسارة العين عندهم قطعا، كما أنّه لو كان الأمر بالعكس فغصب الماء من قريب الشاطئ ثم ذهب به إلى مفازة يكون قيمته غاليا جدّا فتلف، فهنا يشكل إلزامه بأداء الغالي لأنّ الخسارة الواردة على المالك لا تكون بهذا المقدار، فلذا لا يبعد أن يكون المدار هنا بقيمة يوم الضمان أو الغصب. و الفارق بينه و بين اختلاف الأزمنة أنّ الأوّل حصل بفعل الضامن، و الثاني كان بدون دخالته.

و لكن كفاية هذا المقدار في الفرق لا يخلو عن تأمل، فلا يترك الاحتياط بالمصالحة بينهما.

الثاني: إذا زادت قيمة العين لا لارتفاع القيمة السوقية بل لزيادة نفس العين، فهل يضمنها أم لا؟

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأنّ الظاهر عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم هنا لأجل الزيادة العينية الحاصلة فيه النازلة منزلة الجزء الفائت.

و قال المحقق النحرير صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الغصب: إذا استند نقصان القيمة إلى حدوث نقص في العين ثم تلفت فان الأعلى مضمون اجماعا «1».

و الظاهر أنّ محل كلامه غير ما ذكره الشيخ قدّس سرّه، فلو كان إجماعه مستندا إلى ما أفاده في الجواهر كان محلا للإشكال و لكنه بعيد.

و قال بعض الأعاظم في «مصباح الفقاهة»: «كما أنّ العين مضمونة على الغاصب كذلك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 194

أوصافها الدخيلة في مالية العين أيضا مضمونة، سواء في ذلك أوصاف الصحة و أوصاف الكمال»

«1».

أقول: الحق أنّ وصف الزيادة على أنحاء مختلفة، تارة تكون الزياده باقية حال تلف العين و لا كلام في كونها مضمونة، و اخرى تكون في ما هو معرض للبيع من ناحية المالك، و الغاصب حال بينه و بين المالك حتى زالت، و هذه أيضا مضمونة على الظاهر، و ثالثة يكون زوالها بسبب غصب الغاصب و مستندا إليه مع كونها ثابتة من أول الأمر و هذه أيضا مضمونة، و رابعة ما إذا زادت العين عند الغاصب ثم زالت بمقتضى طبيعتها كالحيوانات التي تزداد في بعض فصول السنة و تنقص في فصل آخر، و لم تكن معرضا للبيع، فان الحكم بضمان مثله و اطلاق الضرر عليه لا يخلو عن إشكال، و اللّه العالم.

الأمر التاسع: أحكام بدل الحيلولة:
اشارة

إذا غصب شي ء أو ضمنه فله ثلاث حالات:

1- إذا كان العين موجودة و لم يكن هناك مانع من ردّها فالواجب على الضامن فيه ردّها، و الحكم بضمانه يكون من قبيل الضمان التقديري، بمعنى أنّه لو هلك كان عليه مثله أو قيمته، لا غير.

2- إذا هلكت العين و الحكم هنا دفع العوض من المثل أو القيمة، و يلحق به ما إذا تعذر ردّه بحيث يلحق عرفا بالتلف، كما إذا سرقه سارق لا يرجى ردّه أبدا، أو ألقي في بحر لا يمكن اخراجه منه عادة، فهذا كله ملحق بالتلف.

3- ما إذا كان موجودا و لكن يتعذر ردّه فعلا مع أنّه يعلم أو يرجى القدرة عليه في مستقبل قريب أو بعيد، بحيث لا يراه العرف تالفا، فظاهر كلمات الأصحاب هنا عدم الخلاف في وجوب ردّ بدله حتى يتمكن من أصله فيردّه و يسترد البدل.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 195

و هو المسمى عندهم ببدل الحيلولة، و صرح به الشيخ

و ابن ادريس و العلّامة و الشهيد و المحقق الكركي (قدس اللّه اسرارهم) و في الخلاف و الغنية فيما حكي عنهم، بل يظهر عن غير واحد نفي الخلاف فيه أو دعوى الإجماع عليه.

و اللازم أولا التكلم في أصل هذا الحكم، ثم في الفروع الكثيرة المتفرعة عليه، فنقول:

إنّ الدليل على أصل الحكم على ما يظهر من كثير منهم، كالمسالك و الجواهر و مكاسب الشيخ و كلمات المحشين و الشارحين امور (بعد ضمّ بعض كلماتهم إلى بعض):

1- عدم الخلاف، بل الإجماع و ارسال الحكم ارسال المسلمات، و الانصاف أنّ المسألة و إن كانت كذلك، و ارسلوها ارسال المسلمات، بل قد يدعى كون الحكم كذلك عند أهل الخلاف أيضا، و لكن كشفه عن فتوى المعصوم عليه السّلام بعيد، بعد وجود أدلة اخرى في المسألة كما لا يخفى.

2- الروايات الكثيرة الواردة في أبواب العارية و الوديعة و الاجارة و غيرها و كان نظرهم إلى ما يلي و اشباهه، مثل ما روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن العارية يستعيرها الإنسان فتهلك أو تسرق، فقال: إن كان أمينا فلا غرم عليه» «1».

و ما روى أبان مثله و زاد قال: «و سألته عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال عليه السّلام: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا» «2».

و ما روى مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عليه السّلام قال: «سمعته يقول: لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا» «3».

و أيضا ما روى يحيى عن محمد بن الحسن قال: «كتبت إلى أبي محمد عليه السّلام رجل دفع إلى رجل وديعة، و أمره

أن يضعها في منزله أو لم يأمره، فوضعها في منزل جاره فضاعت، هل يجب عليه إذا خالف أمره و أخرجها عن ملكه؟ فوقع عليه السّلام: هو ضامن لها ان شاء اللّه» «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 196

و ما روى اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: «لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب لأنه إنّما أخذ الجعل على الحمام و لم يأخذ على الثياب» «1».

و ما روى أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن قصار دفعت إليه ثوبا فزعم أنّه سرق من بين متاعه، قال: فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه و ليس عليه شي ء فان سرق متاعه كلّه فليس عليه شي ء» «2».

إلى غير ذلك ممّا يدل على لزوم البدل عند السرقة و الضياع عند التفريط (منطوقا أو مفهوما) و لكن الانصاف أنّها ناظرة إلى صورة الحاق المسروق أو الضائع بالهلاك لا فيما يرجي عوده.

3- قاعدة «لا ضرر» نظرا إلى أنّ قطع سلطنة المالك عن ملكه و لو في زمن قصير ضرر عليه بلا إشكال، و لا يندفع إلّا بالبدل حتى يرجع إليه متاعه، و لكن أورد عليه:

أولا: بأن لا ضرر ينفي الأحكام الضررية لا أنّه يثبت حكما شرعيا كوجوب أداء البدل وقت التعذر.

و ثانيا: بأنّ ضرر المالك معارض بضرر الضامن حيث يجب عليه ردّ العين عند القدرة و ردّ بدله وقت التعذر، لا سيما بناء على ملكية البدل مع بقاء المبدل في ملكه كما هو المشهور.

و ثالثا: بأنّ نسبة أدلة نفي الضرر مع ما نحن بصدده نسبة العموم من وجه، لأنّ الصبر قد لا يوجب ضررا، فالدليل لا ينطبق على

المدعى.

و لكن يمكن الجواب عن الجميع، أمّا عن الأوّل: فبما عرفت سابقا من أنّ لا ضرر يثبت الحكم كما ينفي الأحكام الضررية كما حققناه في محله.

و عن الثاني: بأنّ ضرر الضامن إنّما أتى من قبل نفسه، لأنّه هو الذي قطع سلطنة المالك عن ملكه، و إلّا كان كل غرامة على غارم ضرر عليه منفي بأدلة نفي الضرر و لا يقول به أحد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 197

و عن الثالث: بأن قطع سلطة المالك عن ملكه ضرر دائما، و لا أقل من أنّه لا يقدر على بيعه و تمليكه لغيره مع تسليمه إليه، فالاستدلال بلا ضرر في محله.

و ذكر السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في حواشيه إشكالا آخر، و هو أنّ قاعدة لا ضرر ساكتة عن كون الأخذ من باب الغرامة (بل يمكن أن يقال: غاية ما يستفاد منها جواز مطالبة مالية المال بالمصالحة أو البيع، فيجبر الغاصب على المصالحة إن أرادها المالك لا أن يؤخذ الغرامة حتى يبقى إشكال الجمع بين العوض و المعوض، و دعوى تخيير المالك بين أخذه بعنوان الغرامة أو بعنوان المصالحة، أو البيع الاجباري، أيضا مدفوعة بأن القدر المتيقن بعد إجمال لسانها هو ما إذا كان بعنوان أحد المعاملات مع إمكان التمسك بحرمة أكل المال بالباطل هنا (انتهى ملخصا) «1».

و فيه أولا: إن أخذ البدل إنّما هو للجمع بين حق المالك و الضامن، أمّا المالك فلأنّه قد لا يصرف النظر عن أصل ماله عند رجاء حصوله بعد مدّة، مع إرادة الانتفاع ببدله في هذه المدّة أيضا، و هذا لا يتحقق مع البيع أو المصالحة أو غير ذلك كما هو ظاهر.

ثانيا: إشكال الجمع بين العوض و المعوض سيأتي جوابه إن شاء اللّه، و

حاصله: إنّ البدل إنّما يكون ملكا موقتا للانتفاع به، فهو قائم مقام العين في الانتفاع في هذه البرهة من الزمان لا في أصل المال مطلقا.

ثالثا: الأخذ بالقدر المتيقن غير تام بعد ما عرفت من عدم حصول حق المالك بالمعاملة و المصالحة كما عرفت.

رابعا: ما ذكره من كون المال هنا من الأكل بالباطل ممنوع جدّا بعد كونه لإحقاق حق المالك الذي لا يحصل حقه إلّا به.

و من هنا يظهر الجواب عن إشكال آخر في المقام، و هو أنّه كما يمكن استيفاء حق المالك بتمليك البدل يمكن جبران المنافع الفائتة منه بأداء غرامتها.

و ذلك لأنّ أداء غرامة المنافع غير كاف، لأنّه قد يريد بيع متاعه أو هبته أو غير ذلك،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 198

و هذا لا يحصل ببدل قيمة المنفعة فقط (فتدبّر جيدا).

4- قوله صلّى اللّه عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» فان مقتضاه وجوب أداء المالية إذا لم يمكن أداء نفس العين، و إن شئت قلت: إنّ الضمان المستفاد منه أعم من صورة التلف و صورة التعذر في برهة من الزمان.

و لكن يمكن الجواب عنه: بأنّ ظاهرة وجوب ردّ العين عند وجوده، و ردّ بدله عند تلفه، و لا دلالة له على حكم صوره التعذر الموقت.

و أمّا الإشكال على سنده فهو ضعيف جدّا بعد اشتهاره غاية الاشتهار.

5- قاعدة من اتلف، فان الضامن قد اتلف سلطنة المالك على ماله، فلا بدّ له من اعادتها، و حيث إنّه لا يمكن بعينها فلا أقل أن يكون ببدلها.

هذا و لكن الانصاف أنّها أيضا ناظرة إلى تلف العين أو المنافع، و أمّا غير ذلك فلا دلالة لها عليه كما لا يخفى، فهو ضامن لتدارك العين عند التلف، و

المنافع عند فوتها، و أمّا تبديلها بعين اخرى و لو في زمن موقت فلا.

6- قاعدة تسلط الناس على أموالهم و هي مقتضية لمطالبة العين، فلما تعذرت فاللازم جعل البدل مكانها.

و فيه: إن معنى التسلط على المال التقلب فيه كيف يشاء و أخذه حيثما وجده، و هو ساكت عن فرض التعذر، حتى أنّه لا دلالة له على جواز اخذ العوض عند التلف بل لا بدّ من التمسك بقاعدة الاتلاف و شبهها.

و قد أورد عليه السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بمثل ما عرفت في قاعدة لا ضرر من عدم دلالته على أزيد من اجبار الغاصب بالمصالحة أو البيع.

و فيه ما عرفت من أنّه لا يتدارك معه خسارة المالك و حقوقه من جميع الجهات كما عرفت نظيره هناك.

7- التمسك بقاعدة احترام الأموال، بضميمة الجمع بين الحقوق، فانّها تقتضي جبران خسارات المالك مع ردّ ماله إليه عند التمكن منه، و ذلك لا يكون إلّا باعطاء البدل و لو موقتا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 199

و أمّا بذل قيمة المنافع، أو المصالحة و البيع الاجباري مع الضامن، فهو غير كاف في جبران الخسارة كما عرفت.

فتحصل أنّ المعتمد من بين هذه الأدلة هو خصوص الدليل الأخير مع قاعدة لا ضرر بالبيان الذي عرفته، هذا بالنسبة إلى أصل الحكم.

بقي هنا امور:
1- مورد بدل الحيلولة:

إن تعذر الوصول إلى العين تارة يكون مع العلم بعدم الظفر عليها ابدا أو في زمن بعيد جدّا بحيث يلحق بالعدم، و اخرى مع الظن، المعبر عنه بعدم رجاء الوصول إليها، و ثالثة مع العلم أو الظن الغالب أو احتمال معتد به في عودها و التمكن منها.

كلام غير واحد من الأصحاب و إن كان أعم، و لكن الظاهر أن مرادهم ما إذا كان يرجى عودها،

قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب: «و إذا تعذر تسليم المغصوب، دفع الغاصب البدل، و يملكه المغصوب منه، و لا يملك الغاصب العين المضمونة، و لو عادت كان لكل منهما الرجوع».

و تعبيره بقوله «و لا يملك ...» ظاهر فيما إذا لم يحلق عرفا بالتلف، فتأمل.

و كيف كان، لا إشكال في كون الأولين خارجين عن محل الكلام في بدل الحيلولة و ملحقان بالتلف في أحكامه التي مرّت سابقا، و لا يظهر من كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه ما ينافي ذلك كما يظهر لك بالدقّة في كلامه، و إن نسبه إليه بعض، فحمل الكلام هنا لا يصحّ إلّا على الصورة الأخيرة، و ذلك لما مر من الأدلة، و الحاصل إن اعطاء البدل الموقت فرع رجاء عودة لعين أو العلم بها و هذه من القضايا التي قياساتها معها و لا تحتاج إلى مزيد بيان و إقامة برهان، و أمّا إذا كانت عرفا ملحقة بالتلف فالبدل بدل التالف لا بدل الحيلولة.

نعم، لا بدّ أن يكون فقد العين في زمان معتد به، فلو كان الزمان قصيرا جدّا لا دليل على لزوم التدارك ببدل الحيلولة، لعدم شمول أدلته لهذه الصورة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 200

نعم، لا فرق في الزمان المعتد به بين ما يكون عوده خارجا عن اختيار الضامن أو ما يكون باختياره، و لكن اعداد المقدمات له يحتاج إلى الزمان، لا تحاد الدليل في البابين.

2- هل يملك البدل الذي يعطى للحيولة؟

ظاهر كلمات الأصحاب كما حكي عنهم ملكية البدل، بل قد يدعى الإجماع عليه و لكن استشكل عليه المحقق الثاني و الشهيد الثاني قدّس سرّهما في «جامع المقاصد» و «المسالك» بما حاصله «أنّه كيف يدل البدل في ملكه، مع أنّه لم يخرج المبدل عن

ملكه، فلازمه أن لا يكون البدل مقابلا للعين، و يلزم الجمع بين العوض و المعوض».

و عن المحقق القمي قدّس سرّه في أجوبة مسألة القول بكون البدل مباحا له اباحة مطلقة لا يدخل في ملكه إلّا بالتلف، أي تلف العين.

و لكن الموجودة في جامع الشتات (الذي هو أجوبة مسألة) خلاف ذلك، بل صرح بأن البدل ملك محض له من جميع الجهات، و إن كان ملكا متزلزلا و مراعى بظهور العين المغصوبة (انتهى ملخصا) «1».

و عن صاحب الكفاية الميل إلى كون البدل ملكا لمالك العين و المبدل ملكا للغاصب ملكية متزلزلة من الجانبين لا تستقر إلّا بالتلف.

ففي المسألة أقوال ثلاثة و إن كان المشهور المعروف هو الأول.

و عمدة ما كان سببا للعدول عن الملكية إلى الإباحة هو الإشكال الجميع بين العوض المذكور في كلمات المحقق الثاني و الشهيد الثاني قدّس سرّهما و لكن أجاب عنه في الجواهر بأن البدل غرامة، الدليل الشرعي «2» إشارة إلى أنّه ليس بدلا حتى يجري أحكامه بل هو حكم تعبدي من باب الغرامة.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب بطريق آخر، حاصله: إنّ ملكية البدل إنما هي لتحقق السلطنة الفائتة على العين، فالواجب إعادة تلك السلطنة، و لكن لما كان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 201

عودها متوقفا على الملك كان ملكا له مقدمة لذلك.

أقول: الأوفق بما عرفت من الأدلة المعتبرة الدالة على أصل الحكم هو القول بالاباحة المطلقة لانتفاع الضرر بها، و كفايتها في احترام المال، و الجمع بين الحقوق، اللّهم إلّا أن يقال، إنّ القول بالملكية آنا ما هنا قبل التصرفات الناقلة المتوقفة على الملك- مثل ما ذكره بعضهم في المعاطاة- بعيد جدّا، قلما يوجد له نظير في الفقه، و

كون الإرادة من المملكات أعجب، فالقول بالاباحة مشكل من هذه الناحية، و المسألة لا تخلو من شائبة و طريق الاحتياط معلوم، و هو ترتيب آثار الإباحة عليه فقط.

نعم، أو قلنا بالإجماع أمكن الحكم بالملكية فتدبّر.

3- ما هو حكم النماءات هنا؟

الظاهر أنّ البدل إنّما هو للمالك لا للضامن، بل هو من الأغراض المهمّة لدفع البدل، و هذا الحكم إن قلنا بالملكية واضح، و أن قلنا بالاباحة المطلقة فالظاهر أن النماءات مباحة له أيضا كإباحة أصل العين، تدخل في ملكه بالتصرفات المتوقفة على الملك آنا ما قبله، أو يقال بتمليك المنافع و إن كانت العين مباحة.

و أمّا نماء أصل العين فالظاهر أنّها غير مضمونة على الغاصب، لأنّ المفروض دفع بدله، نعم لو بقي نتاجه و نماؤه إلى حين التمكن منه أمكن القول بدخوله في ملك المالك، و وجوب دفع المثل أو القيمة بالنسبة إلى المنافع التي استوفاها عن البدل، أو فاتت تحت يده، فتأمل يده، فتأمل فانّه حقيق به.

4- هل يضمن ارتفاع القيمة بعد أداء البدل؟

الظاهر أنّه لا يضمن ارتفاع القيمة بعد اعطاء البدل، لأنّ الغرض من دفع البدل الخروج عن مثله، اللّهم إلّا أن يقال إنّه بدل عن السلطنة الفائتة غير، هذا إذا قلنا بالملكية، و لو قلنا بالاباحة لم يبعد الضمان، و المسألة لا تخلو من الإشكال، و الاحتياط سبيل النجاة.

5- إذا تمكن من ردّ العين وجب ردّها فورا.

لقاعدة على اليد، و كون البدل بدلا موقتا لا دائما، نعم يجب على المالك أيضا ردّ البدل، و الظاهر جواز حبسه من ناحية الغاصب ذريعة للتراد، و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث منع من ذلك و قال: إنّ العين بنفسها ليست عوضا و لا معوضا، و لذا تحقق للمالك الجمع بينها و بين ملك الغرامة، فالمالك مسلط عليها، و المعوض للغرامة هو السلطنة الفائتة التي هي في معرض العود بالتراد، اللّهم إلّا أن يقال، له حبس العين من حيث تضمنه لحبس مبدل الغرامة، و هي السلطنة الفائتة، و الأقوى الأول «1».

و الظاهر أنّه في ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال: «الأقوى خلافه (أي لا يجوز حبس الغاصب العين إلى أن يقبض ما دفعه بدلا) ضرورة عدم المعاوضة التي مقتضاها ذلك في المقام هي معاوضة معنوية، فليست هي إلّا نحو من كانت عنده عين لمن له عنده كذلك» «2».

قلت: المفروض أنّ السلطنة على البدل عوض عن السلطنة على المبدل كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه، فلا يجوز له الجمع بينهما بحفظ البدل، و مطالبة المبدل فلا مناص عن التراد، فيجوز حبس العين حتى يسترد البدل، هذا على القول بالملك و أمّا على القول بالاباحة فهو كذلك، هذا مضافا إلى جوازه من باب التقاص فتدبّر.

هذا و قد يتوهّم بقاء البدل على ملك مالك

العين دائما! فيكون كلاهما له، نظرا إلى كونه بدلا عن السلطنة الفائتة، و هو توهم فاسدا جدّا، و التفوه به عجيب لأن السلطنة الفائتة كانت محدودة بمدّة معينة، و كان البدل أيضا محدودا بها، فإذا عادت عاد، كما هو واضح.

6- هل يدخل العين في ملك الغاصب

قد يتوهّم ذلك نظرا إلى تحقق المبادلة بينها، فيكون البدل ملكا لمالك العين و العين ملكا للغاصب و لو موقتا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 203

هذا و لكن التوهم المذكور إنّما نشأ من شبهة الجمع بين العوض و المعوض التي عرفت الجواب عنها، فالانصاف أنّ كليها داخلتان في ملك المالك بناء على القول بالملك، و إن كانت أحدهما موقتا، و أمّا بناء على الإباحة فالأمر أوضح.

7- إذا تصرف المالك في البدل تصرفا يخرجه عن الملكية

كما إذا باعه أو وهبه أو أوقفه، فان ذلك يصح له بل الغرض من بذل البدل أن يكون قادرا عليه لو شاء، فإذا تمكن من العين استردّه و ردّ عوض البدل، و يمكن القول بلزوم البدل و عدم جواز استرداد العين نظرا إلى لزوم البيع و ابدية الوقف، و قد يقال أنّه مخالف لما عرفت من الدليل على أصل الحكم.

8- إن كان المالك قادرا على أخذ العين و الغاصب عاجزا

كما إذا ألقاه في قعر بحر أو نهر يقدر المالك على اخراجه دون الغاصب، فالظاهر عدم دخوله في مسألة بدل الحيلولة، نعم لو كان اخراجه يحتاج إلى مؤنة كانت على من ألقاه سواء كان هو البائع أو غيره.

شرائط المتعاقدين

اشارة

بعد تمام الكلام في شرائط العقد فالآن نشرع في شرائط المتعاقدين و المتبايعين، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

الشرط الأول: «البلوغ»
اشارة

و اشتراطه في الجملة مجمع عليه بين الأصحاب، بل بين علماء الإسلام، و إن اختلفوا في تفاصيله، قال في الجواهر بعد كلام له في الصبى البالغ عشر سنين ما نصه:

«فصحّ حينئذ للفقيه نفي الخلاف في المسألة على الإطلاق، بل صحّ له دعوى تحصيل الإجماع على ذلك، كما وقع من بعضهم، بل ربّما كان كالضروري و خصوصا بعد ملاحظة كلام الأصحاب و ارسالهم لذلك ارسال المسلمات، حتى ترك جماعة منهم الاستدلال عليه اتكالا على معلوميته» «1».

ثم استغرب من كلام المحقق الأردبيلي قدّس سرّه و بعض من تأخر عنه، حيث اطنبوا في تصحيح عقد من بلغ عشرا بل ربّما كان ظاهر عبارته عدم الفرق بين بلوغه عشرا و عدمه، ثم قال: و هو مع سبقه بالإجماع بل و لحوقه، محجوج بالأصل المزبور (و الظاهر أصالة الفساد) «2».

و ذكر في الحدائق: «إنّ ظاهر كلام جمهور الأصحاب أنّه لا يصحّ بيع الصبي و لا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 206

شراؤه، و أنّه لا فرق بين الصبي المميز و غيره، و لا فرق بين كون المال له أو للولي أو لغيرهما، أذن مالكه أو لم يأذن» «1».

و عن العلّامة قدّس سرّه: «إن الصغير محجور عليه بالإجماع، سواء كان مميزا أو لا في جميع التصرفات إلّا ما استثنى، كعباداته و إسلامه و احرامه و تدبيره و وصيته و ايصال الهداية و إذنه في دخول الدار على خلاف في ذلك».

و أمّا العامة، فمن الشافعية بطلان عقده مطلقا، و عن الحنابلة الحكم بفساد تصرف غير المميّز أيضا، إلّا إذا أذن الولي، و يقرب منه

قول المالكية.

و أمّا الحنفية، فقد قالوا بفساد عقد غير المميز مطلقا، و أمّا المميز فقد ذكروا أنّه على ثلاثة أقسام: إن كان تصرفه ضارا فلا شبهة في عدم نفوذه، و إن كان نافعا كقبول الهدية و دخول الإسلام يقع صحيحا قطعا، و إن تردد أمره فهو موقوف على اجازة الولي «2».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامات:

الأول: استقلال الصبي بالتصرف في أمواله.

الثاني: تصرفه في ماله باذن وليه.

الثالث: تصرفه في مال غيره باذنه و اذن وليه.

الرابع: قبول شي ء كالهدايا و الهبات و الوصايا.

الخامس: اجراء صيغة العقد لغيره أو لنفسه.

السادس: إسلامه.

السابع: عباداته.

المقام الأول: استقلال الصبي بالتصرف في أمواله

أمّا «المقام الأول»- فلا إشكال و لا نزاع في فساده و بطلانه، و قد أجمع الكل عليه و إن وقع الكلام في مستنده، و يدل عليه قبل كل شي ء السيرة المستمرة بين العقلاء على حجر

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 207

الصبي عن جميع تصرفاته المالية، و عن استقلاله في أمواله من دون فرق بين أرباب الديانات و غيرها و بين القديم و الحديث إلى يومنا هذا، فانّهم لا يزالون يعتبرون حدّا معينا من السّن القانوني و إن اختلف حدّه بين المجتمعات المختلفة. و الشارع المقدس أمضى هذه الطريقة إجمالا، و لكنه جعل حدّا خاصا لسنّ البلوغ ذكره الفقهاء رضوان اللّه عليهم في كتاب الحجر.

و ممّا يؤكد هذا المعنى أنّه لم يسأل في الأخبار المختلفة الواردة في هذا الباب عن هذا الحكم، و إنّما وقع السؤال عن حدّه، و ذلك يدلّ على كون أصل اعتبار السنّ القانوني من الواضحات عند الروايات أيضا، فتدبّر جيدا.

و يدلّ عليه، مضافا إلى ما ذكر، قوله تعالى: وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ

«1».

و ظاهرها اعتبار أمرين: بلوغ حدّ النكاح بالاحتلام و تكوّن المني، و ايناس الرشد.

و الظاهر أنّ كلّا منهما معتبر في هذا الحكم، و له موضوعية، لا أنّ بلوغ النكاح طريق للرشد، حتى يقال بكفايته و لو حصل قبل البلوغ كما توهمه بعض الشراح للمكاسب.

و قد يقال: إن الآية على خلاف المطلوب أدل، لأنّ ظاهرها وقوع الابتلاء قبل البلوغ و هذا لا يكون إلّا بتصديه للبيع و الشراء مستقلا.

و فيه: أولا: إنّ الابتلاء لا يكون بهذا، بل يمكن اختباره بمقدمات البيع و يمكن أن يكون بنفسه تحت اشراف الولي من دون استقلاله، قال في كنز العرفان: «اختلف في معني ابتلائهم، قال أبو حنيفة: هو أن يدفع إليه ما يتصرف فيه، و قال أصحابنا و الشافعي و مالك:

هو تتبع أحواله في ضبط أمواله و حسن تصرفه بأن يكل إليه مقدمات البيع» «2».

و يظهر من رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ المراد القدرة على حفظ الأموال فقد سئل عنه عن قول اللّه عز و جل: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ قال عليه السّلام:

«ايناس الرشد حفظ المال» «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 208

و ثانيا: الروايات الدالة على أنّه لا يجوز أمر الغلام أو الجارية حتى يبلغ كذا و كذا، و اطلاقها دليل على عدم نفوذ أمرها في أي شي ء من الأشياء و أي عقد من العقود مثل ما يلي:

منها: عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام قلت له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامة، و يقام عليه و يؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم و أدرك ... و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع و لا يخرج من

اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحلم، أو يشعر أو ينبت قبل ذلك» «1».

و منها: مرسلة الصدوق قال قدّس سرّه: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إذا بلغت الجارية تسع سنين دفع إليها مالها و جاز أمرها في مالها، و أقيمت الحدود التامة لها و عليها» «2».

و منها: ما رواه أبو الحسين بياع اللؤلؤ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله أبي و أنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال: حتى يبلغ أشدّه قال: و ما أشدّه؟ قال: احتلامه، قال:

قلت قد يكون الغلام ابن عشرة سنة أو أقل أو أكثر و لم يحتلم، قال: إذا بلغ و كتب عليه الشي ء (و نبت عليه الشعر- ظ) جاز أمره» «3» الحديث.

و منها: ما رواه زرارة عن الباقر عليه السّلام قال: «إذا أتى على الغلام عشر سنين فانه يجوز له ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف و حق فهو جائز» «4».

و منها: ما رواه عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «سأله أبي و أنا حاضر عن قول اللّه عز و جل «حتى إذا بلغ أشده» قال: الاحتلام، قال: فقال يحتلم في ست عشرة، و سبع عشرة سنة و نحوها، فقال: لا إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات و كتبت عليه السيئات و جاز أمره إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا» «5» (الحديث).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 209

و منها: ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام و هو أشدّه» «1».

و الظاهر أنّ دلالتها على عدم صحة عقود الصبي و استقلاله في أمواله ظاهرة جدا لظهور نفي جواز أمره

في ذلك.

نعم، بعضها ضعيف من حيث السند، و بعضها محدود من حيث الدلالة، و لكن إذا ضم بعضها إلى بعض لم يبق إشكال لا في سندها و لا في دلالتها.

و ثالثا: ما دل على أنّ «عمد الصبي خطاء»، و هي عدة روايات ما بين صحيحة و ضعيفة.

فمنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «عمد الصبي و خطاه واحد» «2».

و منها: ما رواه اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أن عليّا عليه السّلام كان يقول: «عمد الصبيان خطاء، يحمل على العاقلة» «3».

إلّا أنّ المذكور فيها حمل عمد الصبيان على عاقلتهم، فلو كان توضيحا «لقوله عمد الصبيان خطاء» اختصت بأبواب الجنايات، و لم يكن لها دخل بما نحن بصدده من معاملات الصبي، و إن كان من قبيل ذكر الخاص بعد العام، كان باطلاقها دليلا على المقصود، و لكنه مشكل و لا أقل من إجمالها لو لم نقل بظهورها في خصوص باب الجنايات.

و منها: ما رواه أبو البختري عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السّلام أنّه كان يقول في المجنون و المعتوه الذي لا يفيق و الصبي الذي لم يبلغ: «عمدهما خطاء تحمله العاقلة»، و قد رفع عنها القلم «4».

و كيفية الاستدلال بها مثل ما سبق في ما قبلة، فانّه عليه السّلام دية المحنون و المعتوه- أي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 210

ناقص العقل- و الصبي غير البالغ على عاقلتهم، و ظاهرها أنّه تفسير لكون عمدهم بمنزلة الخطاء، إلّا أن فيها شيئا زائدا ربّما يقوى الاستدلال بها، و هو قوله «قد رفع عنهما القلم» (أي المجنون و من يلحق به و الصبي) و احتمل فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن يكون

علة للحكم (أي ثبوت الدية على العاقلة) أو معلولة لقوله «عمدها خطأ» (أي كان قصدهما بمنزلة العدم فقد رفع الشارع القلم عنهما).

فعلى الأول يكون بمنزلة أن يقول «لأنّه رفع عنهما القلم»، و على الثاني بمنزلة قوله «و لذا رفع عنهما القلم».

و على كل تقدير لا يستقيم الاستدلال إلّا أن يكون رفع القلم أعم من رفع المؤاخذة حتى يشمل الأحكام الوضعية، و حينئذ يكون عمومها دليلا على المقصود إلى بطلان معاملاته و عقوده.

و الحاصل: أنّ هذه الفقرة دليل على كون مضمونها عاما شاملا.

هذا و لكنه يرد عليه أولا: ليس من الاستدلال بقوله «عمدهما خطأ» بل من الاستدلال بحديث رفع القلم، غاية الأمر أنّه يستفاد من قرينة المقام كون رفع القلم أعم من رفع قلم المؤاخذة.

ثانيا: إنّها ضعيفة السند بأبي البخترى.

فلم يبق إلّا صحيحة محمد بن مسلم، و العمل باطلاقها مشكل بعد إمكان حملها على خصوص باب الجنايات، لا أقول ذكرها في هذه الأبواب دليل عليه، لأنّ ذكر رواية في باب خاص مستند إلى استنباط الجامعين لروايات أهل البيت عليهم السّلام و لا يكون دليلا على شي ء بعد كون مضمون الحديث عاما، بل أقول كون هذا التعبير ناظرا إلى أحكام الجنايات في غير هذه الروايات بل و في أحكام المجنون (راجع الحديث ابن الباب 11 من العاقلة) و أحكام الأعمى (الحديث 1 من الباب 10) شاهد قوى على تخصيص هذه العبارة بأحكام الجنايات و ظهورها فيها.

فالاستدلال بعمومها مشكل جدّا لا سيما أن العبارة في الجميع واحد كما لا يخفى على من راجعها و تأملها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 211

أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير غير متعارف في أبواب العقود و الإيقاعات، و التعبير بالعمد و الخطأ معمول في

أبواب الجنايات.

ثم إنّه قد أورد على الاستدلال بها في مصباح الفقاهة «1» بأمرين يمكن الذبّ عنهما:

1- إنّ العمل لها يوجب تأسيس فقه جديد، لأن لازمه عدم بطلان صوم الصبي بالمفطرات المعهودة، لأنّ عمده بمنزلة الخطأ، و كذا صلاته بالتعمد بترك سجدة واحدة مثلا ممّا لا يوجب البطلان إذا صدر سهوا من البالغين، هذا من ناحية.

و من ناحية اخرى يلزم بطلان جميع عباداته، لاعتبار النيّة فيها عن إرادة و اختيار، و قد فرض كون إرادته كالعدم، فعباداته باطلة خالية عن النيّة.

و فيه: أنّه حكم امتناني و لا منّة في بطلان عبادته كما هو ظاهر، و أمّا بالنسبة إلى المفطرات و قواطع الصلاة فالانصاف انصرافه عنها كما هو ظاهر، و بعبارة اخرى: ظاهر الأدلة مطابقة عبادات الصبي للبالغين في جميع أجزائها و شرائطها و موانعها.

2- إن تنزيل عمد الصبي بمنزلة خطأه على وجه الإطلاق يقتضي أن يكون هنا أثر خاص لكل منهما، و من الواضح أنّه لا مصداق لهذه الكبرى إلّا في أبواب الجنايات لا غير.

و فيه: إن تنزيله يمكن أن يكون من حيث عدم الأثر للخطأ كأن يقول إن اختيار الصبي في أبواب العقد كالإكراه، أي لا أثر له كعقد المكره، و مثل هذا التعبير صحيح قطعا، و لا يعتبر في تنزيل شي ء بمنزلة آخر أن يكون لكل واحد منهما أثر فعلى بل يكفي كون أحدهما لا أثر له، و تنزيله بمنزلته إنّما هو من جهة عدم التأثير كما لا يخفي.

المقام الثاني: تصرف الصبي في أمواله بأذن الولي و أجازته

و الظاهر أنّه أيضا ممنوع و داخل في اطلاقات كلمات القوم، و لذا ذكر في الجواهر الإجماع بقسميه عليه أي على عدم صحة بيع الصبي و لو اذن له الولي قبل البيع أو بعده «2».

انوار

الفقاهة، ج 1، ص: 212

و يدل عليه: مضافا إلى ذلك، ما عرفت سابقا من آية سورة النساء، حيث تدل على منع اليتامى من أموالهم قبل البلوغ و إيناس الرشد منهم، و هو عام يشمل ما كان مع اذن الولي.

و هكذا اطلاقات ما دلّ على عدم جواز أمر الصبي في عقوده و معاملاته، و كذلك حديث رفع القلم عنه، بناء على شموله لقلم التكليف و الوضع، و قد مرّ بيانه لا سيما مع ذكره في ذيل حكم جناية الصبي في رواية أبي البختري.

المقام الثالث: في تصرفه في مال غيره بإذنه
اشارة

و منه يظهر الكلام في «المقام الثالث» و هو تصرفه في مال غيره بإذنه بعنوان الوكالة، فان أيضا باطل، و يشمله اطلاق كلمات الأصحاب و فتاواهم بعدم صحة تصرفات الصبي.

و آية اليتامى و إن كانت تختص بأموالهم و لا تشمل أموال غيرهم، إلّا أنّ اطلاق ما دلّ على رفع القلم منه و عدم جواز أمره يشمله أيضا.

نعم، في بعضها مثل رواية حمران «1» التعبير بقوله «دفع إليها مالها» و كذلك غيرها «2» و لكن غير واحد منها مطلقة لا تختص بماله فتدبّر.

هذا مضافا إلى ما عرفت من بناء العقلاء و إمضاء الشارع له، و الظاهر شموله لما نحن بصدده.

و قد ذهب بعض أعلام العصر في «مصباح الفقاهة» إلى القول بالجواز، نظرا إلى العمومات و الاطلاقات الدالة على الصحة. و فيه أنّ اللازم رفع اليد عنها بعد ما دلّ على منعه، مضافا إلى أن انصراف العمومات و الاطلاقات منه قوى جدّا.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه صرّح بعض الأصحاب بالفرق بين المعاملات الخطيرة و اليسيرة، فأجاز تصرفات الصغير في الأخير، كما ذكره المحدث الكاشاني قدّس سرّه فيما حكي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 213

عنه، بل ادعى في الرياض إجماع المسلمين عليه حيث قال: «الأظهر جوازه فيما كان بمنزلة الآلة لمن له أهليته، لتداوله في الأعصار و الأمصار السابقة و اللاحقة من غير نكر، بحيث يعد مثله إجماعا من المسلمين كافة».

و أجيب عنه بأمور:

1- عدم الاعتبار بهذه السيرة لعدم اتصالها بزمن المعصومين عليهم السّلام و احتمال نشؤها عن التساهل في الدين، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه، و احتمله صاحب الجواهر قدّس سرّه في كلامه «1».

2- كون الآخذ عن الصبي هنا موجبا قابلا، كما استقربه كاشف الغطاء قدّس سرّه فيما حكي عنه.

3- كون الصبي من قبيل الآلة هنا، فيكون نوع معاطاة و لو على القول بالملك تجري بين البالغين، و قد تصح المعاطاة بما يكون أقل من ذلك كما في دخول الحمام و جعل الاجرة في صندوق الحمامي، أو أخذ باقة بقل و جعل الثمن في المحل المعدّ له، كما يظهر من كلمات الرياض و غيره.

4- كونه مجرّد الإباحة بالعوض تدور مدار رضاه المالكين البالغين.

أقول: يرد على الأوّل: إنّ انكار مثل هذه السيرة بالنسبة إلى شراء الخبز و الماء و البقل و شبهها، إنكار لأمر واضح، فقد جرت السيرة على ذلك حتى فيما قبل الإسلام و في جميع الأعصار بحسب طباع الناس، و لا يتوقف أحد في إرجاع هذه الامور إلى الصبي حتى يبلغ، و لو ردع عنه الشارع لظهر و بان قطعا، و لا تختص هذه السيرة بالمتساهلين في الدين بل يجري عليه أهل الإيمان و اليقين أيضا.

أمّا الثاني:

فهو مخالف للوجدان، غير معمول عند الناس الذين استقر عليه سيرتهم، و لا يكون ذلك على فرض وجوده إلّا عند الفقهاء منهم.

أمّا الثالث: فلازمه المنع عن التصرفات المتوقفة على الملك، أو القول بالملكية آنا ما قبلها، و كلاهما بعيد لا تساعد عليهما القواعد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 214

فلم يبق إلّا الرابع، و هو قوي.

إن قلت: إنّما يصح ذلك في خصوص الموارد التي يكون الثمن و المثمن و البائع و المشتري معلومة كما في اشتراء البقل أو اجرة الحمامي و ليس جميع الموارد كذلك، فقد لا يكون البائع أو المشتري معينا بل و لا مقدار الثمن كما لا يخفي.

قلت: أمّا معلومية البائع و المشتري بشخصهما فغير لازم، كما إذا لم يكن الحمامي حاضر و كذا صاحب البقل، و أمّا معلومية العوضين فهي حاصلة إلّا في بعض الموارد، و فيه أيضا يعلم بعد رجوع الصبي إلى وليه و أعلامه بالحال، و حينئذ يتحقق منه الإنشاء و يكون الصبي في هذا الحال كالآلة، و الإنشاء الفعلي حاصل هنا من الطرفين، و لا يرد عليه الإشكال من ناحية الموالاة بين الإيجاب و القبول بعد ما عرفت في المباحث السابقة من كفاية هذا المقدار.

و قد يستدل هنا أيضا بروايتين:

إحداهما: مروية من طريق العامة من أن أبا الدرداء اشترى عصفورا من صبي فأرسله، و لذا ذهبت الحنابلة إلى صحة بيع الصبي في الأشياء اليسيرة و لو لم يأذن وليه، كما حكي عنهم و حكي عن الشافعية خلافه.

و فيه: إن فعل أبي الدرداء لا يكون دليلا، مضافا إلى عدم صحة سند الحديث و يمكن حمله على عدم كون الصبي مالكا، بناء على عدم تأثير حيازته، و إنّما اشتراه ظاهرا ليطيب قلبه.

ثانيهما: ما ورد

من النهي عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده معللا بأنّه «إن لم يجد سرق» و هو ما رواه النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن كسب الإماء فانّها أن لم تجد زنت، إلّا أمة قد عرفت بصنعة يد، و نهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده فانه أن لم يجد سرق» «1».

و فيه: أولا: أنّ في سنده النوفلي و السكوني و كلاهما محل كلام.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 215

و ثانيا: يمكن أن يكون المراد من الكسب فيه الكسب باليد، لا البيع و الشراء بقرينة قوله عليه السّلام: «لا يحسن صناعة بيده»، و ليس في المقام البيان من ناحية اخرى، فتأمل.

ثالثا: يمكن أن يكون المراد من الغلام، العبد، لقرينة ذكره في مقابل الأمة فيكون المراد بكسبه إجارته، فانّها لا تصح إلّا باذن المولى.

المقام الرابع: في حكم قبول الصبي للهدايا و الهبات و شبهها

قال في المكاسب إنّ مقتضى ما تقدم من الإجماع المحكي في البيع و غيره من العقود و الأخبار المتقدمة بعد انضمام بعضها إلى بعض، عدم الاعتبار بما يصدر من الصبي من الأفعال المعتبر فيها القصد إلى مقتضاها، كإنشاء العقود أصالة و وكالة، و القبض و الإقباض، و كل التزام على نفسه من ضمان أو اقرار أو نذر أو ايجاد (انتهى).

أقول: يمكن أن يقال: إنّ قبول الهدايا و الهبات ليس التزاما على نفسه بشي ء و لا يوجب ضررا عليه، و هي من العقود الاذنية، فلا إشكال فيهما، و ليس هذا من قبيل اعطاء أمواله بيده، و لكن الإنصاف شمول أدلة نفي جواز أمره و رفع القلم عنه، و لأن قبول الهدية و غيرها قد يكون منقصة و

ضررا عليه من بعض الجهات و لا يدرك ذلك إلّا وليّه.

المقام الخامس: وكالته عن غيره في اجراء صيغ العقود

مقتضى ما عرفت من كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه عدم الجواز أيضا، و ذهب بعض أعلام المحشين إلى عدم المنع منه، نظرا إلى العمومات و الاطلاعات مع عدم دليل على التخصيص أو التقييد، فيجوز للصبي اجراء العقود لغيره، بل على مال نفسه إذا كان بأذن الولي، و كان الصبي وكيلا في اجراء الصيغة فقط كما يجوز استقلاله بهذا النحو في مال غيره (انتهى).

و الإنصاف أنّ شيئا من ذلك غير جائز بعد اطلاق عدم جواز أمر الصبي، و قد عرفت عدم اختصاصه بماله «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 216

هذا و الوكيل في إجراء الصيغة وكيل في نفس البيع، و لا معنى لكونه وكيلا في إجرائها فقط، نعم هو وكيل في المعاملة بقيودها و شروطها المعينة من قبل المالك و إلّا فلا معنى للوكالة في مجرّد الصيغة فقط، فتدبّر فانّه حقيق به.

المقام السادس: من أحكام الصبي «في حكم إسلامه»

الصبي إمّا مميز أو غير مميز، و المراد من المميز هنا تمييز الإسلام و الكفر و قبول أحدهما عن علم و بيّنة بحسب حاله، أمّا غير المميز فلا ينبغي الإشكال في إلحاقه بأبويه، كما صرّح به كثير منهم في أحكام النجاسات في باب نجاسة الكافر، منهم الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، و صاحب الايضاح، و نهاية الأحكام، و العلّامة قدّس سرّه في التذكرة، و الشهيد قدّس سرّه في الذكرى، فيما حكى عنهم بل قد يدعى عدم الخلاف أو الإجماع عليه.

و هو المعروف بينهم في أحكام النجاسة، و الأسر، و الاسترقاق، و غيرها.

و اختلف كلمات العامة هنا.

فعن الحنفية إن تصرف الصبي على ثلاثة أقسام:

«الأول»: أن يتصرف تصرفا ضارا بماله و هذا لا ينعقد.

«الثاني»: أن يتصرف تصرفا نافعا بيّنا كقبول الهبة و الدخول في الإسلام، و هذا ينعقد

و ينفذ و لو لم يجزه الولي.

«الثالث»: أن يتردد بين النفع و الضرر، كالبيع و الشراء، و هذا القسم ينعقد موقوفا على أجازة الولي «1».

و عن الشافعية: لا يصحّ تصرف الصبي سواء كان مميزا أو غير مميز، فلا تنعقد منه عبارة، و لا تصح له ولاية، لأنّه مسلوب العبارة و الولاية، فإذا نطق الصبي من أبوين كافرين بالإسلام، فلا ينفع إسلامه «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 217

و لم ينقل من الحنابلة و المالكية هنا كلام في هذا المعنى.

و العمدة فيه السيرة المستمرة بين العقلاء و قد أمضاها لشرع عند عدّهم في عداد آبائهم عند عدّ الكفار و المسلمين، فلا يزالون يقولون عدد اليهود كذا، و عدد المسلمين كذا، و يعدّون أولادهم في عدادهم، و هذا أمر ثابت في جميع البلاد و الأعصار من غير فرق بين جميع الفرق.

مضافا إلى ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه من دعوى الإجماع أو التسالم.

و كذا الكلام بالنسبة إلى المميز إذا لم يختر مذهبا أو اختار مذهب أبيه مثلا، و أمّا إذا أختار مذهبا على خلاف مذهب أبيه، كما إذا أسلم ولد الكافر أو كفر ولد المسلم، و هو غير بالغ، و لكن كان ذلك عن علم و قصد، فهل يحكم عليه بأحكام الإسلام و الكفر، و هو المعنون في كلماتهم بقبول اسلام الصبي، أو عدمه فيكون تابعا لأبويه حتى يبلغ أشده؟

غاية ما يمكن الاستدلال به على قبوله امور:

1- شمول العمومات و الإطلاقات له، و قد ورد في غير واحد من الروايات أن حقيقة الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّه و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

نعم، قد ورد في غير واحد منها التصريح بحقن الدماء الذي

يكون قرينة على كون الكلام في البالغين، لأنّ غير البالغ لا يجري عليه حكم عدم الحقن بعد عمومية رفع القلم عنه، كما هو واضح، و لكن في بعضها الآخر الذي ليس فيه هذه القرينة الصارفة غنى و كفاية.

2- إنّ الإسلام و الكفر ليسا من الامور التعبدية حتى يحتاج إلى العمومات و الإطلاقات، بل هما ينشأن عن اعتقاد هذا أو هذا، و قبوله كعقيدة و إيمان، و هذا أمر حاصل من المميز بالمعنى الذي ذكرنا.

3- ما ورد من كون علي عليه السّلام أول الناس إيمانا، و النصوص به كثيرة مع أنّ المعروف كونه عليه السّلام ابن عشر سنين حينئذ، و النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يقنع بقبوله إسلامه و هو صبي فقط، بل جعله انوار الفقاهة، ج 1، ص: 218

وزيرا له و وصية صلّى اللّه عليه و آله كما هو المعروف من حديث الدار، و هذا من أقوى الأدلة على قبول إسلام الصبي.

و القول بأنّ قبول إسلامهم من خواصه عليه السّلام كما عن صاحب الجواهر قدّس سرّه لا دليل عليه، مضافا إلى أنّ المخالف لا يقبل هذا الاستثناء لو كان الاستدلال في مقابله.

4- أضف إلى ذلك كله أنّ العمدة في الحكم بالتبعية هو ما عرفت من السيرة المستمرة بين العقلاء، و هذه السيرة غير ثابتة في الصبي الذي يتخلف عن أبويه في إسلامه أو كفره، و هو عالم بما يقبله، و مميز له غاية التمييز، و إن لم يجر عليه الأحكام التكليفية و الحدود و شبهها نظرا إلى حديث رفع القلم و شبهه.

و قد يستدل على عدم القبول بامور:

الأمر الأول: اطلاق ما دلّ على دخول أولاد الكفار و المشركين و كذا المؤمنين مداخل آبائهم «1».

و

يمكن الجواب عنها، أولا: بأنّها شاذة مخالفة للعقل، و عدالته تعالى و حكمته إن كان المراد بدخولهم مداخل آبائهم دخول أولاد الكفار في جهنم كما هو ظاهرها.

و ثانيا: إنّها منصرفة عما إذا اختار الولد مذهبا غير مذهب أبويه كما هو ظاهر.

و ثالثا: إنّها معارضة بغيرها، فقد ورد في هذا الباب طوائف ثلاثة من الروايات.

«الاولى» ما عرفت.

«الثانية» ما يدل على أنّ اللّه أعلم بما كانوا عاملين «2».

فان كان المراد أنّه يجازيهم على ما كانوا يعلمون لو بقوا في الدنيا فهذا أيضا لا يمكن المساعدة عليه، لأن من ضروريات المذاهب عدم جواز المجازاة بمجرد الشأنية لا سيما مع عدم سبق نيّة منهم كما في المقام.

الثالثة: ما يدلّ على تأجيج نار يوم القيامة و أمرهم بدخولها فمن دخلها كانت عليه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 219

بردا سلاما و دخل الجنّة، و من عصى دخل النار «1».

و قد جمع بينهما في الوافي بحمل إلحاق الأولاد بالآباء على البرزخ، و حمل هذه على يوم القيامة، و هو كما ترى، و القول بأنّ يوم القيامة ليس يوم عمل بل يوم حساب، يمكن الجواب عنه بجواز الاستثناء فيه.

و على كل حال فالظاهر انصراف جميعها عمن أسلم أو كفر عن بصيرة و تمييز على خلاف أبويه.

الأمر الثاني: حديث رفع القلم، فانّه باطلاقه يدل على رفع جميع الأحكام الاصولية و الفرعية، فلا أثر لإسلام الصبي و لا لكفره، فان هذه الامور مرفوعة عنه كلها، و لكن الإنصاف أنّ اطلاقه محل إشكال و منع، لأنّه يدل بمقتضى كونه في مقام الامتنان على رفع الأحكام الإلزامية التكليفية، و أمّا غير الإلزامية، و كذا بعض الأحكام الوضعية غير مرفوعة عنه.

فلو كفر الصبي لم يعذب، و كذا لو ارتد

لا يجرى عليه حدّ الارتداد، لكن لا يبعد أبانة زوجته و توريث أمواله، بل قد يقال بعدم ذلك أيضا، و لعله لانصراف الأدلة، لأنّ ذلك أيضا من قبيل المجازات المرفوعة عنه فتأمل.

و تظهر ثمرة المسألة في امور:

1- طهارة بدن الصبي بعد إسلامه بناء على القول بنجاسة الكفار.

2- صحة عباداته بعد ذلك من الصلاة و الصيام و الحج و احرامه، و لكن في جواز استيجاره أو الاكتفاء بصلاته على الميت إشكال مذكور في محله، و ذلك لعدم ملازمة الصحة للاكتفاء به.

3- عدم جواز أسره و استرقاقه و إن كان في دار الحرب إذا لم يحارب المسلمين بعد ما أسلم، إلى غير ذلك.

المقام السابع: في شرعية عبادات الصبي

و اعلم أنّه وقع الكلام في كون عباداته شرعية أو تمرينية، و حكي في الجواهر في أبواب الصوم قولا ثالثا عن الشهيد الثاني قدّس سرّه، و هو الاعتراف بصحة عباداته و إن لم تكن شرعية، نظرا إلى أنّ الصحة لا تستلزم كون صومه شرعيا لأنّها من خطاب الواضح و هو لا يتوقف على التكليف «1».

أقول: الظاهر أنّ مراده أنّ صومه غير مأمور به بأمر تكليفي و إن كان محكوما بالصحة بعنوان حكم وضعي، و لكن يرد عليه: إنّ الشرطية و الجزئية في العبادات لا تنتزع إلّا من الأحكام التكليفية، و إن شئت قلت: الحكم الوضعي، أي الصحة هنا، إنّما ينتزع من مطابقة الأمر، لا أنّه حكم مستقل برأسه.

نعم، في غير هذا الباب قد يكون الحكم الوضعي مستقلا في الجعل لكن هنا ليس كذلك، و تمام الكلام في محله من مباحث الاستصحاب (مباحث الحكم الوضعي).

و على كل حال فالأقوال هنا ثلاثة: أحدها: إنّها صحيحة و مأمور بها، الثاني: صحيحة ليست مأمورا بها، الثالث: ليست صحيحة

و ليست مأمورا بها بل هي مأمور بها بأمر تمريني لا واقعي.

ثم إنّ القول بكونها شرعية لا يلازم القول بسقوط الفرض به كما إذا بلغ الصبي في أثناء الوقت بعد ما صلّى، فلذا حكم في الشرائع بعدم الاكتفاء به مع أنّه قائل بشرعية عبادات الصبي، كما يظهر من كلماته في أبواب الصيام بل حكي عدم الاكتفاء به من أكثر الأصحاب، و صرح صاحب الجواهر قدّس سرّه بشرعية عباداته مع أنّه أشكل في الاكتفاء به إذا بلغ في أثنائها أو في الوقت فراجع «2».

و الحق شرعية عباداته و صحتها، و أستدل القائلون بها تارة بالاطلاقات و الأدلة العامّة، و اخرى بالادلة الخاصة الواردة في المسألة.

أمّا الأدلة العامة، أعني اطلاقات الصلاة و الصيام و غيرها فلا دلالة فيها على خصوص انوار الفقاهة، ج 1، ص: 221

حكم البالغين بل تشمل غيرهم أيضا كما في قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ «1».

و كذا قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ* «2» و شبهه، و كذا ما دلّ على أنّ الصلاة خير موضوع من شاء استقل و من شاء استكثر و ...

و دعوى الانصراف في جميعها إلى البالغين لا يخلو من إشكال، و إن كان في بعضها مقبولا، و يجمع بينها و بين ما دلّ على رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم بالحمل على الاستيجاب، لأن القلم قلم الإلزام.

و لكن أورد عليه: بأن الإلزام ليس مركبا من طلب الفعل و المنع من الترك حتى يرتفع أحدهما بأدلة رفع القلم و يبقى الباقي و هو الطلب، بل هو أمر بسيط إمّا موجود و إمّا مرفوع.

و فيه: إنّ مقتضى الجمع العرفي هو الحمل على الاستحباب و هذا أمر شايع في أبواب الفقه و لا

ربط له بمسألة التركب.

و اخرى بالأدلة الخاصة الواردة في خصوص الصبي، و هي طوائف:

الطائفة الاولى: ما يدلّ على وجوبها عليهم في سنين خاصة قبل البلوغ حيث تحمل على الاستحباب جمعا بينها و بين ما يدلّ على عدم وجوبها قبل أوان البلوغ.

مثل ما روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السّلام: «في الصبي متى يصلي؟ قال: إذا عقل الصلاة، قلت: متى يعقل الصلاة و تجب عليه؟ قال: لست سنين» «3».

و ما روى العمركي عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السّلام قال «سألته عن الغلام متى يجب عليه الصوم و الصلاة؟ قال: إذا راهق الحلم و عرف الصلاة و الصوم» «4».

و أيضا ما روى اسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و حسن بن قارون عن الرضا في نفس هذا الباب.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 222

و كذا ما ورد في أبواب صلاة الجنائز مثل ما روى زرارة و الحلبي جميعا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه سئل عن الصلاة على الصبي متى يصلى عليه؟ قال إذا عقل الصلاة قلت: متى تجب الصلاة عليه؟ فقال إذا كان ابن ست سنين و الصيام إذا طاقه» «1».

و ما روى الصدوق في مرسلة قال «و سئل أبو جعفر عليه السّلام متى تجب الصلاة عليه؟ فقال إذا عقل الصلاة و كان ابن ست سنين» «2».

و ما روى زرارة قال: «مات ابن لأبي جعفر عليه السّلام فأخبر بموته فأمر به فغسل و كفن و مشى معه و صلى عليه و طرحت خمرة فقام عليها، ثم قام على قبره حتى فرغ منه، ثم انصرف و انصرفت معه حتى أني لأمشي معه، فقال: أمّا أنّه لم يكن يصلي على مثل هذا

و كان ابن ثلاث سنين، كان علي عليه السّلام يأمر به فيدفن و لا يصلى عليه و لكن الناس صنعوا شيئا فنحن نصنع مثله، قال قلت: فمتى تجب عليه الصلاة؟ فقال: إذا عقل الصلاة و كان ابن ست سنين» الحديث «3».

و لكنها قابلة للحمل على الصلاة على الطفل الميت.

و كذا ما ورد في أبواب من يصحّ منه الصوم مثل ما روى سماعة قال «سألته عن الصبي متى يصوم؟ قال: إذا قوي على الصيام» «4».

و ما روى إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «إذا أطاق الصبي الصوم وجب عليه الصيام» «5».

و أيضا ما روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و ما روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام و ما روى سماعة عن الصادق عليه السّلام في نفس الباب المذكور.

و دلالتها من حيث المجموع على المقصود واضحة فانّها تدل على شرعيتها التي تساوق الصحة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 223

الطائفة الثانية: ما دلّ على أمرهم بها و أخذهم عليها، مثل ما روى معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام في كم يؤخذ الصبي بالصلاة؟ فقال: فيما بين سبع سنين و ست سنين» (الحديث) «1».

و كذا ما روى محمد ابن أبي نصر عن الرضا عليه السّلام قال: «يؤخذ الغلام بالصلاة و هو ابن سبع سنين، و لا تغطي المرأة شعرها منه حتى يحتلم» «2».

و ما روى عيسى بن زيد يرفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يثغر الغلام لسبع سنين و يؤمر بالصلاة لتسع، يفرق بينهم في المضاجع لعشر» (الحديث) «3».

و ما روى ابن القداح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أنا نأمر الصبيان

أن يجمعوا بين الصلاتين الاولى و العصر، و بين المغرب و العشاء الآخرة ما داموا على وضوء قبل أن يشتغلوا» «4».

و هي أيضا تدل على المقصود، لأن الأمر بالأمر، أمر (كما ذكر في محله).

و مثل ما روى معاوية بن وهب في حديث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام في كم يؤخذ الصبي بالصيام؟ قال: ما بينه و بين خمس عشرة سنة» «5».

و ما روى الزهري عن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث قال: «و أمّا صوم التأديب فأن يؤخذ الصبي إذا راهق بالصوم تأديبا و ليس بفرض» «6».

و دلالة الأخيرين لا تخلو عن تأمل.

الطائفة الثالثة: ما هي ظاهرة في التمرين و أنّها غير صحيحة، مثل ما دلّ على صيامهم بمقدار يقدروا عليه اليوم الذي لا يكون صياما صحيحا قطعا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 224

مثل ما روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث: قال: «أنا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم» (الحديث) «1».

و ما روى الصدوق قدّس سرّه، قال الصادق عليه السّلام: «الصبي يؤخذ بالصيام إذا بلغ تسع سنين على قدر ما يطيقه» الحديث «2».

إلى غير ذلك، و لكن الإنصاف أنّها لا تعارض ما مرّ، لعدم المنافاة بين تمرينهم إذا لم يقدروا على الصيام كاملا، و استحباب فعلهم ذلك إذا اطاقوه.

و كذا لا منافاة بين تمرين الوضوء بغسل بعض اعضائه كما يظهر من رواية عبد اللّه بن فضالة عن أبي عبد اللّه أو أبي جعفر عليه السّلام قال: «سمعة يقول: يترك الغلام حتى يتم له سبع سنين، فإذا تمّ له سبع سنين قيل له اغسل وجهك و كفيك، فإذا غسلهما قيل له: صلّ ثم يترك

حتى يتمّ له تسع سنين، فإذا تمّت له علّم الوضوء و ضرب عليه، و امر بالصلاة و ضرب عليها» «3». و بين فعل الصلاة و الوضوء تاما، و ذلك باختلاف سني عمرهم و على حسب استعداداتهم.

بقي هنا امور:

1- إنّ ظاهر كلماتهم و فتاواهم (قدس اللّه اسرارهم) و إن كان رفع جميع التكاليف الإلزامية منهم، و لكن يشكل الأمر بالنسبة إلى بعض الكبائر الفاحشة إذا كان له عقل تام و رشد كامل، مثل قتل النفوس البريئة و احراق الدور و قطع الحرث و النسل و ما أشبهها الاستقلال عقله بقبحها و استلزام الفتوى بالجواز، ترغيبه إلى هذه الامور، فالأحوط لو لا الأقوى حرمة ذلك عليهم إذا كانوا شاعرين عاقلين.

2- اختلاف الروايات بحسب ما ذكر فيها من السنين من الست في بعضها، و السبع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 225

و التسع، و المراهق في بعضها الآخر، أمّا يكون بتفاوت درجات الاستحباب أو تفاوت الصبيان في ذلك بحسب استعدادهم.

3- لا ينبغي الشك في شمول أدلة الأحكام الوضعية له مثل إحداث الوضوء، و وجوب الغسل بمس الميت و الجناية، كما ذكروه في باب عرق الجنب من الحرام، و يصح منه الغسل، و كذا أدلة الضمانات و الديات، إلّا إذا كان أدلتها منصرفة إلى خصوص البالغين.

4- و في شمول أدلة الخمس له إشكال، و يمكن أن يقال، فرق بين ما دلّ على أن في المعدن الخمس (مثلا) و ما فيه أمر بأداء الخمس، و الثاني ظاهر في خصوص البالغين دون الأول، فتأمل.

الشرط الثاني: «العقل و الرشد»:

ذكر في الشرائع اعتبار العقل في المتعاقدين بعد ذكر البلوغ و أدعى في الجواهر الإجماع عليه بقسميه، ثم قال: لا لعدم القصد فانّه قد يفرض في بعض أفراد المجنون بل لعدم اعتبار قصده، و كون لفظه لفظ النائم.

أقول: المسألة إجماعية قطعا و يدل عليه مضافا إلى ذلك امور:

1- بناء العقلاء من غير نكير و قد أمضاه الشارع المقدس لا بعدم الردع بل بالامضاء أيضا، فهم قائلون

بخروج المجنون كالصبي عن دائرة الأحكام و القوانين و المعاقدات و لا يرون لعقدهم و عهدهم و تصرفاتهم المالية اعتبارا.

2- ما دلّ على عدم جواز ايتاء الأموال للسفهاء سواء اليتامى و غيرهم مثل قوله تعالى:

وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «1».

و قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 226

و قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ «1». فإذا لم يجز العقود بالنسبة إلى السفهاء ففي المجانين بطريق أولى.

فاللازم «الرشد» مضافا إلى «العقل» و من الواضح أنّ المدار على الرشد المالي لا الرشد في سائر الامور، فربّ رشيد في غير الأموال غير رشيد فيه.

3- ما دلّ على رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، فان رفع القلم إشارة إلى خروجه عن حكم العقلاء الذين هم مشمولون للأحكام الإلزامية مطلقا حتى الناشئة عن العقود و الإيقاعات، بل هم خارجون عن دائرة شمول أمثال هذه القوانين بحكمهم، فهذا إمضاء له، و لا فرق بين المجنون المطلق و الأدواري في دور جنونه، كما هو واضح.

و لعل وضوح هذه المعاني دعى شيخنا الأعظم قدّس سرّه على ترك البحث عنه في مكاسبه، و لكن الصبي أيضا كذلك في كثير من أحكامه، هذا و لا يأتي في المجنون ما مرّ في الصبي من وكالته في إنشاء العقد فقط أو وكالته عن غيره و إن كان يجرى بالنسبة إلى السفيه.

الشرط الثالث: «القصد»

و قد صرحوا باعتبار القصد، تارة باعتباره في شرائط المتعاقدين، و اخرى في قوام مفهوم العقد، و كلاهما صحيح.

و المراد به

القصد الجدي إلى إنشاء مفهوم العقد، و ينعدم بأحد امور:

1- عدم القصد إلى اللفظ، كما إذا أراد النكاح، فسبق لسانه إلى البيع غلطا في الالفاظ.

2- ما إذا قصد اللفظ و لكن لم يرد معناه الإنشائي بل أراد منه الإخبار و شبهه.

3- ما إذا قصد الإنشاء و لكن لم يكن عن جد، بل كان هازلا في كلامه.

هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت، أمّا مقام الإثبات فلا يقبل منه هذه الدعاوى إذا لم تكن عليها قرينة، و كان ظاهر الحال القصد و الجدّ.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 227

و اعتبار القصد بهذا المعنى من القضايا التي قياساتها معها، لعدم تحقق المعاقدة و المعاهدة بدون ذلك، فلا يصدق عنوان العقد و غيره من عناوين البيع و شبهه، حتى يشمله أدلة وجوب الوفاء بها كما هو ظاهر.

بل لا بدّ أن يكون القصد إلى ما هو مبين في الشرع، أو دائر بين العقلاء من أهل العرف و لم يردع عنه، و ما ذكره بعض أعاظم المحشين «من أن حقيقة البيع عبارة عن الاعتبار النفساني المظهر بمبرز خارجي سواء أمضاه العرف و الشرع أم لا و سواء كان في العالم شرع و عرف أم لا» كما ترى، لعدم صدق هذه العناوين قطعا بدون ما ذكرناه.

الشرط الرابع: «في اعتبار تعيين المالك و من له العقد»

ذكر المحقق الأنصاري قدّس سرّه هنا كلاما عن صاحب المقاييس في تعيين المالك و من له العقد، و حاصله التفصيل بين صور المسألة، فتارة لا يتعدد وجه وقوعه كما إذا قال: بعت عن موكلي، و كان وكيلا عن واحد، و اخرى يتعدد وجه وقوع العقد كما إذا كان وكيلا أو وليا عن اثنين، فحينئذ يجب التعيين، و ثالثة يكون له انصراف كما إذا اشترى أو باع شيئا في الذمة

و لم يعين أنّه لنفسه، أو لموكله فحينئذ ينصرف إلى نفسه، أمّا إذا لم يكن معينا في الواقع، و لا عينه بنفسه، و لم يكن هناك انصراف، وقع باطلا، و لا يجوز ايقاع العقد مبهما و تعيينه بعد العقد.

و استدل عليه: بأنه لو لم يعين لزم كون الملك بلا مالك، و لازمه أيضا عدم الجزم بشي ء من العقود، و لا فائدة في التعيين بعد العقد (انتهى ملخصا).

و أورد عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره بما حاصله: إنّ تعيين العوضين كاف من دون حاجة إلى تعيين المالكين فإن كان العوض شخصيا وقع البيع و الشراء لمالكه، و إن كان كليا فما لم يكن مضافا إلى شخص، لم يصح بيعه و لا شرائه لأن الكلي إنّما يكون مالا إذا أضيف إلى ذمة معينة و إلّا فلا.

أقول: هذا مبني على عدم جواز بيع شي ء لغير مالكه، أو اشتراء شي ء لغير مالك الثمن،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 228

كما إذا قال: بيع هذا الفرس لنفسك، بأن يكون الثمن له بمجرّد البيع، أو اشتر بهذه النقود خبزا لنفسك، بأن يكون المثمن له بنفس العقد، و قد أدعي وضوح بطلانه، لأن حقيقة البيع هي خروج الثمن عن ملك من دخل في ملكه المثمن، و بالعكس و إنّما مبادلة مال بمال و إنّما تبديل العلقتين.

و لكن الانصاف كما ذكرنا في محله أنّه لا يخلو من إشكال بعد وجود موارد كثيرة في العرف على خلافه، مثل ما إذا قال: أشتر بهذا الثمن خبزا لنفسك، و يتصور ذلك في أموال بين المال و مال الزواج عند صرفه في حق الزوجة أو غير ذلك، و أي دليل على لزوم توجيهه بالتوكيل في العقد، ثم نقل المثمن

إلى نفسه بعد العقد، أو الهبة له قبله؟ و أي استحالة عقلية في جواز ذلك بعد كون المسألة من الامور الاعتبارية التي أمرها وسيع جدّا؟

و تعريف البيع بمبادلة مال بمال ناظر إلى الغالب، و مضافا إلى أنّه لا ينافي ذلك فإنّها أيضا مبادلة في الواقع، و المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل.

بقى الكلام في حكم تعيين من يكون طرفا للعقد و أنّه لازم أو لا؟

توضيح ذلك: إنّ البائع قد يبيع لنفسه تارة، و اخرى يبيع لموكله و يقصده فضولا و كذلك المشتري، فحينئذ يقع الكلام في أنّه هل يجب على كل منهما أن يعلم من يكون طرفا لعقده، أو يكفي الخطاب الأعم بأن يقصد وقوع المعاملة لمن قصده المشتري، لنفسه أو لموكله أو لمن يشتري له فضولا.

صرّح بعضهم بلزوم تعيين طرف العقد، إلّا أن يعلم من الخارج أنّه لا خصوصية له، كما في غالب البيوع و الإجارات، حيث إنّها تعقد مع المخاطب من غير إرادة خصوص نفسه أو من يكون وكيلا من عنده.

قلت: كأنّه وقع الخلط هنا بين أصل لزوم التعيين و صورة تعيين شخص على خلاف تعيين الآخر.

توضيحه: أنّه تارة يكون الكلام في لزوم تعيين من يكون في الواقع طرفا للعقد، و الظاهر أنّه لا يجب في مثل البيع بل يكفي العلم به إجمالا، و لا يجب تفصيلا، فلو أوقع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 229

العقد مع المخاطب من دون علمه بأنّه أصيل أو وكيل أو فضولي لم يكن إشكال في العقد، نعم لا يجوز ذلك في مثل النكاح و الوصاية و شبهها التي تدور الحكم مدار الأشخاص.

و اخرى يكون فيما إذا قصد كل منهما شيئا مخالفا للآخر، بأن قصد المشتري الاشتراء لموكّله، و قصد البائع

تمليكه لخصوص نفسه، أو بالعكس قصد المشتري أن يكون البيع له، و قصد البائع لموكّله، و لا ينبغي الإشكال حينئذ في فساد المعاملة لعدم التطابق بين الإيجاب و القبول، لأنّ هذا يقصد تمليك شخص و هو يقبل من غيره.

هذا مضافا إلى ما يرتبط بنفس العوضين، فانّه إذا قصد خصوص المشتري مثلا كان الثمن في ذمته، و إذا قصد موكله كان في ذمّة موكله (بناء على عدم جواز خروج المعوض عن ملك أحد و دخول عوضه في ملك آخر).

فالفساد ينشأ من عدم التطابق بين الإيجاب و القبول و عدم تعيين المالك و الملكين، و هنا يعلم ربط هذه المسألة بالمسألة السابقة و عدم انفكاكهما أصلا.

الشرط الخامس: «اعتبار الرضا من المتعاقدين»
اشارة

المذكور في عبارات الأصحاب و غيرهم عنوان المسألة بعنوان اعتبار «الاختيار» في العقد في مقابل «الإكراه» مع أن عنوان «الرضا» أبلغ و أحسن، و ليس ذلك إلّا لكونه في مقابل الإكراه.

و أكثر ما ورد ذكر هذه المسألة هو في أبواب النكاح، فهذا شيخ الطائفة قدّس سرّه عنونه بعنوان عام في كتاب الطلاق من الخلاف حيث قال:

«طلاق المكره و عتقه و سائر العقود التي يكره عليها لا يقع منه، و به قال الشافعي و مالك و الأوزاعي، و قال أبو حنيفة و أصحابه طلاق المكره و عتاقه واقع، و كذلك كل عقد يلحقه فسخ، فأمّا ما لا يلحقه فسخ مثل البيع و الصلح و الإجارة فانّه إذا أكره عليه ينعقد عقدا موقوفا فان أجازها، و إلّا بطلت».

ثم استدل عليه الشيخ قدّس سرّه بإجماع الفرقة، و أخبارهم، و أصالة البراءة، و حديث الرفع، رواها عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 230

و الظاهر أنّ ذكر المسألة

في باب الطلاق لشدّة الابتلاء بها هناك، كما أنّ ظاهر كلام أبي حنيفة صحة الإيقاعات من المكره، و كذا العقود الجائزة، و كأنه اعتبر الرضا في خصوص العقود التي لا يمكن جبران الكراهة فيها بالفسخ و إن كان قوله باطلا قطعا.

و سيأتي أنّ كلمات القوم غير محررة في المقام، و أنّ الذي يفقده المكره هو القصد إلى مدلول العقد، أو قصد الجدّ، أو خصوص الرضا؟ و من هنا وقع التضارب و التهافت في كلماتهم حتى لمثل الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه.

و لكن لا بدّ من أن نتكلم أولا في دليل المسألة، ثم نبحث عن الذي يفقده عقد المكره، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

استدلوا على اعتبار هذا الشرط، أي الاختيار بعد الإجماع بأمور:

1- قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «1».

دلّ صريحا على اعتبار الرضا و أنّ ما ليس كذلك كان من الأكل بالباطل، فيدلّ على المقصود باعتبار الاستثناء و المستثنى منه كليهما، و الظاهر أن الاستثناء هنا منقطع، لأنّ فيه الرضا ليس أكلا بالباطل.

2- النهي عن أكل المال بالباطل من دون ذكر التراضي في قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «2» و ذمّه تعالى اليهود على أكلهم أموال الناس بالباطل «3» و كذا الأحبار و الرهبان و أنّهم: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ «4».

كل ذلك شاهد على المطلوب.

3- ما دلّ على اعتبار طيب النفس و الرضا في حلّية أموال مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله في الحديث المعروف: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 231

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحل مال أمراء مسلم إلّا

عن طيب نفسه».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير أذنه» «1».

4- حديث الرفع الذي وصفه الشيخ الأنصاري قدّس سرّه بأنّه حديث متفق عليه بين المسلمين و قد عرفت استدلال شيخ الطائفة قدّس سرّه به و روايته عن طريق الجمهور عن ابن عباس، في عبارة الخلاف.

فان قوله «رفع ما اكرهوا عليه» (أو ما استكرهوا عليه) دال على المقصود، إمّا بنفسه لإطلاق الحديث و شموله للأحكام الوضعية و التكليفية، أو لبعض الروايات المعتبرة الذي استدل فيها بالحديث لنفى بعض الأحكام الوضعية المستكره عليها كما سيأتي إن شاء اللّه.

توضيح ذلك: إنّ الحديث دليل على رفع هذه الامور، في مقابل وضعها، و قد يقال: إنّ هذه الامور المرفوعة هو خصوص الموضوعات المجهولة أو المنسية أو المكره عليها، بقرينة ذكر الإكراه، و الاضطرار و ما لا يطاق، فان هذه الامور الثلاثة لا يتصور إلّا في الموضوعات لعدم معقولية الإكراه على الأحكام، و كذا الاضطرار و شبهه.

و لكن الانصاف أنّ هذا المقدار من وحدة السياق لا يمنع من الأخذ بالعموم فيما يتصور فيه العموم، لأنّ مفاد «ما» الموصولة وسيع، يؤخذ بعمومه أو اطلاقه، في كل موضع بحسبه، فتدبّر.

و لنا بيان آخر للعموم هنا، و حاصله: أنّ «الرفع» في مقابل «الوضع»، و الظاهر أنّ الموضوع و المرفوع في باب الأحكام أيضا هو نفس المتعلقات، قال اللّه تعالى: لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «2».

و قال تعالى: وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ «3».

و قال تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ «4». إلى غير ذلك ممّا لا يحصى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 232

في الأخبار الواردة عنهم، فالموضوع على عاتق المكلّف هو نفس الحج، لا

وجوبه، و نفس الرزق و الكسوة، لا وجوبهما كما هو صريح الآيات، و كأن الأفعال ذات ثقل توضع على عاتق المكلّفين، و الوجوب منتزع من وضعها عليهم، لا أنّ الوجوب و الحرمة بأنفسهما توضعان على المكلّف، فالرفع أيضا بهذه العناية، و من هنا يظهر أنّ العمومية في الرواية لا تنافي تعلق الرفع و الوضع بالمتعلقات، فلا يكون الرفع في الأحكام متعلقا بنفس الحكم و في الموضوعات متعلقا بالموضوع حتى يكون التخالف بينهما، بل الرفع و الوضع في الجميع باعتبار المتعلقات، و لكنهما تارة يكون من الأحكام الكلية و اخرى في الجزئية و هي الشبهات الموضوعية.

و لو تدبّرت فيما ذكرنا من عناية الوضع و الرفع في الحديث لوجدت الحكم بالعموم في الحديث قريبا جدّا فتدبّر.

هذا و لكن الأمر سهل بالنسبة إلى مورد الإكراه، لانحصاره- كما عرفت- بالموضوعات، و لكن هل الرفع و الوضع المتعلقان بالموضوعات بعناية رفع المؤاخذة (بأن تكون نتيجتها هي رفع العقاب فقط)، أو يعم الأحكام الوضعية بحسب مفاده؟ لا يبعد العموم، و لا يكون هذا من قبيل اللفظ في أكثر من معنى واحد بعد وجود الجامع القريب بينهما، هذا مضافا إلى الاستدلال به في كلام الصادق عليه السّلام في ما رواه محمد بن عيسى في نوادره عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يكره على اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال: لا، ثم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وضع عن امتي ما اكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا» «1».

و الحلف بالطلاق و العتاق و إن كان باطلا في نفسه لعدم الأثر له عندنا، بل ليس من الحلف

في شي ء، إلّا أن استدلاله عليه السّلام بحديث الرفع دليل على عمومه و الاستناد إليه مع بطلانه ذاتا إنّما هو لكون هذا الاستدلال مقبولا عند الكل، فتدبّر.

5- و يدلّ على ما ذكرنا أيضا بناء العقلاء على بطلان عقود المكره، من دون فرق بين انوار الفقاهة، ج 1، ص: 233

المؤمن بالمذهب و المخالف له، من أي فرقة من الفرق، بل الأصل في المسألة هو هذا، و قد أمضاه الشارع المقدس لا بعدم الردع، بل بالتصريح بالنهي عنه، و قد عقد في الوسائل بابا لعدم صحة اليمين في الإكراه روى فيه روايات كثيرة «1» و كذا عقد بابا في عدم صحة طلاق المكره روى فيه أيضا روايات كثيرة «2».

و هاهنا مسألتان:
الاولى: هل المكره فاقد للقصد؟

كما يظهر من غير واحد من أصحابنا حتى أنه في الشرائع عطف المكره على المجنون و الصبي، الذين لا قصد لهما أو قصدهما كالعدم حيث قال: «أمّا الشروط فمنها ما يتعلق بالمتعاقدين، و هو البلوغ و العقل و الاختيار، فلا يصح بيع الصبي و لا شراؤه و كذا المجنون و المغمى عليه و السكران غير المميز، و المكره»، و لكن صرّح بعد ذلك بأنّه و لو رضي كل منهم بما فعل بعد زوال عذره (لما يصحّ) عدا المكره للوثوق بعبارته.

و قال في الجواهر بعد نقل هذا الكلام: «إنّه إن لم تكن المسألة إجماعية فللنظر فيها مجال، كما اعترف به في جامع المقاصد ضرورة عدم اندراجه في العقود بعد فرض فقدان قصد العقدية و إن صدور اللفظ فيه كصدوره من الهازل و المجنون و نحوهما و قصد نفس اللفظ بمعنى الصوت غير مجد» «3».

ثم ذكر في أواخر كلامه أنّه لو تصور قصد المكره معنى اللفظ مع عدم الرضا منه و

قلنا أن الإكراه لا يخرجه عن صلاحية التأثير جرى عليه حكم الفضولي، و عليه حمل كلمات الأصحاب في صحة عقد المكره بعد لحقوق الرضا.

و صرح شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه أنّ المراد بعدم قصد المكره إلى اللفظ الوارد في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 234

كلمات جماعة منهم الشهيدان قدّس سرّهما عدم القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج، و أن الداعي إلى الإنشاء ليس قصد وقوع مضمونه في الخارج (فراجع المكاسب).

أقول: اللازم في العقد امور:

1- قصد اللفظ (في مقابل الغالط).

2- قصد معناه الإنشائي (في مقابل اللافظ من غير قصده كمن يريد اصلاح مخارج الحروف).

3- قصد الجدّ (في مقابل الهازل و العاقد صوريا كما في بيع التلجئة الذي ذكره العلّامة و غيره للنجاة عن الظالم).

4- الرضا بمضمون العقد (في مقابل الإكراه).

و الظاهر أن الذي يفقده المكره هو الأخير.

إن قلت: إنّ المكره غير مكره على القصد، لأنّه خارج عن دائرة الإكراه بل الإكراه يتعلق بالالفاظ فقط.

قلت: نعم و لكن الغالب أنّ المكره- لا سيما إذا كان من العوام- لا يقدر على تفكيك الألفاظ عن معانيها، فيسرى الإكراه على الألفاظ، إلى الإكراه على قصد المعنى، كما لا يخفى على من راجع موارد الإكراه في العرف ليتضح ذلك كمال الوضوح، و الحاصل أنّ هذا إذا لم يقدر على تخلية ألفاظ العقود عن معانيها كما هو كذلك في كثير من الناس، فانّهم إذا اجبروا على صيغة الطلاق لم يمكنهم ذكر ألفاظه بدون قصد معناه غالبا، لعدم قدرتهم على التورية، أو عدم انتقالهم إليها و إن قدروا عليها، و أمّا القادر و العالم بذلك فيمكنه رفع أثر الإكراه من هذه الطرق.

فالانصاف أنّ المكره على قسمين: قسم يفقد الرضا فقط، فهذا الذي ذكره

الأصحاب في كلماتهم و أنّه يصحّ عقده بالرضا كالفضولي و هو الغالب من مصاديقه، و قسم يفقد الجدّ أو قصد الإنشاء و المعنى، فهذا لا يصح عقده و لو لحقه الرضا.

و يشهد لذلك استدلال غير واحد منهم بأن الذي ليس في عقد المكره هو الرضا، فلو حصل بعده كان كافيا، لعدم وجود دليل على لزوم مقارنته للعقد، و كذا الاستدلال له بما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 235

دلّ على لزوم الرضا في العقود، و حكمهم بعدم وجوب التورية عليه، فلا مناص عن التفصيل في المسألة فتدبّر جيدا، و إن كان الغالب من مصاديقها ما فيه قصد المعنى.

و من هنا يظهر النظر في ما ذكره صاحب الحدائق قدّس سرّه، فقد أورد عليهم في هذا المقام إشكالا و هو أنّهم قد حكموا بفساد عقد الهازل و لم يذكروا لزومه لو لحقه الرضى، مع أنّ ظاهر حاله أنّه قاصد إلى اللفظ دون مدلوله، كما في المكره لأنّه بالغ عاقل، فاللازم حينئذ إمّا الحاقه بالمكره في لزوم عقده مع لحوق الرضا به، أو بيان وجه الفرق بينهما.

ثم قال: و دعوى كونه غير قاصد اللفظ، بعيدة عن جادة الصواب، انتهى «1».

قلت: قياس المكره على الهازل عجيب بعد ما عرفت من وجود الجد في المكره غالبا دون الهازل، و لو كان الأمر كما ذكره كان الحكم بالبطلان و لو بعد لحوق الرضا من الواضحات مع أنّ الأصحاب لم يقولوا به.

الثانية: في حقيقة الإكراه

اعلم أنّ الدليل على اعتبار هذا الشرط في البيع لو كان هو أدلة اشتراط الرضا دار الأمر مداره، سواء صدق الإكراه عليه أم لا، كان هناك تخويف بالضرر أم لا، و كانت التورية و سائر طرق التخلص ممكنة أم لا، لدوران الأمر مدار

طيب النفس و الرضا الباطني، فلا نحتاج حينئذ إلى التكلم في معنى الإكراه.

و أمّا لو كان المستند حديث الرفع و شبهه ممّا يدل على بطلان عقد المكره، فسيأتي الكلام في حقيقة الإكراه لغة و عرفا.

و يظهر من كلام شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه اعتبار امور فيها:

«أولها»: وجود حامل له على فعله، أي المكره بالكسر.

«ثانيها»: اقترانه بوعيد منه مظنون الترتب مضر بحال الفاعل أو من يتعلق به أو ما يتعلق به.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 236

«ثالثها»: عدم إمكان التفصي و التخلص عن الضرر المتوعد به بطريق آخر (على تفصيل فيه).

و لازم الأوّل أنّه لو خاف من ضرر السلطان أو غيره مثلا من دون تخويف و أتى بالعمل، لم يصدق عليه عنوان الإكراه، و الانصاف إلحاقه به حكما لو لم نقل بالحاقه به موضوعا، لوحدة الملاك في نظر أهل العرف كما لا يخفى، فما ذكره السيد قدّس سرّه في بعض حواشيه «من أنّ الاقدام على العقد قبل اطلاع الجائر بتخيل أنّه إذا اطلع على الترك أوصل إليه الضرر لا يعدّ من الإكراه» منظور فيه، لأنّه إكراه في نظر العرف حكما لو لم نقل بالحاقة به موضوعا، فأدلة رفع الإكراه تشمله.

و إن شئت قلت: قد يكون الاقتران بالوعيد بالفعل، و قد يكون بالقوة القريبة من الفعل، و في هذا القسم أيضا يصدق عنوان الإكراه موضوعا، مضافا إلى الحاقه به حكما.

ثم اعلم أنّه لا يعتبر في صدقه، العلم بتحقق الوعيد، بل يكفي الظن بل الاحتمال العقلائي، و لو لم يكن على حدّ الظن كما في الموارد المشابهة له من عنوان الخوف و غيره.

و لازم الثاني أنّه لو لم يقترن بوعيد منه و لكن علم من الخارج أنّ الوعيد يكون لا

محالة، أو كان الوعيد من حواشيه و تابعيه من غير تصريح به، أو كان الوعيد عذاب إلهي ينزل عليه لم يصدق الإكراه، و الأخير و إن كان صحيحا، إلّا أن الوعيد المقدر المعلوم من الخارج من ناحيته أو من يكون له صلة كاف في صدق عنوانه.

و لو كان الوعيد بحق كالتهديد بالقصاص، أو أخذ الدين منه حاليا، أو العذاب الإلهي، لم يصدق الإكراه كما لا يخفى، و ليس الكلام هنا في طيب النفس و الرضا الباطني كما يظهر من كلمات بعض الأعاظم «1» بل الكلام في نفس عنوان الإكراه مع قطع النظر عن عنوان الرضا كما عرفت، و لا ينبغي الخلط بينهما لما عرفت من اختلاف الأدلة في المسألة، و إلّا لو كان المدار على الرضا و عدمه كان الأمر واضحا و لا يحتاج إلى هذه التفصيلات.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 237

و لازم الثالث أنّه لو أمكن التفصي لم يصدق عنوان الإكراه، أو يصدق عنوانه و لكنه خارج عنه حكما.

توضيح ذلك: أنّه قد اضطربت كلماتهم في اعتبار هذا الشرط و عدمه أو التفصيل بين التورية و غيرها أو بين المعاملات و غيرها (مثل الإكراه على شرب الخمر)، و الظاهر أنّ الوجه فيه تضارب الأدلة هنا، فمن ناحية ترى عدم صدق عنوان الإكراه مع القدرة على دفع ضرر المكره (بالكسر)، فمن كان له خدم أو أعوان يمكنه دعوتهم على نصره و دفع ضرر المكره، و لكن لا يدعوهم إلى ذلك بغير محذور لا يصدق في حقه عنوان الإكراه، و كذا لو كان له طريق إلى الفرار عن ذلك المكان و الخروج إلى غيره بسهولة، و لذا لو حصل ذلك في موارد الإكراه على المعاصي لا يجوز ارتكابها

و الاعتذار بأنّه كان مكرها عليها بعد إمكان دفع المكره بما عنده أو بمن عنده.

و من ناحية اخرى لم يرد في روايات الباب من حديث الرفع و الأحاديث الكثيرة الواردة في باب طلاق المكره و غيره تقييدها بعدم القدرة على التورية، مع أن باب التورية مفتوح غالبا، و هذا دليل على عدم اشتراط عدم القدرة على التخلص في باب الإكراه.

هذا مضافا إلى ما ورد في رواية عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا يمين في غضب و لا في قطيعة رحم و لا في جبر و لا في إكراه، قال: قلت: أصلحك اللّه فما فرق بين الجبر و الإكراه؟ فقال: الجبر من السلطان و يكون الإكراه من الزوجة و الام و الأب و ليس ذلك بشي ء» «1».

و ظاهرها صدق عنوان الإكراه على ما كان من ناحية الأب و الام و الزوجة مع أن التفصي فيها ممكن (و إن كانت الرواية ضعيف بعبد اللّه بن القاسم).

و من هنا يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه تارة التفصيل بين التورية و غيرها من طرق التفصي، و اخرى التفصيل بين المعاملات و غيرها (كالإكراه على شرب الخمر و سائر المعاصي).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 238

أقول: الانصاف أنّه وقع الخلط هنا بين معاني الإكراه و كذا بين أدلة اعتبار الرضا في المعاملات، و توضيحه:

1- لا ينبغي الشك في عدم صدق الإكراه (بمعنى الإلزام بشي ء مع الايعاد على تركه بضرر) في كل مورد يقدر على دفع المكره و ضرره، بما لا يلزم منه محذور آخر، و لذا لا يجوز ارتكاب شي ء من المعاصي إذا كان الاجبار و الإكراه ممكن الدفع، و هذا أمر ظاهر لا غبار

عليه و لا كلام فيه.

2- لو كان دليل بطلان المعاملات مع الإكراه منحصرا بما دلّ على رفع الإكراه كان الحكم بالصحة في جميع موارد القدرة على التفصي ممّا لا ينبغي الشك فيه، و لكن المهم أنّ دليله غير منحصر فيه بل العمدة في هذا الشرط ما دلّ على اعتبار الرضا، و نحن نعلم أنّ مفاد هذا الدليل أعم، فربّ إنسان لا يرضى بمعاملة مع عدم الإكراه المتوعد على تركه الضرر، كما إذا أكرهه زوجته أو أبوه أو امّه على شي ء و هو لا يرضى به في قلبه مع عدم ايعادهم الضرر على تركه.

و الحاصل: أنّ النسبة بين ما دلّ على اعتبار الرضا، و ما دلّ على نفى الإكراه عموم مطلق، و الخلط بينهما يكون منشأ لتخيل عدم اعتبار العجز عن التفصي في معنى الإكراه، مع أنّ العجز عن ذلك غير معتبر في ما دلّ على اعتبار الرضا، لا ما دلّ على نفى الإكراه، لاعتباره في مفهومه قطعا.

3- الإكراه- على ما يظهر من موارد استعماله- له معنيان:

أحدهما: حمل المكره (بالفتح) على فعل يكرهه و لا يرضى به، و إن لم يكن هناك اجبار و ايعاد على الضرر، و هذا المعنى هو الذي يستفاد من رواية ابن سنان، و قد جعل الإكراه فيها مقابلا للإجبار.

ثانيهما: و هو المعروف من معناه في الفقه، و هو حمله على ما يكرهه مع ايعاده على الضرر، و الخلط بينهما كان سببا للاستدلال برواية ابن سنان فيما نحن فيه.

و إن شئت قلت: الإكراه في الرواية مساوق لعدم الرضا و الكراهة الباطنية القلبية، لا الكراهة المعروفة المذكورة في كلمات الفقهاء الواردة في حديث الرفع، و الأوّل راجع إلى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 239

اعتبار

الرضا في المعاملات، و الثاني مفهوم أخص منه، بل الظاهر من الرواية أنّ الإجبار الوارد فيه هو أمر مساوق للإكراه بمعناه المشهور عند الفقهاء المأخوذ من حديث الرفع.

4- قد مرّ في أبواب الكذب أنّ حقيقة «التورية» التي تكون في اللغة بمعنى «الاخفاء» و الستر (من مادة الوراء) ليست مطلق ذكر اللفظ و إرادة معنى غير ما هو ظاهر فيه عرفا، بل اللازم أن يكون اللفظ قابلا لإرادة ذلك المعنى و محتملا له، سواء كان اللفظ بذاته مشتركا لفظيا أو معنويا، أو قابلا لهما من ناحية القرائن كما في القضية المعروفة أنّه سئل بعض العلماء من كان خليفة النبي صلّى اللّه عليه و آله بعده قال «من بنته في بيته» أو كان له معنى ظاهر منصرف إليه اللفظ مع إمكان إرادة غيره منه بحسب عرف اللغة و ارباب اللسان، كما إذا دقّ الباب رجل و قال: هل فلان في البيت؟ فقيل له: ما هو هنا (الذي ظاهره عدم كونه في البيت، مع أنّه يشير بموضع خلف الباب و يريد عدم كونه هناك).

و الحاصل: أنّ التورية لا تجري في جميع الكلمات و الجمل و لا تصحّ في كل عبارة، بل في خصوص عبارات تحتمل معنيين مختلفين في عرض واحد، أو كان أحدهما أظهر و الآخر غير أظهر مع إمكان استعماله فيه، و هذا إنّما يكون في عبارات خاصة و لا يقدر الإنسان عليه في كل زمان و كل محاورة.

و من هنا يظهر لك أنّ التورية ليس من الكذب، لاحتمال الكلام له، كما أنّه يظهر أنّ كل كلام لا يحتمل التورية، و أنّها ترد في مقامات خاصة و عبارات محدودة معينة، كما أنّ كل إنسان لا يقدر عليها،

بل تحتاج إلى لطف قريحة و مزيد عناية، كما هو المنقول من كلمات أمثال عبد اللّه بن جبير و غيره في مقابل الحجاج و غيره من الجبارين و أنّه عمل بالتورية في كلامه بلطف قريحته، فتوهّم إمكان التورية في كل كلام و لكل أحد توهّم باطل، و عدم ذكرها بعنوان الاستثناء في روايات طلاق المكره و غيرها لعله من هذه الجهة، حتى أنّ قول البائع «بعت داري لك» لا يمكن فيه التورية بأن ينوي الأخبار لا الإنشاء، لأنّ الأخبار به كثيرا ما يكون كذبا لعدم بيع داره من غيره.

فتلخص ممّا ذكرنا: أولا: أنّه لا فرق في مفهوم الإكراه الوارد في حديث الرفع و شبهه بين العقود و غيرها

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 240

كالمحرمات و لا يجوز التفصيل بينهما.

ثانيا: لا يصدق عنوانه فيما إذا أمكن التخلص بطريق لا ضرر فيه و لا حرج شديد.

ثالثا: لا فرق بين إمكان التخلص بالتورية و غيرها من انحاء طرق التخلص.

رابعا: أنّ العقود قد لا يشملها عنوان الإكراه و لكن يشمله عنوان عدم الرضا و عدم طيب النفس فيفسد من هذه الناحية، فتأمل جيدا.

بقي هنا امور:

أحدها: أنّه إذا اكره على أحد العقدين، فاختار أحدهما دفعا للضرر وقع باطلا، كما إذا أكرهه على بيع أحد أمواله، أو طلاق إحدى زوجته، كما هو المعروف بين أصحابنا، و ما يرى من بعضهم من الحكم بالصحة لا بدّ من توجيهه لوضوح فساده، لأنّ المفروض عدم طيب نفسه ببيع شي ء من أمواله، و طلاق زوجاته أبدا، فكيف يصح مع عدم الرضا؟ مضافا إلى صدق عنوان الإكراه قطعا بحسب متفاهم العرف، و بناء العقلاء أيضا على البطلان في هذه الموارد، و القول بأنّه يختار أحدهما بطيب نفسه فاسد جدّا،

لأنّ طيب النفس بالخصوصية لا يدل على طيب النفس بأصل المعاملة، مضافا إلى أن اختيار أحد الضررين قد يكون لكونه أقل ضررا من غيره، لا لعدم كونه مضرّا أصلا، فلذا لو اكره على شرب أحد الخمرين كان معذورا قطعا.

ثانيها: إذا أكره أحد الشخصين أو الأشخاص على أمر محرم أو بيع شي ء أو طلاق امرأة كان الحكم كذلك أيضا لعين ما مرّ في الإكراه على أحد الأمرين، لصدق عنوان الإكراه لغة و عرفا قطعا، و لعدم طيب نفس واحد منهما بالفعل، نعم اللازم عليهما التأخير إلى آخر زمن الإمكان في المحرمات كشرب الخمر، و حينئذ كل من تقدم كان جائزا، و أمّا في العقود فإذا لم يكن طيب النفس حاصلا كان باطلا تقدم أو تأخر.

ثالثها: إذا أكره على إجراء الصيغة لغيره فقصد العقد و أنشأه صح العقد، لأنّ اعتبار الرضا إنّما هو في نقل المال و شبهه لا في صحة الإنشاء، كما أنّ حديث رفع الإكراه بحكم كونه في مقام الامتنان لا يشمله، بل هو مع قطع النظر عنه منصرف إلى الامور التي لها ثقل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 241

على المكلف، و من المعلوم أنّ مجرّد إنشاء الصيغة و لو من قبل الغير لا ثقل له عليه من ناحية حكمه الوضعي.

رابعها: إذا رضي المكره بعد العقد بلا فصل، أو مع الفصل القصير، أو الطويل، فهل يصح العقد أم لا؟ فيه كلام بينهم، المشهور نقلا أو تحصيلا، كما عن بعضهم، الصحة، بل عن الرياض و الحدائق أنّ ظاهرهم الاتفاق عليه، و لكن مع ذلك ذكر المحقق الثاني في جامع المقاصد و صاحب الجواهر في الجواهر أن المسألة لو لم تكن إجماعية فللنظر فيها مجال.

و الظاهر أنّ عمدة

الإشكال فيه من جهات:

الاولى: من ناحية عدم اندراجه في عنوان العقود بعد فقدان قصد العقد في المكره (بناء على إشكالهم في صحة قصد المكره و أنّه كالهازل عندهم) و هذا الذي أشار إليه في الجواهر و اعتمد عليه في كثير من عباراته، و لكن قد عرفت فساده و أنّ المكره قاصد لحقيقة العقد غالبا، و إن لم يكن راضيا بمفاده.

الثانية: من ناحية عدم اقترانه للرضا، و هو من الشرائط المقارنة، و اجيب عنه: بأنّ المستفاد من أدلة اعتباره إنّما هو لزومه في تأثير العقد، أمّا مقارنته له فلا دليل عليه، و لذا حكموا بصحة عقد الفضولي مع أنّ الرضا فيه لا يكون إلّا بعده و لو شك في اشتراط المقارنة فالاطلاقات تدفعها كما لا يخفى.

الثالثة: إنّ عدم الرضا إذا بقى بعد زوال الإكراه كان في حكم الفسخ، كما إذا فسخ في الفضولي (و ردّ العقد بعد العلم به) ثم أجازه فانه لا تصح الإجازة بعد الرد و كذلك ما نحن بصدده.

و فيه: أنّه لو سلّمنا عدم كفاية الإجازة بعد الردّ في الفضولي و شبهه لا نسلم كون مجرّد عدم الرضا الباقي بعد زوال الإكراه بحكم الرد الإنشائي، هذا مضافا إلى أنّه لا يشمل جميع صور المسألة.

هذا و لكن مع ذلك كله في النفس شي ء من أصل المسألة، نظرا إلى أنّه غير معروف عند العقلاء من أهل العرف و أنّهم لا يرون مجرّد الرضا زوال الإكراه كافيا إلّا أن يرجع إلى عقد جديد- و هو ممّا لا كلام فيه- و من الواضح أنّ العمومات و الاطلاقات ناظرة إلى ما عند

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 242

العقلاء من أهل العرف في ذلك، فتدبّر.

و الظاهر أنّه يتفاوت مع الفضولي كما

سيأتي إن شاء اللّه.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه لو سلّمنا صحته بالرضا اللاحق، فهل هو ناقل، أو كاشف مقتضى القاعدة هو الأوّل؟ و ذلك لأنّ أدلة اعتبار الرضا ظاهرة في عدم الانتقال قبله فإذا رضى صح العقد و انتقل الملك، و أمّا قبله فلا، و لكن قد يقال: إنّ ظاهر صحيحة «أبي عبيدة» أو «محمد بن قيس» الآتية في البيع الفضولي هو الكشف، و تمام الكلام في البيع الفضولي إن شاء اللّه.

[الشرط السادس أن يكونا مالكين أو مأذونين من قبل المالك
بيع الفضولي
[في صحة بيع الفضولي و بطلانه
المسألة الاولى: عدم صحة عقد الفضولي و وقوفه على الإجازة
اشارة

و من الشرائط المعتبرة في المتعاقدين أن يكونا مالكين أو مأذونين من قبل المالك أو الشارع، و الأوّل معلوم، و الثاني كالولي و الحاكم الشرعي و المقتص و غير ذلك مع شرائطه.

و فرّعوا على ذلك عدم صحة عقد الفضولي و وقوفه على الإجازة، و قد بسط القول فيه المتأخرون بعد إجماله عند القدماء، و قبل الورود في البحث لا بدّ من تقديم امور:

1- الفضولي: على ما ذكره بعض أرباب اللغة- هو من يتعرض لما لا يعنيه، و المراد هنا من يتعرض لعقد أو ايقاع لا يتسلط عليه شرعا، و هو منسوب إلى الفضول و هي الزوائد، فاضافة العقد إليه من قبيل الاضافة إلى الفاعل، لا من قبيل الوصف و الموصوف.

و قد يجعل وصفا للعقد و يقال أنّه تسامح، و لكن لا يبعد صحته بدون التسامح نظرا إلى كفاية أدنى مناسبة في الاضافة، فتأمل.

2- المراد بعدم الصحة هنا عدم ترتب الأثر عليه بدون الإجازة، لا عدم صحته مطلقا، فهو مساوق للقول بتوقفه عليها، و إن شئت قلت: إنّ عقد الفضولي من قبيل جزء المؤثر، لا تمام العلّة، فإذا انضمّ إليه الجزء الآخر و هو الإجازة تمّ العقد، و هذا هو معنى عدم صحته

بنفسه، و ما في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنّ معنى عدم الصحة عدم ترتب اللزوم، فيه تسامح واضح، للاتفاق منه و من غيره على عدم النقل بدون الإجازة (سواء قلنا بالكشف أو النقل) لا أنّه ينقل من غير لزوم.

3- ينبغي أن يكون محل الكلام ما يتعارف الفضولي فيه عند العقلاء، مثل ما نراه في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 244

الدلال أو الوكيل المأذون في شي ء إذا تعداه إلى غيره، ثم يخبر الموكل و يستأذنه، أو الأب يتزوج ابنته ثم يستأذنها، أو العكس، تتزوج البنت ثم تخبر الأب و تستأذنه، بناء على اشتراط اذنه في الصحة، و هكذا الأمر في مثل بيع الراهن بغير اجازة المرتهن، و بيع العبد بدون اذن السيد، أو الصديق مال صديقه ثم اخباره و استيذانه.

أمّا ما لا يتعارف فيه ذلك كمن يبيع دار رجل اجنبي لا يرتبط به في شي ء و لا يمسّه أبدا و ينكح صبية أجنبي لا صلة بينهما أصلا ثم يخبره و يستأذنه، فجريان أحكام الفضولي فيه لا يخلو عن إشكال، نظرا إلى عدم عدّه عقدا عند العقلاء بل يشكل صدور القصد الجدي من مثله، فتأمل.

4- ظهر ممّا ذكرنا، أنّ محل الكلام وسيع جدّا لا ينحصر بالبيع، بل يجري في سائر العقود أيضا، و كذا لا يختص بغير المالك، بل يجري في كل من لا يملك الاذن التام من جميع الجهات و لو كان مالكا كالراهن و شبهه، لأنّ الملاك في الجميع واحد، سواء شمله عناوين كلماتهم أم لا، لوحدة الدليل لا يخفى، فعقد الراهن بغير اذن المرتهن، و كذا المحجور بدون اذن الغرماء داخلان في محل النزاع، و كذا عقد البنت بدون اذن الأب على قول.

5-

قد ادعى شيخنا الأعظم قدّس سرّه خروج الايقاعات كلّها عن حريم البحث للإجماع على بطلانها، و تبع في ذلك الشهيد قدّس سرّه في غاية المراد.

و لكن قد وقع التشكيك في ثبوت هذا الإجماع مطلقا، أو في غير العتق و الطلاق عن غير واحد ممن تأخر عن الشيخ قدّس سرّه.

و الانصاف أنّ دعوى الإجماع في هذه المسألة و أمثالها مشكل جدّا، بعد احتمال استنادهم فيها إلى نصوص تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه، بل قد استند بعضهم في بطلان طلاق الفضولي و عتقه بقوله «لا عتق إلّا في ملك» و قوله «الطلاق بيد من اخذ بالساق».

فالحكم بالبطلان لا بدّ أن يستند إلى دليل آخر، و إن قلنا بأنّ صحة الفضولي في العقود إنّما هي على القاعدة أخذا بعمومات صحة العقود و شبهها لم يبعد دعوى مثله في الايقاعات لإطلاق أدلة صحتها أو عمومها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 245

نعم، لو استند فيها إلى رواية عروة البارقي أو روايات خاصة اخرى وردت في البيع أو النكاح أو شبههما، لم يمكن التعدى منها إلى الايقاعات، بل و لا غيرها من العقود.

قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في الحاشية في أول كلامه بثبوت الإجماع في خصوص العتق و الطلاق، و لكن رجع عنه في ذيل كلامه و استشكل في ثبوته فيهما أيضا نظرا إلى إمكان استناد المجمعين إلى بعض الروايات، ثم قال: نحن إلى الآن لم نجد دليلا على بطلان الفضولي في الايقاعات بعد كون صحته على القواعد، و لكن لمّا كان مختاره قدّس سرّه كون صحة الفضولي على خلاف القاعدة، أشكل في الحاق الايقاعات بالبيع «1».

و سيأتي تتمة الكلام في ذلك إن شاء اللّه بعد ايراد روايات الباب و توضيح

مقتضى القواعد في العقود فانتظر.

و قال في الشرائع في كتاب العتق، لو اعتق غير المالك لم ينفذ عتقه و لو أجازه المالك، و قال في الجواهر في شرحه: «على المشهور كما في المسالك بل في كشف اللثام و الرياض نفى الخلاف فيه بل في الروضة الإجماع عليه قيل لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا عتق إلّا بعد ملك ...» و لأنّه عبادة أو فيه شائبة العبادة و هي لا يقبل الفضولي» ثم أشكل على الجميع «2».

أقول: و الجواب عن جميع ذلك ظاهر، فان كون العتق بعد الملك لا ينافي صحة الفضولي، و لذا لا نقول بتأثيره إلّا بعد اجازة المالك كما هو كذلك في قوله: لا بيع إلّا في ملك، أو قوله: لا تبع ما ليس عندك.

و كونه عبادة أيضا لا ينافي ذلك لأن المفروض أنّه لا يتمّ أمر العتق إلّا بعد اجازة المالك، فهو ينوي القربة بفعله و لا يحصل العتق إلّا بعده، و إن هو إلّا نظير التوكيل في العتق أو أداء الزكاة و الخمس الذي لا ريب في جوازه مع كونها عبادة، و قد يقال في بعض روايات الطلاق إشارة إلى صحة الفضولي فيه، و لكن لم نظفر بمثل هذه الرواية عاجلا.

6- حكم الرضا بدون الإجازة- فقد يكون المالك راضيا بالعقد، سواء علم به الفضولي أولا و لكن لم يصدر منه إنشاء الإجازة، فهل يخرج بمجرّد ذلك عن الفضولية،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 246

و يصح بلا حاجة إلى الإجازة، أو هو داخل في الفضولي يحتاج إليها، أو يفصل بين ما كان العقد صادرا من غير المالك، و ما كان صادرا عن مالكه و لكن كان موقوفا على رضا غيره، كما في بيع

الراهن بدون اذن المرتهن أو نكاح العبد و الباكرة بدون اذن السيد و الولي؟ فيه وجوه أو أقوال:

ظاهر كثير من كلماتهم هو الثاني، و مال شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلى الأوّل، و اختار التفصيل السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في الحاشية و هو الأقوى.

و استدل للأول، أعني دخوله في الفضولي، بعدم ملك التصرف بمجرّد العلم بالرضا من دون أذن صريح أو فحوى، و بما يظهر من حديث العروة، لاستدلالهم به على صحة بيع الفضولي، مع أنّ الظاهر علمه برضاه صلّى اللّه عليه و آله و إلّا لم يجز له التصرف في العوضين و لم يصح تقريره صلّى اللّه عليه و آله له، و كلا الوجهين ضعيفان، أمّا الأوّل: فلأن ملك التصرف حاصل بالرضا و لا يحتاج إلى الأذن (إلّا أن يرجع إلى ما سنذكره من الدليل) و أمّا الثاني؛ فلأنّه لا يبعد علم عروة البارقي بالرضا بهذا المقدار من التصرف فقط من ناحية النبي صلّى اللّه عليه و آله و البائع لعلمه بتعقبه للإجازة، فلم يكن حراما.

مضافا إلى أنّه لا يتمّ على مبنى الكشف كما هو ظاهر.

و العمدة في ذلك أنّ معنى «وجوب الوفاء بالعقد» هو إلزام كل إنسان بما يلزمه على نفسه، فهو من قبيل قوله صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» و من قبيل قوله تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ «1» أي ما جعلوه على أنفسهم بإنشاء العقد أو النذر لا مجرّد الرضا.

و الوجه فيه مضافا إلى التبادر منه، أنّ قاعدة وجوب الوفاء بالعقد قاعدة عقلائية معروفة بينهم قبل أن تكون قاعدة شرعية و لكن أمضاها الشارع المقدس، و من الواضح أنّهم يلزمون كل إنسان بما صدر منه من العهود و العقود

و المواثيق و الالتزامات، فالواجب وفاء كل إنسان بعقده لا مجرّد ما رضي في قلبه من دون عهد و عقد.

و حينئذ لا بدّ من استناد العقد إلى كل إنسان في وجوب الوفاء عليه، و لا يكون ذلك إلّا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 247

أن يكون قد صدر منه العقد مباشرة أو تسبيبا، و المباشرة منتفية هنا على الفرض، و التسبيب يتوقف على الاذن أو التوكيل أو الإجازة بعد العقد، و لا يصح بمجرّد الرضا، فلا يقال «بنى الأمير الحديقة» بمجرّد رضاه به قلبا، من دون أي إذن و أمر، نعم إذا أظهر الرضا بقصد إنشاء الاذن صحّ، و ما ورد من صحة اسناد أعمال العصاة إلى غيرهم من الراضين بأفعالهم كما ورد في تفسير قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها «1»، إنّما هو ناظر إلى الشركة في العقاب لا كونهم فاعلين حقيقة، و هل يصح أن يقال لمن رضي الآن بفعل يزيد أنّه قاتل الحسين عليه السّلام؟ نعم يصح اسناد القتل إلى يزيد و من هو مثله ممن أمر بقتل سلالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و كان سببا له.

و بالجملة لا ينبغي الشك في عدم صحة اسناد الفعل إلى غير فاعله بمجرّد رضاه به، بل يحتاج إلى تسبيبه من طريق الاذن أو الأمر أو التوكيل، و في باب العقود من طريق الإجازة بقاء.

و من هنا يعلم أنّه إذا صدر العقد من المالك للعقد غير المستقل فيه، بل يتوقف على رضا غيره، كما في بيع الراهن بدون اذن المرتهن، و نكاح العبد بدون اذن سيده، كفى الرضا الباطني في الصحّة، لأنّ الاستناد قد حصل، غاية الأمر أنّه كان متعلقا لحق الغير، و مع رضاه يرتفع المانع و يحصل

شرطه و هو التصرف برضاه.

و من هنا يرجح القول بالتفصيل.

و من هنا أيضا يظهر الإشكال في ما استدل به العلّامة الأنصاري قدّس سرّه لما اختاره من كفاية الرضا الباطني في الخروج عن الفضولية بعموم وجوب الوفاء بالعقود، خرج منه ما إذا لم يرض به المالك و بقي الباقي، و لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «2» و كذا ما دل على «عدم حلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه».

ثم أضاف إلى هذه العمومات بعض الروايات الخاصة، مثل رواية عروة البارقي، حيث إنّه قبض المتاع و اقبض الثمن، و لو كان فضوليا يحتاج إلى إجازة المالك لم يجز التصرف انوار الفقاهة، ج 1، ص: 248

قبلها بلا إشكال، مع أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قرره على ما فعل، و هذا كله دليل على كفاية الرضا في حصول الملك.

و مثل ما دلّ على أنّ علم المولى بنكاح العبد و سكوته إقرار منه «1» (انتهى محل الحاجة).

و لكن في جميعها النظر، أمّا عمومات «أوفوا بالعقود» فقد عرفت الجواب عنه بلا مزيد، و حاصله أنّ الواجب الوفاء بالعقد الذي قصده الإنسان و تعهده و التزمه، و ينسب إليه تسبيبا لا كل عقد صدر من أي شخص، و مجرّد الرضا الباطني غير كاف في الاسناد كما عرفت.

و لبعض المحشين (في كتاب البيع) هنا كلام حاصله «إنّ الاذن و الرخصة لا يوجب أن يصير العقد عقده لا بالتسبيب و لا بالمباشرة، و الاذن غير الوكالة و غير الأمر المولوي من القاهر الغالب بل الإجازة عبارة عن تثبيت ما صدر من الغير، فاعتبرها ملازم لصدور الفعل من الغير، و بنفسها تدفع انتساب الفعل إلى المجيز» (انتهى ملخصا) «2».

أقول: حقيقة

الاذن و الإجازة في الامور الاعتبارية كالعقود هي قبول التعهد الذي أنشأه الغير و الالتزام به، و من الواضح أنّه بعد قبول هذا التعهد و إمضائه يكون العقد عقده، و ان هو إلّا من قبيل أن يكتب إنسان كتابا أو يصدر بيانا أو مقالة ثم يوقّع عليه غيره، و من الواضح أنّ التوقيع على تلك المقالة أو ذلك البيان و الكتاب يجعله بحكم كتابه و مقالته، و الأصيل لا ينفّذ عقد الفضولي بما هو عقد صادر منه بل ينفذ أصل العقد و يجعله عقد نفسه بعد الإمضاء، و لا أدري كيف غفل عن هذا الأمر.

و أمّا عموم التجارة عن تراض فهو أيضا فرع تحقق التجارة، و هي لا تكون إلّا بالتزام المالك بها، و التزام الأجنبي لا اثر له، ما لم يكن التزامه بإنشاء الإجازة.

و أمّا حديث عروة، فقد عرفت الجواب عنه و أنّه لما كان عالما بتحقق الإجازة من النبي صلّى اللّه عليه و آله بعده، كان عالما أيضا برضاه صلّى اللّه عليه و آله بهذا المقدار من التصرف مقدمة في ماله صلّى اللّه عليه و آله،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 249

و كذا في مال البائع كما هو كذلك عادة في أشباهه أيضا من أمر الدلال و الوكيل الذي يتعدى عن حدود الوكالة مع علمه برضا المالك و إمضائه و يتمّ الأمر.

و أمّا مسألة نكاح العبد فقد عرفت أنّه مالك لأمر العقد و إنشائه لنفسه، غاية الأمر حيث كان التصرف في ما يتعلق بالمولى كان منوطا برضاه، و بالجملة طرف العقد هو العبد لا المولى، و إنّما يعتبر رضاه لتعلق حقه بالموارد، و هو نظير بيع الرهن بدون إذن المرتهن مع لحوق الرضا بعده.

و قد

عثرت بعد ذلك على بعض الروايات التي قد يظهر منها كفاية مجرّد الرضا في صحة العقد استدل بها المحقق الخوانساري قدّس سرّه في جامع المدارك «1»، و هي رواية الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه السّلام أنّ بعض أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسلطان ... فأجابه: الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره رضى منه «2».

و صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، و أهل الأرض يقولون: هي أرضهم، و أهل الاسنان يقولون: هي من أرضنا، فقال: لا تشترها إلّا برضا أهلها» «3».

و لكن شي ء منها لا دلالة له على ذلك، لأنّ المستفاد منهما هو اعتبار الرضا في صحة البيع و لا ينكره أحد، و اعتبار شي ء في الصحة غير الاكتفاء به فقط، و هو نضير قوله صلّى اللّه عليه و آله:

«لا صلاة إلّا بطهور» حيث يدل على اعتبار الطهور لا على الاكتفاء به فقط.

و العجب من المحقق المذكور حيث قال: «لا بدّ من توجيههما لعدم إمكان الالتزام بظاهرهما». (انتهى) مع أنّك قد عرفت عدم ظهور لهما فيما ذكر.

بقي هنا أمران:
1- ذكر في المكاسب أنّ الاذن قد يكون صريحا، و اخرى فحوى

، و كلاهما كاف في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 250

معني العقد، و المراد بالفحوى هنا أن يكون قد أجاره في ما هو أهم و أعظم من ذلك.

و قد أضاف إليه السيد قدّس سرّه في الحاشية «شاهد الحال» و اخراجه من الفضولي أيضا، و أورد على الشيخ قدّس سرّه من جهة عدم ذكره له و جعله دليلا على عدم اكتفائه به.

و المراد منه ظهور حال المالك ظهورا قائما مقام الإنشاء اللفظي، فان الحال أيضا له لسان قد

يكون أقوى من لسان القال: مثل ما يكون بين بعض الاخوة مع بعض في أموالهم و حقوقهم و ما يرى في مثل الخانات و الفنادق و الحمامات.

أقول: هذا كله صحيح إذا رجع إلى إنشاء الإذن.

2- ذكر الشيخ قدّس سرّه في ذيل كلامه في المكاسب أنّه لو سلم كون هذا الفرض فضوليا، و لكن ليس كل فضولي يتوقف لزومه على الإجازة

انتهى.

قلت: هذا منه عجيب، لأنّ النزاع ليس في اطلاق لفظ الفضولي الذي لم يرد في أي حديث أو آية، إنّما الكلام كله في الحاجة إلى الإجازة و عدمها، فإذا لم يتوقف على الإجازة كان خارجا عن الفضولي الذي هو محل الكلام للأعلام.

إذا عرفت هذا فلنعد إلى أصل المسألة فنقول:

إنّ المعروف و المتداول من الفضولي هو ما إذا باع للمالك من دون سبق إجازة أو منع منه، و لكن هناك صورتان اخريان: «إحداهما»: ما إذا باع للمالك مع منعه منه «ثانيتهما»: ما إذا باع لنفسه كالغاصب.

فلنتكلم في الاولى أولا، ثم نبين حال المسألتين الأخريين فنقول و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية:

حاصل أقوال العلماء في المسألة كالآتي:

قال في جامع المدارك نقلا عن المحقق قدّس سرّه في المختصر النافع: لو باع الفضولي فقولان:

اشبههما وقوفه على الإجازة «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 251

و قال في القواعد: بيع الفضولي موقوف على الإجازة على رأي «1».

و يظهر منهما كون المسألة مختلف فيها جدّا.

و حكى في المفتاح عن المسالك و المفاتيح، أنّ وقوفه على الإجازة قول الأكثر و أنّه المشهور كما في مجمع البرهان و الكفاية بل كاد أن يكون إجماعا كما في الحدائق.

و أشهر القولين كما في الروضة و إيضاح النافع و ظاهر التذكرة في موضع منها الإجماع عليه حيث قال: أنّه جائز عندنا و لكنه موقوف على الإجازة «2».

و لكن مع ذلك يظهر من غير واحد من أكابر الفقهاء البطلان و لو مع الإجازة.

قال في

الخلاف: إذا باع إنسان ملك غيره كان البيع باطلا، و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة ينعقد البيع و يقف على إجازة صاحبه، و به قال قوم من أصحابنا، دليلنا إجماع الفرقة، و من خالف لا يعتد بقوله، و لأنّه لا خلاف في أنّه ممنوع التصرف في ملك غيره و البيع تصرف (انتهى) «3».

و يظهر من هذا الكلام أنّ القول بالصحة كان قولا شاذا عند الشيعة، حتى ادعى الإجماع على خلافه، و إن اشتهر بعد ذلك، و لكن كانت المسألة بين العامة خلافية.

و ممن حكي عنه البطلان أيضا صاحب الغنية (مع دعوى الإجماع) و صاحب الحدائق و إيضاح القواعد و المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في مجمع البرهان.

و العجب أنّه حكي عن الشيخ قدّس سرّه في النهاية الصحة، مع ما عرفت من دعواه الإجماع على البطلان في الخلاف!

و يتخلص من جميع ذلك أنّ القول بالصحة كان قليلا في العصر الأوّل و لكن أشتهر و كثر بعد ذلك، و لا سيما بين المتأخرين، و لكن لا يمكن دعوى الإجماع على شي ء من القولين كما هو ظاهر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدل على صحة الفضولي تارة بالقواعد و اخرى بالأدلة الخاصة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 252

أمّا الاولى: فقد عرفت بيانها، و نزيدك وضوحا: إنّ المدار في وجوب الوفاء بالعقد المستفاد من قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ استناد العقد إلى إنسان بحيث يكون من تعهداته و التزاماته، فانّه يجب على كل إنسان الوفاء بما التزامه على نفسه و تعهده في مقابل غيره في عقد، و عقد الفضولي و إن لم يكن مستندا إلى المالك ابتداء و لكن بعد الإجازة يستند إليه.

فهو من قبيل سند أو كتاب صدر إنشاؤه من واحد،

ثم جاء آخر فوقع عليه و أمضاه فصار سندا كاملا و كتابا كذلك، و عدّ بحكم كتابه و سنده.

و لكن يظهر من غير واحد منهم عدم الالتزام بكونه موافقا للقاعدة، و لو لحقته الإجازة.

منهم السيد اليزدي قدّس سرّه في حاشيته، و ملخص كلامه «إنّ الإجازة لا تغير ما وقع عليه بحيث تنقلب النسبة، ألا ترى أنّه لو أمر بضرب أحد فضربه و اطلع عليه إنسان بعد ذلك فرضي به لا يصدق أنّه ضربه» «1».

و ذكر في كلام آخر له في المقام أنّ المستفاد من أدلة اعتبار الرضا اعتبار المقارنة، فالمراد العقد الصادر من الرضا كما هو المفهوم من الشرط في سائر المقامات كقوله صلّى اللّه عليه و آله:

«لا عمل إلّا بالنيّة و لا صلاة إلّا بطهور» فالمقارنة شرط «2».

و يجاب عن الأول، بالفرق الواضح بين الضرب و غيره من الامور التكوينية و بين الامور الإنشائية، فانّها إذا وجدت كان لها نوع بقاء في وعاء الاعتبار، يمكن لحوق الرضا به في كل حال و آن، فقد يكتب الإنسان كتابا إلى آخر و يوقعه بنفسه و يريد أن يشترك معه آخر في هذا الأمر، و يطلب منه أيضا التوقيع عليه، فإذا وقّع عليه اسند الكتاب إليها معا، و هكذا بالنسبة إلى الثالث و الرابع و العقد المنشأ من الفضولي هكذا، و العجب منه أنّه قاسه على الامور الخارجية التكوينية.

و منه يظهر الجواب عن الإشكال الثاني فانّ المقارنة مع الرضا و ان لم تكن حدوثا و لكنها حاصلة بقاء و عند صحة اسناده إليه، فهو يوقع على العقد الصادر من غيره توقيعا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 253

مقارنا للرضا، فيصدق عليه أنّه عقد مع الرضا، و بالجملة اسناد العقد الفضولي

إليه مقارن للرضا كما لا يخفى، فحينئذ لا نحتاج إلى القول بأن أدلة اعتبار الرضا عام يشمل الرضا اللاحق و السابق فتدبّر.

و يظهر من بعض آخر إشكال ثالث على الاستدلال حاصله: أنّ العمومات منصرفة إلى المتعارف، و الفضولي ليس متعارفا. و أجيب بأن الانصراف بدوي.

أقول: و أولى منه في الجواب أن يقال: الفضولي متعارف في محله أعني فيما كانت صلة بين المالك و بين غيره تقتضي ذلك، و من أوضح الشواهد على ذلك قضية عروة البارقي التي تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه و لا تختص بعروة، مثلها كثير رائج بين أهل العرف و العقلاء فيما يصدر عن الدلال و الوكلاء إذا جاوزوا حدّ الوكالة كما في قضية عروة، و كذلك في الأولياء إذا جازوا حدود ولايتهم.

بل يمكن جعل هذا دليلا مستقلا على المطلوب بأن يقال: قد جرت السيرة العقلائية على العقود الفضولية في كثير من المقامات و لم يردع عنها الشارع و هذا دليل على إمضائه.

نعم، لو صدر العقد الفضولي من أجنبي لا مساس له بالمالك أصلا خرج هذا عن المتعارف، و قد ذكرنا أنّ الالتزام بصحته مشكل جدّا، بل صدور الإنشاء الجدي من هذا الشخص بعيد.

و هنا إشكال رابع يستفاد من كلمات بعض الأعاظم و حاصله: أن الإنشاء الصادر عن الفضولي قبل الإمضاء ليس اعتبارا عقلائيا لعدم تحقق النقل و الانتقال فليس هنا شي ء بتعلق به الإمضاء و الإجازة «1».

أقول: و يمكن دفعه أيضا بأنّ البيع و النقل و الانتقال حاصل بحسب اعتبار الفضولي و إنشائه و لكن العقلاء لا يرونه مبدأ للآثار حتى تحصل الإجازة من المالك، فالاجازة متعلقة بذلك العقد و الاعتبار الحاصل من الفضولي.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 254

و هنا إشكال

خامس ذكره في الحدائق، فقد ذكر أولا استدلال المسالك على الصحة بوجود المقتضي للصحة و عدم المانع منها، ثم عقبه بذكر دليل المختلف من أن العقد صدر عن أهله في محله (و من المعلوم أنهما في الحقيقة دليل واحد و هو التمسك بالعمومات على نحو مرّ ذكره).

ثم أورد على كل واحد منها بأمر يرجع الجميع إلى شي ء واحد، و هو أن أهل العقد هو المالك لا غيره، و العقد الصادر عن غيره مفيد، و لحوق الرضا غير كاف، بل لا بدّ من الاقتران (هذا ملخص كلامه).

و لكن قد عرفت سابقا الجواب عنه و أنّ العقد بعد الإجازة يكون عقد المالك منسوبا إليه، مقارنا لرضاه، غير منفك عنه، فليس هنا أي مخالفة للقواعد، و لذا نقول: إنّ مقتضى القاعدة في تأثير الإجازة هو النقل لا الكشف، فتدبّر جيدا.

فتلخص من جميع ذلك أنّ تصحيح الفضولي على القواعد ممكن جدّا.

الأدلة الخاصة على صحة الفضولي:
الاولى: رواية عروة البارقى

فاشهرها رواية «عروة البارقي» التي رواها الفريقان في كتبهم المعروفة، و إليك اسانيدها قبل البحث في مغزاها:

1- روى في عوالي اللئالي عن عروة بن الجعد البارقي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع إحداهما بدينار في الطريق، قال: فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله بالدينار و الشاة فاخبرته فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك» «1».

و روى مثله في المستدرك عن الشيخ الطوسي قدّس سرّه عن عروة و لكن في آخر بعده قوله:

ثم أتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله بشاة و دينار، قوله فرده عليّ و قال: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك» «2».

و هذا السند مرسل على كل حال.

انوار الفقاهة،

ج 1، ص: 255

2- روى المجلسي قدّس سرّه في البحار بسنده عن «حكيم بن حزام» أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث معه بدينار يشتري له اضحية، فاشتراها بدينار و باعها بدينارين فرجع فاشترى اضحية بدينار و جاء بدينار إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فتصدق به النبي صلّى اللّه عليه و آله و دعا أن يبارك له تجارته «1».

و لكن سند الحديث يشتمل على بعض المجاهيل.

3- و من طريق العامة ما رواه أحمد في مسنده.

هذا و لكن سند الحديث غير معتبر عندنا، أمّا عروة فهو رجل مجهول بحسب رجال الشيعة فقد ذكره في رجال الكبير من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دون إضافة شي ء آخر نعم ذكر في أسد الغابة ما ملخصه:

إنّ عروة بن الجعد، و قيل ابن الجعد البارقي و قيل الأزدي ... سكن الكوفة روى عنه الشعبي ... و كان ممن سيره عثمان إلى الشام من أهل الكوفة و كان مرابطا و معه عدّة أفراس، و قال: شبيب بن غرقدة رأيت في دار عروة بن الجعد سبعين فرسا مربوطة للجهاد في سبيل اللّه، و تسميته بالبارقي إنّما هو لاسم بعض أجداده، و هو بارق بن عدي، و إنّما قيل بارق لأنّه نزل عند جبل اسمه بارق فنسب إليه «2».

و أمّا «حكيم بن حزام» أو «حكم بن حزام» ففي جامع الرواة هو أبو خالد عم الزبير بن العوام مات سنة 60 و كان له 120 سنة و في هامش كنز العمال أسلم يوم الفتح و مولده قبل عام الفيل بثلاث عشر سنة و عاش مأئة و عشرين سنة «3».

أقول: لو كانت وفاته عام 60 كان عمره أكثر من

120 سنة على هذا الحساب و على كل حال لا يمكن تصحيح سند الحديث من طريق رجاله، و لكن الرواية مشهورة عند أرباب الحديث، و استدل به كثير من فقهائنا في باب الفضولي، حتى قال: صاحب الجواهر قدّس سرّه: «مضافا إلى خبر عروة البارقي الذي اغنت شهرته عند الفريقين عن النظر في سنده» «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 256

و لا يبعد الركون على هذه الشهرة في جبر ضعف اسناده.

و أمّا دلالتها من جهة اشتمالها على بيعين فضوليين فظاهرة، و كذا رواية حكيم، و لكن قد يقال: ليس في رواية عروة إلّا فضولي واحد فانّ جواز اشتراء اضحيتين بدينار يفهم من إجازة النبي صلّى اللّه عليه و آله بالفحوى، و فيه إشكال ظاهر، و لو سلّمنا لم يمنع عن الاستدلال به.

و لكن مع ذلك فقد ذكر فبهما احتمالات و إشكالات:

1- منها ما حكاه في «جامع المدارك» من احتمال كون عروة وكيلا مفوضا إليه، و لا أقل من أنّه قضية واقعة لا يمكن الاستناد إليه، و لكن الإنصاف أنّ كونه وكيلا مفوضا خلاف ظاهر الحديث، و كونها قضية في واقعة غير مانع عن الاستدلال به بعد ظهوره فيما هو المراد كما في نظائره.

2- الظاهر أنّ كلا من العقدين كان مقرونا برضا المالك، و هذا يخرجه عن الفضولية (ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام).

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ مجرّد الرضا الباطني غير كاف في اخراجه عن الفضولية ما لم يكن هناك إنشاء إذن أو اجازة.

3- لا يجوز في عقد الفضولي التصرف في العوضين قبل الإجازة إلّا على القول بالكشف الحقيقي مع العلم بلحوق الرضا، و فيه ما فيه، فكيف قرره النبي صلّى اللّه

عليه و آله على تصرفاته.

أقول: و يدفعه ما عرفت من علمه عادة برضاه صلّى اللّه عليه و آله و رضى المشتري بهذا المقدار من التصرف الذي تتعقبه الإجازة و صحة البيع، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه كما يظهر من الرجوع إلى نظائره من امور الوكلاء إذا تجاوزوا عن حد الوكالة إلى بعض ما هو أنفع منه.

4- كان هناك إذن فحوى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بالنسبة إلى جميع أعماله، فلا يكون فضوليا، و فيه أيضا إنّ هذا المقدار لا يدخل في إذن الفحوى، فإذا إذن زيد لعمرو، و وكله في شراء طعام معين له نفع فيه، ثم وجد الوكيل لباسا هو أنفع له من الطعام قطعا، فهل يكون لبيعه له بيعا صادرا عن الوكالة؟ و كذا لو وجد طعاما آخر غيره أنفع له.

و قد عرفت أنّ مجرّد الرضا غير كاف في استناد العقد إلى إنسان بل لا بدّ من إنشاء الإذن و الإجازة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 257

و ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الوكالة: «بعد قول المحقق لو خالف لم يصح و وقف على اجازة المالك»: بل قد يقال: ذلك (وجوب مراعاة المصلحة) فيما لو عين له البيع بمقدار و الشراء كذلك، فاتفق حصول الباذل للأزيد و الأنقص حملا للتعيين على ما هو المتعارف من عدم وجود الباذل، اللّهم إلّا أن يحتمل الغرض له به، و لعله على ذلك ينزل خبر عروة البارقي لا على الفضولية «1».

و هذا مناقص صريح لما ذكره في كتاب البيع من عدم الإشكال في دلالة الخبر على المطلوب (و هو صحة الفضولي مع الإجازة) «2» و أنّ الفحوى لا تجزي في الوكالة قطعا لعدم الإنشاء

و عدم الرضا فعلا «3».

و غاية ما يمكن أن يقال: انصراف اجازة الوكالة إلى ما لم يكن باذل بالأزيد في البيع، و الأنقص في الشراء فيما إذا عين المثمن، أمّا جوازهما بالفحوى فلا، فتدبّر في المقام فانّه من مزال الإقدام.

و هناك روايات اخرى استدل بها للصحة أو ذكر تأييدا لها:

الاولى: ما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «قضى في وليدة باعها ابن سيدها، و أبوه غائب، فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثم قدم سيدها الأول، فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير أذني، فقال: خذ وليدتك و ابنها فنا شده المشتري، فقال: خذ ابنه، يعنى الذي باع الوليدة حتى ينفذ لك ما باعك، فلما أخذ البيع (المشتري) الابن قال: أرسل ابني، فقال: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيد الوليدة أجاز بيع ابنه» «4».

و الرواية معتبرة الإسناد رواها المحمدون الثلاث في الكتب الأربعة، و المتون متفاوتة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 258

في كثير من جملاتها، و المحتوى واحد، و لكن في فقه الحديث إشكالات لا بدّ من حلّها أولا:

1- منها إنّها ظاهرة في صحة الإجازة بعد الردّ مع دعوى الإجماع على فساده.

2- و منها أنّ الولد هنا حر لتولده من حر و لو من طريق الشبهة، فكيف يمكن أخذه من ناحية مالك الوليدة؟

3- و منها كيف يجوز أخذ ولد المالك- أي البائع فضولا- و هو حر و إنّما المجاز أخذ الغرامة منه للتدليس و الغرور بالنسبة إلى المشتري و إرائته أنّه ملكه؟

4- و منها أنّه ما المراد بالوليدة هنا؟ فإن كانت بمعنى أم الولد فلا إشكال في بطلان بيعها، و إن كانت بمعنى ما سيأتي و يؤول

إليه كان مجازا، و لكن العمدة الإشكال الأول، لأنّ الجواب عن غيرها سهل.

أمّا عن الثاني: فلأن أخذ الابن لعله كان للتقويم لأنّ المشتري قد فوته على المالك، فلا بدّ من اعطاء قيمته فتأمل، أو يقال: بأن المشتري كان عالما بحقيقة الحال و فيه إشكال.

و عن الثالث: بأن أخذ ولد المالك إنّما هو لأخذ الغرامة حيث لم يكن له طريق سواه.

و عن الرابع: بأن المراد من الوليدة من تولد في بيته من عبد و أمة أو كانت أم ولد له كانت في مورد يجوز بيع أم الولد (كما إذا مات ولدها و ..).

و أجيب عن الأول: بعدم التصريح أيضا بالفسخ ورد البيع و إنّما كان ذلك في العمل، و لم يحصل منه إنشاء الرد.

و لكن في أصل الحكم، أعني بطلان الإجازة بعد الردّ، إشكال سيأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه.

و قد يقال: إن الاستناد إليها كقاعدة كلية لا ينافي وجود هذه الإشكالات فيها بعنوان حكم جزئي، و هو كما ترى، فانّ أمثال هذا التفكيك في مضمون أخبار الآحاد غير معروف عند العقلاء من أهل العرف، الذين هم الأساس لحجية خبر الواحد، كما لا يخفى.

فلو لم تنحل إشكالات الرواية يشكل الأخذ بها، و لكن قد عرفت إمكان دفعها و إن كان دفع بعضها لا يخلو عن صعوبة، و قد أورد عليها السيد قدّس سرّه بايرادات اخرى و أجاب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 259

عنها، لا بأس بالإشارة إلى بعضها:

5- منها تعليم الإمام عليه السّلام الحيلة لبعض أطراف الدعوى، مع أنّ ذلك ليس من وظيفة الحاكم.

و أجاب عنه: بأن ذلك لعله كان من باب مصلحة يقتضيها المقام.

و الأولى أن يقال: إنّ تعليم الحيلة كان بعد القضاء لإحقاق حق صاحب

الحق بقي هنا شي ء: و هو أنّ ظاهر الصحيحة هو القول بالكشف في الفضولي، لأنّه لو كان الحكم هو القول بالنقل ظهرت ثمرته في النماء المتخلل (و هو الولد فيما نحن فيه) و كان النماء للبائع مع حكمه عليه السّلام بكونه للمشتري، و سيأتي تحقيق ذلك و البحث عن الفرق بين الكشف الحقيقي و الحكمي و غيرها.

الثانية: ما ورد في باب النكاح

1- ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه سأله عن رجل زوّجته امه و هو غائب، قال: النكاح جائز إن شاء المتزوج قبل، و إن شاء ترك» (الحديث) «1».

2- منها ما ورد في باب نكاح العبد بغير أذن مولاه، مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذاك إلى سيده إن شاء أجازه و إن شاء فرق بينهما» الحديث «2».

و أيضا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل تزوج عبده «امرأة» بغير إذنه فدخل بها، ثم اطلع على ذلك مولاه، فقال: ذاك لمولاه إن شاء فرق بينهما و إن شاء أجاز نكاحهما» (الحديث) «3».

3- منها ما رواه أبو عبيدة عن الباقر عليه السّلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما، و هما غير مدركين، قال: فقال: النكاح جائز، أيّهما أدرك كان له انوار الفقاهة، ج 1، ص: 260

الخيار فان ماتا قبل أن يدركا، فلا ميراث بينهما، و لا مهر إلّا أن يكونا قد أدركا و رضيا» «1».

أقول: أمّا الأول: و هو رواية الكاهلي (و هو عبد اللّه بن يحيى لم ينقل في حاله توثيق صريح، نعم حكي له من موسى بن جعفر عليه السّلام

إلى على بن يقطين، و كذا حكي بشارته عليه السّلام له بأنّه من شيعته بعد إخباره بموته في سنته، و يستفاد من جميعه مدح قوى له) رواه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه سأله عن رجل الخ.

و لكن الذي يرد عليها تضمنها لزوم المهر الام التي قد اقدمت على نكاح ولده و حمل على دعواها الوكالة، و يمكن حملها على ما إذا دخلها من أجل هذا النكاح ضرر بمقدار المهر فتأمل، غاية الأمر التفكيك بين الصدر و الذيل، و هذا أمر شايع في السنة العلماء و لكن لا يخلو عن إشكال كما عرفت.

و أمّا الثاني: فهو أيضا لا إشكال في دلالته، و المراد بالولي في أوّله هو الولي العرفي لا الشرعي، بقرينة ما ورد في آخره، و هو معمول به في أبواب النكاح (و قد تعرض لها في الشرائع في المسألة الثامنة من أحكام أولياء العقد و ذكره صاحب الجواهر أيضا) «2».

و لكن مع ذلك لا يخلو الحديث عن الإشكال من جهات عديدة، منها أنّ مثل هذا العقد الذي مات أحد طرفيه من قبل و ليس لإجازته أثر فعلي إلّا بالنسبة إلى ما سبق و انقضى و خرج عن محل البلوى، غير معروف عند العقلاء- و العقود امور عرفية لا تعبدية- فلا يمكن تصحيح هذا الحكم إلّا بالتعبد المحض و لا يخلو عن صعوبة إذا لم يكن إجماعيا.

هذا مضافا إلى أنّه أي مانع في أن يكون الداعي إلى اجازة العقد بعض آثاره مثل الميراث؟ اللّهم إلّا أن تكون الإجازة صورية غير واقعية، مضافا إلى أنّه لا يتمّ إلّا على القول بالكشف مع كفاية الإجازة و لو عند خروج أحد طرفي

العقد عن قابلية العقد، و هو مشكل آخر فتأمل جيدا.

أمّا الثالث: أعني ما دلّ على صحة عقد بدون إذن مولاه إذا لحقته إجازته أو رضاه،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 261

فالاستدلال بها واضح إذا كان الحكم في باب الإجازة و الرضا واحدا، و قد عرفت و هو الإشكال فيه فيما سبق.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه لا يصح الاستدلال بهذه الروايات الواردة في أبواب النكاح بالنسبة إلى البيع و غيره من أشباهه إلّا بضميمة قياس الأولوية قال في الرياض: «مضافا إلى ثبوت الفضولي في النكاح مطلقا بالإجماعات المحكية المستفيضة بل المتواترة، فان ثبوته فيه بناء الأمر فيه على الاحتياط التام كما يستفاد من النصوص و إجماع العلماء الاعلام مستلزم لثبوته هنا بطريق أولى لأضعفيته عنه جدّا».

ثم قال: «و لعمري أنّها من أقوى الأدلة هنا، و لولاه لأشكل المصير إلى هذا القول.

و بمثل هذا الفحوى استدل جماعة من أصحابنا في مقامات عديدة منها: عدم اشتراط تقديم الإيجاب على القبول في الصيغة» (انتهى محل الحاجة) «1».

و لكن مع ذلك كله أورد على هذا الفحوى شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب بوهن الفحوى بما ورد في أبواب الوكالة من النص الوارد في الردّ على العامة الذين فرّقوا بين تزويج الوكيل المعزول مع جهله بالعزل و بين بيعه، بالصحة في الثاني لأنّ المال له عوض، و البطلان في الاول لأنّ البضع ليس له عوض، قال: الإمام عليه السّلام في مقام ردّهم في وجه الفرق: سبحان اللّه! ما أجور هذا الحكم و أفسده؟ فان النكاح أولى و اجدر أن يحتاط فيه، لأنّه الفرج و يكون منه الولد ... (انتهى محل الحاجة).

و هو إشارة إلى ما رواه في الوسائل في أبواب الوكالة من

حديث العلاء بن سيابة «2» و لكن الحديث ضعيف بجهالة العلاء، مضافا إلى أن قياس ما نحن فيه على باب الوكالة قياس مع الفارق كما لا يخفى، و الإنصاف أنّ الأخذ بالأولوية و التعدي من صحة الفضولي في النكاح إلى صحته في البيع قريب جدّا، و ما في الحديث المذكور إنّما هو من قبيل الجدل في مقابل الخصم، حيث إنّهم حكموا بعدم صحة النكاح في مورده احتياطا في الفروج، و يقولون إنّ المال منه عوض لصاحبه و الفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد، فأجاب عنهم بأنّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 262

الاحتياط هنا إنّما هو في الحكم بالصحة، لئلا يلزم منه الزنا بذات البعل، فقد استندوا إلى قياس ظني في المقام فأشار عليه السّلام إلى ما هو أولى منه، و إلّا ليس مبدأ الحكم هنا شي ء من ذلك، بل الأصل عدم عزل الوكيل إلّا بالاعلام، و هذا حكم إلهي كما يظهر من نقل قضاء أمير المؤمنين عليه السّلام فيه.

الثالثة: في أبواب المضاربة

الأحاديث الكثيرة المتظافرة الواردة في أبواب المضاربة الدالة على أنّ العامل إذا تعدى عن الشرائط ضمن المال لو تلف، و لو ربح كان الربح بينهما على الشرط (أو كان الربح بينهما من دون تقييده بذلك).

مثل ما روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «سألته عن الرجل يعطي المال مضاربة و ينهى أن يخرج به، فخرج قال: يضمن المال و الربح بينهما» «1».

و مثل ما روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «في الرجل يعطي المال فيقول له:

رأيت أرض كذا و كذا و لا تجاوزها و اشتر منها، قال: فان جاوزها و هلك المال فهو ضامن و إن اشترى متاعا فوضع

فيه فهو عليه و إن ربح فهو بينهما» «2».

و أيضا أحاديث رقم 5، 6، 9، 10، 11، من نفس هذا الباب فلا ينحصر الدليل في خصوص موثقة جميل.

و من الواضح أنّ هذا من أوضح مصاديق بيع الفضولي و لذا يجوز له ردّ المعاملة.

أقول: و يمكن الجواب عنه بأنّ نفس المعاملة لم تقع فضوليا إنّما خالف الشرط في خروجه بالمال من البلد و جعله معرضا للآفات، أو خروجه إلى أرض خاص غير مطمئنة في نظر المالك، فضمنه، و يشهد له التصريح بعدم اخراجه إلى أرض كذا و شبهه في أكثر هذه الروايات، فلا دلالة لها على المطلوب أصلا، و الشاهد على ذلك التصريح بأن الربح انوار الفقاهة، ج 1، ص: 263

بينهما على الشرط يعني السهام التي ذكراها، و لو كان البيع فضوليا خارجا عن حدود المضاربة الواقعة بينهما لم يكن وجه لهذا القيد، بل للمالك إمضاء المعاملة على شرط آخر، بل جاز له أخذ تمام المنفعة لعدم استحقاق العامل شيئا بعد مخالفته للمضاربة كما لا يخفى.

و يؤيد ما ذكرنا، ما نسب إلى ظاهر الأصحاب من عدم توقف ملك الربح هنا على الإجازة و أنّه خارج عن الفضولي بالنص (تعبدا) كما عن المسالك و غيره، و لكن قد عرفت أنّه ليس خارجا عن القواعد حتى يحتاج إلى نص تعبدي، بل هو جار على القاعدة، من غير حاجة إلى الإجازة، لأنّ العامل عمل بما هو وظيفته في البيع و الشراء و إنّما خالف في شرط ناظر إلى حفظ المال، فلا أثر لهذه المخالفة إلّا الضمان لو تلف.

و إن شئت قلت: هنا مطلوبان: أحدهما: حفظ المال، و الثاني: التجارة به، و الشرط ناظر إلى الأول، فليس في هذه دلالة بل

و لا أشعار و استيناس لحكم الفضولي أصلا خلافا لما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

الرابعة: في الاتجار بمال اليتيم

الروايات الواردة في الاتجار بمال اليتيم، و أنّه إن ربح كان لليتيم و إن تلف كان عليه، رواها في الوسائل تارة في الباب 75 من أبواب ما يكتسب به «1».

و اخرى في أبواب من تجب عليه الزكاة «2».

بناء على أن التجارة وقعت بغير إذن الولي، فإذا ظهر الربح تلحقه الإجازة عادة فهو حينئذ من أظهر مصاديق الفضولي.

أقول: و لكن الإنصاف ظهور أكثرها أو جميعها في تجارة الولي أو الوصي بمال اليتيم،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 264

و هذا مأذون من قبل الشرع بشرطين: أحدهما: أن يكون الربح لليتيم، و الثاني: أن يكون للتاجر مال لو تلف خرج عن عهدة ضمانه، فلا ربط له بالفضولي أصلا.

و توضيح ذلك: أنّ جماعة من الأصحاب فهموا من هذه الروايات الكثيرة بعد ضم بعضها إلى بعض امورا ثلاثة:

أحدها: أنّ يتجرد الولي بمال اليتيم لليتيم، فالربح له و يستجب الزكاة منه.

ثانيهما: أن يقترض ماله و يتجرد به لنفسه و كان مليّا، كان الربح به و يستجب عليه الزكاة.

ثالثها: الصورة بحالها إلّا أنّه لا يكون مليّا، أو لم يكن وليا رأسا كان ضامنا و كان الربح لليتيم و لا زكاة هاهنا.

و من الواضح أنّ الأولين ليستا من الفضولي من شي ء، غاية ما يتوهم فيه ذلك هي الصورة الثالثة، و لا يبعد أن يكون هذا بأذن إلهي يخرجه عن الفضولي، أضف إلى ذلك أنّ فهم هذه الصور من روايات الباب لا يخلو عن صعوبة بل أكثرها كما عرفت ناظرة إلى صورة تجارة الولي لنفسه أو لليتيم، و يمكن حمل غيرها عليها، فالاستدلال بها لما نحن مشكل جدّا، و تمام الكلام

فيه في أبواب الزكاة في شرائط وجوبها و منها البلوغ «1».

الخامسة: ما روى في العبد المأذون

ما رواه ابن اشيم في العبد المأذون الذي دفع إليه مال ليشتري به نسمة و يعتقها و يحجه عن أبيه، فاشترى أباه و اعتقه ثم تنازع مولى المأذون و مولى الأب و ورثة الدافع و ادعى كل منهم أنّه اشتراه بماله، فقال: أبو جعفر عليه السّلام يرد المملوك رقّا لمولاه و أي الفريقين أقاموا البيّنة بعد ذلك على أنّه اشتراه بماله كان رقا له «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 265

نظرا إلى أن إقامته الدعوى دليل على الإجازة بالنسبة إلى البيع الفضولي الذي وقع على ماله، و تظهر ثمرته في خصوص مولى المأذون، و أمّا مولى الأب فهو مدع لفساد البيع لأن اشتراء عبده بماله موجب للفساد، و أمّا الدافع فقد كان بيعه من قبيل بيع الأصيل فلا يبقى إلّا مولى المأذون.

هذا و يجوز أن يكون المراد منه كونه وكيلا من قبله، فانّ اشترائه من ماله لا يكون إلّا بكون ماله عنده، و هذا يتحقق مع التوكيل غالبا، و كون العبد مأذونا شاهد عليه، بل ظاهر الحديث أنّه كان مأذونا في البيع و الشراء من قبل أقوام مختلفة و كانت أموالهم عنده و كان يتجر لهم.

مضافا إلى ما في سنده من جهة ذكره في كتاب العوالي، مع كون الراوي ابن أشيم و هو موسى ابن أشيم ظاهرا، و لم يوثق في الرجال، بل ورد رواية في ذمه و أنّه كان من أصحاب أبي الخطاب المعروف، و سنده في الوسائل (نقلا عن التهذيب) أيضا يتصل بابن أشيم و فيها إشكالات اخرى:

منها: أنّه كيف حكم بعود المعتق رقا مع أنّ الأصل في المعاملة و العتق الصحة و لا

يقبل قول مدعى الفساد، اللّهم إلّا أن يقال: يظهر من رواية الوسائل أن اشتراء الأب كان بعد فوت الدافع، فكان البيع من قبل ورثته فضوليا.

و منها: أنّه كيف لم يسأل عن العبد المأذون مع أنّه صاحب اليد و هو اعرف بنيته من غيره، و لعله لجميع ذلك أو لبعضه قال السيد قدّس سرّه في الحاشية: لم يعمل بها المشهور.

السادسة: صحيحة الحلبى

صحيحة الحلبي المروية عن الصادق عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل اشترى ثوبا و لم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه، ثم ردّه على صاحبه، فأبى أن يقيله (يقبله) إلّا بوضيعة، قال: يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فان جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على الأول ما زاد» «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 266

و ظاهرها بطلان الفسخ و الاقالة لأنّها لا تصح إلّا بنفس الثمن لا يزيد و لا ينقص، و هذا هو معنى الفسخ و إلّا كان بيعا جديدا، فاذن تكون العين باقية على ملك المشتري و يكون البيع فضوليا و يصح له بعد إجازته.

و لكن يرد عليه: أنّه ليس فيها أثر من الإجازة، و القول بأنّه يرضى عادة بعد ظهور النفع و يجيز البيع الثاني، مدفوع بأن التفاوت قد يكون أقل من الوضعية فلا يرضى إلّا بالفسخ.

مضافا إلى أنّ اللازم ردّ الوضعية على المشتري أيضا بعد بطلان الإقامة مع أنّه لم يصرّح به في الرواية مع كونها في مقام البيان، و لكن الإنصاف إمكان الاستدلال بالصحيحة، و دفع هذه الإشكالات ممكن.

السابعة: ما ورد حول السمسار

ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه «1» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السمسار أ يشتري بالأجر فيدفع إليه الورق و يشترط عليه أنّك تأتي بما تشتري، فما شئت أخذته، و ما شئت تركته، فيذهب فيشتري ثم يأتي بالمتاع فيقول: خذ ما رضيت، ودع ما كرهت؟ قال عليه السّلام: لا بأس» «2».

و ذكر فيه احتمالات ثلاثة: «أحدها»: اقتراض السمسار على نفسه ثم البيع لنفسه و جعله تحت اختيار المقرض.

«ثانيها»: اشترائه لصاحب المال وكالة مع الخيار.

«ثالثها»: البيع له فضوليا

فما شاء أخذه و اجازه و ما شاء تركه و ردّه و ترك استفصال الإمام عليه السّلام دليل على العموم.

و فيه: إن ظاهر قوله يشتري بالأجر كونه وكيلا عن صاحب المال، فيشتري وكالة مع الخيار، و حمله على بيان أصل حرفته لا خصوص مورد السؤال، تكلّف محض، لا سيما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 267

مع ذكر جميع الأفعال فيه بصورة المضارع الدال على الاستمرار.

هذا مضافا إلى ذكر عنوان السمسار، فانّه- كما في لسان العرب- هو الذي يتوكل من الحاضرة للبادية فيبيع لهم ما يجلبونه. (انتهى) (و هو الذي يعرف بالدلال عندنا).

أضف إلى ذلك أنّه يحتمل أن يكون الموضوع معروفا عندهم في تلك الأزمنة، فكيف يستفاد من ترك الاستفصال فيه العموم؟

الثامنة: ما ورد من التعليل في الباب نكاح العبد بغير إذن مولاه

ورد أنّه لم يعص اللّه بل عصى سيده، فإذا أجازة جاز (دلّ على أنّ المانع هو عصيان اللّه، و أمّا رضا السيد فيجوز احرازه بعدا) مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام و رواية اخرى له في نفس الباب «1».

و الأولى منهما الصحيحة، و هذا التعليل جار في الفضولي بعينه فانّه لم يعص اللّه (بعد عدم إتيانه ببيع محرم) فيصح البيع باجازة المالك و رضاه.

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ العقد هنا صدر عن مالك العقد و هو الزوج و إن كان الحمل متعلقا لحق الغير، بخلاف عقد الفضولي فانّه صدر عن غير مالكه و لا يصح قياس أحدهما على الآخر.

التاسعة: النصوص الواردة في الباب الخمس

و هي ما أشار إليه في الجواهر من النصوص الواردة في الباب الخمس المشتمل بعضها على التصرف فيه من بعض الشيعة و طلب الإجازة من الإمام عليه السّلام فاجازه عليه السّلام أو غيرها من النصوص التي هي كذلك في غير الخمس ممّا لهم الولاية فيه، بل في نصوص المناكح و المساكن أنّهم عليه السّلام اجازوا ذلك لجميع شيعتهم «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 268

و محل الشاهد منه قوله عليه السّلام بعد قول الراوي: «إن أبي كان ممن سباه بنو امية و قد علمت أن بني امية لم يكن لهم أن يحرموا و لا يحللوا و إنّما ذلك لكم، فإذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد عليّ عقلي ما أنا فيه، قال: أنت في حل ممّا كان من ذلك و كل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حل ذلك». (انتهى محل الحاجة منها).

و يمكن حمل جميع ذلك على الإذن السابق بالنسبة إلى من يتصرف في المستقبل،

إلّا أنّ ذلك لا يخلو عن بعد بالنسبة إلى بعضها مثل ما اشرنا إليه من روايات الأنفال الواردة في النكاح كما لا يخفى بل ظاهرها كون الإجازة كاشفة.

العاشرة: ما دلّ على أنّ من خان في الوديعة و أنكرها

من خان في الودية و أنكرها، ثم جاء بها بعد سنين مع ربح ربحه في مال الوديعة يجوز أخذ ربحه منه، و من المعلوم أنّه لا يتمّ إلّا على صحة الفضولي.

مثل ما روى أبو سيار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أني كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه و حلف لي عليه ثم جاء بعد ذلك سنين بالمال الذي كنت استودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه، و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك ...

و أتيت حتى استطلع رأيك فما ترى؟ قال: فقال عليه السّلام: خذ الربح و أعطه النصف و أحله» الحديث «1».

و دلالته على المقصود واضحة ظاهرة و لكن في سنده «الحسن بن عمارة» و هو مجهول في رجالنا.

الحادية عشرة: ما ورد في امضاء الورثة الوصية الزائدة على الثلث بعد وفات الميت

و من المعلوم أنّها ليست إلّا من قبيل الفضولي.

مثل ما روى أحمد بن محمد قال: «كتب أحمد بن اسحاق إلى أبي الحسن عليه السّلام أنّ ردة بنت مقاتل توفيت و تركت ضيعة أشقاصا في مواضع، و أوصت لسيدنا في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثلث، إلى أن قال: فكتب عليه السّلام بخطه: ليس يجب لها في تركتها إلّا الثلث و إن تفضلتم و كنتم الورثة كان جائزا لكم إن شاء اللّه» «1».

و هي رواية صحيحة ظاهرا و في سندها جمع من الاجلاء منهم أحمد بن اسحاق القمي من خاصة أبي محمد العسكري عليه السّلام و شيخ القميين و كان ممن رأى صاحب الأمر عليه آلاف التحية و الثناء.

و دلالتها على المقصود ظاهرة، إلّا أنّ التعدي من موردها إلى غيره مع أن أمر الوصية أسهل لا يخلو عن إشكال.

الثانية عشرة: ما ورد في جواز التصدق بمجهول المالك

و أنّه إذا جاء صاحبها و رضى كانت الصدقة له مثل ما روى على بن جعفر عن أخيه قال:

«و سألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرّفها سنة ثم يتصدق بها فيأتي صاحبها، ما حال الذي تصدق بها ... قال عليه السّلام: هو ضامن لها و الأجر له إلّا أن يرضى صاحبها فيدعها و الأجر له» «2» و يدل عليه الحديث الأوّل من الباب 18 منه أيضا.

و لا أقل من صحة سند الحديث الأوّل، و ظاهرها في بدو النظر أنّه لو رضي بالصدقة كانت الصدقة له فانّ الأجر لا يكون له بدون إمضاء الصدقة بعد وقوعها، و هذا دليل على صحة الفضولي أيضا، مضافا إلى أنّ الضمان لا يرتفع عن اللاقط إلّا بذلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 270

نعم، يمكن أن يقال بأن المراد منه إبراء الضامن من ضمانه في مقابل

اهداء أجر الصدقة له، و لكنه بعيد عن لحن الحديث و يحتاج إلى تكلّف، فالاستدلال به ليس ببعيد سندا و دلالة.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التعدي عن الصدقة إلى البيع و غيره من أشباهه غير ثابت هذا و إلغاء الخصوصية ليس ببعيد بعد عدم كون أبواب العقود من الامور التعبدية المحضة.

إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبع.

هذا غاية ما أردنا ذكره في المقام، و يتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ العمدة في المقام مضافا إلى كون صحة الفضولي موافقا للقواعد الثابتة من الشريعة امور:

1- حديث عروة البارقي.

2- فحوى ما ورد في النكاح (ذكرناه تحت الرقم الثالث).

3- صحيحة الحلبي (ذكرناها تحت الرقم السادس).

4- ما ورد في باب تحليل الخمس (ذكرناها تحت الرقم التاسع).

5- ما ورد في الوديعة، مع قطع النظر عن ضعف السند (الرقم العاشر).

6- ما ورد في صدقة مجهول المالك (الرقم الثاني عشر).

بقي هنا شي ء: و هو أنّه يجوز الاستدلال لصحة الفضولي بجريان السيرة المستمرة بين العقلاء من أهل الشرع و غيرهم أيضا و جعلها دليلا مستقلا على المقصود، لأنا نجد موارد كثيرة يقع فيها البيع الفضولي و غيره ثم تلحقها الإجازة، و ذلك كثيرا ما يكون من ناحية الوكيل أو العامل أو الولي إذا خرجوا عن حدود وكالتهم و ولايتهم و عقد المضاربة و شبهها كما وقع ذلك من عروة البارقي، و بالنسبة إلى ما كان متعلقا لحق الغير كما في مورد بيع العين المرهونة، أو تصرف المحجور في أمواله، و بالنسبة إلى الوصية الزائدة على الثلث و ما أشبهها و هو كثير جدّا لا يكاد ينكر.

و لم يرد هناك ردع من ناحية الشارع المقدس قطعا بل قد عرفت إمضائه بشتى البيان و إن

لم يكن إليه حاجة.

فالمسألة بحمد اللّه خالية عن شوب الإشكال و صافية عن النقص و الإبهام.

أدلة القائلين ببطلان الفضولي

و استدل القائلون بفساده- و قد عرفت أنّهم أفراد قليلون- بامور:

1- «الأصل» و هو اصالة الفساد الثابتة في جميع أبواب المعاملات، فانّ الأصل يقتضي عدم النقل و الانتقال إلّا بسبب معلوم.

و فيه: أنّه منتقض بالأدلة الكثيرة السابقة لا سيما العمومات الناقضة له.

2- «الإجماع» المذكور في كلمات الشيخ الطوسي قدّس سرّه و غير، قال في الخلاف ما لفظه:

«إذا باع إنسان ملك غيره بغير اذنه كان البيع باطلا ... دليلنا إجماع الفرقة، و من خالف منهم لا يعتد بقوله، و لأنّه لا خلاف انه ممنوع من التصرف في ملك غيره و البيع تصرف (انتهى محل الحاجة) «1».

و الأوّل إجماع على خصوص محل الكلام، و الثاني من قبيل الإجماع على القاعدة، و قد ذكر الإجماع في مفتاح الكرامة في عداد أدلة القائلين بالبطلان «2».

و كلاهما كما ترى، أمّا الأوّل فلما عرفت من ذهاب المعظم إلى الصحة بل الشيخ نفسه أفتى في بعض كتبه بذلك، و أمّا الثاني فلأن مجرّد إجراء الصيغة مع انتظار رضى المالك ليس من التصرفات الممنوعة، إنّما الممنوع التصرف الخارجي أو إجراء الصيغة بلا انتظار رضا مالكه مع إشكال فيه أيضا.

3- «الآية» الدالة على لزوم كون التجارة عن تراض «3».

فانّها ظاهرة في وجوب كون التجارة صادقة عن الرضا من الطرفين، فإذا لم تكن كذلك كانت باطلة و إن لحقها الرضا بعد ذلك.

و قد أجاب عنها شيخنا الأعظم قدّس سرّه بوجهين:

أحدهما: أنّه لا دلالة على الحصر بعد كون الاستثناء منقطعا، و لو كان الاستدلال بمفهوم الوصف في مقام التحديد في قوله تعالى: تِجارَةً عَنْ تَراضٍ أمكن حمله على القيد

انوار الفقاهة،

ج 1، ص: 272

الغالبي، مضافا إلى إمكان حمله على كون «عن تراض» خبرا بعد خبر فلا دلالة له على مطلوبهم.

ثانيهما: إنّ الخطاب للمالكين و العقد إنّما يكون عقدا للمالك بعد إجازته و العمدة هو الأخير، و حاصله ما عرفت سابقا من أنّ أدلة لزوم الوفاء بالعقود و شبهها إنّما تشمل العقد المستند إلى كل إنسان، و من الواضح أنّ عقد الفضولي لا يكون عقد للمالك إلّا بعد إجازته، و حينئذ يكون ناشئا عن رضاه كما هو ظاهر.

و أمّا ظهور الآية في الحصر فلا ينكر و إن كان الاستثناء منقطعا، و كذا كون «عن تراض» وصفا في مقام الاحتراز و احتمال كونه خبرا بعد خبر بعيد جدّا.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ طريق الحلية و نفي كون الأكل أكلا للباطل لا ينحصر في التجارة بل الهبة و القرض و الجعالة و الصلح و الإرث و الوقف و غيرها من أشباهها طريق الحلية، فلو حمل على الحصر لزم تخصيص الأكثر.

و يمكن الجواب عنه بأنّ الحصر ناظر إلى تداول الأموال بين المسلمين من طريق الكسب و الاكتساب و عمدتها هي التجارة، و أمّا الهبة و شبهها امور نادرة بالنسبة إليها ليست من طريق الكسب و الاكتساب العام.

4- «أنّه تصرف في ملك الغير» و هذا التصرف قبيح عقلا و داخل في عنوان الظلم، كما أشرنا إليه إجمالا عند ذكر الإجماع، و قد أخذ هنا كدليل عقلي على المطلوب.

و فيه: ما قد عرفت من عدم القبح في مجرّد إجراء الصيغة لمن ينتظر إجازة المالك كما هو محل البحث، بل و لو لم يكن منتظرا لإجازته كما في بيع الغاصب لنفسه و تسليم قبحه كما قد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس

سرّه فانّه دليل، إلّا من باب التجري على القول بقبحه، و أمّا التصرفات الاخرى فالمفروض عدمها قبل تحقّق الرضا كما لا يخفى.

و قد يجاب عنه أيضا بأنّ الحرمة على فرض ثبوتها لا تدلّ على الفساد في باب المعاملات، مع أنّه لو دلت عليه لدلّت على الفساد بمعنى بطلان البيع مع استقلاله و هو مفروغ عنه بين الجميع، و أمّا مع الرضا و الإجازة فلا.

و لكن يرد على الوجه الأول: أنّ المختار دلالة النهي في المعاملات على الفساد إذا كان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 273

راجعا إلى المسبب أو التسبيب، لأنّ الشارع الحكيم إذا أبغض شيئا من هذه الامور الاعتبارية لا يمضيها، و من الواضح أنّ القبح هنا إنّما هو من جهة تسبيب العقد للملكية، فالنهي فيه يدل على الفساد.

و أمّا عن الوجه الثاني: فلأنّ النهي عنه يدل على الفساد بمعنى عدم صلاحيته للحوق الرضا لا عدم تأثيره باستقلاله، لأنّ هذا ليس من آثاره قبل النهي، حتى يرتفع بالنهي، و الحاصل أنّ الحرمة مانعة عن الصحة التأهلية لا الاستقلالية، لعدم الترقب منه حتى مع قطع النظر عن الحرمة، فتأمل.

5- «ما حكاه في مفتاح الكرامة و غيره» أنّ من شرائط صحة البيع قدرة البائع على التسليم و هي هنا غير حاصلة «1».

و ممن استدل به «ابن قدامة» في «المغني» حيث ذكر في دليل البطلان بعد حديث حكيم بن حزام قوله: «و لأنّه باع ما لا يقدر على تسليمه، فاشبه ببيع الطير في الهواء» «2».

و الجواب عنه ظاهر، أمّا أولا: فانّ على التسليم إنّما تكون معتبرة عند حصول النقل و الانتقال، لا عند إجراء صيغة العقد إذا لم يتمّ شرائط الانتقال، لعدم الدليل على أزيد منه، فيكون كبيع السلف،

فهل يشترط فيه القدرة عند العقد، أو عند الأداء؟ و كذا في غير من أشباهه من الإجارة على فعل شي ء بل النذر و أشباهه.

و قد نقض عليه بما إذا كان قادرا على تسليمه لنفوذ رأيه في المالك و قبوله منه قطعا.

و فيه: إنّ هذا قضية خاصة لا يصح الركون عليه في حكم كلي مثل ما في المقام.

6- «الأحاديث الواردة في المسألة»:

منها: ما حكاه الفريقين في كتبهم عن «حكيم بن حزام» أنّه نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله عن بيع ما ليس عنده.

ذكره ابن ماجة في سننه «3» و كذا الترمذي في صحيحه «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 274

و حكاه المحقق العاملي قدّس سرّه في مفتاح الكرامة بعنوان أخبار عامية «1».

و النراقي قدّس سرّه في المستند «2».

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه النبوي المستفيض: و هو قوله: صلّى اللّه عليه و آله لحكيم بن حزام «لا تبع ما ليس عندك».

و الظاهر أنّهم تلقوه بالقبول، و لعل هذا كاف في انجبار سنده.

و قد روى هذا من طرقنا أيضا عن الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام في مناهي النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و نهى عن بيع ما ليس عندك و نهى عن بيع و سلف» «3».

و عن سليمان بن صالح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إلى أن قال:

«نهى عن بيع ما ليس عندك» «4».

و لعل المراد من النهي عن «بيع و سلف»، أن يبيع شيئا كليا سلفا مع عين شخص ليس عنده، و بيان الاستدلال به أنّ عدم الحضور عنده كناية عن عدم كونه مالكا له.

و الجواب عنه: أنّه يحتمل امورا:

أحدها: أن

يبيع شيئا بعينه، يكون ملكا لآخر ثم يذهب ليشتري منه و يبيعه، و هذا باطل قطعا للغرر و غيره.

ثانيها: أن يبيع مثل السمك في الماء و الطير في الهواء ممّا ليس عنده، و هو أيضا باطل.

ثالثها: أن يبيع بيعا كليا حاليا مع أنّه ليس شي ء من أفراد الكلي عنده، بل يريد شراءه من غيره و قد لا يبيعه و لا يقدر على تسليمه، و هو أيضا قابل للكلام.

و جميع ذلك إنّما هو في ما إذا باع شيئا لنفسه ليس يملكه، و أمّا البيع لمالكه مع انتظار إجازته فهو خارج عن نطاقه، فلا دخل لهذه الروايات بمسألة الفضولي.

و إن شئت قلت: البيع الفضولي لا يكون بيعا تاما إلّا مع الإجازة فإذا تمّ و كمل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 275

و انتسب إلى المالك دخل في بيع ما هو موجود عنده، فلا يشمله ما دلّ على النهي عن بيع ما ليس عنده مطلقا.

و ممّا يدل على صحة بيع الكلي الذي عنده سواء كان حالا أو سلفا و يكون قرينة على أنّ المراد بالبيع في الروايات السابقة خصوص بيع عين شخصي ليس عنده لنفسه، ما روى اسحاق بن عمار و عبد الرحمن بن الحجاج جميعا قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده، فيشتري منه حالا، قال: ليس به بأس، قلت:

إنّهم يفسدونه عندنا، قال: و أي شي ء يقولون في السلم؟ قلت: لا يرون به بأسا» الحديث «1».

و ما روى عبد الرحمن بن الحجاج قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يجيئني يطلب المتاع فأقاوله على الربح ثم أشتريه فأبيعه منه، فقال: أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك؟

قلت: بلى،

قال: فلا بأس به» الحديث «2».

و ما رواه أبو الصباح الكناني عن الصادق عليه السّلام «في رجل اشترى من رجل مائة منّ صفرا بكذا و كذا و ليس عنده ما اشترى منه قال: لا بأس به إذا وفاه الذي اشترط عليه» «3».

و منها: ما رواه المخالفون في كتبهم من قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا طلاق إلّا فيما يملك و لا عتق إلّا فيما يملك و لا بيع إلّا فيما يملك».

رواه في الخلاف في كتاب البيع في المسألة 275 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عنه صلّى اللّه عليه و آله و اعتمد عليه في إثبات مدعاه في بطلان الفضولي مع أدلة اخرى.

و في معناه روايات متظافرة وردت من طرقنا:

منها: ما رواه محمد بن القاسم بن الفضيل عن أبي الحسن الأول و في آخره: ليمنعها أشد المنع فانّها باعته ما لم تملكه «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 276

و منها: ما رواه اسحاق بن عمار عن عبد الصالح عليه السّلام و في ذيلها «ما أحبّ أن يبيع ما ليس له» «1».

و منها: مكاتبة الحميري إلى صاحب الزمان (عليه آلاف التحية و الثناء) و في ذيلها «الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضى منه» «2».

منها: مكاتبة محمد بن الحسن الصفار إلى العسكري عليه السّلام و في ذيلها «لا يجوز بيع ما ليس يملك و قد وجب الشراء من البائع على ما يملك» «3».

و تظافرها يغنى عن ملاحظة اسنادها.

و أمّا تقريب الاستدلال بها فهو أنّ الفضولي يبيع ما ليس يملكه و ما ليس له، فهو باطل.

و جوابه يظهر ممّا مرّ في سابقها، و هو أن مورد جميعها بيع العين المملوكة من قبل

من لا يملكها، حتى الحديث النبوي، بقرينة ذكر الطلاق و العتق اللذين لا يتعلقان بالكلي قطعا، فالمراد منها أنّه لا يجوز بيع عين مملوكة من قبل من لا يملكها لنفسه، بل صريح كثير منها و ظاهر بعضها أنّه باع شي ء لنفسه من دون أن يملكه بعد ذلك، و فساده ظاهر، بل و إن ملكه و إجازة كان خارجا عن محل الكلام، فانه فيما إذا باع للمالك متوقعا لإجازته ثم أجازه بعد ذلك، و لا دخل لهذه الإخبار به قطعا.

إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاولى من مسائل الفضولي.

المسألة الثانية: إذا سبق المنع من المالك

و هي ما إذا سبق من المالك المنع عنه، ثم رضي المالك فأجاز المعاملة، و حكى عن المشهور صحتها أيضا، و لكن عن فخر المحققين قدّس سرّه حكاية القول بالبطلان عن بعض من لم يسمه، و أمّا ما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من المنع من كلام العلّامة قدّس سرّه في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 277

التذكرة بقوله و يلوح إليه ما عن التذكرة في باب النكاح من جملة النبوي «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» بعد تضعيف السند على أنّه نكح بعد مولاه و كراهته فانّه يقع باطلا (انتهى) فالانصاف أنّه لا دلالة على مخالفته في المسألة بل لعل مراده نهى المولى عنه مطلقا و عدم اجازته بعد ذلك، و النكاح معه واضح البطلان.

و على كل حال فالمعدة في المسألة ملاحظة الأدلة السابقة حتى يعلم أيّها عام يشملها أيضا، و أيّها مختص بالمسألة الاولى، و هي ما لم ينه عنه المالك.

فنقول: و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية: أمّا القاعدة المستفادة من العمومات فالظاهر أنّها شاملة لما نحن بصدده، لأنّ العمدة فيها هو

لحوق الإجازة و انتساب العقد إلى المالك و المنع السابق لا أثر له في هذا الأمر، بل كثيرا ما يتفق في الخارج أن المالك يمنع عن بيع لكن الدلال أو شبهه يساوم و يعاقد البيع مع المشتري علما بانّه إذا علم به المالك يرضى و يجيز، و هكذا بالنسبة إلى عقد الباكرة الرشيدة أو غير الرشيدة بالنسبة إلى اجازة الولي لو قلنا باشتراطه بها، و كذلك العبد بالنسبة إلى مولاه.

و أمّا الروايات الخاصة الواردة في الفضولي فرواية «عروة» «و حكيم بن حزام» الظاهر اختصاصهما بغير ما نحن فيه.

أمّا رواية «محمد بن قيس» فليس فيها تصريح بالنهي، إلّا أن ردّ البيع الفضولي قد يكشف عنه فتأمل، مضافا إلى أن الردّ اللاحق إذا لم يكن مانعا فالنهي السابق بطريق أولى.

أمّا روايات النكاح الفضولي فما كان ناظرا إلى نكاح العبد بغير إذن سيده لعله شامل لمحل الكلام لا سيما مع التعليل بقوله إنّما عصى سيده و لم يعص اللّه فإذا أجاز فهو له جائز «1».

قد يقال: أنّه يدل عليه أيضا روايات باب المضاربة، فان العامل إذا اشترط عليه شي ء و خالفه كان من مصاديق النهي عن المعاملة بدونه، و لكن قد عرفت عدم دلالتها على صحة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 278

الفضولي، و أنّ أصل المعاملة ليست فضوليا لأنّ مخالفته للشرط إنّما هي من جهة اخراجه المال عن البلد مثلا و جعله معرضا للتلف الذي هو موجب للضمان، و لا دخل له بأصل المعاملة، فراجع ما ذكرناه آنفا.

و يمكن الاستدلال له أيضا بما ورد في روايات تحليل الخمس، فان موردها تصرف الخمس من ناحية الغاصبين من بني امية و نظرائهم، و هو من أظهر مصاديق المسألة، بل و يمكن الاستدلال

من حكم الغاصب على ما نحن فيه بالأولوية كما لا يخفى.

و كذا يستدل له بما ورد في باب من خان في الوديعة و أنكرها، ثم اتجر بها ثم تاب و جاء بها مع ربحها، لأن هذا الخائن كان ممنوعا و منهيا عن المعاملة معها و لو بشهادة الحال، و لكن قد عرفت ضعف سندها بالحسن بن عمارة فراجع «1».

و ممّا يمكن الاستيناس منه على المقصود، صحة عقد المكره بعد لحوق الرضا فان المالك كان كارها عند العقد بل و ما بعده إلى أن لحقه الرضا، اللّهم إلّا أن يقال: فرق ظاهر بينه و بين ما نحن فيه، لأن العقد صدر من أهله مستندا إليه و إنّما فقد بعض شرائطه و هو الرضا، بخلاف ما نحن بصدده، لأن العقد غير مستند إلى المالك أصلا إلّا بالاجازة اللاحقة و تأثيرها محل كلام، فتأمل.

إن قلت: قد اجمعوا على أنّ الإجازة بعد الردّ غير نافعة لأنّه من قبيل الفسخ، و إذا نهى المالك و كان مستمرا إلى ما بعد العقد و لو آنا ما، كان في حكم الردّ فلا تنفعه الإجازة اللاحقة.

قلنا: أولا: الإجماع هنا غير ثابت كما سيأتي إن شاء اللّه و كون الردّ مانعا، غير ثابت.

و ثانيا: هذا إذا كان بعنوان إنشاء فسخ و ابطال، لا مجرّد الكراهة الباقية عن النهي السابق، و الحاصل إن صحة الفضولي هنا أيضا ظاهرة.

المسألة الثالثة: بيع الفضولي لنفسه
اشارة

و قد ذكروا هذه المسألة غالبا تحت عنوان «بيع الغاصب» و لكن قد يتصور فيه الغاصب كالمشتبه.

و الأكثر كما حكاه في مفتاح الكرامة عن الإيضاح أن بيع الغاصب من أفراد الفضولي، و به صرح في التذكرة و المختلف و نهاية الأحكام و الدروس و حواشي الشهيد و

التنقيح و جامع المقاصد و غيرها «1».

و قال: ابن قدامة «المغنى» «تصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي على ما ذكرنا من الروايتين، أحدهما بطلانها و الثانية صحتها و وقوفها على اجازة المالك».

ثم حكى عن أبي الخطاب: «إن في تصرفات الغاصب الحكمية رواية أنّها تقع صحيحة و سواء في ذلك العبادات ... أو العقود كالبيع و الإجارة و النكاح، و هذا ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المالك، و أمّا ما لم يدركه المالك فوجه التصحيح فيه أنّ الغاصب تطول مدّته و تكثير تصرفاته ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير و ربّما عاد الضرر على المالك، فان الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك و العوض بنمائه و زيادته له، و الحكم ببطلانه يمنع ذلك» «2».

و كيف كان، التعبير في كلام الإيضاح بالأكثر دليل على مخالفة جماعة في خصوص هذا القسم كما يظهر من بعض العبارات التفصيل بين صورة علم المشتري بالغصبية فلا تصح، و بين صورة جهله فتصح، فاذن المسألة ذات أقوال ثلاثة: القول بالصحة في المقامين، و القول بالبطلان كذلك، و التفصيل بين صورتي الجهل و العلم.

فلنرجع إلى الأدلة: الإنصاف أنّ كثيرا من «الأدلة السبعة» التي اخترناها في الفضولي يجرى هنا، أمّا القاعدة فالظاهر أنّها شاملة بعد كون هذا العقد من مصاديق العقود بعد لحوق اجازة المالك، لما قد عرفت من أنّ العمدة أنّ الإنشاء صدر صحيحا، و بعد لحوق الإجازة يصح استناده إلى المالك فيكون العقد عقده.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 280

أمّا حديث «عروة» و «حكيم بن حزام» فلا يشملان المقام، و كذا صحيحة «الحلبي» و ما ورد في صدقة مجهول المالك.

أمّا صحيحة محمد بن قيس فالمورد من مصاديقه الظاهرة، لكون الابن غاصبا قطعا، و كذا

ما ورد في باب تحليل الخمس بالنسبة إلى ما غصبه الغاصبون من بني امية و نظرائهم لعنة اللّه عليهم أجمعين، إذا وقع في أيدي المؤمنين بعد وقوع البيع عليه و كذلك ما ورد في باب الخيانة في الوديعة.

و ما استدل به للبطلان امور:

الأوّل: و هو العمدة- أنّ الفضولي غير قاصد لحقيقة البيع، لأنّ البيع هو اخراج المعوض عن ملك من يدخل في ملكه العوض، و بعبارة اخرى: تبديل علاقة الملكية و استقرار كل في محل الآخر، لأنّ حقيقة المعاوضة و المبادلة لا تتحقق إلّا بذلك، و هذا المعنى غير موجود في البيع لنفسه، فما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

و لذا قال: بعض الأعلام في مكاسبه ما لفظه: «إن ماهية البيع عبارة عن تبادل المالين في الملكية أو تمليك العين بالعوض ... و لا يمكن للفضولي في البيع لنفسه قصد هذا المعنى جدّا لا التمليك الجدي فعلا و لا تملك الثمن كذلك».

و أجاب عن الإشكال شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بما حاصله: «إن الغاصب و إن كان يقصد وقوع المعاملة لنفسه و لكنه بعد جعل نفسه مالكا ادعاء ففي الحقيقة يبيع للمالك و لكن يرى نفسه مصداقا له».

و أورد عليه السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بأنّ هذا الجعل و لو كان غالبيا و لكن ليس دائما فلا بدّ من الحكم بالفساد عند العلم بعدم هذا الجعل مع أنّه لم ير هذا التفصيل من أحد من القائلين به، مضافا إلى أنّه لا بدّ من احرازه عند الشك، و هو مشكل لعدم إمكان حمل فعله على الصحة.

ثم ذكر في طريق حل المسألة أنّ حقيقة البيع هي مبادلة مال بمال، و هذا هو الذي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 281

يعتبر في

قوامه، و أمّا المال فممن ينتقل؟ و إلى من ينتقل؟ فلا دخل له في حقيقتها و لذا لا يعتبر احراز كون البائع مالكا أو وكيلا أو وليا على المالك (و لو لا ذلك وجب احرازه).

قلت: الاتصاف أنّ هذا الجعل أمرا كثير المئونة، بل كل غاصب إذا كان في مقام البيع يرى نفسه مالكا، و إن شئت قلت: لا شك في أنّ الغاصب عند بيعه يكون قاصدا جدّا للبيع، و ليس هازلا، و لا قاصدا للبيع، الصوري، و هذا لا ينفك عن الجعل المذكور لو قلنا بأن حقيقة البيع هي دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، و قد عرفت أن هذا الجعل أمر خفيف المئونة جدّا.

نعم، ما أفاده من أنّ حقيقة البيع ليست إلّا مبادلة مال بمال، أمر ظاهر لا ينكر و لكن بما أنّ المال هنا بمعنى الملك و الملكية لا تنفك عن مالك، كان لازمه ادخال العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض كما لا يخفى على المتدبر.

هذا كله إذا قلنا بأنّه لا يمكن دخول العوض في غير ملك من خرج المعوض عن ملكه، أمّا لو قلنا بجواز ذلك مثل ما إذا قال: اشتر بهذا الدينار لباسا لنفسك، أشكل الأمر هنا، لأنّ الفضولي إذا قصد نفسه مالكا للعوض من هذا الطريق لم يمكن لحوق الإجازة، و لكن صحة هذا المعنى محل نظر، مضافا إلى أنّ الفضولي الغاصب ليس كذلك بل يرى نفسه مالكا.

فتلخص من جميع ما ذكر إمكان تصحيح بيع الفضولي إذا قصد لنفسه من طريقين؛ من طريق ادعاء الغاصب كونه مالكا للمعوض و جعل نفسه بمنزلة المالك (و أوضح حالا منه المشتبه الذي يرى نفسه مالكا) و من طريق

كون حقيقة البيع مبادلة مال بمال من دون نظر إلى المالكين و إن كان يشملهما بالدلالة الالتزامية.

هذا كله إذا كان المتاع غاصبا، و لو كان المشتري غاصبا و البائع أصيلا، فقال المشتري: تملكت هذا المتاع منك بهذه الدراهم فقد يستشكل في صحته بعد اجازة المالك، لأنّ المشتري إنّما قصد التملك لنفسه، و الانصاف أنّه لا فرق بينه و بين الصورة السابقة، و كذا لا فرق بين قول المشتري «تملكت ...» و قول البائع الأصيل «ملكتك هذا بهذه الدراهم» و يجري ما ذكرنا من تصحيح المعاملة بالوجهين السابقين فيهما أيضا، من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 282

دون أي فرق بينهما و بين غيرهما كما لا يخفى.

الثاني: أن هذا المسألة داخلة فيما سبق من صدور المعاملة بعد نهي المالك، لأن الغصب امارة النهي و عدم الرضا و لو بشهادة الحال.

و فيه: مضافا إلى أنّ هذا الدليل أخص من المدعى، ما عرفت سابقا من صحة الفضولي على ذلك النحو أيضا إذا لحقته الإجازة.

الثالث: الأخبار الكثيرة التي استدل بها القائلون ببطلان الفضولي تارة في المسألة الاولى، أعني ما إذا باع الفضولي للمالك، و اخرى في هذا المسألة اعني ما إذا باع انفسه.

و قد تفطن لذلك صاحب الحدائق حيث أورد على نفسه بعد ذكر هذه الأخبار بقوله «إن قلت: إن البيع الفضولي عند الأصحاب هو أن يبيع مال غيره أو يشتري بأن يكون ذلك البيع و الشراء للمالك لكنه من غير اذنه و لا رضاه و ما دلت عليه هذه الأخبار إنّما هو البيع أو الشراء لنفسه لا للمالك».

ثم أجاب عن الإشكال: أولا: بأن محل نزاع الأصحاب أعم، و ثانيا: بأن السؤالات الواردة في الأخبار و إن كانت في خصوص هذه

الصورة، و لكن يستفاد من الجواب الأعم منه «1».

و على كل حال هذه الروايات كثيرة.

1- منها ما رواه محمد بن الحسن الصفار أنّه كتب إلى أبي محمد الحسن بن على العسكري عليه السّلام «في رجل له قطاع أرضين فيحضره الخروج إلى مكّة، و القرية على مراحل من منزله و لم يكن له من المقام ما يأتي بحدود أرضه، و عرّف حدود القرية الأربعة فقال للشهود: اشهدوا أني قد بعت فلانا يعني المشتري جميع القرية الّتي حدّ منها كذا ... فوقع عليه السّلام: لا يجوز بيع ما ليس يملك، و قد وجب الشراء من البائع على ما يملك» «2».

2- ما رواه محمد بن القاسم بن الفضل قال: «سألت أبا الحسن الأول عليه السّلام عن رجل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 283

اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم، و كتب عليها كتابا بأنّها قد قبضت المال و لم يقبضه، فيعطيها المال أ يمنعها؟ قال عليه السّلام: قل (فليقل) له ليمنعها أشد المنع فانّها باعته ما لم تملكه» «1».

3- ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، و أهل الأرض يقولون: هي أرضهم ... فقال لا تشترها إلّا برضا أهلها» «2».

4- و ما رواه الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه السّلام: «أن بعض أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسلطان ... فأجابه الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضى منه» «3».

5- ما رواه شعيب بن واقد عن الحسن بن زيد عن الصادق عن آبائه عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث المناهي

قال: «و من اشترى خيانة و هو يعلم فهو كالذي خانها» «4».

6- ما رواه أبو بصير قال: «سألت أحدهما عليه السّلام عن شراء الخيانة و السرقة، قال لا إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره فأما السرقة بعينها فلا» الحديث «5».

7- ما رواه جراح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يصلح شراء السرقة و الخيانة إذا عرفت» «6».

8- و ما رواه على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل سرق جارية ثم باعها يحل فرجها لمن اشتراها؟ قال: إذا أنبأهم أنّها سرقة فلا يحل و إن لم يعلم فلا بأس» «7».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 284

9- ما رواه سماعة في نفس الباب.

10- ما رواه زريق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل مذكور في الباب الثالث من أبواب عقد البيع فليراجع.

فهذه عشر روايات استدل بها في الحدائق على البطلان في المسألتين، و إنّما أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه إلى شي ء قليل منها فقط و لم يذكر الباقي.

و لكن الجواب عن جميعها ظاهر، فانّها بأجمعها ناظرة إلى بيع الغاصب أو المشتبه مال غيره لنفسه، و أنّه لا يقع له و يكون باطلا من هذه الجهة، من دون أن تكون ناظرة إلى لحوق الإجازة و وقوع البيع للمالك، و العجب أن صاحب الحدائق (قدس سره الشريف) لم يتفطن له حتى زعم أن الأصحاب غفلوا عن ذلك.

بقي هنا امور:
الأوّل: قد ظهر ما ذكرنا أنّه لا فرق بين كون الغاصب الفضولي بايعا لمال غيره أو مشتريا بمال غيره شيئا

، كما أنّه لا فرق بين أن يكون إنشاء المشتري هنا بقول: تملكت منك هذا بهذا، و بين غيره من عبارات الإنشاء، و القول بأنه قصد تملك نفسه، فلا يبقى مجال لإجازة المالك مدفوع، لما عرفت من أنّه يجعل

نفسه مالكا ادعائيا، فهو يشتري في الواقع لمالك الثمن لا لنفسه بالخصوص، و إلّا لم يصدر منه قصد إنشاء البيع.

مضافا إلى ما عرفت من أنّ حقيقة البيع مبادلة بين المالين و إنّما يتعين المالكان بتعين المالين.

فلا فرق أصلا بين البائع الفضولي و المشتري الفضولي، و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث فرق بينهما في بعض كلماته و اطنب الكلام هنا بما لا يحتاج إليه بعد عدم الفرق بين الصورتين أصلا.

الثاني: و قد حكي عن بعض الأصحاب طريق آخر لحل مشكل عدم تطابق الإجازة

و العقد الواقع (نظرا إلى أن العقد وقع للفضولي و الإجازة تقع للمالك) و هو أنّ الإجازة إنّما تتضمن تبديل العقد السابق و يجعله للمالك بعد أن كان للفضولي، فهي في الواقع عقد مستأنف (حكى ذلك عن بعض كلمات المحقق القمي قدّس سرّه).

و فيه: «أولا»: أنّه خارج عن محل الكلام بين الأعلام، لأنّ المراد لحوق الإجازة بالعقد السابق و جعله عقدا تاما، و أمّا العقد الجديد فلا يحتاج إلى هذه التفاصيل و لا ينبغي وقوع الخلاف فيه.

و ثانيا: لو كانت الإجازة عقدا جديدا كانت بحكم الايجاب و احتاج العقد إلى قبول جديد، لأنّ القبول السابق لا ينفع كما هو ظاهر.

الثالث: هل يصح اجازة عقد الفضولي، البائع لنفسه أو المشتري لنفسه

، حتى يتمّ العقد لنفس الفضولي (لا للمالك) أم لا؟

حكي عن بعض الأعاظم من شراح القواعد جواز ذلك، و ذكر بعضهم في توجيهه أمرين:

«أحدهما»: إنّ الإجازة كما تكون إجازة للعقد، تكون تمليكا ضمنيا للمال بحيث ينتقل المال إلى الفضولي أولا ثم ينتقل عن ملكه.

«ثانيهما»: أنّه ما المانع عن انتقال المال إلى ملك من لم ينتقل العوض عن ملكه؟ مثل أن يقال: اشتر بهذه الدراهم طعاما أو لباسا لنفسك (انتهى ملخصا).

لكن فساد الوجه الأوّل ظاهر، لأن الإجازة لو تضمنت تمليكا احتاج إلى القبول من ناحية الفضولي و المفروض عدم وجود قبول له لا قبلا و لا بعدا، هذا أولا.

و أمّا ثانيا: إنّ اللازم صدور الإجازة حينئذ من الفضولي نفسه، لأنّه باع ثم ملك فعلية الإجازة حتى يقع البيع له، و لا دخل لإجازة المالك الاصلي لأنّه صار كالأجنبي بعد تمليكه المال للفضولي، و أمّا الوجه الثاني فهو غير بعيد لما عرفت من أنّه أمر واقع بين أهل العرف و العقلاء و له مصاديق كثيرة، و كثيرا

ما يأخذ الغني بيد الفقير و يذهب به إلى السوق و يشتري له بماله لباسا أو قميصا أو نعلا أو شبه ذلك له، أو يذهب به إلى دفتر الاسناد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 286

و يشتري له دارا بتوقيعه السند و هو يعطي ثمنه.

و القول بأنّه يشتري أولا لنفسه ثم يملكه، أو يعطيه الوكالة في التملك قبل البيع أو بعد تملك الثمن أو تملك المثمن، خلاف مرتكز العرف.

و لكن المسألة غير خالية من الإشكال و تحتاج إلى مزيد تأمل كما مرّ.

الرابع: و قد يورد إشكال آخر هنا على صحة بيع الفضولي لنفسه

إذا كان المشتري جاهلا بأنّه غاصب، فانه يقصد تمليك نفس البائع الغاصب، فلا تنفعه الإجازة بعد ذلك، فاللازم التفصيل في المسألة.

و الجواب: يعلم ممّا سبق فانّ المشتري لا يقصد الفضولي بشخصه، بل بما أنّه مصداق للمالك، ففي الحقيقة طرف المعاملة هو المالك، و لذا ترى الوكلاء و الأوصياء و الأولياء لا يزالون يبيعون أو يشترون لمن لهم الولاية أو الوكالة من قبلهم، لا لأنفسهم مع جهل الطرف المقابل بذلك، و لا شك أنّ معاملاتهم صحيحة، و ليس ذلك إلّا لأنّ قصد الطرف المقابل التمليك للمالك الواقعي لا لشخص البائع.

الخامس: و هاهنا تفصيل آخر عكس التفصيل السابق في مسألة الفضولي الغاصب البائع لنفسه

، بين صورة علم المشتري بالحال و جهله، ففي صورة الجهل يصح مع الإجازة، و أمّا في صورة علمه لا يصح، لأنّه يسلط البائع الغاصب على الثمن مع علمه بعدم تملكه، فيكون تسلطا مجانيا، فيكون الثمن له، و حينئذ كيف تصح بعده الإجازة لأنّه يصبح البيع حينئذ بلا ثمن فلا تنفع الإجازة.

و الجواب: يظهر أيضا ممّا تقدم لأن المشتري لا يعطي الثمن إلّا بناء على كون البائع مالكا و إن علم بالغصب، فالاعطاء إنّما هو بعد هذا البناء كما أن إنشاء البيع من قبل الغاصب أيضا يكون بعد هذا البناء.

فكما أنّ الإشكال مندفع في طرف البائع ببنائه على الملكية الادعائية، فكذلك من قبل تسليط المشتري إيّاه على الثمن، و من هنا يعلم أنّ ما يظهر من بعض الأصحاب من عدم كون البائع هنا ضامنا للثمن بعد التسليط المجاني من قبل المشتري كما ترى،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 287

و سنزيدك وضوحا إن شاء اللّه في المباحث الآتية.

السادس: لا إشكال في جريان الفضولي في العين الخارجي، و أمّا الكلي في الذمّة

فان اضيف إلى شخص البائع أو أطلق و كان منصرفا إليه كما هو كذلك، فلا كلام و لا دخل له بالفضولي و أمّا إن اضيف إلى غيره، كما إذا قال: بعتك كذا و كذا من الحنطة في ذمّة زيد بكذا درهما، فهو داخل في الفضولي قطعا، و كذا بالنسبة إلى الثمن إذا اضيف إلى ذمة غير المشتري.

و حينئذ إن أجاز صاحب الذمّة، فالبيع يقع له، و تشمله أدلة صحة الفضولي، لعدم الفرق بين الذمة و العين الشخصي الخارجي في شي ء من أحكامه، و مجرّد كون روايات صحة الفضولي واردة في الاعيان الشخصية لا يضرنا كما هو ظاهر.

إنّما الكلام فيما إذا ردّ صاحب الذمة، فهل تقع المعاملة فاسدة، أو تلزم شخص

البائع و يكون في ذمته؟ و الكلام قد يقع في مقام الإثبات و اخرى في مقام الثبوت ...

اما مقام الإثبات: فان لم يضف الفضولي الذمة إلى غيره صريحا و أطلق في ظاهر كلامه، فلا شك إنّه يلزم ظاهرا، لانصراف الذمة المطلقة إليه، و لا يصغى إلى دعواه أنّه قصد المعاملة لغيره، و لا يدخل فيما لا يعلم من قبله بعد ظهور كلامه في إرادة نفسه، و إلّا لم يتم ظهور في شي ء عن الأقارير و شبهها.

قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب المضاربة: «و كذا يجب أن يشتري بعين المال و لو اشترى في الذمّة لم يصح البيع إلّا مع الاذن، و لو اشترى في الذمة لا معه و لم يذكره تعلق الثمن بذمته ظاهرا».

و ذكر في نفس الكتاب ما نصه: «و إن كان في الذمة (أي شراء العامل) وقع الشراء للعامل إلّا أن يذكر رب المال» و ذكر في الجواهر في شرح هذا الكلام عند قوله «وقع الشراء للعامل» قوله ظاهرا و باطنا، ثم قال ما حاصله: إنّه لو نوى المالك واقعا يكون فضوليا و إن الزم به ظاهرا «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 288

و أمّا بالنسبة إلى مقام الثبوت: فلا شك في أن مقتضى القاعدة الفساد إذا اضاف الذمة إلى غيره و لو في ذهنه بعد عدم اجازة الغير بل ردّه.

و لكن يظهر من كلمات بعض أساطين الفقه صحته و لزومه للبائع و أن الذمة تنصرف إليه قهرا.

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد في كتاب المضاربة: «و لا يشتري (أي العامل) إلّا بعين المال، فان اشترى في الذمة من دون اذن وقع له إن لم يذكر المالك و إلّا بطل» «1».

و ظاهرا العبارة

الوقف له ظاهرا و باطنا، و اظهر منه ما حكي عن تذكرته حيث قال:

«و ان كان- أي الشراء فضولا- في الذمة لغيره، و أطلق اللفظ، قال علماؤنا يقف على الإجازة، فان أجاز صح و لزم أداء الثمن، و إن ردّ نفذ عن المباشر ... و إنّما يصح الشراء لأنّه تصرف في ذمته لا في مال غيره ... فان أجاز لزم و إن ردّه لزم من اشتراه» «2».

هذا و لا ينبغي الشك في عدم نفوذه عن المباشر واقعا إذا قصد الغير، و عدم القدرة على إثباته لا ينافي فساده فيما بينه و بين اللّه، و ثمرته أن الطرف المقابل إن علم بذلك من قرائن خارجية لزم، و لا أثر للحكم الصادر من الحاكم المبني على الظاهر.

كذلك لا ينبغي الشك في أنّه إذا لم يضف الذمة إلى أحد بل أطلقه و لو في قصده و لكن قصد و لكن المعاملة للغير، فان الذمة تضاف إليه قهرا، إمّا لكون حقيقة المبادلة دخول الغوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، و إمّا لانصرافها إلى ذلك و لو قلنا بجواز غيره.

و ما يظهر من بعض العبائر من الترديد فيما ذكر ليس في محله، و أمّا التعليل الوارد في عبارة التذكرة من أنّه تصرف في ذمة الغير لا في ماله فان أجازه لزمه و إلّا لزم من اشتراه، فلم يعلم وجهه.

و الأولى حمل جميع هذه على الصحة الظاهرية، و قد ذكر مثل هذه المعاني في كتاب الوكالة فراجع القواعد و مفتاح الكرامة و الجواهر «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 289

فرع: لو جمع بين المتنافيين بأن قال: اشتريت هذا القميص لفلان بدرهم في ذمتي، أو قال: اشتريت هذا القميص لنفسي بدرهم في

ذمة فلان، فلا محيص عن البطلان في الأوّل، بناء على أن حقيقة المعاوضة كون العوض ملكا لمالك المعوض لتنافي القيدين، و تصحيح المعاملة بالغاء أحد القيدين لا وجه له و ترجيح بلا مرجح.

و أمّا الثاني فهو أيضا كذلك، و ما يتراءى من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه من إمكان دخوله في الفضولي فيقع البيع للغير بعد اجازته و لكن بشرط بنائه على مالكيته في ذمة غيره درهما كما ترى، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المبادلة تكون بين المالين فيكون المعوض لمن أضيف إليه الذمة و يلغي سائر القيود، و حينئذ تصح في الصورتين و تقع لصاحب الذمة، فتأمل جيدا.

السابع: هل تجري المعاطاة في الفضولي أو يختص بالبيع العقدي؟

الظاهر أنّ العمومات التي بني عليها صحة الفضولي شاملة لها من دون أي فرق، كما أن اطلاق الروايات الكثيرة الدالة على صحة أيضا تشملها، لعدم الفصل فيها بينهما، حتى أنّ رواية عروة كذلك، و القول بأنّها ظاهرة في خصوص المعاطاة- كما في بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه- لم نعلم له وجها إلّا أن يقال نظره إلى كون غالب البيوع معاطاتيا.

نعم ربّما تردد في صحتها بعض الأكابر، و يمكن أن يكون ذلك لأمرين:

1- إن المعاطاة تكون بالتراضي و قصد الإباحة أو التمليك، و هذا لا يكون إلّا من المالكين.

2- إنّ المعاطاة لا تكن إلّا بالاعطاء من الطرفين، و هو حرام من ناحية الفضولي فيكون فاسدا.

و لكن يجاب عن الأول: بأنّ مدار المعاطاة كما عرفت في محلها على جعل الإنشاء الفعل بدل الإنشاء القولي و هذا هو قوامها، و الرضا شرط لتأثير هذا الإنشاء، و الفضولي يدور مدار أمرين: صدور الإنشاء من أجنبي، و الإجازة من المالك بعد ذلك، و قد مرّ أنّ الإنشاء الفعلي قد

يكون باعطاء أحد الطرفين، و لذا تجري المعاطاة في النسية و السلم،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 290

فإذا اقبض الأصيل المال و قبضه الفضولي ثم أجاز المالك الأصيل تمّ البيع، و كذا يمكن أن يكون الإنشاء بالكتابة بناء على كونها بمنزلة المعاطاة أو بالألفاظ غير المعتبرة.

و يجاب عن الثاني: أولا: بمثل ما اجيب عن الأول، و ثانيا: بأنه يمكن أن يكون الإقباض مجازا، إمّا ظاهرا كما إذا كان الفضولي مشتبها (كما في رواية الإقالة مع الوضعية) أو عالما برضاء المالك بالقبض فقط إلى أن يتأمل فيه لعله يرضى، أو رضاه بالبيع، بناء على ما عرفت من أنّ مجرّد الرضا لا يعدّ اجازة، بل المعتبر فيه الإنشاء، و ثالثا:

النهي التكليفي المولوي في المعاملة لا يكون سببا للفساد كما هو المشهور.

و بالجملة لا فرق بين العقد اللفظي و المعاطاة في مسألة الفضولي و كلاهما صحيحان مع شرائطه.

الكلام في الإجازة
اشارة

و لنبدء أولا بذكر أحكام نفس الإجازة، ثم نتبعها بأحكام المجيز، ثم المجاز.

فنقول و منه جلّ ثناؤه التوفيق و الهداية: إن الكلام في الاجازة يقع في امور:

1- هل هي كاشفة أو ناقلة؟ و المراد بالأول أنّه بعد تحققها تكشف عن صحة العقد حين وقوعه، و تأثيره لجميع آثاره، و بالثاني أنّه يؤثر من حين تحقق الإجازة و الثمرة بينهما ظاهرة.

و المسألة ذات قولين و إن كان الكشف له معان عديدة، منها الكشف الحقيقي، و الكشف الحكمي، و الكشف الانقلابي، كما سيأتي إن شاء اللّه.

و أمّا ما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه في «جامع الشتات» من أن المسألة ذات أقوال ثلاثه، و جعل ثالثها القول بكون الإجازة عقدا جديدا، فهو كما ترى، لأنّه خارج عن محل الكلام قطعا، و لو كانت الإجازة عقدا

جديدا لم يختلف في صحة الفضولي أحد من الفقهاء.

هذا و يظهر من الرياض أنّ الأشهر القول بكونها كاشفة، و عن مجمع البرهان أنّه مذهب الأكثر، و صرح بهذا القول الشهيدان قدّس سرّهما فيما حكي عنهما و غيرهما و قواه في الجواهر.

و حكى اختيار كونها ناقلة عن مجمع البرهان و الإيضاح، و عن بعضهم التوقف في المسألة كالمحقق الثاني قدّس سرّه.

و الذي استقر عليه رأي شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنّ الأنسب بحسب العمومات هو النقل ثم بعده الكشف الحكمي، و أمّا الأخبار الخاصة الآتية فلا ظهور فيها في الكشف الحقيقي فيحتمل الكشف الحكمي انتهى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 292

و ظاهر هذا الكلام الترديد في المسألة كما ذهب إليه بعض المعاصرين أيضا و لازمه الاحتياط، فاللازم ذكر الأدلة من الجانبين حتى تظهر حقيقة الحال.

أمّا الدليل للقول بالكشف فهو على قسمين: من ناحية القواعد و من ناحية الأدلة الخاصة، أمّا الأول فهو امور:

1- متعلق الإجازة هو العقد، و من الواضح أنّه يقتضي نقل العوضين عن زمن وقوعه، فإذا تمّ بلحوق الإجازة أثّر أثره من حينه، لا من حين الإجازة، و هذا هو القول بالكشف.

و يمكن تقريبه بوجه آخر، و هو أن الشارع أمر بالوفاء بالعقود بعد استكمال شرائطها، و من المعلوم أن الوفاء بالعقد ليس إلّا العمل بمقتضاه، أعني النقل و الانتقال من حين وقوعه.

2- إن العقد سبب تام للملك لقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و بعد لحوق الإجازة يعلم كونه تاما و أنّه أثّر من زمن وقوعه، و لو لا ذلك لم يكن موضوع الوفاء خصوص العقد بل العقد مع شي ء آخر.

3- إن الإجازة لو لم تكن كاشفة لزم تأثير المعدوم، و هو العقد في الموجود و هو انتقال

العوضين.

و الجواب عنها: إنّ ضعف الوجه الأخير ظاهر جدّا، و هو أن العقد بألفاظه و إن صار معدوما بعد تمام الإنشاء و لكن نتيجة العقد، و هو المنشأ، باق في عالم الاعتبار و في وعائه، فله استقرار بعد إنشائه بألفاظه كما هو واضح.

و أمّا الثاني، فهو أيضا لا محصل له لأنّ الإجازة و رضا المالك إمّا أن يكون له أثر في تمام العقد أم لا؟ فان قيل أنّه لا أثر له فهو خلاف الضرورة من الفقه، و إن قيل بكون الإجازة مؤثرة لم تحصل النقل و لا انتقال إلّا بعده، و إن شئت قلت: لا معنى لكون الإجازة كاشفة عن تمامية العقد من قبل، لأنّه ليس هنا أمر خفى يكشف عنها.

و بالجملة العقد ليس علة تامّة للأثر، بل الإجازة من أجزاء المؤثر، بل من أهمها، فما معنى كشفها عن كون العقد تاما من قبل؟!

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 293

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المراد كونها من قبيل الشرط المتأخر فالشرط في الحقيقة تعقب العقد للإجازة، فإذا حصلت يكشف عن كون العقد تاما من قبل لأنّ صفة التعقب كانت حاصلة و إن لم نعلم له.

و هذا المعنى و إن كان ممكنا إلّا أنّه مخالف جدّا لظواهر الأدلة التي يصرح باعتبار الإجازة و الرضا، بل مخالف لحكم العقلاء في هذا المجال كما هو ظاهر، لأنّ الشرط عندهم هو الإجازة لا صفة التعقب.

و من هنا يظهر الإشكال في ما حكاه في مفتاح الكرامة من احتجاج القائلين بالكشف بأنّ السبب الناقل للملك هو العقد المشروط بشرائط، و كلها كانت حاصلة إلّا رضاه المالك، فإذا حصل الشرط عمل السبب التام عمله، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود، فلو توقف العقد على أمر آخر

لزم أن لا يكون الوفاء بالعقد خاصة، بل هو مع الأمر الآخر «1».

و لا يكاد ينقضي تعجبي من قولهم أولا بأن رضى المالك من الشرائط، مع قولهم أخيرا أنّه إذا حصل الشرط عمل السبب التام عمله، فإن كان السبب تاما فأي معنى للاشتراط؟

و إن كان مشروطا فلم يتمّ إلّا بعد وجود الشرط، إلّا أن يرجع قولهم هذا إلى الدليل الأوّل و سيأتي جوابه.

فلم يبق إلّا الأمر الأوّل، و هو العمدة في المقام و استند إليها في الجواهر بقوله: الأقوى كون الإجازة كاشفة ... لأنّها رضى بمقتضى العقد الذي هو النقل من حينه بل هي من الحقيقة رضى برضى الفضولي الذي كان مقارنا للعقد، فينكشف حينئذ بذلك كون العقد تام الشرائط غير متوقف حينئذ تأثير على شي ء آخر، إذ المالك لم يصدر منه إلّا الرضا بما وقع من العقد، الدال على رضى العاقد بنقل المال بما صدر منه من العقد حينه (انتهى) «2».

و بعض هذا التعبيرات و إن كان يستشم منه الدليل الثاني و لكن ظاهر الجميع هو الأوّل.

و يمكن الجواب عنه: بأنّ عقد البيع و ما أشبهه من العقود لا يدخل فيه الزمان بعنوان القيدية، نعم الزمان ظرف له، و كلما اجتمع فيه شرائط الصحة تؤثر أثرها فليس مفاد عقد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 294

البيع النقل من حين العقد، إلّا أنّه لو كانت الشرائط مجتمعة كان له هذا الأثر من حينه، كما أنّ الأمر كذلك في العلل التكوينية فلا تكون علّية النار للإحراق مقيدة بزمان خاص دون زمان، و لكن إذا تحققت النار و اجتمعت الشرائط و ارتفعت الموانع كانت مؤثرة من حينها.

و علل الشرائع و أسبابها و إن كانت في الحقيقة من قبيل القيود لموضوعات

الأحكام لا عللا حقيقية، لكنها مشتركة مع العلل التكوينية من هذه الجهة كما لا يخفى.

و بالجملة لا اعتبار بتاريخ العقد بل الاعتبار بتاريخ الإجازة، و إن شئت قلت: إن شمول عموم أوفوا للمالك إنّما هو من حين استناد العقد إلى المالك الحقيقي، و لا يكون الاستناد إلّا بعد الإجازة و العقد بذاته خال عن الزمان.

و يشهد لذلك امور:

منها: أنّ القبول متأخر من الايجاب مع أنّه يؤثر من أنّه حين القبول و لا سيما أنّه قد يكون تأخره كثيرا بناء على ما مرّ من جواز إنشاء العقد بالكتابة، فإذا كتب الموجب من بلد إلى بلد بإنشاء البيع، فقبله و أمضاه بعد اسبوع أو شبهه، فلا شك في أنّه يحصل النقل و الانتقال من حين تمام البيع بالايجاب و القبول معا، فلو كان الإيجاب مقيدا بزمان الحال وجب النقل من حينه.

و منها: الملك في الصرف و السلم على المشهور لا يكون إلّا بعد القبض.

و منها: الفسخ على المعروف بينهم يقع من حينه لا من أصل العقد مع أنّ الإجازة و الفسخ مشتركان من هذه الناحية، أحدهما ابرام و الثاني نقض للعقد.

و الحاصل: أنّ هذا الدليل أيضا كسابقيه ضعيف لا يثبت القول بالكشف.

هذا كله بحسب القواعد العامة و أمّا بحسب الروايات الخاصة فالظاهر من صحيحة أبي عبيدة الحذاء هو الكشف، قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوّجهما وليان لهما و هما غير مدركين، قال: فقال: نكاح جائز، أيّهما أدرك كان له الخيار، فان ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما، و لا مهر، إلّا أن يكونا قد أدركا و رضيا، قلت: فان أدرك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 295

أحدهما قبل الآخر. قال: يجوز ذلك عليه

أن هو رضى، قلت: فان كان الرجل الذي أدرك قبل الجارية و رضي النكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية أ ترثه؟ قال: يعزل ميراثها منه حتى تدرك و تحلف باللّه ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج، ثم يدفع إليها الميراث» (الحديث) «1».

فان المفروض فيها نكاح الصغيرين من ناحية غير الولي الشرعي (و الوالي المذكور فيها هو الولي العرفي بقرينة ذيل الرواية) ثم أدرك أحدهما و أجاز و حينئذ يعزل بمقدار ميراث الآخر حتى يدرك، فان أجاز و حلف أنّه ما دعاه إلى الإجازة أخذ الميراث بل رضاه بالتزويج كان الميراث له، و هذا لا يصح إلّا على القول بالكشف.

هذا و لكن الصحيحة مشتملة على حكم تعبدي لا يوافق القواعد، فان الرضا بالنكاح الفضولي بعد فوت أحد الزوجين ممّا لا يعهد بين العرف العقلاء و لا تشمله عمومات النكاح قطعا، و لكن بما أنّ الحديث في موردها معمول به بين الأصحاب حتى ادعى في الجواهر في كتاب الفرائض أنّه لم يجد فيه خلافا «2» جاز العمل به في مورده، و لكن يشكل التعدي منه إلى غيره، و لذا ذكر المحقق الخوانسارى قدّس سرّه في «جامع المدارك» بل لو لا التعبد لا شكل اعتبار الازدواج مع الميت بعد موته، و الشاهد عليه اعتبار الحلف و اشتراطه في الوراثة «3».

أي لو لم يكن الحكم تعبديا لم يحتج إلى الحلف، لأنّ كون الميراث هو الداعي إلى اجازة النكاح لا مانع له، كما يجوز النكاح مثلا مع امرأة عجوز كثيرة المال و إن كان الداعي إليه أخذ ميراثها بعد موتها (إذا قصد الجد في النكاح).

و الحاصل: أنّ دلالتها على الكشف ظاهرة، لأنّ عزل الميراث لا معنى له

على القول بالنقل بل لا يجوز اجازة النكاح هنا على النقل، لاستلزامه النكاح مع الميت بعد موته، و لكن لا بدّ من الاقتصار على مورد الرواية كما عرفت.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 296

و يدلّ على القول بالكشف أيضا صحيحة «محمد بن قيس» الواردة في وليدة باعها ابن المولى بغير أذنه:

«قال: قضى في وليدة باعها ابن سيدها و أبوه غائب، فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثم قدم سيدها الأوّل فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير أذني، فقال: خذ وليدتك و ابنها، فنا شده المشتري، فقال: خذ ابنه يعنى الذي باع الوليدة حتى ينفذ لك ما باعك، فلما أخذ البيع الابن قال: أبوه أرسل ابني فقال: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني! فلما رأى ذلك سيد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه «1».

فان الحكم بحرية الغلام، و الحاقه بأبيه بعد الإجازة، لا يصح إلّا على القول بالكشف، فانّه نماء للوليدة ظهر بعد عقد الفضولي و قبل الإجارة، فعلى النقل يجب عليه قيمة الولد.

اللّهم إلّا أن يقال: إن التعدي عن موردها أيضا غير ثابت، و لكن الإنصاف أنّه لا وجه للاقتصار على موردها بعد عدم الخصوصية فيه، و يدل عليه أيضا ما مرّ في روايات الفضولي من الحكم برد المنافع إذا خان في الوديعة و اتّجر بها، و كذا الحكم برد المنافع فيمن أقال إقالة فاسدة ثم اتّجر بالمال.

و كذا رواية «عروة البارقي» و ما رواه «حكيم بن حزام» لأنّ الإجازة على القول بالنقل إنّما تصحح البيع الأوّل، و أمّا البيع الثاني أو الثالث أو غيرهما التي وقعت على العوض فلا يمكن تصحيحها بالاجازة اللاحقة لأنّها وقعت على ملك إنسان آخر إلّا على القول بصحة بيع من

باع ثم ملك ثم أجاز، نعم على الكشف تكون واقعة على ملك المجيز، فيجوز له اجازتها كلها كما لا يخفى.

و هكذا حكمهم عليهم السّلام و اجازتهم للخمس، لتطيب الولادة بعد تحققها فتأمل، و بالجملة دلالة كثير من أحاديث الباب على الكشف و جواز التعدي منها ممّا لا ينبغي أن ينكر.

فتخلص من جميع ما ذكرنا أنّ القول بالكشف هو الأظهر بحسب الأدلة الخاصة.

معنى الكشف و اقسامه:

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه ذكر للكشف معان و أقسام مختلفة، أنهاها السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه إلى ست وجوه، و لكن الظاهر أن اصولها ثلاثة لا غير: الكشف الحقيقي، و الكشف الانقلابي، و الكشف الحكمي، و أمّا الوجوه الاخر فهي تقريبات مختلفة للكشف فنقول:

الأوّل: «الكشف الحقيقي» و معناه كون النقل و الانتقال حاصل من زمن العقد (من يوم الجمعة مثلا إذا فرضنا كونه زمان العقد) و إن خفي علينا، و بعد الإجازة (يوم السبت مثلا) نعلم بذلك، من دون أن يحصل أي تغيير في البيع بعد حدوث الإجازة، و لكن الجمع بينه و بين اشتراط الرضا بل الإجازة و كونها من أركان العقد لما كان مشكلا، ذكروا له وجوها كثيرة بعضها لا يليق بالذكر، و اللائق منها احتمالات:

1- كون الإجازة من قبيل الشرط المتأخر، و لكن إثبات جواز الشرط المتأخر دونه خرط القتاد، كما ذكر في محله، مضافا إلى ما عرفت من أنّها ركن العقد و بها ينتسب إلى المالك و يكون مشمولا لعموم «أوفوا»، و مثله خارج عن نطاق الشرط المتأخر كما لا يخفى.

2- إن الشرط هو وصف «التعقب» و هذا المعنى حاصل من زمن العقد، كما هو ظاهر، و فيه: إنّه مخالف لظواهر أدلة اعتبار الرضا جدّا من الآية و

الروايات، مضافا إلى ما عرفت من أنّ نفس الإجازة من الأركان، و لا معنى لهذا التوجيه فيها.

و الحاصل: أنّ هذا المعنى و إن كان معقولا إلّا أنّه مخالف لظواهر الأدلة جدّا، و العجب من المحقق اليزدي قدّس سرّه حيث جعله غير معقول، قال في بعض كلماته: «إذا لم يعقل الشرط المتأخر فلا فرق بين أن يكون المشروط العقد أو الملكية أو وصف التعقب، و هذا أمر واضح جدّا» (انتهى) «1».

أقول: وصف التعقب من قبيل الشرط لا المشروط، و هو أمر ذو إضافة إلى الإجازة المستقبلة، و لا مانع من تحقق الامور ذات الإضافة التي يكون طرف إضافتها أمرا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 298

استقباليا، مثل «تقديم اليوم على غد» و «تقديم هذا الشهر على الشهر القادم» فكون الشرط المتأخر غير معقول لا دخل له بكون الشرط صفة التعقب، فانه أمر معقول.

3- إنّ الشرط هو الرضا المقارن الأعم من «الفعلي» و «التقديري»، و هذا أمر حاصل، لأنّ المالك راض بالعقد لو علم.

و فيه: مضافا إلى عدم كفاية مجرّد الرضا الباطني حتى الفعلي منه، فكيف بالتقديري بل المعتبر إنشاء الإجازة الذي يقوم مقام الايجاب من طرف المالك، أنّ الرضا التقديري كثيرا ما لا يكون موجودا حال العقد، فهذا أخص من المدعى.

4- إنّ العقد مشروط بأمر واقعي لا نعرفه، و يكون ذلك الأمر ملازما للإجازة الاستقبالية، فتكون دليلا على حصول ذلك الشرط، من غير أن يكون لها دخل في التأثير، و ذلك الأمر المكشوف عنه مقارن للعقد «1».

و هذا الاحتمال عجيب جدّا، فان العقود ليست من قبيل الطلسمات و العلوم الغريبة الخفية، بل هي امور عقلائية أمضاها الشارع، و الإجازة أو الرضا من أركان صحتها، و ليس الشرط أمر خفي

في الواقع تكشف عنه الإجازة.

و ليت شعري كيف يرضى هذا القائل: إن الإجازة لا دخل لها في صحة العقد أبدا بل المؤثر الأمر الواقعي المجهول؟! أ لم يسمع قوله تعالى: تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «2».

أ لم يسمع قوله عليه السّلام: «لا يحل مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» و غير ذلك؟

5- إنّه ليس هناك شرط للعقد أصلا، لا الإجازة و لا الرضا و لا شي ء آخر، و لكن الشارع رتب الأثر على خصوص هذا القسم من العقد لا على القسم الآخر تعبدا.

و فيه أولا: أنّه أعجب ممّا قبله، و هل يكون فعل اللّه جزافا؟ أو ليست الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد؟

و ثانيا: أنّه مخالف لظاهر أدلة اعتبار الرضا بل صريحها كما هو واضح، و كيف يرضى هذا القائل بقوله: إن الرضا أو الإجازة لا دخل له في صحة العقد أبدا، مع اعتبارها عند

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 299

جميع العقلاء في العقود و إمضاء الشارع به، و الأدلة السمعية طافحة بذلك؟

فتلخص من جميع ما ذكر أنّ القول بالكشف الحقيقي إمّا غير معقول، أو ممّا لا يوافق ظواهر أدلة الشرع، و لا يمكن توجيهه حتى ينطبق عليها، و العمدة في ذلك أنّ اعتبار الإجازة ليس أمرا تعبديا، بل هو معلوم عند العقلاء و إمضاء الشرع، و لا يكون العقد مستندا إلى المالك بدونها، و لا معنى لوجوب وفاء المالك بعقد لم يصدر منه.

الثاني: «الكشف الانقلابي»، و المراد منه تأثير الإجازة بعد وجودها في العقد الواقع على صفة عدم التأثير في الماضي و جعله مؤثرا من زمن وجوده (أي وجود العقد) فتؤثر الإجازة في الماضي فينقلب عما كان عليه!

و قد أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته، بل

استظهره السيد المحشي من بعض كلمات صاحب الجواهر رحمه اللّه، حيث قال: «الثاني: أن يكون الرضا المتأخر مؤثرا في نقل المال في السابق كما سمعناه من بعض مشايخنا» و قد سماه السيد قدّس سرّه في التعليقة بالكشف الحكمي، بمعنى أنّ الإجازة تقلب العقد مؤثرا من الأوّل، ثم أضاف إليه: و لعله مراد من قال أنّها ناقلة إلّا أنّه يجري عليه جميع أحكام الكشف «1».

قلت: التسمية و إن كان لا مشاحة فيها، و لكن المذكور ليس من الكشف الحكمي، بل هو قسم آخر من الكشف، لتأثيرها فيما سبق حقيقة، فتجعل العقد نافذا في الماضي بعد أن لم يكن كذلك لا أنّه يجري عليه أحكام النفوذ فقط، فالاولى ما عرفت من تسميته بالكشف الانقلابي.

و لكن الانصاف أنّ هذا القسم أيضا غير معقول، لأنّ الواقع لا ينقلب عما وقع عليه، و لازمه الجمع بين النقيضين، لأن قلب الماضي عمّا وقع عليه مفهومه كون الشي ء في الماضي موجودا و معدوما، و هذا ما عرفت من الجمع بين وجود الشي ء و عدمه.

إن قلت: هذا إنّما هو في التكوينية، و لكن الامور الاعتبارية أمرها سهل.

قلت: المعتبر و إن كان اعتباريا، و لكن نفس الاعتبار أمر حقيقي تكويني قائم بالذهن،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 300

و ذلك كالوجودات الذهنية و نفس الذهن، فان نفسه ليس ذهنيا بل هو أمر خارجي تكويني، و حينئذ كيف يمكن وجود الاعتبار و عدمه في الماضي؟ و كيف ينقلب ما كان فاقدا للاعتبار في الماضي إلى كونه واجدا له؟ نعم يمكن انقلابه بقاء، و أمّا حدوثا فلا فهذا القسم لا بدّ من الشطب عليه بخط البطلان.

و قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بعد حكمه ببداهة بطلان هذا القسم: بأن

لازمه اجتماع مالكين على ملك واحد و هو كذلك، لا يقال: زمانهما مختلف. لأنا نقول ليس كذلك، فان المفروض تأثيره بعد حدوثه في الماضي، فاعتبار الملكية موجوده في الماضي مع كونه معدوما، فيجتمع مالكان على ملك واحد، و الإنصاف أنّ بطلان هذا القسم أوضح من أن يحتاج إلى مثل ذلك.

الثالث: «الكشف الحكمي»، بمعنى إجراء أحكام الكشف عليه بمقدار الإمكان، فالملك لم ينتقل من المالك إلى المشتري إلّا من حين الإجازة كما في صورة النقل، و لكن إذا أجاز رتّب آثار الملكية من أول الأمر بمقدار ما يمكن.

و يظهر ذلك بملاحظة الفرق بينه و بين الكشف الحقيقي، لأنّه على الحقيقي لو كان عالما بكون الإجازة واقعة في المستقبل جاز له التصرفات و كانت مباحة، بخلافه على الحكمي، و كذا يجوز للمالك الأصلي نقله و انتقاله إلى ثالث لأنّه ملكه يتصرف فيه كيف يشاء (على الكشف الحكمي) و لكن بعد الإجازة يترتب عليه آثار ملكية المشتري، و لازمه الحكم بأداء المثل أو القيمة إذا نقله عن ملكه لا فساد البيع السابق، لأنّه صدر من أهله و وقع في محله، بحسب قواعد الشرع، لا نقول: الحكم بفساد البيع الثاني من حين الإجازة محال، بل نقول بعدم الموجب له على القول بالكشف الحكمي، و عدم إمكان استظهاره من الأدلة فتأمل.

أمّا على الكشف الحقيقي فهذه التصرفات كانت واقعة في ملك غيره و فضوليا، و الحاصل أنّه تظهر الثمرة بين القسمين في التصرفات الواقعة بين العقد و الإجازة بحسب حكمها التكليفي أو الوضعي.

القول بكون الإجازة ناقلة:

أمّا القول بالنقل فقد ذكروا له وجوها كثيرة كما يظهر لمن راجع المستند للنراقي قدّس سرّه «1».

و الانصاف أنّ جميعها راجعة إلى أمر واحد، و هو أنّ الآيات

و الروايات الدلالة على اعتبار الرضا و الإجازة في صحة المعاملة، و عدم جواز أكل المال بالباطل، تدل على أنّ العقد لا يحصل بدونه، و أنّه لا يحصل النقل و الانتقال إلّا بتمام السبب الناقل، و من اجزائه رضاه المالك و اجازته.

بل قد عرفت أنّ الإجازة من أركانه، فما لم تحصل لم تتمّ الأركان، و لم يكن المالك مخاطبا بقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» لعدم كون العقد عقدا له.

و هذا أمر واضح بحسب العمومات و الاطلاقات، لو لا ظهور الروايات الخاصة الماضية في الكشف.

و تحصل من جميع ما ذكرنا أنّ القاعدة تقتضي القول بالنقل، و لكن الظاهر من غير واحد من الروايات الكشف و الأظهر من بين معاني الكشف هو الكشف الحكمي.

هذا و لا يبعد التفصيل في الكشف بين ما إذا وقع القبض و الاقباض من الجانبين كما في رواية عروة، و صحيحة محمد بن قيس و غيرهما، فان هذا هو المتيقن من الأخبار، أمّا لو لم يكن هناك قبض و اقباض فيشكل الكشف، و القياس ممنوع، و الفرق ظاهر.

ثمرة القول بالكشف و النقل:

اعلم أنّهم ذكروا للكشف و النقل ثمرات، و إليك أهمها.

1- النماء المتخلل بين العقد و الإجازة، قال في مفتاح الكرامة: الثمرة ظاهرة في النماء «3»، و صرّح به جمع كثير من فقهائنا، و الوجه فيه ظاهر، لأنّ نماء الثمن للمالك المجيز،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 302

و نماء المثمن للمشتري الأصيل على القول بالكشف بجميع معانيه، و لكن على النقل كل لمالكه الأصلي، نماء الثمن للمشتري و المثمن للبائع و هنا كلام معروف عن الشهيد الثاني قدّس سرّه وقع البحث في توجيهه، و المراد منه و هو قوله: و تظهر الفائدة في النماء، فان جعلناها كاشفة فالنماء

المنفصل المتخلل بين العقد و الإجازة الحاصل من المبيع، للمشتري، و نماء الثمن المعين للبائع، و لو جعلناها ناقلة فهما للمالك المجيز (انتهى) و يرد الإشكال على ظاهره، لأنّه على النقل لا يمكن جمع النماءين للمالك المجيز بل يكون كل لمالكه الأصلي.

و قد ذكر في توجيهه في مفتاح الكرامة بعد قوله: و فيه خفاء «أمّا نماء المبيع فظاهر، و أمّا الثمن فلأنّه انتقل عن المشتري من حين العقد بقبوله و تصرف المشتري في ملكه لا يتوقف على اجازة غيره» «1».

أقول: هذا التوجيه عجيب، لأنّ المشتري إنّما رضى بالمبادلة لا بالهبة، و كيف ينتقل الثمن من ملكه مع عدم انتقال المثمن إلى ملكه؟

و لذا ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بعد ذكر كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه: أنّ توجيه المراد منها كما فعله بعض، أولى من توجيه حكم ظاهرها، كما تكلّفه آخر.

و مراده أنّ حمل هذا الكلام على خلاف الظاهر أهون من حمله على ظاهره و الاستدلال له بما مرّ في كلام المفتاح و شبهه.

و حمله على خلاف الظاهر- كما قيل- إنّما يمكن لو كان من «المالك المجيز» الجنس، و فرض الكلام في الفضوليين، و لكن الانصاف أنّ هذا التوجيه أيضا بعيد، فالأولى طرح هذا الكلام و صرف النظر عنه مع التصريح بعدم صحته بحسب ظاهره (و الجواد قد يكبو).

2- فسخ الأصيل بعد العقد و قبل الإجازة مؤثر على القول بالنقل غير مؤثر على الكشف.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 303

قال في مفتاح الكرامة: منها أنّه على القول بالكشف ليس للمشتري الفسخ قبل الإجازة و هي ثمرة نافعة (انتهى).

و الوجه فيه غير ظاهر لو كان المراد فساده على القول بالكشف، ظاهرا و باطنا، لأنّ أصالة عدم لحقوق الإجازة

كافية في جواز فسخه ظاهرا، نعم إذا لحقته الإجازة كشفت عن صحة العقد من أول أمره و عدم تأثير الفسخ، اللّهم إلّا أن يفرض الكلام في مورد العلم بلحوقها.

و كون الاستصحاب هنا في الامور المستقبلة ممّا لا ضير فيه كما ذكر في محله، بل أصالة السلامة التي هي من مصاديق الاستصحاب العقلائي، كثيرا ما يكون بالنسبة إلى الامور المستقبلة كمن يريد الحج و يحتمل الموت قبل الوصول إلى الميقات و شبهه، فانّه لا يعتني بهذا الاحتمال اعتمادا على أصالة السلامة.

3- حكم تصرفات الأصيل في ما انتقل عنه، فقد يقال بجوازها على النقل و عدم جوازها على الكشف، أمّا الأوّل فهو ظاهر، فلو تصرف في الثمن بالاتلاف أو التصرفات الناقلة لم يبق محل للإجازة، و أمّا غيرهما من التصرفات فهو غير مناف لها فلا تمنع الإجازة.

أمّا عدم تصرفه على القول بالكشف فلما قيل من أنّ العقد تام من ناحية الأصيل فيشمله دليل وجوب الوفاء بالعقد، فكل تصرف يعدّ نقضا لعقد المبادلة فهو غير جائز.

هذا و قد عرفت أنّ العقد قائم بطرفين، و هو أمر بسيط حاصل من الالتزامين: التزام البائع و التزام المشتري، لا أنّه أمر مركب منهما، بل وحداني يبتني عليهما، و لو فرض التركيب فكل واحد مشروط بالآخر، و على كل حال لا معنى لوجوب الوفاء من ناحية الأصيل دون وجوب الوفاء على صاحبه، فانّه لم يلتزم بانتقال المال منه من دون عوض، بل التزم بالمبادلة، فيجب الوفاء بها فقط مع أنّها غير معلومة ما لم تلحق الإجازة، فحينئذ يجوز التمسك باستصحاب جواز تصرفه في ماله بل استصحاب عدم لحقوق الإجازة في المستقبل (و قد عرفت صحة هذا الاستصحاب) فيجوز له جميع التصرفات حتى

بالاتلاف و النقل، نعم إذا تحققت الإجازة كشفت عن بطلان جميع تصرفاته.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 304

إن قلت: هذا صحيح على مذهب من جعل العقد مشروطا بتعقبه بالاجازة لعدم احراز هذا الشرط، فلا يجب الوفاء و أمّا على المشهور في معنى الكشف من كون نفس الإجازة المتأخرة شرطا لكون العقد السابق بنفسه تاما مؤثرا، فالذي يجب الوفاء به هو نفس العقد من غير تقييد، و قد تحقق فيجب على الأصيل الالتزام به (هذا ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

قلت: أولا: معنى الشرط المتأخر، أنّه بوجوده في ظرفه الآتي مؤثر فيما قبله و لذا نفاه كثير و قالوا بعدم معقوليته لا أنّه لا اثر له أصلا، و إلّا لم يكن شرطا.

ثانيا: القول بأن الإجازة شرط، يناقض صريحا القول بأن العقد سبب تام مؤثر و ليت شعري كيف يرضى بقوله «نفس الإجازة المتأخرة شرط لكون العقد السابق تاما مؤثرا بنفسه»؟! يعني من دون أي تأثير للإجازة، فهل هذا إلّا تناقض محض؟

نعم لو قيل بأنّ الإجازة ليست شرطا أبدا و إنّما هي كاشفة عن حكم الشارع تعبدا أو كاشفة عن أمر مؤثر مجهول يقارن العقد، ارتفع التناقض.

و بالجملة كيف يجب على الأصيل الوفاء بالعقد مع أنّه لم يرض بانتقال الثمن عن ملكه بلا عوض بل إنّما رضي بالمبادلة لا غير؟

ثالثا: إنّ أصالة عدم لحوق الإجازة، بل استصحاب جواز تصرفه في ماله تقتضي جواز تصرف الأصيل، و لا يعارضها أصالة عدم الردّ كما في الجواهر حتى يتردد المال بينهما لأنّه حينئذ مال لا يعلم أنّه لأيّهما، للبائع أو المشتري «1».

و ذلك لأنّ الردّ لا أثر له من هذه الجهة، فانّ مجرّد عدم الردّ غير كاف في انتقال المال

إلى الطرف المقابل، بل الانتقال يدور مدار الإجازة نفيا و إثباتا، إلّا أن يقال: لازم عدم الرد هو الإجازة.

و فيه: أولا: أنه من الأصل المثبت.

ثانيا: قد لا تحقق الإجازة و لا الردّ حتى يخرج العقد عن صلاحية لحقوق الإجازة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 305

و العجب أنّه قدّس سرّه قال في موضع آخر: «يحرم عليه التصرف في المال لدورانه بين كونه ماله و مال غيره فيجب اجتنابه ... و بذلك ينقطع استصحاب الجواز السابق» «1».

و يرد عليه: إنّ استصحاب الجواز حاكم على الاحتياط كما هو كذلك في اطراف العلم الإجمالي، بل هنا استصحاب عدم الإجازة حاكم، لأنّه من قبيل الأصل الموضوعي، نعم يمكن أن يقال: إن احتمال تحقق الإجازة في المستقبل كاف في لزوم الاحتياط على الأصيل على القول بالكشف، فان من يلتزم بمثل هذا العقد فعليه رعاية جانبه و الاحتياط فيه.

و إن شئت قلت: هذا من قبيل اللوازم العرفية لالتزام الأصيل، كما يمكن القول به في من نذر التصدق بمال معلقا على شرط، فانّ الأصيل و إن اقتضى عدم تحقق الشرط فيجوز له التصرف في المال قبل ذلك، و لكن لازم هذا النذر عرفا، إبقاء المال على حاله بحيث لو تصرف فيه بالاتلاف يرونه متجاوزا عن حده و مخالفا لنذره، و بالجملة هذا ممّا يجب فيه الاحتياط، بل يمكن أن يقال: «نذر صدقة شي ء معلقا على شرط» معناه نذر ابقائه و جعله صدقة لو حصل الشرط، و كذلك ما نحن فيه، فتأمل فهذا هو الطريق الوحيد لإثبات المطلوب.

قال المحقق النائيني قدّس سرّه في «منية الطالب»: إن الحق في جميع أقسام النذر عدم جواز التصرف (في مورده) لا لتعلق حق الفقراء أو غيرهم به ... بل لأنّ

الناذر بسبب النذر سلب عن نفسه حق جميع تصرفاته في المنذور سوى تصرفه في جهة نذره «2».

4- إذا تلف أحد العوضين قبل الإجازة فعلى الكشف تصح المعاملة دون النقل. لعدم بقاء مورد له، و كذا إذا مات أحد المتبايعين، أو خرج عن صلاحية الملك لعروض جنون أو سفه أو فقد بعض الشروط، لكن لو لم يقبض المتاع في بعض الصور كان من قبيل تلف المبيع قبل قبضه، فهو من مال بايعه، و كذا إذا كان بعض هذه الامور مفقودا عند العقد ثم تجدد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 306

و الحاصل: أنّه تظهر الثمرة بين الكشف و النقل في صورتين: إذا فقد بعض أركان العقد من البائع و المشتري و المثمن و الثمن، أو فقد بعض شروطها، أو تجدد بعد فقدانها.

لكن قال في الجواهر: قيل تظهر الثمرة أيضا فيما انسلخت قابلية الملك عن أحدهما بموته قبل اجازة الآخر، أو بعروض كفر بارتداد فطري أو غيره، مع كون المبيع مسلما أو مصحفا، فتصح حينئذ على الكشف دون النقل «1».

ثم أورد عليه: بأنّه و إن كان يمكن الاستشهاد عليه بخبر الصغيرين و لكن يشكل التعدي عنه، و يمكن دعوى عدم الجواز في غيره حتى بناء على الكشف، ضرورة أنّه يمكن دعوى ظهور الأدلة في اعتبار القابلية حاله كالنقل (انتهى) و لازمه انكار هذه الثمرة و القول ببطلان العقد على كلا القولين الكشف و النقل.

و يظهر من بعض آخر انكار هذه الثمرة مع القول بصحة العقد في الصورتين و يظهر من ثالث التفصيل بين الثمرات، مثل ما يظهر عن شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث وافق على وجود الثمرة في صورة تلف المنقول أو خروجه عن قابلية الملك، كعروض النجاسة

للمائعات المضافة، ثم أجاب عن اعتراض صاحب الجواهر.

و لكن ردّ الثمرة فيما تجدد قابلية الملك أو قارن العقد فقد بعض الشروط، ثم حصل قبل الإجازة (كما إذا كان البائع سفيها ثم صار رشيدا) لبطلان العقد على القولين.

أقول: الانصاف بطلان هذه الثمرة بجميع شقوقها و إشكالها إلّا ما سيأتي، و ذلك لأنّ الظاهر من أدلة اعتبار هذه الشروط و الصفات و الأركان بقاؤها من أول العقد إلى زمن الإجازة، و لا أقل من عدم وجود الدليل على أكثر من ذلك و لو على القول بالكشف، و لذا قال قدّس سرّه في التعليقة تبعا لصاحب الجواهر قدّس سرّه: «لا يخفى قوة ما ذكره لأنّ أدلة صحة الفضولي قاصرة عن شمول الصورتي، أعني انسلاخ القابلية عن أحد المتعاقدين، أو أحد العوضين، قبل الإجازة و لو جعلناها كاشفة» «2».

و الاستناد إلى رواية الصغيرين، مع ما عرفت من عدم إمكان التعدي عن موردها،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 307

و كونها متزلزلة حتى في موردها لو لم يكن الإجماع على وفاقها، كما ترى، لما عرفت من أنّ المعاملات امور عرفية أمضاها الشارع مع تصرفات يسيرة في بعض نواحيها، و الرضا بزوجية الميت أمر لا يعرفه أهل العرف، بل يستنكرها، و لكن نقبله و نؤمن به تعبدا في موردها لما يظهر من دعوى الإجماع عليه، و لكن التعدي منه إلى غير مورده مشكل جدّا.

و أمّا الاستناد إلى رواية عروة البارقي لعدم الاستفصال فيها من بقاء الشاة أو ذبحها فهو أيضا كما ترى، لأن الاستصحاب قاض ببقائه لا سيما في هذه المدّة القليلة.

مضافا إلى أنّها قضية في واقعة، و عدم علم النبي صلّى اللّه عليه و آله ببقاء الشاة الأولى غير ثابت، فالاستدلال بها على

الصحة ممنوع.

نعم، هنا تفصيل من بعض المحشين (قدس اللّه اسرارهم) في الصورة الأخيرة، أعني في صورة تجدد الشرائط فبعض الشرائط كإسلام المشتري إذا كان المبيع مصحفا يكفي تجدده بعد ذلك، فإذا أسلم المشتري حين الإجازة و قلنا بالنقل كفى و إن كان كافرا حين العقد بخلاف البلوغ و العقل، فيمكن جعل هذه الثمرة في بعض صورها ثمرة للمسألة.

و لا بأس به نظرا إلى أنّ الممنوع تملك الكافر للمصحف أو العبد المسلم، و هو هنا غير حاصل على النقل دون الكشف، فتلخص أنّ هذه الثمرة لا تتمّ إلّا في بعض الصور.

5- «مسألة سلسلة العقود»- قال في المفتاح: «أمّا مسألة سلسلة العقود على المثمن فصحة العقود اللاحقة للمجاز مبنية على أنّ الإجازة كاشفة ليظهر ملك كل بايع متأخر حين بيعه و إن كان في ثاني الحال، و أمّا لو جعلناها ناقلة للملك من حين الإجازة فالبائع لم يكن مالكا حين بيعه و إنّما ملك بعده» «1».

و قال في الجواهر: «و ربّما تظهر الثمرة أيضا فيما لو ترتبت العقود على المبيع أو الثمن أو عليهما فضولا، و لا ريب في أنّ للمالك تتبع العقود و رعاية المصلحة له فيجيز ما شاء» «2» و أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث قال:

«و هذه الثمرة ظاهرة و سيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه، و لذا جوزنا التمسك برواية عروة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 308

البارقي دليلا على الكشف، و هكذا رواية الخيانة في الأمانة التي وقع بيوع كثيرة مترتبة على مال الغير فضولا فيها، كل ذلك لأنّ البيع الثاني و غيره يقع عن قبل مالكه على القول بالكشف، بخلافه على القول بالنقل، فانّه من قبيل من باع ثم أجاز

كما لا يخفى».

6- و تظهر الثمرة أيضا في تعلق الخيارات و احتساب مبدئها، فعلى القول بالكشف يكون مبدؤها حين العقد، و على القول بالنقل يكون من حين الإجازة، فلو كان المبيع صحيحا في حال العقد ثم صار معيبا عند الإجازة فقد يقال بخيار العيب على النقل دون الكشف، و هكذا بالنسبة إلى الغبن، بأن كان الغبن حاصلا بحسب قيمة المتاع عند العقد دون زمن الإجازة أو بالعكس، و لكن ليعلم أنّ الثمرة في خيار العيب إنّما يتصور إذا حصل القبض و الاقباض، و إلّا لو تعيب المتاع قبل قبضه فلا يبعد كونه من مال بايعه، كما أن تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بايعه.

و أمّا خيار المجلس فظاهر كلام السيد قدّس سرّه ثبوته على الكشف و النقل، لكن مبدئه على الأوّل من زمن العقد، و على الثاني من زمن الإجازة، و لكن المحقق النائيني قدّس سرّه في «منية الطالب» أنكره حيث قال: «لا يبعد سقوط خيار المجلس في المقام، لأن مجلس العقد لا اعتبار به و لو على الكشف، إلّا الكشف بمعنى عدم دخل الإجازة في التأثير أصلا، و ذلك لاعتبار الإجازة في تأثير العقد، و مجلس الإجازة أيضا لا اعتبار به لأنّه ليس مجلس العقد، فلو بقي المجلس إلى زمان الإجازة فهو، و إلّا يصير مجلس العقد كمجلس الوكيلين لإجراء الصيغة» «1».

قلت: أمّا على القول بالكشف فالظاهر أنّ المجلس هو مجلس العقد لأنّ العقد تام، و النقل و الانتقال حاصل، سواء كانت الإجازة شرطا متأخرا أو غير ذلك و الاعتبار إنّما هو بالتمسك من الجانبين فما أفاده قدّس سرّه غير وجيه.

و كذا على القول لو كان الأصيل حاضرا في مجلس الإجازة فالظاهر تعلق

الخيار من حينها، لأنّ تمام العقد لا يكون إلّا بها، بل قد عرفت أنّها أحد ركني العقد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 309

و لم يقنع هو قدّس سرّه بذلك حتى استشكل على مجلس الصرف و السلم أيضا، فان القبض المعتبر فيهما لا يمكن الالتزام به في مجلس العقد و لو على الكشف و لا باعتباره في مجلس الإجازة و لو على النقل «1».

و الانصاف إمكان القبض في مجلس العقد على الكشف لو علم بتحقق الإجازة في المستقبل، بل و لو لم يعلم على احتمال، و كذا يصح في مجلس الإجازة على النقل لأنّ تمام العقد بها كما عرفت.

7- و قد يقال بظهور الثمرة أيضا في العقود الجائزة كالمعاطاة، بناء على القول بها، فلو اشترى بالمعاطاة شيئا فباعه فضولي من آخر، فأجازه بعد رجوع الطرف المقابل في المعاطاة، فلو قلنا بالكشف كانت المعاملة الثانية قبل الرجوع فتكون المعاطاة لازمة، و لا يصح الرجوع، و لو قلنا بالنقل فالرجوع صحيح و الإجازة باطلة، نعم يمكن أن يقال: يجوز للمالك الأوّل اجازة الفضولي هنا بناء على صحة بيع من باع ثم ملك ثم اجاز، فتدبّر جيدا.

تنبيهات
التنبيه الأوّل: «الفاظ الإجازة»

1- هل يعتبر في الإجازة أن تكون باللفظ الصريح الدال عليها، أو تكفي الكتابة أو الفعل الدال عليها، أو مجرّد الرضا و إن لم يكن هناك إنشاء، فيه وجوه أو أقوال:

أولها: اعتبار الإنشاء الصريح كما يظهر من المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات «2».

ثانيها: كفاية الكنايات.

ثالثها: كفاية الإنشاء الفعلي كما يظهر من السيد قدّس سرّه في تعليقته «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 310

رابعها: الغاء الإنشاء و الاكتفاء بالرضا الباطني كما قد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه و بعض المحشين.

قال في مفتاح

الكرامة في كتاب الوكالة: «و هذا يقتضي بأنّه لا يحتاج في الفضولي إلى قول المالك: أجزت و أمضيت البيع، بل يكفي الألفاظ التي يستفاد منها ذلك، و أمّا العلم بالرضا من دون اللفظ فلا يكفي» «1».

و لكن ذكر في كتاب المتاجر في شرح قول العلّامة قدّس سرّه: «و لا يكفى في الإجازة السكوت مع العلم و لا مع حضور العقد» ما لفظه: «و أنت خبير بأنّه إن كان المدار على الرضا فلو علم الرضا يقينا كفي ... و لا يحتاج إلى التصريح، و كلامهم قد ينزل على عدم العلم بالرضا.

و الأصح أنّه لا بدّ من اللفظ كما هو صريح جماعة و ظاهر آخرين كما أنّ الردّ لا بدّ فيه من اللفظ» «2».

ثم أشار إلى بعض ما يظهر منه كفاية الرضا في أبواب نكاح العبيد و الاماء و سكوت البكر، ثم قال: و التأمل في الكل ممكن.

أقول: مقتضى القاعدة لزوم الإنشاء لأنّ العقد لا يكون عقدا للمالك إلّا بانشائه و مجرّد الرضا لا يعد إنشاء، كما أنّ مجرّد الكراهة لا يعدّ ردّا، و إن شئت قلت: العقد بتركب من إنشاءين: إنشاء الايجاب، و إنشاء القبول، و من الواضح أنّ الإنشاء الصادر من الفضولي غير كاف مستقلا لعدم كونه مالكا و لا وكيلا عن المالك، و إنّما يستند إلى المالك بإنشاء انفاذه كما يستند إليه بإنشاء التوكيل.

ثم إنّك قد عرفت في مباحث المعاطاة عدم اعتبار الإنشاء القولي في العقود بل يكفي الإنشاء الفعلي أيضا، و الإجازة ليست أقوى من الايجاب و القبول، فيكفي فيها الإنشاء الفعلي أيضا، فلو أتى الفضولي المالك و قال: بعت سلعتك و هذا ثمنه، فأخذ الثمن المالك بقصد الإجازة كفى و لا يحتاج

إلى قول، كما أنّه يكفي الإنشاء اللفظي الظاهر فيه و لو كان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 311

بالكنايات الظاهرة كقوله صلّى اللّه عليه و آله: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك».

نعم، قد يقال: يظهر من بعض الروايات جواز الاكتفاء بمجرّد الرضا، مثل ما ورد في أبواب نكاح العبيد و الاماء من أن اطلاع أولياء العبد على نكاحه و سكوتهم و عدم اعتراضهم و رضاهم به كاف في الصحة.

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ ولي العقد في الواقع الزوجان، و لكن العبد لما كان تصرفاته في متعلق حق الغير لزم رضاه به، فإذا رضي كفى، و أمّا الزوج و الزوجة لا يقبل منهما إلّا إنشاء، و هو حاصل في المقام و كذلك البائع و المشتري.

و منها: ما ورد في من زوجت نفسها في حال السكر و أنّها إذا أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها و يجوز ذلك التزويج عليها «1».

و منها: ما ورد تزويج البكر و أنّ العاقد يؤامرها فان سكتت فهو إقرارها «2».

و ما ورد في تزويج سيدة النساء عليه السّلام من أمير المؤمنين عليه السّلام و قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «اللّه أكبر سكوتها إقرارها» «3».

و لكن لازم هذا القول كفاية الرضا في القبول مطلقا و عدم الحاجة إلى إنشاء القبول من ناحية القابل. فينعقد العقد بإنشاء واحد (و هو إنشاء الإيجاب) مع الرضا من الطرف المقابل و يشكل الالتزام به.

و الحق أنّ العقد لا بدّ فيه من إنشاءين: إنشاء الإيجاب و إنشاء القبول، و لكن قد يكون السكوت ظاهرا في إنشاء القبول عملا و لو بقرائن الحال، و قد عرفت كفاية الإنشاء الفعلي أيضا.

كما أنّ إقامة الزوجة مع

زوجها قد تكون إنشاء فعليا، و إلا لزم جواز العقد بالرضا من الجانبين لعدم الفرق بينهما، و لو كان ذلك مجرّد الرضا الباطني من دون إظهار، و لا أظن أحدا يلتزم به.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 312

و منها: ما ورد من أن تصرف ذي الخيار رضا منه، مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أن امير المؤمنين عليه السّلام قضى في رجل اشترى ثوبا بشرط إلى نصف النهار فعرض له ربح فأراد بيعه، قال: ليشهد أنّه قد رضيه فاستوجبه ثم يبعه إن شاء، فان أقامه في السوق و لم يبع فقد وجب عليه» «1».

و فيه: إنّ البيع الخياري تام من جهة الإيجاب و القبول و يمكن اسقاط خياره بمجرّد رضى منه، و أين هذا من الإيجاب و القبول أو الإجازة القائمة مقامهما؟ بل قد يظهر من نفس هذه الرواية أيضا لزوم الإنشاء و لو في اسقاط الخيار، فراجع و تأمل.

و من أقوى ما يدل على عدم كفاية الرضا الباطني بدون الإنشاء أنّه لو كفى الرضا في الصحة كفت الكراهة الباطنية في الفسخ و البطلان، و لازمه وقوع بيع المكره فاسدا من أول أمره، و لعله لا يلتزم به أحد، و لذا مال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في آخر كلامه إلى عدم كفاية الرضا و لكن احتمل الفرق بين الكراهة و الرضا، و لكن هذا الاحتمال عجيب لا دليل عليه بعد كونهما من واد واحد.

و الحاصل: أنّ المعتبر هو الإنشاء في الإجازة سواء كان بالقول أو بالفعل.

التنبيه الثاني: جواز العقد مطلقا

إذا أجاز العقد مطلقا فالكلام فيه ما عرفت في القول بالكشف و النقل، أمّا لو أجاز المالك العقد مقيدا بوقوعه حين صدروه مع قولنا بالنقل، أو مقيدا

بحين الإجازة مع قولنا بالكشف، فهل يصح العقد كذلك، أو يبطل، أو يصح على وفق المختار في الكشف و النقل، و يبطل الشرط فقط؟ فيه وجوه:

الأقوى هو الأخير، لأن صحة الإجازة كشفا أو نقلا إنّما هو بحسب حكم الشرع لا بحسب بناء الطرفين حتى يمكن تغييره بالشرط و شبهه، نعم من استدل على الكشف بأن الظاهر من العقد، كون النقل من حينه، و المجيز إنّما أجاز بهذه الكيفية، يمكنه القول بانّه لو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 313

أجاز بغير هذا الوجه كان صحيحا، كمن أجاز بعض بيع الفضولي أو أجازه مع حذف بعض الشروط، بناء على إمكان التبعيض من هذه الجهات، و أمّا إذا استند في القول بالكشف إلى سائر الوجوه كعدم إمكان تأثير المعدوم- أي العقد- في الموجود، أي الانتقال من حين الإجازة، أو كون العقد علة تامة، فلا يصح تقييد الإجازة بكونه من زمانها لا من زمن العقد كما هو واضح.

و كذلك القائل بالنقل الذي يدعى استحالة القول بالكشف كيف يمكنه اجازة العقد من حين وقوعه؟

و أمّا عدم فساد أصل العقد لو خالف و أجاز بخلاف ما اختاره، مع فساد الشرط لكونه لغوا، فلأنّه لا يزيد على الشرط الفاسد، و قد قرر في محله أنّه لا يوجب الفساد و أنّ كل قيد ليس من مقومات العوضين يعامل معه معاملة تعدد المطلوب مع القول بالخيار أحيانا فراجع.

و يظهر من «منية الطالب» أن الإجازة من الإيقاعات، و الأمر في الإيقاع أظهر، لأنّ وقوع الأثر المترتب عليه لا يناط بالشرط.

أقول: أولا: إنّ الإجازة ليست من الايقاعات، و في الواقع متممة للإيجاب أو القبول، بل هي العمدة في صيرورة المالك طرفا للعقد كما عرفت غير مرّة.

ثانيا: أنّه لا فرق

بين العقد و الايقاع من هذه الجهة، فلو قلنا بأنّ التعليق الحاصل من الشرط يوجب الفساد عند عدم المعلق عليه، أو قلنا بأنّه لا يوجب الفساد لأنّه من قبيل تعدد المطلوب، لم يكن هناك فرق.

التنبيه الثالث: هل يعتبر في الإجازة أن لا يسبقها رد؟

صريح كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذلك، بل ادعى الإجماع، و لكن يظهر من بعض الأعاظم كالسيد قدّس سرّه في الحاشية عدم اعتباره، و غاية ما يمكن الاستناد إليه في إثبات هذا الشرط امور.

1- الإجماع المدعى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 314

2- من شروط الصيغة أنّ لا يحصل بين الإيجاب و القبول ما يسقطهما عن صدق العقد الذي هو في معنى المعاهدة، و من المعلوم أنّ الإجازة تجعل المجيز أحد طرفي العقد، فالردّ قبلها كالفسخ المتخلل بين الإيجاب و القبول، و إن شئت قلت: (كما في منية الطالب) بعد بطلان العقد و ذهاب أثره، ليس هناك موضوع للإجازة «1».

3- مقتضى سلطنة الناس على أموالهم تأثير الردّ في قطع علاقة الطرف الآخر عن ملكه.

4- الفضولي على خلاف الأصل، و يقتصر على المتيقّن منه، و هو ما لم يسبق الإجازة، الرد «2».

أقول: أمّا حال الإجماع في المسألة فمعلوم بعد وجود أدلة اخرى فيها يمكن استناد المجمعين إليها، فلا يكشف عن قول المعصوم.

و إمّا مسألة عدم الفصل بين الايجاب و القبول ففيه أولا: لو سلم فهو غير ما نحن فيه، لأنّ الإجازة و إن كانت تجعل المالك المجيز أحد طرفي العقد، و لكن صورة العقد قد حصلت من قبل و لم يفصل بينهما فاصل، فالعقد صادق في الجملة.

ثانيا: إنّ القدر المسلم من الإجماع بطلان العقد إذا رجع الموجب عن ايجاد ثم قبل القابل، و هو غير محتاج إلى الاجماع لانتفاء العقد برجوع الموجب عن ايجابه،

فلا يبقى محل للقبول، أمّا في نحن فيه فالمفروض أنّ الأصيل (بايعا كان أو مشتريا) باق على تعهده و لم يرجع عنه حتى ينتفي العقد، و إنّما الرد وقع من ناحية الطرف الآخر، فيمكن أن يقال: ما دام الأوّل باق على عهده فالثاني يمكن أن يلحقه، سواء ردّ ثم قبله أو لم يردّ أصلا، و هذا أمر ينبغي أن يتأمل فيه جدّا و هو موافق للقاعدة.

و أمّا حديث سلطنة الناس على أموالهم، فقد عرفت في أصل مسألة الفضولي أنّ مجرّد إنشاء الفضولي على المال ليس تصرفا فيه و لا يعد سلطنة عليه، و لا يوجب علقة حتى يقال بأن للمالك قطعها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 315

و إن شئت قلت: إن مجرّد الإنشاء الصادر من الفضولي لو كان منافيا لسلطنة المالك فلا يؤثر من أول أمره، و إن لم يكن منافيا لها فلا يقدر المالك على ازالته، و الحق أن الإجازة توجب استعداد القبول، و هذا الاستعداد باق ما لم يرجع الأصيل عن عهده أو لم يتحقق فصل طويل ماح لصورة العقد.

و قد اجيب عنه بوجهين آخرين:

أحدهما: إنّ قاعدة السلطنة متعارضة بمثلها، لأنّ مقتضاها جواز الإجازة بعد الردّ.

ثانيهما: إنّ القاعدة ليست مشرّعة، و إنّما تثبت نفوذ التصرفات الثابتة في الشرع كالبيع و الهبة و غيرهما، و ما نحن فيه ليس منها (ذكرهما السيد قدّس سرّه في تعليقته مع ما يقرب من الأدلة).

و يمكن دفع الأوّل منها: بأن مقتضى القاعدة تأثير السابق، فلا يبقى محل للاحق و دفع الثاني بأنّه تصرف عقلائي لم يمنع منه الشرع، فتأمل.

و قد مرّ في بعض المباحث السابقة في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنّ ذلك لو كان تصرفا، كان تصرفا جائزا،

كالاستضاءة بنور الغير و الاصطلاء بناره.

و الحق أنّه ليس تصرفا مطلقا حتى مثل الاستضاءة و شبهها.

و ممّا ذكرنا سابقا يظهر الجواب عن الدليل الرابع أيضا، فانّك قد عرفت أنّ الفضولي موافق للقاعدة فيؤخذ باطلاق الأدلة هنا و لا مجال للأخذ بالقدر المتيقن.

التنبيه الرابع: هل الإجازة تورّث أم لا؟

و هو مبني على كونها من الحقوق كحق الخيار و شبهه، أو من الأحكام، لكن من الواضح أنّها من الأحكام، فانّ المالك له أن يجيز ما وقع على ماله من العقد الفضولي أو لا يجيز، و إن شئت قلت: هذا من آثار الملك و أحكامه، فما دام مالكا، له الإجازة، فإذا مات و انتقل المال منه إلى آخر انتقل هذا الأثر بطبيعة الحال إليه، هذا إذا قلنا بجواز كون المالك في زمان الإجازة غير المالك في زمان العقد، كما يظهر من مسألة من باع ثم ملك ثم أجاز.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 316

و قد اختار هذا المعنى شيخنا الأعظم قدّس سرّه و السيد قدّس سرّه و المحقق النائيني قدّس سرّه، و يحكى عن العلّامة الاصفهاني قدّس سرّه في حواشيهم على المكاسب.

و يظهر الأثر بين ارث المال، و وارث الإجازة أنّه على الأوّل يملكها كل من وقع المال في سهمه عند تقسيم الارث، فهو الذي يمكنه اجازة البيع الفضولي الواقع على سهمه دون الباقين، و على الثاني يملكها الجميع، و كذا تظهر الثمرة في بعض ما تكون الزوجة محرومة عنه من الأموال.

التنبيه الخامس: هل القبض شرطا في صحة العقد؟

إذا باع الفضولي و قبض الثمن و اقبض المثمن فانّ المالك قد يجيز أصل العقد دون القبض و الاقباض، و اخرى معه أو مع أحدهما، و قد يكون القبض شرطا في الصحة كالصرف و السلم، و اخرى لا يكون، و الثمن قد يكون عينا شخصيا قبضه، و اخرى يكون كليا في ذمة المشتري الأصيل، فهذه وجوه مختلفة.

فان أجاز نفس العقد دون ما لحقه من القبض و الاقباض، فيصح نفس العقد دون غيره، فلا يسقط ضمان المشتري بالنسبة إلى الثمن و ضمان البائع بالنسبة إلى المثمن

و كذا لو اجاز قبض الثمن فقط أو اقباض المثمن فقط.

نعم، فيما يكون القبض شرطا و كان عالما بهذا الحكم فأجازه، كانت اجازة العقد دالة على اجازة القبض بدلالة الاقتضاء، دون ما إذا كان جاهلا بالحكم.

و هكذا الحال إذا كان الثمن كليا، فأجاز المالك أصل العقد و أجاز أيضا تعيين الكلي في مصداق و قبضه من ناحية الفضولي.

و لكن يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام أن تصحيح وقوع قبض الكلي و تشخيصه من ناحية الفضولي بمجرّد اجازة المالك مشكل، للإشكال في شمول أدلة صحة الفضولي له.

و فيه: إنّه إذا رضي المالك بقاء كون الثمن مشخصا في المصداق الكذائي الموجود عند

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 317

الفضولي كان جائزا، و تشمله أدلة الفضولي و لا مانع منه.

بقي هنا شي ء: و هو أنّ اجازة القبض سواء كانت صريحة أو مستفادة من دلالة الاقتضاء ليست من باب التوكيل، لعدم إنشاء الوكالة سابقا حتى يجيزها، و الواقع لا ينقلب عما هو عليه، بل من باب الرضا بكون الثمن أو المثمن الشخصي عند الفضولي أو المشتري الأصيل، و يترتب عليه سقوط ضمانهما، فليس ذلك من باب اسقاط الضمان مستقيما و بلا واسطة، كما لعله يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، بل من باب الرضا ببقاء آثار القبض و الاقباض، فيسقط الضمان بسببه، و إن شئت قلت: القبض و الاقباض فعل خارجي و ليس من العقود أو الايقاعات حتى يتغير بالاجازة بل الرضا بالبقاء مع حصوله عنده، كاف.

التنبيه السادس: هل الإجازة على الفور أو لا؟

صرّح جماعة بعدم كونه على الفور و يمكن الاستدلال له بأمرين:

1- العموما