الاخلاق فى القرآن

اشارة

نام كتاب: الاخلاق فى القرآن

نويسنده: مكارم شيرازى، ناصر

موضوع: موضوعى قرن: 15

زبان: عربى

مذهب: شيعى

ناشر: مدرسه الامام علي بن ابي طالب( ع)

مكان چاپ: قم

سال چاپ: 1428 ق نوبت چاپ: سوم

الجزء الأول

المقدمّة:

لا يخفى أنّ المسائل الأخلاقيّة، تخطى بأهميّةٍ كبيرةٍ في كلّ زمانٍ، و لكنّ في عصرنا الحاضر، إكتسبت أهمية خاصة، و ذلك:

1- إنّ قوى الإنحراف و عناصر الشرّ و الفساد، قد إزدادت في هذا العصر، أكثر من جميع العصور السّالفة، فإذا كان التّحرك في الماضي في خطّ الباطل و الإنحراف، يكلّف الإنسان مبلغاً من المال، أو شيئاً من الجهد، ففي هذا الزّمان و بسبب التّقدم العلمي و التّطور الحضاري، أصبحت أدوات الفساد في متناول الجميع، هذا من جهةٍ:

2- و من جهةٍ اخرى، إنّنا نعيش في هذا العصر ضخامة المقاييس، فبينما كانت المقاييس و الموازين محدودةً في الماضي، و بتبع ذلك نرى محدوديّة المفاسد الإجتماعية و الأخلاقيّة، فإنّ القتل في هذا الزّمان بسبب أسلحة الدّمار الشّامل، و الفساد الأخلاقي بسبب انتشار أشرطة الفيديو و السّينما الخليعة، و كذلك ما يفرزه «الأنترنيت» من معلوماتٍ فاسدةٍ، و يضعها في متناول الجميع، كلّ ذلك يحكي عن إنفجار في دائرة الفساد و الإنحراف، و كسر القوالب الضّيقة الّتي كانت تحدد قوى الباطل في الماضي، ليسري إلى خارج الحدود، و يصل إلى أقصى بقعةٍ في العالم.

و إذا كان إنتاج المواد المخدّرة في السّابق، ينحصر بقريةٍ أو منطقةٍ محدودةٍ، و لا يتجاوز ضرره سوى المناطق المجاورة، فاليوم نرى أنّ الابتلاء بمرض الإدمان، و من خلال عمليّة التّهريب الواسعة لعصابات الموت، قد غطى أجواء العالم أجمع.

3- و من جهةٍ ثالثةٍ، أنّنا نشاهد توسّعاً هائلًا في العلوم النّافعة لِلبشر، في مختلف جوانب الحياة في

علوم الطّب و الفضاء، و الإتصالات و المواصلات و أمثال ذلك، و كذلك الحال في

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 6

العلوم الشّيطانية و وسائل الفساد و الإنحراف، حيث تطورت بشكل مذهلٍ، الى حدٍ إنّ القوى الشيطانيّة التي تقف وراء إنتاج أدوات الإفساد الإجتماعي، يتوصلون إلى تحقيق أهدافهم بطرق ملتويةٍ كثيرةٍ و يسيرةٍ، و مثل هذه الظّروف و الأجواء تحتم علينا الإهتمام بالمسائل الأخلاقية أكثر من أيّ وقت مضى، و إلّا فعلينا أن نتوقّع الكارثة، أو الكوارث التي تشلّ في الناس إرادة المواجهة، و تحولهم إلى كياناتٍ مهزوزةٍ أمام حالات الخطر.

و يجب على العلماء الواعين و المفكّرين المخلصين، أن يتحركوا من موقع التّكاتف فيما بينهم، لتعميق الأخلاق في قلوب الناس، و تفعيل عناصر الخير في وجدانهم، و الانتباه إلى الخطر المحيط بالأخلاق، بحيث إنّ البعض أنكر فائدتها من الأساس، أو ذهب إلى أنّها غير ضروريّةٍ، و البعض الآخر تعامل معها من موقع المصلحة و البرُاجماتية، للوصول إلى مطامعه السّياسية.

و لحسن الحظ فإنّنا كمسلمين، نمتلك مصدراً عظيماً للمعارف الأخلاقيّة، و هو القرآن الكريم، الذي لا يُدانيه أيّ مصدر ديني آخر في العالم.

و رغم أنّ العلماء و المفسّرين، قد تناولوا البحوث القرآنية في دائرة الأخلاق، بالبحث و الدّراسة، إلّا أنّ هذه الأبحاث و الدراسات جاءت متفرقة و لا تفي بالغرض، و لهذا إفتقرت السّاحة الثقافية و التّفسيرية، إلى كتابٍ أو كُتبٍ لدراسة هذا الموضوع، بالإستيحاء من الآيات القرآنية، فكان هذا الكتاب الذي بين أيديكم و بإسم: (الأخلاق في القرآن)، إستجابة عمليّةً لِهذه الحاجة الماسّة في حركة الواقع الثّقافي و الدّيني، لسدّ هذه الثّغرة في صرح البناء الثقافي و الحضاري للإسلام.

و جاء هذا الكتاب، بعد بحوثٍ و دراسات في

التّفسير الموضوعي للقرآن الكريم شملت المعارف و العقائد الإسلاميّة في دورته الاولى، و لتكون الدّورة الثّانية، مختصّةً ببحوث الأخلاق الإسلاميّة في القرآن الكريم.

و بحمد اللَّه فقد إنتهينا من هذه الأبحاث الأخلاقية في ثلاث أجزاء، تناول الجزء الأوّل منها، دراسة المسائل الأخلاقيّة الكليّة في دائرة الأخلاق، و هذا هو الكتاب الذي بين أيديكم،

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 7

حيث يمكن الإستفادة منه بعنوان كتابٍ درسي للرّاغبين، و يتكفل الجزء الثاني و الثالث، ببيان تفاصيل هذه المسائل الكليّةً و جزئيّاتها و مصاديقها.

نأمل أن تكون هذه الأبحاث الأخلاقية، المستوحاة من أجواء القرآن الكريم، خطوة اخرى على طريق حلّ المشاكل الأخلاقيّة و الثقافيّة للإنسان، في حركة الحياة و الواقع الإجتماعي، و نسأل اللَّه تعالى أن ينظر إليها بنظرة القبول، و يجعلها ذخيرةً لنا يوم لا ينفع مالٌ و لا بنون، و نرجو من الاخوة أن يتفضلوا علينا بإرشادنا إلى موضع النّقص إن وجد.

و الحمد للَّه ربّ العالمين

ربيع الأول 1419 ه. ق

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 8

1 أهميّة الأبحاث الأخلاقيّة

تنويه:

هذا البحث يعدّ من أهم الأبحاث القرآنيّة، و يعتبر من أهمّ أهداف الأنبياء كذلك، إذ لو لا الأخلاق، لما فهم الناس الدّين و لَما إستقامت دنياهم: و كما قال الشّاعر:

و إنما الامم الأخلاق ما بَقيتْ فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذَهبوا

فلا يُعتبر الإنسان إنساناً إلّا باخلاقه، و إلّا سوف يصبح حيواناً ضارياً كاسراً، يحطّم و يكتسح كلّ شي ء، و خصوصاً و هو يتمتّع بالذّكاء الخارق، فيثير الحروب الطّاحنة، لغرض الوصول لأهدافه الماديّة غير المشروعة، و لأجل أن يبيع سلاحه الفتّاك، يزرع بذور الفُرقة و النّفاق و يقتل الأبرياء!

نعم، يمكن أن يكون متمدّناً في الظّاهر، إلّا أنّه لا يقوم له شي ء، و لا يميّز

الحلال من الحرام، و لا يفرّق بين الظّلم و العدل، و لا الظّالم و المظلوم!

بعد هذه الإشارة نعرّج على القرآن الكريم لنستوحي من آياته الكريمة التالية، تلك الحقيقة:

1- «هُوَ الَّذي بَعَثَ في الامّيينَ رَسُولًا مِنْهُم يَتلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 10

الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ» «1».

2- «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمؤْمِنينَ اذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ» «2».

3- «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» «3».

4- «رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَ الحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزيزُ الْحَكِيمُ» «4».

5- «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها» «5».

6- «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ ربِّهِ فَصَلّى «6».

7- «وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّهِ» «7».

الآيات الأربع الأُول: تقرّر حقيقةً واحدةً، ألا و هي، أنّ إحدى الأهداف المهمّة، لبعثة النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، هو تزكية النّفوس و تربيّة الإنسان، و بلورة الأخلاق الحسنة، في واقعه الوجداني، بحيث يمكن أن يقال: إنّ تلاوة الآيات و تعليم الكتاب و الحكمة التي أشارت إليها الآية المباركة الاولى يعُد مقدمة لمسألة تزكية النّفوس و تربية الإنسان، و الذي بدوره يشكّل الغاية الأساسيّة لعلم الأخلاق.

و لأجل ذلك يمكن تعليل تقدم كلمة: «التزكية»، على: «التعليم»، في الآيات الثلاث، من حيث إنّ «التّزكية» هي الهدف و الغاية النهائيّة، و إن كان «التّعليم» من الناحية

العمليّة مقدمٌ

______________________________

(1). سورة الجُمعة، الآية 2.

(2). سورة آل عمران، الآية 164.

(3). سورة البقرة، الآية 151.

(4). سورة البقره، الآية 129.

(5). سورة الشّمس: الآيات 9 و 10.

(6). سورة الأعلى الآيات 14 و 15.

(7). سورة لقمان، الآية 12.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 11

عليها.

و إن نظرنا «للآية الرابعة»: من بحثنا هذا، و تقديمها لكلمة التّعليم على التّزكية، فهي ناظرةٌ إلى المسألة من حيث الترتب العملي الطبيعي لها، بإعتبار أنّ التّعليم مقدمةٌ «للتربية و التّزكية».

و لهذا نرى أنّ الآيات الأربع الاولى كلّ منها تنظر إلى المسألة من منظارها الخاص.

و ليس بعيداً إحتمال رأيٌ آخر، من التّفسير في الآيات المباركة الأربع، و هو أنّ الغرض، من التّقديم و التّأخير الحاصل لهذين الكلمتين: (التّربية و التعليم)، بإعتبار أنّ إحداها تؤثّر في الاخرى يعني كما أنّ التعليم الصّحيح يكون سبباً في الصّعود بالأخلاق، و تزكية النّفوس، تكون تزكية النفوس هي الاخرى مؤثّرة في رفع المستوى العلمي، لأنّ الإنسان بوصوله للحقيقة العلميّة، يكون قد تطهر من «العناد» و «الكِبر» و «التّعصب الأعمى ، حيث تكون الأخيرة مانع من التّقدم العلمي، و معها سوف يُران على قلبه على حد تعبير القرآن الكريم، و لن يرى الحقيقة كما هي في الواقع.

و يمكن الإشارة الى نكات اخرَى في الآيات الكريمة الأربعُ:

الآية الاولى تشير إلى أنّ بعث رسول يُعلِّم الأخلاق، هي من علامات حضور الباري تعالى في واقع الإنسان لتفعيل عناصر الخير في وجدانه، و أنَّ النقطة المعاكسة (للتربية و التعليم) هي الضّلال المبين، فهي تبين مدى إهتمام القرآن الكريم بالسلوك الأخلاقي للإنسان في حركة الحياة.

الآية الثّانية: نجد فيها أن إرسال رسول يُزكيهم و يُعلّمهم الكتاب و الحكمة، هي من المنن و المواهب الإلهيّة العظيمة، التي منّ

اللَّه بها علينا، و هي دليل آخر على أهميّة الأخلاق.

الآية الثّالثة: و هي الآية التي نزلت بعد آيات تغيير القبلة، من القدس الشّريف إلى الكعبة المشرّفة، حيث عُدَّ هذا التغيير من النّعم الإلهيّة الكبرى و أنّ هذه النعمة هي كإرسال الرسول للتعليم و التّزكية و تعليم الإنسان اموراً لم يكن يعلمها و لن يتمكن من الوصول إليها إلّا عن طريق الوحي الإلهي «1».

______________________________

(1). ففي جملة: «و يعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون»، إشارةً إلى أنّ الوصول إلى هذا العلم، لا يمكن الّا بالوَحي.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 12

الآية الرّابعة: تتحدث عن أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام، و بعد إكماله لبناء الكعبة، طلب من الباري تعالى أن يخلق من ذريّته امّةً مسلمةً؛ و أن يبعث فيهم رسولًا من ذريّته، ليزكّيهم في دائرة التربية الأخلاقيّة، و يعلّمهم الكتاب و الحكمة.

الآية الخامسة: نجد أن القرآن الكريم، و بعد ذكر أحدَ عشرَ قَسَماً مهماً، و هي من أطول الأقسام في القرآن،- قسماً بالشّمس و القمر و النّجوم و النفس الإنسانية-، و بعد ذلك قال:

«قد أفلح من زكّاها و قد خاب من دسّاها».

و هذا التأكيد المتكرّر و الشّديد في هذه الآيات، يدلّ على أنّ القرآن الكريم، يولّي أهميّةً بالغةً لمسألة الأخلاق، و أنّ التّزكية هي الهدف الأهم للإنسان، و تكمن فيها كلّ القيم الإنسانيّة، بحيث تكون نجاة الإنسان بها.

و نفس المعنى أعلاه ورد في: «الآية السّادسة»، و اللّطيف فيها أَنّ ذكر التّزكية جاء قبل الصلاة، و ذكر اللَّه تعالى، إذ لو لا التّزكية و صفاء الرّوح لا يكون للصّلاة معنى و لا لذكر اللَّه.

و جاء في «الآية الأخيرة»، ذكر لُقمان الحكيم، حيث عبّر عن علم الأخلاق بالحكمة، فقال:

«وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ

الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ».

و بالنّظر للآيات الشّريفة، نرى أنّ خصوصيّة: «لقمان الحكيم»، هي تربية النّفوس و الأخلاق، و منها يتّضح أنّ المقصود من الحكمة هنا، هو الحكمة العمليّة و تعاليمها المؤدّية إليها، و بعبارة اخرَى يعني: «التّعليم» لأجل «التّربية».

و يجب الإنتباه و كما ذكرنا مراراً، إلى أنّ أصل معنى «الحكمة» هو لجام الفرس، و بعدها أطلقت على كلّ شي ء رادعٍ، و بإعتبار أنّ العلوم و الفضائل الأخلاقيّة، تردع الإنسان عن الرّذائل فأطلقت عليها هذهِ الكلمة.

النّتيجة:

نستوحي من هذهِ الآيات، الإهتمام الكبير للقرآن الكريم بالمسائل الأخلاقيّة و تهذيب

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 13

النفوس، بإعتبارها مسألةً أساسيّةً، تنشأ منها و تبتني عليها جميع الأحكام و القوانين الإسلاميّة، فهي بمثابة القاعدة الرّصينة و البناء التحتي، الذي يقوم عليه صرح الشّريعة الإسلاميّة.

نعم إنّ التّكامل الأخلاقي للفرد و المجتمع، هو أهم الأهداف التي تعتمد عليه جميع الأديان السّماوية، إذ هو أساس كلّ صلاحٍ في المجتمع، و وسيلةٍ رادعةٍ لمحاربة كلّ أنواع الفساد و الإنحراف، في واقع الإنسان و المجتمع البشري في حركة الحياة.

و الآن نعطف نظرنا إلى الروايات الإسلاميّة، لنرى أهميّة هذه المسألة فيها:

أهميّة الأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة:

لقد أولت الأحاديث الشّريفة لهذه المسألة أهمية بالغةً سواء كانت في الروايات الواردة عن الرّسول الأعظم صلى الله عليه و آله، أم عن طريق الأئمّة المعصومين عليهم السلام، و نورد بعضاً منها:

1- الحديث المعروف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«إِنّما بُعثتُ لأُتمَمَ مكارمَ الأخلاقِ» «1».

و جاء في حديثٍ آخر: «إنّما بُعثتُ لأُتمَمَ حُسنَ الأخلاقِ» «2».

و جاء في آخر: «بُعثتُ بمكارمِ الأخلاقِ و محاسِنها» «3».

و نرى أن كلمة «إنّما» تفيد الحصر، يعني أنّ كلّ أهداف بعثة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، تتلخص في التّكامل الأخلاقي.

2- و جاء في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام، حيث قال:

«لَو كُنّا لا نَرجو جنّةً و لا ناراً و لا ثواباً و لا عِقاباً، لكان يَنبغي لَنا أن نُطالِبَ بِمكارمِ الأخلاقِ فإنّها ممّا تَدُلُّ على سبيلِ النجاحِ» «4».

______________________________

(1). كنز العمّال: ج 3، ص 16، ح 52175.

(2). المصدر السابق، ح 5218.

(3). بحار الأنوار: ج 66، ص 405.

(4). مستدرك الوسائل، ج 2، ص 283 الطبعة القديمة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 14

يبيّن لنا هذا الحديث

أهمية الأخلاق و فضائلها، إذ هي ليست سبباً في النجاة في الاخرى فقط، بل هي سبب لصلاح الدّنيا أيضاً، (و سنتناول هذا البحث مفصّلًا في القريب العاجل إن شاء اللَّه تعالى .

3- الحديث الآخر الذي ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث قال:

«جَعَلَ اللَّهُ سُبحانَهُ مكارمَ الأخلاقِ صِلةً بينه و بين عبادِهِ فحسب أَحدِكُم أَن يتمسّكَ بخُلقٍ مُتَّصلٍ باللَّهِ» «1».

و بعبارةٍ اخرى: أنّ الباري تعالى هو المعلم الأكبر للأخلاق، و هو مربّي النّفوس، و مصدر لكلّ الفضائل، و القرب منه تعالى لا يتمّ إلّا بالتّحلي بالأخلاق الإلهيّة.

و على هذا نرى أنّ كلّ فضيلةٍ يتحلى بها الإنسان، تؤدي إلى تعميق العلاقة بينه و بين ربّه، و تقربه من الذّات المقدّسة أكثر فأكثر.

و حياة المعصومين عليهم السلام كلّها تبيّن هذهِ المسألة، فإنّهم كانوا دائماً يدعون إلى الأخلاق، و التّحلي بالفضائل، و هم القُدوة الحسنة في سلوك هذا الطريق، و سنتطرق في المستقبل إلى نماذج من أخلاقيّاتهم عليهم السلام، و يكفي شرفاً للرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّ اللَّه تعالى نعته في سورة القَلم:

«و إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيْمٍ». «2»

إشارات مهمة:

1- تعريف علم الأخلاق

أخلاق جمع خُلق (على وزن قُفل)، و خُلُق على وزن افُق، و على حد تعبير الرّاغب في كتابه المفردات، أنّ هاتين الكلمتين ترجعان إلى أصلٍ واحدٍ، و هو «خلق» بمعنى الهيئة و الشّكل الذي يراه الإنسان بعينه، و الخُلق بمعنى القوى و السّجايا الذاتية للإنسان.

و لذا يمكن القول بأنّ: «الأخلاق هي مجموعة الكمالات المعنويّة و السّجايا الباطنيّة

______________________________

(1). تنبيه الخواطر، ص 362.

(2). سورة القلم، الآية 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 15

للإنسان»، و قال بعض العلماء: إنّ الأخلاق أحياناً تُطلق على العمل و السّلوك، الذي ينشأ

من الملكات النفسانية للإنسان أيضاً، (فالأولى الأخلاق الصفاتية و الثانية السلوكيّة).

و يمكن تعريف الأخلاق من آثارها الخارجيّة أيضاً، حيث يصدر أحياناً من الإنسان فعل إعتباطي و لكن عند ما يتكرّر ذلك العمل منه: (مثل البخل و عدم مساعدة الآخرين)، يكون دليلًا على أنّ ذلك الفعل يمدّ جذوره في أعماق روح ذلك الإنسان، تلك الجذور تسمى بالخُلق و الأخلاق.

و في ذلك قال «ابن مِسكَوَيه»، في كتاب «تهذيب الأخلاق و تطهير الأعراق»: إنّ الخُلق هو تلك الحالة النفسانيّة التي تدعو الإنسان، لأفعالٍ لا تحتاج إلى تفكّر و تدبّر» «1».

و هو نفس ما إشار إليه المرحوم الفيض الكاشاني في كتاب «الحقائق»، حيث يقول: «إعلم أنّ الخُلق هو عبارة عن هيئة قائمة في النفس، تصدر منها الأفعال بسهولة من دون الحاجة إلى تدبّر و تفكّر» «2».

و عليه قسمّوا الأخلاق إلى قسمين: الملكات التي تنبع منها الأعمال و السّلوكيات الحسنة و تسمى «الفضائل»، و اخرى تكون مصدراً للأعمال و السلوكيات السّيئة و تسمى الرذائل.

و من هنا يمكن أن نعرّف علم الأخلاق بأنّه: «علمً يُبحَث فيه عن المَلكات و الصّفات الحسنة و السيئة و آثارها و جذورها».

و بعبارة اخرَى: «علمٌ يُبحَث فيه عن اسس إكتساب هذهِ الصفات الحسنة، و طُرق محاربة الصّفات السّيئة، و آثارها على الفرد و المجتمع».

طبعاً و كما ذكرنا سابقاً، يُطلق على الأعمال و الأفعال النّابعة من هذهِ الصفات أحياناً «الأخلاق»، فمثلًا الشّخص الذي يعيش في حالةٍ من الغضب و الحدّة دائماً، يقال عنه بأنّه ذو أخلاقٍ رديئةٍ، و بالعكس عند ما يكون الشّخص كريماً، فيقولون أنّ الشّخص الفلاني يتحلى بأخلاقٍ طيِّبةٍ، و في الحقيقة أن هذين الإثنين هما عِلّة و معلول للآخر، بحيث، يطلق إسم أحداهما على

الآخر.

______________________________

(1). تهذيب الأخلاق، ص 51.

(2). الحقائق، ص 54.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 16

و عرّف بعض الغربيين الأخلاق بما يُوافق تعاريفنا لها، فمثلًا في كتاب: «فلسفة الأخلاق»، لشخصٍ يدعى (جكسون)، و هو أحد فلاسفة الغرب، عرّف الأخلاق فيه بقوله: (علمُ الأخلاق عبارةٌ عن التّحقيق في سلوك الإنسان على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها) «1».

و للبعض مثل «فولكيه»، رأي آخر في المسألة، حيث عرّفوا علم الأخلاق بأنّه: (مجموعة قوانين السّلوك التي يستطيع الإنسان بواسطتها أن يصل إلى هدفه) «2».

هذا هو كلام اناس لا يعيرون للقيم الإنسانيّة أهميّة، و المهم عندهم الوصول إلى الهدف كيفما كان و كيفما إتّفق، إذ الأخلاق عندهم ليست إلّا و سيلةً تُمكّن الإنسان من الوصول إلى الهدف!.

2- علاقة الأخلاق بالفلسفة

الفلسفة في معناها و مفهومها الكلي، تعني: معرفة العالم بما لدى الإنسان من قدرة، و بهذا المعنى يمكن أن تدخل جميع العلوم تحت هذا المفهوم الكلّي، بحيث نرى في الأعصار السّابقة و القديمة، عند ما كانت العلوم محصورةً و معدودةً كانت الفلسفة تلقي الضوء عليها جميعاً، و الفيلسوف كان له الباع الطويل في جميع العلوم، و في ذلك الوقت قسّمت الفلسفة إلى قسمين:

أ- الامور التي لا دخل للإنسان فيها، و التي تستوعب جميع العالم، عدا أفعال الإنسان.

ب- الامور التي تنضوي تحت إختيار الإنسان و له دخل فيها، يعني أفعال الإنسان.

فالقسم الأول يسمّى بالحكمة النظريّة، و تقسم إلى ثلاثة أقسام:

الفلسفة الاولى أو الحكمة الالهيّة: و هي التي تتناول الأحكام الكلية للوجود و المبدأ و المعاد.

2- الطّبيعيات: و فيها أقسام مختلفة.

______________________________

(1). فلسفة أخلاق، ص 9.

(2). الأخلاق النظريّة، ص 10.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 17

3- الرّياضيات: و هي أيضاً لها فروع متعددة.

و أما التي تتعلق بأفعال الإنسان، فتسمى

بالحكمة العمليّة، و هي بدورها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- الأخلاق و الأفعال: التي تكون سبباً في سعادة أو ضلال الإنسان، و تكون جذورها و مصدرها النفس الإنسانيّة.

2- تدبير المنزل: و كل ما يتعلق بالعائلة.

3- سياسة و تدبير المدن: و التي تتناول طرق إدارة المجتمعات البشرية.

و هكذا فقد أفردوا للأخلاق حقلها الخاص بها، في مقابل (تدبير البيت) و (سياسة المدن).

و عليه يمكن القول بأنّ علم الأخلاق هو فرع من: «الفلسفة العملية» أو «الحكمة العمليّة».

و لكنّ تعدد العلوم في عصرنا الحاضر دعى للفصل بينها، و غالباً ما تأتي الفلسفة و الحكمة، و الفلسفة بمعنى الحكمة النظريّة من نوعها الأوّل، و هي الامور التي تتعلق بالعالم و الكون و كذلك المبدأ و المعاد.

و يوجد اختلاف بين الفلاسفة، في أيّهما أفضل: الحكمة النظريّة أم الحكمة العمليّة، فقسم إدّعى الأفضلية للُاولى، و قسم آخر إدّعى الأفضلية لِلثانية، و عند التّدقيق في مدّعاهم نرى أنّ الإثنين على حق و هذا ليس بحثنا الآن.

و سنتعرض لعلاقة الأخلاق بالفلسفة، في موارد اخرى في المستقبل، إن شاء اللَّه تعالى.

3- علاقة الأخلاق بالعِرفان

أمّا بالنسبة لعلاقة (الأخلاق) ب (العرفان) و (السير و السلوك إلى اللَّه)؛ فيمكن القول أنّ العرفان أكثر ما ينظر للمعارف الإلهيّة، و لكن ليس عن طريق العلم و الإستدلال، بل عن طريق الشّهود الباطني، بمعنى أنّ قلب الإنسان يجب أن يكون كالمرآة الصافية، لدرجةٍ يستطيع فيها أن يرى الحقيقة لتزول عنه الحُجب، و ليرى بقلبه الذّات الإلهيّة و أسمائه و صفاته، و منها يصل إلى العشق الإلهي الحق.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 18

و بما أنّ علم الأخلاق، له اليد الطُولى في المساعدة على دفع و رفع الرذائل، و التي هي بمثابة الحُجب على القلوب، فمن

البديهي أن تكون الأخلاق من اسس و مقدمات العرفان الإلهي

و أما «السّير و السّلوك إلى اللَّه»، و الذي يكون هدفه النّهائي هو معرفة اللَّه و القرب منه، فهو في الحقيقة مجموعة من «العرفان» و «الأخلاق»، فما كان من «السّير و السّلوك الباطني»، فهو نوع من «العرفان»، الذي يوصل الإنسان يوماً بعد يوم للذات الإلهيّة، و يرفع عن قلبه الحجب و الأدران، و يمهد الطّريق إليه؛ و ما كان من «السّير و السّلوك الخارجي»: فهو نفس الأخلاق التي تهدف لتهذيب النفوس، و ليس فقط لأجل الحياة الماديّة المرفّهة.

4- علاقة العلم بالأخلاق

بالنّسبة للآيات السّابقة و كما ذكرنا أنّ القرآن الكريم، أتى ب: «تعليم الكتاب و الحكمة» إلى جانب: «التزكية و التّهذيب الأخلاقي»، فتارةً يقدِّم «التّزكية» على «التّعليم»، و اخرىُ يقدِّم «التعليم» على التزكية، و هو أمر يُبيّن مدى العلاقة الوثيقة التي تربط بين الإثنين.

و هذا يعني أنّ الإنسان، عند ما ينفتح على المعرفة، و تكون لديه خبرةٌ بالأعمال الحسنة و السيئة، و يعرف عواقب «الفضيلة» و «الرذيلة»، فممّا لا شك فيه أنّها ستؤثر في تربيته، بحيث يمكن القول أنّ كثيراً من الرذائل ناتجة من عدم الإطّلاع و الفهم. و من ذلك يمكن القول؛ أنَّه إذا ما إستطعنا أن ننهض بالمستوى العلمي للأفراد، و بعبارةٍ اخرى: إذا أمكننا نشر الثقافة بين الناس، فستحل الفضائل مكان الرّذائل، و إن كان هذا الأمر ليس كليّاً.

و مع الأسف الشديد، نرى أنّ البعض بالغوا فيها لدرجة الإفراط و التّفريط.

فبعض إتّبعوا الحكيم سُقراط اليوناني، حيث كان يعتقد بأنّ العلم و الحكمة هي منشأ الأخلاق الحميدة، و الرّذائل الأخلاقيّة منشؤها الجهل، و لذلك فإنّه كان يعتقد أيضاً أنّه و لأجل محاربة الفساد و الرّذائل الأخلاقية

و إحلال الفضائل الأخلاقية محلّها، يجب العمل على رفع المستوى العلمي للمجتمع، و بالتّالي تتساوى (الفضيلة) مع (المعرفة).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 19

هؤلاء يدّعون أنّه لا يوجد إنسان يتجه نحو الرّذيلة و هو على علم بها، و إذا ما شخّصَ الإنسان الفضيلة فسوف لن يتركها، و لذلك يتوجّب علينا كسب العلم، و معرفة الخير و تمييزه من الشر لنا و لغيرنا، كي تزرع في نفوسنا بذور الفضائل الأخلاقية!.

و في المقابل يوجد من ينفي هذهِ العلاقة بين الإثنين بالكامل، لأنّ العلم و الذكاء للإنسان المجرم سيكون عاملًا مساعداً له في إرتكاب جرائم أخطر، و على حدّ تعبير المثل الذي يقول:

(إذا كان مع اللص مصباحاً فانه سوف ينتفي البضائع الجيدة).

و لكن الحق و الإنصاف أنّه ليس بإمكاننا نفي تأثير العلم بالكامل، و لا نفي معلولية أحداهما للاخر.

و الشّاهد على ذلك المُثل الحيّة التي نراها في المجتمع، فكثيراً ما شاهدنا اناساً كانوا يفعلون الرذائل، و عند ما أدركوا قبح فعالهم و نتائجها السيئة، أقلعوا عنها و إتجهوا نحو الفضائل، و وجدنا هذا الأمر حتى في وقتنا الحاضر هذا.

و في المقابل نعرف أشخاصاً عندهم المعرفة التامة بالخير و الشرّ، و لكنهم يُصرّون على الشرّ و هو متأصل في نفوسهم.

و كلّ ذلك لأنّ الإنسان لديه بُعدان: بعد العلم و الادراك و بُعد عملي، و هو الميول و الغرائز و الشّهوات، و لأجل ذلك فساعةً يميل الى هذا، و ساعةً يُرجحُ ذلك.

و الذي يقول بأحد القولين، فانه يفترض أنّ الإنسان فيه بُعدٌ واحد لا أكثر، و يغفل عن وجود البعد الآخر.

و نشير هنا إلى الآيات القرآنية التي وردت في هذا الباب، و التي أكدت على التّأثير المتبادل بين عُنصر الجهل و

سوء العمل، قال تعالى:

«أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَانَّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ؛» «1».

و يوجد شبيه لهذا المعنى في سورة النساء: الآية (17)، و سورة النحل: الآية (119).

و من البديهي أنّ الجهل المذكور ليس هو الجهل المطلق الذي لا يوائم التوبة، بل هو مرتبةٌ من مراتب الجهل، فإذا إرتفع فسوف يهتدي الإنسان بعدها للطّريق القويم.

______________________________

(1). سورة الأنعام، الآية 54.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 20

و ذكرنا في الجزء الأول من دورة نفحات القرآن أنّ الجهل هو السبب لكثير من الضلالات، فهو- الجهل- سبب للكفر و إشاعة الفساد و التعصب و العناد و التقليد الأعمى و الفُرقة و سوء الظّن و الجسارة و قلّة الأدب، و في واحدةٍ يمكن القول، أنّ الجهل عامل لإفساد كثير من القِيم «1».

و من جهة اخرَى تُصرِّح الآيات الشريفة بوجود حالة العناد في الإنسان، مع علمه بأنّه يتحرك في طريق الظّلم و الطغيان، مثل آل فرعون، حيث يتحدث عنهم القرآن الكريم:

«وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوّاً» «2».

و كذلك ما ورد بالنسبة إلى بعض أهل الكتاب، كما قال الباري تعالى: «وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» «3».

و ورد هذا المعنى في ما بعدها من الآيات «4».

و قد يكون المراد من الآية هو موضوع الكَذب، و لكنّه أيضاً يؤيّد مدّعانا، لأنّ قبح الكذب حكم به العقل و الشّرع، و هو من الامور الواضحة التي لا تخفى على أحد.

فالحقائق و التجارب أثبتت، أنّ المعرفة و العلم بنتائج الأخلاق الرذيلة على الفرد و المجتمع، يمكنه أن يكون في كثير من الموارد، عاملًا مهماً في ردع الإنسان عن غيّه و الرّجوع إلى ساحة الصّواب، و لكن و

من جهة اخرَى، أيضاً نجد أنّ هناك من يعرف الرّذيلة حقَّ معرفتها؛ و لكنه يُصرّ عليها و يعاند على سلوك طريق الإنحراف، و الطريقة الوسطى في الحقيقة هي الجادّة و تنطبق على الواقع أكثر.

______________________________

(1). نفحات القرآن، الدّورة الاولى، ج 1 ص 86- 98.

(2). سورة النّمل، الآية 14.

(3). آل عمران، الآية 75.

(4). سورة آل عمران، الآية 78.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 21

5- هل أن الأخلاق قابلة للتغيير؟
اشارة

إنّ مصير علم الأخلاق و كلّ الأبحاث الأخلاقية، يتوقف على الإجابة عن هذا السؤال، إذ لو لا قابليتها للتغيير لأصبحت كلّ برامج الأنبياء التربويّة و الكتب السماويّة، و وضع القوانين و العقوبات الرّادعة، لا فائدةٍ و لا معنى لها.

فنفس وجود تلك البرامج التربويّة و تعاليم الكتب السماويّة، و وضع القَوانين في المجتمعات البشريّة، هو خير دليل على قابليّة التغيير في الملكات و السلوكيّات الأخلاقيّة لدى الإنسان، و هذه الحقيقة لا يعتمدها الأنبياء عليهم السلام فحسب، بل هي مقبولةٌ لدى جميع العقلاء في العالم.

و الأَعجبْ من هذا، و الغريب فيه؛ أنَّ علماء الأخلاق و الفلاسفة ألّفوا الكتب الكثيرة حول هذا السؤال: «هل أنّ الأخلاق قابلة للتغيير أم لا»؟!

فالبعض يقول: إنّ الأخلاق غير قابلة للتغيير، فمن كانت ذاته ملوَّثة في الأصل يكون مجبولًا على الشرّ، و على فرض قبوله لعمليّة التّغيير، فإنّه تغيير سطحي، و سرعان ما يعود إلى حالته السّابقة.

و دليلهم على ذلك، بأنّ الأخلاق لها علاقةٌ وثيقةٌ مع الرّوح و الجسد، و أخلاق كلُّ شخصٍ تابعة لكيفية وجود روحه و جسمه، و بما أنّ روح و جسد الإنسان لا تتبدلان، فالأخلاق كذلك لا تتبدل و لا تتغير.

و في ذلك يقول الشاعر أيضاً:

إذا كان الطّباع طِباعَ سوءٍفلا أدبٌ يفيد و لا أديبُ

و استدلوا على

ذلك أيضاً، بمقولة تأثر الأخلاق بالعوامل الخارجية؛ و أنّ الأخلاق تخضع لمؤثّراتٍ خارجيَّةٍ من قبيل الوعظ و النّصيحة و التأديب، فبزوال هذهِ العوامل، تعود الأخلاق لحالتها الاولى، فهي بالضّبط كالماء البارد، الذي يتأثر بعوامل الحرارة، فعند زوال المؤثّر، يعود الماء لحالته السّابقة.

و مما يؤسف له وجود هذا الّنمط من التّفكير و الإستدلال، حيث أفضى لتردي المجتمعات البشريّة و سُقوطها!

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 22

أمّا المؤيدون لتغيير الأخلاق، فقد أجابوا على الدّليلين السّابقين و قالوا:

1- لا يمكن إنكار علاقة الأخلاق و ارتباطها بالرّوح و الجسم، و لكنه في حدّ (المقتضي)؛ و ليس (العلّةَ التّامةَ) لها، و بعبارةٍ اخرَى يمكن أن تهيّى ء الأرضيّة لذلك، لكن ذلك لا يعني بالضّرورة أنّها ستؤثر تأثيراً قطعيّاً فيها، من قبيل مَن يولد من أبوين مريضين، فإنّ فيه قابليةٌ على الابتلاء بذلك المرض، و لكن و بالوقاية الصّحيحة، يمكن أن يُتلافى ذلك المرض من خلال التّصدي للعوامل الوراثية المتجذرة في بدن الإنسان.

فالأفراد الضّعاف البَنية يمكن أن يصبحوا أشداء، بالإلتزام بقواعد الصّحة و ممارسة الرّياضة البدنية، و بالعكس يمكن للأشداء، أن يصيبهم الضّعف و الهزال، إذا لم يلتزموا بالامور المذكورة أعلاه.

و علاوةً على ذلك يمكن القول؛ أنّ روح و جسم الإنسان قابلانِ للتغيير، فكيف بالأخلاق التي تعتبر من معطياتهما؟

نحن نعلم، أنّ كلّ الحيوانات الأهليّة اليوم، كانت في يومٍ ما بَرّيّةً و وحشيّةً، فأخذها الإنسان و روّضها و جعل منها أهليةً مطيعةً له، و كذلك كثير من النّباتات و الأشجار المثمرة، فالذي يستطيع أن يُغيِّر صفات و خُصوصيّات النبّات و الحيوان، ألا يستطيع أن يغيّر نفسه و أخلاقه؟

بل توجد حيوانات روّضِت، لِلقيام بأعمالٍ مخالفةٍ لطبيعتها، و هي تُؤدّيها بأحسن وجهٍ!.

2- و ممّا ذُكر أعلاه،

يتبيّن جواب دليلهمِ الثّاني، لأنّ العوامل الخارجيّة قد يكون لها تأثيرها القوي جداً، ممّا يؤدّي إلى تغير خصوصيّاتها الذاتيّة بالكامل، و ستؤثر على الأجيال القادمة أيضاً، من خلال العوامل الوراثيّة، كما رأينا في مثال: الحيوانات الأهليّة.

و يقصّ علينا التأريخَ قصصاً، لُاناسٍ كانوا لا يراعون إلّاً و لا ذِمّةً، و لكن بالتّربية و التّعليم تغيّروا تَغيُّراً جَذريّاً، فمنهم من كان سارقاً محترفاً؛ فأصبح عابداً متنسّكاً مشهوراً بين الناس.

إنّ التعرّف على كيفية نشوء الملكات الأخلاقيةٍ السّيئة يعطينا القُدرة و الفرصة لإزالتها، و المسألة هي كالتّالي: إنّ كلّ فعلٍ سيّ ءٍ أو حسنٍ يخلّف تأثيره الإيجابي أو السّلبي في الروح

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 23

الإنسانية، بحيث يجذب الروح نحوه تدريجياً، و بالتّكرار سوف يتكرّس ذلك الفعل في باطن الإنسان، و يتحول إلى كيفيّةٍ تسمى: (بالعادة)، و إذا إستمرت تلك العادة تحوّلت إلى (مَلَكَةٍ).

و على هذا، و بما أنّ المَلَكات و العادات الأخلاقيّة السّيئة، تنشأ من تكرار العمل، فإنّه يمكن مُحاربتها بواسطة نفس الطّريقة، طبعاً لا يمكننا أن ننكر تأثير التّعليم الصّحيح و المحيط السّالم، في إيجاد المَلَكات الحَسنة، و الأخلاق الصّالحة، في واقع الإنسان و روحه.

و هناك «قولٌ ثالثٌ»،: و هو أنّ بعض الصّفات الأخلاقيّة قابلةٌ لِلتغير، و بعضها غير قابل، فالصّفات الطّبيعيّة و الفطريّة غير قابلةٍ لِلتغير، و لكنّ الصّفات التي تتأثّر بالعوامل الخارجيّة يمكن تغييرها «1».

و هذا القول لا دليل عليه، لأنّ التّفصيل بين هذهِ الصّفات، مدعاة لقبول مَقولة الأخلاق الفطريّة و الطبيعيّة، و الحال أنّه لم يثبت ذلك، و على فرض ثُبوته، فمن قال بأنّ الصّفات الفطريّة غير قابلةٍ لِلتغيّر و التّبدّل؟. ألم يتمكن الإنسان من تغيير طِباع الحيوانات البريّة؟.

أ لا يمكن لِلتربية و التّعليم،

أن تَتَجذّر في أعماق الإنسان و تغيّره؟.

الآيات و الرّوايات التي يستدل بها، على إمكانيّة تغيّر الأخلاق:

ما ذكرناه آنفاً كان على مستوى الأدلة العقليّة و التّأريخيّة، و عند رجوعنا للأدلة النّقلية، يعني ما وصل إلينا من مبدأ الوحي و أحاديث المعصومين عليهم السلام، سوف تتبيّن لنا المسألة من خلاله بصورةٍ أفضل لأنّه:

1- إنّ الهدف من بعث الأنبياء و الرّسل و إنزال الكتب السّماوية، إنّما هو لأجل تربية و هداية الإنسان، و هذا أقوى دليل على إمكان التربية، و ترشيد الفضائل الأخلاقيّة لدى جميع أفراد البشر، و يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى:

«هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْامِّيِينَ رَسُولًا مِنْهُم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ

______________________________

(1). أيّد هذه النظريّة المحقق النّراقي في كتابه جامع السعادات: ج 1، ص 24.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 24

وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبْينٍ» «1».

و أمثالها من الآيات الكريمة التي تبيّن لنا أنّ الهدف من بعثة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله: هو تعليم و تزكية كل اولئك الذي كانوا في ضلالٍ مبينٍ.

2- كلّ الآيات التي توجّه الخطاب الإلهي إلى الإنسان، مثل: «يا بني آدم» و «يا أيّها النّاس» و «يا أيّها الإنسان» و «يا عبادي»، تشمل أوامر و نواهي تتعلق بتهذيب النّفوس، و إكتساب الفضائل الأخلاقيّة، و هي بدورها خير دليل على إمكانيّة تغيير «الأخلاق الرّذيلة»، و إصلاح الصّفات القبيحة في واقع الإنسان، و إلّا ففي غير هذه الصّورة تَنتفي عُموميّة هذه الخطابات الإلهيّة، فتصبح لغواً بدون فائدةٍ.

و قد يقال: إنّ هذهِ الآيات، غالباً ما تشتمل على الأحكام الشرعيّة، و هذه الأحكام تتعلق بالجوانب العمليّة و السلوكيّة في حياة الإنسان، بينما نجد أنّ الأخلاق ناظرةٌ للصفات الباطنيّة؟

و لكن يجب أن لا ننسى

أنّ العلاقة بين «الأخلاق» و «العمل»، هي: علاقة اللّازمِ و الَملزومِ لِلآخر، و بمنزلة العلّة و المعلول، فالأخلاق الحسنة تُعتبر مصدراً للأعمال الحسنة، و الأخلاق الرذيلة مصدراً للأعمال القبيحة، و كذلك الحال في الأعمال، فإنّها من خلال التّكرار تتحول بالتّدريج، إلى ملكاتٍ و صفاتٍ أخلاقيّةٍ في واقع الإنسان الداخلي.

3- القول و الاعتقاد بعدم إمكان التّغيير للأخلاق، مدعاة للقول و الإعتقاد بالجَبر؛ لأنّ مفهومها هو: أنّ صاحب الخُلق السّي ء و الخُلق الحسن، ليسا بقادرين على تغيير أخلاقهم، و بما أنّ الأعمال و السّلوكيات تعتبر إنعكاساً للصفات و الملكات الأخلاقيّة، و لِذا فمثل هؤلاء يتحرّكون في سلوكياتهم من موقع الجَبر، لكننا نرى أنّهم مكلّفين بفعل الخيرات و ترك الخبائث، و عليه يترتب على هذا القول جميع المفاسد التي تترتب على مقولة الجبر «2».

4- الآيات الصّريحة التي ترغّب الإنسان في تهذيب أخلاقه، و تُحذّره من الرذائل، هي أيضاً دليلٌ محكمٌ على إمكانيّة تغير الصفات و الطّبائع الإنسانية، مثل قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ

______________________________

(1). سورة الجمعة: الآية 2، و يوجد نفس المعنى و المضمون في الآية 164 من سورة آل عمران.

(2). انظر: اصول الكافي، ج 1 ص 155، و كشف المراد، بحث القضاء و القدر و ما يترتب على ذلك من مفاسد المذهب الجَبري.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 25

مَنْ زَكّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها» «1».

فالتّعبير بكلمة دَسّاها، و التي هي في الأصلِ بمعني: خلطُ الشيّ ءِ بشي ءٍ آخر غير مرغوب فيه من غير جنسه، مثل «دسّ الحنطة بالتراب»، يبيّن لنا أنّ الطّبيعة الإنسانيّة مجبولةٌ على الصفاء و النّقاوة و التقوى، و التلويث، و الرذائل تعرض عليها من الخارج و تنفذ فيها، و الاثنان قابلان للتّغير و التّبدل.

نقرأ في الآية

(34) من سورة فُصّلت: «إِدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذا الَّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمْيمٌ».

تُبيّن لنا هذهِ الآية أنّ العداوات المتأصّلة و المتجذّرة في الإنسان: بالمحبّة و السّلوك السليم، يمكن أن تتغير و تتبدل إلى صداقةٍ حميمةٍ بالتّحرك في طريق المحبّة و السّلوكيات السليمة، و لو كانت الأخلاق غير قابلةٍ للتغير، لما أمكن الأمر بذلك.

و نجد في هذا المجال أحاديث إسلامية، تؤكّد هذا المعنى أيضاً، من قبيل الأحاديث التالية:

1- الحديث المعروف الذي يقول: «إنّما بُعثتُ لُاتمم مكارم الاخلاق» «2» هو دليل ساطعٌ على إمكانيّة تغيير الصّفات الأخلاقيّة.

2- الأحاديث الكثيرة التي تحث الإنسان على حسن الخُلق، كالحديث النّبوي الشريف الآتي: «لَو يَعلَمُ العَبدُ ما فِي حُسنِ الخُلقِ لَعَلِمَ أَنّهُ يَحتاجُ أن يكونَ لَهُ خُلقٌ حسنٌ» «3».

3- و كذلك الحديث النبوي الشريف الآخر حيث يقول:

«الخُلقُ الحسنُ نِصفُ الدِّينِ» «4».

4- نقرأ في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «الخُلقُ الَمحمُودُ مِن ثِمارِ العَقلِ وَ الخُلقُ المَذمُومُ مِن ثِمارِ الجُهلِ» «5».

______________________________

(1). سورة الشّمس، الآية 9 و 10.

(2). سفينة البحار (مادة خلق).

(3). بحار الأنوار، ج 10، ص 369.

(4). بحار الأنوار، ج 71، ص 385.

(5). غرر الحكم، 1280- 1281.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 26

و بما أنّ كلًا من «العلم» و «الجهلَ» قابلان للتغيير؛ فتتبعها الأخلاق في ذلك أيضاً.

5- و في حديثٍ آخر، جاء عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«إنّ العَبدَ لَيَبلُغُ بِحُسنِ خُلقِهِ عَظيمَ دَرجاتِ الآخِرَةِ وَ شَرفِ المَنازِلِ وَ أَنّهُ لَضَعِيفُ العِبادةِ» «1».

حيث نجد في هذا الحديث، مقارنةً بين حُسن الأخلاق و العبادة، هذا أولًا.

و ثانياً: إنّ الدرجات العُلى في الآخرة تتعلق بالأعمال الإختياريّة.

و ثالثاً: التّرغيب لكسب الأخلاق الحسنة، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الأخلاق أمرٌ

إكتسابي، و غير خارجة عن عنصر الإرادة في الإنسان.

مثيل هذهِ الرّوايات و المعاني القَيّمة كثيرٌ، في مضامين أحاديث أهل البيت عليهم السلام، و هي إن دلّت على شي ءٍ فإنّها تدلّ على إمكانِيَّة تغيّر الأخلاق، و إلّا فستكون لغواً و بلا فائدةٍ «2».

6- و في حديث آخر ورد عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، نقرأ فيه أنّه قال لأحد أصحابه و أُسمه جرير بن عبد اللَّه: «إنّك امرُءٌ قَد أحسنَ اللَّهُ خَلقَكَ فأَحسِنْ خُلْقَك» «3».

و خلاصة القول أنّ رواياتنا مليئةٌ بهذا المضمون، حيث تدلّ جميعها على أنّ الإنسان قادر على تغيير أخلاقه «4».

و نختم هذا البحث بحديثٍ عن الإمام علي عليه السلام، يحثّنا فيه على حُسن الخلق، حيث قال عليه السلام:

«الكَرَمُ حُسنُ السّجيةِ وَ إجتنابِ الدَّنِيّةِ» «5».

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 93.

(2). أُصول الكافي، ج 2 في باب حسن الخلق ص 99، نقل رحمه اللَّه: 18 رواية حول هذا الموضوع.

(3). سفينة البحار مادة خلق.

(4). راجع أصول الكافي، ج 2؛ و روضة الكافي؛ ميزان الحكمة، ج 3؛ سفينة النجاة، ج 1.

(5). غُرر الحِكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 27

أدلّة مُؤيّدي نظرية ثبات الأخلاق، و عَدم تغيّرها:

و في مقابل ما ذكرناه آنفاً، إستدلّ البعض برواياتٍ يظهر منها أنّ الأخلاق غير قابلةٍ للتغيير، و منها:

1- الحديث المعروف الوارد عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث قال:

«النّاسُ مَعادِنٌ كَمَعادِنِ الذَّهبِ وَ الفِضَّةِ، خِيارُهُم فِي الجَاهِليّةِ خِيارُهُم فِي الإسلامِ».

2- الحديث الآخر الوارد أيضاً عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«إذا سَمِعتُم أَنَّ جَبَلًا زالَ عَن مَكانِهِ فَصدِّقُوهُ، وَ إذا سَمِعتُم بِرَجُلٍ زَالَ عَن خُلقِهِ فَلا تُصَدِّقُوهُ! فإنَّهُ سَيعُودُ إلى ما جُبِلَ عَلَيهِ» «1».

الجواب:

إنّ تفسير مثل هذهِ الروايات، و بالنّظر للأدلة السّابقة، و الروايات التي تصرّح بإمكانية تغير الأخلاق، ليس بالأمر العسير، لأنّ النّقطة المهمّة و المقبولة في المسألة، أنّ نفوس الناس بالطبع متفاوتة، فبعضها من ذَهبٍ و البعض الآخر من فضّةٍ، و لكنّ هذا لا يدلّ على عدم إمكانية تغيير هذه النفوس و الطبائع.

و بعبارةٍ اخرَى: إنّ مثل هذهِ الصّفات النّفسية في حدّ المقتضي: ليس علّةً تامّةً، و لذلك رأينا و بالتجربة أشخاصاً تغيّرت أخلاقهم بالكامل، و يعود الفضل في ذلك للتربية و التعليم.

و علاوةً على ذلك، إنّنا إذا أردنا أن نعمّم الحكم، في الحديث الشّريف، على جميع النّاس، فهذا يعني أنّهم كلّهم ذَووا خُلقٍ حَسنٍ. فبعضهم حسنٌ و البعض الآخر أحسَن، (كما هو الحال في الذّهب و الفضّة). و عليه فَلَن يبقى مكانٌ للأخلاق السّيئة في طبع الإنسان. (فتأمّل).

و بالنّسبة للحديث الثاني، نرى أنّ المسألة أيضاً هي من باب المُقتضي، و ليس علّةً تامّةً، أو بعبارة اخرَى: إنّ الحديث ناظرٌ لأغلبية الناس، و ليس جميعهم، و إلّا لخالف مضمون الحديث، صريح التّأريخ، الذي حكى لنا قَصصاً حقيقيّةً عن أفرادٍ إستطاعوا تغيير أنفسهم

______________________________

(1). جامع السّعادات، ج 1، ص 24.

الاخلاق

فى القرآن، ج 1، ص: 28

و بقوا على ذلك حتّى الممات.

و لخالف أيضاً التّجارب اليوميّة، التي رأينا فيها الكثير من الأشخاص الفاسدين، غيّروا طريقة حياتهم بسبب التّعليم و التربية، و إستمروا يسيرون في خطّ الهداية و الصّلاح حتى الممات.

و خُلاصة القول: أنّه و في نفس الوقت الذي تختلف فيه سَجايا النّاس، لا يوجد أحد مجبور على الرّذائل و الأخلاق السّيئة، و كذلك الحال بالنسبة للأخلاق الحسنة، فذَوُوا السّجايا الطيّبة إذا ما إتّبعوا هواهم، سيسقطون إلى الحضيض، و ذَووا السّجايا الخبيثة، قادرون على بناء أنفسهم و ذاتهم، من موقع التّهذيب و التزكية، و الوصول إلى أعلى درجات الكمال الرّوحي.

و يجب التّنويه إلى أنّ بعض الأفراد الفاسدين و المفسدين، و لأجل توجيه أعمالهم المخالفة للطريق السّليم، يتذرّعون بحججٍ واهيةٍ من هذا القبيل؛ و أنّ اللَّه تعالى قد جَبَلنا على ذلك الخُلق السّي ء. و إن شاء أن يُغيّرنا لفعل؟! ....

و على كلّ حال، فإن الإعتقاد بعدم إمكانيّة تغيير الأخلاق، ليس له نتيجةٌ إلّا الوقوع في وادي الإعتقاد بالَجبر، و رفض ما دعا إليه الأنبياء، و القول بأنّ سعي علماء الأخلاق و أطّباء النفس في إصلاح النفوس، هو سعيٌ غير مثمر، و يترتب على ذلك بالتّالي فساد المجتمعات البشرية.

6- المَسار التّأريخي لِعلم الأخلاق

نختم البحث أعلاه، بشرح مقتضب للمسار التأريخي لعلم الأخلاق:

فمما لا شك فيه أنّ الأبحاث الأخلاقية، ولدت مع أوّل قدم وضعها الإنسان على الأرض، لأن النّبي آدم عليه السلام لمُ يعلّم أبناءه الأخلاق فقط، بل إنّ البّاري تعالى، عند ما خلقه و أسكنه الجنّة، أفهمه المسائل الأخلاقيّة و الأوامر و النّواهي، في دائرة السّلوك الأخلاقي مع الآخرين.

و اتخذ سائر الأنبياء عليهم السلام طريق تهذيب النّفوس و الأخلاق، و التي تكمَن فيها سعادة

الاخلاق

فى القرآن، ج 1، ص: 29

الإنسان، حتى وصل الأمر إلى السيّد المسيح عليه السلام، حيث كان القسم الأعظم من تعاليمه، هو أبحاثٌ أخلاقيّةٌ، فَنَعَته حواريّوه و أصحابه بالمعلِّم الأكبر للأخلاق.

و لكن أعظم مُعلِّمي الأخلاق، هو: رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لأنّه رفع شعار: «إنّما بُعثت لُاتمّم مكارَم الأخلاق».

و قال عنه الباري تعالى: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1».

و يوجد قديماً بعض الفَلاسفة، مَنْ لُقّب بمعلّم الأخلاق، مثل: إفلاطون، و أرسطو، و سُقراط، و جَمعٌ آخر من فَلاسفة اليونان.

و على كلّ حال، فإنّه و بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّ الأئمّة عليهم السلام هم أكبر معلّمي الأخلاق، و ذلك بشهادة الأحاديث التي نُقلت عنهم، حيث ربّوا أشخاصاً بارزين يمكن أن يعتبر كلّ واحد منهم مُعلِّماً لعصرهِ.

فحياة المعصومين عليهم السلام و أتباعهم، هي خيرُ دليلٍ على سُمّو نفوسهم، و رفعة أخلاقهم، في حركة الواقع.

و يبقى السّؤال في أنّه متى تأسّس علم الأخلاق في الإسلام، و من هم مشاهيره؟. و هذا البحث مذكورٌ بالتّفصيل في الكتاب القيّم: تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام بقلم آية اللَّه الشّهيد الصّدر قدس سره. و لا بأس بالإشارة إلى بعض ما جاء فيه، حيث قسّم السيد الصدر الموضوع إلى ثلاثة أقسام:

أ- يقول إنّ أوّل من أسّس علم الأخلاق، هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، (و ذلك من خلال الرّسالة التي كتبها لإبنه الإمام الحسن عليه السلام) بَعد رجوعه من صفّين، حيث بيّن الاسس الأخلاقيّة، و تطرق للمَلكات الفاضلة و الصّفات الرذيلة، و حلّلها بأحسن وجهٍ «2».

و نقل هذهِ الرّسالة، بالإضافة إلى السيّد الرّضي في نهج البلاغة، الكثير من علماء الشّيعة أيضاً.

و نقلها كذلك بعض علماء أهل السُنّة، مثل: أبو أحمد

بن عبد اللَّه العسكري في كتابه

______________________________

(1). سورة القلم، الآية 4.

(2). رسالة الامام السّجاد عليه السلام الحقوقية، و دعاء مكارم الأخلاق، و كثير من الأدعية و المناجاة في طليعة الآثار الأخلاقية الإسلامية المعروفة، بحيث لا يوازيها أثر و لا يصل إلى مقامها شي ء.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 30

الزّواجر و المواعظ، حيث أوردها كلّها و قال:

(لو كانَ مِنَ الحِكمةِ ما يجب أن يُكتبَ بالذّهبِ لكانتْ هذِهِ).

ب- أوّل من كتب كتاباً في دائرة (علم الأخلاق)، هو: إسماعيل بن مهران أبو النصر السكوني، و هو من علماء القرن الثاني، و أسماه: المؤمن و الفاجر، (و هو أوّل كتاب أخلاقي عُرف في الإسلام).

ج- بعدها يذكر بعض من أسماء أكابر العلماء في هذا المجال، (و إن كانوا لم يألفّوا كُتباً فيها) مثل:

«سلمان الفارسي»، حيث قال في حقّه الإمام علي عليه السلام:

«سَلمانُ الفارسِي مِثلُ لُقمانِ الحَكيمِ، عَلِمَ عِلمَ الأوّلِ و الآخرِ، بحرٌ لا يُنزفُ، و هو مِنّا أهلَ البيتِ» «1».

2- «أبو ذَرْ الغَفاري»، و الذي بقيَ طويلًا يُروّج للأخلاق الإسلاميّة، و هو الّنموذج الحيّ لها، و المشاحنات التي كانت بينه و بين الخليفة الثّالث «عَثمان»، و «معاوية»، في المسائل الأخلاقيّة معروفةٌ لدى الجميع، حيث أودت بحياته، و مات في سبيل ذلك الطّريق القويم.

3- «عَمّار بن ياسِر»، و قد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام في حقّه و حقّ إخوانه و أصحابه المخلصين، يبيّن منزلتهم الأخلاقية السّامية، فقال: «أينَ إِخواني الّذين رَكِبُوا الطَّريقَ وَ مَضوا عَلَى الحَقِّ، أينَ عَمّارُ ... ثُمَّ ضَربَ يَدَهُ عَلَى لِحيَتِهِ الشَّريفَةِ الكَريمَةِ فأطالَ البُكاءَ، ثُمَّ قَالَ:

اوَّهْ عَلى إِخواني الَّذِينَ تَلَوا القُرآنَ فأحكَمُوهُ، وَ تَدّبَرُوا الفَرضَ فأقامُوهُ، أَحْيَوا السُّنّةَ و أماتُوا البِدعَةَ» «2».

4- «نوف البكّالي»، كان مثال الزّهد و

العبادة و حُسن الأخلاق، و توفّي بعد السّنة (90) للهجرة.

5- «محمد بن أبي بكر»، كان من خُلّص أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، و يحذو حَذو الإمام

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 222، ص 391.

(2). نهج البلاغة، خطبه 182.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 31

في الزّهد و العبادةِ و الأخلاق.

6- «الجارود بن المنذر»، كان من أصحاب الأئمّة الرابع و الخامس و السادس عليهم السلام، و من كبار العلماء في العِلم و العمل، و له مقامٌ رفيعٌ جدّاً.

7- «حذيفة بن المنصور»، كان من أصحاب الأئمّة: الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السلام، و قيل عنه: (أنّه أخذ عن اولئك العظام، و قد نبغ في مكارم الأخلاق و تهذيب النفس).

8- «عثمان بن سعيد العمري»، هو أحد الوكلاء الأربعة للإمام المهدي عليه السلام، و من أحفاد عمّار بن ياسر رحمه الله، و قالوا فيه: (ليس له ثانٍ في المعارف و الأخلاق و الفقه و الأحكام).

و كثيرٌ من العظماء الّذين يطول ذكرهم.

و نودُّ الإشارة إلى أنّ كثيراً من الكتب الأخلاقيّة، و على مدى التأريخ الإسلامي، قد كُتبت، و نذكر منها:

1- من القَرن الثّالث، كتاب: «المانعاتُ من دخول الجنّة»، بقلم جعفر بن أحمد القُمي، و هو من كبار العلماء في عصره.

2- من القَرن الرّابع، كتاب: «الآداب» و كتاب «مكارم الأخلاق»، بقلم عليّ بن أحمد الكوفي.

3- كتاب: «طهارة النّفس» أو «تهذيب الأخلاق و تطهير الأعراق»، بقلم إبن مَسكويه، و المُتوَفّى في القَرن الخامس، فهو من الكتب المعروفة في هذا المجال، و له كتاب آخر في علم الأخلاق، و إسمه «آداب العرب و الفُرس»، و لكن شهرته ليست كشهرة الكتاب المذكور آنفاً.

4- كتاب: «تنبيه الخاطر و نزهةُ الناظر»، و الذي عُرِف ب: «مجموعة ورّام»، أحد

الكتب المعروفة أيضاً في هذا المجال و كاتبه «ورّام بن أبي الفوارس»، من علماء القَرن السّادس الهجري.

5- و نرى في القَرن السّابع كتابي: «الأخلاق النّاصرية و أوصاف الأشراف و آداب المتعلمين»، للشيخ خَواجة نصير الطّوسي رحمه الله، فكلّ واحد منها مَعلَم من مَعالم التّصنيف في هذا المجال، في ذلك القرن.

6- و في باقي القُرون نرى كتباً مثل: «إرشاد الديلمي»، «مصابيح القلوب للسبزواري»،

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 32

«مكارم الأخلاق لحسن بن أمين الدين»، و «الآداب الدينية لأمين الدين الطّبرسي»، و «المحجة البيضاء للفيض الكاشاني»، و هو كتاب قيّم جداً في هذا العلم، و: «جامع السّعادات» و «معراج السّعادة»، و كتاب: «أخلاق شبّر»، و كثير من الكتب الاخرى «1».

و المرحوم العلّامة الطّهراني، أورد عشرات التّصانيف في كتابه المعروف ب: «الذريعة» «2».

و يجب الإشارة إلى أنّ كثيراً من الكتب الأخلاقيّة، طُبعت بعنوان كتب: السير و السلوك إلى اللَّه، و البعض الآخر طُبع بعنوان: الكتب العرفانيّة، و تطرّق البعض الآخر لمسائل الأخلاق في فصل أو فصلين، ككتاب: «بحار الأنوار» و «اصول الكافي»، حيث يُعدّان من أفضل مصادر هذا العلم.

______________________________

(1). مُلخص و مُقتبس من كتاب تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام. الفصل الأخير.

(2). الذريعة، ج 1.

2

دور الأخلاق في الحياة و الحضارة الإنسانيّة

اشارة

يعتقد البعض من غير المطّلعين، أنّ المسائل الأخلاقيّة تمثل أمراً خاصاً في حدود الحياة الشّخصية للإنسان، أو أنّها مسائل مقدّسة معنويّة، لا تفيد إلّا في الحياة الاخرويّة، و هو أشتباه محظ، لأن أكثر المسائل الاخلاقيّة لها أثرها في واقع الحياة الإجتماعيّة للإنسان، سواء كانت ماديّة أم معنويّة، فالمجتمع البشري بلا أخلاق، سينقلب إلى حديقةِ حيواناتٍ لا يُجدي معها إلّا الأقفاص، لِردع أفعال الحيوانات البشريّة عن أفعالها الضّارة، و ستُهدر فيها الطّاقات، و تحطّم فيها الإستعدادات، و

سيكون الأمان و الحريّة لعبة بيد ذوي الأهواء، و ستفقد الحياة الإنسانية مفهومها الواقعي.

و عند ما نتحرى التأريخ، نرى أنّ كثيراً من الأقوام البشريّة قد حَلّ بهم البوار، و تمزقوا شرّ مُمَزّق نتيجةً لإنحرافاتهم الأخلاقيّة.

و كم رأينا في التأريخ حُكّاماً، عرّضوا شعوبهم لمصائب أليمةٍ و ويلاتٍ، نتيجةً لضعفهم الأخلاقي!!. و كم يوجد من امراء فاسدين و قيادات عسكريّة متعنّتة، عرّضوا حياة جنودهم للخطر الفادح، بسبب استبدادهم بالرّأي و عدم المشورة.

و الحقيقة أنّ الحياة الفرديّة للإنسان، لا لَطافةَ و لا شفافيّة لها بدون الأخلاق. و لن تصل العوائل إلى برِّ الأمان من دونها، و لكنّ الأهمَّ من ذلك هو الحياة الإجتماعيّة للبشر، فما لم

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 34

يتمسك أفراد المجتمع بالأخلاق، فستكون نهاية المجتمع أليمة و موحشة جدّاً.

و لرب قائل يقول: إنّ السّعادة و التكامل في واقع المجتمع البشري، يمكن أن يتحقّقا في ظِلِّ العمل بالقوانين و الأحكام الصّحيحة، من دون الإعتماد على مبادى ء الأخلاق في الفرد.

و نقول له: إنّ العمل بالقوانين، من دون وجود قاعدةٍ متماسكةٍ من القِيم الأخلاقيّة لدى الفرد غير ممكن، لأنّه إذا لم يتوفر الدّاعي الذّاتي للإنسان، فالسّعي الظّاهري لن يُجدي نفعاً.

فالقوّة و الضّغط من أسوأ الأدوات لتنفيذ القوانين و الضّوابط، و لا يصحّ إستعمالها إلّا في الضّرورات، و بالعكس فإنّ الإيمان و الأخلاق، يُعتبران من أفضل الأساليب لتنفيذ أيّة قرارات.

بعد هذه الإشارة، نعود للآيات القرآنيّة الناظّرة إلى هذه المسألة المهمّة، لنستوحي منها بعض المعاني في هذا المجال:

1- «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَاخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» «1».

2- «وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لا السَّيِّئَةُ إِدْفَعْ بِالَّتِي

هِىَ أَحْسَنُ فَاذَا الّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقّاها إِلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «2».

3- «فَبِما رَحْمةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَأعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَاذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» «3».

4- «وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما ارْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» «4».

5- «وَ ابْتَغِ فِيما آتكَ اللَّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ إِنَّما اوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً ... يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الُمجْرِمُونَ» «5».

6- «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْراراً- وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بنينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» «6».

7- «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْانْجْيلَ وَ ما انْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لَاكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ امَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ» «7».

8- «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ انْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» «8».

9- «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَانَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» «9».

10- «وَ لا تَنازَعُؤا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ» «10».

تفسير و إستنتاج:

«الآية الاولى : تكلّمت عن الرّابطة بين بركات الأرض و السّماء و بين التّقوى حيث يُصرِّح فيها بأنّ التّقوى سبب البركات

التي تنزل من السّماء على الناس، و بالعكس فإنّ عدم التّقوى و التّكذيب بآيات اللَّه، سبب لنزول العذاب: «وَ لَوْ أَنَّ اهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ آلْارْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَآَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ».

فبركات الأرض و السّماء لها معنى وسيع جداً، بحيث يشمل: نزول الأمطار، و إنبات النّباتات، و كثرة الخيرات، و كثرة القوى البشريّة.

«البركة»: أصلها الثّبات و الإستقرار، و بعدها اطلقت على كلّ نِعمةٍ و موهبةٍ تبقى ثابتةً لا تتغير، و لذلك فإنّ الموجودات غير المبارك فيها، تكون غير ثابتةٍ و تفنى بسرعةٍ.

______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 96.

(2). سورة فصّلت، الآية 34 و 35.

(3). سورة آل عمران، الآية 159.

(4). سورة سبأ، الآية 34.

(5). سورة القصص، الآية 77 و 78.

(6). سورة نوح، الآية 10 إلى 12.

(7). سورة المائدة، الآية 66.

(8). سورة النحل، الآية 97.

(9). سورة طه، الآية 124.

(10). سورة الأنفال، الآية 46.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 36

إن الكثير من الامم لديها إمكاناتٌ ماديّةٌ كبيرةٌ، و معادن و مصادر للثروة تحت الأرض، و كذلك لديها أنواع الصّناعات، و لكن بسبب أعمالهم السيئة و التي لها علاقة مُباشرة بإنحطاطهم الأخلاقي، فإنّ تلك المواهب و المنن الإلهيّة، ستتعرض للإهتزاز و تفقد البركة في مضمونها الإجتماعي، حيث تُستعمل تلك النعم الإلهيّة في الغالب، لتعجيل فنائهم و زوال نعيمهم من موقع النقمة الإلهيّة.

و قد صرّح القرآن الكريم بذلك، حيث قال في سورة التوبة في الآية (85): «وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيْدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ»

نعم إنّ هذه النِّعم إذا إقترنت بفساد الأخلاق، فستكون سبباً لعذاب الدنيا و خُسران السّعادة في الآخرة!.

و بعبارةٍ اخرَى، إذا

إقترنت هذه المواهب الإلهيّة، بالإيمان و الأخلاق و القيم الإنسانية، فستجلب الرّفاه و السعادة و العمران للمجتمع البشرى، و هذا هو الشّي ء الذي تُشير إليه الآية الآنفة الذّكر.

و بالعكس فيما لو سلك الإنسان معها، اسلوب البُخل و الظُّلم و الإستبداد، و سوء الخُلق و إتّباع الأهواء، فستكون من وسائل الإنحطاط و الفساد و الإنحراف!.

«الآية الثانية»: تتحرك في إطار بيان طريقةٍ مُهمّةٍ و مُؤثرةٍ جداً لدفع العداوات و الضّغائن، و توضّح أيضاً دور الأخلاق في إزالتها: «إِدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَاذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كأَنَّهُ وَلِيُّ حَمْيمٌ».

و يضيف قائلًا: إنّ هذا الأمر، أي سِعة الصّدر، أمرٌ لا يقدر عليه كلّ أحد، بل يختصّ بها من اوتي حظّاً عظيماً من الإيمان و التّقوى، فيقول: «وَ ما يُلَقّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيْمٍ».

إنّ إحدى المشاكل الكبيرة للمجتمعات البشريّة، هي تراكم الحقد و الكراهيّة في النفوس، و في حال وصولها الذّروة، فإنّ من شأنها أن تفضي إلى إشعال نيران الحروب، التي تحرق معها

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 37

كلّ شي ء و تحوله إلى رماد.

و مع تحرك الإنسان من موقع: «إدفع بالّتي هي أحسن»، فستذوب الأحقاد و الكراهيّة كالثّلج في الصّيف، و ستتخلص المجتمعات البشريّة من خطر الحروب، و تقلّ الجنايات، و تنفتح البشريّة على أجواء المحبّة و التعاون و التّكامل الإجتماعي.

و كما يقول القرآن الكريم،: إنّ هذا المستوى الأخلاقي لا يصدر من كائن من يكن، حيث يتطلب قوّة الإيمان و التّقوى و التربية الأخلاقيّة.

و من الطبيعي أنّ الخُشونة إذا ما قابلتها الخُشونة، و السّيئة دُفعت بالسّيئة، فستطّرد هذه السّلبيات و تتوسع يوماً بعد يوم، و بالتّالي ستجر الويلات و المآسي على المجتمع البشري.

و

من البديهي أنّ: (مسألة إدفع بالّتي هي أحسن)، لها شروطٌ و حدودٌ و إستثناءاتٌ، سنشرحها بالتّفصيل في المستقبل إن شاء اللَّه.

«الآية الثالثة»: تحدثت عن تأثير حُسن الخُلق في جلب و جذب الناس، و بيّنت أنّ المدير المتخلق بالأخلاق الإلهيّة إلى أيّ حدّ يكون موفقاً في عمله، و كيف يجمع القلوب المُتنافرة و يوحِّدها التوحيد الذي يصعد بها إلى الرّقي و الكمال الإجتماعي:

«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَاْنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ فَآعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْامْرِ فَاذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ».

ففي هذه الآية، نرى التّأثير العميق لحسن الأخلاق في تقدّم أمر الإدارة، و جلب و جذب القلوب و وحدة الصّفوف، و النّجاح على مُستوى التّفاعل الإجتماعي لأفراد المجتمع؛ فأثر حسن الأخلاق لا يتحدّد بحدود البُعد الإلهي و المعنوي فقط، بل له آثاره الوسيعة في حياة الإنسان الماديّة.

و الأوامر الثّلاثة التي جاءت في ذيل الآية، يعني مسألة: «العَفو عن الخَطأ» و «طلب المغفرةِ من الباري تعالى» و «المشورة في الامور»، هي أيضاً تصبّ في دائرة تفعيل عناصر الأخلاق في النّفس، لأنّ تلك الأخلاق النّابعة من الرّحمة و التّواضع، تكون سبباً للعفو و

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 38

الإستغفار و تصحيح الأخطاء السّابقة، و إحترام شخصيّة و وجود الإنسان أيضاً.

«الآية الرابعة»: تبيّن الآثار السّلبية لبعض الأخلاق السيئة، حيث يقف في مقابل الأنبياء الإلهيين، جماعة من المترفين، و هم المُنعّمين الذين ملأ الكبَر و الأنانيّة أنفسهم و وجودهم:

«وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذْيرٍ إِلّا قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما ارْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ».

و بعدها يعقّب قائلًا: أنّ الغُرور وصل بهم إلى درجةٍ كبيرةٍ، فقالوا: «وَ قالُوا نَحْنُ

أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

فمثل هذه الأخلاق القبيحة، تُعدّ سبباً في التّصدي للإصلاح الإجتماعي، على مُستوى قتل رجال الحقّ، و خنق أصوات طلّاب الحقيقة، و بالتالي زرع بذور الفساد و الظّلم و الطغيان في المجتمعات، و هنا يتّضح نموذج آخر من آثار الأخلاق السّيئة في المجتمعات البشريّة.

و العجيب في الأمر، أنّ روحيّة الإستكبار النّاشئة من الرّفاه المادي و سبوغ النّعمة، هي السّبب في التّورط في مُستنقع الخطيئة و إرتكاب أخطاء فاضحة جدّاً، فإعتقدوا بأنّ وفور النّعمة و كثرتها، هو دليل للقرب الإلهي، و قالوا: لو لا قُربنا من اللَّه تعالى لما آتانا تلك النّعم!؟. و بذلك أنكروا جميع القيم الأخلاقيّة و المعنويّة، و لكنّ القرآن الكريم في الآية التاليّة يُفنّد منطقهم الواهي، و يجعل المعيار هو الإيمان و العمل الصّالح.

فلم يكن موقف المترفين المشركين من قُريش بالوحيد في عصرهم، فهذا هو موقف جميع المترفين في الأقوام السّالفة مع الأنبياء و المصلحين.

«الآية الخامسة»: تنظر لوجهٍ آخر من المسألة، و تبيّن قصّة «قارون» الغني المغرور و الأناني و هو من بني إسرائيل.

فعند ما نصحه أهل العلم و المعرفة من قومه، و قالوا له: «وَ ابْتَغِ فِيما أتكَ اللَّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 39

لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» و قال و بكلّ تكبّر و غُرور: «قالَ إِنَّما اوتيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي».

يعني أنّ اللَّه لا دخل له في وفور النّعمة عليّ، و لكنّ علمي و درايتي بالامور هي السّبب في ذلك؛ و هكذا أودى به الكِبَر و الغُرور إلى السّقوط في وادي إنكار الآيات الإلهيّة،

و بالتّالي التّحرك من موقع التعاون مع أعداء الحقّ و العدالة، و في لحظةٍ و حادثةٍ عجيبةٍ، خُسِفَت به وَ بِأمواله الأرض.

و هنا نرى كيف أنّ الرّذائل الأخلاقيّة، بإمكانها تغيير وجوه الأشخاص و المجتمعات، و منعهم من الوصول إلى الخير و السّعادة.

و الطّريف في الأمر، أنّنا نقرأ في الآيات التي قبلها، بأنّ قومه قالوا له: «إِذْ قالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّه لا يُحِبُّ الفَرِحينَ».

و من البديهي أنّ الإسلام لا يعارض الفرح و السّرور، و لكنّ المقصود هنا الفرح النّاشي ء من الغَفلة و الغرور و نِسيان اللَّه تعالى، و المقترن بالظّلم و الفساد و مُمارسة الخطيئة و الذي بدوره يجرّ الإنسان لِلعربدة و الجُموح و الفساد، و كلّ ذلك منشؤه الصّفات القبيحة التي تضرب بجرانها في القلب.

«الآية السادسة»: نقرأ فيها شكوى النّبي نوح عليه السلام إلى الباري تعالى، فنرى في طيّاتها معانٍ تُشير إلى تأثير أعمال الإنسان، و الأخلاق التي تدعم تلك الأعمال، في الحياة الفرديّة و الإجتماعيّة للإنسان، فيقول: «فَقُلْت اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيكُم مِدْراراً* وَ يُمْدِدكُم بِأَمْوالٍ وَ بَنينَ* وَ يَجْعَلْ لَكُم جَنَّاتٍ وَ يَجعَلْ لَكُم أَنهاراً».

و في الإستمرار في قراءة تلك الآيات، نرى عصيانهم و تمرّدهم على الأوامر الإلهيّة، و كذلك تبيّن الآيات صفاتهم القبيحة، و التي هي بمثابة المنَبع الآسن الذي يمدهم بالذّنوب.

و يمكن القول أنّ ما ذُكر آنفاً، هو العلاقة المعنويّة و الإلهيّة بين الإستغفار و ترك الذنوب، و بين زيادة النعم، و لا يوجد منع من سراية هذه العلاقة لتشمل البُعد الظّاهري و البُعد المعنوي، لذلك نقرأ في آيةٍ اخرى من القرآن الكريم: «ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ و البَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيدِي النّاسِ» «1».

______________________________

(1).

سورة الروم، الآية 41.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 40

و قد ورد هذا المعنى في سورة هود بشكل آخر على لسان الرسول صلى الله عليه و آله، في خطابه لُمشركي مكّة: «وَ أَن اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعُكُم مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً» «1».

لا شك أنّ الّتمتع «بالمتاع الحسن»، لأجلٍ مُسمّى، هو إشارةٌ إلى المواهب الماديّة الدنيويّة، فهي رهينة الإستغفار و التّوبة من الذّنب، و العودة إلى الباري تعالى، و التّخلق بالأخلاق الحسنة.

و لا شكّ أنّ الصّفات القبيحة هي الأساس و الأصل لأنواع الذّنوب، و الذّنوب بدورها سبب لنشر الفساد في المجتمع و تفكيك لِعُرى الوحدة، و أواصر الصّداقة و الاخوّة و الاعتماد بين الناس، و بالتّالي التّأخر في العُمران و الّنمو الإقتصادي و الرّفاه المادي، و التّكامل المعنوي و سلامة النّفوس.

و في «الآية السابعة»: إشارةٌ إلى حالة أهل الكتاب و عصيانهم و طغيانهم، فيقول: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْانْجْيلَ وَ ما انْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لَاكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ امَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ».

و نرى هنا أيضاً تقريراً، للعلاقة الوطيدة بين العمل الصالح و التّقوى من جهةٍ، و نزول البركة السّماوية و الأرضية من جهةٍ اخرى، و هذه العلاقة يمكن أن تحمل الجانب المعنوي أو الطّبيعي، أو بالأحرى الإثنين معاً.

نعم فإنّ الفيوضات الإلهيّة لا حدّ لها، و يتوجب علينا تحصيل الأهليّة و القابليّة، لنتصل بالمصدر الأصلي للفيض، و لكن الإفراط و التّفريظ و العُدول عن جادّة الإعتدال و التّوازن، سوّدت وجه الحياة الإنسانيّة، و سلبت منها الراحة.

فالحروب المدمّرة تعرّي النفوس الإنسانيّة من الفضيلة و الصّلاح، و تُزهق الثّروات الماديّة و المعنويّة، و تفضي بالإنسان إلى

الزّوال.

______________________________

(1). سورة هود، الآية 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 41

و جُملة: «وَ ما انْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ»، تعني كلّ الكتب السّماوية، و من جُملتها القرآن الكريم، و ذلك لأنّ اصولها في الواقع واحدةٌ، رغم أنّه و بمرور الزّمان، و حركة المجتمع الإسلامي في خط التّكامل و التّطور، نزلت أوامر و أحكام أكثر تطوراً من السابق.

«الآية الثامنة»: نستوحي منها تعبيراً جديداً عن علاقة الحياة الطيبة بالأعمال الصالحة، (و الصّفات التي هي منشأ لتلك الأعمال)، فتقول الآية: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ انْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».

الآيات السّابقة، كانت تؤكّد على تأثير الأخلاق على آفاق و أبعاد حركة الإنسان في الحياة الإجتماعية، و في الآية هذه نجد أنّها تتناول الحياة الفردية، فيذكر فيها أنّ كلّ إنسانٍ من ذكر و انثى، إذا ما آمن و عمل صالحاً فسيحيى حياةً طيّبةً.

و لا نرى في هذه الآية أيّةَ إشارةٍ إلى أنّ «الحياة الطيّبة» محدودةٌ بيوم القيامة فقط، بل تشير ظاهراً إلى (الحياة الطيّبة) في الدنيا، أو تستوعب المفهوم العام للحياة في الدنيا و الآخرة.

و لكن ما هي الحياة الطيّبة؟

إختلف المفسّرون في تفسير معنى الحياة الطيّبة، فبعض فسّرها باللقمة الحلال، و قال آخر أنّها القناعة و الرضا بما قسمه اللَّه تعالى، و قال البعض أنّها العبادة مع لقمة الحلال، و قال آخرون أنّها التّوفيق لطاعة اللَّه تعالى، و تبنّى آخرون تفسيرها بالنّظافة من جميع الأوساخ و الأدران، مثل الظّلم و الخيانة و العدوان و الذلّة و الطّهارة و النّظافة و الرّاحة، فكلّها تندرج تحت ذلك المفهوم، و لكن بالنّظر إلى جملة: «وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ»، النّاظرة للأجر الاخروي، يتبيّن أنّ المقصود من

كلمة «الحياة الطيّبة»، هو الإشارة للحياة السّليمة في هذه الدنيا.

«الآية التاسعة»: تقرر أنّ الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى و الغفلة عنه، هو السّبب في ضَنَك العيش و صعوبة الحياة، فيقول الله تعالى «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَانَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 42

وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى»

و نعلم أنّ ذكر اللَّه و معرفة اسمائه و صفاته المقدسة، هو منبع لكلّ الكمالات، بل هو عَين الكمال، فذِكره سبب لتربيه و ترشيد الفضائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان، و الصّعود به إلى آفاقٍ معنويّةٍ ساميةٍ، في عالم التّخَلّق بالأسماء و الصّفات الإلهيّة، و هذا الخُلق هو مصدر الأعمال الصَّالحة، و هو السّبب في الإنفتاح على الحياة السعيدة و تطهيرها، و بالعكس، فإنّ الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى، يبعده عن مصدر النّور الإلهي، و يقترب به من الخُلق الشّيطاني و الجوّ الظّلماني، ممّا يؤدي بالإنسان إلى أن يعيش ضنك العيش، و ينحدر في مُنزلق النّهاية المأساويّة في حركة الحياة، و هذه هي آيةٌ اخرى تبيّن بصراحةٍ، علاقة الإيمان و الأخلاق مع الحياة الفردية و الإجتماعية للبشر.

و قد فسّر بعض أرباب اللّغة، كلمة «معيشةٍ ضنكا»: بالحياة و المعيشة التي يتكسّب فيها من الحرام، لأنّ مثل هذه المعيشة، هي سبب القَلق و الإضطراب الرّوحي في كثير من الامور.

و على حدّ تعبير بعض المفسّرين: إنّ الأفراد غير المؤمنين، يغلب عليهم الحِرص الشّديد في امور الدنيا، و عندهم عطشٌ مادي لا ينفذ، و خوف من زوال النّعمة، و لأجل ذلك يغلب عليهم البخل، و الصّفات الذّميمة الاخرى التي تضعهم في نارٍ محرقةٍ من الآلام الروحيّة و الضّغوط النفسية، (بالرغم من توفر الإمكانات الماديّة الكثيرة عندهم).

و عند ما يعيشون العمى في

الآخرة؛ فإنّما هو بسبب العمى في هذه الدنيا عن السير في طريق الحقّ و السّعادة، و غرقهم في ظلمات الشّهوات الماديّة.

و سنشرح في نهاية هذا القسم هذه المسألة شرحاً وافياً.

«الآية العاشرة»: تتطرق لأحد الآثار السّيئة للعداوة و النّزاع، الموجب لتدمير عُرى الوحدة و مُصادرة القوّة و القدرة، فتقول: «وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ».

و من البديهي أنّ المنازعات و الإختلافات في حركة الواقع الإجتماعي، إنّما هي من إفرازات الأخلاق الرّذيلة المنحطّة الكامنة في أعماق النّفس البشريّة مثل: الأنانيّة، التكبّر،

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 43

الحرص، الحقد، الحسد، و أمثال ذلك من عناصر الشرّ و الانحراف، و يترتب على ذلك توكيد عناصر الفشل و الإنحطاط، و زوال عناصر العزّة و القوّة من واقع المجتمع البشري.

و الجدير بالذّكر، أنّ القُرآن عبّر هنا ب: «تذهب ريحكم».

«الريح» في الأصل بمعنى «الهواء»، و هي كناية عن: «القدرة و القوّة و الغلبة»، و يمكن إستيحاء هذا المعنى من أنّ الرّيح عند ما تُحرّك رايات القبيلة؛ فانّه يُعدّ مظهراً للقوّة و الغَلبة، و عليه يكون مفهوم الجُملة؛ أنّ الإختلاف هو سبب زوال قوّتكم و عظمتكم و قدرتكم.

أو أنّ المفهوم مقتبس من هبوب الرّياح الموافقة، و التي هي سبب في سرعة حركة السّفن للوصول إلى المكان المقصود، و مع إنعدامها تتوقف الحركة.

و يقول صاحب «التّحقيق»: يُوجد علاقة بين الرّوح و الرّيح، فالرّوح ما يحدث في ما وراء الطّبيعة، و الرّيح بمعنى الحدوث في الطّبيعة.

و جاءت كلمة «ريح» في بعض الموارد، بمعنى العَطر الجميل، مثل: «إنّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَو لا أنْ تُفَنِّدُون» «1».

و على هذا يمكن القول أنّ معنى الجملة هو: أنّ الإتحاد يفضي إلى إنتشار نفوذكم و رائحتكم في العالم، و إذا

ما إختلفتم، فستفقدون نُفوذكم في العالم.

و على أيّة حال فأيّاً كان السّبب في الإختلاف، سواء كان: (الأنانيّة، الإنتفاعيّة، الحسد، البخل، و الحقد و غيرها)، فسيكون له الأثر السّلبي في الحياة الإجتماعيّة و تخلّفها، و من هنا تتجلى علاقة المسائل الأخلاقية بالمسائل الإجتماعية في حركة الواقع الإجتماعي للبشر.

النتيجة:

نستوحي من الآيات الآنفة الذّكر، أنّ الخُلق السّامي الإنساني، لا يقتصر تأثيره على السّلوك المعنوي و الاخروي للإنسان فحسب، بل له الأثر الكبير في الحياة الماديّة و الدنيويّة

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 94.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 44

للبشر، و عليه لا ينبغي أن نتصور أنّ المسائل الأخلاقيّة، مُنحصرة بالفرد وَحده على حساب الحياة الإجتماعية، بل العكس صحيح؛ فالأخلاق على علاقة قويّة و وطيدة مع الحياة الإجتماعيّة، و أيّ تحوّل إجتماعي في واقع الحياة البشرية، لا يمكن أن يحصل إلّا على أساس التّحول الأخلاقي.

و بتعبير آخر: إنّ النّاس الذين يعيشون في مجتمع كبير، و يرغبون في حياةٍ سعيدةٍ مقرونةٍ بالسّلم و التعاون المشترك، يجب عليهم على الأقل أن يَصِلوا إلى رُشدٍ أخلاقي، يدركون معه الحقائق المتعلقة بإختلاف أفراد الإنسان فكراً و روحاً و عاطفةً، لأنّ الأفراد يختلفون عن بعضهم البعض، فلا نتوقع أبداً من الآخرين أن يتبعونا في كلّ شي ء، و المهم في المسألة هو السّعي في الحفاظ على الاصول المشتركة بين المجتمع، و إختلاف الأذواق و الأفكار يجب التّجاوز عنه، إلى حيث اللّيونة و الحلم و سِعة الصّدر و النّظر إلى المستقبل، فلا يمكن لنفرين أن يُجسّدا بينهما تعاوناً حقيقيّاً في حركة الحياة و لمدّةٍ طويلةٍ، إلّا بعد التحلّي بأحد الاصول الأخلاقيّة الآنفة الذّكر.

و من البديهي أنّ التّهيؤ الأخلاقي لهضم نقاط الإختلاف، و الوصول إلى الوحدة و القدرة و

العظمة، هو أمر لازم و ضروري، و هو أمر لا يتحقق بالكلام فقط، بل يحتاج إلى تهذيبٍ و تعليمٍ و تربيةٍ لنفوس الأفراد، كي يصل المجتمع إلى الّنمو و التّكامل في المجالات الأخلاقية.

علاقة الحياة الماديّة بالمسائل الأخلاقيّة في الرّوايات الإسلاميّة:

ما إستفدناه من الآيات القرآنية في الموضوع الآنف الذّكر، له أصداءٌ واسعةٌ في الرّوايات الإسلاميّة أيضاً؛ حيث يحكي عن التّأثير العميق للصفات الأخلاقيّة في الحياة الفرديّة و الاجتماعيّة، و نشير إلى قسمٍ منها:

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 45

1- نقرأ في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «فِي سِعةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزاقِ» «1».

2- ورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام، قال: «حُسنُ الخُلقِ يَزيدُ في الرِّزقِ» «2».

3- ورد في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: كيف أنّ الأخلاق الحسنة تُؤثّر في جلب النّاس و تحكيم أواصر الصّداقة بينهم: «مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ كَثُرَ مُحِبُّوهُ وَ آنَسَتِ النُّفُوسُ بِهِ» «3».

4- ورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، يتطرّق فيه إلى هذا المعنى بصراحةٍ أكثر، فيقول: «إِنَّ البِرَّ وَ حُسنَ الخُلقِ يَعْمُرانِ الدِّيارَ وَ يَزيدَانِ فِي الأَعمَارِ» «4».

و لا شكّ أنّ تصاعد العمران و تماسك المجتمعات، يكون من خلال الإتحاد و التعاون بين أفراد المجتمع و طوائفه المختلفة، و كلّ ما يؤدّي إلى تقوية روح الاتحاد و التّعاون بين الناس، يُعتَبر من العوامل المهمّة في تحكيم المرتكزات الأساسيّة لبقاء المجتمع، و تفعيل حركة العمران فيه، و بالنسبة إلى طول العمر، نجد أنّه معلول غالباً، إلى الحياة الهادئة و البعيدة عن حالات القلق و الإضطراب، و في ظلّ التّعاون المشترك بين الأفراد. و كلّ هذه الامور تُعدّ من معطيات الأخلاق الحسنة في حركة الإنسان و الحياة.

5- و في هذا المضمار ورد في

حديثٍ عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، قال: «حُسنُ الخُلقِ يُثبِّتُ المَوَدَّة» «5».

و توجد أيضاً أحاديث مُتعدّدة، تحكي عن تأثير سوء الخُلق في إيجاد الكراهيّة في النفوس، و توهين الرّوابط بين الأفراد، و أنّه يورث النّفور و التّشتّت و ضنك المعيشة و سلب الرّاحة و الطّمأنينة.

6- ورد في حديثٍ عن الإمام علي عليه السلام: «مَنْ ساءَ خُلْقُهُ ضاقَ رِزقُهُ» «6».

7- و جاء في حديثٍ آخر أيضاً عن علي عليه السلام، أنّه قال: «مَنْ ساءَ خُلْقُهُ أَعْوَزَهُ الصَّدِيقُ و الرَّفِيقُ» «7».

______________________________

(1). بحار الانوار ج 75 ص 53.

(2). المصدر السابق. 68 ص 394

(3). غرر الحكم.

(4). بحار الانوار ج 68 ص 395.

(5). المصدر السابق 74 ص 148.

(6). غرر الحكم.

(7). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 46

8- و جاء أيضاً عن علي عليه السلام: «سُوءُ الخُلقِ نَكدُ العَيشِ و عَذَابُ النَّفسِ» «1».

9- سأل الإمام علي عليه السلام: مَنْ أَدومُ النّاسِ غَمّاً، قال: «أَسوَؤهم خُلقاً» «2».

10- و أخيراً نورد نصيحة لقمان الحكيم لإبنه، و هي: «و إِيّاكَ و الضَّجَرِ وَ سُوءُ الخُلقِ وَ قِلَّةِ الصَّبرِ فَلا يَسْتَقِيمُ عَلَى هذِهِ الخِصالِ صاحِبُ» «3»

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). مستدرك الوسائل، ج 2، ص 338 (الطبعة القديمة).

(3). بحار الأنوار، ج 10، ص 419.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 47

3

المذاهب الأخلاقيّة

اشارة

يوجد في علم الأخلاق مذاهبٌ كثيرةٌ، إنحرف أكثرها، و آلَ بها الأمر إلى مُخالفة الأخلاق، فمعرفتها ليس بالأمر الصّعب و خصوصاً في ظِلّ الهدي القُرآني؛ فيقول القرآن الكريم:

«و أنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفِرَّقَ بِكُم عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمُ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ» «1».

فأتت هذه الآية، بعد ذكر قسمٌ مهمٌّ من العقائد و البرامج العمليّة و الأخلاقيّة في الإسلام، و قد تضمنّت

عشرة أوامر إسلاميّة، جاءت لِتوصي المسلمين بأن يتحركوا في العقيدة في خط الإستقامة، بعيداً عن السّبل الاخرى التي تورثهم الفُرقة و الإنحراف، عن خطّ الإيمان باللَّه تعالى.

المذاهب الأخلاقيّة مثلها مِثلُ سائر المناهج الفردية الإجتماعية، فهي تستمد اصولها من النّظرة الكليّة لمفهوم العالم و هذان المفهومان: «الأخلاق و النظرة الكونية»، منسجمان و مرتبطان مع بعضهما بصورة وثيقة جدّاً، فالّذين يفصلون: «معرفة العالم»، النظريّة عن

______________________________

(1). سورة الأنعام، الآية 153.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 48

الأخلاق و الأوامر و النواهي الأخلاقية للعقل العملي، و ينكرون أية علاقة بينهما، إنطلاقاً من أنّ معرفة العالم و الكائنات الطبيعيّة تعتمد على الدلائل المنطقيّة و التجربيّة، و الحال أنّ «الأوامر» و «النّواهي» الأخلاقية، هي سلسلة من القضايا تحكم السّلوك، فهؤلاء أغفلوا نقطةً مهمةً، ألا و هي أنّ الأوامر الأخلاقيّة تصبح حكيمةً، إذا ما كوّنت لها علاقةً بالعالم الخارجي، و إلّا فستكون اموراً اعتباريةً فارغةً و غير مقبولةٍ، و يوجد هنا أمثلةٌ واضحةٌ تبيّن المطلب بصورةٍ جيّدةٍ:

عند ما يُصدر الإسلام حكماً ب: «حرمة شرب الخمر»، أو في القوانين الدوليّة: حول «خطر المخدرات»، فهذه أوامر إلهيّة أو بشريّة إستمدت اصولها من سلسلة الكائنات الواقعيّة، لأنّ الحقيقة المحضة؛ أنّ الشّراب و المخدّرات لها أثر تخريبي خطر على روح و جسم الإنسان، فلا يسلم من تأثير هذه المواد الضّارة و المدمّرة أيّ إنسان، و هذه الحقيقة هي سبب لذلك (الأمر)، و (النّهي).

و عند ما نقول أنّ الأحكام الإلهيّة ناشئة من المصالح و المفاسد؛ فإنّنا بالضّبط نستوحي ذلك من خلال القاعدة التي تقول: «كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع»، و هي أيضاً تُقرر وجود علاقة وثيقة بين الواقع و الأحكام: (الأوامر و النّواهي).

فما يُشرّع من قوانين

في المجالس التّشريعيّة البشريّة، و دراسة عواقبها الفرديّة و الإجتماعيّة و وضع القوانين على أساسها، يصب في نفس ذلك المصب بالضّبط.

و خلاصة القول: أنّه من الُمحال على الحكيم أن يصدر حكماً بعيداً عن الواقعيات في حياة البشر، و إلّا فلن يكون قانوناً بل هو لَغو في لَغو، و لأنّ الواقع هو واحد لا أكثر، فمن الطّبيعي أن يكون الطريق الصّحيح و المستقيم و القانون الأمثل واحد لا غير، ممّا يدعونا للسّعي الحثيث لإصابة الحق و الواقع و الأحكام و القوانين التي نشأت عنها.

إن ما ذُكر آنفاً يبيّن علاقة النّظريات الكليّة، في مجموعة الوجود و خلق الإنسان بالمسائل الأخلاقيّة، و من هنا فإنّ نشوء المذاهب الأخلاقيّة و تنوعها، يكمن في هذا السبب بالذات.

و بالنّظر إلى ما ذُكر أعلاه، نستعرض الآن المذاهب الأخلاقية:

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 49

1- الأخلاق في مدرسة الموحّدين:

هؤلاء يذهبون إلى أنّ اللَّه تعالى خالق الكائنات كلّها، فنحن منه و نعود إليه. و الهدف من خلق الإنسان، هو التّكامل في الجوانب المعنويّة و الروحيّة، و ما دام التقدم المادي و التّطور الحضاري للبشرية، يتحرك في خطّ التكامل المعنوي، فهو يُعتبر هدفاً معنويّاً أيضاً.

و يمكن تعريف التّكامل المعنوي بأنّه: «القرب من اللَّه تعالى، و السّير على الطّريق الذي يقرّب الإنسان لصفات الكمال الإلهيّة».

و إعتماداً على هذا المعيار، فإنّ الأخلاق من وجهه نظر هذا المذهب، هي كلّ صفات الأفعال التي تساعد الإنسان في سيره على هذا الطريق، و التّقييم الأخلاقي في هذا المذهب، يدور حول القِيَم و المُثل و الكَمالات الرّوحية و المعنويّة و القُرب من اللَّه تعالى.

2- الأخلاق المادية:

من المعلوم أنّ المادّيين لهم مذاهب متعددّة، و المعروف منها الشيوعيّة، حيث يرون كلّ شي ء من خلال منظار المادّة، و لا يؤمنون باللَّه و المسائل الروحيّة و المعنويّة، و يقولون بأصالة الإقتصاد، و يعطون للتأريخ ماهيّةً ماديّةً و إقتصاديةً، فكلّ شي ء يؤدي إلى تقوية الإقتصاد الشّيوعي في المجتمع، فانّه يعتبر من الأخلاق أو على حد تعبيرهم: «كلّ شي ء يعجّل في الثورة الشيوعيّة، فهو الأخلاق»، فمثلًا المعيار الأخلاقي للكَذب و الصّدق، يقاس بمدى تأثير ذلك السّلوك الأخلاقي على الثّورة، فإذا أدّى الكذب إلى التسّريع بالثورة فهو أمر أخلاقي، و إذا أضرّ الصّدق بالثّورة، فهو أمر غير أخلاقي!

و المذاهب الماديّة الاخرى كذلك، فكلّ مذهب يُفسّر الأخلاق حسب ما يرتئيه مسلكه، فالّذين يقولون بأصالة اللّذة، و الإستفادة من اللذائذ الماديّة، لا يوجد شي ء عندهم بإسم الأخلاق، أو بالأحرى أنّ الأخلاق عندهم، هي الصّفات و الأفعال الّتي تمهد الطّريق للوصول إلى اللذّة.

و أمّا الّذين أعطوا الأصالة للفرد و المصالح الشخصيّة، و

المجتمع محترم عندهم ما دام

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 50

الاخلاق فى القرآن ج 1 98

منسجماً مع منافع الفرد الشّخصية، (كما هو الحال في المذاهب الغربية الرأسمالية)، فهم يفسّرون الأخلاق بالامور التي توصلهم إلى مصالحهم الماديّة و الشخصيّة، و يضحّون بكلّ شي ء لأجل هذه الغاية.

3- الأخلاق من وجهة نظر الفلاسفة العقليّين:

أمّا الفلاسفة الذين يقولون بأصالة العقل، و يذهبون إلى أنّ غاية الفلسفة هي: (صَيرورة الإنسان عالماً عقليّاً مضاهياً للعالم العيني)، ففي مجال الأخلاق، يفسّرون الأخلاق بالصّفات و الأعمال التي تساعد الإنسان على تحكيم العقل، و سيطرته على القوى و النّوازع البدنية، بعيداً عن الخضوع للشّهوات و الطّبائع الحيوانيّة، و الأهواء النّفسية في حركة الحياة.

4- الأخلاق في مذهب محوريّة الغير:

جماعة اخرى من الفلاسفة أعطت الأصاله للمجتمع، و قالوا أنّ الأصالة للجماعة لا للفرد، فهم يفسّرون الأخلاق بالأفعال التي يكون الغير فيها هو الهدف، و كلّ فعل يعود بالنّفع للإنسان نفسه، فهو فعل غير أخلاقي، و الأفعال التي يكون محورها نفع الغير تكون أخلاقيّة.

5- الأخلاق في المذهب الوجداني:

اشارة

قسم من الفلاسفة قالوا بأصالة الوجدان لا العقل، و يمكن تسميتهم ب: «الوجدانيّين»، أو بمؤيّدي: «الحسن و القبح العقلي»، و قصدهم من ذلك العقل العملي لا النّظري، فالأخلاق عندهم عبارةٌ عن سلسلة من الامور الوجدانيّة غير البرهانيّة، أي أنّها تُدرك بدون حاجةٍ إلى منطقٍ و استدلالٍ، فمثلًا الإنسان يدرك أنّ العدل حسنٌ، و الظّلم قبيحٌ، و يُشخّص أنّ الإيثار و الشّجاعة أمران جيّدان، الأنانيّة و الظّلم و البخل امورٌ قبيحةٌ، و لا يحتاج في إدراك هذا المعنى، إلى إستدلال عقلي من خلال دراسة تأثير هذه الأفعال و السّلوكيات في واقع الفرد و المجتمع.

و عليه يجب أن نتحرك من موقع تقوية الوجدان الأخلاقي في الإنسان، و نُزيل من الطّريق كلّ ما يُضعف الوجدان، و بعدها سنرى أنّ الوجدان قاضٍ و حاكمُ جيّدٌ لتشخيص الأخلاق

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 51

الحسنة من القبيحة.

المؤيدون: «للحُسن و القُبحِ العقليين»، رغم أنّهم يتكلّمون دائماً عن العقل، و لكن و من الواضح أنّهم يقصَدون العقل الوجداني، لا العقل الإستدلالي، فهم يقولون إنّ حُسن الإحسان، و قبح الظّلم في الدائرة الأخلاقيّة لا يحتاج فيهما إلى دليل و برهان، فالإنسان السّليم النّفس يعيش هذه المفاهيم الأخلاقية، من موقع الوضوح في الرؤيّة و البداهة، و على هذا فإنّهم يقولون بالأصالة للوجدان في دائرة الأخلاق.

و لكن الكثير منهم لا ينكرون سكوت الوجدان عن بعض الامور، و عدم إدراكه لها، و هنا

يجب الإستعانة بالشّريعة و الوحي لفصل الامور الأخلاقية عن غيرها، و بالإضافة إلى ذلك، إذا ورد تأييد من الشّرع لما حكم به العقل، فإنّ ذلك سيكون عاملًا مهماً في ترسيخ هذه المفاهيم في عالم الوجدان، و ترجمتها على مستوى الممارسة و العمل.

النّتيجة:

بعد الإشارة إلى أهمّ المذاهب الأخلاقية في هذا الفصل، تتبيّن خصوصيات المذهب الأخلاقي للإسلام بصورةٍ كاملةٍ، حيث يرى أنّ:

(أساس هذا المذهب الأخلاقي، هو الإيمان بربوبيّة اللَّه تعالى، الذي هو الكمال المطلق و مُطلق الكمال و أوامره ساريةٌ و جاريةٌ على جميع العالم، و كمال الإنسان في تطبيق صفاته الجلالية و الجماليّة، و القرب من اللَّه تعالى أكثر فأكثر).

و هذا لا يعني أنّه لا أثر للصفات الأخلاقية في إنقاذ الإنسان و المجتمع البشري، من عناصر الشّر و قوى الإنحراف، و لكن و في نظرةٍ إسلاميّةٍ عالميّةٍ صحيحةٍ، أنّ العالم عبارةٌ عن وحدةٍ متماسكةٍ، و أنّ واجب الوجود هو قُطب هذه الدائرة، و ما عداه مُتّصل به و مُعتمد عليه، و في الوقت نفسه هناك علاقة و إنسجام تام بين المخلوقات، فكلّ شي ء يساعد على إصلاح المجتمع البشري و تطهيره من البؤر و أشكال الخلل الأخلاقي، فسيكون عاملًا مؤثراً في

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 52

إصلاح الفرد في دائرة السّلوك الأخلاقي، و بالعكس.

و بعبارة اخرى: إنّ القيم الأخلاقيّة لها إزدواجيّة في التأثير، فتصنع الفرد و المجتمع على السّواء،

و الذين يتصورون أنّ المسائل الأخلاقيّة هدفها الغير و ليس النّفس على أشتباه كبير، لأنّ مصلحة الإثنين في الواقع واحدةٌ، لا تتجزّأ إلّا في مراحل مقطعيّة محدودة و قصيرة، و قد تقدّم الحديث عن هذا المفهوم، و سيأتي في المستقبل إن شاء اللَّه تعالى.

ملاحظات:

1- الأخلاق و النسبيّة
اشارة

هل أنّ الأخلاق الحسنة و القبيحة، و الرّذائل و الفضائل، جيدةٌ أو قبيحةٌ ذات أبعاد مطلقةٌ في كلّ مكان و زمان، أم أنّ هذه الصفات نسبيّة؛ فربّما تكون في مكان و زمان آخر جيدة أو سيئة؟

الذين يقولون أنّ الأخلاق نسبيّة ينقسمون إلى قسمين:

الفئة الاولى: هم الّذين

يقولون بنسبيّة عالم الوجود كلّه، فإذا كان الوجود و العدم نِسبّيان، فإنّ الأخلاق تدخل في هذه الدائرة أيضاً.

الفئة الثانية: هم الذين لا يرون أنّ هناك علاقةُ بين عالم الوجود و بين الأخلاق، فالمعيار عندهم لمعرفة الأخلاق الجيّدة من غيرها هو المجتمع، و قبوله و عدم قبوله لها، و هذا يعني أنّ الشّجاعة ربّما تكون فضيلة عند مجتمعٍ، في ما لو كانت مقبولةٌ، و قد تكون نفس تلك الفضيلة رذيلة في مجتمعٍ آخر.

و هذه الفئة، لا تعتقد بالحُسن و القُبح الذاتي للأفعال أيضاً، و المعيار هو قبول و عدم قبول المجتمع لها.

و قد رأينا في البحث السّابق، أنّ المسائل الأخلاقيّة تعتمد على معايير للقياس، تكون وليدة النّظرات الكونيّة، فالمذهب الذي يعتبر المجتمع هو الأصل و الأساس لقبول الامور، و

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 53

بشكلها المادي، فان أفراده لا وسيلة لهم إلّا القبول بنسبيّة الأخلاق، لأنّ المجتمع البشري يكون دائماً في حالة تغيّر و تحوّل، و على هذا فليس من العجيب في أمر هذه الجماعة أنّهم جعلوا الرأي العام للمجتمع، هو المرجع لتشخيص الحَسن و القَبيح من الأخلاق.

و نتيجةُ مثل هذه العقيدة، معلومةٌ و واضحةٌ قبل أن تظهر للوجود؛ لأنّها تُسبب في تبعيّة القيم الأخلاقية للمجتمعات البشريّة، و التّوافق مع الظّروف و متغيرات و أحوال ذلك المجتمع، و الحال أنّ المجتمع هو الذي يجب أن يتبع الاصول الأخلاقيّة: لِتُصلح مفاسده.

فمن وجهة نظر هذه الجماعة، أنّ وأد البنات و هنّ أحياء، في زمن المجتمع الجاهلي العربي القديم، هو أمر أخلاقي، و كذلك الغارات التي كانت تشنّها القبائل على بعضها البعض، و تعتبر عندهم من المفاخر، و لأجلها كانوا يُحبّون الأولاد و يقدّرونهم، حتى يكبروا و يحملوا السّلاح ليحاربوا

مع آبائهم، فهي أيضاً أمر أخلاقي، و كذلك الجنسيّة المثليّة المتفشيّة في الغرب، تُعتبر من وجهة نظرهم أمراً أخلاقيّاً؟!

فالعواقب الخطيرة التي تحملها أفكار هذه المذاهب في حركة الواقع الإجتماعي، لا تخفى على عاقلٍ طبعاً.

و لكن في الإسلام، فإن المعيار الأخلاقي و الفضائل و الرّذائل، تُعيّن من قبل الباري تعالى و ذاته ثابتةٌ لا تتغير، فالمُثل و القِيم الأخلاقيّة ستكون ثابتةً و لا تتغير، و يجب أن تكونَ هي القاعدةُ الأصلُ للأفراد و المجتمع في سلوكهم الأخلاقي، لا أن تكون الأخلاق تابعةٌ لرغبات و مُيول المجتمع.

الموحدون يعتقدون أنّ الفطرة و الوجدان الإنساني إذا لم تتلوث؛ فستبقى ثابتةً أيضاً، بإعتبارها تمثل النّور المنعكس عن الذّات المقدسة للباري تعالى و على هذا فإنّ الأخلاقيّات تعتمد على الوجدان، و بعبارةٍ اخرَى فإنّ القُبحَ و الحُسنَ العَقليان: (المقصود العقل العملي لا النّظري)، يثبتان أيضاً.

الإسلام ينفي نسبيّة الأخلاق:

طرح القرآن الكريم في آياتٍ عديدةٍ كلمة «الطيّب و الخبيث» بصورةٍ مطلقةٍ، و لم يجعل

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 54

للمجتمعات البشرّية دور في صياغة القيم في هذا المجال، فنقرأ في الآية (100) من سورة المائدة: «قُل لا يَسْتَوي الخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَو أَعْجَبَكَ كَثرَةُ الخَبِيثِ».

و في الآية (157) من سورة الأعراف في وضعها للرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «وَ يُحِلُّ لَهُم الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلِيهِم الخَبَائِثَ».

و في سورة البقرة الآية (243) يقول الله تعالى «إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرُونَ».

و في الآية (103) من سورة يوسف عليه السلام يقول الله تعالى «وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَو حَرَصْتَ بِمُؤمِنينَ».

في هذه الآيات يُعتبر الإيمان و الطّهارة و الشّكر، من القيم و المُثل و إن كان أكثر الناس

يخالفون ذلك، و الكفر و الخُبث و كفران النعمة، تعتبر في مقابل القِيم، رغم أنّ الأكثريّة تتحرك في هذا الخط.

و قد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام، هذا المعنى كثيراً في خُطَبِه في نهج البلاغة. و أنّ قبول و عدم قبول الأكثريّة لُخلقٍ أو عملٍ ما، لا يكون مِعياراً للفضيلة و الرّذيلة و كذلك الحُسن و القُبح.

فقال الإمام عليه السلام في خطبةٍ: «يا أَيّها النّاسُ لا تَستَوحِشُوا في طَرِيقِ الهُدى لِقِلَّةِ أَهلِهِ فإنَّ النّاسَ قَد إِجتَمَعُوا عَلى مائِدةٍ شِبَعِها قَصِيرٌ وَ جُوعِها طَوِيلٌ». «1»

و قال في خطبة اخرَى: «حَقٌّ وَ باطِلٌ، وَ لِكلٍّ أهلِ؛ فَلإن أمِرَ الباطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ وَ لإن قَلَّ الحَقُّ فَلَرُبَّما وَ لَعَلّ» «2».

فكلّ هذه النّصوص الإسلاميّة تنفي النسبيّة في الأخلاق، و لا تعتبر قبول الأكثريّة في المجتمع معياراً لها.

و يوجد في القرآن الكريم و الروايات الإسلاميّة، شواهد كثيرة على هذه المسألة، لو جمعت لبلغت كتاباً كبيراً.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 1 و 2.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 16.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 55

سؤال:

و هنا سؤال يفرض نفسه و هو: إنّ النسبيّة في الأخلاق قد تكون مقبولةً في بعض الموارد في الشّرائع السّماويّة، (و خُصوصاً الإسلام)؛ فمثلًا يعتبر الكذب ضد القيم و المُثل و عملًا غير أخلاقي، لكنّ الكذب لغرض الإصلاح بين الناس أو في مقام المشورة، يعتبر عملًا أخلاقيّاً، و هذه المسألة ليست بقليلة الموارد في التعاليم الإسلامية، فيعتبر هذا نوعاً من قبول النسبيّة للأخلاق.

الجواب:

إنّ نسبيّة الأخلاق و الحُسن و القُبح مطلبٌ، و الإستثناء مطلب آخر.

و بعبارةٍ اخرَى: لا يوجد أصل ثابت في النسبيّة، فالكذب لا هو حسن و لا هو قبيح، و كذلك العدل و الإحسان أو الظّلم و الطّغيان، فحُسنها و قُبحها لا يتبيّن للإنسان إلّا إذا قبلتها الأكثريّة من موقع القيم أو رفضتها كذلك.

و لكن في الإسلام و التعاليم السّماوية، فالكذب و الظّلم و البخل و الحسد و الحقد، كلّها تعتبر ضد القيم و المُثل، سواء قبلتها أكثريّة الناس أم لا، و بالعكس، فالإحسان و العدالة و الصّدق و الأمانة، قيم و مُثل رفيعةٌ سواء قبلها المجتمع، أم لا.

فهذا هو الأصل الكلّي للمسألة، و لا مانع من وجود الإستثناء له، فالأصل كما هو واضحٌ من إسمه أساس و جذر الشي ء، و الإستثناء بمنزلة بعض الفروع و الأوراق الزّائدة، و وجود بعض الإستثناءات في كلّ قاعدةٍ لا يمكن أن يكون دليلًا على نسبيّتها، فإذا تجلّى لنا هذا الفرق بين هذين الإثنين، أمكننا تجنّب الوقوع في كثير من الأخطاء.

و يجب الإلتفات أيضاً الى أنّ الموضوعات يمكن أن تتغيّر بمرور الزّمان أيضاً، فالأحكام التابعة للموضوعات تتغيّر أيضاً، و هذا الأمر لا يمكن أن يُعتبر دليلًا على النسبيّة.

بيان ذلك: إنّ لكلّ حكمٍ موضوعه الخاص؛ العدوان على الآخرين

يعتبر جنايةً قابلةً للقصاص و التّعقيب، و لكن يمكن أن يتغيّر الموضوع، في يد الطّبيب و الجرّاح الذي يمسك

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 56

المِبضع لينقذ حياة المرضى فيفتح بمشرطه القلب و يخرج الغدد الخبيثة، فالموضوع يتغيّر هنا، فلا يمثّل هذا العمل جناية، بل يستحق عمله التّقدير و الجائزة.

فلا يمكن لأحد أن يعتبر تغيّر الأحكام و الموضوعات دليلًا على النسبيّة، و النسبيّة تقوم على أساس تبدّل الأحكام، بالرّغم من عدم تحوّل و تغيّر الموضوع الماهَوي، و الموضوعي بالنسبة للأشخاص أو الأزمان المختلفة.

و أحكام الشّرع كذلك، فالخمر حرام و نجس، و لكن من الممكن و بعد مرور عدّة أيّام، أو بإضافة مادّةٍ ما يمكن تحويله إلى خلّ طاهر محللّ، فلا يمكن لأحدٍ أن يعتبر هذه من نسبيّة الأحكام، و النسبيّة هنا أن يكون الخمر حلال عند مُستحلّيه و حرامٌ عند مانعيه، من دون أن يتغيّر شي ء في ماهيّة الخمر.

في المسائل الأخلاقيّة أيضاً، يمكن أن نصادف موضوعات، تكون للوهلة الأولى من الفضائل، و لكن و بالتّحول في دائرة الموضوع، يمكن أن تتغيّر إلى رذيلةٍ؛ فعدم الخوف مثلًا و إلى حد الإعتدال يُعتبر شجاعة و فضيلةٌ، و لكن إذا تعدّى الحدود، فيكون تهوّراً و يدخل في حيّز الرّذائل.

و كذلك في الامور الاخرى التي تُشابهها، فالكذب يعتبر منشأ للمفاسد الكثيرة، و سبباً لزوال الثّقة بين النّاس، و لكن إذا كان لغرض الإصلاح بين الناس، فهو حلالٌ و فضيلةٌ.

و يمكن أن يعتبر البعض، هذه الامور و التغيّرات في المواضيع من النسبيّة، و لا نزاع فيما بيننا في التّسمية، و مثل هذا النزاع يعتبر لفظيّاً، لأنّه مثل هذه الموارد تعتبر من قبيل التغيّر في الموضوع و الماهيّة، و إذا كان قصد

أصحاب النسبيّة هذا، فلا بأس، و لكنّ المشكلة في أن يكون المعيار: للفضيلة و الرّذيلة و الحُسن و القُبح الأخلاقيين، هو قبول أكثريّة المجتمع.

و من مجموع ما تقدم، نستنتج أنّ نسبيّة الأخلاق مردودة، من وجهة نظر الإسلام و القرآن و المنطق و العقل، و طرح مسألة النسبيّة تلك تُعتبر أو تُساوي عدم الأخلاق، لأنّه و طبقاً للنظريّة النسبيّة للأخلاق، فإنّ كلّ رذيلةٍ إنتشرت في المجتمع فهي فضيلةٌ، و كلّ مرضٍ أخلاقي تفشّى بين الناس؛ فهو صحّةٌ و سلامةٌ، و بدلًا من أن تكون الأخلاق عاملًا لرقيّ المجتمع في خطّ

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 57

التّكامل الحضاري، فستتحول إلى عامل لنشر الفساد و الانحطاط.

2- التّأثير المتقابل بين (الأخلاق و (السّلوك)
اشارة

علاقة الأخلاق و العمل، و تأثير الأخلاق في السّلوك أمر لا يخفى على أحد، لأنّ الأعمال عادةً تنبع من الصّفات الداخليّة في النّفس الإنسانية، فالشّخص الذي تسيطر حالة البخل و الحسد و الكِبَر على قلبه و فكره و روحه، فمن الطّبيعي أن تكون أعماله على نفس الشّاكلة، فالحسود يتحرك في أعماله دائماً من موضع هذه الخصلة الذميمة، التي هي كالشّعلة المتّقدة في روحه، تسلب الرّاحة منه، و كذلك الأفراد المتكبرين، مشيتهم و كلامهم و قيامهم و قعودهم، كلّها تعطي حالة الغرور فيهم، و تشير إلى روح التَّكبر في نفوسهم، و هذا الحكم يشمل الصفات، و الأخلاقيّة الصّالحة و الطالحة على السّواء.

و لأجل ذلك، يعتبر بعض المحقّقين مثل هذه الأعمال، أعمالًا أخلاقية، يعني أعمال تنشأ من الأخلاق الصّالحة و الطّالحة بصورةٍ بحتةٍ، و في مقابل الأعمال التي تصدر أحياناً من الإنسان، تحت تأثير الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و الإرشاد و النّصح مثلًا، من دون أن يكون لها جذر أخلاقي، و طبعاً مثل

هذه الأعمال تعتبر أقلّ بالنسبة للأعمال الأخلاقيّة.

و هنا يمكن أن نستنتج، أنّه و لأجل إصلاح المجتمع و إصلاح أعمال الناس، يتوجب علينا إصلاح جذور الأعمال الأخلاقيّة، لأنّ أغلب الأعمال تعتمد على الجذور الأخلاقيّة، و على هذا كان أكثر سعي الأنبياء عليهم السلام و المصلحين الإجتماعيين الإسلاميين، يصبّ في هذا السبيل، لأنّه و بالتّربية الصّحيحة، تنمو و تتبلور الفضائل الأخلاقيّة في كلّ فرد من أفراد المجتمع، و تصل الرذائل إلى أدنى الحدود، و بذلك يمكن إصلاح الأعمال التي تترشح من الصّفات الأخلاقيّة، و الإشارة في بعض الآيات القرآنية إلى «التّزكية»، تصبّ في هذا المصب أيضاً، هذا من جهةٍ:

و من جهةٍ اخرى، أنّ التّكرار لفعل ما يمكن أن يكون له الأثر في تكوين الأخلاق، لأنّ كلّ

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 58

فعل يفعله الإنسان سيؤثر في روحه و نفسه، و سيعمِّق ذلك الأثر حتى يصبح عادةً، و إذا تكرّر بصورة أكبر فسيتعدّى مرحلة العادة، و يتبدّل إلى «مَلَكةٍ» و «حالةٍ»، تدخل في الخصوصيّات الأخلاقيّة للإنسان.

و على ذلك، فإنّ العمل و الأخلاق لهما تأثيرٌ مُتقابل، و يمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر.

و لهذه المسألة شواهدٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم منها:

1- في الآية (14) من سورة «المطفّفين»، و بعد الإشارة إلى الصفات القبيحة لطائفةٍ من أهل النار، و المعذبين، قال الله تعالى «كَلّا بَل رانَ عَلى قُلُوبِهِم ما كَانُوا يَكْسِبُونَ».

و هذه الآية دليلٌ على أنّ الأعمال القبيحة تجثم على القلب، كما يجثم الصّدأ على الحديد، و تُزيل النّور و الصّفاء الفطري الدّاخلي للإنسان و تُطفئهُ، و تصوغه بقالبها.

2- في الآية (81) من سورة البقرة قال الله تعالى «بَلى مَن كَسَبَ سَيّئةً وَ أحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَاولئِكَ أصحابِ النّارِ هُم

فِيها خالِدُونَ».

و القصد من الإحاطة للخطيئة، هو تراكم إفرازات الخطيئة في نفس الإنسان حتى تصل النّفس إلى مرحلة الختم، و الطّبع، و تتطبّع بالذنوب، فلا يُفيد فيها النّصح و الموعظة و لا الإرشاد، و كأنّه قد تغيّرت ماهيّة ذلك الإنسان، و صفاته الإخلاقية في واقعه النفسي، بل و بالإصرار على الذّنوب، فإن المعتقدات الدينيّة للفرد ستطالها يد التّغيير أيضاً.

كما و أشارت الآية (7) من سورة البقرة الواردة في بعض الكفار المعاندين، إلى هذا المعنى أيضاً، حيث تقول: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَ عَلَى سَمعِهِم وَ عَلى أَبصارِهِم غِشاوةٌ وَ لَهُم عَذابٌ عَظِيمٌ».

و من الواضح أنّ الباري تعالى شأنه: لا يتعامل مع أحد من الناس من موقع العداوة و الخُصومة، و لكنّ الواقع أنّ آثار أعمال الناس هي التي تضع الحُجب و الحواجز على الحواسّ، فلا تُدرك الحقيقة، (و نسبة هذه الامور للباري تعالى، إنّما هو لأجل أنّ اللَّه تعالى هو مُسبّب الأسباب و كلّ شي ء إنّما يصدر عن ذاته المقدّسة).

و في الآية (10) من سورة «الرّوم» يتعدى ذلك و يقول الله تعالى إنّ الأفعال السيّئة تغيّر

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 59

عقيدة الإنسان و تُؤدي به إلى الحضيض: «ثُمَّ كَانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ أساءوا السُّوأى أنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كَانُوا بِها يَستهزءُونَ».

و منها يتبيّن أنّ الأعمال و الصّفات القبيحة و ارتكاب الذنوب، إذا ما أصرّ و إستمرّ عليها الإنسان، ستمتد إلى أعماق نفس الإنسان، و لا تؤثّر على أخلاقه فحسب، بل تقلب عقائده رأساً على عقب أيضاً.

و نقرأ في آيةٍ اخرى من القرآن الكريم: أنّ الإصرار على الذنب و تكراره و سوء العمل، يُميت عند الإنسان حسّ الّتمييز و التّشخيص، بحيث يرى الحسن قبيحاً و القبيح

حَسناً، فنقرأ في الآية (103 و 104) من سورة الكهف حيث تقول: «هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخسَرِينَ أَعمالًا الّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَ هُم يَحْسِبُونَ أَنّهُم يُحْسِنُونَ صُنعاً».

3- و في آيةٍ اخرَى يصرح القرآن الكريم بأن الإصرار على الكذب و خُلف الوعد مع اللَّه سبحانه، سيورث الإنسان صفة النّفاق في قلبه، فيقول الله تعالى: «فأَعقَبَهُم نِفاقاً فِي قُلُوبِهِم إلى يَومِ يَلقَونَهُ بِما أَخلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كَانُوا يَكذِبُونَ».

و يعلم القاري الكريم أنّ «يكذَّبون»: هو فعل مضارع و يدل على الإستمرار، حيث يُبيّن تأثير هذا العمل السّي ء و هو الكذب في ظهور روح النّفاق؛ لأننا نعلم أنّ الكذب و خاصّةً في لباس الإنسان الصادق، ليس هو إلّا إختلاف الظّاهر و البّاطن، و النّفاق الباطني هو تبديل هذه الحالة إلى ملكةٍ.

التّأثير المتقابل للأخلاق و العمل في الأحاديث الإسلاميّة:

الحقيقة أنّ الأعمال الصالحة و الطالحة تؤثر في روح الإنسان و تبلورها، و تحكّم الخلق السيّ، و الحسن فيها، و لهذا الأمر صدىً واسعاً في الأحاديث الإسلاميّة، و نذكر منها هذه الأحاديث الثلاثة الآتية:

1- نقرأ في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام: كان أبي يقول: «ما مِن شي ءٍ أفسدُ لِلقلَبِ مِن

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 60

خَطيئةٍ، إنّ القَلبَ ليُواقِع الخَطِيئةَ فَما تَزالُ بِهِ حتّى تَغلِبَ عَلَيهِ فَيَصِيرَ أعلاهُ أسفَلَهُ» «1».

طبعاً هذا الحديث، أكثر ما ينظر إلى تحول و تغيّر الأفكار و تأثّرها بالذنّوب، و لكن و بصورة كليّة، فهو يبيّن تأثير الذّنوب في تغيير روح الإنسان.

2- في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أذنَبَ الرّجلُ خَرَجَ في قَلبِهِ نُكتَةٌ سَوداءٌ، فإنْ تَابَ إنمَحَتْ وَ إنْ زَادَ زادَتْ، حتّى تَغلِبَ عَلى قَلبِهِ، فَلا يَفلِحُ بَعدَها أبداً» «2».

و لأجل ذلك نبّهت الأحاديث الإسلاميّة

على خطورة الإصرار على الذّنب، و أنّ الإصرار على الذّنوب الصّغيرة يتحول إلى الكبائر «3».

و جاء هذا المعنى في الحديث المعروف، عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام، في معرض جوابه للمأمون، و فيه تبيان كُلّي حول مسائل الحلال و الحرام، و الفرائض و السّنن، فمن المسائل التي أكّد عليها الإمام عليه السلام، هو أنّه جعل الأصرار على الذّنب، من الذّنوب الكبيرة «4».

3- جاء في كتاب (الخصال)، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «أربعُ خِصالٍ يُمِتْنَ القَلبَ:

الذَّنبُ عَلَى الذَّنبِ ...». «5»

و جاء مُشابه لهذا المعنى في تفسير «الدُّر المنثور» «6».

هذه التّعبيرات توضّح جيّداً أنّ تكرار عملٍ ما، له تأثير في قلب و روح الإنسان بصورةٍ قطعيةٍ، و يصبح مصدراً لتكوين الصّفات: الرّذيلة و القبيحة، و لأجل ذلك جاءت الأوامر للمؤمن إذا ما أذنب و أخطأ، بالتّوبة السّريعة، ليمحي آثارها من القلب، و لئلّا تصبح عنده على شكل «حالةٍ» و «مَلكةٍ» و صفةٍ باطنيّةٍ، فجاء في الأحاديث الشّريفة، أنّه يتوجب على

______________________________

(1). أصول الكافي، ج 12، بابّ الذّنوب، ح 1 ص 268.

(2). المصدر السابق، ج 13، ص 271.

(3). بحار الأنوار، ج 1، 351.

(4). المصدر الساق، ص 366.

(5). الخصال، ج 1، ص 252.

(6). الدر المنثور، ج 6، ص 326.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 61

الإنسان أن يجلو الصّدأ من على قلبه، كما نقرأ في الحديث عن الرّسول الكريم صلى الله عليه و آله:

«إنّ القُلُوبَ لَتَرِينُ كَما يَرِينُ السّيفُ، وَ جَلاؤها الحَدِيثُ» «1».

3- الأخلاق الفرديّة و الإجتماعيّة

المسألة الاخرى الّتي يتوجب ذكرها هُنا هي: هل أنّ المسائل الأخلاقيّة تتشكل من خلال علاقة النّاس بالآخرين، بحيث أنّ الإنسان إذا ما عاش وحيداً فريداً لا يكون لديه مفهوم حول الأخلاق،

أو أنّ بعض المفاهيم الأخلاقيّة لها موارد في سلوك الإنسان حتى لو عاش لِوَحده، بالرّغم من أنّ أعظم المسائل الأخلاقيّة، تتجلى أكثر في عمليّة علاقة الأشخاص مع بعضهم البعض، و لهذا يمكن تقسيم الأخلاق إلى قسمين: فرديّة و إجتماعيّة؟.

للجواب عن هذا السّؤال، يجب أن نلفت أنظاركم، إلى البحث الذي جاء في كتاب «زندگى در پرتو أخلاق»، «الحياة على ضوء الاخلاق» و سنورده بالكامل هنا:

(يعتقد البعض أنّ كلّ الاسس الأخلاقية، تعود إلى العلاقات الإجتماعية مع الآخرين، فلو إنعدم المجتمع و عاش الإنسان وحيداً فريداً، أو أنّ كلّ إنسان عاش مستقلًاّ عن الآخر، لا يعرف عنه شي ء، فلن يكون هناك مفهوم للأخلاق أصلًا!، لأنّ الحسد و التّواضع و الكِبَر، و حُسن الظّن، و العدالة و الجَور و العفّة و الكَرم، كلّها من المسائل الّتي لا يتجلى مفهومها إلّا بوجود المجتمع خاصّة، و تعامل النّاس مع بعضهم البعض، و بناءً على هذا، فإنّ الإنسان بدون المجتمع، يساوي الإنسان من دون أخلاق).

(و لكن بعقيدتنا، و على الرّغم من الإعتراف، بأنّ كثيراً من الفضائل و الرّذائل الأخلاقيّة، لها علاقة مباشرة بالحياة الإجتماعية، و لكنّها ليست بصورةٍ مطلقةٍ، فكثيرٌ من الأخلاق لها جوانب فردية، و تصدق على الإنسان الوحيد بصورةٍ خاصةٍ، فمثلًا الصّبر و الجزع، و الشّجاعة و الخوف، و المشاجرة و الكسل، و أمثال ذلك من الحالات و الصّفات النّفسية التي تفرضها حالات الصّراع مع الطّبيعة، و كذلك الغفلة و الشّعور اتّجاه الخالق الكريم، و الشّكر و الكفران

______________________________

(1). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 531، ح 23.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 62

لنعمه التي لا تُحصى و ما شابه تلك الامور، الّتي بحثها علماء الأخلاق في كتبهم، و عدّوها من

الفضائل أو الرّذائل، فكلّ تلك الامور يمكن أن تدخل في الإطار الفردي للسّلوك، و تصدق على الإنسان المعزول عن المجتمع و من هنا يتبيّن أنّ الأخلاق على قسمين: «أخلاقٌ فرديّةٌ» و «أخلاقٌ إجتماعيّةٌ». و من المعلوم أنّ الأخلاق الإجتماعيّة، التي لها الثّقل الأكبر في علم الأخلاق، و صياغة شخصيّة الإنسان: تدور حول هذا المحور، و إن كنّا لا ننسى أيضاً أنّ الأخلاق الفرديّة لها وزنها، و وضعها الخاص بها) «1».

و لا شكَّ أنّ هذا التّقسيم، لا يقلّل من قيمة المسائل الأخلاقيّة، و لكنّه يُقسّم المباحث الأخلاقيّة إلى درجاتٍ من حيث الأهميّة، و لا داعي لإتلاف الوقت في معرفة و تمييز الأخلاق، هل أنّها فردية أم إجتماعية، و ما أشرنا إليه آنفاً، يكفي للإحاطة بمعرفةٍ إجماليّةٍ حول هذا الموضوع.

و لا يمكن انكار أنّ الأخلاق الفردية، لها تأثيرها غير المباشر في القضايا الإجتماعية أيضاً.

______________________________

(1). زندگى در پرتو أخلاق، ص 29- 31.

4

دعائم الأخلاق

اشارة

إذا شبّهنا الأخلاق بشجرة باسقةٍ مثمرةٍ، معرضةٍ للآفات و الأخطارِ، فدعامتها الأخلاقيّة يمكن أن نُشبّهها بالفلّاح، أو الماء الذي يجري من تحتها، و لو لا الماء و الفلّاح ليَبِست تلك الشّجرة، أو لأصيبت بأنواع الآفات و الأمراض، حتى تموت أو يغدو ثمرها قليلًا.

و قد إختلف علماء الأخلاق و الفلاسفة، في صياغة الدّعائم الأساسيّة للأخلاق بشكلٍ كبيرٍ، فكلُّ مجموعةٍ تذكر آرائها و نظراتها حول المسألة، تبعاً لرأيها و نظرتها في مسألة معرفة العالم. و نشير هنا إلى عدّة نماذج مهمّة:

1- دَعامة الإنتفاع

يوصي البعض بالأخلاق، لأنّها تعود على الإنسان بالنّفع المادّي المباشر، فمثلًا تُراعي إحدى المؤسّسات الإقتصادية، أصل الأمانة و الصّدق بشكلٍ دقيقٍ جدّاً، و تعطي المعلومات الواقعيّة لزبائنها بدون أيِّ تلاعب، فمثل هذه المؤسّسة ستكون بعد سنوات، مورد ثقة النّاس و محل إعتمادهم، مما سيعود عليها بالنّفع الكبير الطّائل.

و بناءً على ذلك، قد يتحرك الأشخاص في سلوكهم الأخلاقي، كلٌّ حسب موقعه. فمثلًا عند ما يكون موظّفاً في المصرف أو البنك، فهو يُراعي منتهى الأمانة و الدّقة، لكي يعود على

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 64

البنك بالنّفع الكبير، و لكن يمكن أن يتحول إلى خائن، بمجرد أن يضع قدمه خارج المصرف، لّانّ فائدته ستكون في الخيانة حينها.

و قد نرى تاجراً، يحرص أن يكون في منتهى الأدب و اللّطف و اللّياقة مع زبائنه، لأجل كسب المزيد منهم، و لكنّه مع عائلته و أولاده، يكون في منتهى الفضاضة، لا لشي ء إلّا لأنّ الأخلاق الحسنة مَحلُّها في محلّ عمله، و ستعود عليه بالنّفع المادي الأكثر.

فمثل هذه الأخلاق لا دعامة لها، إلّا النّفع و الإستغلال، و أهمّ عيبٍ في المسألة، هو أنّه لا يعير للأخلاق أهميّةً و لا أصالةً، لأنّه يستمر في

إستغلاله، سواءً كان عن طريق الأخلاق، أم بعقيدته التي هي ضدّ الأخلاق.

و ذهب البعض الآخر إلى صياغة حِكمةٍ معدّلةٍ لهذا النمّط من الأخلاق، و نادوا بالأخلاق لا من أجل المصالح الشّخصيّة، و لكن لتعود على مصلحة البشر جميعاً، لإعتقادهم بأنّ الأسس الأخلاقيّة إذا تزلزلت في المجتمع، فستتحول الحياة إلى جهنّم تحرق كلّ شي ء، و ستتحول أدوات الإلفة و التعاون في المجتمع، إلى حطبٍ يُبقي النار مشتعلةً، في حركة الواقع الإجتماعي المضطرب.

هذا النّوع من التّفكير يعتبر أرقى من سابقه، و لكنّ الأخلاق هنا مجرد وسيلةٍ لجلب النّفع و الرّاحة و الرّفاه، و لا أساس للفضائل الأخلاقية فيها.

فالماديّون لا يمكنهم أن يتجنبوا مثل هذا النوع من التّفكير، لأنّهم لا يعتقدون بالوَحي و لا نُبوّة الأنبياء، و ينزلون بالأخلاق من السّماء إلى الأرض، و يجعلونها مُجرد وسيلةٍ للإنتفاع و الرّاحة و الاستغلال لا أكثر.

و لا شكَّ و لا ريب، في أنّ الأخلاق لها مثل هذه المعطيات الماديّة الإيجابية، في وعي الناس كما أشرنا سابقاً، و لكن السّؤال هو: هل أنّ أسس و دعائم الأخلاق، تنحصر في هذه المرتكزات الماديّة، أو أنّ مثل هذه المرتكزات و المعطيات، يجب أن تُدرس على أساس أنّها من المسائل الجانبيّة، و المتفرّعة على علم الأخلاق؟.

و على أيّة حال، فإنّ الإيمان بالأخلاق الّتي يكون أساسها النّفع و الإستغلال، يخدش

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 65

أصالة الأخلاق، و يقلل من قيمتها و قدسيّتها، و من ناحيةٍ اخرى فإنّ الإنسان في حالة تقاطع مصلحته مع الأخلاق، فإنّه سيضرب بالأخلاق عَرض الحائط، و يتّبع مصلحته الشخصيّة، الّتي إعتبرها دعامته و أساسه، في حركة السّلوك الإجتماعي و الأخلاقي.

2- الدّعامة العقليّة

الفلاسفة الّذين يعتقدون بحكومة العقل و لزوم اتّباعِه في كلّ

شي ء، يعتبرون دعامة الأخلاق هي إدراك العقل: للقبيح و الحسن من الأفعال و الصّفات الأخلاقيّة، فمثلًا يقولون أنّ العقل يُدرك جيّداً أنّ الشّجاعة فضيلةٌ و الجبنُ رذيلةٌ، و الأمانةُ و الصّدقُ فضيلةٌ و كمالٌ، و الخيانةُ و الكذبُ نقصانٌ، و نفس إدراك العقل لها، هو الباعث و المحرّك لإتّباع الفضائل و ترك الرذائل.

و قال البعض الآخر، إن إدراك الوجدان هو الأساس، فيقولون: أنّ الوجدان و هو العقل العملي، أهمّ شي ء في الإنسان، لأنّ العقل النّظري يمكن أن يُخطي ء، و لكن الوجدان و الضّمير ليس كذلك، و بإمكانه أن يقود البشريّة إلى ساحل الأمن و السّعادة.

و عليه، و بما أنّ الوجدان يقول: إنّ الأمانة و الصّدق و الإيثار، و السّخاء، و الشّجاعة هي امور حسنةٌ و جيّدةٌ، فهو بمفرده يكون دافعاً و مُحرّكاً، نحو نيل تلك الأهداف و الفضائل.

و كذلك بالنّسبة للبُخل، و الأنانيّة و أمثالها، فإنّ الوجدان يقول أنّها قبيحة، و ذلك يكفي في الإرتداع عنها و تركها.

و هنا تتحد الدّعامة العقلية و الوجدانيّة، فهما تعبيران مختلفان لحقيقةٍ واحدةٍ.

و لا شكّ أنّ وجود هذا الأساس و الدّعامة للأخلاق، لا يخلو من حقيقةٍ، و هو في حدّ ذاته دافعٌ حسنٌ للسّعي إلى تربية النّفوس، و ترشيد الفضائل الأخلاقية، في واقع الإنسان و المجتمع.

و لكن و بالنّظر إلى ما ذكرناه في بحث الوجدان «1»، فإنّ الوجدان يمكن أن يُخدع، هذا من جهةٍ، و من جهةٍ اخرَى: أنّ الوجدان و بالتّكرار لفعل القبائح و الرّذائل، فإنّه سيأنس بها

______________________________

(1). الرّجاء الرجوع إلى كتاب قادةٍ عظماء، ص: (63- 106).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 66

و يتعوّد عليها، بل قد يفقد الحسّاسيّة بالكامل تجّاه هذه الامور، أو يتحرك في إدراكه لها، من

موقع التأييد للرذائل على حساب إهتزاز الفضائل.

و من جهةٍ ثالثةٍ، إنّ الوجدان أو العقل العملي، رغم أهميّته و قداسته، فإنّه كالعقل النّظري قابل للخطأ، و لا يمكن الإعتماد عليه وحده، بل يحتاج إلى أُسس و دعامات أقوى، يُطمأن إليها في تشخيص الحُسن و القُبح، بحيث لا يمكن خُداعها و لا تخطئتها، و لا تتأثر بالتّكرار، و لا تتغيّر أو تتحول.

و خلاصة الأمر: أنّ الوجدان الأخلاقي، أو العقل الفِطري و العقل العملي، أو أيّ تعبيرٍ آخر يُعبّر عنه، هو أساسٌ و دعامةٌ جيَّدة، و لا بأس بها لنيل الفضائل الأخلاقيّة، و لكن و كما أشرنا آنفاً، تعوزه بعض الأمور، و لا يُكتفى به وحده.

3- دعامة الشخصيّة

يتحلّى البعض بالقيم الأخلاقيّة، لأنّها دليلٌ و علامةٌ للشخصيّةِ أو الرجولةِ و المروءة، و كلّ إنسانٍ عند ما يرى أنّ شخصيّته بين النّاس متوقفةٌ على الصّدق و الأمانة، فسيتحرك على مستوى التّحلي بها و مُراعاتها، و كذلك عند ما يرى أنّ الناس يحترمون الشّجاع و الوفي و الرّحيم، فسيكون طالب الشخصية و الإحترام، أوّل المطبّقين لها على نفسه، حتى يمدحهُ الناس.

و العكس صحيح، فإنّه عند ما يرى أنّ الناس لا يحترمون الجبان، و لا البخيل، و لا الخائن، و لا ضعيف الإرادة، و لا قيمة لهم في نظر المجتمع، فسوف يسعى لهجر هذه الرذائل، و تطهير نفسه منها.

و عليه يَتحصَّل لدينا: دعامةٌ و أساسٌ آخر للمسائل الأخلاقيّة.

و لكن و بالتّدقيق و التحقيق، نرى أنّ هذا الأساس و الدّعامة، يعود إلى مسألة الوجدان، غاية الأمر، أنّ المطروح هنا هو وجدان المجتمع، لا الوجدان الفردي، يعني أنّ ما يوافق الوجدان العام للمجتمع، فهو فضيلةٌ و علامةٌ للشخصيّة، و من الأخلاق الفاضلة و عكسه

الاخلاق

فى القرآن، ج 1، ص: 67

يدخل في الرذائل، و ما يُقرّه الرأي العام للمجتمع، يكون هو الدّافع للفضائل و الرّادع عن الرّذائل. و نحن لا ننكر أنّ الوجدان العمومي للمجتمع، يمكن أن يشخّص القِيَم من اللّاقيم، و يحثّ الأفراد للإهتمام بالمسائل الأخلاقيّة في خطّ التّربية و التّكامل.

و لكن ما ذكر من نواقص و إشكالات، حول الوجدان الفردي، هو نفسه يصدق على وجدان المجتمع.

فيمكن للمجتمع أن يُخطأ، و إذا ما وقع هذا الأساس للأخلاق، تحت طائلة الدعاية و الإعلام القوي من قبل الحكومات، فبالإمكان أن ينقلب رأساً على عقب، و تكون الفضائل رذائل في منظومة القيم و المثل الأخلاقية، كما حدّثنا التّأريخ عن نماذج كثيرة من هذا القبيل، ففي عصر الجاهليّة مثلًا كان يُعتبر وَأْد البنات من المكرمات، عند شريحةٍ كبيرةٍ من المجتمع آنذاك، و يُعتبر فضيلةً أخلاقيةً، (و ذلك للمفهوم السّائد في ذلك الوقت وقت، من أنّه الطّريق للنّجاة من العار و الشّنار، و الحيلولة دون وقوع النّساء في الأسر في الحروب) «1».

و نرى في عصرنا الحاضر، و في المجتمعات البشريّة المتقدّمة و المتطوّرة، أنّ المتموّلين و لأجل الوصول لأهدافهم غير المشروعة، و بالدعاية يخدعون الوجدان العمومي للمجتمع، و يقلبون القيم الأخلاقيّة الإيجابية، إلى مُضادّاتها في دائرة السّلوك الأخلاقي.

بالإضافة إلى أنّ الوجدان و الضّمير في الإنسان، هو من بَوارِق الرّحمة الإلهيّة، و نموذج لمحكمة العدل الإلهي العظيمة، عند الإنسان في هذا العالم، و لكن و مع ذلك، فالضّمير ليس بمعصوم عن الخطأ، و يمكن أن ينحرف، و إذا لم يتّخذ الإنسان تدابير لازمة لإصلاحه و تزكيته، فلعلّه يبقى على خطئه لسنين طويلة.

______________________________

(1). يقول الشّاعر الجاهلي:

الموتُ أخفى سِترةً للبناتِ و دفنها يُردى من المكرماتِ

ألم تر أنّ اللَّه

عزّ اسمه قد وضع النعشَ بجنب البنات

و كما تلاحظون أنّ هذا الشاعر الجاهلي، يعتبر تلك الجناية الكبرى مكرمْة و إفتخاراً.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 68

4- الدّعامة الإلهيّة

اشارة

من المعلوم أنّ ما ذكر من الدّعامات و الأسس، لا يخلو من واقعيّةٍ على مستوى دفع الإنسان نحو الفضائل الأخلاقيّة، و لكن و كما أشرنا إليه سابقاً أنّها لا تخلو و لا تسلم من الخطأ و الانحراف، مثل دعامة الإنتفاع و الاستغلال التي تأخذ طريقها في أيّ وقت و زمان، فتارةً تسير مع الأخلاق و اخرى تُعارضها.

و البعض الآخر من الدّعامات له قدرةٌ محدودةٌ في تحريك الإنسان، و مشوبةٌ بالنّقص و القصور و لربّما أخطأت و اشتبهت.

و الدّافع الوحيد الخالي عن الخطأ و الإشتباه، و العاري من كلّ نقص في دائرة المسائل الأخلاقيّة، هو الدّافع الإلهي الذي يكون مصدره اللَّه تعالى و الوحي، في إطار التّعاليم الدينيّة.

و هنا لا تعتبر الفضائل الأخلاقيّة وسيلةً للإنتفاع و الإستغلال، و لا هي وسيلةٌ للرفاه الإجتماعي، (و إن كانت الأخلاق قطعاً، وسيلةً للرّفاه و العمران و الهدوء، و تؤمّن المنافع الماديّة أيضاً).

فالأصالة هنا للدوافع الروحيّة و المعنويّة، أو بعبارةٍ اخرَى، أنّ الذّات الإلهيّة المنزّهة، و الّتي هي الكمال المطلق، و مُطلق الكمال، و جميع صفاته الجماليّة و الجلاليّة، تكون هي المحور الأصلي للمسألة، و كلّ إنسان يسعى في المُضي قُدماً، للوصول إلى الكمال المطلق، و يتحرّك في حياته المعنوية، من موقع تفعيل نور أسماء الصّفات الإلهيّة في نفسه، ليشبهه و يتقرب إليه أكثر و أكثر يوماً، بعد يوم (و إن كانت ذاته المقدّسة منزهّةً عن الشبيه الحقيقي)، و يصل إلى الكمال المطلق، فلا حدّ للكمال هناك، و بذلك يعيش بكلّ وجوده، حالة الإستغراق من

الحبّ للَّه تعالى، و الكمال المطلق، و تُنير وجوده و باطنه، أنوارُ و صفاتُ الذّات المقدّسة، بحيث يطلب الكمال و الرّقي، في الدّرجات العليا في كلّ لحظةٍ، فلا يتقيّد بالمنافع الماديّة، و لا يطلب الأخلاق للشخصيّة و الاحترام، و لا يكون هدفه الضّمير وحده، بل لديه هدفٌ أسمى و أعلى من كلّ تلك الامور.

فلا يأخذ معلوماته من العقل و الوجدان فقط، بل يستعين بالوَحي أيضاً، ليميّز في ظلّه القيم

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 69

الحقيقيّة من الكاذبة، و ليمشي بخطى ثابتةٍ مع إيمانٍ و يقينٍ كاملين في هذا الطريق، و القرآن الكريم، هو خير دليلٍ في هذا المضمار، و يُصرّح القرآن الكريم، بأنّ الأعمال الأخلاقيّة هي وليدة الإيمان باللَّه و اليوم الآخر، و دائماً ما يردف: (العمل الصالح) بالإيمان، و عرّف العمل الصالح، بالّثمرة لشجرة الإيمان.

و مثّل الإيمان، بالشّجرة الطيّبة، و جذورها ثابتة في روح و أعماق الإنسان، و فروعها و أوراقها وارفة، تؤتي بثمارها كلّ حين، و أشار إشارة جميلةً فقال اللَّه تعالى

«أ لَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصَلُها ثَابِتٌ وَ فَرعُها فِي السَّماءِ تُؤتِي اكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإذنِ رَبِّها» «1».

و من البديهي، أنّ الشجرة التي تمدّ جذورها في أعماق القلوب، و تتفرع أغصانها من جميع أعضاء الإنسان، و ترتفع في سماء حياته، هي شجرةٌ وارفةٌ لا يؤثّر فيها جفاف الخريف، و لا تقلعها العواصف أبداً. «2»

و جاء أيضاً في سورة «و العصر»، نفس هذا المعنى و لكن بتعبير آخر، فالقاعدة و لكن

الكلّية هو الخسران و التّضييع للإنسان، و المستثنون من ذلك هم المؤمنون، في أوّل الأمر، ثم الّذين يعملون الصّالحات و يتواصون بالحقّ و الصّبر:

«وَ العَصرِ

إنّ الإنسانَ لَفِي خُسرٍ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوا بِالحَقِّ وَ تَواصَوا بِالصَّبِرِ».

و جاء نفسُ هذا المعنى و بتعبيرٍ جميلٍ آخر، في الآية (21) من سورة النور، فيقول الله

______________________________

(1). سورة ابراهيم، الآية 24 و 25.

(2). إختلف المفسّرون في ما هو المقصود من الشّجرة الطيّبة؟، و هل يوجد مثل هذا التشبيه في الخارج أم لا؟. و هنا كلام كثير، فالبعض قال: أنّ الشجرة الطيّبة هي كلمة لا إله إلّا اللَّه، و بعض قال: أنّها أوامر الباري تعالى، و آخَرون قالوا أنّها الإيمان، و في الواقع أنّ هذه كلّها تعود إلى حقيقةٍ واحدةٍ، و إختلفوا أيضاً في هل أنّ هذه الشجرِة لها واقع خارجي، و أنّ أصلها ثابت في الأرض و أوراقها و فروعها في السّماء و مثمرة في كلّ وقتٍ و حِينٍ، حقيقةً، أو لا؟.

و لكن يجب أن لا ننسى أنّ كلّ تشبيه لا يتوجب أن يكون له وجود خارجي، فعند ما نقول: أنّ القرآن الكريم كشمسٍ لا غروب لها، و بالطّبع فلا وجود للشّمس التي لا غروب لها، و القصد من ذلك هو التّشبيه بالشمس لا أكثر، حيث يمكن أن تختلف خصائص هذه الشمس في الخارج.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 70

تعالى «وَ لَو لا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَ رَحْمَتُهُ ما زَكّى مِنْكُم مِنْ أحَدٍ أبَداً وَ لَكنّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ...».

و عليه، فإنّ سمُوّ الأخلاق و العمل و التّزكية الكاملة لا تتمّ، إلّا بالإيمان باللَّه و رحمته الواسعة.

و جاء نفس هذا المعنى في سورة (الأعلى فيقول الله تعالى

«قَدْ أَفلَحَ مَن تَزَكّى وَ ذَكَرَ إسمَ رَبّهِ فَصَلّى «1».

فطبقاً لهذه الآيات، فإنّ التّزكية الأخلاقيّة و العمليّة، لها علاقةٌ وثيقةٌ بإسم اللَّه

تعالى و الصّلاة و الدّعاء، هذا إذا ما إستمدّت أسسها منه سُبحانه و تعالى و حينها ستكون عميقةً و دائمةً، و إذا ما إعتمدت على أسسٍ اخرَى، فستكون واهيةً و عديمة المحتوى

في الآية (93) من سورة المائدة، جاء وصف جميل، للعلاقة الوثيقة بين التّقوى و الأعمال الأخلاقيّة بالإيمان: فقال الله تعالى «لَيسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِي ما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتّقَوا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتّقَوا وَ أحسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الُمحسِنِينَ».

في هذه الآية الشّريفة، تقدّمت التّقوى مرّة على الإيمان و العمل الصّالح، و تأخرت اخرَى، و تقدمت مرّةً على الإحسان، لأنّ التّقوى الأخلاقيّة و العمليّة تتقدم على الإيمان في مرحلةٍ ما، و هي التّحضير لقبول الحقّ و الإحساس بالمسؤوليّة للبحث عنه.

ثم إنّ الإنسان عند ما يعرف الحقّ و يؤمن به، فستتكون في نفسه مرحلةٌ أعلى و أقوى من التّقوى و تكون مصدراً لأنواع الخيرات.

و بهذا التّرتيب، تتبيّن العلاقة الوثيقة بين الإيمان و التّقوى

و خلاصة القول: إنّ أقوى و أفضل الدّعائم للأخلاق، هو الإيمان باللَّه، و الإحساس بالمسؤوليّة اتّجاهه، و مثل هذا الإيمان هو أبعد مدىً و أرحب افقاً من المسائل المادّية، و لا يبدّل و لا يعوّض بشيٍ ء، فهو يرافق الإنسان في كلّ مكان و لا ينفصل عنه أبداً، و لا يوجد شي ء أفضلُ منه.

______________________________

(1). سورة الأعلى الآية 14 و 15.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 71

و لذلك فإنّنا نرى أنّ أقوى مظاهر الأخلاق، كالإيثار و التّضحية تتجسّد في حياة أولياء اللَّه تعالى.

و نرى أيضاً، في المجتمعات الماديّة التي توزِن كلّ شي ء بمعيار النّفع، أنّ الأخلاق فيها ضعيفةٌ جدّاً، و في الأغلب أنّ

المعترف به رسميّاً عند الجميع، هو النّفع الشّخصي المادّي، فالصّدق و الأمانة و الوفاء و ما شابه ذلك، هي أخلاق حسنةٌ و سلوكيّات جيدةٌ، ما دامت تعود بالنّفع على الفرد، و عند تعرّض النّفع المادي للخطر، فستفقد لونها و قيمتها!!.

فالأبوان العجوزان، و لعدم نفعهما، فمصيرهما أن يعيشا في زاوية النسيان، و يتمّ نقلهما إلى مراكز و دور العجزة، لينتظرا أجلهما المحتوم.

و بمجرّد أنّ يبلغ الأطفال مرحلة الرّشد و المراهقة، فإنّ مصيرهم الانفصال عن اسرهم، لا لكي يستقلّوا إقتصاديّاً، بل لكي يُنسوا إلى الأبد.

و كذلك الأزواج، فهم شركاء في الحياة ما دام في الحياة الزوجية نفعٌ و لذّة، و إلّا فلا حاجة إلى العلاقة الزّوجيّة و لا ضرورة للإلتزام بتبعاتها، و لذلك فإننا نرى أنّ الطّلاق هناك كأيسر ما يكون، و شايع إلى درجةٍ خطيرةٍ، ففي المذاهب الماديّة التي لا تقوم على أساسٍ إلهي في دائرة الأخلاق، يكون الإستشهاد لديهم لنيل المقاصد السّامية، هو الإنتحار بعينه، و الكرم الذي يؤدي إلى تبذير الأموال، ليس هو إلّا نوعٌ من الجنون، و العّفة و الإستقامة على طريق الفضيلة، ليست هي إلّا ضَعفٌ في النّفس، و الزُّهد بالعالم المادي، ليس هو إلّا سذاجةً و جهلًا بالحياة.

و ما نراه اليوم من التنافس المحموم على الماديات، و مراكز القدرة في هذه المجتمعات، و رؤساء تلك الدول، هو أفضل و خير نموذج يعبّر عمّا لديهم من معايير للأخلاق الماديّة.

و الشّاهد على ذلك، ما يصدر من الإنتهازيّة و التّعامل المزدوج للقوى الإستعماريّة تجاه (حقوق الإنسان)، فعند ما تكون حقوق الإنسان، سبباً لتعرّض منافعهم للخطر، فسوف يتجاهلونها و يجعلونها وراء ظهورهم، و يذبحون القيم الإنسانيّة على مذبح المصالح الماديّة.

فأخطر المجرمين و المعتدين على حقوق

الإنسان، يصبحون مسالمين و مصلحين، و بالعكس

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 72

فإنّ الشخص الذي يريد أن يدافع عن حقّه في مقابلهم، يكون هو الشّيطان بعينه، و يجب أن يُقمع بأيّ وسيلةٍ كانت.

فنراهم يدافعون عن الديمقراطيّة و حكومة الشّعب، دفاعاً مُستميتاً، و في نفس الوقت نراهم و في زاوية أخرى من العالم، يدافعون عن أسوَأ و أظلم المستبدّين الديكتاتورييّن لا لشي ءٍ، الّا لأن الأخلاق عندهم ليست هي: إلّا النّفع في بُعده المادي و الشّخصي. و الإنسان المادي لا يمتلك صورةً واضحةً عن الأخلاق في دائرة التّعامل مع الآخرين، بل مفاهيم ضبابيّةً و صورةً قاتمةً.

و الملاحظة الاخرى الّتي تجدر الإشارة إليها، أنّ المادييّن لا يرون في سلوكهم الأخلاقي، غير زمانهم و مكانهم الّذي هم فيه الآن، و لا أهميّة عندهم لما فَعل الماضون، و لا ما سيفعله اللّاحقون، إلّا أن يكون له علاقةٌ بحاضرهم، و منطقهم يتمثّل به قول الشّاعر، حيث يقول:

إن أنا مِتُّ فلاطلعت شمس الضّحى على أحدِ

و لكن الموحّدين المعتقدين بالحياة الآخرة، و محكمة العدل الإلهي في يوم القيامة، يعتقدون أنّ معطيات الأخلاق و بركاتها المعنوية، جارية حتى بعد الممات، و لو إمتدّت لِالاف السّنين، و سيثاب الإنسان عليها في الاخرى و لذلك لا يتعاملون مع الواقع الدنيوي، من موقع الزّمان الحاضر فقط، بل من موقع التّفكير في الغد البعيد و الحياة الخالدة.

و قد جاء في الحديث المعروف عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله، أنّه قال:

«إذا مات المؤمن إنقطع عمله إلّا من ثلاث، صدقةٍ جاريةٍ- أي الوقف- أو علمٍ يُنتفع به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» «1».

فالإيمان بالآخرة دافعٌ و حافزٌ آخر، للحثّ على الأعمال، الأخلاقية المهمة، مثل الصّدقة الجارية و

الآثار العلميّة المفيدة و تربية الأولاد الصّالحين، و الحال أنّ لا مفهوم لهذه الامور لدى المادييّن.

و قد قسّم المرحوم الشّهيد (مُطهّري)، في كتاب «فلسفة الأخلاق»، الأنانيّة إلى ثلاثة أقسام: (للنّفس، و للعائلة، و للقوميّة)، و عدّها كلّها من الأنانيّة، التي تقف في الطّرف المقابل

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 2، ص 42.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 73

للأخلاق، و نقل كلاماً عن «كوستاف لوبون»، في كتابه المعروف (حضارة الإسلام و العرب)، و رأينا أن ننقله هنا إكمالًا للفائدة.

فقد ذكر هذا الكاتب الغربي، في معرض حديثه عن الشّعوب الشرقيّة، و أنّهم لماذا وقفوا من الحضارة الغربيّة موقفاً سلبيّاً؟ فعللّ ذلك بالقول:

(أولًا: لعدم القابليّة لديهم لإستقبال هذه الثّقافة، و ثانياً: إنّ حياتهم و معيشتهم تختلف عن حياتنا و معيشتنا، فحياتهم بسيطةُ و ساذجةٌ، بخلاف ما نحن عليه من التّعقيد الحضاري في واقع الحياة، ثم يردف قائلًا: و لا يخفى مدى الظّلم الذي إرتكبته الشّعوب الغربّية في حقهم.

(و هو عامل مهم آخر).

و بعدها أشار إلى الظّلم الذي إرتكبه الغربيّون، في أمريكا و الهند و الصّين، و خصوصاً كان يؤكد على قصّة الحرب المعروفة، ب: (حرب التّرياك)، التي شنّها الإنجليز على شعب الصيّن، لأجل السّيطرة عليهم، فنشروا إستعمال التّرياك بين الشعب، لأجل التّسلط عليهم، و ليميتوا فيهم روح المقاومة، و يكسروا شوكتهم، و لكنّ الصّينيين توجهّوا للخدعة، و تحرّكوا للتّصدي للإنجليز، الذين صوّبوا مدافعهم، و انتصروا عليهم بقوّة السّلاح الفتّاك، و إنتشر بين الأهالي إستعمال التّرياك، بحيث جاءت الإحصائيات: (في ذلك الزمان)، أنه في كل سنةٍ يموت حوالي ال (600) ألف نفر، جرّاء إستعمالهم للتّرياك. «1»

نعم فعند ما لا تقوم الأخلاق على قاعدةٍ متماسكةٍ، من الإيمان و القيم المعنويّة في واقع

الإنسان، فسوف تأخذ بالذّبول و التّراجع، لصالح المنافع الشّخصيّة و النّوازع الدنيويّة العاجلة.

ملاحظة:

ما ذكرناه آنفاً حول دعامة الأخلاق، من وجهة نظر الإيمان بالمبدأ و المعاد، لا يعني إنكار الدّور الفعّال، ل: «العقل الفطري» في تعميق المسائل الأخلاقيّة، فالضّمير و الوجدان في الحقيقة، هو رسول اللَّه في أعماق البشر، و من جهةٍ اخرى له الأثر الكبير في تحكيم المباني الأخلاقيّة، بشرط أن يصاحبها عنصر الإيمان، و تتخلص من حجب الأنانيّة و هوى النّفس.

______________________________

(1). فلسفة الأخلاق، ص 283 بتضرّف.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 74

و أكّد القرآن الكريم، على هذه المسألة مرّات عديدة، ففي الآية (100) من سورة «يونس»، يقول الله تعالى «وَ يَجعَلُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ».

و في الآية (22) من سورة «الأنفال»، نقرأ: «إنّ شرّ الدَّوابِ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ».

و يقول الله سبحانه، عن الّذين يستهزئون بالصّلاة: في سورة (المائدة) الآية (58):

«اتّخذوها هُزُواً وَ لَعِباً ذَلِكَ بِأنّهُم قَومٌ لا يَعقِلُونَ».

و هكذا يتبيّن من خلال ما ذُكر آنفاً، خلاصة رؤية القرآن المجيد للمسائل الأخلاقية.

5

الأخلاق و الحريّة

اشارة

هناك أبحاثٌ كثيرةٌ، في مسألة الأخلاق و الحريّة، و هل أنّ الأخلاق تُحدّد و تُقيّد حريّة الإنسان؟ و هل أنّ هذا التّقييد هو في صالح الإنسان أم لا؟

فبإعتقادنا أنّ هذه الأبحاث، ناشئةٌ من التّفسير الخاطي ء لمعنى الحريّة، و منها:

1- يُقال: أنّ الأخلاق تقوم بتحديد حريّة الإنسان، و تعمل على كبت القابليّات في المحتوى الدّاخلي للإنسان.

2- و تارةً يقولون: إنّ الأخلاق تقمع الغرائز، و تمنع من تحقّق السّعاد الواقعيّة للفرد، و لو لم يكن في الغرائز فائدةٌ، فلما ذا خلقها اللَّه تعالى .

3- و تارةً اخرَى يقولون: إنّ البّرامج الأخلاقيّة، تخالف فلسفة أصالة اللّذة، و نحن نعلم أنّ الهدف من الخلق، هو «اللّذة» التي يريد أن يصل إليها الإنسان.

4- و اخرى يقولون،

و في النّقطة المعاكسة لها: أساساً إنّ البشر ليس حُرّاً في سلوكه الأخلاقي، بل هو مجبور و واقع تحت تأثير عوامل كثيرة، و لذلك فلا تصل النوبّة للوصايا الأخلاقيّة.

5- و أخيراً يقولون: إنّ الأخلاق مبنيّة على أساس إطاعة اللَّه تعالى و هي لا تخلو من الخوف أو الطّمع، و كلّ هذه الامور تتقاطع مع الأخلاق!

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 76

هذا التّناقض في الأقوال، إن دلّ على شي، فهو دليلٌ على عدم التّقييم الصّحيح لمفهوم الحرّية، هذا من جهةٍ، و من جهةٍ اخرَى لم تُدرس الأخلاق الدينيّة، و خصوصاً الأخلاق الإسلاميّة، دراسةً كافيةً و وافيةً.

و لذلك يجب أن ندرس في بادي الأمر، مسألة الحريّة. و لماذا يطلب الإنسان الحريّة بكلّ وجوده؟، و لماذا يجب أن يكون الإنسان حرّاً؟، و ما هو دور الحريّة في تربية الجسم و الرّوح؟، و بكلمةٍ واحدةٍ: ما هي «فلسفُة الحريّة»؟.

إنّ الجواب على كلّ هذه الأسئلة يتلخّص في ما يلي:

يوجد في داخل الإنسان قابلياتٌ و ملكاتٌ و قوى خفيّةٌ، لا تخرج من القوّة إلى الفعل إلّا بالحريّة، و الإنسان يسعى للتّكامل، و يتحرك على مستوى ترشيد إستعداداته و قُدراته، فهو يطلب الحريّة لأجل ذلك.

و لكن هل أن الحرّية التي تساعد على تفعيل قدرات الإنسان، هي حرية بلا قيد و لا شرط، أم أنّها الحريّة المتحرّكةِ في إطارٍ من التّنظيرٍ العقلي و الدّيني؟.

و يُمكن تبيان هذا المطلب مع ذكر مثالين:

إفترضوا أنّ هناك فلّاحاً، قررّ أن يزرع أنواع الورود و الفواكه في بستانه، و تحرّك لتحقيق هذا الغرض، على مستوى حرث الأرض و غرس النّباتات و سقيها في موعدها في كلّ مرّةٍ، فَمن البديهي أن تكون الشّجرة مغروسةً في الفضاء الحرّ، لتأخذ قِسطها من

النّور و الهواء و المطر، و ستمدّ جذورها في الأرض بحرّيةٍ، و إذا لم تتوفر لها تلك العوامل، فلن تثمرَ و لن يحصلَ الفلّاح على ثمن أتعابه، و بناءً على ذلك، فإنّ حريّة الجذور و الأوراق، ضروريّة لكي تعطي الثمر، و لكن من الممكن أن ينحرف غُصن من الأغصان في تلك الشّجرة، فيقطعه الفلّاح بلا رحمةٍ و لا رأفةٍ، لأنّ هذا الغَصن يستهلك قوّة الشّجرة، فلا أحد له الحقّ في الإعتراض على الفلّاح، بسبب هذا العمل.

و يمكن أن يُقَوِّم الفلّاح الشّجرة المائلة، أو الفرع المعوّج، بشدّه إلى خشبةٍ مستقيمة، فكذلك لا حقّ لأحدٍ أن يعترض عليه في ذلك، و يقول له: لماذا قيّدت الشّجرة بهذا القيد، و لم

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 77

تتركها حرّةً، لأنّه سيقول: إنّ الشّجرة يجب أن تكون حرّةً لكي تُثمر، لا أن معوّجة فتذهب بأتعابي سُدىً.

و كذلك بالنسبة للإنسان، فلديه ملكاتٌ و قابلياتٌ مُتنوّعةٌ و مهمّةٌ، و إذا ما نُظِّرت تَنظيراً صحيحاً، فستصعد به إلى أعلى درجات الرّقي و الكمال المادّي و المعنوي، فهو حرٌّ في الإستفادة من قابلياته في الطّريق السّليم، لا أن يُهدِر هذه القابليّات في الطرق المنحرفة.

فالذّين فسرّوا الحريّة، بمعناها العام الشّامل بلا قيد و لا شرط، ففي الحقيقة لم يفهموا معنى الحريّة، فالحريّة هي الإستفادة من الطّاقات في الطّريق الصّحيح، الذي يوصله للأهداف العُليا: (ماديةٌ كانت أم معنويةٌ).

و مثالٌ آخر، حرّية المرورِ و العبورِ في الطّرق الواسعة و الضّيقة، فالغرض هو وصول الإنسان لمقصده، و لكن هذا لا يعني أبداً، عدم الإلتزام بقوانين المرور، حيث يؤدي إلى الهرج و المرج، و الفَوضى في حركة المرور.

فلا يوجد إنسانٌ عاقلٌ يقول: إنّ التّقيد بقوانين المرور و رعايتها، مثل

التّوقف عند الضّوء الأحمر، أو عدم المرور في طريقٍ ما، أو السّير على الجانب الأيمن، و ما شابهها من الامور، التي توجب تحديد حريّة السّائق، فالكلّ سوف يستهزي ء بمثل هذا الكلام، حيث يقال له، إنّ الحرّية يجب أن تكون؛ ضمن المقررات و القوانين التي تراعى من أجل سلامة الإنسان و أموال و ممتلكات الآخرين و لا تسبب في الهرج و المرج، و قتل الأبرياء دون مُبرِّر، أو تفضي إلى عدم الوصول بسلامةٍ للمقصد و الغاية.

فكثيرٌ من هذه الحريّات هي كاذبةٌ، و نوعٌ من التّقييد الحقيقي.

فالشّاب الذي يسى ء الإستفادة من حريته، و يستعمل المخدّر المميت، فهو في الواقع يكون قد أمضى حُكم أسرِهَ و تَسلّط الغير عليه، فالحريّة التي تُصاحب الإلتزام بالموازين الأخلاقية، هي التي تُعطي للإنسان الحريّة الحقيقيّة و تجعله متمكنّاً من نفسه و مسيطراً على أهوائه و نوازعِهِ النّفسية، و كم هو جميل كلام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يقول:

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 78

«إنّ تقوى اللَّه مفتاحُ سَدادٍ، و ذخيرةُ مَعادٍ، و عتقٌ من كلّ مَلكةٍ، و نجاةٌ من كلّ هلكةٍ» «1».

و ممّا ذُكر آنفاً، تتجلى الحريّة الحقيقيّة من الكاذبة، و يتمّ منع إستغلال هذا المفهوم المقدّسُ في طريق الإنحراف و الزّيغ، فلا يحقّ لأحدٍ أن يتذرّع، بكبتِ الأخلاق لطاقاتِ الإنسان، و يستشكِل على القِيم الأخلاقيّة.

و ممّا تقدّم أيضاً، تتّضح الإجابة على من يدّعي، قمع الأخلاق للغرائز، و أنّ اللَّه تعالى خلق الغرائز في الإنسان، لتحقيق الغرض منها، و أشباعها بأدوات الحريّة و التّحرر من قيود الأخلاق.

فالغرائز في الإنسان، مثلها كمثل قطراتُ المطر، تنزل من السّماء بِقدرٍ لتُحيي الأرض، و لو لا فائدتها، لما أنزلها الباري تعالى و لكن هذا لا يعني فسح

المجال لتلك القطرات لِتَتجَمَّع، و تكوّن السّيول لإهلاك الحرث و النّسل، بل يجب أن تُقام السّدود في طَريقها، و فتح منافذ صغيرة منها لتمد الحياة البشرية بالماء، و تكون الفائدة فيها أعمّ و أشمل، فيما لو سيطر عليها الإنسان، و أخضعها لضوابط معيّنة، و كذلك الحال بالنّسبة لغرائز الإنسان، فإذا اطلق لها العِنان، فستبُيد كلّ شيٍ ء أمامها، و تدّمر كلّ شيٍ ء في حركةِ الحياة الفرديّة و الإجتماعية للإنسان.

و يُستنتج مما ذُكر سابقاً، أنّ الأخلاق لا تقف سدّاً في طريق الإنسان، و لا تمنعه من ترشيد قابلياته و ملكاته، و لا تقمع الغرائز في واقعه، بل إنّ الأخلاق وسيلةٌ للوصول للكمال المنشود، في حركة الإنسان و الحياة.

و من خلال التّفسير الصّحيح للحرية، الذي ذكرناه آنفاً تتّضح الإجابة على أسئلة المخالفين للأخلاق.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 230.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 79

الإعتقاد بالجَبر، و بالمسائل اللأخلاقيّة:

لا شك أنّه يوجد إرتباطٌ و علاقةٌ وثيقةٌ، بين الإعتقاد بحريّة الإرادة للإنسان، و «المسائل الأخلاقيّة»، و كما أشرنا سابقاً، أنّ نفي حريّة الإنسان، هو نفيٌ و تعطيلٌ لجميع المفاهيم الأخلاقيّة.

و بناءً على هذا نجد، أنّ الأديان الإلهيّة المتعهّدة بتربية و تهذيب النفوس و الأخلاق، من أقوى المدافعين عن حرّية الإنسان!.

و بناءً على هذا أيضاً، نجد في القرآن الكريم آياتٌ عديدةٌ و كثيرةٌ تبلغ المئات، تثبّت الإختيار و حريّة الإرادة للإنسان، و تنفي الجَبر عنه، و قد ذُكرت في مباحث الجَبر و الإختيار «1».

فالأمر و النّهي و التّكاليف الاخرى و الدّعوة إلى الثّواب و العقاب، و الحساب و المحاكم و القوانين و العقوبات، كلها امور تؤكّد على مسألة الإختيار، و حريّة الإرادة عند الإنسان.

و إذا ما شاهدنا بعض الآيات تُوافق مذهب الجَبر، فهي ناشئةٌ من عدم

الإنتباه و التّوجه الصحيح لتفسير تلك الآيات، فتلك الآيات ناظرةٌ إلى نفي التّفويض، و لا تثبت الجبر، و الشّاهد عليها هو القرآن الكريم نفسه، و قد أشرنا إليها سابقاً، و ليس هنا محلّ للبحث فيها.

فالإعتقاد بالجَبر، و سلب حريّة الإنسان، يمكن أن يكون عاملًا مهمّاً، لكلّ تحلّل أخلاقي، فالُمجرم و لتبرير أفعاله المشينة يتذرّع بالجَبر، و أنّه لا يستطيع أن يُغيّر مصيره المحتوم عليه، و لذلك يتحرّك في خطّ الإنحراف، و ينحدر في مُنزلقات المعاصي أكثر، فالتّاريخ يُحدثنا، عن مجرمين خاضوا غمار الجريمة، استناداً إلى مُبّررات مذهب الجَبر، و كانوا يعذرون أنفسهم، في إرتكابهم لتلك الأعمال و الذّنوب، و يقولون:

(إذا كنّا صالحين أو طالحين، فليس لنا من الأمر شي ء، فالُمبدع الأزلي هو الذي زرع فينا ذلك، و جعل مصيرنا أن نكون من أهل الشّقاء!، فلا المحسنين لهم الحق بالإفتخار بإحسانهم،

______________________________

(1). الرجاء الرجوع إلى التّفسير الأمثل: (الفهرس الموضوعي ص 99)، و إلى أنوار الأصول، ج 1، بحث الجَبر و الإختيار.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 80

و لا على المسيئين ملامة!).

و بناءً على ذلك، فقد تحرّك الأنبياء عليهم السلام، قبل كلّ شي ء لتوكيد الإرادة الإنسانيّة، و خصوصاً نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله، و لأجل تحكيم الاسس الأخلاقيّة و تهذيب النّفوس.

و على كلّ حال، فبحث الجَبر و الإختيار، و المسائل الاخرى مثل القضاء و القدر، و الهداية و الضّلالة، و السّعادة و الشّقاء، من وجهة نظر القرآن الكريم، هو بحثٌ مستقلٌ وسيعٌ، سنتطرق لتفسيره الموضوعي في المستقبل إن شاء اللَّه، و الهدف هنا هو الإشارة لهذه المسألة، و تأثيرها في المسائل الأخلاقية، و ليس الدخول في تفاصيلها فعلًا.

أمّا الذين يتحركون من موقع اللّذة، و يعتبرونها من أهمّ

القيم، فهؤلاء لا يعتبرون الأخلاق من المُثل النّبيلة و السّلوكيات الحسنة، لأنّها لا تُوافق اصولهم، و كما قال «آريس تيب»، الذي وُلد قبل الميلاد: الخير هو اللّذة، و لا شرّ سوى الألم، و الهدف النّهائي للإنسان في الحياة: هو الّتمتع بلذائذ الدنيا، و لا يجب التّفكير بنتائجها الصّالحة أو السيئة) «1».

هذا و قد غاب عن اولئك، أنّنا و على فرض حصرنا اللذائذ في الماديّات فقط، و تركنا اللّذائذ المعنويّة الّتي هي أعلى و أسمى لذّةٍ للرّوح، فلا يمكن الوصول للذائذ الماديّة إلّا برعاية الأخلاق، و ذلك لأنّ الّتمتع و الالتذاذ بالشّي ء، من دون قيد أو شرطٍ، يعقبه ألم شديد على مستوى النّفس و البدن، و لأجله يجب أن نصرف النّظرً عن تلك اللذّة التي يعقبها ألم أقوى و أشد.

و هذا الكلام و إن كان قد صدر، ممّن يُعتبرون في عداد الفلاسفة، و لكنّه في الحقيقة يشبه كلام المعتاد على الأفيون، الّذي إذا نصحوه قالوا له: إنّ لذّتك هذه ستسبب لك المتاعب و الآلام العظام، فيجيب: إنّ اللّذة الحاضرة هي الأصل، و لا يعلم ما ذا سيكون في الغد، و لكن الذي ينتظره في الغد، ليس سوى المرض العصبي، و الإرهاق و القلق، و ما إلى ذلك

______________________________

(1). علم الأخلاق أو الحكمة العمليّة، ص 243.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 81

من إفرازات الإدمان على تلك المواد المخدّرة، و سيعيش النّدم الشّديد في تلك الحال، و يتأسف على ما إقترفته يداه، و لكن أنىّ للتأسّف أن يحلّ المشكلة، و قد اغلق عليه سبيل العودة، إلى الحريّة و الكرامة كما هو الغالب.

فالوصايا الأخلاقية، للحثّ على العفّة و الأمانة و الصّدق و الرجولة، كلّها من هذا القبيل، و المجتمع الذي

تتفشى فيه الخطيئة و الخيانة، كيف يعيش أفراده حالة اللّذّة المعنويّة و السّعادة، في حركة الحياة و الواقع الإجتماعي؟

فالناس الّذين ملأ البخل وجودهم، و يطلبون كلّ شي ءٍ لنفعهم و لذّتهم الشّخصية، لا تكون لديهم حصانةٌ أمام المشكلات، و سيكونون عرضةً للتّمزق و التشرذم، لأدنى أزمةٍ على مستوى الحياة الدنيويّة، لأنّ الفرد في ذلك المجتمع يكون وحيداً فريداً، و الصّمود أمام المشكلات، لمن يعيش الوحدة و الإنفراد، أمرٌ في غاية الصّعوبة، و لكن إذا تفشّت روح التّعاون و السّخاء و الرجولة في المجتمع، فسينطلق الناس من موقع مساعدة بعضهم البعض، و عند ما يقع أحد الناس في مأزقٍ، فسيعينه الآخرون، فلا يشعر الفرد بالوحدة هناك، بل سيجد في نفسه عنصر المقاومة و الصّمود أمام المشكلات و الأزمات.

و هذا ما أشرنا إليه سابقاً بالتّفصيل، و بالإعتماد على الآيات القرآنيّة الكريمة، بأنّ الاصول الأخلاقيّة عند تطبيقها، لها بُعدان و فائدتان: معنويّة و ماديّة، و مع غضّ النّظر عن البُعد المعنوي، فالبُعد المادي فيها له شموليّةٌ واسعةٌ، و يستحق معها التمسّك بكلّ الاصول الأخلاقيّة، كي نعمّر دنيانا و نجعل منها جنّةً مليئةً باللّذة، و نتجنّب النّار المحرقة، المتولدة من الوقوع في وَحِل المفاسد الأخلاقيّة.

و الآن نبحث في المذهب القائل: بأنّ الأخلاق الدينيّة على مستوى الممارسة و التّطبيق، و الّتي تنشأ في الحقيقة من طاعة اللَّه تعالى خوفاً أو طمعاً. و هذه الامور تُعتبر مضادّةً للأخلاق؟ «1».

______________________________

(1). يرجى الرجوع لكتاب: (تجديد حيات معنوي جامعة)، ص 169.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 82

و يمكن أن يُنتقد هذا الكلام من جهتين:

1- التّعبير بالخوف و الطّمع، تعبيرٌ غير صحيح، و الصّحيح أن يُقال، بأنّ بعض أتباع الأديان، و لأجل نَيل السّعادة الاخرويّة، و النّجاة

من العقوبات الناشئة من العدل الإلهي، يتخلّقون بالأخلاق الحسنة، لكنّه ليس أمراً يخالف الأخلاق، لأنّه يُبدّل لذّة الحياة الفانية بلذّة الآخرة الباقية، و يُفدي المصادر الصغيرة بالمواهب الكبيرة.

2- هل يرتكب الشخص أمراً مخالفاً للأخلاق، لأنّه لا يكذب و لا يخون، بدافع من خشيته من فضيحة الكذب و الخيانة؟، أو ذاك الذي يمتنع من الشّراب، و يتجنب المادة المخدّرة، ليحافظ على صحته و سلامته، هل يكون عمله هذا منافياً للقيم الأخلاقية؟

و كذلك الشّخص الذي يُداري النّاس و يتواضع لهمُ و يعاملهم بأدبٍ و إحترام، لئلّا يفقدهم و لا يبقى وحيداً فريداً في هذه الدنيا، فهل يرتكب بذلك عملًا مُخالفاً للأخلاق؟.

و الخلاصة: إنّ كلّ عملٍ أخلاقي، له آثار و منافع ماديّة في حركة الإنسان و الحياة، و لا يمكن تسميّة تلك الآثار بالطّمع، و كذلك الحال في الإمتناع، عن بعض السّلوكيات المشينة و الأفعال القبيحة، لا يمكن أن يعبّر عنه، بالخوف و الجُبن في دائرة الصّفات الأخلاقيّة.

6 اصول المسائل الأخلاقيّة في القرآن الكريم

اشارة

قبل الخَوض في هذا البحث، يتحتم علينا إلقاء نظرة على اصول المسائل الأخلاقيّة في المذاهب الاخرى

1- جَمعٌ من الفلاسفة القدماء، الذين يُعتبرون من المؤسّسين لعلم الأخلاق، جعلوا للأخلاق أربعة اسس، أو بالأحرى لخّصوا الفضائل الأخلاقيّة في أربعة اصول، هي:

1- الحكمة.

2- العفّة.

3- الشجاعة.

4- العدالة.

و أحياناً يضمّون إليها العبوديّة للَّه تعالى، و يجعلونها خمسة اصول.

و يعتبر المؤسّس لهذا المذهب هو «سقراط»، فكان يعتقد أنّ: (الأخلاق تعتمد على معرفة الحسن و القبيح من الأفعال، و الفضيلة بصورةٍ مطلقةٍ ليست هي إلّا العلم و الحكمة؛ أمّا العلم في مورد الخوف أو الإقدام، يعني العلم و الاطّلاع على الشّي ء الذي يتوجب على الإنسان الخوف منه، أو عدم الخوف من شي ءٍ ما يعتبر من «الشّجاعة»،

و إذا كان في صدد المُنى النفسية، فيدّعي ب: «العفّة»، و إذا كان العلم بالقواعد الحاكمة على ملاقات الناس و روابطهم مع بعضهم

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 84

البعض، فالمقصود منه هو «العدالة»، و إذا كان العلم في دائرة وظائف الإنسان مع خالقه هو «التدين و العبودية»، فهذه الفضائل الخمسة، يعني: الحكمة، و الشجاعة، و العفّة، و العدالة، و العبودية، هي الاصول الاولى للأخلاق السُّقراطيّة) «1».

و كثير من علماء الإسلام الذين كتبوا و بحثوا في علم الأخلاق، قبلوا هذه الاصول الأربعة أو الخمسة، و دقّقوا فيها أكثر، و بنوا لها اصولًا أقوى و أفضل من سابقتها، و جعلوها أساساً لرؤاهم الأخلاقيّة في كلّ المجالات.

يقولون في نظرتهم الجديدة لهذه الاصول:

إنّ نفس و روح الإنسان فيها ثلاثة قوى هي:

1- قوّة «الإدراك» و تشخيص الحقائق.

2- قوّة 0 جلب المنفعة أو بتعبير آخر «الشّهوة»، (بمعناها الوسيع، لا الجنسيّة فقط و تشمل كلّ طلبٍ و إرادةٍ).

3- القوّة الدّافعة أو بتعبير آخر «الغضب».

و بعدها إعتبروا الإعتدال في كلّ قوّةٍ، هو إحدى الفضائل الأخلاقيّة، و أطلقوا على الفضائل المنبعثة من هذه القوى ب: «الحكمة» و «العفّة» و «الشّجاعة»، بالترتيب.

و أضافوا أيضاً: كلّما أصبحت قوّة الشّهوة و الغضب خاضعة لسلطة القوّة المدركة، و تمييز الحقّ من الباطل، فسوف ينتج عندنا الأصل الرّابع و هو «العدالة».

و بعبارةٍ اخرى: إنّ تحقيق الإعتدال في كلّ من القوى الثّلاثة، يعتبر فضيلةً، و هذا الإعتدال يسمّى ب: «الحكمة» أو «العفّة» أو «الشّجاعة»، و تركيبها مع بعضها البعض، يعني تبعيّة الشّهوة و الغضب للقوّة المدركة، يعتبر فضيلةً اخرَى تسمّى «العدالة»، و كثيراً ما نرى أنّ الإنسان لديه الشّجاعة و في حدّ إعتدال قوّة الغضب، لكنّه لا يوجّهها التّوجيه الصّحيح،

و لا يستعملها الإستعمال الصحيح، «كما لو إستعملها في الحروب غير الهادفة»، فهنا قد تكون لديه شجاعة و لكنّها لا تعني العدالة، أمّا لو إستعمل صفة (الشّجاعة) في نطاق الأهداف السّامية

______________________________

(1). سير حكمت در اروپا، ج 1، ص 18، مع شي ء من التلخيص.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 85

العقلائيّة، أي مزجها مع الحكمة، فسيحقّق عندها حالة «العدالة».

و عليه، فإنّ هذه الفئة من علماء الإسلام، جعلوا كلّ الفضائل و الصّفات الإنسانيّة البارزة، تحت أحد هذه الاصول، و بإعتقادهم أنّه لا توجد فضيلة، إلّا و تندرج تحت أحد هذه العناوين الأربعة، و بالعكس فإنّ الرذائل دائماً، تأخذ طريق الإفراط و التّفريط لهذه الفضائل الأربعة.

و من أراد التّفصيل و الاطّلاع على هذا المذهب الأخلاقي؛ فليراجع كتاب: «إحياء العلوم» و كتاب «المحجّة البيضاء» «1».

نقد و تحليل:

إنّ التّقسيم الرّباعي المذكور، ليس و كما يبدو أنّه شي ء مُبتكر من قبل حكماء الإسلام، بل هو نتيجة تحليلات علماء إلاسلام لكلمات حكماء اليونان، و إسترفادهم من نظرياتهم و آرائهم بعد تنقيحها، رغم وجود إشارات لها في مصادرنا الروائيّة، كما جاء في الرواية المرسلة المنسوبة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث قال:

«الفَضائِلُ الأربَعَة أَجناسٍ: أحَدُهُما: الحِكْمَةُ وَ قِوامُها فِي الفِكرَةِ، و الثَّانِي: العِفَّةُ وَ قِوامُها في الشَّهوَةِ، وَ الثَّالِثُ: القُوَّةُ وَ قِوامُها فِي الغَضَبِ، وَ الرّابِعُ: العَدلُ وَ قِوامُهُ في إِعتِدالِ قُوى النَّفسِ» «2».

فكما ترون، أنّ هذا الحديث لا يوافق بصورةٍ كاملةٍ، تلك التّقسيمات الأربعة التي ذكرها علماء الأخلاق، بل هو قريبٌ منها، و كما أشرنا سابقاً أنّ الحديث مُرسلٌ و سندُه لا يخلو من إشكال.

و على كلّ حال فإنّ هذه الاطروحة، الّتي ذكرها علماء الأخلاق، أو حُكماء الإغريق

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 96

و 97.

(2). بحار الأنوار، ج 75، ص 81، ح 86.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 86

و اليونان، ترد عليها هذه المآخذ:

1- بعض الملكات الأخلاقية، «و الّتي هي جزءٌ من الفضائل الأخلاقيّة قطعاً»، نلاقي صُعوبةً في إدخالها تحت أحد هذه الاصول الأربعة، فمثلًا (حُسن الظّن)، يُعتبر من الفضائل، و يقابله (سُوء الظن)، فإذا أردنا إدخاله تحت أحد هذه الاصول، فيجب أن ينضوي في دائرة الحكمة، و الحال أنّنا لا يمكننا أن نجعله من فروع الحكمة، لأنّ حُسن الظّن شي ءٌ آخر غير التّشخيص الصّحيح للواقعيات، و رُبّما ينفصل عنه بوضوح، بمعنى أنّ القرائن الظنيّة تشير إلى صدور الذّنب و الخطأ من شخصٍ ما، لكن و بحسن الظنّ يتجاوز عنها.

و كذلك الصّبر على النوائب، و الشكر على النّعمة، فهو بلا شك يعتبر من الفضائل، لكنّنا لا نستطيع أن نجعله في دائرة قوّة التّشخيص و الإدراك، و لا في مسألة جلب المنافع و لا دفع المضار، خُصوصاً إذا كان الشّخص الصّابر و الشّاكر، لا يرتجي منها نفعاً مستقبلياً، و تمسّكه بها إنّما كان لقيمتها الذاتيّة، (أي: الصّبر و الشّكر).

و قد يوجد غير قليل من أمثال هذه الفضائل، التي لا يمكن أن نجعلها و ندرجها تحت أحد هذه العناويين.

2- «الحكمة» تعتبر من اصول الفضائل الأخلاقيّة، و الإفراط و التّفريط فيها تُعتبر من الرّذائل الأخلاقيّة، و الحال أنّ الحكمة ترجع إلى تشخيص الحقائق و الوقائع، و تعود الأخلاق للعواطف و الغرائز و الملكات النفسيّة، و لا تعود لإدراكات العقل، و عليه لا يُقال إنّ الُمتفتح الذّهن هو حسن الأخلاق، فالأخلاق يمكن أن تكون وسيلةً و أداةً للعقل، و لا تُعتبر قوّة العقل و الإدراك من الأخلاق، أو بعبارةٍ اخرى: أنّ العقل و

قوّة الإدراك هي الموجّهة لعواطف و غرائز الإنسان، في حركة الحياة و السّلوك، و تعطيها شكلها الأَوفق، و الأخلاق هي كيفيّةٌ تعرض على الغرائز و الميول الإنسانيّة.

3- الإصرارُ على أنّ الفضائل الأخلاقيّة دائماً، هو الحدّ الأوسط بين الإفراط و التّفريط: لا يبدو سليماً، و إن كان في الأغلب هو كذلك، لأنّنا نجد موارد لا يتحقّق فيها الإفراط، فمثلًا القُوّة العقليّة، كلّما كانت أقوى كانت أفضل، و لا يُتصوّر فيها إفراط، فليس من الصحيح جعل

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 87

«الدّهاء و المكر»، هو الإفراط في القوّة العقلية، لأنّ «الدّهاء و المكر» لا ينشأ من الذّكاء و الفهم، بل هو نوعٌ من الإنحراف و الإشتباه في المسائل، للعجلة في الحكم على الامور و ما يُشابهها.

فالرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وصل إلى درجةٍ في العقل و الفكر، بحيث اطلق عليه العَقلُ الكلّ، فهل هذا مخالفٌ للفضيلة؟!

و صحيحٌ أنّ العقل و الذّكاء المُفرط، يسبّب آلاماً و مصاعب لا يلاقيها الغافلون، غير المطّلعين، و لكنّه مع ذلك يعتبر من الفضائل و الكمالات.

و كذلك «العدالة»، حسبوها من الفضائل الأخلاقيّة، و الإفراط و التّفريط فيها هو «الظّلم» و «الإنظِلام»، أي (قبول الظّلم)، و الحال أنّ قبول الظّلم و الانصياع له لا يمكن أن يُعتبر من التّفريط في العدالة أبداً، بل هو مقولةٌ اخرى.

و بناءً على ذلك، فمسألة الإعتدال في صِفات الفضيلة، في مقابل الإفراط و التّفريط للصّفات الرّذيلة، يمكن أن يكون مقبولًا في أغلب الموارد، و لكن لا يمكن أن يُعتبر حُكماً عامّاً، و أصلًا أساسياً في البحوث الأخلاقيّة.

النتيجة: أنّ الاصول الأربعة التي أعدّها القدماء للأخلاق، هي في الواقع إكمالٌ لما جاء به فلاسفةُ اليونان القُدماء، لكنّها لا يمكن

أن تكون نموذجاً و مقسماً جامعاً للصّفات الأخلاقيّة، و إن كانت تصدق على كثيرٍ من المسائل الأخلاقيّة.

العودة للُاصول الأخلاقيّة في القرآن الكريم:

نعود لتحليل الاصول الأخلاقيّة التي نستوحيها من القرآن الكريم، فنحن نعلم أنّ القرآن الكريم لم يُنظّم ككتابٍ تقليدي، في أبوابٍ و فصولٍ، كما هو المتعارف اليوم، بل هو مجموعةٌ من القاءات الوحي السّماوي، نزل بالتّدريج على حسب الحاجة و الضّرورة، و لكن و بالإستفادة من طريقة التّفسير الموضوعي، يمكن وضعه في مثل هذه القوالب.

و من التّقسيمات الّتي يمكن إستيحاؤها و إستفادتها من مجموع الآيات القرآنية، هو تقسيم

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 88

اصول الأخلاق إلى أربعة أقسامٍ:

1- المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالخالق.

2- المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالخَلق.

3- المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالنّفس.

4- المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالكون و الطّبيعة.

فمسألة شكر المُنعم و الخضوع أمام الباري تعالى، و الرّضا و التسّليم لأوامره، و ما شابهها، يُعتبر من المجموعة الاولى.

و التواضع، و الإيثار، و المحبّة، و حُسن الخلق، و المُواساة، تدخل في دائرة المجموعة الثّانية.

تزكية النّفس و تطهير القلب من الأدران، و تفعيل عناصر الخير، لمقاومة الضّغط و التّحديات التي يُواجهها الإنسان في حركة الواقع و الحياة، تدخل في نطاق المجموعة الثّالثة.

و أمّا عدم الإسراف و التّبذير، و إتلاف المواهب الإلهيّة؛ فإنّه يُعتبر من القسم الرّابع.

كلّ هذه الاصول الأربعة، لها جذور و اصول في القرآن الكريم، و سنشير إلى كلّ واحدٍ منها في المباحث الموضوعيّة الآتية.

و بالطبع فإنّ هذه الشّعب الأربعة، تختلف عمّا جاء في كتاب «الأسفار» للفيلسوف المعروف: «ملّا صدرا الشّيرازي»، و أتباع مذهبه، فهؤلاء و طِبقاً لطريقة العُرفاء، شبّهوا الإنسان و حركته التكامليّة: ب: (المسافر)، و عبّروا عن مسائل بناءِ الذّات و صياغة الشّخصية بالسّير و السّلوك، و جعلوا للإنسان أربعةَ أسفارٍ،

هي مَطمع السّالكين و العُرفاء، و أولياء اللَّه:

1- السّفر من الخلق إلى الحقّ.

2- السّفر بالحقّ في الحقّ.

3- السّفر من الحقّ إلى الخلق بالحقّ.

4- السفر بالحقّ في الخلق.

و من المعلوم أنّ هذه الأسفار أو المراحل الأربعة لبناء الذات، و السّير و السّلوك إلى اللَّه تعالى، تتحرك بإتجاهٍ آخر غير ما نحن بصددِه، و إن كانت تتشابه في بعض أقسام الفروع

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 89

الأربعة، للأخلاق الآنفة الذّكر.

و توجد في القرآن الكريم آيات، نعتقد أنّها رَسمت الاصول الكليّة للأخلاق، و من هذه الآيات، الآيات الوادرة في (سورة لُقمان) و الّتي تبدأ من هذه الآية:

«وَ لَقَدْ آتَينا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ للَّهِ» «1».

إنّ أوّل ما يشرع فيه الإنسان في مضمار العقائد و المعارف، هو شُكر المُنعم، و أوّل خطوةٍ في طريق معرفة اللَّه تعالى، هي مسألة شكر المُنعم، أو بعبارةٍ اخرى، كما صرّح علماء العقائد و الكلام: إنّ الدّافع للحركة إلى اللَّه تعالى هو شكر النّعمة، لأنّ الإنسان عند ما يفتح عينه، يرى نفسه غارقاً في بحر النّعم، فيدعوه الضّمير مُباشرةً إلى معرفة المُنعم، و هذا هو بداية الطّريق لمعرفة اللَّه تعالى.

و بعدها تتطرّق الآية لمسألة التّوحيد و تقول: «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ».

و في المرحلة الاخرى، يتناول القرآن الكريم مسألة المعاد، و هي الأساس الثّاني و المهم للمعارف الدّينية و يقول: «يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَو فِي السَّمَواتِ أَو فِي الأَرْضِ يَأَتِ بِها اللَّهُ» «2».

ثم يتطرق للُاصول الأساسيّة للأخلاق و الحكمة العمليّة، و يشير للُامور التاليّة:

1- مسألة إحترام الوالدين و شكرهم بعد شكر الخالق: «وَ وَصَّينا الإِنْسانَ بِوَالِدَيِهِ ... أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوَالِدَيكَ» «3».

2-

إعطاء الأهميّة للصلاة، و علاقته باللَّه و الدعاء و الخضوع له: «أَقِمْ الصَّلاةَ» «4».

3- الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر: «وَ امُرْ بِالمَعرُوفِ وَ إِنْهَ عَنِ المُنْكَرِ» «5»

4- الصّبر على نوائب الدّهر: «و اصبِرْ عَلَى ما أَصابَكَ» «6».

______________________________

(1). سورة لقمان، الآية 12.

(2). سورة لقمان، الآية 16.

(3). سورة لقمان، الآية 14.

(4). سورة لقمان، الآية 17.

(5). سورة لقمان، الآية 17.

(6). سورة لقمان، الآية 17.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 90

5- حُسن الخُلق مع النّاس: «وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ» «1».

6- التواضع و ترك الكِبر مع النّاس و الخلق: «وَ لا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحَاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ» «2».

7- الإعتدال في المشي و في كلّ شي ء: «و اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ و اغْضُضْ مِنْ صَوتِكَ» «3».

و على هذا التّرتيب، نرى أنّ القسم الأكبر من الفضائل الأخلاقيّة، جاءت في الآيات القرآنيّة تحت عنوان: «حكمةٌ لقمان»، التي تشمل الشّكر و الصبر و حُسن الخلق و التوّاضع و الإعتدال و الدّعوة للإحسان، و مقاومة النّوازع و الأهواء النّفسانيّة، كلّ ذلك في ضِمن سبعِ آياتٍ، من الآية (13 إلى 19).

و جاء في الآيات الثلاث من سورة الأنعام، التي تبدأ بالآية (151) و تنتهي بالآية (153)، عشرة أوامر مهمّة، تناولت مبادى ء مهمّة من الاصول الأخلاقيّة، و من جملتها: ترك الظّلم للأولاد، و رعاية الأيتام، و مُراعاة العدالة مع الجميع، و ترك العصبيّة للأقارب و الأصدقاء و القبيلة، في دائرة نقض اصول العدالة، و كذلك الإجتناب من القبائح و الرّذائل الظّاهرية و الباطنيّة، و إحترام حقوق الوالدين، و الإجتناب عن كلّ ما يُسبّب التّفرقة و إلأبتعاد عن كلّ شرك «4».

اصول الأخلاق الإسلاميّة في الرّوايات:

إستعرضت الأحاديث و الرّوايات الإسلاميّة، الاصول الأخلاقيّة الحسنة و السيئة، بطريقتها الخاصّة،

لا كما جاء في كتب حُكماء اليونان و من جملتها:

1- في الحديث المعروف الذي جاء في كتاب: (اصول الكافي)، عن الإمام الصادق عليه السلام: أنّ

______________________________

(1). سورة لقمان، الآية 18.

(2). سورة لقمان، الآية 18.

(3). سورة لقمان، الآية 19.

(4). لمزيد من التوضيح لهذه الأوامر العشرة، يمكن الرجوع لتفسير الأمثل: ج 6، ذيل تفسير هذه الآيات الثلاث.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 91

أحد أصحاب الإمام عليه السلام و إسمه «سماعة بن مهران»، قال: كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السلام و جماعة من مواليه، فجرى ذكر العقل و الجهل، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «إعرفوا العقل و جنده، و الجهل و جنده تهتدوا»، فقلت: جُعلت فِداك لا نعرف إلّا ما عرّفتنا، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام:

«إنّ اللَّه عزّ و جلّ، خلق العقل، و هو أوّل خلقٍ من الرّوحانيين عن يمين العرش، من نوره فقال له: أدبِر فأدبر؛ ثمّ قال له: أقبِل فأقبل؛ فقال اللَّه تبارك و تعالى: خلقتك خَلقاً عظيماً و كرّمتك على جميع خلقي، قال: ثمّ خلق الجهل، من البحر الاجاج ظلمانياً، فقال له: أدبر فأدبر؛ ثم قال له: أقبل فلم يُقبِل فقال له: إستكبرت، فلعنه. ثمّ جعل للعقل خمسة و سبعين جنداً، فلمّا رأى الجهل ما أكرم اللَّه به العقل، و ما أعطاه أضمرَ له العداوة، فقال الجهل: يا ربّ هذا خلق مثلي، خلقته و كرّمته و قوّيته، و أنا ضِدّه و لا قوّة لي به، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته، فقال اللَّه تعالى نعم، فإن عَصيت بعد ذلك أخرجتك و جندك من رحمتي. قال: قد رضيت. فأعطاه خمسة و سبعين جنداً. فكان ممّا أعطى العقل من الخمسة و السّبعين الجند:

الخير هو وزير

العقل، و جعل ضدّه الشرّ و هو وزير الجهل؛

و الإيمان و ضدّه الكفر؛

و التصديق و ضدّه الحُجود؛

و الرّجاء و ضدّه القُنوط؛

و العدل و ضدّه الجور؛

و الرّضا و ضدّه السخط؛

و الشّكر و ضدّه الكُفران؛

و الطّمع و ضدّه اليأس؛

و التوكّل و ضدّه الحِرص؛

و الرّأفة و ضدّه القسوة؛

و الرّحمة و ضدّها الغضب؛

و العلم و ضدّه الجهل؛ الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 92

و الفهم و الحمق؛

و العفّة و ضدّها التهتك؛

و الزّهد و ضدّه الرّغبة؛

و الرّفق و ضدّه الخرق؛

و الرّهبة و ضدّها الجرأة؛

و التّواضع و ضدّه الكِبر؛

و التؤدة و ضدّها التّسرع؛

و الحلم و ضدّه السّفه؛

و الصّمت و ضدّه الهذر؛

و الاستسلام و ضدّه الإستكبار؛

و التّسليم و ضدّه الشّك؛

و الصّبر و ضدّه الجزَع؛

و الصّفح و ضدّه الإنتقام؛

و الغنى و ضدّه الفقر؛

و التّذكّر و ضدّه السّهو؛

و الحفظ و ضدّه النسيان؛

و التعطّف و ضدّه القطيعة؛

و القنوع و ضدّه الحرص؛

و المؤاساة و ضدّها المنع؛

و المودّة و ضدّها العداوة؛

و الوفاء و ضدّه الغدر؛

و الطّاعة و ضدّها المعصية؛

و الخُضوع و ضدّه التّطاول؛ الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 93

و السّلامة و ضدّها البلاء؛

و الحبّ و ضدّه البغض؛

و الصّدق و ضدّه الكذب؛

و الحقّ و ضدّه الباطل؛

و الأمانة و ضدّها الخيانة؛

و الإخلاص و ضدّه الشّوب؛

و الشّهامة و ضدّها البلادة؛

و الفهم و ضدّه الغباوة؛

و المعرفة و ضدّها الإنكار؛

و المداراة و ضدّها المكاشفة؛

و سلامة الغيب و ضدّه المماكرة؛

و الكتمان و ضدّه الإفشاء؛

و الصلاة و ضدّها الإضاعة؛

و الصّوم و ضدّه الإفطار؛

و الجهاد و ضدّه النُكول؛

و الحجّ و ضدّه نبذ الميثاق؛

و صَون الحديث و ضدّه الّنميمة؛

و برّ الوالدين و ضدّه العُقوق؛

و الحقيقة و ضدّها الرّياء؛

و المعروف و ضدّه المُنكر؛

و السّتر و ضدّه التّبرج؛

و التقيّة و ضدّها الإذاعة؛

و الإنصاف و ضدّه الحميّة؛ الاخلاق فى القرآن،

ج 1، ص: 94

و التهيئة و ضدّها البغي؛

و النّظافة و ضدّها القذر؛

و الحياء و ضِدّه الجلع؛

و القصد و ضدّه العدوان؛

و الرّاحة و ضدّها التّعب؛

و السّهولة و ضدّها الصّعوبة؛

و البركة و ضدّها المحق؛

و العافية و ضدّها البلاء؛

و القوام و ضدّه المكاثرة؛

و الحكمة و ضدّها الهواء؛

و الوقار و ضدّه الخفّة؛

و السّعادة و ضدّها الشّقاوة؛

و التّوبة و ضدّها الإصرار؛

و الاستغفار و ضدّه الإغترار؛

و المحافظة و ضدّها التّهاون؛

و الدّعاء و ضدّه الإستنكاف؛

و النّشاط و ضدّه الكسل؛

و الفرح و ضدّه الحُزن؛

و الالفة و ضدّها الفُرقة؛

و السخاء و ضدّه البخل؛

فلا تجتمع هذه الخصال كلّها من أجناد العقل، إلّا في نبيّ أو وصيّ نبي، أو مؤمن قد إمتحن اللَّه قلبه للإيمان، و أمّا سائر ذلك من موالينا فإنّ أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتّى يستكمل، و ينفي من جنود الجهل. فعند ذلك يكون في الدرجة

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 95

العليا مع الأنبياء و الأوصياء؛ و إنّما يُدرك ذلك بمعرفة العقل و جنوده، و بمجانبة الجهل و جنوده. وفّقنا اللَّه و إيّاكم لطاعته و مرضاته» «1».

فالحديث أعلاه، حديث جامع لُاصول و فروع الأخلاق الإسلامية، و بحثها بعض المؤلّفين و الكتّاب في كتبٍ مستقلةٍ.

2- نقرأ في الكلمات القصار للإمام علي عليه السلام، في نهج البلاغة، عند ما سُئل الإمام عليه السلام عن الإيمان، (يتبيّن من ذيل الحديث، أنّ المقصود من الإيمان هو الإيمان العلمي و العملي، الذي يشمل الاصول الأخلاقيّة).

أجاب الإمام عليه السلام:

«الإيمانُ عَلَى أَربَعِ دَعائِمَ، عَلَى الصَّبْرِ و اليَقِينِ وَ العَدلِ وَ الجِهادِ».

ثم أضاف قائلًا: «و الصَّبرُ مِنْها عَلَى أَربَعِ شُعَبٍ، عَلَى الشَّوقِ وَ الشَّفَقِ وَ الزُّهدِ وَ التَّرَقُبِ».

(الإشتياق للجنّة و المنح الإلهيّة، و الخوف من العقاب و النّار،

دافعٌ للأعمال الصّالحة و رادع عن السيئات). و الزّهد بالدنيا و زبرجها يهوّن المصائب، و إنتظار الموت و نهاية الحياة، تحثّ الإنسان لِفعل الأعمال الصّالحة.

و بعدها يضيف عليه السلام:

«و اليَقِينُ مِنها عَلَى أَربَعِ شُعَبٍ، عَلى تَبصِرَةِ الفِطْنَةِ وَ تَأَوُّلِ الحِكْمَةِ وَ مَوعِظَةِ العِبرَةِ وَ سُنَّةِ الأَوَّلِينَ».

ثمّ أضاف عليه السلام:

«وَ العَدْلُ مِنها عَلَى أَربَعِ شُعَبٍ، عَلَى غَائِصِ الفَهمِ، وَ غَورِ العِلمِ، وَ زُهْرَةِ الحُكْمِ، وَ رَساخَةِ الحِلْمِ».

و قال عليه السلام خِتاماً:

______________________________

(1). أصول الكافي، ج 1، ص 20 إلى 23، ح 14.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 96

«وَ الجِهادُ مِنها عَلَى أَربَعِ شُعَبٍ، عَلَى الأمرِ بِالمَعرُوفِ و النَّهِي عَنِ المُنكَرِ، و الصِّدقِ فِي المَواطِنِ، وَ شَنآنِ الفَاسِقِينَ».

و بعدها يبيّن شعب الكفر، و يشرحها واحداً تَلْو الآخر «1».

فكما تلاحظون أنّ الإمام علي عليه السلام، رسم الاصول الإسلامية للإيمان و الكفر، بدقّةٍ متناهيةٍ، و آثارها في المحتوى الداخلي للإنسان و على سلوكه الخارجي، و التي تشمل الأخلاق العمليّة، فذكر لكلّ فرعٍ، فرعاً آخر، و تحليل هذه الجزئيات يتطلب كتابة مقالة اخرى.

3- نقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام علي عليه السلام:

«أَربَعٌ مَنْ اعطِيهُنَّ فَقَدْ اوتِيَ خَيرَ الدُّنيا و الآخِرَةِ، صِدقُ حَدِيثٍ وَ أَداءُ أَمانةٍ، وَ عِفَّةُ بَطنٍ وَ حسنُ خُلُقٍ» «2».

4-- و جاء في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، في نفس هذا المعنى، بتلخيصٍ أكثر، حيث جاء إليه أحد الأشخاص، و طلب منه أن يُعلّمه أمراً يكون فيه خير الدنيا و الآخرة، و بشكلٍ موجز، فقال الإمام عليه السلام في معرض جوابه: «لا تِكْذِب تَكِذْبَ» «3».

و الحقيقة هي كذلك، لأنّ جذور كلّ الفضائل تمتد إلى حديث الصّدق، فالإنسان لا يكذب على الناس و لا على نفسه و لا على

اللَّه تعالى، و عند ما يقول في صلاته: «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَستَعِينُ»، ينبغي أن لا يكون فيها كاذباً أبداً، بل يبتعد عن كلّ ما هو شيطاني، و هوى النفس، و تكون حركته في دائرة خضوعه و تسليمه للَّه فقط، و لا يعتمد على المال و الجاه و القدرة و المقام، و يترك ما سوى اللَّه تعالى و يكون إعتماده الأوّل و الأخير على لطف اللَّه تعالى و معونته، فإذا أصبح الإنسان كذلك، فسوف يعيش الحياة المعنويّة في جميع فروع و اصول الأخلاق.

______________________________

(1). الكلمات القصار، نهج البلاغة، الكلمة 31 (مع التلخيص) و كذلك في اصول الكافي، ج 2، ص 391، باب دعائم الكفر و شعبه.

(2). غرر الحكم.

(3). تحف العقول، ص 264.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 97

5- و نقرأ في الرّوايات الإسلاميّة تعابير مثل: «أفضل الأخلاق»، أو «أكرم الأخلاق»، أو «أحسن الأخلاق»، أو «أجمل الأخلاق»، و في هذه إشارةٌ اخرى لأقسامٍ مهمّةٍ من الاصول الأخلاقيّة، منها:

سئل الباقر عليه السلام عن أفضل الأخلاق، فقال: «الصَّبرُ و السّماحَةُ» «1».

و في حديثٍ آخر عن الإمام علي عليه السلام، قال:

«أَكْرمُ الأَخلاقِ السَّخَاءُ وَ أَعمُّها نَفعاً العَدْلُ» «2».

و في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أيضاً، قال:

«أَشْرَفُ الخِلائِقِ التَّواضُعُ و الحِلمُ وَ لِينُ الجانِبِ» «3».

و في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث سئل:

«أَيُّ الخِصالِ بِالمَرءِ أَجْمَلُ فَقالَ: وِقارٌ بلا مَهانَةٍ، وَ سَماحُ بِلا طَلَبِ مُكافَاةٍ، وَ تَشاغُلٌ بِغَيرِ مَتاعِ الدُّنيا» «4».

6- أيضاً في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام، بيّن فيه اصول الأخلاق السّيئة، و عبّر عنها باصول الكفر، فقال:

«اصُولُ الكُفرِ ثَلاثَةٌ: الحِرصُ، و الاستِكبارُ وَ الحَسَدُ».

و أردف قائلًا في بيان و توضيح الاصول الثلاثة:

«فَأَمّا الحِرصُ فإِنَّ آدَمَ

حَينَ نُهِيَ عَنِ الشَّجَرَةِ حَمَلَهُ الحِرصِ أَنْ أَكَلَ مِنها، وَ أَمَّا الإِستِكبَارُ فَإبِلِيسُ حِينَ امِرَ بِسُّجُودِ لآدَمَ إِستَكبَرَ، وَ أَمّا الحَسَدُ فَإبنا آدَمَ حَيثُ قَتَلَ أَحَدَهُما صاحِبَهُ» «5»

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 36، ص 358.

(2). غرر الحكم.

(3). المصدر السابق.

(4). اصول الكافي، ج 2، ص 240.

(5). اصول الكافى، ج 2، ص 289.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 98

و على هذا الأساس فإنّ مصدر جميع المصائب الكبرى، التي حدثت في عالم الإنسانية، منذ صدر الخليقة، هي هذه الصّفات الثّلاثة، فالحِرص: طرد آدم من الجنّة، و الاستكبار: طرد إبليس عن ساحة القدس إلى الأبد، و الحسد: هو أساس كلّ قتلٍ و جنايةٍ حدثت في العالم

7- و نختم كلامنا هذا بحديثٍ عن الرّسول الكريم صلى الله عليه و آله قال، الإمام الصادق عليه السلام، أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال:

«إِنَّ أَوَّلَ مَنْ عُصِيَ اللَّهُ عزَّ و جَلَّ بِهِ سِتٌّ: حُبُّ الدُّنيا، وَ حُبُّ الرِّياسَةِ، وَ حُبُّ الطَّعامِ، وَ حُبُّ النَّومِ، وَ حُبُّ الرَّاحَةِ، وَ حُبُّ النِّساءِ» «1».

لقد تبيّن من مجموع ما ذكر آنفاً، اصول الفضائل و الرّذائل الأخلاقيّة، و لكن و كما يُستفاد من مجموع الرّوايات، أنّه لا يوجد عدد خاص و معيّن، لهذه القيم و المبادى ء الأخلاقية، لأنّ الأخلاق الحسنة و القبيحة، لها دوافع و مقاصد متعدّدة و متنوعة و مختلفة، أو بعبارة اخرى: كما أنّ الصّفات الجسميّة للإنسان، لا عدد و لا حصر لها، فكذلك الصّفات الروحانيّة، و الملكات الأخلاقيّة الصّالحة و الطّالحة، لا عدد و لا حصر لها.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 69، ص 105، ح 3.

7

إرتباط المسائل الأخلاقيّة مع بعضها

تنويه:

غالباً ما تكون الفضائل الأخلاقيّة، مترابطةٌ في ما بينها برابطةٍ وثيقةٍ، كما هو الحال في الرّذائل و علاقتها الوثيقة

مع بعضها، و على هذا يصعب التّفكيك و الفصل بينها في الغالب.

و هذا التّرابط قد يكون بسبب الجُذور المشتركة بينها، و ربّما يكون بسبب الّثمرات المترتبة عليها و نتائجها في حركة الإنسان و الحياة.

و في القسم الأول، و هو البحث في الجذور المشتركة بين القيم في المنظومة الأخلاقية، لدينا أمثلةٌ واضحةٌ، ففي كثير من الموارد، تكون الغيبة وليدة الحسد، و يسعى الحسود دائما لفضح و تعرية محسوده، و الإستهانة بشخصيته من موقع التّهمة و الافتراء و التّكبر، و التّحرك على مستوى تحقير و تهميش الآخرين، فكلّ هذه الرّذائل يمكن أن تكون من إفرازات الحسد أيضاً.

و بالعكس، فمن كان يعيش علوّ الهمّة، و سمّو الطبع، فسوف لا يقف في مقابل الشهوات الرخيصة و الطمع فيها فحسب، بل تكون لديه حصانةٌ ضدّ: الحسد و الكِبر و الغرور و التملّق، أيضاً.

و بالنسبة للنتائج و الثمرات، نرى هذا الإرتباط بصورةٍ أوضح، فالكذب يمكن أن يكون مصدراً لأكاذيب اخرى، و ربّما و لتوجيه أخطائه و ذنوبه، يرتكب الشخص أخطاءً اخرى، و

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 100

الاخلاق فى القرآن ج 1 149

يتحرك لُممارسة جرائم عديدة في عمليّة التّغطية على جُرمه الأول، و بالعكس، فإنّ العمل الأخلاقي مثل الأمانة، من شأنه أن يولّد المحبّة و الصّداقة و التعاون و الارتباط الوثيق بين أفراد المجتمع.

و يوجد لدينا في الرّوايات إشارات إلى هذا المعنى، فنقرأ في حديثٍ عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال:

«إذا كَانَ في الرَّجُلِ خَلَّةٌ رائِعةٌ فانتَظِر أَخَواتِها» «1».

و في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال:

«إنَّ خِصالَ المَكارِمِ بَعضُها مُقَيَّدٌ بِبَعضِها».

و أشار في ذيل هذا الحديث:

«صِدْقُ الحَدِيثِ وَ صِدْقُ البَأسِ و إِعطاءُ السَّائِلِ وَ المُكافَاتُ بِالصَّنَائعِ

و أَداءُ الأَمانَةِ وَ صِلَةُ الرَّحِمِ وَ التَّوَدُّدَ إِلى الجارِ و الصَّاحِبِ و قِرى الضَّيفِ وَ رَأسُهُنَّ الحَياءُ» «2»

و في الواقع فإنّ الحياء، و هو روح النّفور من الذّنب و القّبائح، يمكن أن يكون مصدراً لجميع الأفعال الأخلاقية المذكورة أعلاه، كما أنّ الصّدق يُقرّب الإنسان للأمانة، و يعمّق فيه روح التّصدي للقبائح، و يثير في أعماق وجدانه، عناصر الخير و المحبّة مع الأقارب و الأصدقاء و الجيران.

و نقرأ في حديثِ ثالثٍ عن الإمام الباقر عليه السلام، أنّه قال:

«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ جَعَلَ للشِّرِّ أَقفَالًا وَ جَعَلَ مَفاتِيحَ تِلكَ الأَقفَالِ الشَّراب، وَ الكِذْبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرابِ» «3».

و فيه إشارةٌ إلى أنّ الكذب، يمكن أن يكون مصدراً لأنواعٍ كثيرةٍ من الآثام و الذّنوب.

و جاء ما يشبه هذا المعنى، في حديثٍ عن الإمام العسكري عليه السلام، فقال:

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 66، ص 411، ح 129.

(2). المصدر السابق، ص 375.

(3). المصدر السابق، ج 69، ص 236، ح 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 101

«جُعِلَتْ الخَبَائِثُ في بَيتٍ وَ جُعِلَ مِفتَاحُها الكِذْبُ» «1».

و نختم هذا الموضوع، بحديثٍ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال له: يا رسول اللَّه إنّي إرتكبت في السّر أربع ذنوبٍ، الزّنا و شرب الخمر و السّرقة و الكذب، فأَيّتَهُنَّ شِئتَ تَركتُها لك، (لم يكن يريد أن يقلع عنها أجمع، و إكراماً للرّسول؛ يريد أن يقلع عن واحدةٍ فقط؟!.

فقال له الرسول صلى الله عليه و آله: «دَع الكَذِبَ».

فذهب الرجل، و كلما أراد أن يهمّ بالخطيئة، يتذكر عهده مع الرسول صلى الله عليه و آله، و يقول ربّما سألني، و عليّ أن أكون صادقاً في

الجواب، فيجري عليّ الحدّ، و إن كذبت فقد نقضت العهد مع الرسول صلى الله عليه و آله، ممّا إضطّره أخيراً لتركها أجمع.

فرجع ذلك الرجل للرسول صلى الله عليه و آله، و قال له:

«قَدْ أَخَذتَ عَليَّ السَّبِيلَ كُلَّهُ فَقَد تَركتُهُنَّ أجمع» «2».

و نستنتج ممّا ذُكر آنفاً: أنّه في كثيرٍ من الموارد، و لأجل تربية و تهذيب النّفوس و الأخلاق، أو لإصلاح بعضها، يجب أن نبدأ من الجُذور، و كذلك الإستعانة بالمقارنات و الأخلاق الاخرى المتعلقة بها.

______________________________

(1). بحارالأنوار؛ ج 69، ص 263.

(2). شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد؛ ج 6، ص 357.

8

من أين نبدأ؟

اشارة

تعرفنا على كلّيات علم الأخلاق، و نتائجه و آثاره و مقاصده و فُروعه، و الآن آن الأوان، و بما لدينا من المعلومات و المعارف الكلّية، البِدء في طريق تهذيب النّفس، أو الإنتقال من المسائل الذهنيّة إلى ميدان الممارسة و التّطبيق، و من الكلّيات إلى الجزئيات.

و يجب التّوقف هنا، لتهيئة لوازم سفرنا الروحاني، حتى لا نصاب في سلوكنا لذلك الطّريقُ بالحيرة و الضّلالة و عدم التّنظيم و التّنظير، و عليه فلا بدّ من الإلتفات إلى امور:

1- ثلاثة رُؤى في كيفيّة التعامل مع المسائل الأخلاقيّة.

2- هل يحتاج الإنسان في كل مرحلة إلى استاذٍ و مرشدٍ؟

3- دور الواعظ الخارجي و الواعظ الداخلي.

4- الامور التي تُساعد الإنسان في عملية الوصول إلى هذا الهدف؛ مثل ذكر اللَّه و العبادة و الأدعية، الزّيارات، النصائح المتكررة، التلقين.

5- طهارة المحيط.

ثلاث نظريّات في كيفيّة التعامل مع المسائل الأخلاقيّة:

النظريّة الأولى

رأيٌ يقول: إنّ تهذيب النفس، نوع من الجهاد و محاربة أعداء الداخل، الّذين يتحرّكون

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 104

لإيقاع الإنسان في مستنقع الرّذيلة، و شراك الخطيئة.

هذا الرأي مقتبسٌ في الأصل، من حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، المعروف، عند ما خاطب الرسول صلى الله عليه و آله، قومٌ من المجاهدين، رجعوا لتوّهم من الغزو فقال:

«مَرحَباً بِقَومٍ قَضَوا الجِهادَ الأَصغَرَ وَ بَقيَ عَلَيهِم الجِهادُ الأَكبَرُ، فَقِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ، ما الجِهادُ الأكبرُ، قالَ: جِهادُ النَّفسِ» «1».

و جاء في البحار في ذيل هذا الحديث: ثُمّ قَالَ صلى الله عليه و آله:

«أَفضَلُ الجِهادِ مَنْ جاهدَ نَفْسَهُ الَّتي بَينَ جَنْبَيهِ» «2».

هذا و قد فُسّرت بعض الآيات التي وردت في دائرة الجهاد، بالجهاد الأكبر، إمّا لأنّها تخصّ الجهاد مع النفس، أو لمدلولها العام في حركة السياق القرآني، الذي يتناول القِسمين للجهاد.

و جاء في تفسير القمي،

في ذيل الآية (6) من سورة العنكبوت: «وَ مَنْ جاهَدَ فَإنّما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ»، قَالَ عليه السلام: «و من جاهد نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَواتِ وَ اللَّذَّاتِ وَ المَعاصِي» «3».

و يمكن أن نستوحي هذا المعنى من هذه الآية، من حيث إنّ فائدة الجهاد تعود على الإنسان نفسه، و يتّضح و يتجلّى أكثر في الجهاد مع النفس، و خصوصاً أنّ الآية التي جاءت قبلها، تكلّمت عن لقاء اللَّه: «وَ مَنْ كَانَ يَرجُوا لِقاءَ اللَّهِ ...»، و نعلم أنّ لقاء اللَّه، و الشهود و القرب منه، هو الهدف الأصلي للجهاد مع النفس.

و كذلك جاء في آخر آيةٍ من سورة العنكبوت: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الُمحسِنِينَ».

و هذه الآية أيضاً ناظرةٌ حسب الظاهر إلى الجهاد الأكبر، و ذلك لقرينة: (فينا)، و جملة:

«لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنا»، أو تتضمن مفهوماً عاماً يستوعب كلا النَّحوين من الجهاد.

و جاء أيضاً في الآية (78) من سورة الحج: «و جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُم وَ مَا

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 122 (باب 1، جهاد النفس).

(2). بحار الأنوار، ج 67، ص 65.

(3). تفسير القمي، ج 2، ص 148؛ بحار الانوار، ج 67، ص 65.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 105

جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرجٍ».

فقد فسّر أغلب المفسّرين كلمة الجهاد بمعناها و مفهومها العام، الذي يشمل الجهاد الأصغر و الأكبر، أو بخصوص معنى الجهاد الأكبر، و كما قال المرحوم العلّامة الطّبرسي في كتابه مجمع البيان، أنّ أكثر المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من حقّ الجهاد، هو إخلاص النيّة و الأعمال و الطّاعات للَّه تعالى «1».

و قد ذكر العلّامة المجلسي رحمه الله هذه الآية، في زمرة الآيات النّاظرة للجهاد

الأكبر «2» كذلك.

و جاء في الحديث المعروف عن أبي ذرّ رحمه الله أنّه قال: قُلتُ يا رسُولَ اللَّهِ أَيُّ الجِهادِ أَفضَلُ؟

فَقالَ صلى الله عليه و آله: «أَنْ يُجاهِدَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَ هَواهُ» «3».

و كما ورد في حديث: جنود العقل و جنود الجهل، هذا المعنى أيضاً، إذ يُشبّه حياة الإنسان بساحةِ حربٍ، العقلُ جنوده في جهةٍ، و الجهلُ و هوى النّفس و جنودهما في الجهة المقابلة، فهذان المعسكران، يعيشان دائماً في حالة حربِ سِجالٍ، و من خلال هذا النّزاع، و معطيات حالات الصّراع في أعماق النّفس، تتولد الكمالات المعنويّة للإنسان، و ذلك عند ما ينتصر العقل و جنوده، و النّصر الآني، هو السّبب في التّقدم النّسبي للكمالات الإنسانيّة.

النظريّة الثّانية: نظريّة الطّب الرّوحاني

فقد ذهبوا إلى أنّ الرّوح كجسم الإنسان، تُصاب بأنواع الأمراض، و لأجل الشّفاء يتوجب اللّجوء إلى أطبّاء النّفس و الرّوح، و الاستعانة بأدوية الأخلاق الخاصّة، حتى تبقى الرّوح سالمةً و نشطةً و فعّالةً.

و الجدير بالذكر، أنّ القرآن الكريم أشار إلى الأمراض الأخلاقية و الروحية، في إثنى عشر موضعاً، و عبّر عَنها بالمرض «4»، و منها الآية (10) من سورة البقرة، إعتبرت النِّفاق من

______________________________

(1). مجمع البيان، ج 7، ص 97.

(2). بحار الأنوار، ج 67، ص 63.

(3). ميزان الحكمة، ج 2، ص 141.

(4). سورة البقرة، الآية 10؛ سورة المائدة، الآية 52؛ سورة الأنفال، الآية 49؛ سورة التوبة، الآية 125؛ سورة الحج، الآية 53؛ سورة النور، الآية 50؛ سورة الأحزاب، الآية 12 و 32 و 60؛ سورة محمد، الآية 20 و 29؛ سورة المدثر، الآية 31.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 106

زمرة الأمراض الروحية، فقالت: «فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُم اللَّهُ مَرَضاً»؛ بسبب إصرارهم على النّفاق.

و في الآية (32) من سورة الأحزاب،

و صفت عبيد الشّهوة بمرضى القلوب، الذين يتحيّنون الفرص لإصطياد النّساء العفيفات، حيث خاطب الباري تعالى نساء النبي صلى الله عليه و آله، فقال: «فَلا تَخْضَعنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ».

و جاء في الآيات الاخرى نفس هذا المعنى، أو أوسع منه، بحيث تناولت الآيات، جميع الإنحرافات الأخلاقيّة و العقائديّة.

و في معنى عميق آخر، عبّر القرآن الكريم، عن القلوب المليئة بنور المعرفة و الأخلاق و التّقوى: بالقلوب السليمة. و جاء ذلك على لسان النّبي إبراهيم عليه السلام، حيث قال: «وَ لا تُخْزِنِي يَومَ يُبعَثُونَ* يَومَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ* إلّا مَنْ أَتىْ اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ» «1».

«السّليم» من مادة «السّلامة»، و تقع في مقابل الفساد و الإنحراف و المرض، و «القلب السّليم» كما جاء في الرّوايات عن المعصومين عليهم السلام، في تفسير هذه الآية، أنّه القلب الذي خَلا من غير اللَّه تعالى، (منزّه من كلّ مرضٍ أخلاقي و روحي).

و قال القرآن الكريم في مكانٍ آخر: إنّ إبراهيم عليه السلام عند ما طلب من الباري تعالى: القلب السّليم، (كما أشارت الآيات الآنفة الذّكر)، تحقّق له ما يُريد، و شملته رحمة و لطف اللَّه تعالى، و أصبح ذا قلبٍ سليمٍ، فنقرأ في الآيات (83 و 84) من سورة الصافات:

«و إِنَّ مِنْ شَيعَتِهِ لَإبراهيم* إذْ جاء رَبَّهُ بِقَلبٍ سَليمٍ».

نعم، فإنّ إبراهيم عليه السلام كان يتمنى أن يكون ذا قلبٍ سليمٍ، و بالسّعي و الإيثار و محاربة الشرك، و هو النفس من موقع عبادة اللَّه، إستطاع أن يصل بالنّهاية إلى ذلك المقام.

و نجد في الأحاديث الإسلامية، إشاراتٌ كثيرةٌ حول هذا الموضوع، و منها:

______________________________

(1). سورة الشعراء، الآية 87 الى 89.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 107

1- يصف الإمام علي عليه

السلام، الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله في نهج البلاغة، فيقول: «طَبِيبٌ دَوّارٌ بِطِبّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَراهِمَهُ وَ أَحمَى مَواسِمَهُ يَضَعُ ذِلِكَ حَيثُ الحاجة إِلَيهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمى و آذانٍ صُمٍّ وَ أَلسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدوَائِهِ مَواضِعَ الغَفلَةِ وَ مَواطِنَ الحَيرَةِ» «1».

2- ورد في تفسير القلب السّليم، الذي ذُكر في الايتين الشّريفتين أعلاه، رواياتٌ كثيرةٌ، فنقرأ أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، سئل: ما القَلبُ السّلِيم.

فقال صلى الله عليه و آله: «دِينٌ بِلا شَكٍّ وَ هُوىً، وَ عَمَلٌ بِلا سُمْعَةٍ وَ رِياءٍ» «2».

و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام: «لا عِلْمَ كَطَلَبِ السَّلامَةِ، و لا سَلامَةَ كَسَلامَةِ القَلبِ» «3».

و جاء في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إِذا أَحَبَّ اللَّهُ عَبداً رَزَقَهُ قَلبَاً سَلِيماً وَ خُلْقاً قَويمَاً» «4».

3- و قد ورد التعبير عن الأخلاق الرّذيلة، في الروايات بأمراض القلب.

فورد في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال:

«إِيّاكُم وَ المراءَ وَ الخُصُومَةَ فإنّهما يُمرِضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ، وَ يَنْبُتُ عَلَيهما النِّفاقَ» «5».

و جاء أيضاً عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال:

«ما مِنْ شَي ءٍ أَفْسَدَ لِلقَلبِ مِنْ خَطِيئَتِهِ» «6».

4- و نقرأ عن الإمام علي عليه السلام أيضاً:

«أَلا وَ مِنَ البَلاءِ الفاقَةُ، وَ أَشَدُّ مِنَ الفاقَةِ مَرَضُ البَدَنِ، وَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِ البَدنِ مَرَضُ القَلبِ». «7»

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 108.

(2). مستدرك الوسائل، ج 1، ص 103 (الطبعة الجديدة).

(3). بحارالأنوار، ج 75، ص 164.

(4). غُرر الحِكم، ج 3، ص 167، (طبعة جامعة طهران).

(5). بحار الأنوار، ج 70، ص 399.

(6). المصدر السابق، ص 312.

(7). نهج البلاغة، الكلمات القصار، كلمة 388.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 108

5- و جاء أيضاً عن

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، في معرض حديثه عن الحسد، و أنّه كان و لا يزال على طول التأريخ مرضٌ نفسي عضال، فقال:

«أَلا إنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيكُم داءُ الامَمِّ مِنْ قَبلِكُم وَ هُوَ الحَسَدُ، لَيسَ بِحالِقِ الشَّعْرِ، لَكِنَّهُ حالِقُ الدِّينِ، و يُنجِي فِيهِ أَنْ يَكُفَّ الإِنسانُ يَدَهُ وَ يَحْزُنَ لِسانَهُ وَ لا يَكُونَ ذا غَمزٍ عَلَى أَخِيهِ المُؤمِنُ» «1».

6- و قد ورد في التّعبير عن الرذائل الأخلاقيّة، في كثيرٍ من الرّوايات ب: «الدّاء» و مفهومها المرض، و جاء مثلًا في الخطبة (176) من نهج البلاغة، حيث يصف الإمام عليه السلام فيها القرآن الكريم:

«فَإسْتَشفُوهُ مِنْ أَدوائِكُم ... فَإِنَّ فِيهِ شِفاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَ هُوَ الكُفْرُ وَ النِّفَاقُ وَ الغيُّ و الضَّلالُ».

و نرى أيضاً هذا التعبير في روايات كثيرة اخرى.

و خلاصة القول، إنّ الفضائل و الرّذائل، و طبقاً لهذه النظرية و الرؤية، علامةٌ لسلامة و مرض الرّوح عند الإنسان، و الأنبياء عليهم السلام و الأئمّة المعصومين عليهم السلام، كانوا معلمي أخلاق، و أطباء نفسيين، و تعاليمهم تجسّد في مضمونها الدّواء النّافع و العلاج الشافي.

و على هذا، فكما هو الحال في الطّب المادي، و لأجل الوصول إلى الشّفاء الكامل، يحتاج المريض إلى الدواء، و يحتاج إلى الحُمية من بعض الأكلات، فكذلك في الطّب النّفسي و الرّوحي الأخلاقي، يحتاج إلى الإمتناع عن أصدقاء السّوء، و المحيط الملّوث بالمفساد الأخلاقيّة، و كذلك الإمتناع عن كلّ ما يَساعد على تفّشي الفساد، في واقع الإنسان النفسي، و محتواه الداخلي.

فالطّب المادي جعل العمليّة الجراحيّة كعلاجٍ لبعض الحالات، و كذلك جعل الطّب

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 1، ص 630.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 109

الرّوحي الحدود و التّعزيرات و العُقوبات كوسيلةٍ، و

دواءٍ رادعٍ، عن الأعمال المنافيَة للأخلاق، و هي بِمنزلة إجراء العمليّة الجراحيّة في الطّب المادي.

و كما نرى في الطّب المادي، أنّه جعل العلاج في مرحلتين، مرحلة الوقاية: و هي المحافظة على الصّحة البدنيّة، و الثّانية: مرحلة العلاج للمريض، فكذلك في الطّب الرّوحي و الأخلاقي، يمرّ بمرحلتين: مرحلة الإرشاد و التعليم من قبل معلمي الأخلاق، للمحافظة على نفوس الناس من التلّوث بالرذائل، و الثّانية: مرحلة العلاج للمذنبين الملوّثين بالرّذائل.

و ما جاء في الخطبة (108) من نهج البلاغة، في وصف الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و معالجاته بالمراهم و الكيّ للجروح، يبيّن مدى التّنوع في الطّب الرّوحي، كما هو الحال في الطّب المادي.

ففي الطّب المادي (الجسماني)، توجد مجموعة إرشاداتٍ و أوامر كليّة لعلاج الأمراض، و قسمٌ من الأوامر التي تخص كلّ مرض بذاته، فكذلك الطّب الرّوحي، فالتّوبة و ذكر اللَّه و العبادات الاخرى، و المحاسبة و المراقبة للنفس، هي اصولٌ كليّةٌ للعلاج، و كلّ مرضٍ أخلاقي، نجد الأوامر و الإرشادات الخاصة به، مذكورةٌ في الكتب الإسلاميّة و الأخلاقيّة.

النظريّة الثالثة: نظريّة السّير و السّلوك

و قد شبّه الإنسان في هذه النظريّة، بمسافر إنطلق من نقطةِ العدم، إلى لقاء اللَّه تعالى، و يتحرك في سلوكه بهدف لقاء اللَّه، و القرب من الذّات المقدّسة اللّامتناهية.

ففي هذا السّفر، و كما هو الحال بالنسبة لأسفارنا الماديّة، يجب تحضير المركب و المتاع، و إزالة الموانع التي تقف في الطّريق، و التّفكير في كيفية التّصدي للّصوص و قطاع الطّريق و الأعداء، للمحافظة على المال و الأرواح، فهذا السّفر الرّوحاني و المعنوي، فيه منازل و طرق ملتوية و صعبة العبور، و مطبّاتٌ خطرةٌ، و لا يمكن العبور منه بسلامة، إلّا بمعونة الدليل المطّلع و العارف بالطّريق، و العُبور

منها واحداً بعد واحدٍ حتّى الوصول إلى محطّ الرّحال و منزل المقصود.

و يصرّ البعض أنّ السّير و السّلوك إلى اللَّه تعالى، و معرفته و منازله، و زاده و أدلّائه، و

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 110

الطّريق الموصل إليه، هو علمٌ غير علم الأخلاق، و منفصلٌ عنه، و لكن و بنظرةٍ أوسع، نرى أنّ السير و السّلوك الرّوحي، يلتقي في نفس الطّريق التي تهدف إليه التربية الأخلاقية، و تحصيل الفضائل في خط التّكامل المعنوي، أو على الأقل أنّ الأخلاق الإلهيّة هي أحد أبعاد السّير و السّلوك الرّوحاني.

و على أيّة حال، فإنّ الآيات و الروايات، أشارت إلى هذه النّظرية أيضاً، و منها: الآية (156) من سورة البقرة، حيث تقول: «الَّذِينَ إذا أَصابَتْهُم مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا للَّهِ وَ إِنّا إِلِيهِ راجِعُونَ».

فمن جهةٍ، يرى الإنسان نفسه أنّه مُلكٌ للَّه تعالى، و من جهةٍ اخرى، يرى نفسه أنّه مُسافر، و يتحرّك بإتّجاه اللَّه تعالى شأنه.

و نقرأ أيضاً في سورة العَلق: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجعى «1».

و جاء في سورة الإنشقاق: «يا أَيُّها الإنسانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدحاً فَمُلاقِيهِ» «2».

و جاء في سورة الرّعد: «رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَها ... يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُم بِلَقاءِ رَبِّكُم تُوقِنُونَ» «3».

و يوجد أكثر من (20 آية)، تحدثت عن أن لقاء اللَّه تعالى، في الواقع هو مقصود السّالكين إلى اللَّه و العارفين به، و يعني اللّقاء المعنوي و الرّوحي مع المحبوب، و المقصود الذي لا مثيل له.

و صحيحٌ أنّ هذه الآيات، و آياتُ الرّجوع إلى اللَّه تعالى، تستوعب جميع هذه المعاني، و لكن هذا لا يمنع من أنّ سير و سلوك المؤمن و الكافر، من ناحية الفِطرة و الخلقة، هو بإتّجاه الباري تعالى، فبعضٌ ينحرف عن طريق

الفطرة، فيسقط في وادٍ سحيقٍ، و لكن أولياء اللَّه و مع إختلافهم بالمراتب، يصلون إلى المقصود، مثل الحيامن التي تسير جميعاً في عالم الرّحم لِتكوين الجَنين، فبعضها تموت في المراحل الأولى بسبب بعض الآفات، و تتوقف عن الحركة، و بعضها يستمر في طريقه، ليصل أحدها إلى الهدف.

و أفضل و أوضح من هذه التّعابير، هو تعبير القرآن الكريم، حيث يقول: «إِنَّ خَيرَ الزَّادِ

______________________________

(1). سورة العلق، الآية 8.

(2). سورة الإنشقاق، الآية 6.

(3). سورة الرّعد، الآية 2.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 111

التَّقوى ، (و عادةً كلمة: الزّاد، تقال للطعام الذي يحمله المسافر معه، و لكنّها في الأصل موضوعةٌ لمعنى أشمل: بحيث تشمل كلَّ ذخيرةٍ).

و على هذا الأساس يقول: إنّ التّقوى هي خيرُ الزّاد، و هي إشارةٌ إلى سير الإنسان في طريق التّوحيد الخالص، و على كلّ حال فإنّ هذا السّفر الرّوحاني يحتاج إلى زادٍ، و زاده لا بدّ و أن يكون معنوياً أيضاً.

و نرى مثل هذا التعبير، واردٌ بكثرةٍ في الرّوايات الإسلاميّة.

و في موارد متعدّدةٍ من نهج البلاغة، أتى ذكر التّزود للآخرة:

ففي الخطبة (157) يقول الإمام عليه السلام: «فَتَزَوَّدوا فِي أَيّامِ الفَناءِ لأَيَّامِ البَقَاءِ».

و في الخطبة (132) نرى تعبيراً أوضح، فيقول عليه السلام:

«إِنّ الدُّنيا لَمْ تُخْلَقُ لَكُم دارَ مُقامٍ، بَل خُلِقَتْ لَكُم مَجازاً لِتَزَوَّدُوا مِنها الأَعمَالَ إِلَى دارِ القَرارِ».

و جاء في الخطبة (133)، تعبير ألطَف و أدَق، فقال عليه السلام:

«وَ البَصِيرُ مِنها مُتَزَوُّدُ و الأَعمى لَها مُتَزَوُّدُ».

و هناك آيات في القرآن الكريم، يمكن أن تحمل في مضمونها إشاراتٌ لهذه النظريّة، و منها:

«صِراطُ العَزِيزِ الحَميدِ» «1»، و «الصِّراطُ المُستَقِيمَ» «2»، و «سَبِيلِ اللَّهِ»، موجودةٌ في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم، و «لِيَصُدّوا عنْ سَبِيلِ اللَّهِ» «3»، و أمثالها يمكن

الإشارة بها إلى هذه النظرية.

______________________________

(1). سورة إبراهيم، الآية 1.

(2). فاتحة الكتاب، الآية 6.

(3). سورة الأنفال، الآية 36.

9

تنوع الطّرق لأرباب السّير و السّلوك

اشارة

من الجدير بالذكر، أنّ أرباب السّير و السّلوك، و العلماء الذين سلكوا هذا الطريق، و اتخذوا من القرآن الكريم و السّنة الشّريفة دليلًا لهم، (لا الصّوفيين الذين تأثروا بالمذاهب غير الإسلاميّة الأجنبيّة)، فكلّ واحد من اولئك الأفاضل إقَتَرح طريقةً تختص به، أو بتعبيرٍ أدق، إتّخذوا منازل و مراحل، سنأتي بها بصورةٍ ملخّصة، حتّى يكتمل البحث، و يكون أكثر فائدة:

1- السّير و السّلوك المنسوب: «للسيد بحر العلوم»

اشارة

هناك كتاب منسوب للعلّامة الفقيه العالم: «السيد بحر العلوم»، و رغم أنّ بعض أبحاثه لا يمكن القول بصدورها منه، إلّا أنّ بعض أقسامه و الحقّ يقال، في غاية الأهميّة، فقد ذكر السّيد في هذا الكتاب أربعة عوالم و منازل، مهمّة للسّير و السّلوك إلى اللَّه تعالى، و القرب منه، و هي:

1- الإسلام.

2- الإيمان.

3- الهجرة.

4- الجهاد.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 114

و كلّ واحد من هذه العوالم الأربعة، ذكر له ثلاث مراحل، فيصبح المجموع إثني عشرةَ مرحلةً، و بعد تجاوز هذه المراحل الإثني عشر، يصل السّالك إلى اللَّه، و إلى عالم الخُلوص و الفناء، و المراحل أو المنازل الإثني عشر هي:

المنزل الأول: الإسلام الأصغر، و القصد منه هو إظهار الشّهادتين و التّصديق بهما في الظّاهر، و أداء الوظائف الدينيّة.

المنزل الثاني: الإيمان الأصغر، و هو عبارة عن التّصديق القلبي و الاعتقاد الباطني بكل المعارف الإسلاميّة.

المنزل الثالث: الإسلام الأكبر، و هو عبارةٌ عن التّسليم في مقابل كلّ حقائق الإسلام، و الأوامر و النّواهي الإلهيّة.

المنزل الرابع: الإيمان الأكبر، و هو عبارةٌ عن روح و معنى الإسلام الأكبر، و الّذي ينتقل من مرتبة الطاعة، إلى مرتبة الشّوق و الرّضا و الرّغبة.

المنزل الخامس: الهجرة الصّغرى، و هي الإنتقال من «دار الكفر»، إلى «دار الإسلام»، و هي شبيهةٌ بهجرة المسلمين، من مكّة التي كانت

مقرّ للكفار إلى المدينة.

المنزل السّادس: الهجرة الكبرى، و هي الهجرة و الابتعاد عن أهل الذنوب و العصيان، و عدم الجلوس مع الظّالمين و الملّوثين.

المنزل السابع: الجهاد الأكبر، و هو عبارةٌ عن محاربة جنود الشّيطان، بالإستمداد من جنود الرّحمان، و هي جنود العقل.

المنزل الثامن: منزل الفتح و الظّفر على جنود الشيطان، و التّحرر من سلطتهم، و الخروج من عالم الجهل و الطّبيعة.

المنزل التاسع: الإسلام الأعظم، و هو عبارةٌ عن الغلبة على جنود الشّهوة و الآمال البعيدة، فتنتصر العوامل الموقظة الخارجية، على العوامل الإنحرافيّة الداخليّة، و هنا يكون القلب، مركزاً للأنوار الإلهيّة، و الإضافات الرّبانيّة.

المنزل العاشر: الإيمان الأعظم، و هو الفناء في اللَّه تعالى، و مرحلة الدّخول في عالم:

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 115

«فآدخُلِي فِي عِبادِي و ادخُلِي جَنَّتِي»، و عندها تظهر حقيقة العبوديّة للَّه تعالى في واقع النّفس.

المنزل الحادي عشر: الهجرة العظمى، و هي هجرة الذّات و نسيانها، و السّفر إلى عالم الوجود المطلق، و التّوجه الكامل للذّات المقدّسة للباري تعالى، و هي الّتي تدخل في جملة خطاب: «و ادخُلِي جَنَّتِي».

المنزل الثّاني عشر: الجهاد الأعظم، فبعد هجرة الذّات، يتوسل باللَّه تعالى أن يمحو كلّ آثار الأنا، و يضع القدم على بساط التّوحيد المطلق.

فبعد أن تُطوى هذه العوالم الإثنا عشر، يدخل في عالم الخُلوص، و يكون مصداقاً لقوله تعالى «بَل أَحياءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ». «1»

كيفية السّير و السّلوك في هذه الطريقة:

في رسالة السّير و السّلوك المنسوبة للعلّامة بحر العُلوم، و بعد ذكره للعوالم و المنازل المذكورة آنفاً، يتطرق إلى كيفية السّير في هذا الطريق الصعب، و الملى ء بالمفاخر، و يذكر (25) أمراً للوصول إلى المقاصد العليا، و نذكرها بشكل مختصر:

فالسّالك إلى اللَّه تعالى، و المريد للقرب منه، لأجل الوصول إلى هذه العوالم،

و بعد إطّلاعه الكامل على اصول الدين و فروعه، و أحكامه الإسلامية من الطُرق المعتبرة، يشدُّ الرحال و يأخذ طريقه في عملية السّلوك، من خلال الإلتزام بالمراحل ال (25)، ليصل إلى المقصود:

أولًا: ترك الآداب و الرّسوم و العادات التي تقف عقبةً في الطريق، و تغرقه في بحر الآثام.

ثانياً: العزم القاطع للسّير في هذا الطّريق، فلا يخاف شيئاً، و لا يتردّد، و ليعتمد على لُطف اللَّه تعالى.

ثالثاً: الرّفق و مُداراة النّفس، فلا يحمّلها أكثر من طاقتها، كي لا تنفر و لا تنطفي ء جذوتها،

______________________________

(1). للإطّلاع، يرجى مراجعة: رسالة السّير و السّلوك للمرحوم السيّد بحر العلوم قدس سره، و فيه تفاوت و إختلاف بينه و بين رسالة العلّامة الطباطبائي، لبّ اللّباب، و هنا في الواقع تلفيق من الإثنين.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 116

و لئلّا تنقطع عن المسير.

رابعاً: الوفاء، و هو الوفاء بالبقاء على العهد في التّوبة، و تركه للذّنوب وَ عدم العودة إليها، و ليكون وفيّاً مع استاذه أيضاً.

خامساً: الثّبات و الدّوام، يعني الدّوام على ما إختاره من برامج لنفسه، حتى تُصبح عادةً عنده، و ليغلق طريق العودة على نفسه.

سادساً: المُراقبة، و هي عبارة عن الإنتباه لنفسه في كل الامور و الأحوال، و لِئلا تصدر منه المخالفة.

سابعاً: المحاسبة، كما جاء في حديث: «لَيسَ مِنّا مَنْ لَم يُحاسِبْ نَفسَهُ كُلَّ يَوم» «1».

ثامناً: المؤآخذة، حيث يوآخذ نفسه في كلّ خطأ يصدر منه و يعاقبها.

تاسعاً: المسارعة، يعني يعمل بمقتضى أمر: «سَارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم» «2»، الوارد في القرآن الكريم، فيُسارع في كلّ خير، لئلّا يسبقه الشّيطان و يوسوس له في تركه.

عاشراً: خُلوص الباطن، و هو تطهير الباطن، بحيث لا يكون أدنى غش في قلبه، و الحب التام لرسول اللَّه صلى

الله عليه و آله صاحب الشّريعة، و الأوصياء المعصومين عليهم السلام.

الحادي عشر: الأدب، حفظ حُرمة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و أوصياءه المعصومين عليهم السلام، بحيث لا يلفظ بلفظ يدل على عدم الرّضا منهم، و الإعتراض عليهم عليهم السلام، و حفظ حرمة الأكابر، و لبيان حاجته في الدّعاء لا يستعمل ألفاظاً تدل على الأمر و النّهي.

الثاني عشر: النيّة، و تعني إخلاص القصد في هذا المسير و الحركة، و جميع الأعمال للَّه تعالى.

الثالث عشر: الصّمت، و يعني الإكتفاء بالمقدار اللّازم من الكلام.

الرابع عشر: الجوع و قلّة الأكل، و هو من الشّروط المهمّة لسلوك هذا الطريق، و لكن ليس للحدّ الذي يبعث على الضّعف و عدم القدرة.

______________________________

(1). إرشاد القلوب للديلمي، باب 39.

(2). سورة آل عمران، الآية 133.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 117

الخامس عشر: الخلوة، و هي عبارةٌ عن العزلة عن أهل العصيان، و طلّاب الدنيا و أصحاب العقول الناقصة، و التّوجه الخالص للَّه عند العبادة و الذّكر، و الإبتعاد عن الضّوضاء و عناصر التّشويش الذهني.

السادس عشر: السّهر، و خصوصاً في الثّلث الأخير من الليل، الذي أكدّت عليه الآيات و الرّوايات.

السابع عشر: الدّوام على الطّهارة، و هو أن يكون على وضوء دائماً، حيث ينوّر الباطن بأنوارٍ خاصّةٍ.

الثامن عشر: التّضرع للَّه تعالى، و التحرك على مستوى اظهار الخضوع له، أكثر و أكثر.

التاسع عشر: عدم إعطاء النفس ما تريد و إن كان مُباحاً، بالقدر الذي يستطيع.

العشرون: كتمان السّر، و هو من أهم الشّروط، و هو ما يؤكد عليه أساتذة هذا الأمر، حتى لا يجرّ الإنسان للرياء و التّظاهر، و إذا ما حصلت له المكاشفة، يجب أن لا يخبر أحد لئلّا يُصاب بالعجب.

الواحد و العشرون: يجب الإلتزام في عمليّة

السّلوك المعنوي باستاذ، سواء كان الأستاذ عامّاً للسّير و السّلوك أو خاصّاً، و هو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

و يجب على السّالك الإنتباه إلى أنّ هذه المرحلة، هي مرحلةٌ دقيقةٌ جداً، حتى لا يختبر أحداً و لا يطّلع على صلاحيّته العلميّة و الدينية، و لا يعمتد على إرشاداته بصورة كليّة، لأنّه يوجد بعض الشياطين يتلبّسون بلباس الأساتذة، و ذئاب تلبس ثوب الرّاعي، فتحرف السّالك عن الجادّة.

و يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في هذا المجال: إنّ الإطّلاع على العلوم و الأسرار الغريبة، و ما وراء الطّبيعة و أسرار الإنسان، و المشي على الماء و النار و الإخبار بالمغيّبات، كلّها لا تؤكد أنّ ذلك الإنسان قد وصل إلى مرحلة الكمال، لأنّ كلّ تلك الامور تحصل في مرتبة المكاشفة الرّوحيّة، و الطّريق طويل حتّى الوصول إلى الكمال.

الثاني و العشرون: «الأوراد»، و هي عبارةٌ عن الأذكار التي تفتح للسّالك الطّريق و المرور

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 118

من المطّبات الصّعبة، و تعينه في المسير إلى اللَّه تعالى.

الثالث و العشرون: نفي الخواطر، و هو تسخير القلب، و الحكومة عليه و الّتمركز الفكري، بحيث لا يمر من خاطره شي ء، إلّا بإختياره و إذنه، أو بتعبير آخر، لا يشغل تفكيره الأفكار المُشوّشة، و هو من الامور الصّعبة.

الرابع و العشرون: التّفكر، و القصد منه أنّ السّالك يسعى من خلال التّفكير الصحيح، و العميق، في إكتساب المعرفة الحقّة، و يحصر تفكيره في عالم الصّفات، و الأسماء الإلهيّة و تجلّياته و أفعاله.

الخامس و العشرون: الذِكّر، و المراد منه التّوجه القلبي للذّات المقدّسة للباري تعالى، و ليس الذّكر اللّساني الذي يسمّى بالوِرد، أو بعبارةٍ اخرى، يكون كلّ نظره جمال الإله، و

لا يرى شيئاً غيره.

هذه هي خلاصة، ما نسب للعلّامة بحر العلوم في دائرة السّير و السّلوك، و تبعه في ذلك مع إختلاف يسيرٍ، العلّامة الطّباطبائي، و ذلك كما جاء في رسالته «لبّ اللباب».

2- طريقة المرحوم الملكي التّبريزي

و هو المرحوم «الحاج ميرزا جواد الآقا تبريزي»، و هو من الاساتذة المعروفين في السّير و السّلوك إلى اللَّه، و قد إنتهج في رسالته (لقاء اللَّه)، نهجاً يختلف عمّا جاء به في الرّسالة المنسوبة للعلّامّة بحر العلوم.

فهو يُذكر في البداية، أنّ لقاء اللَّه هو الغاية القصوى، و الهدف الأعلى، للسّير و السّلوك، و يستشهد لذلك بآياتٍ متعدّدةٍ من القرآن الكريم، و كذلك بالروايات الكثيرة لُمدّعاه، و يصرّح بأنّ لقاء اللَّه تعالى ليس هو المشاهدة العينية، لأنّ الباري تعالى منزّه عن الكيفيات التي توجب رؤيته بالبصر، و لا هو لقاء النّعيم و الثّواب في يوم القيامة، بل هو نوع من «الشّهود»، و اللّقاء القلبي و الروحي و المشاهدة بالبصيرة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 119

و بعدها يقترح برنامجاً للسّير في هذا الطريق الطويل، و المحفوف بالمخاطر، و يتلخص في عدّة امور:

1- العزم و النيّة لسلوك هذا الطريق.

2- التّوبة النّصوح من الأعمال السّالفة، و هي التّوبة التي تنفذ في أعماق الوجدان و الوعي، في واقع النفس، و تعمل على تغييره، و غسل آثار الذّنوب و أدران الخطايا من جسمه و روحه.

3- حمل الزّاد للطريق، و ذكرَ له عدّة برامج:

الف: صباحاً، المشارطة: (يشرط على نفسه أن لا يمضي إلّا في طريق الحق)، و في النّهار المراقبة: (الإنتباه لئلّا يحيد عن الطريق)، و مساءً المحاسبة: (لنفسه على ما فعله في النّهار).

ب- التّوجه للأوراد و الأذكار، و وظائف اليقظة و المنام.

ج- التّوجه لصلاة اللّيل، و الخَلوة باللَّه تعالى،

و إحياء الليل و ترويض النفس في حالات النوم و الأكل، بحيث لا يتجاوز عن الحدّ الضروري.

4- الإستفادة من سوط السّلوك، و هو عبارة عن مُؤاخذة النّفس و توبيخها، لتوجُّهِها للدنيا و تقصيرها في طلب الحق، و عدم وفائها، و إطاعة الشّيطان في معصية اللَّه تعالى، و يستغفر اللَّه على كلّ ذلك و يعزم على السّعي في طريق الإخلاص و الإيمان و الصلاح.

5- عند التّحول، و في هذه المرحلة، و قبل كلّ شي ء، يجب أن يفكّر في الموت، ليميت حبّ الدنيا في قلبه و يصلح الصّفات القبيحة عنده، و هو دواءٌ نافعٌ في هذا المجال، (و بعدها يفكر في عظمة اللَّه و أسماءه و صفاته، و يذكر أولياء الحق، و ليسعى بأن يُشابِههم في صفاتهم).

6- عند القرب من منزل المقصود، يشير إلى أنّ الإنسان لديه ثلاثة عوالم:

1- عالم الحسّ و الطّبيعة.

2- عالم الخيال و المثال.

3- عالم العقل و الحقيقة.

فعالم الحسّ و الطّبيعة كلّه ظلمات، و إذا لم يعبره فلن يستطيع الوصول لعالم المثال، و هو العالم الذي تكون فيه الحقائق لها صورٌ عاريةٌ عن المادّة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 120

و ما دام يراوح في عالم المثال، فلن يستطيع الوصول إلى عالم العقل، الذي هو عالم الحقيقة و الأصل للنفس الإنسانية، الذي لا صورة و لا مادة فيه، فإذا وصل لعالم العقل، و أدرك نفسه خاليةٌ عن المادة و الصّورة، فسيصل إلى معرفة الباري تعالى، و يكون مصداق لقوله: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ «1»» «2».

3- طريقةٌ اخرَى

اشارة

في رسالة «لقاء اللَّه» للعالم و المحقق الكبير، الآقا المصطفوي، أشار إلى برنامج آخر للسّير و السّلوك، في رسالته الجامعة و الغنية، و المعتمدة على الآيات و الأخبار، حيث

أشار أولًا إلى الآيات المتعلّقة بلقاء اللَّه، و بعدها شرع في تفسير معنى اللّقاء؛ أنّ المراد منه اللّقاء المعنوي و الرّوحي، و أضاف أنّ الإنسان و لأجل وصوله للقاء اللَّه تعالى في هذا السير المعنوي، عليه أن يكسر حدود المادة و المكان و الزّمان، و كذلك الحدود الذّاتية لكلّ المُمكنات، و يفنى في عالم اللّاهوت، و يكون المخاطب لقوله تعالى: «يا أَيَّتُها النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ ارجَعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرضِيَّةً فادخُلِي فِي عِبادِي و ادخُلي جَنَّتي» «3».

و أقترح خمسة مراحل للوصول إلى المقصود الأكبر:

المرحلة الاولى: التّحرك على مستوى تكميل و تقوية الإعتقادات، و التّوجه الخاص لُاصول الدّين.

المرحلة الثانية: التّوبة من الذنوب، و التّحرك من هذا الموقع للإتيان بالأعمال الصّالحة و أداء الواجبات.

المرحلة الثالثة: السّعي الجاد لتطهير النّفس من الرذائل، و تحليتها بالفضائل الأخلاقية.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 2، ص 32.

(2). للتفصيل يرجى الرجوع إلى رسالة لقاء اللَّه المرحوم التبريزي قدس سره.

(3). سورة الفجر، الآية 27 إلى 30.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 121

المرحلة الرابعة: محو الأنانيّة، و الفناء في مُقابل عظمة الحق.

و في هذه المرحلة التي ينقطع الإنسان فيها عن التّعلقات المادية، من الأهل و الأموال و الأولاد و اللّذات، تكون الشّهوات الماديّة و الخياليّة قد تغيّرت و تبدّلت، إلى تعلّقٍ و إرتباطٍ روحي و معنوي، و الذي يبقى هو التّعلق بالذّات و النّفسٍ، و هذا التعلّقً متجذّر و قويّ لدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً، و لشدّة ظهوره: خفي، و تبقى ملاحظةٌ واحدةٌ و هي، أنّ هدف السّالك في جميع هذه المراحل هو الوصول إلى لقاء اللَّه، و في الواقع و الباطن أنّ كلّ عمل يكون قد أدّاه هو له و لنفسه.

و بعبارة اخرى: كان يُريد الوصول إلى المقامات العليا،

و القُرب من اللَّه تعالى، و الحصول على الكمالات المعنوية و الروحية، فكلّ ذلك كان بدافع النّفس و الذّات، و ليس لِلهدف الأصلي، و لذلك فهو عند وصوله لمثل هذا المقام يفرح غاية الفرح، و لكن إذا وصل غيره إلى هذا المقام، فسوف لن يكون فرحاً لهذا الحد، و هنا يجب أن تُحذف «الأنا» و تُنسى و يكون المحبوب للسّالك هو تجلّي اللَّه سبحانه، لا من خلال حبّ الذّات، أو بعبارةٍ أوضح، يجب أن تُمحى «الأنا»، و هي الحِجاب الأكبر و المانعُ الأقوى، و آخر الحُجب للوصول إلى اللَّه تعالى و لقائه.

و لإزالة هذا المانع، توجد عدّة طرق:

1- طريق التّوجه القلبي للَّه تعالى، و التّوحيد الذّاتي و الصّفاتي و الأفعالي، و منه يفهم أنّ غيره لا شي ء في مُقابله.

2- التّفكر و الإستدلال للوقوف بوجه «الأنانية» و حجاب النفس، بمعنى أن يرى أنّ اللَّه تعالى غير محدودٍ بحدٍّ، و هو الأزلي و الحقّ المطلق، و النفس هي الموجود المحدود في كلّ شي ء، و في منتهى الضّعف و العجز و الفقر و الحاجة إلى اللَّه تعالى، و من دون المدد الإلهي فإنّها لا تستطيع الصّمود و لا لِلِحظةٍ واحدةٍ.

3- المعالجة بالأضداد، بمعنى أنّه كلّما أحسّ بوجود «الأنا» في وعيه، يعالج هذا الموقف بالتّوجه للَّه و الصّالحين من عباده، لكي يعيش في الحضور الدّائم مع الباري تعالى.

المرحلة الخامسة: في هذه المرحلة يصبح السّالك إنساناً ملكوتياً، و يدخل في عالم

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 122

الجبروت!. و القصد من الدخول في مرحلة الجبروت، هو أنّ الإنسان يصل إلى مرحلةٍ من الصّفاء و الإخلاص، يكون فيها مندّكاً في ذاتِ اللَّه تعالى، و له نفوذٌ و سلطةٌ على الامور، فيتحرك في

أداء وظائفه الإلهيّة، و إرشاد الناس، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، من موقع المسؤولية و الإنضباط في خط الرّسالة، و يكون على بصيرةٍ كاملةٍ من أمره.

أو الأحرى، ينسى نفسه، و يكون على علمٍ بكلّ المسائل و الوظائف و الأحكام و الآداب الشرعية، و طرق السّير و السّلوك، و يكون تشخيصه لِلأمراض و الأدوية دقيق جدّاً، كالطّبيب الحاذق الذي يعرف الدّاء و الدّواء و يشخصه جيّداً «1».

و الجدير بالذّكر أنّه قد استدلّ لكلّ هذه المطالب في كتابه، بالآيات و الرّوايات الإسلاميّة، كشاهدٍ على مُدّعاه.

خلاصة ما تقدم من مذاهب السّير و السّلوك:

يُستفاد ممّا تقدّم من تعليمات أرباب هذا الفن، و الطريق: (الذين مشوا في نهج الإسلام الأصيل و طريق أهل البيت عليهم السلام لا المتصوفة)، اصولٌ مشتركةٌ في عمليّةِ السّيرِ و السّلوك إلى اللَّه و هي:

1- أنّ الهدف الأصلي، هو لقاء اللَّه و شهود ذاته المقدسة، بالبصيرة و الحُضور الروحي المعنوي عنده.

2- للوصول لهذا الهدف، ينبغي التّحرك أولًا من موقع التوبة من جميع الذنوب و الرذائل الأخلاقية، و التّحلي بالفضائل.

3- في هذا الطريق يجب أن لا ينسى الآداب الأربعة: المشارطة، و المراقبة، و المحاسبة، و المعاقبة، يعني يُشترط في الصّباح على نفسه، أن لا يذنب و لا يخالف رضا الباري تعالى، و يراقب نفسه في طول النّهار و في اللّيل و عند النوم، يجلس للمحاسبة، و إذا ما صدرت منه مخالفةٌ يعاقب نفسه بتركه لأنواع اللّذائذ.

4- التّصدي لهوى النفس من موقع المخالفة، لأنّ الهوى هو من أكبر السّدود في هذا

______________________________

(1). للإطّلاع، يرجى الرجوع إلى كتاب: «لقاء اللَّه»، للعلّامة الكبير المُصطفوي.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 123

الطّريق، و مخالفته هي من أوجب الواجبات.

5- التّوجه لأذكارٍ و أورادٍ وردت في الشّرع المقدس، و أمثال:

«لا حَولَ وَ لا قُوَّةَ بِاللَّه»، و ذكر «لا إِلهَ إِلّا أَنْتَ سُبحانَكَ إِنَّي كُنتُ مَن الظَّالِمِينَ»، و ذكر «يا اللَّه» و «يا حَيُّ» «يا قَيُّوم» و هي الزاد في هذا الطّريق و السبب للقوّة.

6- التوجه القلبي لحقيقة التّوحيد للذات و الصّفات و الأفعال للَّه تعالى، و الغرق في صفات كماله و جماله، و هي زاد آخر لهذا الطريق الوعر الملي ء بالمطبّات و التّحديات الصعبة.

7- كسر أكبر الأصنام، و هو صنم الأنانيّة و الّذات الفرديّة، و هو من أهم الشّروط للوصول للمقصود.

8- و قد إشترط البعض الإستعانة بالاستاذ، و السّير في هذا الطريق تحت إشرافه، فيكون كالطبيب الذي يعمل على معالجته، و البعض لا يعتمدون على الاستاذ، و حصل في كثير من الموارد، و للأسف الشديد، الوقوع في حبائل الشيطان، و ذلك بسبب الإعتماد على الاستاذ، حيث يعتبرونه كالملاك، فيذهب دينهم و إيمانهم و أخلاقهم إدراج الرّياح!.

و يرى البعض الآخر، أنّ وظيفة الإرشاد و السير على هدي الأنبياء و الأولياء، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، هي آخر المراحل، و لكن كثيراً منهم لم يذكروا شيئاً، و تركوا السّالك بحاله.

و الغرض من الإتيان بهذا البحث، في المباحث الأخلاقية، في هذا الكتاب، هو:

أولًا: سرد عصارة من التّفكرات التي لها علاقة بالمباحث الأخلاقية، حتى يتنور القاري ء و يتحرك في طريق التّهذيب و إصلاح الذّات.

ثانياً: نحذّر طلاب الحقيقة، أنّ الحدّ بين الحقّ و الباطل ضيئل جدّاً، فكثيرٌ من الشّباب من ذوي القلوب النّقية، كان هدفهم الوصول إلى الحقّ و العين الصّافية، و لكنّهم إنجرفوا في طريق الضّلالة، و تركوا طريق العقل و الشّرع، و لذلك تاهوا في وادي الحيرة، و غرقوا في مستنقع الخطيئة، و لم يسلموا

من مخالب الذّئاب الضّارية، الذين يرتدون مسوح الزّهد و القداسة، فأضاعوا و فقدوا كلّ ما لديهم.

10 هل يلزم وجود المُرشد في كلّ مرحلةٍ؟

اشارة

يعتقد كثير من أرباب السّير و السّلوك، أنّ السّائرين في طريق الكمال و الفضيلة، و التقوى و الأخلاق، و القرب إلى اللَّه تعالى، يجب أن يكونوا تحت إشراف الاستاذ و المرشد، كما ذكر في رسالة السّير و السلوك للعلّامة بحر العلوم، و رسالة لبّ الألباب للمرحوم العلّامة الطّباطبائي، في الفصل الحادي و العشرون من وظائف السّائر إلى اللَّه، هو التّعليم و التعلم تحت نظر و إشراف الاستاذ، سواء كان الاستاذ عالِم كالعلماء الذين مشوا في هذا الطريق، أم الأساتذة الخصوصيين، و هم الأنبياء الأئمة و المعصومين عليهم السلام.

و لكن المطّلعين من أهل الفن، يُحذّرون السّائرين على طريق التّقوى و التّهذيب، من عدم الإلتجاء بسهولة لأيٍّ كان، و إذا لم يطمئنّوا إطمئناناً كافياً، و لم يختبروا صلاحيتهم العلميّة و الدينية، فلا يسلّموهم أنفسهم، و لا يكتفوا حتى بإخبارهم للمستقبليات، و لا أعمالهم غير الطبيعيّة، و لا حتى مرورهم على الماء و النار، لأنّ صدور هذه الأعمال ممكن من المرتاضين غير المهذّبين أيضاً.

و قال البعض الآخر: إنّ الرّجوع للُاستاذ لازم في المراحل الأوليّة، و أمّا بعد السّير و عبور عدّة مراحل، فلا يحتاج إلى الاستاذ، و الرّجوع للُاستاذ الخصوصي و هو الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام، حتّى نهاية المراحل، يكون لازماً و ضرورياً.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 126

و قد إستدلوا على لزوم الرّجوع للُاستاذ تارةٌ، بهذه الآية الشّريفة، التي تقول: «فَاسْئلُوا أَهلَ الذِّكْرِ إن كُنتُم لا تَعلَمُونَ» «1».

فرغم أنّها تتناول التعليم لا التربية، و لكن الحقيقة أنّ التربية تعتمد على التّعليم في كثير من

الموارد، فلذلك يجب الرّجوع للمطلعين في مثل هذه الموارد، و هذا المعنى يختلف إختلافاً واضحاً عن إختيار شخصٍ خاص ليكون ناظراً على أعمال و أخلاق الإنسان.

و يستشهد القائلون بضرورةِ المرشد تارةٌ اخرى؛ بحكاية موسى مع الخضر عليهما السلام، فقد كان موسى عليه السلام بحاجةٍ للخضر، مع ما أنّه كان من الأنبياء و أولي العزم، و قطع قسماً من الطّريق بمساعدته عليه السلام.

و لكن و بإلقاء نظرةٍ فاحصةٍ على قصّة موسى و الخضر عليهما السلام، نرى أنّ موسى عليه السلام عند ما تعلم من الخضر عليه السلام، إنّما كان بأمر من اللَّه تعالى لأجل الاطّلاع على أسرار الحكمة الإلهيّة بالنسبة للحوادث التي تحدث في هذا العالم، و الاخرى أنّ علم موسى عليه السلام كان عملًا ظاهرياً، «و يتعلّق بدائرة التّكليف»، و علم الخضر عليه السلام علماً باطنياً، (خارج عن دائرة التكليف) «2»، و هذا الأمر يختلف عن مسألة إختيار الاستاذ و المرشد، في كل مراحل التّهذيب للنفس و السيّر في طريق التّقوى، و إن كان يشير و لو بالإجمال إلى أهميّة كسب الفضيلة، في محضر الاستاذ في خط التّكامل المعنوي.

و قد يستشهد لذلك أيضاً بحكاية لقمان الحكيم و إبنه، فهو استاذ إلهي أخذ بيد إبنه و ساعده في سلوك ذلك الطريق «3».

و نقل العلّامة المجلسي في بحار الانوار، عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: «هَلَكَ مَنْ لَيسَ لَهُ حَكِيمٌ يَرشُدُهُ» «4».

و لكن و من مجموع ما ذُكر، لا يمكن إستفادة لزوم المرشد في دائرة السّلوك الأخلاقي و

______________________________

(1). سورة الأنبياء، الآية 7.

(2). يرجى مراجعة تفسير الأمثل، ذيل الآية 60 إلى 82 من سورة الكهف.

(3). يرجى الرجوع لتفسير الأمثل، في تفسير سورة لقمان.

(4). بحار الانوار، ج 75،

ص 159.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 127

تهذيب النفس، بحيث إذا لم يكن تحرك الإنسان في خطّ التّهذيب النّفسي و التّزكية الأخلاقية، تحت إشراف المرشد، فسوف يختل برنامج التربية و الأخلاق و التّقوى، و يتعطل السّير و السّلوك في حركة الواقع النفسي و المعنوي لدى الفرد، لأنّ الكثير من الأشخاص إلتزموا بالرّوايات و الآيات و الأحاديث الإسلامية، و عملوا بها، و وصلوا إلى مقاماتٍ عالية و درجاتٍ كبيرةٍ دون الإستعانة بمرشدٍ أو معلّمٍ خاصٍ على مستوى التّربية الأخلاقيّة، و طبعاً لا يمكن إنكار فائدة الأساتذة و المرشدين و توجيهاتهم القيّمة، فهم عناصر جيّدة للوصول إلى المقصود من أقرب الطرّق، و معدّات فاعلةٌ لمواجهة المشاكل الأخلاقيّة لتحديات الواقع، و حلّها وفق مستجدّات الواقع و مستلزمات العقيدة.

و جاء في نهج البلاغة أيضاً: «أيُّها النّاسُ استَصبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصبَاحٍ، وَاعظٌ مُتَّعِظٌ» «1».

و لكن و للأسف نجد في كثير من الموارد، أنّ النّتيجة كانت عكسيّة، فكثير من الأشخاص عرّفوا أنفسهم بأنّهم مرشدون للناس في سلوك سبيل التّربية و التّهذيب، و لكن اتّضح بأنّهم قطّاع طُرق، و كمْ من الأشخاص الطّاهرين الطالبين للحقّ إنخدعوا بهم، و ساروا في طريق التّصوف أو الإنحراف، و سقطوا في منحدر الرّذيلة، و ارتكبوا مفاسد أخلاقية كبيرة؛ و عليه فنحن بدورنا نحذّر السّائرين على هذا الطّريق، إذا ما أرادوا الإستفادة من الحضور، عند استاذ و مرشدٍ في المسائل الأخلاقيّة، فيجب أن يتوخّوا جانب الحذر و الإحتياط، و ليتأكدوا من حقيقة الأمر، و لا يغترّوا بالمظاهر الخادعة، بل ليتفحّصوا عن سوابقهم، و ليشاوروا أصحاب الفنّ في هذا المجال، كي يصلوا إلى غايتهم المنشودة.

دور الواعظ الداخلي (الباطني):

تكلّمنا عن دور الواعظ الخارجي بصورةٍ كافيةٍ، و الآن جاء دور الواعظ الداخلي؛ حيث

يستفاد من بعض الأخبار و الروايات الإسلامية أنّ الضّمير الحيّ هو الواعظ الداخلي و الباطني للإنسان، و له دور مهم في السّير على طريقِ التّكامل الأخلاقي و التّقوى، و بالأحرى

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 105.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 128

لا يمكن السّير بدونه، في مواجهة التحديات الصّعبة و قوى الإنحراف.

فقد جاء في حديثٍ عن الإمام على بن الحسين عليهما السلام، أنّه قال:

«يا إبنَ آدمَ إِنَّكَ لا تَزَالُ بِخَيرٍ ما كانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ، وَ ما كانَتِ الُمحاسَبَةُ مِن هَمِّكَ» «1».

و نُقل أيضاً عنه عليه السلام، مشابهٌ لهذا المعنى، مع قليلٍ من الإختلاف «2».

و جاء في نهج البلاغة أيضاً، أنّ:

«وَ اعَلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حتّى يَكُونَ لَهُ مِنْها وَاعِظٌ وَ زَاجرٌ، لَم يَكُن لَهُ مِنْ غَيرِها لا زَاجرٌ وَ لا واعِظٌ» «3».

و من البديهي أنّ الإنسان في هذا الطّريق يحتاج إلى واعظٍ قبل كلّ شي ء، ليكون معه في كلّ حال،: و يعلم أسراره الداخلية، و يكون رقيباً عليه و معه دائماً، و أيّ عاملٍ أفضل من الواعظ الداخلي و هو الوجدان، يتولي القيام بهذا الدّور، و ينبّه الإنسان إلى منزلقات الطّريق، و تعقيدات المسير، و يصدّه عن الإنحراف و السّقوط في الهاوية.

و نقرأ في حديثٍ عن الإمام عليّ عليه السلام:

«إِجْعَلْ مِنْ نَفْسِكَ عَلى نَفْسِكَ رَقِيباً» «4».

و جاء في حديثٍ آخر عنه عليه السلام:

«يَنبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُهَيمِناً عَلى نَفْسِهِ مُراقِباً قَلْبَهُ، حافِظاً لِسانَهُ» «5».

______________________________

(1). بحارالأنوار، ح 75، ص 137.

(2). المصدر السابق.

(3). نهج البلاغة، الخطبة 90.

(4). غرر الحكم.

(5). المصدر السابق.

11

العناصر اللّازمة لتربية الفضائل الأخلاقيّة

اشارة

إضافةً لما ذكرنا من برنامج للصّعود بالإنسان في أجواء التربية الأخلاقيّة، يوجد هناك عناصر اخرى، لها أثرها الكبير في منح الإنسان قوّة التّصدي،

لحالات الضعف أمام الرّذائل الأخلاقيّة، و تقوية اصول الفضائل في واقع الإنسان، و حركته التّكاملية في الحياة، و منها:

1- طهارة وصفاء المحيط

اشارة

ممّا لا شك فيه أنّ المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، يعكس أثره الكبير على سلوكيّات و روحيّات ذلك الإنسان، حيث يسترفد كثيراً من صفاته و أفعاله من المحيط الإجتماعي و الثّقافي، فالمحيط النّظيف و الطّاهر غالباً ما يفرز اناساً طاهرين، و العكس صحيح.

و رغم أنّ الإنسان يمكن أن يعيش نظيفاً و طاهراً في الوسط الملّوث، و بالعكس يمكنه أن يسير في طريق الرّذيلة و الإثم في المحيط الطّاهر، و بعبارةٍ اخرى إنّ الظّروف الإجتماعيّة و الثّقافية التي يعيش فيها الإنسان، ليست العلّة التّامة في صلاح و إنحراف الإنسان، و لكنّها يمكن أن تُهيى ء الأرضية لذلك قطعاً، و هذا ممّا لا يقبل الإنكار.

و قد يقول البعض، بأنّ الإنسان يخضع لإجبار المحيط و المجتمع، «فيبقى الإنسان كما هو الموجود فعلًا»، و لكننا ننكره جملة و تفصيلًا، من دون أن ننكر دور العوامل القويّة في عمليّة

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 130

إخضاع الفرد لمتطلبات الواقع و تحدياته، في أجواء التّفاعل الإجتماعي.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، و نقرأ الآيات التي تؤيّد تأثير المحيط في شخصيّة الإنسان، بالدّلالة الإلتزاميّة، أو المطابقيّة للكلام، لنستوحي منها المفهوم القُرآني في هذا الإطار:

1- «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» «1».

2- «وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» «2».

3- «وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا

عِبَادَكَ وَ لَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً» «3».

4- «يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ» «4».

5- «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِيراً» «5».

تفسير و إستنتاج:

«الآية الاولى» تحدّثت عن تأثير المحيط في أعمال و أفعال الإنسان، ببيانٍ لطيفٍ و جذّابٍ، و قد إختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية، و ذهب كلّ واحدٍ منهم إلى رأي ...

فبعضهم قال: إنّ المراد منها، أنّ ماء الوحي الرّقراق كقطرات المطر، ينزل على أرض

______________________________

(1). سورة الاعراف، الآية 58.

(2). سورة الأعراف، الآية 138.

(3). سورة نوح، الآية 26 و 27.

(4). سورة العنكبوت، الآية 56.

(5). سورة النساء، الآية 97.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 131

القلوب فترتوي منه القلوب الطاهرة، و تنبتُ ورود المعرفة و فواكه التّقوى و الطّاعة اللّذيذة، و لكن القلوب السّوداء و الملوثة، لا تتأثر به من موقع الإستفادة في حركة الحياة، و عند ما نرى أنّ ردود الفعل، قبال دعوات الأنبياء، و تعاليم الوحي ليست متساوية عند الجميع، فهذا لا يدلّ على وجود النقص و الخلل في فاعليّة الفاعل، بل أنّ الإشكال إنّما هو في قابليّة القابل «1».

و الأمر الآخر أنّ الغرض من بيان هذا المثال، هو أن يكون طلب الفضائل و المحاسن من محلّها المناسب، لأنّ السّعي في المحل غير المناسب ليس هو إلّا إهدار و تضييع للطاقات «2».

الإحتمال الثالث، في تفسير هذه الآية و يمكن الإستفادة منه هنا، هو أنّ في هذا المثال شبّه الإنسان بالنبات، و لكن الأرض التي تنبت فيها النباتات إمّا حلوة أو سبخة، ممّا تنعكس تأثيراته على النّبات أيضاً، و في

المحيط الملّوث، لا يمكن تربية الإنسان في إطار التعاليم الإلهيّة و القيم الأخلاقيّة، مهما كانت التعليمات و أساليب التربية قويّةٌ و مؤثرةٌ، فكما أنّ قطرات المطر المُوجبة لبعث الحياة للأرض، لا يمكن أن تؤثر في الأرض السّبخة، فكذلك الحال في عناصر التربية في المحيط الملّوث، و بناءً عليه، يجب علينا أن نهتم بإصلاح المحيط الإجتماعي، و الثّقافي، الذي نعيشه و نتفاعل معه دائماً، للتوصل إلى تهذيب النفوس، و تحكيم الأخلاق الصالحة، في واقع الإنسان و الحياة.

و بالطّبع لا يوجد تقاطع بين التفسيرات الثلاثة المتقدّمة، و المثال الآنف الذّكر، يمكن أن يكون ناظراً لهذه التفسيرات الثّلاثة على السّواء.

نعم، فإنّ المحيط الإجتماعي الملّوث بالرذيلة، هو عدوّ للفضائل الأخلاقيّة، و الحال أنّ المحيط السّالم و الطّاهر، يهيى ء أحسن و أفضل الفرص، لغرض تهذيب النّفوس، في معارج الكمال الرّوحي و المعنوي.

و قد ورد في الحديث المعروف عن الرّسول الأعظم صلى الله عليه و آله مُخاطباً أصحابه:

«إِيّاكُم وَ خَضراءِ الدِّمَنِ»، قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ وَ مَنْ خَضراءُ الدِّمَنِ قال صلى الله عليه و آله: «المَرأةُ

______________________________

(1). هذا التفسير جاء به الفخر الرازي، و أتى به بعنوان الإحتمال الأول في معنى الآية،: (تفسير الفخر الرازي، ج 14، ص 114) و نقله جماعَة اخرى عن إبن عباس

(2). جاء هذا التفسير في مجمع البيان، في تفسيره لسورة الحديد في ذيل الآية الآنفة الذكر.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 132

الحَسناءِ فِي مَنْبَتِ السُّوءِ» «1».

هذا التّشبيه البليغ، يمكن أن يكون إشارةً، لتأثير المحيط الصّالح و السّي ء في شخصية الإنسان، على المستوى الإيجابي و السّلبي، أو هو إشارةٌ لمسألة الوراثة، و تأثيرها على مُجمل الشّخصية، أو إشارةٌ للإثنين معاً.

و في «الآية الثانية»: إشارةٌ لقوم بني إسرائيل، الّذين

بقوا لسنواتٍ طويلةٍ، تحت إشراف و تعليمات النّبي موسى عليه السلام، في عمليّة الهداية الرّوحية و المعنويّة، و في مجال التوحيد و سائر الاصول الدينيّة، و رأوا بامّ أعينهم المعجزات الإلهيّة، كإنفلاق البحر لهم، و نجاتهم من براثن فرعون و جنوده، و لكن و بمجرد أن صادفوا في طريقهم للشام و الأرض المقدسة، قوماً يعبدون الأصنام، تأثّروا بهم و بمحيطهم الملّوث، و قالوا: «يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ».

فتعجّب موسى عليه السلام من هذا الإنقلاب، و غضب غضباً شديداً، من قولهم هذا و قال لهم:

«إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ».

و أخذ يبيّن لهم مفاسد عبادة الأصنام.

و العجيب أنّ قوم بني إسرائيل، و بعد التّوضيحات الصّريحة و المكرّرة لموسى عليه السلام، بقوا تحت تأثير هذا المحيط المسموم السّلبي، بحيث إستطاع السّامري أن يتحرك من موقع إغوائهم، و تفعيل عناصر الإنحراف لديهم في غيبة موسى عليه السلام، و الّتي إستغرقت عدّة أيّام، حيث صنع لهم صنماً من ذهبٍ، و تبعه الغالبيّة من هؤلاء القوم، و تحوّلوا من أجواء التّوحيد إلى أجواء الشّرك.

فهذا الأمر يمثل علامةً واضحةً على تأثير المحيط السّلبي، في صياغة السّلوك الإنساني، من موقع الانحراف و الزيغ في دائرة المسائل الأخلاقية، بل و حتّى العقائديّة أيضاً، و لا شك أنّ بني إسرائيل و قبل مرورهم باولئك القوم، كانت لديهم الأرضيّة المساعدة لعبادة الأصنام، و ذلك إثر بقائهم مع الوثنييّن المصرييّن لمدةٍ طويلةٍ، فعند ما رأوا ذلك المنظر، عادوا في دائرة الذّاكرة إلى ذلك الماضي الأسود، و على كل حال فإنّ كلّ هذه الامور، هي دليل واضح على تأثير

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، ص 19، ح 7- بحار الانوار، ج 100، ص 232، ح 10.

الاخلاق فى القرآن،

ج 1، ص: 133

المحيط الإجتماعي، في أخلاق و عقائد الإنسان في حركة الواقع النّفسي.

و في «الآية الثالثة»: نجد شاهداً آخر على تأثير المحيط على أفكار و أفعال الإنسان، و هو ما نراه في سلوك نوح عليه السلام، و دعاؤه على قومه الكفّار بالفناء و الَمحق.

إنّ نوحاً عليه السلام لم ينطلق في دعائه عليهم من موقع الذات و الانفعال، بل من موقع العقل و البرهان، فقال الله تعالى في القرآن الكريم، على لِسان نوحٍ: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً».

فهم في الحال الحاضر كفّار و منحرفون، و في حالة إستمرارهم في التّكاثر و التّناسل فسوف يؤثّرون على أولادهم في عمليّة الإيحاء لهم بالكفر، و يربّوهم تربيةً منحرفةً.

و من «الآيتين الرابعة و الخامسة»، نستوحي لزوم الهجرة من المجتمع و المحيط المنحرف، حيث يخاطب الباري تعالى عباده في الآية الرابعة، يقول: «يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ».

و في الآية الخامسة، يحذّر المؤمنين من البقاء في المجتمع الغارق في الضّلالة، و يؤكّد لهم لزوم الهجرة، و أنّ عذرهم غير مقبول في حالة البقاء و التكاسل، فقال: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِيراً».

و في الحقيقة إنّ مسألة الهجرة هي من الاصول الأساسيّة في الإسلام، و قد شيّد الإسلام دعائمه عليها، حيث تتضمن عمليّة الهجرة، حكمٌ و غاياتٌ عديدةٌ و أهمّها الهروب و الفرار من المحيط الملّوث، و النجاة من تأثيراته السيّئة على واقع الإنسان و محتواه الداخلي.

و ليست الهجرة مختصة بزمان صدر الإسلام، كما يعتقد البعض، بل هي جارية في

كلّ عصرٍ و زمانٍ يتعرض فيها المسلمون لضغوط قوى الشرك و الفساد و الكفر، التي تشكّل عناصر ضغطٍ على الرّوح المنفتحة على اللَّه و الخير، و ليفرّوا بدينهم و أخلاقهم و عقائدهم من أجواء المحيط الملّوث، فجاء في الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ أَرْضٍ إِلى أَرْضٍ وَ إِنْ كانَ شِبراً مِنَ الأَرضِ إِستَوجَبَ الجَنَّةَ وَ كانَ

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 134

رَفِيقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وَ إِبراهِيمَ عليه السلام» «1».

فالتأكيد على مقدار الشّبر، إنّما يدلّ على أهميّة المسألة في دائرة الإحتفاظ بالإيمان؛ فلو تسنّى للإنسان ذلك، و بأيّ مقدارٍ و أيّ زمانٍ و مكانٍ، فمعناه التوافق مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و إبراهيم عليه السلام في خطّ الرّسالة و الدّين.

و الخلاصة، أنّ المحيط و المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، كان و لا يزال عاملًا مهمّاً في تكوين و صياغة شخصية الإنسان، و أخلاقه و مؤثّراً فيها، و إن كان الأمر ليس على وجه الجَبر، و بناءً على ذلك فإنّ تطهير أجواء المحيط الإجتماعي من أهم العوامل لتهذيب الأخلاق و تربية الملكات الفاضلة في المحتوى الداخلي للإنسان.

و إذا لم يستطع أنّ يغيّر الإنسان من أجواء المحيط شيئاً، فيجب عليه أن يُهاجر و يترك ذلك المحيط الغارق في الزّيغ و الضّلالة، و كما أنّ الإنسان، و عند ما تتعرض حياته المادية للخطر، يتحرك من موقع الإبتعاد و الهجرة من أرضه، فكذلك عليه أن يُهاجر منها، عند ما تتعرض قِيمَهُ الأخلاقيّة و حياته المعنويّة، التي هي أهم من حياته الماديّة، للخطر ...، و لا ينبغي أن يتذرّع بأنواع الحجج و الأعذار، ليبقى فيها بحجّة أنّها

أرضي و أرضَ آبائي ...، و غير ذلك من الأعذار و التّبريرات الواهية، و يستسلم لعناصر التّلوث و الإنحراف التي تؤثر عليه و على أولاده، في الدائرة السّلبية و لا يهاجر منها؟

فيتوجب على جميع علماء الأخلاق، أن يتحركوا في عمليّة التربية، لغرض إحياء الفضائل الأخلاقية، و تفعيل عناصر الخير و الإيمان، من خلال إصلاح المحيط و المجتمع، و بدون ذلك، فإنّ السّعي الفردي و الآني في هذا الخط، سيكون أثره ضعيفاً في حركة التّربية و التّهذيب.

2- دور الأصدقاء و العِشرة

اشارة

و الموضوع الآخر، الذي أثبتت التجربة تأثيره العميق على السلوك الأخلاقي، و إتّفق عليه جميع علماء الأخلاق و التربية و التعليم، هو عنصر الأصدقاء و دور المعاشرة معهم، ففي

______________________________

(1). نور الثقلين. ج 1، ص 541.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 135

حال كون الصّديق فاسداً و منحرفاً، في دائرة السّلوك الأخلاقي، فسيؤثّر على صديقه السليم، من موقع الانحراف كذلك، و العكس صحيح أيضاً، فالكثير من المؤمنين، و الأقوياء الإرادة، إستطاعوا أن يؤثّروا على زملائهم الفاسدين، على مستوى الهداية و الإصلاح، بحيث جعلوا منهم اناساً أتقياء، و ملتزمين في دائرة السّلوك الدّيني و الأخلاقي.

و نعود للقرآن الكريم، و الآيات الّتي تتناول هذ الموضوع:

1- «وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ* حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ» «1».

2- «قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ* يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الُمصَدِّقِينَ* أَ إذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ* قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ* فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ* قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِي* وَ لَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الُمحْضَرِينَ» «2».

3-

«وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَني وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا» «3».

تفسير و إستنتاج:

الآيات الاولى، التي وردت في محلّ البحث، تحدّثت عن جلوس الشّيطان، مع الغافلين عن ذكر اللَّه، من منطق الغُواية، و توضح تأثير قرين السّوء، في السّلوك الأخلاقي للإنسان و مستقبله، فتقول أولًا: «وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» «4».

______________________________

(1). سورة الزخرف، الإية 36 إلى 38.

(2). سورة الصافات، الآية 51 إلى 57.

(3). سوره الفرقان، الآية 27 إلى 29.

(4). ذكروا معانٍ مختلفة لكلمة «نُقيّض»، و التي هي من مادة قيض، فالبعض قال: إنّها بمعنى التسبيب، و البعض الآخر: بمعنى التقدير، و البعض الآخر: كالراغب قال: هي بمعنى إستيلاء القيض على البيض، و هو القشر الأعلى.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 136

و بعدها يُبيّن القرآن الكريم، دور قرين السّوء في حركة الإنسان و الحياة، فإنّ الشّياطين يوصدون طريق الهداية و الحركة إلى اللَّه تعالى، أمام الإنسان، و يقفوا عقبةً في طريق الوصول إلى الهدف المقدس، و الأنكى من ذلك، أنّ هؤلاء المنخدعين يحسبون أنّهم مهتدون: «وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ».

و بعدها يتطرّق القرآن الكريم إلى النتيجة، فيقول: إنّ هذا الإنسان عند ما يرد في عرصات القيامة، و عند حضور الجميع عند اللَّه تبارك و تعالى، و كشف الأسرار و الحقائق، يقول لقرينه الشّيطاني: «حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ».

حيث نستوحي من هذه التعبيرات، بأنّ قرين السّوء، يمكن أن يحرف الإنسان من موقع الأغواء، عن طريق الباري تعالى، و يصدّه

عن سبيل الهداية و الصّلاح، فيهدم عليه دعائم الأخلاق، و يشوّه الواقع النّفسي و الفكري له، فينخدع هذا المسكين و يحسب أنّه على هدىً، فإرجاعه عن غيّه، و العودة به إلى الصّراط المستقيم، سيكون ضرباً من المحال، و لن يستيقظ من أوهام الغفلة، إلّا و قد فات الأوان، و بعد غلق طريق العودة عليه.

و كذلك يُستفاد من الآية الشريفة، أنّ قرين السّوء يبقى دائماً مع الإنسان في حياته الاخرويّة الأبديّة، و كم هو مؤلم، أن يرى الشّخص المسبّب في بؤسه و هلاكه، يعيش معه دوماً، و لن تنفع معه اليوم الأماني و الآمال بالإنفصال عنه و مفارقته، فيقول: «وَ لَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ» «1».

و في مضمون الآيات الآنفة الذّكر، الآية (25) من سورة فصّلت، فتقول:

«وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَ الْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ».

«الآية الثانية»: من هذه الآيات محل البحث، تتحدث عن الأشخاص الذين عاشوا مع

______________________________

(1). سورة الزخرف، الآية 39.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 137

أصحاب السّوء، و كانوا يتحركون معهم في أجواء الضّلالة و الإنحراف، و لكن اللّطف الإلهي شملهم، و إستطاعوا بسعيهم و جدّهم في التّحرك بعيداً عن وساوس الشّيطان، و أنقذوا أنفسهم من الوقوع في براثنه، بعد أن كانوا قد وصلوا إلى حافّة الهاوية، فُهنا يتحدث القرآن الكريم عن تأثير قرين السّوء في تكوين عقائد الإنسان و أخلاقه، و لكن ليس بالشّكل الذي يكون فيه الإنسان مجبوراً و غيرُ قادرٍ على إنقاذ نفسه من شراك الزيغ فقال: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنّي كَانَ لي

قَرِينٌ* يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الُمصَدِّقِينَ* أَ إذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ» «1».

و في هذا الأثناء يذكر قرينه القديم، و يشرع بالبحث عنه، فينظر من أعالي الجنّة، فإذا به يراه في أعماق الجحيم: «فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ».

فقال له: «قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ* وَ لَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الُمحْضَرِينَ».

فنرى من هذه الآيات، أنّ قرين السّوء بإمكانه أن يؤدي بالإنسان إلى الجحيم، لو لا الإيمان و التّقوى و لطف اللَّه تعالى في واقع الإنسان.

و في «الآية الثالثة»: نرى التأسف الشّديد و التأثرّ العميق، الذي يعيشه الظالمون في يوم القيامة، بسبب إختيارهم و مصاحبتهم لأصدقاء السّوء، لأنّهم كانوا العامل الأساس في محنتهم الفعلية:

«وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا».

و بناءً على ذلك فإنّ الظّالم في يوم القيامة، أول ما يتأسف على تركه الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و قطعه للعلاقة معه، و بعدها يتأسف على توثيق العلاقة مع أصدقاء السّوء، و بعدها يصرّح، أنّ

______________________________

(1). سورة الصافات، الآية 50 إلى 53.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 138

العامل الأصلي لضلاله، هو نفس هؤلاء الأصدقاء المنحرفين، و مرضى القلوب، و أن تأثيرهم عليه كان أشدّ من تأثير النداءات الإلهيّة: (طبعاً عند المنحرفين فقط).

و أمّا «الآية الأخيرة»: فقد تحدثت عن أصدقاء السوء، و عبّرت عنهم بجنود الشيطان و أنّهم من شياطين الإنس، و الجدير بالذكر، أنّ التعبير عن تأسّف هذه الجماعة، ورد بجملة:

«وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ...»، و هي أعلى مراحل التّأسف، ففي البداية، يعضّ الإنسان إصبعه

بدافع الندم، و في مرحلةٍ أقوى يعضّ باطن كفّه، و في مرحلةٍ أشدّ يعضّ على يديه الإثنتين، و هو في الحقيقة نوعٌ من الإنتقام من نفسه، و أنّه لماذا قصّر في حقّ نفسه و رماها في التهلكة؟

فما يُستفاد من الآيات الآنفة الذّكر، هو أنّ الأصدقاء و الأصحاب، لهم أثرهم الكبير في سعادة أو شقاء الإنسان، ليس على مستوى التّأثير في السّلوك الأخلاقي فحسب، بل و على مستوى العقائد أيضاً، فهنا يجب على المرشد أن يهتم في عمليّة صيانة الأفراد من الزيغ و الإنحراف، و يرعاهم بتوجيهاته بعيداً عن أجواء التلوّث، و خصوصاً في عصرنا الحاضر، الذي إنتشرت فيه وسائل الفساد، عن طريق رِفاق السّوء بصورةٍ مُخيفةٍ، و أصبحت سبباً من أسباب الإنحراف و السّير في خطّ الباطل.

دور الأخلّاء في الرّوايات الإسلاميّة:

وردت روايات و أحاديث مستفيضة في هذا المضمار عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و الأئمّة الأطهار عليهم السلام، تعكس أهميّة هذه المسألة، ففي حديث الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «المَرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ وَ قَرِينِهِ» «1».

و جاء هذا المعنى أيضاً في حديثٍ آخر، نقل عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال:

«وَ لا تَصحَبُوا أَهْلَ البِدَعِ وَ لا تُجالِسُوهُم فَتَصيرُوا عِنْدَ النّاسِ كَواحِدٍ مِنْهُم».

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 375: باب مجالسة أهل المعاصي، ح 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 139

قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله: «المَرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ وَ قَرِينِهِ» «1».

و نفس هذا المعنى ورد عن الإمام علي عليه السلام أيضاً، و فيه تصوير عن حالة التّأثير المُتقابل، في دائرة التّفاعل المشترك بين الأفراد فقال:

«مُجالَسةِ الأخيارِ تَلحَقُ الأَشرارِ بالأخيارِ وَ مُجالِسةِ الأَبرارِ لِلفُجَّارِ تَلحَقُ الأبرارِ بِالفُجَّارِ».

و جاء في

ذيل هذا الحديث، عبارةٌ في غاية الأهميّة، حيث يقول: «مَنْ إِشتَبَهَ عَلَيكُمِ أَمرُهُ وَ لَم تَعرِفُوا دِينَهُ فانظُرُوا إِلى خُلَطائِهِ» «2».

و في بعض الروايات، ورد هذا المعنى في دائرة الّتمثيل، فقال: «صُحبَةُ الأَشرارِ تَكسِبُ الشَّرَّ كَالرِّيحِ إُذا مَرَّتْ بِالنَّتِنِ حَمَلَتْ نَتِناً» «3».

و يُستفاد من هذه التّعبيرات: أنّه و كما أنّ المعاشرة و الصّحبة للأراذل، تهيى ء الأرضية لحركة الإنسان نحو الانزلاق في طريق الشر، فإنّ المعاشرة مع الأَخيار تنير قلب الإنسان بضياء الهدى، و تحُيي فيه عناصر الخير.

و نقرأ هذا المعنى في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «عَمارَةُ القُلُوبِ في مُعاشَرَةِ ذَوِي العُقُولِ» «4».

و جاء في حديثٍ آخر عنه عليه السلام، أنّه قال: «مُعاشَرَةُ ذَوِي الفَضائِلِ حَياةُ القُلُوبِ» «5».

فتأثير الُمجالسة على قدرٍ من الأهميّة، بحيث قال فيه النّبي سليمان عليه السلام:

«لا تَحْكُمُوا عَلى رَجُلٍ بِشي ءٍ حَتّى تَنْظُرُوا إِلى مَنْ يُصاحِبُ فَإِنَّما يُعْرَفُ الرَّجُلُ بِأَشكَالِهِ وَ أَقرَانِهِ؛ و يُنْسَبُ إِلى أَصحابِهِ وَ أَخدَانِهِ» «6».

و نقرأ في حديثٍ جاء عن لقمان الحكيم، في نصائحه لإبنه، فقال له:

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 375: باب مجالسة أهل المعاصي، ح 3.

(2). كتاب صفات الشيعة، للصدوق، (طبقاً لنقل بحار الانوار، ج 71، ص 197).

(3). غُرر الحِكم.

(4). المصدر السابق.

(5). المصدر السابق.

(6). بحار الأنوار، ج 71، ص 188.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 140

«يا بُنَيَّ صاحِبِ العُلَماءَ، و أَقرِبْ مِنْهُم، وَ جالِسهُم وَ زُرهُم فِي بِيُوتِهِم، فَلَعَلَّكَ تَشْبَهُهُم فَتَكُونَ مَعَهُم» «1».

و على كلّ حال، فإنّ الرّوايات الشّريفة، مليئة بمثل هذه النصائح، في دائرة الإهتمام بالرّفقة و أثر الصّديق في أخلاق و سلوك الإنسان، و لو جُمعت في إطارٍ واحدٍ لأمكن تأليف بحثٍ شاملٍ كاملٍ في هذا المضمار.

و نختم الكلام بحديث عن

الإمام علي عليه السلام، في وصاياه لإبنه الحسن الُمجتبى عليه السلام:

«قارِنْ أَهْلَ الخَيرِ، تَكُن مِنْهُم، و بايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ مِنْهُم» «2».

تأثير العِشرة في التحليلات المنطقيِّة:

يقولون: إنّ أحسن و أفضل دليلٍ لإمكان الشي ء، هو وقوعه، و في موضوع بحثنا، فإنّ رؤية نماذج عينيّة من مُعاشرة بعض الأفراد للأراذل، و كيف أنّها أصبحت مصدراً لأنواع المفاسد و الإنحرافات الخُلقيّة لهم، و بالعكس، فإنّ مُصاحبة الأخيار، ساهمت لدى البعض، على تطهير أنفسهم، من شوائب الرّذيلة و الزّيغ، و هذه الموارد هي خير دليلٍ على بحثنا هذا.

فالتشبيه القديم القائل: إنّ الأخلاق القبيحة، مثل الأمراض السّارِيَة، تنتشر بين الأصدقاء و الأقارب بسرعةٍ فائقةٍ، هو تشبيهٌ صحيحٌ، خصوصاً في الموارد التي يكون فيها الشخص، حَدث السّن أو ضعيف الإعتقاد و الإيمان، و تكون نفسه مستعدّةً لقبول أخلاق الآخرين، فالمُعاشرة لمثل هؤلاء الأفراد، مع أصدقاء السّوء، تكون بمثابة سهمٍ مُهلكٍ و قاتلٍ في دائرةِ الإيمان، و عناصر الخَير في الشّخصية، و قد شاهدنا الكثير من الأفراد و الأشخاص من الطيّبين، الذين تغيّروا بالكامل بسبب معاشرتهم لرفقاء السوء، و تحوّل مجرى حياتهم من أجواء الخير إلى أجواء الشّر، و هُناك إثباتاتٌ و أدلّةٌ مختلفةٌ من تقرير هذه الحالةٌ في واقع الإنسان من النّاحية النّفسية و الرّوحية:

______________________________

(1). بحارالأنوار، ج 71، ص 189.

(2). نهج البلاغة، وصيّة الإمام علي عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام (رسالة 31).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 141

1- من جملة الامور الّتي توصل إليها علماء النّفس، هو وجود روح الُمحاكاة في الإنسان، يعني أنّ الأفراد ينطلقون في حركة الحياة، من موقع الشّعور أو اللّأشعور، بمُحاكاة أصدقائهم و أقاربهم، فالأشخاص الّذين يعيشون حالة الفرح و السرور، ينشدون الفرحة و الحُبور من حواليهم، و العكس صحيح.

فالأفراد

المُتشائمين، الذين يعيشون اليأس و سوء الظن، يؤثرون على أصحابهم، و يجعلونهم يعيشون حالة سوءِ الظّن، و هذا الأمر يبين لنا السّبب في تأثير الأصدقاء بعضهم بالبعض الآخر بسرعةٍ.

2- مَشاهدة القبائح و تكرارها، يُقلّل من قبحها في نظر المشاهد، و بالتدريج تصبح أمراً عاديّاً، و نحن نعلم أنّ إحدى العوامل المؤثّرة في ترك الذنوب و القبائح، هو الإحساس بقبحها في الواقع النّفسي للإنسان.

3- تأثير التّلقين في الإنسان غير قابل للإنكار، و أصدقاء السّوء يؤثرون دائماً على رفقائهم في دائرة الفكر و السّلوك من خلال عمليّة التلقين و الايحاء، فيقلبون عناصر الشرّ في إعتقادهم إلى عناصر الخير، و يغيّرون حسّ التّشخيص لديهم لعناصر الخير و الشرّ في منظومة القيم، فتختلط عليهم الامور، في خطّ المستقبل و كيفيّة التعامل مع الغير.

4- المُعاشرة لرفاق السّوء، يشدّد سوء الظن في الإنسان مع الجميع، و تفضي به هذه الحالة النّفسية السلبيّة إلى السّقوط في وادي الذّنوب و الفساد الأخلاقي، فنقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: «مُجالَسَةُ الأَشرارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بالأَخيارِ» «1».

و جاء في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّ معاشرة رفاق السّوء تميت القلب، فقال:

«أَربَعٌ يُمِتنَ القَلبَ ... وَ مُجالَسَةُ المَوتى فَقِيلَ لَهُ يا رَسُولَ اللَّهِ وَ مَا المَوتى ، قَالَ صلى الله عليه و آله: كُلُّ غَنِيٍّ مُسْرِفٍ» «2».

و هذا الموضوع، يعني سريان الحُسن و القُبح الأخلاقي بين الأصدقاء، في أجواء المُعاشرة إلى درجةٍ من الوضوح، ممّا حدى بالشّعراء إلى نظم الشعر في هذا المضمار، من قبيل قولهم:

______________________________

(1). صفات الشيعة، الصدوق نقلًا عن بحارالأنوار، ج 71، ص 197.

(2). الخصال، (طبقاً لنقل بحار الأنوار، ج 71، ص 195).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص:

142 عن المرء لا تسلْ و سلْ عن قرينه فكلّ قرينٍ بالمقارن يقتدي

3- تأثير الاسرة و الوراثة في الأخلاق

اشارة

من المعلوم أنّ أوّل مدرسةٍ لتعليم القيم الأخلاقيّة، يدخلها الإنسان هي الاسرة، فكثيرٌ من اسس الأخلاق، تنمو في واقع الإنسان هناك، فالمحيط السّليم أو الملّوث للُاسرة، له الأثر العميق في صياغة السّلوك الأخلاقي، لأفراد الاسرة، إنّ على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة، فالحجر الأساس للأخلاق في واقع الإنسان يوضع هناك.

و تتبيّن أهميّة الموضوع، عند ما يتّضح أنّ الطفل في حركته التكامليّة، و مسيرته في خط التّربية:

أولًا: يتقبّل و يتأثر بالمحيط بسرعةٍ كبيرةٍ.

ثانياً: إنّ ما يتعلمه الطّفل في صغره، سوف ينفذ إلى أعماق نفسه و روحه، و قد سمعنا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام، يقول فيه:

«العِلمُ فِي الصِّغَرِ كالنَّقشِ فِي الحَجَرِ» «1».

فالطفل يستلهم كثيراً من سجايا أبيه و امّه و اخوته و أخواته، فالشّجاعة و السّخاء و الصّدق و الوفاء، و غيرها من الصّفات و السّجايا الأخلاقيّة الحميدة، يأخذها و يكسبها الطّفل من الكبار بسهولةٍ، و كذلك الحال في الرّذائل، حيث يكسبها الطّفل من الكبار بسهولةٍ أيضاً.

و بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطّفل يكسب الصّفات من أبويه عن طريقٍ آخر، و هو الوراثة، فالكر و موسومات لا تنقل الصفات الجسمانية فحسب، بل تنقل الصفات الأخلاقيّة أيضاً، و لكن من دون تدخل عنصر الإجبار، حيث تكون هذه الصّفات قابلةٌ للتغيير، و لا تسلب المسؤوليّة من الأولاد أيضاً.

و بعبارةٍ اخرى، أنّ الأبوين يؤثران على الطّفل أخلاقياً من طريقين، طريق التّكوين، و

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 1، ص 224.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 143

طريق التّشريع، و المراد من التّكوين هو الصفات و السّجايا المزاجيّة و الأخلاقيّة المتوفرة في الكروموسومات و الجينات، و الّتي تنتقل لا إرادياً

للطفل في عمليّة الوراثة.

و الطريق التشريعي يتمثل في إرشاد الأبناء، من خلال أساليب التّعليم و التّربية للصفات الأخلاقيّة، التي يكتسبها الطفل من الأبوين بوعي و شعور.

و من المعلوم أنّ أيّاً من هذين الطّريقين، لا يكون على مستوى الإجبار، بل كلّ منهما يُهيّى ء الأرضيّة لنمو و رشد الأخلاق في واقع الإنسان، و رأينا في كثيرٍ من الحالات أفراداً صالحين و طاهرين، لأنّ بيئتهم كانت طاهرةً و سليمةً، و العكس صحيح أيضاً. و لا شك من وجود إستثناءات في الحالتين تبيّن أنّ تأثير هذين العاملين، و هي: «التربية و الوراثة»، لا يكون تأثيراً على مستوى جَبر، بل يخضع لأدوات التّغيير و عنصر الإختيار.

و نعود بعد هذه الإشارة إلى أجواء القرآن الكريم، لنستوحي من آياته الكريمة ما يرشدنا إلى الحقيقة:

1- «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً» «1».

2- «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَ كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا» «2».

3- «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «3».

4- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ» «4».

5- «يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ مَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً» «5»

تفسير و استنتاج:

«الآية الاولى»: تتحدث عن نوح و دعائه على قومه بالهلاك، حيث إستدلّ على ذلك

______________________________

(1). سورة نوح، الآية 27.

(2). سورة آل عمران، الآية 37.

(3). سورة آل عمران، الآية 33 و 34.

(4). سورة التحريم، الآية 6.

(5). سورة مريم، الآية 28.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 144

بقوله: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً».

فهذا الكلام يدلّ على أنّ الفجار و المنحرفين، لا

يلدون إلّا الفجّار و المنحرفين، و لا يستحقون الحياة الكريمة من موقع الرّحمة، بل يجب أن ينزل عليهم العذاب أينما وجدوا و حلّوا، و الحقيقة أنّ البيئة، و تربية الاسرة و كذلك الوراثة، كلّها عوامل تؤثر في الأخلاق و العقيدة، في حركة الحياة و الإنسان، و المهم في الأمر أنّ نوحاً عليه السلام، قطع بكفر و فساد أولادهم اللّاحقين، لأنّ الفساد إنتشر في المجتمع بصورةٍ كبيرةٍ جدّاً، فلا يمكن لأحدٍ أن يفلت منه بسهولةٍ، و طبعاً وجود مثل هذه العوامل، لا يعني سلب الإرادة من الإنسان، و قد ذهب البعض إلى أنّ نوح عليه السلام، توجّه لهذه الملاحظة عن طريق الوحي الإلهي، عند ما قال له الباري تعالى: «إنَّهُ لَن يُؤمِنَ مِن قَومِكَ إلّا مَن آمن» «1».

و من الواضح، أنّ هذه الآية لا تشمل الأجيال القادمة، لكنّه لا يُستبعد أنّه عليه السلام حكم عليهم بالإعتماد على الامور الثلاثة السّابقة الذّكر، و هي: (البيئة، و تربية الاسرة، و عامل الوراثة).

و قد ورد في بعض الرّوايات أنّ الكفّار من القوم، كانوا يأتون بصبيانهم المميزين عند نوح عليه السلام، و يقول الأب لإبنه؛ أ ترى هذا الشّيخ يا بُني؟ إنّه شيخٌ كذّاب، فلا تقترب منه، هكذا أوصاني أبي، «و افعل أنت ذلك مع إبنك أيضاً».

و ظلّ الأمر على هذا المنوال على تعاقب الأجيال «2».

و في «الآية الثانية»: يحدثنا القرآن الكريم عن السيّدة مريم عليها السلام، و التي تعتبر من أهم و أبرز الشخصيات النسائية في العالم، و قد ورد في النّصوص الدينيّة، ما يبيّن أنّ مسألة التربية و الوراثة و البيئة، لها أهميّة كبيرةٌ في رسم و صياغة شخصيّة الإنسان، في خطّ الحقّ أو الباطل، و لأجل تربية

أفرادٍ صالحين، يجب علينا التّوجه لتلك الامور.

و من جملتها، حالة الام في زمان الحَمل، فترى أنّ امّ مريم كانت تستعيذ باللَّه تعالى من

______________________________

(1). سورة هود، الآية 36.

(2). تفسير الفَخر الرازي، و المُراغي، للآية مَورد بحثنا.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 145

الشّيطان الرجيم، و كانت تتمنى دائماً أن يكون من خُدّام بيت اللَّه، بل نذرت أن يكون وليدها كذلك.

فتقول الآية الكريمة: «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً».

تشبيه الإنسان الطّاهر بالنبات الحَسن، هو في الحقيقة إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات، يجب ملاحظته ملاحظةً دقيقةً، فالنبات و لأجل أن ينبت نباتاً حسناً مثمراً، يجب في بادى ء الأمر الإستفادة من البذور الصّالحة، و الإعتناء به من قبل الفلّاح في كل مراحل رشده، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية، حيث ينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية و العناية، و تربيته تربيةً صحيحةً، لأنّ عامل الوراثة يؤثر في نفسه و روحه، و الاسرة التي يعيش فيها، و كذلك البيئة و المحيط الذي يَتعايش معه، كلّها تمثل عناصر ضاغطة في واقعه النّفساني و المزاجي.

و الجدير بالذّكر، أنّ اللَّه سبحانه جاء بجملة: «و كَفّلَها زكَريا» في ذيل الآية، و هي الكفالة لمريم عليها السلام «1»، و معلوم حال من يتربى على يد نبيٍّ من أنبياء اللَّه تعالى، بل اللَّه تعالى هو الذي إختاره لكفالتها و رعايتها.

فلا غرابة و الحال هذه، أن تصل مريم عليها السلام لدرجاتٍ ساميةٍ، من الإيمان و التّقوى، و الأخلاق و التربية، ففي ذيل هذه الآية، يقول القرآن الكريم:

«كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الِمحرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

نعم

فإنّ التربية الإلهيّة: تُثمر الأخلاق الإلهيّة، و الرزق من اللَّه في طريق التّكامل المعنوي للإنسان.

و قد ورد في «الآية الثالثة»: مقدّمةٌ لقضية مريم عليها السلام، و كفالة زكريّا عليه السلام لها، و فيها الكلام عن تأثير العامل الوراثي، و عامل التربية في تكريس الطهارة و التقوى و الفضيلة، في مضمون

______________________________

(1). يجب التنويه إلى أنّ «كفل»، إذا قُرى ء بدون التّشديد، يعنى: التّعهد بالإدارة و الكفالة، وا ذا قُرى ء بالتّشديد بمعنى: إختيار الكفيل لآخر، و بناءً على ذلك فإنّ اللَّه تعالى إختار زكريّا عليه السلام لتربية مريم عليها السلام، «و كفّل»: أخذ مفعولين، أحدهما: (هاء)، يعود إلى مريم عليها السلام، و الآخر إلى: زكريا عليه السلام.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 146

الإنسان و محتواه الداخلي، فقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

فالذرّية التي بعضها من بعضٍ، إشارة لعامل الوراثة أو التربية الاسريّة، أو كلاهما و هو شاهد حيٌّ يؤيد مُدّعانا من تأثير عناصر الوراثة و التربية، في الشّخصيّة و معطياتها في خط التّقوى و الفضيلة.

و أشارت الرّوايات التي نُقلت في ذيل هذه الآية، لذلك المعنى «1» أيضاً، و على كل حال، فإنّ الآيات الآنفة الذّكر، تدلّ على مدى تأثير معطيات التربية و البيئة و الوراثة، في نفسية الإنسان، و أثرها العميق في صياغة قابليّاته، و الإرتفاع به للتّصدي لمقام الرئاسة المعنويّة على الخلق، و لا يمكن إنكار تلك المَعطيات، و لا يمكن أبداً مُقايسة هؤلاء الأطهار الذين عاشوا أجواءَ الفضيلة، بالّذين ورثوا الكفر و الفساد و النّفاق من آبائهم و أجدادهم.

و في «الآية الرابعة»: خاطب الباري تعالى المؤمنين و قال

لهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ».

و قد تَلت هذه الآية، الآيات الّتي جاءت في بداية سورة التّحريم، و التي حذّرت فيها نساء النّبي صلى الله عليه و آله من أعمالهنّ، و بعدها ذكر المطلب بصورة حكمٍ عامٍّ شمل كلّ المؤمنين.

و من المعلوم أنّ المقصود من هذه النار، هي نار الآخرة، و لا يمكن الإتقاء من تلك النار، إلّا بالإهتمام بعمليّة التعليم و التربية السّليمة في واقع الاسرة، و التي بدورها توجب ترك المعاصي، و الإقبال على الطّاعة و تقوى اللَّه تعالى. و بناءً على ذلك فإنّ هذه الآية تعيّن و تبيّن وظيفة ربّ الاسرة، و دوره في التّربية و التعليم، و كذلك تبيّن أهميّة و تأثير عنصر التربية و التعليم، في ترشيد الفضائل و الأخلاق الحميدة، و السيّرة الحسنة.

و يجب الإهتمام في ترجمة هذا البرنامج، إلى عالم الممارسة و التطبيق، من أوّل لبنةٍ توضع في بناء الاسرة، أي منذ إجراء عقد الزّواج و الرّباط المُقدس، و يجب الإهتمام بإسلوب التربية، من أوّل لحظةٍ يولد فيها الطّفل، و يستمر البرنامج التّربوي في كلّ المراحل التي تعقبها.

______________________________

(1). يرجى الرجوع إلى نور الثقلين: (ج 1، ص 331).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 147

فنقرأ في حديثٍ عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه عند ما نزلت هذه الآية الشّريفة، سأله أحد أصحابه، عن كيفيّة الوقاية من النار، له و لعياله، فقال له الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«تَأمُرُهُم بِما أَمَرَ اللَّهُ وَ تَنهاهُم عَمّا نَهاهُم اللَّهُ إنْ أَطاعُوكَ كنْتَ قَدْ وَقَيتَهُم وَ إِنْ عَصَوكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيتَ ما عَلَيكَ» «1».

و يجب أن يكون معلوماً، أنّ الأمر بالمعروف يعدّ من

الوسائل الناجعة لوقاية الاسرة من الإنحراف و السّقوط في هاوية الجحيم، و لأجل الوصول إلى هذا الهدف، علينا الإستعانة بكلّ الوسائل المتاحة لدينا، و كذلك الإستعانة بالجوانب العملية و النفسية و الكلامية، و لا يُستبعد شمول الآية لمسألة الوارثة، فمثلًا أكل لقمة الحلال عند إنعقاد النّطفة و ذكر اللَّه، يُؤثر إيجابياً في تكوين النّطفة، و تنشئة الطّفل و حركته في المستقبل في خطّ الإيمان.

«الآية الخامسة و الأخيرة»: تشير إلى قصّة مريم عليها السلام و ولادتها للمسيح عليه السلام، الذي وُلد من دون أب، و تعجّب قومها من ذلك الأمر الفظيع بنظرهم!، فقال الباري تعالى على لسان قومها:

«يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ مَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً».

فهذا التعبير، (و خصوصاً نقل القرآن الكريم من موقع الإمضاء و التأييد)، إن دل على شي ء فهو يدلّ على معطيات عوامل الوراثة من الأب و الام، و كذلك تربية الاسرة و تأثيرها في أخلاق الطفل، و كلّ الناس لمسوا هذه الأمر بالتجربة، فإذا شاهدوا أمراً مُخالفاً للمعهود، إستغربوا و تعجّبوا.

و من مجموع ما تقدم، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة، و هي أنّ الوراثة و التربية، من العوامل المهمّة، في رسم و غرس القيم الأخلاقيّة في حركة الواقع النفسي للإنسان، إن على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة.

______________________________

(1). نور الثقلين: (ج 5، ص 372).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 148

الأخلاق و التربية في الأحاديث الإسلاميّة:

لا شكّ أنّ المدرسة الأولى للإنسان، هي واقع الاسرة، فمنها يتعلم الإنسان الدّروس الاولى للفضيلة أو الرذيلة. و إذا ما تناولنا مفهوم التربية بشكله العام: «التكوين و التشريع»، فإنّ أوّل مدرسةٍ يدخلها الإنسان، هي رحم الام و صلب الأب، و الّتي تؤتي معطيّاتها بصورةٍ غير مباشرةٍ على الطفل، و تهيى ء

الأرضيّة للفضيلة، أو الرّذيلة في حركته المستقبليّة.

و قد ورد في الأحاديث الإسلاميّة، تعبيراتٌ لطيفةٌ و دقيقةٌ جدّاً في هذا المجال، نشير إلى قسم منها:

1- قال عليٌّ عليه السلام: «حُسْنُ الأَخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأَعراقِ» «1».

و بناءً عليه فإنّ الاسر الفاضلة، غالباً ما تقدّم للمجتمع أفراداً متمّيزين على مستوى الأخلاق الحسنة، و بالعكس فإنّ الأفراد الطالحين، ينشؤون غالباً من عوائل فاسدة.

2- ورد في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:

«عَلَيكُم فِي طَلبِ الحَوائِجِ بأشراف النُّفُوسِ وَ ذَوي الاصُولِ الطَّيِّبَةِ، فإِنَّها عِنْدَهُم أَقضى وَ هِي لَدَيهِم أَزكَى «2».

3- و في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله، و وصاياه له في إختيار الضّباط للجيش الإسلامي، قال له:

«ثُمَّ الصَقْ بِذَوي المُروُءاتِ و الأَحسابِ وَ أَهلِ البُيُوتاتِ الصَّالِحَةِ و السَّوابِقِ الحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ و السَّخاءِ وَ السَّمَاحَةِ فإِنَّهُم جِماعُ مِنَ الكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ العُرفِ» «3».

4- و ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، حديث يُبيّن تأثير الآباء الفاسدين على شخصية الأطفالِ و سلوكهم الأخلاقي، فقال: «أَيَّما إِمرَأَةٍ أَطاعَتْ زَوجَها وَ هُوَ شارِبٌ لِلخَمْرِ، كَانَ لَها مِنَ الخَطايا بِعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ وَ كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ» «4».

______________________________

(1). غُرر الحِكم.

(2). المصدر السابق.

(3). نهج البلاغة.

(4). لئالي الأخبار.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 149

و قد ورد النّهي الأكيد، في رواياتٍ اخرى كثيرةٍ عن تزويج الشّارب للخمر، و السّي ء الأخلاق «1».

5- و قد ورد في الحديث النبوي المشهور، بالنّسبة إلى تأثير تربية الأب و الام على الأولاد، أنّه قال:

«كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتى يَكُونَ أَبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهِوِّدانِهِ وَ يُنَصِّرانِهِ» «2».

فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان و عقيدة الطّفل، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي

في الدّائرة الإجتماعية؟

6- و هذا الأمر جعل مسألة التربية الصّالحة، من أهم حقوق الطّفل على الوالدين، فنقرأ في الحديث النبوي الشّريف:

«حَقُّ الوَلَدِ عَلى الوَالِدِ أَنْ يُحْسِنَ إسمَهُ وَ يُحْسِنَ أَدَبَهُ» «3».

فمن الواضح أنّ مداليل الأسماء، لها أثرها الأكيد على نفسيّة و روحيّة الطّفل، فأسماء الشّخصيات الكبيرة من أهل التّقوى و الفضيلة، تجذب الإنسان المُسمّى بأسمائهم إليهم، و تدعوه للتّقرب إليهم، و بالعكس، فإنّ أسماء الفسقة و الكفّار، تقرّب من يتسمى بأسمائهم منهم أيضاً «4».

7- و نقرأ في النبوي الشريف أيضاً: «ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ أَفضَلَ مِنْ أَدبٍ حَسَنٍ» «5».

8- و قال الإمام السجّاد عليه السلام، بتعبيرٍ أوضح: الاخلاق فى القرآن ج 1 169

«وَ إِنَّكَ مَسؤولٌ عَمَّا وَلِّيتَهُ بِهِ مِنْ حَسَنِ الأَدبِ وَ الدَّلالَةِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ المَعُونَةَ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ» «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، ص 53 و 54.

(2). تفسير مجمع البيان، ذيل الآية 30 من سورة الروم.

(3). كنز العمّال، 45192.

(4). وسائل الشيعة، ج 15، ص 122 و 132.

(5). كنز العمّال، ح 45411.

(6). بحار الأنوار، ج 71، ص 6 (جوامع الحقوق).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 150

9- و قال الإمام علي عليه السلام، بأنّ أخلاق الأبوين، هي عبارةٌ عن ميراث الأبناء منهما، فيقول عليه السلام: «خَيرُ ما وَرَّثَ الآباءُ الأَبناءَ الأَدَبَ» «1».

10- و نختم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام على عليه السلام، حيث بيّن الإمام عليه السلام، شخصيته للجهّال الذين يقيسونه بغيره، فقال:

«وَ قَدْ عَلِمْتُم مَوضِعي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بِالقَرابَةِ القَريبَةِ وَ المَنزِلَةِ الخَصِيَّةِ، وَ ضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدرِهِ ... يَرفَعُ لِي كُلَّ يَومٍ عَلَماً مِنْ أَخلاقِهِ وَ يَأَمُرُنِي بِالإِقتِداءِ ..».

و اللطيف في الأمر، أنّ الإمام عليه

السلام و في أثناء حديثه، بيّن قسماً من أخلاق الرّسول صلى الله عليه و آله، فقال:

«وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ صلى الله عليه و آله مِن لَدُنْ أَن كانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مَنْ مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ لَيلَهُ و نَهارَهُ» «2».

و صحيح أنّ الصفات النفسية و الأخلاقيّة، سواء كانت سيئة أم حسنة، فهي تنبع من باطن الإنسان و إرادته، و لكن لا يمكن إنكار معطيات البيئة و أجواء المحيط، في تكوين و ترشيد الأخلاق الحسنة و السّيئة، و كذلك عنصر الوراثة من الوالدين و الاسرة بصورة أعم، و توجد شواهد عينيّة كثيرة، و أدلة قطعيّة على ذلك، ترفع الشّك و الترديد في المسألة.

و بناءً على ذلك، و لأجل بناء مجتمعٍ صالحٍ و أفرادٍ سالمين، علينا الإهتمام بتربية الطّفل تربيةً سليمةً، و الإنتباه لعوامل الوراثة و أخذها بنظر الإعتبار، في واقع الحياة الفرديّة و الإجتماعيّة.

4- معطيّات العلم و المعرفة في التربية

اشارة

و من العوامل الاخرى، في عمليّة تهذيب الأخلاق و ترشيدها، هو الصعود بالمستوى

______________________________

(1). غُرر الحِكم.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 192، (الخطبة القاصعة).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 151

العلمي و المعرفي للأفراد، فإنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان، كلّما إرتقى مستواه في دائرة العلوم و المعارف الإلهيّة، أينعت سجاياه الإنسانيّة، و تفتحت فضائله الأخلاقيّة، و العكس صحيح، فإنّ الجهل و فقدان المعارف الإلهيّة، يؤثر تأثيراً شديداً على دعامات و اسس الفضيلة، و يهبط بالمستوى الأخلاقي للفرد، في خطّ الإنحراف و الباطل.

و في بداية هذا الكتاب، في مبحث علاقة العلم بالإخلاق، ذكرنا أبحاثاً مختصرةً عن الأواصر الحاكمة بين هذين العاملين، و أشرنا إلى أنّ بعض الفلاسفة و العلماء، بالغوا في الأمر و إدعوا أنّ: «العلم يساوي الأخلاق».

و بعبارة اخرى: أنّ

العلم أو الحكمة و المعرفة، هي المنبع الرّئيسي للأخلاق، «كما نُقل عن سقراط الحكيم»، و أنّ الرّذائل الأخلاقيّة سببها الجهل.

فمثلًا المتكبّر و الحاسد، إنّما إبتلى بهذين الرذيلتين، بسبب عدم علمه بواقع الحال، فلا توجد عنده صورةٌ واضحةٌ عن أضرارهما و تبعاتهما السلبيّة، على واقع الإنسان الدّاخلي، و يقولون أنّه لا يوجد إنسان يخطو خطوةً نحو القبائح عن وعيٍ و علمٍ بها.

و بناءً على ذلك، إذا تمّ الصّعود بالمستوى العلمي لدى أفراد المجتمع، فإنّ ذلك بإمكانه، أن يكون عاملًا مساعداً، لتشييد صرح الهيكل الأخلاقي السّليم في المجتمع.

و بالطّبع فإنّ هذا الكلام فيه نوع من المُغالاة و المُبالغة، و يُنظر للمسألة من زوايةٍ خاصّةٍ، رغم أننا لا ننكر أنّ العلم يُعدّ من العوامل المهمّة لتهيئة الأرضيّة، و خَلقِ الأجواء الملائمة لِسيادة الأخلاق، بناءً على ذلك فإنّ الأفراد الاميّين و الجهلة، يكونون أقرب إلى منحدر الضّلالة و الخطيئة، و أمّا العلماء الواعون، فيكونون على بصيرةٍ من أمرهم و يبتعدون عن الرّذيلة، من موقع الوضوح في الرّؤية، و لا ننسى أنّ لكلّ قاعدةٍ شَواذ.

و قد ورد في القرآن الكريم هذا المعنى، في بيان الهدف من البعثة: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «1».

______________________________

(1). سورة الجمعة، الآية 2.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 152

و بناءً على ذلك، فإنّ النّجاة من الضّلال المبين، و الطّهارة من الأخلاق الرّذيلة و الذنوب، تأتي بعد تلاوة الكتاب المجيد، و تعليم الكتاب و الحكمة، و هو دليلٌ واضحٌ على وجود العلاقة و الإرتباط بين الإثنين.

و قد أوردنا في الجزء الأوّل من الدّورة الاولى من نفحات القرآن الكريم،

شواهد حيّةً و كثيرةً من الآيات القرآنية، حول علاقة العِلم و المعرفة بالفضائل الأخلاقيّة، و كذلك علاقة الجهل بالرذائل الأخلاقيّة، و نشير هنا بشكل مختصرٌ إلى عشرة نماذج منها:

1- الجهل مصدرٌ للفساد و الإنحراف

نقرأ في الآية (55) من سورة الّنمل:

«أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ».

فقرن هنا الجهل، بالإنحراف الجنسي و الفساد الأخلاقي.

2- الجهل سبب للإنفلات و التّحلل الجنسي

ورد في الآية (33) من سورة يوسف على لسان يوسف عليه السلام، في أنّ الجهل قرينٌ للتحلل الجنسي، فقال تعالى: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمّا يَدْعُونَني إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ».

3- الجهل أحد عوامل الحسد

ورد في الآية (89) من سورة يوسف عليه السلام، أنّه عند ما جلس يوسف عليه السلام على عرش مصر، و تحدّث مع إخوانه الذين جاءوا من كنعان إلى مصر، لإستلام الحنطة منه، فقال:

«قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ».

أي أنّ جهلكم هو السبب في وقوعكم في أسر الحسد، الذي دفعكم إلى تعذيبه، و السّعي لقتله، و القائه في البئر.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 153

4- الجهل مصدر التّعصب و العناد و اللؤم

في الآية (26) من سورة الفتح، نرى أنّ تعصّب مشركي العرب في الجاهلية، كان بسبب جهلهم و ضلالهم:

«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ».

5- علاقة الجهل بالذرائع

تاريخ الأنبياء ملي ءٌ بمظاهر التبرير، و خلق الذّرائع من قبل الأقوام السّالفة، في مواجهة أنبيائهم، و قد أشار القرآن الكريم مراراً إلى هذه الظاهرة، و مرًّة اخرى يشير إلى علاقة الجهل بها، فنقرأ في الآية (118) من سورة البقرة:

«وَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْ لَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ».

فالتأكيد هنا على أنّ عدم العلم أو الجهل، هو الذي يتولى خلق الأرضيّة للتذرع، و تبيّن الآية الكريمة، العلاقة الوثيقة بين هذا الإنحراف الأخلاقي مع الجهل، و كما أثبتته التجارب أيضاً.

6- علاقة سوء الظنّ مع الجهل

ورد في الآية (154) من سورة آل عمران، الكلام عن مُقاتلي احد:

«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ».

و لا شك في أنّ سوء الظّن، هو من المفاسد الأخلاقيّة، و مصدر لكثير من الرذائل الفردية و الإجتماعيّة في حركة الواقع و الحياة، و هذه الآية تبيّن علاقة الظّن بالجهل بصورةٍ واضحةٍ.

7- الجهل مصدر لسوء الأدب

ورد في الآية (4) من سورة الحجرات، إشارةً للّذين لا يحترمون مقام النبوة، و قال إنّهم قوم لا يعقلون:

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 154

«إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ».

فقد كانوا يزاحمون الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، في أوقات الرّاحة، و في بيوت أزواجه، و يُنادونه بأعلى أصواتهم قائلين: يا مُحَمِّد! يا مُحَمِّد! اخرُجُ إلَينا.

فكان الرّسول صلى الله عليه و آله ينزعج كثيراً من سوء أدبهم و قلّة حيائهم، و لكن حياؤه يمنعه من البوح لهم، و بقي كذلك يتعامل معهم من موقع الحياء، حتى نزلت الآية، و نبّهتهم لضرورة التأدّب أمام الرسول صلى الله عليه و آله، و شرحت لهم كيف يتعاملون معه صلى الله عليه و آله، من موقع الأدب و الإحترام.

و في تعبير: «أكثرهم لا يعقلون»، إشارة لطيفة للسّبب الكامن وراء سوء تعاملهم، و قلّة أدبهم و جسارتهم، و هو في الغالب عبارةٌ عن هُبوط المستوى العلمي، و الوعي الثقافي لدى الأفراد.

8- أصحاب النّار لا يفقهون

لا شك أنّ أصحاب النّار هم أصحاب الرذائل، و الملوّثين بألوان القبائح، و قد نوّه إليهم القرآن الكريم، و عرّفهم بالجُهّال، و عدم التّفقه، و يتّضح منه العلاقة بين الجهل و إرتكاب القبائح، فنقرأ في الآية (179) من سورة الأعراف:

«وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَ الْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ».

فقد بيّنت هذه الآية و آيات كثيرةٌ اخرى، العلاقة الوطيدة بين الجهل، و بين أعمال السوء و إرتكاب الرذائل.

9- الصبر من معطيات العلم

الآية (65) من سورة الأنفال، تنبّه المسلمين على أنّ الصّبر الذي يقوم على أساس الإيمان و المعرفة، بإمكانه أن يمنح المسلمين قوّة للوقوف بوجه الكفّار، الذين يفوقون المسلمين عدداً و عدّةً، تقول الآية:

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 155

«يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ».

نعم فإنّ جهل الكافرين، هو السبب في عدم إستطاعتهم في الصّمود بوجه المؤمنين، و في مقابل ذلك فإنّ وعي المؤمنين هو السّبب في صمودهم، بحيث يُعادل كلّ واحدٍ منهم عشرة أنفارٍ من جيش الكفّار.

10- النّفاق و الفرقة ينشآن من الجهل

أشار القرآن الكريم في الآية (14) من سورة الحشر إلى يهود (بني النضير)، الذين عجزوا عن مُقاومة المسلمين، لأنّهم كانوا مُختلفين و مُتفرقين، رغم أنّ ظاهرهم يحكي الوحدة و الإتفاق، فقال:

«لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ».

و بناءً على ذلك فإنّ النّفاق و الفرقة و التشتت، و غيرها من الرذايل الأخلاقيّة، الناشئة من جهلهم و عدم إطّلاعهم على حقائق الامور.

النتيجة:

تبيّن ممّا جاء في أجواء تلك العناوين العشرة السّابقة، التي وردت في سياق بعض الآيات القرآنية، علاقة الفضيلة بالعلم من جهة و علاقة الرذيلة بالجهل، من جهةٍ اخرى، و قد ثبت لنا بالتجربة و من خلال المشاهدة، أنّ أشخاصاً كانوا منحرفين بسبب جهلهم، و كانوا يرتكبون القبيح و يمارسون الرّذيلة في السّابق، و لكنّهم إستقاموا بعد أن وقفوا على خطئهم، و تنبّهوا إلى جهلهم، و أقلعوا عن فعل القبائح و الرذائل، أو قلّلوها إلى أدنى حدٍّ.

و الدّليل المنطقي لهذا الأمر واضح جدّاً، و ذلك لأنّ حركة الإنسان نحو التّحلي بالصّفات و الكمالات الإلهيّة، يحتاج إلى دافعٍ و قصدٍ، و أفضل الدّوافع هو العلم بفوائد الأعمال الصّالحة و مضار القبائح، و كذلك الإطّلاع و التعرّف على المبدأ و المعاد، و سلوكيات الأنبياء و الأولياء

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 156

و مذاهبهم الأخلاقية، فكلّ ذلك بإمكانه أن يكون عاملًا مساعداً، يسوق الإنسان للصّلاح و الفلاح، و الإبتعاد عن الفساد و الباطل في حركة الحياة و الواقع.

و بالطّبع المراد من العلم هنا، ليس هو الفنون و العلوم الماديّة، لأنّه يوجد الكثير من العلماء في دائرة العلوم الدنيويّة، و لكنّهم فاسدين و مفسدين

و يتحركون في خط الباطل و الإنحراف، و لكن المقصود هو العلم و الاطّلاع على القيم الإنسانية، و التعاليم و المعارف الإلهيّة العالية، التي تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي و الأخلاقي، في مسيرته المعنوية.

علاقة «العلم» و «الأخلاق» في الأحاديث الإسلاميّة:

الأحاديث الإسلاميّة من جهتها، مشحونة بالعبارات الحكيمة الّتي تبيّن العلاقة الوثيقة بين العلم و المعرفة من جهةٍ، و بين الفضائل الأخلاقيّة من جهةٍ اخرى، و كذلك علاقة الجهل بالرّذائل أيضاً. و هنا نستعرض بعضاً منها:

1- بيّن الإمام علي عليه السلام علاقة المعرفة بالزهد، الذي يُعدّ من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة، فقال:

«ثَمَرةُ المَعرِفَةِ العُزُوفُ عِنْ الدُّنيا» «1».

2- وَ وَرد في حديثٍ آخر عنه عليه السلام، قال:

«يَسيرُ المَعرِفةِ يُوجِبُ الزُّهدَ فِي الدُّنيا» «2».

و المعرفة هنا يمكن أن تكون إشارةً لمعرفة الباري تعالى، فكلّ شي ء في مقابل ذاته المقدّسة لا قيمة له، فما قيمة القَطرة بالنسبة للبحر، و نفس هذا المعنى يمثّل أحد أسباب الزهد في الدنيا و زبرجها، أو هو إشارةٌ لعدم ثبات الحياة في الدّنيا، و فناء الأقوام السّابقة، و هذا المعنى أيضاً يحثّ الإنسان على التّحرك في سلوكه و أفكاره، من موقع الزّهد، و يوجّهه نحو الآخرة و النّعيم المقيم، أو هو إشارةٌ لجميع ما ذُكر آنفاً.

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 157

3- وَ وَرد عنه عليه السلام في حديث آخر، بيان علاقة الغِنى الذّاتي، و ترك الحرص على الامور الدنيوية، بالعلم و المعرفة، فقال:

«مَنْ سَكَنَ قلْبَهُ العِلْمُ بِاللَّهِ سُبحانَهُ سَكَنَهُ الغِنى عَنْ الخَلْقِ» «1».

و من الواضح أنّ الذي يعيش المعرفة، بالصّفات الجماليّة و الجلاليّة للباري تعالى، و يرى أنّ العالم كلّه، هو إنعكاسةٌ أو ومضةٌ، من شمس ذاته الأزليّة الغنيّة بالذات، فيتوكل عليه فقط، و يرى نفسه

غنيّاً عن الناس أجمعين، في إطار هذا التوكّل و الاعتماد المطلق على اللَّه تعالى.

4- و جاء في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، حول معرفة اللَّه و علاقتها بحفظ اللّسان من الكلام البذي ء، و البطن من الحرام، فقال صلى الله عليه و آله:

«مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَ عَظَمَتَهُ مَنَعَ فاهُ مِنْ الكَلامِ وَ بَطْنَهُ مِنَ الحَرامِ» «2».

5- وَرَد عن الإمام الصّادق عليه السلام، علاقة المعرفة بالخوف منه تبارك و تعالى، الذي هو بدوره مصدر لكلّ أنواع الفضائل، فقال:

«مَنْ عَرَفَ اللَّهَ خافَ اللَّهَ وَ مَنْ خافَ اللَّهَ سَخَتَ نَفْسَهُ عَنِ الدُّنيا» «3».

6- بالنّسبة للعفو و قبول العذر من الناس، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أَعْرَفُ النَّاسِ بِاللَّهِ أَعْذَرَهُم لِلنّاسِ و إِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُم عُذراً» «4». (و من البديهي أنّ هذا الحديث ناظرٌ إلى المسائل الشخصيّة، لا المسائل الإجتماعيّة).

7- حول معرفة اللَّه و ترك التكبّر، قال عليه السلام:

«وَ إِنَّهُ لا يَنبَغِي لَمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللَّهِ أنْ يَتَعَظَّمُ» «5».

8- حول العلم و العمل، قال عليه السلام:

«لَن يُزَّكى العَمَلُ حتّى يُقارِنَهُ العِلْمُ» «6».

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 237.

(3). المصدر السابق، ص 68، ح 4.

(4). غُرر الحِكم.

(5). نهج البلاغة، الخطبة 147.

(6). غُرر الحِكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 158

و من المعلوم أنّ طهارة العمل لا تنفكّ عن طهارة الأخلاق.

9- و نقرأ في حديثٍ آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، حول هذا الموضوع:

«بِالعِلمِ يُطاعُ اللَّهُ وَ يُعبَدُ وَ بالعِلمِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَ يُوَحَّدُ وَ بِهِ تُوصَلُ الأَرحامُ وَ يُعْرَفُ الحَلالُ وَ الحَرامُ وَ العِلمُ إِمامُ العَمَلِ». «1»

ففي هذا الحديث، إعتبر كثيراً من السّلوكيّات الأخلاقيّة الإيجابيّة، هي ثمرةٌ من ثمار العلم و المعرفة.

10- ورد

نفس هذا المعنى بصراحةٍ أقوى عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال:

«ثَمَرَةُ العَقلِ مُداراةُ النَّاسِ» «2».

و في مقابل الأحاديث التي تتحدث عن العلم و المعرفة، و علاقتها بالفضائل الأخلاقيّة توجد أحاديث شريفة اخرى، وردت في المصادر الإسلاميّة حول علاقة الجهل بالرذائل، و هي تأكيد آخر لموضوع بحثنا هذا و منها:

1- في حديثٍ عن علي عليه السلام قال: «الجَهلُ أَصلُ كُلِّ شرٍّ» «3».

2- و ورد أيضاً عنه عليه السلام: «الحِرصُ وَ الشَّرَهُ و البُخلُ نَتِيجَةُ الجَهلِ» «4».

لأنّ الحريص أو الطّماع، غالباً ما يتحرك في طلب امورٍ زائدةٍ عن إحتياجه، و في الحقيقة فإنّ ولعه بالمال و الثّروة و المواهب الماديّة، ولعٌ غير منطقي و غير عقلائي، و هكذا حال البخيل أيضاً فبِبُخله يحرص، و يحافظ على أشياء لن يستفيد منها في حياته، بل يتركها لغيره بعد موته.

3- و نقل عنه عليه السلام في تعبيرٍ جميلٍ:

«الجَاهِلُ صَخْرَةٌ لا يَنْفَجِرُ مائُها! وَ شَجَرَةٌ لا يَخْضَرُّ عُودُها! وَ أَرْضٌ لا يَظهَرُ عُشْبُها!» «5».

______________________________

(1). تحف العقول، ص 21.

(2). غُرر الحِكم.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

(5). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 159

4- وَ وَرد عنه عليه السلام أيضاً، في إشارةٍ إلى أنّ الجاهل يعيش دائماً في حالة إفراطٍ أو تفريطٍ، فقال:

«لا تَرى الجَاهِلَ إلّا مُفْرِطاً أو مُفَرِّطاً» «1».

فطبقاً للرأي المعروف عن علماء الأخلاق، أنّ الفضائل الأخلاقيّة هي الحد الأوسط بين الإفراط و التفريط، الذي ينتهي إلى السّقوط في الرذائل، و يُستفاد من الحديث أعلاه، أنّ العلاقة بين الجهل من جهة و الرذائل الأخلاقيّة، من جهةٍ اخرى، هي علاقةٌ و طيدةٌ جدّاً.

5- يقول كثير من علماء الأخلاق، أنّ الخُطوة الاولى لإصلاح الأخلاق، و تهذيب النّفس، هي المحافظة على اللّسان و الإهتمام بإصلاحه،

و قد ورد في الأحاديث الإسلاميّة، تأكيد على علاقة الجهل ببذاءة اللّسان، فنقرأ في حديثٍ عن الإمام الهادي عليه السلام: «الجَاهِلُ أَسِيرُ لِسانِهِ» «2».

و خُلاصة القول، أنّ الرّوايات الإسلاميّة الكثيرة أكدت على علاقة العلم بالأخلاق الحسنة، و الجهل بالأخلاق السيّئة، و كلّها تؤيد هذه الحقيقة، و هي أنّ إحدى الطّرق المؤثرة لتهذيب النّفوس، هو الصّعود بالمستوى العلمي و المعرفي لِلأفراد، و معرفة المبدأ و المعاد، و العلم بمعطيات الفضائل و الرذائل الأخلاقية، في واقع الإنسان و المجتمع.

هذا الصعود بالمستوى العلمي للأفراد على نحوين:

النحو الأول: زيادة المعرفة بسلبيات السّلوك المنحرف، و الإطّلاع على أضرار الرذائل الأخلاقية بالنسبة للفرد و المجتمع، فمثلًا عند ما يُحيط الإنسان علماً، بأضرار المواد المخدّرة أو المشروبات الكحولية، و أنّ أضرارها لا يمكن اصلاحها على المستوى القريب، فذلك العلم سيهيّى ء الأرضيّة في روح الإنسان، للإقلاع عن تلك السلوكيّات المضرّة، و بناءً عليه فكما أنّه يجب تعريف النّاس بمضرّات المخدرات، و المشروبات الكحولية، و علينا تعريف النّاس بطرق مُحاربة الرّذائل و إحصاء عُيوبها، و أساليب تنمية الفضائل، و إستجلاء محاسنها، و رغم أنّ ذلك لا يُمثّل العلّة التّامة لإحداث حالة التغيير، و التّحول في الإنسان، و لكّنه بلا شك يمهّد

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الرقم 70.

(2). بحار الانوار، ج 75، ص 368.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 160

و يهيّئ الأرضيّة المساعدة لذلك.

القسم الثاني: الصّعود بالمستوى العلمي بصورةٍ عامّةٍ، فعند ما يطّلع الإنسان على المعارف الإلهيّة، و منها المبدأ و المعاد، و أقوال الأنبياء و الأولياء، و ما شابه ذلك، فإنّ الإنسان سيجد في نفسه ميلًا نحو الفضائل، و رغبةً في الإبتعاد عن الرّذائل.

و بعبارةٍ اخرى: إنّ تدنّي المستوى العلمي بالامور العقائدية، كفيل بخلق محيطٍ

مناسب لنمو الرذائل، و العكس صحيحٌ فإنّ زيادة المعرفة تبعث في روح الإنسان الرّغبة و الشّوق نحو ممارسة الفضيلة.

5- دور الثّقافة الإجتماعيّة في تربية الفضائل و الرذائل:

اشارة

الثّقافة عبارة عن مجموعةٍ من الامور، التي تبني فكر و روح الإنسان، و تمنحه الدّافع الأصلي للتحرك نحو المسائل المختلفة.

و على مستوى المِصداق، تمثّل الثّقافة مجموعةً من العقائد، و التاريخ و الأدب و الفن، و الآداب و الرّسوم لمجتمعٍ ما.

و قد تكلمنا في السّابق عن بعض معطيات البيئة و المحيط و المعرفة، و دورها في إيجاد الفضائل و الرّذائل، و نتطرّق الآن لباقي أقسام الثّقافة الإجتماعيّة، و دورها في تحكيم و تقوية عناصر الخير، و دعامات الفضائل في واقع النّفس، أو تعميق عناصر الرّذيلة فيها.

و أحد هذه الامور، العادات و التقاليد و السّنن لقومٍ من الأقوام، فإذا إستوحت مقوّماتها من الفضائل، فستكون مؤثّرة في خلق الأجواء المناسبة لتربية و تهذيب النّفوس، و أمّا لو إسترفدت قوتها و حياتها من الرّذائل الأخلاقيّة، فستكون البيئة مهيّئة لتقبل أنواع القبائح أيضاً.

وَ وَرد في القرآن الكريم إشاراتٌ واضحةٌ في هذا المجال، تبيّن كيفيّة إنحراف الأقوام السّابقة، بسبب الثّقافة المنحرفة و التقاليد و الأعراف المنحطة لديهم، و الّتي أدّت بهم إلى السّقوط في

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 161

منزلقات الخطيئة، و الإنحدار في هاوية الرذائل الأخلاقية، و منها:

1- «وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» «1».

2- «وَ إِذَا قِيلَ لَهُم اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لَا يَهْتَدُونَ» «2».

3- «إِذْ قَالَ لِابِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ

لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَها عَابِدِينَ» «3».

4- «وَ كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» «4».

5- «وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» «5».

6- «وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَ هُوَ كَظِيمٌ* يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» «6».

7- «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» «7».

تفسير و إستنتاج:

ما نستوحيه من الآيات الكريمة محلّ البحث، هو أنّ ثقافة الأقوام و الامم السّالفة، لها دورٌ

______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 28.

(2). سورة البقرة، الآية 170.

(3). سورة الأنبياء، الآية 52 و 53.

(4). سورة الزخرف، الآية 23.

(5). سورة الأعراف، الآية 82.

(6). سورة النّحل، الآية 58 و 59.

(7). سورة الفتح، الآية 29.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 162

فاعل في تربية و نمو الصفات الأخلاقيّة، أيّاً كانت، فإذا كانت الثّقافة السّائدة بمستوى مرموق، فمن شأنها أن تفرز لنا أفراداً ذوي صفاتٍ حميدةٍ و أخلاقٍ عاليةٍ، و العكس صحيح، و الآيات الكريمة السّابقة الذّكر، تُشير إلى المعنيين أعلاه.

ففي «الآية الاولى»: نقرأ قول الأقوام السّالفة، الّذين يعيشون الإنحراف، و يمارسون الخطيئة من موقع الوضوح في الرؤية، فإذا سُئلوا عن الدّافع لمثل هذه التصرفات الشائنة، و السلوكيات المنحرفة، قالوا بلغة التّبرير: «وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ...».

و لم يكتفوا بذلك بل تعدّوا الحدود، و قالوا: «وَ اللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا».

بناءً على ذلك، فإنّهم إتخذوا سُنّة الّذين

مَضوا من قبلهم دليلًا على حسن أعمالهم، و لم يخجلوا من أفعالهم القبيحة، على مستوى النّدم و الإحساس بالمسؤوليّة، بل كانوا يعطوها الصّبغة الشرعيّة أيضاً.

«الآية الثّانية»: طرحت نفس المعنى و لكن بشكل آخر، فعند ما كان الأنبياء يدعون أقوامهم إلى الشريعة الإلهيّة النّازلة من عند اللَّه تعالى، كانوا يتحرّكون في المقابل من موقع العناد و التكبّر، و يقولون بِغرور: (سنتّبع سنّة آبائنا).

و لم يكن سبب ذلك، إلّا لأنّهم وجدوا آبائهم يؤمنون بها و يتّبعونها، و بذلك لبست ثياب القداسة و إعتبروها ديناً في حركة الحياة و الواقع، فهي عندهم أفضل من آيات القرآن الكريم، و شرائع الباري تعالى: «وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا»، و عليه، فلما ذا فضّلوا العمل بسنّة الجهلاء، على إتّباع آيات الوحي الإلهي؟.

و يضيف القرآن الكريم قائلًا: «أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لَا يَهْتَدُونَ».

وَ وَرد في «الآية الثّالثة»: الكلام عن السّنن و عادات الأقوام أيضاً، و دور الثّقافة الخاطئة في صياغة الأعمال المتقاطعة مع الأخلاق، ففي بيان يشابه الآيات الماضية، نقرأ قصّة إبراهيم

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 163

و عبدة الأصنام في بابل، فعند ما كان يلومهم إبراهيم عليه السلام لعبادتهم الأصنام التي لا تضرّ و لا تنفع، كانوا يقولون بصراحة: وجدنا آباءنا لها عاكفين: «إِذْ قَالَ لِابِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ».

فأجابهم إبراهيم عليه السلام بأشدّ الكلام و أغلظه، بقوله: «وَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».

و لكن و للأسف الشديد، إنتقل هذا الضّلال المبين إلى الأجيال، جيلًا بعد جيل، فأصبح جزءاً من ثقافتهم، و

أكسبه توالي الزّمن عليه مسوح القداسة، فلم يمح قبحه فحسب، بل أصبح من إفتخاراتهم على المستوى الحضاري و الدّيني.

«الآية الرابعة»: توحي لنا نفس المعنى، و لكن بشكلٍ آخر، ففي معرض جوابهم على السّؤال القائل: لماذا تعبدون هذه الأصنام رغم أنّكم تعيشون سلامة العقل؟، تقول الآية على لسانهم: «بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدنا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ».

فليس أنّهم لم يعتبروا هذه الحماقة، ضلالةً فحسب، بل إعتبروها هدايةً و فلاحاً، و رثوه عن آبائهم الماضين، و ذكرت «الآية التي بعدها» أنّ هذا هو طريق و منطق كلّ المترفين على طول التاريخ، و قالت: «وَ كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ».

و من البديهي أنّ ذلك التقليد الأعمى، الذي كان يظهر جميلًا في ظلّ تلك القبائح، له أسبابٌ كثيرةٌ و أهمّها تبدّل ذلك القُبح إلى سُنّةٍ و ثقافةٍ بمرور الزّمن.

و ورد نفس هذا المعنى في الآية (103 و 104) من سورة المائدة، فقد إبتدع عرب الجاهليّة بدَعاً ما أنزل اللَّه بها من سلطان، فكانوا يحلّون الطعام الحرام و يحرّمون الطعام الحلال، و كانوا يتمسكون بالخرافات و العادات السيئة، و لا يقلعون عنها أبداً، و يقولون: «حَسْبُنا ما وَجَدنا عَلَيهِ آبائَنا».

و يتبيّن ممّا تقدم من الآيات الكريمة، تأثير العادات الخاطئة و السّنن البائدة، في قلب

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 164

الامور رأساً على عقب، بحيث يضحى الخطأ صواباً في الواقع الأخلاقي و الفكري لدى النّاس.

و في «الآية الخامسة»: يوجد موضوع جديد بالنّسبة لِدَور العادات و السّنن في تحول القيم الأخلاقيّة، و هو: أنّ قوم لوط الذين سوّدوا وجه التّأريخ بأفعالهم الشّنيعة،

(و لِلأسف الشّديد، نرى في عصرنا الحاضر، أنّ الحضارة الغربيّة أقرّت تلك الأفعال على مستوى القانون أيضاً)، فعند ما دعاهم لوط عليه السلام، و القلّة من أصحابه، إلى التّحلي بالتّقوى و الطّهارة في ممارساتهم و أفعالهم، تقول الآية أنّهم إغتاظوا من ذلك بشدّةٍ: «وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ».

فالبيئة الملوّثة، و السّنن الخاطئة و الثّقافة المنحطّة أثّرت فيهم تأثيراً سلبياً، ممّا حدى بهم إلى إعتبار الطّهارة و التّقوى جنايةً، و الرّذيلة و القبائح من عناصر العزّة و الإفتخار، و من الطّبيعي، فإنّ الرذائل تنتشر بسرعةٍ في مثل هذه البيئة، التي تعيش أجواء الإنحطاط و الخطيئة، و تندرس فيها الفضائل كذلك.

«الآية السادسة»: تقصّ علينا قصّة وأدِ البنات الُمريعة في العصر الجاهلي، و لم يكن سبب ذلك سوى تحكيم الخُرافات و السّنن الخاطئة في واقع الفكر و السلوك لدى الأفراد، فقد كانت ولادة البنت في الجاهليّة عاراً على المرء، و إذا ما بُشّر أحدهم بالانثى يظلّ وجهه مسودّاً من فرط الألم، و الخجل، على حدّ تعبير القرآن الكريم «1»: «وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَ هُوَ كَظِيمٌ* يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ».

و لا شكّ أنّ القتل من أقبح الجرائم، و خصوصاً إذا كان القتيل طفلًا وليداً جديداً، و لكن

______________________________

(1). قال بعض المفسّرين: بناءً على العلاقة الوثيقة بين القلب و الوجه، فإذا ما فرح الإنسان، يتحرك الدّم الشّفاف نحو الوجه و يصبح الوجه مضيئاً و نورانياً، و عند ما يهتم و يغتم الإنسان فإنّ الدورة الدموية تقل سرعتها و يصفّر الوجه

و يسود، و تعتبر هذه الظاهرة، علامةً للفرح أو الحُزن: (تفسير روح المعاني ... ذيل الآية الشريفة).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 165

السّنن الخاطئة و التقاليد الزائفة، التي كانوا عليها مَحَقت القُبح من هذه الجريمة النّكراء، و جعلت منها فضيلةً.

و بالنّسبة لوأد البنات الفضيع، جاء في بعض التّفاسير: أنّ البعض من هؤلاء الجاهلين، كانوا يستخدمون اسلوب الدّفن للبنات، و بعض يغرقونهن، و البعض الآخر كانوا يفضّلون رميهنّ من أعلى الجبل، و قسم آخر كانوا يذبحون بناتهم «1»، و أمّا بالنسبة لظهور هذا الأمر عند العرب، و تأريخه و الدافع الأصلي له، فقد وردت أبحاثٌ مفصّلة لا يسع المقام لذكرها الآن «2».

و الكلام في كيفيّة تمهيد الطريق للرذائل الأخلاقيّة، من خلال تلك السّنن الخاطئة، و العادات الزّائفة، و كيف تحلّ الرذائل مكان الفضائل، هو دليلٌ و شاهدٌ آخر على أنّ الثّقافة تُعتبر من الدّواعي المهمّة لتفعيل عناصر الفضيلة، أو تقوية قوى الإنحراف و الرذيلة، في واقع الإنسان، و بالتّالي فإنّ أوّل ما يتوجب على المصلحين، في حركتهم الإصلاحية، هو إصلاح ثقافة المجتمع و السير بها في خط العقل و الدّين.

و نرى في عصرنا الحاضر ثقافات زائفة، لا تتحرك بعيداً عمّا كان في عهد الجاهليّة، حيث أضحت مصدراً لأنواع الرذائل الأخلاقيّة في حركة الحياة الإجتماعية، و قد إنعقد في السّنوات الأخيرة مؤتمراً عالمياً في بكين عاصمة الصين، و شارك فيه أغلب دول العالم، و نادى فيه المشاركون بالعمل لتثبيت ثلاثة اصول، و أصرّوا عليها من موقع إحترام حقّ الإنسان و هي:

1- حريّة العلاقات الجنسيّة للمرأة.

2- الجنسيّة المثليّة.

3- حرّية إسقاط الجنين.

و قد واجهت هذه الامور معارضةً شديدةً من قبل بعض الدول الإسلامية، و منها الجمهورية الإسلامية.

و من الطبيعي، عند

ما يُدافع نواب الدّول المتحضّرة عن مثل هذه الامور الشنيعة، تحت

______________________________

(1). تفسير روح المعاني، ج 14، ص 154، في ذيل الآية المبحوثة.

(2). تفسير الأمثل، ذيل الآية 58 من سورة النحل.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 166

ذريعة الدفاع عن حقوق المرأة، فأيّة ثقافةٍ سوف تظهر للوجود؟، و أيّة رذائل ستنتشر في المجتمع؟، الرذائل التي لا تضرّ بالمسائل الأخلاقيّة للناس فحسب، بل و ستؤثر أيضاً على حياتهم الإجتماعيّة و الإقتصاديّة، من موقع إهتزاز المبادى ء الإنسانيّة في منظومة القيم.

«الآية السابعة»: تستعرض علاقة الفضائل بثقافة المحيط و البيئة، فما وردنا من أحاديث عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، تبيّن مدى الرّقي الأخلاقي الذي حصل في المجتمع المظلم آنذاك، نتيجة النّهضة الفكريّة و الأخلاقيّة التي جاء بها الإسلام إلى ذلك المجتمع، فيقول القرآن الكريم:

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ».

و عبارة: «فالذين معه»، لا تحصر هذه المعيّة في زمانِ خاصٍّ، و مكانٍ معيّنٍ، بل تمتد إلى المعيّة في القيم الأخلاقيّة، و الأفكار الأنسانيّة، فكلّ من يقبل تلك الثّقافة الإلهيّة المحمديّة يكون من مصاديق الآية.

علاقة الآداب و السّنن بالأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة:

أعطى الإسلام أهميةً كبيرةً لهذه المسألة، ألا و هي، سنّ السنن الصّالحة، و الإبتعاد عن السنن السّيئة، و للمسألة إنعكاساتٌ و أصداءٌ كبيرةٌ في الأحاديث الإسلامية، و يستفاد من مجموع تلك الأحاديث، أنّ الهدف هو سنّ العادات الصّالحة، كي تتهيّأ الأرضية اللّازمة للتحلّي بالأخلاق الحميدة، و إزالة الرذائل الأخلاقية من واقع النفس و السّلوك، و منها:

1- ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «خَمْسٌ لا أَدَعُهُنَّ حَتّى المَماتِ الأَكْلُ عَلَى الحضِيضِ مَعَ

العَبِيدِ ...، و حَلْبُ العَنزِ بِيَدي وَ لَبْسُ الصُّوفِ وَ التَّسلْيمُ عَلَى الصِّبيانِ، لَتَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعدِي» «1».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 73، ص 66.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 167

و الهدف من كلّ ذلك، هو إيجاد روح التّواضع عند الناس من خلال الإقتداء بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، في حركة السّلوك الإجتماعي.

2- و جاء في حديثٍ آخر عنه صلى الله عليه و آله. أنّه قال:

«مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً عُمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ كانَ لَهُ أَجْرَهُ وَ مِثلَ اجُورِهِمْ مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ اجُورِهِمْ شَيئَاً، و مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيَّئَةً فَعُمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ كانَ عَلَيهِ وِزْرَهُ وِ مثلَ أَوزارِهِم مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوزَارِهِمْ شَيئاً» «1».

و ورد في بحارالأنوار نفس هذا المضمون.

و نقل هذا الحديث بتعابير مختلفةٍ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و الإمام الباقر و الإمام الصّادق عليهما السلام، و هو يُبيّن أهمية الّتمهيد للأعمال الأخلاقيّة، و أنّ التّابع و المتبوع هما شريكان في الثواب و العقاب، و الهداية و الضّلال.

3- و لذلك أكّد الإمام علي عليه السلام، على مالك الأشتر هذا المفهوم أيضاً، لحفظ السنن الصالحة، و الوقوف في وجه من يريد أن يكسر حرمتها، فيقول:

«لا تَنْقُضْ سُنَّةً صالِحَةً عَمِلَ بِها صُدُورُ هذِهِ الامَّةِ و إجتَمَعَتْ بِها الالفَةُ وَ صَلُحَتْ عَلَيها الرَّعِيَّةٌ، و لا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشي ءٍ مِنْ ماضِي تِلكَ السُّنَنِ فَيَكُونُ الأَجرُ لِمَنْ سَنَّها وَ الوِزرُ عَلَيكَ بِما نَقَضَتْ مِنْها» «2».

و بما أنّ السّنن الحسنة تساعد على تعميق عناصر الخير، و نشر الفضائل الأخلاقيّة في واقع المجتمع، فهي تدخل في مصاديق الإعانة على الخير و نشر السّنن الحميدة، و أمّا إحياء السّنن القبيحة و الرذائل

الأخلاقية، فتدخل في مصاديق الإعانة على الإثم و العدوان، و نعلم أنّ فاعل الخير و الدّال عليه شريكان في الأجر، و كذلك فاعل الشّر و الدّال عليه شريكان في العقاب أيضاً، من دون أن يقل من ثواب العاملين، أو عقابهم شي ء.

و السّنة الحسنة بدرجةٍ من الأهمية، بحيث قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، في الرواية المعروفة في

______________________________

(1). كنز العمال، ح 43079، ج 15، ص 780.

(2). نهج البلاغة، رسالة 53.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 168

حقّ جدّه الكريم:

«كَانَتْ لِعَبدِ المُطَّلِبِ خَمساً مِنَ السُّنَنِ أَجراها اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِي الإِسلامِ: حِرَّمَ نَساءَ الآباءِ عَلَى الأبناءِ، وَ سَنَّ الدِّيَةَ فِي القَتْلَ مأَةٍ مِنَ الإبلَ، وَ كَانَ يَطُوفُ بِالبَيتِ سَبَعَةَ أَشواطٍ، وَ وَجَدَ كَنزاً فَأَخْرَجَ مِنْهُ الخُمسَ، وَ سَمّى زَمزَمَ حِينَ حَفَرَها سِقايَةَ الحاجِّ».

و يستخلص من مجموع ما تقدم أنّ الآداب و السّنن و العادات، لها معطياتٌ مهمّةٌ، على مستوى إيجاد الفضائل أو تكريس الرّذائل على حدّ سواء، و لذلك أكّد عليها الإسلام تأكيداً شديداً و جعل الثّواب لمن يسنّ السّنن الصالحة، و العقاب لمن يسنّ السّنن الرّذيلة، و إعتبرها من الذنوب الكبيرة.

6- علاقة العمل بالأخلاق

اشارة

صحيح أنّ أعمال الإنسان تتبع أخلاقه الظاهريّة و الباطنيّة، بحيث يمكن القول أنّ الإنسان يتأثر في سلوكه العملي، بأخلاقه الباطنية الكامنة في عالم اللّاشعور، و لكن من جهةٍ اخرى، يمكن لأعمال الشّخص أن تؤُثر في أخلاقه، من خلال صياغة المضمون للصّفات الأخلاقيّة في واقع الإنسان و محتواه الباطني، و معناه أنّ عمليّة الممارسة المستمرة، لعملٍ ما حسناً كان أو قبيحاً، سيؤثر في نفسيّة الإنسان، و يحوّل ذلك العمل إلى حالةٍ باطنيّةٍ، و بالإستمرار يصبح من ملكات الإنسان الأخلاقيّة الحسنة، أو القبيحة، و بناءً

عليه فإنّ من الطرق المؤثرة لتهذيب النّفوس، هو تهذيب الأعمال في حركة الواقع الخارجي، فمن مارس الأعمال القبيحة، فسوف تتحول على أثر التّكرار إلى ملكةٍ سيّئةٍ في أعماق روحه، و تكون السّبب في ظهور الرّذائل الأخلاقيّة في دائرة السّلوك و الممارسة.

و بناءً على ذلك نرى التأكيد في الرّوايات على أنّ يستغفر الناس بسرعةٍ عند الخطأ، و يغسلوا تلك الآثار بماء التوبة، كي لا تخلّف آثارها السّلبية على القلب، و تتحول إلى ملكاتٍ أخلاقيّةٍ قبيحةٍ.

و بعكسها نجد التأكيد على تكرار الأعمال الصّالحة، بشكلٍ مستمرٍ كي تصبح عادةً عند

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 169

الإنسان، في واقعه النفسي و الروحي.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، و نستعرض الآيات الشّريفة التي تشير إلى هذا المعنى:

1- «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «1».

2- «كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «2».

3- «أ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» «3».

4- «وَجَدْتُهَا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ» «4».

5- «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «5».

6- «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» «6».

7- «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا» «7».

تفسير و إستِنْتاجٌ:

في «الآية الاولى»: نجد إشارةً إلى معطيات الذّنوب السّلبية على قلب روح الإنسان، فهي تسلب الصّفاء و النّورانية منه، و تحلُّ الظّلمة مكانه، فيقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

فجملة: «مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»، جاءت بصيغة الفعل المضارع، الذي يدلّ على الإستمرار،

______________________________

(1). سورة المطففّين، الآية 14.

(2). سورة يونس، الآية

12.

(3). سورة فاطر، الآية 8.

(4). سورة النمل، الآية 24.

(5). سورة الكهف، الآية 103.

(6). سورة النساء، الآية 17.

(7). سورة التوبة، الآية 102

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 170

الاخلاق فى القرآن ج 1 190

بمعنى أنّ الأعمال القبيحة، بإمكانها أن توجد تغييرات و تحولات كبيرة، في قلب الإنسان و روحه، فهي كالصّدأ الذي يحجب نورانيّة وصفاء المرآة و يكدّرها.

فالرّذيلة تُقسّي القلب و تسلبه الحَياء، في مقابل الذّنب، فيغلب عليه الشّقاء و الظّلمة، أمّا «الرّين» على وزن «عين»، فهو الصّدأ يعلو على الأشياء الثمينة، نتيجةً لرطوبة الجوّ، فيكوّن طبقةً حمراء تُغطّي ذلك الشّي ء، و هو علامة على فساد ذلك الفِلِز.

فإختيار هذا التعبير هو إختيار مُناسب جدّاً، حيث أكدت عليه الرّوايات الإسلامية، مراراً و تكراراً، و بحثنا الآتي سيكون حول هذا الموضوع.

و في «الآية الثانية»: تعدّت مرحلة الرّين و أشارت إلى مرحلة «التّزيين»، و بناءً عليه فالتكرار لعملٍ ما، يبعث على تزيينه في عين الإنسان و نظره، و تتوافق معه النفس الإنسانية، لدرجةٍ يعتبره الإنسان من المواهب و الإفتخارات التي يتميز بها على الآخرين، فيقول اللَّه تعالى: «كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

فجملة: «مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، و كذلك «المسرفين»، هي دليلٌ واضحٌ على تكرارِ الذّنب من قبلهم، فالتّكرار لها، لا يمحو قُبحها فقط، بل و بالتّدريج ستتحول الخطيئة إلى فضيلةٍ في نظرهم، و هذا يعني في الحقيقة المسخ لشخصيّة الإنسان، و هو من النتائج المشؤومة لتكرار الذّنوب.

و هناك خلافٌ حول الفاعل، الذي يزيّن لهؤلاء الأفراد أعمالهم القبيحة ...

فقد ورد في بعض الآيات الكريمة، إنتساب ذلك الفعل إلى الباري تعالى، و إعتبره كعقابٍ لهم، لأنّهم أصرّوا على الذّنوب، فالتّزيين هو إستدراج لهم، و ليذوقوا وبال أعمالهم فقال الله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ

لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ» «1».

و في الآية (43) من سورة الأنعام، نسب ذلك الفعل للشّيطان الرّجيم، فيقول عن الكفّار

______________________________

(1). سورة النمل، الآية 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 171

المعاندين، الذين لا يحبون النّاصحين:

«وَ لَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون».

و مرةً اخرى نسب ذلك الفعل للأصنام، فيقول اللَّه تعالى «وَ كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) «1».

و اخرى (و كما ورد في الآية التي هي مورد بحثنا الآن)، ورد بصورة الفعل المبني للمجهول:

«أ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً».

و بنظرةٍ فاحصةٍ نرى، أنّ هذه التّعابير لا تتقاطع فيما بينها، بل أحدها يكمّل الآخر، فمرةً تكون الزّينة عاملًا على تكرار العمل، فالتّكرار يُقلّل من قبح العمل، و يصل إلى مرحلةٍ لا يحسّ معها بالذّنب، و بالإستمرار يحسُن في نظر صاحبه، فيُقيّده و لا يستطيع التّحرر من ذلك الفخ، الذي نُصب له، و هي حقيقةٌ يمكن للإنسان أن يلمسها، بالتتّبع و النّظر لحال المجرمين.

و في موارد اخرى، فإنّ الوساوس الشّيطانية الخارجيّة، و الوساوس الباطنيّة النفسيّة، تزيّن للإنسان سوء عمله، و يصل الأمر به إلى إرتكاب الكبائر، بحجة أنّه يؤدّي واجبه الدّيني فيغتاب شخصاً ما، بدون ذنبٍ و هو يتصور أنّه على حقٍّ، و لكن الحسد في الواقع هو الذي يدفعه الى ذلك، و التأريخ ملي ءٌ بمثل هذه الجنايات الفظيعة، فوساوس النّفس و الشّيطان لا تعمل على التّستر على قبح العمل فقط، بل تجعله من إفتخاراته.

و ربّما يعاقب الباري تعالى، أشخاصاً لعنادهم، و عدم قبولهم النّصحية، و لا يكون العقاب إلّا بتزيين سوء عمل الإنسان، لتشتدّ عقوبته و يفتضح أكثر فأكثر.

و يجب التّنويه، إلى أنّه و طبقاً للتّوحيد الأفعالي، فإنّ كلّ

عملٍ و أثرٍ موجودٍ في هذا العالم، يمكن أن يُنسب إلى اللَّه تعالى، لأنّ ذاته المقدّسة هي علّةٌ العلل، و لا يعني هذا الأمر أنّ الأفراد قد اجبروا على أفعالهم، فالحمد للَّه الذي جعل القوّة و القدرة على الفعل و منَحها لِعباده، و اللعنة على الذين يستعملون تلك القوّة في دائرة الشر و الذّنوب.

و ربّما تقتضي طبيعة الأشياء، التّزيين و الزخرفة، فنقرأ في الآيه (14) من سورة آل عمران:

______________________________

(1). سورة الأنعام، الآية 137.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 172

«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقُنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ ...».

و إحدى العوامل لتزيين الأعمال القبيحة في نظر الشّخص، التّكرار لها، فهو يُؤثر في نفس و روح الإنسان، و يغيّر أخلاقه، و العكس صحيحٌ، فإنّ تكرار الأعمال الحسنة يصبح ملكةً بالتدريج عند الإنسان، و يبدّله إلى أخلاقٍ فاضلةٍ، و لذلك و لأجل تهذيب النّفوس و نمو الفضائل الأخلاقيّة، نوصي السّالكين في هذا الطّريق، بالإستعانة بتكرار الأعمال الصّالحة، و أن يحذروا من تكرار الأعمال السيئة، فالأوّل هو المعين الناصح للإنسان، و الثاني عدوّ غدّار.

و «الآية الثالثة»: تتحدث عن تزيين سوء أعمال الإنسان أيضاً، فيقول تعالى: «أ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً».

فكما جاء في تفسير الآية السّابقة: فإنّ من العوامل لتزيين سوء الأعمال هو التّكرار، و التّطبيع عليها، و التّدريج يؤدّي إلى أن يفقد الإنسان، الإحساس بِقُبحها، و سوف يولع بها و يفتخر أيضاً.

و اللّطيف أنّ القرآن الكريم، عند ما يسأل ذلك السّؤال، لا يذكر النّقطة المقابلة لها، بصورةٍ مباشرةٍ، و يفسح المجال للسّامع، أن يتصور النّقطة المقابلة بنفسه، و يتفهمها أكثر، فهو يريد أن يقول: هل أنّ هذا الفرد، يتساوى مع من

يميّز الحق من الباطل في حركة الحياة؟، أو هل أنّ هؤلاء الأفراد، يشبهون الأفراد من ذوي القلوب الطّاهرة، الذين يعيشون حالة الإهتمام بمحاسبة أنفسهم، و البعد عن القبائح ...؟.

و يجب الإنتباه، الى أنّ اللَّه تعالى يقول، في ذيل الآية مخاطباً رسوله الكريم:

«فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ».

و هو في الحقيقة عقابٌ للّذين يفعلون القبائح، فيجب أن تكون عاقبتهم كذلك.

و قد جاء في تفسير، «في ظلال القرآن»: أنّ الباري تعالى إذا أراد أن يهدي الإنسان للخير، «بسبب نيّته و عمله»، فيجد في قلبه الحساسيّة و التّوجه الخاص لسوء الأعمال، فهو دائماً على حذرٍ من الشّيطان و الخطأ و الزّيغ و لا يأمن الإختبار، و ينتظر المَدد الإلهي دائماً، و هنا يكون

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 173

الفصل بين طريق الهداية و الفلاح، و بين خطّ الضّلال و الهلاك «1».

و قد ورد، أنّ أحد أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام، (او أحد أصحاب الإمام الرضا عليه السلام)، قال:

سألت الإمام عليه السلام ما هو العجب الذي يبطل عمل الإنسان؟

فقال عليه السلام: «العُجبُ دَرَجاتٌ مِنْها أَنْ يُزَيَّنَ لِلعَبْدِ سُوءُ عَمَلِهِ فَيَراهُ حَسَناً فَيُعْجِبُهُ وَ يَحْسَبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنعاً» «2».

و «الآية الرابعة»: تتحدث عن مَلِكَة سَبأ، و عاقبتها و الأخبار التي جاء بها الهدهد لسليمان عليه السلام، من تلك الأرض و اولئك القوم:

«وَجَدْتُهَا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ».

فالشّمس مع نورها الوهّاج، و عظمتها و فائدتها؛ لكنّ طلوعها و غروبها، و إنحجابها بالغيوم، تبيّن أنّها هي بدورها أيضاً تابعة لقوانين الكون، و لا إرادة لها أبداً، و لا تستحق التقدير. و لكنّ

الآباء علّمت الأبناء، و التربية الخاطئة و السُنّة الضّالة، و تكرار العمل، حَدَت بالنّاس لتصوّر القبيح في صورةٍ حسنةٍ، و في بعض البلدان، يعبدون البقر، و يؤدّون الطّقوس أمامها، و هو مدعاةٌ للسّخريّة و الضَّحِك، و لكنهم يفتخرون بذلك. و من العوامل المهمّة لذلك، هو التّكرار لذلك العمل الذي عوّد الإنسان على القبيح و جعله حسناً.

و قد يُنسب هذا الفعل للشّيطان، و لكن في الحقيقة، الشّيطان له وسائل متعدّدة للغواية، و منها التّكرار للقبيح و التعوّد عليه.

«الآية الخامسة»: لها نفس المحتوى الوارد في الآيات السابقة، و لكن بتعبيراتٍ جديدةٍ، حيث قال تعالى، مخاطباً رسوله الكريم: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً».

______________________________

(1). تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 675.

(2). نور الثقلين، ج 4، ص 351، ح 30.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 174

فالكلام عن المتضرّر الأوّل في المعركة، و هو الذي يصرف عمره و فكره و طاقته في الطّريق الغلط، و هو يحسب أنّه يُحسن صُنعاً، و هو فرحٌ و مسرورٌ و يفتخر بذلك.

فلما ذا يُبتلى الإنسان بهذه المصائب؟، ليس ذلك إلّا لأنّه تعوّد على القبائح، و إتّباع هوى النّفس، و الأنانية و العجب، فتجعل الحُجب على قلبه و عقله، فلا يرى الحقيقة واضحةً صائبةً كما هي.

و النتيجة لهذا الأمر، جاءت في الآية التي بعدها فقال تعالى «اولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِم وَ لِقائِهِ وَ حَبِطَتْ أَعْمَالَهُمُ».

و فسرت الروايات الإسلاميّة، هذه الآية بتفسيرٍ و تعبيراتٍ متعددةٍ، و كلٌّ منها هو في الحقيقة مصداقٌ للآية، فبعضها فسّرت الآية بالمنكرين لولاية أمير المؤمنين عليه السلام، و بعضها فسّرت الآية بالرّهبان المسيحيين، فهم الذين يتركون الدنيا بالكامل و

لذائذها، و هم في الحقيقة مخطئون، و يتحرّكون في دائرة الفكر و العمل في الطّريق المنحرف.

و البعض الآخر من الروايات، ذكرت في تفسيرها أنّهم أهل البدع من المسلمين؛ و اخرى فسّروها، بخوارج النّهروان، و قال آخرون: أنّها نزلت في أهل البدع من اليهود و النّصارى، فكلّ هؤلاء الأشخاص على خطأ و أعمالهم مليئةٌ بالإجرام و الظّلم، و لكنهم كانوا يحسبون أنّهم على صواب.

و تجدر الإشارة إلى أنّ، جملة: «حبطت أعمالهم»، التي جاءت في ذيل الآية، هي من مادة «حبط،» و من معانيها المعروفة هو البعير أو حيوان آخر، يأكل العلف بشراهةٍ، حتى العلف السّام و الضار بحيث يؤدي إلى إنتفاخ بطنه، و قد يؤدّي به في بعض الأحيان للموت، فالبعض يتصور أنّ ذلك هو دليل على قوته و قدرته، و لكنّ الحقيقة هي غير ذلك، بل هو المرض بعينه، أو مقدمةٌ لموته، و لكن الجهّال يعتبرونها من القوّة و القدرة.

و قسمٌ من النّاس يبتلون بمثل هذه العاقبة، فيكون كلّ سعيهم و قوتهم لهلاك أنفسهم، و هم يتصورون أنّهم سلكوا طريق السّعادة و الرفاه.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 175

«الآية السادسة»: تتناول مسألة قبول التّوبة من قبل اللَّه تعالى، لمن تتوفر فيهم بعض الشّرائط:

1- الّذين يعملون السّوء بجهالةٍ و لا يعرفون عواقب الذّنوب على نحو الحقيقة.

2- الّذين تابوا بسرعةٍ من أعمالهم القبيحة، فاولئك الّذين تشملهم الرّحمة الإلهيَّة، و يقبل اللَّه تعالى توبتهم، فقال:

«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً».

و المراد من كلمة «الجهالة»، التي وردت في الآيه، ليس هو الجهل المطلق الذي يوجب العذر؛ لأنّ العمل في حالات الجهل المطلق، لا يعتبر من

الذنب، بل هو الجهل النّسبي الذي لا يعلم معه عواقب و معطيات الذّنوب في حركة الواقع و الحياة.

و أمّا جملة: «يتوبون من قريب»، فقال البعض أنّها قبل الموت، و لكن إطلاق كلمة «قريب»، على فترة ما قبل الموت، التي ربّما تستغرق (50) سنة أو أكثر، لا تكون مناسبة لهذا النوع من التّفسير، و إستدل مؤيّدوا هذه النظريّة، برواياتٍ لا تشير إلى هذا التفسير، و لكنّها بيانٌ مستقلٌ و منفصلٌ عنه.

و قال البعض الآخر، إنّها الزّمان القريب لإرتكاب الذّنب، حتى تمسح التوبة الآثار السّيئة للذنب في روح و نفس الإنسان، و في غير هذه الصّورة، فستبقى الآثار في القلب، و هو ما يناسب كلمة القريب عُرفاً و لغةً.

«الآية السابعة»: تناولت مسألة الزكاة و معطياتها، فجاء الأمر للرّسول الكريم: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً».

و يتحدث القرآن الكريم عن الزّكاة، و بيان معطياتها الأخلاقيّة و المعنويّة، في خطّ التربية، و يقول: «تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا».

نعم، فإنّ دفع الزكاة يحدّ من الرّكون إلى الدنيا و زخارفها، و يقمع البخل في واقع النفس

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 176

البشريّة، و يحث الإنسان على مراعاة حقوق الآخرين، و يغرس فيه حبّ السّخاء و الإنسانيّة.

و علاوةً على ذلك، فإن دفع الزّكاة يقف بوجه المفاسد النّاشئة عن الفقر و الحرمان، و بأداء تلك الفريضة الإلهيّة، نكون قد شاركنا في إزالتها نهائياً، من واقع المجتمع، لذلك فإنّ الزّكاة تسهم في رفع الرّذيلة و الفقر في حركة الإنسان و الحياة، و تُحلّي الإنسان بالفضائل الأخلاقيّة، و هذا الأخير هو موضوع بحثنا، و هو دور العمل الصّالح و الطّالح، في تحريك عناصر الخير و الشّر، و الفضائل و الرذائل الأخلاقية، في واقع الإنسان و المجتمع.

و جاء نفس

هذا التعيبر بشكلٍ آخر في آية الحجاب فيقول تعال «إذا سَألُتمُوُهُنَّ مَتاعاً فَاسأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجابِ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لَقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ» «1».

فهذه الآية الشّريفة، تبيّن بوضوح أنّ التعفف في العمل يبعث على طهارة و نظافة القلب، و بالعكس فإنّ الجرأة على إرتكاب المنكر و عدم الحياء، يلوّث روح و قلب الإنسان، و يعمّق في نفسه الميل إلى الرذائل الأخلاقيّة.

النّتيجة:

كان الهدف من شرح الآيات الآنفة الذّكر، هو معرفة تأثير الأعمال في الأخلاق، و بلورتها لروح الإنسان، فلأجل بناء الذّات و تهذيب النّفس، يتوجب مراقبة أعمالنا من موقع الحذر و الإنضباط و المسؤوليّة، لأنّ تكرار الذّنب و الإثم يذهب بقبحه من جهة، و من جهة اخرَى يمنح الإنسان التعوّد عليه، و بالتدريج يصبح ذلك العمل ملكةً لديه، و لا يزعجه فقط، بل و يتحول إلى عنصر فخرٍ من إفتخاراته.

______________________________

(1). سورة الأحزاب، الآية 53.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 177

كيفيّة تأثير «العمل»، في «الأخلاق» في الرّوايات الإسلاميّة:

تعكس الأحاديث الإسلامية بوضوح، ما تقدّم من علاقة العمل بالأخلاق في الآيات الكريمة، ذلك المطلب بوضوح، و من تلك الأحاديث:

1- نقرأ في حديث عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال:

«ما مِنْ عَبْدٍ إلّا وَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيضاءٌ فَإذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ في النُّكْتَةِ نِكْتَةٌ سَوداءٌ فَإنْ تابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوادُ، و إنْ تَمادَى فِي الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوادُ حتَّى يُغَطِّي البَياضَ، فَإذَا غَطّى البَياضَ لَمْ يَرْجِعْ صاحِبُهُ إلَى خَيرٍ أَبَداً، وَ هُوَ قَولُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «1».

فهذه الرواية، تُبيّن بوضوح، أنّ تراكم الذّنوب يُفضي إلى ظهور الرذائل في سلوكيات الإنسان، و يدفعه بإتجاه الإبتعاد عن الفضائل، ممّا يورّث النّفس الإنسانيّة الغرق في الظّلام الكامل، و عندها لا يجد الإنسان فرصةً للرجوع إلى طريق الخير، و الانفتاح على اللَّه و الإيمان.

2- الوصيّة المعروفة عن أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام، حيث قال له: «إنَّ الخَيرَ عادَةٌ» «2».

و ورد نفس هذا المضمون، في كنز العمّال، في حديثٍ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «الخَيرُ عادَةٌ و الشَّرُ لَجاجَةٌ» «3».

و أيضاً نقل نفس هذا الحديث،

و بشكل آخر، عن الإمام السجّاد عليه السلام، أنّه قال:

«أُحِبُّ لِمَنْ عَوَّدَ مِنْكُمْ نَفْسَهُ عادَةً مِنَ الخَيرِ أَنْ يَدُومَ عَلَيها» «4».

فيستفاد من هذه الروايات، أنّ تكرار العمل، سواء كان صالحاً أم طالحاً، يسبّب في وجود حالة الخير أو الشر عند الإنسان، فإذا كان خيراً فسيشكل مبادي ء الخير في نفسه، و إن كان شرّاً فكذلك، و بكلمةٍ واحدةٍ هو التأثير المتقابل للأعمال، و الأخلاق في حركة الحياة، و

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 273، ح 20.

(2). بحار الأنوار، ج 74، ص 232.

(3). كنز العمّال، ح 28722.

(4). بحار الأنوار، ج 46، ص 99.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 178

الواقع النّفسي للإنسان.

3- ورد في حديثٍ آخر، عن علي عليه السلام في وصيّته المعروفة، للإمام الحسن عليه السلام:

«وَ عَوّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى المَكْرُوهِ، وَ نِعْمَ الخُلُقُ التَّصَبُّرُ في الحَقِّ» «1»

و يتبيّن هنا أيضاً، أنّ «العادة» هي وليدة، التكرار، للعمل مع الصّبر على صعوبات الحياة، من موقع الحقّ و المسؤوليّة.

4- ورد في الرّوايات، التّعجيل بالتّوبة و عدم التّسويف، لئلّا تبقى آثار الذّنوب فاعلةً في القلب، ممّا يؤدّي إلى تحولها إلى ملكةٍ أخلاقيّةٍ راسخةٍ في النفس، فنقرأ في حديثٍ عن الإمام الجواد عليه السلام، أنّه قال:

«تَأَخِيرُ التَّوبَةِ إِغتِرارٌ، وَ طُولُ التَّسْوِيفِ حَيرَةٌ ... وَ الإِصرارِ عَلَى الذَّنبِ آمن لِمَكْرِ اللَّهِ» «2».

و جاء في النّبوي الشّريف حديث آخر، لطيف عن التّوبة و تأثيرها الإيجابي، في تلاشي الذّنوب من واقع النّفس، فقال:

«مَنْ تابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيهِ وَ أُمِرَتْ جَوَارِحَهُ أَنْ تَسْتُرَ عَلَيهِ، وَ بِقاعُ الأرْضِ أَنْ تَكْتُمَ عَلَيهِ وَ أُنْسيَتِ الحَفَظَةُ ما كانَتْ تَكْتُبُ عَلَيهِ» «3».

فهذا الحديث يبيّن أنّ التوبة، تغسل الذّنوب و تعيد الصّفاء و القداسة الأخلاقيّة للإنسان.

و جاء هذا المعنى بصورة أوضح،

في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: «التَّوبَةُ تُطَهِّرُ القُلُوبَ وَ تَغْسِلُ الذُّنُوبَ» «4».

فهذا الحديث يبيّن أنّ الذنب يترك آثاره في القلب، في عمليّة تطبيع نفسي لعناصر المزاج، و لكن التّوبة تزيل هذه الآثار، و لا تفسح المجال لتشكّل تلك الأخلاق السلبية، في المحتوى الداخلي للفرد.

و ورد في التعيبر عن التّوبة بأنّها «طهور»، في رواياتٍ عديدةٍ، و هو يحكي عن علاقة

______________________________

(1). نهج البلاغة، رسالة 31.

(2). بحار الأنوار، ج 6، ص 30.

(3). كنز العمّال، ج 10، ص 79.

(4). غُرر الحِكم، ح 3837.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 179

الذّنب بظهور الحالات الباطنيّة القبيحة «1».

و ورد في المناجاة: الخمسة عشر، المعروفة للإمام السجاد عليه السلام، في القسم الأول منها، و هي مناجاة التّائبين:

«وَ أَماتَ قَلْبِي عَظِيمَ جِنايَتِي فأَحْيهِ بِتَوبَةٍ مِنْكَ يا أَمَلِي وَ بُغْيتَي» «2».

نعم! فإنّ الذّنب يكدّر القلب و يلوث النفس الإنسانية، و بتكرار الذنب فإنّ القلب يذبل و يموت، و لكنّ التوبة بإمكانها، أن تعيد النّشاط و الحياة للقلوب، لتعيش جو الإيمان و الطُّهر.

و بناءً عليه، فإنّه يتوجب على السائرين إلى اللَّه تعالى، تحكيم دعائم الفضائل الأخلاقيّة، في وجدانهم و سلوكياتهم، و لينتبهوا لمعطيّات و تبعات أعمالهم الإيجابيّة و السّلبية، فكلّ واحدٍ من تلك الأعمال سيؤثر في القلب، فإنّ كان خيراً فخَير، و إن كان شَرّاً فشرّ.

7- علاقة «الأخلاق» و «التّغذية»

اشارة

ربّما سيتعجب البعض من هذا العنوان، و ما هي علاقة الأخلاق و الروحيّات و الملكات النّفسية بالغذاء، فالأولى للرّوح و الثّانية للجسم، و لكن بالنّظر للعلاقة الوثيقة، بين الجسم و الروح في حركة الحياة و الواقع، فلن يبقى مجالًا للتعجب، فكثيراً ما تسبّب الأزمات الرّوحية في الإصابة بأمراضٍ جسديّةٍ، تضعف جسم الإنسان و تشل عناصر القوّة فيه، فيبيض الشّعر، و

تظلم العين، و تخور القوى عند الإنسان و العكس صحيح أيضاً، فإنّ الفرح و حالات الرّاحة التي يمرّ بها الإنسان، تنمي جسمه و تقوّي فكره، و قديماً توجّه العلماء لتأثير الغذاء على روحيّة الإنسان و سلوكه المعنوي، و تغلغَلت هذه المسألة في ثقافات الناس، على مستوى الموروث الفكري و الوعي الاجتماعي، فمثلًا شِرب الدّم يبعث على قساوة القلب، و العقيدة السّائدة هي أنّ العقل السّليم في الجسم السّليم.

و لدينا آياتٌ و روايات تشير إلى هذا المعنى، و منها الآية (41) من سورة المائدة، فقد

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 96، ص 121، و ج 91، ص 132.

(2). المصدر السابق، ج 91، ص 142.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 180

أشارت إلى فئةٍ من اليهود الذين مارسوا أنواعاً كثيرةً من الجرائم بحقّ الإسلام و المسلمين من قبيل التّجسس و تحريف الحقائق الواردة في الكتب السّماويّة، فقال الباري تعالى: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ».

و يعقّب مباشرةً قائلًا: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ».

و هذا التعبير يبيّن أنّ عدم طهارة قلوبهم، إنّما كان نتيجة لأعمالهم، الّتي منها تكذيب الرّسول و الآيات الإلهيّة، و أكلهم للحرام بصورةٍ دائمةٍ، و من البعيد في خطّ البّلاغة و الفصاحة، أن يأتي بأوصاف لا علاقة لها بجملة: «لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ».

و منها يعلم أنّ أكل السّحت يسوّد القلب و يُميته، و يكون سبباً لنفوذ عناصر الرّذيلة، و الزيغ، و الإبتعاد عن الخير و الفضائل.

و في الآية (91) من سورة المائدة، ورد الحديث عن شرب الخمر و لعب القمار، فقال عزّ من قائل: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ».

و لا شك فإنّ العداوة و البغضاء، هي من الحالات

الباطنيّة، التي ترتبط برابطةٍ وثيقةٍ مع شرب الخمر و لعب القمار، كما ورد في الآية الشريفة، و هو دليل على أنّ أكل السّحت و الشّراب الحرام يساعد على بروز الرذائل الأخلاقية، و تكريس حالات العداء و الخصومة بين الأفراد، في خط الشيطان.

و نقرأ في الآية (51) من سورة المؤمنون، قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَ اعْمَلُوا صَالِحاً».

و يعتقد بعض المفسّرين أنّ تقارن ذكر هذين الأمرين: و هما «أكل الطّيبات و العمل الصالح»، هو خير دليلٍ على وثاقة العلاقة بينهما، و هي إشارةٌ إلى أنّ إختلاف و تنوّع الأكلات و الأطعمة، له معطيات أخلاقية مختلفة و متنوّعة أيضاً، فأكل الطيّبات، يطيّب الرّوح و يصلح العمل، و بالعكس فإنّ الأكل الحرام يُظلم الرّوح، و يخبّث العمل «1».

و قد إستدلّ في تفسير «روح البيان»، و بعد إشارته لعلاقة العمل الصّالح بأكل الطيّبات،

______________________________

(1). يرجى الرجوع إلى تفسير الأمثل، ذيل الآية 51، من سورة المؤمنون.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 181

بالأشعار التالية:

و أشار في تفسير: «الإثني عشري»، في ذيل هذه الآية، إلى علاقة نورانيّة القلب و صفائه، و الأعمال الصّالحة بأكل الحلال «1».

علاقة التّغذية بالأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة:

هذه العلاقة لم ترد في الآيات القرآنية بصورةٍ واضحة، و لا يوجد لها سوى إشاراتٌ خفيفةٌ، و لكن هذا الأمر: «علاقة التّغذية بالأخلاق»، له صدى واسع في الرّوايات، و نورد منها:

1- نقرأ في الرّوايات الواردة، أنّ من شروط إستجابة الدّعاء هو الإمتناع عن أكل الحرام، حيث جاء شخص إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و قال له:

احِبُّ أنْ يُستَجاب دُعائِي، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «طَهِّرْ مَأَكَلَكَ وَ لا تَدْخُلْ بَطْنَكَ الحَرامَ» «2».

و جاء في حديثٍ آخر عنه صلى

الله عليه و آله، أنّه قال: «مَنْ أَحَبَّ أنْ يُستَجابَ دُعاءهُ فَليُطَيِّبْ مَطْعَمَهُ وَ مَكْسَبَهُ» «3».

و نقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعاءً بِظَهْرِ قَلبٍ قاسٍ» «4».

و يستنتج من ذلك، أنّ الأكل الحرام يُقسّي القلب، و لأجله لا يستجاب دعاء آكلي الحرام، و تتوضح العلاقة الوثيقة بين خبث الباطن و أكل الحرام، في ما ورد عن الإمام الحسين عليه السلام، في حديثه المعروف في يوم عاشوراء، ذلك الحديث الملي ء بالمعاني البليغة، أمام اولئك القوم

______________________________

(1). تفسير الإثني عشري، ج 9، ص 145.

(2). بحار الأنوار، ج 90، ص 373.

(3). المصدر السابق، ص 372.

(4). المصدر السابق، ص 305.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 182

المعاندين للحقّ من أهل الكوفة، فعند ما آيس من تحولهم إلى دائرة الحقّ و الإيمان، و إستيقن أنّهم لن يستجيبوا له في خط الرسالة قال لهم: إنّكم لا تسمعون إلى الحق لأنّه قد: «مُلِئَتْ بُطُونُكُم مِنَ الحَرامِ فَطبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِكُم» «1».

2- و يبيّن حديث آخر، علاقة الأكل الحرام بعدم قبول الصّلاة و الصّيام و العبادة، و منها ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «مَنْ أَكَلَ لُقْمَةَ حَرامٍ لَنْ تُقْبَلَ لَهُ صلاةُ أَربَعِينَ لَيلَةً، وَ لَمْ تُسْتَجَبْ لَهُ دَعوَةُ أَربَعِينَ صَباحاً، وَ كُلُّ لَحْمٍ يُنٌبِتُهُ الحَرامُ فَالنَّارُ أَولَى بِهِ، وَ إنَّ اللُّقْمَةَ الواحِدَةَ تُنْبِتُ اللَّحْمَ» «2».

و من الطبيعي فإنّ قبول الصّلاة له شروطٌ عديدةٌ، و منها: حضور القلب و طهارته من الدّرن و الغفلة، و الحرام يسلب منه تلك الطّهارة و الصّفاء، و يخرجه من أجواء النّور و الإيمان.

3- نقل عن الرسول الأكرام صلى الله عليه و آله، و الأئمّة عليهم السلام،

أنّ: «مَنْ تَرَكَ اللَّحْمَ أَربَعِينَ صَباحاً ساءَ خُلُقُهُ» «3».

و هذا الحديث يبيّن نصيحة طِبيّةً مهمّةً، و هي أنّ الإنسان إذا ترك أكل اللّحم، لمدّة طويلة، فسيورثه سوء الخلق و الإنقباض في النّفس، في دائرة التّفاعل مع الآخرين، و ورد في مقابله العكس أيضاً، و هو ذمّ الإفراط في تناول اللّحم و الإكثار منه، فإنّ من شأنه أن يورثه نفس الأعراض و الأمراض الخُلقية.

4- و قد ورد في كتاب: «الأطعمة و الأشربة»، روايات ذكرت العلاقة بين الأطعمة و الأخلاق الحسنة و السيئة و منها:

ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «عَلَيكُم بِالزَّيتِ فإنّهُ يَكْشِفُ المُرَّةَ ... وَ يُحْسِّنُ الخُلُقَ» «4».

5- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقِلَّ غَيْظَهُ فَلْيَأكُلْ لَحمَ الدُّراجِ» «5».

______________________________

(1). نقلًا عن كتاب «سخنان علي عليه السلام از مدينة تا كربلا»، ص 232.

(2). سفينة البحار، ج 1، مادة الأكل.

(3). وسائل الشيعة، ج 17، ص 25، الباب 12.

(4). المصدر السابق، ص 12.

(5). فروع الكافي، ج 6، ص 312.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 183

و هذا الحديث يبيّن بصورة جيدة علاقة الغذاء بالغضب و الصّبر.

6- في روايةٍ مفصّلة وردت في تفسير العياشي، نقلها عن الإمام الصّادق عليه السلام، حيث سئل عن علّة تحريم الدم، فقال عليه السلام:

«وَ أَمَّا الدَّمُ فَإَنَّهُ يُورِثُ الكَلَبَ وَ قَسْوَةَ القَلبِ وَ قِلَّةَ الرَّأفَةِ وَ الرَّحمَةِ لا يُؤمِنُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَدَهُ وَ والِدَهُ».

و في القسم الآخر من نفس الرواية، قال عليه السلام:

«وَ أَمَّا الخَمْرُ فإنَّه حَرَّمَها لِفِعْلِها وَ فَسادِها وَ قَالَ إِنَّ مُدْمِنَ الخَمْرِ كَعابِدِ الوَثَنِ، وَ يُورِثُ إِرتِعاشَاً وَ يُذْهِبَ بِنُورِهِ وَ يَهْدِمَ مُرُوَّتَهُ» «1».

7- و نقل في الكافي روايات متعددة،

عن العنب و علاقته بإزالة الغم، و منها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «شَكى نَبِيٌّ مِنَ الأنبِياءِ إِلى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ الغَمَّ فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِأَكْلِ العِنَبِ» «2».

فنلاحظ تأكيداً أشدّ على علاقة التغذية بالمسائل الأخلاقية، التي تعكس الحالة النفسية للفرد.

8- الأحاديث التي وردت في أكل الرمان كثيرة، و أنّها تنوّر القلب و تدفع وساوس الشيطان، فجاء عن الإمام الصّادق عليه السلام:

«مَنْ أَكَلَ رُمّانَةً عَلَى الرِّيقِ أَنارَتْ قَلْبَهُ أَربَعِينَ يَوماً» «3».

9- وَردت روايات متعددة في باب «الأكل»، نرى فيها العلاقة المطّردة بين التغذية و المسائل الأخلاقيّة، في دائرة الصّفات و الحالات النفسية، و منها الحديث الوارد عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، في وصيته لجعفر بن أبي طالب رضى الله عنه، فقال له: «يا جَعْفِرُ كُلِ السَّفَرجَلَ فَإِنّهُ يُقَوي القَلْبَ وَ يُشْجِعُ الجَبَانَ» «4».

10- و نقل عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، حديث يروي علاقة فضول الطعام بقساوة القلب،

______________________________

(1). تفسير البرهان، ج 1، ذيل الآية 3، سورة المائدة؛ و مستدرك الوسائل، ج 16، ص 163.

(2). الكافي، ج 6، ص 351، ح 4.

(3). المصدر السابق، ص 354، ح 11.

(4). المصدر السابق، ص 357، ص 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 184

فنقل عنه صلى الله عليه و آله في كتاب «أعلام الدّين»:

«إِيَّاكُم وَ فُضُولَ المَطْعَمِ فَإِنّهُ يَسِمُ القَلْبَ بِالقَسوَةِ وَ يُبْطِئ بِالجَوارحِ عَنِ الطّاعَةِ وَ يَصُمُّ الهِمَمَ عَنْ سِماعِ المَوعِظَةِ».

«فضول الطعام»: يمكن أن تكون إشارةً لإدخال الطعام على الطعام، و الأكل الزّائد عن الحاجة، أو أنّها تدل على تناول الطّعام المتبقي من الوجبات السّابقة، أي بقايا الطعام الفاسد، و على أيّة حال، فإنّ الحديث يدل على علاقة التّغذية

بالمسائل الأخلاقية، التي تُؤطّر سلوك الإنسان في حركة الحياة.

و ورد هذا المعنى أيضاً في بحار الأنوار الذي نقل الحديث عن رواة أهل السنة، و نقلوه أيضاً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «1».

و يستفاد من هذا الحديث ثلاثة امور:

1- إنّ الأكل الزائد يُقسّي القلب.

2- و يقعد الإنسان عن العبادة في دائرة الكسل و الاسترخاء.

3- يُصمّ آذانه في مقابل الوعظ، فلا تؤثر فيه النّصيحة و الموعظة في خطّ التربية، و هذا الأمر ملموس فعلًا، فإنّ الإنسان يثقل عند الأكل الكثير، و لا يكاد أن يؤدّي عبادته من موقع الشّوق و الرّغبة، و لا يبقى لديه نشاط في خطّ العِبادة، و بالعكس في حالة ما إذا تناول طَعاماً خفيفاً، فسيكون دائماً على نشاطٍ في حركة الإيمان، و يؤدّي عباداته و وظائفه في وقتها المعين لها.

و كذلك بالنّسبة للصّيام، فهو يرقّق القلب و يهيئ الإنسان لقبول المواعظ، و بالعكس عند ما يكون الإنسان ملي ء البطن، فإنّه لا يكاد يفكر في شي ءٍ من عوالم الغيب، و لا يعيش في أجواء المَلكوت.

11- و قد بيّنت الأحاديث الشريفة أيضاً، علاقة العسل بصفاء القلب، فنقل عن أمير

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 74، ص 182.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 185

المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «العَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ داءٍ وَ لا داءَ فِيهِ يُقِلُّ البَلْغِمَ وَ يُجَلِّي القَلْبَ» «1».

النّتيجة:

تبيّن ممّا ذكر آنفاً، العلاقة الوثيقة بين الغذاء و الروحيّات و الأخلاق، و نحن لا ندّعي أبداً أنّ الأكل و الغذاء هو العلّة التّامة لبلورة الأخلاق، و لكنّه يمثل عاملًا مُساعداً في ذلك، بحلاله و حَرامه، و أنواعه.

و يقول علماء العصر الحاضر، أنّ السّلوكيات الأخلاقية عند الإنسان، تنطلق من خلال ترشّح بعض الهرمونات

من الغدد الموجودة في جسم الإنسان، و الغُدد بدورها، تتأثر مباشرةً بما يأكله الإنسان، و على هذا الأساس، فإنّ لحومَ، الحيوانات تحمل نفس الصّفات النفسيّة الموجودة في الحيوان، فالضّواري تفعّل فِعْلَ عناصر التّوحش في الإنسان، و الخنزير يذهب بالغيرة عند الإنسان، و هكذا فإنّ لحم أيّ حيوان، يخلف بصماته على روح آكله مباشرةً، و ينقل إليه صفاته.

هذا من الناحية الماديّة الطبيعيّة، و أمّا من الناحيّة المعنويّة، فإنّ أكل الحرام يُظلم الروح و القلب، و يُضعف الفضائل الأخلاقيّة كما تقدم.

و أخيراً نختم هذا البحث، بنقل قصّةٍ تاريخيةٍ نقلها المسعودي في مروجه، فقال:

نقل عن الفضل بن الرّبيع أنّ «شريك بن عبد اللَّه»، دخل يوماً على «المهدي»، الخليفة العبّاسي في وقتها فقال له المهدي العباسي: «أي شريك»، أعرض عليك ثلاثة امور، عليك أن تختار إحداها، فقال ما هي؟، فقال له: إمّا أن تقبل منصب القضاء، أو أن تعلّم إبني، أو تأكل معنا على مائدتنا، ففكّر شريك قليلًا، و قال إنّ الأخيرة أسهلها، فحجزه المهدي، و قال لطبّاخه، حضّر له أنواعاً من أطباق أمخاخ الحيوانات، المخلوطة بالسّكر و العسل.

فعند ما أكلَ شريك من ذلك الطعام اللّذيذ، «و طبعاً الحرام»، قال الطبّاخ للمهدي، إنّ هذا

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 63، ص 394.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 186

الشّيخ لن يُفلح أبداً بعد هذا الطّعام، فقال الرّبيع: و فعلًا قد صدقت نبوءة الطبّاخ، فإنّ شريك بعدها قبل منصب القضاء، و علّم أبناء المهدي أيضاً «1».

الصفات و الأعمال الأخلاقيّة:

من المعلوم أنّ كلّ فعلٍ يفعله الإنسان له أصلٌ و أساس في باطنه و محتواه الدّاخلي، أو بعبارةٍ اخرى، إنّ الأعمال هي مرآة باطن الإنسان، فإحداهما بمنزلة الجذر، و الاخرى بمنزلة السّاق و الأوراق و الّثمر.

و بناءً عليه:

فإنّ الأعمال الأخلاقيّة، لا تنفك عن الصّفات الأخلاقيّة، فمثلًا النّفاق، له جذوره في روح الإنسان، و يحكي عن إزدواجيّة ذلك الشّخص، و عدم توحيده في دائرة الإيمان، فهذه الصّفة الباطنيّة تحثّ الإنسان على سلوك طريق النّفاق و الرّياء مع الغير.

الحسد أيضاً من الصّفات الباطنيّة السلبيّة، حيث يتمنى معه الشّخص الحاسد، زوال النّعم التي أعطاها الباري تعالى لغيره، و تتجلى هذه الصّفة الذّميمة في أعماله و أفعاله، التي يريد بها التّصدي لسعادةِ ذلك المحَسود من موقع العداوة و الخصومة.

الكِبَر و الغُرور، هي صفاتٌ باطنيّة كذلك، نشأت من جهل الإنسان لقدره و مقامه، و هي ناشئةٌ من عدم تحمل الإنسان لثقل المواهب الإلهيّة، التي يُعطيها الباري له، و يتبيّن هذا الأمر من تصرفاته، و عدم إعتنائه بالغير، و بذاءة لسانه و تحقيره للآخرين.

و رُبّما، و لأجل ذلك لم يفرق علماء الأخلاق بين هذين الإثنين في كتبهم الأخلاقيّة، فمرّةً يعرّجون على الصّفات الداخلية للإنسان، و اخرى يتطرّقون للأعمال الخارجيّة، التي تستمد مقوّماتها من عالم الصّفات الباطنيّة، فيطلق على الأول: «الصّفات الأخلاقية»، و على الثاني:

«الأعمال الأخلاقيّة».

و طبعاً الأعمال الأخلاقية، هي موضوع المباحث الفقهيّة لدى الفُقهاء، و لكن و مع ذلك، فإنّ علماء الأخلاق قد تناولوها بالبحث في دائرة السّلوك الأخلاقي للفرد، و من الطّبيعي فإنّ نظرة عالِم الأخلاق، تختلف عن نظرة الفقيه، فالفقيه يبحث المسألة في إطار الأحكام الخمسة:

______________________________

(1). سفينة البحار، مادة «شريك»؛ و مروج الذهب، ج 3، ص 310.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 187

(الحُرمة، الوُجوب، و الإستحباب، و الكراهة، و الإباحة)، و لربّما تطرّق للثواب و العقاب، للأعمال في نطاق الحياة الآخرة، و لكن عالِم الأخلاق ينظر إليها من منظار كمال الرّوح و النّفس، أو إنحطاطها و تسافلها

في خطّ الإنحراف، و بهذا يتبيّن الفرق بين الصّفات و الأفعال الأخلاقية، و يتمّ من خلالها تمييز نظر الفقيه عن نظر عالِم الأخلاق.

12

الخُطى العمليّة في طريق التّهذيب الأخلاقي

اشارة

نتطرّق في هذا الفصل للعوامل الّتي تساعد على تربية، و نمو «الفضائل الأخلاقيّة»، و تقرّب الإنسان من اللَّه تعالى خطوةً خطوة، و هذا البحث، غاية الأهميّة في علم الأخلاق، و يتناول اموراً عديدة:

الخطوة الاولى: التّوبة

اشارة

يقول كثير من علماء الأخلاق، إنّ الخطوة الاولى لتهذيب الأخلاق و السّير إلى اللَّه، هي «التّوبة»، التّوبة التي تمحو الذّنوب من القلب و تبيّض صفحته و تجعله يتحرك في دائرة النور، و تنقله من دائرة الظّلمة، و تخفف ثقل الذّنوب من خزينه النّفساني، و رصيده الباطني، و تمهّد الطّريق للسّير و السّلوك إلى اللَّه تعالى، في خط الإيمان و تهذيب النّفس.

يقول المرحوم: «الفيض الكاشاني»، في بداية الجزء السابع من كتابه: «المحجّة البيضاء»، الذي هو في الواقع، بداية الأبحاث الأخلاقيّة:

(فإنّ التّوبة من الذنوب، و الرّجوع إلى ستار العُيوب و علّام الغيوب، مبدأ طريق السّالكين، و رأس مال الفائزين، و أوّل إقدام المريدين، و مفتاح إستقامة المائلين و مطلع الإصطفاء و الاجتباء للمقرّبين!).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 190

و بعدها يشير إلى حقيقةٍ مهمّةٍ، و هي أنّ أغلب بني آدم يتورطون غالباً بالمعاصي، و يشير إلى معصية آدم: (التي هي في الواقع، من ترك الأولى)، و توبته منها، و يقول: «و ما أجدر بالأولاد الإقتداء بالآباء و الأجداد، فلا غرو إن أذنب الآدمي و إجترم، فهي شنشنةٌ يعرفها من أخزم، و من أشبه أباه، فما ظَلم، و لكنّ الأب إذا جبر بعد كسر، و عمّر بعد أن هدم، فليكن النزوع إليه في كلا طرفي، النّفي و الإثبات و الوجود و العدم، و لقد قلع آدم سنّ النّدم، و تندّم على ما سبق منه و تقدّم، فمن إتّخذه قدوةً في الذنب دون التّوبة فقد زلّت به

القدم، بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقرّبين، و التجرُّد للشرّ دون التّلافي، سجيّة الشّياطين، و الرّجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشرّ ضرورة الآدميين، فالمتجرّد للخير ملك مقرّب، عند الملك الدّيان، و المتجرّد للشرّ شيطان، و المتلافي للشرّ بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان.

و المصرّ على الطّغيان، مسجّل على نفسه بنسب الشّيطان، فأمّا تصحيح النّسب بالتجرّد لمحض الخير إلى الملائكة، فخارج عن حيّز الإمكان، فإنّ الشرّ معجون مع الخير، في طينة آدم، عجناً محكماً لا يخلّصه إلّا إلى إحدى النارين: نار الندم أو نار جهنم» «1».

أو بعبارة اخرى: أنّ الإنسان غالباً ما يُخطي ء، و خصوصاً في بداية سيره إلى اللَّه تعالى، فإذا ما وجد أنّ أبواب العودة موصدةٌ في وجهه، فسيورثه اليأس الكامل، و يبقى يُرواح في مكانه، و لذلك فإنّ التّوبة تعتبر من الاصول المهمّة في الإسلام، فهي تدعو كلَّ المذنبين إلى العمل لإصلاح أنفسهم، و الدّخول في دائرة الرّحمة الإلهيّة، و السّعي لجبران ما مضى.

و قد بيّن الإمام السّجاد عليه السلام، في مناجاته: «مناجاة التائبين» أفضل و أحلى صورة لها، فقال:

«إِلَهي أَنْتَ الّذِي فَتَحْتَ لِعبادِكَ باباً إِلى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوبَةَ فَقُلْتَ تُوبُوا إِلى اللَّهِ تَوبَةً نَصُوحاً، فَما عُذْرُ مِنْ أَغْفَلَ دُخُولَ البابِ بَعْدَ فَتْحِهِ» «2».

و الجدير بالذكر أنّ الباري تعالى يحبّ التّائبين، لأنّ التّوبة تعتبر الخطوة الاولى لكي

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 7، ص 6 و 7، مع التلخيص.

(2). المناجاة الخمسة عشر للإمام السجاد عليه السلام، المناجاة الاولى؛ بحار الأنوار، ج 94، ص 142.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 191

الاخلاق فى القرآن ج 1 219

يعيش الإنسان في أجواء السّعادة و الحياة الكريمة.

و قد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: «إِنّ اللَّهَ تَعالى أشَدُّ

فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ، مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ راحِلَتَهُ وَ زادَهُ، فِي لَيلَةٍ ظَلْماءَ فَوَجَدها» «1».

فهذا الحديث مزج بكنايات خاصة و عبارات جذابة، ليبيّن أنّ التّوبة في الواقع، الزّاد و الرّاحلة لعبور الإنسان من وادي الظّلمات، ليصل إلى معدن النّور و الرّحمة، و يعيش حالات الكرامة في الصفات الإنسانيّة.

و على أيّة حال، فإنّ ما يطرح في مبحث التّوبة امورٌ عديدةٌ، أهمّها هي:

1- حقيقة التّوبة.

2- وجوب التّوبة.

3- عمومية التّوبة.

4- أركان التّوبة.

5- قبول التّوبة، هل عقلي أو نقلي؟

6- تقسيم التّوبة و تجزئتها.

7- دوام التّوبة.

8- مراتب التّوبة.

9- معطيات و بركات التّوبة.

1- حقيقة التّوبة

«التوبة» في الأصل، هي الرجوع عن الذّنب «هذا إذا ما نسبت للمذنبين»، و لكن الآيات القرآنية و الرّوايات نسبتها إلى الباري تعالى، و عليه فيصبح معناها: الرجوع إلى الرّحمة

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، باب التوبة، ص 435، ح 8.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 192

الإلهيّة، تلك الرحمة التي سُلبت من الإنسان إثر إرتكابه للمعصية و الذّنب، فبعد عودته لموقع العبودية و العبادة، تمتد إليه الرّحمة الإلهيّة من جديد، و بناءاً على ذلك فإنّ أحد أسماء الباري تعالى، هو (التواب).

و «التّوبة» في الحقيقة: هي مشترك لفظي أو معنوي بين اللَّه و عباده، (و لكن إذا ما نُسبت للعبد، تتعدى بكلمة «إلى»، و إذا ما نُسبت للباري تعالى، فهي تتعدى بكلمة «على») «1».

و ورد في «المحجّة البيضاء»، عن حقيقة التّوبة فقال: «إعلم أنّ التّوبة عبارةٌ عن معنى ينتظم و يلتئم، من ثلاثة امورٍ مرتّبةٍ: علم و حال و فعل، فالعلم أوّل و الحال ثان و الفعل ثالث، أمّا العلم فهو معرفة عِظم ضرر الذنوب، و كونها حجاباً بين العبد و بين كلّ محبوب، فإذا عرفت ذلك معرفةً محقّقةً بيقينٍ غالب على قلبه،

ثار من هذه المعرفة، تألّمٌ للقلب بسبب فوات المحبوب، فإنّ القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألّم، فإن كان فواته بفعله تأسّف على الفعل المفوّت، فيسمّى تألّمه بسبب فعله المفوّت لمحبوبه ندماً، فإذا غلب هذا الألم على القلب و إستولى؛ إنبعث من هذا الألم في القلب، حالةً اخرىً تسمّي إرادةً و قصداً إلى فعلٍ له تعلّق بالحال و بالماضي و الإستقبال.

فثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب، نار الندم فيتألّم به القلب، حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أن صار محجوباً عن محبوبه» «2».

و هو الشّي ء الذي يدعوه البعض: بالثّورة الروحيّة و النفسيّة، و يعتبرون التّوبة نوعاً من الإنقلاب الرّوحي، في باطن الإنسان على كلّ شي ء، و تحثّه هذه الحالة على إتخاذ موقف جديد، حيال أعماله و برامجه الآتية، من موقع الوضوح في الرّؤية لعناصر الخير و الشرّ.

2- وجوب التّوبة

إتّفق علماء الإسلام على وجوب التّوبة، و كذلك فإنّ القرآن قد صرّح بها في الآية (8)

______________________________

(1). تفسير الفخر الرازي و تفسير الصّافي، ذيل الآية 37 من سورة البقرة.

(2). المحجّة البيضاء، ج 7، ص 5.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 193

من سورة التّحريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

إنّ كلّ الأنبياء عند ما يتقلدّون أعباء الرّسالة، فأوّل شي ء يدعون إليه هو التّوبة، لأنّه بدون التّوبة و تنقية القلب، لا يوجد مكان للتّوحيد و الفضائل في أجواء النّفس و واقع الإنسان.

فالنّبي هود عليه السلام، أوّل ما دعى قومه: إلى التّوبة و الإستغفار، فقال تعالى «وَ يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» «1»

و كذلك النّبي صالح عليه السلام، جعل التّوبة أساساً لعمله و دعوته، فقال

تعالى «فَآسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» «2».

ثم النّبيّ شعيب عليه السلام، الذي تحرك في دعوته من هذا المنطلق، فقال تعالى «وَ آسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» «3».

و دعمت الروايات ذلك الأمر، و أكّدت على وجوب التّوبة الفوريّة، و منها:

1- وصية الإمام علي عليه السلام لإبنه الإمام الحسن عليه السلام:

«وَ إِنْ قَارَفْتَ سَيِّئَةً فَعَجِّلْ مَحوَها بِالتَّوبَةِ» «4».

طبعاً حاشا للإمام أن يقترف الذّنوب، و لكن قصد الإمام علي عليه السلام هنا، تنبيه الآخرين إلى هذا المعنى.

2- قال الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، لإبن مسعود:

«يا بنَ مَسْعُودَ لا تُقَدِّمِ الذَّنْبَ وَ لا تُؤَخِرِ التَّوبَةَ، وَ لَكِنْ قَدِّمِ التَّوبَةَ وَ أَخِّرِ الذَّنْبَ» «5».

3- و في حديثٍ آخر، قال الإمام علي عليه السلام: «مُسَوِّفُ نَفْسِهِ بِالتَّوبَةِ مِنْ هُجُومِ الأَجَلَ عَلَى أعْظَمِ الخَطَرِ». «6»

______________________________

(1). سورة هود، الآية 52.

(2). سورة هود، الآية 61.

(3). سورة هود، الآية 90.

(4). بحار الأنوار، ج 74، ص 208.

(5). بحار الأنوار، ج 74، ص 104.

(6). مستدرك الوسائل، ج 12، ص 130.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 194

4- و قال الإمام الرضا عليه السلام نقلًا عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«لَيسَ شَي ءٌ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ مُؤمِنٍ تائِبٍ أو مُؤمِنَةٍ تائِبَةٍ» «1».

و يمكن أن يكون هذا الحديث دليلًا على وجوب التّوبة، لأنّها أحبّ الأشياء إلى اللَّه تعالى في دائرة السّلوك البشري.

مضافاً إلى ذلك، هناك دليلٌ عقلي على وجوب التّوبة، و هو أنّ العقل يحكم، بوجوب دفع الضّرر المحتمل أو المتيقن، و تحضير وسائل للنجاة من العذاب الإلهي، و بما أنّ التّوبة هي أفضل وسيلةٍ للنجاة من العذاب، فلذلك يحكم العقل السليم بوجوبها، فالعاصين أنّى لهم الخلاص، من العذاب الدّنيوي و الاخروي، و لمّا

يتوبوا بعد؟!

نعم، فإنّ التّوبة واجبةٌ، بدليل القرآن و الرّوايات و العقل، إضافةً إلى قبول المسلمين لها أجمع، و بناءً عليه فإنّ الأدلّة الأربعة تحكم بوجوب التّوبة، و وجوبها فوري، و قد تطرق علم الاصول لهذا الأمر، على أساس أنّ الأوامر كلّها ظاهرةٌ في الوجوب ما لم يثبت العكس.

3- عموميّة التوبة

لا تختص التّوبة بذنبٍ من الذنوب، أو شخص من الأشخاص، و لا تتحدّد بزمانٍ و لا مكانٍ و لا عمرٍ محدد.

و عليه فإنّ التّوبة تشمل جميع الذّنوب و تستوعب كلّ فردٍ في أي مكانٍ أو زمانٍ كان، و إذا ما إحتوت على كلّ الشّروط، فستُقبل من قبل الباري تعالى، و الاستثناء الوحيد الذي لا تُقبل فيه التّوبة، و الذي أشار إلى القرآن الكريم، هو: التّوبة عند حضور الموت، أو نزول العذاب الإلهي، (كما تاب فرعون في آخر لَحَظات عمره)، فعندها لن تُقبل توبته، لأنّ التّوبة عندها ليست توبةً حقيقيّةً، و لا هي صادرةٌ من الشّخص من موقع الإختيار، فيقول الباري تعالى:

«وَ لَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 12، ص 125.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 195

الْانَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً» «1».

و نقرأ في قصّة فرعون: عند ما إنفلق البحر لموسى عليه السلام، و تبعه فرعون و جنوده، و اغرِق فرعون، فقال: «آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ» «2».

و لكنّه سمع الجواب مباشرةً، فقال تعالى: «أَلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ» «3».

و أمّا بالنسبة للُامم السّابقة، فقال تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا

بِهِ مُشْرِكِينَ».

فأجابهم القرآن الكريم: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ» «4»

و كذلك بالنّسبة للحدود الإلهيّة، عند ما يقع المجرم في أيدي العدالة، فلن تقبل توبته، لأنّه لم يتب واقعاً بل خوفاً من العقاب لا غير.

فالتّوبة التي لا تقبل من الباري تعالى، هي التّوبة التي تخرج من شكلها الإختياري في مسيرة الإنسان.

و قال البعض: توجد ثلاثة موارد اخرى لا تقبل فيها التوبة:

الأول: «الشّرك»، حيث يقول القرآن الكريم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ» «5».

و لكن هذا الأمر يبتعد عن الصّواب و الصّحة، بل أنّ الآية لم تتكلم عن التّوبة، و لكنّها تحدثت عن العفو عن المشرك من دون توبةٍ، و إلّا فانّ كلّ الأشخاص قبل الإسلام، تابوا من

______________________________

(1). سورة النّساء، الآية 18.

(2). سورة يونس، الآية 90.

(3). سورة يونس، الآية 91.

(4). سورة غافر، الآية 84 و 85.

(5). سورة النّساء، الآية 48.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 196

شركهم و قبلت توبتهم، و كذلك كلّ من يدخل في الإسلام في عصرنا الحاضر، فتوبته مقبولةٌ عند جميع علماء المسلمين، و لكن إذا مات المُشرك و هو على شِركه، فلن يتوب اللَّه تعالى عليه، أمّا في حالة أن يموت على التّوحيد، و لكنّه قد إرتكب ذنوباً في سالف حياته، فمن الممكن أن يعفو عنه اللَّه تعالى، و هذا ما نستوحيه من مفهوم الآية الكريمة.

و خلاصة القول، أنّ المشركين لن يشملهم العفو الإلهي المنفتح على الخلق، بل هو للمؤمنين الموحّدين، و التّوبة تغفر كلّ الذنوب حتى الشّرك.

ثانياً و ثالثاً: يجب أن تكون التّوبة مُباشرةً بعد الذنب، و لا تؤخّر إلى وقتٍ بعيدٍ،

و كذلك يجب أن يكون إرتكاب الذنب عن جهالةٍ لا عن عنادٍ، و نقرأ في الآية (17) من سورة النساء:

«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً».

و الجدير بالملاحظة، أنّ كثيراً من المفسّرين، حملوا هذه الآية على التّوبة الكاملة، لأنّه من الطّبيعي، عند ما يُذنب الإنسان من موقع العناد و الغيّ، ثم يتوجّه لحقيقة الحال، و يندم على أفعاله السّابقة، فإنّ الباري تعالى يتوب عليه، و قد حدّثنا التأريخ عن نماذج كثيرةً و أفراداً كانوا في صفوف المُعاندين و الأعداء، ثم رجعوا عن غيّهم و تابوا، و عادوا إلى حضيرة الإيمان و الصّلاح.

و من المعلوم حتماً، لو أنّ الإنسان أمضى عمره بالذّنوب و العصيان، و لكن تاب بعدها توبةً نصوحاً، و تحول من دائرة المعصية و الإثم، إلى دائرة الطّاعة و الإيمان، فإنّ اللَّه تعالى سيقبل توبته لا محالة.

و نقرأ في الحديث المشهور عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال:

«مَنْ تابَ إِلى اللَّهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِسَنَةٍ تابَ اللَّهُ عَليهِ، وَ قَالَ: ألا وَ سنَةُ كَثِيرَ، مَنْ تابَ إِلى اللَّهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِشَهْرٍ تابَ اللَّهُ عَلَيهِ، وَ قَالَ: شَهْرُ كَثِيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللَّهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِجُمْعَةٍ تابَ اللَّهُ عَلَيهِ، قَالَ: وَ جُمْعَةُ كَثيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللَّهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِساعَةٍ تابَ اللَّهُ عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَ ساعَةُ كَثِيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللَّهِ قَبْلَ أنْ يُغَرغِرَ بِالمَوتِ تابَ اللَّهُ عَلَيهِ» «1».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل، ج 12، ص 145، (باب صحة التوبة في آخر العمر، ح 5).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 197

و طبعاً القصد منه، التّوبة بجميع شرائطها، فمثلًا إذا كان في

عنقه حقوق الناس فعليه أن يوصي بها لمن هو بعده، ثم يتوب بعدها.

و توجد آياتٌ كثيرةٌ، تدلّ على شمولية التوبة لجميع الذّنوب، و منها:

1- نقرأ في الآية (53) من سورة الزمر: «قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

2- نقرأ في الآية (39) من سورة المائدة: «فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

3- نقرأ في الآية (54) من سورة الأنعام: «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

ففي هذه الآية نرى، أنّ سوء العمل مطلقٌ و يشمل كلّ الذّنوب، و مع ذلك فلا تُحجب عنه التّوبة و طريق العودة.

4- نقرأ في الآية (135) من سورة آل عمران: «وَ الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ».

و هنا الظّلم أيضاً يشمل جميع الذنوب، لأنّ الظلم مرّة يقع على الغير و اخرى على النفس، و وعدت هذه الآية، جميع المذنبين بالتّوبة عن جميع ذنوبهم و آثامهم، في أطار الذّكر و الإستغفار.

5- نقرأ في الآية (31) من سورة النّور، حيث خاطبت جميع المؤمنين: «وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

فكلمة «جميعاً» تدعو جميع المذنبين للتوبة، و لو لا شموليّة و عموميّة التّوبة، لما صحّت هذه الدّعوة القرآنية.

و الجدير بالملاحظة، أنّ الآيات المذكورة آنفاً، مرّةً تؤكّد على الإسراف، و اخرى على الظّلم، و مرّةً على سوء العمل، و الوعد الإلهي بالمغفرة لجميع هذه العناوين، في حال إنضوائها

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص:

198

تحت عنوان التّوبة، عن كل سوءٍ و ظلمٍ و إسرافٍ يقترفه الإنسان و يتوب منه، فإنّ اللَّه تعالى سيتوب عليه.

و وردت رواياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، في مصادر الفريقين، السّنة و الشّيعة، و أنّ باب التّوبة مفتوح حتى اللّحظات الأخيرة من العُمر، ما لم يرى الإنسان الموت بعينه.

و يمكن الرجوع إلى الرّوايات في كتبٍ، مثل: بحار الأنوار «1»، و اصول الكافي «2»، و الدرّ المنثور «3»، و كنز العمّال «4»، و تفسير الفخر الرازي «5»، و تفسير القُرطبي «6»، و تفسير روح البيان «7»، و تفسير روح المعاني «8». و كتب اخرى، و يمكن القول أنّ هذا الحديث هو من الأحاديث المتواترة.

4- أركان التّوبة

كما نعلم، أنّ حقيقة التّوبة هو الرّجوع إلى ساحة الباري تعالى، و الإقلاع عن العِصيان، في ما لو كان ناشئاً من النّدم على ما سبق من الأعمال السّيئة، و لازم النّدم هو العلم بأنّ الذنب يحيل بين المذنب و المحبوب الحقيقي، و يترتب عليه العزم و التّصميم على عَدم العودة، و على التّحرك لجبران ما فات، و محو آثار الذنوب السّابقة من باطن وجوده و خارجه، و يتحرّك كذلك في دائرة إعادة الحقوق الباقية في ذمّته، و أكّد القرآن الكريم، في كثير من الآيات على هذا المعنى، و جعل التّوبة مقارنةً للإصلاح:

1- الآية (160) من سورة البقرة، و بعد الإشارة إلى ذنب كتمان الآيات الإلهيّة و و العقاب الذي يترتب على ذلك قالت: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 6، ص 19 و ج 2، ص 440.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 440.

(3). الدرّ المنثور، ج 2، ص 131.

(4). كنز العمّال، ح

10187 و 10264.

(5). تفسير الفخر الرازي، ج 10، ص 7، في ذيل الآية أعلاه.

(6). تفسير القرطبي، ج 3، ص 166، في ذيل الآية أعلاه.

(7). تفسير روح البيان، ج 2، ص 178، ذيل الآية أعلاه.

(8). تفسير روح المعاني، ج 4، ص 233.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 199

2- الآية (89) من سورة آل عمران، و بعد إشارتها لمسألة الإرتداد و عقابها، يقول تعالى:

«إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

3- الآية (146) من سورة النساء، و بعد إشارتها للمنافقين، و عاقبة أمرهم السّيئة، تذكر:

«إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ للَّهِ».

4- و في الآية (5) من سورة النّور، و بعد ذكرها للعقوبة الشّديدة المترتبّة على القَذَف، في الدنيا و الآخرة، ذكرت: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

5- و بالتالي نرى عنصر التّوبة، بمثابة قانون كلّي يستوعب في نطاقه جميع الذّنوب، فقال تعالى في الآية (119) من سورة النحل: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».

6- ورد شبيه لهذا المعنى، في الآية (82) من سورة طه: «وَ إِنّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى».

و أشارت الآية الكريمة هنا، بالإضافة إلى رُكني التّوبة الأساسييّن، و هما: العودة إلى اللَّه، و العمل الصالح، و جُبران الماضي، ذكرت مسألة الإيمان و الهداية.

و الحقيقة أنّ الذنوب تقلل نور الإيمان في قلب الإنسان، و تحرفه عن الطّريق، و عليه فإنّه بالتّوبة يجدّد إيمانه و هدايته، في نطاق إصلاح الباطن.

7- و ورد في سورة الأنعام، الآية (45)، معنى مشابه أيضاً: «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ

مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

و ممّا ذكر من الآيات الآنفة، تتضح لنا مسألة التّوبة بصورةٍ كاملةٍ، فالتّوبة الحقيقيّةُ ليست بلفظ الإستغفار وحده، و النّدم على ما مضى، و الإقلاع عنه في المستقبل، بل تتعدّى إلى دائرة الإنفتاح على العمل، لإصلاح كلّ التّقصيرات و المفاسد الّتي صدرت منه في السّالف، و محو آثارها من نفسه و روحه و من المجتمع، لتحصيل الطّهارة الكاملة في واقع الإنسان و الحياة، و طبعاً بالقدر الممكن.

فهذه هي التّوبة الحقيقيّة، و ليس الإستغفار وحده!.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 200

و الجدير بالذّكر أنّ كلمة «الإصلاح»، ورد ذكرها دائماً بعد ذكر التّوبة، كالآيات الآنفة الذّكر، و معناها واسعٌ يشمل كلّ ما فات، من قصورٍ و تقصيرِ يُبعد الإنسان عن خطّ الإيمان، و منها:

1- التّائب يجب أن يُؤدّي جميع الحقوق لُمستحقيها، فإنّ كانوا أحياء فَبِها، و إلّا فلورثتهم.

2- إذا كان قد تعامل مع الآخرين، من موقع الإهانة و الغيبة، و غيرها من الامور السلبية في دائرة السلوك، فيجب عليه طلب الحلية منهَ و رَدّ إعتباره ما دام الآخر يعيش في هذه الدنيا، و إن كان قد وافاه الأجل، فعليه أن يتحرّك على مستوى إرسال الثّواب لروحه، كي ترضى

3- أن يَقْضي ما فاته من العبادات: كالصّلاة و الصّيام و دفع الكفارات.

4- نعلم أنّ ممارسة الخطيئة و الوقوع في منحدر الذنوب، يُظلم الرّوح و يسوّد القلب، فعلى التّائب السّعي لتنوير قلبه بالطّاعة و العّبادة، لتنفتح روحه على اللَّه تعالى، في أجواء الإيمان.

و أفضل و أكمل تفسير ورد لمعنى الإستغفار، هو ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، في كلماته القصار في نهج البلاغة:

قال عليه السلام لقائلٍ قال بحضرته:

«أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ»- و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يعرف سوابقه و أعماله- «ثَكَلَتْكَ امُّكَ أَ تدرِي مَا الاسْتِغْفارُ؟ الإسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ العِلِّيينَ، وَ هوَ إسمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعانٍ».

أَوَّلُها النَّدمُ عَلى مَا مَضى

و الثَّانِي العَزْمُ عَلَى تَرْكِ العَودِ إِلَيهِ أَبَداً.

و الثَّالِثُ أنْ تُؤَدِّي إِلَى الَمخْلُوقِينَ حُقُوقَهُم حَتَّى تَلقَى اللَّهَ أَمْلَسَ لَيسَ عَلَيكَ تَبِعَةٌ.

الرّابِعُ أنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيكَ ضَيَّعْتَها فَتُؤَدِّيَ حَقَّها.

الخَامِسَ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأحزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الجِلْدَ بِالعَظمِ، وَ يَنْشَأَ بَينَهُما لَحْمٌ جَدِيدٌ.

و السَّادِسَ أَن تُذِيقَ الجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاوَةَ المَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ:

«أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ» «1».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 417.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 201

و نقل نفس هذا المعنى في و روايةٍ اخرى، عن كميل بن زياد عن أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمِيرَ المؤمنين العَبْدُ يُصِيبُ الذَّنْبَ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مَنْهُ فَما حَدُّ الإستِغْفَارِ؟.

فقال الإمام عليه السلام: «يا ابْنَ زِيادٍ التَّوبَةُ».

قلت: بَسْ.

قال عليه السلام: «لا».

قلت: فَكَيفَ؟

قال عليه السلام: «إنَّ العَبْدَ إِذا أَصابَ ذَنْبَاً يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِالتَّحْرِيكِ».

قلت: وَ ما التَّحْرِيكُ؟.

قال عليه السلام: «الشَّفَتَانِ وَ اللِّسانِ يُرِيدُ أَنْ يَتْبِعَ ذَلِكَ بِالحَقِيقَةِ».

قلت: وَ ما الحَقِيقَة؟.

قال عليه السلام: «تَصْدِيق فِي القَلْبِ وَ إِضْمارُ أَنْ لا يَعُودَ إلَى الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ».

فقلت: «فإذا فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنَ المُسْتَغْفِرينَ».

قال عليه السلام: «لا».

فقال كميل رحمه الله، قلت: فَكَيفَ ذاكَ.

فقال الإمام عليه السلام: «لِأَنَّكَ لَمْ تَبْلُغْ إِلَى الأَصْلِ بَعْدَهُ».

فقال كميل رحمه الله: فَأَصْلِ الإِسْتِغْفارِ ما هُوَ؟.

فقال الإمام عليه السلام: «الرُّجُوعُ إِلَى التَّوبَةِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذي إِسْتَغْفَرْتَ مِنْهُ وَ هِيَ أَوَّلُ دَرَجَةِ العابِدِينَ».

ثم قال الإمام عليه السلام: «وَ تَركُ الذَّنْبِ و الاستِغفارِ اسمٌ وَاقِعٌ لِمعانٍ سِتّ».

ثم ذكر نفس المراحل

السّتة، المذكورة في قصار الكلمات لنهج البلاغة، مع قليلٍ من الاختلاف «1».

و يمكن أن يقال: إنّ التّوبة إذا كانت كما ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام، فلن يوجد تائب حقيقي

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 6، ص 27.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 202

أبداً.

و لكن يجب الّتنبّهُ إلى أنّ بعض الشروط السّتة، هي في الحقيقة من كمال التّوبة، كما في الشّرط الخامس و السّادس، أمّا الشّروط الأربعة الاخرى، فهي من الشّروط الواجبة و اللّازمة، أو كما يقول بعض المحقّقين: إنّ القسم الأول، و الثّاني من أركان التّوبة، و الثّالث و الرابع هما من الشروط اللّازمة، و الخامس و السّادس من شروط الكمال «1».

و جاء في حديثٍ آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «أمّا عَلامَةُ التَّائِبِ فَأَرْبَعَةٌ:

النّصِيحةُ للَّهِ فِي عَمَلِهِ وَ تَركُ الباطِلِ وَ لُزُومِ الحَقِّ وَ الحِرصُ عَلَى الخَيْرِ» «2».

و يجب الإنتباه، أنّ الذّنب إذا تسبّب في إضلال الآخرين، مثل الدّعاية المضلّة، و البِدعة في الدّين، سواء كان عن طريق البيان، أو عن طريق الكتابة، فيجب عليه إرشاد الضّالين بالقدر الّذي يستطيع، و إلّا فلن تُقبل توبته.

و منه يتّضح صعوبة سلوك طريق التوبة، بالنّسبة إلى المحرّفين للآيات الإلهيّة، و المُبتَدِعين في دين اللَّه تعالى، و الذين يتحرّكون على مستوى إضلال الناس، و سوقهم إلى الإنحراف.

فليس من الصحيح، أن يُضلّ شخصٌ عدداً غفيراً من النّاس، في الملأ العام، أو بكتاباته و مقالاته، ثمّ يجلس في زاوية البيت، و يستغفر اللَّه تعالى ليعفو عنه، فمثل هذه التّوبة، لن تُقبلَ أبداً.

و كذلك الذي يهتك حرمة أحد الأشخاص أمام الملأ، ثم يستحلّ منه على إنفراد، أو يتوب في خَلوته، فلن تُقبل مثل هذه التّوبة، ما لم يرد

إعتبار ذلك الشخص، أمام الملأ العام.

و بناءً على هذا، فإنّنا نقرأ في الرّوايات عن أشخاصٍ هَتكوا حُرمة الغير، و اجري عليهم الحَد، فإنّ توبتهم لن تقبل، إلّا إذا رجعوا عن غيّهم و كلامهم.

و قد ورد في حديث مُعتبر، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال الرّاوي: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحدود إذا تاب، أتقبل شهادته؟، فقال:

«إذا تابَ وَ تَوبَتُهُ أَنْ يَرْجَعَ مِمّا قالَ وَ يُكِذِّبَ نَفْسَهُ عِنْدَ الإِمامِ وَ عِنْدَ المُسْلِمِينَ، فإذا فَعَلَ

______________________________

(1). كتاب «گفتار معنوي»، للمرحوم الشهيد مطهري، ص 139.

(2). تُحف العقول، ص 32.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 203

فَإِنَّ عَلَى الإِمامِ أَنْ يَقْبَلَ شَهادَتَهُ بَعْدَ ذَلِك» «1».

وَ وَرد في حديثٍ آخر: «أَوصى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِلى نَبِيٍّ مِنَ الأنبِياءِ، قُلْ لِفُلانَ وَ عِزَّتِي لَو دَعَوتَنِي حَتّى تَنْقَطِعَ أَوصالُكَ، ما اسْتَجَبْتُ لَكَ، حَتّى تَرّدَ مَنْ ماتَ إِلى ما دَعَوتَهُ إِلِيهِ فَيَرْجَعَ عَنْهُ» «2».

فهذا الحديث يبيّن أهميّة مسألة الإصلاح، و السّعي لجبران الخلل من موقع التّوبة، و إلى أيّ حدٍّ يمتد في آفاق الممارسة العمليّة، و بدون ذلك ستكون التّوبة صوريّة أو مقطعيّة.

و آخر ما يمكن أن يقال في هذا المجال، أنّ من يقنع من الإستغفار بالإسم، مُقابل كثرة الذّنوب و المعاصي، و لا يسعى في تحصيل أركانه و شروطه، فكأنّه قد إستهزأ بنفسه، و بالتّوبة و بالإستغفار.

و في ذلك يقول الإمام الباقر عليه السلام:

«التّائِبُ مِنَ الذَّنِبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لِهُ، وَ المُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ وَ هُوَ مُسْتَغْفِرٌ مِنْهُ كالمُستَهزِى ء» «3».

5- قبول التوبة: هل هو عقلي أم نقلي؟

إتّفق علماء الأخلاق أنّ التّوبة الجامعة للشّرائط، مقبولة عند اللَّه تعالى، و يدل على ذلك الآيات و الرّوايات، و لكن يوجد نقاش حول قبول التّوبة، هل هو عَقلي أم عقلائي، أم

نَقلي؟.

و يعتقد جماعة، أنّ سقوط العقاب الإلهي، هو تفضل من الباري تعالى، فبعد تحقق التّوبة من العبد، يمكن للباري تعالى أن يتوب على عبده و يغفر له، أو لا يغفر له، كما هو المُتعارف بين النّاس، عند ما يقوم أحد الأشخاص بظلم الغَير، فِللمظلوم أن يغفر له، أو لا يعفو عنه.

و ترى جماعةٌ اخرى، أنّ العقاب يسقط حتماً بعد التّوبة، و عدم قبول عُذر المجرم، من اللَّه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 283، ج 1 باب 37، من أبواب الشّهادات.

(2). بحار الأنوار، ج 69، ص 219.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 435، باب التوبة، ح 10.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 204

تعالى، بعيدٌ و قبيحٌ، و لا يصدر منه تعالى.

و هنا يمكن قبول رأي ثالث، و هو أنّ قبول التّوبة أمر عقلائي، يعني أنّ العقل و إن لم يوجب قبول التّوبة و العُذر، و لكنّ بناءَ العُقلاء في العالم كلّه، مبنيٌّ على قبول عذر الخاطي ء، و إقالة عثرته، إذا ما عاد عن غَيّه، و أصلح أعماله السّيئة، و جَبر ما كسره، و أرضى خصمائه بطرقٍ مختِلفَةٍ، فهذا الموقف هو بناء العقلاء في العالم أجمع، فلو أصرّ شخص على نفي هذا المبدأ العقلائي، و لم يقبله في سلوكه إتجّاه المُعتذر، فسيعتبر حقوداً و خارجاً عن موازين الإنسانية و الأخلاق.

و لا شك أنّ اللَّه تعالى، و هو القادر و الغني عن العالمين، أَوْلى و أجدر من عباده بالعفو و المغفرة، و قبول عذر التائب، و عدم إنزال العقاب عليه.

و يمكن القول بأكثر من ذلك، و هو وجوب قبول التّوبة، لدى العقل الذي يعتمد على قاعدة: «قُبح نَقض الغَرض».

و توضيح ذلك: نحن نعلم أنّ الباري تعالى، غنيٌّ عن

عباده و طاعة العالمين، و إن كلّفنا بشي ءٍ فهو لطفٌ منه، للسير في خطّ التّكامل و التّربية، فالصّلاة و الصّيام تُربّي النّفس و تُقرّب الإنسان من اللَّه تعالى، و كذلك سائر الواجبات، فلها قِسطٌ في عمليّة التّكامل الإنساني.

فنقرأ عن الحج: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُم» «1».

و نقرأ في الآيات الاخرى، أنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر «2»، و الصّوم سبب للتّقوى «3»، و الزّكاة لتطهير الأفراد و المجتمع من الرذائل الأخلاقيّة و الإنحرافات «4».

و إعتبرت الرّوايات الإيمان، سبباً للطهارة من الشّرك، و الصّلاة لِدرء الكِبَر عن الإنسان، و الحجّ سبباً لوحدة المسلمين، و الجهاد لِعزّة المسلمين .... «5»

و عليه فإنّ كلّ التّكاليف الإلهيّة، هي من أسباب سعادة الإنسان، و تكامله في خط الإيمان

______________________________

(1). سورة الحج، الآية 28.

(2). سورة العنكبوت، الآية 45.

(3). سورة البقرة، الآية 183.

(4). سورة التوبة، الآية 103.

(5). نهج البلاغة، الكلمات القصار، مقتبسة من جملة رقم (252).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 205

و الحقّ و التّكامل، هذا هو الهدف الأصلي للإنسان، في دائرة الوصول لمرتبة القرب الإلهي، و العبودية الحقّة، قال الباري تعالى: «وَ ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ» «1».

و لا شك فإنّ وجوب التّوبة، و قبولها من قبل الباري تعالى، يشكّل إحدى حلقات التّكامل المعنوي للإنسان، لأنّ الإنسان من طبيعته الخطأ، فإذا أوصد الباب دونه، فلن يتكامل أبداً.

و إذا ما احيط الإنسان علماً بالتّوبة، و أنّ الباري فتح الباب أمامه بشرط إصلاح ما مضى، فمثل هذا الإنسان يكون أقرب للسّعادة و التّكامل، و يبتعد عن الإنحراف و الخطأ في مسيرة الحياة.

و النّتيجة: أنّ عدم قبول التّوبة يؤدي إلى نقض الغرض، لأنّ الهدف من التّكاليف و الطّاعة، هو تربية و تكامل الإنسان، و

عدم قبولها لا ينسجم مع هذا الغرض، و من البعيد عقلًا على الحكيم، أن ينقض غرضه.

و على كلّ حال، فإنّ التّوبة و قبولها لها علاقةٌ وثيقةٌ بالتّكامل الإنساني، و بدونها سينتفي الدّافع و القصد للتّكامل، و سيكون الإنسان في غاية اليأس من النّجاة، مما يشجعه على الّتمادي في إرتكاب المعاصي و مُمارسة الجريمة، و لذلك فإنّ كلّ المربّين، سواء كانوا إلهيين أم ماديّين، يؤكّدون على مسألة التّوبة، و يجعلون الطّريق مفتوحاً دائماً أمام الخاطئين، كَي يُحرّكوا فيهم روح الأنابة، و دافع الإصلاح و الحركة نحو الكمال المُطلق.

و عليه فإنّ التوبة بشرائطها، لم تحكم بها الآيات و الرّوايات فقط، بل هي ثابتة بحكم العقل و سيرة العُقلاء، و هذا أمرٌ لا يمكن تجاهله البتّة.

6- التّبعيض في التّوبة

هل يمكن للإنسان أن يقيم على بعض الذّنوب، و يتوبَ عن البعض الآخر؟؛ فمثلًا إذا كان يشربُ الخَمر و يغتابُ الناس، فهل يصحّ منه الإقلاع عن الخمر فقط، بينما يستمر في خط الغِيبة؟

______________________________

(1). سورة الذّاريات، الآية 56.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 206

يقول البعض: إنّ التّوبة يجب أن تكون شاملةً لكلّ الذّنوب، لأنّ المسألة تعود إلى عِصيان الباري تعالى، وَ هَتك حُرمته، فالنّادم يجب أن يترك كلّ الذّنوب، لا أنّ يُصِرّ عليها.

لكن هذا الكلام مُجانب للصواب، حيث يمكن القول بصحّة التّجزئة في عمليّة التّوبة، (و صرّح بها بعض العلماء، مثل المرحوم النّراقي في «معراج السعادة»، و قد نقلها عن أبيه رحمه الله)، لأنّه ربّما يكون الإنسان، على إطّلاعٍ كاملٍ على آثار بعض الذّنوب وَ عَواقبها السّيئة، أو هو عند اللَّه أشدّ و أقبح، و لأجل ذلك فإنّه يتركه على مستوى الممارسة و يتوب منه، أمّا بالنّسبة للذنوب التي هي أقلّ قُبحاً، أو أقل

عِقاباً، أو لأنّ علمه بها و إطلاعه على ما يترتب عليها من المفاسد، ليس كافياً بالدّرجة التي تردعه عنه، فإنّه يستمر في ممارستها.

فأكثر التائبين هم كذلك، فغالباً ما يقلعون عن بعض الذّنوب، و يبقون على البَعض، و لم يردنا شي ءٌ من قبل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أو الأئمّة الأطهار عليهم السلام، أو علماء الإسلام، ينفي قبول مثل هذه التوبة، و يؤكّد على التوبة الكاملة الشاملة لكلّ الذنوب التي يرتكبها الإنسان.

و نرى في الآيات الشّريفة، إشارات واضحة على معنى التّجزئة في التّوبة، و صحّة القول بالتّفكيك، فمثلًا بالنّسبة للمُرابين، يقول تعالى «وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ» «1».

و بالنّسبة للمرتدين بعد الإيمان، يقول تعالى «أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ... إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2».

و بالنّسبة للمحاربين و المتسببّين في ضَلال الناس و المجتمع، فبعد ذكر ما يستحقون من العِقاب الشّديد، يقول تعالى «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَآعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «3».

و أمّا بالنّسبة للأعمال المنافية للعفّة، فيقول تعالى «فَإِنْ تَابَا وَ أَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً» «4».

و في مكان آخر أشار إلى الذّنوب، مثل: الشّرك، و قتل النفس، و الزنا، و عقوباتها، فقال:

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 279.

(2). سورة آل عمران، الآية 78 و 79.

(3). سورة المائدة، الآية 24.

(4). سورة النساء، الآية 16.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 207

«إِلَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ» «1».

و رغم أنّ بعض الآيات، تناولت بعض العقوبات الدنيويّة، و العفو عنها بالتّوبة، لكنّ الحقيقة أنّه لا يوجد فرق من

هذا اللحاظ، فإذا ما غفرت في الدنيا فستغفر في الآخرة قطعاً.

و الخُلاصة: أنّه لا يوجد مانعٌ من التّفكيك و التّفريق، بين الذّنوب من جهاتها الَمختلفة، مثل: (الفرق في ميزان المعلومات، الدّوافع، و قُبح الذّنوب)، و لكنّ التّوبة الكّاملة الشّاملة، هي التّوبة التي تستوعب جميع الذنوب، بدون التّفريق بينها في خطّ العودة إلى اللَّه تعالى.

7- دوام التّوبة

التّوبة يجب أن تكون مستمرةً و دائمةً، هذا من جهةٍ، فعند ما يُخطي ء الإنسان إثر وساوسه النّفسية «النّفس الأمّارة»، عليه أن يُقدِم على التّوبة لتدخل في مرحلة: «النّفس اللّوامة»، و بعدها تصل إلى مرحلة: «النّفس المطمئنة»، لتقلع جذور الوَساوس من أساسها.

و من جهةٍ اخرى: و بعد توبته من الذنب، عليه أن يُراقب نفسه بإستمرار، و ليحذر من نقض العهد مع الباري تعالى، في المستقبل أو بعبارة اخرى: إذا وجد في نفسه بقايا لِلميل إلى الذّنب، و الرّغبة في الإثم، عليه أن يُجاهد نفسه، و يتحرك في مجال تهذيبها من هذه الشّوائب، ليكونَ في صفّ التّائبين و الُمجاهدين.

بعضَ علماء الأخلاق، تطرّقوا لبحوثٍ لا طائل لها، و هوَ هلْ: مقام التائب و مجاهدته و ممارسته لعناصر الذّنوب في الخارج أفضل، أم التّائب الذي يقلع جذور الذّنب من قلبه «2»؟

و ليس من المُهم الأفضليّة، بل المُهم هو العمل على تكريس حالة الإنضباط، في جو المسؤوليّة و عدم العودة لممارسة الذّنب، و لرعاية هذا الأمر يتوجب اتّباع امور، منها:

1- الابتعاد عن أجواء الذّنب، و عدم مُجالسة أهل المعاصي، لأنّ التّائب يكون في البداية ضعيف القلب جداً، كالمريض في بدايةُ شفائه من مرضه، فأدنى شي ء، بإمكانه أن يثير في نفسه

______________________________

(1). سورة الفرقان، الآية 70.

(2). راجع المحجّة البيضاء، ج 7، ص 75.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص:

208

مشاعر الخطيئة، بالمستوى الذي يشلّ فيه إرادة الصّمود، و يحوله إلى كيانٍ مهزوزٍ، أمام حالات المرض، و يُشدّده عليه، و كالمُعتاد على الأفيون، التّارك له للتَوِّ أيضاً، يتأثر بالأجواء الملوّثة بسرعةٍ.

2- عليه هجر أصدقاء السّوء، و تجديد النّظر في علاقته معهم، و الفرار منهم كالفرار من الوحوش الضّارية.

3- في حالات وقوعه في دائرة وسوسة الشّيطان، يشتغل بذكر اللَّه تعالى: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» «1».

4- لِيفكر دائماً بالذّنب الّذي تاب منه، و إفرازاته، و يجعلها نصب عينه، لِئّلا يغفل و ينسى مضرّاته، و إلّا ستهجم عليه الوَساوسُ و الدّوافعُ لإيقاعه في هُوّةِ الخطيئة مرّةً اخرى.

5- لِيتّعظ بقصص الماضين و السّابقين و من وقعوا في المَهالك، جرّاء معاصيهم، و حتّى الأنبياء المعصومين، و لتركهم الأوْلى أحياناً، مثلًا، يُفكّر في قصّة آدم عليه السلام، و السّبب الّذي أدّى إلى خسرانه، ذلك المُقام السّامي و طَرده من الجنّة، أو حكاية يونس النّبي عليه السلام، الذي حُبس في بَطن الحوت، و يَعقوب الَذي ابتلي بفراق ولده.

فكلّ ذلك يؤثر إيجابياً، في تفعيل عناصر الإرادة و الصّمود، في خطّ الإيمان و الإنفتاح على اللَّه تعالى.

6- التّفكير بالعقوبات التي وضعها الباري للعاصين، و ليجعل هذه الحقيقة أمام عينه دائماً، و هي أنّ معاودته لإرتكاب الذّنوب، يمكن أن يؤدي به إلى إستحقاق عقوبةٍ أشدّ و أقوى.

و في المقابل، ليفكر برحمة اللَّه تعالى و لُطفه، و هو اللّطيف الخبير الغفور، فرحمته بإنتظار التّوابين العائدين إلى خطّ الإستقامة و الإيمان، و ليُحدّث نفسه بعدم تضييع هذا المقام، الذي وصل إليه بعد تعبٍ و عناءِ، في واقع العمل و المُثابرة.

7- ليشغل وقته بالبرامج الصّحيحة السّليمة، و التمّتع بغير الُمحرّم، و لا يدع فراغاً في أوقاته، يفضي

به أن يعيش التّخبط في الوَساوس الشّيطانية مرّةً اخرى.

______________________________

(1). سورة الرّعد، الآية 28.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 209

و قد سُئل أحد العُلماء، عن قوله صلى الله عليه و آله: «التّائِبُ حَبِيبُ اللَّهِ»، فقال: إنّما يكون التّائب حبيباً إذا كان فيه جميع ما ذكره في قوله تعالى: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَ الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ» «1».

8- مراتب التّوبة

ذكر علماء الأخلاق، درجات و مراتب مختلفة للتّوبة و التّائبين.

و يمكن تقسيم التّائبين من جهةٍ، إلى أربعة أقسامٍ:

القسم الأوّل: اولئك التّائِبون الذين لا يقلعون عن الذنوب، و لا يتأسفون على ما فعلوا، حيث وقفوا عند مرحلة النّفس الأمّارة، و عاقبتهم غير معلومةٍ أصلًا، فَمِن المُمكن أن يعيش حالةَ التّوبة في آخر أيّام حياته، و تكون عاقبته الحُسنى، و لكنّ الطامّة الكبرى، عند ما يتفق موتهم مع معاودتهم للذنب، و هناك ستكون عاقبتهم السّوآى، و فيها الخُسران الأبدي.

القسم الثاني: التّائبون بحق الّذين يستمرون في طريق الحقّ و الطّاعة، و يتحرّكون في خطّ الإستقامة، و لكن الشّهوات تغلبهم أحياناً، فيكسرون طوق التّوبة، و يرتكبون بعض الذّنوب، من موقع الشّعور بالضّعف أمامها، و لكنّهم لا يقعون في هذا الخطأ، من موقع الّتمرد و الجُحود و العِناد، على وعي الموقف، بل من موقع الغفلة و الإندفاع العفوي في حالات الضّعف، الّتي تفرزها حالات الصّراع مع النّفس الأمّارة، و لهذا يحدثون أنفسهم بالتّوبة من قريب، هؤلاء الأشخاص وصلوا إلى مرحلة النّفس اللّوامة، و الأمل بنجاتهم أقوى.

القسم الثّالث: التوّابون الذين يجتنبون كَبائِر الإثم، و يتمسّكون باصول الطّاعات، و لكنهم قد يقعون في حبائل المعصية، لا عن قصدٍ و عمدٍ، و لذلك يتوبون مباشرةً عن الذّنب،

فيلومون أنفسهم و يعزمون على التّوبة و العودة إلى خطّ الإستقامة بإستمرار، و يعيشون حالة الإبتعاد عن الذّنب دائماً.

______________________________

(1). سورة التّوبة، الآية 112.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 210

النّفس اللّوامة لهذه المجموعة، مهيمنةٌ عليهم، و يعيشون على مقربةٍ من النّفس المُطمئنّة، و الأمل بنجاتهم أكبر.

القسم الرابع: التّوابون بعزمٍ و قوةٍ إرادةٍ، في طريق الطّاعة للَّه تعالى، فلا تهزّهم العَواصف التي تفرضها حالات الصّراع مع الخَطيئة، و لا يخرجون من أجواء التّقوى، صحيح أنّهم ليسوا بمعصومين، و لَرُبّما فكّروا بالمعصية، و لكنّهم محصّنين مُبعدين عنها، فَقِوى الإيمان و العقل عندهم، سَلبت هوى النّفس فاعليّته في واقعهم الباطني، و كبّلته بالسّلاسل الغلاظ، في خطّ التّزكية و الجهاد الأكبر، فلا سبيل للشّيطان و الأهواء عليهم.

فاولئك هم أصحاب: «النّفوس المطمئنّة»، الذين نعتتهم الآيات (27 الى 30) من سورة الفَجر، و خُوطِبوا بأبلغ خِطابٍ، فقال عز من قائل: «يا أَيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَةُ ارجِعِي إِلَى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيِّةً».

فدخلت بإفتخارٍ في أجواء النّور و القُرب الإلهي: «فَآدْخُلِي فِي عِبادِي و ادْخُلي جَنَّتِي».

و من جهةٍ اخرى، فإنّ لِلتوبةِ مراحل على مستوى المصاديق أيضاً:

المرحلة الاولى: التّوبة من الكفر إلى الإيمان.

المرحلة الثّانية: التّوبة من الإيمان الموروث التّقليدي، و التّحرك نحو الإيمان الحقيقي المُستحكم.

المرحلة الثّالثة: التّوبة من الذّنوب الكبيرة الخَطرة.

المرحلة الرّابعة: التّوبة من الذّنوب الصّغيرة.

المرحلة الخامسة: التّوبة من التّفكير بالذّنب، و الخواطر المشوبة بالمعصية، و إن لم يرتكب الُمخالفة في دائرة الفعل و المُمارسة.

فكلّ فرقةٍ من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من إضطراب السّر، (في كلّ لحظةٍ لم يتوجهوا فيها إلى اللَّه تعالى بالباطن و السِّر).

و توبةُ الأصفياء من كلّ تنفّس بغير ذكر اللَّه «1».

______________________________

(1). فسّر المرحوم المجلسي: التّنفس بنفس ذلك المعنى، و لكنّ بعض كتب اللّغة،

فسّرته: بالخطابات الطّويلة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 211

و توبةُ الأولياء من تلوين الخطرات.

و الخَواص من الإشتغال بغير اللَّه.

و توبة العوام من الذّنوب.

و كلّ واحدٍ منهم، يشتمل على نوعٍ من المعرفة و العلم، في أصل توبته، و مُنتهى أمره «1».

9- معطيات و بركات التّوبة

إذا كانت التّوبة توبةً حقيقيةً و واقعيةً و نابعةً من الأعماق، فلا بدّ من أن تقع مورد القَبول من قبل اللَّه تعالى، العَفوّ الغَفور، و ستنشر خيرها بركاتها على صاحبها في حركة الحياة، و تُغطَّي على ما صدر منه من معاصي، أدّت به إلى السّقوط في منحدر الضّلال و الزّيغ.

مثل هذا الإنسان، يعيش أجواء الحَذر الدّائم من مجالس السّوء و العصيان، و من كلٍّ عوامل الذّنب و الوساوس، و التّداعيات الاخرى، الّتي توقعه في و حلّ المعصية مرّةً اخرى.

و يعيش حالة الخجل و النّدم، و يدأب بإستمرار لتحصيل رضا اللَّه تعالى، و جبران ما فاته من الطّاعات.

هذه هي العلاقات الفارقة لهم، عن المتظاهرين و المرائين.

قال قسم من المفسّرين، في معرض تفسيرهم للآية الشّريفة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» «2».

قالوا: إنّ المراد من التّوبة النّصوح، هي تلك التّوبة التي تفعّل في الإنسان عناصر الخير من موقع النّصيحة، و تتجلى في روح التّائب على مستوى حثها له، للقضاء على جذور العصيان في باطنه، قضاءً تامّاً بلا رجعةٍ بعدها.

و فسّرها قسم آخر، بالتّوبة الخالصة، و قال آخرون إنّ: «النّصوح» من مادّة «النّصاحة»، و هي بمعنى الخِياطة و التّرقيع، لما حدث من تمزيق، و بما أنّ الذّنوب: الإيمان و الدّين فتقوم

______________________________

(1). بحار الأنوار، 68، ص 31.

(2). سورة التحريم، الآية 8.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 212

التّوبة بتوصيلها ببعض، و تعيد التّائب إلى حضيرة الأولياء، كما تجمع

الخياطة بين قطع الثّوب «1».

إنّ بركات و فوائد التّوبة جمّةٌ لا تُحصى، و قد أشارت إليها الرّوايات و الآيات العديدة، و منها:

1- تمحو و تُفني الذّنوب، كما ورد في ذيل الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً»، ورد «عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ» «2».

2- تمنح التّائب بركات الأرض و السّماء، كما ورد في الآيات (10 و 11 و 12) من سورة نوح عليه السلام: «فَقُلْتُ آسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً».

3- تبدل التّوبة السّيئات حسنات، كما ورد في سورة الفرقان الآية (70): «إِلَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ».

4- يتعامل اللَّه مع هذا الإنسان، من موقع السّتر على الذّنوب، و ينسي الملائكة الكاتبين ذنبه، و يأمر أعضاء بدنه بالستر عليه يوم القيامة، و كتمان أمره، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِذا تابَ العَبْدُ تَوبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ اللَّهُ وَ سَتَرَ عَلَيهِ فِي الدُّنيا وَ الآخِرَةِ»، فَقُلْتُ: وَ كَيفَ يَسْتُرُ؟ قَالَ: «يُنْسِي مَلَكَيهِ ما كَتَبَا عَلَيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَ يُوحِي إِلَى جَوَارِحِهِ:

اكْتُمِي عَلَيهِ ذُنُوبَهُ، وَ يُوحِي إِلى بِقاعِ الأَرْضِ: اكْتُمِي ما يَعْمَلُ عَلَيكَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَيَلْقَى اللَّهَ حِينَ يَلْقَاهُ وَ لَيسَ عَلَيهِ شَي ءٌ يَشْهَدُ عَلَيهِ بِشَي ءٍ مِنَ الذُّنُوبِ» «3».

5- التّائب الحقيقي، يُحبّه اللَّه تعالى، لدرجةٍ أن ورد في الحديث: «إِنّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَعطَى التّائِبِينَ ثَلاثَ خِصالٍ، لَو أَعطى خِصْلَةً مِنْها جَمِيعَ أَهْلِ السَّمواتِ و الأَرضَ لَنَجَوا بِها».

و بعدها يشير إلى الآية الشريفة: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «4».

______________________________

(1). بحار الأنوار،

ج 6، ص 17.

(2). سورة التحريم، الآية 8.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 430، (باب التوبة، ح 1).

(4). سورة البقرة، الآية 222.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 213

و قال: «مَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ لَمْ يُعَذِّبْهُ».

ثمّ يُعرّج على الآية: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَآغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَ قِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «1»» «2».

إلى هنا نصل إلى خاتمة بحثنا، في الخطوة الاولى لتهذيب الأخلاق، و هي التّوبة، و توجد مطالب اخرى في هذا المجال، يمكن الإستفادة منها في بحوثٍ مُستقلةٍ.

نعم، فإنّه ما لم ينجلِ عن القلب و الروح صدأ الذُنوب، و يتحرك الإنسان لتطهير النّفس من مخلفات المعصية بماء التّوبة، فلن يشرق القلب بنور ربّه، و لن يتمكن هذا الإنسان من السّير على خطّ الإيمان، و السّلوك إلى اللَّه تعالى و الفوز بجواره، و لن يذوقَ طعم التجلّيات العرفانيّة، في حركة الحياة المعنويّة.

هذا هو أوّل محطٍّ للرحال، و أهمّها، و لا يمكن تخطّيه إلّا بعزمٍ صادقٍ و إرادةٍ راسخةٍ، يدعمها لطفٌ إلهي و توفيقٌ ربّاني، و لا يُلقّيها إلّا ذو حظٍّ عظيمٍ.

الخطوة الثّانية: المشارطة

تكلمنا سابقاً بصورةٍ مقتضبةٍ، عن بعض برامج و خُطى السّير و السّلوك، المشتركة بين كبار العلماء و السّائرين على ذلك الدّرب، و يصل البحث بنا عن التّوبة، إلى واقع التفصيل لتلك المباحث، مدعوم بالآيات و الرّوايات الشّريفة:

______________________________

(1). سورة غافر، الآية 7

الى 9.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 432.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 214

الخطوة التالية التي ذكرها علماء الأخلاق، في خطّ الإلتزام الدّيني بعد التّوبة: «المشارطة»:

و القصد منها هو الإشتراط على النّفس و تذكيرها و تنبيهها، و أفضل الأوقات لها هو بعد صلاة الفَجر، و التنوّر بأنوار هذه العبادة الإلهيّة، الكبيرة العظيمة عند اللَّه تعالى، فيذكّر نفسه و يوصيها بأن تَتحرك في طريق الخَير و الصّلاح، فإذا ما إنقضى العُمر فلن يفيد النّدم، و لا يمكن الإستدراك، و ليجعل نصب عينيه هذه الآية الشّريفة: «وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ» «1»، فإذا ما ضاع العُمر، فلن ينفع شي ءٌ بعده: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» «2».

و عليه أنّ يُحدِّث نَفسه، و يقول لها: تصوّري أنّ العُمر قد إنقضى، و زالت الحُجب و تجلّت الحقائق المُرّة، و برزت مَعالم العَذاب، و هَولِ المطّلع، و مُنكَر وَ نكير، فحينئذٍ تشعرين بِحالة النَّدم على ما عَمِلْتِ، و تقولين: «رَبِّ ارْجِعُوني* لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ» «3».

و على فرض إنّك لم تسمعي جواب: «كلّا»، و أعادوكِ الى الدنيا فهل ستتعظين و تُكَفّرين عمّا قصرتِ في جَنب اللَّه؟؟

ثمّ يوصي نفسه بجوارحه السّبعة: العَين و الاذن و اللّسان و اليّد و الرّجل و البطن و الفَرج، فهذه الجوارح مُنصاعَةٌ لكِ اليوم و في خدمتك، فلا تقحميها في المعاصي، فإنّ لجهنَّم سبعة أبوابٍ، لكلِّ باب جماعةٌ خاصةٌ من النّاس، يدخلون جهنّم منها، فعليك بالسيّطرة الدّقيقة على الجوارح لئَّلا تنحرف عن الطّريق القويم، و الهدف المرسوم لها، و بذلك توصَد أبواب جهنم دونها، و تفتح أبواب الجنان لها؟.

و يُوصي النّفس بالمُراقبة لِجوارحه، للإستعانة بها في طريق الطّاعة لا

المعصية، فهي نِعَمٌ كبيرةٌ مُحاسب عليها الإنسان غداً.

و نَجد في أدعية الإمام السجاد عليه السلام، تأكيداً لمسألة المُشارطَة في حركة الإنسان المنفتح على اللَّه.

______________________________

(1). سورة العصر، الآية 1 و 2.

(2). سوره العصر، الآية 3 و 4.

(3). سورة المؤمنون، الآية 100.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 215

ففي الدّعاء، رقم (31) المعروف بدعاء التّوبة، يقول الإمام عليه السلام «وَ لَكَ يا رَبِّ شَرطِي أَ لّا أَعُودَ في مَكْرُوهِكَ، وَ ضَماني أَنْ لا أَرجَعَ في مَذْمُومَكَ وَ عَهْدِي أَنْ أَهْجُرَ جَمِيعَ مَعاصِيك».

و كذلك الحال في الآيات القرآنية، فإنّ أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، كانوا من خلال إرتباطهم مع اللَّه تعالى، بنحوٍ من العهدِ و الميثاقِ، يُطبّقون نوعاً من المُشارطة على أنفسهم، في خط الرّسالة و المسؤولية، ففي الآية (23) من سورة الأحزاب، نقرأ: «مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» ... «1».

و كان البعض الآخر، ينقضون العهد مع الباري تعالى، بعد توكيدها، فورد في سورة الأحزاب، الآية (15): «وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا».

وَ وَرَد في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ لَمْ يَتَعاهَدْ النَّقْصَ مِنْ نَفْسِهِ غَلَبَ عَلَيهِ الهَوى وَ مَنْ كانَ في نَقْصٍ فَالمَوتُ خَيرٌ لَهُ» «2».

«فالمُشارطة» إذن: هي من الخُطى المهمّة لَتِهذيب الأخلاق، و لولاها لتراكمت سُحب الغفلة و الغُرور، على قلب و روح الإنسان، و لَحادَت به عن الطرّيق القويم، و الجادّة المستقيمة.

الخطوة الثّالثة: المراقبة

«المُراقبة» من مادة: «الرَقَبَة»، و بما أنّ الإنسان يحني رقبته عند مراقبة الأشياء و الأوضاع، فاطلِقَت على كلّ أمر يُحتاج فيه إلى المواظبة و التّحقيق.

و هذا

المُصطلح عند علماء الأَخلاق، يُطلق على «مراقبة النّفس»، و هي مرحلةٌ تاليةٌ لمرحلة المُشارطة، يعني أنّه يتوجّب على الإنسان، و بعد مُعاهدته و مُشارطته لنفسه بالطّاعة

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 67، ص 64.

(2). بحار الأنوار، ج 67، ص 64.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 216

للأوامر الإلهيّة، و الإجتناب عن الذّنوب، عليه المُراقبة و المُواظبة على طهارته المعنوية، لأنّه في أدنى غفلةٍ، فإنّ النّفس ستَنقُض كلّ العُهود و المواثيق، و تَسلُك به في خطّ المعصية مرّةً اخرى.

و طبعاً يجب أن لا ننسى أنّ الإنسان و قبل مراقبته لِنفسه، فإنّ الملائكة تراقب أعماله، فيقول القرآن الكريم: «و إنّ عَلَيكُم لَحافِظِينَ» «1».

فالحافظون هنا هم الذين يتولون عملية المراقبة لأعمال الإنسان، و ذلك بقرينة الآيات التي تردُ بعدها، فتقول: «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» «2».

و في الآية (18) من سورة (ق) يقول تعالى «ما يَلْفِظُ مِنْ قَولٍ إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».

و فوق هذا و ذاك، فإنّ اللَّه تعالى مِن ورائهم محيط بكلّ شي ء، و في الآية (1) من سورة النساء، نقرأ: «إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقِيباً».

و كذلك في سورة الأحزاب، الآية (52): «وَ كانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَي ءٍ رَقِيباً».

و في الآية (14) من سورة العلق: «أَ لَم يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرى .

و الآية (21) من سورة سَبأ: «وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَي ءٍ حَفِيظٌ».

و لكن المحلّقين في أجواء التّقوى و تهذيب النّفس، يراقبون أفعالهم و سلوكياتهم، قبل مراقبة اللَّه تعالى لهم، و يعيشون الوَجَلَ و الخَوف من أعمالهم و فعالهم، و في مُراقبةٍ دائمةٍ، لِئَلّا يصدر منهم ما يسلب تلك النّعمة، و الحالة العرفانيّة التي يعيشونها مع اللَّه تعالى شأنه.

أو بعبارةٍ اخرى: الرّقيب الباطني يعيش معهم و على يقظةٍ دائماً، بالإضافة إلى الرّقابة الخارجيّة،

و خوف اللَّه تعالى.

و في الحقيقة، فإنّ الإنسان في هذه الدنيا، حاله حالَ الذي يمتلك جوهرةً ثمينةً، يريد أن يقايضها بمتاع له و لعيالِه، و من حَوالَيهِ السرّاق و قطاعُ الطّريق، و يخاف عليها من السّرقة أو البيع بِثَمنٍ بَخْسٍ، و إن غفل عنها لِلَحظةٍ فسيُضَيّعها، و تذهب نفسه عليها حَسراتٍ.

______________________________

(1). سورة الإنفطار، الآية 10.

(2). سورة الإنفطار، الآية 12.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 217

و السّائر في خطّ التّوبة و المراقبة، يعيش الحالة هذه أيضاً، فإنّ الشّياطين من الجِنّ و الإنس مُترصّدون لِغوايته، هذا بالإضافة إلى النّفس الأمّارة، و هوى النّفس، فإذا لم يُراقب نفسه و أعماله، فلا يأمن معها، مِنْ أن تسرق جوهرة الإيمان و التّقوى، و ينتقل من هذه الدنيا، خالي الوفاض و صفَر اليدين، و في الآيات و الرّوايات إشاراتٌ كثيرةٌ، و تلميحاتٌ متنوعةٌ حول هذه المرحلة، و منها:

1- الآية (14) من سورة العَلَق: «أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى .

فهي إشارةٌ إلى مراقبة اللَّه تعالى لَه، و عليه مُراقبة أعماله أيضاً.

وَ وَجَّه في آيَةٍ اخرى الخطاب لِلمؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اْتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون» «1».

فَجُملة: «وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ...»، تبيّن لنا في الحقيقة مفهوم المراقبة للنفس، على مستوى السّلوك و العمل.

وَ وَرَد نفس المعنى، و لكن بشكلٍ مُقتضبٍ، في سورة عَبَس، الآية (24): «فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ»، (من الحلال و الحرام) «2».

2- ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، في تفسير الإحسان في الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الإِحْسَانِ»، فقال: «الإحسانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَراهُ فَإِنْ لَم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَراكَ» «3».

و

من الطّبيعي فإنّ المُعايشة مع هذه الحقيقة، و هي أنّ البّاري تعالى معنا أينما كُنّا، و الرّقيب علينا، من شأنه أن يخلق فينا روح الرّقابة، و نكون معها دائبين على الإنسجام، مع خطّ الرّسالة من موقع الإلتزام.

3- ورد حديثٌ عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُهَيمِناً عَلى

______________________________

(1). سورة الحشر، الآية 18.

(2). هذا على ما جاء في بعض التّفاسير، و قد جاء في تفاسير اخرى، أنّ المقصود هو النّظر و الإعتبار بخلقة اللَّه تعالى، لإنكشاف الآيات و الملاحظات التّوحيدية عند الإنسان، و لا تنافي بين التّفسيرين.

(3). كنز العمّال، ج 3، ص 22، ح 5254؛ بحار الأنوار، ج 25، ص 204.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 218

نَفْسِهِ مُراقِبَاً قَلْبَهُ، حافِظاً لِسانَهُ» «1».

4- جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ رعى قَلْبَهُ عَنِ الغَفلَةِ وَ نَفْسَهُ عَنِ الشّهْوَةِ وَ عَقْلَهُ عَنِ الجَهْلِ، فَقَدْ دَخَلَ في دِيوانِ المتَنَبِّهينَ ثُمَّ مَنْ رعى عَمَلَهُ عَنِ الهوى وَ دِيْنَهُ عَنِ البِدعَةِ وَ مالَهُ عَنِ الحَرامِ؛ فَهُوَ مِنْ جُملَةِ الصَّالِحِينَ» «2».

5- ما ورد في الحديث القُدسي: «بُؤساً لِلقانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي وَ يا بُؤساً لَمَنْ عصاني وَ لمْ يُراقِبُني» «3».

6- جاء في إحدى خطب أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «فَرَحِمَ اللَّهُ إمرءاً رَاقَبَ رَبَّهُ وَ تَنكَّبَ ذَنْبَهُ، وَ كابَرَ هَواهُ، وَ كَذَّبَ مُناهُ» «4».

7- و قد ورد في نهج البلاغة أيضاً: «فإتَّقُوا اللَّهَ عِبادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرَ قَلْبَهُ ...

وَ رَاقَبَ فِي يَومِهِ غَدَهُ» «5».

نعم فإنّ «الرقابة» على النفس أو المُراقبة للَّه تعالى، أو ليوم القيامة، كلّها تعكس حقيقةً واحدةً، ألا و هي النّظارة و الرّقابة الفاحصة الدّقيقة الشّديدة للإنسان على أعماله، في كلّ حالٍ و

زمانٍ و مكانٍ.

و خلاصة القول: إنّ السّائر إلى اللَّه تعالى، و بعد «المشارطة» مع نفسه و ربّه، و بعد تهذيب النفس و تربيتها على طاعة اللَّه و عبوديّته، عليه المراقبة و المداومة على العهد الذي قطعه على نفسه في خطّ التوبة، كالّدائن الذي يطلب من مدينه وفاء ديونه، فأيّ غفلة عن مخاطر المسير، ستعود عليه بالضّرر الفاحش، و تؤخره عن الرّكب كثيراً.

الخطوة الرّابعة: المحاسبة

اشارة

______________________________

(1). غُرر الحِكَم.

(2). بحار الأنوار، ج 97، ص 68.

(3). المصدر السابق، ج 74، ص 349.

(4). اصول الكافي، ج 2، ص 67.

(5). نهج البلاغة، الخطبة 83، «الخطبة الغرّاء».

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 219

رابع خطوة ذكرها العلماء و السالكون في هذا المجال، هي: «المحاسبة» للنفس، في كلّ يوم أو كلّ شهر أو كلّ سنة، فَلْينظر الإنسان ما ذا قدّم من أعمالٍ حسنةٍ، أو إرتكب من أعمالٍ قبيحةٍ، و يُفكر في ما بَدَر منه، من طاعةٍ أو عصيانٍ للَّه تعالى، أو لهوى النّفس. فيحاسب نفسه حساباً عسيراً، كالتّاجر الذي يحسب فوائده و عوائده من تجارته التي إتّجر بها، و هل عادت عليه بالنّفع أم الضرر؟. فكذلك السّائر إلى اللَّه تعالى في خطّ الإيمان و التوبة، عليه أن يُحاسب نفسه بأدقّ ممّا يفعله التاجر مع أمواله و تجارته.

و الُمحاسبة للدين أو للدنيا، لا تخلو من فائدتين: إذا بيّنت الفاتورة، الرّبح الوفير، فَهو دليلٌ على صحّةِ العمل و الدّوام عليه، و إذا ما بيّنت العكس، فهو الدّليل على الخطأ و الخطر، فربّما تلاعب أحد موظّفيه، أو خانه بالإختلاس و ما شابهها من الامور، فعليه الإسراع في التثبّت و التّفحص و الإصلاح.

و تخبرنا الآيات الكريمة، عن وجود النّظم و الحسابات الدقيقة في عالم الوجود، و تدعو الإنسان للتّفكر فيها

جيّداً، و منها: «وَ السَّمَاءَ رَفَعَهَا وَ وَضَعَ الْمِيزَانَ* أَلَّا تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ» «1».

و نقرأ في آيةٍ اخرى: «وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ» «2».

و كذلك: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» «3».

و من جهةٍ اخرى، نجد أنّ القرآن الكريم، قد أخبر في آياتٍ متعددةٍ، عن وجود حسابٍ دقيقٍ في يوم القيامة، كما ذكر على لسان لُقمان الحكيم لإبنه: «يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» «4».

و كذلك: «وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» «5».

______________________________

(1). سورة الرّحمن، الآية 7 و 8.

(2). سورة الرّعد، الآية 8.

(3). سورة الحِجْر، الآية 21.

(4). سورة لقمان، الآية 16.

(5). سورة البقرة، الآية 282.

الاخلاق فى القرآن ج 1 249

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 220

و مسألة الحساب هذه مهمّةٌ، لدرجة أنّ أحد أسماء يوم القيامةِ، هو: «يوم الحِساب»: «إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ» «1».

و يكون الإنسان هو الحَسيب على نفسه: «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» «2».

و بالنّظر لهذه الامور و الظّروف، فإنّ كلّ شي ءٍ في الدنيا و الآخرة يكون بِحساب، فكيف يمكن لإنسان أن يغفل عن مُحاسبة نفسه، و من وراءه يومٌ ثقيلٌ، و كلّ شي ءٍ بميزانٍ و مقدارٍ: و من يعمل مثقالَ ذرّةٍ خيراً يَرَه، و من يعمل مثقال ذرّةٍ شراً يَره) فكلّ ما ذكر آنفاً، يحمل إلينا رسالةً و دعوة، لإثارة عناصر الإنتباه و عدم الغفلة عن الحساب و المحاسبة، فأنت إذا أردت أن تكون مُخفّاً في يوم الحساب، عليك الإسراع

بمحاسبة نفسك هنا في الدنيا، قبل أن تحاسب في الاخرى، و يقال فيها: و لاتَ حينَ مناصٍ.

أمّا الروايات، فقد أشبعت الأمر بحثاً، و منها:

1- ما ورد عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، في حديثه المعروف: «حاسِبُوا أَنْفُسَكُم قَبلَ أَنْ تُحاسَبُوا، وَ زِنوها قَبْلَ أَنْ تُوزَنوا وَ تَجَهَّزُوا للعَرضِ الأَكْبَرِ» «3».

2- و عنه صلى الله عليه و آله مخاطباً أبا ذر رحمه الله: «يا أَباذَر حاسِبْ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تُحاسَبُ فَإِنَّهُ أَهونُ لِحِسابِكَ غَداً وَ زِن نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُ» «4».

3- وَ وَرد عن علي عليه السلام أنّه قال: «ما أَحَقُّ للإنسانِ أَنْ تَكُونَ لَهُ ساعَةٌ لا يَشْغُلُهُ شاغِلٌ يُحاسِبُ فِيها نَفْسَهُ، فَيَنظُرِ فِيما إكْتَسَبَ لَها وَ عَلَيها في لَيلِها وَ نَهارِها» «5».

فهذا الحديث يبيّن لنا بوضوح، مسألة المحاسبة في ساعات الفراغ، و هي من الامور الجديرة بالإنسان الكامل، الذي يعيش همّ المسؤوليّة، في دائرة حركته المنفتحة على اللَّه تعالى.

4- ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، بنفس المعنى و لكن بشكلٍ آخر، فيقول عليه السلام: «حَقٌ عَلى

______________________________

(1). سورة ص، الآية 26.

(2). سورة الإسراء، الآية 14.

(3). بحار الأنوار، ج 97، ص 73.

(4). أمالي الطوسي، (مطابقاً لما نقل عن ميران الحكمة) ج 8، ص 609.

(5). مستدرك الوسائل، ج 12، ص 154.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 221

كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْرِفُنا، أَنْ يُعْرِضَ عَمَلَهُ في كُلِّ يَومٍ وَ لَيلَةٍ عَلى نَفْسِهِ، فَيَكُونَ مُحاسِبَ نَفْسِهِ، فَإنّ رَأَى حَسَنَةً استَزادَ مِنْها وَ إِنْ رأَى سَيِّئَةً إِسْتَغْفَرَ مِنْها لِئلّا يُخْزى يَومَ القِيامَةِ» «1».

5- ما نُقل عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «يا هُشامُ لَيسَ مِنّا مَنْ لَمْ يُحاسِبْ نَفْسَهُ فِي كُلِّ يَومٍ، فإنْ عَمِلَ حَسَنَةً استَزَادَ مِنْها وَ إِنْ عَمِلَ

سَيِّئَةً إِسْتَغْفَرَ اللَّهُ مِنْها وَ تابَ» «2».

فالروايات جمّةٌ في هذا المجال و من أراد الإكثار، عليه مراجعة مستدرك الوسائل: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس «3».

هذه الرّوايات كلّها تبيّن أهميّة المسألة في الإسلام، و أنّ مَنْ لم يحاسب نفسه فهو ليس من أتباع الأئمّة عليهم السلام، الحقيقيين!.

و كما أشارت الرّوايات إلى فلسفة و حكمة هذا الأمر، فهو يزيد من الحسنات، و يمنع الإنسان من السّقوط في وادي الهلاك و القبائح، و يُساعده في إنقاذه من بحر الغفلة و الضّياع، و هَلّا ساوينا الامور الماديّة بالمعنويّة الروحيّة، ففي الماديّات يُحسب حساب كلّ شي ءٍ، و لكلٍّ دفتره الخاص به، دفترٌ: يومي، و سنوي، و شهري، و للمخزن ... و و. و لسنا مُستعدّين من وضع و لو ورقةٍ واحدةٍ نحاسب فيها أنفسنا، على ما فعلت في دائرة الطّاعة و المعصية، للَّهِ تعالى!!.

هذا مع وجود فرق كبير بين الأمرين، و لا يُقاس أحدهما بالآخر، أو كما يقال شَتّان ما بين الثَّرى و الثُّريّا، فنقرأ حديثاً عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، يقول: «لا يَكُونَ العَبدُ مُؤمناً حتّى يُحاسِبَ نَفْسَهُ أَشد مِنْ مُحاسَبَةِ الشّريكِ شَرِيكَهُ، وَ السَّيِّدِ عَبْدَهُ» «4».

فهذا الموضوع مهم لِلغاية، إلى درجةٍ أنّ العلماء كتبوا فيه كتباً عديدةً، و منهم السيد إبن طاووس الحلي رحمه الله المتوفي فى سنة «664 للهجرة» في كتابه محاسبة النّفس، و كتاب محاسبة النّفس في إصلاح عمل اليوم و الإعتذار من الأمس، للمرحوم الحاج ميرزا علي الحائري

______________________________

(1). تحف العقول، ص 221.

(2). مستدرك الوسائل، ج 12، ص 153.

(3). المصدر السابق، ج 12، ص 152- 156؛ اصول الكافي، ج 2، باب محاسبة العمل، ص 453، ح 2.

(4). محاسبة النّفس، لإبن طاووس رحمه

الله، ص 14؛ بحار الأنوار، ج 67، ص 72، ح 22.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 222

المرعشي، (المتوفى في سنة 1344 للهجرة)، و محاسبة النّفس للسيّد علي المرعشي، المتوفى في سنة (1080 للهجرة «1»).

و يجدر هنا الإشارة إلى عدّة ملاحظات:

1- كيفيّة محاسبة النّفس و إستنطاقها

و أفضل طريقٍ لذلك، ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، نقلًا عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، فقال:

«أَكْيَسَ الكيَسِينَ مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ ...» فَقَالَوا: يا أَميرِ المُؤمِنِينَ وَ كَيفَ يُحاسَبُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ؟.

قال: إذا أَصْبَحَ ثُمَّ أَمسى رَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَ قَالَ: يا نَفسُ إِنَّ هذا يَومٌ مضى عَلَيكِ لا يَعُودُ إِلَيكِ أَبَداً، وَ اللَّهُ سائِلُكِ عَنْهُ فَيما أَفْنَيتَهُ، فَما الَّذِي عَمِلْتَ فِيهِ؟ أ ذَكَرْتَ اللَّهَ أَمْ حَمَدْتَه؟

أ قَضَيتِ حَقَّ أَخٍ مُؤمِنٍ؟ أَنْفَّسْتَ عَنْهُ كُربَتَهُ؟ أ حَفِظتِيهِ بِظَهرِ الغَيبِ فِي أَهْلِهِ وَ وَلَدِه؟ أ حَفِظتِيهِ بَعْدَ المَوتِ فِي مُخلِّفِيهِ؟ أَكَفَفتِ عَنْهُ غَيبَةِ أَخٍ مُؤمِنْ بِفَضْلِ جاهَك؟ أَ أعَنْتَ مُسلِماً؟ ما الَّذِي صَنَعْتِ فِيهِ؟ فَيَذكُرَ ما كانَ مِنْهُ، فإنْ ذَكَرَ أَنّهُ جَرى مِنهُ خَيرَ حَمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ وَ كَبَّرَهُ عَلى تَوفِيقِهِ، و إِنْ ذَكرَ مَعْصِيةً أَو تَقْصِيراً اسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ وَ عَزَمَ عَلى تَرْكِ مَعاوَدَتَهُ وَ محا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَجْدِيدٍ الصّلاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيّبِينَ وَ عَرَضَ بَيعَةَ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلِى نَفْسِهِ وَ قَبُولِها، و إِعادَة لَعَنَ شانِئِيهِ وَ أَعدَائِهِ، وَ دَافِعِيه عَنْ حُقُوقِهِ، فَإِذا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: لَستُ اناقِشُكَ فِي شي ءٍ مِنْ الذُّنُوبِ مَعَ مُوالاتِكَ أَولِيائِي وَ مُعادَاتِك أَعدَائِي» «2».

نعم فإنّها أفضل طريقةٍ لمحاسبة النّفس، و إلجامها عن الّتمادي في خطّ العصيان و الّتمرد.

2- ما هي معطيات محاسبة النّفس؟

الإجابة على هذا السؤال، ظهرت جليةً في طيّات بُحوثنا السّابقة، و الحَريّ بنا هنا

______________________________

(1). الذّريعة، ج 2.

(2). بحار الأنوار، ج 70، ص 69 و 70.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 223

الإستعانة بالأحاديث التي وردت عنهم عليهم السلام، منها:

ما ورد عن الإمام علي عليه السلام: «مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ وَقَفَ عَلَى عُيوبِهِ،

وَ أَحاطَ بِذُنُوبِهِ، و استَقالَ الذُّنُوبَ وَ أَصْلَحَ العُيوبَ» «1».

و أيضاً عنه عليه السلام: «مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ سَعَدَ» «2».

و عنه عليه السلام: «ثَمَرَةُ الُمحاسِبِةِ صلاحُ النَّفْسِ» «3».

و يقول بعض العلماء في هذا الفن، إنّ المحاسبة يجب أن تكون شبيهة، بالمحاسبة بين الشّريكين، فإذا ما وجد النّفع إستمر معه و بارك في خُطاه، و إلّا فسيكون ضامناً للخسارة في الحاضر و المستقبل.

و أهمّ رأسمالٍ عند الإنسان: هو عمره، فإذا ما قضاه بالخير و المنفعة، فهو الفائز، و لكنه سوف يعيش الخسارة في إرتكابه لِلذنوب، فموسم هذه التّجارة هي أيّامه، و شريكه في المعاملة هو النّفس الأمّارة.

فأوّل ما يطالبها بالفرائض، فإذا ما أدّتها فليشكر الباري تعالى، و ليبارك خُطاه، و إذا ما ضيّعت فريضة ما، فليطالبها بقضائها و إذا كان فيها نقص، فليجبرها بالنّوافل، و عند المعصية يطالبها بالتّكفير عنها، كما يفعل التاجر مع شريكه، في أتفه الامور و المبالغ التي لا قيمة لها، كي لا يُغبن في المعاملة، و خصوصاً أنّ الإنسان، يواجه عدوّاً لدوداً مخادعاً، و هو النفس الأمّارة، و ليحاسب نفسه كما تحاسبه الملائكة، في تداعيات أفكاره، و خواطر نفسه في قيامه و في قُعوده، و لما ذا تكلّم، و لما ذا سكن؟، و هكذا في كلّ ساعةٍ و كلِّ يومٍ، و على كلّ فعلٍ و عملٍ، و إذا ما تهاون في الأمر، فسوف تتراكم على قلبه و روحه الذّنوب و العيوب، و الأنكى من ذلك أنّ الإنسان ينسى ما يفعله بسهولةٍ، و لكنّ الكرام الكاتبين، لا يغفلون و لا يفترون في عملهم، فقال الباري تعالى: «أَحْصَاهُ اللَّهُ وَ نَسَوهُ» «4» «5»

______________________________

(1) غرر الحكم

(2) المستدرك ج 126 ص 154

(3) غرر الحكم

(4) سوره

المجادله الايه 6

.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 224

و مسك الخِتام، نورد حديثاً يبيّن كيفيّة الحساب في يوم القيامة، عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «لا تَزُولُ قَدَما عَبْدٍ يَومَ الَقيامَةِ، حَتّى يُسْئَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِي ما أَفناهُ وَ عَنْ شَبابِهِ فَي ما أَبلاهُ، وَ عَنْ مالِهِ مِنْ أَينَ كَسَبَهُ وَ في ما أَنْفَقَهُ وَ عَنْ حُبِّنا أَهْلَ البَيتِ» «1».

الخطوة الخامسة: المعاتبة و المعاقبة

بعد «المحاسبة»، يأتي دور المُعاتبة و المُعاقبة للنّفس على أخطائها و أغلاطها، فالحساب بدون إظهار ردّ الفعل، لا فائدة فيه و لا ثمرة، و نتيجته ستكون عكسيةً، بل تحمل النّفس على الجرأة و الجسارة و العناد، في حركة الحياة و الواقع، فكما يحاسب الرّئيس موظفيه عن تقصيرهم، و يعاقبهم بنوعٍ ما، و كلٌّ حسب حجم تقصيره، فكذلك يفعل السّائرون في طريق الباري، فإذا ما جَمَحَت بهم أنفسهم يوماً، فسوف يعاقبونها لجرأتها على سيّدها و مولاها.

و أكّد القرآن الكريم على هذه المسألة، فأقسَم بالنّفسِ اللّوامة، لأهميتها: «لا اقْسِمُ بِآلنَّفْسِ اللَّوامَة» «2»، «3».

و نحن نعلم أنّ النّفس اللوامة، هي الضّمير الحي الذي يردع صاحبه عن إرتكاب المعاصي، و هو نوع من العِقاب للنفس.

و من الواضح أنّ العقاب للنفس له درجاتٌ و مراتبٌ، و أوّل ما يبدأ من حالة الملامة، ثمّ يشدّد العقاب، و ذلك بحرمان النّفس من بعض اللذائذ الدنيوية لفترة من الزّمن.

و أشار القرآن الكريم، لنموذجٍ رائعٍ حول هذا الموضوع، و ذلك بالنّسبة للثلاثة الذين

______________________________

. المحجّة البيضاء، ج 8، ص 168، (مع التلخيص).

(1). خصال الصدوق، ص 253.

(2). سورة القيامة، الآية 2.

(3). المعروف بين المفسّرين: أنّ «لا» زائدة و للتأكيد، و الجدير بالملاحظة أنّه وردت تفسيرات مختلفة «للنفس اللّوامة»، فبعض قال:

أنّها إشارةٌ للكفّار و العاصين الذين يلومون أنفسهم في يوم القيامة، و بعض أشاروا إليهم في هذه الدنيا، أنّهم يستحقون الملامة في الدنيا قبل الآخرة، و لكنّ المعنى: «الوجدان أو الضمير المستيقظ»، أنسب من الجميع، و قَسَمٌ القرآن بهاٌ دليلٌ على أفضليّتها على باقي الامور.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 225

تخلّفوا في غزوة تَبوك، و أمر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، الناس بمقاطعتهم في كلّ شي ءٍ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فعاقبوا أنفسهم على فعلتهم، و إنشغلوا بالتّوبة، و إنعزلوا عن الناس بالكامل، و بعد مدّة تاب اللَّه تعالى عليهم، و نزلت الآية الكريمة: «وَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1».

فجملة: «و ضاقت عليهم أنفسهم»، ربّما تكون إشارةً إلى مسألة: «معاقبة النّفس»، بالعزلة التي إختاروها لأنفسهم، فقبلها الباري تعالى منهم، وَ ورد في شأن النّزول للآية (102) من سورة التوبة: «وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

فهي تشير إلى قصة: «أبو لُبابة الأنصاري»، و هو أحد أصحاب النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و لكنّه تهاوَن عن نَصرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، في غزوة تَبوك، و بعدها ندم أشدّ الندم، فأراد أن يُكفّر عن فِعلته، فذهب إلى مسجد النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و ربط نفسه إلى أحد أعمدته، و أقسم أنّ لا يطلق نفسه إلّا بموافقة اللَّه و رسوله، أو يتوب اللَّه تعالى عليه، فبقي على هذه

الصورة حتى تاب اللَّه تعالى عليه، و نزلت الآية، و صرّحت بقبول اللَّه تعالى لِتوبته.

و من الواضح، أنّ أبا لُبابة كان قد تحرك من موقع مُحاسبة النفس، و مُعاقبتها على فِعلتها، و هو دليلٌ على أنّ السّير و السّلوك إلى اللَّه تعالى، كان موجوداً على عهد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

و أمّا جملة: «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئَاً»، فهي أيضاً ربّما تكون إشارةً لذلك المعنى أيضاً، و أَتحفتنا الرّوايات أيضاً، و أرشدتنا إلى موضوع بحثنا، و منها:

1- ما ورد عن علي عليه السلام، أنّ قال في أوصاف المتّقين، في نهج البلاغة:

«إِن اسْتَصْعَبَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ في ما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِها سُؤلَها فِي ما تُحِبُّ» «2».

و المقصود منه، أن يمنع نفسه في حالة جموحها، من النوم و الرّاحة و الأكل و الشّرب،

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 118.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 193.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 226

لتتأدّب و لتنصاع إليه.

2- ما ورد في غُرر الحِكَم، عن ذلك الإمام عليه السلام الهمام، أنّه قال: «إِذا صَعُبَتْ عَلَيكَ نَفْسُكَ فاصْعَبْ لَها تَذِلُّ لَك».

3- و عنه عليه السلام: «مَنْ ذَمَّ نَفْسَهُ أَصلَحَها، وَ مَنْ مَدحَ نَفْسَهُ ذَبَحها» «1»

4- و عنه عليه السلام، قال: «دَواءُ النَّفْسِ الصَّومُ عَنِ الهوى وَ الحَمِيةُ عَنْ لَذّاتِ الدُّنيا» «2».

و يحدّثنا التأريخ عن نماذجٍ كثيرةٍ من أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و العلماء الكبار، و المؤمنين المخُلصين، الذين إذا مسّهم إغواء الشّيطان، و إرتكبوا بعض الذنوب، كانوا يسارعون في وضع أنفسهم تحت طائلة العقاب، لئلّا يتكرّر هذا العمل منهم مرّةً اخرى في المستقبل، و منها:

1- ورد أنّ أحد أصحاب النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و إسمه «ثَعلبة» «3»، كان من

الأنصار، و كان يُؤاخي «سعيد بن عبد الرحمن»، و هو من المهاجرين، و صاحَبَ سعيدٌ الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله في إحدى غزواته، و خَلّف ثعلبة في المدينة، مُعتمداً عليه في حلّ مشاكل بيته و عائلته، و ما يحتاجونه من باقي الامور المعيشيّة، و في يوم ما، إحتاجت امرأة «سعيد» إلى شي ءٍ، فوقفت خلف الباب، تتحدّث مع ثعلبة في ذلك الأمر، فوسوس له الشّيطان في ممارسة الإثم، فكشف عن حجابها، فرآها جميلةً جدّاً، فأراد أن يضمّها إلى صدره، و لكنّها نهرته قائلة له: ما تفعل يا ثعلبة، أمِنَ الحقِّ أن يكون أخوك في الجِهاد، و أنت تُريد بأهلِهِ السّوء؟!

إنتبه ثعلبةُ من نومه و غفلته، و أيقظه هذا النّداء من غيّه، فَصاحَ و فرّ على وجهه في البيداء باكياً، و هو يقول: «إِلَهِي أَنْتَ المُعرُوف بِالغُفرانِ و أَنا المَوصُوفُ بِالعِصيانِ» «4».

فبقي في الصحراء مدّةً طويلةً مُعاقباً نفسه، مَضيّقاً عليها لِما صدر منه، و في قصّةٍ طويلةٍ

______________________________

(1). غُرَر الحِكَم.

(2). المصدر السابق، ح 5153.

(3). ثعلبة كان إسماً لعدّة من أصحاب النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و ثَعلبةُ هذا، غير ثعلبة بن حاطِب الأنصاري، الذي إمتنع عن أداء الزكاة، فطرده الرّسول و المسلمون.

(4). ذكرت هذه القصة في كتبٍ كثيرةٍ، منها خزينة الجواهر، ص 320، و كذلك في تفسير الفخر الرازي، في ذيل هذه الآية، بصورة ملخصة، ج 9، ص 9.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 227

تحكي أنّه عاد بعدها إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و تاب على يده، فنزلت الآية أدناه لتوكيد قبول توبته، و هي الآية (135) من سورة آل عمران: «وَ الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَآسْتَغْفَرُوا

لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ».

2- نقل عن حالات الفقيه الكبير، المرحوم آية اللَّه، البروجردي قدس سره، عند ما كان يجلس للدرس مع طلابه، فربّما بَدَر منه أثناء النّقاش، أن يرفع صوته بالتّوبيخ لأحد طلّابه، و لم يكن ذلك منه إلّا من باب المحبّة، و علاقة الأب مع إبنه، فكان يندم مباشرةً و يعتذر، و ينذر للصوم في غَدِه ليُكفّر عن فعله، رغم أنّه لم يصدر منه ما يخالف الشّرع.

3- نقلُ أحد كِبار عُلماء الأخلاق، عن أحد الوعّاظ، أنّه عند ما كان يصعد على المِنبَر للوعظ و الخطابة، و قبل الشّروع كان يُسلّم على الحسين عليه السلام، و لا يبدأ بكلامه حتى يسمع الجواب منه عليه السلام، هذه الحالة المعنوية، لم تحصل لديه إلّا بعد حادثةٍ حدثت له مع أحد الوعّاظ، حيث قَرّر في يوم من الأيّام مع نفسه، يكسر مجلس ذلك الواعظ المعروف، بإيراده كلاماً أبلغ و أحلى من كلام ذلك الشّيخ، فتنبّه لِخَطئه، و أخذ على نفسه بعدم إرتقاء المنبر لمدّة (40) يوماً، عِقاباً لنفسه على فعلتها تلك، فالقي في قلبه ذلك النّور و تلك الحالة الإلهيّة. «1»

و زبدة الكلام، أنّه و للحصول على النتائج و المعطيات، المرجوّة من المراقبة و المحاسبة، أن يتحرك الشّخص في عملية التّزكية، من موقع معاقبة النفس عند زلَلِها و جُموحها عن الطريق، و إلّا فلا يمكن تَوخّي النّتائج المطلوبة في نطاق التّهذيب و التّزكية، و هذا لا يعني أننا نُمضي أعمال و فعال بعض الصّوفيين المنحرفين، كما أورد بعضها الغزالي في كتابه: «إحياء العلوم»، فما يفعلوه من أعمال خَشنةٍ مُتهوِّرة، و سلوكياتٍ شاذةٍ، في دائرة معاقبة النفس

و جُبران تقصيرها، لا تَمُتّ إلى الدّين بصلةٍ، و قصدنا من المعاقبة، هي أعمالٌ مشروعةٌ في دائرة المفاهيم الإسلاميّة، كالصّوم، و مخالفة الهوى، و حرمان النفس من بعض لذّاتها المادية، التي لا تخدش في سماحة الدين و رأفته، بل هي من اسسه.

______________________________

(1). و كذلك قصّة علي بن يقطين، و إبراهيم الجمّال المعروفة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 228

و كما يقول المرحوم النّراقي، في «معراج السّعادة»:

إذا صدرت من الشّخص مخالفةٌ؛ ما فعليه تأديب نفسه و ترويضها، بالعبادات الثّقيلة مثلًا، أو بإنفاق الأموال التي يحبّها و يجمعها، أو يقوم يتجويع نفسه عند أكله لِلُقمة الحرام، أو يؤدب نفسه بالسّكوت، و يمدح الشّخص الذي يغتابه، أو يجبرها بذكر اللَّه تعالى، و إذا إستهان أو استصغر أحداً من الناس لفقره، فليكرمه بالمال الكثير، و كذلك الحال في بقيّة المعاصي، و الموبقات التي صدرت منه، و لكلٍّ بِحَسَبِه» «1».

الخطوة السّادسة: «النيّة» و «إخلاص النيّة»

اشارة

تناول العلماء في بداية مباحثهم الأخلاقية، مسألة «النيّة» و «إخلاص النيّة»، و فرّقوا بينهما و قالوا: إنّ «النيّة» شي ءٌ، و «إخلاصُ النيّة» شي ءٌ آخر، لكنّهم لم يذكروا فروقاً واضحةً و مشخّصَةً، فأدخلوا إخلاص النيّة في مبحث النيّة، بحيث يصعب الّتمييز بينهما.

و لأجل التّفريق و الّتمييز بينهما، يمكن القول: إنّ المقصود من «النيّة»: هو العَزمُ و الإرادةُ الرّاسختين لفعلٍ ما، بقطع النّظر عن الدّافع الإلهي، أو المادي الذي يقف خلفها.

بالطّبع إذا أراد الإنسان أن يرى ثمرة عمله، في دائرة الواقع و حركة الحياة، فعليه أن يدخل إلى ساحة العمل و السّلوك، بإرادةٍ قويّةٍ، و عزمٍ راسخ، لا تُزلزِلهُ التّحديات، و لا تهزّه الصّعاب، سواءً في نطاق تحصيل العلم، أو في الزّراعة و التجارة و السّياسة.

و الخُلاصة: إنّ كلّ عملٍ إيجابي، نريد أن نصل

به إلى النتائج المرجوّة، علينا في البداية، أن نتقدم نحو ميدان العمل و الممارسة، بقلبٍ ثابتٍ و إرادةٍ بعيدةٍ عن التّردد، و بالطبع فإنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّا بالتنظير له، في مرحلةٍ سابقةٍ، و دراسةِ كلّ جوانبه و الامور المحيطة به، من عوائد و نتائج إيجابيّة أو سلبيّة، و العقبات التي يمكن أن تقف بوجهه، و بعدها المُضي قُدُماً بخطى ثابتةٍ نحو الهدف، في خطّ العمل و التّطبيق.

______________________________

(1). معراج السعادة، الطّبعة الجديدة، ص 703، (مع شي ءٍ من التّلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 229

و لأجل السّير في طريق تهذيب الأخلاق و السلوك إلى اللَّه تعالى، نحتاج إلى نيّة جادّةٍ، و إرادةٍ حاسمةٍ، لأنّ ضعف الإرادة، يمثّل أكبر عائقٍ أمام تحقيق ما يطمح إليه الإنسان، في دائرة التّكامل الأخلاقي، فأيّ مانع يقف بوجهه، سُرعان ما يُولّي دُبُرَه و يعود أدراجَه، فالضّعف في عنصر الإرادة، بإمكانه أن يتَسرّب إلى سائر القوى الباطنيّة، و بالعكس، فإنّ القويُّ الإرادة، سيقوم بتوظيف قِواه، و ملكاته الداخليّة، و يدفعها بقوةٍ نحو الهدف المنشود.

و هذا هو الأمر، الذي عبّر عنه القرآن الكريم ب: «العزم»، و قد سُمّي الأنبياء العظام، لعزمهم القوي، و إرادتهم الحديديّة، ب الأنبياء أولو العزم) «1»

فخاطب القرآن الكريم، الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، قائلًا: «فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكّل عَلَى اللَّهِ» «2».

و بالنسبة لآدم عليه السلام، قال: «وَ لَقَدْ عَهِدنا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» «3»، حيث تناول من الشّجرة الممنوعة، و لم تكن لديه إرادةٌ قويةٌ في خطّ الطّاعة.

أمّا في دائرة الرّوايات الشّريفة، فنرى أنّها توّجهت إلى عنصر العزم، و أكّدت عليه من موقع الأهميّة. و منها:

ما نقل عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام،

في أدعية رجب، نقرأ: «وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَفضَلَ زَادِ الرَّاحِلِ إِلَيكَ عَزْمُ إِرادَةٍ يَخْتارُكَ بِها وَ قَدْ ناجاكَ بِعَزمِ الإِرادَة قَلبي» «4».

و في حديث آخر عن الصّادق عليه السلام، قال: «إِنّما قَدَّرَ اللَّهُ عَوْنَ العِبادِ عَلى قَدْرِ نَيّاتِهِم، فَمَن صَحَّتْ نِيَّتَهُ تَمَّ عَوْنُ اللَّهِ لَهُ، وَ مَنْ قَصُرَتْ نِيَّتَهُ قَصُرَ عَنْهُ العَوْنَ بِقَدْرِ الَّذِي قَصَّرَهُ» «5».

و في حديثٍ آخر، عنه عليه السلام: «ما ضَعُفَ بَدَنٌ عَمّا قَوِيتْ عَلَيهِ النِّيَّةُ» «6».

فهذا الحديث، يبيّن لنا فاعليّة الإرادة، و دورها في الصّعود بالقوى الجسمانيّة، إلى أبعد الحدود و المراتب في حركة الإنسان.

______________________________

(1). ورد في مقاييس اللغة: أن العزم في الأصل بمعنى القطع، و الإرادة القاطعة اخذت منه.

(2). سورة آل عمران، الآية 159.

(3). سورة طه الآية 115.

(4). نقله المحدّث القمي في مفاتيحه، عن إبن طاووس رحمهما اللَّه تعالى، و هو في أعمال شهر رجب المُرجّب.

(5). بحار الأنوار، ج 67، ص 211.

(6). المصدر السابق، ص 205، ح 14.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 230

و من المعاني الاخرى «لِلنيّة»، هو إختلاف الدّوافع، بالنّسبة لِلأعمال الّتي تكون على هيئةٍ واحدةٍ في الظّاهر، فالذّهاب للجهاد، يمكن أن يكون الباعث له هو كسب الغنائم، أو الإستعلاء على النّاس، أو يكون دافِعُهُ نصرة الحقّ، و دفع الظّلم، و إطفاء نار الفِتن، و أمثال ذلك.

فالذّهاب لِلحرب، واحدٌ في الشّكل و الظّاهر، و لكن شتّان بين النّوايا السّليمة، و بين النّوايا المغرضة.

و لأجل ذلك، أتت الأوامر بإصلاح النيّة، و تنقيتها من الشّوائب، قبل السّلوك في أيّ طريق، و ما السّالك في خطّ اللَّه، و الكمال المعنوي بِمُستثنى عن ذلك، فهل أنّ هدفه من سلوك سبيل التهذيب و الرياضة، هو التّكامل المعنوي، و الوصال الحقيقي، أم أنّه يريد

كسب عنصر القّوة في عالم النفس، و التّسلط على ما وراء الطّبيعة، ليشار إليه بِالبَنان؟!.

و ما وردنا من حديثٍ: «إِنّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ»، هو إشارةٌ لهذا المعنى، وَ وَرد الحديث في موسوعة: بحار الأنوار، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: «إِنّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ و إنَّما لِكُلِّ امرِءٍ ما نَوى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ، وَ مَنْ كانَتْ هِجرَتُهُ إِلى دُنيا يُصِيبَها أو إِمرَأَةٍ يَتَزَوَّجَها فَهِجْرَتُهُ إِلى ما هاجَرَ إِلَيهِ» «1».

و كذلك الحديث الوارد عن علي عليه السلام، حيث يقول: «عَلى قَدْرِ النِّيَّةِ تَكُونُ مِنَ اللَّه عَطِيَّةٌ» «2».

فهو إشارةٌ إلى نفس المعنى الآنف الذكر.

و يُستفاد مما تقدم، أنّه و لأجل الوصول إلى المقاصد و الأهداف المنشودة، في أيّ أمرٍ و عملٍ، و خصوصاً المصيريّة منها، علينا أن نتحرّك في دائرة العمل، بإرادةٍ قويّةٍ و عزمٍ راسخٍ، في مُواجهة التحدّيات الصّعبة، لتحقيق الأهداف المرسومة، و بدون ذلك، سيحل فينا عنصر اليأس و الحيرة و الضّياع.

و كذلك هو حال السّائر في طريق تهذيب النّفس، و إصلاح الخَلل في واقعه الداخلي، عليه البِدء بإرادةٍ حديديّةٍ، و يدعمها بالتوكّل على الباري تعالى، في عمليّة السّلوك المعنوي، و يمكن

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 67، ص 211، و ورد في هامشه، أن هذا الحديث متفق عليه عند جميع المسلمين، ثم يشير إلى كلام البخاري في صحيحه، في كتاب الإيمان، ص 23.

(2). غُرر الحِكَم، ح 1594.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 231

أن يتساءل المرءُ عن كيفيّةِ تَحصيل هذه الإرادة القويّة، في واقعه الدّاخلي و النّفسي.

و الجواب واضح جِدّاً، فَنفس الهدفِ المنشودِ، هو الحافز الأصلي الذي يدفع الإنسان نَحوه، فكُلّما كان الهدف سامِياً، كان السّير إليه

أقوى و أشد، و الخُطى نَحوه أثبت.

فإذا أذعن الإنسان لهدف الحقيقة، و هيَ: أنّ وجوده، و الهدف من خلقته، ليس هو إلّا تهذيب الأخلاق و القربُ من اللَّه تعالى، و بِغَفلته أو تَغافُله عنها، سيقع في مستنقع الرّذائل، و ينحدر في وادي الظّلمات، فإذا صدّق تلك الحقيقة، و تعمّق فيها، أكثر و أكثر، فسوف يسير على بصيرةٍ من أمره، ثابتَ الخُطى، هادى ءَ البال، مرتاحَ الضّمير، رابطَ الجّأش، بل و أكثر من ذلك، سيفدي روحه في هذا السّبيل، و يكون مِصداقاً ل: «عَجّلْتُ إليك رَبِّ لِتَرضى .

و يمكن القول في جملة واحدة، أنّ الإرادة القويّة منشؤها المعرفة الكاملة، من موقع الوضوح في الرّؤية و سمّو الهدف، في وعي الإنسان.

الإخلاص:

المراد من «الإخلاص»، هو: إخلاص النيّة، و أن يكون الهدف، في دائرة الفكر و السّلوك:

هو اللَّه تعالى فقط.

و قد يكون هناك أشخاص من ذوي الإرادة القويّة، تمنحهم القوّة للوصول إلى أهدافهم، إلّا أنّ الدّافع الحقيقي لهم، هو: النّفع المادي و المصلحة الذّاتية، و لكنّ أولياء اللَّه و السّالكين في خطّ الحقّ و الإيمان، يتمتعون بإخلاص النيّة للَّه تعالى، إلى جانب الإرادة القويّة.

و نرى في القرآن الكريم و الرّوايات الإسلاميّة، أن عنصر: «الإخلاص»، إلى درجةٍ من الأهميّة، بحيث يُعدّ العامل الأساس في حركة الإنسان و الحياة، للفوز في الدنيا و الآخرة، و كلّ عملٍ في الإسلام، لا يقبل إلّا إذا توفّر عنصر الإخلاص للَّه تعالى، هذا من جهةٍ:

و من جهةٍ اخرى: نرى أنّ الإخلاص يعدّ من أصعب الامور، و لا يصل إلى الدّرجة العليا من الإخلاص إلّا المقرّبون، رغم أنّ حالة الإخلاص محمودةٍ في أيّ مرحلةٍ و مرتبةٍ.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 232

و لنرجع الآن لِلقرآن الكريم، لنستوحي

من آياته مسألة الإخلاص. فبعض الآيات تتحدث عن المخلِصين، و البعض الآخر عن المخلَصين من موقع الثناء، و الّتمجيد بهم، و منها:

1- في الآية (5) من سورة البيّنة: «وَ مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَ ذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ».

حيث تتبيّن أهميّة هذا الموضوع، بالنّظر إلى أنّ الدّين له مفهومٌ واسعٌ يستوعب في إطاره، كلّ العقائد و الأعمال الباطنيّة و الخارجيّة، فالضّمير في: و ما امروا، يعود على جميع أتباع المذاهب الإلهيّة و الأديان السماوية، و الإخلاص و الصلاة و الزكاة، تمثّل: عناصر مشتركة بين الجميع، فهذا التّعبير في الآية، يبيّن حقيقةً واحدةً ألا و هي أنّ جميع الأوامر الإلهيّة مستقاةٌ من حقيقة التّوحيد و الإخلاص، في خطّ الطّاعة و العبوديّة.

2- و في آية اخرى، نجد أنّ القرآن الكريم يوجّه خطابه إلى جميع المسلمين، و يقول:

«فَآدْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» «1».

3- و في مكان آخر، يخاطب الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و يقول: «قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ» «2».

و يُستشف من هذه الآيات و آياتٍ اخرى، أنّ الإخلاص هو أساس الدّين و دعامته، التي يرتكز عليها في عمليّة تثبيت الإنسان، في خطّ الإيمان و الإنفتاح على اللَّه تعالى.

و سنتعرّض لِشرح معنى المخلِصين و المخلَصين، و الفرق بينهما في ما بعد، و لكن توجد هنا عباراتٌ على درجةٍ من الأهميّة، على مستوى المفاهيم القرآنية:

1- الآية: (39 و 40) من سورة الحِجر، تتحدثان عن الشيطان، بعد ما طرد من رحمة اللَّه سبحانه إلى الأبد، فقال بعنادٍ: «وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الُمخْلَصِينَ».

فتبيّن هذه الآية، حالة المخلَصين من عباده،

و أنّها إلى درجةٍ من القوّة و الإستحكام، حتى الشّيطان قد يأس منهم.

2- الآية: (39 و 40) من سورة الصافات، تتحدثان عن وعد اللَّه تعالى لعباده المخلَصين،

______________________________

(1). سورة غافر، الآية 14.

(2). سورة الزّمر، الآية 11.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 233

بثوابٍ لا يعلمه إلّا الباري تعالى، فيقول: «وَ مَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ».

3- الآية: (127 و 128) من سورة الصافات، أيضاً صعدت بمقام المخلَصين، إلى درجةٍ أنّهم معفوّون من الحساب و الحضور في المحكمة الإلهيّة، و يدخلون الجنّة مباشرة.

4- الآية: (159 و 160) من نفس السورة، وصفت المخلَصين، بأنّهم الوحيدون الذين يصحّ منهم وصف الذات المقدسة، ممّا يدلّ على عمق معرفتهم الحقيقة بحقيقة الالوهيّة:

«سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ».

فوصفهم للَّهِ، لا إشكال فيه.

5- الآية: (24) من سورة يوسف، تحدّثت عن الحصانة الإلهيّة للنبي يوسف عليه السلام، في مقابل وساوس إمرأة العزيز الشّيطانيّة، فقال: «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ».

أمّا ما الفرق بين المخلِصين و المخلَصين؟، هنا نجد تفسيراتٌ كثيرةٌ، و يمكن القول أنّ أفضل هذه التّفاسير، هو الذي يقول: أنّ «المخلِص» هو الذي يتحرك في طريق الإخلاص للَّه تعالى، بعيداً عن كلّ الشّوائب و الأدران و المقاصد غير الإلهيّة، في دائرة الفكر و النيّة، و يتحرك بعيداً عن الرّذائل و القبائح، في دائرة الفعل و المُمارسة، أمّا «المخلَصين»، فهو الذي تحضره العناية الربانيّة، و المدد الإلهي، لرفع آخر شائبة من قلبه، و يشمله لطف الربّ لتخليصه من كلّ ما لا يحب و يرضى.

و توضيح ذلك: إنّ الشّوائب التي تصيب قلب الإنسان و وجوده على نوعين:

نوعٌ يكون الإنسان منها على بصيرةٍ، و يسعى لإزالتها من واقع

وجوده، بإخلاص النيّة و العقيدة و العمل، و يُوفّق في مسعاه.

أمّا النّوع الآخر، فهو خفي لا يحسّ به الإنسان في مسارب النّفس و الرّوح، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: «إِنَّ الشِّركَ أَخفَى مِنْ دَبِيبِ الَّنملِ عَلى صَخْرَةٍ سَوداءٍ في لَيْلَةٍ ظَلْماءٍ» «1».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 69، ص 93.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 234

فهنا لا يمكن العبور من هذه المطبّات، إلّا بتوفيقٍ من الباري تعالى، و تسديدٍ إلهي يشمل حال السّائرين إليه، و بدونه ستبقى الشّوائب عالقة في القلب و النّفس، و كأنّ الباري تعالى يريد أن يُتحف هؤلاء المخلِصين، الذين لم يتخلّصوا تماماً من عَلَق الشّوائب، و وصلوا بالقرب من النّهاية، بأن يبدل شوائبهم باليّقين، بلطفه و عنايته، و يجعلهم في عداد المخلَصين.

فعند وصول الإنسان إلى هذه المرحلة، يكون في مأمَنٍ من الأهواء، و من الوساوس الشّيطانية، بما يمثّل من تحدّيات صعبة في طريق التّكامل، و بالتّالي ينقطع طمع الشّيطان فيه، و يظهر عجزه عن إغوائه بصورةٍ رسميّةٍ.

و هنا يستقر المخلَصين في النّعيم الخالد، و يرتعون بالمواهب الإلهيّة، و يكون ثناؤهم و توصيفهم، للذات المقدّسة بالصّفات الجماليّة و الجلاليّة الإلهيّة، قد صبغت بصبغة التّوحيد الخالص، و بما أنّهم صفّوا حساباتهم في هذه الدنيا، فستكون عاقبتهم أنّهم سيدخلون الجنّة بغير حساب.

و يصف الإمام علي عليه السلام في بعض خطبه، التي وردت في نهج البلاغة، اولئك المخلصين، فيقول: «قَدْ أَخْلَصَ للَّهِ فَاسْتَخْلَصَ» «1».

و قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «فَعِنْدَ ذَلِكَ إسْتَخْلَصَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِنُبُوَّتِهِ وَ رِسالَتِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ المُشَرِّفَةِ الطَّيِّبَةِ ... مُحَمَّداً اخْتَصَّهُ للِنُبُوَّةِ وَ اصطَفاهُ بِالرِّسالَةِ» «2».

و في حديثٍ آخر عن أحد المعصومين عليهم السلام أنّه قال: «وَجَدْتُ ابنَ آدَمَ

بَينَ الشَّيطانِ فَإنْ أَحَبِّهُ اللَّهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمائَهُ، خَلَّصَهُ وَ آسْتَخْلَصَهُ وَ إِلّا خَلّى بَينَهُ وَ بَينَ عَدُوِّهِ» «3».

و الخلاصة، إنّ الإخلاص في النيّة و الفكر و العمل، هو من أهمّ الخُطى في عمليّة التّهذيب و التّربية و السّير إلى اللَّه تعالى.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 87.

(2). بحار الأنوار، ج 14، ص 520.

(3). المصدر السّابق، ج 5، ص 55.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 235

الإخلاص في الرّوايات الإسلاميّة:

و أتحفتنا الروايات بزخم كبير من المفاهيم، التي تدور حول محور الإخلاص، و نشير إلى بعضٍ منها:

1- ما جاءنا عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «ثَلاثٌ لا يَغُلُّ عَلَيهِنَّ، قَلْبُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، إِخلاصُ العَمَلِ للَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ، وَ النَّصِيحَةِ لِأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، و اللُّزُومَ لِجَماعَتِهِم» «1».

2- ما ورد عنه صلى الله عليه و آله، في حديثٍ آخر: «الإِخلاصُ سِرٌّ مِنْ أَسرارِي اسْتَودِعَهُ قَلْبَ مَنْ أَحَبَبْتُهُ مِنْ عِبادِي» «2».

3- قال الإمام علي عليه السلام: «الإِخلاصُ أَشرَفُ نِهايَةٍ» «3».

4- في حديث آخر عنه عليه السلام، قال: «الإِخلاصُ أَعلَى الإِيمانِ» «4».

5- و عنه عليه السلام: «فِي إِخلاصِ الأَعمالِ تَنافَسَ اولُوا النُّهى وَ الألبابِ» «5».

6- ما ورد في أهميّة الاخلاص بحيث أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، قسّم المؤمنين وِفق درجات إخلاصهم، فقال: «بِالإِخلاصِ تَتَفاضَلُ مَراتِبُ المُؤمِنِينَ» «6».

7- و في بيان أنّ آخر مرحلةٍ من مراحل اليّقين، هو الإخلاص، قال الإمام علي عليه السلام: «غايَةُ اليَقِينِ الإِخلاصُ» «7».

8- ما ورد من معطيات الاخلاص على مستوى العمل، لدرجة أنّ قليلًا منه يكفي للنّجاة، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أَخْلِصَ قَلْبَكَ يَكْفَيكَ القَلِيلَ مِنَ العَمَلِ» «8».

9- و قال علي عليه السلام: «الإِخلاصُ عِبادَةُ المُقَرِّبِينَ» «9».

10- و نختم هذه الأحاديث، بحديث

عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال عليه السلام: «طُوبى لِمَنْ

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 8، ص 125- و أورد الحديث بالكامل: الصدوق في، خصاله، باب الثلاثة، ص 167.

(2). المحجّة البيضاء، ج 8، ص 125.

(3). تصنيف الغرر، ص 197، الرقم (3894).

(4). غرر الحكم، ج 1، ص 30.

(5). المصدر السّابق، ج 1، ص 513.

(6). ميزان الحكمة، مادة خلص، ج 1، ص 754.

(7). غُرر الحِكم، ج 2، ص 503.

(8). بحار الأنوار، 70، ص 175، ذيل الحديث 15.

(9). غرر الحِكم، ج 1، ص 25 (الرقم 718).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 236

أَخْلَصَ للَّهِ العِبادَةَ وَ الدُّعاءِ، وَ لَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِما تَرى عَيناهُ، وَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ اللَّهِ بِما تَسْمَعُ اذُناهُ وَ لَمْ يَحْزَنْ صَدْرُهُ بِما اعطِي غَيْرَهُ» «1».

حقيقة الإخلاص:

يقول المرحوم الفيض الكاشاني، في المحجّة البيضاء حول هذا الموضوع: «إعلم أنّ كلّ شي ء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه، و خلص عنه سمّي خالصاً و سُمّي الفعل المصفّى، المخلص إخلاصاً، قال اللَّه تعالى: «وَ إِنَّ لَكُمْ في الأَنعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» «2»، فإنّما خلوص اللّبن، أن لا يكون فيه شوب من الدم و الفرث، و من كلّ ما يمكن أن يتمزج به و الاخلاص، يضادّه الإشراك، فمن لا يكون مخلصاً فهو مشرك، إلّا أنّ للشّرك درجاتٍ، و الإخلاص في التوحيد يضادّه الشرك في الإلهيّة، و الشّرك منه خفي و منه جلّي و كذلك الإخلاص» «3».

و كذلك ما ورد من تعبيرات لطيفةٍ في الرّوايات، تبيّن الإخلاص الحقيقي و المخلصين الحقيقيين، منها:

1- الحديث الوارد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً،

وَ ما بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِخلاصِ، حَتّى لا يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى شَي ءٍ مِنْ عَمَلٍ للَّهِ» «4».

2- نقل عنه صلى الله عليه و آله: «أَمّا عَلامَةُ الُمخْلِصِ فَأَربَعَةٌ، يُسْلمُ قَلْبَهُ وَ تُسلمُ جَوارِحُهُ، وَ بَذَلَ خَيْرَهُ وَ كَفَّ شَرَّهُ» «5».

3- في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام، أنّه قال: «لا يَكُونُ العَبْدُ عابِداً للَّهِ حَقَّ عِبادَتِهِ

______________________________

(1). اصول الكافي، ص 16.

(2). سورة النّحل، الآية 66.

(3). المحجّة البيضاء، ج 8، ص 128.

(4). بحار الأنوار، ج 69، ص 304.

(5). تُحف العقول، ص 16.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 237

حَتّى يَنْقَطِعَ عَنِ الخَلْقِ كُلُّهُ إِلَيهِ، فَحِينَئِذٍ يَقُولُ هذا خالِصٌ لِي فَيَتَقَبِّلَهُ بِكَرَمِهِ» «1».

4- و أخيراً يقول الإمام الصادق عليه السلام: «ما أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى عَبْدٍ أَجَلَّ مِنْ أَنْ لا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ» «2».

الآن بعد ما عرفنا أهميّة الإخلاص، و دوره العميق في سلوك طريق الحق و القرب من اللَّه، و السّير في حركة الإنسان في خط الإيمان و التوحيد، يبقى هنا سؤال يفرض علينا نفسه، و هو كيف يمكننا تحصيل الأخلاص؟

لا شك أنّ الإخلاص في النيّة، هو وليد الإيمان و اليقين العميق بالمعارف الإلهيّة، و كلمّا كان الإنسان متيقناً على مستوى التّوحيد الأفعالي، و أنّ كلّ شي ء في عالم الوجود يبدأ من اللَّه تعالى و يعود إليه، و هو المؤثر الأول و علّة العلل و أنّ الاسباب و العِلل الجليّة و الخفيّة خاضعة لأمره و تدبيره، فحينئذٍ يكون سلوك هذا الإنسان مُنسجماً مع هذه العقيدة، بالمستوى الذي يكون فيه عمله في غاية الخُلوص، لأنّه لا يرى مُؤثّراً في الوجود غير اللَّه، يثير في نفسه الدّوافع المضادّة للإخلاص، و الحركة في غير طريق

التّوحيد.

و عكست الرّوايات هذه الحقيقة، فقال الإمام علي عليه السلام: «الإخلاصُ ثَمَرَةُ اليَقِينِ» «3».

و عنه عليه السلام: «ثَمَرَةُ العِلْمِ إِخلاصُ العَملِ» «4».

و أخيراً تناول الإمام علي عليه السلام المسألة بشي ءٍ من التفصيل، فقال: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَ كَمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصدِيقُ بهِ، وَ كَمالُ التَّصدِيقِ بِهِ، تَوحِيدُهُ، وَ كَمالُ تِوحِيدهِ الإِخلاصُ لَهُ» «5».

موانع الإخلاص:

أشار علماء الأخلاق الأفاضل إلى هذه المسألة إشارات دقيقة و واضحة، فقال البَعض، إنّ

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 1، ص 101.

(2). المصدر السابق.

(3). غُرر الحِكم، ج 1، ص 30 (الرقم 903).

(4). المصدر السابق، ص 17، (الرقم 444).

(5). نهج البلاغة، الخطبة 1.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 238

موانع الإخلاص و آفاته على نحوين: جليّةٌ، و خفيّةٌ. فبعضها خطر جداً، و البعض الآخر أضعف، و الشّيطان و النّفس الأمّارة، يسعيان لتكدير صفاء القلب، و تلويثه بالرّياء، بالمستوى الذي يحوّل الإنسان إلى كيان مهزوزٍ، أمام حالات الخطر، و يشلّ فيه إرادة المُواجهة.

فَبعضٌ من مراحل الرّياء واضحةٌ للعيان، بحيث يمكن لكلّ فرد التّوجه إليها، مثلما يأمر الشّيطان المصلي بالتوءدة بصلاته، كي يراه الناس و يقولوا هذا إنسانٌ مؤمنٌ، فلا يتحرّكون من موقع الغِيبة له و الوَقيعة فيه.

فهذه من حيل الشّيطان الجليّة.

و يمكن أن تكون وساوس الشيطان بصورةٍ أخفى، حيث تتلبّس بلباس الطّاعة، فمثلًا، يلقي في نفسك: أنّك إنسانٌ معروفٌ، و النّاس تشير إليك بالبَنان، و يجب أن تكون طاعتك و عبادتك على أتمّ الصّحة، لكي يقتدي بك الناس في أعمالهم، و ستكون شريكاً معهم في ثوابهم، فَهنا ستستسلم لأحابيل الرّياء من دون أن تشعر.

أو تكون الخُدع و الحيل أشدّ و أقوى و أخفى فمثلًا يقول للمصلّي إنّ العبادة في السرّ يجب أن تكون مثلها في العلانية، و الذي

تكون عبادته في السّر، أدنى مستوى من العلانية، يعتبر من المرائين، و بهذه الصّورة يدفعه ليحسن صلاته و ينمّق عبادته في الخفاء، ليكون كذلك في صلاته أمام الناس، و هذا نوعٌ من الرّياء الخَفي، و يمكن أن يغفل عنه الكثيرون، و كذلك المراحل الأخفى و الأشد «1».

نعم فإنّ آفات الإخلاص كثيرةٌ، و لا يستطيع أيّ إنسانٍ العبور منها، إلّا بتوفيق ربّاني، و لطفٍ إلهي.

و نجد هذا المعنى كذلك في الرّوايات الإسلاميّة، حيث أتحفتنا بما يلزم، للتنبيه على آفات الإخلاص و منها:

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 8، ص 133.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 239

ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، حيث قال: «كَيفَ يَستَطِيعُ الإخلاصُ مَنْ يَغْلِبَهُ الهوى «1».

و في الواقع فإنّ ما ذُكر في الحديثٍ، آنفاً، هو أهم و أقوى آفات الإخلاص، نعم فإنّ هوى النفس، يكدّر عين الإخلاص و يُظلِمُها.

و عنه عليه السلام، قال: «قَلِّلِ الآمالَ تَخْلُصُ لَكَ الأعمالُ» «2».

و الجدير بالذّكر، أنّ الوساوس يمكن أن تأتي بشكلٍ آخر، فتقول للمُصلي لا تذهب لِصلاة الجماعة، لأنّ نيّتك يمكن أن تتلّوث بالرّياء أمام الناس، و عليك بإقامة الصّلاة في بيتك، لكي تعيش أجواء الإخلاص في خطّ العبادة و الصلاة، و تتخلص من براثن الرّياء!!.

أو يدعوه لترك المستحبات لنفس السّبب، لِيحرمه من ثوابها.

و لعل هذا هو السّبب في دعوة القرآن الكريم، للإنفاق بالسرّ و العَلانية: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «3».

و نختم بحثنا بملاحظةٍ مُهمّةٍ، ألا و هيَ، أنّ الإخلاص في السرّ، ليس بتلك الدرجة من الصّعوبة و الأهميّة، بل المهم هو أن يعيش الإنسان، حالة الإخلاص في العلانية، و أمام

مرأى و مسمعٍ من الناس.

معطيات الإخلاص:

بما أنّ حالة الإخلاص، تُمثّل أغلى جوهرةٍ تُحفظ في خزانة الرّوح، و ما يترتّب على هذه الحالة من معطيات إيجابيةٍ مهمّةٍ، فقد أوردت الرّوايات تلك المسألة، بصورةٍ بليغةٍ جميلةٍ، و منها: «ما أَخْلَصَ عَبْدٌ للَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ أَربَعِينَ صَباحاً إلّا جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةُ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسانِهِ» «4».

______________________________

(1). غرر الحكم ج 2 ص 553 الرقم 4.

(2). المصدر السابق ح 2906.

(3). سوره البقره الايه 274.

(4). عُيون أخبار الرضا، ج 1، ص 69، بحار الأنوار، ج 67، ص 342.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 240

و في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «عِنْدَ تَحققُ الإخلاصُ تَسْتَنِيرُ البَصائِرُ» «1».

وَ وَرد عنه عليه السلام أيضاً: «فِي إخلاصِ النيّاتِ نَجاحُ الامورِ» «2».

و يتّضح من ملاحظة هذا الحديث، أنّ النيّة كلّما أخلصت، كان الإهتمام بِباطن الأعمال أقوى، أو بتعيبرٍ أدق: إنّ الجَودة و الدّقة على مستوى السّلوك و العمل، ستكون في ذَروتها، و نجاح العمل سيكون مضموناً، و العَكس صحيحٌ، فإذا كان الهدف يتركز على معالم الظاهر فقط، دون أن يولّي أهميّةً للمحتوى، فسيكون مصير العمل إلى الفَشل و الخَيبة.

و لذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لَو خَلُصَتِ النِّيَّاتُ لَزَكَّتِ الأَعمالُ» «3».

الرّياء:

النقطة المقابلة للإخلاص هي: «الرّياء»، و قد ورد ذمّه بكثرةٍ في الآيات و الروايات الشريفة، التي نهرت النّاس من هذا العمل المُشين، و إعتبرته من أوضح مصاديق الشّرك الخفي، و علّة بطلان الأعمال، و علامة من علامات النّفاق.

و نجد فيها أنّ الرّياء يهدم الفضائل، و يزرع بذور الرّذائل في روح الإنسان، وُ يشغله عن الهدف الأساسي الحقيقي، في خطّ الرّسالة و الإستقامة.

و هو أداةٌ قويةٌ مؤثرةٌ بيد الشّيطان الرّجيم، لإضلال و صرف النّاس عن الطّريق الصّحيح،

و تحويلهم من دائرة الإيمان، إلى دائرة الكفر و الإنحراف.

و نعود هنا للآيات القرآنية الكريمة، التي ترينا وجه المرائي القبيح، و النّتائج السلبيّة المترتّبة على الرّياء:

1- «يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ

______________________________

(1). غُرر الحِكم، ج 2، ص 490، الرقم 12.

(2). المصدر السّابق، ص 14، الرقم 68.

(3). المصدر السّابق، ص 603، الرقم 11.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 241

النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «1».

2- «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» «2».

3- «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خَادِعُهُمْ وَ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» «3».

4- «وَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً» «4».

5- «وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَ رِئَاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» «5».

6- «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ* وَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ» «6».

تفسير و إستنتاج:

«الآية الاولى»: تبيّن أن المنّ بالصدقات و إيذاء الآخرين، يدخل في عداد الرّياء و يمحق أعمال الخير، و تبيّن أنّ المرائي لا يعيش الإيمان باللَّه و لا باليوم الآخر، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذَى ...»، و بعدها يشبّه هؤلاء الناس بمثل الذي يُنفق أمواله من موقع الرّياء: «كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ...».

و

جاء في ذيل الآية: تشبيهٌ جميلٌ جدّا لأعمالهم العقيمة، التي لا تثمر في نطاق المعنويّات و ترتب الثّواب، فأعمالهم كالصّخر الذي يعلوه التراب، فيَشتَبِه الفلاح في أمره، فيبذر فيه البذور بأمل الخصب و الزّرع، فيأتي المطر و يزيل كلّ شي ءٍ، فقال: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 264.

(2). سورة الكهف، الآية 110.

(3). سورة النّساء، الآية 142.

(4). سورة النساء، الآية 28.

(5). سورة الأنفال، 47.

(6). سورة الماعون، الآية 4 إلى 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 242

فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً».

و من المؤكد أنّ مثل هذا العمل و الزرع، لن يثمر أو يورق، فكذلك سبحانه و تعالى، لا يهدي من ينطلق في تعامله مع اللَّه تعالى من موقع الرّياء و الكفر، «لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».

فعرّفت الآية مثل هؤلاء الأفراد بالمرائين الذين لا يؤمنون باللَّه و لا باليوم الآخر، و مرّة اخرى عرّفتهم بالكافرين، الذين تتحرك أعمالهم كالسّراب المخادع، الذي لا قيمة له، لأنّهم بذروا أعمالهم في أرض الرّياء السّبخة التي لا تصلح للزراعة، و يوجد إحتمال آخر في تفسير الآية، و هو أنّ المرائي نفسه بمثابة قطعة الصّخر، التي لا يثبت عليها التراب، و لا يفيد معه أيّ بذرٍ من بذور الخير و الصّلاح.

نعم! فأرواحهم مريضةٌ و أعمالهم عقيمة، لا تقوم على أساس من الخير، و نيّاتهم مشوبة بدرن الرّياء و الشّرك الخَفي.

و اللّطيف: أنّ الآية التي تلتها في سورة البقرة، شبّهت أعمال المخلصين، بجُنينةٍ لا بذور فيها إلّا بذور الصّلاح، فأصابها وابلٌ فنبتت نَباتاً حسناً، فأثمرت ثمراً مضاعفاً و مُباركاً فيها.

«الآية الثانية»: خاطبت الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و أمرته بإيصال التّوحيد الخالص للنّاس، إنسجاماً مع

خطّ الرّسالة، و بإعتبار أَنَّ التّوحيدَ أصلٌ أساسي في الإسلام: «قُلْ إِنّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ إِنّما إِلَهُكُم إِلهٌ واحِدٌ».

و بذلك يستوحي المؤمن من جو الآية الكريمة، أنّ الأعمال يجب أن تكون خالصةً و منزّهةً من أدران الشّرك: «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».

و عليه فإنّ الشّرك في العبادة، يهدم أساس التّوحيد، و الإعتقاد بالمعاد في حركة الإنسان و الحياة، أو بتعبيرٍ أدق: فإنّ جواز السّفر إلى الجنّة الخالدة، يتمثل بِخُلوص العمل في دائرة السّلوك و النيّة.

و جاء في شأن نزول الآية: قال إبن عباس: أنّها نزلت في جُندب بن زهير العامري، قال: يا

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 243

رسول اللَّه إنّي أعمل العمل للَّه تعالى، و اريد به وجه اللَّه تعالى، إلّا أنّه إذا إطّلع عليه أحد من الناس سرّني؛ فقال النّبي صلى الله عليه و آله: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَ لا يَقْبَلُ إِلّا الطَّيِّبَ وَ لا يَقْبَلُ ما شُورِكَ فِيهِ» «1».

و جاء في شأن نزول الآية أيضاً، قال طاووس: قال رجل: يا رسول للَّه! إني احبّ الجهاد في سبيل اللَّه تعالى و احبّ أن يرى مكاني، فنزلت الآية. «2»

وَ وَرد مثل هذا المضمون بالنّسبة للإنفاق و صِلة الرّحم «3»، و تبيّن أنّ الآية الآنفة: نزلت بعد الأسئلة المختلفة، في الأعمال المشوبة بغير الأهداف الإلهيّة، و قد إعتبرت المُرائي على حدّ من يعيش حالة الشّرك باللَّه و الشّخص الذي لا إيمان له بالآخرة.

و نقرأ في حديثٍ آخر، عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «مَنْ صَلّى يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ، وَ مَنْ صامَ يُرائِي فَقَدْ أَشرَكَ، وَ مَنْ تَصَدَّقَ يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ، ثُمَّ قَرَأ: فَمَنْ كانَ

يَرجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ...» «4».

«الآية الثّالثة»: بيّنت أنّ الرّياء هو من فعل المنافقين: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خَادِعُهُمْ وَ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا».

و الجدير بالذكر أنّ النّفاق عبارةٌ عن إزدواجية الظّاهر و الباطن، و كذلك الرّياء فهو إزدواجية الظاهر و الباطن، حيث يتحرك المرائي في أعماله لجلب الأنظار، فمن الطّبيعي أن يكون الرّياء من برامج المنافقين.

«الآية الرابعة»: إعتبرت الأعمال التي ينطلق بها الإنسان من موقع الرّياء، مساويةٌ لعدم الإيمان باللَّه تعالى و اليوم الأخر: «وَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً».

و عليه فإنّ المرائين هم أصحاب الشيطان، الذين يفتقدون الإيمان الحقيقي بالمبدأ و المعاد.

______________________________

(1). تفسير القُرطبي، ج 11، ص 69.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). الدر المنثور، (طبقاً لتفسير الميزان، ج 13، ص 407).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 244

«الآية الخامسة»: تنهى المسلمين من التشبّه بأعمال المشركين الكفّار، الذين لا يفعلون شيئاً إلّا للرياء و التّفاخر فقط: «وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَ رِئَاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».

فطبقاً للقرائن و الشواهد الموجودة، و تصديق المفسّرين، فإنّ هذه تشير إلى خروج المشركين من قريش في يوم بَدر، بحليّهم و زينتهم و قد جلبوا معهم آلات الطّرب و اللّعب و اللّهو و النبّيذ، و هم يقصدون جلب أنظار أصحابهم من المشركين الوثنيين.

و جاء في بعض التّفاسير، أنّ منطقة بدر، كانت تعتبر من المراكز التّجارية لعرب الجاهليّة في وقتها، و أنّ أبا جهل جاء بوسائل الطرب و الجواري، لغرض مُراءاة النّاس، و فَقْأ

العيون كما يقول المثل الشّائع.

و على كلّ حال، فإنّ القرآن الكريم قد نهى المؤمنين من أمثال هذه الأعمال الشائنة، و دعاهم إلى ترويض النّفس بالإخلاص و التّقوى، للتغلب على تلك الحالات النفّسية الخطرة، و أن لا ينسوا مصير المُرائين و أتباع الشّيطان في معركة بدر.

«و الآية الأخيرة»: من الآيات مورد البحث، نجدها تذّم الرّياء و لكن بصورة اخرى فتقول: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ* وَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ».

فقد جاءت كلمة «الويل»، في (27) مورداً من القرآن، و إختصّت في الأغلب بالذّنوب الكبيرة الخطرة جدّاً، و هنا تحكي عن شدّة قُبح ذلك العمل في واقع الإنسان و روحه.

إنّ ما ورد في الآيات الآنفة الذكر، يوضح إلى درجةٍ كبيرةٍ، قُبحَ هذه الخطيئة، و أخطارها و آثارها السلبيّة على سعادة الإنسان في حركة الحياة، و من الواضح فإنّ الرّياء يقف حَجرَ عثرةٍ في طريق تهذيب النّفس، و طهارة القلب و الرّوح للإنسان المؤمن.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 245

الرّياء في الرّوايات الإسلاميّة:

تطرقت الرّوايات لهذا الأمر بقوّةٍ و أهميّة بالغةٍ، و عرّفت الرّياء بأنّه من أخطر الذّنوب، و منها:

1- ما وَرد عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَيكُمْ الرّياء و الشَّهوةُ الخَفِيّةُ» «1».

و يمكن أن يكون المراد من الشّهوة الخفيّة، هو المقاصد الخفيّة للرياء.

2- و أيضاً ما نقل عنه صلى الله عليه و آله: «أَدنى الرِّياءِ شِركٌ» «2».

3- و أيضاً عنه صلى الله عليه و آله: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ عَملًا فِيهِ مِقدارُ ذَرَّةٍ مِنْ رِياءٍ» «3».

4- و عنه صلى الله عليه و آله: «إِنَّ المُرائِي يُنادى يَومَ القِيامَةِ يا فاجِرُ يا غادِرُ يا مُرائي ضَلَّ عَمَلُكَ وَ حَبَطَ أَجْرُكَ إِذْهَبْ فَخُذْ

أَجْرَكَ مِمَّن كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ» «4».

5- و قال أحد أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في يوم ما باكياً، فقلت:

ما يُبكيك يا رسول اللَّه؟ فقال: «إنّي تَخَوَّفْتَ عَلى أُمَّتِي الشَّركَ، أَمّا إِنّهُمْ لا يَعَبُدُونَ صَنَماً وَ لا شَمْساً وَ لا قَمَراً وَ لا حَجرَاً، وَ لَكِنَّهُم يُراؤُونَ بِأَعْمالِهِم» «5».

6- و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله قال: «إِنَّ المَلَكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَلِ العَبْدِ مُبْتَهِجاً بِهِ فَإِذا صَعَدَ بِحَسَناتِهِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِجْعَلُوها فِي سِجِّينٍ إِنَّهُ لَيسَ إِيَّايَ أَرادَ بِها» «6».

7- و أيضاً عنه صلى الله عليه و آله: «يَقُولُ اللَّهُ سُبْحانَهُ إِنِّي أَغْنَى الشُّرَكاءِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ غَيرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِى ءٌ وَ هُوَ لِلَّذِي أَشرَكَ بِهِ دُونِي» «7».

هذه الأحاديث السّبعة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بيّنت أنّ إثم الرّياء بدرجةٍ من الشدّة، بحيث لا

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 6، ص 141.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السّابق.

(4). المصدر السابق.

(5). المصدر السابق.

(6). اصول الكافي، ج 2، ص 295.

(7). ميزان الحكمة، ج 2، ص 1017، الطبعة الجديدة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 246

يضاهيه شي ءٌ من الذّنوب و الخطايا، و ما ذلك إلّا للنتائج السّيئة للرّياء في نفس و روح الإنسان، و كذلك على مستوى الفرد و المجتمع.

أمّا ما ورد عن الأئمّة عليهم السلام:

8- ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، ينقل عن جدّه عليه السلام: «سَيأَتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ تَخْبَثُ فِيهِ سَرائِرِهُمْ وَ تَحْسُنُ فِيهِ عَلانِيَّتِهِم، طَمَعاً في الدُّنيا لا يُريدُونَ بِهِ ما عِنْدَ رَبِّهِم يَكُونَ دِينُهُمْ رِياءً، لا يُخالِطُهُم خَوْفٌ، يَعُمُّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ فَيَدْعُونَهُ دُعاءَ الغَرِيقِ فلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ» «1».

9-

و في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «كُلُّ رِياءٍ شِرْكٌ، إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كانَ ثَوابُهُ لِلنّاسِ، وَ مَنْ عَمِلَ للَّهِ كانَ ثَوابُهُ عَلَى اللَّهِ» «2».

10- و في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «المُرائِي ظاهِرُهُ جَمِيلٌ وَ باطِنُهُ عَلِيلٌ» «3».

و قال أيضاً: «ما أَقْبَحَ بِالإِنسانِ باطِناً عَلِيلًا وَ ظاهِراً جَمِيلًا» «4».

و ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و عن الأئمّة الهداة، في هذا المجال كثير.

فلسفة تحريم الرّياء:

قد يتعجّب البعض الذين يعيشون السّذاجة الفكريّة، عند نظرهم و للوهلة الاولى، للروايات التي تتعرض لمسألة الرّياء، و نتائج المرعبة، و يتصورون أنّ عمل الإنسان إذا كان سليماً و منتجاً في واقعه الخارجي، فأيّاً كانت النيّة و الدّافع، فلن يؤثر ذلك في تغيير العمل، فالذي يبني مُستَشفاً! أو مسجداً أو يعبّد الطّرق و الجسور .. و غيرها من الامور التي تصبّ في الصّالح العام للناس، فعمله صحيحٌ و حسنٌ مهما كانت نيّته، فلْندَع النّاس يفعلوا الخير، و ما لنا و النيّة!!

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 296.

(2). المصدر السابق، ص 293.

(3). أمالي الصّدوق، ص 398؛ غرر الحكم، ج 1، ص 60، الرقم 1614.

(4). غُرر الحِكم، ج 2، ص 749، الرقم 209.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 247

و لكن الخطأ الفادح يكمن هنا لأنّه: أولًا: إنّ كلّ عملٍ و فعلٍ يترتب عليه نوعان من ردود الفعل، أحدهما ما ينعكس أثره في نفس الإنسان، و الآخر ما يترتب على الفعل في الخارج، فالمُرائي يحطّم نفسه من الدّاخل و يُبعدها عن التّوحيد و الدّين الحنيف، و يوقعها في وادي الشّرك، و يعتبر عزّته و إحترامه رهنٌ بيدَ النّاس، و ينسى قُدَرة الباري تعالى في

دائرة التّصرف في عالم الوجود، و بهذا يكون الرّياء نوعاً من الشّرك باللَّه تعالى، و يُفضي إلى نتائج وخيمة على مستوى الأخلاق و القِيَم الإنسانية.

و ثانياً: بالنّسبة للعمل الخارجي، الذي يقصد به الرّياء و السّمعة، فالمجتمع هو الخاسر الأوّل في هذا المضمار، لأنّ المرائي يسعى لتحسين عمله، على مستوى الظّاهر فحسب دون الإهتمام بالباطن، ممّا يُفضي إلى تحويل العمل، إلى إنحراف و إفسادٍ على المستوى الإجتماعي.

و بعبارةٍ اخرى: إنّ المجتمع الذي يتّخذ من الرّياءِ مركباً، في ممارسات الأفراد، سيكون كلّ شي ءٍ فيه بلا مُحتوى، ك: (الثقافة، الإقتصاد، السياسة، الصحة و النظام و القوى الدفاعية) و كلّها ستهتم بالظّاهر فقط، و لا يكون الهدف منها نيل السّعادة الحقيقيّة للأفراد، بل سيركضون وراء كلّ شي ءٍ برّاقٍ و جميلِ الظاهر، و أمّا باطنه، فاللَّه العالم.

و هذا النّوع من الإتجاه، يورد صدمات و ضربات و مضرّات في حركة الواقع الإجتماعي، لا تخفى على ذهن الفطن الكيّس.

علامات المُرائي:

قد يصاب بعض الأشخاص، لدى مطالعتهم لتلك الأحاديث التي تُشدّد على المرائي بالوسَوسة النّاشئة من الإبهام في تشخيص موضوع الرّياء، و رغم أنّ الجَدير بالإنسان التّشديد في مسألة الرّياء، لأنّ نفوذه خفيٌّ جدّاً، و كم حَدَث للإنسان، أن يعمل عملًا و يبقى لفترةٍ طويلةٍ غير ملتفتٍ لأصابته بالرّياء، كالقصّة المعروفة عن أحد المؤمنين السّابقين، حيث نقل عنه، أنّه قضى صلوات جماعته كلّها، التي صلّاها في سنوات من عمره الطويل، و لمّا سألوه عن السّبب قال: إنّي كنت دائماً اصلّي الجماعة في الصّف الأول، و في يوم من الأيّام تأخّرت

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 248

بعض الشّي ء، فلم أجد مكاناً في الصّف المقدّم، فإضطررت للوقوف خلف الجميع، فشعرت في نفسي بالأذى من ذلك، و

تنبّهت لهذه المسألة، فأعدت جميع الصّلوات لأنّها كانت رياء؟!

بالطّبع، الإفراط و التّفريط في هذه المسألة، مَثَلُه كَمَثَلِ بقيّةِ المسائل، غير محمودٍ، و خطأٌ محضٌ، و المفروض التَّنبّه للرياء من خلال تتبع مقدماته و علاماته، و لا نَدع مجالًا للوساوس في إطار إكتشاف هذه الحالة السّلبية، في دائرة السّلوك الخارجي، و الواقع النّفسي، و لعلماء الأخلاق الأفاضل أبحاثٌ لطيفةٌ في هذا المضمار، و منهم العلّامة المرحوم الفَيض الكاشاني؛، فقد طرح سؤالًا في كتابه: «المحجّة البيضاء»، و قال: فبأيّ علامةٍ يُعرف العالم و الواعِظ، أنّه صادق مخلصٌ في وعظه، غير مريدٍ رئاء النّاس؟.

قال في جواب هذا السؤال: «فاعلم أنّ لذلك علاماتٍ، إحداها أنّه لو ظهر من هو أحسن منه و عظاً و أغزرُ منه علماً، و النّاس له أشدّ قبولًا، فرح به و لم يحسده، نعم لا بأسَ بالغِبطة، و هي: أن يتمنّى لنفسه مثل عمله، و الاخرى أنّ الأكابِر إذا حَضروا مجلسه لم يتغيّر كلامه، بل يبقى كما كان عليه، فينظر إلى الخلق بعينٍ واحدةٍ، و الاخرى: أن لا يحبّ إتّباع النّاس له في الطريق، و المشي خلفه في الأسواق، و لذلك علاماتٌ كثيرةٌ يطول إحصاؤها» «1».

و أفضل المعايير لمعرفة المرائي من غيره، هو ما وردنا عن الأئمّة الأطهار، و من جملة الأحاديث:

1- في حديثٍ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، قال: «أَمّا عَلامَةُ المُرائي فَأرْبَعَةٌ: يَحْرُصُ في العَمَلِ للَّهِ إِذا كانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَ يَكْسَلُ إِذا كانَ وَحْدَهُ وَ يَحْرُصُ في كُلِّ أَمْرِهِ عَلَى الَمحمَدَةِ وَ يُحْسِنُ سَمْتَهُ بِجُهْدِهِ» «2».

2- وَ وَرد في نفس هذا المعنى في حديثٍ عن أمير المؤمنين، بألفاظٍ جميلةٍ، فقال: «لِلمُرائي أرْبَعة عَلاماتٍ:

يَكْسَلُ إذا كانَ وَحدَهُ،

وَ يَنْشُطُ إِذا كانَ

في النّاسِ،

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 6، ص 200.

(2). تُحف العقول، ص 17.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 249

وَ يَزِيدُ في العَمَلِ إِذا اثنِيَ عَلَيهِ،

وَ يَنْقُصُ مِنْهُ إِذا لَمْ يُثْنَ عَلَيهِ» «1».

و ورد نفس هذا المعنى عن لقمان الحكيم أيضاً «2».

و خلاصة القول: إنّ كلّ عملٍ، كان القصد منه المباهاة للناس، فهو دليلٌ على الرّياء، و مهما كان هذا القصد غامضاً و خفيّاً في دائرة الوعي، فهو دليلٌ على إزدواجيّة شخصيّة الإنسان في التعامل مع نفسه، في الخلأ و الملأ.

و هذا الأمر في الحقيقة بالغ في الدقّة و الغموض، لدرجةٍ أنّ الإنسان يخدع وجدانه و ضميره، بإتيان نفس الأعمال التي يأتي بها في الملأ، و بدرجةٍ عاليةٍ من الجودة و الحُسن، في خلوته ليقنع نفسه أنّه لا يُرائي، لأنّه يساوي بأعماله في الظّاهر و الباطن، و لكنّ الحقيقة هي إزدواجيّة ذلك الشّخص، ففي كلا الحالتين يكون مرائياً.

بالطّبع يجب إجتناب الإفراط و التّفريط في هذه المسائل، لأننا وجدنا اناساً إمتنعوا من أداء كثيرٍ من الواجبات و حُرموا من الثّواب حذراً أو خوفاً من الرّياء، فلم يؤلّفوا كتاباً، و لم يرشدوا أحداً من النّاس، و لم يصعدوا المنابر، لا لِشي ءٍ إلّا لأنّهم كانوا يعيشون الخوف من الوقوع في الرّياء؟!

و قد ورد في الرّوايات، أنّ من يقصد القُربة إلى اللَّه تعالى، إذا أتى بعملٍ ما علانيةً، و عرف به الناس و فرح هو من ذلك، ما دام قصده هو التّقرب إلى اللَّه سبحانه و تعالى، فلن يؤثّر ذلك على عمله «3».

و لا يخفى على القارى ء الكريم، أنّ القصد من هذا الأمر، هو تشجيع النّاس إلى سلوك طريق الخير و الصّلاح، و إمضاء أعمالهم المتقرّب بها إلى اللَّه تعالى، في السّر

و العلانية، و المهم هو قصد القُربة و إخلاص النيّة فقط.

و جاءت الآيات و الرّوايات، مؤكّدةً لهذا المعنى، و حثّت الإنسان على الإنفاق و التّصدق

______________________________

(1). شرح نهج البلاغة، إبن أبي الحديد، ج 2، ص 180.

(2). الخصال: (طبقاً لنقل ميزان الحكمة، ج 2، ص 1020)، الطّبعة الجديدة.

(3). راجع وسائل الشّيعة، ج 1، الباب 15، من أبواب مقدمة العبادات، ص 55.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 250

الاخلاق فى القرآن ج 1 299

في السرّ و العلانية، و هذا إن دلّ على شي ءٍ فإنّه يدلّ على إمكانيّة الإتيان بالأعمال علانيةً، و بدوافع إلهيّة بعيداً عن الرّياء.

و يوجد خمسُ آياتٍ شجّعت على الإنفاق سرّاً و علانيةً، أو سِرّاً و جهراً «1».

مضافاً إلى أنّ قسماً كبيراً من العبادات، يؤدّى في العلانية، فإذا ما لم يتسلط الإنسان على نفسه في خط الإلتزام الديني، و يُمسك بزمامها في دائرة النّوازع الذاتيّة، فَسيخسر هو و المجتمع كثيراً من أشكال الثّواب و الخير، و ستختل أركان بعض العبادات في خطّ الممارسة و العمل.

علاجُ الرِّياء:

يوجد طريقان لِمُعالجة حالة الرّياء، فالرّياء مَثَلُه كَمَثَلِ سائر الأخلاق السلبيّة و السّلوكيّات الذّميمة، ففي بادى ء الأمر، علينا التّركيز على معرفةِ العِلَل، و جذور هذه الحالة السّلبية في الواقع النّفسي، لأجل القضاء عليها، ثم التّحرك نحو دراسة عواقبها المؤلمة، و الكشف عنها في عمليّة التّصدي لها، و توخي جانب الحَذر منها.

بالطّبع لقد أشرنا آنفاً، أنّ الرّياء هو: «الشّرك الأفعالي»، و الغفلة عن حقيقة التّوحيد، فإذا ما تأصلت حقيقة التّوحيد الأفعالي في قلوبنا، و إستحكمت في نفوسنا، و إستيقنّا أنّ العزّة للَّه جميعاً، من موقع المشاهدة الوجدانية، و رأينا أنّ الرّزق و الضرّ و النّفع بيده و هو المسخّر للقلوب، فسوف لن

نختار سواه بدلًا، و لن نُدنّس أنفسنا و أفعالنا بحالة الرّياء الشّنيعة، التي لا تنسجم مع خطّ التّوحيد في دائرة الأفعال، فالذي يعيش اليقين الرّاسخ بهذه الحقيقة، و هي أنّ مَنْ يكون مع اللَّه تعالى، يكون كلّ شي ءٍ معه، و بدونه فهو لا شي ء، و يرى بعين البصيرة، مِصداق قوله تعالى: «إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» «2».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 274؛ الرّعد، 22؛ إبراهيم، 31؛ النّحل، 75؛ فاطر، 29.

(2). سورة آل عمران، الآية 160.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 251

و إذا أدركنا هذه الحقيقة القرآنية التي تقرر أنّ العزّة للَّه تعالى: «أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً» «1».

أجل إذا ترسّخَ الإيمان بهذه الحقائق الإيمانيّة في أعماق الرّوح، فلا يجد الإنسان في نفسه باعثاً على الرّياء و النّفاق، و كسب الجاه و المقام لدى الناس و المُفاخرة و المُباهاة.

و قال بعض علماء الأخلاق، إنّ دعامة الرّياء و أساسِه هو حبّ الجاه و المُقام، و عند تحليلنا لمفهوم الرّياء، نجد أنّه يتكون من ثلاثة أركانٍ:

«حبّ الثّناء و المدح من الناس»، و «الفرار من مذمّتهم»، و «الطّمع لِما في أيديهم».

ثم يضرب لذلك مثلًا و هو المجاهد في سبيل اللَّه، فتارةً يكون قصدُه المُباهاة و المفاخرة، و إظهار شجاعته و بطولاته للناس، و اخرى خوفاً من أن يتّهمه الناس بالجُبن و الخوف، و ثالثةً يكون دافعه الحصول على الغنائم، و الفائز الوحيد، هو الذي يدافع عن الحقّ و الدّين لا غير.

هذا من جهةٍ، و من جهةٍ اخرى، عند ما يتأمل الإنسان في سلبيات الرّياء و أضراره و نتائجه القاتلة، نرى أنّه كالنّار التي تقع على عبادات الإنسان و

طاعاته، فتحوّلها إلى رماد تذروه الرّياح، و لا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل هو ذنبٌ عظيمٌ يسوّد وجه صاحبه في الدّنيا و الآخرة ...

الرّياء: حشرة الإرضة التي تَنخر دَعامات بيت سعادة الإنسان، لينهار به في وادٍ سحيقٍ من الشّقاء و الظلّام ..

و الرّياء بدوره نوعٌ من أنواع الكفر و النّفاق و الشّرك ...

و الرّياء يسحق الشّخصيّة و الحريّة و الكرامة، و أشدّ النّاس بؤساً يوم القيامة، المراؤون.

فهذه حقائقٌ تردع الإنسان، و تبعده عن ذلك الأمر الشّينع.

و لا ننسى أنّ المرائي سيفتَضِح، إن عاجلًا أو آجلًا في هذه الدّنيا، و ستظهر حقيقته الزّائفة على فلتات لسانه و شَطحات كلماته، و هذا العامل له قسطٌ من التأثير في عمليّة الرّدع النّفسي،

______________________________

(1). سورة النّساء، الآية 139.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 252

لحالة الرّياء في واقع الإنسان، مضافاً إلى أنّ لذّة العمل الصالح، و النيّة الطيّبة التي تطرأ على الإنسان، لا تقاس بشي ءٍ، و هو أمرٌ يكفي لإخلاص النيّة.

و يعتقد البعض، أنّ إحدى طرق المعالجة، هي السّعي إلى إخفاء العبادات و الحسنات، و لا يُمارسها في العلن، ليتخلّص تدريجيّاً من هذه العقدة المستعصيّة في الذّات المرائيّة.

و لكن هذا لا يعني، عدم الحضور في صلاة الجَماعة و الجُمعة و الحج، لأنّها تعدّ أيضاً خسارةً كُبرى لا تُعوّض.

هل النّشاط في العبادة يُنافي الإخلاص؟

يُراود هذا السّؤال أذهان الكثيرين، و هو أنّهم يشعرون بنشاطٍ روحي، بعد الإتيان بالعبادة بالمستوى المطلوب، فهل أنّ هذا الشّعور بالنّشاط، يتقاطع مع الإخلاص، أو أنّه علامةٌ على الرياء؟.

و الجواب: أنّ النّشاط إذا إستمدّ اصوله، من التّوفيق الإلهي و النّور المعنوي المستقى من العبادة، و معطياتها على روح الإنسان، فلا تَثريب و لا ضير، و لا يُنافي الإخلاص في النيّة، أمّا لو كان

النّشاط ينشأ من مشاهدة الناس له، فإنّه يُنافي الإخلاص، رغم أنّه لا يكون سبَباً في بُطلان الأعمال، شريطةَ أن لا يتغيّر مقدار و كيفيّة العمل بسبب مشاهدة الناس له.

وَ وَرد هذا المعنى في الرّوايات الإسلاميّة:

منها ما وَرد عن أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام، أنّه قال: سألتُ الإمام عليه السلام، عن الرّجل يعمل الشّي ء من الخير، فيراه إنسانٌ فيسّره ذلك.

قال عليه السلام: «لا بَأْسَ، ما مِنْ أَحَدٍ إِلا وَ هُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ في النّاسِ الخَيرُ، إذا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذَلِكَ لذَلِكَ» «1».

و في حديثٍ آخر عن أبي ذر رحمه الله،- عند ما سأل الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله-، قال: قلت يا رسول

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 1، ص 55.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 253

اللَّه: الرّجل يعملُ العمل لنفسه و يحبّه الناس.

قال صلى الله عليه و آله: «تِلكَ عاجِلُ بُشرى المُؤمِنِ» «1».

ما الفرق بين الرّياء و السّمعة:

هذا سؤال يفرض نفسه أيضاً، فهل يوجد فرق بين الرّياء و السّمعة؟، و هل أنّهما يتنافيان مع إخلاص النيّة، و يوجبان بطلان العمل؟.

الجواب: الرّياء: هو فعل الخير أمام مرآى و مسمع من النّاس، لكسب الوجاهة لديهم، و ليشار إليه بالبنان من موقع المدح و الثّناء.

و أمّا السّمعة، فهي أداء أفعال الخير بعيداً عن أنظار النّاس، و لكن لِيُفهمَهم لاحقاً أنّه هو الذي فعل هذه الامور، ليكتسب بذلك و جاهةً لديهم، و الحقيقة أن الدّافع لِكِلا الإثنين غير إلهي، فالأوّل يؤدّي عمل الخير أمام مرآى الناس، و الثّاني بصورةٍ غير مُباشرةٍ و عن طريق السّماع، و لا فرق بينهما في دائرة فساد النيّة، و بطلان العمل و فقدان قصد القربة.

و لكن إذا فسّرنا السمعة بأنّها أداء الفعل بقصد القُربّة، و لكن

إذا علم النّاس في الآجل و مدحوه و أثنوا عليه، فإنّه يفرح بذلك، فلا شكَّ بأنّ هذه الحالة لا توجب بُطلان العمل.

و يمكن أن يتحرك الإنسان في سلوكيّاته و أعماله، بقصد القُربة المطلقة، و لكنّه يرويها للناس بعد ذلك ليحتل مكانةً بينهم، «و هذا العمل يُسمى بالرّياء اللّاحق»، فهذا السّلوك أيضاً لا يُبطل العمل، لكنّه يُقِّلل من قيمته إلى أدنى حدّ، و خصوصاً من النّاحية الأخلاقيّة.

و قد تحدّث بعض من كبار الفُقهاء، عن كيفيّة نفوذ و توغّل الرّياء في أعمال الإنسان، و قالوا أنّها على عَشرِ صُوَرٍ:

الصّورة الاولى: أن يكون قصده من الفعل: مشاهدة النّاس له، و لا شكّ ببطلانها.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 1، ص 55.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 254

الصورة الثّانية: أن يكون الهدف فيها الباري تعالى، و الرّياء مَعاً، و هذه الحالة أيضاً موجِبةُ: للبطلان و الإحباط.

الثّالثة: أن يُرائي في جزءٍ من الأعمال الواجبة، كما لو مارس الرّياء في الرّكوع، أو السّجود وحده في الصّلاة الواجبة، و لا شك في كونه يستوجب البُطلان، حتى لو كان هناك مجالًا للإستدراك، و حاله حالَ ما لو فقد وضوءه و هو في أثناء الصّلاة، و إن كان الأحوط أن يأتي بالجزء الذي وقع فيه الرّياء، ثم إعادة الصّلاة بعد الإنتهاء.

الصّورة الرّابعة: الرّياء في الجزء المستحب، كما في القُنوت، فهو أيضاً من دواعي البُطلان.

الخامسة: أصلُ العمل و القَصد، يكون اللَّه تعالى، و لكنّه يؤدّيه في مكانٍ عام: (كالمسجد)، من دون قصد ربّاني فيه، و هو باطلٌ أيضاً.

السّادسة: أن يُرائي في وقت العمل، فأصل الصّلاة للَّه تعالى، و لكنّه يُرائي في أدائها في أوّل وقتها، فعمله باطلٌ أيضاً.

السّابعة: أن يُرائي في بعض خُصوصيات و أوصاف العمل، كما لو

صلّى الجماعة، و هو في حالةٍ من الخشوع و الخضوع المُفتعلة، و هو باطلٌ أيضاً، فالموصوف يتبع الأوصاف في هذه الحالة.

الثّامنة: أن تأتي بالعمل قربةً إلى اللَّه، و لكنّه يرائي في مقدّمات العمل، فيذهب إلى المسجد بقصد الصّلاة و الثّواب، و لكنّ حركته نحو المسجد بقصد الرّياء. فالكثير من الفُقهاء لا يرون بُطلان العمل لمثل هذا النوع من الرّياء، لأنّ مقدّمات الرّياء حدثت بعيداً عن العمل، و هو ما تقتضيه القاعدة الفِقهيّة.

التّاسعة: أن يُؤدّي بعض الأوصاف الخارجيّة بنيّة الرّياء، كما لو صلّى للَّهِ تعالى، و لكنّه يحنّك نفسه رياءً، فالبِّرغم من قبح هذا العمل، و لكنّه لا يُبطل الصلاة. «1»

عاشراً و أخيراً: أن يتحرّك في إتيانه بالعمل، من موقع القربة المطلقة للَّه تعالى، و لكن إذا

______________________________

(1). نَسترعي الانتباه: إلى أنّ التّحنيك في الصّلاة لم يثبت استحبابه، و ما ورد في الرّوايات فهو يشمل كلّ الحالات و الأوقات، و في وقتنا الحاضر يحتمل أن يكون من لِباس الشّهرة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 255

شاهده الناس، فإنّه يشعر في قرارة نفسه بالفرح، من دون أن يؤثّر ذلك على كيفيّة العمل، فهذا القسم لا يوجب البُطلان أيضاً، لأنّه لا يعدّ من الرّياء.

و نصل هنا إلى نهاية بحثنا حول الرّياء، و إن كنّا قد أعرضنا عن كثيرٍ من الامور، إجتناباً للتّطويل.

الخطوة السّابعة: السّكوت و إصلاح اللّسان

اشارة

تناولت الرّوايات الإسلاميّة هاتين المسألتين، بمزيدٍ من الإهتمام، و كذلك علماء الأخلاق، أكّدوا عليهما في أبحاثهم التّربوية، لإعتقادهم أنّ السّير و السّلوك إلى اللَّه تعالى، لنْ يتحقّق في واقع الإنسان إلّا بالسّكوت، و حفظ اللّسان من الذنوب التي قد يقع الإنسان فيها من خلال الكلام، و إن كان، قد أتعب نفسه في الرياضات الرّوحيّة و أنواع العبادات.

أو بتعبيرٍ أدَقْ:

إنّ مفتاح مسيرة التهذيب و السّلوك إلى اللَّه تعالى هو الإلتزام بِذَينك الأمرين، و من لم يستطع السّيطرة على لسانه، فلن يُفلح في الوصول، إلى الأهداف السّامية و المقاصد العالية.

و بعد هذه الإشارة نعود إلى بحثنا الأساسي، و دراسة الآيات و الرّوايات التي وَرَدت في هذا المِضمار.

السّكوت في الآيات القرآنيّة الكريمة:

في كِلا المَوردين، إعتبر القرآن الكريم، هذه المسألة من القيم السّامية، في خطّ الإيمان و الأخلاق، ففي بادِى ء الأمرِ، إستعرض قصّة مريم عليها السلام، فعند ما كانَت في وضعها المُتأزّم، و تفكيرها في حملها و حالة الطلق التي أصابتها، و وحدتها في تلك الصّحراء المريعة، و قد هوّمت نحوها الهُموم من كلِّ جانبٍ، و أشدّها إفتراءات بني إسرائيل عليها، فتمنّت الموت في تلك السّاعة من بارِئها، و لكن جاءها النّداء، أن لا تحزن و لا تغتم، فإنّ اللَّه معها و هو الذي يتكفّل

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 256

أمرها، و هذا ما تُحدِّثنا به الآيات التالية: «فَأَجَاءَهَا الْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَ كُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً* فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَني قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً* وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً* فَكُلِي وَ اشْرَبي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولي إِنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً» «1».

و إختلف المفسّرون في الذي نادى مريم عليها السلام، فقال بعضهم: إنّه جِبرائيل عليه السلام، و سياق الآية قرينةٌ على هذا المعنى، و قال البَعض الآخر، كالعلّامة الطّباطبائي رحمه الله، إنّه إبنها عيسى عليه السلام، و كلمة: «من تحتها»، تناسب هذا المعنى، لأنّه كان بين أقدامها، علاوة على أنّ أغلب الضّمائر في الآية الشّريفة، تعود على المسيح عليه

السلام، و تَتَناسب أيضاً مع كلمة «نادى»، و على كلٍّ فإنّ مَحَطَّ نظرنا، هو الأمرُ بنذر السّكوت، فأيّاً كان المُنادي، جبرائيل عليه السلام، أو المسيح عليه السلام، فإنّ المهم هو، أنّ ذلك النّذر، يفضله و يرجحّه الباري تعالى، و خصوصاً أنّ ذلك الأمر، كان سائداً في وقتها، و هو من الأعمال التي يُتقرّب بها إلى اللَّه سبحانه و تعالى، فلذلك لم يعترض على مريم عليها السلام أحد، بالنّسبة إلى هذا العمل بالذّات.

و يوجد إحتمالٌ آخرٌ لصوم مريم عليها السلام، و هو الصّوم عن الطّعام و الشّراب، بالإضافة لصوم السّكوت.

أمّا في الشّريعة الإسلاميّة، فإنّ صوم السّكوت حرام، لتغيّر الظّروف المكانيّة و الزمانيّة، و قد وَرد عن الإمام علي بن الحسين السّجاد عليه السلام، أنّه قال: «وَ صَومُ الصَّمتِ حَرامٌ» «2».

وَ وَرد في نفس هذا المعنى في حديثٍ آخر، في وصايا النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، إلى الإمام علي عليه السلام «3».

وَ وَرد عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّه قال: «وَ لا صَمْتَ يَوماً إِلَى اللّيلِ» «4».

و الطّبع، فإنّ من آداب الصّوم عندنا، هو المحافظة على اللّسان و باقي الجوارح من الذّنوب، قال الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصّدد: «إِنّ الصّومَ لَيسَ مِنْ الطّعامِ و الشَّرابِ وَحْدَهُ إِنَّ مَريَمَ

______________________________

(1). سورة مريم، الآية 23 إلى 26.

(2). وسائل الشيعة، ج 7، ص 390، باب تحريم صوم الصّمت.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 257

قَالتْ إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمانِ صَوماً أي صمْتاً فَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُم وَ غُضُّوا أَبْصارَكُم» «1».

و من هذه الآية و الرّوايات الشّريفة، التي وردت في تفسيرها، تتبيّن أهميّة و قيمة السّكوت، في خطّ التّربية و التّهذيب.

و في الآية (10) من نفس السورة، توجد

إشارةٌ اخرى لفضيلة السّكوت، و ذلك عند ما وهب الباري تعالى يحيى عليه السلام، لنبيّه الكريم زكريّا عليه السلام، فخاطب الباري تعالى، و قال: «قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لي آيَةً»، فقال له: «قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً»، و لا تحركه إلّا بذكر اللَّه.

و صحيح أنّ هذه الآية لم تَحمد و لم تَذم السّكوت، و لكن قيمة السّكوت تتّضح، من جعله:

آيةَ النّبي زكريا عليه السلام.

و ورد نفس هذا المعنى، في الآية (41) من سورة آل عمران، فبعد تلقّيه البشارة من الباري تعالى، طلب أن يجعل له آيةً في دائرة تقديم الشّكر للباري تعالى، فقال له: «قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً».

و إحتمل بعض المفسّرين، أنّ إمتناع زكريا عليه السلام عن الكلام، كان بإختياره و لم يكن مجبوراً عليه، و الحقيقة أنّه كان مأموراً بالسّكوت لمدّة ثلاثة أيّام.

يقول الفَخر الرّازي، نقلًا عن «أبي مسلم»: أنّ هذا النحو من التّفسير جميلٌ و معقولٌ، لكنّه مخالفٌ لسياق الآية، فزكريّا عليه السلام طلب آيةً لمّا بُشّر بيحيى و السّكوت الإختياري لا يكون دليلًا على هذا المعنى، إلّا بتكلّف و تحميل على المفهوم من الآية الشّريفة.

و على أيّةِ حال فإنّ هذا الاختلاف في تفسير الآية، لا يُؤثّر على ما نحن فيه، لأنّ غرضنا من إيراد هذه الآيات، هو التّنويه بقيمة السّكوت في القرآن الكريم، بإعتباره آيةً من الآيات الإلهيّة.

______________________________

(1). نور الثّقلين، ج 3، ص 332.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 258

السّكوت في الروايات الإسلاميّة:

ما ورد عن: «الصّمت»، في الروايات الإسلاميّة، أكثر من أن يُحصى فقد أشارت الروايات إلى عدّة نقاطٍ و ملاحظاتٍ دقيقة و هامة جدّاً في هذا الصّدد، و بيّنت ثمرات جميلةً للصّمت، و منها:

1- دَور السّكوت في

تعميق التّفكير، و ثبات العقل، فقد قال الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «إِذا رَأَيْتُمْ المُؤمِنَ صَمُوتاً فَآدْنُوا مِنْهِ فَإِنَّهُ يُلْقي الحِكْمَةَ، وَ المُؤمِنُ قَليلُ الكَلامِ كَثِيرٌ العَمَلِ وَ المُنافِقُ كَثِيرُ الكَلامِ قَلِيلُ العَمَلِ» «1».

2- و جاء عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّه قال: «دَلِيلُ العاقِلِ التَّفَكُّرُ وَ دَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمتُ» «2».

3- ما ورد عن الإمام علي عليه السلام، أنّه قال: «أَكْثِرْ صَمْتَكَ يَتَوفَر فِكْرُكَ و يَستَنيرُ قَلْبُكَ وَ يَسلَم النّاسُ مِنْ يَدِكَ» «3».

فيظهر من هذه الرّوايات، العلاقة الوثيقة الدقيقة، التي تربط التّفكر بالسّكوت، و دليله واضح، لأنّ القوى الفكريّة سوف تفقد التوحّد و الإنسجام، و تصيبها حالةٌ من التّشتت و الإنفلات، في حالات الكلام الزّائد، و عند ما يتخذ الإنسان السّكوت جِلباباً له، فستَتَمَركز قِواه الفكريّة، ممّا يعينه على التّفكير الصّحيح، و بالتّالي إنفتاح أبواب الحِكمة بِوَجهه، و لا يُلّقى الحكمة إلّا ذو حَظٍّ عظيمٍ.

4- يُستَشفّ من بعض الأخبار، أنّ السكوت هو أهمّ العبادات، فنقرأ في مواعظ الرّسول الأعظم صلى الله عليه و آله، لأبي ذر رحمه الله، قال: «أَرْبَعَ لا يُصِيبَهُنَّ إلّا مُؤمِنْ، الصَّمْتُ وَ هُوَ أَوَّلَ العِبادَةِ» «4».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 75، ص 312.

(2). المصدر السابق، ص 300.

(3). ميزان الحكمة، ج 2، ص 1667، الرقم 10825.

(4). المصدر السابق، مادة الصّمت، ح 10805.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 259

5- و يُستفاد من الرّوايات الواردة، أنّ كثرة الكلام تزرع القساوة في القلب، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، حديثٌ يقول فيه: «كانَ المَسِيحُ عليه السلام يَقُولُ لا تكثروا الكَلامَ في غَيرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإنَّ الَّذِينَ يكْثِرُونَ الكَلامَ في غَيرِ ذِكْرِ اللَّهِ قاسِيَةٌ قُلُوبُهُم وَ لَكِنْ لا يَعْلَمُونَ» «1».

6- ما ورد عن الإمام علي

بن موسى الرضا عليه السلام، أنّه قال: «إِنَّ الصَّمْتَ بابٌ مِنْ أَبوابِ الحِكْمَةِ، إِنَّ الصَّمْتَ يَكْسِبُ الَمحَبَّةَ إِنَّهُ دَليلٌ عَلَى كُلِّ خَيرٍ» «2».

فقوله إنّ السّكوت يكسب المحبّة، لأنّ أكثر المشاحنات و الملاحاة، تصدر عن اللّسان، و السّكوت يسدّ أبواب الشّر.

7- السّكوت نجاةٌ من الذّنوب، و مفتاح دخول الجنة، فقد ورد في حديثٍ عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، قَالَ لِرَجُلٍ أَتاهُ: أَ لا أَدُلُّكَ عَلى أَمْرٍ يُدخِلُكَ اللَّهُ بِهِ الجَنَّةَ؟، قَالَ: بَلى يا رَسُولَ اللَّه، قال صلى الله عليه و آله: «.... فاصْمُتْ لِسانَكَ إلّا مِنْ خَيرٍ، أَ ما يَسُرُّكَ أَنْ تَكُونَ فِيكَ خِصلَةٌ مِنْ هُذِهِ الخِصال تَجُرُّكَ إِلى الجَنَّةِ» «3».

8- و السّكوت علامةُ الوقار، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: «الصَّمْتُ يَكْسِبُكَ الوِقارُ، وَ يَكْفِيكَ مَؤُونَةَ الإِعتِذارِ» «4».

فالثّر ثار كثير الخطأ، كثير الإعتذار و النّدم، لما يصدر منه مِنْ شطحات، من موقع الغفلة و الإندفاع العاطفي و الإنفعال النّفسي.

9- و عنه عليه السلام، في حديث أوضح و أجلى فقال: «إِنْ كانَ في الكَلامِ بَلاغَةٌ فَفي الصَّمْتِ سَلامَةٌ مِنَ العِثارِ» «5».

فالصّمت قد يكون، أبلغ من أيّ كلامٍ في بعض الموارد!.

10- ما ورد عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، أنّه قال: «نِعْمَ العَونُ الصَّمْتُ في مَواطِنٍ كَثِيرةٍ وَ إِنْ كُنْتَ فَصِيحاً» «6».

______________________________

(1). اصول الكافى ج 2 ص 114 (باب الصمت و حفظ اللسان ح 11).

(2). المصدر السابق ص 113.

(3). اصول الكافى ج 2 ص 113.

(4). غرر الحكم الرقم 1827.

(5). المصدر السابق الرقم 3714.

(6). ميزان الحِكمة، مادّة صمت، ح 10826.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 260

و هناك رواياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، لم نذكرها هنا، خوفاً من الإطالة و الخروج عن مِحَور البحث.

إزالة وَهم:

إنّ كلّ

ما ورد في الآيات و الأحاديث الشّريفة، من معطيات الصّمت الإيجابيّة في حياة الإنسان و واقعه، من قَبيل تعميق الفكر و منع الإنسان من الوقوع في الخطأ، و صيانته من كثيرٍ من الذّنوب، و حفظ وَقاره و شَخصيّته، و عدم الحاجة إلى الإعتذار المُكَرّر، و أمثالُ ذلك، كِلّ هذا لا يعني أن السكوت، يمكن أن يتخذه الإنسان قاعدةً على الدّوام، فالسّكوت المَطلق مذمومٌ بدوره، و خسارةٌ اخرى لا تُعوّض.

و الغاية ممّا تقدم، في مَدح السّكوت و الصّمت في الآيات و الرّوايات الإسلامية، هي منع اللّسان عن الثّرثرة و فضول الكلام، في خط التّربية و مصداق، أن: «قلْ خيراً و إلّا فاسْكت»، و إلّا فالسّكوت في كثيرٍ من الامور، حَرامٌ مَسلّمٌ.

ألم يذكر القرآن الكريم في سورة الرحمن نعمة البيان باعتبارها من أسمى إفتخارات البشر؟

أ لا تقام أكثر و أغلب العبادات كالصلاة و تلاوة القرآن الكريم و مراسم الحج و الذكر باللسان؟

و لو لا اللسان، فكيف سيتمكن المؤمن من إقامة فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و كيف سيكون دور الإرشاد و التربية و التعليم، و كيف سيتمكن العلماء و المصلحين من أداء دورهم في عملية هداية الناس و إرشادهم إلى طريق الحق و السعادة؟!

فالمذموم هو الافراط و التفريط و الطريق الوسطى هي الجادّة!

و ما صدر من إمامنا السجاد عليه السلام في هذا المضمار هو خير مرشد و دليل في هذا المجال، حيث سأله شخص عن أيهما الأفضل: الكلام أو السكوت؟ فقال عليه السلام:

«لِكُلِّ وَاحدٍ مِنْهُما آفاتٌ فَإذا سَلِما مَنَ الآفاتِ فَالكَلامُ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، قِيلَ

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 261

كَيفَ ذَلِكَ يا بنَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله؟ قَالَ: لِأَنّ اللَّهَ عَزَّ

وَ جَلَّ ما بَعَثَ الأَنْبِياءَ وَ الأَوصياءَ بِالسُّكُوتِ، إِنَّما بَعَثَهُم بِالكِلامِ، وَ لا اسْتَحَقَّتِ الجَنَّةُ بِالسُّكُوتِ وَ لا اسْتَوجَبَتْ وِلايَةً بِالسُّكُوتِ و لا تِوَقِّيتِ النّارُ بِالسُّكُوتِ إِنَّما ذَلِكَ كُلُّهُ بِالكَلامِ، وَ ما كُنْتُ لِأعدِلَ القَمَرَ بِالشَّمْسِ إِنَّكَ تَصِفُ فَضْلَ السُّكُوتِ بِالكَلامِ وَ لَسْتَ تَصِفُ فَضْلَ الكَلامِ بِالسُّكُوتِ» «1».

أجل لا شك أنّ لكلٍّ من الصّمت و الكلام، محاسنه و مَساويه، و الحقّ أنّ إيجابيات الكلام أكثر، و لكن متى؟، فقط: عند ما يصل الإنسان، إلى مراحل سامية من التّهذيب للنفس، في معراج الكمال المعنوي، و أمّا من كان في بداية الطّريق، فعليه التّحلي بالسّكوت رَيْثَما تتعمق في نفسه تلك الملكات الرّوحانية، التي يكتسبها الإنسان في حركة الانفتاح على اللَّه، أو كما يُقال، ريثما يملك السّالك لسانه عن ممارسة اللّغو و الكلام الباطل، و بعدها يجلس لِلوَعظ و الإرشاد.

و بالإمكان بيان معيارٍ جيّدٍ لهذه الحالة، فنحن إذا أردنا في يومٍ من الأيّام، تسجيل ما يصدر منّا من كلماتٍ و ألفاظٍ على آلة التسجيل، ثم أصغينا لهذه الأحاديث و الكلمات، منِ موقع الإنصاف و بعيداً عن التّعصب، فَسَنرى الشّريط ملى ءٌ بالتّفاهات و التّرّهات، و لن يبقى من الكلام المفيد إلّا كلماتً أو جملًا قليلةً، تتعلق بالغايات الإلهيّة و الحاجات الضرورية، في حركة الحياة و الواقع العملي.

و يبقى أمرٌ أخير، تجدر الإشارة إليه، أَلا و هو، أنّ «الصّمت» و «السّكوت» وَردا بمعنى واحد في معاجم اللّغة، و لكن بعض علماء الأخلاق ذهب إلى وجود فرق بينهما، فان السّكوت هو التّرك المُطلق للكلام، و الصّمت هو التّرك المقصود للكلام الزائد و اللّغو، أي: «تركُك ما لا يُعينك»، و هدف السّالك الحقيقي في إطار تهذيب النّفس، و السّلوك المعنوي ينسجم مع:

[الصّمت

لا [السّكوت .

إصلاح اللّسان:

ما تقدم آنفاً من أهمية السّكوت أو الصّمت، و دوره في تهذيب النّفوس، و الأخلاق في

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 68، ص 274.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 262

خطّ السّير و السّلوك إلى اللَّه، هو في الحقيقة من الطّرق الحياتيّة للوقاية من آفات اللّسان، لأنّ اللّسان في الحقيقة، هو المفتاح للعلوم و الثّقافة و العقيدة و الأخلاق، و إصلاحه يُعدّ أساساً لِكلّ الإصلاحات الأخلاقيّة في واقع الإنسان، و العَكس صحيح، و لأجله فإنّ الحديث عن إصلاح اللّسان، أوسع منَ مبحث السّكوت و أَشمل.

و قد إكتسب مبحث إصلاح اللّسان، أهميّةً بالغةً في الأبحاث الأخلاقيّة بإعتباره، تُرجمان القلب و رَسول العَقل، و مفتاح شخصيّة الإنسان، و نافذة الرّوح على آفاق الواقع.

و بعبارةٍ اخرى: إنّ ما يرتسم على صفحات الرّوح و النّفس، يظهر قبل كلّ شي ء على فَلتات اللّسان، و اللّطيف في الأمر أنّ قُدامى الأطباء، كانوا يُشخّصون المرض، و يتعرّفون على سلامة الشّخص و مزاجه عن طريق اللّسان، فَلَم تكن عندهم هذه الإمكانيّات المعقدّة التي بأيدينا اليوم، فالطّبيب الحاذق، كان يتحرك في عمليّة تشخيصه، لأمراض الباطن عن طريق اللسان، حيث يَنكشِف له من خلال ظاهر اللّسان و لونه، الأمراض الكامنة في خَبايا جسم صاحبه.

و هكذا الحال بالنّسبة لأمراض الرّوح و العقل و الأخلاق، فيمكن للّسان أن يكشف لنا المفاسد الأخلاقيّة، و السّلبيات النّفسية و التّعقيدات الرّوحية، التي تعتلج في صدر و روح الإنسان أيضاً.

و عليه، فإنّ علماء الأخلاق يرون، أنّ همّهم الأول و الأخير حفظ و إصلاح اللّسان، و يعتبرونها خُطوةً مهمّةً و مؤثرةً في طريق التّكامل الرّوحي و الأخلاقي، و قد عكس لنا أميرُ المؤمنين عليه السلام، ذلك الأمر في حديثه الذي قال فيه:

«تَكَلَّمُوا تُعرَفُوا فإنّ المَرءَ مَخبُوءٌ تَحتَ لِسانِهِ» «1».

و جاء في حديثٍ آخر، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عَبدٍ حَتّىْ يَسْتَقِيمَ قَلْبُهَ و لا يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ حَتّى يَستَقِيمَ لِسانْهُ» «2».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكلمة 392، من قصار كلماته عليه السلام.

(2). بحار الأنوار، ج 68، ص 287، المحجّة البيضاء، ج 5، ص 193.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 263

و نعود بعد هذه الإشارة إلى أصل بحثنا، و نقسّمه إلى أربعة محاور.

1- أهميّة اللّسان بإعتباره نعمة إلهية كبيرة.

2- العلاقة الوثيقة بين إصلاح اللّسان، و إصلاح روح و فكر الإنسان و أخلاقه.

3- آفاتُ اللّسان.

4- الاصول و الأسس الكليّة، لِعلاج آفاتِ اللّسانِ.

في المحور الأوّل: تحدّث القرآن الكريم، في آيتين من سورة «البلد» و «الرّحمان»، بِأبلغ الكلام.

فنقرأ في سورة البَلد، الآيات (8- 10): «أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَينَينِ وَ لِساناً وَ شَفَتَينِ وَ هِدَيناهُ النَّجْدَينِ».

فبيّنت هذه الآيات الشّريفة، النّعم و المواهب الإلهيّة الكبيرة على الإنسان في الحياة، من قَبيل نِعمة العين و اللّسان و الشفتان، كأدواتٍ و جوارحٍ يستخدمها الإنسان لمعرفة الخَير و الشّر.

نعم، فإنّ الحقيقة، أنّ أعجب جوارح الإنسان هي اللّسان، قطعةٌ من البدن، حَمَلَتْ و حُمّلت أثقل الوظائف، فاللّسان علاوة على دوره في بلع الطّعام و مَضغِه، فإنّه يؤدي واجِبَهُ بِمهارةٍ فائقةٍ من دون أيّ إشتباهٍ، في أداء هذه المهمّة الكبيرة، وَ لَوْلا مهارته في تَقليب اللّقمة بين الأسنان، فما ذا سيكون حالنا!، و بعد الأكل يقوم بعمليّة تنظيف الفم و الأسنان أيضاً.

و الأهمّ من ذلك و الأعجب، هو كيفيّة الكلام، بواسطة حركات اللّسان السّريعة، و المرتّبة و المنظّمة في جميع الجهات.

و اللّطيف في الأمر، أنّ اللَّه سبحانه و تعالى، قد سهّل عمليّة الكلام، بصورةٍ كبيرةٍ

بحيث أنّ اللّسان لا يملّ و لا يكلّ من النّطق و التّحدث إلى هذا و ذاك، و من دون تكلفةٍ و نفقةٍ، و الأعجب من ذلك، قابلية الإنسان للكلام، و تكوين الجمل و الكلمات المختلفة، كموهبةٍ إلهيةٍ، و ملكة أصليّةٍ في روح الإنسان و فطرته، بالإضافة إلى إستعداده و قدرته، لتكوين و تأليف اللّغات المختلفة، و تعددها إلى الآلاف، و كلّما مرّ الزمان إزداد عددها و تنوّعها بتنوع الأقوام

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 264

و الجماعات البشريّة.

فليس عجيباً عند ما يتحدث عنها القرآن الكريم، و يقول أنّها أعظم النعم؟

و الجدير بالذكر، أنّ الآية الكريمة ذكرت الشّفتين إلى جانب اللّسان، فهما في الحقيقة يُساعدان اللّسان في التّلفظ بالكثير من الحروف، و تنظيم الأصوات و الكلمات في عمليّة التّكلم.

و من جهةٍ اخرى فإنّ الشّفتين، أفضل وسيلة للسّيطرة على اللّسان، كما حدّثنا بذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه و آله، عن الباري تعالى، أنّه قال: «يا ابنَ آدَمَ إِنْ نازَعكَ لِسانُكَ فِى ما حَرَّمَتُ عَلَيكَ فَقَدْ أَعَنْتُكَ بِطَبَقَتَينِ فأطْبِق» «1».

و في بداية سورة الرّحمان: (الآيات 1- 4)، يشير سُبحانه إلى نعمة البيان، التي هي ثمرة من ثمرات اللّسان، و بعد ذكر إسم «الرّحمان»، التي وسعت رحمته كلّ شي ءٍ، يشير سُبحانه إلى أهمّ و أفضلّ المواهب الإلهيّة، يعني القرآن الكريم، ثم خلقة الإنسان، ثم يعرّج على موهبة البيان لدى الإنسان: «الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ».

و بناءاً عليه فإنّ نعمة البيان، هي أهمّ موهبةٍ أعطاها اللَّه سبحانه، لعباده بعد خلقهم.

و إذا ما أردنا أن نستعرض دور البيان، في تكامل و رُقي الإنسان، و دوره الفاعل في بناء الحضارة الإنسانيّة، عندها سنكون على يقينِ بأنّه لو لا تلك النّعمة

الإلهيّة، و الموهبة الربّانية، لما إستطاع الإنسان أن ينقل خبراته و تجاربه للأجيال المتعاقبة، و لما تقدّم العِلم، و لما إنتشر الدّين و الأخلاق و الحضارات بين الامم السّابقة و اللّاحقة.

و لنتصور أنّ الإنسان، في يوم من الأيّام، سيفقد هذه الموهبة، فممّا لا شك فيه أنّ المجتمع البشري، سيعود في ذلك اليوم إلى أجواء التّخلف الحضاري، و الإنحطاط في جميع الصُّعد.

عُنصر «البيان»، تتوفر فيه أداةٌ و نتيجةٌ، و بما أنّنا إعتدنا عليه، فلذلك نتعامل مع هذه الظّاهرة من موقع اللّامبالاة و عدم الإهتمام، لكنّ الحقيقة هي غير ذلك، فهو عملٌ دقيقٌ معقّدٌ فنّيٌ لا مثيل له و لا نظير. لأنّه من جهة، تتعاون الأجهزة الصوتيّة فيما بينها، من الرئة إلى الهواء الداخل إلى الأوتار الصوتيّة، و التي بدورها تتعاون، مع: اللّسان و الشّفتان و الأسنان و الحلق

______________________________

(1). مجمع البيان، ج 10، ص 494، ذيل الآية المبحوثة، نور الثقلين، ج 5، ص 518.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 265

و الفم، لتكوين و تأليف الأصوات بسرعةٍ فائقةِ دقيقةٍ جدّاً، حتى يصل إلى الحُنجرة، التي تقوم بتقطيعه و تقسيمه حسب الحاجة.

ثم إنّ قصّة وضع اللّغات البشريّة، و تعدّدها و تنوّعها هي قصةٌ عجيبةٌ و معقدةٌ، و تزيد من أهميّة الموضوع، «يقول بعض العلماء: أنّ عددَ لُغات العالم، وصل إلى حوالي (3000) لغة».

و نحن نعلم أنّ هذا العدد لن يتوقف عند هذا الحد، و أنّ عدد اللّغات في تزايدٍ مُستمرٍ.

فهذه النّعمة الإلهيّة، هي من أهم و أغرب و ألطف النّعم، و التي لها دورٌ فاعلٌ في حياة الإنسان و تكامله و رقيّه، و هي الوسيلة، لتقارب البشر و توطيد العلاقات فيما بينهم، على جميع المستويات.

و قد إنعكست هذه المسألة،

في الرّوايات بصورةٍ واسعةٍ، و منها ما وَرد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ما الإِنسانَ لَو لا اللّسانُ إِلّا صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ أَو بَهَيمَةٌ مُهمَلَةٌ» «1».

و الحقُّ ما قاله الإمام عليه السلام، لأنّه لو لا اللسان فعلًا لَما إمتاز الإنسان عن الحيوان، وَ وَرد في حديثٍ آخر، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «الجَمالُ فِي اللّسانِ» «2».

و نقل هذا الحديث بصورة اخرى، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «الجَمالُ في اللّسانِ و الكَمالِ في العَقلِ» «3».

و نختم بحديثٍ آخرٍ عن عن الإمام علي عليه السلام، فقال: «إِنّ فِي الإِنسانِ عَشَرَ خِصَالٍ يُظْهِرُها لِسانُهُ، شاهِدٌ يُخْبِرُ عَنِ الضَّميرِ، وَ حاكِمٌ يَفْصِلْ بَينَ الخِطابِ، وَ ناطِقٌ يَرُدُّ بِهِ الجَوابَ، وَ شافِعٌ يُدْرِكُ بِهِ الحاجَةَ، وَ واصِفٌ يَعْرِفُ بِهِ الأشياءَ، وَ أَمِيرٌ يأمُرُ بِالحَسَنِ، وَ وَاعِظٌ يَنهى عَنِ القَبِيحِ، وَ مُعَزٍّ تَسْكُنُ بِهِ الأحزانُ، وَ حاضِرٌ (حامِدٌ) تُجْلى بِهِ الضَّغائِنُ، وَ مُونِقٌ تَلَذُّ بِهِ الأَسماعُ» «4».

و لحسن الختام، نعرج على كتاب: «المحجّة البيضاء» في «تهذيب الأحياء».

______________________________

(1). غُرر الحِكم، الرقم (9644).

(2). بحار الأنوار، ج 74، ص 141، ح 24.

(3). المصدر السّابق، ج 75، ص 80، ح 64.

(4). الكافي، ج 8، ص 20، ح 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 266

ففي بداية الكلام، و تحت عنوان: «كتاب آفات اللّسان»، يقول:

(فإنّ اللّسان من نعم اللَّه العظيمة، و من لطائف صُنعه الغريبة، فإنّه صغيرٌ جرمه، عظيمٌ طاعته و جرمه، إذ لا يستبين الكفر و الإيمان، إلّا بشهادة اللّسان، و هما غاية الطّاعة و الطغّيان، ثمّ إنّه ما من موجودٍ أو معدومٍ، خالق أو مخلوق، متخيّل أو معلوم، مظنون أو موهوم إلّا و اللّسان يتناوله، و يتعرّض له بإثباتٍ أو نفي، فإنّ كلّ ما

يتناوله العلم، يُعرب عنه اللّسان، إمّا بحقّ أو باطلٍ، و لا شي ء إلّا و العلم متناول له، و هذه خاصيّة لا توجد في سائر الأعضاء، فإنّ العين لا تصل إلى غير الألوان و الصّور، و الأذن لا تصل إلى غير الأصوات، و اليد لا تصل إلى غير الأجسام، و كذا سائر الأعضاء، و اللّسان رَحب الميدان، ليس له مردّ و لا لمجاله مُنتهى و لا حدّ، فله في الخير مجال رَحب، و له في الشرّ مجرى سحب، فمن أطلق عذبة اللّسان و أهمله مرخى العِنان، سَلك به الشّيطان في كلّ ميدان، و ساقه إلى شفا جرفٍ هار). «1»

علاقة اللّسان بالفكر و الأخلاق:

لا شك أنّ اللّسان هو نافذة الرّوح، و هو يعني أنّ شخصيّة الإنسان مخبوءةٌ تحت لِسانِه، و بالعكس فإنّ كلمات كلّ إنسانٍ لها دورٌ في بلورة و صياغة روحه و نفسيّته، فالتّأثير بين الكلام و شخصيّة المتكلم، هو تأثيرٌ مُتقابلٌ.

و الآية الوحيدة التي تناولت، علاقة اللّسان بالفكر و الأخلاق، هي الآية (30) من سورة محمد صلى الله عليه و آله، بالشّكل الذي يشخّص معها الإنسان، ما يدور في خُلد طَرفه المقابل، عن طريق حديثه و كلامه معه، و لذلك فإنّ الإنسان، سعى قديماً و حديثاً للتّركيز على هذا الأمر، لمعرفة خبايا و بواطن الرّجال عن طريق المحادثة و الطّب النّفسي، فنقرأ في هذه الآية، التي نزلت لتفضح المنافقين، قوله تعالى: «وَ لَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيَماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ».

و على حدّ تعريف الرّاغب، في: «مفردات القرآن»، أنّ معنى «اللّحن»، هو الخطأ في الإعراب، أو الانحراف عن قواعد اللّغة، أو قلب الكلام من الصّراحة إلى الكناية، و

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص

190.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 267

الإشارات، «و لحن القول» المقصود في الآية، هو المعنى الأخير، و هي الكنايات و التّعبيرات ذات المعاني المتعدّدة، و الحمالة لوجوهٍ.

ففي حديثٍ عن أبي سعيد الخدُري قال:

(لَحْنُ القَولِ بُغْضُهُم عَلي بنَ أَبي طالبٍ، وَ كُنَّا نَعْرِفُ المُنافِقِينَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ بِبُغْضِهِم عَلي بنَ أَبي طالِبٍ) «1».

و لم تنسَ الروايات حظها في هذا المجال، فقد وَرد:

1- «ما أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيئَاً إلّا ظَهَرَ فِي فَلَتاتِ لِسانِهِ وَ صَفَحاتِ وَجِهِهِ» «2».

فهذا الحديث يمكن أن يكون أساس الطبّ و العلوم النّفسية، و الحقيقة أنّ اللّسان هو مرآة الرّوح.

2- و عنه عليه السلام أيضاً: «الإِنسانُ لُبُّهُ لِسانُهُ» «3».

3- و عنه عليه السلام أيضاً: «قُلْتُ أَربَعاً، أَنْزَلَ اللَّهُ تَصدِيقي بِها في كِتابِهِ، قُلْتُ المَرءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسانِهِ فإذا تَكَلَّمَ ظَهَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعالى (وَ لَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْنِ القَولِ) «4»، قُلْتُ فَمَنْ جَهِلَ شَيئَاً عاداهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ؛ (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) «5»، وَ قُلْتُ قِيمَةُ كُلُّ امرِءٍ ما يُحْسِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، فِي قِصَّةِ طالُوتَ (إِنَّ اللَّهَ اصطفَاهُ عَلَيكُم وَ زَادهُ بَسْطَةً في العِلْمِ و الجِسمِ) «6»، وَ قُلْتُ القَتلُ يُقِلُّ القَتلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، وَ لَكُم فِي القِصاصِ حياةٌ يا اولِي الأَلبابِ) «7»» «8».

4- و في حديثٍ آخرٍ عنه عليه السلام أيضاً قال: «يُسْتَدَلُّ عَلى عَقْلِ كُلِّ امرِءٍ بِما يَجرِي عَلَى لِسانِهِ» «9».

______________________________

(1). مجمع البيان، ج 6، ص 106، و نقل كثير من أهل الحديث هذه القصة، كأحمد بن حنبل في الفضائل، و إبن عبد البر في «الإستيعاب» و الذهبي في «تاريخ أوّل الإسلام» و إبن الأثير في «جامع الاصول»، و غيرها.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 26.

(3). بحار الأنوار، ج 78، ص 56.

(4). سورة

محمد، الآية 30.

(5). سورة يونس، الآية 39.

(6). سورة البقرة، الآية 247.

(7). سورة البقرة، الآية 179.

(8). بحار الأنوار، ج 68، ص 283.

(9). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 268

و قال عليه السلام أيضاً: «إِياكَ و الكَلامَ في ما لا تَعْرِفُ طَرِيقَتَهُ وَ لا تَعْلَمَ حَقِيقَتَهُ فَأنَّ قَولَكَ يَدُلُّ عَلى عَقْلِكَ وَ عِبادَتِكَ تُنْبَؤُ عَنْ مَعْرِفَتِكَ» «1».

و الحقيقة أنّ اللّسان له دور حيوي و فعّال، في حياة الإنسان و بناء شخصيته، و هو أمرٌ لا يخفى على أحدٍ، و له أصداءٌ واسعةٌ في الرّوايات الإسلاميّة، و ما ورد آنفاً ليس إلّا نَزَرٌ قليلٌ من ذاك الكمّ الكثير.

و بالطّبع فإنّ النّعم الإلهيّة العظيمة، هي رأسمالٌ عظيمٌ لبناء الذّات في طريق التّكامل المعنوي، و كلّما إزدادت النعم الإلهيّة، و توسّعت، إزداد الأمر خطورةً، للحفاظ عليه من الآفات و الأخطار في دائرة التّحديات الصعبة، التي تحاول القضاء على شخصيّة الإنسان.

و المعروف: «أنّه إلى جانبِ كلِّ جبلٍ عظيمٍ وادٍ سحيقٍ»، ففي جانب كلّ نعمةٍ و موهبةٍ، هناك خطرٌ محدقٌ، فالطّاقة الذريّة مثلًا إذا استعملت في الأغراض السلميّة، و الإعمار، فستبني و تُعمّر دنيا الإنسان، و إذا ما استعملت في الشر فستفني العالم في دقائق معددوة.

و منها نفتح باب الحديث، على آفات اللّسان.

آفات اللّسان:

كما أشرنا أنّ فوائد اللّسان و بركاته البنّاءة عديدةٌ، و كذلك آثاره السلبيّة، و ما يترتب عليه من ذنوبٍ و آثامٍ، و نتائجٍ مخرّبةٍ على مستوى الفرد و المجتمع، و قد ذكر العلّامة المرحوم الفيض الكاشاني رحمه الله، في كتابه: «المحجّة البيضاء»، و الغزالي في كتابه: «إحياء العلوم»، بحوثاً مطوّلة، فذكر الغزالي عشرين نوعاً من أنواع الإنحرافات و الأخطار للّسان:

1- الكلام في ما لا يعني الإنسان، «و ليس له

أثر مادّي و لا معنوي في حياة الإنسان».

2- الثّرثرة و الكلام اللّغو.

______________________________

(1). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 269

3- الجدال و المراء.

4- الخصومة و النّزاع و اللّجاج في الكلام.

5- التّكلم حول المنكرات، مثل الشّراب و القمار و ما شابهه.

6- التكلّف في الكلام، و التّصنع في السّجع و القافية.

7- البَذاءة

8- اللّعن لغير مستحقّيه.

9- الغِناء.

10- المِزاح الرّكيك.

11- السّخرية و الإستهزاء بالآخرين.

12- إفشاء أسرار الناس.

13- الوعود الكاذبة.

14- الكذب و الأخبار الكاذبة.

15- الغيّبة.

16- النمَّيمة.

17- النّفاق في اللّسان، «أو كما يقال ذو اللسانين».

18- المدح لِغَير مُستَحقّيه.

19- الكلام و التّحدث بدون تفكّر و تدبّر، حيث يُصاحبه الوقوع في الخطأ و الاشتباه عادة.

20- التّساؤل عن الامور المعقدّة و الغّامضة، التي تخرج عن قُدرة المسؤول، هذا و إنّ الدّقة في البحث، أثبتت لنا أنّ الآفات لا تَنحصر بهذه الامور فقط، فالمرحوم الكاشاني و الغزالي، ربّما لم يكن قَصدهما، إحصاء جميع عناصر الخلل و الزّيغ في اللّسان، و لذلك فإنّنا نضيف إلى هذه الموارد العشرين، موارد اخرى، و هي:

1- التّهمة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 270

2- الشّهادة بالباطِل.

3- مدح النّفس.

4- نشر الشّائعات و الأكاذيب، التي لا تعتمد على أساس، و إشاعة الفَحشاء و المُنكر، و إن كان من باب الإحتمال.

5- البذاءَة و الخُشونة في الكلام.

6- الإصرار العَقيم: (كما أصرّ أصحاب بقرة بني إسرائيل).

7- ايذاء الآخرين بالكلام الجارِح.

8- المذمّة لغير مُستحقيها.

9- الكُفران و عدم الشّكر باللّسان.

10- الدّعاية لِلباطِل، و التّرغيب على الذَنب، و الأمر بالمُنكر، و النّهي عن المعروف.

و غَنيٌّ عن البيان، أنّ ما تقدّم آنفاً لا يشكل جميع خطايا اللّسان، بل يمكن القول أنّ هذه الموارد الثّلاثين، من امهّات المِوارد في هذا الصّدد.

و الجدير بالذّكر، أنّ البَعضِ أفرطوا في هذا المجال، و نسبوا إلى اللّسان

ذُنوباً هو بَري ءٌ منها، كَإظهار الفقر و المَسكنة و البدعة في الدّين، و التّفسير بالرّأي و الجاسوسيّة ما شابَهها، فكلٌّ منها يعتبر ذنباً مُستقلًّا، فربما إرتكبت باللّسان أو بالقلم، أو بوسائل اخرى، و تصنيفها في عداد ذنوب اللّسان، ليس بالشّي ء المُناسب، لأنّه على هذا الأساس، يمكن تصنيف جميع الذّنوب في قائمة ذنوب اللّسان، حيث إنّها ترتكب بنوعٍ ما، بواسطة اللّسان، أو أنّ لها علاقة به، كالرّياء و الحسد و التكبر و القتل و الزّنا.

و البعض أَقَدم على كلّ خطيئةٍ من خَطايا اللّسان، و قسّمها إلى أقسامٍ عديدةٍ، و جعل كلّ قسم منها، في فرع خاصٍّ و عنوانٍ مستقلٍ، مثل الجَسارة مع الأستاذ أو الوالدين، أو تلقيبّهم بألقاب نابيةٍ.

و على كلّ حال، علينا إتخاذ جانب الإعتدال في كلّ شي ءٍ، و إن كانت هذه التّقسيمات، في الحقيقة لا تؤثّر في أصلِ البحث.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 271

الاسس الكليّة للوقاية من أخطار اللّسان:
اشارة

تبيّن ممّا سَبق، أنّ اللّسان في الوقت الذي يعدّ فيه نعمةً إلهيةً عظميةً، هو في نفس الوقت، خطرٌ جدّاً إلى درجةٍ أنّ بإمكانه، أن يكون مصدرَ الخطايا و الذّنوب، و أن يَهبُط بالإنسان في خطّ الباطل، إلى أسفل السّافلين و يجره إلى الحَضيض.

و لأجله علينا التّفكير، في الاصول التي تُعيننا في تجنّب أخطاره الكبيرة، أو تقليلها إلى أقصى حد.

و نستعين في دائرة الكشف عن أخطار اللّسان، بتوجيهات أئمّتنا العظام عليهم السلام و رواياتهم، و كذلك نَستعين بِبَعض من كلمات علماء الأخلاق، حيث وضعوا لنا اصولًا و اسساً و خطوطاً عامةً، عليها التَّعويل في حركتنا المعنويّة المتجهة نحو اللَّه تعالى، و منها:

1- الإنتباه الحَقيقي لأخطار اللّسان

للوقاية من أخطار أيّ موجودٍ خطرٍ علينا، في البِداية نَلتَزِم حالة الإنتباه و التّوجه الّتام، لما يترتب عليه من أخطار، فعند ما يستيقظ الإنسان كلّ يومٍ صباحاً، عليه أن يُوصي نفسه و معها على مستوى الحَذر، من شطَحات لسانه و أفكاره، لأنّ هذا العضو من البدن إذا تعامل معه الإنسان، من موقع الإنضباط في خطّ المسؤوليّة، فسوف يصعد به إلى أوج السّعادة و الكَمال، و إذا أطلق له العِنان، فسيورد صاحبه في المهالك، فهو وَحشٌ ضارَي لا همّ له إلّا التّدمير و التّخريب، و قد ورد هذا المعنى بصورةٍ جمليةٍ و تعبيراتٍ مؤثّرةٍ في رواياتنا الشّريفة، منها ما ورد عن سعيد بن جُبير، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث قال:

«إذا أَصبَحَ إبنُ آدَمَ أَصْبَحَتْ الأَعْضاءُ كُلُّها تَشْتَكِي اللِّسانَ أَي تَقُولُ إِتَّقِ اللَّهَ فِينا فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ إِسْتَقَمنا وَ إِنْ إِعوَجَجْتَ إِعوَجَجنا» «1».

و جاء عن إمامنا السّجاد عليه السلام:

«إِنَّ لِسان إبنِ آدَمَ يُشْرِفُ عَلى جَمِيعِ جَوارِحِهِ كُلَّ صَباحُ فَيَقُولُ كَيفَ أَصْبَحْتُم؟!

______________________________

(1). المحجّة

البيضاء، ج 5، ص 193.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 272

فَيَقُولُونَ بِخَيرٍ إِنْ تَرَكْتَنا وَ يَقُولُونَ اللَّهَ اللَّهَ فِينا، وَ يُناشِدُونَهُ وَ يَقُولُونَ إِنَّما نُثابُ وَ نُعاقَبُ بكَ». «1»

2- السّكوت

تطرّقنا سابقاً لمباحث السّكوت، بصورةٍ وافيةٍ، و نقلنا آيات و روايات كثيرة في هذا الصّدد، فكلّما كانَ الكلام أقل، كان الزّلل كذلك، و كلّما كان السّكوت أكثر، كانتْ السّلامة تحيط بالإنسان في حركة الحياة و الواقع، عِلاوةً على ذلك فإنّ إلتزام السّكوت في أغلب الحالات، يعوّد الإنسان السّيطرة على لسانه و الحدّ من جموحه، و الوصول في هذه الحالة النّفسية، إلى درجةٍ لا يقول إلّا الحقّ، و لا يتكلّم إلّا بما يُرضي اللَّه تعالى.

و يجب الإنتباه إلى أنّ المراد من السّكوت، ليس هو السكوت المطلق، فكثيرٌ من امورنا الحياتيّة لا يتحقّق إلّا بالكلام، من قبيل كثيرٍ من الطّاعاتِ و العبادات، و نشر العلوم و الفَضائل، و إصلاح ذاتِ البَين، و أمثال ذلك، فالمقصود قلّة الكلام و الإجتناب عن فُضوله، فقد قال الإمام علي عليه السلام:

«مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ، مَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَياؤُهُ، وَ مَنْ قَلَّ حَياؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَ مَنْ قَلَّ وَرَعَهُ ماتَ قَلْبُهُ، وَ مَنْ ماتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النّارَ» «2».

و نقل هذا التّعبير، بصورةٍ اخرى عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله «3».

و في حديثٍ آخر عن الإمام علي عليه السلام، أنّه قال: «الكَلامُ كَالدَّواءِ قَلِيلُهُ يَنْفَعُ وَ كَثِيرهُ قاتِلٌ» «4».

3- حِفظ اللّسان: «التفكّر أولًا ثّم الكَلام»

إذا فكّر الإنسان في مضمون كلامه، و دوافعه و نتائجه، فسيكون بإمكانه أن يَتجنّب كثيراً من الشّطحات، و الذّنوب التي تنطلق من موقع الغفلة، نعم فإنّ إطلاق العِنان لِلّسان من موقع اللّامبالاة و الإستهانة، بإمكانه أن يوقعه في أنواع الذّنوب و المَهالك في حركةِ الحياة.

______________________________

(1). الكافي، ج 2، ص 15، ح 13.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القِصار، الكلمة 349.

(3). النحجّة البيضاء، ج 5، ص 196.

(4). غُرر الحِكم، الرقم 2182.

الاخلاق فى القرآن،

ج 1، ص: 273

وَ وَرد في حديثٍ عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله، أنّه قال:

«إِنَّ لِسانَ المُؤمِنِ وَراءَ قَلْبِهِ، فَإِذا أَرادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشي ءٍ تَدَبِّرَهُ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ أَمضاهُ بِلِسانِهِ و إنَّ لِسانَ المُنافِقِ أَمامَ قَلْبِهِ، فَإِذا هَمَّ بِشي ءٍ أَمضاهُ بِلِسانِهِ وَ لَم يَتَدَبَّرْهُ بِقَلْبِهِ» «1».

وَ وَرد نفسُ هذا المعنى، مع بعض الإختلاف في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، في الخُطبة (176) من نهج البلاغة.

و نقرأ في تعبيرٍ آخر ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، أنّه قال: «قَلْبُ الأَحْمَقِ في فَمِهِ، وَ فَمُ الحَكِيمِ فِي قَلْبِهِ» «2».

فَمن البَديهي، أنّ المراد من القلب هُنا هو العقل و الفكر، وَ وُجود اللّسان في موقع الأمام أو الخلف، هو كنايةٌ عن التدبّر و التفكّر في محتوى الكلمات و الألفاظ، قبل النّطق بها، و بالفِعل كم يكون جميلًا، لو أنّنا حسبنا لكلامنا حسابه، و فكّرنا في كلّ كلمةٍ نريد أن نقولها، و الدّوافع و النّتائج التي ستعقبها، و هل أنّها من اللّغو أو ممّا يفضي إلى إيذاء مؤمنٍ، أو إلى تأييد ظالم و أمثال ذلك، أو أنّها تنطلق من موقع الدّوافع الإلهيّة، و لغرض حماية المظلوم، و في طريقٌ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و كسب مَرضاة اللَّه تعالى؟!.

و نَختم هذا الكلام، بحديثٍ جامعٍ لجميع الموارد المذكورة آنفاً، يمنح قلب الإنسان نوراً و صفاءً، و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«إِنْ أَحبَبتَ سَلامَةَ نَفْسِكَ وَ سَترَ مَعايبِكَ، فَاقْلِل كَلامَكَ وَ أَكْثِر صَمْتَكَ، يَتَوفَّرْ فِكْرُكَ وَ يَستَنِرُ قَلْبُكَ». «3»

هذه هي خلاصة دور اللّسان في تهذيب النّفس، و طهارة الأخلاق و الاصول الكلّية لحفظ اللّسان، و بالطّبع سوف نقدم شرحاً وافياً، لتفاصيل أهمّ الإنحرافات و الذّنوب

اللّسانيّة، كالغيبة و التّهمة و الكَذب و الَنميمة و نشر الأكاذيب و إشاعة الفحشاء، و ذلك في المجلّد الثاني من الكتاب، إن شاء اللَّه تعالى، بعد الإنتهاء من بيان الاصول الكلّية لِلقيم الأخلاقيّة.

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 195.

(2). بحار الأنوار، ج 75، ص 374.

(3). غُرر الحكم، ص 216، ص 4252.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 274

الخُطوة الثّامنة: معرفة اللَّه تعالى و معرفة النّفس

اشارة

من الخَطوات الاولى في طريق إصلاح النّفس، و التّهذيب الرّوحي، و بلورة الأخلاق و الملكات الأخلاقية السّامية، في واقع الإنسان هي: «معرفة النّفس».

فكيف يمكن للإنسان أن يرقى في درجات الكمال الرّوحي و يتحرك على مُستوى إصلاح عُيوبه، و التّخلص من رذائله الأخلاقيّة، و الحال أنّه لا يعرف نفسه من موقع الوعي لذاته؟

و هل للمريض أن يذهب إلى الطّبيب، و لمّا يعرف أنّه مُصابٌ بالمرض؟

و هل لِلتائه الضّال عن الطّريق، أن يعرف وجهته، و يتحرك في طريق العثور على الجادة الصّحيحة، قبل أن يعرف أنّه ضالٌ عن الطريق؟

و هل للإنسان أن يُهيّى ء أسباب و وسائل الدّفاع عن نفسه، و هو لا يعرف أنّ العدوّ قد كَمَن له على باب داره؟

من الطّبيعي، أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة هو بالنّفي، فكَذلك من لا يعرف نفسه و لا عيوبه فإنّه لن يستطيع أن يتحرّك في عملّية إصلاح نفسه، و لن يستفيد من أطبّاء الرّوح، في خطّ التّربية و التّهذيب.

و بهذه الإشارة نعود إلى صُلب الموضوع، لنبيّن علاقة معرفة النّفس بِتهذيبها، و كذلك العلاقة بين: معرفة اللَّه و تهذيب النّفس.

1- علاقة معرفة النّفس بتهذيبها

كيف يُمكن لمعرفة النّفس أن تكون سبباً في تهذيب النّفس؟ دليلُهُ واضحٌ و بَيّنٌ، لأنّه:

أولًا: إنّ الإنسان عن طريق معرفة نفسه، سوفَ يعَي كرامةَ نفسه، و شرفَ ذاتِه، و عظمةَ الصّنع الإلهي في هذه الخِلقة، و بالتّالي سَيُدرِك، أهميّة الرّوح الإنسانيّة، التي هي نفحةٌ من نفحات قُدسه، نعم فإنّه سَيُدْرِك أنّ الجوهَرة الّثمينة، التي منحه اللَّه تعالى إيّاها، عليه ألّا يُضيّعها و لا يَبيعها بأبخسِ الأثمان، فلن يُضيّعها إلّا من كانَ يعيش الرّذائل الأخلاقيّة، و من غَرِق

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 275

بِوحل الذّنوب، و مستنقع الخَطيئة.

ثانياً: الإنسان بمعرفته لنفسه،

سيطّلع على الأخطار التي تحدق به، جرّاء مِيوله النّفسية، و عنصر الهَوى و دوافع الشّهوة، التي تقع في خطّ التّقابل، مع سعادته و تكامله المعنوي في حركة الواقع النّفساني، و سيكون بإمكانه التّحرك في دائرة المُواجهة الواعية، للوقوف بوجهها و التّصدي لها.

و من البديهي، أنّ الإنسان الذي لا يَخبُر نفسه لن يكون على إحاطةٍ بوجود تلك الدوافع، و يبقى كالغافل عمّا يدور حواليه، بينما يكون الأعداء قد إحتوشوه من كلّ جانبٍ، و هو لا يُحرّك ساكناً، و بالطّبع فإنّ هذا الشّخص، سيتلقّى ضرباتٍ قاصمةٍ من عدوّه، و بعدها يخضع لواقع السّيطرة من قِبل العدو، و أنّى له ساعتها، التّدبير و التّفكير من موقع الشّعور الهادِى ء، و البعيد عن الإنفعال و التّوتر!!.

ثالثاً: بمعرفة النّفس، ستظهر له خَبايا نفسه، و إستِعداداتِها المختلفة، و لأجل رُقيّها و كمالها و السّير بها إلى اللَّه، سيسعى الإنسان في خطّ التربيّة و التّهذيب، لِبلورة تلك الإستعدادات و الكَمالات، و يستخرج كُنوزها من واقعه الذّاتي، ليقترب بواسطتها من آفاق السّماء.

و حال الشّخص الذي لا يتعامل مع ذاته، من موقع المعرفة و الوَعي، كحال الذي دَفَن في بيته كُنوزاً، و هو لا يعلم بها، و هو بأمسّ الحاجة إليها لفقره المُدقع، فيموت جوعاً بدون أن يجد في نفسه باعثاً على الانتفاع بها، في واقع الحياة.

رابعاً: إنّ كلّ واحدةٍ من المفاسد الأخلاقيّة، لها جذورها في النّفس الإنسانيّة، و بمعرفة النّفس، سيسعى الإنسان في عمليّة قلع تلك الجُذور، من واقع النّفس و غلق تلك الرّوافد التي تمدّها بالماء الآسن، و مُعالجة هذا الواقع السّلبي، بفتح روافد الماء الصّافي الرّقراق الذي يمدّها بالحَياة و الوِصال الحقيقي المنفتح على الإيمان و الصفاء النّفسي.

خامساً: و الأهم من هذا

و ذاك، فإنّ معرفة النّفس، تؤدّي إلى معرفة الربّ، و معرفة صفاته الجلاليّة و الجماليّة، و التي هي من أقوى الدّوافع الذاتيّة، لتربية المَلَكات الأخلاقيّة، و الكَمالات الإنسانيّة، و طريقٌ قويمٌ لِلنجاة من الإنحطاط و الرّذيلة، و الصّعود بها إلى أعلى

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 276

مراتب الكمال المعنوي، و آفاق المَثل الإنسانيّة.

و إذا أضفنا إلى ذلك كلّه هذه الحقيقة، و هي أنّ الرّذائل تقلب حلاوة السعادة إلى مرارة الشّقاء، و تجرّ البشريّة إلى حيث الويلات و الدّمار، فعندها ستتّضح مدى الأهميّة القُصوى، لمعرفة النّفس في حياة الإنسان و المجتمع البشري.

و قد وَرد في كتاب: «إعجاز الطبّ النّفسي»، للكاتب «كارل منينجر»: (معرفة النّفس عبارة عن الإحاطة بقوى الخير و المحبّة، و معرفة عناصر الشّر و الكراهيّة في النفس الإنسانيّة، و أيّ تجاهلٍ و تغافلٍ عن وجود هذه القوى و العناصر في أنفسنا، و في الغير، بإمكانه أن يُعرّض اسس الحياة للإهتزاز و الخلَل) «1».

و في كتاب: «الإنسان ذلك المجهول»، وردت جملةٌ تعتبر شاهداً حيّاً على مدّعانا، فيقول:

(لسوء الحظ فإنّ الإنسان المعاصر، لم يتحرّك على مستوى التّعرف على نفسه، إلى جانب التّقدم الصّناعي و التّطور العلمي، و لم يوفّق برنامج الحياة، وفق واقعه الطّبيعي، و الفِطري، لذلك فَمع ما في الحياة العصريّة من زينةٍ و تفاخرٍ، لكنّها لم توصل الإنسان للسّعادة المنشودة، فالتّقدم الذي حصل على مستوى العلم و التّكنولوجيا، لم يحصل بتدبيرٍ و تفكيرٍ، بل حصل عن طريق الصّدفة الَمحضة ..، فلو ركّز: «غاليلو» و «نيوتن» و «لافوازيه»، و غيرهم من العلماء على جسم و روح الإنسان، لربّما تغيّرت الدنيا، و لمّا أصحبت كما هي عليه الآن» «2».

و بناءاً عليه، فإنّ إحدى العقوبات التي أعدّها

الباري تعالى، لِلمُعرضين عن اللَّه من موقع الّتمرد على الحقّ، و حذّر الباري تعالى، المسلمين من الوقوع فيها، هي نسيان النّفس، و الغفلة عن الذّات: «وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ» «3».

2- معرفة النّفس في الرّوايات الإسلاميّة

و قد أغنتنا الرّوايات الشّريفة، الواردة عن النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و الائمّة الهداة عليهم السلام، في هذا

______________________________

(1). إعجاز الطّب النّفسي، ص 6.

(2). الإنسان ذلك المجهول، ص 22.

(3). سورة الحشر، الآية 19.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 277

المجال، و منحتنا زَخماً معرفيّاً كبيراً، على مستوى بيان مَعطيّات معرفة النّفس، و أثرها الإيجابي في حركة الإنسان، في خطّ التّكامل المعنوي، و الأخلاقي، و منها:

1- ما ورد عن الإمام علي عليه السلام، أنّه قال: «نالَ الفَوزَ الأَكبَرَ، مَنْ طَفَرَ بِمَعرِفَةِ النَّفسِ» «1».

2- و يقول عليه السلام، في النّقطة المُقابلة لِهذا: «مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ بَعُدَ عَنْ سَبِيلِ النَّجاةِ، وَ خَبَطَ في الضَّلالِ وَ الجَهالاتِ» «2».

3- وَ وَرد في حديث آخر، عن هذا الإمام الهمام عليه السلام: «العارِفُ مَنْ عَرِفَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَها وَ نَزَّهَها عَنْ كُلِّ ما يُبَعِّدُها» «3».

و يُستفاد من هذا التّعبير، أنّ معرفة النّفس سببٌ للتحرر من قيود الأهواء، و أسر الشّهوات، و تطهير النفس من الرذائل الأخلاقيّة.

4- و نقرأ في حديث آخر، عن هذا الإمام الكبير عليه السلام: «أَكْثَرُ النّاسِ مَعْرِفَةً لِنَفْسِهِ أَخْوَفُهُم لِرَبِّهِ» «4».

و نَستوحي من هذا الحديث الشّريف، العلاقة الوثيقة بين الإحساس بالمسؤوليّة، من موقع الخَوف من اللَّه تعالى الذي يعدّ منطلقاً لتهذيب النّفس في خطّ التّقوى، و بين معرفة النّفس.

5- وَ وَرد في حديثٍ آخر، عن الإمام نفسه، يقول: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ جاهَدَها وَ مَنْ جَهِلَ نَفْسَهُ أَهْمَلَها» «5».

فطبقاً لهذا الحديث الشريف، فإنّ

الدعامة الأصلية لجهاد النفس، أو الجهاد الأكبر، كما ورد التّعبير عنه في الروايات الإسلاميّة، هي معرفة النّفس.

6- و جاء في نهج البلاغة، في قصار الكلمات لأمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ

______________________________

(1). غُرر الحِكم، ح 9965.

(2). المصدر السابق، ح 9034.

(3). غُرر الحِكم، طبقاً للميزان، ج 6، ص 173.

(4). المصدر السابق، ح 3126.

(5). تفسير الميزان، نقلًا عن ميزان الحكمة، ج 3، ص 1881، المادة: المعرفة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 278

هانَتْ عَلَيهِ شَهَواتُهُ» «1».

فالشّخص الذي عرف نفسه، على مستوى كرامتها الذّاتية، لا يعيش الذّلة في إطار الخضوع للشّهوات، و الإستسلام للأهواء و النّوازع النّفسيّة.

7- كما أنّ معرفة النّفس، تعتبر ركناً مُهمّاً في تهذيب النّفس، في خطّ التّكامل الأخلاقي و المعنوي، فالجهل بِكرامة النّفس، سبب للإبتعاد عن اللَّه تعالى، و لِذا ورد في حديثٍ آخر، عن الإمام العاشر: (الإمام الهادي عليه السلام): «مِنْ هانَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ فَلا تأَمَنْ شَرَّهُ» «2».

و مِن مَضمون ما تقدّم، يتبيّن بوضوح، أنّ من الدّعامات الأساسيّة للفضائل الأخلاقية، و التّكامل المعنوي، هو معرفة النّفس، و لن يصل الإنسان إلى غايته المَنشودة، إلّا بعد عبور ذلك الممر الصّعب، و لذلك أكّد علماء الأخلاق، كثيراً على هذه المسألة، لِكي لا يغفل عنها السّائرون في الطّريق إلى اللَّه تعالى.

3- معرفة النّفس طريقٌ لمعرفة الرّبّ

يقول الباري تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ في أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «3».

وَ وَرد في آية اخرى، قوله تعالى: «وَفِي أَنفُسِكُمْ أَ فَلَا تُبْصِرُونَ» «4».

و إستدلّ بعض المحقّقين، بالآية الشّريفة، التي تتحدث عن عالَم الذَّرْ، على هذه الحقيقة أيضاً، و هي أنّ: «معرفة النّفس»، تعتبر الأساس و القاعدة: «لمعرفة اللَّه تعالى حيث تقول الآية الكريمة: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ

ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا» «5».

و نقرأ في تفسير الميزان: «فالإنسان و إن بلغ من التّكبر و الخُيلاء ما بلغ، و غرّته مساعدة

______________________________

(1). نهج البلاغة، قصار الكلمات، الكلمة 409.

(2). تُحف العقول، من قصار كلمات الإمام الهادي عليه السلام.

(3). سورة فصّلت، الآية 53.

(4). سورة الذّاريات، الآية 21.

(5). سورة الأعراف، الآية 172.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 279

الأسباب ما غَرّتهُ و إستهوته، لا يسعه أن ينكر أنّه لا يملك وجود نفسه، و لا يستقلّ بِتدبير أمره، و لو ملك نفسه،- لوقاها ممّا يكرهه من الموت، و سائر آلام الحياة مَصائبها، و لإستقلّ بتدبير أمره، لم يفتقر إلى الخضوع، قبال الأسباب الكونيّة.

فالحاجة إلى ربٍّ:- مَلِكٍ مُدَبّرٍ-؛ حقيقة الإنسان، و الفقر مكتوبٌ على نفسه، و الضعف مطبوعٌ على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسانٍ له أدنى الشّعور الإنساني، و العالم و الجاهل، و الصّغير و الكبير، و الشّريف و الوضيع، في ذلك سواء.

فالإنسان في أيّ منزلٍ من منازلِ الإنسانية نزل، يشاهد من نفسه أنّ له رباً يملكه و يدبّر أمره، و كيف لا يشاهد ربّه، و هو يشهد حاجته الذاتيّة؟

و لذا قيل: إنّ الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا. أنّه محتاج في جميع جهات حياته، من وُجوده و ما يتعلق به وجوده من اللّوازم و الأحكام، و معنى الآية أنّا خلقنا بني آدم في الأرض، و فرّقناهم، و ميّزنا بعضهم من بعضٍ بالتّناسل و التّوالد، و أوقفناهم على إحتياجهم و مربوبيتهم لنا، فإعترفوا بذلك قائلين، بلى شَهِدنا أنّك ربّنا» «1».

و بناءاً على ذلك، يثبت لنا أنّ التّعرف على حقيقة الإنسانيّة، بخصوصياتها و صفاتها، هي السّبب و الأساس لمعرفة الباري تعالى

شأنه.

و الحديث المعروف، الذي يقول: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عِرَفَ رَبَّهُ»، ناظر إلى هذه المسألة بالذات.

و قد نقل هذا الحديث مرّةً عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و مرّةً اخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام، و مرّةً نُقل عن صُحف إدريس عليه السلام.

فجاء في بحار الأنوار نقلًا عن صحف إدريس عليه السلام، في الصّحيفة الرّابعة، و التي هي صحيفة المعرفة: «مَنْ عَرَفَ الخِلْقَ عَرَفَ الخالِقَ، وَ مَنْ عَرَفَ الرِّزْقَ عَرَفَ الرَّازِقَ، وَ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» «2».

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 8، ص 307، ذيل الآية المبحوثة، (مع التلخيص).

(2). بحار الأنوار، ج 92، ص 456؛ ج 58، ص 99؛ ج 66، ص 293، و نقل عن المعصوم عليه السلام، و في ج 2، ص 32 عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 280

و على كلّ حالٍ، فإنّ مضمون هذا الحديث قد ورد بطرق متعدّدة، في كتاب بحار الأنوار، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أو أحد المعصومين عليهم السلام، أو إدريس النبي عليه السلام، و كذلك ورد عن الإمام علي عليه السلام، في: «غُرر الحِكَم» «1».

و قال العلّامة الطّباطبائي، في تفسيره: «أنّ الشّيعة و السّنة قد نقلوا هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه و آله، و هو حديثٌ مشهورٌ» «2».

التّفاسير السّبعة، لحديث من عَرف نفسه:

و قد وردت تفاسيرٌ عديدةٌ لهذا الحديث، و منها:

1- يشير هذا الحديث إلى: «بُرهان النّظم»، فكلّ إنسانٍ يتعرف على عجائب الخِلقة، في روحه و جِسمه، و ما تتضمّن من النّظم المعقد و المحيّر في تفاصيلها الدقيقة، فسوف ينفتح له طريق إلى اللَّه تعالى، فإنّ هذا النّظم و الإنتِظام و الدّقة في الخلقة، لا يمكن أن ينشأ،

إلّا بتدبير عالم قادر مبدى ء معيد.

2- و يمكن أن يكون هذا الحديث، إشارةً إلى بُرهان: «الوجود و الإمكان»، فعند ما ينظر الإنسان و يُدقّق في تفاصيل وُجوده و نشأته، يرى أنّه وجودٌ مستقلٌ، من عِلمه و قُدرته و ذَكائه و سَلامته، فكلّها تحتاج إلى وجوده سُبحانه، و من دونه، فَهو لا شي ء و سينتهي وجوده، و في الحقيقة هو كالمعاني الحرفيّة، التي بدون المعاني الإسميّة، لن يكتمل لها معنى، كجملة:

«ذهبتُ إلى المسجد»، فكلمة «إلى»، وحدها لا مفهوم لها إطلاقاً، من دون إرتكازها على كلمتي: «ذهبت» و «المسجد»، و كذلك الحال في وجودنا بالنّسبة إلى اللَّه تعالى، فكلّ شخصٍ يحسّ في نفسه هذا الإحساس، سيعرف ربّه من موقع الإعتماد و الإيمان أكثر، لأنّ وجود الممكن محال، بدون وجود الواجب.

______________________________

(1). غُرر الحِكم، ص 7946.

(2). الميزان، ج 6، ص 469، في البحث الرّوائي، ذيل الآية 105، من سورة المائدة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 281

3- و يمكن لهذا الحديث، أن يدلّنا على: «برهان العلّة و المعلول»، فكلّ إنسان يَتَفكر في نفسه، قليلًا فسوف يعرف أنّه معلول، لعلّةٍ اخرى منذ وجوده، و عند ما ينظر لأبيه سيراه هو أيضاً معلولًا لعلّةٍ اخرى، و هكذا حتى يصلَ إلى علّةِ العلل، و إلّا يلزم التسّلسل، و بطلان التّسلسل، أمرٌ مفروغٌ عنه لدى الحكماء «1».

و عليه، يجب أن تصل العلل إلى العلّة الاولى، التي لا تحتاج إلى عِلّة، فعلّة العِلل: وجوده في ذاته، فعند ما يرى الإنسان نفسه بهذا الوصف، فإنّه سيصل إلى الباري سبحانه و تعالى، من خلال هذا القانون العقلي.

4- و يمكن أن يكون هذا الحديث، إشارة إلى «بُرهان الفطرة»، فعند ما يعرف الإنسان في تأمل حَنايا نفسه، و جَوانب فطرته،

فسوف يتجلّى له نورُ التّوحيد، و ينفتح على اللَّه تعالى، و يصل من «معرفة النفس»، إلى «معرفة اللَّه»، و لن يحتاج إلى دليلٍ آخر يقوده إلى اللَّه تعالى.

5- و يمكن أن يكون الحديث، ناظراً إلى مسألة: «صفات اللَّه تعالى»، بمعنى أنّ الإنسان عند ما يرى محدوديّته، في دائرة حالاته و صفاته في عامل الإمكان، سيصل إلى نقاطِ ضعفهُ و يُدرك من خلال محدوديّته في مجال الصّفات البشريّة، لا محدوديّة اللَّه تعالى، لأنّه لو كان مخلوقاً مثله، لكان محدوداً أيضاً، و من فنائه إلى بَقائه تَبارك و تعالى، لأنّه لو كان مخلوقاً أيضاً لكان فانياً، و كذلك يُدرك من خلال إحتياجاته و فَقره، إستغناء اللَّه و عدم حاجته عمّا سواه، و يُدرك قوّة الباري من خلال فَقره و حاجته هو ... و هكذا، و هذا ما يشير إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام، في أوّل خطبةٍ، حيث يقول:

«وَ كَمالُ الإِخلاصِ لَهُ نَفي الصِّفات عَنْهُ، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيرُ المَوصُوفِ، وَ شَهادَةِ كُلِّ مَوصُوفٍ أَنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ» «2».

6- و نقل العلّامة المجلسي رحمه الله، تفسيراً آخر لهذا الحديث، عن بعض العلماء، أنّه قال:

(الرّوح لطيفةٌ لاهوتيّة في صفةٍ ناسوتيّةٌ: دالّةٌ من عشرة أوجهٍ، على وحدانيّة اللَّه وَ رَبّانِيَّتِهْ:

1- لما حرّكت التهيكَل و دبّرته، علمنا أنّه لا بدّ لِلعالم من مُحرّكٍ و مُدبِّرٍ.

______________________________

(1). من أراد التّوضيح، فيراجع كتاب: «نفحات القرآن ج 2».

(2). نهج البلاغة، الخطبة 1.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 282

2- دلّت وحدتها على وحدته.

3- دلّ تحريكها لِلجسد على قدرته.

4- دلّ إطّلاعها على ما في الجسد على علمه.

5- دلّ إستواؤها إلى الأعضاء على إستوائه إلى خلقه.

6- دلّ تقدّمها عليه و بقاؤها بعده، على أزلَهِ و أَبده.

7- دلّ عدم

العلم بكيفيّتها، على عدم الإحاطة به.

8- دلّ عدم العلم بمحلّها من الجسد، على عدم أينيتّه.

9- دلّ عدم مسّها على إمتناع مسّه.

10- دلّ عدم إبصارها على إستحالة رؤيته) «1».

7- التّفسير الآخر لهذا الحديث، هو أنّ جملة: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ»، هي من قَبيل التّعلّق بالمحال، يعني بما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعرف نفسه، فهو لن يعرف ربّه بصورةٍ حقيقيةٍ.

و لكن التّفسير الأخير هذا غير مناسب، و التّفاسير السّابقة أنسب لسياق الحديث، و لا ضَير من إحتواء ذلك الحديث الشريف، لكلّ تلك المعاني الجليلة.

نعم، فإنّ كلّ إنسان يعرف نفسه، سيعرف ربّه، و معرفة النّفس هي طريقٌ لمعرفة الرّب، و هي أهمّ وسيلةٍ لتهذيب الأخلاق، و طهارة النّفس و الرّوح، فذاته المقدسة هي مصدر لكلّ الكمالات و الفضائل، و أهمّ طريقٍ للسّير و السّلوك في خط بناء الذات، و تهذيب الأخلاق، هو معرفة النّفس، و لكنّ معرفة النّفس تقف دونها موانعٌ كثيرةٌ، لا بدّ من إستعراضها و بحثها.

موانع معرفة النّفس:

أوّل خطوةٍ تُتَّخذ، لعلاج الأمراض البدنيّة هي معرفتها، و عليه ففي وقتنا الحاضر، يمكن

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 61، ص 99- 100.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 283

تشخيص أغلب الأمراض، بالأشعّة السّينيّة، و السّونار، و المختبرات المختلفة لتحاليل الدّم و البول، و ما شابهها من الامور، حيث يستطيع الطّبيب بمعونتها، من تشخيص مواضع الخلل البدني بدقةٍ، و بالتالي يكون بإمكانه، وضع الأدوية و العلاجات لذلك المرض، و كذلك الحال في الأمراض الروحيّة و النفسيّة على مستوى التّشخيص و المعالجة، فإنّنا إن لم نشخّص أمراضنا الرّوحيّة، بمساعدة الطّبيب الحقيقي للنفس، و لم نتمكن من العثور على جذور الرّذائل الأخلاقيّة، في واقعنا النّفسي، فسوف لا يمكننا الوصول إلى طريقةٍ لعلاج هذه

الأمراض، و جُبران مواضع الخَلل في عالم النّفس.

و لكن أغلب الناس، يتجاهلون الأعراض الخطيرة للأمراض، و ذلك لِغَلبة الأنانيّة عليهم و حبّ الذات، الذي لا يسمح لهم برؤية النّقص على حقيقته، و هذا الهروب من الحقيقة، غالباً ما ينتهي إلى عواقب غير حميدة، و لا يتوجه إليها الإنسان إلّا بعد فوات الأوان، و بعد تجاوز المرض مرحلة العلاج، ففي الأمراض الأخلاقيّة، و الإنحرافات النّفسية، غالباً ما يكون حبّ الذات و الأنانية، مانعاً قويّاً لِلناس، يحول دون معرفة صفاتهم الرّذيلة، و عيوبهم الأخلاقيّة و الإعتراف بها، بل و يتذرعون بالأعذار المختلفة، في عملية التغطية اللّاشعورية، على تشوّهات الأنا ليكون الشّخص متعالياً عن النّقد و النّقص، و بذلك يعيش مثل هذا الإنسان، حالةَ الوَهم في ثياب الواقع.

و الحقيقة أنّ الأعترافَ بالخطأ فَضيلةٌ، و يحتاج إلى عزمٍ جدّي، و إرادةٍ راسخةٍ، و إلّا فان الإنسان سيتحرك على مستوى تغطية عيوبه، و يُدرجها في طيّ النسيان، ليخدع بها نفسه و من حواليه، بالظّواهر الخادعة و العناوين الزائفة.

نعم فإنّ الوقوف على العيوب و النقص، في واقع الذّات أمرٌ مرعبٌ و مريعٌ، و غالبيّة النّاس يهربون من واقعهم في حركة الحياة، و لا يريدون أنّ يعترفوا بأخطائهم من موقع تحمّل المسؤوليّة، لكنّ الهروب من الحقيقة، سيعود بالضّرر الكبير على صاحبه، و سيدفع الإنسان الّثمن غالياً على المستوى البعيد، جرّاء ذلك!. و على كلّ حال، فإنّ المانع الحقيقي، و الحِجاب الأصلي لمعرفة الذّات، هو حجاب حبّ الذّات، و الأنانيّة و التّكبر، و ما لم تنقشع هذه الحُجب،

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 284

و تلك الغَشاوات عن النّفس، فلن يستطيع الإنسان أن يعرف ذاته، و نوازعها و ستغلق دونه أبواب المعرفة الاخرى، التي تريد

به النّهوض و الوصول إلى الحقّ، في خطّ التّكامل المعنوي، و التّحذيرات التي صدرت من رسولنا الكريم صلى الله عليه و آله، شاهدٌ حيٌّ على مدّعانا، منها:

«إذا أَرادَ اللَّهُ بِعَبدٍ خَيراً فَقَّهَهُ في الدِّينِ وَ زَهّدَهُ في الدُّنيا وَ بَصَّرَهُ عُيوبَهُ» «1».

و قال أمير المؤمنين عليه السلام، في حديثٍ آخر: «جَهْلُ المَرءِ بِعُيوبِهِ مِنْ أَكبَرِ ذُنُوبِهِ» «2».

و يُفرض علينا هذا السؤال نفسه، و هو أنّه كيف يستطيع الإنسان، أن يُزيل تلك الغَشاوات و الحُجب، التي ترين على نفسه و روحه؟.

هنا أتحفنا الفيض الكاشاني في هذا المجال، بنصائح قيمةٍ، فقال:

(اعلم أنّ اللَّه تعالى، إذا أراد بعبدٍ خيراً بصّره بعيوب نفسه، فَمن كَملت بَصيرته لم تخف عليه عيوبه، و إذا عرف العيوب أمكنه العلاج، و لكنّ أكثر الخلقِ جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القَذى في عينِ أخيه و لا يرى الجذع في عينه هو، فمن أراد أن يقف على عيب نفسه، فله أربع طُرق:

الأوّل: أنّ يجلس بين يدي بصيرٍ بعيوب النّفس، مطّلعٌ على خَفايا الآفات، و يحكّمه على نفسه، و يتّبع إشارته في مجاهداته، و هذا قد عزّ في هذا الزمان وجوده.

الثاني: أن يطلب: صديقاً صدوقاً بصيراً متديّناً، فينصبه رقيباً على نفسه، ليُراقب أحواله و أفعاله، فما يكرهه من أخلاقهِ و أفعاله و عيوبه الباطنة و الظّاهرة، ينبّهه عَلَيها. فهكذا كان يفعل الأكابر من أئمّة الدّين، كان بعضهم يقول: «رحم اللَّه إمرءً أهدى إليّ عيوبي» «3»، و كلّ من كان أوفر عقلًا و أعلى منصباً، كان أقلّ إعجاباً و أعظم اتّهاماً لنفسه، إلّا أنّ هذا أيضاً قد عزّ، فقلّ في الأصدقاء من يترك المُداهنة، فيخبر بالعَيب، أو يترك الحسد فلا يزيد على القدر الواجب، فلا يَخلو أصدقاؤك

عن حَسودٍ، أو صاحب غرض، يرى ما ليس بعيب عيباً، أو عن

______________________________

(1). نهج الفصاحة، ص 26، و ورد نفس هذا المعنى عن الإمام الصّادق عليه السلام، في اصول الكافي، ج 2، ص 130.

(2). بحار الأنوار، ج 74، ص 419.

(3). تُحف العقول، ص 366.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 285

مُداهنٍ يُخفي عنك بعض عُيوبك، لهذا كان داود الطائي قد إعتزل عن النّاس، فقيل له: لِمَ لا تُخالط النّاس؟، قال: ما ذا أصنع بأقوامٍ يخفون عنّي ذُنوبي.

ان أهل الدين يحبون أن يُنبّهوا على عُيوبهم، بنصيحة غيرهم، و قد آلَ الأُمر إلى أمثالنا، بأن و أبغضُ الخلق إلينا من يَنصحنا، و يُعرّفنا عيوبنا، و يكاد أن يكون هذا مُفصِحاً عن ضَعف الإيمان، فإنّ الأخلاق السّيئة: حيّاتٌ و عقاربٌ لدّاغةٌ، و لو نبّهنا منبّهٌ على أنّ تحت ثوبنا عقرباً، لشكرنا له ذلك و فرحنا به، و إشتغلنا بإبعاد العقرب و قتلها، و إنّما أذى العقرب على البدن، و يدوم ألمها يوماً أو بعض يوم، و نكايةُ الأخلاق الردّية على صميم القلب، و عسى أن يدوم بعد الموت، أبداً أو آلافاً من السّنين، ثمّ إنّا لا نفرح بمن ينبّهنا عليها، و لا تشتغل العداوة معه عن الإنتفاع بنصحه.

الطّريق الثّالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه، من لسان أعدائه، فإنّ عين السّخط تُبدي المساوي، و لعلّ إنتفاع الإنسان بعدوٍّ مشاحن، يذكرّ عيوبه، أكثر من إنتفاعه بصديقٍ مداهنٍ، يُثني عليه و يمدحه، و يخفي عنه عُيوبه.

الطّريق الرّابع: أن يخالط الناس، فكلّ ما يراه مذموماً، فيما بين الخَلق فيطالب نفسه بتركه، و ما يراه محموداً يطالب نفسه به و ينسب نفسه، إليه، فإنّ المؤمن مرآةُ المؤمن، فيرى في عيوبِ غيره عيوبُ نفسه، و ليعلم

أنّ الطّباعَ مُتقاربةٌ في إتّباع الهوى، فما يتّصف به واحد من الأقران أعظم منه، أو عن شي ء منه، فيتفقّد نفسه و يطهّرها عن كلّ ما يذمّه من غيره، و ناهيكَ بهذا تأديباً، فلو ترك النّاس كلّهم ما يكرهونه من غيرهم، لإستغنوا عن المؤدّب، قيل لِعيسى عليه السلام:

من أدَّبك؟ فقال: «ما أدّبَني أحد، رأيت جهلَ الجاهل فجانبته» «1».

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 112 الى 114.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 286

الخُطوة التّاسعة: العبادة و الدّعاء تصقل مرآة القلب:

اشارة

الخُطوة الاخرى، هي العبادة و الدّعاء، و لأجل التّعرف على دور، العِبادة و الدّعاء في بناء و تهذيب النّفوس، علينا أولًا التّعرف، على حقيقة و مفهوم العبادة و الدّعاء.

الواقع أنّ الحديث عن هذا الموضوع، طويلٌ و عريضٌ، و قد تناوله العلماءُ، العظماءُ، في كتبهم الأخلاقيّة و التفسيريّة و الفقهيّة، بصورةٍ مُفصّلةٍ و وافيةٍ، و لكن يمكن القول و بإختصارٍ شديدٍ: علينا قبل معرفة حقيقة العبادةِ و مفهومها، أوّلًا أن ندرس مفهوم كلمة «عبد»، و هي الأصل و الجَذر اللّغوي، لكلمة: «العِبادة».

«العبُد» لُغة تُطلق على الإنسان، الذي لا حول له و لا قوّة، في مقابِل مولاه، فإرادته تابعةٌ لإرادة مَولاه، و لا يملك شيئاً في عرضِ ما يملكه مولاه، و لا حقَّ له في التّقصير في طاعة سيّده.

و عليه فإنّ العبودية، هي آخر و أقصى مراحل الخُضوع و الخُشوع، في مقابل السيّد، حيث إنّ كلّ شي ءٍ في حياته يراهُ من هبته و إنعامه و إكرامه، و من هنا يتبيّن لنا بوضوح، أنّه لا أحد يستحقّ هذه الدّرجة من العِبادة، و يكون مَعبوداً سوى اللَّه تعالى، فهو الفَيض اللّامتناهي الذي لا ينقطع أبداً.

و من بُعدٍ آخر، أنّ «العُبوديّة»: هي قمّة و نهاية التّكامل المعنوي، للرّوح في حركة

التّكامل المعنوي للإنسان، و غايةُ ما يطمح إليه الإنسان، من حالة القُرب من اللَّه تعالى، و التّسليم المُطلق لِلذات المُقدسة، فالعبادة لا تنحصر بالرّكوع و السّجود و القيام و القُعود، بل إنّ روح العِبادة هي التّسليم المطلق للَّه تعالى، و لذاته المُقدسة و المَنزّهة من كلٍّ عيبٍ و نقصٍ.

و من البديهي أنّ العبادة، هي أفضل وسيلةٍ للرّقي المعنوي، و تحصيل الكَمال المطلق، في حركة الإنسان و الحياة، و تقف حائلًا أمام كلّ رذيلةٍ، فإنّ الإنسان يسعى لِلقُرب من معبوده، لِتَتَجلى في نفسه إشعاعاتٌ من نور قُدسه و جَلاله و جَماله، و يكون مظهراً و مرآةً لصفات الجمال و الكَمال الإلهيّة، في واقعه النّفسي و سلوكه العملي.

و في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «العبُودِيّةُ جَوهَرَةٌ كُنْهُها الرُّبُوبِيَّةُ» «1».

______________________________

(1). مصباح الشّريعة، ص 536، نقلًا عن ميزان الحكمة، مادة «عبد».

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 287

و هو إشارة لتلك الإنعكاسة الربّانية، التي تتجلّى في العبد جرّاء العِبادة الخالصةِ، المنفتحة على اللَّه، حيث يصل بواسطتها إلى درجاتٍ من الرّقي و الكمال، بحيث يمكنه معها السّيطرة على الكَون، و يكون صاحبٌ بالولاية التَّكوينيّة، أو هو: كالحديد الأسود، الذي يحمّر جرّاء مجاورته لِلنار، و هذه الحرارة و النّورانية ليست من ذاته، لكنّها من معطيات تلك النار.

و منها نعود لِلقرآن الكريم، لنستوحي ممّا فيه من آياتٍ حول العبادة، و ما لها من دورٍ في تنمية الفضائل الأخلاقية:

1- «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «1».

2- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «2».

3- «وَ أَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ» «3».

4- «إِنَّ الْإِنسَانَ

خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ» «4».

5- «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا» «5».

6- «الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» «6».

7- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «7».

تفسير و إستنتاج:

تتحرك الآيات الآنفة الذّكر، لتؤكّد لنا حقيقةً واحدةً، ألا و هي، أنّ كلّ إنسانٍ يريد

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 21.

(2). سورة البقرة، الآية 183.

(3). سورة العنكبوت، الآية 45.

(4). سورة المعارج، الآية 19 إلى 24.

(5). سورة التّوبة، الآية 103.

(6). سورة الرّعد، الآية 28.

(7). سورة البقرة، الآية 153.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 288

الوصول إلى الكمال المطلقُ و يتحرك على مستوى تهذيب النّفس، عليه أنّ يسلك طريق العبادة، فالسّائر في خطّ الإستقامة و التّربية، و لأجل أن يبني نفسه، و يحصل على ملكة التّقوى، عليه أنّ يَعبُد و يَدعو اللَّه تعالى، من موقع العِشق و الشّوق ليوفقه في ذلك، و يطلب منه العَون، لإزالة شوائب نفسه، لِتّتصل النّقطة بالبحر، و لِتَنْدَكّ ذاته بالذّات الأزليّة، و يتحول نحاس وجوده، في بوتقة العِشق، إلى ذهبٍ خالصٍ.

هنا تحرّكت «الآية الأُولى»، لتخاطب جميع الناس بدون إستثناء، أن يسلكوا إلى اللَّه من موقع العِبادة، و أرشدتهم لِطريق التقوى، فقالَ تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

و التّأكيد على مسألة الخلقة للأوّلين، لعلها تقع في دائرة تنبيه العَرب الجاهلين، الذين كانوا يستدلون بعبادتهم للأصنام، بسنّة آباهم، فيقول الباري: إنّنا خلقناكم و الجِبلّة الأولين، نعم فهو الخالق و المالك لكلّ شي ءٍ و لا يستحق العبادة أحدٌ إلّا هو، و إذا ما توجه الإنسان، حقيقةً نحو

الباري تعالى، فستتفتح في جوانحه عناصر الخير و التّقوى، لأنّ ما يوجد من الشّوائب في النفس، إنّما هو بِسبب التّوجه لغير اللَّه، من موقع العبادة الزّائفة.

فهذه الآية تبيّن معالم الرّابطة و العلاقة الوثيقة، بين العبادة التقوى.

و تطرقت «الآية الثّانية»، للحديث عن عبادةٍ مهمّةٍ، و هي الصّوم و علاقته بالتّقوى، فقال:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

و من المعلوم أنّ الصّوم يُنوّر القلب و يجلوه، بحيث يحسّ معه الإنسان أنّه يعيش القُرب من الحسنات، و البُعد عن السّيئات و القَبائح، و الإحصائيات التي ترد في هذا الشّهر من المصادر المختصّة عن الجرائم، تشير إلى أنّها تصل إلى أدنى مستوى، في شهر رَمضان، و أنّ الشرّطة في هذا الشّهر المُبارك، يتفرّغون لِلأهتمام بامورٍ اخرى، إداريّة عالقة بالأشهر الماضية!!.

و هذا الأمر إنّ دلّ على شي ءٍ، فهوَ يدلّ على أنّ الإنسان، كلّما إقترب من اللَّه تعالى، في خطّ العبوديّة و الطّاعة، فإنّه يبتعد عن الموبقات و الآثام، و القبائح بنفس المقدار.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 289

و أشارت «الآية الثّالثة»، إلى علاقة الصّلاة بالنّهي عن الفَحشاء و المنكر، و خاطبت الرّسول الكريم صلى الله عليه و آله، بإعتباره قدوة و اسوة للآخرين، فقالت: «وَ أَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ».

«فالفَحشاء و المنكر»، عبارةٌ عَنْ مجموعة الأفعال غير الأخلاقيّة، التي تنبع و تنشأ من الصّفات الأخلاقيّة، و النّزعات الشّريرة الموجودة في مطاوي النّفس البشرية، حيث تؤثّر بدورها في سلوك الإنسان، و تفرز الأخلاق الظاهريّة لَه، و «الصّلاة» تمثّل أَداةَ ردعٍ لتلك الأخلاق المنحرفة، في دائرة السّلوك، لأنّ الأذكار و الأدعية، تعمل على تهذيب النّفس، و ترويضها و تطويعها في طريقِ

الخَير و الصّلاح، و حالة القُرب من الباري تعالى، هذه هي التي تتولى إبعاد الإنسان عن منبع الشّر و الرّذيلة، الذي هو عبارةٌ عن هوى النّفس و حبّ الدنيا، من خلال الإنفتاح على آفاق المَلكوت، لِتَغرف نفسه من أنوار القُدس، و ترتفع به إلى عالم الخلودِ و الكَمالِ المُطلق.

فالمصلّي الحقيقي سيبتعد عن الفحشاء و المنكر لا مُحالة، لأنّ الصّلاة و العِبادة تَصون النّفس من المنكرات، و تحول دون إختراق الرذائل للنّفس الإنسانية، و تعمل على تَفعيل عناصر الخَير، في أعماق الوِجدان.

و تحدّثت «الآية الرابعة» عن حالة الجَزع و البخل، اللّذان هما من السجّايا الوضيعة في واقع الإنسان، و خُصوصاً الجَزع في حالة سيطرة المشكلات و الشّرور، و البُخل في حالة إنفتاح أبواب الثّراء أمام الإنسان، و إستثنت الآية المصلّين، و قالت: «إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ».

فهذه الآيات الكريمة، تبيّن لنا بصورِةٍ جيدةٍ، أنّ التّوجه للَّه تعالى، و السّير في خطّ العبادة و الدُّعاء و المناجات، له دورٌ هامّ في مَحو الرّذائل الأخلاقيّة، من قبيل البُخل و الجّزع من واقع النّفس.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 290

و تشيرُ «الآية الخامسة»، إلى تطهير النّفس، بواسطة «الزّكاة»، و التي بدورها تُعتبر، من العبادات الإسلامِيَّةِ المُهِمَّةِ، في ديننا الحنيف، فتقول: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا».

و جُملة: «تُزكيّهم بها»، هي دليلٌ واضحٌ على هذه الحقيقة، و هي أنّ الزّكاة تعمل على تطهير النفس، من البَخل و الحِرص و حُبِّ الدنيا، و تزرع في نفسه صفة الكرم، و حبّ الخير لِلناس، و تثير في نفسه الحركة، على مستوى حمِاية الفقراء و المحتاجين.

و ما ورد

من روايات في هذا الصدد، تبيّن هذه الحقيقة أيضاً، و منها الحديث النبوي الشريف: «ما تَصَدَّقَ أَحَدُكُم بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ- وَ لا يَقْبَلُ اللَّهُ إلّا الطّيِّبَ-، إلّا أَخَذَها الرَّحمانُ بِيَمِينِهِ وَ إِنْ كانَتْ تَمْرَةً فَتَربُو مِنْ كَفِّ الرَّحمانِ في الجِنان حَتّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الجَبَلِ» «1».

هذا الحديث الشّريف يبيّن تلك العلاقة الوثيقة المباشرة، بين هذه العبادة المهمّة و بين توطيد العلاقة مع اللَّه تعالى، و تفعيل الحالات المعنوية في واقع الإنسان و محتواه الداخلي.

و تتحرك «الآية السّادسة»، من موقع الإشارة إلى عبادة مهمّةٍ اخرَى، و هي عبادة:

«الذِّكر»، للَّهِ تعالى، و ما لَها من دورٍ في بعث الطّمأنينة، في واقع الرّوح فتقول: «الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».

فالطّمأنينة تقترنُ دائماً مع التّوكل على الباري تعالى؛ و عدم الوقوع في أسر الماديّات و الامور الدنيويّة، من الإنخداع بِبَريق الدُنيا، و الطّمع و البُخل و الحَسد و ما شابهها من الامور، فَمع وجود هذه الحالات السّيئة في واقع النفس، فسوف لن يذوق الإنسان معها الرّاحة و الطّمأنينة.

و عليه، فإنّ ذكر اللَّه تعالى بإمكانه إزالة هذه الصّفات السّلبية عن القلب، و تطهير النّفس منها لِتَتَهيأ الأرضيّة المساعدة، في تَفتّح براعم السّكينة و الطّمأنينة في واقع القلب و الرّوح.

أو بتعبيرٍ أدق، إنّ جميع الإضطرابات الرّوحية، و أشكال القلق النّفسي، في واقع الذّات

______________________________

(1). صحيح مسلم، ج 2، ص 702، طبع بيروت.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 291

البشريّة، ناشئة من هذه الرّذائل الأخلاقيّة، و ستزول و تقلع جذورها بذكر اللَّه، الذي يعمل على تسكين روح الإنسان، و تجفيف مصادر القلق هذه، لِتحل محلّها السّكينة و الهدوء النّفسي «1».

و أخيراً تناولت «الآية السّابعة»، دور الصّلاة و الصّيام

في رفع المعنويات، و تقوية عناصر الخير في وجدان الإنسان: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

و قد فسّرت بعض الرّوايات الإسلاميّة الصّبر بالصيام «2»، من حيث كون الصّوم أحد المَصاديق البارزة لِلصبر، و إلّا فالصّبر له مفهومٌ وسيعٌ يشمل كلّ أنواع المُقاومة، و التّحدي لِلأهواء النّفسانية و الوساوس الشيطانية، في طريق طاعة اللَّه تعالى، و كذلك تَستوعب الآية حالة الصّبر على المصائب و المحن، التي تصيب الإنسان في حركة الواقع.

و قد وَرد في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه كلّما أهمّه شي ءٌ إندفع مُسرعاً نحو الصّلاة، و بعدها يتلو هذه الآية ثلاث مرّاتٍ: «كانَ عَليٌّ عليه السلام إذا أَحالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قامَ إِلى الصَّلاةِ ثُمَّ تَلا هذِهِ الآيةَ: «و اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»» «3».

نعم فإنّ العبادة ترسخ في النّفس محاسنها، و تصقلها و تعمل على تفعيل عناصر الخير فيها، من: التّوكّل و الشّهامة و الصّبر و الإستقامة، و تستأصل الرّذائل الأخلاقيّة من قَبيل: الجُبن و الشّك و الإضطراب و التّوتر النّاشي ء من حالات الصّراع، و حبّ الدنيا و تزيحها عن واقع النّفس، و بهذا تحيي العبادة في واقع النّفس، شطراً مُهمّاً من الفضائل الأخلاقية، و كذلك تقوم بإلغاء الكثير من عناصر الشّر، و قوى الإنحراف و الرّذيلة من وجود الإنسان.

______________________________

(1). للتفصيل يرجى مراجعة التفسير الأمثل، ذيل الآية الآية الشريفة المبحوثة.

(2). مجمع البيان، ج 1، ذيل الآية 45 من سورة البقرة، التي تشابه الآية التي نحن في صددها، و تفسير البرهان، ج 1، ص 166، ذيل 153، سورة البقرة، ففي حديثٍ عن الصّادق عليه السلام، قال في الآية «الصّبرُ هُو الصّوم»: بحار الأنوار، ج 93،

ص 294.

(3). اصول الكافي، (طبقاً لنقل الميزان، ج 1، ص 154).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 292

النّتيجة:

نستنتج ممّا ذُكر آنفاً: أنّ العِبادة لَها دورها الفاعل، و العميق في تَهذيب الأخلاق، و يمكن تَلخيص هذا المعنى في عدّة نقاط:

1- إنّ التوجه لِلمبدأ، و الإحساس بحضور اللَّه تعالى، مع الإنسان في كلّ وقتٍ و مكانٍ، يدفع الإنسان نحوَ المزيد من مُراقبة أعماله و حركاته و سكناته، و يُساعده على السّيطرة على ميوله الذّاتية، و أهوائه النفسيّة، لأنّ العالم محضر اللَّه، و المعصية في حال الحضور، تمثّل الإنحراف عن خطّ الحقّ، و بالتّالي فهي عين الوقوع في لُجّة الكُفران للنعمة.

2- إنّ التّوجه لصفات جَلاله و جَماله، التي وردت في العبادات و الأدعية، يثير في نفس الإنسان حالةً من لُزوم الإقتباس، من تلك الأنوار القُدسيّة، و يعيشها في واقعه الرّوحي، ليسير في طريق التّكامل الأخلاقي.

3- التّوجه للمَعاد و المحكمة الإلهيّة العظيمة في يوم القيامة، يمثّل أداةً فاعلةً لتطهير و تزكيّة النّفس، خوفاً من العقاب و الحِساب في غدٍ.

4- العِبادة و الدّعاء، تضفي على الإنسان هالاتٍ من النّور لا توصف، فلا تستطيع معها ظُلمات الرّذيلة أن تقف أمامها، فيحسّ الإنسان بالقُرب الإلهي، و صفاء الضّمير بعد كلّ عبادةٍ، شريطَة أن تكونَ مقرونةً بحضور القلب.

5- إنّ مضامين العبادات و الأدعية، غنيٌّ جدّاً بالتّعاليم و الآداب الأخلاقيّة، فهي ترسمُ الطّريق لِلسالك نحو اللَّه تعالى، و هي في الحقيقة دروسٌ قيّمةٌ، توصل الإنسان السّالك لِهدفه السّامي، من أقصر طريقٍ، و بدونِ العبادة و المُناجاة، و خاصّةً في حالات الخَلوة مع اللَّه، تعالى و لا سيّما في وقت السّحر، فسوف لن يصل الإنسان إلى غايته المنشودة.

تأثير العبادة في صقل الرّوح في الرّوايات الإسلاميّة:

لهذه المسألة، صَداً وَاسعاً في الرّوايات الإسلاميّة، و نشير إلى بعضٍ منها، تاركين التّفاصيل

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 293

إلى البحوث الموسّعة:

1- أشارت جميع

الرّوايات الإسلاميّة، التي تناولت فلسفة الأحكام، إلى دور العبادة في تَهذيب النّفوس و صفاء القلوب، فقال الإمام علي عليه السلام، في قِصار كلماته:

«فَرَضَ اللَّهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ، و الصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَ الزَّكاةَ تَسبِيباً لِلرِّزْقِ وَ الصِّيامَ إِبتِلاءً لِإِخلاصِ الخَلْقِ» «1».

وَ وَرد نفس هذا المعنى، مع إختلافٍ بسيطٍ في خُطبة الزّهراء عليها السلام فإنّها تقول: «فَجَعَلَ اللَّهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ، و الصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَ الزَّكاةَ تَزكِيَّةً لِلنَّفْسِ وَ نَماءً في الرِّزْقِ وَ الصِّيامَ تَثبيتاً لِلإِخلاصِ» «2».

2- و يشبّه الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله الصّلاة بنهرٍ جاري، يتولى تطهير البدن كلّ يومٍ خمس مرّاتٍ، حيث يقول: «إِنّما مَثلُ الصَّلاةِ فِيكُم كَمَثلَ السّري- و هو النهر- عَلى بابِ أَحَدِكُم يَخرُجُ إِلَيهِ في اليَومِ وَ اللَّيلَةُ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ خَمسُ مرّاتٍ، فَلا يَبْقى الدَّرنُ عَلَى الغَسلِ خَمْسُ مرّاتٍ، وَ لَم تَبْقَ الذُّنُوبُ عَلى الصَّلاةِ خَمسُ مِّراتٍ» «3».

و عليه فقد ذكرت هذه الرّوايات، لكلّ عبادةٍ: دوراً خاصّاً في عمليّة تهذيب النّفوس الإنسانيّة.

3- وَ وَرد في حديثٍ آخر عن الإمام الرضا عليه السلام، يشرح فيه السّبب، الذي شرّع اللَّه تعالى بِسَببِه العبادة، فيقول:

«فَإنْ قالَ فَلِمَ تَعبَّدَهُم؟ قِيلَ لِئَلا يَكُونُوا ناسِينَ لِذِكْرِهِ وَ لا تارِكِينَ لِأَدَبِهِ وَ لا لاهِينَ عَنْ أَمْرِهِ وَ نَهْيهِ إِذا كانَ فِيهِ صَلاحُهُم وَ قِوامُهُم، فَلَو تُرِكُوا بِغَيرِ تَعَبُّدٍ لَطالَ عَلَيهِم الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُم» «4».

فيتّضح من ذلك أنّ العبادة، تجلو القلب و تُبلوِر الرّوح و تَحثّ على ذكر اللَّه تعالى، الذي هو

______________________________

(1). نهج البلاغة، قِصار الكلمات، الكلمة 252.

(2). يرجى الرجوع إلى كتاب: حياة السيدة الزهراء عليها السلام.

(3). المحجّة البيضاء، ج، ص 339، كتاب أسرار الصّلاة.

(4). عيون أخبار الرضا عليه السلام، طِبقاً

لنقل نور الثقلين، ج 1، ص 39، ح 39.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 294

مدعاة لإصلاح الظاهر و الباطن.

4- وَ وَرد في حديث آخر، عن الإمام الرّضا عليه السلام، و في مَعرض حديثه لإحصاء فوائد الصّلاة، أنّه قال:

«مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإِيجابِ وَ المُداوَمَةِ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ بِاللَّيلِ وَ النَّهارِ لِئَلا يَنْسَى العَبْدُ سَيِّدَهُ وَ مُدَبِّرَهُ وَ خَالِقَهُ، فَيَبْطُرَ وَ يَطْغى وَ يَكُونَ فِي ذِكْرِهِ لِرَبِّهِ وَ قِيامِهِ بَينَ يَدَيهِ زاجِراً لَهُ عَنِ المَعاصِي وَ مانِعاً لَهُ عَنْ أَنْواعِ الفَسادِ» «1».

5- وَ وَرد عن الإمام الصادق عليه السلام، في دور الصّلاة و ميزان قبولها، أنّه قال:

«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ قُبِلَتْ صَلاتُهُ أَمْ لَم تُقْبَلْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ مَنَعَتْ صَلاتُهُ عِنَ الفَحشاءِ وَ المُنْكَرِ، فَبِقَدَرِ ما مَنَعَتْهُ قُبِلَتْ» «2».

فهذا الحديث يُبيّن بوضوح، أنّ صحّة الصّلاة و قبولها، لها علاقةٌ طرديّةٌ بالأخلاق و الدّعوة إلى الخير و ترك الشّر، و من لم تؤثّر صلاته، في تفعيل عناصر الخير و الصّلاح في وجدانه، فعليه أن يعيد النّظر فيها حتماً، لأنّها و إن كانت مسقطة للتكليف، إلّا أنّها غير مقبولةٍ لدى الباري تعالى.

6- و في فلسفة الصّيام، قال الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«إِنَّ الصَّومَ يُمِيتُ مُرادَ النَّفْسِ وَ شَهْوَةَ الطَّبْعِ الحَيوانِي، وَ فِيهِ صَفاءُ القَلْبِ وَ طَهارَةِ الجَواحِ وَ عَمارَةُ الظَّاهِر وَ الباطِنِ، وَ الشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ، وَ الإِحْسانِ إِلى الفُقَراءِ، وَ زِيادَةُ التَّضَرُّعِ وَ الخُشُوعِ، وَ البُكَاءِ وَ جَعَلَ الإِلتِجاءِ إِلى اللَّهِ، وَ سَبَبُ إِنْكِسارِ الهِمَّةِ، وَ تَخْفِيفِ السَّيِّئاتِ، وَ تَضعِيفِ الحَسَناتِ وَ فِيهِ مِنَ الفَوائِدِ ما لا يُحْصى «3».

فقد ذكر هذا الحديث الشّريف، أربعة عشر صفةً إيجابيةً للصّوم في واقع النّفس، و هي

مجموعةٌ من الفضائل و الأفعال الأخلاقيّة، تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي و الإلهي.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 4.

(2). مجمع البيان، ج 8، ص 285، ذيل الآية 45 من سورة العنكبوت.

(3). بحار الأنوار، ج 93، ص 254.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 295

7- و نختم هذا البحث الواسع، بحديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «دَوامُ العِبادَةِ بُرهانُ الظَّفَرِ بِالسَّعادَةِ» «1».

و من أراد التّفصيل أكثر فليراجع: «وسائل الشّيعة»، الأبواب الاولى من العِبادات، و كذلك ما ورد في: «بحار الأنوار».

نعم فإنّ كلّ من يطلب السّعادة، عليه أن يتحرك بإتّجاه توثيق العلاقة مع اللَّه تعالى، من موقع الدّعاء و العبادة.

النّتيجة:

نستنتج من هذه الرّوايات الشّريفة التي أوردناها، و الاخرى التي أَعْرضنا عنها لِلإختصار، أنّ علاقة العبادة بصفاء الرّوح، و تهذيب النّفوس، و تفعيل القيم الأخلاقيّة في واقع الإنسان، علاقةٌ طرديّةٌ، و كلّما تحرّك الإنسان في عبادته، من موقع الإخلاص للَّه تعالى، كان أثرها في نفسه أقوى و أشدّ.

و هذا الأمر محسوس جدّاً، فالمخلص الذي يؤدي عبادته بحضور قلبٍ، فإنّه يحسُ بالنّور و الصفاء في قلبه، و الميل إلى الخير و النّزوع عن الشّر، و يجد في روحه العبوديّة و الخشوع و الخضوع الحقيقي، بإتجاه خالقه و بارئه.

و هذا الأخير في الحقيقة هو العامل المشترك بين جميع العبادات، و إن كان لكلّ منها تأثير خاص على النفس، فالصّلاة تنهى عن الفَحشاء و المنكر، و الصّيام يقوّي الإرادة و ينشط العقل، لِيْسيطر على جميع نوازع النّفس، و الحج يمنح الإنسان بُعداً معنوياً، يجعله بعيداً عن زخارف الدّنيا و زبرجها، و الزّكاة تقمع البخل في واقع النّفس، و تقضي على أشكال الطّمع و الحرص على الدنيا.

و ذِكر اللَّه يَهدى ء

الرّوح، و يمنحها الطّمأنينة و الرّاحة، و كلّ ذكرٍ من الأذكار، تتجلّى فيه

______________________________

(1). غُرر الحِكم، الرقم 4147.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 296

صفةٌ من صفاتِ جَلاله و جَماله سبحانه و تعالى، التي تتولّى ترغيب الإنسان في السّلوك إلى اللَّه، و الإنسجام مع خطّ الرّسالة.

و عليه فإنّ الشّخص الذي يؤدّي العبادة على أتمّ وجهٍ، سينتفع من فوائدها في دائرة المعطيات العامة، و كذلك تمنحه العبادات آثارها الإيجابيّة الخاصّة، بما يحقّق له بلورة فضائله الأخلاقيّة، و ملكاته النفسانيّة في واقع وجوده، فالعِبادة تشكّل الخطوة و الحجر الأساس، لبناء النّفس، في خطّ التّقوى و الإيمان، و الإنفتاح على اللَّه، شَريطة الانس بمثل هذه المعاني الروحيّة، و التّعرف على فلسفة العبادة، فلا ينبغي أن نقنع بالمحافظة على قوى الجسم وحده، و لأهميّة مَبحث الذّكر خصّصنا له بَحثاً مُستقلًّا عن باقي البحوث.

ذِكر اللَّه و تربية الرّوح:

أعطى علماء الأخلاق، الأهميّة القُصوى لِلذكر، و ذلك تبعاً لما ورد، في الرّوايات الإسلاميّة و القرآن الكريم، و اعتبروه من العناصر المهمّة في خطّ العبادة، و تطهير النّفس و تهذيبها، و ذكروا لكلّ مرحلةٍ من مراحل السّير و السّلوك، الذّكر الخاص بها.

فمثلًا في مرحلة التّوبة، ينبغي للسالك في طريق الحقّ، الإهتمام بِذِكر: «يا غَفّار»، و في مرحلة محاسبة النّفس: «يا حَسيب»، و في مرحلة إستنزال الرّحمة: «يا رحمان» و «يا رَحيم» ... وَ هَلُمَّ جرّا.

و هذه الأذكار تتناسب و حالات الإنسان، و السّلوك الذي يسلكه الإنسان في خطّ الإستقامة، و الإلتزام بها على كلّ حالٍ حسنٍ، و لا تختص بعنوان: قصد الوُرود إلى ساحة الرّحمة الإلهيّة.

نعم فإنّ ذكر اللَّه تعالى، من أكبر العبادات و أفضل الحسنات، في عمليّة التّصدي للتحديات النّفسية الصّعبة، و تحقيق الصّيانة من الوساوس الشّيطانية.

الاخلاق فى القرآن ج 1 329

ذكرُ اللَّه، يخرق حُجب الأنانيّة و الغرور و النّوازع النّفسانية، التي تُعدّ من أَقوى العوامل، لِهَدم سعادة الإنسان، و يمنح الإنسان وعياً في أجواء السّلوك إلى اللَّه تعالى، من الأخطار التي

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 297

تهدّد سعادته، و يرسم له معالم مسيرته في حركة الحياة و الواقع.

ذكر اللَّه تعالى: هو المطر الذي ينزل على أرض القَلب، لِيسقي بذور التّقوى و الفضيلة، و يعمل على تقويتها و تنميتها. و الحقيقة أنّ المحاولة للإحاطة بعظمة هذه العبادة، و إحصاء معطيّاتها على مستوى تهذيب النّفس، لا تفي بالغرض، و لا تحيط بأهميتها في خطّ السّلوك المعنوي للإنسان.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، لنستوحي من آياته، أهميّة ذكر اللَّه تعالى:

1- «الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» «1».

2- «وَ أَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» «2».

3- «إِنَّني أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَآعْبُدْنِي وَ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي» «3»

4- «إذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتي وَ لَا تَنِيَا في ذِكْرِي» «4».

5- «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً» «5».

6- «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ الْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» «6».

7- «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا» «7».

8- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» «8».

______________________________

(1). سورة

الرّعد، الآية 28.

(2). سورة العنكبوت، الآية 45.

(3). سورة طه الآية 14.

(4). سورة طه الآية 42.

(5). سورة طه الآية 124.

(6). سورة الكهف، الآية 28.

(7). سورة النّجم، الآية 29.

(8). سورة الأحزاب، الآية 41 إلى 43.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 298

9- «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنْ الصَّلَاةِ» «1».

10- «رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» «2».

تفسير و إستنتاج:

«الآية الاولى»: تطرّقت للحديث عن دور ذكر اللَّه تعالى، في خلق حالة الطّمأنينة في القلوب؛ لِتتولّى إنقاذ الإنسان من حالات الزلّل و التّوتر، و توجهه فيها إلى تحقيق الفضائل الأخلاقية في واقع النّفس، فيقول تعالى «الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ».

ثمّ يبيّن قاعدةً كليّةً، تقول: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».

فما يجول في خاطر الإنسان و خُلدِه، من الحُزن من المستقبل و التّفكير بالرّزق، و الموت و الحياة و المرض و ما شابهها من امور الدنيا، كلّها تدفع الإنسان للتّفكير الجاد في مصيره، و تسلب منه الرّاحة النّفسية، و تَورثه القلق الحقيقي نحو المستقبل المجهول.

و كذلك عناصر: البخل و الطّمع، و الحرص، هي أيضاً من الامور التي تزرع القلق و التّوتر في نفس الإنسان، و لكن عند ما يتجسّد ذِكر اللَّه الكريم، الغني القوي، الرّحمن الرّحيم، الرزّاق في وعي الإنسان، و يعيش الإيمان بأنّ اللَّه تعالى، هو الواهب و المانع الحقيقي، فعند ما تَتَجسّد هذه المعاني و المفاهيم، و تتفاعل مع بعضها في واقع الإنسان في حركة الحياة، فسوف يعيش الإطمئنان، و السّكينة أمام تحدّيات الواقع، فكلّ شي ءٍ يراه مسيّراً لقدرة اللَّه تعالى و إرادته المطلقة، و ما شاء كانَ و ما لَمْ يَشأ

لم يكن.

و بهذا سيطمئن الإنسان، و يسلّم أمره إلى بارئِه، و ستزرع في نفسه حالة التّقوى و حبّ الفضائل، و هو ما نَقرأه في الآية الشّريفة:

«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» «3».

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 91.

(2). سورة النّور، الآية 37.

(3). سورة الفجر، الآية 27 إلى 30.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 299

و تحركت «الآية الثّانية»، بعد ذكرها لمعطيات الصّلاة، على مستوى النّهي عن الفحشاء و المُنكر: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ»، إلى تقرير هذه الحقيقة و هي: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ».

نعم، فإنّ ذكر اللَّه هو روح الصّلاة، و الرّوح أشرف شي ءٍ في عالم الوجود، فإذا ما منَعت الصّلاة عن الفحشاء و المُنكر، فإنّما ذلك بسبب تضمّنها لذكر اللَّه، لأنّ ذكر اللَّه هو الذي يذكّر الإنسان بالنّعم، التي غرق بها الإنسان في واقع الحياة، و تذكّر نِعم اللَّه، بِدوره يمنع الإنسان من العصيان و الطّغيان، و سيخجل من إرتكاب الذّنوب، هذا من جهةٍ.

و من جهةٍ اخرى، سيدعو الإنسان للتّفكير بيوم القيامة، الذي لا ينفع فيه مالٌ و لا بنون، و يوم تنشر الصّحف و تَتطاير الكُتب، و يعيش المُسيئون الفضيحة و العار، في إنتظار ملائكة العذاب التي تأخذهم إلى الجحيم، و يكتب الفوز و النّصر للمحسنين، و سيكون في إستقبالهم ملائكة الرّحمة الذين يقولون لهم، ادخلوها بسلامٍ آمِنين، فذِكر هذه الامور، و تجَسيدها في وعي الإنسان، سيدفع إلى التّوجه نحو الفضائل، و يمنعه من مُمارسة الرّذيلة و الإثم.

و قال بعض المفسّرين، إنّ جُملة: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ»، إشارةً إلى أنّ ذِكر اللَّه تعالى، هو أسمى و أرقى العبادات، في مسيرة الإنسان المعنويّة.

و يوجد إحتمالٌ آخرٌ، و

هو أنّ المقصود من: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ»، هو ذِكر اللَّه لِعبده، (و ذلك في مقابل ذكر العبد للَّه تعالى) «1».

حيث يصعد ذكر اللَّه تعالى به، إلى أسمى و أعلى درجات العبوديّة، في آفاقها الواسعة، و لا شي ء أفضل من هذه الحالة المعنويّة للإنسان، و لكنّ الإحتمال الأوّل، يتناسب مع معنى الآية أكثر.

«الآية الثّالثة»: ذكرت أوّل كلامٍ للَّه تعالى، مع نبيّه موسى عليه السلام، في وادي الطّور الأيمَنِ، في البُقعة المباركة عند الشّجرة، فسمع موسى عليه السلام النداء قائلًا: «إِنَّني أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاٌعْبُدْني

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 2، ص 266.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 300

وَ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي».

و الحقيقة أنّ الآية ذكرت، أنّ الهدف و الفلسفة الأصليّة للصّلاة، هي ذكر اللَّه تعالى، و ما ذلك إلّا لأهميّة الذّكر، في حركة الإنسان المنفتحة على اللَّه تعالى، و خُصوصاً أنّها ذكرت مسألة الصّلاة، و ذكر اللَّه بعد بحث التّوحيد مباشرةً.

«الآية الرابعة» خاطبت الأخوين موسى و هارون عليهما السلام، من موقع نَصبهما لِمقُام النّبوة و السّفارة الإلهيّة، و أمرتهما بمحاربة قوى الإنحراف و الزّيغ، و التّصدي لفرعون و أعوانه:

«اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتي وَ لَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي».

فالأمر بذكر اللَّه تعالى و عدم التّواني فيه، لِلوقوف بوجه طاغية: مثلَ فِرعون، هو أمرٌ يحكي عن دور الذّكر و أبعاده الوسيعة، و أهميّته الكبيرة في عمليّة السّلوك إلى اللَّه تعالى، فذِكر اللَّه يمنح الإنسان عناصر القّوة و الشّجاعة، في عمليّة مواجهة التّحديات الصّعبة، لِلواقع المُنحرف.

وَ وَرد في تفسير: «في ظِلال القرآن»، في مَعرض تفسيره لهذه الآية، قوله: (إنّ اللَّه تعالى أمر موسى و هارون عليهما السلام، أن اذكروني، فإنّ ذِكري، هو سِلاحكم و وسيلتكم لِلنجاة» «1».

و بعض

المفسّرين فسّروا كلمة «الذّكر»، الواردة في الآية، بإبلاغ الرّسالة، و قال البعض الآخر، أنّها مطلق الأمر بالذّكر، و قال آخرون: إنّها ذِكر اللَّه تعالى خاصّةً، و الحقيقة أنّه لا فرق بين التّفسيرات الثّلاثة، و يمكن أن تجتمع كلّها في مفهوم الآية.

و من المعلوم أنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و لِاجل أن يستمر في إبلاغ الرّسالة، و التّحرك في خطّ الطّاعة و التّصدي لقوى الباطل و الإنحراف، عليه أن يستمد القوّة و القدرة من ذكر اللَّه تعالى، و التّوجه إليه في واقع النّفس و القلب.

______________________________

(1). في ظِلال القرآن، ج 5، ص 474.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 301

و تناولت «الآية الخامسة»، إفرازات و نتائج، الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى في حركة الإنسان، قال تعالى: «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَ نَحْشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى .

فعذابهم بالدّنيا أنّهم يعيشون ضنك العيش، و في الآخرة العمى، و فَقد البَصر!.

فضنك العيش، ربّما يكون بتضييق الرّزق على من يعيش الغفلة عن ذكر اللَّه تعالى، أو ربّما بإلقاء الحرص على قلب الغني، فيتحرك في تعامله مع الآخرين، من مَوقع الطّمع و البُخل، فلا يكاد يُنفق درهماً في سبيل اللَّه، و لا يعين فقيراً و لو بشقّ تَمرةٍ، فيكون مِصداق حديث أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يقول: «يَعِيشُ فِي الدُّنيا عَيْشَ الفُقَراءَ وَ يُحاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسابَ الأَغِنياء» «1».

ففي الحقيقة أنّ أغلب الأغنياء و بسبب حرصهم الشّديد على النّفع المادي، يعيشون في حالة قلقٍ دائمةٍ، و لا ينتفعون من أموالهم بالقدر الكافي، و تكون عليهم حسرات في الدّنيا و الآخرة.

و لكن لماذا يُحشر أعمى؟

وَ لَربّما لِتشابُه الأحداث هناك، مع الأحداث في الدنيا، فالغافل عن ذكر اللَّه

تعالى في الدنيا، و لإعراضه عن الحقيقة و آيات اللَّه تعالى، و تَجاهله لدواعي الحقّ و الخير في باطنه، فإنّه لا يرى الحقّ بعين البصيرة، في حركة الحياة و الواقع، و لذلك سوف يُحشر أعمى في عَرصات القِيامة.

كيف يكون ذِكر اللَّه؟

فسّرت الكثير من الرّوايات الإسلاميّة، ذِكر الباري تعالى: «بالحج»، وَ وَرد في البعض الآخر، أنّ الذّكر هنا: بمعنى الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام.

و الحق أنّ الإثنين هما مِصداقان من مَصاديق ذكر اللَّه تعالى، فالحجّ هو مجموعةٌ من

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 69، ص 119.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 302

الأعمال و السّلوكيات، تذكّر باللَّه تعالى، و كذلك علي عليه السلام، فذِكره و النّظر إليه عبادةٌ، تُعمّق في الإنسان روح الإيمان، و تُذكّره باللَّه تعالى.

«الآية السّادسة»: خاطبت الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، من موقع النّهي عن طاعة الأشخاص الذين يعيشون في غفلةٍ، و حثّته على معاشرة الّذين يذكرون ربّهم، صباحاً و بِالغَداة و العَشِي، و لا يريدون إلّا اللَّه تعالى، فقال تعالى

«وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ الْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً».

و من المعلوم أنّ اللَّه سبحانه و تعالى، ما كان ليعذّب أحداً بالغفلة عن ذكره، بل لأنّ مثل هؤلاء الأشخاص، ينطلقون في تعاملهم مع الحقّ، من موقع العناد و الّتمرد و التّكَبّر و التعصّب لِلباطل.

و بناءاً عليه، فإنّ القصد من الإغفال هو سلب نعمة الذّكر منه، لِيلاقي جزاءه في الدّنيا قبل الآخرة، و لهذا، فإنّ ذلك لا يستلزم الجَبر.

و لا نرى أحداً من هذه الجماعة، إلّا مُتّبعاً لِهواه، مُتّخذاً سبيل

الإفراط و التَّفريط في كلّ فعاله، لذلك تعقّب الآية قائلةً: «وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً».

و يُستفاد من هذه الآية، أنّ الغفلة عن ذِكر اللَّه تعالى، تؤثّر سلباً في أخلاق و روح الإنسان، و تُؤدّي به إلى وادي الأهواء، و تجرّه إلى منحدرِ الأنانية.

نعم، فإنّ روح و قلبَ الإنسان، لا يسع إثنان، فإمّا «اللَّه تعالى»، و إمّا «هوى النّفس»، و لا يمكن الجمع بينهما.

فالهَوى هو مصدر الغَفلة عن اللَّه تعالى، و خلقه، و سَحق جميع القِيم و الاصول الأخلاقية، و بالتّالي فإنّ هَوى النّفس، يغرق الإنسان في عُتمة ذاته الضّيقة، و يُعمي بصره عن كلِّ شي ءٍ يدور حوله في واقع الحياة، و الإنسان الذي يتحرّك من موقع الهَوى، لا يرى إلّا إشباع شَهواته،

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 303

و لا مفهوم عنده لمفاهيم أخلاقيّة، مِثلَ: صلة الرحم وَ المُروّة و الإيثار.

«الآية السابعة»: خاطبت الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً، من موقع التّحذير، عن مُخالطة المُعْرِض عن ذِكر اللَّه تعالى، فقالت: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا».

في تفسير «ذِكر اللَّه»، قال البعض: أنّ المراد منها في هذه الآية، هو القرآن الكريم، و إعتبرها البعض الآخر، إشارةً لِلأدلّة العقليّة و المنطقيّة، و قال آخرون، أنّها الإيمان، و الظّاهر أنّ ذكر اللَّه تعالى، له مفهومٌ واسعٌ يشمل كلّ ما ذُكر آنفاً.

و ذَكر آخرون، أنّ هذه الآية تدعو لترك جهاد هؤلاء، و لهذا السّبب، نُسخت بآيات الجهاد التي نزلت بعدها، و الحقّ أنّه لا نَسخ في البَيّن، و كلّ ما في الأمرِ، أنّها تمنع من مُجالسة الغافلين عن ذِكر اللَّه تعالى، و لا مُنافاة بينها و بين مسألة الجهاد بشرائطها الخاصة.

و

أخيراً تبيّن هذه الآية، العلاقة و الرّابطة الوثيقة بين: «حبّ الدنيا» و «الغفلة عن ذِكر اللَّه»، فكَما أنّ ذِكر اللَّه تعالى له خصائصه، و معطياته الإيجابية على الإنسان، على مستوى تَقوية عناصر الفضيلة و ترشيد القيم الأخلاقيّة، فكذلك الغفلة لها آثارها، و نتائجها السلبيّة على روح الإنسان، على مستوى تقوية عناصر الشّر و الرذيلة فيها.

«الآية الثّامنة»: خاطبت جميع المؤمنين، ودعتهم إلى ذِكر اللَّه تعالى، و الخروج من دائرة الظّلمات إلى دائرة النّور، فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا* هُوَ الَّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَ مَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً».

و الجدير بالذّكر في هذا الأمر، أنّ الآية الكريمة، بعد الأمر بالذّكر الكثير، و التّسبيح له بكرةً و أصيلًا، تخبرنا عن أنّ اللَّه تعالى، سيصلّي هو و ملائكته علينا، و يخرجنا من الظّلمات إلى النّور، أ لَيسَ ذلك هو هدفنا في حركة الحياة، أَ لَيس ذلك هو مُبتغانا من الإلتزام في خطّ الرّسالة، و كلّ ما نريده هو، أنّ الذّكر و صلاة الربّ و الملائكة علينا، سيزرع فينا روح التّوفيق

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 304

لِلطاعة و السّير في طريق الخَير، و يقلع من واقعنا بذور الشرّ، و جذور الفساد، و لتحل محلّها عناصر الفَضيلة و النّسك و الأخلاق الحميدة؟!.

و قد وَرد في تفسير الميزان، أنّ ذيل الآية الكريمة، هو بِمنزلة التبيّن لعلّة الأمر، ب: «الذّكر الكثير»، و هو يؤيّد ما أشرنا إليه آنفاً «1».

و قد وَردت تفاسيرٌ مختلفةٌ، و آراءٌ مُتغايرةٌ لعبارة: «الذّكر الكثير»، فقال بعضهم، أن لا يُنسى اللَّه تعالى في كلّ وقتٍ و مكانٍ.

و قال بعضٌ آخرٌ أنّه الذّكر و التّسبيح، بأسماء

و صفات اللَّه الحُسنى.

و ذكرت روايات اخرى، أن المقصود به، هو التّسبيحات الأربعة، أو تسبيح الزّهراء عليها السلام.

و قال إبن عباس: كلّ أوامر اللَّه تعالى تنتهي إلى غايةٍ ما، إلّا الذّكر فلا حدّ له أبداً، و لا عُذر لتاركه أبداً.

و على كلّ حالٍ، فإنّ «الذّكر الكثير»، له مفهومٌ واسعٌ، و يمكن أن يجمع بين طيّاته كلّ ما ذكر آنفاً.

أمّا ما ذكر من، «الظّلمات» و «النّور» في هذه الآية، فما المقصود منه؟.

إختلفوا في تفسيرها أيضاً، فقال البعض أنّها الخُروج من ظلمات الكفر إلى الإيمان، و قال الآخرون، أنّها الخروج من ظلمات عالم المادة، إلى نور الأجواء المعنويّة و الرّوحانية، و قال بعضٌ آخر، إنّها الخروج من ظلمات المعصية إلى نور الطّاعة، و لا تَنافي في البَين هنا.

إضافةً إلى أنّها، تشمل الخروج من ظلمات الرّذائل الأخلاقيّة إلى نور فضائلها، و هي أهمّ معطيات ذِكر اللَّه جلّ شَأنه.

«الآية التّاسعة»: حذّرت المؤمنين من نتائج مُعاقرة الخَمرة و القِمار، فقال تعالى «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنْ الصَّلَاةِ».

فذكرت هذه الآية، ثلاثة مفاسد لِشرب الخمر و المقامرة:

إيقاع العداوة بين النّاس، و الردع و الصدّ عن ذكر اللَّه، و عن الصّلاة، و يستفاد من ذلك أنّ

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 16، ص 329، ذيل الآية المبحوثة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 305

ذكر اللَّه، كالصّلاة و المحبّة بين النّاس، أمرٌ ضروري و حياتي للإنسان في واقعه النّفسي، و الحِرمان منه، يعتبر خَسارةً كُبرى لا تُعوّض.

بالإضافة إلى أنّه يستفاد من جوِّ الآية، وجود علاقةٍ بين: «الغفلة عن ذِكر اللَّه، و الصّلاة»، و «ظهور العداوة و الشّحناء و المفاسد الأخلاقيّة الاخرى»، و

هذا هو بيت القصيد، و ما نُريد التّوصل إليه.

و في «الآية العاشرة»: و الأخيرة، أشارةٌ إلى رجالٍ، أحاطهم اللَّه تعالى بأنوارِ قُدسه، في بيوتٍ ليس فيها إلّا ذِكرُه و تَسبيحُه و التّقديسُ له، و هي الآية: (36 و 37) من سورة النّور، فقالت: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الْآصَالِ،* رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ ...».

و بناءً عليه، فإنّ أوّل خُصوصيات الرّجال الإلهيين: هو المُداومة على ذِكر اللَّه في أي وقتٍ و في كلّ مكانٍ، حيث لا تغرّهم الدّنيا، بغرورها و زخارفها و ملاهيها الجميلة الخدّاعة، و هو أسمى إفتخار يعيشونه في واقعهم.

ثم تذكر الآية، خصوصيّات اخرى، لهؤلاء المؤمنين في دائرة السّلوك الدّيني، من قبيل إقامة الصّلاة و إيتاء الزّكاة.

النّتيجة:

نستنتج ممّا ذُكر آنفاً من الآيات الكريمة، و الآيات الاخرى التي لم نذكرها تجنّباً لِلأطالة، أن ذكر اللَّه تعالى يورث الإنسان إطمئنان القَلب، و يَنهى عن الفحشاء و المنكر، و يزّود النّفس بالقُدرة و القُوّة الّلازمة، في مقابل التّحديات الصّعبة لِلعدو الدّاخلي و الخارجي، و يميت الرّذائل الأخلاقيّة في قلب الإنسان، كالحِرص و البُخل و حبّ الدنيا، الذي هو رأس كلّ خطيئةٍ.

فلا ينبغي للسّائر في خطّ التّقوى و الإيمان، أن يغفل عن هذا السّلاح الفعّال، فهو الدّرع

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 306

الحصين لكلّ من يريد أن يتحرّك، على مستوى تهذيب النّفس و تربية عناصر الفضيلة فيها، و هو السدّ المنيع للمؤمنين، مقابل قوى الشّر و الانحراف، و سلاحهم الذي يمدّهم بالقوّة و العزيمة، في مقابل الأعداء، و الأخطار التي تحدق بهم في هذه الدنيا،

المليئة بالوُحوش الضّارية الكاسرة، التي لا تعرف الرّحمة و الشّفقة، و ليكن ذِكرُهم للَّهِ كَذِكرهم لأنفسهم، بل أشدّ و أقوى.

علاقة ذِكر اللَّه، بِتهذيب النّفوس في الأحاديث الإسلاميّة:
اشارة

إنّ إستعراض الكلام، عن أهميّة ذِكر اللَّه في الأحاديث الإسلاميّة، لا يتّسع له هذا الُمختصر، و ما نَبتغيه في هذا المجال، هو أنّ ذكرَ اللَّه، يعدّ من العوامِلَ المهمّة في تهذيب النّفوس و تشذيب الأخلاق و بناء الرّوح، و قد أغنتنا الرّوايات في هذا المجال، و ما وَرد عن المعصومين الأربعة عشر، إلى ما شاء اللَّه، و لكنّنا نختار منها ما يلي:

1- نقرأ في حديثٍ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «مَن عَمَّرَ قَلْبَهُ بِدَوامِ الذِّكرِ حَسُنَتْ أَفْعالُهُ في السِّرِّ وَ الجَهْرِ» «1».

فقد بيّن الحديث الشّريف، هذه العلاقة و الرّابطة بوضوحٍ تامٍّ.

2- نقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام عليه السلام نفسه، حيث قال: «مُداومَةُ الذِّكرِ قُوتُ الأَرواحِ وَ مِفْتاحُ الصَّلاحِ» «2».

3- و عنه عليه السلام أيضاً، قال: «أصلُ صلاحِ القَلبِ إِشتِغالُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ» «3».

4- و أيضاً في حديث آخر عنه عليه السلام، قال: «ذِكرُ اللَّه دَواءُ أَعلالِ النُّفُوسِ» «4».

5- و عنه عليه السلام، قال: «ذِكرُ اللَّهِ رَأسُ مالِ مُؤمِنٍ، وَ رِبْحُهُ السَّلامَةُ مِنَ الشَّيطانِ» «5».

______________________________

(1). تصنيف دُرر الحِكم، ص 189، الرقم 3658.

(2). المصدر السّابق، الرقم 3661.

(3). المصدر السّابق، ص 118، الرقم 3608.

(4). المصدر السّابق، ص 188، الرقم 3619.

(5). المصدر السّابق، الرقم 3621.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 307

6- و أيضاً عن هذا الإمام الهمام عليه السلام، أنّه قال: «الذِّكْرُ جَلاءُ البَصائِرِ وَ نُورُ السَّرائِرِ» «1».

7- و أيضاً عن إمام المتقين عليه السلام، قال: «مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ سُبحانَهُ أَحيَى قَلبَهُ وَ نَوَّرَ عَقْلَهُ وَ لُبَّهُ» «2»

8- و أيضاً عن الإمام نفسه عليه السلام، أنّه قال:

«إسْتَديمُوا الذِّكْرَ فَإنَّهُ يُنِيرُ القَلبَ وَ هُوَ أَفْضَلُ العِبادَةِ» «3»

9- وَرد في «ميزان الحكمة»، عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: «اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً خالِصاً، تَحْيُوا بِهِ أَفْضَلَ الحَياةِ وَ تَسْلُكُوا بِهِ طُرُقَ النَّجاةِ» «4».

10- وَ وَرد عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة، في وصيّته المعروفة لإبنه الإمام الحسن عليه السلام، أنّه قال: «اوصِيكَ بِتَقوَى اللَّهِ يا بُنَيَّ! وَ لُزُومِ أَمْرِهِ وَ عِمارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ» «5».

11- وَرد في غُرر الحِكم، عن مولى الموحدين أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، قال: «ذِكْرُ اللَّهِ مَطْرَدَةُ لِلشَّيطانِ».

12- وَ لِحُسن الخِتام، نَختم هذا البحث، بحديثٍ عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و إن كانت هناك رواياتٌ وافرةٌ لا يسعها هذا المختصر، قال: «ذِكْرُ اللَّهِ شِفاءُ القُلُوبِ» «6».

و نَستلهم ممّا ذُكر آنفاً، أنّ ذِكر اللَّه تعالى، له علاقةٌ وثيقةٌ و قريبةٌ جدّاً بتهذيب النّفوس، فهوُ ينَوّر القلب، و يجلو الرّوح من عناصر الكِبَر و الغُرور و البخل و الحَسد، و الأهمّ من ذلك أنّه يطرد الشّيطان الرجيم، من واقع الإنسان الدّاخلي، وَ يُعيد لِلنفس ثِقتها.

و على حدِّ تعبير بعض العلماء الأكارم، أنّ القلب لا يَخلو من أمرين، لا يجتمعان في مكانٍ واحدٍ، فإمّا أن يتّجه لِذكر اللَّه سُبحانه و تعالى و يغذيه بنوره و يطرد منه الظّلمات و الشّيطان، و إمّا أن يكون مَرتعاً و مَلعباً لِلشَيطان الرّجيم و وساوسه، يوجهه حيث يشاء.

و من جهةٍ اخرى، فإنّ الذّات المقدسة هي مصدر لكلِّ الكمالات، و ذكر اللَّه تعالى يُؤدّي

______________________________

(1). تصنيف دُرر الحِكم، ص 189، الرقم 3631.

(2). المصدر السّابق، لرقم 3645.

(3). المصدر السّابق، الرقم 3654.

(4). ميزان الحكمة، ج 2، ص 69 الطبعة الجديدة.

(5). نهج البلاغة، الكتاب 31.

(6).

كنز العمّال، ح 1751.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 308

إلى أنّ الإنسان يقترب من ذلك المصدر في كلّ يومٍ، و بالتّالي يتحرك في طريق الإبتعاد عن الرّذائل الأخلاقيّة و الأهواء النّفسانية، التي تنبع من النّقص المعنوي في واقع النّفس.

و بناءً على ذلك يجب الإستعانة بهذا السّلاح الماضي، و النّور المخترق لِلظلمات، لِلعبور من متاهات هذا الطّريق الموحش المُظلم، المحفوف بالأخطار الجسيمة، إلى جادّة السّلام، و الكمال الإلهي في عالم النّفس، ممّا يورث إستقرارها و إتّصالها ببارئها.

و نُكمِّل بحثنا بثلاثِ نقاطٍ، و ملاحظاتٍ، لا تخلو من فائدة:

1- ما هي حقيقة الذِّكر

يقول «الرّاغب» في كتاب «المُفردات»: إنّ الذِّكر له مَعنيان، فمرّةً حضور الشّي ء في الذّهن، و مرّةً بمعنى حفظِ المَعارف و الإعتقادات الحقّة في باطن الرّوح.

و قال الأعاظم من علماء الأخلاق: إنّ «ذكرَ اللَّه تعالى»، ليس هو لِقَلقَةِ لِسانٍ، أو مجرّد التّسبيح و التّحميد و التّهليل و التّكبير، في دائرة الألفاظ و الكلمات، بل هو التّوجه الحقيقي للَّهِ تعالى، و الإذعان لِقُدرته و الإحساس بوجوده أينَما كُنّا.

و لا شكّ أنّ مِثلَ هذا الذّكر هو المطلوب، و هو الغاية القصوى و الدّافع للإتجاه نحو الحسنات، و الإعراض عن السّيئات و القَبائح.

و لذلك نقرأ عن الرّسول الكريم صلى الله عليه و آله في حديثٍ في هذا المضمار:

«وَ لَيْسَ هُوَ سُبحانَ اللَّهِ وَ الحَمْدُ للَّهِ وَ لا إِلهَ إِلّا اللَّهِ وَ اللَّهُ أَكْبرُ، وَ لَكِنْ إِذا وَرَدَ عَلى ما يَحْرُمُ عَلَيهِ، خافَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ عِنْدَهُ وَ تَرَكَهُ» «1».

و نقل ما يقرب لهذا المعنى في حديث عن الإمامين: الصّادق و الباقر عليهما السلام «2».

و نقل حديث آخر عن علي عليه السلام، أنّه قال: «الذِّكْرُ ذِكْرانِ: ذِكْرٌ عِنْدَ المُصِيبَةِ، حَسَنْ جَمِيلٌ وَ أَفْضَلُ مِنْ

ذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حاجِزاً» «3».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 90، ص 151، ح 4.

(2). المصدر السّابق، ح 5 و 6.

(3). المصدر السّابق، ج 75، ص 55.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 309

و نستنتج من ذلك، أنّ الذّكر الحقيقي، هو الذّكر الذي يترك أثره الإيجابي في أعماق روح الإنسان، و يفعّل إتجاهاته الفكريّة و العمليّة في خطّ التّقوى و الإلتزام الدّيني، و يربّي في النّفس و الرّوح، عناصر الخير و الصّلاح، و يدعو الإنسان إلى اللَّه العزيز الحكيم.

و من يذكر اللَّه تعالى على مستوى اللّسان، و يتبع الشّيطان على مستوى المُمارسة و العمل، فهو ليس بِذاكِرٍ حقيقي، و لا يذكر اللَّه من موقع الإخلاص، بل هو كما قال الإمام علي بن موسى الرّضا عليه السلام: «مَنْ الذِّكْرِ و لَمْ يَسْتَبِقْ إِلى لِقائِهِ فَقَدْ إسْتَهزَءَ بِنَفْسِهِ» «1».

2- مراتب الذّكر

ذكر علماء الأخلاق، أن ذّكر اللَّه تعالى، على مراتب و مراحل:

المرحلة الاولى: الذِّكر اللّفظي، حيث يجري فيها الإنسان أسماء اللَّه الحُسنى، و صفات جَماله و جَلاله، على لسانه، من دون التّوجه إلى معانيها و مُحتواها، كما يفعل كثيرٌ من المصلّين السّاهين في صلاتهم، و هو نوع من الذّكر، و له تأثيره المحدود على آفاق النّفس و الفِكر! و لكن لماذا؟.

لأنّه أولًا: يعتبر مقدمةً لِلمراحل التّالية.

و ثانياً: أنّه لا يخلو من التّوجه الإجمالي نحو اللَّه تعالى، لأنّ المصلي و على أيّةِ حالٍ، يعلم أنّه يصلّي و هو واقفٌ بين يَدَيِّ اللَّه تعالى، و لكنّه لا يتوجه لما يقول بصورةٍ تَفصيليَّةٍ، و لكن مع ذلك فهذا النّوع من الذّكر، لا يؤثّر في حياة الإنسان، على مستوى تهذيب النّفس و تربية الأخلاق.

المرحلة الثانية: الذّكر المعنوي، و هو أن

يلتفت الإنسان لمعاني الأذكار التي تجري على لسانه، و من البديهي أنّ التّوجه لمعاني الأذكار، و خصوصيّة كلّ واحدةٍ منها، سيعمّق الإمتداد المعنوي لمضامين الذّكر في واقع الإنسان، و بالإستمرار و المداومة سيحسّ الذّاكر، بمعطيات هذا الذّكر في نفسه و روحِهِ.

______________________________

(1). بحارالأنوار، ج 75، ص 356، ح 11.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 310

المرحلة الثّالثة: الذّكر القلبي، و قالوا في تفسيره، إنّه الإحساس الوجداني بحضور اللَّه تعالى، في أجواء القلب، ثم جريان ذكر اللَّه على اللّسان، فعند ما يرى عجائب خلقته، و دقائق صنعته، من أرضٍ و سماءٍ و مخلوقاتٍ، و ما بثّ فيها من دابّةٍ، سيقول: «العَظَمَةُ للَّهِ الوَاحِدِ القهَّارِ».

فهذا الذّكر نابعٌ من القلب، و ينبى ءُ عن حالةٍ باطنيّةٍ في داخل الإنسان.

و مرّةَ يشهد الإنسان في نفسه، نوعاً من الحُضور المعنوي للَّه تعالى، من دون واسطةٍ، فيترنّم بأذكارٍ، مثل «يا سُبُّوحُ وَ يا قُدُّسُ» أو «سُبحانَكَ لا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ».

و هذا الأذكار القلبيّة، لها دورها الفاعل في تهذيب النّفوس و تربية الفضائل الأخلاقيّة، كما عاشت الملائكة هذا النوع من الذّكر، عند ما شاهدوا آدم عليه السلام، و سِعة علمه و إطلّاعه على الأسماء الإلهيّة، فقالوا: «سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» «1».

و أشار القرآن الكريم، إلى مراحلٍ من الذّكر، فقال: «وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا» «2».

و في مكانٍ آخر، يقول: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الآصَالِ وَ لَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ» «3».

ففي الآية الاولى، نجد تقريراً على مستوى التّوجه لِلذكر اللّفظي العميق، ثم التّبتل و الإنقطاع إلى اللَّه تعالى، أَيْ: التّحرك من موقع الإبتعاد عن الناس، و الإتصال باللَّه

تعالى في خطّ العبادة و الذّكر.

و الآية الثّانية: تتحدث عن الذّكر القلبي، الذي يؤدّي إلى أن يعيش الإنسان، حالة التّضرع و الخوف من الباري تعالى، في أجواء الذكر الخفي، فتتحرك عمليّة الذّكر بشكلٍ بطي ءٍ من الباطن و تجري على اللّسان.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 32.

(2). سورة المزّمل، الآية 8.

(3). سورة الأعراف، الآية 205.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 311

3- موانع الذّكر

لا توجد موانع تقف في طريق الذّكر اللّفظي، فيمكن لِلإنسان أن يذكر أسماء و صفات اللَّه الجماليّة و الجلاليّة، و يجريها على لِسانه في أيِّ وقتٍ شاء، إلّا أن يكون الإنسان مُنشغلًا و غارقاً في الدّنيا، لدرجةٍ لا يبقى وقتٌ لِلذكر اللّفظي.

أمّا الذّكر القلبي و المعنوي، فتقف دونه موانعٌ و سدودٌ كثيرةٌ، أهمّها ما يَكمُنْ في واقع الإنسان نفسه، فبالرّغم من أنّ اللَّه تبارك و تعالى، مع الإنسان في كلِّ مكانٍ و زمانٍ، و أقرب إلينا من كلّ شي ءٍ: «وَ نَحْنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ» «1».

أو كما ورد في الحديث العلوي المشهور: «ما رأَيتُ شَيئاً إلّا وَ رَأيتُ اللَّهَ قَبلَهُ وَ بَعدَهُ وَ مَعَهُ».

و لكن مع ذلك، فإنّ كثيراً من أعمال الإنسان و صفاته الشّيطانيّة، تضع الحُجب على عينه، فلا يُحسّ بوجود اللَّه تعالى أبداً، من موقع الحضور و الشّهود القلبي، و كما يقول الإمام السّجاد عليه السلام، في دعاء أبي حمزة الثمالي: «و إنَّكَ لا تَحتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلّا أَن تَحجُبَهُم الأَعمالُ دُونَكَ»، و أهم تلك الحُجب، هي «الأنانيّة» التي تذهل الإنسان عن ذكر ربه.

فالأناني لا يعيش مع اللَّه تعالى من موقع الوُضوح في الرّؤية، لأنّ الأنانيّة من أنواع الشّرك التي لا تتناسب مع حقيقة التّوحيد!.

و نقرأ في حديثٍ عن عليٍّ عليه السلام أنّه قال: «كُلُّ

ما أَلهى مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ إِبلِيسَ» «2».

و في حديث آخر عن عليِّ عليه السلام أنّه قال: «كُلُّ ما أَلهى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ المَيسرِ» «3».

و نعلم أن المَيسر، جُعِل في القرآن الكريم، رديفاً لعبادة الأوثان «4».

و نختم هذا الكلام عن موقع الذّكر، بحديثٍ عن الرّسول الأكرم، و قد جاء في معرض تفسيره للآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَ

______________________________

(1). سورة ق، الآية 16.

(2). ميزان الحكمة، ج 2، ث 975، الطّبعة الجديدة مبحث الذّكر.

(3). المصدر السّابق.

(4). راجع الآية 90 من سورة المائدة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 312

مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ» «1».

قال صلى الله عليه و آله: «هُم عِبادٌ مِنْ امَّتي، الصَّالِحُونَ مِنْهُم لا تُلهِيهِم تِجارَةٌ و لا بَيعْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عنِ الصَّلاةِ المَفرُوضَة الخَمْسِ» «2».

نعم فإنّهم في كلّ حركاتهم و سكناتهم، يبتغون وجه اللَّه تعالى، و لا غير.

______________________________

(1). سورة المنافقين، الآية 9.

(2). ميزان الحكمة، ج 2، ص 975، الطبعة الجديدة.

13

القُدوات في خطّ الإستقامة

إشارة:

كلّ إنسانٍ يسعى للسّير قُدُماً، تبعاً للُاسوة التي يتأسّى بها، ليواكب معها و يعيش في رحابها، و في آفاقها الواسعةٌ و لتنعكس صفاتها في نفسه و ذاته.

و بعبارةٍ اخرى، فإنّه يوجد في قلب كلّ إنسان، مكانٌ فارغٌ لا يشغله إلّا الأبطال و القُدوات و المُثل، و لهذا السّبب فإنّ الامم البشريّةً تفتخر بأبطالها الحقيقييّن أو تخترع لنفسها أبطالًا من افق خيالها، بحيث تُشكل قسماً من ثقافة الامم و الشّعوب، و أنساقاً تحتيّةً تبني عليها تأريخها، فتفتخر ببطولاتهم و تشيد بهم في معطياتهم، و تسعى دائماً لِلاقتداء بهم في صفاتهم و بطولاتهم.

علاوةً على أنّ (المحاكاة)، هي أصلٌ مُسَلّم به، من الاصول

النّفسية في واقع الإنسان و حركته في الحياة، و طبقاً لهذا الأصل و الأساس، فإنّ الإنسان يسعى ليصبغ نفسه بصِبغة الآخرين، و يحاكيهم على مستوى الممارسة و السّلوك، (خُصوصاً) الأبطال، و ينجذب لأعمالهم و صفاتهم التي تمثل قيماً مطلقة في وعيه و ثقافته.

و هذا التّأثير و التّأثر و الجذب و الإنجذاب، بالنّسبة إلى الأفراد الذين يؤمنون بالقُدوة و الرّمز أقوى و أَشد.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 314

و بناء على ذلك، نجد في الإسلام أصلين مهمّين، في دائرة المفاهيم الدينيّة، بإسم «التّولّي» و «التبرّي».

أو بعبارةٍ اخرى: «الحبُّ في اللَّه» و «البغض في اللَّه»، و كلٌّ منهما، يحكي لنا عن حقيقةٍ مهمّةٍ في واقع الإنسان، و تَماشياً مع هذا الأصل المهمّ في دائرة المعتقد، فإنّه يتوجب على الإنسان المسلم، أن يُحبّ من يحبّه اللَّه، و يكره من يُبغضه اللَّه تعالى، و أن يتّخذ من الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و الأئمّة المعصومين عليه السلام، اسوةٌ له في حركته المنفتحة على اللَّه و الحقِّ.

و هذا الأمر بدرجةٍ من الأهمية، بحيث ورد في القرآن الكريم، أنّه من علامات الإيمان، و في الرّوايات الشّريفة عرّف بأنّه: «أَوثَقْ عُرى الإِيمانِ» و أنّ حركة الإنسان في خطّ الإيمان، لا تكون مثمرةً بدون: «التّولّي» و «التّبرّي»، و معه سوف تقبل منه سائر العبادات و الطّاعات.

و هذين الأمرين، يعني التولّي و التبرّي، أو الحب في اللَّه و البُغض في اللَّه، هُما من أهمِّ الخُطى المؤثّرة، على مُستوى تهذيب النّفوس و القلوب، و السّير إلى اللَّه تعالى في خطّ الإستقامة.

و على هذا الأساس، نرى أنّ كثيراً من علماء الأخلاق، و أرباب السّير و السّلوك، يؤكّدون على ضرورة اتخاذ الاستاذ و المُرشد في خطّ

التّربية و التّهذيب، و سنتناوله في المستقبل إن شاء اللَّه تعالى، بصورةٍ وافيةٍ.

و الآن نعرج على الآيات القرآنية، لنستوحي منها ما يتعلق بمسألة التولّي و التبّري، و دورهما في صِياغة السّلوك الدّيني للإنسان:

الآيات:

1- «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» «1».

2- «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَن يَتَوَلَّ فَإِنَ

______________________________

(1). سورة الممتحنة، الآية 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 315

اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ» «1».

3- «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» «2».

4- «لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ» «3».

5- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» «4».

6- «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «5».

7- «اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «6».

8- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» «7».

تفسير و إستنتاج:

يتّضح من آيات سورة المُمتحنة، أنّ بعض المؤمنين السّذج، و

خلافاً لأوامر الشّريعة و

______________________________

(1). سورة الممتحنة، الآية 6.

(2). سورة الأحزاب، الآية 21.

(3). سورة المجادلة، الآية 22.

(4). سورة الممتحنة، الآية 12.

(5). سورة التوبة، الآية 71.

(6). سورة البقرة، الآية 257.

(7). سورة التوبة، الآية 119.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 316

تعليمات الإسلام، كانوا على علاقةٍ سريّةٍ بالأعداء.

و قد جاء في شأن النّزول للآيات الاولى من هذه السّورة الشّريفة، و قبل فتحِ مكّة المشرّفة أنّه كتب أحد الأشخاص، إسمه «حاطِب بن أبي بلتعة»، لكفّار قريش رسالةً سلّمها بيد إمرأةٍ، إسمها «سارة»، حذّرهم فيها، من أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، يعدّ العدّة لفتح مكّة، فعليهم أنّ يستعدّوا لِلقتال، فإنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، قادم.

حدثِ هذا الأمر، و الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، يتهيأ و يعدّ العدّة، و هو يسعى حثيثاً لِئَلّا يصل هذا الخبر إلى المشركين، حرصاً منه على أن لا تُراق في ذلك دماءٌ كثيرةُ، و أن يتمّ الفتح بدون مقاومة، فأخذت هذه المرأة الرّسالة، و أخفتها في جَدائلها، و تحرّكت مسرعةً نحو مكّة.

فأخبر الأمين جبرائيل عليه السلام، الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله بالخبر، فأرسل على أثرها الإمام علي صلى الله عليه و آله، و قال لها: أخرجي ما عندك، فأنكرت في البداية، و لكنّها إستسلمت أخيراً تحت واقع التّهديد بالقتل، و سلّمت الرّسالة لِعلي عليه السلام، و هو بدوره سلّمها لِلرسول الكريم صلى الله عليه و آله.

فأمر صلى الله عليه و آله بإحضار حاطِب و وبّخه كثيراً، فإعتذر حاطب عن فعلته بأعذارٍ واهيةٍ، لكنّ الرسول صلى الله عليه و آله قبلها صوريّاً، فما ورد في الآيات الاولى، من السّورة هو تحذيرٌ للمسلمين، لإجتناب مثل هذه الأعمال، و بيان واحدٍ

من الاصول و المبادي ء الإسلاميّة المهمّة، على مستوى التّبري من الأعداء و موالاة الأولياء، أو كما قِيل: «الحُبُّ فِي اللَّهِ وَ البُغْضُ فِي اللَّهِ».

و في بداية السّورة، تحرّكت الآية الكريمة لتخاطب جميع المؤمنين، من موقع التّحذير، من إقامة العلاقة الودّية و العاطفيّة مع الأعداء، و قالت:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ».

و نعلم أنّه عند ما تتقاطع أواصر «المحبّة و الصّداقة» مع أواصر « «العَقائد و القِيم»، فالنّصر سيكون حليف أواصر المحبّة و الصّداقة، على حساب إهتزاز العقيدة، و بذلك ينحدر الإنسان في خطّ البّاطل، فما نراه من التّأكيد على: «الحُبُّ فِي اللَّهِ وَ البُغْضُ في اللَّهِ»، أو تولّي الأولياء و التّبري من الأعداء، نابعٌ من هذا الأساس.

ثمّ تستمر الآيات، «و بالذّات في الآية الرابعة»، على حثّ المسلمين على الإقتداء بإبراهيم

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 317

النبي عليه السلام، و أصحابه المخلصين، و أنّهم اسوةٌ حسنةٌ للمؤمنين، الذين يتحرّكون من موقع الرسالة: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».

الاسوة «على وزن لُقمة»، تحمل مَعْناً مصدرياً، بمعنى التّأسي و الاتّباع للآخرين، و بمعنى آخر هو الإقتداء بالآخرين.

و من البديهي أنّ هذا الأمر، يمكن أن يكون على مُستوى الفضيلة أو الرّذيلة، و لذلك فإنّ الآية الشّريفة، عبّرت عن إبراهيم عليه السلام بأنّه قدوةٌ حسنةٌ، لأنّه قطع كلّ أواصر المحبة و وشائج الموّدة، التي كانت بينه و بين قومه، في سبيل عقيدته و توحيده للَّه تعالى.

يقول «الرّاغب» في «مفرداته»، إنّ كلمة «الأسى»

على وَزن (عَصا)، و هي بمعنى الغمّ و الألم، فكلمة اسوةٌ أخذت من هذه المادة، و يقال لِلمصاب بمصيبةٍ: «لكَ بِفلانٍ اسوةٌ».

و لكنّ بعض أرباب اللّغة، مثل: إبن فارس في «المقاييس»، فصّل بين المعنيين، فقال: «أنّ الأوّل ناقصٌ (واوي)، و الثّاني ناقصٌ (يائي)»، و على كلّ حالٍ فإنّ القرآن المجيد، حثّ المسلمين على مسألة: «الحُبُّ فِي اللَّهِ وَ البُغْضُ فِي اللَّهِ»، و جعل لهم إبراهيم عليه السلام قدوةً، لأنّ إختيار القدوة الصّالحة لحركة الإنسان، في خطّ التّقوى و الإيمان، له دورٌ عميقٌ في طهارة روح الإنسان، و أفكاره و سلوكياته.

و هذا هو ما يؤكّد عليه علماء و الأخلاق، في عمليّة السّير و السّلوك إلى اللَّه، فإنّ إختيار القدوة يُعدّ أهمَّ خطوةٍ لحركة الإنسان في طريق الرّقي.

«الآية الثانية»: إستمراراً لبحثنا الآنف الذّكر، تتحدث عن إبراهيم عليه السلام و صحبه، فتقول:

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

و فرّق هذه الآية عن الّتي قبلها، في أمرين:

الأوّل: إنّ هذه الآية أكّدت على مسألة: «الحُبُّ في اللَّهِ وَ البُغْضُ في اللَّهِ»، بأنّها من

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 318

علامات الإيمان باللَّه و المعاد.

الثاني: إنّ التّأكيد على هذا الأمر، لا ينبع من حاجة الباري إليه، بل هو من حاجة الإنسان إليه، في مساره التّكاملي و المعنوي إلى اللَّه تعالى، و لحِفظ سَلامة المجتمع البشري في حركة الواقع و الحياة.

«الآية الثّالثة»: ناظرةٌ إلى غَزوة الأحزاب، و هي في الحقيقةِ تشيرُ إلى مُلاحظةٍ مُهمّةٍ جِدّاً، ألا و هي: أنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و بالرّغم من الأزمات النّفسية و التّحديات الصّعبة في تلك الظّروف، و سوء

ظنّ بعض المسلمين الجدد، بالوعد الإلهي بالنّصر في ميادين الوَغى فإنّه بَقي صامِداً ينظّر لِلحرب، و يستخدم أفضل التّكتيكات العسكريّة، إنتظاراً لِلّحظة الحاسمة، و كان ينتظر الفُرصة للإنقضاض على عدوّة، فكان يَمزح مع أصحابه ليقوّي من معنوياتهم، و أخذ المِعوَل بنفسه لِيحفُر الخَندق بيده، و يُشجع أصحابه و يذكّرهم باللَّه تعالى و ثوابه، و يبشّرهم بالفتوحات المُقبلة العَظيمة.

و هذا الأمر تَسبّب في تماسك المسلمين، و مقاومتهم أمامَ عدوّهم، و جيشه الجرّار المتفوق عليهم بالعدّة و العَدَد، بالتّالي الإنتصار عليهم، فقال تعالى

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً».

فالرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، لا يُتأَسّى به فقط في ميادين الجِهاد الأصغر، بل و كذلك في ميادين الجِهاد الأكبر، ألا و هو جهاد النّفس و التّصدي لِلأهواء المُضلّة، من موقع المحاربة، فَمن يتّخذِه اسوةً حسنةً في هذا المضمار، فإنّه سيصل من أقرب الطّرق و أسرعها، إلى غايته و هدفِه المَنشود.

و الجدير بالذّكر، أنّ هذه الآية، علاوةً على ذكرها لِمسألة الإيمان باللَّه و اليوم الآخر: «لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ ...»، أكّدت على ذِكر اللَّه تعالى بجملة: «وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً». فهم يقتدون بقائدهم الربّاني و يستلهمون منه الإيمان، و ذِكر اللَّه كثيراً حيث يحرك فيهم الذّكرُ

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 319

الكثيرِ، عنصر الإهتمام للمسؤوليات التي القيت على عاتقهم، وَ مَنْ أَفضل من الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، لِيكون لهم اسوةً و قدوةً، في خطّ الإلتزام الدّيني و الأخلاقي و الإنفتاح على اللَّه؟

«الآية الرابعة»: نوهت إلى النّقطة المقابلة، ألا وَ هَي: البُغض في اللَّه تعالى في خطّ الحقّ، فتقول: «لَا

تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ».

فهذه الآية الشريفة، صرّحت و أرشدت، إلى الطريق التي يجب على المؤمن سلوكها، عند تقاطع الطّرق، و تضارب «العلاقة الإلهيّة» مع «العلاقات الاسريّة»، فلو أنّ الآباء و الإخوة و الأقرباء، تحرّكوا في خطّ الباطل و الإنحراف و الكُفر، فإنّ طريق اللَّه هي الجادّة الحقيقيّة، لِلإلتحاق بالرّكب الإلهي المقدس.

و ما ورد في هذه الآية، من قوله تعالى: «أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ».

ليس إلّا تأكيداً على المعنى المتقدم، و تشجيعاً لذلك الأمرالمهم الحياتي، أي أنّ «الحُبُّ فِي اللَّهِ وَ البُغْضُ فِي اللَّهِ»، نابعٌ من الإيمان، و طريق التّكامل الحقيقي في خطّ الإيمان، السّلوك المعنوي، و بعبارةٍ اخرى: إنّ هذين الأمرين، يؤثّر أحدهما في الآخر بصورةٍ مُتقابلةٍ، مع فارقٍ واحدٍ، و هو أنّه يجب الإبتداء في عمليّة السّلوك المعنوي، بالإيمان بالمبدأ و المعاد، و التّكامل المعنوي يكون، من حصّة: «الحُبُّ في اللَّهِ وَ البُغْضُ في اللَّهِ».

«الآية السّادسة»: تطرّقت لأواصر المحبّة المعنويّة بين المؤمنين، و قالت: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 320

وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

فهذا الرّباط المعنوي، يتّخذ من الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و إقام الصّلاة و إِيتاء الزّكاة، و طاعة اللَّه

و رسوله، أساساً و دَعامةً في صياغة السّلوك، حيث يعين الفرد، على إستلهام الأخلاق الحَسنة و الأعمال النّافعة، من الآخرين، فيكون كلّ واحدٍ منهم اسوةً للآخر، و من أراد الإلتحاق بهذه الجماعة، عليه أن يكون مُشابهاً لها في دائرة الفكر و السّلوك، دون الجماعات المنحرفة الضّالة المضلّة، التي يجب عليه البَراءة منها و الإبتعاد عنها.

و في الحقيقة، فإنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الذي يُعدّ عاملًا مُساعداً و فَعّالًا، في عمليّة تهذيب و تربية النّفوس، يدعوهم إلى الإلتزام بالإنضباط الدّيني و الأخلاقي، من موقع النّصيحة و التّواصي بالحقّ.

«الآية السّابعة»: فرّقت بين المؤمنين و الكافرين، على مستوى السّلوك في واقع الحياة، فالمؤمنون يتّخذون من صفات جَماله و جَلاله، اسوةً لهم في مسيرتهم المعنويّة و الأخلاقيّة، و الكافرون اسوتهم الطّاغوت، حيث تكون أعمالهم و صفاتهم إنعكاس لأِعمال وَ صفات الطّاغوت، فقالت: «اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

فالخروج من الظّلمات إلى النّور، يعتبر نتيجةً و ثمرةً لِلإيمان باللَّه تعالى و ولايته، و الخروج من النّور إلى الظّلمات، هو من معطيات الطّاغوت و ولايته.

و النّور و الظّلمة هنا، لهما مفهومٌ واسعٌ جِدّاً، بحيث يستوعبان، جميع الفضائل و القبائح و الحسنات و السّيئات.

نَعم، فإنّ الشّخص الذي يعيش في أجواء المَلكوت، و في ظلّ ولاية «اللَّه»، فإنّه سيبدأ رِحلته و هِجرته، من الرّذائل إلى الفضائل و من القبائح إلى الجَمال الرّوحي، و من السّيئات إلى الحسنات، لأنّ صِفات جَماله و جَلاله، هي اسوته الحقّة في رحلته المعنويّة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 321

فذاته المُقدّسة، منزّهةٌ عن كلِّ عيبٍ و نقصٍ، و هو

الرّؤوف الرّحيم، الجَواد الكَريم، و هكذا يتحرّك نحو التّحلي بالفضائل الأخلاقية الاخرى، لأنّ هدفه هو وِصال الَمحبوب و المَعبود.

و العَكس صحيحٌ، فإنّ الحركة من الفَضائل إلى الرّذائل هي من شأن عَبدَةِ الطّاغوت و الأَوثان، التي لا تنفع في شي ءٍ أبداً.

«الآية الثّامنة»: خاطبت المؤمنين من موقع النّصيحة، بإلتزام طريق التّقوى و صحبة المؤمنين، و قالت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».

في الحقيقة أنّ الجملة الثّانية، في الآية الشّريفة: «كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»، هي إكمال لِلجملة الاولى: «اتَّقُوا اللَّهَ ...».

نعم، فإنّه يتوجب على السّالك لِطريق التّقوى و الزّهد و الطهّارة، أن يكون مع الصّادقين و تحت ظلّهم، و قد وَرد في الرّوايات من الطّرفين: السنّة و الشّيعة، و في الكُتب المُعتبرة، أنّ المِصداق الأكمل لهذه الآية، هو الإمام علي عليه السلام، أو أهلَ بيته عليهم السلام.

و هذه الرّوايات، موجودةٌ في كتبٍ، مثل: «الدّر المَنثور لِلسَيوطي» و «المَناقب لِلخَوارِزمي» و «دُرَر السّمطين لِلزرندي» و «شَواهد التّنزيل للحَسَكاني»، و غيرها من الكُتب الاخرى «1».

و كِذلك أوردها: «الحافظ سُليمان القُندوزي» في «يَنابيع المَودّة»، و «العلّامة الحمويني» في «فَرائد السّمطين»، و «الشّيخ ابو الحَسن الكازروني» في «شَرف النّبي» «2».

و قد وَرد في بعض الأحاديث، و بعد نزول الآية الآنفة الذّكر، أنّ سلمان الفارسي رحمه الله، سأل الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و قال له: هل أنّ هذه الآية عامّةٌ أو خاصّةٌ؟، فأجاب النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

«أَمّا المَأمُورُونَ فَعامَّةُ المُؤمِنِينَ وَ أَمَّا الصَّادِقُونَ فَخَاصَّةُ أَخِي عَلِيٌّ وَ أَوصِيائُهُ مِنْ بَعْدِهِ إِلى يَومِ القِيامَةِ» «3».

______________________________

(1). لِلتفصيل يرجى الرجوع إلى كتب: «نفحات القرآن»، ج 9.

(2). المصدر السابق.

(3). ينابيع المودة، ص 115.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 322

و

من الطّبيعي فإنّ إتّباع الإمام علي عليه السلام و أوصياءه، جاريةٌ و مستمرةٌ إلى يومِ القيامة، للإهتداء بِهَديِهِم، و الإقتداء بفعالهم و أخلاقهم في حركة الحياة.

النّتيجة:

يُستفاد ممّا ذكر آنفاً، من الآيات التي إستعرضت مسألة «التّولّي و التّبرّي»، أنّ مسألة الوُصول إلى مرتبة القُرب من الذّات المقدّسة، و تولّي أولياءه من عباده الصّالحين، و التّبرّي من الظّالمين و الغاوين، و في كلمةٍ واحدةٍ: «الحُبُّ في اللَّهِ وَ البُغْضُ في اللَّهِ»، تعدّ من أهمِّ المسائل و المفاهيم، في دائرة التّعليمات القُرآنية، و لها دورها الكبير و أثرها العميق، في مُجمل المسائل الأخلاقيّة، في حركة الإنسان المعنويّة.

و هذا الأساس القرآني و المفهوم الإسلامي، له دورُه المُباشر في جميع المَسائل الحياتيّة، إن على المستوى الفَردي أو الاجتماعي، الدنيوي أو الاخروي، لا سِيّما في المسائل الأخلاقيّة و السّلوك الأخلاقي لِلأفراد، في تعاملهم و تَفاعلهم مع الآخرين، في حركة الحَياة و الُمجتمع.

فهذه المفردة العقائديّة، في دائرة المفاهيم الإسلاميّة، بإمكانها أن تبني نفوس المؤمنين على إتّباع الصّالحين و الطّاهرين، و إتخاذهم اسوة حسنة، خُصوصاً الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام، في كلّ خطوةٍ يخطوها الإنسان المُؤمن في خطّ الإيمان، و بذلك تكون من العوامل المهمّة، للوصول إلى الهدف الحقيقي من وراء خلقة الإنسان، ألا وَ هِيَ تهذيب النّفوس و تربية الفَضائل الأخلاقية في واقع النّفس البشريّة.

التولّي و التبرّي في الرّوايات الإسلاميّة:

وَردت أحاديثٌ مستفيضةٌ في هذا الصّدد، سواء عن طريق أهلِ السُّنة أو الشّيعة، و طَرحت موضوع التبرّي و التولّي بقوّةٍ، و أكّدت عليه بصورةٍ شديدةٍ، قلّما نَجِدُ لها نظيراً، بالنّسبة إلى المواضيع الاخرى

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 323

و لا شَكَّ أنّ هذه الأهميّة، نابعةٌ من المعطيات الإيجابيّة الكِثيرة، لِمسألة التّولي لأِولياء اللَّه، و البراءة من أَعداءِه تعالى، حيث توثّق عُرى الإيمان و أواصِر المحبّة و الصّداقة، مع أولياء اللَّه تعالى، و تُعمّق حالةَ الإبتعاد

و النّفور من الظّالمين الفاسقين، و تنعكس هذه النّتائج على إيمان الشّخص و أَخلاقه و تَقواه، من موقع القوّة و الصّفاء و الإمتداد في واقع الإنسان و محتواه الداخلي، و تحثّ هذه الأحاديث النّاس، على إختيار القُدوة الصّالحة في عمليّة السّير و السّلوك، في طريق اللَّه سبحانه و تعالى.

و نُشير هنا إلى مجموعةٍ من الأحاديث الشّريفة، في هذا المجال، جمعت من كُتبٍ مُختلفةٍ:

1- قال عليٌّ عليه السلام في خطبته القاصعة، و في وصفه للرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كانَ فَطِيماً أَعَظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طِرِيقَ الَمكارِمِ وَ مَحاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ، لَيلَهُ وَ نَهارَهُ وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ إِتِّباعَ الفَصِيلِ أَثَرَ امِّهِ يَرْفَعُ لي في كُلِّ يِومٍ مِنْ أَخلاقِهِ عَلَماً وَ يَأَمُرُني بِالإِقتِداءِ بِهِ» «1».

و يبيّن هذا الحديث، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نفسهُ كان له من يرشده و يهديه، ولديه القدوة الحسنة على شكل ملكٍ من ملائكة اللَّه العِظام.

و كذلك الإمام علي عليه السلام، جعل من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قدوةً له، فكان يتبعه في كلّ اموره و حركاته و سكناته، فيتعلم منه كلّ يوم أمراً جديداً، عِلماً مفيداً، و أخلاقاً نبيلةً.

فلّما كان كُلٌّ من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و علي عليه السلام، يحتاجان إلى القُدوة الحسنة، في بداية المسير إلى اللَّه، فكيف بحال الباقين؟

2- الحديث المعروف: «بْنِيَ الإسلام ...»، الذي وَرد من طُرق متعدّدةٍ عن المَعصومين، و منها ما ورد عن زُرارة عن الباقر عليه السلام، أنّه قال:

«بُني الإِسلامُ عِلى خَمْسَةِ: عَلَى الصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ و الحَجِّ وَ الصِّومِ وَ الولايَةِ»، قَالَ زُرارَةُ، فَقُلتُ:

وَ أَيُّ شَي ءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟، فَقالَ: الوَلايَةُ أَفْضَلُ لَانّها مِفتاحُهُنَّ وَ الوالي هُوَ الدَّلِيلُ عَليهِنَّ» «2».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 192.

(2). أصول الكافي، ج 2، ص 18.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 324

و من هذا الحديث يُستفاد، أنّ الإقتِداء بالقُدوة الصّالحة، يعين الإنسان على إحياء سائر البرامج، الدينية و المسائل العباديّة الفردية و الإجتماعيّة، و هي إشادةٌ واضحةٌ بدور الولاية، في مسألة تهذيب النّفوس و تحصيل مكارم الأخلاق.

3- عن الإمام الصّادق عليه السلام: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأصحابه:

«أيُّ عُرَى الإِيمانِ أَوثَقُ؟، فَقَالُوا: اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَ قَالَ بَعْضُهُم الصَّلاةِ، وَ قَالَ بَعْضُهُم الزَّكاةُ، وَ قَالَ بَعْضُهُم الصِّيامُ، وَ قَالَ بَعْضُهُم الحجُّ و العُمْرَةُ، وَ قَالَ بَعْضُهُم الجِهادُ.

فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله: لَكُلِّ ما قُلْتُم فَضْلٌ وَ لَيسَ بِهِ، وَ لَكِنْ أَوثَقُ عُرَى الإِيمانِ الحُبُّ فِي اللَّهِ وَ البُغْضُ فِي اللَّهِ وَ تَوَلِّي أَولِياءِ اللَّهِ وَ التَّبَرِّي مِنْ أَعداءِ اللَّهِ» «1».

و قد حرّك الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أذهان أصحابه بهذا السّؤال. و هكذا كانت سيرة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، عند ما كان يريد أن يطرح موضوعاً مهمّاً، فبعض منهم أبدى جهله، و بعض منهم قال الصّيام و ... و لكن في نفس الوقت، الذي أكّد رسول اللَّه على أهميّة تلك الامور في الإسلام، قال: «الحُبُّ فِي اللَّهِ وَ البُغْضُ فِي اللَّهِ».

و التّعبير بكلمة: «عُرى جَمع «عُروة»، هي بمثابة حلقة الوصل لِلقرب من اللَّه تعالى، و إشارةٌ إلى أنّ السّلوك إلى اللَّه، لا يتمّ إلّا من خلال التمسّك بهذه العروة، و الصّعود بواسطتها إلى مراتب سامية من الكمال المعنوي، و ليس ذلك إلّا لأنّ

الحبّ في اللَّه و الإقتداء بأولياء اللَّه، عاملٌ مهمٌّ في تسهيل الحركة في جميع إتّجاهات الخير و الصّلاح.

و بإحياء هذا الأصل، سوف تنتعش بقيّة الاصول الدّينيّة، و لكن مع إهماله و ترك العمل به، فإنّ سائر الاصول ستَضعف و تَموت.

4- و في حديثٍ آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّه قال لجابر الجُعفي رحمه الله:

«إِذا أَرَدتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيراً فَانظُرْ إِلى قَلْبِكَ فَإنْ كانَ يُحِبُّ أَهْلَ طاعَةِ اللَّهِ وَ يُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَفِيكَ خَيرٌ وَ اللَّهُ يُحِبُّكَ، وَ إِنْ كانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طاعَةِ اللَّهِ وَ يُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ،

______________________________

(1). أصول الكافي، ج 2، ص 125، ح 6.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 325

فَليسَ فَيكَ خَيرٌ، وَ اللَّهُ يُبْغِضُكَ وَ المَرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» «1».

وَ جُملة: «و المَرء معَ من أحبّ»، هي إشارةٌ جميلةً و لطيفةً إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ هذه العِلاقة ستمتد و تستمر إلى يوم القيامة، و هي دليلٌ واضحٌ على أهميّة مسألة «الوِلاية»، في المباحث الأخلاقيّة.

5- في حديثٍ آخر عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«وُدُّ المُؤمِنِ لِلمُومِنِ فِي اللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الإِيمانِ، أَلا وَ مَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ وَ أَبْغَضَ فِي اللَّهِ وَ أَعطى فِي اللَّهِ وَ منَعَ فِي اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَصفِياءِ اللَّهِ» «2».

6- في حديثٍ آخر عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام، أنّه قال:

«إِذا جَمَعَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ الأَوَّلِينَ وَ الآخَرِينَ، قامَ مُنادٍ فَنادى يُسْمِعُ النّاسَ، فَيَقُولُ: أَينَ المُتَحابُّونَ في اللَّهِ، قالَ: فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنْ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُم إِذْهَبُوا إِلَى الجَنَّةِ بِغَيرِ حِسابٍ، قَالَ: فَتَلَقَّاهُم المَلائِكَةُ فَيَقُولُونَ إِلى أَينَ؟ فَيَقُولُونَ إِلى الجَنَّةِ بِغَيرِ حِسابٍ!، قَالَ: فَيَقُولُونَ فَأَيُّ

ضَرْبٍ أَنْتُم مِنْ النّاسِ؟، فَيَقُولُونَ نَحْنُ المُتَحابُونَ فِي اللَّهِ، قَالَ: فَيَقُولُونَ وَ أَيُّ شَي ء كانَتْ أَعمالُكُم؟، قَالُوا كُنّا نُحِبُّ في اللَّهِ وَ نُبْغِضُ فِي اللَّهِ، قَالَ فَيَقُولُونَ، نِعْمَ أَجرُ العامِلِينَ» «3».

و تعبير «نِعْمَ أَجرُ العامِلِينَ» يبيّن أنّ المحبّة لأولياء اللَّه و البغض لأعداء اللَّه هو أكبر مصدر للخير في واقع الإنسان و الحياة و المانع عن الشر و الانحراف في مسيرة التكامل الأخلاقي.

7- وَرد في حديثٍ عن الرّسول الكريم صلى الله عليه و آله:

«إنَّ حَولَ العَرشِ مَنابِرٌ مِنْ نُورٍ، عَلَيها قَومٌ لِباسُهُم وَ وُجُوهُهُم نُورٌ، ليسُوا بِأَنْبِياءٍ يَغْبِطَهُمُ الأَنْبِياءُ وَ الشُّهَداءُ، قالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ حَلِّ لَنا، قَالَ: هُم المُتَحابُّونَ في اللَّهِ وَ المُتَجالِسُونَ فِي

______________________________

(1). اصول الكافى، ج 2، ص 126.

(2). بحار الأنوار، ج 66، ص 240، ح 14.

(3). بحارالأنوار، ج 66، ص 245، ح 19، اصول الكافي، ج 2، ص 126.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 326

اللَّهِ وَ المُتَزاوِرُونَ في اللَّهِ» «1».

8- و إكمالًا للحديث أعلاه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«لَو أَنَّ عَبدَينِ تَحابا فِي اللَّهِ أَحَدُهُما بِالمِشْرِقِ وَ الآخرُ بِالمَغْرِبِ لَجَمَعَ اللَّهُ بَينَهُما يَومَ القِيامَةِ وَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله: أَفْضَلُ الأَعْمالِ الحِبُّ في اللَّهِ و البُغْضُ في اللَّهِ» «2».

و يبيّن هذا الحديث، أنّ أوثق العُرى و الأواصر في دائرة العلاقات الإجتماعيّة، هي آصرة الدّين التي تُحقّق التّوافق و الوئام بين الأفراد، و تدفعهم لِلمحبّة للَّه و في اللَّه، و هذه الحالة تؤثّر في النّفوس، من موقع التّزكية و التّهذيب.

9- نقرأ في الحديث القُدسي، قال اللَّه تعالى لموسى عليه السلام:

«هَلْ عَمِلْتَ لي عَمَالًا؟!، قالَ صَلَّيتُ لَكَ وَ صُمْتُ وَ تَصَدَّقْتُ لَكَ، قَالَ اللَّهُ تَبارَكَ وَ تَعالى وَ

أَمّا الصّلاةَ فَلَكَ بُرهانٌ، و الصَّومَ جُنَّةٌ و الصَّدَقَةُ ظِلُّ، و الذِّكْرُ نُورٌ، فَأَيُّ عَمَلٍ عَمِلْتَ لِي؟!، قَالَ مُوسى دُلَّني عَلى العَمَلِ الِّذي هُوَ لَكَ، قَالَ يا مُوسى هَلْ وَالَيتَ لي وَلِيّاً وَ هَلْ عادَيتَ لِي عَدُوّاً قطُّ، فَعَلِمَ مُوسى إِنَّ أَفْضَلَ الأَعمالِ، الحُبِّ في اللَّهِ و البُغْضُ في اللَّهِ» «3».

10- و نختم هذا البحث، بحديثٍ آخر عن الإمام الصّادق عليه السلام، (رغم وجود الكثير من الأحاديث الشّريفة في هذا الموضوع، أنّه قال:

«مَنْ أَحَبَّ للَّهِ وَ أَبْغَضَ للَّهِ وَ أَعْطىْ للَّهِ وَ مَنَعَ للَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ كَمُلَ إِيمانُهُ» «4».

و نَستوحي من الأحاديث العشرة الآنفة الذّكر، أنّ الإسلام قد أعطى الأهميّة القُصوى، لمسألة الحُبّ في اللَّه و البغض في اللَّه، و إعتبرها أفضل الأعمال، و علامة كمال الدّين، و أسمى من:

الصّلاة و الزّكاة و الصّيام و الحج و الإنفاق في سبيل اللَّه تعالى، و من يَتَحلّى بهذه الصّفة، يكون مع الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله في الجنّة، بحيث يغبطه فيها الأنبياء و الشّهداء و الصّديقين.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 66، ص 352، ح 32.

(2). بحارالأنوار، ج 66، ص 352، ح 32.

(3). بحارالأنوار، ج 66، ص 352، ح 32.

(4). المصدر السّابق، ص 8، ح 10. 23

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 327

فهذه التّعبيرات و غيرها، تبيّن لنا دور و فعّاليّة مسألة التبرّي و التّولّي، في جميع البرامج الدّينية و الإلهيّة، و دليل هذا الأمر واضحٌ جدّاً، لأنّ الإنسان المؤمن، عند ما يُحِبّ القُدوة الإلهيّةُ و الإنسان الكامل، لتقواه و إيمانه و فضائله الأخلاقية، فإنّ ذلك من شأنه، أن ينعكس على روحه و سُلوكه صفاتِ و سلوك هذه القدوة، و يدفعه لِلتأسّي بها في أعماله و حركاته و

سَكناته!

و هذا هو بالفعل، ما يَصبو وَ يدعو إليه علماء الأخلاق، بإعتباره أصلًا أساسياً في تهذيب و تربية النّفوس، و أنّ الإقتداء بالقُدوة الصّالحة، من شأنه أن يكون شرطاً أساسياً، لأن يسلك بالإنسان طريق الهداية و الصّلاح، في خطّ الإيمان و الإنفتاح على اللَّه تعالى.

و من الأدلّة المهمّة، التي أوردها القرآن الكريم، و أكّد عليها رسوله الكريم صلى الله عليه و آله، هو التّذكير بأَنبياء اللَّه تعالى و أفعالهم و تأريخهم و حياتهم، و الغَرض من ذلك كُلّه، الإقتداء بهم و إتّباع سيرتهم.

جديرٌ بالذّكر، أنّ كلّ إنسانٍ يحبُّ البطولات و الأبطال، و يحبُّ أن يَقتدي بأحد الأبطال، ليجعله اسوةً و قدوةً في حياته في جميع أبعاده المختلفة.

عمليّة إنتخاب مثل هؤلاء الأبطال، يؤثر على حياة الإنسان، من موقع صياغة الشّخصية و كيفيّة السّلوك، و على فرض حدوثِ تغيّرٍ في نظرة الإنسان نحو القُدوة، فَستتغير حياتُه بالكامل، تَبعاً لها.

و الكثير من الأفراد أو الشعوب، لمّا لم يُسعفهم الحظّ في إتخاذ القُدوة الصّالحة، تَوسّلوا بأبطالٍ مزيّفين، كَي يُعوّضوا النّقص الحاصل لديهم في هذا المجال، و أدخلوهم في ثقافتهم و تأريخهم، و ألّفوا في سيرتهم الأساطير و الحكايات، و البطولات الخياليّة.

و البيئة و الدّعاية السّليمة أو المغرضة، لَها دورها في إختيار اولئك الأبطال، فيُمكن أن يكونوا من رجال الدّين، و السّياسة، أو وجوهٌ رياضيّةٌ أو تمثيليّةٌ.

و هذا الميل البَشري لِلأبطال، و القُدوات الإنسانية، يمكن أن يوجّه بالصّورة الصّحيحة، و يفعّل دوره في تربية الفضائل الأخلاقيّة و السّلوكيات الحسنة، في الحياة الفرديّة و الإجتماعيّة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 328

و بناءً على ذلك، فإنّ الآيات و الرّوايات أكّدت على هذه الضّرورة، و هي مسألة التولّي و التّبرّي، و إتّخاذ أولياء اللَّه

قدوةً و اسوةً حسنةً، و بدونها ستبقى برامج التّربية و التّهذيب، ناقصةُ الُمحتوى و المُضمون.

قصّة موسى و الخَضر عليهما السلام:

إتّخاذُ المعلّم و الدّليل، في طريق السّير و السّلوك إلى اللَّه تعالى، من الأهميّة بمكانٍ، بحيث أُمِرَ بَعض الأنبياء، في بُرهةٍ من الزّمن، للحُضورَ عند الاستاذ أو المُرشد.

و من ذلك قصّة موسى عليهما السلام و الخضر، المليئة بالمفاهيم و المضامين العميقة، و التي وَردت في سَورة الكهف، من القرآن المجيد.

فقد امِرَ موسى عليه السلام، لأجل إسترفاد بعض العلوم، التي تحمل الجانب العملي و الأخلاقي أكثر من الجانب النّظري، أُمِرَ بالذّهاب إلى عالم زمانه، لِيَستقي منه العِلم، و قد عرّفه القرآن الكريم، بأنّه: «عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً».

فشدّ موسى عليه السلام، الرّحال فعلًا مع أحد أصحابه، متّجهاً نحو المكان الذي يتواجد فيه الخِضر عليه السلام، و مع غَضّ النّظر عَمّا صادفاه في الطّريق إليه، وَصل مُوسى عليه السلام إلى المكان الموعود، فقال له الخِضر عليه السلام،: «إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبراً»، و لكنّ موسى عليه السلام وعده بالصّبر.

توالت الأحداث الثّلاثة، واحدة بعد الاخرى، المعروفة و الواردة في القرآن الكريم: أولها خَرق السّفينة الّتي كانوا عليها، فإعترض موسى عليه السلام، و ذكّره بخَطر الغَرق لِلسفينة بِمن فيها، فقال له الخِضر: «ألم أَقُل لَكَ إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبراً» فندم و إختار عليه السلام السّكوت، حتى يوضّح له ملابسات الأمر.

و لَم يَمض قليلًا، حتى صادفوا صَبيّاً فقتله، الخِضر عليه السلام مباشرةً من دونِ توضيحٍ و دليلٍ، فهذا الأمرُ المُريع أثارَ موسى عليه السلام مرّةً اخرى، و نسِيَ ما تَعهّد به، و إعترض على استاذه بأشدّ من الّتي قَبلها، فقال: «أَ قَتَلْتَ نَفساً بِغَيرِ نَفْسٍ لَقَد جِئتَ

شَيئاً إمراً».

و لِلمرّة الثّانية، ذكّر الخِضر موسى عليه السلام بالعهد الذي قطعه على نفسه، و قال له: إذا تكرّر

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 329

منك هذا العمل لِلمرّة الثّالثة، فسوف تَنقطع العلاقة بيني و بينك، و ننفصل في هذا السّفر، فعلم موسى عليه السلام، أنّ في قَتل الغلام سِرّاً مُهمّاً، فآثر السّكوت، ليتّضح له السرّ فيما بعد.

و تَلَتها الحادثة الثّالثة، و قد وردوا في قَريةٍ، فلم يُضيفوهما و لم يعبؤوا بِهما، فَوجد الخِضر عليه السلام جداراً يُريد أن يَنقضّ، فَأقامَه عليه السلام، و طلب العَون من موسى عليه السلام في هذا الأمر، فَرمَّم الجِدار، فضاق موسى ذَرعاً بالأمر، فَصاح: «لَو شِئتَ لَتَّخَذْتَ عَلِيهِ أَجراً».

فأين يكون موضع التّعامل مع هؤلاء من موقع الرّحمة، مع كلّ تلك القساوة التي واجهوها من أهل تلك القرية؟.

و هنا أعلن الخِضر عليه السلام إنفصاله عن موسى عليه السلام، لأنّه نقض العَهد ثلاثَ مرّاتٍ، و لكنّه و قبل الفِراق، أعلمه بالأسرار لتلك الحوادث الثّلاثة، فقال له: إنّ السّفينة كانت لِمساكين، و كان عندهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينةٍ سَليمةٍ غَصباً، فَأعَبْتُها كَيْ لا يأخذها منهم، و الشّاب المقتول، كان يستحق الإعدام، لأنّه كافرٌ و مرّتدٌ، و كان الخوف على أبويه من موقع التّأثير عليهما، و لئّلا يحملهما على الكفر.

و الجِدار كان ليتيمين في المدينة، و كان تَحته كنزٌ لَهُما، و كان أبوهما صالحاً، فأراد ربّك أن يستخرجا كنزهما فيما بَعد، ليعيشا بذلك المال، ثم أكدّ عليه أن كلّ ذلك كان بأمر اللَّه تعالى، و ليس تصرّفاً من وَحي أفكاري «1».

رجع بعدها موسى عليه السلام، محّملًا بمعارفٍ و علومٍ في غاية الأهميّة.

و نحن بدورنا نستلهم من تلك القصّة، عدّة دروسٍ، منها:

1- العثور على معلّمٍ مطّلع

حكيمٍ للتعلّم عنده، و الإستنارة من نور علمه، أمرٌ من الأهميّة بمكان، بحيث امِرَ رسول من رُسل اولى العزم بذلك، و قد قطع المسافات الطويلة كي يَدرس عنده، و يقتبس من فَيض علمه.

2- عَدم تعجّل الامور، و إنتظار الفرصة المُناسبة، أو كما يُقال: «إنّ الامور مرَهونةٌ بِأَوقاتها».

______________________________

(1). مضمون الآيات: (6- 80)، من سورة الكهف، (مع التلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 330

الاخلاق فى القرآن ج 1 343

3- الحوادث الجارية حولنا، ربّما تحمل ظاهِراً و باطناً، و علينا عدم النّظر إلى الظّاهر فقط، لِئلّا نخطأ في الحكم على الامور، من موقع العجلة و عدم التّأنّي، و علينا الأخذ بنظر الإعتبار بَواطِنها.

4- عدم الإنضباط و الإلتزام بالعهود، ربّما يَحرم الإنسان من بعض البركات المَعنويّة إلى الأبد.

5- الدّفاع عن الأيتام و المستضعفين، و الوقوف في وجه الظّالمين و الكفار، يُعتبر واجباً على المؤمنين، الذين يتحرّكون في خطّ الرّسالة و المسؤوليّة، و قد تُدفع في سبيل ذلك الأثمان الباهظة.

6- أينما وصل الإنسان في مراحل العِلم و الرّقي، عليه أن لا يتغترّ بعلمه، و لا يتصور أنّه وصل إلى حدّ الكمال، لأنّه قد يتسبب هذا التّصور، في تجميد حركة الإنسان الصّاعدة، و القناعة بما عِنده من العلم.

7- إنّ للَّهِ تعالى جُنوداً و ألطافاً خفيّةً تنصرُ المظلوم، بِطرقه المختلفة، و كلّ إنسانٍ مؤمنٍ، عليه أن يتوقّعها في كلّ لحظةٍ.

و هناك نقاطٌ مفيدةٌ اخرى أيضاً.

و هذه القصّة سواء كانت تحمل أهدافاً حقيقةً لتعليم موسى عليه السلام، أم أنّها تحمل نِداءاتٍ للناس؛ لكي يتعلموا و يقتدوا بالأعاظم من البشر، لا تختلف عما نحن بصدده.

و الخُلاصة: أنّ القدوة و الدّليل و الاسوة، هو أمرٌ لا بدّ منه للاستزادة من العلوم، و تهذيب النّفوس في

خطّ التّكامل المعنوي و بناء الذّات.

14

الوجه الآخر للولاية، و دوره في تهذيب النّفوس

اشارة

لا ينحصر دور الإعتقاد بالولاية، في المسائل الأخلاقية و تهذيب النّفوس و السّير إلى اللَّه تعالى، على إتّخاذ القُدوات الصّالحة و الإقتداء بكلامهم و فِعالهم، بل و بحسب إعتقاد بعض الأعاظِم و العُلماء، يوجد هناك نوعٌ آخر من الولاية، هو فرعٌ من الولاية التّكوينية، يستطيع معها القادُة الإلهِيّيون، و بواسطة نفوذهم الرّوحي المباشر، في عالم الوجود و التّكوين، من معرفة النّفوس المستعدّة للتربية و الإصلاح، و التّصرف المعنوي المَباشر، في المستوى الرّوحي لِلإنسان في خطّ التّربية.

و توضيح ذلك: إنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام، هَمْ القلب النّابض للُامّة الإسلاميّة، و كلّ عضوٍ من الأعضاء، يكون له إرتباطٌ وثيقٌ بالقلب، سيتسنى لذلك العَضو أن يسترفِد من المنبع مَنافع أكثر، أو أنّهم بمنزلة الشّمس المشرقةِ، فكُلّما إنقشعت سُحب الأنانية عن القلب، فإنّ تلك الأشعّة ستتولى تربية عناصر الخير في النّفس، فَتورقُ و تثمرُ، و تنعكس آثارها على شخصيّة الإنسان، في إطار السّلوك و الفِكر.

و هنا تأخذ الولاية شَكلًا آخر، و تنحى مَنْحاً يختلف عن السّابق، و سيكون الكلام فيها عن المَعطيات الخفيّة الغامضة، في دائرة التّأثير التّربوي، غير التي نعرفها سابقاً، في دائرة التّصرفات الظّاهريّة.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 332

يقول القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً* وَ دَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُنِيراً».

فهذه الشّمس المنيرة، و هذا السّراجُ المنير، يتولّى وظيفتين، فمن جِهة أنّه يُضي ء لِلإنسان الطريق إلى اللَّه تعالى، ليعرف الطّريق الصّحيح و الجادة المؤدّية إلى الحقّ و الصّلاح، و يبتعد عن حافّة الهاوية.

و من جهةٍ اخرى، فإنّ هذا النّور الإلهي، يؤثّر لا شعوريّاً في واقع

الإنسان، و يتولى إصلاح النّفس في خطّ التّربية الأخلاقيّة، و يساعدها في عمليّة التّكامل و الرّقي.

و كَنموذجٍ على ذلك، ما نقرأه في الحديث المرفوع عن «هِشام بن الحَكم»، و مناظرته مع «عَمرو بن عُبيد»، العالم بِعلم الكلام السّني، عند ما ذَهب هشام إلى البصرة، و أجبره ببيانٍ لطيفٍ و منطقي، على الإعتراف بِلزوم وجود الإمام في كلّ عصرٍ و زمانٍ.

قال هشام: بلغني ما فيه عَمرو بن عبيد، و جلوسه في مسجد البصرة، فعظُم ذلك عليّ، فخرجت إليه و دخلت البصرة يوم الجمعة، فأتَيت مَسجد البَصرة، فإذا أنا بحلقةٍ كبيرةٍ فيها عَمرو بن عبيد، و عليه شَملةٌ سوداءٌ، متّزراً بها، من صوفٍ و شملةٌ مرتدياً بها، و النّاس يسألونه، فإستفْرَجت النّاس فأَفرَجوا لي، ثمّ قَعدت في آخر القَوم، على رَكبتي، ثم قلت: أيّها العالم، إِنّي رجلٌ غريبٌ تأذن، لي في مسألةٍ!.

فقال لي: نَعم.

فقلت له: أَ لك عَينٌ؟

فقال: يا بُنيّ أيّ شي ءٍ هذا السّؤال، و شي ء تراه كيف تَسأل عنه.

فقلت: هكذا مَسألتي.

فقال: يا بُنيّ سَلُ و إن كانت مَسألتك حَمقاء.

قلت: أجبني فيها.

قال لي: سَلْ.

قلتُ: أ لكَ عينٌ؟

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 333

قال: نَعم.

قلت: فما تَصنع بها؟.

قال: أرى بها الألوان و الأشخاص.

قلت: أ لكَ أنفٌ؟

قال: نَعم.

قلتُ: فما تصنع به؟

قال: أشمٌّ به الرّائحة.

قلتُ: أ لكَ فمٌ؟

قال: نَعم.

قلتُ: فما تصنع به؟.

قال: أذوقُ بِهِ الطّعام.

قلت: أ لك اذنٌ.

قال: نَعم.

قلتُ: فما تصنع بها؟.

قال: أسمع بها الصّوت.

قلت: أَ لك قلب؟.

قال: نعم.

قلتُ: فما تصنع به؟

قال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجَوارح و الحَواس.

قلتُ: أ وَ لَيس في هذه الجَوارح غِناً عن القلب؟.

فقال: لا.

قلتُ: و كيف ذلك، و هي صحيحةٌ سليمةٌ؟.

قال: يا بُني إنّ الجوارح إذا شكّت في شي ءٍ، شمّته أو رأته أو ذاقته

أو سمعته، ردّته إلى القَلب

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 334

فيسْتَيقِن اليَقين و يُبطل الشّك.

فقلت له: فإنّما أقام اللَّه القلب؛ لِشّك الجَوارح؟.

قال: نعم.

قلتُ: لا بدّ من القلب، و إلّا لم تَستَيقن الجوارح؟.

قال: نعم.

فقلتُ له: يا أبا مَروان، فاللَّه تَباركَ و تعالى، لم يترك جوارحك حتّى جَعل لها إماماً، يُصحِّح لها الصّحيح، و يتيقّن له ما شكّ فيه، و يترك هذا الخَلق كلّهم في حِيرتهم و شَكّهم و إختلافهم، لا يُقيم لهم إماماً يردّون إليه شَكّهم و حِيرتهم، و يُقيم لَك إماماً لِجوارحك، تردّ إليه حيرتك و شَكّك؟

قال: فَسكت و لم يقل شَيئاً، ثم إلتفتَ إليّ، فقال لي: أنتَ هُشام بن الحكم؟، فقلتُ: لا. قال من جُلسائه؟، قلت: لا، قال: فَمن أَنتَ، فقلت: من أهلِ الكوفة. قال: فأنت إذاً هوَ، ثمّ ضمّني إليه، و أَقعدني في مَجلسه، و زالَ عن مجلسه، و ما نطَق حتّى قُمت.

قال: فَضحِك أبو عبد اللَّه عليه السلام، و قال: يا هُشام من عَلّمك هذا؟.

قلتُ: شي ءٌ أخذته منك، و ألّفته.

فقال الإمام: «هذا و اللَّه مكتوبٌ في صُحف إبراهيم وَ موسى». «1»

نعم، فإنّ الإمام بمنزلةِ القَلب، لِعالَم الإنسانيّة، و هذا الحديث يمكن أن يكون إشارةً، لِلولاية و الهداية التّشريعيّة أو التّكوينية، أو الإثنين معاً.

و كذلك ما ورد، في حديث أبي بَصير و جاره التوّاب، هو شاهدٌ آخر على هذا المَطلب:

قال أبو بَصير: كان لي جارٌ يتبعِ السّلطان، فأصابَ مالًا فإتّخذ قِياناً، و كان يجمع الجَموع و يشربُ المُسكِر و يُؤذيني، فشكوته إلى نفسه غيرَ مَرّة، فلم يَنتَهِ، فلّما ألحَحَتَ عليه، قال: يا هذا أنا رجلٌ مُبتلى، و أنت رجلٌ معافى، فلو عرّفتني لِصاحبك رَجوتُ أن يَستنقذني اللَّهُ بك، فوقع ذلك في قلبي، فلما

صِرت إلى أبي عبد اللَّه عليه السلام، ذكرتُ له حاله.

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 1، ص 129، ح 3، باب الإضطرار إلى الحجّة، (مع التّلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 335

فقال لي: «إذا رجعت إلى الكُوفة، فإنّه سيأتيك، فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دعْ ما أنت عليه، و أَضمِنْ لك على اللَّه الجنّة».

قال أبو بَصير: فلمّا رجعت إلى الكوفة، أتاني فيمن أتى، فاحْتبستُه حتّى خَلا منزلي. فقلت:

يا هذا، إنّي ذكرتُك لأِبي عبد اللَّه عليه السلام، فقال: «أَقرِأه السّلام و قل له: يترك ما هو عليه، و أَضمن له على اللَّه الجنّةَ».

فَبَكى، ثمّ قال: اللَّه، قال لك جعفر عليه السلام هذا؟

قال: فحلفت له، أن قال لي ما قلت لك.

فقال لي: حَسبُك وَ مَضى، فلما كان بعد أيّامٍ بعث إليّ و دعاني، فإذا هو خَلف باب داره عُريان.

فقال: يا أَبا بصير، ما بقي في منزلي شي ءٌ، إلّا و خرجت عنه، و أنا كما ترى.

فَمشيت إلى إخواني، فجمعت له ما كسوته به، ثمّ لم يأت عليه إلّا أيّاماً يسيرةً، حتّى بعث إليّ: أنّي عليل فآئْتني، فجعلت أختلف إليه، و اعالجه حتّى نزل به الموت.

فكنت عِنده جالساً و هو يجود بِنفسه، ثم غُشي عليه غشيةً ثم أفاق، فقال: يا أبا بَصير، قد و فّى صاحبك لنا، ثم مات، فَحَججت فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام، فإستأذنت عليه، فلمّا دخلت قال مبتدئاً من داخل البيت، و إحدى رجليّ في الصّحن و الاخرى في دهليز داره: «يا أبا بَصير قد وفّينا لصاحبك». «1»

بالطّبع يمكن أن يقال: إنّ هذا الحديث حمل في طيّاته، جانب التّوبة العاديّة المعروفة بين الناس، و لكنّنا نقول: إن ذلك الرّجل المذنب و الملي ء بالمعاصي، من رأسه إلى

أخُمص قدمه، لم يكنِ ليُغيّر طريقة حياته، و اتّخاذه جانب الصّلاح و الفلاح، و على حدّ إعترافه هو، بأنّه لو لا الإمام عليه السلام و عنايته، لم يكن له أن يتحول من دائرة الظلّمة و المعصية، إلى دائرة النّور و الهداية.

و يوجد إحتمالٌ قويٌّ، و هو أنّ هذا الإنقلاب و التّحول، في روح و سلوك هذا الرجل المذنب المستعد لِلتوبة، كان بسبب التّدخل الرّوحي للإمام عليه السلام، و تصرفه في محتواه النّفسي، و

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 47، 145 146، ج 199.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 336

ذلك لوجود نقطةٍ مضيئةٍ و بصيصٍ من الأمل في أعماق قلبه، و هو تمسّكه بالولاية، حيث أدّى إلى أن يتحرّك الإمام عليه السلام إلى نجدته و إنقاذه، في آخر لحظات حياته و أيّام عمره.

و الّنموذج الآخر لهذا التّأثير المعنوي، و الولاية التكوينيّة في تهذيب النّفوس المستعدّة، هو ما نقله العلّامة المجلسي رحمه الله في بحار الأنوار، عن الإمام الكاظم عليه السلام، و الجارية التي أرسلها هارون إليه.

فقد وَرد أنّ هارون الرّشيد، أنفذَ إلى موسى بن جعفر عليه السلام جاريةً خصيفةٌ، لها جمالٌ و وضاءةٌ لتخدمه في السّجن، فقال له: «بَل أَنْتُم بِهَدِيّتِكُم تَفرَحُونَ» «1»، لا حاجة لي في هذه و لا في أمثالها، قال: إستطار هارون غَضباً، و قال: إرجع إليه و قل له: ليس بِرضاك حبَسناك، و لا بِرضاك أخذناك، و إترك الجارية عنده و إنصرف.

قال: فَمضى و رجع، ثم قام هارون عن مجلسه، و أنفذَ الخادم إليه ليتفحص عن حالها، فرآها ساجدةً لربّها لا ترفعُ رأسها، تقول: قُدّوسٌ سُبحانك سُبحانك.

فقال هاورن: سَحرها و اللَّه موسى بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأتى بها و هي تَرتَعد، شاخصةً نحو السّماء

بصرها، فقال: ما شأنك؟.

قالت: شأني الشّأن البديع، إنّي كنت عنده واقفةً، و هو قائمٌ يصلّي ليله و نهاره، فلمّا إنصرف عن صلاته بوجهه، و هو يسبّح اللَّه و يقدّسه، قلت: يا سيّدي هلْ لك حاجة اعطيكها؟

قال: و ما حاجتي إليك؟

قلت: إنّي ادخلت عليك لِحوائجك.

قال: ما بالُ هؤلاء؟.

قالت: فآلتفتُ فإذا روضةٌ مزهرةٌ، لا أبلغ آخرها من أوّله بنظري، و لا أوّلها من آخرها، فيها مجالسُ مفروشة بالوِشيّ و الدّيباج، و عليها و صفاً وَ وَصائِف، لم أر مثل وجوههم حُسناً، و لا مِثل لباسهم لِباساً، عليهم الحَرير الأخضر، و الأكليلُ و الدّر و الياقوت، و في أيديهم الأباريق و المَناديل، و من كلّ الطّعام، فخَررت ساجدةً حتّى أقامني هذا الخادم؛ فرأيت نفسي حيثُ كنت.

______________________________

(1). سورة النّمل، الآية 36.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 337

فقال هارون: يا خبيثة، لعلّكِ سجدت فَنمت فرأيت هذا في مَنامك؟.

قالت: لا و اللَّه يا سيّدي، إلّا قبل سُجودي، رأيت فسجدت من أجلِ ذلك.

فقال هاورن: إقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا مِنها أحد، فأقبلت في الصّلاة، فإذا قيل لها في ذلك، قالت: هكذا رأيتَ العَبد الصّالح عليه السلام، فسئلت عن قولها، قالت: إنّي لما عَييت من الأمر نادتني الجواري، يا فلانة أبعدي عن العبد الصّالح، حتّى ندخل عليه، فنحن له دونك، فما زالت كذلك حتّى ماتت، و ذلك قبل موتِ موسى عليه السلام بأيّامٍ يسيرةٍ «1».

و في هذه القصّة، نشاهد نموذجاً آخر من تأثير الإمام عليه السلام، في روح تلك الجارية المستعدّة للتّربية و الإصلاح الرّوحي، و الهداية في طريق الحقّ و العودة إلى اللَّه تعالى.

و الخلاصة: أنّ تاريخ الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و الأئمّة الهداة عليهم السلام، حافل بمثل

هذه الحوادث، حيث يتّفق لبعض الأشخاص، أن يلتقوا مع النّبي أو الإمام، فينقلب مَساره في حركة الحياة و الواقع و يتغيّر كلياً، و يتحوّل إلى النّقطة المقابلة، في حين أنّ هذا التغيّر، ما كان ليحصل بواسطة الأسباب العادية، بحسب الظّاهر، و هذا الأمر يدلّ على أنّ الإنسان الكامل، هو الذي تولى هذه العمليّة التغييريّة، في هؤلاء الأشخاص من خلال التّصرف و التّدخل في النّفوس، و هو ما نسمّيه بالولاية التكوينيّة.

و من المؤكّد أنّ هذه العناية، و اللّطف و التّوجه، لم يكن إعتباطاً، بل هو لوجود نقاط قوّة في شخصيّة الفرد المُعتنى به، لتشمله العناية الإلهيّة، بواسطة الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و الأئمّة الطّاهرين عليهم السلام.

كلام العلّامة الشّهيد المطهّري:

نترك الكلام و القَلم هنا، للعلّامة الشّهيد المطهّري قدس سره، حيث يقول في كتابه: «ولاءها و

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 48، ص 239، نقلًا عن المناقب، ج 3، ص 414، (مع شي ءٍ من التّخليص).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 338

ولايتها»: (تستعمل هاتين الكلمتين عادة في أربع موارد: ولاء المحبة: (أي المحبّة لأهل البيت) عليهم السلام، و ولاء الإمامة، بمعنى التّأسي بالأئمّة عليهم السلام، و جعلهم القدوة لأعمالنا و سلوكيّاتنا، و ولاء الزّعامة، بمعنى حقّ القيادة الاجتماعيّة و السّياسية للأئمّة عليهم السلام، و ولاء التّصرف، أو الولاء الرّوحي و هو أسمى هذه المراحل).

و بعدها يوضّح الأوّل و الثّاني و الثّالث، ثمّ يعرج على المعنى الرّابع، الذي هو مورد بحثنا و يقول: (إنّ التّصرف الرّوحي و المعنوي، هو نوعٌ من القُدرة و التّسلط الخارق للتكوين، بمعنى أنّ الإنسان و من خلال عبوديّته الحقّة للَّه تعالى، يحصل على مقام القُرب الإلهي المعنوي و الرّوحي، و نتيجة لهذا القُرب، يصبح إنساناً كاملًا، يتحرك

في طريق هداية الناس نحو المعنويات، و يتسلط على الضّمائر، و تكون له قدرة الشّهود على الأعمال، و بالتّالي يصير حُجّة اللَّه في زمانه!

فمن وجهَة نظر الشّيعة، أنّ كلّ زمان لا يخلو من إنسانٍ كاملٍ، يتمتع بقدرة التّصرف الغيبي في العالم و الإنسان، و ناظرٌ و شاهدٌ على الأرواح و القلوب، و هذا الإنسان هو حجّةُ اللَّه على الأرض.

و المقصود من التّصرف، أو الولاية التكوينيّة، ليس كما يعتقد بعض الجهّال، من أن يتولى الإنسان الكامل، مسألة القَيوميّة و التدبير في العالم، بحيث يكون الخالق و الرّازق و المفوض، من جانب اللَّه تعالى.

و هذا الإعتقاد، رغم أنّه لا يعتبر شركاً، بل هو كما ورد في القرآن، بالنّسبة إلى الملائكة:

«المُدَبِّراتُ أَمرَاً وَ المُقَسِّماتِ أمراً»، فهو بإذن اللَّه تعالى، و القرآن يُخبرنا أنّ لا: نَنسب مسائل الخلقة و الرّزق و الموت و الحَياة، إلى غير اللَّه تعالى.

و لكن المقصود، هو أنّ الإنسان الكامل، و لقربه من اللَّه تعالى، يصل إلى مرحلةٍ تكون له الولاية في التّصرف في: (بعض امور) العالم.

ثم يضيف قائلًا: و يكفي هنا أن نشير إشارةً إجماليةً إلى هذا المطلب، و توضيح اسسه بالإعتماد و على المفاهيم و المعاني القرآنية، لِئلّا يعتقد البعض، أنّ هذا جزافاً من الكلام.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 339

فلا شك أنّ مسألة الولاية، بمعناها الرّابع، هي من المسائل العرفانيّة، و مجرد كونها عرفانيّة، لا يعني نكرانها بالكامل.

ثمّ يشرح بإسهاب، معطيات القرب من اللَّه تعالى، و يستنتج منها، ما يلي:

فعلى هذا الأساس، من المحال على الإنسان، و بعد قربه و طاعتِه للَّهِ تعالى، ألّا يصل إلى مقام الملائكة، بل و أرقى، أو على الأقل يساوي الملائكة في مقامهم، الملائكة التي تدبّر و تتصرف

في عالم الوجود، بإذن اللَّه تعالى» «1».

و يمكن أن نخرج من هذا الحديث بنتيجة، و هي أنّ العلاقة المعنويّة، و الإرتباط بالإنسان الكامل، يمكن أن يساعد الإنسان في عمليّة التّصرف، و النّفوذ في حياة الاناس المستعدّين و المتقبلين للإصلاح، و سوقهم تدريجياً في خطّ التّهذيب الأخلاقي، و إبعادهم من جو الرّذائل إلى جو الفضائل الأخلاقية و الكمالات الروحيّة.

الاستغلال السّي ء:

تتعرض المفاهيم البنّاءة و الصّحيحة، للُامم و الشّعوب في كلّ زمانٍ و مكانٍ للإستغلال و التّحريف دائماً، و هذا الإستغلال في الحقيقة لا يؤثر على صحة و قداسة أصل المسألة.

و لم تكن مسألة القدوة الأخلاقيّة في خطّ التربية و التّهذيب، و لزوم الإستفادة من الاستاذ العامّ و الخاصّ، لأجل السّلوك إلى اللَّه و تهذيب الأخلاق، مستثناة من هذا الأمر، فجماعةُ من الصّوفيّة طَرحوا أنفسهم، بعنوان: «مُرشد» أو «شيخ الطّريقة» و «القُطب»، و دعوا الناس لإتّباعهم و التّسليم المُطلق إليهم، بل و تعدّوا الحُدود، و قالوا إذا ما شاهدتم سلوكاً يصدر من الشّيخ، مخالفاً للشريعة، فلا عليك و لا ينبغي عليك الإعتراض، لأنّ ذلك يخالف روح التّسليم المُطلق للمرشد.

و يُستفاد و من كلمات «الغزالي»، المؤيد للصّوفية، في فصولِ متعددّةٍ من كتابه «إحياء العلوم»، هذا المعنى أيضاً، حيث يُشمّ منها رائحة الصوفيّة، و الحقيقة أنّ فِرقاً من الصّوفية،

______________________________

(1). كتاب ولاءها و ولايتها، ص 56، و ما بعدها.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 340

تعتبره من كبار أعلامها، فقد قال في الفصل (51) من الجزء الخامس، الباب الخامس:

(نَظَرُ الصّوفية إنّ أدب المريدين في مقابل شيوخهم هو، أن يجلس المريد مقابل الشّيخ مسلوب الإختيار، فلا يتصرف في نفسه و ماله إلّا بأمره ... و أفضلُ أدب المُريد أمام الشّيخ:

هو السّكوت و الخمود و

الجمود، إلى أن يملي عليه شيخه، ما يراه له صلاحاً في أعماله و أفعاله ... و كلّما رآى من شيخه خِلافاً، و عسُر عليه فَهمه، تذكّر حكاية مُوسى و الخِضر عليهما السلام، فإنّ الخضر قد عمل أعمالًا أنكرها مُوسى، و لكن عند ما كشف له الخِضر أسرارها إنتبه مُوسى، و عليه فكلّما فعل الشّيخ، كان له عُذراً بلسان العِلم و الحِكمة) «1».

و يقول العارف العّطار، في أحوال يوسف بن حسين الرّازي، عند ما أمره ذو النّون المَصري: (مرشده)، الخُروج من بلدِه و العودة إلى دياره، طلب يوسف منه برنامجاً يعمل به، فقال له ذُو النّون: عليك بِنسيان ما قرأته، و امح كلّ ما كتبته، ليُزال الحِجاب!.

و نقل عن أبي سعيد، قوله للمُريدين:

«رَأسُ هذا الأمرِ، كَبْسُ الَمحابِرِ وَ خرَقُ الدَّفاتِر وَ نِسيانِ العِلمِ» «2».

و نقل عن أحوال و حالات «أبو سعيد الكندي»، أنّه كان قد نزل في الخانقاه، و إجتمع عنده جمعٌ من الدّراويش، و كان يطلب العلم سرّاً، و في يوم من الأيّام سقطت من جيبه محبرةٌ، فإنكشف سرّه: «و هو أنّه من هواة تحصيل العلم»، فقال له أحد الصّوفيين: (استر عليك عَورتك) «3».

و لا شك فإنّ الجو الحاكم هناك، كان نتيجةً لتعاليم مرشدهم في هذا الأمر، و لكنّ الحقيقة أنّ الاسلام قد أكّد على خلاف هذا المسلك، ففي الحديث الوارد عن الصّادق عليه السلام، عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «وُزِّنَ مِدادُ العُلَماءِ بِدِماءِ الشُّهدَاءِ، فَرُجّحَ مِدادُ العُلَماءُ عَلى دِماءِ الشُّهَدَاءِ» «4».

فانظر إلى الفرق بين المسلكين!!.

______________________________

(1). احياء العلوم، ج 5، ص 198- 210، (مع التلخيص).

(2). أسرار التّوحيد، ص 32 و 33، طبعة طهران.

(3). نقد العلم و العلماء، ص 317.

(4). بحار

الأنوار، ج 2، ص 16، ح 35.

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 341

و لأجل الإطّلاع على كيفيّة التّحريف و الإنزلاق في منحدر الإفراط و التّفريط، و كيف تنحرف مسألةٌ معينةٌ عن المنطق و الشّرع، لدى وقوعها بأيدي مَنْ لا أَهليّة له، على التّنظير في امور الدّين؟، و كيف تَتعرض للإستغلال و التّشويه، علينا إلقاء نظرة على كلام: «كيوان القِزويني المُلقّب ب منصور علي شاه»، حيث يُعتبر من أقطاب الصّوفية، فقد بيّن حدود و صلاحيّات القُطب، و قال:

«لِلقطب أن يدّعي عشرةَ خُصوصيّات:

1- أنّ عندي باطنُ الولاية التي كانت عند الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ... مع فرقٍ واحدٍ هو، أنّه المؤسس و أنا المروّج و المدير و الحارس!.

2- عندي القُدرة على تربية الأفراد، و تهذيب نفوسهم، و إزالة العناصر الخبيثة و الخصائص الشّريرة، في واقعهم و نزعها و نقلها إلى الكفّار.

3- أنا حرّ من قيود الطّبع و النّفس.

4- يجب أن تؤدى جميع عِبادات و مُعاملات المُريدين، بإجازةٍ و موافقةٍ منّي.

5- كلّ إسمٍ القّنه لِلمُريدين، و أجيزهم بذكره في القلب أو اللّسان، يكون هو ذلك الإسم فقط هو اللَّه، و يسقط الباقي من درجة الإعتبار.

6- كلّ المعارف الدينيّة و العقائديّة، إن كانت قد حصلت بموافقتي، فهي صحيحة، و إلّا فهي عينُ الزّيف، و مَحض الخَطأ.

7- أنا مفترضُ الطّاعة، و لازمُ الخِدمة، و لازم الحفظ.

8- أنا حرٌّ في عقائدي.

9- أنا ناظرٌ للأحوال القَلبيّة لمريديّ دائماً.

10- أنا قسيم النّار و الجنّة «1».

هذا الكلام أشبهُ بالهَذيان منه إلى البَحث المَنطقي، رغم أنّه قد لا يقبله أغلب الصّوفيين، و لكن مجرد أنّه يرى نفسه بِعنوان: «قُطب»، و إدّعائه أن للأقطابِ، إختياراتٌ و صلاحيّاتٌ لم

______________________________

(1). إستوار نامه، ص 95- 106،

(مع التّلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 342

يدّعيها حتى الأنبياء لأنفسهم، فإن ذلك يكفي، في تبيان مدى إستغلال هؤلاء المدّعين، لمثل هذه العناوين الضّبابيّة و حاجة الناس للمعلم، في أمر السّير و السّلوك إلى اللَّه تعالى، و ما يمكن أن يترتّب على ذلك، من عواقبٍ سلبيّةٍ على مستوى، سَوقِ النّاس في خَطّ الباطل.

فهذه الإدّعاءات، بعض منها من خواصّ الأنبياء، و الاخرى لم يجرء على ادّعائها أحد من الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام، و أيّ شخصٍ له قليلٌ من الإلمامٌ بالدّين، سيتوجه إلى فَضاعةِ الأمرِ و خُطورته.

و إذا ما رَجعنا إلى كُتب أهل التّصوف، مثل، «تَذكرة الأَولياء» لِلشيخ العَطار، و «تاريخ التّصوف»، و «نفحات الانس»، و بعض أبحاث «إحياء العُلوم»، نرى أنّ الإدّعاءات و الخُصوصيّات التي يضعوها لِلأقطاب، و شيخُ طريقتهم: فضيعةٌ، و لذلك فإنّ بعض مُحقّقي الشّيعة و فقهائهم، وقفوا بِشدّةٍ و قوّةٍ، مقابل هذه الطّائفة، حتى أنّ هذا الموقف تسبّب بإيذاء بعض الّذين يتعاملون مع المفاهيم الدينيّة، من موقع الجهل و السطحيّة، لكن الحقيقة أنّ المثقفين و المطّلعين، يعلمون أنّ إطلاق العِنان لمثل هذه الأفكار المُنحرفةُ من شأنه أن يَقضي، على فُروعِ و اصولِ الدّين الحَنيفِ بصورةٍ كاملةٍ.

نَصل هُنا و إيّاكم إلى نِهاية أبحاثنا، عن كلّيات المسائل الأخلاقيّة، في ظلّ الآيات القرآنية، أبحاثٌ تعتبر الأساس و القاعدة الّتي يقومُ عليها صَرحُ الأخلاق و تهذيب النّفوس، و تفتحُ أمامنا أبواب المباحثِ المستقبليّة، حول مصاديق الرّذائل و الفضائِل، واحدةً بعد اخرى.

إلهنا!:

«إنّ الوصول إلى أوج الفضائل الأخلاقيّة و الحياة، في أجواء القُرب منك، لا تُستطاع إلّا بتَوفيقك و تَسديدِك، فَأعنّا بعونَك، و جُد علينا بفضلك، وَ قرّبنا مِنك، و اجعلنا من أصحاب النّفوس المطمئنّة، لندخل فيمن يقعونَ مَورداً

لخطابك،: «فَادْخُلي فِي عِبَادِي* وَ ادْخُلي جَنَّتي».

الاخلاق فى القرآن، ج 1، ص: 343

رَبّنا!:

إنّ حَبائلَ الشّيطانِ قويّةٌ، و سهامَه مَهلكةٌ، و هوى النّفس عدوٌّ لا يرحم، و رذائل- النّفس كالأشواك تُوخز الرّوحَ و تُؤذيها، و لا يُنجينا من ذلك كلّهُ إلّا عنايتُك الخاصّة و لطفُك الخَفي.

ربّنا!:

إننا نُسلّمُ الأمرَ إليكَ في خِتام حديثنا، و نقرأ الدّعاء المعروفَ الواردَ عن الرّسول الكريم صلى الله عليه و آله، و نقول: «اللَّهُمَّ لا تَكِلنِي إِلى نَفْسِي طَرفَةَ عِينٍ أَبَداً» «1».

تمّ و الحمد للَّه

الجزء الأول

من كتاب الأخلاق في القرآن

في 24/ 3/ 1376 ه. ش المصادف 8/ صفر 1418 ه. ق

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 18، ص 204.

الجزء الثانى

الأخلاق الحسنة و السيئة في القرآن

مقدّمة (منهج البحث):

تعرضنا في الجزء الأوّل من هذا الكتاب (الأخلاق في القرآن) إلى الاصول العامة في المسائل الأخلاقية و المناهج المختلفة لتهذيب النفس، و المذاهب الأخلاقية، و الدوافع و النتائج و قد بحثنا هذه المواضيع و المسائل بالتفصيل على ضوء ارشادات و تعاليم القرآن الكريم على شكل تفسير موضوعي.

و نرى الآن أنّ الوقت قد حان لبحث جزئيات الفضائل و الرذائل الأخلاقية بالاستفادة من تلك الاصول العامة و استعراض مواردها على ضوء تعليمات الوحي و الآيات القرآنية.

و من ذلك سنتعرض في هذا المجال للفضائل و الرذائل الأخلاقيّة على مستوى الآثار و النتائج و العواقب الإيجابية و السلبية لكلّ واحدة منها، و بالتالي طرق الوقاية من الرذائل الأخلاقية و معالجتها و كيفيّة كسب الفضائل و الملكات الأخلاقية الحميدة.

و لدى ورودنا في هذا الموضوع و هذه الدراسة تأمّلنا كثيراً في المناهج و النظم الدراسية و العلمية الّتي يمكن الاستفادة منها في هذا البحث العميق، فهل ينبغي البحث على مستوى المناهج اليونانية في تقسيم الأخلاق إلى أربعة

أقسام (الحكمة، العدالة، الشهوة، الغضب)؟

في حين أنّ هذا التقسيم لا يتلاءم و لا ينسجم مع الآيات القرآنية الّتي نريد دخول هذا البحث من خلالها و على ضوئها، و لا أنّ هذا المنهج خال من العيوب و النقائص الّتي تمّت الإشارة إليها في الجزء الأوّل.

أم أنّ ترتيب الفضائل و الرذائل ينبغي أن يكون على مستوى ترتيب حروف الالفباء، في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 6

حين أنّ هذا المنهج يختلف كثيراً عن منهج الدراسة المنطقية و لا ينسجم معها كثيراً.

أم ينبغي أن نقرر هذه الدراسة وفق منهج المذاهب الشرقية و الغربية في المسائل الأخلاقية في حين أنّ كلّ واحدة من هذه المذاهب لا تخلو من مشكلة أو مشكلات منهجية، مضافاً إلى أنّها لا تتناغم مع التفسير الموضوعي للقرآن الكريم و الّذي نزمع دراسة القيم الأخلاقية على ضوئه.

و فجأة و بلطف الله و الالهام الباطني تجلّى لنا منهج جديد في استيحاء المفاهيم الأخلاقية من القرآن الكريم، و هو أننا نعلم أنّ القرآن الكريم خصّص قسماً مهماً من أبحاثه الأخلاقية و السلوكية في ضمن دراسته لسلوكيات الأقوام السالفة و تاريخ المجتمعات البشرية الماضية و ما ترجمه الأوائل على المستوى العملي من أخلاق و قيم و فضائل كانت تتحرك في تلك المجتمعات الإنسانية و بالتالي الكشف عن عواقب تلك السلوكيات و عرض نتائج تلكم الأعمال و الممارسات الأخلاقية، و للانصاف فإن القرآن الكريم بحث المسائل الأخلاقية في دائرة التجربة العينية و الخارجية في اطار ممارسة الأقوام السالفة لتتضح النتائج المترتبة عليها لكلّ قارئ و مستمع إلى هذا التاريخ الغابر، و يخرج منها بنتائج عملية و عميقة.

و لهذا السبب رأينا أنّ من الأفضل في معيار نظم المباحث الأخلاقية و بالنظر إلى

السياق الّذي يحكم دراساتنا الماضية فإننا سوف نجعل من هذه الدراسة التاريخية للقرآن الكريم معياراً حاكماً في هذه المباحث العلمية و الأخلاقية.

و بعبارة اخرى إننا بحثنا هذه المواضيع من قصة آدم و حواء و وسوسة آدم و هبوطهما من الجنّة و ما ترتّب على ذلك من سلوكيات سلبية أدّت إلى هذه الواقعة التاريخية من طرد الشيطان الرجيم من مرتبة القرب الإلهي و حرمان آدم و حواء من الجنّة و أمثال ذلك، و نعلم أنّ الشيطان قد طُرد من الجنّة و المرتبة السامية بسبب (الاستكبار) و (الإنانية) و (العجب) و بالتالي بسبب (العناد و التعصب) حيث رفض السجود لآدم، و كذلك وقع آدم و حواء في مصيدة الشيطان بسبب (الحرص) و حيث أكلا من ثمرة الشجرة الممنوعة بدوافع من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 7

وساوس الشيطان، ثمّ تصل النوبة إلى قصة (هابيل) و (قابيل) و ما تضمنت هذه القصة من صفات قبيحة كانت هي الدافع على قتل هابيل، ثمّ نصل إلى قصة نوح و ما جرى على الأقوام البشرية من الطوفان و كذلك الحوادث الّتي جرت على قوم بني إسرائيل و نبيهم موسى و ما تضمّنته من سيرة الأنبياء من الفضائل و المكارم الأخلاقية في ذلك الوسط المنحرف و الّذي تسبّب بأنواع الأذى و العقوبات الإلهية على هؤلاء القوم.

هذا المنهج مضافاً إلى كونه جذاباً و مشوّقاً فإنه يتناغم مع سياق البحوث القرآنية و تتجلّى فيه الفضائل و الرذائل الأخلاقية في صورة تجسيد عيني لها في حركة الإنسان و الواقع الاجتماعي على مستوى الحس و التجربة.

نسأل اللَّه تعالى توفيقنا و جميع أفراد المجتمع للتخلص من آثار الرذائل الأخلاقية الّتي تبدل المجتمع إلى جهنم و إلى نار محرقة،

و نسأله تعالى أن يهب لنا التوفيق للتحرك من موقع الفضائل و المكارم الأخلاقية الّتي تصبغ قلوبنا بالصفاء و الطمأنينة و تهب لنا السعادة و المراتب المعنوية السامية في حركة الإنسان التكاملية، أي مرتبة القرب من اللَّه تعالى.

(آمين يا ربّ العالمين).

ربيع الأوّل 1420 ه. ق قم- ناصر مكارم الشيرازي الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 8

1

التكبّر و الاستكبار

تنويه:

إنّ أوّل صفة من الصفات الأخلاقية الذميمة و أوّل رذيلة نقرأها في تاريخ الأنبياء و بداية خلقة الإنسان، و كما يعتقد أكثر علماء الأخلاق أنّها أُمّ المفاسد و الرذائل الأخلاقية و أصل جميع أنواع الشقاء الإنساني، هي (التكبّر و الاستكبار) و الّتي وردت في قصة إبليس عند ما خلق اللَّه سبحانه و تعالى آدم و أمر الملائكة و كذلك إبليس بالسجود له.

هذه القصة المثيرة و المعبّرة هي قصة محذرة و مليئة بالعبر لجميع الأفراد و المجتمعات البشرية، و الجدير بالذكر أنّ النتائج و العواقب الوخيمة للتكبّر و الاستكبار لا تتجلّى في قصة خلق آدم فحسب، بل نراها متجلية على طول الخط في سيرة الأقوام السالفة من تاريخ الأنبياء و مدى الدور المخرب و المدّمر لهذه الصفة الذميمة في حركة الإنسان و المجتمع البشري.

و اليوم نرى أنّ مسألة الإستكبار لها الدور الأوّل في خلق الأجواء الفاسدة و زيادة المفاسد الأخلاقية و الاجتماعية في العالم و المجتمعات البشرية المعاصرة و تعد بحقّ البلاء الكبير على واقع الإنسانية المعاصرة و الحضارة البشرية الفعلية و الّتي لا نجد صدىً واسعاً و تجاوباً من قِبل المفكّرين و المصلحين في إصلاح هذا الخلل الكبير الّذي يتعرض له الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 10

المجتمع البشري من جراء هذه الصفة الرذيلة.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي

من آياته الشريفة ما يرشدنا و يُلقي بالضوء على هذا البحث، أي الآيات المتعلّقة بسيرة آدم إلى سيرة نبيّنا الأكرم في دائرة آثار و دوافع هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.

1- «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لِأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ا لْكَافِرِينَ» «1». 2- «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَ غِرِينَ» «2» 3- «وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَبِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً» «3». 4- «فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى ا لْأَرْضِ بِغَيْرِ ا لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ» «4». 5- «قَالَ ا لْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ» «5».

6- «وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالبَيّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الْأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ» «6»

7- «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَا وَةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ا لْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَ نَّهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ» «7».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 34.

(2). سورة الأعراف، الآية 13.

(3). سورة نوح، الآية 7.

(4). سورة فصلت، الآية 15.

(5). سورة الأعراف، الآية 88.

(6). سورة العنكبوت، الآية 39.

(7). سورة المائدة، الآية 82.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 11

8- «ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «1».

9- «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ» «2».

10- «قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَا بَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ا لْمُتَكَبّرِينَ» «3»

11- «سَأَصْرِفُ

عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ ا لْحَقّ وَإِنْ يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَّايُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَايَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ ا لْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «4».

12- «لَاجَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَايُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَايُحِبُّ ا لْمُسْتَكْبِرِينَ» «5».

13- «لَنْ يَسْتَنكِفَ ا لْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا ا لْمَلَئكَةُ ا لْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتي وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا»

14- «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَا بُ السَّمَآءِ وَلَايَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ ا لْجَمَلُ فِى سَمّ ا لْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمجْرِمِينَ» «6».

تفسير و استنتاج:

البلاء العظيم على طول التاريخ البشري:

إنّ الآيات القرآنية الكريمة مليئة ببيان مفاسد الاستكبار و العواقب الوخيمة المترتبة على التكبّر و كذلك المشكلات البشرية الّتي تزامنت و ترتبت على هذه الصفة الذميمة على طول التاريخ البشري و تأثير هذه الصفة الرذيلة السلبي في تقدّم و تكامل الإنسان في أبعاده ______________________________

(1). سورة المدثر، الآية 22- 24.

(2). سورة المؤمن، الآية 35.

(3). سورة الزمر، الآية 72.

(4). سورة الأعراف، الآية 146.

(5). سورة النحل، الآية 23.

(6). سورة الأعراف، الآية 40.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 12

المعنوية و المادية حيث لا تخفى على أحد، و ما قرأنا في الآيات أعلاه إنّما هو في الحقيقة ناظرٌ إلى هذا الموضوع.

«الآية الاولى و الثانية» تتحدّث عن إبليس و القصة المعروفة لسجود الملائكة عند ما أمرهم اللَّه تعالى بالسجود لآدم تعظيماً له و قد كان إبليس في ذلك الوقت في صف الملائكة بسبب علوّ مرتبته و مقامه، و قد سجد جميع الملائكة إلّا إبليس لأنّه آثر عصيان الأمر الإلهي و تكبّر على الحقّ و على اللَّه، و بالتالي تمّ طرده من ذلك المقام السامي بسبب رفضه الصريح للسجود

و حتّى اعتراضه على أصل الأمر الإلهي له، و لذلك أمره اللَّه تعالى بالخروج من ذلك المقام و تلك المرتبة إلى أسفل السافلين حيث تقول الآية: «وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لِأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «1». «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَ غِرِينَ» «2».

و في الحقيقة أنّ هذه أوّل معصية وقعت في عالم الوجود هذه المعصية هي الّتي أدّت بمخلوق مثل إبليس و الّذي كان قد عبد اللَّه ستة ألاف سنة (كما ورد في الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة) و أُخرج من ذلك المقام بسبب تكبّر ساعة فحبطت أعماله و عباداته و طاعاته و سقط من ذلك المقام الّذي كان يُعدّ فيه مع الملائكة حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إذْ احْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ ... عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ» «3».

و في هذه القصة المثيرة و المعبّرة نقرأ دقائق و نكات مهمّة جداً حول عواقب التكبّر و نستوحي منها أنّ هذه الصفة الرذيلة يمكن أن تؤدي إلى واقع الكفر و الخروج من الإيمان تماماً كما ورد في الآيات محل البحث «أَبَى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «4».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 34.

(2). سورة الأعراف، الآية 13.

(3). نهج البلاغة، الخطبة 192.

(4). سورة البقرة، الآية 34.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 13

و هكذا يتجلّى في هذه القصة أنّ إبليس و بسبب حجاب الكِبر و الغرور قد تعامل مع الواقع من موقع الجهل التامّ حيث خاطب اللَّه تعالى من موقع الاعتراض و الرفض للأمر الإلهي و قال: «قَالَ لَمْ اكُنْ لِاسْجُدَ لِبَشَرٍ

خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسنُونٍ» «1».

في حين أنّ من الواضح أن شرف آدم لم يكن لأنّه مخلوق من الطين بل بسبب تلك النفخة الإلهية و الروح الإلهي الّتي نفخها اللَّه تعالى في آدم: «فَاذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» «2»، و حتّى إبليس لم يكن ليدرك افضلية التراب على النار، التراب الّذي صار مصدر جميع البركات في واقع الخِلقة و ظهور الحياة و أنواع المعادن و الذخائر الطبيعية من الماء و النباتات و سائر المواد الاخرى الّتي تتولد منها النار و لذلك قال بمنتهى الغرور «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» «3».

مضافاً إلى أنّ الكثير من الأشخاص الّذين يقعون في الخطيئة و الزيغ فإنّهم قد يعودون إلى مسارهم الفطري و السليم بعد أن يدركوا خطئهم و يتحركوا من موقع إصلاح الخلل و التوبة، و لكن حالة التكبّر و الاستكبار هي من الامور الّتي لا تفسح المجال للإنسان المخطي ء في سلوك طريق التوبة بعد الانتباه و إدراك الخطأ، و لهذا السبب فإنّ الشيطان عند ما التفت إلى خطئه لم يتب منه، لأنّ الكبر و الغرور لم يسوّغ له أن يتحرك من موقع التسليم و التعظيم لجوهر الخلقة (أي الإنسان) بل إنّه زاد من تكبره و عناده و أقسم على إضلال جميع الناس (إلّا عَبادَ اللَّهِ المخلصين) و طلب من اللَّه تعالى العمر المديد ليستمر في غيّه و نصب شراكه و فخاخه لبني آدم ليضلهم عن سبيل اللَّه و عن سلوك طريق الحقّ.

و بهذا فإنّ التكبّر و الأنانية و العجب و أمثال ذلك تعدّ مصدراً من مصادر الحالات السلبية و الصفات الذميمة الاخرى من قبيل الحسد، الكفر، الإفساد، ارتكاب الفحشاء و

المنكر.

و بهذا يكون الشيطان كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة القاصعة قد وضع أساس ______________________________

(1). سورة الحجر، الآية 33.

(2). سورة الحجر، الآية 29.

(3). سورة الأعراف، الآية 12.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 14

التكبّر و التعصب في الأرض و عمل على التصدي للقدرة الإلهية المطلقة من موقع العناد و اللجاجة: «فَعَدُوُّ اللَّهِ امَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الّذي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ» «1».

و بسبب هذه الحالة الدنيئة و الفعل الدني ء فإنّ اللَّه تعالى قد جعل الشيطان ذليلًا و ألبسهُ لباس الهوان و الحقارة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الخطبة: «ا لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وَ اعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً» «2».

و الخلاصة أنّه كلّما تدبّرنا في قصة إبليس و افرازات التكبّر و الغرور فإننا نستجلي دقائق مهمّة و كثيرة عن أخطار التكبّر و الاستكبار.

«الآية الثالثة» تتحرك حول استعراض قصة نوح أول أنبياء اولي العزم و صاحب الشريعة، هذه القصة توضح لنا أنّ المصدر الأساسي للكفر و عناد قوم نوح مع نبيّهم يمتد إلى حيث صفة التكبّر و الاستكبار. فعند ما نقرأ الشكوى الّتي تقدّم بها نوح إلى اللَّه تعالى من قومه نجد أنّه يؤكد على هذه المسألة و هي أنّ مخالفتهم نابعة من شدّة استكبارهم حيث تقول الآية:

«وَ إِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَبِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَ أَصَرُّواْ وَ اسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً» «3».

فهنا نرى أيضاً أنّ التكبّر و رؤية الذات من موقع الغرور و العجب و التفوق على الآخرين يمثل منبع الكفر و العناد مع الحقّ.

لقد كان تكبّرهم إلى

درجة أنّهم لم يتحملوا حتّى سماع كلام الحقّ و الّذي يمكن أن يؤثر في تنبّههم و إيقاضهم من ضلالهم و لذلك كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم و يستغشون ______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 192.

(2). المصدر السابق.

(3). سورة نوح، الآية 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 15

ثيابهم على رؤوسهم لكي لا يصل إليهم صوت نوح و يتأثروا بهذا الكلام الإلهي الصادر من أعماق الفطرة الإنسانية، فهذا العداء و هذه الكراهية لكلام الحقّ ليس لها مسوّغ و دافع سوى حالة التكبّر الشديد الّذي كان يعيشه هؤلاء القوم الظالمون.

هؤلاء كانوا يتعرضون لنوح و دعوته و يتساءلون من موقع الاعتراض أنّ نوح كان يحيط به الأراذل من الناس و الفقراء و المساكين و أبناء الطبقات الضعيفة من المجتمع، فلذلك قرروا عدم الاقتراب من نوح و الجلوس معه ما دام هؤلاء الأراذل و الضعفاء بحسب تعبيرهم مع نوح.

أجل فإنّ التكبّر و الأنانية العجيبة الّتي كان يعيشها هؤلاء الناس كانت قد أحرقت الفضائل الأخلاقية في واقعهم و حوّلتها إلى رماد.

و في الحقيقة فإنّ هذه الرذيلة الأخلاقية و هي التكبّر تعدّ عاملًا أساسياً لعنادهم و إصرارهم على الكفر إلى درجة أنّهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم و يغطّون رؤوسهم بثيابهم خوفاً من تأثير كلام نوح في أنفسهم.

و من الملفت للنظر أنّ هذا العمل إنّما يدلّ على أنّهم كانوا يعترفون في قرارة أنفسهم بحقّانية دعوة نوح و يعتقدون به و يدل على ذلك وضعهم أصابعهم في آذانهم و تغطيتهم رؤوسهم بثيابهم.

و يُحتمل أيضاً أنّهم كانوا يغطون رؤوسهم بثيابهم لكيلا يروا نوح و لا يراهم نوح فلعلّ رؤيتهم له توجب الأُنس به و الرغبة و الميل لسماع كلماته.

و أخيراً فإنّ حالة العجب و الغرور ورّثتهم الجهل

و عدم سماع انذارات نوح عليه السلام في آخر لحظات العمر حيث كانت هناك فرصة للنجاة فلم يكونوا يحتملون صدقه في هذا الانذار لذلك عند ما كان نوح عليه السلام يصنع السفينة فإنّ هؤلاء القوم الظالمين كانوا يمرّون عليه و يهزءون به و يسخرون منه و لكن نوح كان قد حذّرهم بقوله: «... انْ تَسْخَرُوا مِنّا فَانَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ» «1»، و لكن في ذلك اليوم سوف لا تكون لكم فرصة للتنبّه حيث تحيط

______________________________

(1). سورة هود، الآية 38.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 16

بكم أمواج البلاء و الطوفان فلا ملجأ.

و أساساً فإنّ أحد علامات المستكبرين هو أنّهم لا يتعاملون مع المسائل الّتي لا تدور في دائرة مصلحتهم و منفعتهم من موقع الجديّة بل يتخذونها وسيلة للعب و اللهو و يتحركون دائماً من موقع الاستهزاء و السخرية بالمستضعفين حيث يمثل ذلك جزءاً من سلوكهم و ديدنهم في حياتهم، و كم رأينا أنّهم في مجالسهم ينطلقون للعثور على مؤمن مستضعف ليجعلونه محور سخريتهم و ضحكهم، و بذلك يكون هذا السلوك منشأ للترفيه عن أنفسهم، فهؤلاء و بسبب هذه الروح الاستكبارية يرون أنّهم العقل الكلّي و يتصورون أنّ الثروة الّتي اكتسبوها من الطريق الحرام هي علامة و آية لذكائهم و لياقتهم الّتي تبيح لهم أن يتعاملوا مع الآخرين من موقع التحقير و التهميش.

و في «الآية الرابعة» نتجاوز عصر نوح عليه السلام لنصل إلى عصر (قوم عاد) و نبيّهم هود عليه السلام، و هنا نرى أنّ السبب الأساس لشقاء هؤلاء القوم الظالمين هو عامل التكبّر و روح الاستكبار المترسخة في نفوسهم حيث تقول الآية: «فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ

لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ» «1».

و هنا نرى أيضاً أنّ هذه الصفة الأخلاقية الذميمة و هي صفة التكبّر و الاستكبار كانت سبباً بأن يتصوّروا أنفسهم أقوى الموجودات في عالم الخلقة و حتّى أنّهم نسوا قدرة اللَّه تعالى و بالتالي تعاملوا مع الآيات الإلهية من موقع الإنكار و أوجدوا جداراً سميكاً بينهم و بين الحقّ.

و الملفت للنظر أنّ الآية الّتي تليها (الآية 16 من سورة فصلت) تشير إلى أنّ اللَّه تعالى و لأجل تحقير هؤلاء المتكبرين المعاندين قد سلط عليهم اعصاراً شديداً و مهولًا في أيّام نحسات بحيث جعلت من أجسادهم كالرماد المبثوث و كالريشة في مهب الريح.

______________________________

(1). سورة فصلت، الآية 15.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 17

أجل فإنّ التكبّر يعدّ حجاباً على بصيرة الإنسان يمنعه من رؤية أيّة قدرة فوق قدرته حتّى أنّه لا يرى قدرة اللَّه تعالى على نفسه و أفعاله.

و تعبير «بغير الحقّ» هو في الواقع قيد توضيحي، لأنّ التكبّر و الاستكبار بالنسبة للإنسان هو بغير حقّ دائماً و بأيّة حالة، فلا يليق بالإنسان أن يتصرّف من موقع التكبّر و يلبس هذا الرداء الّذي لا يليق إلّا بالقدرة الإلهية المطلقة.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن زمان شعيب و قومه، و هنا نرى أيضاً أنّ السبب الأساسي لشقاء قوم شعيب و ضلالهم هو الاستكبار حيث تقول الآية: «قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ» «1».

لماذا يجب على شعيب و الّذين آمنوا معه و سلكوا طريق التقوى و الانفتاح على اللَّه أن يخرجوا من ديارهم و مدنهم؟ هل هناك دليل آخر

غير تحرّك الأثرياء و المتكبّرين من قوم شعيب في التصدي للدعوة الإلهية و الرسالة السماوية و نظرتهم إلى الّذين آمنوا من موقع الاستصغار و الاستحقار و بالتالي الانطلاق في سبيل إلغائهم و نفيهم و إبعادهم عن ديارهم؟

أما قولهم «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا» فلا يعني أنّ الّذين آمنوا مع شعيب كانوا على ملّة هؤلاء المستكبرين و دينهم، بل بسبب أنّهم كانوا منسوبين إليهم و إلى هذه المدينة، و نعلم أنّ التكبّر و حبّ الذات يوجب على الإنسان المتصف بهذه الصفة أن يرى كلّ شي ء متعلّقاً به و من ممتلكاته.

«الآية السادسة» ناظرة إلى عصر موسى و فرعون و قارون، حيث تتحدّث هذه الآية عن قصة هؤلاء و ترى أنّ العامل الأساس لانحراف و ضلال و شقاء قوم فرعون هو حالة التكبّر فتقول: «وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالبَيّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الْأَرْضِ ______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 88.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 18

وَ مَا كَانُواْ سَابِقِينَ» «1»، و لهذا السبب فإنّهم لم يذعنوا للحقّ و بالتالي فقد أصابهم عذاب اللَّه و أهلكهم و لن يستطيعوا الفرار منه.

(قارون) ذلك الرجل الثري الّذي كان يرى أنّ ثروته العظيمة دليلًا على مقامه و منزلته السامية عند اللَّه تعالى و كان يرى أنّ هذه الثروة العظيمة إنّما حصل عليها بسبب لياقته و ذكائه، و لذلك تملّكه الغرور و الفرح و الفخر، فكان يخرج على قومه من فقراء بني إسرائيل بعظيم الزينة و مظاهر الثروة إصراراً منه على تحقيرهم و إذلالهم، و كلّما نصحوه بأن يستخدم هذه الثروة لنيل الدرجات العليا في الآخرة و السعادة المعنوية في حركة الحياة و المجتمع، فإنّ هذه النصائح لن تؤثر فيه و ذهبت

أدراج الرياح، لأنّ الغرور و التكبّر منعه من إدراك حقائق الامور و صدّه عن دفع هذه الأمانة الإلهية الّتي بيده لأيّام معدودة لأصحابها الواقعيين.

أمّا «فرعون» الّذي جلس على عرش السلطنة و القدرة فإنّه قد أصابه الغرور و التكبّر بأشد من صاحبه حتّى أنّه لم يقنع من الناس بعبوديتهم له بل كان يرى نفسه أنّه (ربّهم الأعلى).

أمّا «هامان» الوزير المقرّب لفرعون و الّذي كان شريكاً له في جميع جرائمه و مظالمه بل إنّ جميع إدارة امور المملكة كانت بيده فإنّ القرآن الكريم صرّح أيضاً بأنّه ابتلي بالكبر و الغرور الشديد.

هؤلاء الثلاثة اتّحدوا في مقابل موسى عليه السلام و دعوته الإلهية و انطلقوا في الأرض فساداً و أمعنوا فيها اضلالًا للناس و إذلالًا لهم إلى أن شملهم العذاب الإلهي الشديد، فأغرق فرعون و هامان في أمواج النيل الهادرة حيث كانوا يعدون النيل مصدراً لقدرتهم و أساساً لملكهم، أمّا قارون فقد ابتلعته الأرض بكنوزه و ثرواته الطائلة.

«الآية السابعة» تتحدّث عن قوم عيسى بن مريم عليه السلام و الفرق بينهم و بين اليهود حيث ______________________________

(1). سورة العنكبوت، الآية 39.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 19

تقول: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَ رُهْبَانًا و أنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ» «1».

ثمّ تذكر الدليل و العلّة لهذا التفاوت و الفرق بين هاتين الطائفتين و تقول: «ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَ رُهْبَانًا و أنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ».

و من هذه العبارة يتضح جيداً أنّ أحد العوامل الأصلية لعداء اليهود للّذين آمنوا هو حالة التكبّر و الاستكبار تجاه الحقّ في حين أنّ أحد أدلّة تعامل النصارى مع المؤمنين من موقع

المحبّة و اللطف هو عدم وجود هذه الصفة الذميمة في أنفسهم.

إنّ الأشخاص الّذين يعيشون التكبّر و الاستكبار يريدون أن يقف الآخرون أمامهم موقف الذلّة و الحقارة و العجز، و لهذا السبب فإنّهم إذا رأوا يوماً نعمة قد أنعم اللَّه بها على الآخرين فإنّهم يجدون في أنفسهم عداءً و كراهية شديدة تجاه هؤلاء الّذين أنعم اللَّه عليهم، أجل فإنّ الاستكبار هو سبب الحسد و الحقد و العداء تجاه الحقّ و الناس.

صحيح أنّ هذه الآية لا تتحدّث عن جميع النصارى بل ناظرة إلى النجاشي و قومه في الحبشة الّذين استقبلوا المسلمين المهاجرين إليهم أحسن استقبال و لم يلتفتوا إلى وساوس أزلام قريش الّذين أرسلتهم قريش ليحركوا النجاشي على طرد المسلمين من الحبشة و تسليمهم إلى المشركين، و هذا الأمر هو الّذي تسبّب في أن يجد المسلمون في أرض الحبشة ملجأً و ملاذاً لهم من شر المشركين الّذين كانوا ينصبون لهم أشد العداوة و الكراهية، و لكن الآية على أيّة حال تقرر أنّ الاستكبار هو العامل الأساس للعداوة و البغضاء للحقّ و أهل الحقّ في حين أنّ التواضع يُعد أساساً للمحبّة و تعميق أواصر العلاقة و العاطفة مع أهل الإيمان و الخضوع مقابل الحقّ.

«الآية الثامنة» تتحرّك من موقع التأكيد على هذا المعنى و تقرير هذه الحقيقة المهمّة،

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 82.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 20

و هي أنّ الاستكبار هو سبب (الكفر و العناد و عدم المرونة مقابل الحقّ)، و هنا تستعرض الآية حالة (الوليد بن المغيرة المخزومي) الّذي كان يعيش في عصر نزول القرآن و تصف حالته في مقابل الحقّ و الآيات القرآنية و تقول: «ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلَّا

سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «1».

كلمة «سحر» توضح جيداً أنّ الوليد قد أقرّ و اذعن بهذه الحقيقة و هي أنّ القرآن الكريم له تأثير عجيب على الأفكار و القلوب و يتمتع بجاذبية كبيرة لعواطف الناس، فلو أنّ الوليد نظر إلى هذه الآيات نظر المنصف و الطالب للحقّ فإنّه سوف يعد هذا التأثير الغريب للقرآن دليلًا على إعجازه، و بالتالي سوف يؤمن به، و لكن بما أنّه كان ينظر إليه من خلال حجاب الغرور و التكبّر فإنّه كان يرى فيه سحراً كبيراً كسحر الأقوام السالفة، أجل فكلّما تراكم حجاب التكبّر على بصيرة الإنسان و قلبه فإنّه سينظر إلى آيات الحقّ بنظر الباطل و ينقلب الباطل في نظره إلى حقّ.

و المشهور أنّ الوليد كان يعيش الغرور إلى درجة أنّه كان يقول: «انَا الْوَحِيدُ بْنُ الْوَحِيد، لَيْسَ لِي فِي الْعَرَبِ نَظِيرٌ، وَ لَا لأَبي نَظِيرٌ!» في حين أنّ الوليد كان يُعتبر بالنسبة إلى الناس في ذلك الزمان رجلًا عالماً و قد أدرك عظمة القرآن جيداً و قال فيه عبارة عجيبة مخاطباً بني مخزوم: «إنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَ إنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوةً، وَ انَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمَرٌ وَ انَّ اسْفَلَهُ لَمُغْدَقٌ، وَ انَّهُ لَيَعْلُو وَ لَا يُعْلى عَلَيْهِ».

هذا التعبير يقرب بوضوح إلى أنّ الوليد أدرك عظمة القرآن أكثر من أيّ شخص آخر من قومه و لكن التكبّر و الغرور منعه من رؤية شمس الحقيقة و الإذعان لنور الحقّ.

و تأتي «الآية التاسعة» لتستعرض في سياقها خطاب مؤمن آل فرعون لقومه و يحتمل أن تكون هذه الآية جزءاً من خطابه أو جملة مستقلة معترضة من الآيات القرآنية الكريمة حيث نقرأ فيها قوله تعالى: «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا

______________________________

(1). سورة المدثر، الآية

22- 24.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 21

عِندَ اللَّهِ وَ عِندَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ» «1».

«يطبع» من مادّة «طبع» و تأتي في هذه الموارد بمعنى الختم، و تشير إلى عمل تم في الماضي و الحال و يراد به الشي ء الّذي يُراد بقائه دون استخدام و تصرف فيغلق عليه و يُسد بابه و يوضع عليها مادّة لاصقة إما من الطين أو الشمع أو ما شابه ذلك و يختم عليها بختم معين بحيث إذا أراد شخص فتحه سيضطر إلى كسر هذا الختم و بالتالي سيتّضح و يتبين أنّه تصرّف فيه فيحال إلى المحكمة.

و على هذا الأساس فإنّ عملية الطبع و الختم على قلوب المتكبرين يشير إلى أن عناد هؤلاء و عدائهم للحقّ قد أسدل على قلوبهم و أفكارهم حجاباً ظلمانياً بحيث لا يقدرون معه على إدراك حقائق عالم الوجود، و لا يرون سوى أنفسهم و مصالحهم و أهوائهم النفسية و نوازعهم الدنيوية، فكانت أذهانهم و عقولهم بمثابة ظروف مغلقة لا يمكن معها من إفراغ محتواها الفاسد و لا ملئها بالمحتوى السليم و الفكر الصحيح، و هذا في الواقع هو نتيجة التكبّر و حالة الجبارية الّتي يعيشها هؤلاء الاشخاص، و في الواقع فإنّ الصفة الثانية متولدة من الصفة الاولى لأنّ (جبار) تأتي في هذه الموارد بمعنى الشخص الّذي يعاقب و ينتقم من مخالفيه من موقع الغضب الشديد و النقمة لا من موقع العقل و الحكمة، و بعبارة اخرى: أنّ الجبّار هو الشخص الّذي لا يرى إلّا نفسه و أهوائه و لا يرى للآخرين محلًا من الإعراب سوى أنّهم اتباع له.

و بالطبع فإنّ هذه المفردة «الجبّار» تطلق أحياناً على اللَّه تعالى أيضاً و يراد

بها مفهومٌ خاص و هو الشخص الّذي يُجبر نقائص الآخرين و يصلحها.

و تنطلق «الآية العاشرة» لتشير إلى أصل كلي لا يختصّ بطائفة معيّنة، و هو أنّ الكافرين عند ما يقتربون من حافة جهنم يُقال لهم إنّ هذا العذاب هو بسبب أنّكم تتصفون بصفة التكبّر

______________________________

(1). سورة المؤمن، الآية 35.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 22

فتقول الآية: «قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ» «1».

و شبيه هذا المعنى قد ورد في آيات متعددة اخرى من القرآن الكريم منها ما ورد في الآية 60 من سورة الزمر: «ا لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ».

و من الملفت للنظر أنّ من بين جميع الصفات الأخلاقية الذميمة لأصحاب النار قد أكدت الآية على مسألة التكبّر ممّا يقرر هذه الحقيقة، و هي أنّ هذه الصفة الذميمة هي الأساس في سقوط هؤلاء في هذا المصير المؤلم بحيث تكون جهنم هي مقرّهم النهائي و مصيرهم الخالد.

و ممّا يلاحظ في هذه الآية أنّ كلمة «مثوى» من مادّة «ثوى تعني المحل الدائم و المقر الّذي يستقر فيه الإنسان في نهاية المطاف، و هو إشارة إلى أنّ هؤلاء لا نجاة لهم من العذاب الأليم في الآخرة.

«الآية الحادية عشر» تتحدّث أيضاً عن المتكبّرين بشكل عام و تقول: «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَ إِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَ كَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «2».

هذه العبارات المثيرة الواردة في هذه الآية الكريمة تخبر عن عمق المصيبة الّتي يبتلي بها هؤلاء المتكبرون، فإنّ اللَّه تعالى سيجازي هؤلاء الأشخاص و يعاقبهم من موقع أنّهم لا يجدون

في أنفسهم قبولًا للحقّ بحيث إنّهم لو رأوا جميع آيات اللَّه و معجزاته المتنوعة فإنّهم لا ينفتحون على الإيمان و لا يسلكون خط الصلاح و الهدى و لو أنّهم وجدوا الصراط المستقيم مفتوحاً أمامهم فإنّهم لا يسلكونه بل إذا وجدوا طريق الغي و الضلال فإنّهم يسلكونه من فورهم و يتحركون في خط الضلالة و الباطل و الانحراف.

______________________________

(1). سورة الزمر، الآية 72.

(2). سورة الأعراف، الآية 146.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 23

و عبارة «بغير الحقّ» هي في الواقع قيد توضيحي لأنّ العظمة و الكبرياء مختصان باللَّه تعالى و قدرته المطلقة، و أمّا بالنسبة للإنسان الّذي ليس سوى ذرّة صغيرة من ذرات عالم الوجود الواسع، فإنّ رداء العظمة و الكبرياء بالنسبة له ليس حقّاً و ليس من حقّه أن يرتدي هذا الرداء.

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ هذا القيد هو قيدٌ احترازي و قالوا: إنّ التكبّر على قسمين:

تكبّر في مقابل أولياء اللَّه فهو (بغير الحقّ) و في مقابل ذلك التكبّر في مقابل أعداء اللَّه و هو (بالحقّ) و لكن مع الالتفات إلى جملة «يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأرْضِ» يتّضح جيداً أنّ هذا التفسير غير منسجم مع سياق الآية لأنّ التكبّر في الأرض و في مقابل البشر جميعاً هو خلقٌ مذموم و قبيح بصورة مطلقة.

و على أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تشير في سياقها إلى أهم آثار و عواقب التكبّر الوخيمة، و هي أنّ مثل هذا الإنسان لا يذعن أمام آيات الحقّ و لا يؤمن بها بل على العكس من ذلك، فإنّه و بسبب هذه الصفة الذميمة سيدخل أبواب الضلالة، و يسلك سبيل الغي لدى مشاهدته فوراً.

أجل فإنّ صفة الكبر و الغرور تمثل حجاباً على قلب الإنسان و روحه ممّا يتسبّب

أن يرى الحقّ باطلًا و الباطل حقّاً، و بذلك يحجب عن الإنسان أبواب السعادة و النجاة و يفتح له أبواب الضلالة و على أساس أنّها أبواب السعادة، فما أعظم شقاء الإنسان الّذي لا يرى علائم الحقّ و يتغافل عنها و يسلك طريق الضلالة و الزيغ و الانحراف و يتصور أنّ هذا المسير هو الّذي يؤدي به إلى السعادة و النجاة!!

«الآية الثانية عشر» تقول: «لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ» «1».

و قد ورد ما يشبه هذا المعنى في القرآن الكريم مرّات عديدة من قبيل قوله:

______________________________

(1). سورة النحل، الآية 23.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 24

«وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمينَ» «1».

«وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدينَ» «2»

«إنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ الْمُعْتَدِينَ» «3»

«إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين» «4»

«إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ» «5»

«إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» «6»

و يقول في الآية محل البحث: «انَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ».

إنّ التدقيق في مثل هذه العبارات يوضح وجود رابطه خاصة بين هذه الامور المذكورة في هذه الآيات، بحيث يمكن القول أنّ القدر المشترك بين الصفات الرذيلة في هذه الآيات السبعة المذكورة آنفاً هو حبّ الذات و الغرور و العجب أو التكبّر الّذي يعد منبعاً للظلم و الفساد و الإسراف و الفخر على الآخرين.

و هنا تقول الآية: إنّ اللَّه تعالى لا يحب أيّاً من هذه الطوائف السبعة، و مفهومها أنّ من يتصف بهذه الصفات و يكون مصداقاً لأحد هذه الطوائف فإنّه مطرود من ساحة الربوبية و الرحمة الإلهية الواسعة، لأنّه متصف بأخطر الرذائل الأخلاقية، و هي التكبّر المانع من القرب إلى اللَّه تعالى.

«الآية الثالثة عشر» من الآيات محل البحث و كما ورد في الروايات في شأن نزولها أنّها

تتحدّث عن طائفة من نصارى نجران و تقول: «لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ...

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 140.

(2). سورة المائدة، الآية 64.

(3). سورة المائدة، الآية 87.

(4). سورة الأنعام، الآية 141.

(5). سورة الأنفال، الآية 58.

(6). سورة القصص، الآية 76.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 25

الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا» «1».

و تقول الآية الّتي تليها مؤكدة على أصل مهم و مصيري في حياة الإنسان و المجتمع البشري: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ الصَ لِحَتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُم مّن فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَ اسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَ لَا يَجِدُونَ لَهُم مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لَا نَصِيرًا» «2».

هذه الآيات ناظرة إلى دعوى واهية لطائفة من النصارى الّذين ذهبوا إلى إلوهية المسيح و تصوّروا أنّهم لو أنزلوا المسيح من هذا المقام و أنّه عبد اللَّه فإنّ ذلك سيكون هتكاً لحرمته و إهانة لساحته و مقامه السامي.

و أمّا القرآن فيقول لهم أنّه ليس المسيح و لا أي واحد من الملائكة أو من المقرّبين له هذا المقام، و لا يتصوّر أحد منهم ذلك بل يرون أنفسهم عباد اللَّه و يذعنون أمام هذه الحقيقة الناصعة، و يأتون بطقوس العبودية له، ثمّ يذكر القرآن أصلًا كليّاً و يقول: إذا تحرّك أي واحد من المخلوقين حتّى الأنبياء الإلهيين أو الملائكة المقرّبين مبتعداً عن خط العبودية و متلبساً بلباس الاستكبار أمام الحقّ تعالى و استنكف عن عبادته و تكبر فإنّه سوف لا يستطيع انقاذ نفسه من العذاب الإلهي و لا يستطيع أحد انقاذه من خالق العقاب الأليم المقرّر له.

و الملفت للنظر أنّ الآية الأخيرة تقرّر أنّ الإيمان و العمل الصالح يقعان في النقطة

المقابلة، للاستكبار و الأنانية و رؤية الذات أعلى من الواقع، و بالتالي يمكننا أن نستوحي منها هذه النتيجة، و هي أنّ من يسلك طريق الاستكبار و ينطلق في فكره و سلوكه من موقع التكبّر فليس له إيمان حقيقي و لا عمل صالح.

«الاستنكاف» في الأصل من مادّة «نكف» على وزن «نصر» و هي في الأصل بمعنى مسح قطرات الدموع على الوجه بالأصابع، و عليه فيكون الاستنكاف من عبودية اللَّه تعالى ______________________________

(1). سورة النساء، الآية 172.

(2). سورة النساء، الآية 173.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 26

يعني الابتعاد عنه و ذلك بسبب أحد العوامل المختلفة من قبيل الجهل أو الكسل و حب الراحة و غير ذلك، و لكن عند ما وردت جملة «اسْتَكْبَرُوا» بعد هذه العبارة فإنّ ذلك يشير إلى الاستنكاف الّذي يقع من موقع الكبر و الغرور و يكون معلولًا لهما، و بذلك يكون ذكر هذه الجملة بعد تلك العبارة في الواقع إشارة إلى هذه النكتة الدقيقة.

و على أيّة حال فإنّ التعبيرات المثيرة في هذه الآيات تدلّ على أهمية هذه المسألة و أنّ هذه الصفة الذميمة و هي الاستكبار تنتج هذه العواقب الوخيمة لدى كلّ إنسان يتصف بها.

و في «الآية الرابعة عشر» و الأخيرة من الآيات محل البحث نقرأ نتيجة اخرى من النتائج الخطيرة و الأليمة المترتبة على حالة الاستكبار حيث تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَ اسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ وَ كَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ» «1».

ففي هذه الآية الشريفة ورد أوّلًا (التكذيب بآيات اللَّه) إلى جانب (الاستكبار) و كما ذكرنا سابقاً أنّ أحد العلل المهمّة لإنكار آيات اللَّه و التصدي لدعوة الأنبياء هي حالة

الاستكبار الّتي يعيشها الأقوام البشرية، فأحياناً كانوا يقولون: ما هو امتياز هذا النبي عنا؟

و لما ذا نزلت عليه آيات اللَّه دوننا؟ و يقولون أحياناً اخرى: إن الاراذل و الفقراء من الناس إلتفّوا حوله و نحن أعلى شاناً من أن نكون كأحدهم، و لو أنّ هذا النبي قد طرد هؤلاء المؤمنين به من حوله فسوف يفسح لنا المجال للدخول في مجلسه و المشاركة في الاستماع لكلماته و مواعظه، و هكذا من خلال هذه التبريرات و الذرائع الواهية كانوا يعرضون عن الإيمان باللَّه و التحرّك في خط المسؤولية.

عبارة: «وَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ» و الّتي وردت في القرآن الكريم في هذه الآية فقط هي تأكيد واضح على عظمة هذه الخطيئة و هذا الاتصاف السلبي و الخطير في حركة الإنسان في الحياة، أي كما أنّ عبور الجمل (أو طبقاً لتفسير آخر: الحبل الضخم) غير ممكن و مستحيل من ثقب أبرة فإنّ دخول المتكبّرين إلى الجنّة و النعيم الإلهي ______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 40.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 27

محال أيضاً، و لعلّ ذلك يشير إلى أنّ طريق الجنّة إلى درجة من الدقّة بحيث يشبه ثقب الأبرة و لا يمر من خلاله إلّا من تحلّى بصفة التواضع و رأى نفسه من واقع حاله.

و جملة: «لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ» هي إشارة إلى ما ورد في الأحاديث الإسلامية أيضاً، و هو أنّ المؤمنين عند ما ينتقلون من هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الاخرى أنّ روحهم و أعمالهم تصعد إلى السماء و تفتح لهم أبواب السماء و يستقبلهم الملائكة، و لكن عند ما يصعد بروح الكفّار و المتكبّرين و أعمالهم إلى السماء فسوف توصد أبواب السماء أمامهم

و يناد المنادي أنّه أذهبوا بها إلى جهنم و بئس المصير.

النتيجة النهائية:

و نستنتج من مفهوم الآيات المذكورة آنفاً أنّ القرآن الكريم يعتبر (التكبّر و الاستكبار) من أقبح الصفات و الأعمال على مستوى السلوك البشري، و أنّ هذه الصفة الذميمة يمكنها أن تكون مصدراً للكثير من الذنوب العظيمة و حتّى أنّها قد تورث الإنسان حالة الكفر باللَّه تعالى و الأشخاص الّذين يعيشون هذه الحالة لا يتسنّى لهم إدراك معنى السعادة الحقيقية و الطريق إلى مرتبة القرب الإلهي موصد أمامهم، و عليه فإنّ على السالكين طريق الحقّ لا بدّ لهم قبل كلّ شي ء من تطهير أنفسهم و قلوبهم من تلوثات هذه الصفة الأخلاقية القبيحة بأن لا يروا لأنفسهم تفوّقاً في وجودهم على الآخرين و لا ينطلقوا في تعاملهم مع الناس من موقع التكبّر و الأنانية، فإنّ هذه الحالة من أكبر موانع الوصول إلى اللَّه تعالى و القرب المعنوي من الكمال المطلق.

التكبّر في الروايات الإسلامية:

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 28

و قد ورد في المصادر الروائية أحاديث كثيرة على مستوى ذمّ التكبّر و بيان حقيقته و نتائجه الوخيمة على الفرد في حركة الحياة و الواقع و طرق علاجها و لا يسعنا ذكر هذه الروايات بأجمعها في هذا المختصر، و لكننا نكتفي منها بما يلي:

1- ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ايَّاكُمْ وَ الْكِبْرَ فَانَّ ابْلِيسَ حَمَلَهُ الْكِبْرُ عَلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِآدَمَ» «1».

2- و هذا المعنى نفسه ورد بتعبير آخر في خطب نهج البلاغة حيث نقرأ في الخطبة القاصعة كلاماً كثيراً عن (تكبّر إبليس) و النتائج المترتبة على ذلك حيث يقول: «فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِابْلِيسَ اذْ احْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ ... عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ

إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ» «2».

إنّ العبارات المثيرة أعلاه تبين جيداً أنّ التكبّر و الأنانية و حالة الفوقية الّتي يعيشها إبليس و الإنسان بإمكانها أن تفضي، و لو في لحظات قليلة، إلى أخطر العواقب الوخيمة و كيف أنّها كالنار المحرقة الّتي تأتي على الأخضر و اليابس من الأعمال الصالحة فتحرقها و تجعلها رماداً منثوراً و تتسبب في الشقاء الأبدي و العذاب الخالد لصاحبها.

3- و في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إِحْذَرِ الْكِبْرَ فَانّهُ رَأْسُ الطُّغْيَانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّحْمَنِ» «3».

و هذا الحديث الشريف يبين هذه الحقيقة، و هي أن مصدر الكثير من الذنوب و الخطايا هي حالة الكبر و الفوقية الّتي يعيشها الإنسان بالنسبة إلى الآخرين.

4- و في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مَا دَخَلَ قَلْبَ امْرِءٍ شَىْ ءٌ مِنَ الْكِبْرِ إلّا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ مِثْلُ مَا دَخَلَهُ مِنْ ذَلِكَ! قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ» «4».

5- و في اصول الكافي ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «اصُولُ الْكُفْرِ ثَلَاثَةٌ،

______________________________

(1). كنز العمال، الحديث 7734.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 192 (الخطبة القاصعة).

(3). غرر الحكم، الحديث 2609.

(4). بحارالأنوار، ج 75، ص 186.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 29

الْحِرْصُ وَ الْاسْتِكْبَارُ وَ الْحَسَدُ، فَامَّا الْحِرْصُ فَانَّ آدَمَ حِينَ نُهِىَ عَنِ الشَّجَرَةِ حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى أنْ اكَلَ مِنْهَا، وَ امَّا الْاسْتِكْبَارُ فَابْلِيسُ حَيْثُ امِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَابى، وَ امَّا الْحَسَدُ فَابْنَا آدَمَ، حَيْثُ قَتَلَ احَدُهُمَا صَاحِبَهُ» «1».

و عليه فإنّ أوّل الذنوب الّتي نشأت على الأرض كان مصدرها هذه الثلاثة من الصفات الأخلاقية الذميمة.

6- و في حديث آخر عن الإمام الباقر و الإمام الصادق عليهما السلام قالا: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ

حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» «2».

7- و في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «اقْبَحُ الْخُلْقِ التَّكَبُّرُ» «3».

إنّ الأحاديث الإسلامية الواردة في المصادر الروائية كثيرة في هذا الباب و لكن هذا المقدار المعدود من هذه الأحاديث يكفي لبيان شدّة قبح هذه الرذيلة.

فقد قرأنا في الأحاديث المذكورة آنفاً أنّ الكبر هو مصدر الذنوب الاخرى، و علامة على نقصان العقل، و سبباً لإهدار طاقات الإنسان و قواه المعنوية، و يعتبر من أقبح الرذائل الأخلاقية بحيث إنّه يتسبب في حرمان الإنسان من دخول الجنة في نهاية المطاف، و كلّ واحد من هذه الامور بحدّ ذاته يمكن أن يكون عاملًا مؤثراً في ردع الإنسان عن التحرّك في هذا الاتجاه و سلوك طريق التكبّر، فكيف بأن يتصف بمثل هذه الصفة الذميمة الّتي تؤدي إلى سقوطه من مقام الإنسانية و مرتبة الإيمان في حركة التكامل المعنوي؟

التكبّر في منطق العقل:

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 289، ح 1.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 310.

(3). غرر الحكم، الحديث 2898.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 30

و مضافاً إلى الآيات و الروايات الشريفة فإنّ (التكبّر و الاستكبار) يُعتبر مذموماً في منطق العقل بشدّة، لأنّ العقل يرى أنّ جميع أفراد البشر هُم عباد اللَّه تعالى و كلّ إنسان يجد في نفسه نقاط إيجابية و قابليات و ملكات في طريق الكمال، و كلّهم من أب واحد و امّ واحدة، فهم سواسية في ميزان الخلق، فلا دليل على أن يرى أي إنسان نفسه أعلى من الآخرين و يفتخر على غيره و يسعى لتحقيره، و حتّى لو رأى في نفسه موهبة من اللَّه تعالى لم تكن لدى الآخرين، فمثل هذه الموهبة يجب أن تكون سبباً ليتحرك في خط الشكر

للَّه تعالى و التواضع لا في خط الكبر و الغرور.

إنّ قباحة هذه الصفة الذميمة يعد من البديهيات الّتي يشعر بها كلّ إنسان في وجدانه و يعترف بها، و لهذا فإنّ الأشخاص الّذين لا يعتنقون أي دين و مذهب يذمون حالة التكبّر و الأنانية أيضاً و يرون أنّها من أقبح الصفات و السلوكيات في دائرة السلوك الإنساني.

و في الواقع فإنّ قسماً مهماً من مسألة (حقوق الإنسان) الّتي تم تدوينها من قِبل مجموعة من المفكّرين غير المؤمنين ناظرة إلى مسألة التصدي لحالة الاستكابر الدولي، و مع أننا قد نرى من الناحية العملية نتائج معكوسة على هذا القرار الدولي بحيث أصبح أداة طيّعة بيد المستكبرين للتحرك من موقع إدانة الآخرين لا العمل على تطبيق هذه المقررات الأخلاقية بإنصاف على جميع الدول و المجتمعات البشرية المعاصرة.

و أساساً كيف يرتدي الإنسان رداء التكبّر في حين إنه و كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام كان في البدايه نطفة حقيرة، ثمّ جيفة نتنة، ثمّ هو فيما بينهما يحمل العذرة؟

الإنسان ضعيف و عاجز إلى درجة أنّ البعوضة تؤذيه و حتّى أقل من البعوضة، أي المكروب و الفيروس الّذي لا يُرى بالعين المجرّدة قد يوقعه في حبال المرض الشديد و يؤدي به إلى أن يرقد على سرير المرضى لمدّة طويلة، و الإنسان الّذي يتالم من حرارة الهواء أو برودته و لو انقطع المطر مدّة عنه لشعر بالهلاك و التلف و لو أنّ المطر زاد قليلًا عن المألوف لوقع في مصيبة أدهى، و لو أنّه قد ارتفع ضغطه قليلًا لوقع في خطر الموت و كذلك لو انخفض ضغطه أيضاً، و هو لا يعلم مصيره و مستقبله حتّى لمدى ساعة من المستقبل الاخلاق فى القرآن، ج 2،

ص: 31

القريب و لا يعلم متى يحين أجله و قد يكون أقرب الناس إليه هو الّذي يقتله و يذهب بحياته، و قد يكون الماء الّذي يروي حياته موجباً لموته أيضاً، و كذلك الهواء الّذي يتنسّمه و يستنشقه قد يتحول إلى إعصار مدمر في حركة سريعة فيتحول بيته و مأواه إلى خرائب و بذلك يفقد كلّ شي ء لأتفه الأسباب.

و من الامور الّتي تمثل علامة من علامات عجز الإنسان هي الأمراض الّتي تأخذ بحياة الإنسان و سعادته و سلامته و الّتي غالباً ما تكون بسبب المكروبات و الفيروسات الصغيرة جداً بحيث لا ترى إلّا بأقوى المجاهر و المكرسكوبات و بإمكانها أن تصرع أقوى الناس و اغناهم و أشدّهم قوّة و قدرة.

إنّ مرض السرطان الموحش الّذي يُعدّ مرض العصر في هذا الزمان و يحصد أكثر الضحايا على الرغم من سعي آلاف الأطباء و العلماء في كلّ يوم و صرف مليارات من الأموال لعلاجه و ايقافه عند حدّه هذا المرض كيف يحدث؟ أنّه يحدث بسبب طغيان و استكبار و تضخم خلية واحدة من خلايا البدن الّتي لا تُرى إلّا بالمجهر العظيم حيث تشرع هذه الخلية بالتكثّر من دون وازع أو نظم معين، و هكذا تتضخّم هذه الخلايا و تصبح على شكل غدّة سرطانية في زمن قليل.

إنّ الكثير من القادة العسكريين و رؤساء العالم الّذين يقودون الجيوش العظيمة قد صُرعوا بهذا الداء الوبيل، أي أنّ جيوشهم العظيمة لم تقدر على التصدي لخليّة صغيرة جداً من خلايا الجسد.

أجل فمثل هذا الضعف و العجز الذاتي للإنسان كيف يسوغ له إدّعاء العظمة و الكبرياء بحيث يرتدي لباس العزة و العظمة على المخلوقين في حين أنّ العظمة و الكبرياء مختصّتان باللَّه تعالى و ليس

لسواه من المخلوقات سوى العجز و الفاقة و الفقر.

و نختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام يبين فيه خلاصة لهذا البحث المنطقي ببيان جميل حيث يقول: «مِسْكِينُ بْنُ آدَمَ مَكْتُومُ الْاجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 32

تُؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ، و تُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ» «1».

فهل مع هذا الحال يليق بالإنسان أن يرى لنفسه تفوقاً و تكبّراً على الآخرين و يفتخر عليهم من موقع رؤية العظمة للذات و الأنا؟

ملاحظات:

اشارة

و قد بقيت هنا مسائل و امور مهمّة لا بدّ من بيانها و هي كما يلي:

1- تعريف التكبّر و حقيقته

قال علماء الأخلاق: إنّ أساس التكبّر و تعريفه هو أن يرى الإنسان علوّاً و تفوقاً على غيره، و عليه فالتكبّر يتكون من ثلاثة أركان: الأوّل أن يرى لنفسه مقاماً و مرتبة معيّنة، الثاني أن يرى لغيره أيضاً مقاماً معيّناً، و الركن الثالث أن يرى مقامه أعلى من مقام الآخر و يشعر بالراحة و الفرح لأجل ذلك.

و على هذا الأساس قالوا: إنّ التكبّر يختلف عن العُجب، ففي العجب لا توجد مقارنة مع الآخر، بل إنّ الإنسان يتملّكه حالة من رؤية العظمة في نفسه بسبب العلم أو الثروة أو القدرة أو حتّى العبادة حتّى لو لم يكن إنسان آخر على وجه الأرض، و لكن في حالة التكبّر هناك مقارنة مع الآخرين حتماً بحيث يرى نفسه أعلى منهم.

إنّ مفردة «الكبر و التكبّر» تارة تطلق على الحالة النفسية الّتي ذكرناها آنفاً، و تارة اخرى تطلق على العمل أو الحركة الناشئة من تلك الحالة النفسانية، مثلًا أن يجلس الإنسان أو يسير بخطوات أو يتحدّث بحديث يظهر منه انه يرى لنفسه تفوقاً على أقرانه و جلسائه، فمثل هذه الأعمال و السلوكيات تسمّى بالتكبّر أيضاً و الّتي تمتد في جذورها و أصلها إلى تلك الحالة الباطنية و النفسانية الذميمة.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكلمات القصار، 419.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 33

إنّ علائم التكبّر كثيرة، منها أنّ المتكبر يتوقع اموراً كثيرةً من الناس مثل أن يتوقع منهم أن يسلموا عليه، و أن لا يدخل أحداً إلى المجلس قبله، و أن يجلس في صدر المجلس دائماً، و الناس لا يرون لأنفسهم شخصية أمامه و لا يتكلمون معه من موقع الانتقاد

و النقد بل حتّى من موقع النصيحة و الموعظة فيحفظون احترامه و حرمته دائماً و يقفون أمامه موقف الخاضع الخاشع و يتحدثون بعظمته و مقامه السامي دائماً.

و من البديهي أنّ ظهور و بروز هذه الحالات في ممارسات الإنسان و سلوكياته تابع لدرجة شدّة و ضعف حالة التكبّر في واقعه النفساني، ففي بعض الموارد تتجلّى هذه العلامات جميعاً، و في بعضها الآخر يتجلّى قسم منها.

هذه الحالات و السلوكيات في الواقع الخارجي لها جذور باطنية و أحياناً تكون ضعيفة و خفيّة إلى درجة إن الإنسان نفسه لا يشعر بوجودها بل قد يتصور هذه الصفة الذميمة من موقع نقطة القوّة (من قبيل الاعتماد على النفس و توكيد الذات و الشخصية) فتختلط عليه الحالة، و أحياناً تكون ظاهرة إلى درجة أنّ الآخرين أيضاً يدركون وجودها في هذا الإنسان.

2- أقسام التكبّر

هناك مفاهيم متعددة تحكي عن هذه الحالة النفسانية حيث يتصور البعض أنّها مترادفة و بمعنى واحد، و الحال أنّ هناك اختلاف دقيق فيما بينها رغم أنّها تمتد جميعاً إلى أصل «التكبّر» و لكنها تتجلّى في زوايا و وجوه مختلفة.

(حالة الفوقية)، (الأنانية)، (الذاتية)، (عظمة الشخصية)، (التفاخر)، كلّ هذه المفاهيم تمد جذورها إلى أصل «التكبر» رغم أنّها تعني مفاهيم مختلفة و ناظرة إلى سلوكيات متنوعة في حركة الإنسان الإجتماعية و النفسية.

فقد تحكي الكلمة عن رؤية الذات أعلى من الآخرين و هي (النظرة الفوقية).

و قد يرى الإنسان نفسه هو الأجدر بسبب هذه الفوقية فيتحرّك ليستلم زمام الامور في جميع المناحي الإجتماعية و المناصب السياسية فهي (النظرة الأنانية). الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 34

و الشخص الّذي يسعى في المسائل الإجتماعية و خاصة عند بروز المشكلات و الأزمات أن يؤمّن منافعه الشخصية و لا يهتم بمصالح

الآخرين و منافعهم فهي (الأنانية).

و الشخص الّذي يسعى إلى تحكيم سلطته على الآخرين و جعل الآخرين طوع إرادته فهو مبتلى بحالة (السلطوية)، و أخيراً فإنّ الشخص الّذي يسعى لاظهار ما لديه من مقام أو ثروة أمام الآخرين و يتعزّز بها فهي حالة (التفاخر).

و على هذا الأساس فإنّ هذه الصفات و الحالات تشترك جميعاً في أصل «التكبّر» رغم أنّها تظهر و تتجلى بأشكال مختلفة.

3- التكبّر على مَنْ؟

يقسّم علماء الأخلاق التكبّر إلى ثلاث أقسام:

1- التكبّر أمام اللَّه.

2- التكبّر مقابل الأنبياء.

3- التكبّر على خلق اللَّه.

و المراد من التكبّر مقابل اللَّه تعالى و الّذي يُعد من أسوأ أنواع التكبّر و ناشئاً من غاية الجهل هو أنّ الإنسان الضعيف يدّعي الإلوهية، و ليس فقط أنّه لا يرى نفسه عبداً للَّه بل يسعى إلى دعوة الناس لعبادته أيضاً، أو يقول كما قال فرعون «.... انَا رَبُّكُمُ الْاعْلَى» «1» أو يقول «... مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ الهٍ غَيْري ...» «2».

و من البعيد جداً أن يرى الإنسان مثل «فرعون» الّذي حكم أرض مصر سنين متمادية أنه واقعاً «الربّ الأعلى للناس و أنّه معبود الناس جميعاً حتّى لو كان على درجة شديدة من قلّة العقل و قلّة الذكاء، إذن فالمراد حسب الظاهر أنّ فرعون و أمثاله و لغرض تحميق عامّة الناس و استحمار السُذّج منهم أن يدعوا هذا الأدّعاء لتثبيت أركان حكومتهم و سيطرتهم.

______________________________

(1). سورة النازعات، الآية 24.

(2). سورة القصص، الآية 38.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 35

الشكل الآخر من التكبّر إمام اللَّه هو ما نجده من تكبّر إبليس و أتباعه حيث استكبروا و رفضوا إطاعة اللَّه تعالى من موقع الأفضلية لأنفسهم و الاعتراض على الحكم الإلهي و أمره حيث قالوا: إنّ إبليس الّذي خلق من

النار لا ينبغي له السجود لمخلوق من تراب كما تقول الآية على لسان إبليس: «... لَمْ اكُنْ لِاسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَاءٍ مَسْنُونٍ» «1»، أو تقول الآية: «... قَالَ انَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» «2».

أجل فإنّ الحجاب العظيم للكبر و الغرور قد يصل إلى درجة أن يحجب عقل الإنسان و بصيرته عن رؤية حقائق الامور و أنّه موجود ضعيف فيرى انه أعلم من اللَّه تعالى.

القسم الآخر للتكبّر هو التكبّر في مقابل الأنبياء و المرسلين الّذين أرسلهم اللَّه تعالى إلى أقوامهم كما نرى هذه الحالة في طوائف المستكبرين من الأقوام السالفة أمام أنبيائهم اذ رفضوا طاعة الأنبياء من موقع التكبّر و الغرور و قالوا: «... أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ...» «3» أي موسى و هارون، و تارة كانوا يقولون مثل مقولة قوم نوح عليه السلام: «وَ لَئِنْ اطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ انَّكُمْ إذاً لَخَاسِرُونَ» «4».

و تارة اخرى يتذرعون بذرائع طفولية و يقولون من موقع العناد و اللجاجة: «وَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَائَنَا لَوْ لَا انْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا» «5».

القرآن الكريم يقول في سياق هذه الآيات الشريفة: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي انْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً» «6».

القسم الثالث من أقسام التكبّر هو التكبر في مقابل عباد اللَّه بحيث يرى نفسه أعلى منهم و يرى الآخرين من موقع الحقارة و الدناءة و أنّهم لا قيمة لهم أمامه و بالتالي فلا يرى ______________________________

(1). سورة الحجر، الآية 33.

(2). سورة الأعراف، الآية 12.

(3). سورة المؤمنون، الآية 47.

(4). سورة المؤمنون، الآية 34.

(5). سورة الفرقان، الآية 21.

(6). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 36

للآخرين حقّاً عليه بل يتوقع من الآخرين أن يحترمونه و يعترفون بعظمته

و يذعنون لأوامره و مطاليبه.

و هذا النوع من التكبّر له نماذج كثيرة في حياتنا الإجتماعية فلا حاجة للإطالة في شرحه و بيان مصاديقه و موارده، و قد يمتد هذا النوع من التكبّر و يصل إلى درجة في أعماق النفس إلى التكبّر في مقابل الأنبياء ثمّ التكبّر أمام اللَّه تعالى.

أجل فإنّ نار التكبّر و الغرور تنشأ من التكبّر في مقابل عباد اللَّه عادة ثمّ يتدرج الإنسان و يتمادى في هذه الحالة حتّى يتكبّر أمام دعوة الأنبياء و يرفض إطاعتهم و بالتالي يصل به الأمر إلى التكبّر أمام اللَّه تعالى.

4- دوافع التكبّر

للتكبّر أسباب و دوافع كثيرة تعود كلّها إلى أنّ الإنسان يتصور لنفسه كمالًا معيناً، و بسبب حبّه لذاته فإنه يرى نفسه أكبر من واقعها و يحتقر الآخرين كذلك.

بعض علماء الأخلاق مثل المرحوم (الفيض الكاشاني في كتابه المحجّة البيضاء يذكرون في مسألة دوافع الكِبر و أسبابه سبعة أسباب:

الأوّل: الأسباب الدينية من العلم و العمل، و الاخرى الأسباب الدنيوية من النسب و الجمال و القوّة و الثروة و كثرة الأعوان و الأصحاب، ثمّ ذكر الفيض الكاشاني لكلّ واحدة من هذه الأسباب شرحاً وافياً نذكره بشكل مختصر، حيث يقول:

الأوّل: العلم، و ما اسرع الكبر إلى العلماء و لذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «آفة العلم الخيلاء» فلا يلبث أن يتعزّز بعزّ العلم، و يستشعر في نفسه جمال العلم و كماله و يستعظم نفسه و يستحقر الناس و ينظر إليهم نظره إلى البهائم و يتوقع أن يبدؤوه بالسلام.

العلم الحقيقي هو الّذي يعرف الإنسان به نفسه و ربّه و خطر الخاتمة و حجة اللَّه على العلماء و عظم خطر العلم فيه، كما سيأتي في طريق معالجة الكبر بالعلم

و هذه العلوم تزيد خوفاً و تواضعاً و تخشعاً و يقتضي أن يرى أنّ كلّ الناس خير منه لعظم حجة اللَّه تعالى عليه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 37

بالعلم و تقصيره في القيام بشكر نعمة العلم و لهذا قال أبو الدرداء: «من إزداد علماً إزداد خوفاً» و هو كما قال.

الثاني: العمل و العبادة و ليس يخلو عن رذيلة الغرور و الكبر و استمالة قلوب الناس الزهّاد و العبّاد و يترشح الكبر منهم في الدنيا و الدين. أما الدنيا فهو أنّهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى من أنفسهم بزيارة غيرهم و يتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم و توقيرهم و التوسع لهم في المجالس و ذكرهم بالورع و التقوى و تقديمهم على سائر الناس من الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حقّ العلماء و كأنهم يرون عبادتهم منّة على الخلق، و أما فى الدين فهو أن يرى الناس هالكين و يرى نفسه ناجياً و هو الهالك تحقيقاً مهما رأى ذلك قال النبي صلى الله عليه و آله: «إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم»، و إنما قال ذلك لأن هذا القول يدل على أنّه لخلق اللَّه، مغتر باللَّه، آمن من مكره، غير خائف من سطوته، و كيف لا يخاف و يكفيه شراً احتقاره لغيره، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «كفى بالمرء شراً أن يحقر أخاه المسلم» و كم من الفرق بينه و بين من يحبّه للَّه و يعظمه لعبادته و يستعظمه و يرجو له ما لا يرجو لنفسه فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه للَّه فهم يتقربون إلى اللَّه بالدنو منه و هو يتمقت إلى اللَّه بالتنزه و التباعد منهم كأنه مرتفع عن مجالستهم، فما

أجدرهم إذا أحبّوه لصلاحه أن ينقلهم اللَّه الى درجته في العمل و ما أجدر إذا ازدراهم بعينه أن ينقله اللَّه الى حدّ الإهمال.

و هذه الآفة أيضاً قلما ينفك عنها العباد و هو أنّه لو استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر اللَّه له و لا يشك في أنّه صار ممقوتاً عند اللَّه و لو آذى مسلما آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار و ذلك لعظم قدر نفسه عنده و هو جهل و جمع بين العجب و الكبر و الاغترار باللَّه و قد ينتهي الحمق و الغباوة لبعضهم إلى أن يتحدّى و يقول سترون ما يجري عليه، و إذا اصيب بنكبة زعم أنّ ذلك من كراماته و أنّ اللَّه ما أراد به إلّا شفاء علته و الانتقام له.

فما أعظم الفرق بين مثل هذا الجاهل و بين بعض ما ورد عن أحد العباد الّذي قال بعد انصرافه من عرفات: كنت أرجو الرحمة لجميعهم لو لا كوني فيهم، فانظر إلى الفرق بين الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 38

الرجلين.

و نختم هذا البحث بحديث شريف عن النبي الأكرم حيث ورد في الروايات أنّه تحدث بعض الأصحاب عن رجل و ذكروه بخير للنبي صلى الله عليه و آله فأقبل ذات يوم فقالوا: يا رسول اللَّه هذا الّذي ذكرناه لك، فقال: إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان فسلم و وقف على النبي صلى الله عليه و آله و أصحابه، فقال النبي صلى الله عليه و آله: «أسألك باللَّه حدّثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك؟

فقال: اللهم نعم» «1»، فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه.

الثالث: التكبر بالنسب و الحسب

فالّذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب و إن كان أرفع منه عملًا و علماً و قد يتكبر بعضهم فيرى أنّ الناس له موالٍ و عبيد و يأنف من مجالستهم و مخالطتهم، و الحال أنّ الإسلام ليس فيه تفاضل بالحسب و النسب، كما روي عن أبي ذر أنّه قال: قاولت رجلًا عند النبي صلى الله عليه و آله فقلت له: يا ابن السوداء فقال النبي صلى الله عليه و آله: «يا أبا ذر طف الصّاع ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل».

قال أبو ذر فاضطجعت و قلت للرجل: قم فطأ على خدي» فانظر كيف نبهه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه رأى لنفسه فضلًا بكونه ابن بيضاء و إن ذلك خطأ و جهل فانظر كيف تاب و كيف قلع من نفسه شجرة الكبرياء خمص قدم من تكبر عليه إذ عرف أنّ العزّ لا يقمعه إلّا الذلّ «2».

و على أى حال فقد قرأنا كثيراً من النصوص الشريفة في القرآن و الروايات تؤكد لنا أن لا فضل لإنسان على آخر بالنسب و العرق و أمثال ذلك، فهذه كلها امور اعتبارية تعرض على الإنسان من الخارج، بينما تتقوم شخصية الإنسان و قيمته بما يتضمنه من امتيازات معنوية في محتواه الباطني، و على فرض أنّ ارتباطه مع بعض العظماء بالنسب يوجب له فضيلةً و امتيازاً على غيره، فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً للاحساس بالغرور و التكبّر و التفاخر على الآخرين.

و عند ما نرى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، أو الإمام زين العابدين عليه السلام في ______________________________

(1). المحجّة البييضاء، ج 6، ص 240.

(2). المحجة البيضاء، ج 6، ص 243.

الاخلاق فى القرآن،

ج 2، ص: 39

خطبته المعروفة في الشام يفتخران بنسبهما فذلك ليس من قبيل حبّ التفوق و التفاخر، بل بدافع آخر، حيث أرادا إظهار إمامتهما و رسالتهما الدينية الإلهية لبعض المغفلين و الجهلاء، مثل ما يقوم به قائد الجيش من تعريف نفسه للجنود و بيان مكانته و مقامه بهدف دعوتهم الى اطاعته و امتثال أوامره.

الرابع: التفاخر بالجمال و ذلك يجري أكثره بين النساء و يدعو ذلك التنقّص و الثلب و الغيبة و ذكر عيوب الناس، و من ذلك ما روي عن عائشة أنّها قالت: دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه و آله فلما خرجت فقلت بيدي- هكذا- أي أنّها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه و آله: «قد اغتبتها» و هذا منشؤه خفي الكبر لأنها لو كانت أيضاً قصيرة لما ذكرتها بالقصر فكأنها أعجبت بقامتها و استقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت.

الخامس: الكبر بالمال و ذلك يجري بين الملوك في الخزائن، و بين التجار في بضائعهم، و بين الدهاقين في أراضيهم، و بين المتجملين في لباسهم و خيولهم و مراكبهم فيستحقر الغني الفقير و يقول له أنت مكدّ و مسكين و أنا لو أردت لاشتريت مثلك و استخدمت من هو فوقك و من أنت و ما معك و أثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك.

و من ذلك تكبر قارون اذ قال تعالى «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ» «1» و قد ورد في التواريخ أنّه كان يخرج على قومه من بنى إسرائيل بجميع خدمه و حشمه البالغ عددهم أربعة آلاف نفر و هم يركبون الجياد المزينة بالحلي و

ملابس الزينة و يصحبون معهم الجواري الجميلات و هنّ في كامل الزينة من الجواهر و الذهب، و لكن كل ذلك ينتهي في لحظة حيث خسفت به الأرض بأمر اللَّه و ابتلعت ما كان له من ثروات و قصور و دفن قارون معها أيضاً و صار عبرة لمن اعتبر «2».

السادس: القوة و القدرة البدنية و شدة البطش أو الموقع السياسي أو الاجتماعي، و التكبر

______________________________

(1). سورة القصص، الآية 79.

(2). للاطلاع على قصة قارون بالتفصيل راجع تفسير الأمثل، ذيل الآية أعلاه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 40

به على أهل الضعف، و غالباً ما يتوفر هذا الحال لدى الامراء و الأقوياء و أصحاب السلطة من الناس حيث يرون أنفسهم «ظل اللَّه في الأرضين» و يتوقعون من الآخرين أن يتعاملوا معهم من موقع التعظيم و التكريم كما يفعل الغلمان و العبيد. و لو صدرت منهم أقل حركة أو كلمة خاطئة لا تتفق و مقامهم العالي و شأنهم الكبير فسوف لا ينجو صاحبها من العقاب.

و قد ذكر في بعض حالات السلاطين القدماء أنّه كلما أراد الناس الدخول عليه في مجلسه فيجب عليهم تكميم أفواههم بمنديل أو أي شي ء آخر لئلّا يتلوث معطف السلطان ببخار أفواه الرعايا و رائحة فمهم الكريهة، و هذا هو السبب في تفعيل عنصر الكبر و الغرور في نفوس هؤلاء و ما يتولد منه من أخطاء كبيرة و مآثم شنيعة تؤدي إلى الإسراع في زوال حكمهم و انهيار دولتهم.

السابع: التكبر بالأتباع و الأنصار و التلامذة و العلماء و العشيرة و الأقارب و البنين و يجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود و بين العلماء بالمكاثرة بالمتنفذين، و بالجملة فكلّ ما هو نعمة و أمكن أن يعتقد كمالًا و إن

لم يكن في نفسه كمالًا أمكن أن يتكبر به، حتّى أنّ المخنث يتكبر على أقرانه بزيادة قدرته و معرفته في صنعة المخنثين لأنّه يرى ذلك كمالًا فيفتخر به و إن لم يكن فعله إلّا نكالًا و كذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب و كثرة الفجور بالنسوان و الغلمان و يتكبر به لظنه أنّ ذلك كمال و إن كان مخطأً فيه «1».

هذه الامور السبعة هي امور قد يصاب الأشخاص بجميعها أو ببعض منها و يتطاولون على الآخرين بالفخر و التكبّر، و بالطبع لا تنحصر الدوافع بهذه السبعة، فإنّ كلّ صفة كمال أو نقطة قوّة معنوية أو مادية سواءً واقعية أو خيالية يمكن أن تسبب الغرور و تدفع بصاحبها إلى التكبّر على الآخرين.

و هذا الكلام لا يعني أنّ الإنسان يجب عليه للتوقي من التكبّر و الغرور أن يبتعد عن أسباب الكمال و لا يتحرّك باتجاه المعنويات و الكمالات الإنسانية و يقتل في نفسه عناصر الخير و الصلاح لكي لا تكون منشئاً للغرور و الفخر، بل الغرض من ذلك إن الإنسان كلّما

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 6، ص 240- 244.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 41

إزداد في علمه و عبادته و قوته و قدرته و ثروته فعليه أن يسعى ليكون أكثر تواضعاً و خشية و خضوعاً للحقّ، و يتفكر في أنّ هذه الكمالات و المواهب ليست ثابتة له بالذات و كلّها لا تعدّ شيئاً مقابل قدرة اللَّه تعالى و صفاته و أسمائه الحسنى

5- جذور التكبّر

إن حالة التكبّر الذميمة لها جذور كما هو الحال في سائر الرذائل الأخلاقية، فينبغي البحث عنها بدقة و معرفتها، و في غير هذه الصورة فإنّ قلع هذه الصفة من أعماق النفس و تطهير القلب منها يكون

أمراً محالًا.

و يذكر بعض علماء الأخلاق مثل المرحوم (الفيض الكاشاني) في كتابه المحجّة البيضاء أربعة جذور و اصول للتكبّر و هي: العجب، الحقد، الحسد، الرياء.

و يرى الفيض الكاشاني أنّ جذور التكبّر الباطنية تتمثّل في (العجب) فهذه الحالة من رؤية الذات و الإعجاب بها و تعظيمها هي السبب في أن يرى الإنسان نفسه أعلى من الآخرين و أفضل منهم و بالتالي يتحرّك في التعامل معهم من موقع التفاخر و التعالي، و هناك أصل آخر و هو (الحقد) و الكراهية الّتي يشعر بها الإنسان تجاه الشخص الآخر حيث يتسبب ذلك في أن يتظاهر بمواهبه و امتيازاته أمام ذلك الشخص، و الثالث (الحسد) الّذي يتسبّب في إيجاد هذه الرذيلة الأخلاقية، و الرابع (الرياء) الّذي يؤدي إلى أن يتظاهر الإنسان بامتيازاته أمام الآخرين فيورثه ذلك حالة من التكبّر عليهم.

هذه الجذور الأربع تشكل الاصول و الاسس لصفة التكبّر، و لكن حسب الظاهر أنّ جذور التكبّر لا تنحصر في هذه الصفات الأربع بل هناك امور اخرى يمكنها أن تكون منشئاً و مصدراً للتكبّر.

6- النتائج و العلائم

إنّ الأمراض الأخلاقية هي مثل الأمراض النفسية و البدنية تكون مصحوبة دائماً بآثار و علائم ظاهرية، فكما أنّ الإنسان إذا اشتكى مرضاً في الكبد ظهرت عليه آثار هذا المرض الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 42

بصور مختلفة على جلده و وجهه و لون عينه و لسانه و أمثال ذلك، فهكذا إذا ابتلي الشخص بمرض أخلاقي مزمن فتظهر آثاره و علائمه في أعماله و سلوكياته و كلماته.

و قد أورد الكبار من علماء الأخلاق آثار الكبر و علائمه في كتبهم المفصّلة، و هذه الآثار و العلائم قد تظهر على الوجه أحياناً مثل أن يقطب المتكبّر وجهه في مقابل الآخرين و ينظر

إليهم بنظرة الاستحقار و المهانة بل قد لا يكون مستعداً لأن يقابلهم بجميع وجهه.

و أحياناً اخرى تظهر علائم هذا الخلق الذميم على كلمات الشخص، فيتحدّث بعبارات فيها نوع من المبالغة عن نفسه و يذكر نفسه بضمير الجمع بل قد يتغير لحن صوته لدى تحدّثه عن نفسه و عن الآخرين بما يحكي عن حالة الغرور و التكبّر الّتي تعتمل في نفسه.

فتارة يتجلّى الكبر في أن يُبيح لنفسه التحدّث و قطع كلام الآخرين حيثما شاء و لا يسمح للآخرين بالحديث و لا يُصغي لحديثهم و يتوقع منهم الاصغاء لحديثه و كلامه فقط، و يرى أنّ كلام الآخرين طويلًا مهما قصر و كلامه الطويل و الفارغ قصيراً و ضرورياً.

و أحياناً يتجلّى التكبّر على حركاته و أعماله و سلوكياته فيحب أن يقف الآخرون تعظيماً له بينما يجلس هو أمامهم و لا يقوم لأحد عند ما يرد عليه.

و نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ ارَادَ انْ يَنْظُرَ الَى رَجُلٍ مِنْ اهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ الَى رَجُلٍ قَاعِدٍ وَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَوْمٌ قِيَامٌ» «1».

و كذلك يحب أن لا يكون وحيداً عند ما يمشي في الشارع و أمام الناس بل يسير معه و خلفه جماعة، فقد ورد في الحديث الشريف «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ الْاوْقَاتِ يَمشِي مَعَ الْاصْحَابِ فَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّقَدُّمِ وَ يَمْشِي فِي غِمَارِهِمْ» «2».

و كذلك يحب المتكبّر أن يأتي الآخرون لرؤيته دون أن يذهب هو لرؤية الآخرين، و يجتنب الجلوس مع الفقراء و المحتاجين و من يظهر عليه انه من أهل المستويات الدانية في المجتمع، و لو انه اتفق له أن سار معه مثل هؤلاء الأشخاص فإنه يسعى جاهداً للتخلّص ______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 70، ص

206 طبعة الآخوندي.

(2) مسند الفردوس للديلمي، مطابق لنقل المحجّة البيضاء، ج 6، ص 247.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 43

منهم في أقرب فرصة أو يوحي لهم بالإبتعاد عنه.

و يحب أيضاً أن لا يعمل لأهل بيته شيئاً من السوق بيده و لا يقوم بعمل من أعمال البيت و تقوم زوجته و أولاده و خادمه بإظهار مراتب الخضوع أمامه و السعي لتلبية حوائجه و أطاعة أوامره.

و أحياناً تظهر آثار التكبّر على طريقة لباسه و كيفيّته و خاصّةً في الألبسة الغالية الّتي تجلب الإنتباه أو في مركبه و سيارته أو في ظاهر بيته و وسائل معيشته، أو في مكان كسبه و محله و تجارته بل حتّى في لباس أولاده و أقربائه و المنتسبين إليه و طريقة حياتهم حيث يكون هدفه من كلّ ذلك أن يتفاخر على الآخرين بثروته و يبرز إليهم بنقاط قوته ليثبت لهم انه أفضل منهم و أكثر امتيازاً و عنواناً.

و بالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني أن يمتنع الإنسان من لبس الجيّد من الثياب و يلبس الرث منها بل كما ورد في الحديث النبوي الشريف «كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ الْبِسُوا وَ تَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَ لَا مَخِيلَةٍ» «1».

و خلاصة الكلام أنّ ظهور هذا الخلق الذميم أي (التكبّر) يمكن أن يستوعب جميع مناحي و شئون حياة الإنسان و لا يمكن أن يبتلي الإنسان بهذه الصفة الرذيلة مهما كانت طفيفة إلّا و ظهرت على قسمات وجهه و في طيّ كلماته و أعماله و سلوكياته.

7- مفاسد التكبّر و عواقبه الوخيمة

إن هذا الخلق الذميم كما سبقت الإشارة إليه له آثار مخربة جداً و عواقب وخيمة تعرض على روح الإنسان و معتقداته و أفكاره، و كذلك تعرض على المجتمع البشري أيضاً بحيث يمكن القول

انه ليس هناك جهة من جهات حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية تقع في أمان من عواقب هذه الصفة الأخلاقية السلبية، و يمكن الإشارة إلى عدّة موارد منها فيما يلي:

______________________________

(1). سنن ابن ماجة، ح 3605.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 44

1- التلوث بالشرك و الكفر

إنّ أوّل مفسدة و أخطرها هو أن يورث التكبّر صاحبه التلوث بالشرك و الكفر، فهل لكفر إبليس و انحرافه من مسير التوحيد بل حتّى اعتراضه على حكمة اللَّه تعالى و أمره، له أصل و مصدر غير الكبر في نفس إبليس؟

و هل أنّ الفراعنة و النمروديين و غيرهم من الأقوام الطاغية الّذين رفضوا دعوة الأنبياء كان لهم دافع غير التكبّر؟

أنّ التكبّر لا يبيح للإنسان أن يستسلم و يذعن أمام الحقّ، لأن التكبّر و الغرور هو في الحقيقة حجاب سميك على بصيرة الإنسان فيحجبه عن رؤية جمال الحقّ بل أحياناً يرى ملائكة الحقّ على شكل موجود مخيف و موحش، و هذا من أعظم الضرر الّذي يلحق بالإنسان من جراء التكبّر، و لعلّه لهذا السبب ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام عند ما سأله الراوي عن أقل درجة الإلحاد فقال له الإمام «إنَّ الْكِبْرَ ادْنَاهُ» «1».

2- الحرمان من العلم و المعرفة

و أحد العواقب المشؤومة للتكبّر هو أنّ الإنسان يحرم نفسه من العلم و المعرفة و يعيش حالة الجهل المركب دائماً لأن الإنسان إنّما يصل إلى حقيقة العلم و المعرفة فيما لو سعى لتحصيلها من أي شخص و أي طريق كما يبحث الشخص عن جوهرة ثمينة و الحال أنّ المتكبّر لا يكون مستعداً لتحصيل العلوم و المعارف من الأشخاص الّذين يراهم دونه أو في مرتبته.

الأشخاص الّذين يتحرّكون في سبيل طلب العلم و المعرفة هم

الّذي يعيشون التحرر في أفكارهم من القوالب النفسانية في حين أنّ صفة الكبر و الغرور لا تسمح للإنسان أن يستوعب مطلباً مهماً.

و لهذا نقرأ في الحديث المعروف عن الإمام الكاظم عليه السلام في كلامه لهشام بن الحكم يقول:

«إنَّ الزَّرْعَ يَنْبُتُ فِي السَّهْلِ وَ لَا يَنْبُتُ فِي الصَّفَا فَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتوَاضِعِ ______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2 ص 309، باب الكبر، ح 1.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 45

وَ لَا تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتَكَبِّرِ الْجَبَّارِ، لِانَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّوَاضُعَ آلَة الْعَقْلِ وَ جَعَلَ التَّكَبُّرُ مِنْ آلَةِ الْجَهْلِ» «1».

3- التكبّر المصدر الأساسي للكثير من الذنوب لو تأملنا في حالات الأشخاص الّذين يعيشون الحسد، الحرص، بذاءة اللسان، و الذنوب الاخرى لرأينا أنّ الأصل و مصدر جميع هذه الرذائل الأخلاقية تنشأ من صفة التكبّر، فهؤلاء لا يجدون في أنفسهم رغبة لرؤية من هو أفضل منهم، و لهذا فإنّ أيّة نعمة و موهبة و موفقية تكون من نصيب الآخرين فسوف يتعاملون معهم من موقع الحسد.

إن هؤلاء و لغرض توطيد أركان حالة الفوقية لشخصياتهم فإنّهم يحرصون على جمع الأموال و الثروات.

و لغرض إظهار العلو على الآخرين يبيحون لأنفسهم تحقيرهم و يلوثون ألسنتهم بأنواع البذاءة في الكلام و السبّ و الشتم و الهتك لإشباع هذه الحاجة و النقص في أنفسهم و لإطفاء هذه النار المستعرة في وجودهم.

و نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين قوله «الْحِرْصُ وَ الْكِبْرُ وَ الْحَسَدُ دَوَاعٍ الَى تَقَحُّم الذُّنُوبِ» «2».

و نقرأ في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أيضاً أنّه قال: «التَّكَبُّرُ يُظْهِرُ الرَّذِيلَةَ» «3».

4- التكبّر مصدر النفرة و الفرقة

إن من البلايا المهمة الّتي ترد على المتكبّرين هو الإنزواء الإجتماعي و تفرّق الناس من حولهم لأن

شرف الإنسان و عزّته الذاتية لا تسمح له بالخضوع أمام الأشخاص المغرورين و المتكبّرين و الانصياع لأوامرهم، و لهذا السبب فإنّ الناس و حتّى المقرّبين سوف يتحرّكون بعيداً عن هؤلاء المتكبّرين، و على فرض أنّ الآخرين يجدون أنفسهم مضطرين لمعاشرتهم ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 1 ص 153.

(2). نهج البلاغة، الحكمة 371.

(3). غرر الحكم، ح 523.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 46

بسبب الروابط الإجتماعية و بعض الضرورات المعيشية فإنّهم يجدون في أنفسهم التنفر و الكراهية لهؤلاء.

و نقرأ في حديث عن الإمام أمير المؤمنين أنّه قال: «مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ» «1».

و في حديث آخر عن الإمام الصادق أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «امْقَتُ النَّاسِ الْمُتَكَبِّرُ» «2».

و في حديث آخر عن الإمام علي أنّه قال: «ثَمَرَةُ الْكِبْرُ الْمَسَبَّةُ» «3».

و هذا المضمون ورد أيضاً في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لَيْسَ لِلْمُتَكَبِّرِ صَدِيقٌ» «4».

و قال أيضاً في حديث آخر: «مَا اجْتَلَبَ الْمَقْتَ بِمِثْلِ الْكِبْرِ» «5».

5- التكبّر سبب هدر المواهب الدنيوية

إن كلّ إنسان لا يكون موفقاً في حياته إلّا إذا استطاع جذب تعاون الآخرين و انسجامهم معه من موقع توطيد أواصر المحبة و التعاون المشترك بين الأفراد، أما الشخص الّذي يعيش الإنزواء و يسلك في حياته و معيشته الوحدة فإمّا أن يفشل في اطار المعيشة الكريمة أو يكون له نصيب قليل من الموفقية في حركة الحياة، و بما أنّ التكبر يدفع بالإنسان إلى زاوية الإنزواء و العزلة فإنّ توفيقاته في حركة الحياة الإجتماعية ستكون قليلة بالتبع.

و نقرأ في حديث عن الإمام أمير المؤمنين أنّه قال «بِكَثْرَةِ التَّكَبُّرِ يَكُونَ التَّلَفُ» «6» أي تلف و هدر عوامل التوفيق و عناصر النجاح في الحياة.

و يمكن

تفسير هذا الحديث بشكل آخر و هو أن يقال بأن الكثير من الحروب الدامية و النزاعات المدمرة تنشأ من حالة التكبّر و الاستكبار، فالبعض يستلم زمام الامور في دول ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 74، ص 235.

(2). بحار الأنوار، ج 70، ص 231.

(3). غرر الحكم، ح 4614.

(4). المصدر السابق، ح 7162.

(5). المصدر السابق، ح 7167.

(6). غرر الحكم، ح 7169.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 47

العالم و يريد أن يتحكم و يتسلط على الآخرين من موقع القوّة و القدرة و هذا بدوره يكون سبباً في حصول النزاعات الدموية الكثيرة فتهدر الطاقات و تُسفك الدماء الكثيرة في هذا الطريق و تتحول الديار إلى الخراب الشامل.

و أحياناً يتجلّى التكبّر من خلال القومية و العرقية حيث يرى البعض أنّهم أطهر عرقاً و أسمى قومية من الأقوام الاخرى و هذه النظرة المتعالية تمثل أحد الأسباب المهمة للحروب طيلة التاريخ البشري.

فالنظرة الفوقية و الاستعلائية للجنس الآري هو أحد العلل المهمة في حدوث الحروب العالمية الّتي خلفت ملايين القتلى و المجروحين و أتلفت مليارات الثروات و الأموال و خلّفت اضراراً لا تحصى

و خلاصة الكلام أنّه: إذا درسنا الخسائر الّتي تتسبّب بواسطة التكبّر على روح و جسم الإنسان و في حياته الفردية و الاجتماعية لرأينا أنّه ليس هناك صفة من الصفات الذميمة تكون هدّامة و مخربة إلى هذه الدرجة الّتي تنتجها حالة التكبّر في الإنسان.

8- علاج التكبّر

لقد بحث علماء الأخلاق علاج التكبّر في دراسات مفصلة تدور أغلبها حول محور العلاج بطريقين: العلم و العمل.

أمّا الطريق (العلمي) فيمكن تصويره بأن يتفكر الأشخاص المتكبّرين في أنفسهم أنّهم مَن هم و أين كانوا و إلى أين يذهبون و ما هو مصيرهم في النهاية؟

و يتفكّرون كذلك في عظمة اللَّه

و يشاهدون أنفسهم أمام قدرة اللَّه المطلقة و رحمته الواسعة.

إن التاريخ ملي ء بالعِبر و الحوادث المثيرة عن مصير الفراعنة و النمروديين و الجبابرة من الأكاسرة و القياصرة و أمثالهم بحيث لو أنّ الإنسان قرأ قليلًا من هذه الحوادث و الوقائع التاريخية لعلم أنّ الانتصارات و الملذات الدنيوية لا تعدّ شيئاً يمكن الاعتماد عليه على الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 48

مستوى بيان عظمة الإنسان. عند ما يكون الإنسان في أوّله نطفة مهينة و في آخره جيفة نتنة و يعيش بين هذين عدّة أيّام فلا يعدّ ذلك شيئاً يستحق الفخر و التكبّر و الغرور.

إنّ الإنسان في بداية تولده ليس سوى طفل ضعيف جدّاً و عاجز عن كلّ شي ء و حتّى انه لا يتمكن من حفظ الماء الملقّى في فمه بشفاهه، و كذلك عند ما يبلغ سن الشيخوخة يكون ضعيفاً إلى درجة أنّه إذا أراد المسير عدّة خطوات و كان يتمتع بأقدام سالمة فإنه لا يتمكن من ذلك إلّا بأن يستريح كُلما قَطّعَ كلّ عدّة خطوات و يجدد طاقته ثمّ ينهض ليكمل مسيره متوكأً على عصاه و قد احنى الدهر قامته، و لو لم يكن ذا أقدام سليمة فإمّا أن يكون قد ابتلي ببعض عوارض الشيخوخة الّتي يبتلي بها أكثر الأشخاص فيجب أن يُنقل من جهة إلى اخرى بواسطة الكرسي المتحرك.

و نقرأ في حديث عن الإمام الباقر أنّه قال «عَجَباً لِلْمُخْتَالِ الْفَخُورِ وَ انَّمَا خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يَعُودُ جِيفَةً وَ هُوَ فِيَما بَيْنَ ذَلِكَ لَا يَدْرِي مَا يُصْنَعُ بِهِ» «1».

إذا ذهبنا يوماً إلى المستشفيات و رأينا الكثير من الأقوياء و الأصحّاء يرقدون على أسرّة المستشفى بسبب حادثة اصطدام أو مرض معيّن حيث لا قدرة لهم على الحراك،

فندرك حينذاك مقدار قوّة الإنسان و قدرته البدنية الّتي يفخر بها.

و لو نظرنا إلى الأثرياء المعروفين الّذين قد استولى عليهم حالة الإنهيار الاقتصادي و الإفلاس المادي بتغير بسيط فتحوّل حالهم من أعلى المقامات إلى أسفل السافلين و حينئذٍ نعلم أنّ الثروة الطائلة ليست شيئاً يعتمد عليه الإنسان و يفتخر به.

و لو نظرنا إلى أصحاب القدرة و السلطة في العالم و كيف أنّهم مع حدوث التغير في الوضع السياسي يسقطون من كراسيهم و عروشهم و يفقدون قدرتهم أو يقبعون خلف قضبان السجن أو يحكم عليهم بالأعدام لرأينا القدرة الظاهرية ليست قابلة للاعتماد و الفخر.

إذاً فبأي شي ء يفخر الإنسان؟ و كيف يستولي عليه الغرور و يباهي الآخرين و يفتخر عليهم.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 229.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 49

لقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام زين العابدين عليه السلام انه عند ما وقع نزاع بين سلمان الفارسي و بين شخص مغرور و متكبّر، فقال ذلك الشخص لسلمان: مَنْ أنت؟ فقال له سلمان: أما اولاي و اولاك فنطفة قذرة، و أما اخراي و اخراك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، و وضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو كريم، و من خف ميزانه فهو اللئيم» «1».

و الخلاصة أنّ الإنسان كلّما تفكر و تأمل في هذه الامور أكثر هبط من مركب الغرور و الكبر و وجد نفسه من موقع الحقيقة الشاخصة و بعيداً عن الأوهام النفسانية و الحالات الشيطانية.

و أما علاج التكبّر على المستوى (العملي) فهو أن يسعى الإنسان في دراسة سلوكيات المتواضعين و يتحرّك مثلهم في تعامله الاجتماعي حتّى تترسخ هذه الفضيلة في أعماق وجوده و تتجذر في واقعه النفساني فيكون متواضعاً أمام اللَّه و الناس فيسجد

على التراب قائلًا: «لَا الَهَ إلَّا اللَّهُ حَقّاً حَقّاً سَجَدْتُ لَكَ تَعَبُّداً وَ رِقّاً لَا مُسْتَنْكِفاً وَ لَا مُسْتَكْبِراً».

و أمثال هذه العبارات.

و كذلك يلبس الملابس البسيطة و يأكل الأطمعة غير الممنوعة و يجلس مع عماله أو خدامه على مائدة واحدة و يتقدّم بالسلام على الآخرين و لا يجلس صدر المجلس و لا يتقدم على الغير في مشيه.

أن يتعامل في علاقاته مع الصغير و الكبير من موقع العاطفة الجياشة و المحبّة الصميمية و يجتنب مجالسة المتكبّرين و المغرورين و لا يرى لنفسه أي امتياز على الآخرين، و الخلاصة أن يتحرّك في سلوكه بعلامات التواضع أو يسعى للتظاهر بمظاهر التواضع في البداية في عمله و كلامه و حالاته الاخرى حتّى تصير لديه عادة ثمّ ملكة التواضع.

و جاء في حالات نبي الإسلام أنّه كان يجلس على الأرض و يأكل الطعام و يقول: «إنَّمَا

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70 ص 231، ح 24.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 50

الاخلاق فى القرآن ج 2 77

أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ» «1».

و قد سمعنا الحديث المعروف عن الإمام علي أنّه كان لديه يوماً قميصان اشترى أحدهما بأربعة دراهم و الآخر بثلاث دراهم ثمّ قال لغلامه قنبر: اختر أحدهما، فاختار قنبر القميص الّذي قيمته أربعة دراهم و أختار الإمام ما كان بثلاث دراهم «2».

و جاء في خطبة 160 من نهج البلاغة أنّ الإمام كان يتحدّث عن نبي الإسلام و يقول:

«وَ لَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الْارْضِ وَ يَجْلِسُ جَلْسَةَ الْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَ يَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَ يَرْكَبُ الْحِمارَ الْعَارِيَ وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ».

و طبعاً هذه الامور و بسبب تغير الظروف الزمانية و المكانية لا تُعتبر معمولًا بها في هذا العصر و لا

يوصى باتباعها و سلوكها، و لكن الهدف هو أننا بمطالعة حالات هؤلاء العظام و التوجّه إلى مقامهم السامي نتعلم التواضع من سلوكياتهم و نُبعد بذلك الكبر و الغرور عن ذواتنا و أفعالنا.

هذا كلّه من جهة، و من جهة اخرى:

بما أنّ التكبّر له أسباب و علل مختلفة تمت الإشارة سابقاً إلى سبع علل منها ذكرها علماء الأخلاق، فلأجل إزالة كلّ واحدة من هذه العلل و الأسباب هناك طرق و خطوات عملية و علمية للتغلب عليها و معالجتها منها:

الأشخاص الّذين يجدون في أنفسهم افتخاراً على الناس بسبب نسبهم و عراقتهم الاسرية يجب أن يتأمّلوا في هذه الحقيقة و هي أوّلًا: إن افتخارهم بكمالات الآخرين من الآباء و الأجداد هو عين الجهل، فلو أنّ الأب كان إنساناً فاضلًا و لكن الابن يفتقد إلى أدنى فضل و كمال فلا ينتقل كمال الأب و فضله إلى الابن و لا يوجد في الابن قيمة مشهودة،

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 6 ص 256.

(2). بحار الأنوار، ج 76 ص 310.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 51

و ثانياً: إذا تأمل جيداً وجد أنّ أباه نطفة و جدّه الأعلى تراباً و هذه الامور ليست ذات قيمة يفتخر بها الإنسان و يرى لنفسه امتيازاً على الآخرين.

و قد ورد في الحديث الشريف أنّ لقمان الحكيم قال لابنه «يَا بُنَيَّ وَيْلٌ لِمَنْ تَجَبَّرَ وَ تَكَبَّرَ، كَيْفَ يَتَعَظَّمُ مَنْ خُلِقَ مِنْ طِينٍ، وَ الَى طِينٍ يَعُودُ؟ لَا يَدْري الَى مَاذَا يَصِيرُ؟ الَى الْجَنَّةِ فَقَدْ فَازَ أوْ الَى النَّارِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً».

و أمّا الأشخاص الّذين يتملكهم الغرور و التكبّر بسبب جمالهم الظاهري فيجب أن يتأملوا جيّداً أنّهم و بسبب مرض بسيط يصيب الجلد و الوجه سيتحول جمالهم الباهر إلى وجه مشوّه

و قبيح و حتّى لو لم يصبهم ذلك المرض فإنّهم بعد أعوام قليلة سيصلون إلى مرحلة الشيخوخة حيث يتراكم غبار السنين على وجوههم و يغيّر من ملامحه الجميلة و يحني قامتهم المستقيمة و يدبُ في مفاصلهم العجز و الضعف فإذا كان ذلك الشي ء المورث للفخر زائلًا بهذه السرعة، فكيف يكون سبباً للغرور و التفوق و التكبّر على الآخرين؟

و إذا كان سبب التكبّر هو قوته البدنية و قدرته الجسمانية فيجب أن لا ينسى انه قد يصاب أحياناً بعارضة قلبية صغيرة أو سكتة دماغية تكون نتيجتها أن يصاب قسم من بدنه بالشلل و العجز عن الحركة تماماً بحيث لا يتمكن من دفع حتّى و يتوقف الذباب عن نفسه و لو أصابه شوكة أو وخزته ابرة لا يتمكن من إخراجها أو التخلص منها لوحده.

و أمّا لو كان سبب التكبّر هو الثروة و كثرة المال و الأعوان و الأنصار فيجب أن يعلم أوّلًا:

أنّ هذه الامور خارجة عن وجود الإنسان و لا تمثل شيئاً من ذاته و حينئذٍ لا تكون من عناصر الفخر و المباهاة، فكيف يفتخر الإنسان بشخصيته و عزّته الذاتية بامور من قبيل السيارة أو البيت أو الحصان و أمثال ذلك؟ و كيف يتصور شرفه و كرامته في مثل هذه الامور المادية و الأجنبية عن ذاته؟ هذه الامور يمكنها أن يمتلكها اللئيم من الناس و اوضعهم نسباً و شرفاً، الامور الّتي يستطيع اللصوص بكلّ سهولة سرقتها منه فما أهون الشرف الّذي يستطيع اللصوص سرقته فيفتقده صاحبه بين عشية و ضحاها.

و مضافاً إلى ذلك فنحن نعلم أنّ الأموال و الثروات الدنيوية تنتقل من يد إلى يد دائماً فالثروات الطائلة لدى الأغنياء قد تكون يوماً من نصيب الفقراء و يسكن

أصحاب القصور

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 52

يوماً في الأكواخ.

فمثل هذا الشي ء بمثل هذا القدر من التزلزل و الاهتزاز كيف يمكنه أن يكون عنصر الافتخار للإنسان و سبباً لغفلته عن مصيره و كمالاته المعنوية في حركة الإنسان و الحياة؟

و إذا كان سبب الكبر و الغرور هو العلم الكثير و مع الأسف يُعتبر هذا من أقبح الآفات النفسانية الّتي تصيب الإنسان و بهذه النسبة يكون علاجه أصعب و أعقد من العلل الاخرى و خاصة مع ورود الكثير من الآيات و الروايات في فضل العلم و التعلم حيث يمكن أن يصاب الإنسان بالغرور و الكبر بعد قرائتها و مطالعتها، فيجب أن يتفكر أصحاب العلم و المعرفة أنّ القرآن الكريم و في الآية (5) من سورة الجمعة قد شبّه العلماء الّذين لا يتحركون على مستوى تطبيق علمهم في ممارساتهم و سلوكياتهم، شبّههم بالحمار الّذي يحمل الكتب و الأسفار على ظهره «كَمَثَلِ الحمارِ يَحملُ أسفاراً».

و أيضاً يتفكر في أنّ الشخص العالم ستكون مسؤوليته ثقيلة بنفس نسبة علمه إلى الآخرين و يمكن أن يغفر اللَّه تعالى للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد كما ورد في الروايات الشريفة.

و لا ينبغي أن ننسى أنّ حسابهم يوم القيامة أصعب و أشد من حساب الآخرين، فكيف و الحال هذه يكون العلم هذا سبباً للمباهات و الافتخار على الغير؟

و أخيراً إذا كان سبب التكبّر هو العبادة و طاعة اللَّه تعالى فيجب على هذا الإنسان أن يتفكر في أنّ اللَّه لا يقبل من العبادة ما كان خليطاً بالعجب و الكبر و يعلم أنّ الجاهل النادم أقرب إلى النجاة من العابد المغرور.

هذا و لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ قبول العبادة مشروط بأن يرى

الإنسان في نفسه الحقارة و الدونية مقابل عظمة اللَّه و قدرته و فضله على العباد و لو انه جاء بجميع عبادات الجن و الأنس لوجد أنّ عليه أن يعيش الخوف و الخشية من اللَّه تعالى و لا يغفل عن ذلك طرفة عين.

9- الاختبارات العلاجية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 53

سبق و أن قلنا إن الأمراض الأخلاقية تشبه إلى حد كبير الأمراض البدنية و أنّ المقارنة بين هاتين الظاهرتين كفيل بحل الكثير من المشاكل، و منها أنّ الطبيب في الأمراض البدنية و بعد معالجة المريض يرسله مرّة اخرى إلى المختبر ليتأكد من شفائه الكامل، و لو انه رأى بعض آثار المرض لا زالت في بدنه فإنه يستمر في علاجه حتّى يحصل المريض على الشفاء الكامل.

و قد استخدم علماء الأخلاق في مناهجهم و تعليماتهم الأخلاقية لعلاج الأمراض الخطرة مثل (التكبّر) هذا المنهج أيضاً بحيث إن الإنسان عند ما يتحرّك في سبيل علاج التكبّر و لأجل الاطمئنان من قلعه تماماً من وجوده و نفسه يجب أن يعرض على نفسه بعض الامور و يمتحنها لكي يطمئن إلى زوال جذور هذا المرض من أعماق نفسه.

و قد ذكر الفيض الكاشاني بالاستفادة من (احياء العلوم) للغزالي تجارب في هذا المجال ملفتة للنظر:

الامتحان الأوّل: أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإنّ ظهر شي ء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله و الانقياد له و الاعتراف به و الشكر له على تنبيهه و تعريفه و إخراجه الحقّ فذلك يدل على أنّ فيه كبراً دفيناً.

الامتحان الثاني: أن يجتمع مع الأقران و الامثال في المحافل و يقدمهم على نفسه و يمشي خلفهم و يجلس في الصدور تحتهم، فإنّ ثقل ذلك عليه فهو متكبر فليواظب عليه

تكلّفاً حتّى يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر، و هاهنا للشيطان مكيدة و هي أن يجلس في صف النعال أو يجعل بينه و بين الأقران بعض الاراذل فيظن أنّ ذلك تواضع و هو عين الكبر فإنّ ذلك يخف على نفوس المتكبرين إذ يوهمون أنّهم إنما تركوا مكانهم بالاستحقاق و التفضل فيكون قد تكبر، و تكبر بإظهار التواضع أيضاً، بل ينبغي أن يقدم أقرانه و يجلس تحتهم و لا ينحط عنهم إلى صف النعال فذلك هو الّذي يخرج خبث الكبر من الباطن.

الامتحان الثالث: أن يجيب دعوة الفقير و يمر إلى السوق في حاجة الرفقاء و الأقارب فإنّ ثقل ذلك عليه فهو كبر فإنّ هذه الأفعال من مكارم الأخلاق و الثواب عليها جزيل فنفور

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 54

النفس عنها ليس إلّا لخبث في الباطن فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف الّتي تزيل داء الكبر.

الامتحان الرابع: أن يحمل حاجة نفسه و حاجة أهله و رفقائه من السوق إلى البيت فإنّ أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء فإنّ كان يثقل ذلك عليه مع خلو الطريق فهو كبر فإنّ كان يثقل إلّا عند مشاهدة الناس فهو رياء و كل ذلك من أمراض القلب و ملله المهلكة له إن لم تتدارك.

أقول ليس كل رياء مذموماً بل قد يكون مستحباً بل واجباً إذ يجب على المؤمن صيانة عرضه و أن لا يفعل ما يعاب عليه فلا يليق بذوي المروات أن يرتكبوا الامور السيئة بأنفسهم عند مشاهدة الناس و إن جاز لهم في الخلوة إلّا أنّ ذلك يختلف باختلاف الأزمنة و البلاد و الأشخاص فلا بدّ من مراعاة ذلك، روي في الكافي عن الصادق عليه السلام:

«أنّه نظر إلى رجل من أهل المدينة قد اشترى لعياله شيئاً و هو يحمله، فلما رآه الرجل استحى منه، فقال عليه السلام: اشتريته لعيالك و حملته إليهم أما و اللَّه لو لا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشي ء ثم أحمله إليهم». أراد عليه السلام لو لا مخافة أن يعيبوا على ذلك، مع أنّ جدّه أمير المؤمنين عليه السلام كان يفعل مثله إلّا أنّه لما لم يعيبوا عليه بمثله في زمانه و في شأنه جاز له أن يرتكبه و كان منقبة له و تعليماً.

الامتحان الخامس: أن يلبس ثياباً بذلة فإنّ نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء و في الخلو كبر، و قد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «و من اعتقل البعير و لبس الصوف فقد برئ من الكبر» «1».

و لكن لا ينبغي أن يكون الدافع لذلك هو التظاهر بالتواضع فإنّ ذلك بنفسه نوع من الكبر المقترن مع الرياء و الشرك الخفي.

و نكرر مرةً اخرى بأن هذه الامور تختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة و الاشخاص.

و لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار جميع هذه الظروف و العمل طبق مقتضياتها و ما يناسبها من دون التورط في حبائل النفس و خدع الشيطان، و لذلك ينبغي الاستفادة أيضاً من حكم الآخرين و آرائهم.

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 6، ص 268، ح 270 بتلخيص.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 55

و هنا نثير هذا السؤال و هو أنّه لماذا يهتم الناس كثيراً بالصحة البدنية و الطب الجسماني و يتحركون في طلب الدواء و العلاجات ليطمئنوا على سلامتهم البدنية. و الحال أنّهم لا يعيشون ذلك الاهتمام بأمر الطب الروحاني و الأخلاقي الّذي يضمن لهم سعادتهم الاخروية في الحياة الباقية كما

هو مدلول الآية الشريفة: «إلّا من أتى اللَّه بقلبٍ سليم».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 56

2

التواضع

تنويه:

من الواضح أنّ التواضع يشكل النقطة المقابلة للتكبّر و الغرور، و من العسير الفصل الكامل بين هذين البحثين، و لذلك نجد أنّ هذين البحثين متلازمين في الآيات و الروايات الإسلامية و كذلك في كلمات علماء الأخلاق، فإنّ ذم أحدهما يلازم مدح الآخر، و كذلك العكس فإنّ عملية التمجيد و الثناء على التواضع يستلزم كذلك ذم التكبّر، و هذا من قبيل مدح العلم و الثناء على العالم و المتعلم الّذي يقترن دائماً مع ذمّ الجهل و توبيخ الجاهل.

و على كلّ حال فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ بحثنا المتعلق بالتواضع هذا سيكون في زاوية النسيان و نكتفي بذم التكبّر و بيان قبائح و عواقب هذه الصفة الذميمة لا سيّما أن بين التكبّر و التواضع نسبة الضدّين. لا النقيضين أي أنّ التكبّر كما انه صفة وجودية فكذلك التواضع صفة وجودية نفسانية أيضاً و يقعان على الضد من الآخر في واقع الإنسان و نفسه، و ليسا من قبيل الوجود و العدم الّذي يستلزم بالضرورة وجود أحدهما عدم الآخر بالتبع.

و في الروايات الإسلامية نجد إشارة إلى هذا المعنى أيضاً و من ذلك قول الإمام علي عليه السلام: «ضَادُّوا الْكِبْرَ بِالتَّواضُعِ» «1».

______________________________

(1). تصنيف غرر الحكم، ح 5148، ص 249، و شرح غرر الحكم، ص 232، رقم 5920.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 58

مع هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته ما يتعلق بمسألة التواضع و نختار منها ما يُلقي الضوء على هذا البحث المهم رغم وجود آيات كثيرة تبحث هذا الموضوع بالكناية أو بالملازمة.

1- «يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ

يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ اذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ اعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ...» «1»

2- «وَ عِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هَوْناً وَ اذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً» «2».

3- «وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «3».

تفسير و استنتاج:

«الآية الاولى» من الآيات مورد البحث تتحدّث عن مجموعة من المؤمنين الّذين شملتهم رعاية اللَّه و عنايته فكانوا يحبون اللَّه و يحبهم، و إحدى الصفات البارزة لهؤلاء أنّهم يتعاملون مع أخوانهم المؤمنين من موقع التواضع و المودّة (اذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) و كذلك في المقابل (اعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).

(اذِلَّةٍ) جمع «ذلول» و «ذليل»، و من مادة «ذُل» على وزن حُر، و هي في الأصل بمعنى الملائمة و التسليم و الليونة و الانعطاف في حين أنّ كلمة «اعِزَّة» جمع «عزيز» و من مادّة «عزة» و تأتي بمعنى الشدّة و الصلابة، و يقال للحيوانات المطيعة «ذلول» لأنها ملائمة و مسلّمة للإنسان، و «تذليل» في الآية الشريفة «ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا» إشارة إلى هذا المعنى، و هو سهولة اقتطاف ثمارها ثمار الجنّة، و أحياناً تُستخدم كلمة «ذِلّة» في موارد سلبية و ذلك إذا واجه الإنسان موقفاً يُجبر فيه على شي ء من غيره، و إلّا فإنّ المعنى السلبي لهذه الكلمة لا

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 54.

(2). سورة الفرقان، الآية 63.

(3). سورة الشعراء، الآية 215.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 59

يوجد في بطنها و مفهومها في الأصل.

و على أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تدل بوضوح على أهمية التواضع و سمو مقام المتواضعين، ذلك التواضع الّذي ينبع من أعماق الإنسان و يمتد إلى وجدانه ليذيع في النفس احترام الطرف الآخر المؤمن و يتحرّك معه من موقع المودّة و التسليم و الانعطاف مع الطرف الآخر.

في «الآية الثانية» نجد إشارة أيضاً

إلى الصفات البارزة و الفضائل الأخلاقية لجماعة من عباد اللَّه تعالى الّذين وصلوا في سلوكهم المعنوي إلى مرتبة عالية من الكمال الإنساني و الإلهي، حيث نقرأ في آيات سورة الفرقان من الآية 63 إلى الآية 74 اثنا عشر فضيلة مهمة و كبيرة لهؤلاء الأشخاص، و الملفت للنظر أنّ أول صفة تذكرها الآية لهؤلاء هي صفة التواضع، و هذا يدلّ على أنّ التكبّر كما يمثل أخطر الرذائل الأخلاقية فكذلك التواضع يمثل أهم الفضائل الأخلاقية في واقع الإنسان و حركته الإجتماعية و المعنوية حيث تقول الآية «وَ عِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هَوْناً».

(هون) مصدر بمعنى الهدوء و الليونة و التواضع، و استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل هنا لغرض التأكيد، أي أنّهم يعيشون التواضع و الهدوء إلى درجة و كأنهم عين التواضع، و لهذا السبب تستمر الآية في سياقها بالقول «وَ اذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً»؛ أي لو واجههم الجهلاء و الأراذل من الناس من موقع الشتيمة و الكلام الباطل فإنّ جوابهم لا يكون إلّا بعدم الاعتناء و غض الطرف من موقع عظمة شخصيتهم و كِبَر نفوسهم.

و في الآية الّتي تليها و بعد أن يتم الحديث عن التواضع مع الآخرين من الناس يتحدّث القرآن الكريم عن تواضعهم أمام اللَّه تعالى و يقول «وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيَاماً».

و يقول الراغب في كتابه «مفردات القرآن»: الهوان على وجهين، أحدهما: تذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة، فيمدح به (ثم يورد الآية محل البحث) و نحو ما روي عن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 60

النبي صلى الله عليه و آله: «المؤمن هيّن ليّن» «1». الثاني: أن يكون عن جهة متسلِّط مستخف به فيذمّ به «2».

و لا

يخفى أنّ المقصود بقوله: «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هوناً» ليس هو المشي في حالة التواضع فحسب، بل المقصود نفي كلَّ نوع من التكبّر و الأنانية و السلوكيات السلبية النابعة من حالة التكبّر السلبية و الّتي تتجلّى في أعمال الإنسان و أفعاله الاخرى، و ذكرت الآية المشي باعتباره نموذج عملي للدلالة على وجود التواضع كملكة نفسانية لدى هؤلاء، لأن الملكات الأخلاقية تتجلّى دائماً على كلمات الإنسان و حركاته الخارجية إلى درجة أنّه في الكثير من الحالات يُستدل على وجود أنواع من الصفات الأخلاقية في الشخص بواسطة المشي.

أجل فإنّ أول صفة لعباد الرحمن هي التواضع الّذي يملأ وجودهم و ينفذ إلى أعمال نفوسهم فيتجلّى و يظهر على حركاتهم و سكناتهم و كلماتهم، و عند ما نرى أنّ اللَّه تعالى في الآية 37 من سورة الإسراء يأمر نبيه الكريم بالقول «وَ لَا تَمْشِ فِي الْارْضِ مَرَحاً» فالمقصود ليس هو النهي عن حالة المشي بصورة معينة، فحسب بل الهدف هو غرس التواضع في جميع الحالات و السلوكيات الاخرى و الّذي يُعد علامة على عبودية اللَّه تعالى.

«الآية الثالثة» تخاطب النبي الأكرم و تقول «وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

«خفض» على وزن «كرب» هو في الأصل بمعنى السحب إلى الاسفل، و عليه فجملة «وَ اخفِض جَناح» كناية عن التواضع المقرون بالمحبة و الحنان كما هو حال الطائر الّذي يفتح جناحه و يضم إليه فراخه إظهاراً للمحبّة و بدافع الحنان و لصونهم من الأخطار المحتملة و حفظهم من التفرّق، و على هذا الأساس فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مأمور بأن يتحرّك من هذا الموقع ليحفظ المؤمنين تحت جناحه و ظلّه.

______________________________

(1). كنز العمال، ح 690.

(2). مفردات الراغب، مادة (هون).

الاخلاق

فى القرآن، ج 2، ص: 61

و هذا التعبير جميل جدّاً و ملي ء بالمعاني و النكات الدقيقة الّتي جُمعت في جملة واحدة.

و عند ما يُؤمر نبي الإسلام بالتواضع و إظهار المحبّة للمؤمنين فإنّ وظيفة المؤمنين و تكليفهم الأخلاقي تجاه بعضهم البعض واضح، لأن النبي الأكرم يُعتبر قدوة و اسوة لجميع أفراد الامّة الإسلامية.

و قد ورد هذا المضمون أيضاً في الآية 88 من سورة الحجر حيث يقول تعالى «وَ اخْفِضْ جَنَاحكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» و هنا نرى أنّ المخاطب في هذه الآية هو النبي الأكرم أيضاً حيث أمره اللَّه تعالى بخفض جناحه للمؤمنين أي بالتواضع المقرون بالمحبّة في تعامله مع اتباعه من المؤمنين.

و شبيه هذه العبارة مع تفاوت بسيط ورد في سورة الإسراء كتكليف للمسلم تجاه والديه حيث تقول الآية «وَ اخْفِضْ لَهُمْا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ».

و من مجموع ما ورد من الآيات أعلاه نستوحي جيداً أنّ القرآن الكريم لم يكتف بذم التكبّر و الاستكبار في مجمل السلوك الأخلاقي للإنسان بل أكد على النقطة المقابلة له أي التواضع و الانعطاف و اثنى عليه بتعبيرات مختلفة.

التواضع في الروايات الإسلامية:

اشارة

لقد ورد في المصادر الروائية لدى الشيعة و أهل السنّة أحاديث كثيرة في باب التواضع تبين أهمية هذه الصفة الأخلاقية في حركة الإنسان التكاملية و الاجتماعية، و ورد في بعضها علامات المتواضعين و نتائج و ثمار التواضع و حدوده و آدابه.

أما عن أهمية التواضع فقد وردت تعبيرات جميلة و جذابة في الروايات الشريفة منها:

1- ورد في الحديث الشريف أنّ رسول اللَّه قال يوماً مخاطباً أصحابه: «مَا لِي لَا ارى عَلَيْكُمْ حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ؟! قَالُوا: وَ مَا حَلَاوَةُ الْعِبَادَةِ؟ قَالَ: التَّوَاضُعُ!» «1».

______________________________

(1). تنبيه الخواطر (مطابق لنقل ميزان الحكمة، ج 4، ح 21825)؛ المحجّة البيضاء، ج 6، ص

222.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 62

و لا يخفى أنّ حقيقة العبادة هي غاية الخضوع امام اللَّه تعالى فالشخص الّذي ذاق حلاوة الخضوع و التواضع مقابل حقيقة الالوهية و الذات المقدسة فإنه سيتحلّى أيضاً بالتواضع مع الخلق.

2- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: «عَلَيْكَ بِالتَّوَاضُعِ فَانَّهُ مِنْ اعْظَمِ الْعِبَادَةِ» «1».

3- و ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: «الَتَّوَاضُعُ نِعْمَةٌ لَا يُحْسَدُ عَلَيْهَا» «2».

و من الطبيعي أنّ كلّ نعمة تصيب الإنسان فإنه سيتعرض في الجهة المقابلة لأذى الحساد حيث تتحرك فيهم عناصر الحسد و الكراهية أكثر بحيث يضيق الفضاء على صاحب النعمة و يعيش في حالة من التوتر الّذي يفرزه حالة الحسد في الطرف المقابل و لكن التواضع مستثنى من هذه القاعدة فهو نعمة لا تتغير بحسد الحساد.

و نختم هذا البحث المفصل بحديث آخر عن النبي الأكرم:

4- «يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِخَمْسَةٍ: بِالْمُجَاهِدِينَ، وَ الْفُقَرَاء، وَ الَّذِينَ يَتَوَاضَعُون للَّهِ تَعَالَى، وَ الْغَنِيِّ الّذي يُعْطِي الْفُقَرَاءَ وَ لَا يَمُنُّ عَلَيْهِمْ، وَ رَجُلٍ يَبْكِي فِي الْخَلْوَةِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ» «3».

و عن ثمرات التواضع و نتائجه الإيجابية وردت روايات كثيرة عن المعصومين نكتفي بذكر نماذج منها:

ففي حديث شريف عن الإمام أمير المؤمنين: «ثَمَرَةُ التَّوَاضُعِ الْمَحَبَّةُ وَ ثَمَرَةُ الْكِبْرِ الْمَسَبَّةُ» «4».

و في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً: «بِخَفْضِ الْجَنَاحِ تَنْتَظِمُ الْامُورَ» «5».

و من الواضح أنّ عملية تنظيم امور المجتمع لا تتسنّى إلّا بالتعاون و التكاتف الإجتماعي ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 72، ص 119، ح 5.

(2). تحف العقول، ص 363.

(3). مكارم الأخلاق، ص 51.

(4). غرر الحكم، ح 4614- 4613.

(5). غرر الحكم، ح 4302.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 63

و العاطفي بين الأفراد، و هذا التعاون

و التكاتف لا يكون إلّا بأن يكون المدير و المدبّر و القائم على امور المجتمع لا يتعامل مع الأفراد بالضغط و الإجبار أو بأن يتباهى و يتفاخر على الآخرين و يرى نفسه أفضل منهم، فإنّ المدير الموفق في عمله هو من يعيش حالة الحزم و القاطعية في عين التواضع و المحبة مع الآخرين.

و نقرأ في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الَتَّوَاضُعُ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ الّا رَفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمُ اللَّهُ» «1».

أحياناً يتصور الإنسان أنّ التواضع يقلل من قيمة الشخصية و يصغر شخصية الفرد في نظر الآخرين، في حين أنّ هذا التصوّر ساذج و مجانب للصواب، فإننا نرى أنّ الأشخاص المتواضعين في المجتمع يتمتعون بالاحترام البالغ من قِبل الآخرين، و تواضعهم لا يزيدهم إلّا احتراماً و عزّة في نفوس الناس.

و يُستفاد من الأحاديث الإسلامية انّ التواضع شرط في قبول العبادات و الطاعات و من ذلك ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «الَتَّوَاضُعُ اصْلُ كُلِّ خَيْرٍ نَفِيسٍ وَ مَرْتَبَةٌ رَفِيعَةٌ ... وَ مَنْ تَوَاضَعَ للَّهِ شَرَّفَهُ اللَّهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ ... وَ لَيْسَ للَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ عِبَادَةٌ يَقْبَلُهَا وَ يَرْضَيها الّا وَ بَابُهَا التَّوَاضُعُ، وَ لَا يَعْرِفُ مَا فِي مَعْنى حَقِيقَةِ التَّوَاضُعِ الَّا الْمُقَرَّبُونَ الْمُسْتَقِلِّينَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ عِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هَوْناً وَ اذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً» «2».

و نختم هذا البحث بحديث عن السيّد المسيح عليه السلام حيث قال: «بِالتَّوَاضُعِ تَعْمُرُ الْحِكْمَةَ لَا بِالتَّكَبُّرِ، كَذَلِكَ فِي السَّهْلِ يَنْبُتُ الزَّرْعَ لَا فِي الْجَبَلِ» «3».

و الخلاصة أنّ التواضع في حركة الحياة العلمية و الثقافية يؤثر إيجابياً في حياة الإنسان (لأنّ

الشخص المتكبّر يكون محجوباً عن رؤية حقائق الامور بسبب تكبره) و كذلك يؤثر التواضع تأثيراً إيجابياً في حركة الإنسان الإجتماعية (لأنّ الشخص المتواضع يزيده ______________________________

(1). كنز العمّال، ح 5719.

(2). بحار الأنوار، ج 72، ص 121.

(3). بحار الأنوار، ج 2، ص 62.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 64

تواضعه محبة في قلوب الناس و يحترمه الجميع لأخلاقه الحسنة و الطيبة) و كذلك يؤثر التواضع تأثيراً إيجابياً في علاقة الإنسان بخالقه لأن التواضع يمثل روح العبادة و مفتاح قبول الأعمال و الطاعات.

و بالنسبة إلى علامات التواضع فقد وردت روايات لطيفة و جميلة في الروايات الإسلامية، ففي حديث عن الإمام علي بن أبي طالب نقرأ: «ثَلَاثٌ هُنَّ رَأْسُ التَّوَاضُعِ: انْ يَبْدَءَ بِالسَّلَامِ مَن لَقِيَهُ، وَ يَرْضَى بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمجْلِسِ، وَ يَكْرَهُ الرِّيَاء وَ السُّمْعَةَ» «1».

و في بعض الروايات نقرأ علامات اخرى أيضاً للتواضع منها ترك المراء و الجدال، أي أنّ الإنسان لا يدخل في مناقشة و جدل فكري من أجل اشباع رغبة التفوق على الآخرين و اظهار فضله عليهم، و من العلامات الاخرى عدم الرغبة في ثناء الناس عليه و مدحهم له «2».

1- تعريف التواضع

«التواضع» من مادّة «وضع»، و هي في الأصل بمعنى وضع الشي ء إلى الأسفل.

و هذا التعبير ورد بالنسبة إلى النساء الحوامل اللآتي يلدن حملهن فيقال «وضعت حملها» و كذلك بالنسبة إلى الخسارة و الضرر الّذي قد يتحمله الإنسان فيقال «وضيعة»، و عند ما تُطلق هذه الكلمة و يُراد بها صفة أخلاقية في الإنسان فإنّ مفهومها أنّ الإنسان ينخفض بنفسه عن مكانته الإجتماعية، بعكس حالة التكبّر الّتي يفهم منها استعلاء الإنسان عن واقعه الإجتماعي و طلب التفوق على الآخرين.

و يرى البعض من أهل اللغة أنّ «التواضع» بمعنى «التذلل»

و المقصود من التذلل هنا الخضوع و التسليم.

و ذكر المرحوم النراقي في «معراج السعادة» في تعريف التواضع أنّه قال (التواضع عبارة

______________________________

(1). كنز العمّال، ح 8506.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 122، ح 6.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 65

عن الإنكسار النفسي الّذي لا يرى معه الإنسان نفسه أعلى من الآخرين و لازمه أن يتحرك الشخص تجاه الآخرين من موقع الاحترام و التعظيم لهم بكلماته و أفعاله) «1».

و في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال عند ما سُئّل: «مَا حَدُّ التَّوَاضُعِ الّذي إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ كَانَ مُتَوَاضِعاً؟ فَقَالَ: التَّوَاضُعُ دَرَجَاتٌ مِنْهَا انْ يَعْرِفَ الْمَرْءُ قَدْرَ نَفْسِهِ فَيُنَزِّلُهَا مَنْزِلَتَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَا يُحِبُّ انْ يَأْتِيَ الَى احَدٍ الّا مِثْلُ مَا يُؤْتَى الَيْهِ، انْ رَأىَ سَيِّئَةً دَرَاهَا بِالْحَسَنَةِ، كَاظِمُ الْغَيْظِ، عَافٍ عَنِ النَّاسِ، وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» «2».

و ممّا ورد في هذه الرواية الشريفة و المهمة هو في الحقيقة علامات التواضع حيث يمكننا من خلالها التوصل إلى تعريف التواضع.

و في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «التَّوَاضُعُ الرِّضَا بِالْمَجْلِسِ دُونَ شَرَفِهِ وَ انْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ وَ انْ تَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَ انْ كُنْتَ مُحِقّاً» «3».

و الحقيقة هي أن تعريف التواضع لا ينفصل عن علامات التواضع لأن من أفضل التعاريف للمفردات اللغوية و الأخلاقية هو التعريف المشتمل على علامات ذلك الموضوع المراد تعريفه.

2- التواضع و كرامة الإنسان

عادة نرى في مثل هذه المباحث الأخلاقية أنّ البعض يسلك فيها مسلك الافراط و البعض الآخر مسلك التفريط، مثلًا يتصور البعض أنّ حقيقة التواضع هي أنّ الإنسان يستذل نفسه أمام الناس و لا يرى لنفسه مقداراً و شأناً من الشؤون، و قد يقوم بأعمال واهنة يسقط بسببها من

أنظار الناس فيساء الظن به كما ذكر في حالات الصوفية هذا المعنى أيضاً و أنّهم عند ما يشتهرون في منطقة بالصلاح و الفضل فإنّهم يرتكبون أعمال قبيحة و منافية

______________________________

(1). معراج السعادة، ص 300.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 124.

(3). بحار الأنوار، ج 75، ص 176.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 66

للمروءة ليسقطوا في أنظار الناس، مثلًا لا يهتمون بأمر العبادة و قد يرتكبون الخيانة في أمانات الناس بحيث يتركهم الناس، و بهذه الطريقة يتصورون أنّ هذا الاسلوب هو نوع من التواضع و رياضة النفس.

بينما نجد أنّ الإسلام لا يُبيح للإنسان تحقير نفسه و إذلالها باسم التواضع و لا يرضى بأن يتحرّك الإنسان لإسقاط شخصيته و كرامته و سحقها، فالمهم أنّ الإنسان في عين ممارسة التواضع يحفظ شخصيته الإجتماعية و لا يذل نفسه، فلو أنّ الإنسان سعى للتحلي بالتواضع بصورته الصحيحة فليس لا يجد هذه الآثار السلبية فحسب بل على العكس من ذلك، فإنّ احترامه و شخصيته ستزداد و تتعمق في أنظار الناس، و لهذا ورد في الروايات الإسلامية عن أمير المؤمنين أنّه قال «بِالتَّوَاضُعِ تَكُونُ الرَّفْعَةُ» «1».

و يقول الفيض الكاشاني تحت عنوان غاية الرياضة في خلق التواضع: «اعلم إنّ هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان و واسطة، فطرفه الّذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً، و طرفه الّذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسساً و مذلة، و الوسط يسمى تواضعاً، و المحمود أن يتواضع في غير مذلة و من غير تخاسس، فإنّ كلا طرفي قصد الامور ذميم، و أحب إلى اللَّه تعالى أوساطها. فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر، و من يتأخر عنهم فهو متواضع، أي أنّه وضع شيئاً من قدره الّذي يستحقه، و العالم إذا دخل عليه

اسكاف فتنحى له عن مجلسه و أجلسه فيه ثم تقدم و سوى له نعله و غدا إلى الباب خلفه فقد تخاسس و تذلل، و هذا أيضاً غير محمود بل المحمود عند اللَّه العدل و هو أن يعطي كل ذي حقّ حقّه، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأمثاله و لمن بقرب من درجته، فأما تواضعه للسوقي فبالقيام و البشر في الكلام و الرفق في السؤال و إجابة دعوته و السعي في حاجته و أمثال ذلك، و أن لا يرى نفسه خيراً منه بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره، فلا يحتقره و لا يستصغره و هو لا يعرف خاتمة أمره و خاتمته» «2».

______________________________

(1) الفهرست الموضوعي لغرر الحكم، ج 7، ص 405، طبعة جامعة طهران.

(2) المحجّة البيضاء، ج 6، ص 271 (مع التلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 67

3 و 4

الحرص و القناعة

تنويه:

سبق و أن قرأنا في الفصل السابق الحديث الوارد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين يذكر فيه أنّ أوّل مصدر للمعصية هو التكبّر حيث تكبّر إبليس و رفض السجود لآدم بسبب تكبره و طغيانه، ثمّ ذكر الإمام زين العابدين (الحرص) بعنوان انه المصدر الثاني للمعصية حيث ذكر فيه ما صدر من الترك للأولى من قِبل آدم و حواء و أكلهما من الشجرة الممنوعة بدافع من الحرص، ثمّ ذكر (الحسد) الّذي يتمثل في حسد قابيل لأخيه هابيل و قتله.

إن افرازات الحرص السلبية لم تتجلّى فقط في قصّة آدم بل في قصص الأنبياء و تصدّيهم لسلوكيات أقوامهم المنحرفة طيلة التاريخ البشري، فنحن نرى في قصص الأقوام البشرية السالفة و المجتمعات المختلفة أنّ الحرص و الطمع كان يمثل المصدر للكثير من الجرائم و الحروب الدموية و الغارات الوحشية

و سحق المبادئ الإنسانية و الفضائل الأخلاقية في حركة الحياة البشرية و المجتمعات الإنسانية.

و النقطة المقابلة لهذه الرذيلة الأخلاقية هي (القناعة) الّتي تورث الإنسان الطمأنينة و الهدوء النفسي، العدالة، الصلح، الاخوة و الصفاء في دائرة العلاقات الإجتماعية، و بالنظر

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 68

إلى المنهج المتّبع لترتيب الفضائل و الرذائل الأخلاقية (المنهج الّذي يبتدئ في دراسة و استعراض حالات الأنبياء من آدم إلى نبيّنا الكريم الواردة في القرآن المجيد) فإنّ ثاني صفة من الصفات الرذيلة هي الحرص المتمثل في قصّة آدم، و كذلك قصة شعيب و داود و بشكل عام اليهود، و سنتعرض كذلك ما ورد من الحوادث المتعلقة بالمسلمين و المشركين العرب في عصر النزول أيضاً.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ما ورد في هذا المضمون الأخلاقي:

1- «فَوَسْوَسَ الَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ ادُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لَا يَبْلَى* فَاكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «1».

2- «وَ الَى مَدْيَنَ اخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ الَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَائَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَاوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزَانَ وَ لَا تَبْخَسُوا النَّاسَ اشْيَائَهُمْ وَ لَا تُفْسِدُوا فِي الْارْضِ بَعْدَ اصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ انْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «2».

3- «انَّ هَذَا اخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ اكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ* قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤآلِ نَعْجَتِكَ الَى نِعَاجِهِ وَ انَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ وَ ظَنَّ دَاوُدُ انَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعاً وَ انَابَ»

«3».

4- «وَ لَتَجِدَنَّهُمْ احْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ اشْرَكُوا يَوَدُّ احَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ الْفَ سَنَةٍ وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ انْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ» «4».

______________________________

(1). سورة طه، الآية 120 و 121.

(2). سورة الأعراف، الآية 85.

(3). سورة ص، الآية 33 و 34.

(4). سورة البقرة، الآية 96.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 69

5- «انَّ الْانْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* اذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ اذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» «1».

6- «وَ اذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا الَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً قُل مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجَارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» «2».

7- «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الّذي جَمَعَ مَالًا وَ عَدَّدَهُ* يَحْسَبُ انَّ مَالَهُ اخْلَدَه» «3»

تفسير و استنتاج:

تتحدّث «الآية الاولى» من الآيات المذكورة آنفاً عن قصة آدم و زوجته حواء و ما جرى لهما مع الشيطان الرجيم، فطبقاً للآيات القرآنية فإنّ اللَّه تعالى قد اسكن آدم و حواء الجنّة و نهاهما عن الاقتراب من الشجرة الممنوعة و حذرهما من إغواء إبليس و وسوسته، و لكن الشيطان افلح في إغوائه و وسوسته و ارتكب آدم ترك الأولى و أكل من الشجرة الممنوعة، و بذلك طرد من الجنّة و غرق في دوّامة البلايا و المشاكل الدنيوية في هذه الحياة.

الآيات أعلاه تشير إلى هذه الحادثة التاريخية و تقول: «فَوَسْوَسَ الَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ ادُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لَا يَبْلَى* فَاكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى .

و في الواقع فإنّ الشيطان ذكر لآدم عن الشجرة الممنوعة بانّ كلّ من يأكل منها سوف يحظى بطول العمر و يغرق في النعمة و السعادة

الخالدة.

ما هو السبب الّذي دفع آدم إلى قبول وسوسة الشيطان و الاعتماد على كلماته و وعوده و نسيان الأمر الإلهي و نهيه عن تناول ثمرة الشجرة الممنوعة؟ أ ليس الحرص و الطمع هو الّذي حجبه عن رؤية حقائق الامور؟

و بهذا نرى أنّ حالة التكبّر هي الّتي أدّت إلى ضلال الشيطان و عصيانه لأوامر اللَّه تعالى ______________________________

(1). سورة المعارج، الآية 19- 21.

(2). سورة الجمعة، الآية 11.

(3). سورة الهمزة، الآية، 1- 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 70

في بداية الخلقة، و ترتب على ذلك أعظم المفاسد في عالم الوجود، و هكذا نرى أنّ حالة الحرص و الطمع و الرغبة في الملّذات المادية و الدنيوية هي العامل الآخر لشقاء الإنسان و غرقه في وحل المفاسد و المشاكل الكثيرة في حياته، و لهذا السبب فقد ورد في النصوص الدينية أنّ اصول الكفر ثلاثة: «التكبّر» الّذي أدّى إلى ضلال إبليس و انحرافه عن طريق الحق، «الحرص» الّذي تسبب في انحراف آدم و خروجه من الجنّة، و «الحسد» الّذي تسبب في قتل هابيل على يد أخيه قابيل.

و صحيح أنّ النهي الإلهي المتوجه لآدم لم يكن نهياً تحريمياً و لذلك لم تكن مخالفته معصية مطلقة بل كان من قبيل (الترك للأولى ، أو بتعبير آخر كان نوعاً من النهي الإرشادي كما في نهي الطبيب للمريض عن تناول بعض الأطعمة غير الملائمة لصحته و مزاجه و لكن على أيّة حال فقد كان المتوقع من آدم أن لا يرتكب هذا الترك الأولى، لكن صفة الحرص و الطمع قد دفعت بآدم إلى هذا المنزلق الخطير، و بالتالي أوقع نفسه و ذريته من البشر في دوّامة من المشاكل و الشدائد و المصائب في حركة الحياة.

«الآية الثانية» تتحدّث

عن قصّة قوم شعيب الّذين دفعهم الحرص على المزيد من الملذات الدنيوية و الطمع في التكاثر في الأموال و الثروات المادية أن يديروا ظهورهم عن الحقّ و يتركوا دعوة نبيهم شعيب و إنكار التعليمات السماوية الّتي جاء بها هذا النبي الكريم لتهديدهم و تخليصهم من أدران الشهوات المادية الرخيصة حيث تقول الآية: «وَ الَى مَدْيَنَ اخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ الَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَائَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَاوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزَانَ وَ لَا تَبْخَسُوا النَّاسَ اشْيَائَهُمْ وَ لَا تُفْسِدُوا فِي الْارْضِ بَعْدَ اصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ انْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».

و طبقاً لهذه الآية فإنّ انحراف قوم شعيب كان يتمثل أوّلًا في الشرك و عبادة الأوثان ثمّ التطفيف في الميزان و أكل أموال الناس بالباطل و الغش و الإفساد في الأرض، و هكذا نرى أنّ هؤلاء القوم كانوا حريصين على الدنيا إلى درجة أنّهم قالوا لشعيب كما تصرّح الآية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 71

«قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ انْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا اوْ انْ نَفْعَلَ فِي امْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ...» «1».

هذا و الحال أن غصب حقوق الناس و التطفيف في الميزان لم يكن ليؤدي إلى عدم زيادة ثرواتهم و أموالهم فحسب، بل كما أشار القرآن الكريم ادّى إلى فساد المجتمع و إيجاد الخلل و الارتباك في مفاصله و زوال الثقة بين الأفراد في عملية التفاعل الإجتماعي و اهدار الطاقات و اتلاف الأموال و أمثال ذلك، و عليه فإنّ صفة الحرص أدّت إلى نتائج معكوسة في مسيرتهم الإجتماعية و الدنيوية.

«الآية الثالثة» من الآيات محل البحث تستعرض الحادثة الّتي حدثت لداود و الّتي تعكس في مضمونها الصفة الذميمة للحرص و ابعادها السلبية في

حياة الإنسان و علاقته مع الآخرين، و تتلخص هذه القصة في أخوين جاءا إلى النبي داود فقال أحدهما «انَّ هَذَا اخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ اكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ» «2» و هكذا نجد أنّ صاحب التسع و تسعين نعجة طمع في ضم نعجة أخيه الواحدة إلى نعاجه و أصرّ عليه بقبول هذا العرض و الطلب، و عند ما سمع داود هذا الكلام تأثر كثيراً و «قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤآلِ نَعْجَتِكَ الَى نِعَاجِهِ» «3» ثمّ ذكر داود لهذين الأخوين أنّ هذه الحالة تكاد تكون طبيعية لدى بني البشر و خاصة في حالة الشركة مع بعضهم فيتحرك بعضهم من موقع الظلم والاجحاد بحقّ البعض الآخر، باستثناء المؤمنين الّذين يمنعهم إيمانهم من سلوك طريق الباطل و قال لهما «وَ انَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ».

و نقرأ في ذيل الآية الكريمة «وَ ظَنَّ دَاوُدُ انَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعاً وَ انَابَ» «4».

______________________________

(1). سورة هود، الآية 87.

(2). سورة ص، الآية 33.

(3). سورة ص، الآية 34.

(4). سورة ص، الآية 34.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 72

و لكن ما ذا حدث لداود في هذه الفتنة و هذا الامتحان الإلهي؟ هناك كلام كثير بين المفسّرين، و أما ما ورد في التوراة المحرّفة الحالية فيتلخص في أنّ داود كان قد طمع في زوجة أحد قادته العسكريين و يدعى «اورياي حتى» و الّذي كانت له زوجة جميله جدّاً فعشقها داود و احتال لتحريرها من قيد زوجيتها مع اوريا ليتمكن من الزواج بها مع انه كانت له أزواج عديدة، و هكذا نرى أنّ هذه القصة المفتعلة

لا تتناسب مطلقاً مع قداسة الأنبياء الإلهيين بل لا تتناسب مع الأخلاق الإنسانية لدى أيّ إنسان في المستوى المتوسط من الأخلاق، فانّ كلّ إنسان يستقبح هذه الحالة في نفسه و في غيره من البشر.

و المشهور بين المفسّرين الإسلاميين هو أنّ امتحان داود كان يتعلق بمسألة القضاء و انه استعجل في حكمه و قبل أن يسمع حجّة الطرف الآخر حكم بينهما و قضى للأوّل على الثاني، و بالرغم من أنّ حكمه و قضائه كان مصيباً للحقّ فإنّ اللَّه تعالى وبّخه على تركه للأولى في هذه القضية، ثمّ إنّ داود التفت إلى ذنبه و تاب منه.

و على أيّة حال فمقصودنا من استعراض هذه القصة هو أنّ الإنسان عند ما يستولي عليه الحرص و الطمع فإنه يتحرّك من موقع ارتكاب الظلم و الجور حتّى بالنسبة إلى أخيه الضعيف و المسكين و لا يأبى عن غصب حقّه و حرمانه من أبسط لوازم الحياة و المعيشة.

أجل فإنّ الحرص على الدنيا و ملذاتها لا يعرف حدّاً و حدوداً بل يجرّ الإنسان إلى ارتكاب أشنع الظلم و الجور في حقّ الآخرين.

«الآية الرابعة» من الآيات التي جاءت فى البحث و تشير إلى حرص اليهود على الحياة الدنيا، و تنطلق الآية من موقع الذم لهؤلاء فتقول: «وَ لَتَجِدَنَّهُمْ احْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ اشْرَكُوا».

هؤلاء حريصون على جمع الأموال و الثروات، حريصون على الملك و التسلط على الدنيا، حريصون على التمسّك بزمام الامور، و العجيب أنّهم احرص من المشركين الّذين لا يلتزمون بأيّ دين و لا يعتقدون بأيّة شريعة سماوية في حين أنّ التعليمات السماوية تذم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 73

هذه الحالة الأخلاقية السلبية و المفروض بالإنسان الملتزم بالدين و الشريعة أن

تؤثر فيه هذه التعليمات السماوية و تحدد من حرصه على الدنيا و زخارفها الزائلة و لكننا نجد أنّ اليهود كانوا أحرص من المشركين عليها.

و كما تقول الآية «يَوَدُّ احَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ الْفَ سَنَةٍ».

فهؤلاء و من أجل جمع الثروات و بدافع الخوف من العذاب الإلهي الّذي ينتظرهم بسبب ظلمهم و عدوانهم و غصبهم لحقوق الآخرين و سفكهم لدماء الأبرياء فإنّهم كانوا يتمنون هذا العمر الطويل.

و الملفت للنظر أنّ حالة اليهود في هذا العصر لم تختلف عنها في العصور السابقة فنراهم يعيشون حالة الحرص الشديد هذه بل و أشد من السابق، فإنّ التاريخ المعاصر يشهد بأن اليهود لا يمتنعون من ارتكاب أيّة جناية في سبيل المزيد من جمع الثروات و الأموال، فما أكثر الحروب الدامية الّتي أشعلوها بين المجتمعات البشرية، و ما أكثر دماء الأبرياء الّتي سفكوها، و ما أكثر الفتن الّتي أوقدوا نيرانها بين الشعوب، و ما أكثر الأسلحة و المواد المخدّرة الّتي تاجروا بها لإفساد و تدمير العلاقات الإجتماعية بين أبناء البشر، كلّ ذلك من أجل تحكيم اركان سيطرتهم على مقدّرات الامم و الشعوب، و ما أكثر الكذب و الدجل و الذي يروجونه بين الناس من الإذاعات العالمية الّتي يقف الصهاينة و اليهود من ورائها.

إذا أردنا أن نستعرض النتائج السلبية و العواقب الوخيمة لحالة الحرص و الطمع و حب الدنيا على الإنسان فينبغي أن نستعرض أعمال هؤلاء على هذا المستوى

و تعبير «حياة» الّذي جاء في الآية بصورة نكرة لعله إشارة إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ هؤلاء القوم يريدون و يطلبون الحياة لأجل اللّذة فقط و لكن أيّة حياة؟ هل هي حياة إنسانية، أو حياة حيوانية، أو حياة الوحوش في البراري و الغابات؟ كلّ

ذلك غير مهم في نظر هؤلاء.

و كما قال بعض المفسّرين أنّ هذه الآية لا تتحدّث عن اليهود فقط بل تمثل تحذيراً لجميع أفراد البشر تحذرهم من الحرص و عواقب حبّ الدنيا لكيلا يبتلوا بما ابتُلي به اليهود في حياتهم الدنيوية و سلوكياتهم الأخلاقية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 74

و قد ورد في الآيات القرآنية و الروايات الشريفة عن اليهود أنّهم قتلوا الكثير من الأنبياء الإلهيين لمجرّد مخالفتهم لهم و نهيهم عن سلوكياتهم المنحرفة و رغباتهم اللامشروعة في هذه الحياة، و كذلك تحريفهم لآيات اللَّه و كتبه السماوية و كلّ ذلك كان بسبب حرصهم و حبهم للدنيا.

«الآية الخامسة» تتحرّك على مستوى استعراض صفات الإنسان و حالاته السلبية من الحرص و الجزع و البخل و أمثال ذلك و تقول: «انَّ الْانْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* اذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ اذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً».

و قد ذكر المفسّرون و أرباب اللغة لكلمة «هلوع» معان كثيرة، و في الواقع أكثرها من باب اللازم و الملزوم و متقاربة المعنى، و من ذلك ما ذكره صاحب لسان العرب من المعاني الأربعة لهذه الكلمة و هي: الحرص، الجزع، الضجر، و قلة الصبر، و أورد في «مجمع البيان» أيضاً لمعنى الهلوع: «ضجور» و «شحيح» و «جزع» و «شديد الحرص».

و ذهب صاحب كتاب التحقيق أنّ الجذر الأصلي لهذه الكلمة هو رغبة الإنسان في الاستمتاع بالنعم و الملذات، أما الجزع و الحرص و قلّة الصبر فكلّها من آثار هذه الكلمة و معناها الأصلي.

و من مجموع ما تقدّم يظهر أنّ هذه الكلمة تتضمن ثلاث نقاط سلبية في دائرة الأخلاق و هي: الحرص، الجزع و البخل.

و في الواقع فإنّ تفسير كلمة «هلوع» ورد في نفس السورة بعد هذه الآية حيث

يمكن استفادة المفهوم الواقعي لها بحيث تتضمن هذه المعاني الثلاثة لأن «جزوع» من مادة «جزع» و «منوع» من مادّة «منع»، و يدخل في معناها البخل و الحرص.

و على أيّة حال فإنّ الآيات المذكورة وردت في مقام ذم الأشخاص الّذين يستولي عليهم الحرص و البخل و الجزع.

و يمكن القول أنّ «الحرص» هو المصدر الأساس للبخل، لأن الحريص يريد الاحتفاظ

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 75

بكلّ شي ء لنفسه و منه ينشأ البخل، و كذلك فإنّ الحرص أحياناً يسبب الجزع و قلّة الصبر، لأن الحريص إذا فقد بعض ممتلكاته و متعلقاته فسوف يتألم كثيراً و يتعامل مع الامور من موقع الجزع و الحدّة.

فالآية الشريفة تقرر بأن الإنسان قد خُلق بهذه الصفات، و لكن قد يُثار في الذهن هذا التساؤل، و هو أنّ اللَّه تعالى قد خلق الإنسان من أجل السعادة الخالدة و نيل المقامات و الكمالات المعنوية، فكيف يخلقه بهذه النقائص و نقاط الضعف الّتي تحجبه عن سلوك طريق الحقّ و تصدّه عن السير في طريق الكمال و السعادة؟

و قد أجاب البعض على هذا السؤال بأن هذه الصفات السلبية تتعلق بالإنسان الفاقد للإيمان، فإنّ طبع الإنسان المؤمن يتناغم مع الصبر و المثابرة و الكرم و أمثال ذلك و لكن عند ما ينفصل عن دائرة الإيمان، فمن الطبيعي أن يجزع مقابل أقل مشكلة و أدنى شدّة لأنّه يفتقد السند و الدعامة الأساسية في حياته العملية و يجد نفسه وحيداً في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة، فلذلك يتعامل مع الحياة من موقع الحرص و البخل و لا يجد في نفسه اعتماداً و توكلًا على اللَّه تعالى الّذي بيده مفاتح الغيب و بالتالي لا يطمئن إلى غده و ما سيواجهه في المستقبل من

حوادث و أزمات.

و الشاهد على هذا هو أنّ الآيات الّتي جاءت بعد هذه الآية استثنت المصلين من هذا الحكم العام على الإنسان، و يحتمل أيضاً أنّ الآيات محل البحث كما هو الحال في كثير من الآيات الشريفة الّتي تصف الإنسان بأنه «ظلوم» و «جهول» و «يؤوس» و «كفور» و «طغى و أمثال ذلك، فتشير هذه الآيات إلى وجود بُعدين في كيان الإنسان: البُعد الّذي يأخذ بالإنسان و يصعد به إلى أعلى علّيين، و هو ما يصطلح عليه بقوس الصعود، و البُعد الآخر ما يجره إلى أسفل السافلين و هو قوس النزول.

و يرى العلّامة الطباطبائي في «الميزان» رأياً آخر في هذا الصدد، فيقول بأن الحرص صفة من الصفات الذاتية للإنسان و متفرعة على حبّ الذات، و هي في الأصل ليست من الرذائل لأن حبّ الذات الّذي تتولد منه هذه الصفات هو المحور الأساس الّذي يسوق الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 76

الإنسان إلى الكمال المعنوي و يدفعه نحو طريق السعادة الخالدة، فهذه الصفات إنّما تكون ذميمة و قبيحة فيما لو لم يستخدمها الإنسان في الطريق الصحيح و اللائق، و في الحقيقة أنّ هذه الصفات مثل سائر الصفات النفسانية الّتي إذا لزمت حدّ الاعتدال تُعدّ فضيلة و إذا تجاوزت إلى جهة الافراط أو التفريط فإنّها تكون من الرذائل.

و على أيّة حال فالآيات أعلاه تبين أنّ القرآن الكريم دعا جميع الناس إلى الإيمان و الصلاة و الدعاء و الإنفاق في سبيل اللَّه لإطفاء نار الحرص و البخل و الجزع في وجوده و واقعه النفساني.

«الآية السادسة» تستعرض واقعة من الوقائع الّتي جرت في زمان صدر الإسلام حينما كان المسلمون يعيشون القحط و الجوع و غلاء الأسعار، و هناك وردت

قافلة إلى المدينة محملة بالبضائع و المواد الغذائية من الشام و قد صادف دخول هذه القافلة الظهر من يوم الجمعة حيث كان النبي يخطب في الناس خطبتي الجمعة.

و قد كان المتعارف في ذلك الزمان أنّه عند ما تَرد قافلة إلى مدينة معيّنة تُدق الطبول و يُعزف على آلات الموسيقى حتّى يجتمع الناس بسرعة لشراء ما يحتاجونه من هذه القافلة، و عند ما سمع المصلون صوت القافلة الواردة إلى المدينة ترك بعضهم من الّذين أسلموا حديثاً صلاة الجمعة و توجّهوا إلى السوق لشراء البضاعة من القافلة في حين لم يكن لذلك ضرورة لازمة و كان من الممكن التوجّه إلى القافلة بعد إتمام صلاه الجمعة، و على أيّة حال فلم يبق في المسجد سوى اثنا عشر رجلًا و امرأة واحدة، فنزلت الآيات أعلاه تذم هؤلاء الّذين تركوا صلاة الجمعة بدافع الحرص على زخارف الدنيا، و قد ورد في الحديث الشريف أنّ النبي قال حينها: لو لم يبق هؤلاء النفر لأمطرت السماء حجارة على الناس.

و يُستفاد من سياق الآية أعلاه أنّ التوجّه إلى السوق و القافلة لم يكن بدافع من تأمين الحاجات الضرورية للمعيشة بل بدافع من الهوى و سُماع الألحان الموسيقية لدى البعض، و قد يكون بدافع من التجارة و الربح المادي لدى البعض الآخر.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 77

و على أيّ حال فإنّ القرآن الكريم يبين هذه الواقعة بهذه العبارة «وَ اذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً».

ثمّ يخاطب النبي الكريم بالقول «قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجَارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

و يُحتمل أنّ البعض ترك الصلاة و النبي الأكرم و توجّه إلى السوق و القافلة لتأمين حاجاته الضرورية

للحياة (بالرغم من وجود الوقت الكافي لتهيئتها بعد الصلاة) و لكن التعبير أعلاه يبين بوضوح أنّ فئة من هؤلاء توجّهوا إلى القافلة بدافع من الحرص على شراء السع و البضائع بقيمة زهيدة ثمّ بيعها بأعلى الأثمان طمعاً في الثروة و المال الكثير، و جماعة توجّهوا إلى القافلة بوحي الأهواء و النوازع النفسانية و بذلك حرموا أنفسهم من السعادة العظمى في حضور الصلاه مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

و جاءت الآية السابعة» و الأخيرة من الآيات محل البحث لتتحدّث عن الأشخاص الّذين يتحركون في تعاملهم مع الآخرين من موقع السخرية و الاستهزاء و ذلك بدافع من الغرور لما يعيشونه من حالة الثراء و يتصورون أنّ ذلك يسوّغ لهم الاستهزاء بالمؤمنين الفقراء.

فتقول الآية «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الّذي جَمَعَ مَالًا وَ عَدَّدَهُ* يَحْسَبُ انَّ مَالَهُ اخْلَدَه» فمثل هذا الشخص الّذي يجمع الأموال بدون حساب للحلال و الحرام و يتصور أنّ هذه الأموال تؤدي إلى بقائه و خلوده و ابتعاد الموت عنه أنّ هذه الثروة تُبيح له السخرية بالآخرين من الفقراء و المُعدمين.

جملة «عَدَّده» الناظرة إلى حساب الأموال من قِبَل أصحاب الثروة تشير إلى شدّة حرصهم و ولعهم بهذه الأموال و الثروات بحيث إنه كلّما ازدادت أموالهم ازدادوا حبّاً و شغفاً بها و لذلك فهم يعدّدونها دائماً و يجدون في ذلك لذّة كبيرة.

و جملة «الّذي جَمَعَ مَالًا وَ عَدَّدَهُ» هي في الواقع بمثابة العلّة للهمز و اللمز المذكور في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 78

الآية الاولى، أي أنّ الثروة الدنيوية الطائلة ادّت بهم إلى درجة من الغرور و السكر بحيث إنّهم كانوا ينطلقون من موقع السخرية و الاستهزاء بفقراء المؤمنين و كانوا يتصورون انه ليس فقط

هذه الأموال و الثروات هي الخالدة مدى الدهر بل أصحاب الثروة كذلك.

إنّ دراسة حال أصحاب الدنيا العجيب و تعاملهم الغريب مع الواقع يرشدنا إلى ما يحيّر العقول من عجيب سلوكياتهم، فترى البعض منهم رغم احاطتهم الوافرة بالعلوم المادية و الطبيعية ليس لهم هدف سوى جمع الأموال و الثروات، و عند ما يُسألون هؤلاء عن هدفهم من جمع المال رغم أنّهم لا يمتلكون عائلة و لا ينطلقون في سفرات ترفيهية و سياحية، فيجيبون بأننا نفرح بإضافة صفر أمام أرقام الأموال الموُدعة لنا في البنوك!

الاخلاق فى القرآن ج 2 99

النتيجة النهائية:

من مجموع ما تقدّم من الآيات الشريفة و ما ذكر لها من تفسير نستنتج أنّ مسألة الحرص و الطمع و حبّ الدنيا و الشغف بجمع الأموال و الثروات أمر خطير جدّاً في دائرة المفاهيم القرآنية، و هو مصدر لكثير من أشكال الشر و الفساد و يُعد من أقوى الموانع في مسيرة تهذيب النفس و في خط التكامل الأخلاقي و المعنوي.

الحرص و حبّ الدنيا في الأحاديث الإسلامية:

اشارة

إن مفردة «الحرص» و الكلمات المرادفة لها وردت في الأحاديث الإسلامية بشكل واسع على مستوى أبعادها و دوافعها و نتائجها السلبية حيث نختار منها نماذج معدودة:

1- نقرأ في الحديث الشريف عن النبي الأكرم يخاطب فيه أمير المؤمنين فيقول: «اعْلَم يَا عَلِيُّ! انَّ الْجُبْنَ وَ الْبُخْلَ وَ الْحِرْصَ غَرِيزَةٌ وَاحِدَةٌ يُجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ» «1».

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 1، ص 588، رقم 3139.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 79

2- و هذا المعنى و المضمون نجده بصورة اخرى في نهج البلاغة في عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر حيث أوصاه الإمام أن يحذر و يتجنب من استشارة البخلاء و الجبناء و أهل الحرص و الطمع فقال «انَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزٌ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ» «1».

فالشخص الّذي يحسن الظن باللَّه تعالى و قدرته المطلقة على الوفاء بالعهد و تأمين الرزق للعباد فإنه سوف لا يحرص أبداً على جمع الأموال و الثروات.

الإنسان الّذي يعيش حالة التوكّل على اللَّه و يؤمن بألطافه و عناياته فإنه لا يخشى غيره و لا يخاف أيّة قوّة غير قوته المطلقة.

و الإنسان الّذي يأمل دائماً برحمة اللَّه تعالى و لطفه فإنه لا يجد في نفسه بخلًا اطلاقاً.

أجل فإنّ المؤمن الكامل في توحيده و إيمانه باللَّه تعالى و بأسمائه و صفاته الحسنى فإنه لا يمكن

أن يتلوث بهذه الخصال الثلاثة القبيحة و الرذيلة رغم انها تشترك في الباطل بأصل واحد (و لهذا السبب نجد أحياناً انها تسمّى باسم غريزة واحدة و أحياناً اخرى بأسماء مختلفة لأنها متعدّدة في الظاهر و لكنها متحّدة في الباطن).

3- إنّ الحرص على الدنيا و ملذاتها و زخارفها بإمكانه أن يورث الإنسان التعب و الشقاء و يورّطه في السعي الدائب لتأمين رغباته الوهمية، و قد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين أنّه قال «الْحِرْصُ مَطِيّةُ التَّعَبِ» «2».

4- و في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين أيضاً أنّه قال: «الْحِرْصُ عَنَاءٌ مُؤَبَّدِ» «3».

و عند ما ندرس حالات الّذين يعيشون الحرص و الطمع في حركة الحياة نرى مدى التعب و الشقاء الّذي يعيشه هؤلاء ليل نهار في سبيل جمع الأموال و الزخارف الدنيوية من دون الاستفادة منها، و هذا شاهد صدق على الحديث المذكور آنفاً.

5- الإنسان الحريص لا يجد طعم الشبع أبداً، و لهذا السبب فهو دائماً يسعى لجمع ______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.

(2). غرر الحكم، ح 820، ميزان الحكمة، ج 1، ص 586، رقم 3596.

(3). غرر الحكم، ح 982، ميزان الحكمة، ج 1، ص 586، رقم 3592.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 80

الأموال و اكتناز الثروات حتّى لو لم ينتفع بها، و لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:

«الْحَرِيصُ فَقِيرٌ وَ لَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» «1».

6- و قد ورد في الأحاديث الشريفة أنّ الأشخاص الّذين يتخلصون من شراك الحرص و لا يقعون اسرى الطمع هم الّذين يتمتعون بالغنى الباطني، و من ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في حديث آخر «اغْنَى الْغِنَي مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِرْصِ أَسِيراً» «2».

7- الحرص على جمع الأموال و الماديات يُفضي بالإنسان

إلى الوقوع في الهلكة، و ليست الهلكة المعنوية فقط بل في كثير من الأحيان تكون مصحوبة بالهلكة المادية أيضاً، حيث نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه قوله: «انَّ الدِّينَارَ وَ الدِّرْهَمَ اهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ هُما مُهْلِكَاكُمْ» «3».

8- إنّ الإنسان الحريص يُكبّل نفسه بالقيود يوماً بعد آخر إلى أن يوصد أمامه طريق النجاة و الفلاح، كما نقرأ في المثال الّذي ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مَثَلُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا مَثَلُ دُودَةِ الْقَزِّ، كُلَّمَا ازْدَادَتْ مِنَ الْقَزِّ عَلَى نَفْسِهَا لَفّاً كَانَ ابْعَدَ لَهَا مِنَ الْخُرُوجِ! حَتَّى تَمُوتَ غَمّاً!» «4».

9- إنّ الحرص و الطمع يهدم شخصية الإنسان و يسحق كلّ قيمة له في أنظار الناس كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام «الْحِرْصُ يَنْقُصُ قَدْرَ الرَّجُلِ، فَلَا يُزِيدُ فِي رِزْقِهِ!» «5».

10- إنّ الحرص من الامور الّتي تؤدي إلى الكثير من الذنوب و الخطايا و القبائح منها عدم مراعاة الحلال و الحرام و ترك احترام حقوق الآخرين و التلوث بأنواع الظلم و الجور و العدوان، و لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام من جملة ما أوصى به مالك الأشتر في عهده ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1753، ميزان الحكمة، ج 1، ص 587، رقم 3615.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 316، ح 76، باب «حبّ الدنيا و الحرص عليها».

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 316، ح 6، باب «حبّ الدنيا و الحرص عليها».

(4). غرر الحكم، ح 1550، تصنيف الغرر، ص 294.

(5). غرر الحكم، ح 6628.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 81

المعروف أنّه قال «لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشْوَرَتِكَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ» «1».

و على هذا الأساس فإنّ عواقب الحرص و نتائجه وخيمة جداً في حياة

الإنسان حيث يورثه البعد عن اللَّه تعالى و يهدم مروئته و يكسر شخصيته و يسلب منه الراحة و الطمأنينة و بالتالي يُفضي به الحرص إلى الوقوع في وحل الذنوب الكبيرة الاخرى فيبتعد يوماً بعد آخر عن السعادة و الكمال المعنوي و يغدو أسيراً و ذليلًا في قيود النفس الأمارة و أحابيل الشيطان، و بكلمة واحدة انه يفقد دينه و دنياه.

1- تعريف الحرص

بالرغم من أنّ معنى و مفهوم (الحرص) واضح للجميع إجمالًا، و لكن الدقة و التوجه إلى مضمونه العميق يكشف لنا نقاط جديدة في دائرة هذا المفهوم.

يقول الراغب في مفرداته في تعريف الحرص بأنه بمعنى شدّة الرغبة و الميل إلى شي ء معيّن، و يرى أنّ هذه الكلمة في الأصل تأتي بمعنى الضغط على اللباس عند غسله بالماء بواسطة ضربه بالخشبة و أمثال ذلك.

و قد ورد عن أمير المؤمنين تعبير جميل جداً في تعريف الحرص عند ما سُئل: ما هو الحرص؟ فقال «هُوَ طَلَبُ الْقَلِيلِ بِاضَاعَةِ الْكَثِيرِ) «2» و يرى علماء الأخلاق أنّ الحرص من الرذائل الأخلاقية المتعلّقة بقوّة الشهوة و ذكروا في تعريفه (أنّ الحرص صفة من الصفات النفسانية تدفع الإنسان إلى جمع ما هو أكثر من حاجته، و هو من شُعب حبّ الدنيا و من الصفات المهلكة و الأخلاق الفاسدة) و يمثلون للحرص بأنه كالصحراء المترامية الأطراف و كالأرض الموحشة الّتي لا حدود لها فكلّما سار فيها الحريص لا يصل إلى غايتها و منتهاها.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.

(2). سفينة البحار، مادّة حرص.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 82

(الحريص) يُقال لشخص مبتلياً بمرض، مثل مرض الاستسقاء حيث كلّما شرب من الماء فإنّ عطشه لا ينطفأ.

إنّ الشخص الحريص لا يقبل أي دليلٍ منطقي على سلوكياته، فلو قيل له

مثلًا إنك بلغت من العمر ثمانين سنة و لم يبق من عمرك إلّا القليل، فلما ذا هذا الولع و الشوق لجمع الأموال و الثروات؟ و بالرغم من انه يفتقد الجواب الصحيح لهذا السؤال و لكنه يستمر في سلوكه الطفولي و لا ينتهي منه، بل على العكس من ذلك حيث نرى أنّ بعض الناس يزداد حرصاً و طمعاً كلّما ازداد سناً و أوغل في مرحلة الشيخوخة، كما ورد في الحديث المعروف عن النبي الأكرم أنّه قال: «يُشِيبُ بْنُ آدَمَ وَ يَشُبُّ فِيهِ خَصْلَتَانِ: الْحِرْصُ وَ طُولُ الْامَلِ» «1».

2- النتائج السلبية للحرص في حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية

رأينا في الآيات و الروايات الشريفة المذكورة سابقاً مدى النتائج السلبية و العواقب الوخيمة لحالة الحرص في واقع الإنسان، و لذلك فإنّ مطالعتها تغنينا عن أي شرح و تفسير آخر في هذا المجال و من ذلك:

1- إنّ الحريص مُبتلى في التعب المستمر و العسر و الحرج في حركة الحياة.

2- إنّ الحريص لا يشبع أبداً، و لهذا فإنه لو ملك الدنيا بأجمعها فإنه يعيش عيشة الفقراء أيضاً.

3- إنّ الحريص يعيش عيّش الفقراء و يموت موت الفقراء و لكنه يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.

4- إنّ الحرص يفضي بالإنسان إلى الهلكة لأن الإنسان الحريص و بسبب عشقه للدنيا و لزخارفها فانه لا يرى آفاق الخطر المحيطة بها بل يسارع إليها بكلّ عجلة و هلع.

5- إنّ الإنسان الحريص يكبل نفسه بقيود الماديات و أحابيلها و يزداد قربه من هذه القيود يوماً بعد آخر حتّى يوصد أمامه سبيل النجاة.

6- إنّ الحرص يذهب بشرف الإنسان و ماء وجهه و يسقط حرمته و مروءته في أنظار الناس، لأن الحريص و لغرض الحصول على مقصوده لا يلتزم بالاعراف الاجتماعية و لا

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص

22.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 83

يتقيد بالقيم و المُثل و السلوكيات المعتبرة في المجتمع الانساني بل يعيش كالأسير المقيد بسلسلة من رقبته يقوده الحرص من هنا إلى هناك.

7- إنّ الحرص يؤدي بالإنسان إلى التلوث بأنواع الذنوب كالكذب، الخيانة، الظلم و العدوان و غصب حقوق الآخرين و أمثال ذلك، لأنّه إذا أراد مراعاة الحلال و الحرام فإنه سوف لن يصل إلى مقصوده في حياته الدنيوية.

8- إنّ الحرص يتسبّب في إبعاد الإنسان عن اللَّه تعالى و يورثه الصغار في أنظار عباده و يسلبه الطمأنينة و السكينة و الهدوء النفسي فيعيش حياته مع العذاب الروحي و القلق المزمن.

9- إنّ الحريص يجمع الأموال و الثروات الّتي يتحمل مسؤوليتها فقط بينما ينتفع بها الآخرون.

10- إنّ الحرص إنّما هو نتيجة من نتائج سوء الظن باللَّه و في نفس الوقت يعمق هذه الحالة لدى الإنسان و يؤكد في نفسه سوء الظن هذا.

3- غنى النفس

و الملفت للنظر أنّ الإنسان الحريص يطلب الغنى من خارج ذاته و وجوده في حين أنّ أصل الغنى و حقيقته يجب أن يحصل عليها الإنسان من داخله.

و قد سُئل أحد العلماء عن حقيقة الغنى و عدم الحاجة و الفقر فقال: أن تقصر من آمالك و ترضى بما قسم لك.

و في الحديث الشريف الوارد عن رسول اللَّه و كذلك عن أمير المؤمنين أيضاً نقرأ هذا المضمون السامي في دائرة القيم الأخلاقية و المعنوية «خَيْرُ الْغِنىَ غِنَى النَّفْسِ» «1».

و في رواية اخرى عن رسول اللَّه أنّه قال: «الْغِنَى فِي الْقَلْبِ، وَ الْفَقْرُ فِي الْقَلْبِ» «2».

أجل فإذا كانت روح الإنسان تعيش الجوع المعنوي بسبب الحرص فإنه لو ملك هذا

______________________________

(1). الأمالي للصدوق، ص 394؛ غرر الحكم، ح 4949.

(2). بحار الأنوار، ج 69، ص 68.

الاخلاق

فى القرآن، ج 2، ص: 84

الإنسان الدنيا بحذافيرها فإنه يعيش فقيراً كذلك، و لو أنّ روحه كانت تعيش الغنى الذاتي و لم يجد في نفسه الحاجة و الطمع فإنه لو سُلب منه جميع ما في الدنيا فإنه يعيش الغنى كذلك.

4- الحرص المذموم و الممدوح

إنّ مفردة (الحرص) تأتي في الموارد السلبية فعند ما تُطلق هذه الكلمة يراد منها الحرص على الأموال و الثروة و المقام و سائر الشهوات المادية و الدنيوية، و ذلك بسبب أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في هذه الموارد المذمومة و القبيحة.

و لكن أحياناً تستخدم هذه الكلمة في موارد إيجابية و نافعة و بذلك تستحق المدح و لا تكون من الأخلاق الرذيلة بل تُعد من الفضائل أيضاً و ذلك عند ما تتحكم هذه الصفة في الإنسان في موارد الشوق و الرغبة الشديدة في أعمال الخير و الصلاح.

و من جملة ما ذكر القرآن الكريم من فضائل نبي الإسلام هو حرصه على هداية الناس و انقاذهم من الضلال حيث يقول: «لَقَدْ جَائَكُمْ رَسُولٌ مِنْ انْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «1».

و يقول في مكان آخر: «انْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَانَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ» «2».

و قد ورد ما يشبه هذا المعنى و المضمون في آيات اخرى من القرآن الكريم أيضاً «3».

و طبعاً وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مصاديق سلبية أيضاً.

أما في الروايات الإسلامية فإنّ كلمة «الحرص» وردت في موارد كثيرة إيجابية و في ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة في بيان صفات المتقين مخاطباً لهمّام ______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 128.

(2). سورة النحل، الآية 37.

(3). سورة يوسف، الآية 103؛ سورة النساء، الآية 129.

الاخلاق فى القرآن، ج 2،

ص: 85

«فَمِنْ عَلَامَةِ احَدِهِمْ انَّكَ تَرى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ» «1».

و ورد في الروايات الشريفة موارد متعددة أنّ من علامات المؤمن هو حرصه على التفقه في الدين أو حرصه على الجهاد في سبيل اللَّه أو الحرص على التقوى و أمثال ذلك «2».

و نختم هذا البحث بحديث شريف عن الإمام الباقر يقول «لَا حِرْصَ كَالْمُنَافِسَةِ فِي الدَّرَجَاتِ» «3».

و على هذا فإنّ للحرص مفهوم واسع و يأتي بمعنى شدّة العلاقة و الرغبة بشي ء معين بحيث يسعى جاهداً لتحصيله، فلو وقع هذا الشي ء في طريق الخير و السعادة و الصلاح لكان ممدوحاً، و لكن إذا وقع في طريق الدنيا و تحصيل المال و الثروة و الملذات الرخيصة فإنه يكون مذموماً كذلك، و لكن الغالب في استعمال هذه الكلمة هو في الموارد السلبية و السلوكيات الذميمة.

5- علاج الحرص

من المعلوم أنه و في علاج الأمراض البدنية لزوم الرجوع إلى الأسباب و الجذور، لأن العلاج بدون قطع جذور المرض لا ينفع على المدى الطويل و ستبقى النتائج و الآثار السلبية في وجوده، و حتّى لو تمّ العلاج من خلال استخدام المهدئات و العلاجات المؤقتة فإنّ المرض سوف يتجلّى و يظهر بعد مدّة.

و هكذا الحال في الأمراض الأخلاقية، فلا بدّ أوّلًا من التوغل لمعرفة جذور المرض ثمّ قطعها من الأساس.

و كما تقدّمت الإشارة إليه، (و ورد في الأحاديث الإسلامية أيضاً) أنّ أحد جذور الحرص هو سوء الظن باللَّه و عدم التوكل عليه، و كلّ ذلك يعود إلى اهتزاز اركان التوحيد

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 193.

(2). بحار الأنوار، ج 64، ص 271، ح 3 و ص 294، ح 18.

(3). ميزان الحكمة، ج 1، ص 589، ح 3646.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص:

86

الأفعالي لدى الإنسان.

فالشخص الّذي يعتقد بأن اللَّه قادر و رازق و أنّ مفتاح الخيرات بيده فقط «بِيَدِكَ الْخَيْرُ انَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «1» فسوف لا يجد في نفسه حالة الحرص على جمع الأموال و النعم المادية الاخرى.

إنّ الشخص الّذي يعيش الإيمان الكامل بوعد اللَّه تعالى و قوله: «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ...» «2» فبدلًا من الحرص على جمع الأموال فإنه سيحرص على انفاقها في سبيل اللَّه.

و عند ما تهتز أركان الإيمان في وجود الإنسان و خاصّة التوحيد الأفعالي فإنّ الصفات الرذيلة سوف تتجذر في نفس الإنسان و أخطرها الحرص، و حينئذٍ فلا بدّ من تقوية أركان الإيمان لمنع تفشي هذه الصفة و رسوخ هذه الحالة السلبية في باطن الإنسان.

و أحد الأسباب الاخرى للحرص هو الجهل و عدم الاطلاع على حقائق الامور و ما يترتب عليها من نتائج و آثار في الواقع العملي.

فإذا علم الإنسان أنّ الحرص يتسبّب في سلب طمأنينته و هدوئه في حركة الحياة و انه سيوقعه في العسر و الشقاء و التعب الدائم، و أنّ الحرص سوف يُهدم مروءته و يحطّم شخصيّته و يسقطه في أنظار الناس، و أنّ الحرص يتسبب في أن يعيش عيشة الفقراء بالرغم من غناه الظاهري و أنّ ما جمعه من الأموال و الثروات سينتفع به الآخرين و لكنه سيُسأل عنها يوم القيامة بالرغم من أنّ الآخرين هم الّذين ينتفعون بها في الدنيا.

أجل فإنّ الحريص إذا فكر في هذه النتائج و العواقب الوخيمة فإنّ ذلك سيؤثر في نفسه و روحه تأثيراً ايجابياً.

و يقول الفيض الكاشاني في المحجّة البيضاء: إعلم أنّ هذا الدواء مركّب من ثلاثة أركان «الصبر» و «العلم» و «العمل» و مجموع ذلك

خمسة امور:

الأوّل و هو العمل: الاقتصاد في المعيشة و الرفق في الانفاق، فإنّ هذا القدر يتيسّر بأدنى ______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 26.

(2). سورة النحل، الآية 96.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 87

جهد و يمكن معه الإجمال في الطلب، فالاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة و نعني به الرّفق في الإنفاق و ترك الفرق فيه.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من اقتصد أغناه اللَّه، و من بذّر أفقره اللَّه، و من ذكر اللَّه عزّ و جلّ أحبّه اللَّه» «1».

الثاني: أنّه إذا تيسّر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل الاستقبال، و يعينه على ذلك قصر الأمل و التحقّق بأنّ الرّزق الّذي قدّر له لا بدّ و أن يأتيه و إن لم يشتدّ حرصه، قال تعالى: «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ» «2».

الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عزّ الاستغناء و ما في الطمع و الحرص من الذل فإذا تحقّق له ذلك إزدادت رغبته في القناعة لأنّه في الحرص لا يخلو من تعب و في الطمع لا يخلو من ذل، قال النبي صلى الله عليه و آله: «عزّ المؤمن استغناؤه عن الناس» «3».

الرابع: أن يكثر تأمّله في تاريخ بعض اليهود و النصارى و أراذل الناس و الحمقى و من لا دين لهم و لا عقل، ثمّ ينظر إلى أحوال الأنبياء و الأولياء و الصحابة و التابعين و يستمع أحاديثهم و يطالع أحوالهم و يقارن بينهم و يخير عقله بين أن يكون على مشابهة أرذل الخلق أو على الاقتداء بمن هو أعزُّ أصناف الخلق عند اللَّه حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك و القناعة باليسير.

الخامس: أن يفكر في

مخاطر جمع المال و الثروة من دون قيد أو شرط، و كذلك في عواقب هذا العمل في الدنيا و الآخرة، و كذلك عليه أن يفكر في العواقب الحميدة التي تأتي من القناعة.

و عليه أن يفكر دائماً في أمور دنياه و ينظر الى ما دونه من الخق، لا أن ينظر الى من هم أعلى منه في الغنى لأن الشيطان يسوّل للانسان دائماً و يدعوه للنظر الى ما فوقه، و يقول له في ______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 3 ص 2557.

(2). سورة البقرة، الآية 268.

(3). شرح غرر الحكم، ج 5، ص 338.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 88

وساوسه: ما ذا ينقصك حتى يكون فلاناً أغنى منك؟ لماذا لا تسعى لكي تصل الى ما هم فيه؟

أُنظر الى هؤلاء و قد غرقوا بالخير و النعمة و تمتعوا بلذائذ الدنيا؟! و أنت تفكر فقط في الخوف من الله، و قد ضيقت على نفسك بالتزامك المستمر بالحلال و الحرام، هل أنت اكثر تدنياً من هؤلاء ام أنت أخوف منهم من الله؟!

قال أبو ذر: «أوصاني خليلي أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي- أي في الدنيا-».

6- إجابة عن شبهة

و هنا يمكن أن يتصور البعض أنّ الإسلام و من خلال هذه الآيات و الروايات المذكورة في هذا الباب لا يتلائم مع تطور الحياة المادية و الدنيوية للناس أو أنّه ينظر إلى اصول التمدن المادي و التطور العلمي على مستوى الطبيعة بنظرة سلبية، من خلال دعوته لاتباعه إلى التجرد عن الدنيا و عدم التعلّق بها، في حين أنّ هذا التصور اشتباه كبير، فالإسلام يتصدّى لمحاربة الحالات الأخلاقية السلبية في واقع الإنسان الّتي تنطلق من الحرص و حب الدنيا و التضحية بالقيم الأخلاقية و

الإنسانية من أجل الرفاهية الدنيوية و اشباع الملذات الرخيصة، لا أنّه يقف أمام استخدام الطاقات الفكرية و المواهب الطبيعية في عملية التطور العلمي في خط الكرامة الإنسانية و توكيد حرية الإنسان من النوازع و الأهواء النفسانية و تقوية القيم المعنوية.

و توضيح ذلك: أنّ المواهب المادية في حد ذاتها هي أدوات و وسائل للوصول إلى المقاصد الاخرى و تحقيق طموحات الإنسان في حركة الحياة و ليستفيد منها في الصعود في مدارج الكمال المعنوي و الإنساني، فلو انه استخدمها في غير هذا الغرض و تحرّك معها من موقع الأهواء و الشهوات الرخيصة فسوف يبتعد بذلك عن الهدف من الخلقة و يسقط في مهاوي الرذيلة و الانحطاط و التسافل الأخلاقي، و هذه الامور تتقاطع مع التعاليم الإسلامية.

و مثلها كمثل الأدوات الصناعية و المنتوجات المادية الّتي يمكن الاستفادة منها بوجهين، فالطائرة يمكن الاستفادة منها للتنقل السريع و تسهيل وصول الإنسان إلى مقصده و التوسع الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 89

في العمران و تأمين المعيشة و مساعدة الفقراء و المحتاجين و أمثال ذلك، كما يمكن الاستفادة منها بطريقة اخرى و ذلك بجعلها أداة حربية لقتل البشر و إلقاء القنابل على الأبرياء و تخريب المدن و القرى و إحراق الأخضر و اليابس و إتلاف مواهب الطبيعة.

و عليه فلا ينبغي النظر إلى موقف الإسلام السلبي من حالة الحرص و الطمع و حبّ الدنيا لدى الإنسان كذريعة لترك النشاطات الاقتصادية و التطور العلمي و الصناعي و بالتالي يتحول معها الإنسان إلى شخص خامل و كسول و يتعامل مع الأحداث و المجتمع من موقع الانزواء و العزلة كما نلاحظ ذلك لدى بعض المتصوفة حيث يسلكون هذا المسلك بالتوسل بأمثال هذه المفاهيم الدينية و النصوص

الإسلامية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 90

5

حبّ الدنيا

تنويه:

إنّ أحد جذور (الحرص) و ما يترتب عليه من عواقب وخيمة سبق أن ذكرناها في الفصل السابق، هو حبّ الدنيا و التعلق بزخارفها و زبارجها.

فعند ما تتقد نار هذا الحب الدنيوي في أعماق الإنسان فسوف تقوده إلى أنواع الحرص و الولع بالنسبة إلى المواهب المادية و الدنيوية من قبيل سائر أنواع العشق الّذي يغطي على فكر الإنسان و عقله و يسوقه يوماً بعد آخر إلى السقوط في لجّة التلوث بالخطايا و الالتصاق بالعالم السفلي.

و لهذا السبب فإنّ القرآن الكريم و من أجل قطع جذور الحرص و الولع قد تحرّك في آياته الكريمة من موقع ذمّ حبّ الدنيا و الافراط في التوغل في ملذاتها و التشبّث بزخارفها و الّذي يمثل الجذور الأصلية للحرص و الطمع في بُعدهما السلبي، و نقرأ في المفاهيم القرآنية تعبيرات مختلفة تحط من قدر الدنيا و قيمتها لكي يخفف ذلك من حب أهل الدنيا لها و يتحركوا بعيداً عن أجوائها و يتخلصوا بذلك من الحرص و الطمع و لا يضحوا بالقيم الأخلاقية و المثل الإنسانية على مذبحها.

و بهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي من تعبيراتها الدقيقة ما يضي ء لنا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 92

الطريق لدراسة هذه المبادئ و المواقف الأخلاقية المهمة:

1- إنّ القرآن الكريم يرى أنّ الدنيا ما هي إلّا لعب و لهو كما يلهو و يلعب الأطفال، و قد ورد وصف ذلك في آيات متعددة، ففي قوله تعالى: «وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ ...» «1».

و في آية اخرى قوله تعالى «اعْلَمُوا انَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِي الْامْوَالِ وَ الْاوْلَادِ ...» «2».

و

في الحقيقة أنّ هذه الآيات الكريمة تشبّه أصحاب الدنيا بأنّهم كالأطفال الّذين يعيشون الغفلة و الجهل عمّا يدور حولهم و لا همّ لهم إلّا الاشتغال بالتوافه و السفاسف من الامور فلا يرون حتّى الخطر القريب المحدق بهم.

بعض المفسّرين قسّم حياة الإنسان إلى خمس مراحل (من الطفولة إلى أن يبلغ مرحلة الكهولة في سن الأربعين) و ذكر أنّ لكلّ مرحلة ثمان سنوات و قال: إنّ السنوات الثمانية الاولى من عمر الإنسان هي مرحلة اللعب، و السنوات الثمانية الثانية هي مرحلة اللهو، و السنوات الثمانية الثالثة حيث يعيش الإنسان في فترة الشباب فإنه يتجه إلى الزينة و الالتذاذ بالجمال، و السنوات الثمانية الرابعة يقضي وقته و طاقاته في التفاخر، و أخيراً في السنوات الثمانية الخامسة يهتم بالتكاثر في الأموال و الأولاد، و هنا يثبت شخصية الإنسان و يستمر على هذه الحالة إلى آخر عمره، و بالتالي فإنّ أصحاب الدنيا لا يبقى لهم مجال للتفكر في الحياة المعنوية و القيم الإنسانية السامية.

2- و من الآيات الاخرى في هذا المجال نرى مفهوم «متاع الغرور» بالنسبة إلى الحياة الدنيا حيث يقول تعالى «... وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» «3».

______________________________

(1). سورة الأنعام، الآية 32.

(2). سورة الحديد، الآية 20.

(3). سورة آل عمران، الآية 185.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 93

و يقول في مكان آخر «... فَلَا تَغُرَّنَكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّه الْغَرُورُ» «1».

و هذه التعبيرات تدلّ على أنّ زخارف الدنيا و بريقها الخادع يُعد أحد الموانع المهمة للتكامل المعنوي و الصعود في درجات الكمال الإلهي للإنسان و ما دام هذا المانع موجوداً فإنه لا يصل إلى شي ء من هذه الكمالات المعنوية.

إنّ الحياة الدنيا مثلها كمثل السراب الّذي يجذب العطاشى

نحوه في الصحراء المحرقة و لكنهم لا يحصلون على شي ء منه أخيراً، و هكذا حال التعلقات المادية الدنيوية فإنّها تجذب أصحاب الدنيا نحوها طمعاً في إرواء ظمأهم و عطشهم إلّا أنّهم لا يجدون ما يطلبونه في هذا المسير المنحرف بل يزدادون ظمأً و حُرقة، و كما أنّ السراب يبتعد عن الإنسان كلّما مشى نحوه و هكذا يظل يركض وراء السراب حتّى يهلك، فكذلك الدنيا تبتعد عن الإنسان كلّما اتّجه نحوها فتزيده عطشاً لها و ارهاقاً حتّى يهلك.

و نرى هذه الحالة في الكثير من أصحاب الدنيا الّذين يركضون وراء متاع الدنيا و زخارفها سنوات مديدة من عمرهم و عند ما يحصلوا على شي ء منها فانهم يصرّحون بأنّهم لم يجدوا ضالّتهم إلّا و هي (الهدوء النفسي و الطمأنينة الروحية) بل يعيشون الجفاف الروحي أكثر و يجدون أنّ ملذات الحياة الدنيا تقترن دائماً مع الاشواك و المنغصات و بدلًا من أن تورثهم الهدوء و الطمأنينة فإنّها تعمل على إذكاء حالة القلق و الاضطراب في جوانحهم و أعماق وجودهم و بذلك لا يجدون مبتغاهم فيها.

3- و هناك طائفة اخرى من الآيات الكريمة الّتي تقرر لنا هذه الحقيقة، و هي أنّ الانجذاب نحو زخارف الدنيا و زبارجها يؤدي إلى أن يعيش الإنسان الغفلة عن الآخرة، أي أن يكون الشغل الشاغل له وهمه الوحيد هو تحصيل هذه الزخارف الخادعة، فتقول الآية الشريفة: «يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمُ غَافِلُونَ» «2».

______________________________

(1). سورة لقمان، الآية 33.

(2). سورة الروم، الآية 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 94

فهؤلاء يجهلون حتّى الحياة الدنيا أيضاً و بدلًا من أن يجعلونها مزرعة الآخرة و قنطرة للوصول إلى الحياة الخالدة و نيل المقامات المعنوية و ميداناً

لممارسة السلوكيات الّتي تصعد بهم في سُلّم الفضائل الأخلاقية و مدارج الإنسانية، يتخذون الدنيا بعنوان انها الهدف النهائي و المطلوب الحقيقي و المعبود الواقعي لهم، و من الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغفلة عن الحياة الاخرى.

و يقول القرآن الكريم في آية اخرى:

«أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ» «1» ثمّ تضيف الآية «فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ الّا قَلِيلٌ» «2» أجل فإنّ الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الافق و محدودية الفكر فانهم يرون الدنيا كبيرة و واسعة و خالدة و ينسون الحياة الاخرى الأبدية الّتي قرّرها اللَّه تعالى لحياة الإنسان الكريمة و المليئة بالمواهب الإلهية و النعيم الخالد.

4- و نقرأ في قسم آخر من الآيات الكريمة أنّ الدنيا هي (عرض) على وزن (غرض) بمعنى الموجود المتزلزل و الّذي يعيش الاهتزاز و التغير و التبدل في جميع جوانبه و حالاته، و من ذلك قوله تعالى «تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ» «3».

و تقول الآيات في مكان آخر مخاطبة لأصحاب النبي الأكرم «... يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ...» «4».

و في آيات اخرى نجد هذا التعبير أيضاً حيث يدلّ على أنّ جماعة من المسلمين أو غير المسلمين و بدافع من الحرص و الطمع تركوا الاهتمام بالمواهب الإلهية الخالدة و الحياة الاخرى و القيم الإنسانية العالية و اشتغلوا في جمع زخارف الدنيا الزائله و اشباع الملذات ______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 38.

(2). سورة النساء، الآية 94.

(3). سورة النساء، الآية 94.

(4). سورة الأنفال، الآية 67.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 95

الرخيصة في حركة الحياة الدنيا. أجل فان النعمة الحقيقية هي ما عند اللَّه تعالى و ما بقي فكلها (عرض) يقبل الزوال و الاندثار.

و هذا التعبير هو في

الحقيقة انذار لجميع طلاب الدنيا بأنّهم ينبغي عليهم الاهتمام بما لديهم من طاقات و رأس مال عظيم و بإمكانهم استخدامها في سبيل حياة كريمة و خالدة فلا يضيعونها في الامور الرخيصة و الزائلة.

5- و نقرأ في قسم آخر من الآيات التعبير عن المواهب المادية بأنّها «زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» «1».

و وردت تعبيرات مشابهة لهذه الآية في آيات اخرى أيضاً في قوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ الَيْهِمْ اعْمَالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ» «2».

و في مكان آخر يخاطب القرآن الكريم نساء النبي صلى الله عليه و آله و يقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِازْوَاجِكَ انْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ امَتِّعْكُنَّ وَ اسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا» «3».

و هذه التعبيرات توضح بصورة جيدة أنّ هذا البريق لزخارف الحياة الدنيا ما هو إلّا زينة للحياة المادية، و بديهي أنّ الإنسان لا يُعبّر عن الامور الحياتية و المصيرية بتعبير (زينة) أو (زينة الحياة الدنيا) أي الحياة السفلى و التافهة.

و من الجدير بالذكر انه حتّى أنّ مفهوم (الزينة) نجده في آيات اخرى مبنياً للمجهول حيث ورد تعبير (زُيّن) و هذا يدلّ على أنّ هذه الزينة غير حقيقية بل خيالية و وهمية.

مثلًا نقرأ في سورة البقرة الآية 212 قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...».

و نقرأ في سورة آل عمران الآية 14 قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ».

______________________________

(1). سورة الكهف، الآية 28 و 46.

(2). سورة هود، الآية 15.

(3). سورة الأحزاب، الآية 28.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 96

هذه التعبيرات و تعبيرات اخرى مماثله تشير إلى أنّه حتّى مفهوم (الزينة) في مثل هذه الموارد ما هي

إلّا زينة وهمية و خيالية حيث يتوهم الناس من طلاب الدنيا انها زينة حقيقية و واقعية.

و هنا يتبادر سؤال مهم، و هو انه لماذا جعل اللَّه تعالى مثل هذه الامور زينة في أنظار الناس؟

و من المعلوم أنّ الدنيا إنما جُعلت لتربية الإنسان و اختباره و امتحانه لأن الإنسان إذا ترك مثل هذه الزينة الجميلة و الخادعة و الّتي تكون مقرونة بالحرام و الإثم غالباً من أجل اللَّه تعالى و السير في خط التقوى و الإيمان فإنّ ذلك من شأنه أن يعمق في نفسه روح التقوى و القيم الأخلاقية و يصعد به في مدارج الكمال المعنوي و إلّا فإنّ صرف النظر عن هذه الامور المخادعة بمجرّده لا يُعدّ افتخاراً و مكرمة للإنسان.

و بعبارة أدق فإنّ التمايلات و الرغبات الباطنية و الأهواء النفسانية تزين للإنسان الامور المادية بزينة جميلة لكي تدعوه إلى ارتكاب الاثم و ممارسة الحرام، و عليه فإنّ هذه الزينة تنبع من ذات الإنسان و من باطنه، و عند ما نرى في الآيات الكريمة نسبة التزين إلى اللَّه تعالى فذلك بسبب أنّ اللَّه تعالى هو الّذي خلق هذه التمايلات و الرغبات و الأهواء الطاغية، و عند ما نقرأ في بعض الآيات نسبتها إلى الشيطان الرجيم في قوله تعالى: «... وَ زَيِّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُم ...» «1» فذلك بسبب أنّ عملية التزيين هذه بالرغم من انها من جهة منسوبة إلى اللَّه تعالى بسبب القانون العام في عالم الخِلقة، إلّا أن إتّباع هذه الأهواء و الشهوات من جهة هو عمل الشيطان الرجيم الّذي يسوّل للإنسان هذه الامور الخاطئة ليوقعه في الاثم و الذنب.

و على أيّة حال فإنّ المستفاد من مجموع الآيات المذكورة أعلاه أنّ «حبّ الدنيا» إذا

استقر في قلب الإنسان و بصورة مفرطة فإنه سيؤدي به إلى الابتعاد عن اللَّه تعالى و الغفلة عن الآخرة.

______________________________

(1). سورة النمل، الآية 24.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 97

حبّ الدنيا في الأحاديث الإسلامية:

و قد ورد ذمّ الدنيا و حبها في الروايات الإسلامية كثيراً و لا سيّما ما ورد في كلمات النبي الأكرم و خطب نهج البلاغة بصورة واسعة و مفصّلة و من ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند ما سُئل عن سبب تسمية الدنيا بالدنيا فقال «لِانَّ الدُّنْيَا دَنِيَّةٌ خُلِقَتْ مِنْ دُونِ الْآخِرَةِ» «1».

2- و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «اكْبَرُ الْكَبَائِرِ حُبُّ الدُّنْيَا» «2».

3- و نفس هذا المعنى ورد في كلمات أمير المؤمنين حيث قال: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ الْفِتَنِ وَ اصْلُ الْمِحَنِ» «3».

4- و نقرأ في حديث آخر أيضاً عن الإمام على عليه السلام قوله: «انَّ الدُّنْيَا لَمُفْسِدَةُ الدِّينِ وَ مُسْلِبَةُ الْيَقِينِ» «4».

5- و ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «انَّ اوَّلَ مَا عُصِىَ اللَّهُ بِهِ سِتٌّ:

حُبُّ الدُّنْيَا وَ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَ حُبُّ الطَّعَامِ وَ حُبُّ النَّوْمِ وَ حُبُّ الرَّاحَةِ» «5».

و اغلب هذه الامور الستة أو جميعها نجدها متوفرة في قصة طغيان الشيطان الرجيم و معصيته و ترك الأولى لآدم و معصية قابيل، و لذا ذُكرت بأنّها أول الخطايا و المعاصي.

6- و نقرأ في حديث آخر أنّه سئل الإمام علي بن الحسين عليهما السلام: «ايُّ الْاعْمَالِ افْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ؟» قال: «مَا مِنْ عَمَلٍ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ جَلَّ وَ عَزَّ وَ مَعْرِفَةِ رَسُولِهِ افْضَلُ مِنْ بُغْضِ الدُّنْيَا وَ انَّ لِذَلِكَ لَشُعَباً كَثِيرَةً وَ

لِلْمَعَاصِي شُعَباً». ثمّ يذكر الإمام عليه السلام اصول المعاصي الثلاث و هي «الكبر» لدى إبليس، و «الحرص» الّذي سبب في اخراج آدم و حواء من الجنة، و «الحسد» الّذي دفع قابيل لأن يقتل أخاه، ثمّ أضاف: «فتشعب من ذلك حبّ النساء و حبّ ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 54، ص 356.

(2). كنز العمّال، ج 3، ص 184، ح 6074.

(3). غرر الحكم، ح 4870.

(4). غرر الحكم، ح 3518.

(5). بحار الأنوار، ج 70، ص 60. الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 98

الدنيا و حبّ الرئاسة و حبّ الراحة و حبّ الكلام و حبّ العلو و الثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلهنّ في «حبّ الدنيا» فقال الأنبياء و العلماء بعد معرفة ذلك: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».

ثمّ إنّ الإمام و من أجل التمييز بين الدنيا الممدوحة و المذمومة ذكر في نهاية الحديث «وَ الدُّنْيَا دُنْيَا بَلَاغٍ وَ دُنْيَا مَلْعُونَة» «1».

7- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن أبي طالب قوله «ارْفُضِ الدُّنْيَا فَانَّ حُبَّ الدُّنْيَا يُعمِي وَ يُصِمُّ وَ يُبْكِمُ وَ يُذِلُّ الرِّقَابَ» «2».

و من الطبيعي انه عند ما يتجذر العشق لشي ء من الأشياء في وجود الإنسان فانه يجعله غافلًا عن أوضح الأشياء، فتراه يتمتع بعين و لكنه لا يرى الوقائع، و له اذن و لكنه لا يسمع، و له لسان و لكنه لا يتحرّك إلّا بما يهيم في قلبه من العشق لذلك الشي ء، فتراه و من أجل الوصول إلى محبوبه أي الدنيا فانه مستعد لأنّ يخضع إلى كلّ ذلة و مهانة.

8- و أيضاً نقرأ في الحديث الشريف بالنسبة إلى بيان الموارد السلبية لحبّ الدنيا قول أمير المؤمنين عليه السلام في الحكمة من هذا الحكم الإلهي «حُبُّ الدُّنْيَا

يُفْسِدُ الْعَقْلَ، وَ يُصِمُّ الْقَلْبَ عَنْ سُمَاعِ الْحِكْمَةِ وَ يُوجِبُ الِيمَ الْعِقَابِ» «3».

9- و نقرأ في حديث آخر في بيان الآثار الضارة و المفاسد الكثيرة لحبّ الدنيا ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «انَّ الدُّنْيَا مُشْغِلَةٌ لِلْقُلُوبِ وَ الْابْدَانِ» «4».

10- و نختم هذه البحث بحديث شريف آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و هو: «انَّهُ مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ الّا الْتَاطَ بِثَلَاثٍ: شُغْلٍ لَا يُنْفَدُ عَنَاؤُهُ، وَ فَقْرٌ لَا يُدْرَكُ غِنَاهُ، وَ أمَلٍ لَا يَنَالُ مُنْتَهَاهُ» «5».

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 130، باب حبّ الدنيا، ح 11.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 136.

(3). غرر الحكم باللغة الفارسية، ج 3، ص 397، رقم 4878.

(4). بحار الأنوار، ج 74، ص 81.

(5). بحار الأنوار، ج 74، ص 188.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 99

الدنيا المطلوبة و الدنيا المذمومة:

قلنا كراراً أن المقصود من حبّ الدنيا في هذا البحث هو ما يساوي العشق للدنيا لا الاستفادة المعقولة من المواهب المادية و الطبيعية للتوصل بها إلى الكمال المعنوي فإنّ ذلك ليس من حبّ الدنيا قطعاً بل من حبّ الآخرة، و بعبارة اخرى أنّ الكثير من البرامج المعنوية للسير في خطّ التكامل الإنساني لا تتسنّى بدون الامكانات المادية، و في الواقع أنّ هذه الامكانات المادية من قبيل مقدمة الواجب الّتي إذا أتى بها الإنسان بنيّة مقدمة الواجب، فمضافاً إلى أنّها لا تكون عيباً فإنّها تكون مشمولة بالثواب الإلهي أيضاً.

و لهذا السبب نجد في الآيات القرآنية الكثيرة تعبيرات ايجابية عن مواهب الدنيا، و من ذلك:

ما ورد في آية الوصية من التعبير عن مال الدنيا به «خير» أي الخير المطلق حيث تقول الآية: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ اذَا

حَضَرَ احَدَكُمُ الْمَوْتُ انْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ الْاقْرِبينَ بِالْمَعْرُوفِ» «1».

2- و يقول في مكان آخر «بركات السماء و الأرض» عن مواهب الطبيعة الّتي فتحها اللَّه تعالى للمؤمنين و ذلك في قوله تعالى: «وَ لَوْ انَّ اهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْارْضِ ...» «2».

3- و نقرأ في مكان آخر التعبير عن المال و الثروة بأنّها «فضل اللَّه» كما ورد في سورة الجمعة: «فَاذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْارْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ...» «3».

4- و في آية اخرى ورد أنّ كثرة الأموال و الثروات بأنّها ثواب من اللَّه تعالى للتائبين كما ورد في قصة نوح: «يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِامْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ انْهَاراً» «4».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 180.

(2). سورة الأعراف، الآية 96.

(3). سورة الجمعة، الآية 10.

(4). سورة نوح، الآية 11 و 12.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 100

الاخلاق فى القرآن ج 2 124

و في مكان آخر يقرر أنّ الأموال هي وسيلة للحياة و محور للنشاطات الدنيوية للأقوام البشرية و تؤكد الآيات على عدم وضعها بيد السفهاء و تقول: «وَ لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ امْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً» «1».

5- و في مورد آخر يتحدّث القرآن الكريم عن وعد اللَّه تعالى للمجاهدين في سبيله بالغنائم الكثيرة و يعدها من أنواع الثواب الإلهي لهم و يقول: «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ...» «2».

6- و في موضع آخر من الآيات القرآنية الكريمة يتحدّث القرآن عن النعم المادية الدنيوية و يعبّر عنها ب (الطيبات) كما نقرأ في سورة الأعراف الآية 32 قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي

اخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ...».

و في مورد آخر يقول: «وَ اذْكُرُوا اذْ انْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْارْضِ تَخَافُونَ انْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَ ايَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «3».

هذه التعبيرات العميقة و أمثالها من تعبيرات القرآن الكريم يُستفاد منها جيداً أنّ المواهب المادية و الدنيوية في ظلّ ظروف خاصّة و أجواء متناسبة ليست فقط غير مطلوبة بل هي طيبة و طاهرة و باعثة على طيب البشر و طهارتهم.

7- و نقرأ في آيات اخرى عبارات تقرر أنّ الامكانات المادية مضافاً إلى انها من فضل اللَّه على الإنسان يمكنها أن تكون سبباً للصعود بالإنسان إلى مرتبة الصالحين كما ورد في الآية 75 من سورة التوبة: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ».

هذه الآية الشريفة و بالنظر إلى شأن نزولها كما ورد في التفاسير انها نزلت في أحد الأنصار يُدعى «ثعلبة بن حاطب» الّذي طلب من النبي صلى الله عليه و آله أن يدعو له بكثرة المال لينفق ______________________________

(1). سورة النساء، الآية 5.

(2). سورة الفتح، الآية 20.

(3). سورة الأنفال، الآية 26.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 101

منه في سبيل اللَّه و ليكون من الصالحين ففي البداية لم يستجب النبي لطلبه لما يعرف من مزاجه و روحيته و لكن بعد إصراره دعا له النبي بذلك و كانت النتيجة معروفة، فهذه الآية توضح على أنّ الامكانات المادية يمكنها أن تكون وسيلة للصعود بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي و نيل السعادة الحقيقية و الوصول إلى مرتبة الصالحين و المقربين.

و من مجموع العناوين السبعة الواردة بالآيات أعلاه يتضح جيداً أنّ النعم المادية و المواهب الدنيوية ليست مذمومة و قبيحة بالذات بل

هي تابعة لكيفية استخدامها و استعمالها و الطريقة الّتي يسلك بها الإنسان في الاستفادة منها، فلو انه استفاد منها بصورة صحيحة لأضحت مطلوبة و جميلة و نقيّة و طاهرة، و في غير هذه الصورة فهي ذميمة و سلبية و مضرّة.

و الشاهد على هذا الكلام ما ورد في الروايات الكثيرة في كتاب وسائل الشيعة في باب (اسْتِحْبَابُ الاسِتعَانَةِ بِالدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) «1».

و قد أورد المرحوم الشيخ الحر العاملي في هذا الباب إحدى عشر رواية كلّها شاهدة على انه يمكن الاستفادة من المواهب المادية و الدنيوية في سبيل تحقيق السعادة الأُخروية و من جملة ما أورده العاملي حديثاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ الْغِنَى» «2».

و في حديث آخر في هذا الباب عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «غِناً يَحْجُزُكَ عَنِ الظُّلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَقْرٍ يَحْمِلُكَ عَلَى الْاثْمِ»

و ورد في حديث آخر عن أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال للإمام: و اللَّه إنا لنطلب الدنيا و نحب أن نؤتاها، فقال عليه السلام: «تحبّ أن تصنع بها ما ذا؟» قال: أعود بها على نفسي و عيالي، و أصل بها و أتصدق بها و أحجّ و أعتمر، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «ليس هذا طلب ______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 16- 18.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 16.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 102

الدنيا، هذا طلب الآخرة» «1».

و نختم هذا البحث بكلام لأمير المؤمنين في الخطبة 209 من نهج البلاغة حيث يقول عند ما دخل مع جماعة لعيادة «العلاء بن زياد الحارثي» و هو من الشخصيات المعروفة في البصره و من أصحاب الإمام حيث كان قد

اشترى داراً وسيعة فقال له الإمام «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا وَ انْتَ الَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ احْوَجُ».

ثمّ إنّ الإمام أكمل كلامه بهذه العبارة «وَ بَلَى انْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تُقْرِىَ فِيهَا الضَّيْفَ، وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ» «2»

النتيجة: هي أنّ المواهب المادية و الدنيوية متى ما أصبحت وسيلة للوصول إلى الكمال المعنوي و بناء الآخرة و مساعدة الضعفاء و حماية المحرومين و ترويج و تقوية دعائم الحقّ و العدالة فليس هناك أفضل منها، و إذا سلك بها الإنسان في مسير الذنوب و الحرص و التكاثر بدون ملاحظة الحلال و الحرام فليس هناك شي ء أسوء منها، أجل فمثل هؤلاء الناس من أتباع الدنيا الّذين يتحركون في استخدام هذه النعم و المواهب في طريق اشباع الغرائز المادية فإنّهم يجمعون في واقعهم النفساني مجموعة من الصفات الرذيلة و الرغبات القبيحة و الدنيئة.

و يروي أحد أصحاب الإمام علي بن موسى الرضا و يُدعى محمّد بن إسماعيل بن بزيغ حيث يقول: سمعت من الإمام الرضا أنّه قال: «لَا يَجْتَمِعُ الْمَالُ الّا بِخِصَالٍ خَمْسٍ بِبُخْلٍ شَدِيدٍ وَ امَلٍ طَوِيلٍ وَ حِرْصٍ غالبٍ وَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَ ايثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 19، باب استحباب جمع المال من الحلال ...، ح 3.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 209.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 19، ح 4.

6

الحسد

تنويه:

إن أحد الرذائل الأخلاقية الاخرى الّتي اقترنت مع نتائج سلبية كبيرة في حياة الفرد و المجتمع هي صفة (الحسد) و يعني كما ذكر علماء الأخلاق (الحزن على رؤية النعمة لدى الآخرين و تمني زوالها بل السعي في طريق

رفعها عن الطرف الآخر).

إن الحسد يملأ أجواء الروح الإنسانية بالظلمة و يشوّه معالم النفس و يثير في المجتمع البشري عدم الأمن و القلق و التوتر الناشي ء من حالات الصراع النفسي بسبب دوافع الحسد.

إنّ الحسود ليس له راحة في الدنيا و لا يتنعم في الآخرة، و بما أنّ سعيه في حركة الحياة هو إزالة آثار النعمة عن الطرف المحسود فسوف يتلوث بأنواع الجرائم النفسية و العملية و من بين ذلك: الكذب، الغيبة، ارتكاب أنواع الظلم و العدوان بل قد يؤدي به الأمر في حالات الحسد الشديدة إلى القتل و سفك الدماء أيضاً.

و في الحقيقة يمكن القول إن الحسد هو أحد الجذور الأصلية لجميع أنواع الفساد و السيّئات و من أشنع فخاخ الشيطان و أخطر شراكه و هو المصيدة الّتي وقع فيها الإنسان الأوّل المتمثل بابن آدم (قابيل) حيث تلوثت يده بدم أخيه (هابيل) بدافع من الحسد، و لهذا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 104

السبب نجد في الروايات الإسلامية و المفاهيم الدينية أنّ الحسد يُعد أحد الاصول الثلاثة للكفر أي (التكبر، الحرص، الحسد).

إنّ الشخص الحسود في الواقع يعترض على حكمة اللَّه تعالى، و لهذا السبب فالحسد نوع من الكفر و الشرك الخفي.

و النقطة المقابلة للحسد هو (حب الخير) للآخرين، أي أن يحب الإنسان أن يرى نعمة اللَّه تصيب الآخرين من أفراد المجتمع و يلتذ بذلك و يسعى لحفظها و يرى أنّ سعادته مقرونة بسعادة الآخرين و مصالحه في خط واحد مع مصالح الآخرين و منافعهم.

و بهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنقرأ في أجوائها معطيات هذه المسألة:

1- «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ

قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى ما أنا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِى وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَ ذَلِكَ جَزَاء الْظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ» «1».

2- «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا ابَتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَجِدِينَ* قَالَ يَا بُنَىَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ». «2»

3- «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيًما» «3».

4- «وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَ اصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «4».

______________________________

(1). سورة المائدة، الآيات 27 و 28 و 30.

(2). سورة يوسف، الآية 4 و 5.

(3). سورة النساء، الآية 54.

(4). سورة البقرة، الآية 109.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 105

5- «وَ مِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» «1»

6- «وَ الَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا و لإخوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَ لَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًاّ لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» «2»

7- «وَ نَزَعْنَا مَافِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ» «3».

تفسير و استنتاج:

نار الحسد المحرقة

«الطائفة الاولى من الآيات محل البحث تتحدّث عن قصة ابني آدم و أنّ أحدهما قد ملكه الحسد على الآخر بحيث أدّى به إلى أن يقتل أخاه، و بذلك وقعت أوّل جريمة قتل على الأرض و كانت في الحقيقة بداية للجرائم البشرية الاخرى.

تقول الآية الكريمة

«وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» «4».

أي انني لم أقصد أن اسي ء إليك لتصمّم على قتلي فإنّ مشكلتك هي من باطنك لأنّ عملك غير خالص و لم يقترب بالتقوى، و لذلك لم يتقبل اللَّه منك لأن اللَّه تعالى لا يتقبل إلّا ما كان طاهراً نقياً.

ثمّ تقول الآية «لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى ما أنا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ» «5».

ثمّ إن قابيل و بسبب نار الحقد و الحسد المتأججة في قلبه صمّم على قتل أخيه هابيل و تمزيق أواصر الاخوّة بينهما بحيث إنّ الحقد و الحسد حجبا عن عينه كلّ القيم الأخلاقية

______________________________

(1). سورة الفلق، الآية 5.

(2). سورة الحشر، الآية 10.

(3). سورة الحجر، الآية 47.

(4). سورة المائدة، الآية 27.

(5). سورة المائدة، الآية 28.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 106

و المثل الإنسانية و ارتكب تلك الجناية الشنيعة كما تقول الآية «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ» «1».

أجل لقد أصبح من الخاسرين في الدنيا و الآخرة، فقد خسر اخوه و خسر نعمة الأمن و الاستقرار النفسي و الهدوء الروحي، لأن القاتل لو بقيت له ذرة من الوجدان فسوف يعيش عذاب الوجدان باستمرار و لا يجد طعم الهدوء و الراحة في الدنيا، و كذلك حاله في الآخرة حيث يستقر في جهنم و بئس المصير.

و قد ورد في الروايات انه قتل أخاه و هو نائم «2»، و تُعد هذه جناية مضاعفة تدلّ على أنّ الحسد إذا ما استعر في قلب الإنسان فسوف يحول كلّ نعيم إلى رماد تذروه الرياح.

و لكنّ قابيل ندم بسرعة على

فعلته الشنيعة و ملكهُ الحزن العميق، و كلّما نظر إلى جسد أخيه الدامي سرت في نفسه قشعريرة و تملكه الخوف و القلق، فما كان منه إلّا أن حمل جسد أخيه و لم يعلم ما يصنع به و اين يذهب به بحيث يغطي على آثار جنايته؟ مضافاً إلى أنّ هذا المنظر الموحش يقلقه و يزعجه فلم يكن يدري ما يصنع في هذه اللحظة، و على رغم جنايته العظيمة و ذنبه الكبير فإنّ لطف اللَّه قد شمله كما تقول الآية «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَا رِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَا رِىَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» «3».

و قد جاء في بعض الروايات أنّ قابيل رأى أمام عينه غرابين يتقاتلان فقتل أحدهما الآخر ثمّ حفر له حفرة في الأرض و دفن فيها جسد الغراب المقتول.

و قال بعض إن غراباً جاء بجسد غراب ميت و دفنه، و قيل أيضاً أنّ قابيل رأى غراباً يدفن بعض المواد الغذائية ليحفظها كما هو ديدن الغربان فتعلم من ذلك دفن الموتى «4».

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 30.

(2). تفسير القرطبي، ج 3، ص 2133.

(3). سورة المائدة، الآية 31.

(4). نور الثقلين، ج 1، ص 616.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 107

و على أيّة حال فقد ندم قابيل بشدة و لكن ندمه لم يكن مستقراً و من موقع التوبة و الانابة إلى اللَّه تعالى حتّى يكون من شأنه تطهيره من الذنوب.

و هنا يطرح سؤالان، الأوّل: ما المقصود من «القربان» في قوله تعالى «إذ قرّبا قرباناً»؟ و الآخر: هو انه من اين عَلِما أنّ اللَّه تعالى تقبل قربان هابيل و لم يتقبل قربان قابيل؟

و لم يرد في

القرآن الكريم ما يشير إلى جواب عن هذين السؤالين، و اما الروايات فهي مختلفة على مستوى السند أو المتن و الدلالة، و لكن ما يتطابق مع المنطق و العقل و يتلائم مع القرائن الموجودة هو ما ورد في الرواية عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام جعلت فداك إن الناس يزعمون أنّ آدم زوج ابنته من ابنه؟ فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «قد قال الناس في ذلك و لكن يا سليمان أما علمت أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: لو علمت أنّ آدم زوج ابنته من ابنه لزوجت زينب من القاسم، و ما كنت لارغب عن دين آدم.

فقلت جعلت فداك إنهم يزعمون أنّ قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على اختهما، فقال له:

يا سليمان تقول هذا! أما تستحيي أنّ تروي هذا على نبي اللَّه آدم؟ فقلت: جعلت فداك فبم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية ثم قال لي: يا سليمان أنّ اللَّه تبارك و تعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية و اسم اللَّه الأعظم إلى هابيل، و كان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل، فغضب فقال: أنا أولى بالكرامة و الوصية. فأمرهما أن يقربا قرباناً بوحي من اللَّه إليه، ففعلا فقبل اللَّه قربان هابيل فحسده قابيل فقتله» «1».

و على أيّة حال فإنّ قابيل وجد نفسه في مفترق طريقين لإنهاء حالة القلق و الاضطراب الّتي يعيش فيها: أحدهما التوبة إلى اللَّه تعالى و السعي لجبران ما صدر منه من الاثم بالعمل الصالح و الخالص و التحرك في خط التقوى و الاستقامة و الانفتاح على اللَّه (و هو العمل الّذي يسمّيه علماء الأخلاق ب «الغبطة» و هي حالة

ممدوحة و بناءة) و لكن قابيل اختار الطريق الآخر، أي السعي لإزالة النعمة من أخيه، و بذلك أوقع نفسه في أسوء طريق و انتخب أشنع وسيلة بذلك و تلوثت يده بدم أخيه البري ء ليطفى ء نار الحسد في قلبه.

______________________________

(1). نور الثقلين، ج 1 ص 610، ح 125.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 108

إذا تسبب «تكبر» إبليس لأن يقع طريد رحمة اللَّه إلى الأبد، و تسبب «الحرص» في أن يحرم آدم من الجنّة، فإنّ «الحسد» قد جعل قابيل ملعوناً و مطروداً من رحمة اللَّه إلى الأبد بسبب قتله لأخيه، و كلّ قتل يقع في الدنيا فإنّ قابيل له سهم من تلك الجناية باعتباره المؤسس لها.

فالتاريخ البشري ملي ء بالجنايات و الفجائع المختلفة الّتي تنطلق بدافع من (الحسد).

«الطائفة الثانية» من الآيات الكريمة التي تحدثت عن جانب آخر من هذه الصفة الذميمة في حالات الإنسان و هي «الحسد» و آثارها المدمرة في حياة الفرد و المجتمع، و تستعرض في ذلك قصة النبي يوسف و اخوته.

«النبي يوسف» لم يكن صاحب الجمال في وجهه و ملامحه البدنية فحسب بل كان يتمتع بمنتهى الجمال في أخلاقه و سيرته الحميدة، و هذا الأمر هو الّذي اخبر عن مستقبله العظيم كما توقع له أبوه يعقوب و أحبه ذلك الحبّ الشديد، و كان هو السبب في غرس عامل (الحسد) في قلوب أخوته الّذين كانوا أكبر منه سناً.

و هذا الموضوع تجلّى بوضوح عند ما حكى يوسف لأبيه حلماً كان قد رآه حيث تقول الآية: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا ابَتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَجِدِينَ» «1».

و كان النبي يعقوب يعلم أنّ مثل هذه الرؤيا ليست رؤيا عادية و من افرازات الخيال

للأطفال بل هي علامة على مستقبل مشرق ينتظر ابنه يوسف فقال له كما تتحدث الآية:

«قَالَ يَا بُنَىَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» «2».

و لكن هل أنّ اخوة يوسف علموا بمضمون رؤيا يوسف العجيبة الّتي تتحدّث عن ______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 4.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 109

مستقبله الزاهر أم لا؟

لا نعلم بذلك على وجه الدقة، و لو أنّهم كانوا قد علموا بذلك لكانت هذه بمثابة البذرة الثانية لحالة (الحسد) الّتي اعتمرت قلوبهم، و لكن على أيّة حال فإنّ الأب كان يعلم انه إذا علم الاخوة بمضمون هذه الرؤيا العجيبة فانهم سوف يتحركون ضد أخيهم يوسف من موقع العداوة و الخصومة، و لهذا أصرّ عليه بكتمان هذا الخبر عنهم.

و جاء في بعض الروايات أنّ يعقوب و من فرط فرحه و سروره بهذه الرؤيا قد أخبر زوجته بذلك على أساس انها تكتم الخبر، و لكن بما أنّ السر إذا تجاوز الاثنين فشا، فإنّ هذه الحكاية انتشرت و علم بها اخوة يوسف، و جاء في رواية اخرى أنّ يوسف لم يستطع كتمان خبر هذه الرؤيا، (فتصوّر أن نهي أبيه هو نهي ارشادي لا نهي تحريمي) فعند ما علم اخوته بخبر الرؤيا قالوا أنّ يوسف يطمح أن يكون ملكاً «1».

و لكن إذا لم يعلم الاخوة بخبر الرؤيا فانهم على الأقل كانوا يرون تعامل أبيهم مع يوسف و سلوكه الّذي ينبى ء عن عظيم حبّه له و خاصة انه كان بقية امّه راحيل الّتي ماتت و هو في طفولته.

القرآن الكريم يقول في هذا الصدد «إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ» «2».

و

بهذه الصورة اصدروا حكمهم بضلالة أبيهم، و بعد ذلك صمّموا على رفع هذا المانع الكبير، أي يوسف، من طريقهم ليبقى لهم حبّ أبيهم و مودّته، و ضمن البحث في (جلسة شيطانية) قرروا ما يلي «اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ» «3».

و كما نعلم انه لم يتم لهم قتل أخيهم يوسف بل قد توسّط أحد الاخوة في ذلك و تم القرار

______________________________

(1). تفسير البرهان، ج 2، ص 2433، تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 6، ص 341.

(2). سورة يوسف، الآية 8.

(3). سورة يوسف، الآية 9.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 110

بإبعاده إلى أرض بعيدة و منطقة نائية، و بالرغم من أنّ هذا النفي و التبعيد ليوسف قد سبّب الحزن الشديد لأبيه يعقوب بحيث ابيضّت عيناه من الحزن و صار بصيراً من كثرة البكاء، و لكن هذا العمل و على خلاف توقع الاخوة اصبح مقدمة لينال يوسف مقام القدرة و السلطنة على بلاد مصر الّتي كانت تعتبر من أعظم البلدان في ذلك الزمان و كذلك لم يحظوا بحبّ أبيهم أيضاً.

أجل فإنّ الامواج الخطيرة للحسد قوية و عظيمة إلى درجة أنّها دفعت الاخوة إلى قتل أخيهم و تسبّبت في أن يحملوا أوزاراً كبيرة اخرى منها الكذب و كتمان الجريمة و نسبت أبيهم إلى الضلالة و اهانة نبي من الأنبياء و أمثال ذلك.

«الآية الثالثة» تشير إلى قصة اليهود و تتحدث عن سلوكياتهم الذميمة، و نعلم أنّ طائفة عظيمة من بني إسرائيل قد قرأوا علامات النبي في آخر الزمان و منطقة ظهوره، فرحلوا من (الشامات) إلى (المدينة) ليحظوا بصحبة ذلك النبي و يؤمنوا به، و لذلك كانوا ينتظرونه دائماً.

و لكن بعد ظهور هذا النبي

فإنّ الكثير منهم لم يبقوا على تعهدهم و التزامهم المسبق بحمايته و نصرته و الإيمان به، بل أصبحوا في صف المخالفين له و المحاربين لدعوته، و السبب الأهم في ذلك هو عنصر «الحسد» و الآخر هو ما توهموا من وقوع منافعهم و مصالحهم في الخطر.

القرآن الكريم يتحدّث لنا عن هذه الحالة لليهود فيقول «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيًما» «1».

أجل فإنّ المشيئة الإلهية قد تعلقت في أن يملك آل إبراهيم و الّذين كان اليهود من ذريتهم و أن تكون لهم النبوة و العلم، و لكن المشيئة الإلهية قررت في زمان لاحق أن تتعلق النبوة و العلم بمحمّد و آله الكرام و كلّ ذلك وفقاً للمصالح الّتي تتعلق بها المشيئة الإلهية، فهل أنّ اليهود كانوا يقبلون أن يحسدهم الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله في الزمان السالف؟

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 54.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 111

إذن فلما ذا استعرت في قلوبهم نيران الحسد عند ما يرون أنّ نعمة اللَّه قد صارت من نصيب آخرين و بذلك تحركوا في خط الباطل.

«الآية الرابعة» تتحدّث عن طائفة من أهل الكتاب الّذين يتعاملون مع المسلمين من موقع الحسد، و الظاهر انها ناظرة إلى اليهود و تقول «وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَ اصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «1».

إن الحسد قد يصل بالإنسان إلى درجة أن لا ينحصر تأثيره في الامور المادية مورد التنازع بين الناس عادة فحسب بل قد يتجاوز ذلك إلى

الامور المعنوية الّتي لا تتزاحم بطبعها في تواجدها بين أفراد البشر كافة بخلاف حال الامور المادية الّتي تتزاحم بالذات بين الأفراد، و هؤلاء يحسدون المؤمنين من موقع العناد و الاصرار و يسحقون على سعادتهم و يديرون ظهورهم للحقّ بسبب امور موهومة، و نفس هذا الحسد يتسبّب أن يضعف في الآخرين أيضاً الدافع لسلوك طريق السعادة و التحرّك في خط الإيمان و التقوى، و هذا من عجائب الحسد.

و قد ذكر الكثير من المفسّرين أنّ جملة «حَسَداً مِنْ عِنْدِ انْفُسِهِمْ» إشارة إلى أنّ العامل لهذه الحالة في نفوسهم هو عنصر الحسد المتجذر في باطنهم و الّذي يتفرع من جهلهم و عدم اطلاعهم على حقائق الامور بل حتّى بعد اطلاعهم على الحقيقة يسلكون هذا المسلك المنحرف كما تقول الآية بعد ذلك «مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ».

و لكنّ القرآن الكريم يخاطب المسلمين من موقع الأمر إلى أن يتركوا هؤلاء الحسّاد لحالهم (لأن نار الحسد المستعرة في قلوبهم هي أفضل جزاء لهم) و لكن لا يتصوروا أنّ هذا العفو و الصفح من قِبل المسلمين يستمر إلى ما لا نهاية و أنّهم أحرار في سلوك أيّ عدوان و اضرار بالآخرين، كلّا.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 109.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 112

إنّ الزمان سوف يُثبت على انّ العذاب الإلهي سوف يُحيط بهؤلاء المنحرفين و الظالمين إما في الدنيا بواسطة جيش الحقّ فيعذبهم اللَّه و يريهم جزاء مؤامراتهم الخبيثة و ممارساتهم المنحرفة تجاه أصحاب الحقّ، أو يذيقهم العذاب في الآخرة.

و على أيّة حال فهذه الآية تشير إلى أنّ المسلمين الّذين اعتنقوا الإسلام حديثاً عليهم أن لا يستسلموا لوساوس اليهود و غيرهم من المنحرفين و قوى الضلال لأنهم ينطلقون في تعاملهم مع المسلمين من

موقع الحسد و لا يريدون سعادتهم بل يتألمون لما يروا من سعادة المسلمين في ظلّ التقوى و الإيمان.

«الآية الخامسة» و هي الآية الخامسة من سورة الفلق تشير إلى شرّ الحاسدين و تخاطب النبي بأن يتعوذ باللَّه تعالى من شرّ كلّ حاسد و تقول «وَ مِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» «1».

و في بداية هذه السورة تخاطب النبي بالقول «قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ* مِن شَرّ مَا خَلَقَ».

ثمّ تقسم المخلوقات الشريرة إلى ثلاثة أقسام و تقرر أنّ أساس الشرّ و العامل الأصلي له في العالم هي هذه الامور الثلاثة:

الأوّل: المخلوقات الشريرة الّتي تستغل ظلمة الليل و تهجم على الإنسان في حال نومه و يقظته، و التعبير بكلمة (غاسق) (و يعني الموجود الشرير الّذي يهجم في الليل) و ذلك لأن الحيوانات الوحشية و الحشرات المؤذية تخرج ليلًا من آجامها و جحورها بل إنّ الأشخاص من أهل الشرّ و الخبث و الدناءة يستغلّون ظلمة الليل غالباً للوصول إلى مقاصدهم الشريرة.

و لكن الظلام هنا يمكن أن يكون له معنىً واسع بحيث يشمل كلّ أنواع الجهل و الغفلة و المؤامرات الخبيثة و أمثال ذلك لأن قطّاع طريق الحقّ يستغلون جهل الناس عادة و يهجمون على المؤمنين و اصفياء القلوب من موقع التآمر عليهم.

______________________________

(1). سورة الفلق، الآية 5.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 113

ثمّ تشير السورة إلى الأشرار الّذين ينفخون في العقد، و هو تعبير يشير إلى النساء اللواتي يسلكن طريق الإنحراف كما هو حال الساحرات الّذين يقرأن بعض الأوراد و التماتم في حال عملية السحر ثمّ ينفخن في العُقد و يقرأن على البسطاء و السذّج من الناس مطالب و كلمات غير مفهومة، و بهذه الوساوس يسعين إلى ايجاد عنصر الخذلان في إرادتهم و

يجرّونهم إلى حال الترديد و التشكيك، فعند ما تضعف الإرادة في الإنسان يتسنّى حينئذٍ لجيش الشيطان أن يهجم و يتسلط عليه.

ثمّ تشير الآيات إلى الطائفة الثالثة و الأخيرة من طوائف الشرّ و تقول «وَ مِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ».

و هنا يتضح أنّ أحد عوامل التخريب و الفساد في العالم هو عامل الحسد و التخريب الّذي ينشأ من فعل الحسّاد، و عليه فالآية في حديثها عن المنابع الثلاثة للشرّ و الفساد (و هي: المهاجمون في ظلمة الليل، و الموسوسون الّذين يتحركون من خلال الإعلام لهدف تضعيف عقائد الناس و ايمانهم و ايجاد الخلل في العلاقات الاجتماعية، و الحاسدون الّذين يتحركون بين الناس من موقع التخريب) فهذه الآيات شاهد ناطق على المراد أي الأضرار الوخيمة للحسد.

أمّا ما ورد في الآية من هذه السورة من الصفة الإلهية (بِرَبِّ الْفَلَقِ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ هذه الطوائف الشريرة الثلاثة تستغل دائماً الظلمة و الجهل و الاختلاف و الكفر، فلو أنّ هذه الظلمات تبدّلت إلى نور العلم و الاتحاد و الايمان فإنّ قوى الانحراف هذه سوف لا تستطيع أن تعمل شيئاً.

«الآية السادسة» من الآيات مورد البحث بعد أن مدحت الأنصار مدحاً بليغاً (و هم الّذين دعوا نبي الإسلام إلى يثرب و نصروه و استقبلوه أحسن استقبال و جعلوا جميع ما لديهم من امكانات تحت اختياره) تحدّثت عن (التابعين) و هم الّذين جاءوا بعد المهاجرين و الأنصار و التزموا خطّ الايمان و اعتنقوا الإسلام و استمروا في خط الايمان، تقول الآية «وَ الَّذِينَ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 114

جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا و لإخوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَ لَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًاّ

لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» «1».

و على هذا الأساس يقول هؤلاء بعد طلبهم المغفرة لهم و لمن تقدّمهم في الإيمان (المهاجرين و الأنصار) حيث يطلبون من اللَّه تعالى أن يُزيل أي شكل من أشكال (الغِل و الحقد و الحسد) في قلوبهم بالنسبة إلى المؤمنين، لأنهم يعلمون انّه ما دامت هذه الامور تعيش في قلب الإنسان فإنّ روابط المحبّة و الاخوّة و الاتحاد لا يمكن أن تؤثر أثراً و بالتالي لا ينال الفرد التوفيق في حركته الدينية و الاجتماعية.

كلمة (غِل) المأخوذة من مادّة (غلل) و كما يقول الراغب في كتابه (المفردات) هي في الأصل بمعنى الشي ء الخفي الّذي ينفذ تدريجياً و بخفاء، و لهذا يُقال للماء الجاري (غلل) لأنّه ينفذ إلى الأشجار تدريجياً.

ثمّ استُعمل الغلول في (الخيانة) لأنها تنفذ بخفاء و تدرّج، و كذلك استُعملت في (الحقد و الحسد) حيث ينفذان إلى القلب بشكل خفي و تدريجي.

و جاء في (لسان العرب) أنّ الحسد نوع من (الغلّ) كما أنّ من مصاديقه هو الحقد و العداوة أيضاً.

و الكثير من المفسّرين يرون في تفسير الغِل بمعنى الحسد كالفخر الرازي في (التفسير الكبير) و المراغي في تفسيره و القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) في ذيل هذه الآية محل البحث.

«الآية السابعة» و الأخيرة من الآيات مورد البحث تتحدّث عن صفات أهل الجنّة و تقول بعد تصريحها باستقبال الملائكة لهم في القيامة و دعائهم لهم بالسلامة و الأمن «وَ نَزَعْنَا مَافِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ» «2».

______________________________

(1). سورة الحشر، الآية 10.

(2). سورة الحجر، الآية 47.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 115

أجل فإنّ أهل الجنّة طاهرون من كلّ أشكال الحسد و الحقد و العداوة الّتي يتصف بها أهل النار، و إذا

رأينا أنّهم يعيشون حالة الأخوة و السلامة و الأمن في الجنّة فإنما هو بسبب زوال هذه الامور السلبيّة من وجودهم و قلوبهم (و ذلك بلطف اللَّه و ببركة أعمالهم الصالحة في الدنيا).

و لا شكّ أنّ الناس في الدنيا لو عاشوا بحياة خالية من الحقد و العداوة و الحسد في تفاعلهم الاجتماعي فيما بينهم لأضحت حياتهم الدنيوية كحياة أهل الجنّة حيث يعيشون الأمن و الأمان و الاخوة و الصفاء أيضاً.

النتيجة:

و من مجموع ما تقدّم من الآيات المذكورة آنفاً تتضح الآثار السلبيّة الوخيمة لحالة الحسد في حركة الحياة الفردية و الاجتماعية، و يتضح كذلك موقف القرآن السلبي و الشديد من هذه الصفة الأخلاقية الذميمة، فالحسد هو الّذي تسبب في أن يقتل الإنسان أخاه و أن يُغمض عينه عن رؤية الحقّ و يُسدل على عقله حجاباً كثيفاً يمنعه عن رؤية الحقيقة و يُثير في أجواء المجتمع الظلمة، و يقطع أواصر المحبّة و الود بين الأفراد، و يحوّل المجتمع البشري إلى جهنم محرقة تحرق المتلوثين بهذه الصفة الذميمة.

الحسد في الروايات الإسلامية:

و نقرأ في الروايات الإسلامية الذمّ الشديد لحالة الحسد بحيث قلّما نجد صفة من الصفات الرذيلة قد ورد ذمّها بهذه الشدّة في النصوص الدينية، و على سبيل المثال و كنماذج و عيّنات من ذلك نكتفي بإستعراض عدّة روايات تتحدّث حول هذا الموضوع:

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 116

1- ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» «1».

و التعبير أعلاه يشير إشارة واضحة إلى انّ نار الحسد يمكنها أن تأتي على جميع عناصر السعادة لدى الإنسان و تحرق حسناته و أتعابه طيله عمره و تهدر ثمرات اتعابه بحيث يخرج من الدنيا صفر اليدين.

2- و هذا المعنى ورد بصورة أشد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر و الصادق عليهما السلام حيث قالا: «انَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْايمانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» «2».

أجل فإنّ الصفة الرذيلة للحسد لا تحرق الحسنات فقط بل تحرق الإيمان أيضاً و تبدّله إلى رماد، و سيأتي تفصيل الكلام في شرح هذا الحديث الشريف.

3- و في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْحَسَدُ

شَرُّ الْامْرَاضِ» «3».

و طبقاً لهذا الحديث فإنه ليس هناك من الأمراض الأخلاقية أسوء و أشر من الحسد.

4- و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً قوله: «رَأْسُ الرَّذَائِلِ الْحَسَدُ» «4».

5- و كذلك ورد عن هذا الإمام في تعبيره الكنائي عن الحسد «للَّهِ دَرُّ الْحَسَدِ مَا اعْدَلَهُ بَدَءَ بِصَاحِبِهِ فَقَتَلَهُ» «5».

6- و أيضاً ورد عن هذا الإمام قوله: «ثَمَرَةُ الْحَسَدِ شَقَاءُ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَة» «6».

7- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «آفَةُ الدِّينِ الْحَسَدُ وَ الْعُجْبُ وَ الْفَخْرُ» «7».

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 325.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 306، ح 1 و 2.

(3). غرر الحكم الشرح الفارسي، ج 1، ص 91.

(4). المصدر السابق.

(5). شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 316، بحار الأنوار، ج 70، ص 241.

(6). غرر الحكم، ح 6857.

(7). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 327.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 117

8- و عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: عند ما كان موسى بن عمران يناجي اللَّه عزّ و جلّ إذ نظر إلى رجل في ظلّ العرش، فقال: «يَا رَبِّ مَنْ هَذَا الّذي قَدْ اظَلَّهُ عَرْشُك» «1»

فقال: «يَا مُوسَى هَذَا مِمَّنْ لَمْ يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».

9- و في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَبْلَ الْحِسَابِ بِسِتَّةٍ».

«قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟»

«قَالَ: الْامَرَاءُ بِالْجَوْرِ، وَ الْعَرَبُ بِالْعَصَبِيَّةِ، وَ الدَّهَاقِينُ بِالتَّكَبُّرِ، وَ التُّجَّارُ بِالْخِيَانَةِ، وَ أَهْلُ الرُّسْتَاقِ بِالْجَهَالَةِ، وَ الْعُلَمَاءُ بِالْحَسَدِ» «2».

و عليه فإنّ الحسد يمثل بلاء العلماء بالدرجة الاولى.

10- و نختم هذا البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه

و آله (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) أنّه قال: «انَّهُ سَيُصِيبُ امَّتِي دَاءُ الْامَمِ! قَالُوا: وَ مَا ذَا دَاءُ الْامَمِ؟! قَالَ: الْاشَرُ وَ الْبَطَرُ وَ التَّكَاثُرُ وَ التَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا، و التَّبَاعُدُ و التَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ، ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ!» «3».

امور مهمة:

اشارة

بعد أن اتضح موقف القرآن الكريم و الروايات الإسلامية من هذه الرذيلة الأخلاقية (الحسد) و عمق الفاجعة المترتبة عليه في حياة الإنسان و المجتمع البشري بقيت عدّة نقاط مهمّة في هذا البحث لا بدّ من استعراضها لتتضح الأبعاد المختلفة لموضوع الحسد و هي عبارة عن:

1- معنى و مفهوم الحسد.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 275.

(2). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 327.

(3). غرر الحكم الشرح الفارسي، ج 1، ص 326.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 118

2- دوافع الحسد.

3- علامات و آثار الحسد.

4- المعطيات الفردية و الاجتماعية للحسد.

5- طرق الوقاية من الحسد و علاجه.

1- مفهوم الحسد و الغبطة

ذكر علماء الأخلاق في تعريف الحسد انه: تمني زوال النعمة عن الآخرين سواءاً وصلت هذه النعمة إلى الحاسد أم لا.

و عليه فإنّ عمل الحسود هو التخريب أو تمنّي التخريب و زوال آثار النعم و المواهب الإلهية عن الآخرين سواءاً انتقلت إليه تلك النعمة أم لا.

و على هذا الأساس فإنّ أشد أنواع الحسد هو أن يتمنّى الإنسان زوال النعمة عن الآخر و يتحرّك في هذا المسير أيضاً سواءً عن طريق ايجاد سوء الظن بالنسبة إلى المحسود، أو عن طريق ايجاد الموانع لعمله في حركة الحياة و المعيشة، و هذا النوع من الحسد يحكي عن خبث الباطن الشديد للحسود.

و المرتبة الأدنى منها هي أن يكون هدف الحاسد هو تحصيل تلك النعمة عن طريق سلبها من الآخرين، و بالرغم من انّ هذه الحالة هي من الرذائل الأخلاقية و لكنها ليست في الشدّة كما رأينا في المرتبة الاولى منها.

و هناك مرتبة أدنى من ذلك أيضاً حيث يتمنّى فيها الحاسد زوال النعمة عن الآخر بدون أن يتحرّك في هذا السبيل على مستوى الكلام أو الخطوات العملية الاخرى.

و هذه الحالة

الذميمة إذا حصلت للإنسان بدون اختيار منه كما قد يحصل لدى الكثير، فلا يترتب عليها إثم، و لكن إذا كانت بمحض ارادته بحيث حصلت له بسبب بعض المقدمات الاختيارية و بإمكانه إزالة هذه المقدّمات، فبلاشك تُعتبر هذه من الرذائل الأخلاقية أيضاً و لكن هل يترتب على ذلك إثم أم لا؟

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 119

و هنا تأمّل في هذا الموضوع ناشي ء من هذه الحقيقة، و هي هل أنّ الصفات الباطنية حتّى لو كانت اختيارية هي محرمة حتّى لو لم تظهر في عمل الإنسان و فعله، أو تُعتبر صفة أخلاقية تكشف عن انحطاط أخلاقي لذلك الشخص بدون أن تستتبعها حرمة في البين؟

و على أيّة حال فإنّ النقطة المقابلة للحسد هي (الغِبطة) و هي أن يتمنّى الإنسان أن تكون له نعمة مثلما للآخرين أو أكثر منها بدون أن يتمنّى زوال تلك النعمة عن الآخر.

و لكن البعض يرى انّ (الغبطة) نوع من الحسد أيضاً و يستشهد لذلك بحديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً «1».

و لكن من الواضح أنّ هذا المعنى ينسجم مع تفسيرنا للحسد بمفهومه الواسع بحيث يشمل كلّ مقارنة لما لدى الفرد من النعم مع ما لدى الآخرين منها، و هو في الواقع نزاع لفظي، و المعروف هو ما تقدّم آنفاً من تعريف الحسد.

و على أيّة حال فالحسد صفة ذميمة و قبيحة في دائرة الأخلاق، في حين انّ (الغِبطة) ليس فقط غير مذمومة، بل محمودة و مطلوبة أيضاً، و تعتبر سبباً لترقي المجتمع و الصعود به في مدارج الكمال كما ذكر ذلك الطريحي في (مجمع البحرين) في مادّة (حَسَدَ).

و نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قوله «انَّ الْمُؤْمِنَ يَغْبُطُ وَ

لَا يَحْسُدُ، وَ الْمُنَافِقُ يَحْسُدُ وَ لَا يَغْبُطُ» «2».

2- دوافع الحسد

من المعلوم أنّ الكثير من الصفات الرذيلة تتناغم مع بعضها و بينها تأثير متقابل، و الحسد أيضاً من هذه الصفات حيث ينشأ من صفات قبيحة اخرى، و هو بنفسه يُعد منبعاً و مصدراً لرذائل كثيرة أيضاً.

و يذكر علماء الأخلاق للحسد منابع كثيرة منها: العداوة و الحقد بالنسبة إلى الآخرين ______________________________

(1). راجع لسان العرب و التحقيق في كلمات القرآن الحكيم.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 307، ح 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 120

حيث يتسبّب في أن يتمنّى الإنسان زوال النعمة عن الطرف الآخر الّذي يحمل له العداء و يبطن له الحقد.

و الآخر هو الكِبر و الغرور، و لهذا إذا رأى المتكبر غيره يتمتّع بنعم أكثر منه فإنه يتمنّى زوالها بل يسعى في إزالتها أيضاً لكي يُحرز تفوّقه على الآخرين.

الثالث: حبّ الرئاسة حيث يتسبّب في أن يتمنّى الإنسان زوال نعمة الآخرين لكي يستطيع بذلك من تحكيم سيطرته و حكومته عليهم، لأنّه إذا لم تكن قدرته و ثروته و امكاناته الاخرى أكثر من الآخرين فإنه قد لا يستطيع أن يثبّت أركان حكومته عليهم.

الرابع من أسباب الحسد: الخوف من عدم الوصول إلى المقاصد الدنيوية، لأن الإنسان يتصور أحياناً أنّ النعم الإلهية محدودة فلو أنّ الآخرين حصلوا عليها فيمكن أن يُحرم منها أو لا يصل إليه منها إلّا القليل.

الخامس: الاحساس بالحقارة و الدونية، فالأشخاص الّذين لا يجدون في أنفسهم اللياقة للوصول إلى المقامات العليا و حيازة المراتب السامية فإنّ ذلك يتسبب في ابتلائهم بعقدة الحقارة الّتي تدفعهم إلى تمني زوال النعمة من الآخرين و أن لا ينال الآخرون مكانة اجتماعية مهمة ليكونوا معهم سواء.

السادس: من أسباب الحسد هو البخل و خبث

الباطن لأن البخيل ليس فقط غير مستعد لأن يبذل ما في يده إلى الآخرين، بل يتألم عند ما يرى نِعم اللَّه تعالى تصل إلى غيره، أجل فإنّ ضيق الافق و دناءة الطبع و خساسة النفس تقود الإنسان إلى أن يعيش الحسد في واقع النفس، و أحياناً تتوفر جميع هذه الأسباب و الدوافع الستة للحسد لدى الفرد، و أحياناً اخرى اثنان أو ثلاثة منها، فتشتد خطورة الحسد بنفس النسبة.

و لكن الأهم من ذلك فإنّ الحسد يمكن أن يمتد بجذوره إلى عنصر العقيدة و مكامن الدين، فمن كان يؤمن باللَّه تعالى و قدرته و لطفه و رحمته و عدالته و حكمته، كيف يمكنه أن يجد في نفسه حالة الحسد للآخرين؟

إن الشخص الحسود يكاد يعترض على اللَّه تعالى بلسان حاله و أنّه لماذا رزقت فلاناً

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 121

تلك النعمة؟ و أين العدالة؟ و أين الحكمة؟ و لما ذا لا تعطيني مثله؟ بل قد يتصور نسبة العجز إلى اللَّه تعالى عند ما يعطي غيره و لا يعطيه هو و لهذا يفضل أن تسلب تلك النعمة من ذلك الشخص و تصل إليه.

و على هذا الأساس فالحاسد في الحقيقة يعيش في حالة من اهتزاز دعائم الإيمان و التوحيد الأفعالي في واقعه الروحي، لأن الإنسان المؤمن بأصل التوحيد الأفعالي يعلم جيداً أن تقسيم النعم الإلهية على العباد لا يكون اعتباطياً، بل وفق ما تقتضيه الحكمة الإلهية، و يعلم كذلك أنّ اللَّه تعالى يملك القدرة في أن يرزقه أكثر و افضل من ذلك الشخص فيما لو كان يتمتع باللياقة لمثل هذه النعم و المواهب، إذن عليه أن يسعى لتحصيل القابلية و اللياقة لذلك.

و لهذا نقرأ في الحديث القدسي حيث يخاطب اللَّه

تعالى نبيه زكريا: «الْحَاسِدُ عَدُوٌّ لنِعْمَتِي، مُتَسَخِّطٌ لِقَضَائِي، غَيْر رَاضٍ لِقِسْمَتِيَ الَّتِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادي» «1».

و قد ورد شبيه هذا المضمون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث قال: «إنّ اللَّه تعالى أوحى إلى موسى بن عمران: «لَا تَحْسُدَنَّ النَّاسُ عَلَى مَا آتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلِي، وَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الَى ذَلِكَ، وَ لَا تَتَّبِعُهُ نَفْسَكَ، فَانَّ الْحَاسِدَ سَاخِطٌ لِنِعَمِي، ضَادٌّ لِقَسْمِيَ الّذي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادي وَ مَنْ يَكُ كَذَلِكَ فَلَسْتُ مِنْهُ وَ لَيْسَ مِنّي!» «2».

و الخلاصة أنّ الحسود لا يتمتع في الحقيقة بدعائم إيمانية و عقائدية راسخة و إلّا فإنه يعلم أنّ حسده ما هو إلّا نوع من أنواع الإنحراف عن خط التوحيد و عن الحقّ.

و يقول الشاعر في هذا المجال:

الا قل لمن كان لي حاسداًأ تدري على من اسأت الأدب؟!

اسأت على اللَّه في فعله إذا أنت لم ترض لي ما وهب! «3»

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 326.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 307.

(3). سفينة البحار، مادّة حسد. الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 122

3- علامات الحسد

إنّ هذه الصفة الرذيلة كسائر الصفات الأخلاقية الذميمة الاخرى تارة تكون صريحة و اخرى خفية، و لهذا لا بدّ من تتبّع كلمات علماء الأخلاق و علماء النفس في استعراضهم لحالات الحسد و علاماته أو ما استفدناه بالتجربة، فلا بدّ من معرفة الحسد و وجوده في مراحله الأوّلية قبل أن يتجذّر في باطن الإنسان و تستحكم دعائمه و يصعب علاجه حينئذٍ.

و من جملة العلائم الّتي ذُكرت للحسد امور:

1- أنّ الحاسد يحزن و يتألم عند ما يسمع بنعمة تصيب الآخر حتّى لو لم تظهر آثار الحزن على محياه.

2- أحياناً يتجاوز هذه المرحلة و ينطلق لسانه بالتعرض للطرف الآخر بذكر

معايبه و انتقاده من موقع التنقيص و التسقيط.

3- و أحياناً يتجاوز هذه المرحلة أيضاً و يتحرّك في تعامله مع الآخر من موقع الخصومة و العداوة.

4- و أحياناً يكتفي هذا الشخص بإظهار عدم اهتمامه للطرف الآخر أو يقطع رابطته و علاقته معه و يسعى إلى اجتنابه و عدم رؤيته و أن لا يسمع شيئاً عنه، فلو اتفق و أن دار الحديث عنه سعى لتغيير موضوع الحديث و قطع على القائل مقولته، و إذا اجبر يوماً على التحدّث عنه بأمر من الامور فإنه يسعى لإخفاء صفاته البارزة و نقاط قوّته أو اكتفى بالسكوت.

و كلّ واحدة من هذه الامور تدلّ على وجود حالة الحسد الخبيثة.

و في الأحاديث الشريفة الواردة، من مصادر أهل بيت العصمة و الطهارة اشارات واضحة على هذا المعنى، و من ذلك ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام قوله «يَكْفِيكَ مِنَ الْحَاسِدِ انَّهُ يَغْتَمُّ فِي وَقْتِ سُرُورِكَ» «1».

______________________________

(1). سفينة البحار، مادّة حسد (و يحتمل أن يكون المراد أنّه يكفي في عقوبة الحاسد أنّه يغتم في حين أنك مسرور و الاحتمال الأوّل كان حزن الحاسد مجرد علامة على وجود الحسد في نفسه).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 123

و بعكس ذلك عند ما يواجه الطرف الآخر ضرراً أو يقع في مشكلة فإنّ الشخص الحسود سيفرح لذلك كما ورد في الآية 50 من سورة التوبة «انْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ انْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ اخَذْنَا امْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوا وَ هُمْ فَرِحُونَ».

و هناك آيات متعددة اخرى تشير إلى هذا التصرّف السلبي و السلوك الذميم من قِبل الكفّار الّذين يواجهون ما أنعم اللَّه تعالى على المؤمنين من موقع الحسد و الكراهية.

و قد وردت في الأحاديث الشريفة اشارات

مكررة إلى هذه المسألة و أنّ الحاسد يفرح من زوال النعمة على المحسود و يغتم لما يصيبه من النعم، و من ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْحَاسِدُ يَفْرَحُ بِالشُّرُورِ وَ يَغْتَمُّ بِالسُّرُورِ» «1».

4- النتائج السلبية للحسد

إن الحسد يتميز بنتائج سلبية كثيرة على المستوى الفردي و الاجتماعي و المادي و المعنوي في حركة حياة الإنسان، بحيث يقلّ نظيره من الصفات الأخلاقية السلبية الّتي تترتب عليها مثل هذه النتائج السلبية و الأضرار الكثيرة، و أهمها:

الأوّل: إن الحسود يعيش الغم و الهم دائماً، و هذا الأمر يتسبب في أن يبتلي بالأمراض الجسمية و النفسية. فكلّما ينال الطرف الآخر من التوفيق و النعمة أكثر فإنّ الحاسد يتألم لذلك أكثر حتّى قد يناله الأرق الشديد و يسلبه ذلك هدوئه و استقراره و بالتالي تضعف بنيته و يغدو نحيفاً مريضاً، في حين انه يتمتع بامكانات مادية جيّدة و لو انه أبعد هذه الصفة الرذيلة عن نفسه لأمكنه أن يعيش عيشة طيبّة و مرفّهة.

و قد ورد في الأحاديث الشريفة إشارة إلى هذه النكتة بالذات حيث حذّر الأئمّة المعصومين من هذه الحالة، و من ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «اسْوَأُ النَّاسِ عَيْشاً الْحَسُود» «2».

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1474.

(2). تصنيف غرر الحكم، ص 300 و 301؛ شرح غرر الحكم، ح 2931.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 124

و نفس هذا المعنى ورد في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام حيث قال: «لَا رَاحَةَ لِحَسُودٍ» «1».

و نجد هذا التعبير أيضاً في حديث آخر عنه عليه السلام «الْحَسَدُ شَرُّ الْامْرَاض» «2».

و جاء في تعبير آخر: «الْعَجَبُ لِغفلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ سَلَامَةِ الْاجْسَادِ» «3».

و نختم هذا

الكلام بحديث آخر عن هذا الإمام رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب حيث قال «الْحَسَدُ لَا يَجْلِبُ الّا مَضَرَّةً وَ غَيْظاً، يُوهِنُ قَلْبَكَ، وَ يَمْرُضُ جِسْمَكَ» «4».

و الآخر: أنّ الأضرار المعنوية للحسد أكثر بمراتب من الأضرار المادية و البدنية للإنسان، لأن الحسد يأكل دعائم الإيمان و يمزق علاقة الإنسان مع ربّه بحيث يجعل الإنسان يُسي ء الظنّ باللَّه تعالى و حكمته، لأن الحسود في أعماق قلبه يعترض على اللَّه تعالى على ما وهب للآخرين من نعمه و رزقهم من فضله.

و نقرأ في الحديث المعروف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «لَا تُحَاسِدُوا فَإنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْايمانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» «5».

و نفس هذا المعنى ورد عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أيضاً و عن حفيده الإمام الباقر عليه السلام كذلك.

و قد أورد المرحوم الكليني في الكافي حديثاً آخر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:

«آفَةُ الدِّينِ الْحَسَدُ وَ الْعُجْبُ وَ الْفَخْرُ» «6».

و ورد عن هذا الإمام أيضاً قوله «انَّ الْمُؤْمِنَ يَغْبِطُ وَ لَا يَحْسُدُ، وَ الْمُنَافِقُ يَحْسُدُ وَ لَا يَغْبِطُ» «7». و يُستفاد جيداً من هذا الحديث أنّ الحسد يتقاطع مع روح الإيمان و يتناغم مع ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 256.

(2). شرح غرر الحكم، ص 331.

(3). بحار الأنوار، ج 70، ص 256.

(4). المصدر السابق.

(5). تصنيف غرر الحكم، ص 300؛ شرح غرر الحكم، ح 10376.

(6). اصول الكافي، ج 2، ص 307.

(7). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 125

الاخلاق فى القرآن ج 2 149

النفاق في واقع الإنسان.

و قد سبق و إن ذكرنا في الأبحاث الماضية الحديث القدسي الشريف حيث خاطب اللَّه تعالى نبيه زكريا و قال: «الحاسد عدوّ لنعمتي، متسخّط لقضائي، غير

راضٍ لقسمتي الّتي قسمت بين عبادي».

الثالث: من الآثار السلبيّة و النتائج المضرة للحسد هو انه يسدلّ على عقل الإنسان و بصيرته حجاباً سميكاً يمنعه من إدراك حقائق الامور و معرفة الواقعيات، لأن الحسود لا يستطيع أن يرى نقاط القوّة في المحسود حتّى لو كان استاذاً كبيراً و مصلحاً اجتماعياً جليلًا بل انه يبحث دائماً عن نقاط ضعفه و عيوبه، و أحياناً يرى نقاط قوّته بمنظار نقاط ضعفه و يشاهد ايجابياته من موقع النظر السلبي، و لهذا السبب قال أمير المؤمنين عليه السلام «الْحَسَدُ حَبْسُ الرُّوحِ» «1» فإنّ الإنسان يحبس روحه في حالة الحسد عن إدراك حقائق الامور.

الرابع: من أضرار الحسد هو انه يسلب الإنسان اصدقائه و رفاقه، لأن كلّ فرد من الأفراد يتمتع بنعمه أو نعم خاصّة قد لا تكون لدى الآخرين، فلو عاش الإنسان هذه الحالة الرذيلة و هي الحسد بالنسبة إلى ما يراه من نعمة على الآخرين فانه سيحسد جميع الناس، و هذا الأمر يتسبّب في أن يبتعد الناس عنه و يعمل على تمزيق روابط المحبة و المودة معهم.

و الشاهد على هذا الكلام ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْحَسُودُ لَا خُلَّةَ لَهُ» «2».

الخامس: من الآثار السيئة للحسد هي انّ الحسد يمنع الإنسان من الوصول إلى المقامات العالية و المراتب السامية في حركة التكامل الأخلاقي و المعنوي و الاجتماعي، بحيث إنّ الشخص الحسود لا يستطيع أبداً أن يحصل على منصب خطير من المناصب و المقامات الاجتماعية، لأنّه بحسده هذا سيعمل على تفريق الآخرين و إبعادهم من حوله، و الشخص الّذي تقوى فيه القوّة الدافعة لا ينال مرتبة عالية في الدائرة الاجتماعية.

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ح 371.

(2). شرح غرر الحكم، ح

885.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 126

و الشاهد على ذلك هو قول أمير المؤمنين عليه السلام «الْحَسُودُ لَا يَسُودُ» «1».

السادس: هو أنّ الحسد يؤدي إلى تلوث صاحبه بأنواع الذنوب الاخرى، لأن الحسود و لغرض الوصول إلى مقصده و هدفه أي إزالة النعمة عن الآخرين يستخدم كلّ الوسائل و يرتكب أنواع الظلم و العدوان من الغيبة و التهمة و الكذب و النميمة و غيرها لتسقيط الطرف الآخر، و بذلك يفتح الحسد له أبواب السلوكيات الخاطئة و التحرّك في خط الظلم و الباطل.

و هنا يوجد شاهد آخر على هذا الكلام و هو ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام «الْحَسُودُ كَثِيرُ الحَسَرَاتِ، وَ مُتَضَاعَفُ السَيِّئَاتِ» «2».

السابع: إن من شقاء الحسود انه يضر بنفسه أكثر ممّا يضر الطرف الآخر لأنّه يعيش حالة من العذاب النفسي و الروحي في حياته الدنيا بغض النظر عمّا يترتب على ذلك من العذاب الأخروي يوم القيامة.

و قد أشارت الأحاديث الإسلامية إلى هذه الحقيقة، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«الْحَاسِدُ مُضِرٌّ بِنَفْسِهِ قَبْلَ انْ يَضُرَّ بِالْمحْسُودِ، كَابْلِيسِ اورِثَ بِحَسَدِهِ بِنَفْسِهِ اللَّعْنَةُ، وَ لِآدَمَ الْاجْتِبَاءُ وَ الْهُدَى» «3».

5- مراتب الحسد:

لقد ذكر علماء الأخلاق للحسد مراتب و مراحل مختلفة، و من ذلك أنّ الحسد يمرّ بمرحلتين متميّزتين تماماً:

1- وجود الحسد في أعماق النفس بحيث يسيطر عليه الإنسان فلا يظهر في كلماته و أفعاله و سلوكياته.

2- وجود الحسد في أعماق النفس بحيث يخرج عن سيطرة الإنسان و يظهر في أقواله ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1017.

(2). تصنيف غرر الحكم، ص 301، شرح غرر الحكم، ح 1520

(3). بحار الأنوار، ج 70، ص 255.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 127

و أفعاله من موقع السعي للانتقام من المحسود و إزالة النعمة الّتي عليه.

و

يستفاد من بعض الروايات أنّ جميع الناس (أو غالبيتهم) يعيشون الحسد في نفوسهم، و لكن ما لم يظهر على أقوالهم و أفعالهم فإنه لا يترتب على ذلك إثم و معصية.

و من ذلك ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ احَدٌ: الظَّنُّ، وَ الطِّيَرَةُ، وَ الْحَسَدُ، وَ سَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ، اذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّق، وَ اذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ، وَ اذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» «1».

و ورد في حديث آخر قوله: «قَلّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُنَّ» «2».

و يستفاد من هذا التعبير أنّ هذا الحكم ليس عاماً و لا يشمل الأنبياء و الأولياء، لأنهم ما لم يطهر ظاهرهم و باطنهم من الحسد فإنّهم لا يصلوا إلى المقامات السامية و لا يصعدون في معارج الكمالات المعنوية، و لذلك ورد في تفسير الحديث الشريف الّذي يقول (إنّ الحسد لا يخلو منه أيّ إنسان حتّى الأنبياء) فقد فُسّر بعنوان (محسود) أيّ انّ الحسّاد يحسدون كلّ شخص حتّى الأنبياء الإلهيين فيحسدونهم على مقامهم العالي و مرتبتهم المعنوية السامية لدى اللَّه تعالى.

و على أيّة حال فلا شكّ في أنّ صفة الحسد هي من الرذائل الأخلاقية سواءً وصلت إلى مرحلة الظهور و البروز أم لا، و الكلام هنا في انه هل يترتب على الحسد إثم و عقوبة فيما لو لم يصل إلى مرحلة الظهور و البروز أم لا؟ و الظاهر انه لا دليل على كون هذه الحالة من الإثم و الذنب رغم انها من الصفات الذميمة.

و لكن المرحوم النراقي في (معراج السعادة) يقول: (إذا دفع الحسد صاحبه لأن يرتكب بعض الأفعال و الأقوال الذميمة من قبيل الغيبة و الشتم للطرف الآخر فإنه يرتكب بذلك إثماً، و كذلك

إذا امتنع من إظهار مثل هذه السلوكيات و تجنّب الأفعال الّتي تدلّ على الحسد و لكنه كان طالباً في باطنه زوال نعمة المحسود و راغباً في ذلك و لم يشعر بالامتعاظ من ______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 325.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 128

وجود هذه الحالة في نفسه و لم يغضب عليها فإنه مذنبٌ أيضاً) «1».

و لكن الظاهر انه لا دليل على حرمة القسم الثاني من حالات الحسد هذه.

و عليه فإنّ مرحلة عدم الظهور و البروز بدورها لها حالتين: الاولى الحالة الّتي لا يشعر الشخص فيها بالتأثر و الانزعاج من وجود هذه الحالة في نفسه و لا يسعى لرفعها بل ينسجم معها أيضاً، و الثانية: أن لا يكون كذلك. و لا يبعدُ أن يأثم الشخص في الحالة الاولى رغم عدم وجود الدليل القاطع على ذلك.

6- علاج الحسد:

رأينا في الأبحاث السابقة أنّ (الحسد) عبارة عن مرض أخلاقي خطير بحيث انه لو لم يتحرّك الإنسان لعلاجه فإنه سيتلف و يدمّر دينه و دنياه.

و علاج هذا المرض الأخلاقي كسائر علاج الصفات الرذيلة الاخرى يقوم على دعامتين:

1- الطريق العلمي.

2- الطريق العملي.

امّا بالنسبة إلى الطريق (العلمي) فينبغي للشخص الحسود أن يتأمل جيداً في أمرين:

أحدهما النتائج السلبيّة و العواقب الضارة للحسد على المستوى الروحي و البدني، و الآخر يتأمل في جذور و دوافع حصول هذه الحالة في النفس.

إن على الحاسد أن يرى نفسه كالشخص المعتاد على المخدرات و المدمن على الهيروئين، فعليه أن يتدبر في أمر هؤلاء المدمنين و كيف أنّهم فقدوا سلامتهم البدنية و النفسية و فقدوا حيثيّتهم الاجتماعية و اسرتهم و ابناءهم، و كيف أنّهم يعيشون في أسوء الحالات النفسية و يموتون في سن الشباب و لا يحزن

عليهم أيّ شخص لموتهم بل إنّ موتهم يتسبب في سعادة أسرتهم و اصدقائهم، فكذلك يجب على الحسود أن يعلم انّ هذا

______________________________

(1). معراج السعادة، ص 429.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 129

المرض الأخلاقي سوف يعمل على إهلاكه، فيأكل معنوياته و يُحرق نقاط قوته و صفاته الايجابية و يسلب منه راحته و نومه و يهيمن بسحابة من الحزن على قلبه و روحه، بل سيؤدي به إلى ما هو اشنع من ذلك حيث يكون طريد رحمة اللَّه و يكون مصيره مصير إبليس و قابيل، و بالتالي مع كلّ ذلك فسوف لن يصل إلى هدفه و مقصوده و هو زوال النعمة عن المحسود.

و لا شكّ أنّ التفكّر بهذه الآثار و العواقب السلبيّة و مشاهدة الحوادث ذات العبرة و قراءة الأحاديث الشريفة في هذا الباب، و الّتي مرّت الإشارة إليها آنفاً، سيكون له تأثير ايجابي كبير في علاج هذا المرض الأخلاقي.

إن (الحسود) يجب أن يعلم أنّه إذا كانت المواد المخدرة كالهيروئين تهدد سلامة الروح و الجسم للشخص و تُسرع في أجله، فهو أيضاً يمرّ في هذه الحالة الذميمة و يورثه الحسد الأمراض الجسمية و النفسية و يخسر بذلك دنياه و آخرته، لانه يعترض عملًا على حكمة اللَّه تعالى، و بذلك يسقط في وادي الشرك و الكفر، هذا من جهة.

و من جهة اخرى عليه أن يتفكر في بواعث الحسد و جذوره و يسعى إلى قطعها و إزالتها، فلو كان من ذلك اختلاطه و مجالسته مع رفاق السوء و تأثّره بوساوسهم، فعليه أن يقطع الإرتباط معهم، و إذا كان الباعث لذلك حالة البخل و ضيق النظر فعليه أن يسعى لعلاج هذه الحالة في نفسه، و إذا كان السبب هو ضعف الإيمان باللَّه و

عدم معرفته بالتوحيد الأفعالي فعليه أن يتحرّك من موقع تقوية مباني الإيمان و تعميق أُسس التوحيد في قلبه، و إذا كان الباعث لذلك انه يعيش الجهل بطاقاته و امكاناته الذاتية و بالتالي فإنه يعيش عقدة الحقارة و الدونيّة الّتي من شأنها أن تفضي به إلى الحسد فعليه أن يسعى لعلاج ذلك في ظلّ التوكل على اللَّه تعالى و الاعتماد على النفس و القضاء على عقدة الحقارة هذه، و بذلك سيتحرّك بعيداً عن حالة الحسد تجاه الآخرين.

و الأفضل أن يسجّل الحسود خلاصة هذه الامور على صفحة أو صفحات و يحاول قراءتها كلّ يوم مرّة واحدة، بل يقرأها بصوت عالٍ عبارةً عبارة و يتفكّر في كلّ عبارة منها

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 130

و يمعن النظر خاصّة في الروايات الشريفة الواردة عن المعصومين عليهم السلام في هذا الباب و الّتي سبقت الإشارة إلى جملة منها، و لا شكّ أنّ كلّ إنسان يعيش حالة الحسد في نفسه إذا تابع هذا السلوك و البرنامج بشكل جدّي فإنه سيرى آثاره الإيجابية في مدّة قصيرة، و ستتخلص روحه و جسمه من شر الحسد تدريجياً، و تنفتح أمامه افق السلامة و السعادة في حركة الحياة و الواقع.

و ينبغي على الحسود خاصّة التفكير في هذه النقطة بالذات، و هي أنّه لو صرف وقته و طاقاته الّتي يهدرها بالحسد في ترميم شخصيته و تقوية بُنيته النفسية و الاهتمام بموفقّيته و تكامله فإنه من المحتمل جدّاً أن يتساوى أو يتفوق على المحسود و ينال بذلك الراحة و الرضا.

و بتعبير آخر: يجب عليه أن يستبدل دوافع الحسد بدوافع الغبطة و يعمل على تبديل القوى المخربة إلى قوى بنّاءة في حركة الذات و الشخصية.

و قد ورد هذا المضمون

في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «احْتَرِسُوا مِنْ سُورَةِ البُخْل وَ الْحِقْدِ وَ الْغَضَبِ وَ الْحَسَد وَ اعِدُّوا لِكُلِّ شَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ عِدَّةً تُجَاهِدُونَ بِهَا مِنَ الْفِكْرِ فِي الْعَاقِبَةِ وَ مَنْعِ الرَّذِيلَةِ وَ طَلَبِ الْفَضِيلَةِ» «1».

أمّا من الناحية (العملية) فتعلم أنّ تكرار العمل المعيّن يؤدي تدريجياً إلى صيرورته عادة في النفس، و الاستمرار على العادة يبدّلها إلى ملكة و صفة باطنية، فلو أنّ الحسود و بدلًا من سعيه إلى تسقيط اعتبار و شخصية الغير تحرّك على مستوى تقوية شخصيته هو، و بدلًا من التحدّث بالغيبة و ذم الطرف الآخر يسعى إلى ذكر صفاته الإيجابية و مدحه أمام الآخرين، و بدلًا من السعي في تخريب حياة الطرف الآخر المادية يسعى إلى بذل المعونة و المساعدة له و يذكره بالخير ما أمكنه ذلك، أو يتحرّك من موقع المحبة و المودة تجاه ذلك الشخص و يريد له الخير و السعادة و يدعو له بالموفقية و يوصي الآخرين بذلك أيضاً، فمن المعلوم أنّ تكرار مثل هذه الأعمال و السلوكيات بإمكانه إزالة آثار الحسد من واقع النفس ______________________________

(1). تصنيف غرر الحكم، ص 300، ح 6806.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 131

و الروح و تثبيت النقطه المقابلة لها و هي حالة (حبّ الخير للآخرين) فيعيش الإنسان في أجواء النور و الصفاء و المعنويات الإنسانية.

علماء الأخلاق يوصون الشخص الجبان بأن يتحرّك لإزالة هذه الرذيلة الأخلاقية من نفسه من موقع التواجد في ميدان الخطر ليكتسب بذلك حالة الشجاعة و يحمّل نفسه هذه الصفه الإيجابية حتّى ترتفع من نفسه حالة الخوف و الجُبن و تكون الشجاعة بصفة عادة و حالة في نفسه و بالتالي تكون ملكة.

فكذلك الحسود يجب عليه الاستفادة لعلاج

هذه الحالة من ضدّها، فكلّ حالة معينة تُعالَج بضدّها.

و قد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله «اذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» «1».

و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «انَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْتَعْمِلُ حَسَدَهُ» «2».

و من جملة الامور المؤثرة كثيراً في علاج الحسد هو أن يرضى العبد برضى اللَّه تعالى و يسلّم لمشيئته و يقنع من حياته بما أنعم اللَّه عليه، فقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «مَنْ رَضِىَ بِحَالِهِ لَمْ يَعْتَوِرَهُ الْحَسَد» «3».

7- النُصح و حبّ الخير للآخرين

النقطة المقابلة للحسد هي (النصح و حبّ الخير للآخرين) بمعنى أنّ الإنسان ليس فقط لا يحبّ زوال النعمة من الآخر بل يطلب بقائها و زيادته عليه و على جميع الناس الأخيار و الصالحين، أو بتعبير آخر: إنّ ما يحبّه لنفسه و يطلبه لذاته من السعادة و الخير المعنوي و المادي يريده و يحبّه للآخرين، و هذه الصفة و الحالة النفسية تعد من الفضائل الأخلاقية

______________________________

(1). تحف العقول، ص 50.

(2). بحار الأنوار، ج 55، ص 323، ح 12؛ الكافي، ج 8، ص 108.

(3). تصنيف غرر الحكم، ص 300، ح 6808.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 132

المعروفة و الّتي وردت الإشارة إليها في الآيات القرآنية و الروايات الإسلامية.

إنّ الأنبياء كانوا ناصحين مشفقين على أقوامهم و كانوا يحبّون الخير لهم، و هذه الحالة تعتبر من صفاتهم البارزة كما يقول القرآن الكريم على لسان (نوح) شيخ الأنبياء: «ابَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَ انْصَحُ لَكُمْ وَ اعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» «1».

فهنا نرى انه بعد مسألة إبلاغ الرسالة تتحدّث الآية الكريمة عن النُصح و حبّ الخير للُامّة و هي النقطة المقابلة للحسد و البخل

و الخيانة.

و نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير ورد عن النبي هود عليه السلام حيث يقول: «أُبَلّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبّى وَ أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ» «2».

و هذا المعنى ورد أيضاً عن النبي صالح (الأعراف الآية 79) و النبي شعيب (الأعراف الآية 93).

و من البديهي أنّ حبّ الخير للآخرين لا ينحصر بهؤلاء الأنبياء الأربعة، بل يشمل جميع الأنبياء الإلهيين و الأولياء المعصومين الّذين كانوا يتّصفون بهذه الصفة الإيجابية، و كذلك يجب على أتباعهم أيضاً أن يكونوا من محبي الخير للآخرين و يطهرون أنفسهم من الحسد و البخل.

و في حديث شريف عميق المضمون ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال عن رجل من الأنصار انه من أهل الجنّة، و عند ما تحقّقوا في سيرته و عمله فلم يروا انه كان كثير العبادة مثلًا، بل كان حينما يأخذ مضجعه في منامه يذكر اللَّه تعالى ثمّ ينام حتّى صلاة الصبح، فأثار فيهم حاله هذا التساؤل و الاستغراب، فسألوا منه عن السبب في أنّه صار من أهل الجنّة فقال «مَا هُوَ الّا مَا تَرَوْنَ غَيْرَ انِّي لَا اجِدُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشّاً وَ لَا حَسَداً عَلَى خَيْرٍ اعْطَاهُ اللَّهُ ايَّاهُ» «3».

______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 62.

(2). سورة الأعراف، الآية 68.

(3). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 325.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 133

و في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «انَّ اعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ امْشَاهُمْ فِي ارْضِهِ بِالنَّصِيحَةِ لِخَلْقِهِ» «1».

و في رواية اخرى وردت عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً ذكر فيها المعيار لحبّ الخير للناس و أنّه أن يرى منافع الآخرين كمنافع نفسه

و يدافع عنها كما يدافع عن منافعه حيث قال «لَيَنْصَحُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ اخَاهُ كَنَصِيحَتِهِ لِنَفْسِهِ» «2».

و يقول الراغب في كتابه (مفردات القرآن): النصح، تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، و هو من قولهم نصحت له الودّ، أي أخلصته، و ناصح العسل أي خالصه أو من قولهم: نصحت الجلد خطته، و الناصح يقال للخياط. (لأنّه يصلح القماش و يخيطه) و بما أنّ الشخص الخيّر يسعى إلى اصلاح عمل الآخرين من موقع الاخلاص و الخلوص استعملت في حقّه هذه المفردة، و أساساً فإنّ كلّ شي ء خالص من الشوائب سواءاً في الامور المادية أو المعنوية، في الكلام أو العمل، يقال له: ناصح.

و على هذا الأساس فعند ما يرد بحث النصيحة في أجواء البحوث الأخلاقية فإنّ المقصود منه ترك أيّ شكل من أشكال الحسد و الحقد و البخل و الخيانة.

______________________________

(1). اصول الكافي، ص 28، ح 4 و 5.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 134

7

الغرور و العُجُب

تنويه:

إن أحد الرذائل الأخلاقية المشهورة ليس عند علماء الأخلاق فحسب بل عند سائر أفراد الناس هي (الغرور)، و هذه الصفة الرذيلة تتسبّب في انفصام الشخصية و الجهل بالنسبة إلى الذات و الآخرين و الغفلة عن مكانته الفردية و الاجتماعية و التخبّط في دوّامة الجهل و العجب و عدم الإطلاع على حقائق الامور.

إنّ الغرور يفضي بالإنسان أن يبتعد عن اللَّه تعالى و يسير في خطّ الشيطان، و يقلب الواقعيات في نظره، و هذا الأمر يتسبب في اضرار كثيرة على المستوى المادي و المعنوي للإنسان.

الشخص المغرور يعيش في المجتمع مكروهاً من الآخرين حيث يتعامل معهم من موقع التوقعات الكثيرة الّتي تُفضي به إلى الإنزواء و العزلة الإجتماعية.

و الغرور يُعتبر من الدوافع و المصادر لصفات رذيلة

اخرى من قبيل التكبّر و الانانية و العُجب و الحقد و الحسد بالنسبة إلى الآخرين و التعامل معهم من موقع التحقير و الازدراء.

و نعلم أنّ أحد العوامل الأصلية لطرد الشيطان الرجيم من مرتبة القرب الإلهي هو (الغرور) الّذي كان يعيشه الشيطان، و أحد الأسباب في عدم انقياد الكثير من الأقوام السالفة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 136

لدعوات الأنبياء السماوية وجود هذه الصفة الذميمة في واقعهم و أنفسهم.

إن الفراعنة و النماردة ابتعدوا عن اللَّه تعالى بسبب غرورهم و بالتالي أصبح مصيرهم الأسود عِبرة للبشرية.

(الغرور) أحياناً يتجلّى في فرد معين، و اخرى في قوم و مجتمع أو عِرقٍ بشري، و لا شكّ أنّ القِسم الثاني اخطر على واقع الإنسان و المجتمع لأنّه قد يدمّر بلد كامل أو يُحرق العالم بناره، كما حصل في الحرب العالمية الاولى و الثانية حيث كان الغرور و التعصّب العِرقي للألمان على الأقل أحد العوامل المهمّة لنشوب هذين الحربين و بهذه الإشارة نستعرض أوّلًا تفسير مفردة (الغرور) و مفهومها في منابع اللغة و كتب علماء الأخلاق، ثمّ نعود إلى الآيات و الروايات الشريفة لإستجلاء أسباب الغرور و آثاره و افرازاته و طرق علاجه و الوقاية منه.

1- مفهوم الغرور

إن هذه المفردة وردت بشكل واسع في كلمات العرب و لا سيّما في الآيات القرآنية الكريمة و الروايات الإسلامية.

يقول الراغب في مفرداته عن هذه الكلمة: فالغرور (بفتح الغين ليتضمن معنىً وصفياً) كلّ ما يغرّ الإنسان من مال و جاه و شهوة و شيطان، و قد فسّر بالشيطان إذ هو أخبث الغارّين.

و في (صحاح اللغة) عن كلمة (غُرور) انها بمعنى الامور الّتي تجعل الإنسان غافلًا (سواءاً المال و الثروة أو الجاه و المقام أو العلم و المعرفة).

و يقول بعض

أرباب اللغة كما يذكر الطريحي في (مجمع البحرين): إن الغُرور هو ما كان جذاباً و جميلًا في ظاهره و لكنه مظلم و مجهول في باطنه.

و جاء في كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) بعد نقل كلمات أرباب اللغة: أنّ الجذر الأصلي لهذه المفردة هي بمعنى اصول الغفلة بسبب التأثر بشي ء آخر لدى الإنسان و من لوازمها و آثارها الجهل و الغفلة و النقصان و الانخداع و ...

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 137

و جاء في (المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء) الّذي يُعتبر من أفضل كتب الأخلاق و عبارة عن تهذيب لكتاب (إحياء العلوم) للغزالي: «فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى و يميل إليه الطبع عن شبهة فاسدة فهو مغرور، و أكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير و هم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون و إن اختلفت أصناف غرورهم و اختلفت درجاتهم» «1».

و جاء في (التفسير الأمثل) في معنى هذه المفردة أنّ (غَرور) على وزن (جسور)، صيغة مبالغة بمعنى الموجود الشديد الخُداع و الحيلة و المكر و لذلك سُمّي الشيطان ب (غَرور) حيث يوسوس للإنسان و يخدعه و يستغفله، و في الحقيقة هو من قبيل بيان المصداق الواضح، و إلّا فإنّ كلّ إنسان أو كتاب يمكن أن يقع في مقام الوسوسة و كلّ موجود إذا عمل على إضلال الإنسان فإنه يدخل في مصاديق كلمة (غَرور).

الغَرور في القرآن الكريم:

لقد وردت هذه المفردة في القرآن الكريم مرّات عديدة، و كذلك ورد مضمونها في آيات اخرى أيضاً:

1- «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» «2». 2- «فَقَالَ ا لْمَلَأُ ا لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَانَريكَ إِلَّا بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَيكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ

وَمَانَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ .... قَالُواْ يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَا لَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «3». 3- «قَالُواْ يَاشُعَيْبُ مَانَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَلكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ ______________________________

(1) المحجّة البيضاء، ج 6، ص 293.

(2) سورة الأعراف، الآية 12.

(3) سورة هود، الآية 27- 32.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 138

لَرَجَمْنَاكَ وَمَآأَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ» «1». 4- «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ ا لْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفلَا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ» «2». 5- «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّاكَانُواْ يَفْتَرُونَ» «3». 6- «فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ ا لْمُرْسَلِينَ» «4». 7- «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ا لْأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ ا لْغَرُورُ» «5». 8- «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَاتُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئنُ السَّمَاوَا تِ وَا لْأَرْضِ وَلَكِنَّ ا لْمُنَافِقِينَ لَايَفْقَهُونَ* يَقُولُونَ لَئن رّجَعْنَآ إِلَى ا لْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ا لْأَعَزُّ مِنْهَا ا لْأَذَلَّ وَلِلَّهِ ا لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ ا لْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ» «6». 9- «فَأَمَّا ا لْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَليهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ» «7». 10- «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ* سَيُهْزَمُ ا لْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ». «8» 11- «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ ا لْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...» «9».

______________________________

(1) سورة هود، الآية 91.

(2) سورة الزخرف، الآية 51 و 52.

(3) سورة آل عمران، الآية 24.

(4) سورة الأعراف، الآية 77.

(5) سورة

الحديد، الآية 14.

(6) سورة المنافقون، الآية 7 و 8.

(7) سورة الفجر، الآية 15.

(8) سورة القمر، الآية 44 و 45.

(9) سورة الأنعام، الآية 70.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 139

12- «يا أَيُّها النَّاسُ .... إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ لَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ» «1».

تفسير و استنتاج:

إن أوّل شرارة للغرور كما أشرنا إلى ذلك سابقاً كانت في بداية خلق الإنسان و تجلّت في إبليس كما تتحدّث عن هذه الواقعة «الآية الاولى» من الآيات مورد البحث عند ما سَأل اللَّه تعالى إبليس عن السبب في امتناعه عن السجود لآدم «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَ لّا تَسْجُدَ اذْ امَرْتُكَ ...» «2».

قال الشيطان الّذي تملّكه الغرور و العُجب «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» «3».

أجل فإنّ حجاب الغرور و العجب قد أسدل على عين بصيرته حجاباً سميكاً إلى درجة أنّه لم يسوّغ له سلوك طريق السعادة و امتثال الأمر الإلهي الصريح، فسقط في هُوَّة العصيان و التمرد و أصبح مطروداً و ملعوناً إلى الأبد، و على هذا يمكن القول انه كما أنّ قائد المستكبرين في العالم هو إبليس، فكذلك قائد المغرورين في العالم إبليس أيضاً، و هذان المفهومان أيّ الغرور و الاستكبار بمثابة اللازم و الملزوم.

إن إبليس و بسبب الغرور و الاستكبار لم يستطع أن يرى حقيقة كرامة التراب على النار و أفضلية التوبة على العناد و الإصرار على الذنب، فكان من ذلك أن سلك في خط الضلال و التيْه و بقي كذلك إلى الأبد.

«الآية الثانية» تتحدّث عن قصة نوح أيْ أوّل أنبياء اولو العزم و توضح جيداً أنّ أحد العوامل المهمّة في عناد قومه و وقوفهم ضد دعوته و ارشاداته المخلصة من موقع

الغرور هو

______________________________

(1) سورة لقمان، الآية 33.

(2) سورة الأعراف، الآية 12.

(3) سورة الأعراف، الآية 12.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 140

هذه الصفة الرذيلة (الغرور) حيث تقول الآية «فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مّثْلَنَا وَ مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ وَ مَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ» «1».

و بعد عدّة آيات يستعرض القرآن الكريم حالة الغرور و العُجب أكثر لدى هؤلاء الضالين حيث قالوا لنوح بصراحة «قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَا لَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «2».

عادّة يتخذ الإنسان طريقاً يُبعده عن الأضرار المحتملة بحكم العقل و يتجنب عن سلوك الطريق الّذي يُحتمل أن يواجه الخطر فيه، و لكن هؤلاء القوم المغرورين و بالرغم من مشاهدتهم لآثار حقّانية دعوة هذا النبي الكريم من خلال معجزاته و وجود احتمال نزول العذاب الإلهي فإنّهم لم يكتفوا بعدم الإهتمام و الاعتناء بدعوته بل تحرّكوا مع دعوة نوح من موقع طلبهم لنزول العذاب الإلهي.

أجل فإنّ ذلك الغرور الّذي صار حجاباً على بصيرة الشيطان قد أصبح حجاباً لقوم نوح عن رؤية الحقيقة، و بالتالي ذاقوا العذاب الإلهي الشديد و هلكوا عن آخرهم، و هذا هو مصير المغرورين على طول التاريخ.

و تأتي «الآية الثالثة» لتتحدّث عن قوم شعيب الّذين جاءوا بعد قوم نوح و تورطوا في الغرور و العُجب أيضاً فكان مصيرهم هو نفس ذلك المصير المؤلم حيث تقول الآية «قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَ لَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَ مَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ» «3».

هؤلاء في الحقيقة لن يجدوا جواباً منطقياً أمام البراهين العقلية و الدعوة السماوية الحكيمة و

المعجزات الإلهية الّتي جاء بها شعيب، و لكنّ غرورهم و أنفتهم لم تبح لهم ______________________________

(1). سورة هود، الآية 27.

(2). سورة هود، الآية 32.

(3). سورة هود، الآية 91.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 141

الإستسلام أمام دعوة الحقّ و بالتالي غشيهم العذاب الإلهي و أصابتهم الصاعقة السماوية و الصيحة المهولة، فدمّرت كلّ ما لديهم في طرفة عين، و لم تبق لهم سوى أجساد متمزقة و آثار خاوية.

«الآية الرابعة» ناظرة إلى قصة فرعون و تستعرض بُعداً آخر من أبعاد هذه الصفة الرذيلة، و تشير إلى أنّ الغرور و العُجب قد يمتد إلى باطن الإنسان و يستولي على عقله و روحه بحيث انه ليس فقط لا يهتم بالأدلة الواضحة على نبوة موسى عليه السلام بل يواجهها بكلمات طفولية تنطلق من موقع العناد و الغرور حيث تقول الآية «وَ نَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَ فلَا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَ لَا يَكَادُ يُبِينُ» «1».

ثمّ تمادى فرعون في مواجهته لموسى و تمسّك بكلمات واهية و غير منطقية من قبيل أنّ موسى إذا كان صادقاً فلما ذا لا يلبس الأسورة من الذهب؟ و لما ذا لم تنزل الملائكة معه؟

و هكذا نجد أنّ الأشخاص المغرورين كالفراعنة و النمروديين و بسبب إهمالهم لدعوة الحقّ و غرورهم لا يدركون جيداً ما ذا يقولون و لا يهتمون لذلك حيث نجد كثيراً أنّ مثل هؤلاء يتكلمون بكلمات سخيفة بحيث يسخر منها حتّى المقربون منهم في أنفسهم، و من المعلوم أنّ هذه الحالة تتسبّب في غلق جميع نوافذ المعرفة الإلهية أمام الإنسان، و ايصاد جميع الطرق لسلوك سبيل الكمال المعنوي

و التعالي الأخلاقي.

و اللطيف أنّ موسى الّذي كان يشكو من لُكنة في لسانه تتعلق بمرحلة الطفولة و لكنه عند ما بُعث إلى النبوة و طلب من اللَّه تعالى أن يحلُل عقدةً من لسانه فإنّ اللَّه تعالى استجاب له ذلك و لكنّ فرعون لم يهتم لهذه الظاهرة العجيبة و بقي مصراً على وضعه السابق حيث أشار في كلامه إلى تلك اللكنة الّتي كانت لدى موسى في الصِغر.

«الآية الخامسة» تشير إلى اليهود الّذين كانوا يرون في أنفسهم حالة من التشخّص ______________________________

(1). سورة الزخرف، الآية 51 و 52.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 142

و الغرور و العُجب بتصورهم مميزات مختصة بهم تجعلهم يتفوقون و يمتازون على غيرهم من أفراد البشر، و هذا التفكير الخاطي ء هو السبب في ضلالهم و طغيانهم حيث تقول الآية «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَ غَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ» «1».

أي أنّ اللَّه إذا أراد أن يعذبنا فإنّ عذابه سيكون خفيفاً و لأيّام معدودة و ذلك بسبب اننا قوم ممتازون.

إن تاريخ بني إسرائيل يشير إلى انّ هؤلاء القوم كانوا أكثر الأقوام و الشعوب طغياناً و ذنوباً، و أحد العوامل و الأسباب المهمة في سلوكهم الخاطي ء هذا هو الغرور و العُجب لديهم.

و مع الأسف إننا نجد أنّ طائفة منهم باسم (الصهاينة) يرتكبون كلّ يوم جرائم بشعة ضدّ الشعوب البشرية بسبب ما دخلهم من الغرور الكبير بعرقهم و امتيازاتهم الزائفة، و في ذلك شوّهوا تاريخهم السيّ ء أكثر من السابق.

هؤلاء يريدون كلّ شي ء لهم و لا يرون للآخرين الحقّ في أيّ شي ء، فهم يرون أنّهم قوم متميزون على سائر البشر و ينظرون إلى الآخرين نظر الاحتقار و الدونية.

«الآية السادسة» ناظرة إلى قوم صالح،

الّذين قد أسكرهم الغرور إلى درجة أنّهم طلبوا من نبيّهم نزول العذاب الإلهي عليهم، بالرغم من رؤيتهم المعجزات الإلهية على يد نبيّهم صالح فتقول الآية «فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَ قَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» «2».

و يتابع القرآن الكريم ما حدث لهؤلاء القوم الظالمين و يتحدّث عن مصيرهم المأساوي و يقول: «فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين» و هكذا كانت عاقبة القوم المغرورين.

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 24.

(2). سورة الأعراف، الآية 77.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 143

«الآية السابعة» تتحدّث عن أهل النار الّذين يعيشون العذاب و الظلمة الشديدة يوم القيامة في حين يعيش المؤمنون بنور الإيمان و يردون عرصات المحشر مسرعين، فيناديهم هؤلاء المنافقون و أهل النار: «يُنَادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَ لَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ» «1».

ثمّ تقول الآية الّتي بعدها بصراحة انه يُقال لهم «فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا من الّذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم و بئس المصير».

و هنا يتجلّى بصورة واضحة أنّ أحد الصفات البارزة لهؤلاء المنافقين من أهل النار هي الغرور و الابتلاء بحبال الأماني الطويلة و التوهمات الزائفة في حركة الحياة الدنيوية.

و كما ذكرنا في بداية البحث أنّ كلمة (غَرور) تتضمن معنى الخداع و المكر، و لكن أحياناً يخدع الإنسان نفسه أيضاً و يكون مغروراً بذلك، و أحياناً اخرى ينخدع بوساوس الشيطان أو الأفراد الّذين يعيشون حالة الشيطنة و المكر.

«الآية الثامنة» تتحدّث عن المنافقين المغرورين في هذه الدنيا و كيف أنّهم ينظرون إلى فقراء المؤمنين الحقيقيين من موقع الحقارة و الازدراء و يتظاهرون

أمامهم بالثروة و المال حيث تقول الآية متحدّثة عنهم و عن حالة الغرور المسيطرة عليهم «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَ لِلَّهِ خَزَآئنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ» «2».

ثمّ يصل بهم الغرور إلى ذروته بحيث يصرّحون بأنه إذا رجعنا من ميدان الحرب إلى المدينة فسوف نُثبت لهؤلاء الفقراء و المعدمين مَن نحنُ «يَقُولُونَ لَئن رّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ

______________________________

(1). سورة الحديد، الآية 14.

(2). سورة المنافقون، الآية 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 144

لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ» «1».

إذا لم يكن المنافقون يعيشون حالة (الغرور) فلا داعي لأن يتبجّحوا بثروتهم و أموالهم أمام المؤمنين و ينظروا إليهم نظر الاحتقار و الازدراء و بالتالي ينزلقون في وادي الكفر و النفاق و الضلال.

«الآية التاسعة» تتحدّث عن طبيعة الإنسان، أو بعبارة اخرى: طبيعة الإنسان الّذي لم يتكامل في مدارج الكمال الأخلاقي بل بقي في حالة عدم النُضج النفسي و الروحي، فمثل هذا الإنسان عند ما يجد اللَّه قد أنعم عليه نعمة فإنه يتملكه الغرور و الطغيان بسبب ضيق افقه و تفكيره فتقول الآية «فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَيهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ» «2».

إذا كان هذا الكلام صادراً من موقع الشكر و الثناء للَّه تعالى فإنه يدلّ على التواضع قطعاً و يدفع الإنسان بالتالي إلى مساعدة الأيتام و المساكين، و لكن كما هو الظاهر من جوّ الآيات أنّ هذا الإنسان بعد ذلك يتحدّث من موقع الغرور و العجب، و بهذا فإنّ هذا الكلام ليس فقط لا يترتب عليه أثراً إيجابياً و مطلوباً بل سيكون مصدراً لطغيانه و تكبره على

الحقّ.

«الآية العاشرة» تتحدّث عن المشركين الأنانيين و المغرورين في مكّة و تقول «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ» «3».

و لكن اللَّه تعالى بعد ذلك يحذر هؤلاء المغرورين و ينذرهم بالعذاب القريب و يقول «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ» «4».

و في جميع هذه الموارد نلاحظ جيداً أنّ الغرور يمثل عاملًا مهماً في تورط الإنسان في ______________________________

(1). سورة المنافقون، الآية 8.

(2). سورة الفجر، الآية 15.

(3). سورة القمر، الآية 44.

(4). سورة القمر، الآية 45.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 145

دوّامة الذنوب و الشقاء و التعاسة، و القرآن الكريم يُخبرنا بخبر إعجازي عن إنهزام هؤلاء المغرورين و سرعان ما تلحق بهم الهزيمة و الدمار و يكونون عبرة للآخرين.

«الآية الحادي عشر» تتحدّث عن المشركين الّذين اتخذوا الدين السماوي لعباً و لهواً بسبب الغرور الّذي أصابهم و الّذي ادّى بهم إلى الكفر و العناد مع الحقّ فتقول الآية «وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَ لَهْوًا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...» «1».

و لعلّ هذا التعبير يشير إلى أنّ هؤلاء لا يقبلون الهداية و غير جديرين بها، لأن الغرور قد اسكرهم إلى درجة أنّهم خُدعوا بزخارف الدنيا و بريقها المادي، فهم لا يجدون في أنفسهم استعداداً للتسليم و الإذعان للحقّ و لا يواجهون الحقّ إلّا على مستوى السخرية و الاستهزاء، و هذا يعني عمق الفاجعة الّتي تورطوا فيها بسبب غرورهم و عُجبهم.

و عبارة (دينهم) هي إشارة إلى فطرية الدين الإلهي حيث يشترك فيه جميع أفراد البشر حتّى المشركين، أو هو إشارة إلى الأشخاص الّذين اتخذوا دينهم الوثني سخرية بسبب الغرور، فلا يجدون في أنفسهم إلتزاماً بأحكام الوثنية و لا يتحركون مع الأوثان من موقع الانضباط و الالتزام، أو إشارة إلى الدين الإسلامي الّذي أنزله

اللَّه تعالى من أجلهم و لمصلحتهم.

«الآية الثانية عشر» تتحرّك من موقع التحذير لجميع الناس بأن لا ينخدعوا بالحياة الدنيا و بزخارفها و لا يغتروا بجمالها المادي و لا يقعوا في مصائد الشيطان و تقول «يا أَيُّها النَّاسُ .... إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ لَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ» «2».

و اللطيف أنّ هذه الآية ذكرت من أسباب الغرور سببين: أحدهما زخارف الدنيا، و الثاني الشيطان، و هذا التعبير يدلّ على أنّ الإنسان أحياناً يغتر بالأوهام و بالتصورات الواهية بدون ______________________________

(1). سورة الأنعام، الآية 70.

(2). سورة لقمان، الآية 33.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 146

أن يحظى بشي ء من الحياة المادية المرفهة و يتصور لنفسه مقاماً و منزلة غير واقعية، و بذلك يطغى أمام الحقّ و يواجه اللَّه و الدين من موقع الطغيان و التكبّر و يقع في شراك الشيطان، و صحيح أنّ زخارف الدنيا و جمالها و بريقها هو أحد مصائد الشيطان، و لكن أحياناً يكون الخيال و التصوّرات الذهنية نافذة يعبر منها الشيطان و يستقر في فكره و يوسوس له ما يغتر به.

النتيجة النهائية:

اشارة

و من مجموع ما تقدّم من الآيات الكريمة و تفسيرها تتبيّن لنا هذه الحقيقة، و هي أنّ مسألة الغرور و العُجب و الأنفة كانت من العوامل الأصلية للفساد و الانحراف و الكفر و النفاق منذ أن وضع آدم قدمه على هذه الكرة الأرضيه و حتّى في جميع أدوار التاريخ البشري و عصور الأنبياء و الأقوام السالفة و إلى هذا اليوم، و قراءة هذه الشواهد و مطالعة هذه الآيات يشير إلى أيّة درجة كانت هذه الصفة الرذيلة مصدر شقاء طائفه عظيمة من الشعوب و المجتمعات البشرية، و لو لم يكن دليلًا على

قبح هذه الرذيلة الأخلاقية سوى هذه الآيات لكفى ذلك.

1- الغرور في الروايات الإسلامية

إنّ الموقف السلبي و الشديد من الغرور في الروايات الإسلامية ينعكس في أبواب كثيرة و طوائف متعددة من الروايات:

1- ففي حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَ الْغُرُورِ ابْعَدُ افَاقَةً مِنْ سُكْرِ الْخَمُورِ» «1».

2- و في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «جِمَاعُ الشَّرِّ فِي الْاغرَارِ بِالْمَهَل وَ الْاتِّكَالِ ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 5750.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 147

عَلَى الْعَمَلِ» «1».

فالإنسان المغرور هو الّذي يأتي بعمل بسيط و يتصور بذلك انه من أهل النجاة يوم القيامة و يتحرّك في حياته الدنيا بكامل الحرية بسبب هذا الغرور، أو انه يكون قد ارتكب بعض الذنوب و المعاصي و لكنه يجد في امهال اللَّه تعالى له امتيازاً لنفسه و بذلك يغتر بهذا الإمهال.

3- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أنّ الغرور يتقاطع مع العقل حيث يقول «لَا يُلْقَى الْعَاقِلُ مَغْرُوراً» «2».

4- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً أنّ الغرور يوقع الإنسان في دوّامة من الخيالات و التصورات الزائفة و يقطع عنه أسباب النجاة حيث يقول: «مَنْ غَرَّهُ السَّرَابُ تَقْطَعَتْ بِهِ الْاسْبَابُ» «3».

5- و يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً في تعبير جميل حول طائفة من المنحرفين:

«زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ» «4».

6- و في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه يعدّ الغرور و العُجب أحد الموانع لقبول الإنسان للموعظة و النصيحة و يقول: «بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حَجَابٌ مِنَ الْغِرَّةِ» «5».

7- و ورد في الحديث الشريف عن هذا الإمام أيضاً في جملة قصيرة و عميقة المحتوى «طُوبَى لِمَنْ لمْ تَقْتُلُهُ قَاتِلَاتِ الْغَرُورِ» «6».

إن ما ورد أعلاه

من الروايات الشريفة لا يُعدّ إلّا نماذج قليلة ممّا ورد من النصوص ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 3002.

(2). غرر الحكم، ح 7183.

(3). غرر الحكم، ح 2376.

(4). نهج البلاغة، الخطبة 2.

(5). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الحكمة 282.

(6). غرر الحكم، ح 5973.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 148

الكثيرة حول بيان أخطار الغرور و العُجب، و لكن مطالعة هذه النماذج القليلة من الروايات في هذا الباب يكفي لبيان الأضرار الوخيمة و الآفاق السلبية للغرور.

2- أسباب الغرور

ذكر بعض علماء الأخلاق أنّ الغرور من الصفات القبيحة الّتي يبتلي بها كلّ طائفة من الناس بشكل من الأشكال رغم تعدّد أسبابه و مراتبه و درجاته.

فقد ذكروا أنّ أسباب الغرور و العجب كثيرة جدّاً، و قسّموا المغرورين إلى طوائف مختلفة:

طائفة المغرورين بالعلم و المعرفة و هم الأشخاص الّذين يتملكهم الغرور عند ما يصلوا إلى مرتبة معيّنة من العلم، فيتصورون أنّهم ملكوا الحقيقة فلا يرون سوى أفكارهم و علومهم و لا يهتمون بأفكار الآخرين و لا يعتبرون لها قيمة، و أحياناً يرون أنفسهم من المقربين عند اللَّه تعالى و من أهل النجاة قطعاً، و لو انّ البعض واجههم بقليل من النقد فإنّهم سوف يجدون الألم يعتصر قلوبهم لأنهم يتوقعون من الجميع احترامهم و قبول كلامهم. و أحياناً يصيب الغرور بعض الأشخاص الضيقي الافق الّذين تعلّموا عدّة كلمات و قرءوا عدّة كتب و تصوّروا أنّهم فتحوا بلاد الصين و حلّوا المشكلات العويصة في العلم لمجرّد أنّهم قرأوا الكتاب الفلاني، و هذا من أسوأ أنواع الغرور الّذي يجر العالم إلى منزلقات السقوط و الانحطاط العلمي و الاجتماعي.

و نقرأ في حديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لابن مسعود: «يَا ابْنَ مَسْعُود! لَا تَغْتَرَّنَّ بِاللَّهِ وَ

لَا تَغْتَرَّنَّ بِصَلَاحِكَ وَ عِلْمِكَ وَ عَمَلِكَ وَ بِرِّكَ وَ عِبَادَتِكَ» «1».

فنرى في هذا الحديث الشريف إشارة لعوامل و أسباب اخرى للغرور منها: الأعمال الصالحة، الإنفاق في سبيل اللَّه، العبادات، و الّتي يمثل كلّ واحدٍ منها عاملًا من عوامل الغرور.

و قد نرى بعض الأشخاص الصالحين الّذين عند ما يُوفّقون لأداء بعض العبادات أو

______________________________

(1). مكارم الأخلاق، ج 2، ص 350.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 149

الأعمال الصالحة يتملكهم الشعور بالغرور بسبب ضيق افقهم و صغر نفوسهم فيتصوّرون أنّهم من أهل النجاة و السعادة و يرون سائر الناس بمنظار الإستهانة و التصغير، و هذا قد يؤدي بهم إلى الهلاك و السقوط في وادي الضلالة و الانحراف.

و أحد العوامل الاخرى للغرور هو أن يغتر الإنسان بلطف اللَّه و كرمه و مغفرته، حيث نجد بعض الأشخاص يرتكبون الذنوب بجرأة و بدون أيّ تردّد، و عند ما يُسأل منهم عن سبب ارتكابهم لهذه الأعمال القبيحة، يقولون: اللَّه كريم و غفور و رحيم، فنحن نعرف أنّ اللَّه أكبر و أسمى من أن يؤاخذ بهذه الذنوب و يعاقبنا بسبب هذه التصرفات، و أساساً فنحن لو لم نُذنب فلا معنى لعفو اللَّه و مغفرته.

إنّ مثل هذه الأفكار المنحرفة و الكلمات غير المنطقية تزيد من جرأتهم على ارتكاب الذنوب و بالتالي تؤدي بهم إلى السقوط و الهلاك.

و لهذا نجد أنّ القرآن الكريم و الروايات الإسلامية قد ذمّت هذا النوع من الغرور بشدّة و نهت عنه نهياً مؤكداً كما نقرأ في الآية السادسة من سورة الإنفطار قوله تعالى «يَا ايُّهَا الْانْسَانُ مَا غَرَّكَ بِربِّكَ الْكَرِيمِ».

و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير هذه الآية الكريمة «يَا ايُّهَا الْانْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ؟ وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ؟

وَ مَا انَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِك؟!» «1»

و فرق بين الشخص الّذي يرتكب الذنب و لكنه مع ذلك يعيش الجرأة و لا يجد في نفسه غضاضة لذلك و كأنه يطلب اللَّه شيئاً، و بين الشخص الّذي يرتكب الذنب و لكنه يعيش الخجل و الندم و يأمل أن يشمله اللَّه تعالى برحمته و عطفه، فالأوّل قد ركب مَطِيّة الغرور، و الثاني هو المتّصل بحبلٍ من اللَّه و لطفه و الأمل برحمته الواسعة.

و من العوامل و الأسباب الاخرى للغرور هو الجهل و عدم الإطلاع و المعرفة، كما أنّ العلم و المعرفة أحياناً يكون سبباً للغرور، فكذلك عدم المعرفة أيضاً قد يسبب الغرور في الكثير من الأشخاص الجهّال، و لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام ______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 223.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 150

الاخلاق فى القرآن ج 2 169

قوله «مَنْ جَهِلَ اغَرَّ بِنَفْسِهِ وَ كَانَ يَوْمُهُ شَرّاً مِنْ امْسِهِ» «1».

و الآخر من أسباب الغرور و الّذي يبتلي به الكثير من الناس هو الإغترار بزخارف الدنيا و بريقها من المال و المقام و الشباب و الجمال و القدرة و أمثال ذلك.

إنّ بعض الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الافق و صِغَر النفس إذا وجدوا أحياناً أنّهم على شي ءٍ من الثروة و المال أو المقام، فسوف ينسون أنّ هذه عارية بأيديهم و أنّها في معرض الزوال و الفناء، و هذا النسيان يتسبّب لهم في العُجب و الوقوع في دوّامة الغرور، و هذا الغرور يتسبّب لهم في الابتعاد عن اللَّه تعالى و الاقتراب من الشيطان و التلوث بكثير من الذنوب.

و نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «الدُّنْيَا حُلُمٌ وَ الْاغْتِرَارُ بِهَا نَدَمٌ» «2».

و في حديث آخر عن هذا

الإمام عليه السلام أنّه قال: «لَا تَغُرَّنَّكَ الْعَاجِلَةُ بِزُورِ الْمَلَاهِي، فَانَّ الْلَهْوَ يَنْقَطِعُ، وَ يُلْزِمُكَ مَا اكْتَسَبْتَ مِنَ الْمَآثِم» «3».

و من العجائب أنّ جميع الناس يرون بامّ أعينهم ظاهرة الزوال السريع للنعم المادية و الدنيوية و تلاشي الأموال و الثروات و سقوط الحكومات و القدرات الدنيوية كلّ يوم، و لكن عند ما تصل النوبة إليهم يتملكهم الغرور الشديد بحيث يتصوّرون انّ ما يتعلق بهم مخلّد و سيبقى إلى الأبد و لا يزول عنهم إطلاقاً.

أجل فإنّ أسباب الغرور متنوعة بشكل كبير، و الخلاص من هذه المصيدة صعبٌ جداً و لا يتسنّى للإنسان إلّا في إطار التقوى و التوكل على اللَّه و الالتفات إلى انّ جميع هذه الامور سريعة الزوال و فانية.

3- علائم الغرور

إن علامات الغرور تارة تكون واضحة جداً بحيث إنّ الإنسان يدركها فوراً و في أوّل ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 8744.

(2). غرر الحكم، ح 1384.

(3). غرر الحكم، ح 10363.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 151

بادرة و يدرك أنّ الشخص الفلاني مصاب بداء الغرور و العُجب، من قبيل عدم اهتمامه بالآخرين، عدم اهتمامه بالحلال و الحرام و الأحكام الشرعية، عدم مراعاة الأدب مع الكبار و ترك المودّة و المحبّة مع الأصدقاء و الأقرباء، التعامل مع الأقل منه شأناً من موقع القساوة و الخشونة، التحدّث بكلام مرتبك و بعيد عن الأدب، الضحك العالي و القهقهة، قطع كلام الآخرين، النظر إلى الصالحين و الأخيار و العلماء بعين الحقارة و الازدراء، و كذلك المشي بصورة غير متعارفة، ضرب الأقدام على الأرض عند المشي، تحريك الكتفين، النظرات غير المتعارفة إلى الأرض و السماء، و حتّى أحياناً يصدر منه بعض سلوكيات المجانين و السفهاء من الناس، و كلّ ذلك من علائم الغرور و

الفخر.

و لكن أحياناً اخرَى تكون علائم الغرور خفية و مستورة، فلا يمكن إدراكها بسهولة بل تحتاج إلى دقّة و تأمل للعثور على هذه الصفة في واقع النفس أو لدى الآخرين، من قبيل أنّ بعض الأشخاص و بعد مدّة قصيرة من الدرس يتركون استاذهم و يرون أنّهم مستغنون عن الدرس و الاستاذ، أو من قبيل الشخص الّذي يجد في نفسه علاقة شديدة للإنزواء و العزلة عن الناس، و يمكن أن يبرّر ذلك بعدم حضور مجالس الغيبة و التلوث بالذنوب و أمثال ذلك، في حين أنّه مع قليل من الدقة نجد أنّ السبب الحقيقي لذلك هو الغرور و الفخر و العجب حيث يرى نفسه طاهراً و مؤمناً و يرى الآخرين أقلّ من ذلك شأناً لتلوّثهم و جهلهم.

أجل ليس فقط صفة الغرور هي الّتي تختفي أحياناً في زوايا النفس، بل هناك الكثير من الصفات الرذيلة تعيش في واقع الإنسان في حالة كمون و خفاء و لا يعلمُ بها الشخص بل قد تظهر هذه الصفات الرذيلة بمظهر حسن و تلبس لباس الفضيلة بحيث يعتقد صاحبها بأنّها فضائل و لا يستطيع تشخيص ذلك إلّا للأساتذة و الأساطين من علماء الأخلاق و أصحاب السلوك و أرباب المعرفة.

4- المعطيات الفردية و الاجتماعية للغرور

قلّما نجد لسائر الصفات الرذيلة من الآثار السيئة و النتائج السلبية و المضرة مثلما نجده الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 152

في الغرور و الفخر.

إن افرازات الغرور السلبية تكاد تستوعب جميع حياة الإنسان الدنيوية و الأخروية على مستوى الضرر و الفساد، و من بين الأضرار المترتبة على الغرور ما يلي:

1- إن الغرور يسدلّ على عقل الإنسان و بصيرته حجاباً سميكاً يمنعه من إدراك حقائق الامور و لا يسمح له برؤية نفسه و الآخرين كما هو

الواقع و لا يسمح له أن يقيّم الحوادث الإجتماعية تقييماً سليماً و يتخذ منها موقفاً صحيحاً.

و قد سبق أن ذكرنا الحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «سُكْرُ الغَفلةِ و الغُرور أبْعدُ إفاقةً مِن سُكْرِ الخُمور».

2- إن الغرور يُعد عاملًا مهماً للفشل و التخلّف الفكري و الجفاء النفسي في حركة الحياة.

فالجيش المغرور من السهل أن يقع في حبائل الهزيمة و الفشل الذريع، و السياسي المغرور من اليسير أن يسقط في حركته السياسية و يخسر نفوذه الإجتماعي و مقامه السياسي، و الطالب المغرور يفشل في الامتحان، و الرياضي المغرور سوف يخسر اللعبة مع الطرف المقابل، و أخيراً فالمسلم المغرور سيكون مورد الغضب الإلهي، و التعبير بقوله (قاتلات الغرور) في الروايات الإسلامية يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

3- إنّ الغرور يعمل على توقف حركة الإنسان التكامليّة بل قد يؤدي به إلى الإنحطاط و التخلّف، لأن الإنسان عند ما يُصاب بالغرور فإنه لا يرى نقائصه و معايبه، و بالتالي فالشخص الّذي لا يشعر بالنقصان فسوف لا يتحرّك باتّجاه الكمال و إصلاح الخلل.

و هذا ما نقرأه في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «مَنْ جَهِلَ أغرّ بنفسهِ و كان يَومه شرّاً من أمْسِهِ».

4- إن الغرور يتسبّب في حبط الأعمال و فساد الطاعات، لأنّه لا يسمح للإنسان بأعمال الدقة في عمله و بالتالي يتسبّب في خراب العمل، فالطبيب المغرور يمكن أن يبعث بمريضه إلى الموت أو يؤدي به إلى تلف أحد الأعضاء، و السائق المغرور سيبتلي بالحوادث الخطرة، و هكذا المؤمن المغرور قد يبتلي بالرياء و العُجب و سائر الامور الّتي تفسد العمل و تحبط

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 153

الحسنات كما ورد في

الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال «غَرُورُ الْامَلِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ» «1».

5- إن الغرور يمنع من التفكّر في عواقب الامور كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «لَمْ يُفَكِّرْ فِي عَوَاقِبِ الْامُورِ مَنْ وَثِقَ بِزُورِ الْغُرُورِ» «2».

6- انّ الغرور غالباً ما يتسبّب في الندم و ذلك لأن الإنسان المغرور لا يستطيع التقييم الصحيح للحوادث بالنسبة له و للآخرين و سيقع في محاسباته الفردية و الاجتماعية في الخطأ و الاشتباه، و هذا الأمر يُفضي به إلى الندم، و في هذا المجال يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

«الدنيا حلم و الاغترار بها ندمٌ» «3».

7- و يمكن القول في جملة واحدة: إن الأشخاص الّذين يعيشون حالة الغرور هُم في الواقع فقراء و مساكين في الدنيا و الآخرة كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام «الْمَغْرُورُ فِي الدُّنْيَا مِسْكِينٌ و فِي الْآخِرَةِ، مَغْبُونٌ لِانَّهُ بَاعَ الْافْضلَ بِالْادْنَى» «4».

5- طرق علاج الغرور

بما أنّ الغرور ينشأ غالباً من الجهل و عدم المعرفة بالنفس و عدم تقييم الذات بشكل صحيح فإنّ أوّل خطوة لعلاج هذا المرض الأخلاقي هو معرفة النفس و معرفة اللَّه تعالى و كذلك معرفة الاستعدادات و القابليات لدى الأشخاص الآخرين.

إذا رجع الإنسان في ذكرياته إلى مرحلة الطفولة وجد نفسه عاجزاً عن كلّ شي ء، و إذا تفكّر الإنسان في المراحل المتقدّمة من عمره وجد نفسه عاجزاً أيضاً عن عمل أيّ شي ء، و إذا تفكّر فيما لديه من القدرة و المال و الثروة و الشباب و الجمال، لوجد انّ جميع هذه الامور

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 6390.

(2). غرر الحكم، ح 7566.

(3). غرر الحكم، ح 1384.

(4). ميزان الحكمة، ج 3، ص 2237 (مادّة غرور).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 154

تتعرض للتلف و

الزوال و تصيبها الآفات المختلفة.

و كذلك إذا عاد لينظر في تاريخ الأقوام السالفة و المجتمعات البشريه الماضية و سرعة زوال قدراتها و تلف أموالها و ثرواتها و اندثار ما تبقى من امكاناتها و حضارتها و شموخها، لما أصابه الغرور.

كيف يغتر الإنسان بعلمه و الحال انه من المحتمل أن يُصاب بضربة على رأسه فينسى جميع علومه بل ينسى حتّى اسمه؟

و كيف يغتر الإنسان بأمواله في حين أنّ تغييراً بسيطاً في السوق أو وقوع حادثة مهمة اجتماعية أو سياسية أو عسكرية بامكانها أن تُبيد جميع أمواله بل قد يغرق في الدين و القرض أيضاً.

و على أيّة حال فإنّ ممّا يزيل عن الإنسان حالة الغرور و الفخر و السكر بزخارف الدنيا و بريقها هو معرفة النفس و أوضاع العالم الدنيوي المتحركة و عدم ثباتها و كثرة تغيرها و تبدلّها.

و القرآن الكريم يخاطب هؤلاء المغرورين من موقع التحذير و الإنذار و يقول: «أَ وَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثَارُواْ الْأَرْضَ وَ عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» «1».

و شبيه هذا المعنى ورد في سورة غافر الآية 21 و 82 أيضاً إذا تفكر الإنسان جيداً في معالم و أعضاء جسمه و كوامن روحه و نفسه لوجد الضعف مهيمناً على أجواء كيانه و كيف أنّ الحوادث الجزئية و التوافه بإمكانها أن تهدم حياته و تشل حركته فسوف لا يصاب بسكر الغرور أبداً كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام «مِسْكِينُ بْنُ آدَمَ مَكْتُومُ الْاجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ مَحْفُوظُ الْعَمَلِ، تُؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ و تُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ» «2».

______________________________

(1). سورة الروم،

الآية 9.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الحكمة 419.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 155

و نقرأ في حالات (عيّاض) الوزير المعروف و المقتدر للسلطان محمود الغزنوي حيث ورد انه كان يدخل كلّ يوم في غرفة خاصّة و يغلق الباب من ورائه و بعد لحظات يخرج منها، فلفت هذا السلوك نظر البعض و تعجّبوا من هذا السلوك و تصوروا أن سرّاً خطيراً كامناً في هذه الغرفة، و بعد التحقيق اتّضح لهم انه اخفى ملابسه الّتي كان يلبسها أيّام كان راعياً للغنم في هذه الغرفة، و كلّ يوم يدخل إلى هذه الغرفة لينظر إلى تلك الملابس الرثّة و يقول لنفسه: لقد كنتَ يا عياض راعياً للغنم و الآن سلّمك اللَّه مقام الوزارة، فلا تغتر بذلك و عليك أن تخشى غداً عند ما تفقد هذا المقام و عليك دينٌ و لا تستطيع الوفاء به.

و لو أنّ جميع أرباب القدرة و السلطة سلكوا هذا المسلك في تربية نفوسهم فإنّ الغرور لا يجد طريقاً للنفوذ إلى قلوبهم، و لكن مع الأسف فإنّ كلّ إنسان لا يكون مثل عيّاض.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 156

8

طول الأمل

تنويه:

إن (طول الأمل) يُعد من أهم الرذائل الأخلاقية الّتي تجر الإنسان إلى ارتكاب أنواع الذنوب و الخطايا و تبعده عن اللَّه تعالى و تسلك به في خط الشيطان و بالتالي يترتب على ذلك الكثير من العواقب الوخيمة.

و بالطبع فإنّ أصل (الأمل) ليس فقط غير مذموم بل له دور مهم في إدامة حركة الحياة و التطور البشري في الأبعاد المادية و المعنوية.

إذا سُلب الأمل من قلب (الامّ) فإنّها لا تجد دافعاً لإرضاع طفلها و تحمل أنواع المشقة و الألم بتربيته و تنشئته كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف

«الْامَلُ رَحْمَةٌ لِامَّتِي وَ لَوْلَا الْامَلُ مَا رَضِعَتْ وَالِدَةٌ وَلَدَهَا وَ لَا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرَهَا» «1».

إن من يعلم مثلًا بأن هذا اليوم هو آخر يوم من حياته أو أنّه سيموت بعد أيّام قليلة و يغادر الدنيا فإنه سيترك جميع ما في يده من أعمال و نشاطات في دائرة المعيشة و العلاقات الإجتماعية، و في الحقيقة فإنّ ذلك يعني انطفاء شعلة الحياة و لعلّ أحد الأسباب لخفاء الأجل هو أن يبقى الإنسان في حالة الأمل و الرجاء و يعيش الحركة الطبيعية في امور المعيشة.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 74، ص 173.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 158

كما نقرأ هذا المعنى في ما ورد عن المسيح عليه السلام (انه كان جالساً يوماً في مكان و شاهد شيخاً كبيراً يحرث الأرض بمسحاته و يعمل على سقي الأرض و زراعتها، فطلب المسيح عليه السلام من اللَّه تعالى أن يسلب منه الأمل في الحياة: اللهم انزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة و اضطجع فلبث ساعة فقال عيسى اللّهم أردد إليه الأمل فقام و جعل يعمل فسأله عيسى عن ذلك فقال بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي إلى متى تعمل و أنت شيخ كبير فألقيت المسحاة و اضطجعت ثمّ قالت لي نفسي و اللَّه لا بدّ لك من عيشٍ ما بقيت فقمت إلى مسحاتي «1».

و لهذا السبب فإنّ الأمل ضروريٌ في ايجاد التحرّك أكثر لدى أفراد المجتمع من موقع النظر إلى المستقبل في حركة الحياة.

و لكنّ نفس هذا الأمل الّذي يُعدّ رمز حركة الإنسان و سعيه في حياته الدنيوية و الماء الّذي يسقي أرض حياته الميّتة و يُنعش احساساته و عواطفه بغدٍ أفضل، نفس هذا الأمل إذا تجاوز عن حدّه المرسوم أصبح

على شكل سيل مدمّر يأتي على الأخضر و اليابس و يُغرق الإنسان في وحل حبّ الدنيا و الظلم و الجريمة و الإثم.

و لهذا نجد أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يرى في (طول الأمل) أحد العدوّين الشرسين للإنسان و يقول: «إنّ أشد ما أخاف عليكم خِصْلَتَانٌ اتِّبَاعُ الْهَوى وَ طُولُ الْامَلِ، فَامَّا اتِّبَاعُ الْهَوى فَانَّهُ يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ، امَّا طُولُ الْامَلِ فَانَّهُ يُحبب الدُّنْيَا» «2».

و شبيه هذا المعنى بتفاوت يسير ورد أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.

و بهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها نتيجة طول الأمل و أثره في مصير الأقوام السالفة و المجتمعات البشريه بشكل عام:

1- «وَ اذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 14 ص 329 مع التوضيح.

(2). المحجّة البيضاء، ج 8، ص 245.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 159

قُصُورًا وَ تَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» «1».

2- «أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ* وَ تَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» «2».

3- «يُنَادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَ لَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ» «3».

4- «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ» «4»

5- «ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَ يَتَمَتَّعُواْ وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» «5».

6- «أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ ا لْأَخِرَةُ وَ الْأُولَى «6».

7- «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الّذي جَمَعَ مَالًا وَ عَدَّدَهُ*

يَحْسَبُ انَّ مَالَهُ اخْلَدَه» «7».

8- «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلَى لَهُمْ» «8».

تفسير و استنتاج:

منابع طول الأمل

«الآية الاولى و الثانية» تتحدّثان عن قوم عادٍ و ثمود حيث بعث اللَّه لهم (هود) و (صالح) و كانوا يعيشون الوضع الاقتصادي المزدهر في زراعتهم و صناعتهم و بالتالي تسبب ذلك في ______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 74.

(2). سورة الشعراء، الآية 128 و 129.

(3). سورة الحديد، الآية 14.

(4). سورة الحديد، الآية 16.

(5). سورة الحجر، الآية 3.

(6). سورة النجم، الآية 24 و 25.

(7). سورة الهمزة، الآية، 1- 3.

(8). سورة محمّد، الآية 25.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 160

تعلّقهم الشديد بالدنيا و عاشوا طول الأمل فيها ممّا أورثهم ذلك الغرور و الكبر و الفخر إلى درجة أنّهم ليس فقط لم يهتمّوا لدعوة أنبيائهم هود و صالح، بل إنّهم تصدوا لهم بالمخالفة و العدوان.

القرآن الكريم يذكر في الآيات الاولى على لسان النبي صالح عليه السلام مخاطباً لقومه «وَ اذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَ تَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» «1».

و في «الآية الثانية» يستعرض القرآن حالة قوم (عاد) و الّذي سبقت الإشارة إليها في الآية السابقة في الحديث عن قوم ثمود.

و تتحّدث الآية الكريمة على لسان النبي هود عليه السلام مخاطباً قومه «أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ* وَ تَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» «2».

و هنا أراد هو بهذا الكلام أن يُفهم قومه أنّ أحد العلل المهمّة لإنحرافهم عن جادة الصواب و سلوكهم في خطّ الباطل هو اتباعهم للأهواء و اعتمادهم على الآمال العريضة و الطويلة و الّتي أدّت بهم إلى الغفلة

عن اللَّه تعالى و الفرق في زخارف الدنيا و الابتلاء بزبارجها.

(مصانع) جمع مصنع، بمعنى البناء العظيم و القصر الشامخ و المستحكم، و الأصل لهذه المفردة هي مادّة (صَنَعَ) و الّتي تأتي بمعنى أداء العمل الحسن، و عليه فإنّ (صنع) لا يقال لكلّ عمل، بل يُطلق على الأعمال الّتي لها امتياز خاص.

إن قوم عاد و ثمود تصوّروا بأنّهم و بسبب هذه الأبنية القوية و المجلّلة و القصور الفخمة الّتي أوجدوها في قلب الجبال أنّهم بإمكانهم أن يصونوا أنفسهم من الآفات و الحوادث الطبيعية و يخلدوا فيها لسنوات متمادية بعيداً عن كلّ اشكال الشقاء و البؤس.

______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 74.

(2). سورة الشعراء، الآية 128 و 129.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 161

و نفس هذا المعنى ورد عن قوم ثمود في آيات اخرى أيضاً حيث نقرأ على لسان صالح عليه السلام قوله «أَ تُتْرَكُونَ فِى مَا هَهُنَآ ءَامِنِينَ* فِى جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ* وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ» «1».

و لا شكّ أنّ الغرور و الغفلة الّتي حصلت لهم من طول الأمل لا تنحصر بقوم عاد و ثمود، و لكن القرآن الكريم يذكر هذه الصفة و الحالة النفسية لهؤلاء القوم كصفة بارزة من صفاتهم الأخلاقية.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن جدال المؤمنين و المنافقين يوم القيامة حيث يجد المنافقون أنفسهم يعيشون في ظلمة المحشر في حين أنّ المؤمنين يتحركون نحو الجنّة بنور الإيمان، و هنا يطلب المنافقون من المؤمنين أن يستفيدوا من نورهم و ينتفعوا من ضياءهم، و لكنه يُقام حاجز بينهما يحجب كلّ طائفة عن الاخرى.

و هنا يصرخ المنافقون «... ا لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ...» «2» إذن فلما ذا أنفصلتم عنّا؟

فيجيب المؤمنون «... قَالُواْ بَلَى

وَ لَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ ...» «3».

و عليه فالآية أعلاه تبين أربع عوامل لشقاء المنافقين، و الرابع منها طول الأمل و الاغترار بالأماني الطويلة و العريضة.

(اماني) جمع (أمنية)، و هي من مادّة (مَنى على وزن (مَغز) و هي في الأصل بمعنى المقياس و الميزان، لأن الإنسان في عالم الخيال و أحلام اليقظة يقيس الامور لنفسه و ما يترتب عليها من معطيات، و لهذا السبب يُقال للخيالات الباطلة و الكلام الزائف و الآمال العريضة (امنية) و جمعها (أماني).

______________________________

(1). سورة الشعراء، الآية 146- 149.

(2). سورة الحديد، الآية 14.

(3). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 162

و ورد في تفسير منهج الصادقين و تفسير القرطبي في ذيل هذه الآية حديثاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أنّ رسول اللَّه كان أحد الأيّام يعظ أصحابه فرسم لهم خطوط متوازية على الأرض ثمّ خطّ لهم خطاً عمودياً ثمّ قال: أ تعلمون ما معنى هذه الخطوط؟ فقالوا: لا يا رسول اللَّه! فقال: هذه الخطوط هي من قبيل الآمال و التمنيات للناس (و الّتي لا حدّ لها و لا حصر) و امّا ذلك الخط العمودي فهو الموت و نهاية الحياة الدنيا الّذي خُطّ على بني آدم جميعاً و الّذي سوف يُبطل جميع هذه الآمال و التمنيات.

و نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير نقله (ابن مسعود) عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث قال:

«خطّ لنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خطاً مربعاً، و خطّ وسطه خطاً و جعله خارجاً منه، و خطّ عن يمينه و يساره خطوطاً صغاراً، فقال: هذا ابن آدم و هذا أجله محيط

به و هذا أمله قد جاوز أجله، و هذه الخطوط الصغار الأعراض، فإنّ اخطأه هذا نهشه هذا، و إن أخطأه هذا نهشه هذا» «1».

«الآية الرابعة» تخاطب المؤمنين بصورة غير مباشرة و تحذرهم بأن يكونوا على وعيٍ كامل بوضعهم و حالهم لكي لا تأخذهم الآمال و التمنيات و تُفضي بهم إلى المصير المؤلم للأقوام السالفة و تقول «أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ» «2».

و المفهوم من هذه الآية انّ ما يبعث على لين قلب الإنسان و انعطافه و توجهه إلى الحقّ و تحرّكه في خطّ الإيمان و الانفتاح على اللَّه هو ذكر اللَّه تعالى، أجل فإنّ ذكر اللَّه من شأنه أن يُزيل جميع الآمال الطويلة و العريضة و يجعل الإنسان ملتفتاً إلى مسؤولياته و واقعه و يُجلي قلب الإنسان و يضيئه، و يتسبّب في أن يتحرّك الإنسان في تصوراته و تفكيره من رؤية الواقع و حقيقة الحياة الدنيا فيرى عدم ثباتها و عدم استقرارها جلياً أمام ناظريه.

______________________________

(1). تفسير القرطبي، ج 17، ص 247 ذيل الآية محل البحث.

(2). سورة الحديد، الآية 16.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 163

«الآية الخامسة» تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مشيرةً إلى الكفّار و المشركين و تقول «ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَ يَتَمَتَّعُواْ وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» «1».

أجل أنّ هؤلاء مثلهم كمثل الدواب و الأنعام لا يفهمون من الحياة الدنيا سوى المأكل و المشرب و التمتع بإشباع الشهوات البدنية، و عليه فهم أضل من الأنعام و اسوأ حالًا بسبب أنّهم يعيشون طول الأمل في حياتهم و

أفكارهم بحيث إن طول الأمل هذا يمنعهم من التفكير بمستقبلهم و ما ينتظرهم في الغد حتى ينشب الموت مخالبه في أرواحهم.

و هنا نجد أنّ الآية توضح الأثر السلبي للآمال الطويلة على حياة الإنسان و تبين إلى أيّة درجة تجعل هذه الآمال الإنسان مشغولًا بنفسه و دنياه و غافلًا عن اللَّه تعالى.

و جملة (ذرهم) تبين بوضوح انه لا أمل في هداية هؤلاء و إلّا فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في الأصل مأمورٌ بهداية جميع الناس فلا معنى لأن يتركهم مع احتمال الهداية فيهم.

و كيف يصحّ توقّع الهداية من طائفة من الناس في حين أنّ هدفها النهائي في حركة الحياة هو الأكل و الشرب و النوم و الحياة في الدنيا كما تعيش الحيوانات، لأن هذه الآمال الطويلة لا تدعهم يفكرون لحظة في نهاية هذه الحياة و خالقها و الواهب لكلّ هذه المواهب في عالم الوجود و ما هي الغاية من هذا الخلق العظيم؟

«الآية السادسة» من الآيات مورد البحث و التي تشير إلى هذه الحقيقة، و هي انّ الآمال الطويلة الّتي لا يحصل عليها الإنسان غالباً تحيط بالإنسان و تؤسر جميع امكاناته و قابلياته و تحجزه عن سلوك طريق السعادة و بالتالي ستمنعه من سلوك طريق الكمال المعنوي و الإنساني و تقول: «أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى «2».

و هذا الاستفهام في الحقيقة هو نوع من الاستفهام الإنكاري، فكيف يمكن أن يعيش الإنسان كلّ هذه الآمال و التمنيات و ينالها و يصل إلى مقاصده في حين أنّ طول هذه الآمال ______________________________

(1). سورة الحجر، الآية 3.

(2). سورة النجم، الآية 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 164

يستغرق أحياناً عشرات أو مئات الأضعاف من عمر الإنسان الطبيعي، و أحياناً تقع

هذه التمنيات في خطّ اللانهاية بحيث كلّما وصل الإنسان في حركة الحياة إلى مقدار معيّن منها تجلّت له آمال اخرَى تدعوه إلى مواصلة الحركة.

و يجب الانتباه إلى أنّ هذه الآية وردت بعد آيات تشير إلى اصنام المشركين الّذين كانوا يعيشون الأمل بشفاعتها و القرب من اللَّه تعالى بواسطتها، فالقرآن يقول: إنّ هذا الأمل لا يتحقّق إطلاقاً، و لكن مع ذلك فإنّ مفهوم الآية عام، و كما في الإصطلاح أنّ المورد لا يخصّص الوارد.

«الآية السابعة» تتحدّث عن أهل الدنيا الّذين يعيشون الآمال الطويلة و التمنيات العريضة و تقول: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الّذي جَمَعَ مَالًا وَ عدَّدَهُ «1»* يَحْسَبُ انَّ مَالَهُ اخْلَدَه» «2».

و في الواقع أنّ هذه الآيات الثلاثة بمثابة العلّة و المعلول، لأن الإنسان الأناني و الانتهازي سوف يتحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الإستهزاء بسبب الثروة الكبيرة و المال الكثير عنده و الّذي جَمَعه بطرق غير مشروعة، لأنه جَمَع مثل هذه الثروة بدافع من تصوّره أنّ هذه الثروة من شأنها أن تكتب له الخلود في هذه الحياة، فهذا التصوّر المصحوب ب (طول الأمل) و كثرة التمنيات الدنيوية تسبب لهذا الشخص الغرور و الاستعلاء و العجب، و هذا بدوره يتسبب في أن يتحرّك مع الآخرين من موقع الإستهزاء و السخرية «3».

و يُستفاد جيداً من هذه الآية أنّ الآمال و التمنيات الطويلة و العريضة تارةً تصل إلى حدّ ينسى الإنسان معها الموت تماماً و يتصوّر انه مخلّد أبد الدهر، و هذا الأمر يؤدي به إلى ______________________________

(1). ورد هذا الاحتمال في تفسير «عدَّده» و لا يراد منه العدّ، بل جعل المال عدُّة له بأن يعتمد عليه في كل الأحوال.

(2). سورة الهمزة، الآية، 1- 3.

(3). «همزة» و

«لمزة» صيغتان للمبالغة، و الاولى من مادة «هَمْز» بمعنى الكسر، و الثانية من مادة «لمز» بمعنى الغيبة و التنابز بالألقاب، و يرى البعض أنّ «الهُمَزَة» يقال للشخص الّذي يعيب على غيره بالاشارة، بينما تطلق «اللمزة» على الشخص الّذي يرتكب هذا العمل بلسانه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 165

الطغيان و يقوّي فيه حالة الإستكبار و الفوقية و بالتالي تورثه هذه الحالة الوقوع في الكثير من الذنوب الاخرى.

«الآية الثامنة» و الأخيرة من الآيات مورد البحث: تتحدّث عن طائفة من الأشخاص الّذين عرفوا الحقّ من موقع الوعي و لكنهم أداروا ظهورهم له و أعرضوا عنه بعد ذلك و تقول: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلَى لَهُمْ» «1».

(أَمْلَى لهم) من مادّة إملاء، بمعنى ظهور الآمال البعيدة و الطويلة الّتي تشغل الإنسان بنفسه.

و هذه الآية في الحقيقة ناظرة إلى هذا المعنى و هو انه كيف يمكن أن يكون الإنسان عارفاً للحقّ و مصدّقاً به في البداية ثمّ يتجاهل هذه العقيدة و يعرض عنها و يوصد أبواب النجاة أمامه و يسلك في خطّ الإنحراف و الزيغ.

هل يمكن للإنسان العاقل أن يسلك هذا المسلك؟

أجل فعند ما تحيط الوساوس الشيطانية بالإنسان و تصوّر له القبائح حسنات و توقعه في منزلقات الآمال و التمنيات الطويلة فلا يبعد أن ينسى ما كان عليه من الحقّ و يعرض عنه بسبب ذلك.

و من هنا يمكن إدراك البلاء العظيم الّذي تنزله الآمال الطويلة على الإنسان و كيف أنّ الإنسان العاقل يفقد عقله معها تماماً و يصبح غريباً عن ذاته و يترك عقله لمجموعة من الأوهام و الخيالات الّتي تقوده في خط الباطل و تبتعد به عن اللَّه تعالى.

و من

مجموع الآيات المذكورة آنفاً و الّتي تحدّثت عن مصير بعض الأقوام الماضين و بعض المعاصرين لعصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و بعض الآيات تحدّثت بشكل قانون عام ______________________________

(1). سورة محمّد، الآية 25.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 166

يمكن استخلاص هذه النتيجة، و هي انّ طول الأمل و كثرة التمنيات تُعدّ من أخطر أعداء الإنسان في صياغة حياته السعيدة، و بإمكانها أن توقع أفراد البشر بل المجتمعات البشرية في هوّة السقوط و الاندثار و الشقاء.

طول الأمل في الروايات الإسلامية:

بما أنّ طول الأمل له تأثير مخرب جداً على حياة الإنسان المعنوية و الأخلاقية و حتّى الدنيوية و المادية أيضاً، فإنّ الروايات الإسلامية قد ذمت هذه الخصلة بتعبيرات مختلفة، و أشارت إلى أسباب منطقية لذلك، و على سبيل المثال نشير إلى نماذج من هذه الروايات:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «ارْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَ قَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَ طُولُ الْامَلِ وَ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا» «1».

2- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ اطَالَ امَلَهُ سَاءَ عَمَلُهُ» «2».

و هذا المعنى ورد بصورة أوضح في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال «اطْوَلَ النَّاسِ امَلًا اسْوَؤُهُمْ عَمَلًا» «3».

3- و ورد في نهج البلاغة في الخطبة 147 تعبيراً عميقاً في هذا المجال قال: «انَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَ تَغَيُّبِ آجَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ الْمَوْعُودُ الّذي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ وَ تُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ».

4- و في حديث آخر عن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام عن أبيها الإمام الحسين عليه السلام عن جدّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «انَّ صَلَاحَ اوَّلِ هَذِهِ

الْامَّةِ بِالزُّهْدِ وَ الْيَقِينِ وَ هَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ (بِالشَّكِّ) وَ الْامَلِ» «4».

______________________________

(1). تفسير القرطبي، ج 5، ص 3618، ورد شبيهاً له مع اختلاف يسير في بحار الأنوار، ج 70، ص 16.

(2). بحار الأنوار، ج 70، ص 163، ح 19.

(3). تصنيف غرر الحكم، ص 312.

(4). بحار الأنوار، ج 70 ص 164.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 167

و بديهي أنّ من العوامل المهمة لانتصار المسلمين في صدر الإسلام هو الإيمان و اليقين الراسخ بالإضافة إلى عدم اهتمامهم بزخارف الدنيا و بريقها، حيث تسبب ذلك في أن يرد المسلمون الأوائل إلى ميدان القتال و الجهاد بشجاعة فائقة و شوق بالغ فلم يكونوا يرون إلّا اللَّه تعالى و لا يتحركون إلّا في خط الطاعة و التقوى و لا يديرون ظهورهم إلى الأعداء من موقع الهزيمة و التخاذل.

و لكن عند ما امتدت إليهم الآمال الطويلة و ملكتهم العلائق الدنيوية و خدعتهم ظواهر الدنيا حلّ الشك و الترديد محلّ اليقين، و الشغف بأُمور الدنيا محلّ الزهد، و بدءوا يتراجعون أمام أعدائهم و يسلكون سبيل التخلف و الانحطاط الحضاري و الثقافي، فلا سبيل لهم اليوم لتجديد عظمتهم الاولى سوى احياء تيْنَك الأصلين الرئيسيّين.

5- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْامَلُ سُلْطَانُ الشَّيَاطِينِ عَلَى قُلُوبِ الْغَافِلِينَ» «1».

6- و جاء في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً انه وصف مثل هؤلاء الأشخاص بعنوان شرّ الناس و قال: «شَرُّ النَّاسِ الطَّوِيلُ الْامَلِ، السَّيّى ءُ الْعَمَلِ» «2».

و كذلك ورد في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً قوله: «انَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى امَلِهِ فَيَقْطَعُهُ حُضُورُ اجَلِهِ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ لَا امَلٌ يُدْرَكُ وَ لَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ» «3».

7- و في حديث شريف عن أمير المؤمنين عليه

السلام أنّه قال: «اشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى» «4».

لأن التمنيات الطويلة و العريضة تتسبّب في أن يعيش الإنسان الحاجة و الفقر في نفسه دائماً و يمدّ يده في سبيل إشباع هذه الحاجة إلى أيّ شخص و بذلك يحقق شخصيته و يسحق حيثيّته الإنسانية من أجل هدف لن يصل إليه أبداً.

______________________________

(1). تصنيف غرر الحكم، ص 312.

(2). المصدر السابق.

(3). غرر الحكم، ص 313.

(4). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 34 و 211.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 168

8- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: «كَذَّبَ مَنِ ادَّعَى الْايمَانَ وَ هُوَ مَشْغُوفٌ مِنَ الدُّنْيَا بِخِدَعِ الْامَانِيِّ وَ زُورِ الْمَلَاهِيِّ» «1».

و من الواضح أنّ المتعلق بالدنيا و المشغوف بزخارفها و ملذاتها فإنه و من أجل الوصول إلى كلّ شي ء منها لا بدّ له أن ينسى كلّ شي ء يشدّه إلى الحقيقة و الواقع و من ذلك سوف يُصاب الإيمان بالإهتزاز و الضعف.

9- و كذلك ورد عن هذا الإمام في حديث قصير و ملي ء بالمعنى أنّه قال: «الْامَانِيُّ تُعْمَى عُيُونَ الْبَصَائِرِ» «2».

10- و ورد في حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال يوماً لأصحابه «أَ كُلُّكُمْ يُحِبُّ انْ يَدْخُلَ الجَنّةَ؟».

«قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ»

قال: «قَصِّرُوا مِنَ الْامَلِ وَ اجْعَلُوا آجَالَكُمْ بَيْنَ ابْصَارِكُمْ وَ اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» «3».

11- و أيضاً نقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «انَّ الْامَلَ يُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَ يُكَذِّبُ الْوَعْدَ، وَ يَحِثُّ عَلَى الْغَفْلَةِ وَ يُورِثُ الْحَسْرَةَ» «4».

12- و نختم هذا البحث برواية اخرى عن رسول اللَّه بعنوان (مسك الختام)، فقد ورد في هذا الحديث أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أخذ ثلاثة أعواد فغرس

عوداً بين يديه و الآخر إلى جانبه و أما الثالث فأبعده و قال: هلا تدرون ما هذا؟ قالوا: اللَّه و رسوله أعلم، قال: «هَذَا الْانْسَانُ! وَ هَذَا الْاجَلُ! وَ هَذَا الْامَلُ يَتَعَاطَاهُ ابْنُ آدَمَ وَ يَخْتَلِجَهُ الْاجَلُ دُونَ الْامَلُ!» «5».

الأحاديث الشريفة أعلاه و الّتي هي غيض من فيض الروايات المذكورة في المصادر الإسلامية في باب طول الأمل تبين بوضوح سعة دائرة الخطر و عمق الفاجعة المترتبة على ______________________________

(1). تصنيف غرر الحكم، ص 312، ح 7223.

(2). غرر الحكم، ح 1375.

(3). المحجّة البيضاء، ج 8، ص 246.

(4). ميزان الحكمة، ج 1، ص 3، مادّة أمل.

(5). ميزان الحكمة، ج 1، ص 104؛ المحجّة البيضاء، ج 8، ص 245.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 169

هذه الرذيلة الأخلاقية، و تؤكد على أنّ الآمال الطويلة و التمنيات العريضة تُعد من أشد أعداء سعادة الإنسان و المانع القوي أمام حركته في خط القرب الإلهي و الإيمان و الانفتاح على اللَّه.

الآثار السلبية لطول الأمل:

اشارة

إن للآمال و التمنيات الواسعة آثار مخربة كثيرة في حياة الإنسان المعنوية و المادية و الّتي اشارت إليها الروايات المذكورة آنفاً، و كذلك ما ورد في الآيات القرآنية المذكورة في صدر البحث، و بشكل عام يمكن القول: أنّ طول الأمل يترتب عليه آثار مخرّبة و نتائج مدمّرة كالتالي:

1- طول الأمل مصدر الكثير من الذنوب

إن أحد أسوأ الآثار السلبية لطول الأمل و التمنيات العريضة هي أنّها تدعو الإنسان للتورط بأنواع الذنوب لأن الحصول على متعلقات هذه الآمال و التمنيات لا تتسنّى عادة إلّا بطرق غير مشروعة، و عليه فإنّ من يعيش هذه الرذيلة الأخلاقية يجد نفسه مضطراً إلى الغض عن الكثير من مسائل الحلال و الحرام في سبيل تحقيق أمنياته و أن لا يُراعي في ذلك حقوق الآخرين و لا ممنوعات الشريعة المقدسة، فيتحرك من موقع غصب حقوق الناس، أكل أموال اليتامى التطفيف في الميزان، أكل الربا، الرشوة و أمثال ذلك.

و لهذا السبب فقد ورد في الحديث المعروف في (غرر الحكم) «مَنْ طَالَ امَلُهُ سَاءَ عَمَلُهُ» «1».

و ورد أيضاً «اطْوَلَ النَّاسِ امَلًا اسْوَؤُهُمْ عَمَلًا» «2».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 1، ص 156.

(2). غرر الحكم، ح 3054.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 170

الاخلاق فى القرآن ج 2 189

و جاء في النقطة المقابلة لذلك: «مَنْ قَصَّرَ امَلُهُ حَسُنَ عَمَلُهُ» «1».

و كلّ من هذه الأحاديث الثلاثة وردت عن مولانا أمير المؤمنين الّذي نفديه بأنفسنا و نفدي كلامه النوراني البنّاء.

2- طول الأمل و قساوة القلب

و كما رأينا في الآيات القرآنية المذكورة في بداية البحث انها تتحدّث عن أحد الأقوام الماضية و تقول: «فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم».

و السبب في ذلك واضح، لأن طول الأمل يورث الإنسان الغفلة عن اللَّه تعالى و يقوي فيه عنصر الحرص و يُبعده عن الآخرة، و كلّ هذه من الأسباب المهمة لقساوة القلب.

و لهذا السبب ورد في الحديث الشريف أنّ اللَّه تعالى خاطب موسى و قال: «يَا مُوسَى لَا تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا امَلَكَ فَيَقْسُوا قَلْبَكَ، وَ الْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ» «2».

و نفس هذا المعنى ورد في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه

السلام حيث قال: «مَنْ يَأْمُلُ انْ يَعِيشَ ابَداً يَقْسُو قَلْبُهُ وَ يَرْغَبُ فِي الدُّنْيَا» «3».

3- طول الأمل و نسيان الأجل

و هذا الأثر السلبي لا يحتاج إلى مزيد شرح و بسط، و يمكن فهمه بوضوح على مستوى الأشخاص الّذين يعيشون هذه الرذيلة الأخلاقية حيث لا تجدهم يذكرون الموت أبداً و يفكرون بالآخرة بل يعيشون الغفلة التامّة عن هذه الامور المصيرية.

و قد جاء في الحديث المعروف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و كذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام القول: «طُولُ الْامَلِ يُنْسِي الْاخِرَةِ» «4».

«اكْثَرُ النَّاسِ امَلًا اقَلُّهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً» «5».

______________________________

(1). المصدر السابق، ج 5، ص 295 (طبعة جامعة طهران).

(2). ميزان الحكمة، ج 1، ص 104، مادّة أمل.

(3). المصدر السابق.

(4). ورد في الأحاديث السابقة.

(5). تصنيف الغرر، ص 312، ح 7215.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 171

4- طول الأمل و العُسر في الحياة

و من البديهي انه كلّما امتدت آمال الإنسان و قويت جذورها في واقع النفس فإنّها تتطلّب موارد و مقدّمات أكثر، و كذلك تدعو صاحبها للإقتصاد أكثر في الأموال و الثروات لغرض التوصل إلى تحقيق تلك الآمال و التمنيات، و نتيجة هذين الأمرين هي أن يعيش الإنسان في ضنكٍ من العيش و تعب من زحمة العمل و صعوبة المشكلات الّتي يواجهها هو و عائلته حيث يجد نفسه مضطراً إلى العمل ليل نهار و بدون توقف. و في ذلك وردت أحاديث عن أمير المؤمنين تقول: «مَنْ كَثُرَ مُنَاهُ كَثُرَ عَنَائُهُ».

و قال أيضاً: «مَنِ اسْتَعَانَ بِالْامَانِيِّ افْلَسَ». (حتّى لو عاش حياة الأغنياء في كثرة المال و الثروة).

و قال أيضاً: «الرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ» «1».

5- طول الأمل و الذلّة في الحياة

إنّ الأشخاص الّذين يعيشون الآمال الطويلة مضافاً إلى كدحهم و تعبهم الدائم فإنّهم يعيشون في شخصيّتهم الإنسانية الشعور بالذلّة و الحقارة حيث يضطرون إلى سحق حيثيّتهم لغرض التوصل إلى هدفهم الموهوم و الخيالي و يذعنون و يخضعون أمام كلّ أحد و يمدّوا أيديهم لأيّ شخص كما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ذُلُّ الرِّجَالِ فِي خَيْبَةِ الْامَالِ» «2».

6- الحرمان من النعم و المواهب

و كما تقدّمت الإشارة إليه في الأشخاص المتورطون في دوّامة الأمل و مستنقع التمنيات فإنّهم يجدون أنفسهم مضطرون إلى الاقتصاد و التقتير على أنفسهم في الحياة و عدم الإستفادة من المواهب الكثيرة و النعم الوفيرة الّتي لديهم كلّ ذلك من أجل تحقيق تلك الآمال البعيدة، و لهذا السبب فإنّهم يقترون و يقتصدون في كلّ شي ء حتّى على أنفسهم ______________________________

(1). تصنيف الغرر، ص 314.

(2). غرر الحكم، ج 2، ص 405.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 172

و عائلتهم، و هذا هو البخل أو الشح الّذي يحرم الإنسان من النعم و المواهب الإلهية في عين تملكه للإمكانات و الثروات الوفيرة فيعيش عيشة الفقراء و هو غني.

و قد نرى في زماننا هذا بعض الأشخاص الّذين يبتلون بطول الأمل و يتحركون في سبيل تأمين حياتهم و أبناءهم تحت عنوان (التأمين على الحياة) و يُحرموا بذلك أنفسهم و أبناءهم من المواهب و النعم الإلهية الكثيرة!!

7- طول الأمل و عدم إدراك الحقائق

إنّ الآمال و التمنيات البعيدة حالها حال السراب الّذي يخدع الضمآن في الصحراء المحرقة و يجرّه إليه ليعيش الضمأ و العطش أكثر دون أن يصل إلى مقصوده، فهذه الآمال و التمنيات تُظهر الامور الواقعية بأقنعة مزيّفة و لذلك لا يُدرك الإنسان أين يذهب و إلى أين يتجّه؟ و ما هي وظيفته في قِبال الامور المصيرية؟

و من ذلك ورد في الحديث الشريف الّذي سبقت الإشارة إليه، عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «الْامَانِيُّ تُعْمِي عُيُونَ الْبَصَائِرِ» «1».

و خلاصة الكلام انّ الشخص الّذي يمكنه إدراك وجه الحقيقة الجميل كما هو عليه هو الشخص الّذي لا يغطي عقله بحجاب الآمال و التمنيات و لا يعيش وسط السُحُب المظلمة والمظلّة لطول الأمل.

8- طول الأمل و كفران النعمة

و من البديهي أنّ طول الأمل يقود الإنسان لأن يتعلق قلبه بما لا يحصل عليه أبداً و لهذا فإنه يرى نعمة اللَّه عليه قليلة و مواهبه حقيرة فلا يتعامل مع ما لديه من هذه المواهب العظيمة من موقع الإهتمام و العناية و هذا هو عين كفران النعمة ممّا يترتب عليه عواقب سيّئة في الدنيا و الآخرة.

و قد ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «تَجَنَّبُوا الْمُنَى فَانَّهَا تُذْهِبُ بِبَهْجَةِ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَكُمْ، وَ تُلْزِمُ اسْتِصْغَارَهَا لَدَيْكُمْ، وَ عَلَى قِلَّةِ الشُّكْرِ مِنْكُمْ» «2».

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1375.

(2). تصنيف الغرر، ص 314.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 173

دوافع طول الأمل و أسبابه:

إن العمدة في دوافع طول الأمل هو الجهل و عدم الإطلاع على حال الدنيا و ما فيها من التغيرات و الابتلاءات و عناصر التضاد في حركة الحياة، و كذلك الجهل بقدرة اللَّه و لطفه و ثوابه العظيم في الآخرة، فمجموع هذه الجهالات تدفع الإنسان إلى منزلقات طول الأمل و التمنيات العريضة.

و توضيح ذلك: إن الإنسان و بسبب جهله بنفسه و عدم الإلتفات إلى هذه الحقيقة و هي أنّه قد يحين أجله في كلّ لحظة و يرحل عن هذه الدنيا، فقد تعترض جلطة من الدم في شرايين قلبه أو دماغه فيُصاب بالسكتة القلبية أو الدماغية أو يُصاب بزلزلة أو حريق أو حادثة سيارة و أمثال ذلك ممّا يُنهي حياته الدنيوية، نعم و بسبب جهله بهذه الامور فإنه يتورط في شراك الآمال و التمنيات البعيدة و يحسب أنّ عمره طويلٌ جداً ثمّ يحيط نفسه بطائفه من التصورات الواهية و الآمال البعيدة الّتي لا تسمح له أن يفكر بالواقع و بالحقائق المحيطة حوله في واقع الحياة.

و هكذا بالنسبة

إلى جهله بحال الدنيا و عدم وفائها لا بالصغير و لا بالكبير، و لا بالشاب و لا بالشيخ، فنرى أحياناً أنّ مئات الصبيان يموتون قبل أن يموت شيخ واحد، و اخرى قبل أن يموت المريض بالسرطان يموت عشرات الأشخاص السالمين. و أحياناً تجر السلاطين إلى أن يعيشوا الذلّة و المهانة و يستبدلوا عروشهم و قصورهم بزنزانات السجن، و قد يصبح الثري الغارق في النعمة بين عشية و ضحاها فقيراً معدِماً لا يجد عشاء يومه، أجل فالجهل بهذه الامور من شأنه أن يوقع الإنسان في دوامة طول الأمل.

و هنا يقول سلمان الفارسي التلميذ الكبير لمدرسة الوحي: «ثَلَاثٌ اعْجَبَتْنِي حَتَّى اضْحَكَتْنِي: مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا وَ الْمَوْتُ يَطْلِبُهُ، وَ غَافِلٌ لَيْسَ بَمَغْفُولٍ عَنْهُ، وَ ضَاحِكٌ بمل فِيهِ لَا يَدْرِي أَ سَاخِطٌ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ امْ رَاضٍ عَنْهُ» «1».

و في الروايات الإسلامية اشارات واضحة على هذا المعنى حيث يقول ______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 8، ص 246.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 174

أمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ ايْقَنَ انَّهُ يُفَارِقُ الْاحْبَابَ وَ يَسْكُنُ التُّرَابَ وَ يُوَاجِهُ الْحِسَابَ وَ يَسْتَغْنِي عَمَّا خَلَّفَ، و يَفْتَقِرُ الَى مَا قَدَّمَ كَانَ حَرِيّاً بِقَصْرِ الْامَلِ وَ طُولِ الْعَمَلِ» «1».

و جاء في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً: «اتَّقُوا خِدَاعَ الْآمَالِ، فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلِ يَوْمٍ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَ بَانِي بَنَاءٍ لَمْ يَسْكُنْهُ، وَ جَامِعِ مَالٍ لَمْ يَأْكُلْهُ» «2».

و أحياناً يكون الجهل بالآخرة و الثواب العظيم الخالد الّذي أعدّه اللَّه للمؤمنين سبباً في أن يتصور الإنسان الخلود لهذه الحياة الدنيا و يغرق في الأوهام و التمنيات و الآمال الدنيوية و أحياناً يتسبب جهله بالسعادة الكامنة في الزهد و التحرر من أسر الشهوات و النوازع الدنيوية إلى أن يُحرق نفسه

بنار طول الأمل.

و قد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «اسْتَجْلِبْ حَلَاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقَصْرِ الْامَلِ» «3».

و أحياناً يغفل الإنسان عن قدرة اللَّه تعالى و ينسى هذه الحقيقة الحاسمة في واقع الحياة أو يكون جاهلًا بها و لا يعلم أنّ اللَّه تعالى و منذ انعقاد نطفته في رحم امّه فإنه بعين اللَّه و محطُّ عنايته و رعايته في كلّ اموره في حين انه كان يعيش الضعف بمنتهاه و لا تصل إليه يد أحد من الناس لتُعينه و توصل إليه رزقه في ظلمات الرحم، و تستمر عناية اللَّه به إلى آخر حياته، و كذلك حال أولاده إذا كانوا يسيرون في خط الإيمان و الصلاح فإنّ اللَّه تعالى لا يتركهم لوحدهم، و إن كانوا من أعداء اللَّه فلا مسوّغ لأن يتعب الإنسان نفسه في سبيلهم و خدمتهم.

أجل فإنّ الجهل بهذه الامور يؤدي بالإنسان إلى أن يُسجّل اسمه في دائرة (التأمين على الحياة له و لأبنائه) و هكذا يتورط بمصيدة طول الأمل.

إن جميع حالات الجهل هذه (جهل الإنسان بنفسه، جهله بالدنيا، جهله بقدرة اللَّه ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 167.

(2). تصنيف غرر الحكم، ص 313.

(3). تحف العقول، ص 207.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 175

تعالى، جهله بالآخرة و نعيمها الخالد) يتسبب في أن يعيش الإنسان الحيرة و الضياع في صحراء الحياة المحرقة أسير الآمال و التمنيات العريضة.

علاج طول الأمل:

لا بدّ في علاج الأمراض من التوجّه إلى الجذور و قلعها من الأساس ليتسنّى للإنسان التخلص من المرض بشكل حاسم، كما لم يقطع جذور المرض فإنّ العلاج السطحي و الظاهري سوف لا ينفعه على المدى الطويل، و بعبارة اخرى: انه حالة من حالات التسكين للمرض لا علاجه.

و بالنظر إلى

هذا الأصل الأساس و مع الإلتفات إلى جذور الآمال و التمنيات في واقع الإنسان يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة، و هي أنّه لا بدّ من التفكّر و التأمل بجدّية في جذور هذا المرض الأخلاقي.

فمن جهة يجب على الإنسان أن يعلم بأنه كائن مُعرّض للتلف و الموت و أنّ الفاصلة بينه و بين الموت قليلة جدّاً، فهذا اليوم يعيش السلامة و الصحّة و النشاط و لكن قد نجده غداً و هو متورط بأنواع الأمراض الصعبة أو المصائب المحزنة، و اليوم هو قوي و غني و متمكن، و غداً يمكن أن يبدو ضعيفاً و من أفقر الناس، و النماذج على ذلك كثيرة في صفحات تاريخ البشرية.

و من جهة اخرى يجب أن يتفكر في إهتزاز الدنيا و تغيّرها الدائم و عدم اعتبارها.

أجل فإنّها لا تثبت لأحدٍ من الناس إطلاقاً.

و من جهة ثالثة عليه أن يتدبّر و يتأمل بهذه الحقيقة، و هي اننا نعتقد بالمعاد و اليوم الآخر و الحساب الإلهي في عرصات المحشر و الثواب و العقاب على الأعمال و الأفعال في الدنيا و أنّ هذا العالم ما هو إلّا قنطرة و جسر يعبر عليه الإنسان إلى تلك الحياة الخالدة فعليه أن يتزوّد من هذه الحياة و لا يتصور أنّها حياة خالدة و انها هي الأصل و الهدف من الخلقة.

و كذلك يتفكّر في أنّ الحرص على جمع الأموال و الثروات و اكتنازها لغرض تحقيق تلك الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 176

الآمال و التمنيات الواسعة في الحياة الدنيا لا يجلب له السعادة أبداً، بل سيزيده شقاءاً و محنةً أيضاً، و يتفكّر أيضاً في أنّ أهم حالات الهدوء و الطمأنينة هي هدوء الروح و سعادة الوجدان الّتي لم يحصل

عليها الإنسان، إلّا إذا سار في خطّ التقوى و التوكل على اللَّه من موقع الإيمان به و معرفة حال الدنيا لا من موقع الحرص و الولع في تحصيل نعيمها الفاني و إمكاناتها المادية.

و أنّ أفضل الطرق للوصول لهذا الهدف هو ما ورد في الحديث النبوي المعروف: «خُذْ مِنْ دُنْيَاكَ لِاخِرَتِكَ وَ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ، وَ مِنْ صِحَّتِكَ لِسُقْمِكَ، فَانّكَ لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَداً» «1».

أي ما ذا يحصل لك في الغد و هل أنت من الأموات أم الأحياء، من المرضى أم الأصحّاء؟

و العامل الآخر الّذي يُربّي الآمال و التمنيات و يقوي جذورها في نفس الإنسان هو الأهواء النفسية و العشق للدنيا و التعلق بها، فكلّما سعى المرء في التقليل من تعلّقاته الدنيوية فإنّ أمله في الحياة سيكون أقصر، و على العكس من ذلك كلّما تعلّق الإنسان بالدنيا أكثر كلّما ازدادت آماله و كثرت تمنياته.

و لغرض تحصيل هذا الهدف أي تقصير الأمل في الدنيا فإنّ من أقوى العوامل المؤثرة في ذلك هو ذكر الموت الّذي يُزيل عن بصيرة الإنسان حجُب الغفلة فيرى حقائق الامور كما هي و يُشاهد الواقعيات الكامنة خلف المظاهر البراقة و الظواهر الزائفة.

و لهذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة 99 في نهج البلاغة قوله: «الَا فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، وَ مُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَ قَاطِعَ الْامْنِيَّاتِ».

و نقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ضمن خطبة له: «عُدَّ نَفْسَكَ فِي اصْحَابِ الْقُبُورِ» «2». و ذلك لكي لا تبتلي بطول الأمل.

و نقرأ في النقطة المقابلة لذلك ما ورد عن أمير المؤمنين أنّه قال: «اكْثَرُ النَّاسِ امَلًا اقَلُّهُمْ ______________________________

(1). بحارالأنوار، ج 74، ص 122.

(2). بحارالأنوار، ج 74، ص 122.

الاخلاق فى

القرآن، ج 2، ص: 177

لِلْمَوْتِ ذِكْراً» «1».

و الطريق الآخر للتصدي لطول الأمل و تضعيفه في واقع النفس هو مطالعة الآثار السلبية المترتبة عليه.

أجل فالإلتفات إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ طول الأمل يُعد مصدراً للكثير من الذنوب و الرذائل الأخلاقية، و من الأسباب المهمة لقساوة القلب و نسيان الآخرة، و أن يعيش الإنسان حياة التعب و الذلّة و الحرمان من النعم و المواهب الإلهية، و تسدل على بصيرته و عقله حجاباً سميكاً لا يدعه يرى الحقيقة من موقع الوضوح في الرؤية، كلّ ذلك يتسبب في أن يتحرّك الإنسان على مستوى التفكير الجدي في علاج هذه الحالة السلبية قبل أن يدمّر سيل الأمل بيت سعادته و بذلك يقوم بتحديد آماله و تهذيب تمنياته ليعود إلى صف العقلاء و السعداء الّذين يعيشون الأمل بشكل معقول و منطقي.

و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك: «حَاصِلُ الْمُنَى الْاسَفُ وَ ثَمَرَتُهُ التَّلَفُ» «2».

أي تلف إمكانات الإنسان و عمره الثمين.

و يقول عليه السلام في حديث آخر: «احْذَرُوا الْامَانِيَّ فَانَّهَا مَنَايَا مُحَقَّقَةٌ» «3».

و هنا نقطتان:

الاولى: إن الطلب المادي يتحرّك في اسلوبه العلاجي للأمراض الجسمية و النفسية من موقع ايجاد البديل، أي انه يستبدل رغبات الإنسان الّتي تقوده إلى المرض برغبات اخرَى أقوى منها تجره إلى ساحل السلامة و الصحّة، مثلًا الشخص الّذي يعيش الرغبة الشديدة في تناول الأطعمة الدسمة و السكريات بحيث تسبب له أمراض مختلفة، فيوصى بتناول مقدار كبير من الفاكهة و الخضروات، أو الأشخاص المدمنين على المواد المخدّرة فإنّ الأطباء يوصونهم باستبدال هذه العادة بعادات اخرى سليمة.

______________________________

(1). تصنيف غرر الحكم، ص 312.

(2). تصنيف غرر الحكم، ص 314.

(3). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 178

و هذه النقطة صادقة أيضاً في الأمراض الأخلاقية،

و ذلك بأن يقوم معلم الأخلاق باستبدال الآمال الطويلة في الامور المادية بالآمال الطويلة المعنوية في دائرة الثواب الإلهي في الآخرة أو الرغبة الشديدة إلى العلم و المعرفة و التقرب إلى اللَّه تعالى بدلًا من العشق للمال و الجاه و .... و أمثال ذلك.

النقطة الاخرى أنّ للآمال بدورها مراتب، فأحياناً يتمنّى الإنسان أن يكون له عمراً طويلًا أو مخلّداً، كما يتحدّث القرآن الكريم عن طائفة من اليهود و يقول: «... يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ...» «1».

و هذا الطلب لعدد ألف سنة إذا كان المراد به هو هذا المقدار بالذات فيدلّ على طلبهم للعمر الطويل جدّاً، و لو كان المراد منه بيان الكثرة فيدلّ على طلبهم للعمر اللامتناهي و اللامحدود.

بعض الناس يعيشون التمنيات و الآمال في مراحل أدنى من ذلك، كأن يتمنّى أن يعيش مائة سنة، أو خمسين سنة، أو عشر سنوات أو أقل، و يُستفاد من الروايات انّ كلّ هذه تُعدْ من الآمال الطويلة (و طبعاً إذا كان الهدف من ذلك هو نيْل المتع المادية و تحصيل الامكانات الدنيوية فحسب لا الأبعاد المعنوية و الإلهية و التحرّك في خطّ تقدّم البشرية و خدمة الناس).

و من جهة اخرى فإنّ الآمال و التمنيات لها أنواع مختلفة، فأحياناً يكون الهدف منها هو الجهة المادية، و اخرى المقام، و ثالثة الشهوات، و رابعة جميع ذلك.

و جميع هذه الأقسام للآمال و التمنيات الطويلة و العريضة مذمومة في الدائرة الأخلاقية رغم أن بعضها أقبح من البعض الآخر.

الآمال و التمنيات الإيجابية و البنّاءة:

و آخر ما يمكن أن يُقال في بحث طول الأمل هو أنّ الآمال و التمنيات ليست بأجمعها

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 96.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 179

سلبية و علامة انحطاط الشخصية و

السقوط الأخلاقي، لأن هذه الآمال و التمنيات إذا كانت متجهة نحو القيم الأخلاقية و المُثل الإنسانية الرفيعة، أو تصب في دائرة الخدمة الإجتماعية و تتحرّك في خطّ تكامل المجتمع و تطوره الحضاري في مراتب الكمال و تقود الإنسان إلى السعي و بذل الجهد أكثر في هذه المسائل، فلا شكّ في أنّ مثل هذه الآمال و التمنيات حتّى لو كانت طويلة و عريضة فإنّها ليست فقط غير مذمومة بل من علامات الكمال الإنساني للفرد.

و أساساً كما تقدّم في بداية البحث أنّ الأمل بالمستقبل يمثل القوّة المحركة للإنسان لبذل الجهد و السعي في حركة الحياة الفردية و الاجتماعية فإذا انطفأ نور الأمل و الرجاء في قلب الإنسان فإنه يصبح كالدُمية بلا روح و يتلاشى عنه عنصر النشاط و الحركة و يتحول الإنسان إلى كائن جاف و بارد و من دون هدف معيّن.

و في الواقع فإنّ الآمال على قسمين:

أحدها (الآمال الكاذبة) و الّتي هي كالسراب في صحراء الحياة حيث تدعو العطاشى إليها و تجرّهم نحوها دون أن ينالون شيئاً بل يزدادون عطشاً إلى أن تهلكهم.

و الآخر (الآمال الصادقة) و الإيجابية و البنّاءة و الّتي هي كالماء الّذي يسقي كلّ حي و يقوّي في الإنسان روح الحياة و السعي و النشاط، و كلّما ازداد نشاطاً و حركة ازدادت معنويّته و صعد في معراج الكمال.

و هذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: «الْمَالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَ خَيْرٌ أَمَلًا» «1».

و قد اشارت هذه الآية إلى كلا القسمين من الآمال: الإيجابية و السلبية.

و هناك اشارات دقيقة في الروايات الإسلامية إلى الآمال الإيجابية و البنّاءة و من ذلك ما ورد في الحديث

الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «انَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي حَتَّى افْعَلَ كَذَا وَ كَذَا مِنَ الْبِرِّ وَ وُجُوهُ الْخَيْرِ، فَاذَا عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ ______________________________

(1). سورة الكهف، الآية 46.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 180

كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْاجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ، انَّ اللَّهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ» «1».

و أساساً فإنّ عزم الإنسان و همّته بمقدار آماله الإيجابية، فكلّما اتسعت دائرة هذه الآمال فإنّ عزمه و همّته ستزداد أيضاً، و اللطيف انه يُستفاد من الروايات الإسلامية جيداً أنّ اللَّه تعالى يُعطي الثواب للأشخاص المؤمنين بمقدار ما لديهم من الأمل و الرجاء، لأن ذلك من علامات قابلية الروح و الجسم لأداء الأعمال الصالحة أكثر، و حتّى انه يُستفاد من الروايات أنّ الإنسان إذا كان يرجو و يأمل أملًا جميلًا و ايجابياً لغرض تحصيل رضا اللَّه تعالى فإنه لا يرحل من هذه الدنيا إلّا و يوفّق لنيل هذا الأمل و تحقيقه كما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ تَمَنَّى شَيْئاً وَ هُوَ للَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ رِضاً، لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُعْطَاهُ» «2».

و طبعاً يمكن أن تكون هناك بعض الموارد الّتي تستوجب المصلحة أن لا يصل الإنسان إلى ذلك الأمل و لا يناله، لأنّه إذا حصل عليه فسوف تترتب على ذلك بعض الآثار السلبية من قبيل الغرور و الغفلة و العشق للدنيا و أمثال ذلك و لذلك فإنّ اللَّه تعالى بألطافه الخفية لا يوفقه للوصول إلى هذه الآمال و التمنيات.

و نختم هذا البحث بالإشارة إلى نكتة اخرَى، و هي أنّ التمنيات الإيجابية تدعو الإنسان إلى بناء شخصيته و

تتسبب في تكامله المعنوي و الروحي، لأنّه يعلم أنّ الشخصيات الكبيرة لن تبلغ هذا المبلغ من الكمال إلّا من خلال تهيئة أسباب الكمال هذا و كما يقول الشاعر:

اعَلِّلُ النّفس بالآمال ادركُهَامَا اضْيَقَ الْعَيْشَ لَو لَا فُسحَةُ الْامَلِ

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 8، ص 261.

(2). بحار الأنوار، ج 68، ص 261.

9

التعصّب و العناد

تنويه:

لا شكّ أنّ أساس العبودية و الطاعة للَّه تعالى يكمن في عنصر التسليم و التواضع و الخضوع مقابل الحقّ، و على العكس من ذلك فإنّ كلّ اشكال (التعصب و اللجاجة) تورث الإنسان البعد عن الحقّ و الحرمان من السعادة.

(التعصب) بمعنى الإرتباط غير المنطقي بشي ء معيّن إلى درجة أنّ الإنسان يضحي بالحقّ من أجل ذلك، أمّا (العناد) فيعني الإصرار على شي ء معيّن بحيث يسحق تعليمات العقل و المنطق تحت قدمه من أجل ذلك، و الثمرة لهاتين الشجرتين الخبيثتين هو (التقليد الأعمى) الّذي يُعد من أقوى الموانع و السدود أمام تكامل الإنسان و حركته في خطّ المعنويات و الإيمان و الكمال الأخلاقي.

عند ما نراجع سيرة الأنبياء العظام و أسباب انحراف الأقوام السالفه عن سلوك طريق الحقّ و الدعوة الإلهية يتضّح لنا جيداً أنّ هذه الامور الثلاثة (التعصب و العناد و التقليد الأعمى لها دورٌ أساس في عملية الانحراف هذه، و في القرآن الكريم اشارات كثيرة إلى هذه المسألة بالذات حيث ينبغي دراستها و التدبّر فيها:

و نبدأ من قوم نوح عليه السلام حيث يقول القرآن الكريم:

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 182

1- «وَ إِنّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَ أَصَرُّواْ وَ اسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا» «1».

2- «وَ قَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَ لَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لَا سُوَاعًا وَ لَا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ

وَ نَسْرًا» «2».

ثمّ يورد القرآن الكريم قصة هود و يقول:

3- «قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «3».

ثمّ تصل النوبة إلى قصة إبراهيم عليه السلام حيث يقول القرآن الكريم:

4- «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَآ عَابِدِينَ» «4».

5- «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» «5».

ثمّ تصل النوبة إلى قوم موسى و فرعون فيقول:

6- «قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الْأَرْضِ وَ مَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ» «6».

ثمّ يصل إلى عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث نرى نفس الأعمال و السلوكيات تصدر من أعدائه حيث يقول عنهم القرآن الكريم:

7- «وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَ وَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَ لَا يَهْتَدُونَ» «7».

______________________________

(1). سورة نوح، الآية 7.

(2). سورة نوح، الآية 23.

(3). سورة الأعراف، الآية 70.

(4). سورة الأنبياء، الآية 52 و 53.

(5). سورة الشعراء، الآية 72- 74.

(6). سورة يونس، الآية 78.

(7). سورة البقرة، الآية 170.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 183

8- «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَ كَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا وَ كَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيًما» «1».

9- و كذلك يقول: «وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنِينَ» «2».

و أحياناً يذكر تعصب الأقوام السالفة بعضها ضد البعض الآخر و يقول:

10- «وَ قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى

شَىْ ءٍ وَ قَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقيَامَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» «3».

و في مكان آخر يستعرض مسألة التقليد الأعمى و التعصب و اللجاجة بعنوانها برنامج عام لجميع الأقوام الذين يتحركون في خط الضلالة و الباطل و يقول:

11- «وَ كَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» «4».

12- «وَ يَقُولُونَ أَ إنَّا لَتَارِكُواْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون» «5».

تفسير و استنتاج:

المنهج العام للأقوام المنحرفين

كما تقدم فإنّ هذه الرذائل الأخلاقية الثلاث، (أيْ التعصب و العناد و التقليد الأعمى تُعد

______________________________

(1). سورة الفتح، الآية 26.

(2). سورة الشعراء، الآية 198 و 199.

(3). سورة البقرة، الآية 113.

(4). سورة الزخرف، الآية 23.

(5). سورة الصافات، الآية 36.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 184

منهجاً عاماً في سلوك جميع الأقوام الّذين يتحركون في خطّ الإنحراف و الضلال و الزيغ، فهؤلاء و بسبب تعصبهم الشديد للأفكار الخرافية و التقاليد الزائفة، و عنادهم و إصرارهم على اعتناقها و عدم التخلي عنها، و بالتالي اتباعهم لآبائهم و أسلافهم إتباعاً أعمى، و بذلك انتقلت الخرافات و العقائد الزائفة جيلًا بعد جيل حيث ضاعت دعوة رجال الحقّ و الأنبياء الإلهيين الّذين جاءوا لهدايتهم في زَحمة النعرات الجاهلية لهؤلاء الأقوام المنحرفين.

و نبدأ قبل كلّ شي ء بقصة نوح مع قومه لنرى أنّ هؤلاء الّذين كانوا يعبدون الأوثان كانوا إلى درجة من التعصب و العناد في مقابل دعوة نبي عظيم من اولي العزم حتّى أنّهم كانوا يستوحشون من سماع صوته و دعوته إلى اللَّه كما تتحدّث «الآية الاولى من الآيات مورد البحث على لسان نوح فتقول: «وَ إِنّي

كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَ أَصَرُّواْ وَ اسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا» «1».

أجل فإنّ تعصّبهم و عنادهم كان من الشدّة و القوّة إلى درجة أنّهم لن يسمحوا لآذانهم أن تسمع صوت نوح الحامل للنداء الإلهي، و كذلك لم يسمحوا لعيونهم أن ترى وجهه و سيماءه، و بهذه الطريقة العجيبة كانوا يتهربون من الحقيقة، فما أخطر هذه الحالة الّتي يعيشها الإنسان الجاهل و المتعصب!!

و تأتي «الآية الثانية» لتكشف عن بُعدٍ آخر من هذه الرذائل الأخلاقية المتجذّرة في قوم نوح و تقول: «وَ قَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَ لَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لَا سُوَاعًا وَ لَا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْرًا» «2».

أما لماذا لم يكونوا على استعداد لترك هذه الاصنام التي صنعوها بأيديهم، بل كانوا يرون أنّها حاكمة على مصيرهم و مصير العالم؟ لا دليل لذلك سوى التعصب و التقليد الأعمى للتقاليد الزائفة و العقائد البالية.

______________________________

(1). سورة نوح، الآية 7.

(2). سورة نوح، الآية 23.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 185

و في «الآية الثالثة» يتحدّث القرآن الكريم عن قوم عاد و جدالهم مع نبيّهم هود و يقول:

«قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «1».

فهؤلاء كانوا إلى درجة من العناد و الجهل و التعصّب بحيث أنّهم لم يطيقوا دعوة هذا النبي إلى التوحيد الخالص و اعترضوا عليه في دعوته لترك ما كانوا يعبدونه من الأوثان حتّى أنّهم كانوا مستعدين لاستقبال امواج البلاء بدلًا من التنازل عن عقائدهم المنحرفة.

و على هذا الأساس و بسبب التعصب و الاصرار و التقليد الأعمى فإنّ التوحيد الخالص الّذي هو روح عالم الوجود كان في نظرهم أمراً موحشاً و غريباً، و

بالعكس فإنّ عبادة الأوثان الّتي لا عقل لها و لا شعور كان أمراً معتبراً و معقولًا لديهم، بل حتّى أنّهم سلكوا على خلاف مقتضى قانون دفع الضرر المحتمل الّذي يحكم به العقل حيث لم يهتموا أدنى اهتمام باحتمال نزول العذاب الإلهي عليهم و كانوا يصرّون على نبيّهم أن يدعو ربه بتعجيل نزول العذاب عليهم، و هذه الحماقة من هؤلاء ليست سوى حصيلة للتعصب و العناد.

أجل فهؤلاء و لأجل الفرار من الحقّ و الاستمرار على سلوكهم الجاهلي في تقليدهم الأعمى للآباء كانوا يسرعون نحو هلاكهم و العقاب الإلهي عليهم و بالتالي تحقّق ما كانوا يطلبونه من نبيّهم و احترقوا بأجمعهم في عذاب اللَّه، و هذه هي نتيجة العناد و التعصب الجاف و التقليد الخاطي ء.

و تتعرض «الآية الرابعة» إلى إحدى الإفرازات المشؤومة لهذه الرذائل الأخلاقية على الإنسان، و تتحدّث عن (نمرود) و قومه و تقول عن النبي إبراهيم: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ» «2».

و لكنه لم يسمع جواباً منهم على كلامه إلّا أنّهم قالوا: «قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ» «3».

______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 70.

(2). سورة الأنبياء، الآية 52.

(3). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 186

و عند ما قال لهم إبراهيم بصراحة حاسمة: إنكم أنتم و آبائكم في ضلال مبين، لم يستيقظوا من غفلتهم، فلم يكن من إبراهيم إلّا أن بين لهم تفاهة هذه التماثيل و الأصنام من موقع العمل و الممارسة، فحطّم هذه الأصنام لكي يثوبوا إلى عقولهم، و لكنهم بدلًا من الانتباه من سكرتهم و جهالتهم و بدلًا من أن يمزّقوا حجب الجهل و التعصب و اللجاجة فقد هدّدوا إبراهيم بالحرق بالنار، و ألبسوا تهديدهم لباس الفعل و ترجموه

على أرض الواقع، و قذفوا بإبراهيم وسط أمواج النيران الملتهبة، و عند ما رأوا أنّ هذه النار تحوّلت إلى نعيم و جنّة و كانت برداً و سلاماً على إبراهيم، و شاهدوا أكبر معجزة إلهية بامّ أعينهم استمروا مع ذلك في سلوكهم الأحمق بتأثير قيود الجهل و التعصب و الاصرار، و ادّعوا أنّ ذلك كان من قبيل السحر.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ هذه الرذائل الأخلاقية إلى أيّة درجة هي خطرة على الإنسان و مانعة من التحرّر في الفكر و الوصول إلى الحقّ، و أنّ الأشخاص الّذين يقعون أسرى في براثن هذه الرذائل فإنّهم يعيشون الذلّة و الحقارة إلى غايتها و بذلك يحطّمون عزّتهم الإنسانية و يهبطون من مقام الإنسانية الشامخ و يقبلون بكلّ ذلك بدلًا من التسليم و الإذعان إلى الحقّ.

و تشير «الآية الخامسة» أيضاً إلى عبادة الأوثان لدى قوم (نمرود) عند ما واجههم إبراهيم بالأدلة الساطعة و البراهين القاطعة على سخافة هذه العقيدة من خلال الحوار العقلي و المنطقي حيث تقول الآية: «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» «1».

و لكن هؤلاء لم يكن لديهم أيّ جواب منطقي في مقابل هذه التساؤلات الحاسمة إلّا أنّهم لاذوا بكهف التقليد الأعمى كما تقول الآية: «قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» «2».

______________________________

(1). سورة الشعراء، الآية 72 و 73.

(2). سورة الشعراء، الآية 74.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 187

في حين أنّ الإنسان إذا أراد أن يسلك في خطّ التقليد فعلى الأقل يجب أن يقلد و يتبع العالم و الخبير بالوقائع ليشير عليه ما ينفعه في هذا السبيل لا أن يقلد الجاهل و الأحمق، و لكنّ حجاب التعصب و اللجاجة كان سميكاً إلى درجة انه لن يسمح لأقل شعاع

من نور شمس الهداية و المنطق و الدليل العقلي في النفوذ إلى أعماقهم و وجدانهم ليضي ء باطنهم بنور الحقّ.

«الآية السادسة» تتحدّث عن لجاجة الفراعنة و عنادهم في مقابل المعجزات الواضحة و الآيات البيّنة لموسى حيث فضّلوا البقاء على عقائدهم الوثنية الّتي ورثوها من أسلافهم بدافع من اللجاجة و الإصرار و العناد حيث تقول الآية: «قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الْأَرْضِ وَ مَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ» «1».

هؤلاء لم يسألوا من أنفسهم عن دين موسى هل هو حقّ أم باطل، و ما ذا يمتاز على دين الأسلاف؟ بل كان كلامهم يدور فقط في اننا يجب أن نحفظ دين الآباء و الأجداد سواءاً كان حقّاً أم باطلًا، فالقيمة الواقعية لنا تكمن في هذا المنهج فقط، ثمّ قالوا مع كثير من سوء الظن أنّ ما جاء به موسى من الدين الإلهي هو في الواقع مقدّمة لتحصيل مقاصده السياسية و بسط سيطرته و حكومته على الناس، فلا إله في البين و لا الوحي الإلهي، و هكذا كانوا يتحركون من موقع سوء الظن هذا و بسبب ذلك التعصب و العناد في طريق الابتعاد عن الحقّ و الاعتذار بتبريرات واهية في سبيل تحكيم موقعيّتهم مقابل دعوة موسى

و لعلّهم كانوا يخافون من أنّه إذا تجلّى نور الهداية الإلهية لشعب مصر عن طريق شريعة موسى فإنّهم سيفقدون بذلك دينهم الخرافي الّذي ورثوه من الآباء و كذلك يفقدون حكومتهم المبنية على هذا الأساس، و لهذا فإنّهم تصدّوا لموسى و دعوته بكلّ ما اوتوا من قوة و تحركوا من موقع تشجيع الناس و تعميق حالة التعصب و العناد فيهم، و بما أنّ الملأ من الفراعنة كانوا يريدون

كلّ شي ء في سبيل تعزيز حكومتهم و سيطرتهم على الناس فتصوّروا

______________________________

(1). سورة يونس، الآية 78.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 188

أنّ موسى و هارون كذلك يريدون الدين كوسيلة و اداة للتوصل إلى الحكومة و السيطرة.

و هذا المرض الأخلاقي يستمر مع البشر على طول التاريخ إلى أن نصل إلى زمن الإسلام و عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

و في «الآية السابعة» نرى أيضاً أنّ العامل الأساس في انحراف المشركين العرب هو التقليد الأعمى و التعصب لتراث الآباء و الأجداد و الّذي يوصد أبواب المعرفة من كلّ جانب على أصحاب هذه الصفة الرذيلة فتقول الآية: «وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ...» «1».

و لكن القرآن الكريم يجيبهم على هذا التصور الباطل بجواب حاسم و قاطع و يقول: «...

أَ وَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَ لَا يَهْتَدُونَ» «2».

و يتضح من سياق هذه الآية أنّ هؤلاء المشركين لم يُنكروا على النبي صلى الله عليه و آله دعوته السماوية و أنّه يتحدّث من قِبل اللَّه تعالى (مَآ أَنزَلَ اللَّهُ)، و لكنهم كانوا غارقين في مستنقع التعصب و العناد و الجهل إلى درجة أنّهم يفضلون دينهم الّذي ورثوه عن الآباء و الأجداد على دين اللَّه و هم يعلمون بأن أسلافهم كانوا يعيشون الجهل و الضلالة.

و بهذا نجد أنّ الجهل و التعصب يتسبب في أنّ الإنسان يترك بسهولة (مَآ أَنزَلَ اللَّهُ) و يدير له ظهره و يتجه نحو الباطل رغم انه يميز بين الحقّ و الباطل من موقع الوضوح في الرؤية.

و تستعرض «الآية الثامنة» قصة الحُديبية حيث يذكر اللَّه تعالى المسلمين بما جرى من حوادث مهمة و أنّ الكفّار رغم

رؤيتهم لعلائم حقانيّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلّا أنّهم و بسبب التعصّبات الجاهلية لم يتحرّكوا في خطّ الإيمان، و كانت هذه الرذيلة الأخلاقية قد منعتهم من سلوك طريق السعادة العظمى فتقول الآية: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 170.

(2). سورة البقرة، الآية 170.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 189

حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَ كَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا وَ كَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيًما» «1».

(الحميّة) من مادّة (حَمى (على وزن حَمَدَ) بمعنى الحرارة الّتي يشعر بها الإنسان في بدنه بسبب العوامل الخارجية أو الأشياء الاخرى، و لهذا السبب اطلقت على الحُمّى أيضاً و هي حرارة المرض.

ثمّ اطلقت هذه المفردة على الحالات الروحية و الأخلاقية من قبيل: الغضب و التكبّر و التعصب و أمثال ذلك و أنّها بمثابة حالات يعيشها الإنسان في حرارة باطنية كالنار المستعرة في قلب الإنسان.

و الملفت للنظر أنّ هذه الآية أضافت الحميّة إلى الجاهلية، و ذلك للإشارة إلى التعصبات المنطلقة من موقع الجهل و عدم العلم، و في نفس الوقت اضافت السكينة الّتي تقع في النقطة المقابلة لها إلى اللَّه تعالى، و هي الحالة من الهدوء و الراحة النفسية الّتي يعيشها الإنسان من موقع الإيمان و الوضوح و الانسياق مع الحقيقة.

و سيأتي في البحوث اللاحقة الكلام حول التعصّب الإيجابي و السلبي و حول إضافة الحمية إلى الجاهلية.

«الآية التاسعة» تشير إلى نكتة اخرَى في هذا المجال، و تكشف النقاب عن جانب آخر من التعصب الشديد للعرب في عصر الجاهلية و تقول: «وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنِينَ» «2».

يعني انّ التعصب

القومي و العِرقي لهؤلاء العرب كان إلى درجة من الشدّة بحيث إنّ القرآن مع جميع المعارف السامية و الفصاحة و البلاغة و المضامين العظيمة لو كان قد نزل على غير العرب فإنّ تعصبّهم العِرقي يمنعهم من الإيمان به و يسدل عليهم حجاباً يُبعدهم ______________________________

(1). سورة الفتح، الآية 26.

(2). سورة الشعراء، الآية 198 و 199.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 190

الاخلاق فى القرآن ج 2 219

عن إدراك الحقيقة و الوصول إلى المقصود.

و رغم أنّ بعض المفسّرين قد ذكر لهذه الآية تفسيرات اخرى، و لكن أوضح التفاسير و أنسبها لسياق هذه الآية هو ما ذُكر آنفاً.

و على هذا الأساس ورد في بعض الروايات الإسلامية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّ الأشخاص الّذين يعيشون التعصّب و العناد هم شركاء لأعراب الجاهلية حيث يقول: «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ اعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ» «1». و حبّةٍ من خردل يُضرب بها المثل بالصغر لدى العرب.

و تأتي «الآية العاشرة» لتكشف النقاب عن هذه الرذيلة الأخلاقية في أقوام بشرية اخرَى و أنّ كلّ قوم و طائفة يرون أنفسهم أنّهم الأفضل بدافع التعصب و اللجاجة و يتحركوا في تعاملهم مع الآخرين من موقع الإبعاد و النفي و يحسبون أنفسهم أنّهم عباد اللَّه المتميزون على سائر الأقوام و الشعوب البشرية، و هذا الأمر هو الّذي تسبب في نزاعات مستمرة و صراعات دائمة بين الأقوام البشرية حيث تقول الآية: «وَ قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْ ءٍ وَ قَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقيَامَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» «2».

و يُستفاد

من سياق هذه الآية أنّ هذا اللون من التعصّبات و أشكال الغرور ينبع من الجهل و عدم المعرفة و أنّ كلّ فئة من الناس تعيش الجهل و عدم المعرفة سوف يتورطون في هذه الرذيلة الأخلاقية.

و عبارة (الّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) لها مفهوم واسع و أحد مصاديقها هم المشركون العرب، و لذلك فسّرها بعض المفسّرين بأنّهم قوم نوح، أو ذكروا في تفسيرها أنّ المراد منها جميع الامم البشرية الّتي عاشت التعصب و العناد بسبب الجهل و عدم المعرفة.

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 308، باب العصبيّة، ح 3.

(2). سورة البقرة، الآية 113.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 191

«الآية الحادية عشر» تتحدّث عن أصل كلّي و عام و تبيّن أنّ حالة التعصب و الاصرار على طول التاريخ البشري كان لها الدور المهم في استمرار الأقوام البشرية في سلوكهم في خطّ الكفر و محاربة التوحيد و تقول: «وَ كَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» «1».

و سياق الآية يوحي إلى أنّ أهم مانع في مقابل الإيمان و اتباع الأنبياء الإلهيين هو التعصب و التقليد الأعمى الناشي ء من حالة الجهل الّتي يعيشها الإنسان.

و هنا تتضح الأبعاد الخطيرة لهذه الرذيلة الأخلاقية.

و نقرأ في «الآية الثانية عشر» و الأخيرة أنّ الجاهليين و بسبب حالة التعصب و اللجاجة كانوا يتهمون أكبر الأنبياء الإلهيين بالجنون و يجعلون ذلك ذريعة لمخالفتهم للدعوات السماوية و تقول: «وَ يَقُولُونَ أَ إنَّا لَتَارِكُواْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون» «2».

و العجيب أنّ هؤلاء كانوا غارقين في دوّامة الجهل و التعصّب الأعمى إلى درجة أنّهم لم يكونوا يُدركون أنّ كلامهم هذا متناقض، فإنّ كونه (شاعراً) يدلّ على الذوق

السليم و القريحة و التأمّل و التفكر و الاطلاع الوافي على دقائق الكلام (و الملاحظ أنّ كلمة الشاعر من مادّة الشعور) و هذا ما يتقاطع مع كونه مجنوناً كما هو واضح.

و أحياناً يتهمون الأنبياء بالسحر و الجنون كلاهما في حين أنّ السحر يحتاج إلى الإطلاع الواسع على بعض العلوم و المعارف و يستبطن ذكاءاً خاصاً، و كلّ هذا يتقاطع مع الجنون، و هذا يوضّح أنّ كلام هؤلاء المتناقض لم يكن بوحيٍ من العقل و التفكر الهادي ء و المنسجم بل بدافع من الجهل و التعصب و العقدة.

______________________________

(1). سورة الزخرف، الآية 23.

(2). سورة الصافات، الآية 36.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 192

النتيجة النهائية:

و بمرور إجمالي على الآيات الكريمة المذكورة آنفاً و الّتي هي نموذج من كثير من الآيات القرآنية في هذا المجال تتضح هذه الحقيقة و هي انّ أهم موانع المعرفة و الوصول إلى الحقيقة هو حالة التقليد الأعمى الناشي ء من التعصب و اللجاجة و التحرّك من موقع الرغبات النفسية و بدافع من الأهواء و النوازع الباطنية الّتي تحبس الإنسان في سجن مظلم من الجهل المطبق.

إن الأضرار و الخسائر الكثيرة المترتبة على هذه الرذيلة الأخلاقية قد سوّدت صفحات التاريخ البشري و واجه الأنبياء الإلهيين بسببها مشاكل كثيرة في طريق هداية الناس إلى اللَّه و الحقّ و سُفكت بسببها الكثير من الدماء، و هذا يكفي في إدراك شناعة هذه الحالة الذميمة في السلوك الإنساني.

لو لم تكن هذه الرذيلة الأخلاقية موجودة في باطن الإنسان فإنّ تاريخ البشرية سيلبس ثوباً آخر و يسطع بوجهٍ جديد في حركة التكامل الحضاري و التقدّم العلمي و لفُتحت الأبواب أمام البشرية للصعود إلى مدارج عالية من الكمال المعنوي و بدلًا من أن تتحوّل طاقاته و

امكانياته الكبيرة إلى سيلٍ مخرب بسبب الجهل و التعصب فإنّ من شأنها أن تتحول إلى منظومة واسعة من المعارف الإلهية و السلوكيات الأخلاقية الحميدة و المُثل الإنسانية الّتي تقود الإنسان في كلّ بُعدٍ من أبعاد حياته الدنيوية إلى العمران و التكامل المادي و المعنوي.

التعصب و العناد في الأحاديث الإسلامية:

اشارة

و قبل أن نستعرض في بحثنا هذا مفهوم التعصب و دوافعه و نتائجه الوخيمة على حياة الإنسان نرى من اللازم أوّلًا استعراض الأحاديث الإسلامية في هذا الباب لأنها تتضمن الكثير من الامور المتعلقة بهذا الموضوع بصوره إجمالية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 193

و الأحاديث الشريفة في هذا الموضوع كثيرة و نشير إلى نماذج منها:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ اعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ» «1».

و هذا التعبير يشير إلى أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية إلى درجة من الخطورة بحيث إنّ أدنى درجة منها تتقاطع مع الإيمان الخالص.

2- و ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «انَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ السِّتَّةَ بِالسِّتَّةِ، الْعَرَبَ بِالْعَصَبِيَّةِ، وَ الدَّهَاقِينَ بِالْكِبْرِ، وَ الْامَرَاءَ بِالْجَوْرِ، وَ الْفُقَهَاءَ بِالْحَسَدِ، وَ التُّجَّارَ بِالْخِيَانَةِ، وَ اهْلَ الرَّسَاتِيقِ بِالْجَهْلِ» «2».

و الملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يذكر التعصب على رأس هذه الامور الستة في حين أنّها جميعاً من الذنوب الكبيرة.

3- و نقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا الَى عَصَبِيَّةٍ، وَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» «3».

4- و جاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة عن أمير المؤمنين عليه السلام في نفي التكبّر و التعصّب و

أنّ هذه الحالات هي السبب الأساس في إنحراف إبليس و شقائه و أنّ اللَّه تعالى عند ما أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلّا إبليس فإنه يقول: «اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِاصْلِهِ. فَعَدُوُّ اللَّهِ امَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الّذي وَضَعَ اسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ» «4».

5- و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ خَلَعَ رَبَقَ الْايمَانِ مِنْ عُنُقِهِ» «5».

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2 ص 308 (باب العصبيّة).

(2). الكافي، ج 8، ص 162، ح 17.

(3). سنن أبي داود، ح 5121، طبقاً لنقل ميزان الحكمة.

(4). نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، الخطبة 192.

(5). اصول الكافي، ج 2، ص 308، ح 2.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 194

و نعلم أنّ التعصّب و العناد هُما لازم و ملزوم، و لهذا السبب أوردناهما تحت عنوان واحد، و أما بالنسبة إلى حالة العناد و الاصرار في السلوك البشري و آثارها السلبية فلدينا الكثير من الروايات في هذا الباب، منها:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ايَّاكَ وَ اللِّجَاجةَ، فَانَّ اوَّلَهَا جَهْلٌ وَ آخِرَهَا نَدَامَةً» «1».

2- و جاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «اللِّجَاجُ اكْثَرُ الْاشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ وَ الْآجِلِ» «2».

3- و في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «اللِّجَاجُ بَذْرُ الشَّرِّ» «3».

4- و جاء في نهج البلاغة قوله: «اللِّجَاجَةُ تَسِلُّ الرَّأْيَ» «4».

5- و أيضاً ورد عن هذا الإمام قوله: «لَيْسَ لِلَجُوجٍ تَدْبِيرٌ» «5».

و مع ملاحظة هذه الروايات الشريفة يتضح التأثير المخرب لهاتين الرذيلتين الأخلاقيتين (التعصّب و اللجاجة) في الحياة الفردية و الاجتماعية للناس بحيث

إنهما يدفعان الإنسان بعيداً عن الإيمان و الإسلام و يجعلانه غريباً عن الأجواء الروحية المنفتحة على اللَّه تعالى و يقودانه إلى الكفر و الشرك و الاقتداء بالشيطان و ترك حبل الإيمان، و سوف يأتي لاحقاً الدوافع الكامنة في هذه الحالة الأخلاقية.

1- مفهوم التعصّب و دوافعه

(التعصّب) من مادّة (عَصَبَ) و هي في الأصل بمعنى الخيوط العصبية و العضلية الّتي تربط بين مفاصل العظام و العضلات، ثمّ استُعملت هذه الكلمة ليُراد بها كلّ نوع من الارتباط

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 4، ص 2770 (مادّة لجاجة).

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الرقم 179.

(5). غرر الحكم، ح 10662.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 195

الشديد الفكري و العملي و الّذي يستبطن غالباً معنىً و مفهوماً سلبياً رغم وجود بعض العلائق الإيجابية أيضاً في مفهومها حيث سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث اللاحقة إن شاء اللَّه.

و بديهي أنّ التعلّقات غير المنطقية بالنسبة إلى شخص ما أو عقيدة معيّنة أو شي ء من الأشياء فإنه يقود الإنسان إلى اللجاجة و التقليد الأعمى بالنسبة إلى ذلك الشي ء أو الشخص، و بالتالي سيكون العامل المهم في بروز أنواع النزاعات و الحروب و الاختلافات المستمرة بين البشر.

و كلّما تحرك الإنسان على مستوى إزالة هذه التعصبات من ساحة الحياة البشرية و المجتمع الإنساني فإنّ الناس سوف يتعاملون في ما بينهم من موقع العقل و المنطق و الحوار الهادي ء و الهادف، و بذلك تزول الكثير من الاختلافات و أسباب النزاع و يعود الهدوء ليُخيّم على المجتمع الإنساني و يعيش الإنسان في حركته الإجتماعية بكلّ أشكال الطمأنينة و المحبّة و الاخوة.

إن مثل هذا التعصب الّذي يتولد مباشرة من حالة اللجاجة و التقليد الأعمى ينبع من الامور التالية:

1- حُبّ الذات و التعلّق الشديد

بالأسلاف إن الإفراط في حبّ الذات يتسبب في أن يتعلّق الإنسان بالامور المنسوبة إليه بشدّة و يعتبرها جزءاً من شخصيته و كيانه و من ذلك الرابطة مع الآباء و الأجداد و التقاليد المرسومة في مجتمعه.

إنّ هذا التعلّق الشديد يؤدي إلى نقل الكثير من الخرافات و القبائح إلى الأجيال الاخرى بذريعة حفظ الآداب و السنن و الرسوم الإجتماعية و بالتالي فسيخلق حجاباً يصدّ الإنسان عن أيّة معرفة جديدة و ارتباط بالحقائق و الواقعيات.

إن الدفاع الشديد عن القبيلة و العشيرة أحياناً يصل إلى درجة أن أسوأ أفراد القبيلة و أشنع الأعراف و السنن السائدة في هذه القبيلة تتحول في نظر الأشخاص المتعصبين إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 196

إيجابيات كبيرة و امتيازات مهمة لهذه القبيلة، في حين أنّ أفضل أفراد القبيلة الاخرى و أسمى الآداب و السنن في تلك القبيلة تكون هي الأسوأ و الأقبح في نظر هذا الإنسان.

2- انخفاض المستوى الثقافي و الفكري و كلّما انخفض المستوى الثقافي للناس و عاش أفراد المجتمع في اهتزاز على مستوى الفكر و الثقافة فإنّ التعصبات الجاهلية و أشكال العناد و التقليد الأعمى ستكون حاكمة على هؤلاء الأشخاص، بخلاف إذا ارتفع المستوى الثقافي في المجتمع و عاش الناس في علاقاتهم المنطق و العقل و الالتزام الفكري، فإنّ ذلك من شأنه أن ينفي التعصّب و اللجاجة و تستبد حالة التقليد الأعمى بالتحقيق و الدراسة و الحوار الفكري النافع للوصول إلى الحقيقة.

3- ضعف الشخصية

و العامل الآخر للتعصّب و التقليد الأعمى هو أنّ الإنسان يعيش أحياناً ضعف الشخصية بالنسبة إلى بعض الشخصيات الّذين يوحون إليه بالقداسة في أفعالهم و أقوالهم و بذلك يصعدون عن مستوى دائرة النقد حتّى لو كان النقد علمياً و

أخلاقياً، و هذا الأمر يتسبب في أن يتبعهم بعض العوام بعيون مُغمضة و آذان صمّاء و يضحون بأنفسهم و أموالهم في سبيل الدفاع عن هؤلاء الّذين يرتدون لباس القداسة الزائفة بدون أن يتفكر الإنسان في مضمون كلامهم و بباطن أفعالهم و سلوكياتهم و آثارها على المدى البعيد.

4- الإنزواء الإجتماعي و الفكري:

و العامل الآخر من عوامل التعصّب هو أنّ الإنسان عند ما ينفرد بأفكاره أو بمحيطه الإجتماعي الخاصّ و ينفصل عن الجماعات الاخرى و الأفكار المخالفة و المتنوعة و يعيش الجهل بالنسبة إلى سائر التيارات الفكرية و الثقافية في المجتمعات البشرية الاخرى، فإنّ ذلك من شأنه أن يُفعّل حالة التعصّب و الالتزام الشديد بما لديه من أفكار و عقائد، في حين انه لو انفتح على الآخرين و تلاقح فكره مع أفكارهم و قارن بين هذه الأفكار من موضع استكشاف نقاط الضعف و القوّة و استجلاء العناصر الإيجابية و السلبية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 197

في كلٍّ منها، فإنّ ذلك يقوده إلى انتخاب الأفضل منها من موقع الوضوح و الاختيار الحرّ.

2- الآثار السلبية للتعصّب و العناد

إن الآثار السلبية و النتائج المخربة للتعصّب و الاصرار في حركة حياة الإنسان المتعصّب تتجلّى في الكثير من الموارد:

1- إن التعصّب يعني الإرتباط غير المنطقي بشخص معيّن أو عقيدة أو عادة أو عرف خاصّ كما سبقت الإشارة إليه، و هذا من شأنه أن يُسدل حجاباً سميكاً على عقل الإنسان و بصيرته يمنعه عن إدراك الحقائق و جوانب الخير و الشرّ و المصلحة و المفسدة في الامور و بالتالي يُحرمه من العثور على طريق للحل و النجاة.

و لهذا رأينا في الأحاديث السابقة أنّ اللجوج لا يتمتع بمديرية سليمة، و رأينا أيضاً في حالات الشيطان انه لم يتمكن من

إدراك البديهيات و اوضح الحقائق بسبب تعصبه و عناده، و لذلك قطع عن رقبته طوق العبودية للَّه تعالى فطرد من ساحة القرب الإلهي إلى الأبد.

2- إن العصبية و العناد بمثابة النار المحرقة الّتي من شأنها تمزيق العلائق الإجتماعية في المجتمع و تسلب منه روح الوحدة و الالفة و تنثر فيه بذور النفاق و الفرقة و تقود الطاقات و القوى البنّاءة الّتي يجب أن تُصرف في سبيل إعمار المجتمع في حركته الحضارية باتجاه التضاد و الصراع الذاتي فيما بينها، كما نقرأ هذا المعنى في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «اللِّجَاجُ يُنْتِجُ الْحُرُوبَ وَ يُوغِرُ الْقُلُوبَ» «1».

3- إن التعصّب و العناد يتسبّبان في ابتعاد الأحبّة و الأصدقاء عن الإنسان و تبديل الصداقة إلى عداوة و تضاد.

4- إن التعصّب و العناد من الأسباب و العوامل المهمّة للكفر، و انطلاقاً من هذه الحالة نجد أن أكثر الشعوب و الامم السالفة و بسبب التعصّب و العناد كانت تسير في خطّ الباطل و الكفر برسالات السماء و الامتناع عن قبول الحقّ بدافع من المحافظة على السنن البالية و التقاليد الزائفة.

______________________________

(1). غرر الحكم، (طبقاً لنقل ميزان الحكمة، باب اللجاجة).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 198

(و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآيات السابقة).

5- إنهما يورثان صاحبهما الألم و التعب و الوقوع في زحمة المشاكل الكثيرة، لأنهما يتسببان بالإنسان أن يعيش مدّة طويلة و لسنوات عديدة أحياناً في حالة من الحيرة و الضلال، و عند ما يصل إلى طريق مسدود فإنه عند ذاك يشعر بالتعب و اليأس من هذا الطريق الموحش.

و من هذا الموقع نقرأ في الحديث الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «ثَمَرةُ اللِّجَاجِ الْعَطَبَ» «1».

و

لهذا السبب فإننا نجد أنّ التعصّب غالباً ما يورث الندم كما تقدّمت الإشارة إليه في الأحاديث السابقة.

6- انهما يُفقدان الشخص توازنه في اختيار الامور و يجرانه إلى مواقع لن يرغب الولوج فيها، و لهذا ورد في بعض الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «لَا مَرْكَبَ اجْمَحَ مِنَ اللِّجاجِ» «2».

7- و أخيراً فإنّ التعصّب و اللجاجة يحوّلان حياة الإنسان في دنياه و آخرته إلى دمار و خراب، لأنهما يورثانه في حياته الدنيا العداوة و الفرقة و الاخطاء الكثيرة و فقدان الراحة و الهدوء و الاستقرار، و في الآخرة يتسببان في ابتعاده عن رحمة اللَّه، و هذا هو ما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: «اللِّجَاجُ اكْثَرُ الْاشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ وَ الْآجِلِ»

و مرّة اخرى نرى من الضروري الإشارة إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ هذه الرذائل الأخلاقية الثلاث (التعصّب و اللجاجة و التقليد الأعمى رغم أنّها تختلف في دائرة المفهوم و المحتوى إلّا أنّها تتحد في دائرة المصداق و ترتبط برابطة وثيقة، و في الإصطلاح: بينهما علاقة اللازم و الملزوم، و لذلك أوردناها جميعاً في بحث واحد.

______________________________

(1). غرر الحكم، (طبقاً لنقل ميزان الحكمة، باب اللجاجة).

(2). المصدر السابق (مادّة لجاجة).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 199

أمّا الدوافع على التعصّب و اللجاجة فواضحة أيضاً، لأن أشكال التعصّب الأعمى و المخرّب ينطلق قبل كلّ شي ء من الجهل بالامور، و لهذا السبب فإنّ كلّ طائفة تعيش الجهل أكثر فإنّها تعيش حالة التعصّب و التقليد الأعمى أكثر إلى درجة أنّ الإنسان على هذا المستوى غير مستعد لإيجاد التحول و التغيير نحو الأفضل في وضعه و حالته النفسية و الاجتماعية، و لذلك كانت العصبية دائماً سبباً للتخلف الحضاري

و الاجتماعي.

و قد قرأنا في الأخبار السابقة أيضاً ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إياك و اللجاجة، فإنّ أولها جهل و آخرها ندامة».

و العامل الآخر الّذي يدفع الإنسان باتجاه التعصّب و اللجاج هو الأنانية و حبّ الذات، لأن الشخص الأناني يحبّ كلّما لديه من العلائق و الامور الّتي تُنسب إليه و ترتبط به حتّى على المستوى الاصول و التقاليد الخاطئة و العقائد الزائفة، و لذلك قد يظهر عصبية شديدة لما عليه قومه و قبيلته من التقاليد و العقائد و يقبل ما ورثه من آبائه من السنن و المعارف من دون أيّ تحرّك فكري و استقلال عقلي.

و أحياناً يكون التقاعس و حبّ الراحة من الدوافع الاخرى الّتي تقود الإنسان للتعصّب و اللجاجة، لأن الانتقال من حالة إلى اخرى يحتاج في كثير من الأحيان إلى بذل الجهد و السعي و مواجهة الموانع و التحديات الّتي يفرضها الواقع، و أنّى للكسول و المتقاعس أن يتحرك في هذا السبيل، و لهذا السبب نجده يتمسك دائماً بما لديه من الأفكار و العقائد و الأوهام المختلفة.

3- التعصّب الإيجابي و السلبي

هناك ثلاث مفاهيم متقاربة في المعنى و هي: التعصّب، الحميّة، التقليد، و كلّ واحدٍ من هذه الامور تنقسم إلى:

إيجابي و سلبي. أو: ممدوح و مذموم،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 200

رغم أنّ مفردة (التعصّب) ترد غالباً في المعنى المذموم و السلبي.

و بشكل عام فإنّ الإنسان إذا ارتبط بالامور غير المنطقية و تحرّك في سلوكه من موقع قبولها و الدفاع عنها فهو من التعصّب المذموم، و هذا هو ما ورد في القرآن الكريم بعنوان (العصبية الجاهلية) و لكن إذا خضعت علاقة الإنسان مع هذه الامور للمنطق و العقل و كانت النتائج

المترتبة عليها مفيدة و بنّاءة و تعصّب لها الإنسان فهو من التعصّب الممدوح و الإيجابي.

و نقرأ في نهج البلاغة في الخطبة (القاصعة) لأمير المؤمنين عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث يقول: «فَاطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَ احْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَانَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ» «1».

فنجد في هذه الخطبة انها تقوم على أساس من ذمّ الكِبر و الغرور و التعصّب و اللجاجة، و يقول الإمام في مكان آخر أيضاً: «فَانْ كَانَ لَابُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَ مَحَامِدِ الْافْعَالِ، وَ مَحَاسِنِ الْامُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ... فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ، مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَ الْاخْذِ بِالْفَضْلِ، وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ» «2».

فعليه فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشير في هذه الخطبة إلى (التعصّب) بكلا قسميه، و عند ما سُأل الإمام زين العابدين عليه السلام عن معنى العصبية ذكر كلا القسمين أيضاً و قال:

«الْعَصَبِيّةُ الَّتِي يَأْثِمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا انْ يَرىَ الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخِرِين! وَ لَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ انْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قُوْمَهُ وَ لَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيّةِ أنْ يُعِينَ قُوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ» «3».

و طبقاً لهذا الحديث فإنّ العصبية الّتي يعيشها أفراد القوم أو القبيلة ما دامت تسير في خطّ الخير و الصلاح فهي إيجابية و ممدوحة، لأن هذه العصبية و الارتباط الشديد لا يدفع ______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 192 من الفقرة 22 إلى 23.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 192، الفقرة 76 إلى 79.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 308، باب العصبيّة، ح 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 2،

ص: 201

الإنسان إلى ارتكاب الممنوعات و لا يقوده نحو الخطيئات بل يُعمق فيه أواصر المحبّة و يؤكد وشائج المودّة بين الأفراد، امّا التعصّب المذموم فهو أن يسحق العدالة و الحقّ تحت قدمه من أجل قومه و يضحي بالقيم الأخلاقية و الشرعية للحفاظ على القيم الخرافية و التقاليد الزائفة.

و ورد في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً قوله «لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ حَمِيَّةٌ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطِّلِبِ، وَ ذَلِكَ حِينَ اسْلَمَ غَضَباً لِلنَّبِيِّ فِي حَديثِ السِّلَا الّذي الْقِيَ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه و آله» «1».

و بديهي أن تعصّب حمزة في الدفاع عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في مقابل المشركين الّذين يعيشون العصبية الحمقاء و الجاهلية الزائفة لم يكن تعصّباً خارجاً عن حدود العقل و المنطق و العدالة، و لذلك فهو من التعصّب الممدوح، و لو أنّ حمزة قد سلك في تعصبه هذا في خط الباطل و ارتكب ما يخالف الحقّ و العدالة فإنّ ذلك يقع في دائرة التعصّب المذموم و السلبي أيضاً.

4- التقليد البنّاء و الأعمى

إن (التقليد) ينقسم كالتعصّب إلى قسمين:

ايجابي و سلبي.

و بعبارة أدّق، يمكن تقسيم التقليد إلى أربعة أنحاء و أشكال، ثلاثه منها سلبية و واحد ايجابي.

الأوّل: (تقليد الجاهل للجاهل)

و هو أن يتحرك بعض الجهلاء و السذّج من الناس في أفكارهم و سلوكياتهم بدافع من تقليد طائفة اخرى من الجهال و يستوحون منهم اعتقاداتهم و سننهم و تقاليدهم، فمثل هذا التقليد هو الّذي ورد الذمّ و التوبيخ عليه بشدّة في القرآن الكريم حيث يُعد من أسباب ______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 308.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 202

التعصّب و اللجاجة و أحياناً من نتائجهما المترتبة عليهما، و هذا هو العامل المهم في

انتقال الخرافات من قوم إلى قوم آخرين، و هذا هو ما تصدّى له الأنبياء و الدعاة إلى الحقّ من موقع إبطاله و دحوه.

الثاني: (تقليد العالِم للجاهل)

و هو أشنع أنواع التقليد، و هو أن يتحرك الإنسان بالرغم من علمه و معرفته في السير في خط الباطل و يتبع الجهلاء في ذلك بسبب ما علق على قلبه من حالات التعصّب الذميم.

إن مسألة (الاستعوام) و استسلام العلماء أمام أفكار الجهال و العامّة من الناس هو نوع من تقليد العالم للجاهل.

الثالث: (تقليد العالِم للعالم)

و يكون بصورة أن يتقاعس العالم عن البحث و التحقيق في أمر من الامور و يستسلم للنتائج الّتي توصل إليها عالم آخر من دون دراسة و نظر فاحص، و من الواضح أنّ هذا النوع من التقليد مذموم أيضاً رغم انه ليس بشناعة القسم الأوّل و الثاني، لأنّه ينبغي على العلماء و أهل المعرفة في كلّ قوم و امّة أن يبذلوا ما لديهم من الجهود في دائرة التحقيق و البحث العلمي في كلّ مسألة لإستخلاص النتائج الّذي يفرضها البحث العلمي، و مع توفر الاستعداد و القابلية للتحقيق و البحث فإنّ الاستسلام الأعمى إلى الآخرين ليس من شأن العالم، و لهذا ورد في الفقه الإسلامي أنّ التقليد حرام على المجتهد. و قد ورد في التعبيرات المعروفة في اجازات الاجتهاد هذه العبارة (يُحرم عليه التقليد)، إلّا أن يكونا متخصصين في مجال التخصص العلمي (كالطبيب المتخصّص في أمراض القلب مثلًا يراجع الطبيب المتخصّص بأمراض العين في هذا المورد بالذات) أو يرجع المتخصّص لاستاذه، فهو في الواقع من قبيل القسم الرابع الّذي ستأتي الإشارة إليه.

الرابع: (تقليد الجاهل للعالم)

بما يتعلق بعلمه، و بعبارة اخرى: أن يراجع غير المتخصص إلى المتخصص في كلّ

فن، و بعبارة ثالثة أيضاً: إن ما لا يحيط به الإنسان عِلماً عليه أن يرجع في ذلك لأهل العلم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 203

و الخِبرة ليقتبس منهم (كما في رجوع المرضى إلى الأطباء في الأمراض المختلفة) و هذه المسألة تُعد من الاسس و الدعائم للحياة الفردية و الاجتماعية للإنسان.

و توضيح ذلك: أنّ العلوم و الفنون و المعارف البشرية إلى درجة من السعة و الكثرة بحيث إنّ كلّ واحد من البشر لا يمكنه الإحاطة بها جميعاً، و قد كان هذا الحال من قديم الأيّام و قد تجلّى هذا المعنى أكثر في عصرنا الحاضر حيث تشعّبت العلوم و المعارف و تطوّرت بشكل كبير جدّاً بحيث إنّ كلّ إنسان لا يستطيع حتّى في الإحاطة بجميع فروع علم واحد من العلوم كالطب مثلًا أو الهندسة فكيف الحال بالعلوم الاخرى

و مع هذا الحال فلا مفر أمام الناس إلّا بأن يرجع الجاهل منهم إلى العالم، و هذا أصل مسلّم في حركة الحياة و قد بنيت عليه سيرة العقلاء في جميع العالم، و السير بخلاف هذا المنهج يؤدي قطعاً إلى تخلخل مفاصل المجتمع و اهتزاز أركانه و بالتالي انحطاطه الحضاري و الثقافي.

و هكذا الحال في المسائل المعنوية و الأخلاقية و العلوم الدينية، فلا يمكن أن يتوقع من جميع الناس أن يكونوا أصحاب فكر و اجتهاد في جميع العلوم و المعارف الإسلامية، فبعض هذه الفروع العلمية إلى درجة من السعة بحيث تحتاج لدراستها و الإحاطة بها إلى خمسين سنة من البحث و التحقيق (من قبيل علم الفقه).

فمن الطبيعي أن يرجع الأشخاص المنشغلين عن هذه العلوم و الجاهلين بها إلى العالم و الخبير بها، و لكن بالنسبة إلى اصول الدين و العقائد

المذهبية الّتي تشكّل دعائم المنظومة في الفكر الديني فإنّ على كلّ إنسان أن يحيط بها بمقدار ما يمكنه ذلك منها و لا يقبل من العقائد إلّا ما كان مستنداً إلى دليل و برهان، فالتقليد في مثل هذه الامور غير جائز، بل لا بدّ من التحقيق و الفحص و عدم قبول المعتقدات الدينية الأساسية إلّا عن دليل و برهان.

و على أيّة حال فإنّ مثل هذا التقليد لا يُعد من القسم المذموم و لا يدخل في دائرة التقليد السلبي بل هو مصداق قوله تعالى: «... فَاسْئَلُوا اهْلَ الذِّكْرِ انْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» «1». و ليس من ______________________________

(1). سورة النحل، الآية 43.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 204

قبيل قوله تعالى «... انَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى امَّةٍ وَ انَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» «1».

و هذا لا يرتبط بمسألة التعصّب المذموم الّذي هو الدافع للإنسان إلى سلوك طريق اللجاجة و التقليد الأعمى

5- طرق العلاج

إن الطريق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو كسائر علاج الرذائل الأخلاقية الاخرى فإنه يتطلب في المرتبة الاولى الإلتفات إلى الدوافع و الجذور و السعي لإزالتها من واقع الإنسان و باطنه، و مع العلم بأنّ جذور التعصّب هو ما تقدّم من الانانية و الافراط في حبّ الذات، انخفاض المستوى الثقافي، ضعف الشخصية، العزلة الاجتماعية و الفكرية، و أمثال ذلك.

و لا بدّ لإزالة هذه الصفة الرذيلة و تطهير النفس منها من الصعود بالمستوى العلمي و الثقافي للأفراد و السعي للتعرف على الأقوام و الشعوب الاخرى و الاطلاع على أفكارهم و عقائدهم، و كذلك تعديل حبّ الذات في شخصية الإنسان و قلع الميول و الاتجاهات المضرة في نفسه و الّتي تورثه التعصّب و اللجاجة و التقليد الأعمى

و كذلك يجب الالتفات

إلى الآثار السلبية لهذه الحالات الذميمة من أجل إصلاح النفس و تهذيبها و تطهير القلب من هذه الشوائب و الأدران المحيطة بها.

و عند ما يدرك الإنسان أنّ التعصّب و اللجاجة تسدل على فكره و عقله حجاباً و ستاراً مضمراً يمنعه من إدراك الحقائق و فهم الواقعيات و كذلك من شأنه أن يمزق العلائق الإجتماعية بين أفراد المجتمع و يبذر بذور النفاق و الاختلاف و الفرقة بينهم، و يُفضي إلى الشقاء و التعاسة و يورث الإنسان التعب و الدرك و حتّى انه قد يؤدي به إلى الإنزلاق في دوّامة من المشاكل لم يكن يتوقعها أبداً. فمطالعة هذه الامور من شأنها أن تقلّل من شدّة العصبية و العناد و تساعد الإنسان في النزول عن مركب الغرور و التعصّب و التقليد الأعمى ______________________________

(1). سورة الزخرف، الآية 23.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 205

و أن يسلك بالتالي في خطّ السعادة و الإنصاف و يسلك المنهج العقلاني في التفكير و المعتقد.

و أحد الامور الاخرى في طريق علاج هذه الرذائل الأخلاقية هو تغيير شكلها و محتواها، بمعنى أنّ الإنسان يقوم بعملية استبدال الدوافع السلبية بدوافع اخرى ايجابية.

مثلًا: الشخص الّذي يعيش التعصّب الشديد بالنسبة إلى الامور غير المنطقية أو الخرافية، فبدلًا من أن يسعى إلى قتل الدافع لهذا التعصب في نفسه يقوم بتحويله إلى الجهة الإيجابية فيتعصب للُامور الحقّة.

و هذا هو ما قرأناه في الخطبة القاصعة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «فإنّ كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الامور» «1».

و إذا كان المفروض على الإنسان أن يتعصب لشي ء في علاقاته و تفاعله مع الآخرين فالأفضل أن يكون تعصبه للقيم الأخلاقية و المثل الإنسانية.

6- التسليم مقابل الحقّ

النقطة المقابلة للتعصّب و اللجاجة و التقليد الأعمى هو التسليم مقابل الحقّ الّذي يُعد من الفضائل المهمة الأخلاقية، أيّ أنّ الإنسان يقبل بالحقّ من أيّ شخص كان حتّى لو رآه أبعد الناس و أصغرهم فيسلّم له.

و هذه الفضيلة الأخلاقية هي السبب في التقدّم العلمي و التطور الحضاري للبشرية و تورث الإنسان الحصانة من الوقوع في الضلالة و سلوك طريق الباطل.

و لا يتحلّى بهذه الصفة الأخلاقية الحميدة إلّا أهل الإيمان و الصالحون من الناس و الّذين يبتعدون عن الافراط في حبّ الذات و التعلقات القومية الذميمة و يجتنبون الميول الذاتية في دائرة الفضيلة و المعتقد.

إن التسليم مقابل الحقّ هو من علامات الإيمان، و سلامة الفكر و الروح، و ارتفاع ______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 192.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 206

المستوى الثقافي لدى الإنسان، و القرآن الكريم يشير إلى هذه الخصلة الحميدة مخاطباً النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

«فَلَا وَ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي انْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» «1».

و يقول في مكان آخر: «وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لَا مُؤْمِنَةٍ اذَا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ امْراً انْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ امْرِهِمْ» «2».

و طبعاً فإنّ التسليم (بعنوان فضيلة أخلاقية) يُستعمل على معنيين:

أحدهما: التسليم مقابل الحقّ و الّذي يقع في النقطة المقابلة للتعصّب و اللجاجة و التقليد الأعمى

و الآخر: هو التسليم مقابل القضاء و القدر الإلهيين فيعيش الإنسان في حالة الشكر و الرضا بما قسم اللَّه و لا يعيش السخط و الكفران.

و موضع البحث في هذا الفصل هو ما يتعلق بالمعنى الأوّل، امّا المعنى الثاني فسوف يأتي الكلام عنه في بحث (الرضا و التسليم).

______________________________

(1). سورة النساء،

الآية 65.

(2). سورة الأحزاب، الآية 36.

10 و 11

الجُبن و الشجاعة

تنويه:

و من الرذائل الأخلاقية الاخرى في منظومة القيم هي صفة (الجُبن) و الخوف غير المنطقي و الّذي يورث الإنسان الذلّة و المهانة و السقوط و يحطّ من قدر صاحبه و يتلف طاقاته ما كان منها بالفعل أو بالقوة و يفضي به إلى أن يتسلط عدوه عليه.

و النقطة المقابلة لهذه الصفة الذميمة هي (الشجاعة) و الشهامة و الجرأة و الّتي تُعد مفتاحاً للنصر و الفلاح في حركة الإنسان الإجتماعية و عنصر العزّة و العظمة للمجتمع البشري سواءاً في ميدان الحرب و الجهاد أو في ميدان السياسة و الاجتماع و حتّى في الميادين العلمية فإنّ الشجاعة تُعتبر مفتاحاً للورود إلى هذه الميادين، و من هذا المنطلق نجد أنّ علماء الأخلاق أطنبوا في ذكر هاتين الصفتين (الجبن و الشجاعة) و بيّنوا أسبابها و نتائجها و آثارها على حياة الفرد و المجتمع.

و ورد في كتب القدماء من علماء الأخلاق أنّ الشجاعة هي أحد الأركان للفضائل الأربعة، و بالمقابل ذكروا الجبن باعتباره أحد الرذائل الأربع أيضاً.

و ورد في سيرة الأنبياء العظام و اتباعهم الحقيقيين ما يجسد هذه الصفة و أنّ هؤلاء العظماء كانوا مظهراً من مظاهر الشجاعة و اسطورة للمقاومة و التصدي للباطل و قوى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 208

الانحراف و خير قدوة لجميع الناس في هذا الطريق.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي دروساً في هذه الفضيلة الأخلاقية و ما يترتب من الآثار السلبية على صفة الجبن أيضاً.

1- نقرأ في قصة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى:

«وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُواْ

وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَآ عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَ ءَابَاؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ* قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللّاعِبِينَ* قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَ أَنَاْ عَلَى ذَلِكُم مّنَ الشَّاهِدِينَ* وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ* فجعلهم جُذاذًا إلّا كبيراً لَّهُمْ لَعلَّهُم إِلَيهِ يَرْجِعُونَ» «1».

2- و بالنسبة إلى موسى بن عمران عليه السلام نقرأ قوله تعالى:

«يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ» «2».

3- و نقرأ عن طالوت و جنوده الشجعان:

«... فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَ لَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَ ثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَ انصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» «3».

4- و بالنسبة إلى أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و الفئة الشجاعة من المؤمنين معه و كذلك من يدّعي الايمان نقرأ قوله تعالى:

«وَ إِذْ قَالَت طَّآئفَةٌ مّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَ يَسْتَأذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَ مَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا* ... وَ لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ ______________________________

(1). سورة الأنبياء، الآية 51- 58.

(2). سورة النمل، الآية 10.

(3). سورة البقرة، الآية 249 و 250.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 209

الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ مَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَ تَسْلِيًما» «1».

5- و نقرأ في مكان آخر قوله تعالى:

«قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ

أَو بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبّصُونَ» «2».

6- و حول جماعة من انصار النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول تعالى:

«الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَ قَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ* ... إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَآءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» «3».

7- «الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَ كَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» «4».

تفسير و استنتاج:

الأنبياء و الشجاعة

تتحدّث «الطائفة الاولى من الآيات محل البحث عن شجاعة النبي إبراهيم عليه السلام بطل التوحيد مقابل عبدة الأصنام من قومه الّذين كانوا يعيشون التعصّب و اللجاجة و الخشونة، و تشير الآيات إلى هذا النبي العظيم و كيف انه تصدّى لأقوى سلطة في تلك الفترة لوحده و من دون أن يكون له ناصر من قومه، في مقابل كثرة الأعداء الغاضبين و الذين كانوا يمثلون خطراً عليه حيث كانوا يتمتعون بدعم الحكومة و السلطة في ذلك الزمان.

______________________________

(1). سورة الأحزاب، الآيات 13 و 22.

(2). سورة التوبة، الآية 52.

(3). سورة آل عمران، الآية 173 و 175.

(4). سورة الأحزاب، الآية 39.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 210

و قد عبّرت الآيات الكريمة عن ذلك بقولها: «وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ» «1».

و في الواقع فإنّ اللَّه تعالى قد وهب لإبراهيم مؤهّلات كثيرة تمنحه القدرة على تحمّل تلك المسؤولية العظيمة و الاستفادة من هذه المواهب و القابليات في خطّ تقوية دعائم الإيمان و التوحيد و التصدّي للعامل الأساس في شقاء البشرية، أي عبادة الأصنام و الأوثان، و كما سيأتي في سياق هذه الآيات الشريفة أنّ إبراهيم ابتدأ أوّلًا بدعوة عمّه آزر للإيمان بصراحة اللهجة و تمام القوّة

و قال له: «مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ».

و عند ما أجابه آزر بالقول: «قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَآ عَابِدِينَ».

فأجابه إبراهيم عليه السلام: «قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَ ءَابَاؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ».

إنّ آزر لم يكن يصدّق لحدّ الآن أنّ إبراهيم سوف يتصدى بهذه الصراحة و الجدّية لمقاومة هذه الأصنام الّتي يعبدها الجميع و لذلك سأله: «قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللّاعِبِينَ».

و لكن إبراهيم عليه السلام أجابه أنّه جادٌّ في كلامه هذا و قال: «قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَ أَنَاْ عَلَى ذَلِكُم مّنَ الشَّاهِدِينَ».

ثمّ أضاف: «وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ» «2».

و هكذا ترجم إبراهيم عليه السلام قوله في ميدان العمل بعد أن استغلّ الفرصة المناسبة لذلك، فكسّر الأصنام جميعها إلّا الصنم الأكبر لعلّهم يثوبون إلى رُشدهم أو يرجعون الى الصنم الاكبر المسبب لهذه الحادثة ليسألوه كما تقول الآية: «فجعلهم جُذاذًا إلّا كبيراً لَّهُمْ لَعلَّهُم إِلَيهِ يَرْجِعُونَ» «3».

و هناك اختلاف بين المفسّرين في مرجع الضمير في قوله (إليه) في ذيل الآية، و قد أورد

______________________________

(1). سورة الأنبياء، الآية 51.

(2). سورة الأنبياء، الآية 57.

(3). سورة الأنبياء، الآية 58.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 211

المفسّرون احتمالات عديدة، فذهب البعض إلى أنّه يعود إلى (كبيرهم) أيّ يرجعون إلى الصنم الكبير و يسألونه عن سبب تحطّم و انهدام هذه الأصنام و السبب في نجاته هو من بينهم، و طبيعي أنّ هذا الصنم سيعجز عن الجواب، و من هنا يتضّح لهم خواء معتقدهم.

و الاحتمال الآخر هو أنّ الضمير يعود إلى (إبراهيم) يعني أنّ الوثنيين يرجعون إلى إبراهيم و يسألونه عن الدافع الّذي حمله على هذا التصرّف، فيوضّح لهم الحقائق (و طبعاً في هذه الآية تكون

جملة (إلّا كبيراً لهم) عديمة التأثير في مفهوم الآية بخلاف الاحتمال السابق).

الاحتمال الثالث: أن يعود الضمير إلى اللَّه تعالى، أي أنّ مشاهدة ضعف هذه الأصنام و ذلتها في مقابل إنسان واحد سيؤدي إلى أن يثوب الوثنيون إلى رشدهم و يتركوا عبادة الأصنام و يتجهوا إلى اللَّه تعالى و يسلكوا خطّ العبادة و التوحيد.

(و هذا التفسير أيضاً يرد عليه الإشكال السابق).

و لكن الأنسب من الجميع لسياق الآيات هو التفسير الأوّل.

و على أيّة حال فإنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ أحد الفضائل الأخلاقية للأنبياء اولي العزم هو شجاعتهم المنقطعة النظير، و أنّهم لم يكونوا يشعرون بالخوف إلّا في دائرة الإيمان باللَّه تعالى و في مقابل الذات المقدسة، و في هذا الطريق لم يكونوا يعيشون التردّد و الخوف و الضعف بأي شكل من الأشكال، و بالتالي فهم منزّهون و مطهَّرون عن حالة الجُبن و الخوف الّذي يُعد رذيلة أخلاقية كبيرة، و لهذا نجد إبراهيم عليه السلام و هو يتصدّى لجماعات الوثنيين و قوى الانحراف و الأعداء الشرسين لوحده و ينتصر عليهم أخيراً، و لا شكّ أنّ الأنبياء العظام لو كانوا يعيشون حالة الخوف و الجُبن في حركة الحياة فإنّهم لم يكونوا قادرين على أداء مهمّتهم الرسالية و الانتصار على الأعداء.

و تتحرك «الآية الثانية» من موقع توجيه الخطاب للنبي موسى بن عمران، و ذلك لمّا نزل عليه الوحي لأول مرّة و قد صدر له الأمر بأن يُلقي عصاه الّتي تحوّلت بإعجاز إلهي إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 212

ثعبان عظيم، فخاف موسى من هذه الظاهرة العجيبة و قرّر الفرار، إلّا أنّ الخطاب الإلهي جاءه ليعلّمه أوّل درس أخلاقي تجاه الحوادث و قال: «يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ

الْمُرْسَلُونَ» «1».

و نظراً إلى أنّ جميع أنحاء العالم هي في محضر اللَّه تعالى و إن كلّ زاوية من زوايا الكون هي محلّ حضور ذاته المقدسة و علمه و قدرته، و لذلك على المؤمنين أن لا يخافوا بأيّة حال و في كلّ الظروف بل عليهم أن يعيشوا حالة التوكل على اللَّه تعالى و يواجهوا تحديات الواقع بشجاعة و شهامة، و يسيروا بهذه الروح المعنوية في خطّ الرسالة و تحقيق الأهداف المقدسة.

و طبقاً لما ورد في سورة القصص في الآية (31) أنّه قيل لموسى «يَا مُوسَى اقْبِلْ وَ لَا تَخَفْ انَّكَ مِنَ الْآمِنِين».

فشعر موسى بهذا الخطاب الإلهي بالطمأنينة و السكينة تدغدغ أعماق قلبه و استعاد قوته و رباطة جأشه، و هنا جاءه النداء الإلهي يحمل دستوراً أكبر و أهم، و هو أنّ لا يكتفي بعدم الخوف من هذا الثعبان العظيم بل يجب أن يتجه إليه و يأخذه بيده حتّى يعود إلى حالته الاولى! «قَالَ خُذْهَا وَ لَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْاولَى» «2».

و من المعلوم أنّ هذا العمل كان يمثل لموسى الصعوبة البالغة، و لكنه نجح أخيراً في الإمتثال و الإذعان لهذا الأمر الإلهي.

أجل فإنّ على موسى أن يستوعب التجربة الكبيرة في محضر الذات المقدّسة ليقف أمام ثعبان أكبر و أخطر من هذا، أي فرعون و الملأ من قومه و حكومته الجبارة الّتي يجب أن يأخذها موسى منهم كما يأخذ عصاه.

الكثير من المفسّرين ذهبوا في تفسير كلمة (جان) في الآية أعلاه تعني صغار الحيّات الّتي تهجم على الشخص بسرعة، في حين أنّه في مكان آخر تتحدّث الآيات عن عصى ______________________________

(1). سورة النمل، الآية 10.

(2). سورة طه، الآية 21.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 213

موسى الّتي ألقاها أمام الفراعنة

بكلمة (ثعبان) بمعنى الحيّة العظيمة، و لهذا السبب فقد احتمل البعض أنّ العصى في بداية أمرها تبدّلت إلى حيّة صغيرة و تدريجياً تحوّلت إلى ثعبان عظيم.

و ذهب آخرون إلى أنّ (العصا) تبدلت إلى حيّة عظيمة، و لكنها من جهة سرعة الحركة فهي كالحية الصغيرة السريعة.

و الملفت للنظر أنّ جملة (لا تخف) وردت في القرآن الكريم تسع مرّات، و في خمسة موارد كان المخاطب فيها موسى بن عمران، و لعلّ ذلك بسبب أنّ موسى كان يعيش بين أعداء كثرة و شديدى الخطورة كفرعون و هامان و الملأ، و يجب أن يعد العدّة بمثل هذا الخطاب الإلهي لمواجهة هؤلاء الأعداء.

و تستعرض «الطائفة الثالثة» من الآيات الكريمة قصة (طالوت) و قومه من بني إسرائيل و الّذي انتخبه نبيّهم في ذلك الوقت (إشموئيل) بعنوان قائد جيش بني إسرائيل لمواجهة (جالوت) و جيشه الظالم.

و عند ما أراد طالوت مواجهة جالوت و قتاله قام بعملية اختبارية لجيشه ليطهره من الشوائب و ضعفاء النفوس و الجبناء، الّذين قد يُفضي وجودهم في جيشه إلى سريان الجبن و الضعف في سائر مفاصل جيش بني إسرائيل.

أجل فعند ما كان جيش طالوت يشعر بالعطش الشديد وصلوا إلى نهر، فأراد طالوت أن يختبر جنوده العطاشى هناك و قال: كلّ من يشرب من هذا الماء فليس منّا، و امّا من قاوم العطش و لم يشرب إلّا رشفات فهو منّا، و لكن أغلب أفراد الجيش الّذين كانوا من الجبناء و ضعفاء النفوس لم ينجحوا في هذا الامتحان و الاختبار و شربوا من الماء إلّا عدة قليلة بقوا أوفياء لطالوت، فهؤلاء كانوا يعيشون روح الشجاعة و القوّة و البسالة حيث قالوا في دعائهم: «... رَبَّنَا افْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَ ثَبِّتْ

اقْدَامَنَا وَ انْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِريِنَ» «1».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 250.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 214

و هكذا أنزل اللَّه تعالى نصره و عنايته و رحمته على هذه الفئة القليلة من المؤمنين و نصرهم على جيش جالوت العظيم ببركة شجاعتهم و ثباتهم في مواجهة التحدّيات و الاختبارات الصعبة.

و نقرأ في «الآيات التالية» أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن جبن طائفة من المنافقين و ضعفاء الإيمان في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و في حرب الأحزاب، و يتحدّث كذلك عن شجاعة بعض المؤمنين الحقيقيين و ثبات قدمهم في مواجهة الأعداء الشرسين حيث تقول الآية: «وَ إِذْ قَالَت طَّآئفَةٌ مّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَ يَسْتَأذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَ مَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا» «1».

و طبعاً فإنّ ميدان القتال في معركة الأحزاب كان يغص بجيوش الأعداء و كثرة عددهم و عُدتهم بحيث يستوحش من هذا المنظر الرهيب كلّ الأشخاص الّذين يعيشون الاهتزاز في شخصيتهم و الخوف و الرعب في واقعهم.

و لكن كما تقول الآية (22) من هذه السورة أنّ المؤمنين الحقيقيين الذين كانوا يعيشون الطمأنينة و الثقة بوعد اللَّه إزدادوا إيماناً: «وَ لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ مَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَ تَسْلِيًما» «2».

و اللطيف انه يُستفاد من بعض الروايات أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أجاز للمنافقين و ضعفاء الإيمان و الجبناء بأن يعودوا إلى المدينة، لأن بقائهم في تلك الظروف العصيبة مع جيش الإسلام لا ينفع شيئاً سوى بث الرعب و الضعف و التخاذل في قلوب الآخرين.

و لهذا السبب نقرأ

في الآية (47) من سورة التوبة في حديثها عن جماعة من هذه الطائفة: «لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا».

و معلوم أنّ كلمة (خَبَل) و (خبال) تعني الإضطراب و الترديد الناشي ء من ضعف العقل ______________________________

(1). سورة الأحزاب، الآية 13.

(2). سورة الأحزاب، الآية 22.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 215

و عدم القدرة على اتخاذ الموقف و العزم على شي ء، و كلّ ذلك ناشي ء من الخوف و الجُبن الّذي يقود الإنسان إلى ارتباك الفكر و عدم التوازن في اتخاذ الموقف.

و في «الآية الخامسة» نواجه منظراً جديداً من شجاعة أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، الشجاعة الّتي تنطلق من موقع الإيمان باللَّه تعالى، حيث أنّ هؤلاء المؤمنين يرون أنفسهم في ميدان الحرب على مفترق طريقين و كليهما يؤدّيان بهما إلى الجنّة و رضا اللَّه تعالى:

طريق يؤدي إلى الشهادة و بالتالي السعادة العظمى في الحياة الآخرة، و الآخر يقودهم إلى النصر على العدو، و هو أيضاً مبعث الفخر و الاعتزاز لهم في الدنيا و الآخرة، في حين أنّ العدو محكوم بالهزيمة و الخسران بأيّة حال، فإما الموت الذليل و المهين في هذه الدنيا، أو عذاب اللَّه في الآخرة.

و بديهي أنّ الشخص الّذي يعيش هذه الرؤية فإنه سوف لا يدع أيّ خوف و ضعف يتسرّب إلى قلبه، و بذلك يتخلّص الإنسان من هذه الرذيلة الأخلاقية الكبيرة، و في ذلك تقول الآية: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَو بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبّصُونَ» «1».

و قد ذهب بعض العلماء إلى أنّ العامل الأساس لانتصار المسلمين في حروبهم الحاسمة في ذلك العصر هو الشجاعة المنطلقة من الإيمان باللَّه و المنطق

الرصين: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ».

و تأتي «الآية السادسة» لتستعرض وجهاً آخر من شجاعة هؤلاء المؤمنين في معركة احد، و نعلم أنّ المسلمين في معركة احد قد أصابتهم الهزيمة النكراء بسبب غفلة طائفة من المسلمين الطامعين بحطام الدنيا الّذين تركوا مواقعهم الحسّاسة و اشتغلوا بجمع الغنائم، و هكذا اصيب المسلمون في هذه المعركة بخسائر كبيرة، و طبقاً لما ورد في التواريخ أنّ ______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 52.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 216

الأعداء المنتصرين في أثناء عودتهم من ميدان القتال إلى مكّة ندموا على رجوعهم هذا و اتفقوا مرّة اخرى أن يعودوا إلى المدينة ليستفيدوا من هذه الفرصة الثمينة و يُجهزوا على الإسلام و المسلمين و يتخلّصوا منهم إلى الأبد.

فعند ما سمع نبي الإسلام بذلك اتخذ موقفاً مهماً جداً، حيث أمر جيش الإسلام بالخروج لمواجهة جيوش الأعداء و لم يستثن أحداً من المسلمين حتّى من به جراحة بسبب المعركة الدامية الّتي جرت قبل قليل.

هذا الأمر النبوي اثّر أثره بشكل كبير و أحلّ الرعب و الخوف و الاضطراب في صفوف الأعداء بحيث إنهم رجّحوا الاكتفاء بالانتصار النسبي و العودة إلى مكّة على الهجوم الثاني على المسلمين، و هكذا تخلّص المسلمون من شرّهم.

و الآية محل البحث تشير إلى هذا المعنى و تثني على شجاعة المسلمين و تقول: «الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» «1».

ثمّ تتحدث عن إيمانهم و شجاعتهم واصفة حالتهم المتماسكة في مقابل الارهاب الاعلامي للأعداء الّذي يتحرك من موقع التهويل و التخويف و تقول: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَ قَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ»

«2».

و هذه هي الحادثة الاولى من نوعها في تاريخ الحروب البشرية حيث لم يشاهد في تاريخ البشرية أنّ المجروحين يعودون فوراً إلى ميادين القتال ليساهموا في دفع خطر الأعداء، أجل إن هذه الشجاعة و الشهامة الفريدة هي التي اجهضت مؤامرة العدو، و هذا الحضور القوي و السريع إلى الميدان هو الّذي زرع اليأس في قلبه.

و على أية حال فإنّ واقعة «حمراء الأسد» كانت ظاهرة عجيبة بدّلت حلاوة النصر لدى ______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 172.

(2). سورة آل عمران، الآية 173.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 217

قريش إلى مرارة، و بيّنت لهم أنّ المسلمين بالرغم من هزيمتهم بسبب زيغ جماعة منهم، إلّا أنّهم ما زالوا ثابتين في الميدان و أنّ على العدو أن يتوقع ضربات المسلمين في المستقبل.

و بهذا أثرت هذه الواقعة ليس فقط في التصدي إلى هجوم الأعداء و دفع الخطر، بل في وضع الأساس لانتصارات لاحقة، و تطهير ما علق في النفوس من آثار سلبية للانتكاسة في احد، و منح المسلمين الأمل في حياتهم الجديدة بالتوكل على اللَّه تعالى.

و يستفاد من الآية الشريفة أعلاه أنّ عملية الارهاب الاعلامي الّذي قام به بعض الشياطين لبث الرعب و الخوف في قلوب المسلمين من جيوش قريش، ليس فقط لم يؤثر في زعزعة إيمانهم و ثقتهم باللَّه تعالى و بالإسلام، بل إزداد إيمانهم و اشتدت ثقتهم باللَّه و توكلهم عليه، كلّ ذلك كان بسبب أنّهم كانوا يعيشون الثقة بوعد اللَّه و صدق النبي الأكرم و أنّهم لو عملوا بارشادات النبي في واقعة احد فإنّ النصر سيكون حليفهم لا محالة.

و من عجائب هذه الواقعة هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله أمر المسلمين الّذين اشتركوا في احد فقط بالحضور

إلى حمراء الأسد دون غيرهم، لكي يفهم العدو أنّ جيش المسلمين في احد ما زال قوياً رغم وجود الكثير من الجرحى في صفوفه، و ما زال مستعداً للقتال دون ضعف و فتور رغم استشهاد العديد من ابطاله و أفراده، و هذا هو الّذي أخاف الأعداء و زرع الخوف و القلق في قلوبهم.

و نقرأ في الآيات اللاحقة و في الآية 175 من هذه السورة إشارة للتفاوت بين الأفراد الّذين يعيشون الخوف و الجبن و بين المؤمنين الّذين يعيشون الشجاعة و التوكل، حيث تقول الآية: «إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَآءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

و نستوحي من هذه الآية الشريفة أنّ مثل هذا الخوف يتّسم بصفة شيطانية و الغرض منه تضعيف روحية المؤمنين و اهتزاز معنوياتهم و اتخاذ موقف انفعالي أمام تحديات الظروف و بالتالي التهرب من ضغط المسؤولية و التكليف، و الحال أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يشعرون بالخوف إلّا من اللَّه تعالى.

و طبقاً لهذه العبارات الواردة في الآية الشريفة فإنّ الجبن يمتد في جذوره إلى عناصر

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 218

الشر في واقع الإنسان في حين أنّ الشجاعة تسترفد مقوماتها من عنصر الإيمان و تعدّ من معطياته و ثماره، لأن المؤمن و بالتوكل على اللَّه القادر المطلق يرى نفسه منتصراً في جميع الميادين. أما الأشخاص الّذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم و يعتمدون على قدراتهم الذاتية فإنّهم منهزمون على أية حال لما يروا من محدودية قدراتهم و هزال امكاناتهم، و لذا يستولي عليهم الخوف و الاضطراب أمام تحديات الواقع و مشكلاته المتزايدة.

لقد تكاتفت قوى الشر و الانحراف في واقعة «حمراء الأسد» لإظهار قوّة جيش قريش و تفخيمها بأكبر حجم لإخافة المؤمنين و القاء الرعب في

قلوبهم، إلّا أنّ القرآن الكريم يقرر أنّ أولياء الشيطان و اتباعه هم الّذين يتأثرون بهذه المظاهر الخدّاعة، بينما يعيش أولياء اللَّه الثبات و الاستقامة في خط الحقّ و الرسالة «1».

و تنطلق «الآية السابعة» و الأخيرة من الآيات مورد البحث للتذكير بهذه الحقيقة، و هي أنّ إحدى صفات المبلّغين الرساليين هي طهارتهم من رذيلة الجبن و الخوف من غير اللَّه تعالى، و تقول: «الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَ كَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» «2».

إن تبليغ الرسالة الإلهية من أهم وظائف الأنبياء و المرسلين، و هذا لا يتسنى إلّا بخلو النفس من أية شائبة من شوائب الخوف و الجبن و التردد.

هذه الآية الشريفة الناظرة إلى الأنبياء الماضين تحذّر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالدرجة الاولى، و اتباعه المخلصين بالدرجة الثانية من مغبة الشعور بالخوف و التردد حين إبلاغ الرسالات السماوية و أنّ عليهم أن لا يخشون أحداً إلّا اللَّه تعالى، و مفهوم هذا الخطاب ______________________________

(1). هناك تفسيران لجملة «إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه» بين المفسرين، فبعضهم ذهب إلى أنّ «أولياء» فاعل- أو بمنزلة الفاعل على تقدير من أوليائه- و طبقاً لهذا التفسير فإنّ أولياء الشيطان هم الّذين يقومون بعملية التخويف و التهديد للناس، في حين أنّ التفسير الآخر يرى أنّ «أولياء» مفعول به كما هو الظاهر من جو الآية الشريفة و المطابق للقراءة المشهورة، حيث يكون معنى الآية، «إن الشيطان قادر على تخويف اتباعه فقط من المنافقين و أمثالهم و ليس له قدرة على تخويف المؤمنين».

(2). سورة الأحزاب، الآية 39.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 219

القرآني هو أنّ الأشخاص الجبناء و الّذين يعيشون الخوف و التخاذل في الموقف غير لائقين

لتولي هذه المهمة و أداء هذه الرسالة.

و ذهب بعض المفسرين إلى أنّ هذه الآية تدلّ على أنّ الأنبياء الإلهيين لا ينبغي لهم استعمال التقية، و لكن هذا الرأي إنما يكون صحيحاً إذا فسّرنا التقية بمعناها السلبي من الخوف و الخشية من المخالفين، و الحال أنّ التقية لا تستوحي مقوماتها من الخوف دائماً، بل قد تكون بدافع من الحرص على جذب المخالفين إلى سواء السبيل و إيصال الناس إلى الغايات الإلهيّة بصورة تدريجية، و لعلّ قول إبراهيم عليه السلام «هذا ربي» أمام الوثنيين من قومه كان من هذا القبيل (فتأمل).

النتيجة النهائية:

تبيّن من خلال استعراضنا لجملة من الآيات الكريمة أهمية الشجاعة و الشهامة في حركة الإنسان المؤمن، و دور هذه الفضيلة الأخلاقية في صياغة مصير الإنسانية على المستوى المادي و المعنوي، و كذلك تبيّن في الجهة المقابلة الآثار السلبية لرذيلة الجبن و عواقبها السيئة على حياة الإنسان.

و صحيح أنّ هذه الآيات الكريمة لم تفصل البحث عن الشجاعة و الجبن بصورة مستقلة و بشكل مباشر، إلّا أنّها أشارت إلى دور هذه المفاهيم الأخلاقية في حياة الإنسان بشكل ضمني و ببيان دقيق و جميل.

الجبن و الخوف في الروايات الإسلامية:

اشارة

و نقرأ انعكاساً واسعاً في الأحاديث الشريفة لهذه الرذيلة الأخلاقية من موقع الذم و التحذير الشديد من الاتصاف بها، من قبيل:

1- يقول الإمام الباقر عليه السلام: «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَاناً وَ لَا حَرِيصاً وَ لَا شَحِيحاً» «1».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 72، ص 301.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 220

الاخلاق فى القرآن ج 2 239

و يستفاد جيداً من هذا التعبير أنّ «الخوف» و «الحرص» و «البخل» لا تنسجم مع روح الإيمان، لأنّ المؤمن يتوكل في جميع اموره على اللَّه تعالى، و من كان يملك مثل هذا الأساس المتين في حركة الحياة لا يمكن أن يعيش الخوف و لا البخل و لا الحرص، لأنّه يعيش الأمل برحمة اللَّه و فضله فلا يتعلق قلبه بشي ء من حطام الدنيا.

2- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْجُبْنُ وَ الْحِرْصُ وَ الْبُخْلُ غَرَائِزُ سُوءٍ يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ» «1».

و هذا الحديث في الحقيقة بيان آخر لما ورد في الحديث السابق حيث يبيّن الجذور الأصلية لهذه الصفات الرذيلة.

3- و قد نهى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام اتباعه من استشارة الجبناء لأن خوفهم يؤثر في صياغة

الرأي و يبعده عن جادة الصواب: «لَا تُشْرِكَنَّ فِي رَأْيِكَ جَبَاناً يُضَعِّفُكَ عَنِ الْامْرِ وَ يُعَظِّمُ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ» «2».

و نفس هذا المعنى ورد في عهد الإمام لمالك الاشتر بشكل آخر حيث نهى الإمام علي مالك الاشتر عن مشورة البخلاء و الجبناء و الحريصين.

4- و هذا الموضوع إلى درجة من الأهمية بحيث إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر بعدم اشتراك الأفراد الجبناء في أي جهاد ضدّ المشركين لئلّا يُضعفوا معنويات الآخرين، فقال: «مَنْ احَسَّ مِنْ نَفْسِهِ جُبناً فَلَا يَغْزُ».

5- و في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يوضّح الحديث أعلاه و يقول بصراحة: «لَا يَحِلُّ لِلْجَبَانِ انْ يَغْزُو، لِانَّهُ يَنْهَزِمُ سَريِعاً وَ لَكِنْ لِيَنْظُرَ مَا كَانَ يُرِيدُ انْ يَغْزُوَ بِهِ فَلْيُجَهِّز بِهِ غَيْرَهُ» «3».

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 10090.

(2). غرر الحكم، ح 10349.

(3). بحار الأنوار، ج 97، ص 49.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 221

1- الخوف المعقول و غير المعقول

لا شكّ أنّ المراد من الجبن و الخوف هنا ليس هو الجبن المعقول و الخوف المنطقي بل يقع في دائرة اللامعقول و اللامنطقي، و توضيح ذلك:

إن الخوف من الامور الّتي تتضمن الخطر واقعاً هي أحد الحالات الروحية و الطبيعية في الإنسان و أحد المواهب و النعم الإلهية الكبيرة، و انه لو لا هذه الحالة تجاه الخطر فإنّ الإنسان لا يشعر بالخوف إذا واجهه الخطر حيث يفقد حياته سريعاً، و هذا هو ما ورد في كلمات علماء الأخلاق باسم (التهوّر) في مقابل الخطر و الّتي هي صفة ذميمة من قبيل أن يعبر الشخص الشارع المزدحم بالسيارات بدون أن ينظر يميناً أو يساراً و لا يحاذر من الخطر، فمثل هذا الشخص سيتعرض للحوادث الخطرة الّتي سرعان ما تؤدي

بحياته.

مثل هذا النوع من الخوف في حياة الإنسان اليومية، و هكذا في موارد الخوف من تناول الأطعمة المشكوكة أو الخوف في دائرة المسائل السياسية و الاقتصادية و غيرها، يُعتبر خوفاً منطقياً، و يتسبب في نجاة الإنسان من الأخطار الّتي تهدد حياته في حركة الحياة و الواقع.

أمّا الخوف المذموم فهو أن يخاف الإنسان من المظاهر و العناصر الّتي لا تستبطن خطراً في حدّ ذاتها، بل يتصور الخطر الموهوم فيها، فيخاف من كلّ خطر وهمي و كلّ عدوٍ خيالي و يخاف من كلّ شي ء حتّى من خياله، مثل هذا الإنسان يعيش حالة التردّد في كلّ عمل يريد الاشتراك به مخافة عدم نجاحه في ذلك العمل و بالتالي يمنعه هذا الخوف من تصعيد طاقاته و قابلياته و يعيش التخلف و الكسل و الفشل و الذلّة و المهانة.

إن هذه الحياة الدنيا في حقيقتها ميدان للصراع مع الموانع و المشكلات و الأخطار الموجودة دائماً في مفاصل و زوايا هذه الحياة، و ما لم يواجه الإنسان هذه الأخطار و الموانع من موقع الجرأة و يستعد بجدّية لمقابلتها فإنه لا يوفَّق في حياته.

و الغالب إننا لا يمكننا تحقيق النجاح و النصر في كلّ عمل نعمله أو نضمن عدم وجود الخطر فيه، فهذا من الخيال المحال و هو من الأوهام الزائفة، و هنا يتجلّى الدور المهم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 222

للشجاعة و الشهامة في واقع الإنسان تجاه التحدّيات الصعبة، و تتجلّى كذلك الآثار السلبية لرذيلة الخوف و الجبن أيضاً.

إن كلّ مزارع يحتمل الجفاف و الأمراض الزراعية الّتي تصيب مزرعته، و كلّ تاجر يحتمل تغيّر الأسعار و تحوّل أوضاع السوق، و كلّ مسافر يحتمل وقوع الحوادث الخطرة في الطريق، و في كلّ عملية

جراحية يُحتمل وجود الخطر، فإذا عملت هذه الاحتمالات على منع الإنسان من القيام بشاطاته الحياتية فلا بدّ أن يجلس الإنسان جانباً و لا يقدم على أي عمل من الأعمال بل ينتظر الموت فقط.

و من المعلوم أنّ الإنسان في مثل هذه الموارد يجب أن يتوقع الأخطار الجدّية ثمّ يضع لها ما يقابلها من العلاجات و الحلول و يتجنّب التهوّر و إلقاء نفسه بالتهلكة، و لكن في نفس الوقت لا ينبغي للاحتمالات الموهومة و اللامعقولة الّتي تكتنف العمل دائماً أن تكون مانعة له من الإقدام على سلوك هذا الطريق.

و هذا هو أفضل تعريف لمسألة الشجاعة بعنوانها صفة من الصفات الأخلاقية الفاضلة، و الخوف بعنوانه من الصفات الأخلاقية الرذيلة.

و قد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في تعريف الجبن قوله:

«الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّديِقِ وَ النُّكُولُ عَنِ الْعَدُوّ» «1».

و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال في جوابه على سؤال عن الشجاعة:

«مُوَافِقَةُ الْاقْرَانِ وَ الصَّبْرُ عِنْدَ الطَّعَانِ» «2».

القرآن الكريم يقول أيضاً في إحدى آياته: «وَ لَا تُلْقُوا بِايْدِيكُمْ الَى التَّهْلُكَةِ» «3».

و يقول في مكان آخر في وصف المؤمنين: «... اشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...» «4» و لا يخالجهم ______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 1، ص 370؛ تحف العقول، كلمات الإمام المجتبى عليه السلام، ح 1.

(2). ميزان الحكمة، ج 2، ص 1412.

(3). سورة البقرة، الآية 195.

(4). سورة الفتح، الآية 29.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 223

خوف موهوم في هذا الطريق.

إنّما تقدّم آنفاً يوضح جيداً أنّ الشجاعة هي الفضيلة الّتي تقع في الحدّ الوسط بين (التهوّر) و (الجبن).

2- الآثار السلبية للجُبن في حركة الحياة الفردية و الاجتماعية

و يترتب على هذه الصفة الرذيلة آثار سلبية كثيرة في حياة الإنسان و الّتي تُعد من الأسباب و العوامل المهمة في

فشله و ذلّته.

إننا نقرأ الكثير عن حالات الشعوب و الامم على طول التاريخ البشري، و نقرأ أنّ الكثير منها رغم امتلاكها لوسائل القوّة و المنعة من العُدة و العدد، إلّا أنّها كانت تعيش الذلّة و المهانة و الأسر لسنوات طويلة، و لكن بمجرد أن ينبري من بينها قائد شجاع و شهم يتخطّى بها صفوف التقدّم و النهضة و يُعبّي طاقاتها و أفرادها في سبيل الكرامة و التقدّم فإنّها سرعان ما تنفض عن نفسها رداء الذلّة و المهانة و التخلف و ترتقي إلى أوج العزّة و العظمة.

إن شجاعة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله في مختلف موارد سيرته العملية من هجرته إلى المدينة و موقفه في بدر و احد و الأحزاب و سائر الغزوات الاخرى يُعد من أهمّ العوامل لانتصار المسلمين و تقدّمهم السريع، و لهذا ورد في الأحاديث الإسلامية عن الإمام علي قوله:

«الشُّجَاعَةُ عِزٌّ حَاضِرٌ وَ الْجُبْنُ ذُلٌّ ظَاهِرٌ» «1».

و يقول في مكان آخر أيضاً: «الشُّجَاعَةُ نَصْرَةٌ حَاضِرَةٌ وَ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ» «2».

و أحد الآثار السلبية الاخرى لهذه الرذيلة الأخلاقية هو أنّها تمنع الإنسان من التصدي لكثير من الأعمال و النشاطات المهمة، لأن هذه الأعمال الكبيره تقترن عادة مع مشاكل كبيرة أيضاً و تتطلّب رجالًا يقفون أمام هذه المشكلات و الموانع من موقع الشجاعة و الجرأة، فلا يتسنّى للشخص الجبان أن يخوض في اطار هذه الأعمال إطلاقاً.

______________________________

(1). الآمدي- الغرر و الدرر، ج 7، ص 171.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 224

و عليه فإنّ مثل هؤلاء الأشخاص و على فرض حصولهم على بعض الموفقيّة المحدودة و التافهة في الحياة فإنّهم يعجزون عن التصدّي للأعمال المهمة على المستوى الاجتماعي و التغيير الإصلاحي الّذي يحتاجه الناس.

و هذه

المسألة من الأهمية إلى درجة أنّ الإسلام نهى عن المشورة مع الجبناء و الّذين يعيشون حالة الخوف و الرعب الوهمي في دائرة مديرية المجتمع و الأعمال المهمة في عملية التغيير و الإصلاح الإجتماعي، لأن هؤلاء من شأنهم أن يقرأوا آية اليأس فقط و بذلك يُحبطوا عزم المدراء الموفَّقين و يثبطوا من إرادتهم القوية.

و كما رأينا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يوصي مالك الأشتر في عهده المعروف ان لا يستشير أحداً من الجبناء لئلّا يُصاب بالضعف و الإحباط و يقول: «لَا تَدْخُلَنَّ فِي مَشْوِرَتِكَ ... جَبَاناً يُضَعِّفُكَ عَنِ الْامُورِ» «1».

و يقول في مكان آخر أيضاً: «وَ يُعَظِّمُ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ».

3- دوافع الجُبُن

1- ضعف الإيمان و سوء الظنّ باللَّه لأن الشخص الّذي يعيش الإيمان باللَّه و الثقة به و ينطلق في حياته من موقع التوكل و الأمل برحمة اللَّه و لطفه و التصديق بوعده، مثل هذا الشخص سوف لا يذوق طعم الذلّة و المهانة و الضعف و لا يتردد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة و لا يهتز لتحديات الواقع الثقيلة، و هذا هو ما ورد في عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر حيث يقول: «انَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزٌ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ».

2- الشعور بالحقارة و ضعف الشخصية لدى الفرد، و لهذا نجد انه كلّما كانت شخصية الإنسان نافذة و قوية و شعر الإنسان معها بالكرامة و احترام الذات فإنّ ذلك ممّا يزيد في شجاعته و شهامته، و لذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «شِدَّةُ الْجُبْنِ مِنْ عَجْزِ النَّفْسِ وَ ضَعْفِ الْيَقِينِ» «2».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.

(2). شرح غرر الحكم، ج 4، ص 185.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 225

3- (الجهل و قلّة

المعرفة) حيث تسبب للإنسان غالباً الخوف الموهوم، كما نرى في خوف الإنسان من الأشخاص أو الحيوانات الّتي لا يعرفها على وجه الدقة و لكن عند ما تتضح له الصورة و يتعرف عليها تذوب حالة الخوف في نفسه تدريجياً.

4- (طلب الراحة و العافية) يُعد أحد الأسباب للخوف المذموم، لأن الشجاعة تتطلب الخوض في دوّامة المشكلات و اللاملائمات لكي يتسنّى للإنسان أن يخرج منها منتصراً، و هذا المعنى لا يتلائم و لا ينسجم مع مزاج من يطلب الراحة و العافية.

5- إن دروس الحوادث المُرة و المؤلمة قد يتسبّب غالباً في أن يعيش بعض الناس حالة الخوف و الرعب، لأن هذه الحوادث المرة تترسخ في أذهانهم و تمتزج بالخوف الّذي قد يستمر بالإنسان إلى آخر حياته و لا يمكنه التخلّص منه إلّا ببعض العلاجات النفسية.

6- إن الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً أو هو عامل من عوامل ايجاد الخوف في النفس، لأن مثل هذا الإنسان يتوقى كلّ ما يحتمل فيه الخطر، و هذا يؤدي به إلى أن يعيش حالة التردد و الخوف من الإقدام.

7- و ممّا لا ينبغي إنكاره أنّ الحالة الروحية و المزاجية و البدنية للأفراد أيضاً مؤثرة في بروز هذه الحالة السلبية، فترى بعض الأشخاص و بسبب ابتلائهم بضعف الأعصاب أو ضعف القلب يخافون من كلّ شي ء، في حين يشعرون في نفس الوقت بالتنفر من هذه الحالة و الامتعاض لوجودها في واقعهم و لكنهم لا يستطيعون التخلّص منها.

هؤلاء يقولون: أنّ الخوف المتسرب في أعماقنا ليس باختيارنا بل نجده مفروض علينا، و لكن الصحيح أنّ هذه الحالة قابلة للعلاج أيضاً.

4- طرق العلاج و الوقاية

إن أحد الطرق الأصلية لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية، كما في سائر الرذائل

الاخرى، أن يتفكر الإنسان من جهة في آثارها السلبية و عواقبها الوخيمة على المستوى الفردي و الاجتماعي للإنسان، فعند ما يطالع الشخص الجبان و الّذي يعيش حالة الخوف و الرعب الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 226

من كلّ إقدام مثمر، الآثار السلبية للخوف الموهوم و ما يترتب عليه من ذلّة و حقارة و تخلف و حرمان من الكثير من مواهب الحياة في حياته أو حياة الآخرين، فإنه سيتحرك في الغالب لتجديد فكرته و نظرته عن هذه الحالة و يسعى لتطهير نفسه منها.

و من الطرق المهمة الاخرى في عملية العلاج هو السعي إلى قطع دوافع و جذور هذه الرذيلة من واقع النفس، فعند ما تزول السحب المظلمة لسوء الظنّ باللَّه من سماء القلب، و تشرق شمس التوكل على اللَّه في أجواء الروح الإنسانية، فإنّ ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة عن النفس البشرية، و لكن قد يحتاج هذا الأمر إلى مطالعة و دقّة أكثر.

و من الطرق الاخرى للعلاج هو أن يتورّط الإنسان في الميادين المثيرة للخوف و الوحشة و يعمل على إقحام نفسه مرات عديدة في مثل هذه الميادين و الأجواء المثيرة، و على سبيل المثال فعند ما يجد الإنسان نفسه يخاف من تناول الدواء أو زرق الابر فعليه أن يقحم نفسه مرّات عديدة في مثل هذه الأعمال كيما تزول حالة الخوف.

و البعض الآخر يستوحش من السفر في السفينة أو الطائرة، و لكن تكرار مثل هذه السفرات من شأنه أن يزيل الخوف منه.

و بعض الناس يجد حالة التردد و الخوف في نفسه عند حضوره أمام الآخرين أو عند إلقائه لمحاضرة أو كلمة أمام الجمع، و لكن هذا الخوف و التردّد يزول غالباً بتكرار مثل هذه الأعمال.

و أحد أهداف

التمرينات العسكرية و المناورات الّتي تُجريها الحكومات لجيوشها و قواها العسكرية هو إزالة آثار الخوف من قلوب أفراد الجيش من الحروب.

و نجد هذا المعنى بصورة جميلة و رائعة في الكلمات القصار لأمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «اذَا هَبْتَ امْراً فَقَعْ فِيهِ، فَانَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ اعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ» «1».

و يقول العلّامة المرحوم الخوئي في شرحه لنهج البلاغة عند شرح هذه العبارة: «كثيراً ما يستوحش الإنسان من بعض الامور بسبب جهله و جبنه فيمنعه ذلك الخوف من نيل ______________________________

(1). الكلمات القصار، الجملة 175.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 227

الموفقية في الحياة، و هنا الإمام عليه السلام يحرضه على خلع حالة الجبن عن نفسه لأن تحمل ضغط هذه الحالة قد يكون في كثير من الحالات أشد على الإنسان من التورط في ذلك الأمر المخوف».

ثمّ يضيف: «إن المخترعين و المكتشفين في العالم نالوا أوسمة الفخر بالعمل بهذه التوصية الحكيمة، حيث توغلوا إلى أعماق الغابات الاستوائية و الصحاري الأفريقية و خاضوا لجج البحار و وصلوا إلى الجزر البعيدة و حصلوا على ثروات طائلة و شهرة عظيمة مضافاً إلى ما قدّموا إلى البشرية من علم و معرفة لا يستهان بها» «1».

و قد ورد في المثل المعروف: «امُّ الْمَقْتُولِ تَنَامُ وَ امُّ المُهَدَّدِ لَا تَنَامُ».

و قيل أيضاً: «كُلُّ امْرٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَسِمَاعُهُ اعْظَمُ مِنْ عَيَانِهِ» «2».

و أحد الطرق الاخرى لعلاج حالة الجبن و الخوف هو أن يعيش الإنسان بطُهر و نقاء من شوائب الرذيلة و الأعمال الذميمة، لأن الأشخاص الملوّثين يخافون غالباً من نتيجة أعمالهم، و بما أنّ نيتجة هذه الأعمال سوف تتجلّى إلى الملأ يوماً من الأيام فإنّهم يعيشون حالة الخوف في أنفسهم، و لذلك ورد في الحديث

المعروف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَا اشْجَعُ الْبري وَ اجْبَنَ الْمُريِبُ» «3».

و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: «لَوْ تَمَيَّزَتِ الْاشْيَاءُ لَكَانَ الصِّدْقُ مَعَ الشَّجَاعَةِ وَ كَانَ الْجُبْنُ مَعَ الْكِذْبِ» «4».

______________________________

(1). منهاج البراعة، ج 12، ص 252.

(2). شرح نهج البلاغة، ج 18، ص 177.

(3). غرر الحكم، ح 9626.

(4). شرح غرر الحكم، ج 7 ص 172. (بالفارسية)

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 228

5- معطيات الشجاعة في حياة الإنسان

و النقطة المقابلة لصفة الجبن الرذيلة، هي الشجاعة و الشهامة و الجرأة على الخوف في الأعمال المهمة كما تقدّمت الإشارة إليه ضمن حديثنا عن الجبن و الخوف، فكلّ واحد من هاتين الصفتين المتقابلتين تتضح بدراسة ما يقابلها من الحالات الأخلاقية، فمعرفة مفهوم الجبن لا تتسنّى بدون معرفة مفهوم الشجاعة، و كذلك العكس فإنّ من العسير أن ندرك مفهوم الشجاعة بدون أن نُحيط علماً بمفهوم الجبن و الخوف.

و بهذا نرى من اللازم و لغرض تكميل الأبحاث السابقة أن نتحدث أكثر عن صفة الشجاعة و آثارها الايجابية و معطياتها في حركة الحياة و خاصة من وجهة نظر الأخبار و الأحاديث الإسلامية:

1- ما ورد في عهد الامام على عليه السلام لمالك الأشتر (و الّذي يُعدّ أشمل دستور إلهي و سياسي) في عملية إدارة الحكومة في موارد متعددة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أشار إلى هذه المسألة، فيحذّر في أحد الموارد مالك الأشتر من المشورة مع الأشخاص الجبناء و الّذين يعيشون حالة الخوف و الحرص و البخل. و يقول في مكان آخر بالنسبة إلى قادة الجيش (أو المعاونين و الموظفين و المسئولين): «ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوآتِ وَ الْاحْسَابِ وَ اهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمّ اهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخاء وَ السَمَاحَةِ،

فَانَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ» «1».

و هنا نجد أنّ الإمام يرى أنّ صفة الشجاعة و الشهامة تُعد من الاصول الأساسية و القيم الأخلاقية المهمة للإنسان المدير و المدبّر و خاصة على مستوى قادة الجيش أو المسؤولين الكبار في الحكومة.

2- و يقول هذا الإمام في حديث آخر: «الشَّجَاعَةُ زَيْنٌ، الْجُبْنُ شَيْنٌ» «2».

3- و ورد عن هذا الإمام الهُمام قوله في حديث آخر: «السَّخَاءُ وَ الشَّجَاعَةُ غَرَائِزٌ شَرِيفَةٌ

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.

(2). شرح غرر الحكم، ج 7 ص 171. (بالفارسية)

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 229

يَضَعُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مَنْ احَبَّهُ وَ امْتَحِنْهُ» «1».

4- و ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في ذكره لفضائل أهل بيته أنّه ذكر سبع صفات و أحدها الشجاعة.

و في حديث آخر ذكر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فضائله و فضائل أهل بيته في كلمتين، و أحد هاتين الفضيلتين هي الشجاعة.

5- و نقرأ في حديث ليلة المبيت (و هي الليلة الّتي بات فيها الإمام علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه و آله في ليلة الهجرة إلى المدينة) أنّه عند ما حاصر المشركون بيت النبي صلى الله عليه و آله ليلًا، ثم هجموا في الصباح الباكر إلى داخل الدار رأوا علياً نائم في فراش النبي، فقال أبو جهل: أما ترون محمداً كيف أبات هذا و نجا بنفسه لتشتغلوا به و ينجو محمد، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد ....

فقال علي عليه السلام: «أَلِي تَقُولُ هذا يا أَبا جَهل؟ بَلِ اللَّهُ قَدْ أَعطانِي مِنَ العَقلِ ما لُو قُسِّمَ عَلى جَميعِ حُمَقاء الدُّنيا وَ مَجانِينِها لَصارُوا بِهِ عُقلاء، وَ مِنَ القُوَّةِ ما لَو قُسِّمَ عَلى

جَمِيعِ ضُعَفاءِ الدُّنيا لَصارُوا بهِ أَقوياء، وَ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا لَوْ قُسِّمَ عَلَى جَمِيعِ جُبَنَاءِ الدُّنْيَا لَصَارُوا بِهِ شَجْعَاناً» «2».

6- و نقرأ في الخطبة المعروفة للإمام زين العابدين في الشام أنّ هذا الإمام ابتدأ خطبته التاريخية بقوله: «ايُّهَا النَّاسُ: اعْطِينَا سِتأً وَ فُضِّلْنَا بِسَبْعٍ اعْطِينَا الْعِلْمَ وَ الْحِلْمَ وَ السَّمَاحَةَ وَ الْفَصَاحَةَ وَ الشَّجَاعَةَ وَ الْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» «3».

7- و نختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) قال: «الْغِيرَةُ الشَّدِيدَةُ عَلَى حَرَمِكَ، وَ السَّخَاءُ، وَ حُسْنُ الْخُلْقِ، وَ صِدْقُ اللِّسَانِ وَ الشَّجَاعَةُ».

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1820.

(2). بحار الأنوار، ج 19، ص 83.

(3). بحار الأنوار، ج 45، ص 138.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 230

و يتبين من الأحاديث المذكورة آنفاً و كذلك الآيات و الروايات الكثيرة في هذا الباب أهمية هذه الفضيلة الأخلاقية و قيمتها من بين القيم الإنسانية الرفيعة الّتي يراها الإسلام في مجمل تعاليمه الأخلاقية و الإنسانية.

و ممّا يجدر ذكره هو أنّ (الشجاعة) لها معنىً واسع و تمتد لمساحات شاسعة من السلوكيات الإنسانية، و الشجاعة في ميدان الحرب و القتال هو أحد فروعها و مصاديقها، و منها الشجاعة في ميدان السياسة، و في المسائل العلمية و إبداع النظريات الجديدة المنطقية و الاختراعات العلمية، و الشجاعة في مقام القضاء و الحكم و أمثال ذلك، فكلّ واحدٍ منها يعد من فروع هذه الشجرة الأخلاقية و الصفة الكريمة للإنسان، و لذلك نقرأ في بعض الروايات «الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ» «1».

و ورد في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام قوله: «اشْجَعَ النَّاسِ اسْخَاهُمْ» «2».

و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: «لَوْ تَمَيَّزَتِ الْاشْيَاءُ لَكَانَ الصِّدْقُ مَعَ الشَّجَاعَةِ

وَ كَانَ الْجُبْنُ مَعَ الْكِذْبِ» «3».

فهذه الأحاديث الشريفة تقرر في كلّ واحد منهما فرعاً من فروع الشجاعة الّتي تندرج تحت المفهوم العام لهذه الكلمة.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الحكمة 4.

(2). غرر الحكم، ح 2899.

(3). شرح غرر الحكم، ج 5، ص 118، ح 7597.

12

ضعف النفس و التوكل على اللَّه

تنويه:

وردت الإشارة في كثير من الآيات القرآنية الكريمة و الروايات الإسلامية و كذلك سيرة الأنبياء و الأولياء و الصالحين و في كتب علماء الأخلاق و أرباب السير و السلوك إلى مسألة «التوكل» بعنوان أنّها من الفضائل الأخلاقية المهمة الّتي لا يتسنّى للإنسان الوصول إلى مقام القرب الإلهي بدونها.

و المراد من التوكل هو: تفويض الامور إلى اللَّه و الاعتماد على لطفه، لأن (التوكل) من مادّة (وكالة) بمعنى اختيار الوكيل و الاعتماد عليه في تسيير الامور، و بديهي انه كلّما كان الوكيل يتمتع بقدرة أكبر و احاطة علمية أكثر فإنّ الشخص الموكل يشعر في قرارة نفسه بالهدوء و السكينة أكثر، و بما أنّ اللَّه تعالى و قدرته لا محدودة، فعند ما يتوكل الإنسان عليه يشعر بالطمأنينة و السكينة تدغدغ قلبه و تنفذ إلى أعماق روحه، فتمنحه القدرة على التصدي للمشكلات و الحوادث الصعبة، و أن لا يعيش الخوف من الأعداء و الأخطار المختلفة، و لا يرى نفسه في مأزق في حركة الحياة، فيسير بالتالي بقلب مطمئن و بطريق مفتوح متجهاً صوب أهدافه و مقاصده.

الإنسان الّذي يعيش التوكل على اللَّه لا يشعر إطلاقاً بالحقارة و الضعف بل يرى نفسه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 232

و بالاعتماد على لطف اللَّه و علمه و قدرته المطلقة منتصراً و ناجحاً في حياته الفردية و الاجتماعية، و حتّى أنّه لو اصيب بالفشل أحياناً فإنّ ذلك لا يفرض عليه اليأس و القنوط.

و

عند ما يتجلّى مفهوم التوكل بمعناه الصحيح في واقع الإنسان و على سلوكياته فإنّ ذلك من شأنه أن يثير الأمل في القلب و يبعث على تقوية الإرادة و تحكيم دعائم المقاومة و الشجاعة.

إنّ مسألة التوكل لها دورٌ مهم في حياة الأنبياء الإلهيين، فعند ما نستعرض الآيات القرآنية في هذا الباب نجدها تشير إلى أنّ هؤلاء الأنبياء واجهوا سلسلة الحوادث و المشكلات المدمّرة و العظيمة بسلاح التوكل على اللَّه، و كانت أحد الأسباب المهمة لانتصارهم و تغلّبهم على هذه المشكلات هو كونهم يتمتعون بهذه الفضيلة الأخلاقية.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دروساً من سيرة الأنبياء الإلهيين في مسألة التوكل و دورها المهم في حياتهم العملية و ذلك بالترتيب:

(نبدأ من نوح عليه السلام و ننتهي إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله).

1- «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَ تَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَ لَا تُنظِرُونِ» «1».

2- «إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَ رَبّكُم» «2».

3- «رَّبَّنَآ إِنّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُم مّنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «3».

4- «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ» «4».

______________________________

(1). سورة يونس، الآية 71.

(2). سورة هود، الآية 56.

(3). سورة إبراهيم، الآية 37.

(4). سورة هود، الآية 88.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 233

5- «وَ قَالَ يَا بَنِىَّ لَا تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَ ادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ وَ مَا أُغْنِى

عَنكُم مّنَ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ» «1».

6- «وَ قَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِنْ كُنتُم مُّسْلِمِينَ* فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «2».

7- «وَ لَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَ ثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَ انصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» «3».

8- «فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» «4».

9- «وَ مَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ» «5».

10- «... وَ مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ...» «6».

تفسير و استنتاج:

معطيات التوكل في حياة الأنبياء

عند ما نطالع القرآن الكريم في اطار حديثه عن سيرة الأنبياء نلاحظ أنّ القرآن يستعرض من صفات الأنبياء الإلهيين صفة (التوكل) بعنوان ابرز ظاهرة و صفة تتجلّى في سيرة الأنبياء على طول التاريخ، حيث نجدهم يعيشون روح الاعتماد على اللَّه و التوكل عليه في مقابل المصاعب و المشاكل الجمّة الّتي يواجهونها في خطّ الرسالة و الدعوة إلى اللَّه،

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 67.

(2). سورة يونس، الآية 84 و 85.

(3). سورة البقرة، الآية 250.

(4). سورة التوبة، الآية 129.

(5). سورة إبراهيم، الآية 12.

(6). سورة الطلاق، الآية 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 234

و أنّهم كانوا لا يرتبطون بأيّ شي ء برابطة الاعتماد و التعلق سوى بالقدرة المطلقة للذات المقدسة.

و نبدأ من النبي نوح عليه السلام:

«الآية الاولى من الآيات محل البحث تستعرض حياة نوح مع قومه المتعصّبين و المعاندين حيث واجههم بكلّ شجاعة و دعاهم بالكلام الهادئ و المتّزن و المنطقي من موقع الاعتماد على اللَّه و التوكل عليه، فتقول

الآية الشريفة مخاطبة نبي الإسلام: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَ تَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَ لَا تُنظِرُونِ» «1».

فما هو العامل الّذي دفع بنوح مع قلّة المؤمنين من حوله إلى التصدي لكلّ قوى الانحراف و الأعداء المعاندين من قومه بهذه الشهامة و الشجاعة و السخرية من قوّتهم و عدم الاهتمام بقدراتهم و بمخططاتهم و بأوثانهم؟

و بالتالي فقد وجّه إليهم ضربة قاصمة على المستوى الروحي و النفسي.

أجل لم يكن هذا العامل سوى الإيمان باللَّه و التوكل عليه، و العجيب أنّ نوح لم يكتف فقط بمواجهتهم من موقع اللامبالاة و عدم الاهتمام بقدراتهم و معبوداتهم بل دعاهم إلى مبارزته و شجّعهم على مواجهته، أجل فمثل هذا الإظهار للقوّة و استعراض العضلات لا يتسنّى في الحقيقة إلّا من المتوكلين.

و نظراً إلى أنّ سورة يونس الّتي تستبطن هذه الآية محل البحث، مكيّة، فإنّ اللَّه تعالى أراد من المسلمين في مكّة أن يلتفوا حول نبي الإسلام صلى الله عليه و آله كالفراش الّذي يدور حول المصباح و يُظهروا من أنفسهم القوّة و القدرة أمام الأعداء الشرسين و أن لا يعيشوا الخوف و الرعب من هذه القدرات الموهومة مقابل قدرة اللَّه و مشيئته.

و عبارة (شركائكم) يمكن أن تكون إشارة إلى الأصنام الّتي جعلوها شريكة للَّه تعالى،

______________________________

(1). سورة يونس، الآية 71.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 235

و قد ورد هذا التعبير أيضاً في موارد اخرى كثيرة من القرآن الكريم.

أو يكون المراد منه هو أتباعكم و أصدقائكم و أعوانكم، أي اجمعوا جميع قواكم و قدراتكم لتتحركوا بها في التصدي

لي و لمواجهتي.

و تأتي «الآية الثانية» للتحدث على لسان النبي هود الّذي عاش بعد عصر نوح عليه السلام و قد هدّده قومه الوثنيّون بالموت، و لكنه انطلق من موقع القوّة و التوكل على اللَّه و قال لهم بصراحة كما تقول الآية: «... قَالَ إِنّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُواْ أَنّى بَرِى ءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ* مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ* انِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ» «1».

و اللطيف أنّ هود لم يكتف بعدم الاهتمام و الاعتناء بقوى مخالفيه من عبّاد الأوثان و قدراتهم و مؤامراتهم بل انه سعى لتحريكهم و إثارتهم للتصدي له و مواجهته لكي يثبت لهم أنّ قلبه و روحه يرتبطان بقوة أخرى و انه بالتوكل على اللَّه تعالى لا يعيش في نفسه أيّ شعور بالخوف من مؤامراتهم مهما عظمت قوتهم و اشتدت قدرتهم، و هذا يدلّ على أنّ التوكل على اللَّه يقود الإنسان إلى حيث المواقف الشجاعة و البطولية و السير في خطّ الاستقامة و الحقّ.

فما أعجب أن يقف رجل واحد بمفرده أو مع القليل من أصحابه مقابل هذه الكثرة الكاثرة من قوى الانحراف و الأعداء الأشداء مثل هذا الموقف البطولي و يتحرك في مواجهته لهم من موقع الاستهزاء بتهديداتهم و السخرية بمؤامراتهم!! أجل فإنّ هذه من معطيات الإيمان و التوكل على اللَّه في حياة الإنسان.

و قد ذكر أحد المفسّرين القدماء و هو (الزجاج) أنّ هذه الآية تعد من أهم الآيات الّتي تتحدّث عن الأنبياء العظام و الّتي استعرضت فيها قصة نبي من الأنبياء يقف هذا الموقف البطولي في مقابل جماعات كثيرة من مخالفيه و يتحدّث معهم مثل هذا الحديث الشجاع، و مثل هذا التعبير ورد في قصة نوح عليه السلام

و كذلك في الحديث عن سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً.

______________________________

(1). سورة هود، الآية 54- 56.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 236

و الجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم و بعد هذه الآية يتحدّث عن أنّ هود عليه السلام خاطب قومه المعاندين بخطاب من موقع العقل و الاستدلال و قال: «مَا مِنْ دَابَّةٍ الّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا» «1».

ثمّ أضاف: إن قدرة اللَّه تعالى ليست بالقدرة الّتي توحي لصاحبها بالغرور و الانحراف عن خطّ الحقّ بل «انَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

و عليه فأنا أعتمد على من قدرته مطلقة و افعاله عين الصواب و العدالة.

و تأتي «الآية الثالثة» لتشير إلى جانب من سيرة النبي إبراهيم عليه السلام و توكّله على اللَّه في أحلك الظروف و أصعب الحالات الّتي يواجهها الإنسان و تقول: «رَّبَّنَآ إِنّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُم مّنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «2».

فلو لم يكن ايمان إبراهيم كالجبل الشاهق، و لم يكن له قلب كالبحر المتلاطم، و لم يكن يعيش التوحيد و التوكل في أعلى مراتبه، فهل يمكنه كإنسان طبيعي أن يسكن زوجته و ابنه الحبيب في صحراء قاحلة و محرقة بلا ماءٍ و لا كلاء ليس لشي ء إلّا امتثالًا لأمر اللَّه تعالى ثمّ يعود من هناك إلى وطنه الأصلي؟

هذه الحادثة العجيبة تذكرنا بحادثة اخرى في سيرة إبراهيم عليه السلام العظيم، و هي عند ما وضعه مخالفوه و أعداؤه المعاندون في قفص الإتهام بسبب تحطيمه أصنامهم، فكان إبراهيم على وشك أن يُقتل و لكنه مع ذلك لم يترك السخرية من أصنامهم و عقائدهم الزائفة و كان ينطلق في حواره معهم

من موقع المنطق و الدلائل القوية في عملية إبطال منطقهم الخرافي و إثبات زيف مدّعياتهم الواهية.

«الآية الرابعة» تشير إلى قصة شعيب عليه السلام الّذي جاء بعد فترة من النبي هود عليه السلام و قُبيل ______________________________

(1). سورة هود، الآية 56.

(2). سورة إبراهيم، الآية 37.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 237

موسى عليه السلام، حيث وقف مقابل المشركين من قومه و تصدّى لعقائدهم و تهديداتهم و مؤامراتهم من موقع الاستهزاء و السخرية، و كان يقول لهم في حكايته عن دعوته و رسالته السماوية: «... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ» «1».

أجل فأنا لا أخاف من شي ء لاعتمادي على إيماني باللَّه و التوكل على ذاته المقدسة و سأستمر في خطّ الرسالة و الدعوة إلى اللَّه و الإصلاح ما أمكنني ذلك و بالاتكال على اللَّه.

و الجدير بالذكر أنّ شعيب و لغرض تنفيذ عملية الإصلاحات الواسعة الّتي كان يتحرّك باتجهاهها في مجتمعه الفاسد كان يعتمد على ثلاث دعائم:

الاولى: تهيئة المقدّمات للعمل من قبل اللَّه تعالى حيث تشير إلى ذلك كلمة «توفيقي»، ثمّ بالإنطلاق من عزم راسخ و ارادة قوية بالشروع بالعمل و الإصلاح، و ذلك بقوله «عليه توكلت»، ثمّ أن تكون للإنسان المصلح دوافع سليمة و بنّاءة للقيام بعملية الإصلاح، و هو ما أشار إليه بقوله (إليه انيب).

و تتحرّك «الآية الخامسة» لتستعرض لنا كلام يعقوب لأولاده، و يعقوب هو الجدّ الأعلى لبني إسرائيل و الّذي كان يعيش في مضيقة شديدة في ذلك الزمان، فمن جهة فقد ابنه العزيز يوسف، و من جهة اخرى كان يعيش القحط الشديد في كنعان الّذي أصاب الناس في تلك المناطق، فكانوا يواجهون التحديات و الظروف الصعبة بسبب

ذلك، و بالتالي وجد نفسه مجبراً على أن يودع ابنه الآخر (بنيامين) بيد ابنائه الآخرين الّذين كانوا يعيشون الجفاف الروحي و العاطفي، و ذلك لغرض تحصيل القوت و الطعام من أرض مصر و يحصلوا على المساعدة من عزيز مصر، و هنا أوصى يعقوب ابناءه المتجهون إلى مصر بقوله: «وَ قَالَ يَا بَنِىَّ لَا تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَ ادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ ...» «2».

ثمّ أضاف: انني بهذه التوصية لا أستطيع أن أصُدّ عنكم البلاء أو أمنع عنكم ما قدّر اللَّه ______________________________

(1). سورة هود، الآية 88.

(2). سورة يوسف، الآية 67.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 238

لكم، «... وَ مَا أُغْنِى عَنكُم مّنَ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ» «1».

و على هذا الأساس فإنّ يعقوب أوصى أولاده بوصايا خاصة لمقابلة الحوادث المتوقعة، و لكنه أكد عليهم أنّه بهذه التوصية لا يستطيع أن يقف مقابل الحوادث أو يضع تدبيراً حاسماً لجميع المشكلات و المصاعب الّتي سيواجهونها في سفرهم هذا، بل انّ عليه أن يضع ما يمكنه من الحلول و التوصيات، و أمّا الباقي فيجب أن يتوكلوا على اللَّه تعالى.

و بهذا فإنّ يعقوب في الحقيقة قد أوصاهم بالتوكل على اللَّه، و قد ذكر الدليل و السبب في تأكيده على هذا المعنى، و هو انّ جميع الامور بيد اللَّه تعالى: «إنِ الحُكْمُ الّا للَّه».

إذن فينبغي على الإنسان أن يعيش التوكل و الاعتماد على هذه القدرة المطلقة و الّتي لا توجد أية قدرة اخرى في مقابلها في عالم الوجود.

و من الواضح أنّ المراد بكلمة (الحكم) هنا هو (الحكم التكويني) للَّه تعالى في عالم الخلقة و الّتي تعود جميع الأسباب لديه و ليست ناظرة إلى الحكم

التشريعي. (فتأمل).

و تتعرض «الآية السادسة» إلى ما جرى بين موسى عليه السلام و قومه بني إسرائيل، و ذلك عند ما أظهر موسى دعوته الإلهية و أبرز معجزاته العظيمة و لكن مع ذلك لم يؤمن به جميع بني إسرائيل بل آمن به و اتبعه جماعة منهم، في حين انّ بني إسرائيل كانوا مستضعفين بأجمعهم من قبل الفراعنة و كانوا يعيشون الخوف و شدّة العذاب من قبل فرعون و قومه، فعند ما نرى أنّ زوجة فرعون و بسبب اعلانها الإيمان بموسى عليه السلام قد وضعت تحت طائلة العذاب الشديد من قبل زوجها فرعون، فمن الواضح ما كان تعامل فرعون مع سائر بني إسرائيل، و لهذا السبب فإنّ موسى بن عمران و لغرض ايجاد حالة من الطمأنينة و الهدوء النفسي في قومه و إزالة عنصر الخوف و الرعب المسلّط عليهم أمرهم بالتوكل على اللَّه، «وَ قَالَ مُوسَى ______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 67.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 239

يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِنْ كُنتُم مُّسْلِمِينَ» «1»

و هذا يعني انكم لا يمكنكم التصدي لمثل هذا الحاكم الجائر و مواجهته من موقع القوّة و الخلاص من شرّه إلّا بالتوكل على اللَّه تعالى.

و من البديهي أنّ موسى عليه السلام نفسه كان في مرتبة متقدمة من هذا الأمر من حيث تجسيده لمعنى التوكل في ممارساته العملية، و لو لم يكن يتمتع بمقام التوكل فكيف يستطيع و هو راعٍ للأغنام بدون أن يتمتع بأية قدرة ظاهرية مواجهة أعتى قوّة و حكومة في ذلك الزمان؟

و هكذا لبّى المؤمنون من بني إسرائيل نداء موسى عليه السلام «فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ...» «2».

ثمّ توجّهوا إلى اللَّه تعالى و قالوا: «... رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً

لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «3».

و المقصود من (فتنة) في الآية الأخيرة هو ما قد يتعرضون له من التعذيب و التنكيل على يد أزلام فرعون، و قد وردت هذه الكلمة في سورة (البروج) في مورد أصحاب الأخدود، و كذلك في الآية 83 من هذه السورة مورد البحث و الّتي أشرنا إليها سابقاً.

و يُحتمل أنّ المراد من (الفتنة) في كلا الموردين هو عملية الإنحراف عن خطّ التقوى و الطاعة و الإيمان، لأن الفراعنة لو تسلّطوا على المؤمنين لرأوا ذلك دليلًا على حقانيّتهم و لاستمروا في طريق الإنحراف بأقدام ثابتة و عزم راسخ أكثر من السابق.

و تستعرض «الآية السابعة» في إطار الحديث عن الأزمنة الّتي تلت عصر موسى عليه السلام حيث كان بنو إسرائيل يعيشون العناء و الظلم على يد سلطان جبّار يُسمّى (جالوت)، فكان أن اضطروا إلى اللجوء لنبي لهم يُدعى (إشموئيل) و طلبوا منه أنّ يُعيّن لهم قائداً يقود جيوشهم نحو مواجهة جالوت و التخلّص منه و استعادت أراضيهم و بيوتهم منه، فعيّن إشموئيل ______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 84.

(2). سورة يونس، الآية 85.

(3). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 240

الاخلاق فى القرآن ج 2 260

طالوت ملكاً و قائداً عليهم و الّذي كان شاباً قوياً و عارفاً بالامور و لائقاً لهذا المقام من كلّ جهة، و لكن بني إسرائيل رفضوا الإذعان لهذا التعيين، ثمّ قبلوا به أخيراً بعد أنّ بيّن لهم نبيّهم الخصوصيات و المميزات الفريدة في طالوت.

أمّا طالوت فقد اختبر جيشه بعدّة اختبارات ليهيئهم أكثر من الناحية النفسية و الروحية لجهاد العدو.

و الآية مورد البحث تتحدّث عن الفترة اللاحقة لذلك حيث تستعرض منظر الواقعة بين طالوت و جيشه من جهة، و جالوت و جيشه العظيم من جهة

اخرى، و تقول: «وَ لَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَ ثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَ انصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» «1».

فصحيح أنّ جيش طالوت كان يعاني القلّة في أفراده بالنسبة لجيش جالوت الجرار و ما يتمتعون به من سلاح و امكانات حربية واسعة، و لكن الشي ء الّذي أخلّ بالموازنة و أربَكَ المعادلة لصالح المظلومين من بني إسرائيل و بالتالي كتب لهم النصر و الغلبة على عدوهم القوي هو الإيمان باللَّه و التوكل عليه و مواجهة العدو من موقع الصبر و الاستقامة في طريق نصرة الحقّ.

و لهذا السبب فإنّ الآية الّتي تليها تُصرح بهذه النتيجة الباهرة و تقول: «فَهَزَمُوهُمْ بِاذْنِ اللَّهِ».

و بديهي أنّ حالة الصبر و الاستقامة هي السبب في ثبات القدم و رسوخ المواقع، و ثبات القدم سببٌ لتحقيق النصر، و لهذا ورد ذكر هذه الامور الثلاثة بالترتيب في دعائهم المذكور في الآية الشريفة، و معلوم أنّ روح هذه الامور الثلاثة تكمن في الإيمان و التوكل على اللَّه تعالى.

و تأتي «الآية الثامنة» لتتحدّث عن نبي الإسلام و مقام توكله على اللَّه تعالى، فعند ما كان يواجه المشكلات و الضغوط الصعبة في حركته التبليغية علّمه اللَّه تعالى كيف يتغلب على ______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 250.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 241

هذه المشكلات الكبيرة و قال: «فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» «1».

و هذه الآية توضّح جيداً أنّ الإنسان مهما كان وحيداً فريداً مقابل تحدّيات الظروف الصعبة فإنه إذا كان يعيش التوكل على اللَّه فلا يشعر بصعوبة هذه المشاكل، لأن اللَّه تعالى هو رب العرش العظيم و ذو القدرة اللامتناهية الّتي لا تعتبر القوى الاخرى شيئاً

بالنسبة لها و لا تأثير لها في مقابل قدرة اللَّه و مشيئته، فمن كان العرش و العالم الأعلى في قبضته فكيف يسمح لعباده المتوكلين عليه أن يخوضوا لوحدهم أمواج المشكلات أو يتركهم لوحدهم أمام أعدائهم الشرسين؟

و ممّا يجدر ذكره أنّ البعض يرون أنّ هذه الآية و الّتي هي آخر آية من سورة التوبة و الآية الّتي قبلها هي من آخر الآيات الّتي نزلت على نبي الإسلام، و اللطيف أنّ الآيات الشريفة الّتي نزلت في أوّل البعثة تحوي هذا المضمون أيضاً و تدلّ على أنّ رأس المال الأصلي و الدعامة الحقيقية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ذلك الزمان هي التوكل على اللَّه، فنقرأ في الآية 38 من سورة الزمر الّتي نزلت في تلك الأزمنة من بداية البعثة قوله: «... قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ»

و عليه فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يعيش التوكل في بداية البعثة و في نهايتها و في جميع الأحوال، و هذا الأمر هو السبب الأوّل في حركة النبي الأكرم في خطّ الاستقامة و الثبات و النصر.

«الآية التاسعة» تتعرض للحديث عن جميع الأنبياء السابقين من زمان نوح عليه السلام إلى الأنبياء الّذين جاءوا بعده و تقول عند ما واجه هؤلاء الأنبياء المخالفة الشديدة لأقوامهم و رأوا أنفسهم لوحدهم و قالوا: «وَ مَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلَى ______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 129.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 242

مَآ آذَيْتُمُونَا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ» «1».

و نستوحي من هذه الآية أنّ التمسّك بالتوكل على اللَّه مقابل المشكلات و المصاعب الشديدة الّتي تفرضها الظروف الصعبة كان عمل جميع الأنبياء على طول التاريخ.

و

في الواقع أنّهم كانوا يقفون أمام طوائف الأعداء و المشاكل الكبيرة بالاستمداد من عنصر التوكل و ينتصرون في نهاية المطاف، و من هنا يتبيّن دور التوكل في حياة البشر و خاصّة على مستوى القادة و المصلحين من الناس.

و في الحقيقة إنما يمنح الأنبياء القدرة و القوّة رغم عدم وجود العُدة و العدد في مقابل قدرة الحكومات الكبيرة و قوى الإنحراف المختلفة و لا يشعرون مع ذلك بالتراجع و الضعف و الخوف هو حالة التوكل على اللَّه و الّتي تجعل «ما سوى اللَّه» في نظرهم صغيراً و تافهاً.

و الملفت للنظر أنّ الآية الواردة قبل هذه الآية (الآية 11 من سورة إبراهيم) تقول:

«وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

و في هذه الآية الشريفة محل البحث نقرأ «وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ».

و من إدغام هاتين الآيتين يستفاد أنّ المؤمن الواقعي هو المتوكل على اللَّه، و كذلك يستفاد من هذه الآية أنّ التوكل وليد المعرفة و الهداية الإلهية كما أنّ الصبر و الاستقامة في مقابل اعتداءات الأعداء و تحرّشاتهم وليد التوكل (فتأمل).

و تتعرض «الآية العاشرة» إلى ذكر نتيجة واضحة للتوكل على اللَّه بحيث تعمل على حث الجميع لطلب هذه الحالة في واقعهم، و تَعِدهم بالنجاة و النصر أيضاً و تقول: «وَ مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْ ءٍ قَدْرًا» «2»

و في الواقع فإنّ اللَّه تعالى أوعد جميع المتوكلين عليه بحل مشكلاتهم بشكل حتمي، ثمّ ______________________________

(1). سورة إبراهيم، الآية 12.

(2). سورة الطلاق، الآية 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 243

استعرضت الآية الشريفة الدليل على ذلك و قالت: «إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ».

و بديهي فإنّ مثل هذه القدرة المطلقة بإمكانها الوفاء بجميع الوعود و حلّ جميع المشكلات

مهما كانت ثقيلة و صعبة، فكلّها تحت إرادته و مشيئته.

و جملة قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْ ءٍ قَدْرًا يمكن أن تكون جواباً على سؤال مقدّر، و هو لماذا نعيش أحياناً غاية التوكل على اللَّه تعالى و لكن الحلّ و النصرة قد يتأخر؟

القرآن الكريم يجيب على هذا السؤال بأنكم لا تعلمون مصالح الامور، فكلّ شي ء يكون بحساب و يتطلب زمان و فرصة مناسبة، و كلّ حالة تكون مطلوبة في ظرفها الخاصّ، و لهذا و بمقتضى أنّ «الْامُورُ مَرْهُونَةٌ بِاوْقَاتِهَا» فأحياناً تقتضي المصلحة تأخير النتيجة، و عليه فإنّ العجلة و التسرع في مثل هذه الامور غير صحيح.

و يشبه هذا المعنى ما ورد في الآية (160) من سورة آل عمران حيث نجد أنّ القرآن الكريم يقرر بأن النصر و الهزيمة كليهما من اللَّه تعالى و أنّ طريق الوصول إلى النصر يمر من خلال التوكل على اللَّه فتقول الآية: «إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّن بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

النتيجة النهائية:

و نستوحي من الآيات المذكورة آنفاً و الّتي استعرضت سيرة أقدم الأنبياء الإلهيين إلى أن وصلت إلى نبي الإسلام أنّ مسألة التوكل في حياة البشر و جهاد الأنبياء و انتصارهم على المشكلات و التحديات الصعبة الّتي يفرضها الواقع بمثابة الأساس لكلّ هذه التحركات الإيجابية و المثمرة في سلوك الإنسان على المستوى المادي و المعنوي، و تدلّ على أنّ هذه الفضيلة الأخلاقية بإمكانها أن ترتفع بالإنسان إلى مستويات عالية في سلّم الكمال المعنوي، و النقطة المقابلة لها، أي عدم الاعتماد و التوكّل على اللَّه تعالى يتسبب في السقوط الحضاري و المعنوي للفرد و المجتمع.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 244

التوكل في الأحاديث الإسلامية:

اشارة

و تولي الروايات الإسلامية أهمية كبيرة إلى هذه الفضيلة إلى درجة اننا قلما نجد من الآثار الإيجابية و البركات على صفة من الصفات الأخلاقية الفاضلة مثلما ورد في حقّ هذه الفضيلة، و ما سنذكره من الروايات الشريفة عبارة عن نماذج مقتطفة من كثير ممّا ورد في هذا الباب ممّا لا يسمح لنا المجال لاستيعابها جميعاً.

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ سَرَّهُ انْ يَكُونَ اقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» «1».

2- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «فِي التَّوَكُّلِ حَقِيقَةُ الْايقَانِ» «2».

3- و في حديث آخر عميق المعنى ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام في تفسير علي بن إبراهيم حيث تقول الرواية: أنّه لما وضعوا إبراهيم في المنجنيق، جاءه عمه آذر و صفعه على وجهه بشدة و قال له: ارجع عما أنت عليه، و لم يبق شي ء إلّا طلب إلى ربه، أن ينجي ابراهيم و قالت الأرض يا رب ليس على

ظهري أحد يعبدك غيره فيحرق، و قالت الملائكة مثل ذلك و جاء إليه جبرئيل في الهواء، و قد وضع في المنجنيق، فقال يا إبراهيم هل لك إليّ من حاجة؟ فقال إبراهيم أما إليك فلا، و أما إلى ربّ العالمين فنعم. فدفع إليه خاتماً عليه مكتوب: «لَا الَهَ الَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، الْجَأْتُ ظَهْرِي الَى اللَّهِ، اسْنَدْتُ امْرِي الَى اللَّهِ، وَ فَوَّضْتُ امْرِي الَى اللَّهِ» فأوحى اللَّه إلى النار (كوني برداً و سلاماً) فاضطربت اسنان إبراهيم من البرد حتّى قال (سلاماً على إبراهيم) فهبط جبرئيل و جلس معه يحدثه في النار و في روضة خضراء، و نظر إليه نمرود فقال: «مَنِ اتَّخَذَ الَهاً فَلْيَتَّخِذْ مِثْلَ الَهِ ابْرَاهيمَ» «3».

أجل فإنّ التوكل على اللَّه تعالى قد حوّل النار إلى بستان جميل و جنّة خلابة، هذا التوكل الّذي منح إبراهيم القوّة على ضبط النفس و الهدوء و السكينة حتّى انه لم يجد حاجة إلى ______________________________

(1). كنز العمال، ج 3، ص 101، ح 5686.

(2). غرر الحكم، ح 3853.

(3). تفسير علي بن سورة إبراهيم، الآية ص 72 و 73 (مع التلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 245

التوسل بجبرئيل و اعتبر ذلك ابتعاداً عن اللَّه و خلافاً لمقتضى الإيمان و التوكل و انه لا بدّ من تحصيل الماء من العين الصافية نفسها.

4- و يقول الإمام الصادق عليه السلام في تعبير آخر: «انَّ الْغِنَى وَ الْعِزَّ يَجُولَانِ فَاذَا ظَفَرَا بِمَوْضِعِ التَّوَكُّلِ اوْطَنَاهُ» «1».

و هذا يعني أنّ القلب الّذي تحوّل إلى مركز للتوكل على اللَّه فإنه يشعر بالغنى و عدم الحاجة لما سوى اللَّه تعالى، و كذلك فإنّ مثل هذا الإنسان يعيش العزّة و القدرة لأنّه يتحرّك من موقع الاعتماد على القدرة المطلقة الّتي

تتعالى على جميع القدرات الاخرى و لا تقبل الضعف و التردد و الاهتزاز.

5- و نقرأ في حديث آخر بهذا المعنى عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَا يُغْلَبُ وَ مَنْ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ لَا يُهْزَمُ» «2».

6- و ورد في حديث آخر عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ذَلَّتْ لَهُ الصِّعَابُ وَ تَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْاسْبَابُ» «3».

و كيف لا يكون كذلك في حين أنّ (مسبّب الأسباب) هو اللَّه تعالى و كلّ شي ء خاضع و خاشع له.

7- و في حديث آخر عن هذا الإمام انه أشار في كلامه إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ التوكل ليس فقط يُعدّ من العوامل الخفيّة في باطن الكون بل من العوامل المؤثرة في نفس الإنسان و باطنه أيضاً حيث يمنحه القوّة الّتي تنجيه من الوساوس و الشبهات فقال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ اضَاءَتْ لَهُ الشُّبَهَاتُ» «4».

8- و أيضاً ورد عن هذا الإمام في خطابه للناس جميعاً «يَا ايُّهَا النَّاسُ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ ______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 65.

(2). ميزان الحكمة، ج 4، ح 22547.

(3). غرر الحكم، ح 9028.

(4). غرر الحكم، ح 8985.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 246

و اتَّقُوا بِهِ فَانَّهُ يَكْفِي مِمَّنْ سِوَاهُ» «1».

9- و عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال: خدمت سيّد الأنام أبا جعفر محمّد بن علي عليه السلام ثمانية عشرة سنة فلما أردت الخروج ودعته فقلت له: افدني، فقال: بعد ثمانية عشر سنة يا جابر؟ قلت: «نَعَمْ انَّكُمْ بَحْرٌ لَا يُنْزَفُ وَ لَا يُبْلَغُ قَعْرُهُ».

قال عليه السلام: يا جابر بلغ شيعتي عني السلام و أعلمهم أنّه لا قرابة بيننا و بين اللَّه عزّ و جلّ،

و لا يتقرب إليه إلّا بالطاعة له، يا جابر من أطاع اللَّه و أحبنا فهو ولينا، و من عصى اللَّه لم ينفعه حبنا. يَا جَابِرُ مَنْ هَذَا الّذي سَألَ اللَّهَ فَلَمْ يُعْطِهِ؟ اوْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَ لَمْ يَكْفِهِ؟ اوْ وَثَقَ بِهِ فَلَمْ يُنْجِهِ؟» «2».

و نجد في هذا الحديث الشريف أنّ التوكل على اللَّه و الثقة بوعده و كرمه، و دعاءه و الطلب منه بعنوان ثلاث وسائل للنجاة و الفلاح.

أجل فإنّ الإنسان إذا توجّه إلى العين الصافية و اغترف منها الماء الزلال فلا حاجة له لأن يمدّ يده إلى هذا و ذاك.

10- و نختم هذا البحث بحديث آخر عن لقمان الحكيم رغم وجود أحاديث كثيرة تقرر أهمية التوكل و آثاره الإيجابية الكبيرة على حياة الإنسان المادية و المعنوية، و ذلك عند ما أوصى لقمان ابنه بقوله: «يَا بُنَيَّ! تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ سَلْ فِي النَّاسِ، مَنْ ذَا الّذي تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فَلَمْ يَكْفِهِ؟!» «3».

إن عظمة هذه الفضيلة الإنسانية الكبيرة، يعني التوكل على اللَّه في الأحاديث الإسلامية و النصوص الدينية الشريفة إلى درجة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى توضيح أكثر من ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 55، ص 265.

(2). بحار الأنوار، ج 78، ص 183.

(3). ميزان الحكمة، ج 4، ح 22661.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 247

هذا، و بخلاف ما يقابلها من الحالة الذميمة الّتي تربط الإنسان بالقوى الاخرى الزائفة و تهبط به من أوج العزة و الافتخار و الاستقلال في أبعاد شخصيّته الإنسانية إلى حيث الضعف و الذلّة و المهانة و بالتالي عدم القدرة على التغلب على التحديات الّتي يفرضها الواقع و عدم حلّ المشاكل الّتي تواجه الإنسان في حركة الحياة.

و بعد بيان أهميّة التوكل في الآيات

القرآنية و الروايات الإسلامية نصل إلى مسألة تحليل هذه الفضيلة في أبعادها المختلفة و توضيح بعض الزوايا المعتمة منها:

1- حقيقة التوكل

رأينا في ما تقدّم أنّ (التوكل) من مادّة (وكالة)، بمعنى ايداع الامور إلى اللَّه تعالى و الاعتماد على لطفه و رحمته، و هذا لا يعني أن يعيش الإنسان حالة التكاسل و عدم التحرّك في نشاطات الحياة بل عليه أن يبذل ما امكنه من السعي و الجهد في سلوك طريق الحياة بجدّية و لكنه في نفس الوقت يعيش حالة التوكل على اللَّه بالنسبة إلى ما لا يجد في نفسه القدرة على تذليل الصعاب و يستمد من ألطافه الجلية و الخفية في ما يمنحه القدرة على الإستمرار في هذا الطريق.

و يقول أحد علماء الأخلاق المعروفين في تفسير التوكّل: «اعلم أنّ التوكل منزل من منازل الدين و مقام من مقامات الموقنين، بل هو من معاني درجات المقربين، و هو في نفسه غامض من حيث العلم وشاق، و قال عليه السلام: لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل و سجوده، بل انظروا إلى خلقه و عمله.

و وجه غموضه من حيث العلم أنّ ملاحظة الأسباب و الاعتماد عليها شرك في التوحيد، و التباعد عنها بالكلية طعن في السنّة و قدح في الشرع، و الاعتماد على الأسباب انغماس في غمرة الجهل.

و التحقيق فيه أنّ التوكل المأمور به في الشرع هو اعتماد القلب على اللَّه في الامور كلّها و انقطاعه عمّا سواه، و لا ينافيه تحصيل الأسباب إذا لم يكن يسكن إليها، و كان سكونه إلى اللَّه تعالى دونها مجوزاً أن يؤتيه اللَّه مطلوبه من حيث لا يحتسب دون هذه الأسباب الّتي الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 248

حصلها، و أن يقطع اللَّه هذه الأسباب

عن مسبباتها».

ثمّ يضيف قائلًا: «و ليس معنى التوكل- كما يظنه الحمقى أنّه ترك الكسب بالبدن و ترك التدبير بالقلب، و السقوط على الأرض كالخرقة الملقاة و اللحم على الوضم، فإنّ ذلك جهل محض، و هو حرام في الشرع، فإنّ الإنسان مكلف بطلب الرزق بالأسباب الّتي هداه اللَّه إليها من زراعة أو تجارة أو صناعة أو غير ذلك ممّا أحلّه اللَّه» «1».

و نقرأ في (المحجّة البيضاء) في بحث حقيقة التوكّل قوله: «إعلم أنّ التوكّل من أبواب الإيمان و جميع أبواب الايمان لا تنتظم إلّا بعلم و حال و عمل و التوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل، و من عمل هو الثمرة، و حال هو المراد باسم التوكّل».

ثمّ يشرع بذكر بعض التفاصيل عن عنصر العلم الّذي يمثل الأساس للتوكل، و بعد بيان مطول يصل إلى ذكر حقيقة التوكل الّتي هي عبارة عن الأساس الّذي يبتني التوكل عليه، و حاصله أن ينكشف لك أن لا فاعل إلّا اللَّه، و أن كلّ موجود من خلق و رزق و عطاء و منع و حياة و موت و غنى و فقر إلى غير ذلك فالمنفرد بابداعه و اختراعه هو اللَّه تعالى لا شريك له، و إذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك و إليه رجاؤك و به ثقتك و عليه اتكالك فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، و ما سواه مسخّرون لا استقلال لهم بتحريك ذرّة في ملكوت السماوات و الأرض» «2».

و قد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند ما سُئل: «مَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ و جلَّ؟ فَقَال صلى الله عليه و آله: الْعِلْمُ بِانَّ الْمَخْلُوقَ

لَا يَضُرُّ وَ لَا يَنْفَعُ وَ لَا يُعْطِي وَ لَا يَمْنَعُ وَ اسْتِعْمَالُ الْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ».

ثمّ قال صلى الله عليه و آله: «فَاذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ لِاحَدٍ سِوَى اللَّهِ وَ لَمْ يَرْجُ وَ لَمْ يَخَفْ سِوَى اللَّهِ، وَ لَمْ يَطْمَعْ فِي احَدٍ سِوَى اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ» «3».

______________________________

(1). أخلاق شبّر، ص 275 مع التلخيص.

(2). المحجة البيضاء، ج 7، ص 273.

(3). بحار الأنوار، ج 68، ص 138، ح 23.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 249

و نقرأ في حديث آخر أنّه سُئل الإمام عليه السلام عن حقيقة التوكل فقال: «لَا تَخَافُ سِوَاهُ» «1».

و يستفاد من هذه العبارات أنّ روح التوكل هي الانقطاع إلى اللَّه و هجر التعلق بالمخلوقات و الأسباب، و ما لم يصل الإنسان إلى هذه المرتبة فهو بعيد عن حقيقة التوكل، و كذلك يستفاد من الروايات الرفض الأكيد للمفهوم السلبي من التوكل، أي ترك الاستفادة من الأسباب المادية، فقد ورد في حديث معروف أنّ رجلًا اعرابياً ترك ناقته و جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائلًا: «تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ» فقال له النبي صلى الله عليه و آله: «اعْقِلْهَا وَ تَوَكَّلْ» «2».

و لهذا السبب ورد في الآيات الكريمة و السنّة النبوية نصوص كثيرة توجب على المؤمنين الأخذ بالأسباب الظاهرية و أنّ ذلك لا يتقاطع مع روح التوكل من قبيل قوله تعالى: «وَ أَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَ مِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ ...» «3».

و من جهة اخرى نرى أنّ القرآن الكريم يبيّن للمسلمين كيفية صلاة الخوف و يقول: «...

وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ اسْلِحَتَهُمْ ...» «4».

و على هذا الأساس نرى أنّ القرآن الكريم يوجب على المسلمين الأخذ

بأدوات الحذر و الحيطة تجاه العدو حتّى في حال الصلاة، فكيف الحال في الموارد الاخرى؟

إن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله نفسه لم يتحرك في هجرته من مكّة إلى المدينة من موقع اللامبالاة بالخطر و بدون تخطيط مسبق و الاكتفاء بقول «تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ»، بل تحرك على مستوى اغفال العدو بأن طلب من الإمام علي عليه السلام من جهة أن ينام على فراشه إلى الصباح، و من جهة اخرى خرج من مكّة ليلًا و على أتم السريّة و الخفاء، و من جهة ثالثة لم يتوجه شمالًا صوب المدينة مباشرة، بل توجه نحو الجنوب قليلًا و بقي في غار ثور لثلاثة أيّام مختفياً عن ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 68، ص 143، ح 42.

(2). المحجّة البيضاء، ج 7، ص 426، كنز العمّال، ح 5687 و 5689.

(3). سورة الأنفال، الآية 60.

(4). سورة النساء، الآية 102.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 250

الأنظار، و عند ما يأست قريش من العثور عليه خرج من الغار متوجهاً إلى المدينة مستديراً حول مكّة و كان يسير ليلًا و أحياناً يسلك الطرق غير السالكة حتّى وصل إلى المدينة.

إذن، فروح التوكل الّتي كان يعيشها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بجميع وجوده و احساساته لم تمنعه من الأخذ بالأسباب الظاهرية.

و أساساً فإنّ مشيئة اللَّه تعالى قائمة على أساس أن يأخذ الناس في حركتهم لتحقيق مقاصدهم بالأسباب و الوسائل الموجودة كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «ابَى اللَّهَ انْ يَجْرِيَ الأَشْيَاءَ الّا بِاسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً» «1».

و عليه فإنّ اهمال عالم الأسباب و المسببات ليس فقط لا يعدّ من التوكل، بل هو في الواقع اهمال للسنن الإلهيّة الموجودة

في عالم الخلقة، و هذا ممّا لا ينسجم مع روح التوكل.

و نختم هذا الكلام برواية تتعلق بزمان النبي موسى عليه السلام حيث ورد «أنّ موسى عليه السلام اعتلّ بعلّة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علّته فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرأت. فقال: لا أتداوى حتّى يعافيني من غير دواء، فطالت علّته فقالوا له: إن دواء هذه العلّة معروف مجرّب و إنّا نتداوى به فنبرأ. فقال: لا أتداوى، فدامت علّته فأوحى اللَّه إليه: «وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لَا ابْرَأْتُكَ حَتَّى تَتَدَاوَى بِمَا ذَكَرُوهُ لَكَ»، فقال لهم: داووني بما ذكرتم، فداووه فبرأ، فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى اللَّه إليه: «ارَدْتَ انْ تَبْطُلَ حِكْمَتِي بَتَوَكُّلِكَ عَلَيَّ، فَمَنْ اوْدَعَ الْعَقَاقِيرَ مَنَافِعَ الْاشْيَاءَ غَيْرِي» «2».

هذا الحديث الشريف يوضّح لنا حقيقة التوكل.

و عند ما نرى أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام لا يمدّ يده إلى الملائكة في اللحظات الحرجة و لا يطلب إليهم انقاذه من نار نمرود فإنّ ذلك لا يتعارض مع مسألة الاستفادة من الأسباب الطبيعية الّتي قرأناها في سيرة النبي موسى عليه السلام، لأن التوسل بالأسباب المادية و الطبيعية لم تكن واردة في قصّة إبراهيم عليه السلام بل تحكي عن نوع من الاستمداد و طلب النجاة من ______________________________

(1). اصول الكافي، ج 1، ص 183، ح 7.

(2). المحجّة البيضاء، ج 7، ص 432.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 251

الأسباب الغيبية و غير الطبيعية، و لهذا لم يقبل إبراهيم عليه السلام في هذه المرحلة بالذات أن يمد يده إلى ما سوى اللَّه تعالى (فتدبّر).

2- معطيات التوكل و آثاره الإيجابية

بما أنّ المتوكل على اللَّه في الحقيقة يفوّض أمره و حاله و عمله إلى اللَّه تعالى، و يعلّق أمله بالقدرة اللامتناهية و الذات المقدسة العالمة بكلّ شي ء، و

يعتمد على اللَّه الّذي بإمكانه أن يحلّ له جميع المشكلات و يسهل عليه ما عسر من الصعوبات، فإنّ أوّل أثر إيجابي يخلقه التوكل في واقع الإنسان هو أن يثير في نفسه مسألة الاعتماد على الذات و مقاومة المشكلات و الوقوف على قدميه أمام سيل الحوادث الكبيرة في حركة الحياة.

و لو أنّ شخصاً وجد نفسه وحيداً في ميدان القتال مع الأعداء فإنه مهما كان قوياً و مستعداً للقتال فإنه سرعان ما يجد الضعف يدبّ في نفسه و يفقد اعتماده على نفسه، و لكن إذا أحسّ بأنّ جيشاً قوياً يدعمه من الخلف فإنه سيشعر بالقدرة الفائقة و الشجاعة رغم عدم امتلاكه لأدوات القوّة و رغم ضعفه الذاتي.

و قد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في الأحاديث الإسلامية أيضاً، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «كَيْفَ اخَافُ وَ انْتَ امَلِي وَ كَيْفَ اضَامُ وَ انْتَ مُتَّكَلِي» «1».

و في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَا يُغْلَبُ، وَ مَنْ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ لَا يُهْزَمُ» «2».

أجل فكلّ إنسان يتوكل على اللَّه فإنه يعيش الغنى و عدم الحاجة و يشعر بالعزّة و الكرامة كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «انَّ الْغِنَى وَ الْعِزَّ يَجُولَانِ فَاذَا ظَفَرَا

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 91، ص 229.

(2). ميزان الحكمة، ج 4، ص 3659، ح 22547.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 252

بِمَوْضِعِ التَّوَكُّلِ اوْطَنَا» «1».

و مضافاً إلى ذلك فإنّ التوكل يُبعد عن الإنسان كثير من الصفات الرذيلة من قبيل الحرص و الحسد و حبّ الدنيا و البخل و غير ذلك، لأنّه عند ما يفوض الإنسان أمره إلى اللَّه تعالى و يعلم انه القادر على كلّ

شي ء و العالم بحاجته و فقره فإنه سوف لا يبقى أثر لهذه الحالات السلبية في واقعه و نفسه.

فعند ما يقرأ المؤمن هذه الآية الشريفة: «وَ مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» «2» يجد نفسه غارقاً في أسر التوفيق و غير محتاج إلى أيّ إنسان، كما ورد في بعض الأدعية قوله: «اللَّهُمَّ اغْنِنِي بِالْيَقِينِ وَ اكْفِنِي بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ» «3».

و من جهة رابعة فإنّ التوكل يزرع في قلب الإنسان نور الأمل الّذي بإمكانه أن يمنح الإنسان القدرة و القوّة في حركته و يذهب عنه عنصر التعب المسلط عليه، و يشعر بالاستقرار و الهدوء النفسي في كلّ الأحوال، و لذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام في كلام مختصر و عميق المعنى «لَيْسَ لِمُتَوَكِّلٍ عَنَاءُ» «4».

و من جهة خامسة فإنّ التوكل على اللَّه يزيد من ذكاء الإنسان و قدرة الذهن على التفكير الخلّاب، و يفتح آفاقه المعرفية، فيرى الأشياء من موقع الوضوح في الرؤية، لأنّه و مع غضّ النظر عن البركات المعنوية لهذه الفضيلة الأخلاقية فإنّ التوكل يتسبب في أنّ الإنسان لا يجد في نفسه قلقاً و اضطراباً مقابل المشكلات الّتي تفرزها الظروف الصعبة في حركة الواقع، و بذلك تحفظ له قدرته على التصميم الجدّي و الهادف الّذي ينطلق من موقع التفكير المتّزن بحيث يجد طريق الحلّ أمامه بسهولة.

و من ذلك نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 68، ص 126.

(2). سورة الطلاق، الآية 3.

(3). بحار الأنوار، ج 87، ص 14.

(4). شرح غرر الحكم، ج 5، ص 72، ح 7451.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 253

اضَاءَتْ لَهُ الشُّبُهَاتِ وَ كَفَى الْمَؤُونَاتِ وَ امِنَ التَّبِعَاتِ» «1».

3- أسباب التوكل

إن التوكل كسائر

الفضائل الأخلاقية له أسباب و دوافع عديدة، و يمكن القول أنّ أهمّ الأسباب و العوامل الّتي تمثل البنى التحتية لصرح التوكل هو الإيمان و اليقين بالذات المقدسة و المعرفة بصفات الجمال و الجلال الإلهية.

عند ما يقف الإنسان على قدرة اللَّه و علمه الواسع من موقع الوضوح و الإدراك التام و أنّ جميع المخلوقات في عالم الوجود ما هي إلّا أدوات مسخرة للقدرة الإلهية المطلقة، و يدرك جيداً مفهوم «لَا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ الَّا اللَّه»، فإنه يرى نفسه و قلبه معلّقاً بهذا الواقع الغيبي، و يرى عالم الوجود ميدان واسع للألطاف الإلهية العظيمة، و من هذا المنطلق يجد في نفسه حالة التوكل على اللَّه تعالى و يفوض أمره إليه و يطرق بابه في الأزمات و الشدائد و المشكلات الّتي تواجهه في واقع الحياة، و يطلب منه أن يعينه في حلّها و التغلب عليها (مع اقتران ذلك بسعيه و عمله).

و بعبارة اخرى إن التوكل هو ثمرة لشجرة (التوحيد الأفعالي) هذه الشجرة المباركة الّتي أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربها، و من أهم ما يتناول الإنسان منها هو ثمرة التوكل.

و قد أشارت الآيات القرآنية و الأحاديث الإسلامية كراراً إلى هذه العبارة الشريفة، و من ذلك انها وردت في سبع آيات من القرآن الكريم و هي: «وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

أي إن الإنسان الّذي يعيش الإيمان يجب عليه أن يتوكل على اللَّه فقط، و هذه العبارة تبين جيداً الرابطة الوثيقة بين الإيمان و التوكل.

و يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام «التَّوَكُّلُ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ» «2».

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ج 5، ص 414، ح 8985.

(2). غرر الحكم، ح 699.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص:

254

و يقول في حديث آخر: «اقْوَى النَّاسُ ايمَاناً اكْثَرُهُمْ تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ» «1».

و قد ورد في الحديث الشريف عن الأصبغ ابن نباتة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في ما يقرأه الإنسان في سجوده يقول: «وَ اتَوَكَّلُ عَلَيْكَ تَوَكُّلَ مَنْ يَعْلَمُ انَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٍ» «2».

و ممّا يجدر ذكره أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الخوف و الجبن ليسوا من أهل التوكل، لأن التوكل على اللَّه يُزيل من روح الإنسان و نفسه ظلمة الخوف و الجبن و يمنحه الشجاعة و الشهامة في التصدي لمعالجة الظروف الصعبة.

عند ما نتأمل جيداً في هذه المسألة يتضح لنا دور اليقين و الإيمان بصورة أكبر في منح الإنسان عنصر التوكل و تطهير نفسه من شوائب الخوف و الجبن، لأنّه كلّما كان إيمان الفرد أقوى و أشد ابتعد عنه الخوف و الجبن مسافات أكبر.

و لا ينبغي إهمال هذه الملاحظة، و هي أنّ مطالعة معطيات التوكل و التدبر في آثاره الإيجابية و قراءة حالات المتوكلين على اللَّه و تاريخ حياتهم بإمكانه أن يورث الإنسان روح التوكل على اللَّه و يقوي في وجوده و قلبه هذه الشجرة الطيبة المثمرة.

4- درجات التوكل

رأينا ممّا تقدّم من البحوث السابقة السبب الّذي يدفع بعض الناس لأن يعيشوا التوكل في مرتبته الشديدة و البعض الآخر في مرتبة أدنى حيث تبين لنا أنّ التوكل هو وليد الإيمان، و كلّما اشتد إيمان الفرد باللَّه تعالى و صفاته و اسمائه الحسنى فإنّ ذلك من شأنه أن يزيد من نسبة توكله بهذا المقدار، فالتوكل الّذي كان يعيشه إبراهيم كان وليد إيمانه الراسخ، و كذلك التوكل العجيب لأمير المؤمنين عليه السلام الّذي تجلّى في (ليلة المبيت) (الليلة الّتي نام فيها أمير المؤمنين عليه

السلام في فراش النبي صلى الله عليه و آله و هاجر فيها النبي إلى المدينة). كذلك وليد إيمانه القوي و الراسخ، و هذه الحالات من التوكل نجدها لدى المؤمنين في مراتب متوسطة أو أقل ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 3150.

(2). بحار الأنوار، ج 83، ص 227.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 255

من ذلك بنسبة إيمانهم باللَّه تعالى.

و قد سأل شخص الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن مفهوم هذه الآية: «وَ مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»

فقال له الإمام عليه السلام: «لِلتّوَكُّلِ دَرَجَاتٌ» ثمّ أضاف: «مِنْهَا انْ تَثِقَ بِهِ فِي امْرِكَ كُلِّهِ فِي مَا فَعَلَ بِكَ فَمَا فَعَلَ بِكَ كُنْتَ رَاضِياً وَ تَعْلَمَ انَّهُ لَمْ يَأْلُكَ خَيْراً وَ نَظَراً، وَ تَعْلَمَ انَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ لَهُ، فَتَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ بِتَفْويِضِ ذَلِكَ الِيْهِ» «1».

و قد ذكر بعض علماء الأخلاق للتوكل ثلاث مراتب:

الاولى: أن يعيش الإنسان الاعتماد و الاطمئنان و الثقة باللَّه تعالى كما يطمئن الإنسان و يثق بوكيله عند ما يجده لائقاً و مخلصاً فيفوض اموره إليه (دون أن يفقد اصالته و استقلاله بهذا الاعتماد و الثقة) و هذه هي أضعف مراتب التوكل.

الثانية: أن يكون حاله في اعتماده على اللَّه و ثقته بنفسه كحال الطفل بالنسبة لُامّه، فالطفل في بداية الأمر لا يرى شيئاً سوى امّه و لا يعتمد على غيرها إطلاقاً، فما أن يراها حتّى يتعلق بها، و عند ما يجد نفسه لوحده فإنه بمجرد أن يصيبه شي ء أو حادثة فإنه يطلب امّه فوراً و يبكي أيضاً في طلبها.

و لا شكّ أنّ هذه المرتبة من التوكل أعلى من السابقة، لأن الإنسان في هذه الحالة يجد نفسه غارقاً في تجليات الحقّ و لا يرى أحداً غيره و لا

يطلب من أيّ أحد حلّ مشكلاته إلّا من اللَّه تعالى.

المرتبة الثالثة: و هي بدورها أعلى من المرتبة الثانية في سُلّم الكمال المعنوي، و هي أن يجد الإنسان نفسه عديم الإرادة و الاختيار، فكلّما أراد منه اللَّه شيئاً و رضي به كان رضاه بذلك الشي ء و تعلّقت إرادته بذلك الشي ء أيضاً، و كلّما عَلِم أنّ اللَّه لا يريد ذلك الشي ء فإنه لا يُريده أيضاً.

بعض العلماء يرى أن توكل إبراهيم عليه السلام كان يحكي عن هذه المرتبة الثالثة، عند ما

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 75، ص 336.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 256

وضعوه في المنجنيق و أرادوا قذفه في النار المهيبة، و لكنه مع ذلك لم يطلب شيئاً من الملائكة على مستوى انقاذه من الهلكة، و عند ما قالت له الملائكة: هل لك حاجة؟ قال: لي حاجة و لكن ليست إليكم، و عند ما قيل له: اطلب حاجتك من اللَّه لينقذك من هذه النار المحرقة، فقال: «حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي» «1».

و هذه الدرجة العالية من التوكل يندر وجودها بين الناس، و هي من خواص مقام الصديقين الّذين يعيشون الذوبان و العشق للذات المقدسة و الغرق في صفات جماله و جلاله.

5- طرق تحصيل التوكل

لقد ذكر علماء الأخلاق طرقاً للتوصل إلى حالة التوكل و كلّ منها بمثابة عامل مؤثر لاكتساب هذه الفضيلة الأخلاقية الكبيرة، و من ذلك: التوجه إلى حالة (التوحيد الأفعالي) و أن يعلم الإنسان يقيناً بأن كلّ شي ء في عالم الوجود متصلًا بذاته المقدسة و مرتبط بها و أنّ اللَّه تعالى هو مصدر عالم الوجود و العلّة التامة لوجوده و وجود الكائنات و انه مسبّب الأسباب، فلا مؤثر في الوجود إلّا بأمره و كلّ المخلوقات إنما تقتات من صفات مائدة

فضله و رحمته و كرمه.

فبعد التأمل و التدبر في هذه الامور يعود ينظر إلى حالاته الذاتية ليرى كيف أنّ اللَّه تعالى اخرجه من صقع العدم و الظلمة إلى نور الوجود و ألبسه رداء الوجود و منحه كلّ تلك القوى و المواهب الكثيرة المادية و المعنوية و رعاه عند ما كان في رحم امّه في (ظلمات ثلاث) حيث لم تكن تصل إليه يد إنسان، و مع ذلك فإنه كان يتقلب في نعمة اللَّه و فضله و لم يحتج إلى شي ء إلّا و أنعم اللَّه به عليه.

و بعد أن خرج من عالم الرحم إلى فضاء هذه الدنيا فإنّ اللَّه تعالى وهب له كلّما يحتاجه من شرائط الحياة و ما يفتقر إليه في بقائه و سلامته، من لبن الامّ إلى محبتها و رعايتها و السهر

______________________________

(1). اقتباس من معراج السعادة، ص 786.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 257

عليه و دفع الخطر عنه و أمثال ذلك.

لقد وهب له اللَّه تعالى معرفة كيف يرتضع من صدر امّه و هداه إلى معرفة الطريق إلى تفعيل عواطفها و تسيير محبتها و حنانها تجاهه بحيث جعلها تخدمه ليل نهار في حين انها لا تجد في نفسها التعب من ذلك بل تحسّ باللّذة و تشعر بالرضا بهذه الخدمة الشاقة و المتواصلة.

و عند ما بلغ به العمر سنّ الرشد تواترت عليه نعم اللَّه و مواهبه المختلفة من السماء و الأرض و اغرقته في ألطافه و عناياته اللامتناهية.

أجل عند ما يتفكر الإنسان بكلّ هذه الامور يتبين له جيداً أنّ كلّ شي ء في عالم الوجود خاضع و مطيع للَّه تعالى، و ينبغي عليه أن يفوض جميع اموره إلى الذات المقدسة و يتوكل عليه كما هو مضمون الآية الشريفة: «وَ

إِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «1».

إن الإيمان الراسخ بهذه الحقائق بإمكانه أن يوصل الإنسان إلى مرتبة (التوكل) و يصعد به في هذه الصفة الكمالية إلى مراتب اخرَى و يجعله في زمرة المتوكلين الحقيقيين.

______________________________

(1). سورة يونس، الآية 107.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 258

13 و 14

الشهوة و العفاف

تنويه:

«الشهوة» في اللغة لها مفهوم عام يطلق على جميع اشكال الرغبات النفسانية و الميل إلى التمتع و اللّذة المادية و أحياناً تطلق كلمة الشهوة على العلاقة الشديدة بأمرٍ من الامور المادية.

إن مفهوم الشهوة مضافاً إلى المفهوم العام يطلق أيضاً على خصوص «الشهوة الجنسية»، و أما في القرآن الكريم فنلاحظ أنّ مفردة «الشهوة» استعملت بالمعنى العام و بالمعنى الخاص، و في هذا البحث فإنّ مقصودنا من هذه الكلمة هو المعنى الخاص لأن تأثيراتها المخربة و المدمرة أكثر من سائر أشكال الرغبات الجسدية الاخرى.

«الشهوة» تقع في مقابل «العِفة» و العفة أيضاً لها مفهوم عام و مفهوم خاصّ، فاما المفهوم العام هو ضبط النفس في مقابل الرغبات و الميول النفسانية و الأفراط في اتباعها، و اما المفهوم الخاصّ فهو ضبط النفس في مقابل متطلبات الغريزة الجنسية و التحلل الأخلاقي.

«العفة» تعتبر من الفضائل الأخلاقية المهمة الّتي تساهم في ترشيد و تكامل المجتمعات البشرية بعكس الشهوة الّتي تقع في مقابلها و الّتي يوجب اتباعها سقوط الفرد أخلاقياً و انحطاط المجتمع في حركته الحضارية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 260

الاخلاق فى القرآن ج 2 279

إن التحقيقات التاريخية تشير إلى أنّ المجتمعات الّتي كانت تتمتع بمقدار كافٍ من العفة كانت تتمتع بطاقات و قدرات حضارية و إنسانية

و تعيش حالة من التقدّم و التكامل على المستوى الفردي و الاجتماعي و تعيش الأمن و الهدوء و الاستقرار في مستويات عالية، و لكن و بعكس ذلك الأشخاص أو المجتمعات الّتي كانت غارقة في مستنقع الشهوات فإنّها فقدت طاقاتها البنّاءة و قواها الحيوية و بالتالي أضحت مستسلمة لتداعيات قوى الإنحراف و السقوط الحضاري.

و طبقاً لنظر الحقوقيين فإنّ «الشهوة الجنسية» تعتبر دعامة رئيسية في التورط في الجريمة و العدوان إلى درجة أنّه قيل: إنّ في كلّ جريمة هناك عنصر «الشهوة الجنسية»، و لعلّ هذا التعبير مبالغٌ فيه، و لكن الحقيقة أنّ طغيان «الغريزة الجنسية» و طلب الشهوة يعتبر منشأً و مصدراً للكثير من الجرائم و الانحرافات الفردية و الاجتماعية، فقد سفكت بسببها الكثير من الدماء و اتلفت الكثير من الأموال و الثروات، و تم تسريب الكثير من الأسرار المهمة للحكومات و الدول بواسطة النساء الجاسوسات من خلال استخدامهن لعنصر الجمال و الجاذبية الجنسية، و بالتالي كانت هذه الغريزة هي السبب في التورط في الفضائح الأخلاقية على مستوى الشخصيات و الدول.

و من خلال الآيات و الروايات الشريفة، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة، و هي أنّ «الشهوة الجنسية» تعتبر إحدى الوسائل و الأدوات المهمة للشيطان، و نجد في القرآن الكريم اشارات متعددة لمفهوم العفة و الشهوة في موارد مختلفة، و فيما يلي بعض الآيات الكريمة الّتي تستنطق هذا المفهوم القرآني:

1- «فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ وَ اتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا* إِلَّا مَن تَابَ وَ ءَامَنَ وَ عَمِلَ صَالِحًا فَأوْلَئكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا» «1»

2- «وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيًما» «2».

______________________________

(1). سورة مريم، الآية 59

و 60.

(2). سورة النساء، الآية 27.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 261

3- «وَ لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ* أَ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «1».

4- «وَ لَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَ قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ* وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِئَاتِ قَالَ يا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَ لَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَ لَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ* قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَالَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ* قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ* قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَنْ يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ وَ لَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ* فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَلِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنضُودٍ* مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَ مَا هِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» «2».

5- «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ* إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا ءَالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ» «3».

6- «وَ لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ* وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ* فَأَنجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ* وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ» «4».

______________________________

(1). سورة العنكبوت، الآية 28

و 29.

(2). سورة هود، الآية 77- 83.

(3). سورة القمر، الآية 33 و 34.

(4). سورة الأعراف، الآية 80- 84.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 262

تفسير و استنتاج:

آثار اتباع الشهوات في التاريخ البشري

«الآية الاولى بعد أن تذكر أسماء بعض الأنبياء الإلهيين و تستعرض صفاتهم الكريمة و خصالهم الحميدة تقول: «فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ وَ اتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» «1».

و هنا تستثني الآية المذكورة فوراً بعض الأشخاص الّذين يحملون صفات متميزة و تقول: «إِلَّا مَن تَابَ وَ ءَامَنَ وَ عَمِلَ صَالِحًا فَأوْلَئكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا» «2».

و الجدير بالذكر أنّ الآية محل البحث تتحدّث عن اتباع «الشهوات» بعد مسألة إضاعة الصلاة و تتبعها حالة الضلال و الغي، و يمكن أن نستوحي من هذه العبارة انها تشير من جهة إلى أنّ الصلاة تعد عاملًا مهماً في الحدّ من طغيان الشهوات و بالتالي العمل على تقويم سلوك الإنسان في طريق الحقّ و الانفتاح على اللَّه بعيداً عن اشكال الإنحراف الأخلاقي و افرازات الأهواء النفسانية، و كما جاء في الآية 45 من سورة العنكبوت:

«... انّ الصَّلَوةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ وَ المُنْكَرِ» و من جهة اخرى تشير الآية إلى أنّ عاقبة «اتباع الشهوة» هي الضلال و الانحراف، كما نجد ذلك في الآية 10 من سورة الروم: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءوا السُّوأَى أن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ».

أجل أنّ عاقبة هؤلاء هي الضلالة و الزيغ و ما يستتبع ذلك من النتائج الوخيمة، أي الغضب الإلهي و العقاب الاليم في الآخرة.

و معلوم أنّ «الشهوات» في الآية محل البحث لها مفهوم واسع و لا تنحصر في «الشهوة الجنسية»، بل تستوعب في مفهومها كلّ أشكال الميول النفسانية و النوازع الدنيوية و الأهواء الشيطانية، و

طبعاً فإنّ الأشخاص الّذين تابوا من بعد ذلك و استدركوا تورطهم في الذنوب بالعمل الصالح و تحركوا على مستوى تقوية إيمانهم القلبي الّذي تعرض للاهتزاز بسبب ______________________________

(1). سورة مريم، الآية 59.

(2). سورة مريم، الآية 60.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 263

الولوغ في الخطيئة فإنّ عاقبتهم أنّهم سيكونون من أهل الجنّة بعد تطهير قلوبهم من الآثار السلبية لاضاعة الصلاة و اتباع الشهوات.

«الآية الثانية» و ضمن بيان التقابل بين «الرجوع إلى اللَّه» و «اتباع الشهوات»، و الإشارة إلى أنّ هذين المفهومين لا يلتقيان في الإنسان في جهة واحدة بل يسيران به في جهتين مختلفتين تقول: «وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيًما» «1».

أجل فالأشخاص الّذين غرقوا في وحول الخطايا و الشهوات يريدون أن يورطوا الآخرين في الخطيئة و ممارسة الاثم ليكونوا من أمثالهم و يتلوثوا بالذنوب، في حين أنّ اللَّه تعالى يريد للناس الطهر و النقاء القلبي بتركهم الشهوات و بعودتهم إلى اللَّه، و بالتالي لينالوا المعرفة و الصفاء و التقوى و السعادة الدائمة، و يقول الأعاظم من المفسّرين أنّ المراد من «الميل العظيم» هو هتك الحدود الإلهية و التلوث بأنواع الذنوب و الخطايا، و البعض منهم يرى أنّ المقصود منها هو نكاح المحارم و أمثال ذلك الّتي ورد النهي عنها في الآية السابقة و الّتي هي في الواقع أحد مصاديق المفهوم أعلاه.

و الجدير بالذكر أنّ اتباع الشهوات الوارد في الآية الكريمة يمكن أن يكون له مفهوم عام، و كذلك يمكن أن يكون إشارة إلى الشهوة الجنسية بالخصوص، لأن هذه الآية وردت بعد آيات تحدثت عن حرمة نكاح المحارم و النساء المحصنات و الجواري و البغايا من الجواري، و على

أي حال فإنّ هذه الآية تقرر حقيقة مهمة في هذا المجال، و هي أن طريق «اتباع الشهوات» تتقاطع تماماً مع طريق «الانفتاح على اللَّه».

الآيات الثالثة و الرابعة و الخامسة و السادسة من الآيات محل البحث تتحدّث عن قصة قوم لوط و تورطهم في إنحراف أخلاقي في دائرة الغريزة الجنسية، فالشهوة هنا امتزجت مع انحرافات جنسية كثيرة على طول التاريخ، و في كلّ آية من هذه الآيات الكريمة هناك نكتة

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 27.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 264

خاصّة تشير إليها الآية القرآنية حيث نستعرضها و نشير إلى هذا المضمون الكامن فيها:

«الآية الثالثة» تتحدّث عن النبي لوط و تستعرض خطابه لقومه في اطار التوبيخ الشديد حيث تقول: «وَ لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ» «1».

«الفاحشة» كلمة تطلق على كلّ عمل قبيح جداً، رغم أنّ المتعارف في المفهوم منها هو «الفحشاء الجنسي»، و الآية الكريمة تشير إلى أنّ هذه الفاحشة قد بدأت من قوم لوط و أنّ إتيان المذكر أو ما يعبر عنه باللواط لم يكن قبل ذلك متداولًا في المجتمعات البشرية.

و يستمر لوط في التحدث مع قومه بلسان الذم و التقريع و يقول: «أَ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ...» «2».

في هذه الآية نجد انها تشير إلى أحد العلل و الأسباب لتحريم «اللواط» ألا و هو ظاهرة انقطاع النسل، لأنّه لو تصورنا سريان هذا السلوك المنحرف إلى جميع أفراد المجتمع فإنّ هناك خطر انقطاع النسل البشري، و سوف تعيش الإنسانية حالة التهديد بالفناء و الاندثار.

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة «وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» المذكورة في الآية أعلاه هي إشارة إلى عمل السرقة

و قطع الطريق الّذي كان يمارسه قوم لوط، و بعض ذهب انها إشارة إلى التعرض الجنسي للآخرين و للمارة الّذين كانوا يمرون في طريقهم.

«نادي» من مادّة «ندى» بمعنى المجلس العام أو مجلس التفريح و الترفيه حيث يتنادى الناس فيه و ينادي بعضهم الآخر في مثل هذه المجالس.

و بالرغم من أنّ القرآن الكريم لم يذكر أنّ قوم لوط في مجالسهم الترفيهية هذه ما ذا كانوا يرتكبون من منكرات اخرى، و لكن من الواضح أنّ أعمالهم الاخرى كانت متناغمة مع عملهم الشنيع هذا، و قد ورد في الروايات الشريفة أنّهم كانوا يخلعون ملابسهم أمام ______________________________

(1). سورة العنكبوت، الآية 28.

(2). سورة العنكبوت، الآية 29.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 265

الآخرين و يمارسون حالة التعري و التلفظ بالألفاظ الموهنة و الركيكة و يتحدّثون بالكلمات القبيحة في ما بينهم و يقومون بأعمال وقحة و ممارسات قبيحة يخجل القلم عن ذكرها.

قوم لوط هؤلاء كانوا قد غرقوا في مستنقع الشهوة إلى درجة أنّهم أخذوا يستهزئون بالقيم الأخلاقية و المثل الإنسانية، و لهذا السبب فعند ما سمعوا كلام لوط تعجبوا من ذلك و أنكروا عليه هذا التوبيخ و الذنب لأفعالهم و قالوا له كما تقول الآية: «... فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «1».

و بهذا فإنّهم استهزؤا بعذاب اللَّه و سخروا من كلام النبي لوط.

و في «الآية الرابعة» من الآيات محل البحث نجد إشارة إلى جانب آخر من قصة قوم لوط حيث تتحرك الآية لبيان حادثة الضيوف الإلهيين الّذين نزلوا بمهمة انزال العذاب في قوم لوط و جاءوا على شكل شباب ذي وجوهٍ مليحة و جميلة إلى النبي لوط عليه السلام الّذي لم يكن يعرفهم، و

لهذا أبدى خوفه و انزعاجه لهذه الضيافة لما يعلم من سوء نية قومه اتجاه الغلمان و الشبان فتقول الآية «وَ لَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَ قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ» «2».

و في هذه الاثناء تسامع قوم لوط بالخبر فأرادوا السوء بهؤلاء الضيوف الكرام: «وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِئَاتِ ...» «3».

فلمّا رأى لوط ذلك منهم تألم بشدة لهذا الموقف المخزي من قومه تجاه ضيوفه و أراد التخلص منهم بشتى الطرق، و منها انه عرض على هؤلاء الأشرار و بايثار عجيب بناته ليتم الحجّة عليهم و يكفوا عن ممارساتهم الشنيعة: «قَالَ يا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ______________________________

(1). سورة العنكبوت، الآية 29.

(2). سورة هود، الآية 77.

(3). سورة هود، الآية 78.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 266

فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَ لَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَ لَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ» «1».

إن هؤلاء الأشرار أجابوه بمنتهى الوقاحة «قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَالَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ» «2».

أي انك تعلم إننا لا نحب مقاربة النساء و تعلم انحرافنا عن هذا المسلك الطبيعي في إشباع الغريزة.

و عند ما رأى لوط هذه الوقاحة من قومه و تملكه اليأس من إصلاحهم أو دفعهم عن ضيوفه نادى من صميم قلبه و وجوده: «قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» «3».

أي يا ليتني كنت امتلك القوّة لأُريكم جزاء عملكم الشنيع هذا أو أنّ لي عشيرة و اتباع أقوياء يعينونني على دفعكم عن ضيوفي ..

و تتحرك الآيات في هذا السياق لتبين أنّ هؤلاء الضيوف الكرام اخبروا لوطاً بأنّهم رسل اللَّه لإنزال العذاب على قومه و أنّهم مانعوه عن إيذاء

قومه و عن أي تحرك عدواني اتجاهه و اتجاه ضيوفه، و أخبروه أنّ العذاب نازل على قومه حتماً غداً صباحاً، و سوف لا يفلت أحد منهم من هذا العذاب الإليم و العقاب المخيف حيث ستنقلب مدينتهم رأساً على عقب و تمطر السماء عليهم حجارةً من سجيل، و حين ذاك امروا لوطاً بالخروج مع أهلهِ من هذه القرية باستثناء زوجته الّتي كانت مداهنة مع الأشرار و يتركوا مدينتهم إلى حيث ينجوا بأنفسهم من العذاب الإلهي.

«الآية الخامسة» من الآيات محل البحث و ضمن الإشارة إلى إنزال العذاب الإلهي على قوم لوط بسبب أعمالهم الشنيعة تقول: «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ* إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ ______________________________

(1). سورة هود، الآية 78.

(2). سورة هود، الآية 79.

(3). سورة هود، الآية 80.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 267

حَاصِبًا إِلَّا ءَالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ» «1».

و هكذا تم اهلاك هؤلاء القوم الظالمين و إنقاذ آل لوط من هذا العذاب الإلهي المقيم و طبعاً باستثناء زوجته الخائنة الّتي شملها العذاب مع قوم لوط.

و بالطبع كما ذكر في هذه الآية كان يمثل قسماً من العذاب الإلهي على هؤلاء الأشرار، لأن القرآن الكريم يقول في آية اخرى: «فَلَمَّا جَاءَ امْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ...» «2».

أي أنّ الزلزلة الّتي أصابتهم لم تدع لهم بناءاً و لا أرضاً إلّا قلبته رأساً على عقب ثمّ يقول:

«وَ امْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِن سِجّيلٍ مَنْضُودٍ» «3».

هذا المطر من الحجارة يمكن أن يكون قسماً من الشهب المتناثرة في الفضاء حيث نزلت هذه الشهب و النيازك بأمر من اللَّه على اطلال هذه المدينة و أجساد أهلها المتناثرة.

و هناك احتمال آخر في معنى هذه الجملة، و هو أنّ كلمة «حاصب» تعني العاصفة من الرمل حيث تنقل الرياح العاتية في

الصحراء كثبان الرمل من منطقة إلى اخرى فتظهر في منطقة من الصحراء تلال من الرمل لم تكن موجودة قبل ذلك، بل تتكون فجأة من خلال مطر من الرمال و الحجارة الّتي تحملها العاصفة الرملية بحيث تدفن معها قرى كاملة، و أحياناً تدفن تحتها قافلة من القوافل التجارية الّتي تجوب الصحراء.

و الجدير بالذكر أنّ هذه العواصف الرملية أو أمطار الحجارة قد تحدث بين الفينة و الاخرى في عالم الطبيعة، و لكن هذه المرة حدثت هذه العاصفة الرملية بأمر من اللَّه تعالى بوقتٍ مخصوص و مكان معين كما أخبر بذلك ملائكة اللَّه الّذين ارسلوا إلى نبي لوط عليه السلام.

و يوجد احتمال آخر في هذا الصدد، و هو انه من الممكن أن تكون الزلزلة الشديدة قد أصابت هذه المدن و القرى و دمرتها عن آخرها ثمّ نزل عليهم مطر الحجارة السماوية، ثمّ ______________________________

(1). سورة القمر، الآية 33 و 34.

(2). سورة هود، الآية 82.

(3). سورة هود، الآية 82.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 268

حلت بهم العاصفة الرملية لتمحوا آثارهم و تفني ما تبقى من وجودهم، و هذا العذاب الإلهي بهذه المراحل الثلاثة الشديدة يبين غضب اللَّه تعالى على هؤلاء القوم الظالمين.

«الآية السادسة» و الأخيرة في هذه الآيات و ضمن الإشارة الموجزة إلى قصة قوم لوط من بدايتها إلى منتهاها تقول: «وَ لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ» «1».

أجل، فإنكم تأتون الذكور لاشباع غريزتكم الجنسية دون النساء، و لذلك فأنتم منحرفون عن السبيل القويم لأنكم تركتم القوانين و المقررات الطبيعية و السنن الإلهية لاشباع الغريزة و سلكتم مسلك الإنحراف و الزيغ الّذي من شأنه أن يؤدي إلى انقطاع النسل و اشاعة أنواع المفاسد

الاجتماعية و الأمراض التناسلية، و رغم أن مرض «الايدز» الموحش يعتبر أحد الأمراض العصرية الّذي اكتشف مؤخراً، و لكن لا يبعد أن يكون هذا المرض موجوداً من ذلك الزمان أيضاً و قد اصيب به بعض هؤلاء الأشرار من قوم لوط، و لهذا السبب فإنّ اللَّه تعالى بحكمته و رحمته قد دفن أجسادهم تحت كثبان الرمل و الحجارة ليكون ذلك عبرة للآخرين من جهة، و نعمة للناس من جهة اخرى لمنع انتشار و سراية هذا المرض إلى أنحاء اخرى من المعمورة.

و على أي حال فإنّ هؤلاء القوم المجرمين كانوا على درجة من الوقاحة و عدم الحياء بحيث أنّهم مضافاً إلى عدم اصغائهم لكلمات لوط عليه السلام، أرادوا إخراجه مع أهله من مدينتهم بتهمة الطهر و النقاء حيث تتحدّث الآية القرآنية في هذا السياق عن موقفهم المخزي هذا و تقول: «وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» «2».

و لكن اللَّه تعالى يحكي لنا عاقبة قوم لوط هؤلاء و مصير نبيّهم الكريم حيث يقول:

«فَأَنجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ* وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ ______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 80.

(2). سورة الأعراف، الآية 82.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 269

عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ» «1».

أجل، إن هؤلاء كانوا قد غرقوا في وحول الخطيئة و تلوثوا بأدران الإثم إلى درجة أنّهم كانوا يعتبرون أنّ الطهر و النقاء من الإثم و الذنب اثماً و خطيئة بحد ذاته، و لهذا كانوا يرون إنزال العقوبة على الأبرياء و الطاهرين من الناس بتهمة الطهر و عدم التلوث بالمعاصي و يحكمون عليهم بالنفي إلى مناطق بعيدة و يخرجوهم من بيوتهم و لكن العذاب الإلهي كان لهم بالمرصاد، و

قد حلّ بهم قبل أن يطبقوا أحكامهم المزرية على لوط و أهله.

إن القسم المهم من هذه الآيات و ضمن بيان العاقبة المخزية لاتباع الأهواء و الشهوات بالمعنى و المفهوم العام و الخاصّ يشير إلى أنّ هذا العمل الشنيع يعد منبعاً للكثير من الذنوب و الممارسات الخاطئة الّتي تورث الفرد و المجتمع الانحطاط و السقوط الأخلاقي و الاجتماعي و تذُم و تُشنع على من يمارسون هذه الخطيئة.

اتباع الشهوات في الروايات الإسلامية:

لقد أولت الأحاديث و الروايات الإسلامية هذه المسألة اهتماماً كبيراً حيث نجد أنّ الكثير من المصادر الروائية تشير إلى عواقب هذا الفعل الشنيع و تحذر الناس من افرازات مثل هذه الممارسات الخطرة على الصعيد الدنيوي و الاخروي بحيث يجد القاري ء نفسه متأثراً بشدة من عمق مدلول هذه الروايات الشريفة، فهي تقرر أنّ التلوث بالشهوات سواءً بمفهومها العام أو الخاص يعد من الموانع الأساسية الّتي تصد الإنسان عن سلوك طريق السعادة و الكمال، و كذلك من الأسباب المهمة لاشاعة الفحشاء و المنكر في المجتمعات البشرية، و فيما يلي نستعرض بعض هذه الروايات و الأحاديث الشريفة:

1- ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّماءِ مِن الَه يُعبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 83 و 84.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 270

اعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوىً مُتَّبِع» «1».

و بهذا يتضح أنّ اتباع الشهوة و هوى النفس يُعَدُّ من أخطر العوامل الّتي تقود الإنسان نحو منزلقات الخطيئة و الانحطاط الأخلاقي.

2- و يقول الإمام علي عليه السلام «الشَّهَوَاتُ سُمُومٌ قَاتِلاتٌ» «2» (حيث تقتل و تدمر شخصية الإنسان و ايمانه و مروته).

3- و جاء في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «الشَّهَوَاتُ مَصائِدُ الشَّيْطانِ»

«3» (حيث يصطاد الشيطان أفراد البشر بهذه الوسيلة بكلّ زمان و مكان و في جميع سنوات العمر).

4- و ورد أيضاً عن هذا الإمام عليه السلام قوله «امْنَعْ نَفْسَكَ مِنَ الشَّهَواتِ تَسْلَمْ مِنَ الآفاتِ» «4».

5- و جاء في حديث آخر عن الإمام «تَرْكُ الشَّهَوَاتِ افْضَلُ عِبَادَةٍ وَ اجْمَلُ عَادَةٍ» «5».

6- يقول الإمام الصادق عليه السلام «مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ اذا غَضِبَ وَ اذا رَغِبَ وَ اذَا رَهِبَ وَ اذا اشْتَهى حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ» «6».

7- يقول الإمام علي عليه السلام في حديث آخر «ضَادُّوا الشَّهْوَةَ مُضادَّةَ الضِّدِ ضِدَّهُ وَ حَارِبُوهَا مُحَارِبَةَ الْعَدُوِّ العَدُّوَ» «7».

و هذا الكلام يقرر بمنتهى الصراحة هذه الحقيقة و هي أن اتباع الشهوة يقع في الطريق المقابل للسعادة و الكمال الإنساني.

______________________________

(1). الدرّ المنثور، ج 6، ص 261 نقلًا من ميزان الحكمة، ج 4، ص 3478، رقم 21400.

(2). غرر الحكم، ح 876.

(3). غرر الحكم، ح 2121.

(4). غرر الحكم، ح 2440.

(5). غرر الحكم، ح 4527.

(6). بحار الأنوار، ج 75، ص 243.

(7). شرح غرر الحكم، ح 5934.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 271

عواقب اتباع الشهوة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام:

اما بالنسبة إلى عواقب اتباع الشهوات و الأهواء الشيطانية فقد وردت تعبيرات عميقة للأحاديث الإسلامية و نحن نكتفي في هذا المجال ببعض ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

1- يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام «اهْجُرُوا الشَّهَوَاتِ فَانَّهَا تَقودُكُمْ الى رُكُوبِ الذُّنُوبِ وَ الْتَهَجُّمِ عَلَى السَّيئاتِ» «1».

2- و في حديث آخر نجد أنّ هذه المسألة تشتد لعاقبة اتباع الشهوات أنّ الإنسان يخرج من الدين و الايمان كلياً فتقول الرواية «طَاعَةُ الشَّهْوَةِ تُفْسِدُ الدِّينَ» «2».

3- و يقول عليه السلام أيضاً: «طَاعَةُ الْهَوى تُفْسِدُ الْعَقلَ» «3».

4- «الْجَاهِلُ عَبْدُ شَهْوَتِهِ» «4» يعني إن الإنسان الجاهل

يكون كالعبد الذليل المطيع لشهواته و نوازعه الرخيصة فلا اختيار له و لا حرية في مقابلها.

5- و في حديث آخر «عَبْدُ الشَّهْوَةِ اسيرٌ لَا يَنْفَكُّ اسْرُهُ» «5»

6- و يُقرر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عاقبة اتباع الشهوة و انها تمثل الفضيحة و العار على صاحبها «حَلاوَةُ الشَّهْوَةِ يُنَغِّصُهَا عارُ الْفَضيحَةِ» «6».

7- و في حديث آخر يقرر الإمام عليه السلام أنّ الشهوة هي مفتاح جميع الشرور «سَبَبُ الشَّرِّ غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ» «7».

و نظراً إلى أنّ كلمة «الشر» وردت بالألف و اللام للجنس و ذكرت بشكل مطلق فانها تدلّ ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 2505.

(2). شرح غرر الحكم، ح 5985.

(3). شرح غرر الحكم، ح 5983.

(4). غرر الحكم، ح 449.

(5). غرر الحكم، ح 6300.

(6). غرر الحكم، ح 4885.

(7). شرح غرر الحكم، ح 5533.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 272

على العموم و أنّ اتباع الشهوة يمثل منبعاً لجميع الشرور و أنواع الشقاء.

8- و يشير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في حديث آخر إلى هذه الحقيقة و هي أنّ غلبة الأهواء و الشهوات على الإنسان تفضي إلى إيصاد سبيل السعادة و الهدى أمام الإنسان و يقول «كَيْفَ يَسْتَطيعُ الهُدى مَنْ يَغلِبُه الهَوى «1».

9- يقول هذا الإمام في حديث آخر مشيراً إلى أنّ غلبة الشهوات يؤدي إلى ضعف شخصية الإنسان فيقول «مَنْ زَادَت شَهْوَتُهُ قَلَّتْ مُرُوّتُهُ» «2».

10- و في حديث آخر يبين الإمام عليه السلام هذه الحقيقة و هي أن طريق الجنّة يقع في الجهة المقابلة لاتباع الشهوة فيقول «مَن اشْتَاقَ الَىَ الْجَنَّةِ سَلا عَنِ الشَّهَوَاتِ» «3».

11- و في رواية اخرى يُقرر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هذه الحقيقة، و هي أنّ الحكمة تتقاطع دائماً مع الشهوة في قلب الإنسان و يقول «لا

تَسْكُن الْحِكْمَةَ قَلْباً مَعَ شَهْوَةٍ» «4».

النتائج الوخيمة لاتباع الشهوة:

اشارة

و من خلال الأبحاث السابقة اتضح بأن «الشهوة» لها مفهوم عام و واسع بحيث يشمل كلّ رغبة و ميل نفساني يتيح للإنسان اللّذة، و بهذا لا تختص بالشهوة الجنسية رغم انها أحياناً وردت بمعنى الشهوه الجنسية بالخصوص.

و قد ورد هذا المفهوم في القرآن الكريم في أحد عشر مورداً بالمفهوم العام، و لكن يستفاد المفهوم الخاص في موردين، و أما في الروايات الإسلامية و كلمات علماء الأخلاق فقد وردت هذه الكلمة في الأغلب بمفهومها العام، و في مقابل مفردة «العفة» الّتي تعني الجام النفس و غض الطرف عن اللذائذ و الذنوب.

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ح 7001، ص 566.

(2). غرر الحكم، ح 8022.

(3). غرر الحكم، ح 8591.

(4). غرر الحكم، ح 10915.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 273

و قد ورد هذا المفهوم في النصوص الدينية في الأغلب بمعناه السلبي، و لكن أحياناً ورد بمعناه الإيجابي من قبيل قوله تعالى مخاطباً لأهل الجنّة «... وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ...» «1» أو يقول في مكان آخر «... وَ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ...» «2».

و على أي حال فإنّ هذه المفردة وردت في الأغلب بمعناه السلبي و الّذي يدلّ على الافراط في اتباع الأهواء و النوازع النفسانية و غلبة الميول المخربة و المفضية إلى الوقوع في الخطيئة و المعصية.

و هكذا نجد أنّ هذه المفردة و مشتقاتها قد وردت في ثلاثة عشر مورداً في القرآن الكريم، ستة موارد منها تحمل المفهوم الإيجابي عن هذه المفردة، و سبعة اخرى تحمل في مضمونها المعنى السلبي.

و على أي حال فإنّ «الشهوة» بأي معنىً كانت إذا قصد منها المفهوم الخاصّ فإنّها تستبطن الأفراط في اشباع الشهوة

و بالتالي يترتب عليها الآثار المخربة و النتائج الوخيمة المترتبة على هذا السلوك المفرط في طلب اللّذة، و قد مرّت الإشارة إلى هذه العواقب الوخيمة في الروايات و الأحاديث المذكورة آنفاً، و لا بدّ من الاذعان إلى أنّ مسيرة التاريخ مملوءة من هذه النتائج و العواقب الوخيمة للأفراط في اشباع الشهوات و يمكننا الإشارة إلى هذه العواقب بشكل مختصر في ما يلي:

1- التلوث بالذنب

إن طلب اللّذة و عبادة الشهوة يسوق الإنسان باتجاه منزلقات الإثم و ارتكاب أنواع الذنوب، و في الحقيقة انه يعد المصدر الأساس للذنب و معصية اللَّه تعالى لأن الشهوات إذا تغلبت على الإنسان فبإمكانها أن تعمي و تصم الإنسان عن رؤية المخاطر و يكون مصداقاً للحديث النبوي الشريف حبُّك للشَّي ء يُعمي و يُصم» «3» و بذلك تنقلب المفاهيم و الحقائق ______________________________

(1). سورة فصلت، الآية 31.

(2). سورة الزخرف، الآية 71.

(3). بحار الأنوار، ج 74، ص 165.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 274

لدى العقل فيصبح المعروف منكراً و المنكر معروفاً.

و لهذا السبب بالذات رأينا في الروايات السابقة الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام (الرواية الثامنة) أنّ الإمام عليه السلام يصرح متسائلًا «كَيْفَ يَسْتَطيعُ الهُدى مَنْ يَغلِبُه الهَوى «1».

و يشير الإمام عليه السلام في الحديث العاشر أيضاً إلى هذه الحقيقة و هي أنّ اتباع الشهوة يفسد شخصية الإنسان و يضعف مروئته، و كذلك قرأنا قوله في الحديث التاسع أنّ اتباع الشهوات بمثابة عبادة الوثن و بإمكانه أن يحطم إيمان الفرد و يتلف دينه، هذا و قد اورد المفسّرون و أرباب الحديث في ذيل الآيات 16 و 17 من سورة الحشر قصة العابد من بني إسرائيل و الذي يدعى «برصيصا» الّذي يُعَدُ شاهداً حيّاً على هذا المدعى

و لا بأس من استعراض هذه القصة النافعة رغم انها قد وردت في الكثير من الكتب المعروفة حيث نقل بعض المفسّرين أنّ رجلًا من بني إسرائيل يدعى «برصيصا» قد عبد اللَّه زماناً من الدهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم و يعوذهم فيبرؤون على يديه، و انه أُتي بامرأة قد جُنّت و كان لها أخوة فأتوه بها فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت، فلما استبان حملها قتلها و دفنها، فلما فعل ذهب الشيطان حتّى لقى أحد اخوتها فأخبره بالّذي فعل الراهب و انه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقية أخوتها، و هكذا انتشر الخبر فساروا إليه فاستنزلوه فأقرّ لهم بالّذي فعل، فأمر به فصلب، فلمّا رفع على خشبة تمثل له الشيطان فقال: أنا الّذي ألقيت في قلوب أهلها، و أنا الّذي أوقعتك في هذا، فأطعني فيما أقول أخلصك ممّا أنت فيه،

قال: نعم.

قال: اسجد لي سجدة واحدة.

فقال: كيف أسجد لك و أنا على هذه الحالة،

فقال: اكتفي منك بالإيماء، فأومى له بالسجود فكفر باللَّه و قتل. فهو قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ...».

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ح 7001، ص 566.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 275

نعم هكذا هو مصير من ابتلي بوسوسة الشيطان و سار في خطّه.

2- فساد العقل

إن اتباع الشهوات و الأهواء النفسانية يُلقي على عقل الإنسان و فكره حجاباً قائماً يمنعه من التمييز بين الحقّ و الباطل، و أكثر من ذلك حيث يقلب الحقّ في نظره إلى باطل و يجعل الباطل حقّاً، و قد قرأنا في الروايات السابقة قوله عليه السلام «طَاعَةُ الهَوى تُفْسِدُ الْعَقلَ» «1» و لهذا السبب فإنّ الكثير من طلاب الشهوة و اتباع الهوى بعد

ما يرتكبون الممارسات القبيحة و تهدأ في باطنهم سورة الشهوة و تخمد نار الهوى فإنّهم يعيشون حالة الندم الشديد على ما صدر منهم و أحياناً يتعجبون من أنفسهم على الحماقة الّتي ارتكبوها.

و في هذا الصدد نقرأ قول أمير المؤمنين عليه السلام «اذا ابْصَرَتِ الْعَينُ الشَّهْوَةَ عَمِىَ الْقَلْبُ عَنْ العَاقِبَةِ» «2».

3- تحقير شخصية الإنسان الاجتماعية

إن طلب الإنسان على اللّذة من شأنه أن يهدم شخصية الإنسان و يحطم كيانه و مكانته الاجتماعية و يسوقه إلى هاوية الذلّة و المسكنة، لأن مثل هذا الإنسان يسعى في تحقيق رغبته و ارضاء شهوته إلى تحطيم الاطر الاجتماعية و الثقافية السائدة في المجتمع و يرتكب الحماقات الّتي تفضي إلى أن يكون مهاناً و حقيراً في أنظار الناس، و من البديهي أنّ الإنسان الّذي يعيش احترام الذات و المروءة فإنه يشعر بنفسه على مفترق طرق عند اشتداد النوازع و الشهوات، فأما أن يرضخ لمتطلبات الشهوة و يذعن لتحديات الهوى، أو يحتفظ باحترامه لذاته و كيانه الاجتماعي بين الناس، و من العسير غالباً الجمع بين هذين الاتجاهين.

و في حديث ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «زيَادَةُ الشَّهْوَةِ تُزري بِالْمُرُوَّةِ» «3».

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ح 5983.

(2). شرح غرر الحكم، ح 4063.

(3). شرح غرر الحكم، ح 5507.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 276

4- اسر النفس

و أحد النتائج الوخيمة لاتباع الشهوات و الأهواء هو أنّ الإنسان يقع اسيراً لنوازع النفس و مقيداً بقيود الشهوة، فالإنسان الشهواني نجده يرزح تحت اغلال الشهوات إلى درجة أنّ الابتعاد عنها و كسر هذه القيود يضحى بالنسبة له أمراً قد يصل إلى درجة المحال أحياناً، و المثال الواضح على هذه الحقيقة هو ما نراه من الحياة التعيسة و الذليلة للمدمنين على المواد المخدرة، فإنّهم في ظاهر الحال أحرار، و لكنهم في الواقع أسرى العادة و الادمان الناشي ء من أتباعهم لدواعي الشهوه فيعيشون حالة الأسر و يرزحون تحت قيود المواد المخدرة بحيث تمنعهم من أي حركة إيجابية و نافعة لأنفسهم و مجتمعهم و تطوقهم بأطواق حديدية تمنعهم عن أي انفلات و نجاة من هذا السجن

المظلم، و خاصة إذا كان الهوى لدى الإنسان بمثابة أنواع من العشق الجنسي و الشهوة الرخيصة للجنس الآخر، فحينئذٍ يصل الإنسان في عبودية الشهوة إلى الحدّ الأقصى

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصدد: «عَبْدُ الشَّهْوَةِ اسيرٌ لا يَنَفَّكُ اسْرُهُ» «1».

و في حديث آخر يقول هذا الإمام عليه السلام: «وَ كَمْ مِنْ عَقْل اسيرٌ تَحتَ هَوى أميرٍ» «2».

و أيضاً ورد في حديث آخر أنّه قال: «الشَّهَوَاتُ تَستَرِقُ الْجَهُولُ» «3».

5- الفضيحة و العار

الفضيحة الاجتماعية هي أحد نتائج و افرازات الشهوة و الرضوخ تحت مطاليبها الرخيصة، و تاريخ البشرية مفعم بنماذج من حياة الشخصيات الممتازة و الّتي لها رصيد اجتماعي وافر و لكنهم وقعوا تحت تحديات الشهوة و مطاليب الهوى فافضى بهم الحال إلى الفضيحة و العار.

و قد ورد في هذا الصدد الكثير من النصوص الدينية و الأدبية في تراثنا الإسلامي ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 6300.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، ح 211.

(3). غرر الحكم، ح 922.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 277

و الشعبي و الّتي توضح هذه العلاقة بين اتباع الشهوة و بين الفضيحة و المذلة و المهانة الّتي تصيب هذا الإنسان المنحرف كما نقرأ ذلك في قصة يوسف و زوجة عزيز مصر و كيف أنّ زوجة العزيز قد أدّى بها الأمر إلى الفضيحة و الخزي رغم مقامها الشامخ لدى المجتمع المصري و كما يقول الشاعر:

انَ الْهَوى هُوَ الهَوانِ قُلِبَ اسمُهُ فَاذا هَوَيْتَ فَقَدْ لَقَيْتَ هَوانا «1»

عوامل و أسباب عبادة الشهوة:

اشارة

سبق و قلنا في البحوث السابقة، أنّ علاج المفاسد الأخلاقية يجب أن يبدأ من أسباب العلل و الجذور، و تقدّم أنّ علماء الأخلاق يهتمون اهتماماً كبيراً في مباحث هذا العلم بالبحث عن العلل و الدوافع للسلوك الأخلاقي لدى الفرد، و لهذا السبب لا بدّ من التطرق إلى العوامل و الأسباب المؤدية إلى أن يسلك الإنسان طريق عبادة الشهوة.

إن الرغبات و الميول النفسانية و الّتي يعبر عنها بالشهوات و خاصّة الشهوة الجنسية أمر طبيعي و موهبة الهية و من عوامل حركة الإنسان نحو الكمال و التقدّم في حركة الحياة و المجتمع، و لهذا لا يمكن إزالتها نهائياً من واقع الإنسان و لا يصحّ كبتها و السعي إلى تهميشها و الغائها، و التحرّك في

سبيل ارضاء هذه الشهوات بالمستوى المطلوب و في حد الإعتدال ليس فقط لا يوجد أيَّ مشكلة في حركة الإنسان بل يُعد أحد العوامل الّتي توجب للإنسان التكامل و الرقي على المستوى التربوي و الاجتماعي.

و امّا المفاسد الأخلاقية المترتبة على اشباع هذه الشهوات فتكمن في طغيان الشهوة و خروجها عن موازين العقل و الاعتدال في ارضائها.

و الآن لا بدّ من النظر في العوامل الّتي تسبب خروج هذه الرغبات و الميول الباطنية من سيطرة العقل بحيث تشكل للإنسان قوّة مخربة و تكون من أدوات الانحراف، و هذه العوامل ______________________________

(1). أدب الدنيا و الدين. الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 278

المؤثرة في ازدياد ظاهرة الانحراف في سلوك الإنسان الأخلاقي هي كما يلي:

1- ضعف الإيمان

إن ضعف الإيمان هو العلّة الأصلية لتغافل الإنسان عن الأوامر و التشريعات الإلهية، فلو أنّ الإنسان كان يعيش بوجود اللَّه دائماً في واقعه و قلبه و يراه حاضراً و ناظراً إلى سلوكياته و أفعاله، و يرى محكمة العدل الإلهية يوم القيامة بعين البصيرة فإنه لا يمكن أن يتجرأ على كسر طوق الحدود الإلهية و يتجاوز على التشريعات الدينية و يتلوث بالشهوات و المفاسد الأخلاقية.

و هذا المعنى هو البرهان الإلهي الّذي رافق يوسف في أحلك الظروف و انقذه من التورط في الإثم و المعصية الّتي توفرت جميع متقضيات ارتكابها و ارتفعت جميع الموانع لممارستها مع امرأة العزيز.

فمع ضعف الإيمان و ضعف التوجه إلى المبدأ و المعاد تتوفر حينئذٍ الأرضية الكافية لطغيان الشهوات بحيث يضحى الإنسان كالوحش الّذي خرج لتوّه من القفص، فلا يرى أمامه أي رادع و مانع حيث يهجم على كلّ شخص و يفترس كلّ ما يجده في طريقه من الأحياء.

و هنا نلقي نظرة فاحصة على ما

ورد في الحديث الشريف الّذي قرأناه فيما سبق «مَنِ اشتَاقَ الَى الجَنَّةِ سَلا عَنِ الشَّهواتِ» «1».

أحياناً يتحرك الإنسان لاشباع الشهوة و التحرر من قيود الدين و الأخلاق إلى كسر سد الإيمان، و في هذا يقول القرآن الكريم «بَلْ يُريدُ الإنسانُ لِيَفْجُرَ امَامَهُ- يَسْئَلُ ايَّانَ يَوْمُ القيامَةِ» «2»؛ الإنسان هنا يريد أن يتحرر من القيود المعنوية ليمارس الخطايا بدون خوف من يوم القيامة، و لهذا يسأل سؤال انكار و ترديد.

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ح 8591 (بالفارسية)، نهج البلاغة، الكلمات القصار، ح 31.

(2). سورة القيامة، الآية 5 و 6.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 279

2- عدم الاهتمام بالكرامة الاجتماعية و الشخصية الإنسانية

إن عدم اهتمام البعض بالكرامة الاجتماعية و عدم اهتمامهم بشخصيتهم الإنسانية هو أحد العوامل الّتي تسبب للإنسان التلوث بأنواع الخطايا و التورط في وحل الشهوات، في حين أنّ احترام الإنسان لنفسه و لشخصيته الإنسانية و حيثيته الاجتماعية بإمكانه أن يقف حاجزاً و رادعاً عن ممارسة الخطيئة و طغيان الشهوة حتّى عُدَّ من عدم الإيمان باللَّه و الآخرة.

و لهذا السبب نجد أنّ الأشخاص الّذين يتمتعون بمكانة اجتماعية في المجتمعات غير الدينية لا يستسلمون لطغيان الشهوة بسهولة و لا يقعون ضحية الأهواء و النوازع الرخيصة و خاصةً التحلّل الجنسي أو غريزة الغذاء و اشباع البطن، لأن مكانتهم الاجتماعية و سمعتهم و ماء وجههم يقف سداً قوياً أمام طغيان هذه الشهوات، و عليه فإنّ من يستسلم لنداء الشهوات و يرضخ لتحدياتها هم فقط الأشخاص الّذين يعيشون الحقارة و ضعف الشخصية و الدناءة.

3- الغفلة و الجهل

و أحد العوامل الاخرى للتلوث بهذه الرذيلة الأخلاقية هو الغفلة و الجهل عن معطيات اتباع الشهوة و تأثيراتها السلبية في حركة الإنسان و الحياة، لأن أكثر الرذائل الأخلاقية تترتب عليها آثار سلبية في دائرة السلامة البدنية و الصحية، الشخص الّذي يُفرط في الطعام و يعيش حالة النهم إلى الغذاء و اشباع البطن فإنه يبتلى بأنواع الأمراض البدنية، و كذلك الشخص الّذي يفرط في الغريزة الجنسية فإنه يبتلى بضعف القوى البدنية و يورثه هذا السلوك تدميراً لشبكة الأعصاب و يورثه قصر العمر، و بالتالي يعرض سلامته الروحية و الجسمية إلى الارباك و الخلل.

و لهذا نجد كثيراً من الأشخاص في المجتمعات غير الدينية يلتزمون في حياتهم بالموازين الصحية و يقيدون انفسهم برعاية الاعتدال بالأكل و الجنس، لأن الأطباء يوصون كثيراً في رعاية هذه الامور و ينبهون الناس إلى

نتائج الأفراط في إشباع هذه الشهوات الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 280

الاخلاق فى القرآن ج 2 299

و عواقبها الوخيمة، و كذلك فإنّ المشكلات الاجتماعية الناشئة من اتباع الشهوات غير قابلة للانكار، فمن المعلوم أنّ افراط البعض في طلب التنوع في الأطعمة و الاكثار من الغذاء هو السبب في أن يعيش البعض الآخر من الناس حالة الجوع و قلّة الغذاء، و هكذا الحال في التحلل الأخلاقي في المسائل الجنسية حيث يسبب القلق و الاضطراب لدى أفراد الاسرة، و ما أكثر ما يتسبب في سريان التلوث بالخطيئة إلى داخل الاسرة الواحدة.

و على هذا الأساس فإنّ كلّ إنسان يلتفت جيداً إلى هذه الامور فسوف يحصل لديه العلم اليقيني بضرورة تقييد هذه الشهوات و ضبطها من الانفلات و التحلل.

4- المعاشرة مع رفاق السوء

و من العوامل الاخرى للانحراف في اشباع الشهوات هو العشرة مع رفاق السوء و المحيط الملوث و ادوات الأعلام الفاسد و أمثال ذلك، فإنّ الغالب على رفاق السوء أنّهم يدفعون من يعاشرهم إلى ارتكاب المحرمات و التلوث بالذنوب من خلال تعليمهم على الطرق المتنوعة لاشباع الشهوات بطرق ممنوعة بحيث يمكن القول أنّ أهم أسباب التلوث بالخطيئة و الانحراف في اشباع الشهوة هو الاختلاط مع الملوثين و المنحرفين.

و هكذا بالنسبة إلى أدوات الأعلام الفاسد و المحيط الاجتماعي الملوث تعتبر من العوامل المهمة للتلوث و الانحراف، و في هذا المجال تحدّثنا في الجزء الأوّل عن «الأرضية المساعدة للفساد الأخلاقي) بشكل وافر و ذكرنا بشكل مفصل أنّ العشرة و الاختلاط مع الملوثين لا تفسد أخلاق الإنسان فحسب، بل قد تصل به إلى حدّ الكفر في دائرة العقيدة أيضاً، و يتحدّث القرآن الكريم عن بعض أهل النار شارحاً لحالهم «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ

عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا» «1».

و هكذا نرى أنّ البيئة الفاسدة و عنصر التربية و ما يقوم به الوالدان من أساليب خاطئة في مجال تربية الطفل بسبب ممارستهم للذنوب و انحرافهم عن الحقّ تعتبر من العوامل المؤثرة

______________________________

(1). سورة الفرقان، الآية 27- 29.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 281

في تلوث الإنسان بظاهرة الإنحراف و عبادة الشهوة، و لهذا نرى أنّ أغلب الأشخاص الّذين كانوا يعيشون الأمان و الطهر في حياتهم عند ما يلج في مثل هذه البيئة الفاسدة و المحيط المنحرف سوف يتلوثون بالخطيئة و يفقدون إيمانهم السابق و يغرقون في بحر الذنوب و المفاسد الأخلاقية.

و بما إننا بحثنا هذا المطلب في الجزء الأوّل في موضوع «كليات المسائل الأخلاقية» بشكل مفصل، فلذلك نكتفي بهذا المقدار من الإشارة إلى هذا المطلب المهم.

طرق علاج اتباع الشهوات:

اشارة

إن الطرق الكفيلة بعلاج المفاسد الأخلاقية تكاد تكون متشابهه في الاصول في جميع الموارد، و تتلخص هذه الطرق بنحوين: علمي و عملي.

ألف) الطريق العلمي

و المراد من الطريق العلمي هو أن الإنسان يفكر و يتدبر بالنتائج و الآثار السلبية لطلب اللّذة و اشباع الشهوة و يرى كيف إن الإنسان المستسلم لشهواته يعيش الذلّة و الأسر و انهزام الشخصية و الشعور بالدونية و الحقارة و الابتعاد عن اللَّه تعالى، و هذا المعنى نجده واضحاً على سلوك اتباع الشهوة و طلاب اللّذة الرخيصة و أنّهم كيف يعيشون الضعف و الوهن في شخصيتهم الإنسانية و كرامتهم الاجتماعية.

و على هذا الأساس فإنّ التأمل في هذه الظاهرة النفسية و الاجتماعية و كذلك التفكر في حال و سيرة «اولياء اللَّه» و اتباعهم المخلصين و كيف أنّهم وصلوا مقامات سامية من التكامل الإنساني و الأخلاقي بسبب محاربتهم للشهوات و امتناعهم عن سلوك طريق الخطيئة و صمودهم أمام تحديات الشهوة، مضافاً إلى ذلك فإنّ تقوية أركان العقل و دعائم الإيمان في قلب الإنسان يجعله قادراً على كبح جماع شهواته و غرائزه، و في هذا المجال قال أمير المؤمنين عليه السلام «مَنْ كَمُلَ عَقْلُهُ استِهَانَ بِالشَّهَوَاتِ» «1».

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ح 8226.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 282

و في حديث له عليه السلام «مَنْ غَلَبَ شَهْوَتَهُ ظَهَرَ عَقْلُهُ» «1».

و كذلك قال عليه السلام «كُلَّمَا قَوِيَتِ الْحِكْمَةُ ضَعُفَتِ الشَّهْوَةُ» «2».

و في حديث آخر يقول عليه السلام «اذْكُرْ مَعَ كُلِّ لَذَّةٍ زَوَالَهَا وَ مَعَ كُلِّ نِعْمَةٍ انْتِقَالَهَا وَ مَعَ كُلِّ بليَّةٍ كَشْفَها، فَانَّ ذَلِكَ ابْقى لِلنِّعمَةِ، وَ انْفى لِلشَّهْوةِ، وَ اذْهَبُ لِلبَطَرِ، وَ اقرَبُ الَى الْفَرَجِ وَ اجْدَرُ بِكَشفِ الغُمَّةِ وَ دَرْكِ الْمَأمُولِ» «3».

و عليه فإنّ التفكر في العاقبة

السيئة و الآثار المخربة لاتباع الشهوات بإمكانه أنّ يصد الإنسان عن سلوك هذا الطريق، و لذلك نجد أنّ الأنبياء و القادة الإلهيين بذلوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل ليخلصوا الناس من التورط في الخطايا و الذنوب و ينقذوهم من أسر الشهوات و الأهواء.

و في حديث شريف عن رسول اللَّه يقول «خَمْسٌ انْ ادْرَكْتَمُوهُنَّ فَتَعَوَّذُّوا بِاللَّهِ مِنْهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَومٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوهَا، الّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَ الاوَجَاعُ الَّتي لَمْ تَكُنْ فِي اسْلافِهِم الَّذِينَ مَضَوُا، وَ لَمْ يَنْقُصُوا الْمِكيَالَ وَ الْميزانَ الّا أُخِذُوا بِالسِّنينَ وَ شِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَ جَوْرِ السُّلطانِ، وَ لَمْ يَمْنَعُوا الزَّكاةَ الَّا مُنِعُوا الْمَطَرَ مِنَ السَّماءِ، وَ لَوْلا البَهَائِمُ لمْ يُمْطَرُوا وَ لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَ عَهْدَ رَسُولِهِ الّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِمْ عَدُوَّهُم وَ اخَذُوا بِعضَ مَا فِي ايْديهِمْ، وَ لَمْ يَحْكُمُوا بِغَيرِ مَا انْزَلَ اللَّهُ الّا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِأسَهُمْ بَيْنَهُمْ» «4».

و لا شكّ أنّ التأمل و التدبر في هذه المعطيات و النتائج الخطيرة لها تأثير مستمر أو مؤقت في منع الإنسان عن ممارسة الخطيئة لارتكاب الذنب.

______________________________

(1). المصدر السابق، ح 7953.

(2). المصدر السابق، ح 7205.

(3). ميزان الحكمة، ج 4، ص 3484، ح 21507.

(4). اصول الكافي، ج 2، ص 373.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 283

ب) الطريق العملي

و من جهة اخرى فإنّ الطريق العملي لعلاج حالة «عبادة الشهوة» له وجوه و انحاء مختلفة منها:

1- إن أفضل الطرق العملية للنجاة من مستنقع الشهوة هو الاشباع الصحيح للغرائز البدنية و الرغبات الجنسية بالخصوص، لأنّه إذا تم اشباع هذه الرغبات الباطنية و الميول البدنية من طرق سليمة و بأدوات صحيحة فإنّ بإمكانها أن تنقذ الإنسان من النتائج السلبية و المخربة المترتبة على

اتباع الشهوات، و بعبارة اخرى انه لا ينبغي للإنسان كبت هذه الغرائز و الرغبات و التغافل عن ارضائها بل يجب أن يسير بها المسار الصحيح و البنّاء لتكون مفيدة و نافعة في حركة الحياة، و في غير هذه الصورة يمكنها أن تتبدل إلى سيل مدمر و مخرب يهلك الحرث و النسل و لا يبقى للإنسان أي أثر من آثار الخير و الصلاح.

و لهذا السبب نرى أنّ الإسلام لم يهتم بالتسلية و الترفية السليم و المعتدل فحسب بل عمل على حث الناس و ترغيبهم في هذا الطريق لارضاء الغرائز، و من ذلك ما ورد في خطبة معروفة للإمام الجواد الّتي قرأها عند عقد زواجه حيث قال «امّا بَعْدُ فَقَدْ كَانَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْانَامِ انْ اغْناهُم بِالْحَلالِ عَنِ الْحَرامِ» «1».

و في هذا الحديث المعروف هناك إشارة إلى هذا المعنى أيضاً حيث تقول «لِلْمُؤمِنِ ثَلاثُ سَاعَاتٍ، فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فيهَا رَبَّهُ، وَ سَاعَةٌ يَرُمَّ مَعَاشَهُ، وَ ساعَةٌ يُخَلّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَ بينَ لَذَّتِهَا فيمَا يَحِلُّ وَ يَجْمُلُ» «2».

2- و من الطرق الاخرى للنجاة من قيود الشهوات هو أن يضع الإنسان لنفسه برنامجاً دقيقاً لحياته، لأنّه كلما سعى لبرمجة أوقاته في اليوم و الليلة «حتّى لو كان البرنامج يتضمّن جانب الترفية و الرياضة البدنية» فإنه لا يكاد يجد برنامج للإنسياق وراء طلب اللّذة و فراغاً كافياً لسلوك طريق الشهوة.

3- و من العناصر الاخرى لعلاج هذه الظاهرة أو الوقاية منها هو إزالة عوامل التلوث ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 50، ص 76.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 390.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 284

بالخطيئة، لأن إمكانية التلوث بالشهوات في البيئة الملوثة يكون أكثر، أي لو كانت أسباب المعصية متوفرة و طرق

الإنحراف مفتوحة و وجود الحرية النسبية في ارتكاب الذنوب و اتباع الشهوات فإنّ النجاة من التلوث بالخطيئة و لا سيّما للشباب الّذين لا يمتلكون من المعرفة الدينية إلّا القليل سيكون أمراً عسيراً للغاية.

4- احياء الشخصية المعنوية و الإنسانية لأفراد المجتمع يعد من الطرق المهمة للعلاج أو الوقاية من التلوث بالشهوات، لأنّه عند ما يدرك الإنسان قيمة وجوده و اعتباره و شخصيته و يعلم بانه يمثل عصارة الخلقة و الغاية العليا بعالم الكائنات و خليفة اللَّه في الأرض فلا يبيع نفسه بسهولة و لا يسلمها إلى عناصر الشهوة و قوى الإنحراف.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ» «1» و في حديث آخر يقول عليه السلام «مَنْ عَرَفَ شَرَفَ مَعْنَاهُ صَانَهُ عَن دَنَائَةِ شَهْوَتِهِ ...» «2».

و آخر ما يقال في هذا المجال هو انه لا بدّ من الاهتمام بالطريق العملي ليس للتصدّي إلى الشهوات فحسب بل في جميع موارد مكافحة المفاسد الأخلاقية لدى الفرد و المجتمع، بمعنى انه كلّما سلك الإنسان طريق مكافحة أهوائه الفاسدة و أخلاقه المنحرفة و سار في الطريق القويم فإنّ هذه القوى و العناصر السلبية ستخف و ستندثر في وجوده و نفسه و سوف ينتقل الإنسان في هذا السلوك إلى أن يعيش الحالة النفسية السليمة، و من هذه الحالة ينتقل إلى العادة، و من العادة ينتقل إلى الملكة حيث تتحول هذه الحالة و العادة إلى ملكة راسخة في نفسه و تكون بمثابة الطبع الكامل له، و على سبيل المثال إذا تحرّك الإنسان البخيل في علاج هذا المرض الأخلاقي نحو البذل و العطاء في دائرة الفعل و العمل، فإنّ نار البخل ستضعف و تخبو تدريجياً في

باطنه إلى أن تنطفى ء تماماً.

فإذا تحرّك اتباع الشهوة أيضاً في هذا الطريق و سلكوا مسلك التصدي و المقاومة أمام طغيان الشهوات، فإنّ هذه الشهوات و القوى المنحرفة الموجودة في باطنهم ستضعف و تخبو

______________________________

(1). بحار الأنوار: ج 78، ص 71.

(2). غرر الحكم، ح 9069.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 285

تدريجياً و يحل بدلها عنصر العقيدة و يعيش الإنسان حينئذٍ روح الطهارة و النقاء و الانفتاح على اللَّه و المعنويات السامية.

و هذا المعنى نجده واضحاً بكلام أمير المؤمنين عليه السلام «قَاوِمِ الشَّهْوَةَ بِالْقَمْعِ لَهَا تَظْفُرْ» «1».

شهوة الأكل و الجنس:

لقد أورد الأعاظم من علماء الأخلاق كالفيض الكاشاني في «المحجّة البيضاء» و المحقّق النراقي في «معراج السعادة» و العلّامة السيّد شبّر في كتاب «الأخلاق» كلًا من شهوة البطن و شهوة الجنس بصورة مستقلة و بحثوهما كلًا على انفراد، و في الحقيقة اتبعوا في ذلك ما ورد في الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة في هذا المجال حيث ورد الاهتمام الكبير بهاتين الغريزتين.

الفيض الكاشاني يذكر في كتابه «المحجّة البيضاء» هاتان الشهوتان و يقول: «أما بعد، فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها أخرج آدم عليه السلام و حواء من دار القرار إلى دار الذلّ و الافتقار، إذ نهيا عن أكل الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتّى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما، و البطن على التحقيق مصدر الشهوات و منبت الأدواء و الآفات. إذ يتبعها شهوة الفرج و شدّة الشبق إلى المنكوحات، ثمّ تتبع شهوة المطعم و المنكح شدّة الرغبة في المال و الجاه اللذين هما الوسيلة إلى التوسع في المطعومات و المنكوحات، ثمّ يتبع استكثار المال و الجاه أنواع الرعونات و ضروب المنافسات و المحاسبات، ثمّ يتولد من ذلك آفة الرياء و غائلة التفاخر و التكاثر

و الكبرياء، ثمّ يتداعى إلى ذلك الحسد و الحقد و العداوة و البغضاء، ثمّ يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي و المنكر و الفحشاء.

و كلّ ذلك ثمرة إهمال المعدة و ما يتولد منها من بطر الشبع و الامتلاء، و لو ذلّل العبد نفسه بالجوع و ضيّق به مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة اللَّه و لم تسلك سبيل البطر و الطغيان و لم ______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ج 4، ص 514، ح 6803 (بالفارسية).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 286

ينجر به ذلك إلى الانهماك في الدنيا و ايثار العاجلة على العقبي، و لم يتكالب كلّ هذا التكالب على الدنيا.

و إذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحدّ وجب شرح غوائلها و آفاتها تحذيراً منها، و وجب ايضاح طريق المجاهدة لها و التنبيه على فضلها ترغيباً فيها» «1».

و الأخطر من ذلك أنّ الأشخاص من اتباع شهوة البطن و الفرج يفقدون دينهم و يتركون إيمانهم في هذا السبيل حيث نقرأ في ذيل الآية القرآنية «وَ ءَامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَ لَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَ لَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا وَ إِيَّاىَ فَاتَّقُونِ» «2».

إنّ اللَّه تعالى يذم اليهود الّذين كانوا يشترون بآيات اللَّه و يبيعونها بثمن بخس، فقد كانت هناك مجموعة من علماء اليهود و أحبارهم يقومون بتحريف آيات اللَّه من أجل اشباع نهم شهواتهم لغرض دعوتهم لمجالس البذخ و موائد الترف الّتي كان يقوم بها اليهود اتجاه علمائهم، و بهذا فهم باعوا عملياً آيات اللَّه بثمن بخس «و لهذا انكروا وجود ذكر النبي الّذي يظهر آخر الزمان و الّذي كان ينتظره اليهود و المذكور عندهم بالتوراة».

و في الروايات الإسلامية نجد بحوثاً واسعة عن اخبار هاتين الشهوتين

حيث تشير إلى بعض هذه الموارد:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «ثَلاثٌ اخَافُهُنَّ بَعدي عَلَى امَّتي الضَّلالَةُ بَعْدَ المَعْرِفَةِ وَ مُضِلّاتُ أَلْفِتَنِ وَ شَهْوَةُ الْبَطْنِ وَ الْفَرْجِ» «3».

المقصود من الضلالة بعد المعرفة هو أن يترك الإنسان الحقّ و الطريق المستقيم بسبب وساوس المنحرفين و شبهات المخالفين و يسلك سبيل الانحراف و الزيغ و الضلالة، و هذا المعنى موجود دائماً و في كلّ زمان و خاصة في زماننا هذا.

و المقصود من «مضلات الفتن» هو اشكال الامتحان الإلهي و الاختبار الرباني لعباده ______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 145.

(2). سورة البقرة، الآية 41.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 79.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 287

حيث يقع الإنسان أحياناً بسبب اتباعه للشهوات و الأهواء في الخطيئة و يسقط في الامتحان، و المراد من «شهوة البطن و الفرج» هو الأفراط في الأكل و طلب اللّذة و الأفراط في طلب اللّذة الجنسية.

إن سياق الحديث الشريف يوحي لنا بهذه الحقيقة، و هي أنّ الخطر المتوجه للناس و الّذي يهدد وجودهم بسبب هذه الامور الثلاثة هو خطر عميق و جدي.

2- يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في حديث آخر «اكْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ امَّتي النَّارَ الْاجْوَفَانِ الْبَطْنُ وَ الْفَرْجُ» «1».

3- و يقول الإمام الباقر عليه السلام «اذا شَبَعَ البَطْنُ طَغى «2».

4- و أيضاً يقول هذا الإمام في حديث آخر «مَا مِنْ شَي ءٍ ابْغَضُ الَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ بَطْنٍ مَمْلُوءٍ» «3».

5- و ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا يُفْسِدُ التَّقوى الّا بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ» «4».

6- و ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا تَجْتَمِعُ الحِكْمَةُ وَ الشَّهْوَةُ» «5».

7- و

قال هذا الإمام عليه السلام أيضاً في حديث آخر «مَا رَفَعَ امَرءاً كَهِمَّتِهِ وَ لَا وَضَعَهُ كَشَهْوَتِهِ» «6».

______________________________

(1). المصدر السابق.

(2). اصول الكافي، ج 6، ص 270، ح 10.

(3). سفينة البحار، ج 1، ص 25، واژه اكل.

(4). شرح غرر الحكم، ح 10606.

(5). غرر الحكم، ح 10573.

(6). غرر الحكم، ج 6، ص 114، ح 9707.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 288

15

العفة من أكبر الفضائل الأخلاقية

تنويه:

تقع «العفة» في النقطة المقابلة ل «شهوة البطن و الفرج» و تعتبر من أهم الفضائل الإنسانية و الأخلاقية على السواء.

و يقول الراغب الاصفهاني في كتاب «المفردات» في معنى العفة أنّها حصول حالة للنفس تمتنع بها من غلبة الشهوة، و المتعفف المتعاطي لذلك.

و يقول صاحب مقاييس اللغة في معنى العفة: «العفة في الأصل تأتي لمعنيين، الأول، الاجتناب عن القبائح، و الآخر قلّة الشي ء، و لذا يقال للبن المتبقي في الرضع- عُفّة- على وزن مدّة».

و يقول مؤلف كتاب «التحقيق» عن مفهوم العفة: «مادة عفّة في الأصل بمعنى حفظ النفس من الميول و الشهوات النفسانية، كما أنّ التقوى بمعنى حفظ النفس من ارتكاب الذنوب، و على هذا فالعفة صفة باطنية، في حين أن التقوى ناظرة إلى الأعمال الخارجية».

و قد ذكر علماء الأخلاق في تعريف العفة انها الحدّ الوسط بين الشهوة و الخمود.

و ما ذكرنا آنفاً من معنى العفة كان في مفهومها العام، لأن البعض قد أورد في تعريف العفة النقطة المقابلة لها، أي الوقاحة و تمزيق ستار الحياء، و لهذا السبب نجد أنّ أكثر موارد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 290

استعمال مفردة «العفة» تختص للمسائل الجنسية.

و على أي حال فإنّ المستفاد من آيات القرآن الكريم و الروايات الإسلامية أنّ العفة (بكلا المعنيين) تعد من أعظم الفضائل الأخلاقية و الإنسانية، و لا

يمكن لأي شخص أن يسير نحو الكمال الإلهي و يسلك مسلك الانفتاح على اللَّه من دون التحلي بهذه الخصلة الشريفة، و نجد في حياتنا الدنيوية أنّ كرامة الإنسان و شخصيته و سمعته رهينة بالتحلي بهذه الفضيلة الأخلاقية.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الكريمة هذا المفهوم السامي:

1- «لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيَماهُمْ لَا يَسْئلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَ مَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» «1».

2- «وَ راوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَ قَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» «2».

3- «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لَا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمخْلَصِينَ» «3».

4- «قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَ لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُونًا مّنَ الصَّاغِرِينَ* قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ* فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «4».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 272.

(2). سورة يوسف، الآية 23.

(3). سورة يوسف، الآية 24.

(4). سورة يوسف، الآية 32- 34.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 291

5- «وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأوْلَئكَ هُمُ الْعَادُونَ» «1».

6- «... وَ الْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحَافِظَاتِ ...» «2».

التفسير:

الفقير المتعطش

في «الآية الاولى يتحدّث القرآن الكريم عن أفضل موارد الانفاق و

يقول مخاطباً المؤمنين بأن انفاقكم يجب أن يختص بالفقراء الّذين هاجروا من بيوتهم و اوطانهم و لم يستطيعوا تأمين نفقاتهم و احتياجاتهم عن طريق الجهاد في سبيل اللَّه أو السفر للكسب و التجارة «لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الْأَرْضِ» «3».

ثمّ يشير إلى خصوصية مهمة اخرى من خصوصيات هؤلاء الفقراء، و هي أنّهم لشدة تعففهم و ضبطهم لأنفسهم يحسبهم الناس أغنياء «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيَماهُمْ ...) «4».

أجل فإنّ هؤلاء يعيشون الضبط الأخلاقي لنوازع النفس و لا يرسلون السنتهم بالشكوى رغم احتياجهم الشديد، و يسلكون مسلك الأغنياء بين الناس و لكن المطلع على أحوالهم يعرف حاجتهم و مسكنتهم من سيماهم.

و يبين القرآن الكريم سمة اخرى من سماتهم و يقول «لَا يَسْئلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ...» «5».

فهؤلاء لا يطلبون قضاء حاجتهم من الآخرين مهما أمكنهم ذلك، و لو اشتد بهم الحال و اضطروا إلى المسألة، فإنّهم يفضلون اقتراض ما يحتاجونه من المال على السؤال من دون ______________________________

(1). سورة المؤمنون، الآية 5- 7.

(2). سورة الأحزاب، الآية 35.

(3). سورة البقرة، الآية 273.

(4). المصدر السابق.

(5). سورة البقرة، الآية 273.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 292

أن يكون لديهم اصرار على الآخرين.

و في ختام الآية يقول تعالى «وَ مَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» «1».

أجل، فإنّ الأنفاق عملٍ إنساني و فضيلة أخلاقية و خاصة على من يتمتع بعزّة النفس و علو الطبع و عفة الروح.

و بديهي أنّ المراد من «العفة» في هذه الآية هي العفة في المسائل المالية لا الامور الجنسية، و قد ذكر بعض المفسّرين في شأن نزولها انها نزلت في «أصحاب الصفة» هؤلاء كانوا جماعة يبلغ عددهم أربعمائة نفر تقريباً من المسلمين المهاجرين

من مكّة و ضواحي المدينة الّذين لم يكن لديهم دارٌ في المدينة و لا معارف و أقرباء فيها و لا عملٍ يتكسبون فيه، و لكنهم في نفس الوقت يعيشون في غاية التعفف في مكانٍ خاص إلى جوار مسجد النبي صلى الله عليه و آله، و كان هؤلاء يتحركون نحو الجهاد في سبيل اللَّه متى ما أمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و كانوا يتمتعون بعزّة النفس و التعفف الشديد بالرغم من حاجتهم الشديدة و ما يشعرون به من جوع.

و على أي حال فالقرآن الكريم ذكر هؤلاء في الآية محل البحث بتعبيرات مختلفة من المدح و الثناء و جعلهم اسوة لجميع المسلمين.

في «الآية الثانية و الثالثة» يتحدّث القرآن الكريم عن عفّة يوسف و طهارة ذيله في أحلك الظروف الّتي توفرت فيها جميع أسباب التورط في الإثم و المعصية و لكنَّ يوسف حفظ نفسه أمام تحديات الواقع و ضغوط الحالة و استعاذ باللَّه تعالى، فنجح في هذا الامتحان الإلهي الكبير و خرج منه مرفوع الرأس، و كما يذكر القرآن الكريم واصفاً هذه الحالة و الحادثة الّتي حدثت ليوسف و امرأة العزيز فيقول: «وَ راوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَ قَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» «2».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 272.

(2). سورة يوسف، الآية 23.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 293

فلم تجذب ملامح يوسف و وجهه الجميل عزيز مصر فحسب، بل احبته زوجة العزيز أيضاً و عشقته بشدّة إلى درجة أن هذا العشق أثَّر اثَرُهُ في نفس هذه الامرأة و امتد إلى أعماق قلبها، و شيئاً فشيئاً تعمق في وجودها إلى درجة انها لم

تعد تُطيق كبته، و لكن النبي يوسف الّذي كان يعيش العفة و الطهارة و التقوى كان قد عشق اللَّه تعالى و لا غير.

هذا و قد استخدمت امرأة العزيز الشابة الجميلة شتّى الطرق بمختلف الوسائل للوصول إلى هدفها، هذه الوسائل الّتي كان يكفي بعضها في تحريك أي شابٍ أعزب في عمر النبي يوسف، و لكنَّ يوسف عاش حالة الصمود أمام تحديات الشهوة الشديدة و فوّض نفسه و سفينة حياته إلى ذكر اللَّه تعالى و رحمته، و إلّا لكان الغرق في الخطيئة من نصيبه كما تصرّح الآية الّتي تليها «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لَا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمخْلَصِينَ» «1».

إن عبارة «من عبادنا» و كذلك «مخلصين» من العبارات العميقة المعنى و الّتي وردت في هذه الآية بعنوان اوسمة افتخار ليوسف على موقفه الشجاع هذا.

و رغم أنّ يوسف كان قد اتهم من قبل زوجة عزيز مصر بالخيانة مع عفته و طهارته بحيث يمكنها أن تودي بحياته، إلّا أنّ اللَّه تعالى قد وعد المؤمنين الطاهرين بالنجاة و انقذ يوسف بواسطة شهادة طفل رضيع في المهد ببراءته و طهارته من التهمة بصورة إعجازية.

و هناك مسطورات لبعض الأفراد الجهلة و المغرضين الّذين ذكروا في تفسير هذه الآيات أنّ المقصود بقوله «همَّ بها» هو أنّ يوسف بدوره همَّ بالمعصية و مقاربة زليخا، و كما هو المعلوم أنّ هذا المعنى لا يليق بمقام عصمة الأنبياء و لا ينسجم مع سياق الآيات المذكورة أعلاه بل إن القرآن الكريم يصرّح بأنه لو لا برهان اللَّه الّذي أعان يوسف في وقت الشدّة لكان قد همَّ بها، و لكن بما إن برهان الرب حلَّ

في الوقت المناسب فإنه لم يقصد الخطيئة.

و للفخر الرازي تعبير جميل في تفسير هذه الآية حيث يقول: «و أما أنّ إبليس أقرّ بطهارته، فلأنه قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلّا عبادك منهم المخلصين، فأقر بأنه لا

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 24.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 294

يمكنه اغواء المخلصين، و يوسف من المخلصين لقوله تعالى: «انه من عبادنا المخلصين» فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه و ما أضله عن طريق الهدى و عند هذا نقول: هؤلاء الجهال الّذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام الفضيحة إن كانوا من اتباع دين اللَّه تعالى فليقبلوا شهادة اللَّه تعالى على طهارته و إن كانوا من اتباع إبليس فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته» «1».

«الآية الرابعة» تتحدّث عن سيرة النبي يوسف المليئة بالأحداث بعد ما حصل بينه و بين امرأة العزيز ما حصل، و تشير إلى محنة اخرى و امتحان آخر للنبي يوسف «قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَ لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» فعند ما امتد خبر وقوع هذه الحادثة ليشمل جميع بيوت المدينة و علم الناس بقضية العشق الملتهب الّذي ألَمَّ بقلب امرأة العزيز اتجاه غلامها، فإنّ نسوة مصر اطلقن السنتهنَّ باللوم و التوبيخ لامرأة العزيز، و لكنها لما رأت ذلك أرادت إثبات براءتها فأعدت مائدة كبيرة و استضافت النسوة المعروفات و نساء الشخصيات الكبيرة في مصر، ثمّ طلبت من يوسف أن يخرج عليهن و يدخل عليهنَّ ذلك المجلس الحافل.

و عند ما وقعت أعينهنَّ على الجمال العجيب ليوسف ارتبكن بشدّة و فقدن اختيارهُنّ و جرحنَّ أيديهنَّ بالسكين الّتي كانت بأيديهنّ لتقطيع الفاكهة و قلن جميعاً «حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَآ إِلَّا مَلَكٌ» «2».

فعند ما رأت امرأة العزيز

منهن ذلك و رأت انها قد انتصرت في هذا الموقف، توجهت إليهنّ بالخطاب و قالت «قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَ لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُونًا مّنَ الصَّاغِرِينَ» «3».

و كان هو ثاني امتحان صعب يمر بيوسف حيث وقع بين أمرين و طريقين، فاما أن ______________________________

(1). التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 18، ص 82 و 83 ذيل الآية محل البحث.

(2). سورة يوسف، الآية 31.

(3). سورة يوسف، الآية 32.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 295

يستسلم لنوازع امرأة العزيز و يُرضي هيامها و عشقها منه، و بالتالي يعيش حالة الترف و الدلال و النعمة الدنيوية، و اما أن يقاوم هذه الرغبة الممنوعة و يكون مصيره السجن و تحمل أنواع الضغوط و الصعوبات.

و لكن يوسف و من دون أي ترديد انتخب الطريق الثاني و سأل اللَّه تعالى أن يوفقه لذلك و قال «قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ» «1».

و يتضح من سياق هذه الآية أنّ نسوة مصر اللواتي حضرن في مجلس امرأة العزيز قد دعون يوسف إلى التسليم لامرأة العزيز و الرضوخ لطلبها، فكلّ واحدة تحدثت معه بأنواع الوسوسة فأحداهنَّ تقول: ايها الشاب ألم تر الجمال الآسر لامرأة العزيز، أ لست تلتذ بالجمال و ممارسة العشق معها؟ و الاخرى تقول: إذا لم يؤثر في قلبك جمال هذه المرأة فلا ينبغي أن تنسى انها زوجة عزيز مصر، فلو استطعت أن تكسب قلبها فسوف يكون بإمكانك التمتع بالثروة و المقام و تمام ما تريد في الحياة.

الثالثة تحذره من أنك لو لم يؤثر فيك جمال هذه المرأة، و لم تكن تهم

بمقامها و مكانتها الاجتماعية و لكنك يجب أن تعلم بأن هذه المرأة سوف تغضب عليك و تتحول إلى موجود خطر يهدد حياتك، و سوف تنتقم بنفسها و ترسلك إلى قعر السجون المظلمة حيث تنسى إلى الابد.

و بما أنّ الطريق الأخير الّذي يقف أمام يوسف و هو الوقوع في السجن الموحش فإنّ يوسف طلب من اللَّه تعالى ذلك فوراً، و خاطب ربّه بأن السجن احبُ إليَّ من الوقوع بالمعصية و الإثم، فانا مستعد لدخول السجن اطاعة لأمره و حفظاً لحدوده و من أجل المحافظة على شرفي و عفتي في مقابل طلب هؤلاء النسوة، و كان تهديد هؤلاء النسوة ليوسف بصورة جدية، و قد تمّ ذلك عملياً و أُلقي يوسف في السجن، و بذلك انقذ نفسه و شرفه من تلوثات القصر و مفاسد المحيط حيث تذكر الآيات الّتي تلي هذه الآية أنّ ذلك السجن ______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 33.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 296

الموحش كان في الحقيقة سُلَّماً لنيل يوسف مراتب سامية من الكمال الإلهي و المعنوي، و أخيراً تمكن يوسف بمشيئة اللَّه أن يجلس على عرش مصر و استطاع بمحافظته على تقواه و عفته و شرفه أن ينال كلّ شي ء، في حين أنّ جميع الملوثين افتضحوا و لم ينالوا مرادهم، فكان هذا هو جزاء اللَّه تعالى و ثوابه الدنيوي للشرفاء و المخلصين من عباده، و يقول القرآن الكريم في سياق هذه الآيات فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «1».

العفة السمة الأخلاقية للمؤمن:

«الآية الخامسة» من الآيات محل البحث تتحدّث عن الصفات البارزة للمؤمنين حيث يذكرها القرآن الكريم بعبارات قصيرة و مليئة بالمعنى ضمن بيان قسم مهم من صفات المؤمنين، و يذكر صفة العفة و الطهارة

بأنّها إحدى الصفات و الخصال الممتازة لهؤلاء المؤمنين و يقول «وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأوْلَئكَ هُمُ الْعَادُونَ» «2».

و الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يذكر من ضمن الصفات الممتازة للمؤمنين صفة العفة بعد الصلاه و الزكاة و الامتناع من اللغو و حتّى انه يذكرها قبل صفة الأمانة و الوفاء بالعهد أيضاً.

العفة مفتاح النجاة:

و في (آخر آية) من الآيات محل البحث يستعرض القرآن الكريم عشرة طوائف من ______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 34.

(2). سورة المؤمنون، الآية 5- 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 297

الرجال و النساء الّذين نالوا المغفرة من اللَّه تعالى و الأجر العظيم، فتذكر الآية في سياقها أنّ الطائفة التاسعة من هؤلاء الرجال و النساء هم الّذين يعيشون العفة و الطهارة من التلوث بالذنوب و الّذين حفظوا اذيالهم و شرفهم من وحل الخطيئة.

و تشير الآية الكريمة إلى الطائفة العاشرة من هؤلاء في سياق بيان أوصافهم أنّهم كثيراً ما يذكرون اللَّه تعالى و لا يصعب أن تكون هذه الصفة مرتبطة مع الصفة السابقة، و هي العفة لوجود الارتباط الوثيق بين العفة و ذكر اللَّه تعالى، فتكون من نتائج التحلّي بهذه الصفات هي المغفرة الإلهية و الأجر العظيم الّذي لا يعلم عظمته إلّا اللَّه تعالى.

و قد وردت في النصوص الدينية إشارة اخرى إلى أحد الطرق لحفظ النفس أمام تحديات الشهوة و طغيان الغريزة الجنسية، و هو «الصوم»، فعليه يكون بين العفة و الصوم ارتباط وثيق و مباشر حيث يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةُ فَلْيَتَزَوَّجُ فَانَّهُ اغَضُّ لِلْبَصَرِ وَ احْصَنُ لِلْفَرْجِ وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعُ فَعَلَيهِ

بِالصَّوْمِ» «1».

العفة في الروايات الإسلامية:

و قد ورد في المصادر الروائية الاهتمام الشديد بالعفة حيث نشير إلى بعض ما ورد فيها:

1- ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «افْضَلُ الْعِبادةِ الْعِفافُ» «2».

2- يقول الإمام الباقر عليه السلام: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشي ءٍ افْضَلَ مِنْ عِفَّةِ بَطْنِ وَ فَرْجٍ» «3».

3- و في روايةٍ اخرى عن هذا الإمام في تفسيره للرواية السابقة انه جاء رجل إلى الإمام عليه السلام و قال: إني ضعيف العمل قليل الصيام و لكني أرجو أن لا آكل إلّا حلالًا. فقال له الإمام عليه السلام: «ايُّ الإجْتَهَادِ افْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بِطْنٍ وَ فَرْجٍ» «4».

______________________________

(1). تفسير المراغي، ج 22، ص 10.

(2). اصول الكافي، ج 2 ص 79.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 298

4- و يقول الإمام علي عليه السلام: «اذا أَرادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيراً اعَفَّ بَطْنَهُ وَ فَرْجَهُ» «1».

5- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام يقول للمفضل في وصف الشيعي الواقعي:

«انَّمَا شِيعَةُ جَعْفَرٍ مَنْ عَفَّ بَطْنَهُ وَ فَرْجَهُ وَ اشْتَدَّ جَهَادَهُ وَ عَمَلُ لِخَالِقِهِ وَ رَجَا ثَوابِهُ وَ خَافَ عِقَابَهُ، فَاذَا رَأَيْتَ اولئكَ فَاولئكَ شِيعَةُ جَعْفرٍ» «2».

6- و يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: «قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ، وَ صِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوَّتِهِ، وَ شُجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ انْفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ» «3».

النتيجة:

لقد تحصّل لدينا من خلال الآيات و الروايات الشريفة أنّ الإسلام يهتم اهتماماً بالغاً بمسألة عبادة شهوة البطن و الفرج و جعل من مسألة الغيرة على العرض علامة الشخصية المؤمنة و ظاهرة من ظواهر سلوك الإنسان الشيعي الموالي لأهل البيت عليهم السلام، و التاريخ البشري حافلٌ بالحوادث المأساوية الّتي تمتد جذورها إلى هذين العاملين «شهوة البطن و الفرج» لأن

شهوة البطن لا تسمح للإنسان في التفكير المشروع لتحصيل الغذاء و رعاية حقوق الآخرين و سلوك طريق العدالة في تحصيله، و لهذا السبب فإنّها تدفع الإنسان إلى أنواع الخطايا و الذنوب في سبيل ارضائها، مضافاً إلى ذلك فإنّ شهوة البطن تعدُ مصدراً و سبباً أكيداً إلى الكثير من الأمراض الجسمية و الأخلاقية إلى درجة أنّ هذه الغريزة تصبح بمثابة الوثن الّذي يدعو صاحبه إلى عبادته و طاعته في جميع سلوكياته في حركة الحياة و الواقع الاجتماعي.

و في هذا المجال يقول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في معرض حديثه عن آخر الزمان «يَأْتِي عَلَى النّاسِ زَمانَّ بُطُونُهُمْ آلِهَتُهُمْ وَ نِسَائُهُم قِبْلَتُهُمْ وَ دَنَانِيرُهُمْ دِينُهُمْ، وَ شَرَفُهُمْ مَتَاعُهُمْ، لا يَبْقى مِنَ ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 4114.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، ص 199.

(3). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 47.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 299

الايمَانِ الّا اسْمَهُ وَ لا مِنَ الاسلامِ الّا رَسْمَهُ وَ لا مِنَ القُرآنِ الّا دَرْسَهُ، مَسَاجِدُهُمْ مَعْمُورُةٌ مِنَ الْبَنَاءِ وَ قُلُوبُهُمْ خَرَابٌ عن الْهُدى» «1».

و قد ورد في ذيل هذا الحديث أنّ اللَّه تعالى سوف يبتلي هؤلاء الناس بأربع بلايا: جور السلطان، و قحط الزمان، و ظلم الامراء و الحكّام.

و الفرق بين الظلم و الجور «كما ورد التقابل بينها في الكثير من الروايات» يمكن أن يكون من جهة أنّ مفردة الجور في الأصل تعني الإنحراف عن طريق الحقّ، و عليه فإنّ جور السلطان يطلق على إنحراف سلوكيات أصحاب السلطة، في حين أنّ الظلم يعني عدم العدالة.

و في حديث آخر عنه يقول «ايّاكَ وَ ادْمَانَ الشَّبَع فَانَّهُ يُهَيّجُ الاسْقَامَ وَ يُثيرُ العِلَلَ» «2».

و روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«من وُقي شرّ بطنه و لسانه و فرجه فقد وُقي من جميع البلايا» «3».

طرق الوقاية من التحلل الأخلاقي:

اشارة

و من أجل الوقاية من التحلل الأخلاقي و ضبط الشهوات و خاصةً الشهوة الجنسية و شهوة البطن، هناك عدّة طرق عامة و كلية، أي سارية في عملية الوقاية من جميع المفاسد الأخلاقية من قبيل تطهير المحيط الاجتماعي، دور الرفاق و الأصدقاء، تربية الاسرة، العلم و المعرفة بنتائج و آثار الرذائل الأخلاقية، المسائل الثقافية و أمثال ذلك.

و قد تحدّثنا في هذا المجال بصوره مفصلة و كاملة في الجزء الأوّل من هذه الدورة الأخلاقية تحت عنوان الشرائط اللازمة لتربية الفضائل الأخلاقية و هناك طريق آخر خاصّ ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 22، ص 453.

(2). شرح غرر الحكم، ص 300، ح 2681، الجملة 1.

(3). معراج السعادة، ص 310 (نقلًا بالمضمون).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 300

الاخلاق فى القرآن ج 2 322

يتعلق بمسألة «العفة» في المسائل الجنسية و سائر الشهوات النفسانية حيث يمكن استعراض عدّة امور للوقاية من استفحال و طغيان هذه الغريزة و ضبط النفس على مستوى السلوك الأخلاقي:

1- الحجاب و ترك الزينة أمام الأجانب

لا شكّ أنّ أحد الامور الّتي تفعِّل الغريزة الجنسية و تزيد من ضراوتها هو «التعري و التزين بالنسبة للرجال و النساء» حيث يقع تأثير أحدهما بالآخر بشدّة و خاصة بالنسبة إلى الشباب العزاب بحيث يمكن القول أنّ التلوث بالخطايا الجنسية و الانحراف الجنسي يرتبط مباشرة بعدم الحجاب و التعري و التزين أمام الأنظار حتّى انه طبقاً لبعض الأحصائيات أنّ هناك علاقة طردية بين زيادة و اشتداد هذا العامل و بين زيادة التلوث الجنسي و التحلل الأخلاقي، مثلًا في فصل الصيف و بسبب حرارة الجو فإنّ النساء يخففن من البستهنّ، و بهذه النسبة يتعرضن إلى التحرشات اللاأخلاقية من قِبل الشباب، و على العكس من ذلك فإنّ النساء في فصل الشتاء و

بسبب الملابس الشتوية و ارتداء الثياب الّتي توفر لهنّ الحماية من برودة الجو فإنّ التعرض و التحرش بهنَّ يقل عن فصل الصيف، و لهذا فقد ورد التأكيد في الشريعة الإسلامية على الحجاب حيث يذكر القرآن الكريم في آيات متعددة منها الآيات 31 و 60 من سورة النور، و الآيات 33 و 53 و 59 من سورة الأحزاب على مسألة الحجاب و يخاطب أحياناً النساء المؤمنات، و أحياناً اخرى نساء النبي، و ثالثة يستثني العجائز و المسنات منهنّ حيث يتضح من ذلك التكليف الشرعي لسواهن، و على هذا يبين القرآن بعبارات مختلفة أهمية هذه الوظيفة الشرعية في حركة الحياة و المجتمع الإسلامي.

و بديهي أن ترك الحجاب أي السفور و التبرج هو مقدمة للتعري و التحلل الجنسي الّذي يترتب عليه نتائج وخيمة و مفاسد كبيرة في كلّ عصر و زمان.

إن التبرج و عدم الإلتزام بالحجاب يسبب أن تتحرك بعض النسوة في حالة منافسة و مسابقة مستمرة لابداء و عرض مكامن اجسادهن و تحريك الشبان من هذا الطريق، و هذه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 301

الظاهرة تكاد تستفحل في هذا العصر و الزمان بسبب مشاكل التحصيل العلمي و ما يرافق الزواج من مشكلات اقتصادية و ارتفاع سن الزواج بحيث إن الغالبية من أفراد المجتمع هم من العزاب، و بهذا فإنّ المخاطر و الأزمات الاجتماعية و النفسية الّتي يعيشها الناس في هذا الزمان هي أكثر من أي وقتٍ مضى مضافاً إلى ذلك فإنّ التبرج و السفور من الناحية الأخلاقية و الاجتماعية يتسبب في ارباك العوائل على مستوى الأمن و الاستقرار و يؤدي إلى بروز الجرائم الجنسية و الأزمات العائلية، و يؤدي أيضاً إلى ازدياد الانفعال العصبي و الأمراض

النفسية الاخرى أيضاً الّتي تعد أحد افرازات و نتائج ضعف الوشائج الاسرية و الروابط العائلية و ضعف قيمة شخصية المرأة في المجتمع.

2- عدم اختلاط الرجل و المرأة

لا شكّ أنّ المجتمعات البشرية المعاصرة لا تتمكن من الفصل التام بين الرجل و المرأة في حركة الواقع الاجتماعي، و لكن يمكن توقي الاختلاط في الموارد غير الضرورية و بذلك يتسنّى للمجتمع التوصل إلى حفظ العفة الاجتماعية و التقوى الجنسية أكثر، و السبب الّذي يحتم هذ الضرورة هو كثرة المفاسد الأخلاقية و الفضائح الاجتماعية في مجتمعاتنا المعاصرة كما هو الملاحظ في المجتمعات الغربية الّتي تبيح اختلاط الذكور و الأناث بصورة فاحشة.

3- رؤية التصاوير الخليعة و الأفلام الرخيصة

إن للافلام الخليعة و بعض البرامج التلفزيونية دور مؤثر و كبير في تحريك الغريزة الجنسية و خاصة بين الشباب، حيث يقوم الانتهازيون و الفئات المنحرفة بالتكسب و التجارة عن هذا الطريق اللامشروع و يعملون على نشر الفحشاء و المنكر من خلال صناعة الأفلام المبتذلة أو كتابة القصص الخليعة و نشرها بين أفراد المجتمع بالوسائل المختلفة فتنتقل عِبر الأمواج إلى شتّى بقاع المعمورة من دون أي رادعٍ و وازع شرعي أو قانوني، و بهذا يتمكنون من خلق التعقيدات النفسية و الأخلاقية للمجتمع البشري، و أي غفلة عن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 302

هذه السلوكيات المنحرفة تؤدي إلى السقوط الأخلاقي و الحضاري للمجتمع الإنساني.

و مع غاية الأسف أنّ بعض الكتّاب و أهل العلم و المعرفة راجعوا هذه المسألة من موقع الانفعال، و استسلموا لهذه الفتنة، و سكتوا في مقابل تحديات الواقع المنحرف بحجّة أنّ مخالفة هذه الظواهر المنحرفة غير ممكنة، أو مخافة الظهور أمام الناس بمظهر مختلف و رجعي أو مخافة الاتهام بالاصولية و الرجعية، و لهذا فقد تركوا التصدي لقوى الإنحراف هذه و سلّموا المجتمع الإسلامي إلى أمواج الخطر.

16

عامل الغفلة

تنويه:

«الغفلة» لها مفهوم واسع و شامل بحيث تستوعب في طياتها الجهل بشرائط الزمان و المكان و ظروف الواقع الّذي يعيش فيه الإنسان و تشمل الظروف الماضية و الحاضرة و المستقبلية، و كذلك أفعال الشخص و صفاته و سلوكياته و ما يظهر له من آيات الحقّ و النذر و العِبر الّتي تتزامن مع حوادث المعيشة و الوقائع الّتي تصيب الإنسان في حركة الحياة، و الغفلة عن هذه الوقائع و الحوادث و عدم اتخاذ موقف صحيح منها يمثل خطراً كبيراً يواجه سعادة الإنسان و شخصيته، هذا الخطر الّذي يمكن

أن يحيط بالإنسان و يبتلعه و يهوي به في مطاوي النسيان و العدم، الخطر الّذي بإمكانه أن يهدر أتعاب الإنسان بسنوات لذيذة من عمره في لحظة واحدة.

و لعلّكم سمعتم كثيراً بأن الشخص الفلاني الّذي كان يمتلك ثروة طائلة قد فقدها في لحظة من لحظات الغفلة، و هكذا حال الإنسان في طريق السعادة و الحياة المعنوية، فيمكن أن يعيش الإنسان الغفلة في لحظة واحدة حتّى تتحول ثروته المعنوية و ملكاته الإنسانية إلى رماد و تراب.

و لهذا السبب فإنّ علماء الأخلاق قد تحركوا في كتاباتهم لاستعراض مسألة «الغفلة»

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 304

و ما يقابلها من «التذكر» و بحثوا أسباب هذه الظاهرة و العوامل الّتي تؤدي إلى استفحالها في وجود الإنسان أو الطرق الكفيلة بإزالتها و الحدّ من نتائجها السلبية.

و بهذه المقدمة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الإلهية ما يسلط الضوء على هذه المسألة المهمة في حياة الإنسان، و الآيات الكريمة الّتي تتحدّث عن ظاهرة الغفلة كالتالي:

1- «وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنِّ وَ الْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَآ أوْلَئكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أوْلَئكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» «1».

2- «وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ» «2».

3- «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَ الْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» «3».

4- «إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَ رَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ اطْمَأَنُّواْ بِهَا وَ الَّذِينَ

هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ* أوْلَئكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ» «4»

5- «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ الْأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ» «5»

6- «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَ إِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَ كَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «6».

______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 179.

(2). سورة الأنبياء، الآية 97.

(3). سورة الكهف، الآية 28.

(4). سورة يونس، الآية 7 و 8.

(5). سورة الروم، الآية 7.

(6). سورة الأعراف، الآية 146.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 305

7- «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى الْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَ كَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «1».

8- «فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ» «2».

9- «وَ مَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» «3».

10- «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ». «4»

11- «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ». «5»

12- «وَ أَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِى غَفْلَةٍ وَ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ». «6»

تفسير و استنتاج:

«الغفلة» المنبع الأصلي للمشكلات

«الآية الاولى من الآيات محل البحث تتحدّث عن أسوأ أفراد البشر و تستعرض في طياتها فئة من الناس هم أشقى الناس جميعاً و تصفهم بعدّة أوصاف و تقول «وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنِّ وَ الْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَآ أوْلَئكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أوْلَئكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» «7».

في هذه الآية الشريفة نجد أنّ عنصر الغفلة يمثل العامل الأساس لشقاء

الإنسان و السبب الأصلي الّذي يدفع الإنسان إلى جهنم و بئس المصير، الغفلة الّتي تنشأ من ترك الإنسان بالتفكر و التدبر و عدم استخدام بصيرته و عدم إصغائه لصوت الحقّ حتّى يصل به الأمر إلى ______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 136.

(2). سورة العنكبوت، الآية 65.

(3). سورة الزخرف، الآية 36.

(4). سورة الأعراف، الآية 201.

(5). سورة ق، الآية 22.

(6). سورة مريم، الآية 39.

(7). سورة الأعراف، الآية 179.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 306

أن يصل إلى مستوى الانعام بل اضل منها و اتعس، لأن الأنعام إنّما تعيش الغفلة في حياتها بسبب انها خلقت كذلك و عدم وجود ملكة التنبه و التعقل في ذاتها، في حين إن الإنسان إذا عاش الغفلة في حياته مع وجود عوامل التنبه بأدوات التذكر و التعقل فسيكون أضل من الأنعام بالتأكيد.

إن مفهوم الآية أعلاه لا يعني أنّ اللَّه تعالى يجبر بعض الناس على سلوك طريق جهنم بل كما ورد التصريح في الآية نفسها أنّ أهل النار عند ما صاروا من أهل النار بسبب اختيارهم لهذا الطريق و السلوك الشائن، لأن اللَّه تعالى قد أعطاهم العقل و لكنهم لم يستخدموا عقولهم، و أعطاهم السمع و البصر و لكنهم لم يصحوا إلى الحقائق الإلهية في آذانهم و لم يروا آيات اللَّه بأبصارهم، إذن فكلما يواجهونه من مشاكل دنيوية أو اخروية فهو بسبب اختيارهم و من ناحيتهم، و غاية الأمر أنّ اللَّه تعالى قد قرر قانوناً و ناموساً يحكم عالم الوجود في دائرة الإنسان، و هو أنّ كلّ من لم يستخدم المواهب الإلهية في مجالها الخاصّ و لم يتحرّك في سبيل استخدام قابلياته الذاتية في طريق التكامل المعنوي فسيكون مصيره إلى جهنم في الآخر، فحصول هذا الشرط في هذا

القانون يرتبط بإرادة الإنسان ذاته.

«الآية الثانية» تتحدّث عن الكتاب في عرصات يوم القيامة، في ذلك الوقت الّذي يقترب فيه وعد اللَّه حيث تسري فيه الوحشة و يملك الخوف جميع وجودهم و تتحجر عيونهم من الرعب، و هناك يتعالى صراخهم و عويلهم و ينادون بالويل و الثبور على ما كانوا في غفلةٍ من هذا الحال «وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ» «1».

و على هذا فإنّ هذة الفئة من الناس يُقرون بأن «الغفلة» هي العامل الأساس في انحرافهم عن جادة الحقّ، الغفلة الّتي دعتهم إلى أن يتحركوا من موقع الظلم على أنفسهم و على الآخرين و تركهم لدعوة الأنبياء و الكتب السماوية و القاءها وراء ظهورهم.

______________________________

(1). سورة الأنبياء، الآية 97.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 307

هؤلاء يتحدّثون بهذا الكلام عند ما تصيب الزلزلة جميع عالم الوجود و تتجلّى يومئذٍ علامات القيامة و تزول حجب «الغفلة»، و هناك يعيش هؤلاء الندم حيث تكون أبواب التوبة و الانابة إلى اللَّه مؤصدة أمامهم «1».

«شاخصة» من مادّة «شخوص» و هي في الأصل بمعنى الخروج من المنزل أو المدينة إلى مدينة اخرى، و بما أنّ الإنسان عند ما يستولي عليه الرعب تشحب عيناه و تتوقفان عن الحركة حيث يظل ينظر إلى نقطة معينة في حالة من البهت بحيث تكاد تخرج حدقة العين من مكانها، فهذه الحالة يطلق عليها بالشخوص.

«الآية الثالثة» تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من موقع الارشاد لمن يصح معاشرتهم و الحياة معهم و تقول «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَ الْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» «2».

في هذه الآية نقرأ صفات الأشخاص الّذين يمتلكون اللياقة ليكونوا في صحبة النبي و رفقته من موقع اتصافهم بالايمان و العبادة و ذكر اللَّه تعالى في الصباح و المساء، و تحذر الآية الشريفة أيضاً من اطاعة الغافلين عن ذكر اللَّه و الّذين يتحركون من موقع الأهواء و الشهوات إلى درجة الافراط، و من خلال مضامين هذه الآية الكريمة نستوحي وجود علاقة بين اتباع الهوى و بين الغفلة، أجل فإنّ الغافلين عن ذكر اللَّه هم الّذين يتبعون أهوائهم و يعيشون حالة الافراط في سلوكياتهم، و لو لم يكن في ذمّ «الغفلة» الا هذا لكفى

و طبقاً لما بيّنته الآية أعلاه من أنّ اللَّه تعالى قد أغفل قلوب هؤلاء «أغفلنا قلبه عن ______________________________

(1). وقع اختلاف في مرجع الضمير «هي» و انه على من يعود؟ و الأفضل عوده على الأبصار، فهناك نوع من التقديم و التأخير في كلمات الآية.

(2). سورة الكهف، الآية 28.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 308

ذكرنا» يتضح جيداً أنّ ذلك كان نتيجة أعمالهم السيئة في الحياة الدنيا و على شكل عقوبة إلهية.

و المعروف أنّ الآية محل البحث نزلت في طائفة من الأثرياء و المتكبرين في عصر النزول حيث جاءوا إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و قالوا له: يا رسول اللَّه، إنك لو جلست في صدر المجلس و نحيت عنّا هؤلاء و أرياح جبابهم- يعنون بذلك سلمان و أبا ذر و فقراء المسلمين و كانت عليهم جباب الصوف و لم يكن عليهم غيرها- جلسنا إليك و حادثناك و أخذنا عنك، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية إلى قوله:

إنا اعتدنا للظالمين ناراً ... «1».

إن اللَّه تعالى كان يعلم ما في نفوس هؤلاء الغافلين و أنّهم يعيشون الادعاءات الفارغة و الشعارات الجوفاء و أنّهم ليسوا بقابلين للاعتماد و الثقة لا في حالة الصلح و لا في زمن الحرب و لا يمكن الاستفادة من أفكارهم، و لهذا حذّر اللَّه تعالى نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله من وساوسهم.

«الآية الرابعة» تتحرك في سياقها من خلال استعراض بعض أوصاف أهل النار و تقول:

«إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَ رَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ اطْمَأَنُّواْ بِهَا وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ* أوْلَئكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ» «2»

في هذه الآية الكريمة نقرأ أنّ السبب الأساس لانكار المعاد لدى بعض الناس و رضاهم بالحياة الدنيا و نسيان الآخرة هو «الغفلة» عن آيات اللَّه و الّتي تمثل هذه الحالة المحور و المصدر الحقيقي لشقاء الإنسان و تورطه في المشاكل و المصائب، في حين أنّ السبب الحقيقي لسعادة المؤمنين و أصحاب النعيم في الآخرة يمتد في جذوره إلى حالة التنبأ و التذكر و الانفتاح على اللَّه تعالى كما ورد ذلك في الآيات الّتي تلي هذه الآية.

______________________________

(1). ذكر شأن النزول هذا كلّ من الطبرسي في «مجمع البيان» و القرطبي في تفسير «الجامع لأحكام القرآن» و البرسوني في «روح البيان» و جماعة آخرون مع بعض الاختلاف في النقل (و الجدير بالذكر أنّه بالرغم من أنّ سورة الكهف مكية و لكن المفسرين ذكروا أنّ الآية مورد البحث (28) نزلت في المدينة).

(2). سورة يونس، الآية 7 و 8.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 309

و نقرأ في تفسير روح البيان في ذيل هذه الآية حديثاً قدسياً يقول: العجب ممّن يؤمن بالنار كيف يضحك؟ و ممّن يتعلق

بالدنيا و هو يعلم أنّه مفارقها، و من الغافلين كيف يلهون في حين أنّهم يعلمون أنّه لا يُغفل عنهم.

و يتحدّث صاحب التفسير المذكور في ذيل هذا الحديث الشريف عن قصة «النعمان بن المنذر» الّذي كان أحد ملوك الحيرة في عصر الجاهلية، و يقول: في أحد الأيّام كان هذا الملك جالساً للهو و اللعب تحت شجرة وارفة الظلال، فقال له «عدي» و كان أحد أقربائه:

أيّها الملك أنّ هذه الشجرة تغني فهل تعلم ما تقول؟ هذه الشجرة تقول:

رُبَّ رَكْبٍ قَدْ اناخُوا حَولَنايَمزَجُون الخَمْرَ بِالمَاءِ الزُّلالِ

ثُمَّ اضْحُوا اسَفَ الدَّهرُ بِهِم وَ كَذاك الدَّهرُ حالًا بَعد حالٍ «1»

«الآية الخامسة» تتحدّث عن الأشخاص الّذين يعيشون «الغفلة» عن أسرار و قضايا عالم الوجود و لا يرون إلّا ظواهر الامور، و يقنعون بهذا الظاهر الجذّاب لهذه الحياة الدنيا عن حقيقتها مع الغفلة عن باطنها الّذي يشير إلى الحياة الاخرى و تقول «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ الْأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ». «2»

فلو أنّ الغفلة لم تلق عليهم بظلالها و لم تكبل عقولهم بقيودها لرأوا في كلّ شي ء و في كلّ كائنٍ و موجود من هذا العالم آية من الآيات الّتي تدلّ على اللَّه تعالى و المعاد، فالقرآن الكريم يستعرض أسرار عالم الخلقة و يقرر أنّ هذا النظام المدهش للعديد من عالم المادّة و الطبيعة إنّما هو آية و علامة على وجود اللَّه تعالى و علامة كذلك على المعاد و الحياة بعد الموت من خلال الحوادث المشاهدة و الملموسة في حركة الحياة و الواقع، غاية الأمر انه لا يدرك مغزى هذه الآيات و العلامات و لا يقرأ مضمونها الباطني سوى أصحاب البصيرة الّذين قرؤوا نغمة التوحيد و المعاد في باطن هذه

الحوادث لا الأشخاص الّذين يتعاملون مع الحياة الدنيا من موقع الأهواء و النوازع المادية الرخيصة.

______________________________

(1). روح البيان، ج 4، ص 18.

(2). سورة الروم، الآية 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 310

هذا و إن تكرار ضمير «هم» في الآية الشريفة يعد تأكيداً على هذا المطلب، و هو أنّ «الغفلة» هي السبب في أن يتحرّك الإنسان من موقع الظواهر فحسب و لا يرى واقع الحال و يتوغل في باطن الامور.

و الجدير بالذكر أنّ مفردة «الغفلة» وردت في موارد تكون فيها أسباب و مقدمات التذكر و التنبه متوفرة لدى الإنسان، و لكنه و بسبب اتباعه للأهواء أو بسبب ضعف الإيمان أو لأسباب اخرى فإنه يتغافل عنها، و الشاهد على ذلك الآيات الّتي وردت بعد هذه الآية من سورة الروم حيث يستعرض اللَّه تعالى فيها نماذج من آثار التوحيد و المعاد في عالم الخلقة و في واقع الإنسان و يحذّر الغافلين عن التمادي في غفلتهم و ينذرهم من عاقبة هذه الحالة الوخيمة.

«الآية السادسة» تتحدّث عن أخطر فئة من الكفّار، و هم الّذين يعيشون حالة التكبر و العناد مضافاً إلى كفرهم، و في آخر الآية تقرر السبب الّذي ساقهم إلى الشقاء الدائم، و هو الغفلة عن آيات اللَّه و تقول: «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَ إِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَ كَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «1».

و قد وقعت هذه الجملة من الآية الكريمة «سَأَصْرِفْ عَن آيَاتِي» مورداً لبحث المفسّرين و مناقشاتهم، و لعلّه كان بسبب أنّ من المسلّم أنّ اللَّه تعالى يهدي الناس إلى طريق الحقّ،

و أساساً فإنّ جميع الأنبياء و الأوصياء كانوا يهتمون بارشاد الناس و هدايتهم إلى اللَّه تعالى، فكيف يجتمع هذا المعنى مع قوله تعالى «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ» و انه تعالى هو الّذي يحرم هؤلاء عن الهداية و التوفيق لرؤية هذه الآيات على نفسها، و لهذا نجد أنّ الكثير من المفسّرين قد تكلفوا تأويل هذه الآية بما لا يتناقض مع الاصول و المبادى ء المسلمة.

و يتضح الجواب عن هذا السؤال من خلال استعراض الآيات القرآنية الاخرى في هذا

______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 146.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 311

المجال، حيث تمثل بعض اعمال الإنسان و حالاته النفسية من قبيل التكبر و العناد أمام الحقّ و التعصب الشديد حجباً مظلمة على قلب الإنسان تمنعه من مشاهدة جمال الحقّ، و في الواقع أنّ هذه الأعمال و الصفات القبيحة هي الّتي تسبب حجبهم عن الحقّ و تمنعهم من رؤية آيات اللَّه، و عند ما تنسب الآية عملية الحجب هذه إلى اللَّه تعالى فإنما ذلك بسبب أنّ اللَّه تعالى قد جعل هذه النتيجة كعقوبة طبيعية و اثر طبيعي مترتب على تلك الأعمال و الصفات، أي أنّ الانصراف عن آيات اللَّه هو نتيجة طبيعية مقررة في قانون الخلقة لمن يمارس تلك الأعمال و الصفات القبيحة.

و الجدير بالذكر أنّ الآية الشريفة تقرر في ختامها و تؤكد على أنّ سبب انصرافهم عن آيات اللَّه هو تكذيبهم و غفلتهم عن هذ الآيات.

«الآية السابعة» تتحرك من خلال استعراض حالة العناد لدى الفراعنة في مقابل الآيات الإلهية و البلايا المتنوعة الّتي أنزلها اللَّه على هؤلاء القوم الفاسقين لينتهوا من غفلتهم و يؤوبوا إلى رشدهم و يتبعوا نبيّهم «موسى بن عمران» و تقول «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى ا لْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ

بِآيَاتِنَا وَ كَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «1».

و من خلال السياق القرآني في هذه الآية نستوحي أنّ مصدر شقاء قوم فرعون و هلاكهم هو تكذيب الآيات الإلهية و الغفلة عنها، و يمكن أن تكون «الغفلة» سبباً للتكذيب، فإنّ الجذر الأصلي لشقائهم هو «الغفلة» عن آيات اللَّه، أو أنّهم قد تحركوا في مقابل الدعوة السماوية من موقع التكذيب أحياناً و الغفلة أحياناً اخرى، و بهذا يكون كلّ من التكذيب و الغفلة سبباً مستقلًا للشقاء و الهلاك.

بعض المفسّرين يرى أنّ ضمير «عنها» يعود إلى النقمة الإلهية و العذاب الإلهي، ففي هذه الصورة يكون عنصر التكذيب بآيات اللَّه هو الموجب لشقائهم، و لكن هذا الاحتمال ضعيف جداً لأن هذا الضمير ورد إلى جانب الآيات، و حسب الظاهر انه يعود عليها، و قد أورد بعض ______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 136.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 312

المفسّرين سؤالًا هنا، و لعلّ هذا السؤال كان هو السبب في احتمال عودة الضمير إلى النقمة و العذاب، و هو أنّ «الغفلة» حالة غير اختيارية و لذلك لا يمكن أن تستوجب عذاب اللَّه للإنسان.

و لكن الجواب عن هذا السؤال واضح، لأن «الغفلة» في كثير من الموارد تكون اختيارية في جذورها و مقدماتها، فعند ما يتحرك الإنسان باتجاه آيات اللَّه و لا يتدبر فيها و لا يصغي لكلمات الأنبياء، فمن الطبيعي أن تستولي عليه حالة الغفلة، و من هذا المنطلق نجد الناس كثيراً ما يذمون المجرمين و المنحرفين بسبب غفلتهم.

«الآية الثامنة» و بالرغم من انها لم تذكر كلمة «الغفلة» في سياقها، إلّا أنّ محتواها العام يتضمّن مفهوم الغفلة، فهذه الآية تتحدّث عن المشركين في عصر النزول الّذين كانوا يتحركون من موقع الغفلة الشديدة و أحياناً ينتبهون من غفلتهم

و يتجهون نحو التوحيد في حالات خاصّة، و أحياناً اخرى يغرقون في مستنقع الشرك و الضلالة تماماً، فتقول الآية «فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ» «1».

أجل، فإنّ اعصار الحوادث و الأخبار من شأنه أن يزيح حُجب «الغفلة» عن أبصار هؤلاء و يتجلّى لهم حقيقة الأمر و واقع الحياة الدنيا، فطائفة منهم تستثمر هذا التنبيه و هذه اليقظة في حركتها التكاملية و المعنوية و يتحركون لاصلاح أخطائهم و جبران ما فاتهم من العمر، و لكن هناك طائفة اخرى و هم الأكثرية يتنبهون في هذه اللحظات فحسب و بعد انتهاء الحادثة يعودون ادارجهم نحو ما كانوا يعيشونه من الغفلة و اتباع الهوى في خط الباطل و الانحراف.

بعض المفسّرين يذكر في ذيل هذه الآية أنّ المشركين كانوا يصطحبون معهم أصنامهم في أسفارهم البحرية ليحفظونهم من الغرق و لكنهم عند ما يواجهون الخطر و يرون أمواج البحر الرهيبة الّتي تتقاذفهم من كلّ جانب كالريشة في مهب الريح فإنّهم يلقون بأصنامهم ______________________________

(1). سورة العنكبوت، الآية 65.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 313

في البحر و يتجهون نحو اللَّه بكلّ اخلاص و يتعالى صراخهم «يا اللَّه يا اللَّه» «1».

«الآية التاسعة» تقرر حكماً عاماً و كلياً بالنسبة إلى جميع أفراد البشر و تقول «وَ مَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» «2».

أجل، فإنّ التوجه إلى اللَّه تعالى يتسبب أن يكون الذاكر جليس الملائكة بمقتضى قوله تعالى «انّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائِكة ...».

و الحال أنّ التغافل عن ذكر اللَّه يفضي بالإنسان أن يكون قرين الشياطين الّذين يسوقونه إلى حيث يريدون كما تقول الآية الشريفة «نُقَيّضْ لَهُ

شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» و في الواقع أنّ عمله هذا أي «الغفلة» عن آيات اللَّه يورثه البعد عن رحمة اللَّه و بالتالي يكون قرين الشياطين البعيدة عن رحمة اللَّه، و بعبارة اخرى: أنّ هذه الحالة هي جزاءه الدنيوي على حالة الغفلة هذه.

و بالنظر إلى أنّ كلمة «يعش» من مادّة «عشو» على وزن «نَشَر»، بمعنى ضعيف النور في بصره فلا يرى شيئاً بوضوح و كأنما يغطي عينه حجاب فلا يرى الحقيقة بوضوح، و مفهومها ليس هو سوى الغفلة و الاعراض عن اللَّه تعالى، و يقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرّاً قيِّضَ لَهُ شَيطاناً قَبْلَ مَوتِهِ بِسَنَةٍ، فَلا يرى حَسَناً الّا قَبَّحَهُ عِنْدَهُ حَتَّى لا يَعْمَلُ بِهِ، وَ لا يَرى قَبِيحاً الّا حَسَّنَهُ حَتّى يَعْمَلُ بِهِ» «3».

و في «الآية العاشرة» يتحدّث القرآن الكريم عن المتقين و الّذين يقابلون امواج الوساوس الشيطانية و يعالجون حالات الغفلة مهما كانت قليلة بذكر اللَّه تعالى، فتكون النتيجة أنّ حجب الغفلة و تراكمات الوساوس تنقشع عن القلب و تنفتح البصيرة فتقول الآية

______________________________

(1). روح البيان، ج 6، ص 493.

(2). سورة الزخرف، الآية 36.

(3). روح البيان، ج 8، ص 369.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 314

«إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ» «1».

هذا التعبير في الآية الكريمة يشير إلى أن ذكر اللَّه تعالى يورث الإنسان بصيرةً في قلبه في حين أنّ الغفلة عن ذكر اللَّه تمهد الطريق لنفوذ الشياطين إلى قلبه.

«طائف» يعني من يطوف حول شي ء معين، و المراد به كما ذكره جمعٌ من المفسّرين الكبار هو الوساوس الشيطانية الّتي تطوف حول قلب الإنسان لتتمكن من العثور على منفذ لها في كعبة القلب

و تحول هذا القلب إلى معبد للأوثان، و عملية النفوذ هذه لا تتسنى لهؤلاء الشياطين إلّا في حالة «الغفلة» عن ذكر اللَّه، لأن الإنسان بمجرد أن يذكر اللَّه تعالى فإنّ الوساوس و الخطرات الشيطانية سوف تبتعد و تتلاشى و يتجلّى حينئذٍ نور الحقّ أمام بصيرة الإنسان في حركته المنفتحة على اللَّه و الحقّ.

«الآية الحادية عشر» تتحدّث عن الغافلين الّذين يعيشون حالة الغفلة و الجهل المطلق إلى آخر عمرهم، و لكن عند ما يحين أجلهم و يقعون في سكرات الموت و يرون بامّ أعينهم آثار أعمالهم السيئة فحينئذٍ يعيشون الرعب و القلق الشديد، فيقال لهم حينئذٍ «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» «2».

إن الآيات القرآنية هذه توحي بوجود ملكين يصطحبون الإنسان في عرصات المحشر، أحدهما يسوقه إلى محكمة العدل الإلهي، و الآخر يحضر بعنوان الشاهد على أعماله، و يحتمل أن يكون هذان الملكان هما الّذين كانا يصطحبان الإنسان في الحياة الدنيا و يكتبون أعماله الصغيرة و الكبيرة، ففي القيامة يأخذان بيد المجرمين و معهما كتابهما هذا إلى حيث المحكمة الإلهية الكبرى و لكنَّ هؤلاء المجرمين لم يكونوا يحسون بوجود هذين الملكين في الحياة الدنيا بل لم يكونوا يؤمنون بوجودهما بالرغم انهما يصحبون كلّ إنسان في هذه الحياة، و يوم القيامة حيث تزاح الحجب و تزال الاستار و تنفتح عين البصيرة يرى ______________________________

(1). سورة الأعراف، الآية 201.

(2). سورة ق، الآية 22.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 315

الإنسان هذه الحقيقة الناصعة.

«الآية الثانية عشر» و الأخيرة من هذه الآيات محل البحث تتحدّث عن يوم القيامة و تبين حالات الغافلين في هذا اليوم الملي ء بالحسرات و اشكال الحزن و تقول «وَ أَنذِرْهُمْ يَوْمَ

الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِى غَفْلَةٍ وَ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ» «1».

و أحد أسماء يوم القيامة هو يوم الحسرة، لأن الغافلين الّذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا بعيداً عن الحقّ سوف ينتبهون من نومتهم هذه و يرون جميع أعمالهم، فهناك سيجدون أمامهم كتاب يقرر ما ارتكبوه من أعمال، فهناك من جهة اخرى الملائكة الّذين يشهدون عليهم، و من جهة ثالثة و الأشد من ذلك هو شهادة أعضاء الإنسان حتّى الجلد على ما ارتكبته في الحياة من أعمال و سلوكيات شائنة، و هناك ترتفع نار الندم و الحسرة و تستولي على وجود الإنسان و لكنهم لا يجدون طريقاً سوى مزيد التحسر على ما فاتهم من فرص ثمينة في الحياة الدنيا، فليس لهم الرجوع للعودة لجبران ما فات لأن الطريق موصد من خلفهم و الكتب قد اغلقت، فلا مجال للتوبة و الانابة، و لذلك سيملأ الحزن وجودهم و خاصّةً عند ما يسمعون نداء الملائكة الموبخ لهم حيث يقولون «لقد كنت في غفلةٍ من هذا».

و بديهي أنّ هذه الغفلة لا تتعلق بحالات يوم القيامة و لا عالم البرزخ، لأن الإنسان و بمجرد أن ينتقل من هذه الدنيا و يعانق الموت فإنّ سحب الغفلة ستزول أمام عينه و يرى حقائق العالم كما هي، و حينئذٍ لا يبقى معنى لمفهوم «الغفلة» كما تقول الآية 99 و 100 من سورة المؤمنون «حَتَّى إذا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلَّا انَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمِ بَرْزَخٌ الَىَ يَومِ يُبْعَثُونَ».

النتيجة:

و ممّا نستوحيه من الآيات المذكورة آنفاً أنّ الخطر الّذي يعيشه الإنسان بسبب الغفلة

______________________________

(1). سورة مريم، الآية 39.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 316

عن ذكر

اللَّه و تجاهل الحقائق الّتي تستبطن عالم الوجود أكثر ممّا يتصور عادةً حيث بإمكان «الغفلة» أن تدمر جميع اركان سعادة الإنسان و تحرق في أجوائها جميع الآمال الإيجابية في حياة كريمة و تهدر جميع طاقاته و قابلياته الّتي يمكنه التوصل بها إلى أعلى مراتب الكمال المعنوي و الإنساني و تحولها إلى رماد و هباء منثور.

الغفلة في الروايات الإسلامية:

و قد ورد في النصوص الروائية أحاديث مثيرة حول عواقب الغفلة و آثارها السيئة و المدمرة في حياة الإنسان، و بسبب كثرة هذه الروايات فسوف نختار منها ما يلي:

1- عند ما توجه النبي صلى الله عليه و آله في معراجه إلى السماء سمع الخطاب الإلهي له يقول «يَا احْمَدَ انْتَ لا تَغْفَلْ ابَداً مَنْ غَفَلَ عَنِّي لا ابَالِي بِايٍّ وَادٍ هَلَك» «1». و هذا الحديث يبين بوضوح أنّ عاقبة الغفلة هي الهلاك و الدمار و المحقّ.

2- ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في عبارة مختصرة و مليئة بالمعنى «الْغَفْلَةُ اضَرُّ الاعْدَاء» «2» لأن الغفلة هي السبب في الكثير من الذنوب و الآثام في واقع الإنسان و سلوكه.

3- و يقول أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً في حديث آخر «الْغَفْلَةُ تَكْسِبُ الإغْتَرارَ وَ تُدْنِي مِنَ البَوَارِ» «3».

4- و أيضاً ورد عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «الْغَفْلَةُ ضَلالُ النُّفُوسِ وَ عُنْوَانُ النُّحُوسِ» «4».

لأن الطريق الوحيد للنجاة من الضلال هو التفكر و التدبر و لكن الغفلة هي الّتي تصد الإنسان عن هذا الطريق المنفتح على اللَّه و الحقّ.

______________________________

(1). ارشاد القلوب، ج 1، ص 214، طبع دار الفكر- بيروت.

(2). شرح غرر الحكم، ج 1 ص 128.

(3). شرح غرر الحكم، ج 7، ص 295.

(4). المصدر السابق، ج 1، ص 369.

الاخلاق فى القرآن،

ج 2، ص: 317

5- و في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «وَيلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ فَنَسِىَ الرَّحْلَةَ وَ لَمْ يَسْتَعِدْ» «1».

6- و عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنْ كَانَ الشَّيطانُ عَدُوّاً فَالْغَفْلَةُ لِمَا ذَا» «2».

و تقدّم في الأحاديث السابقة أنّ الغفلة تارةً تكون عن اللَّه، و اخرى عن يوم القيامة، و ثالثة عن وساوس الشياطين و هكذا.

7- و يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ انْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَ انْ تُؤَدِّيَهُ ايَّامُهُ الَى الشَّقْوَةِ» «3».

و المقصود من الغفلة في هذا الحديث هو الغفله عن أداء الوظائف و الواجبات الدينية طيلة العمر.

8- و قد ورد في بعض الروايات أنّ هذه المسألة إلى درجة من الأهمية حتّى انها اعتبرت هي الهدف لبعثة الأنبياء، أي لعلاج مرض «الغفلة» بين الناس، كما نقرأ في الخطبة 108 من خطب نهج البلاغة في بيان صفات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله «مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ» «4».

9- و في حديثٍ آخر عن هذا الإمام العظيم يتحدّث فيه عن آثار الغفلة المخربة و نتائجها المدمرة في حياة الإنسان و يقول: «بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغَفْلَةِ وَ الغِرَّةِ» «5».

10- و قد ورد في الروايات الإسلامية عن حالات عيسى ابن مريم أنه مرّ على قرية مات أهلها بسخط اللَّه، فأحيا عيسى بن مريم واحداً منهم و سأله عن أعمالهم. قال: عبادة

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ج 6، ص 227.

(2). بحار الأنوار، ج 75، ص 190.

(3). نهج البلاغة، الخطبة 64 و 7.

(4). نهج البلاغة، الخطبة 108 و 5.

(5). شرح غرر الحكم، ج 7، ص 296.

الاخلاق فى القرآن،

ج 2، ص: 318

الطاغوت و حبّ الدنيا مع خوف قليل و أمل بعيد و غفلة في لهو و لعب» «1».

11- و يقول أمير المؤمنين عليه السلام بالنسبة للآثار الاجتماعية لحالة الغفلة «مِنْ دَلائِلِ الدَولَةِ قِلَّةُ الْغَفْلَةِ» «2».

أجل فإنّ الغفلة و تجاهل الامور الاجتماعية ستفضي إلى ضياع الدولة.

12- و نختم هذا البحث بحديثٍ عن أمير المؤمنين حيث يبين للناس مخاطر الغفلة و يحذرهم من سوء عاقبتها و يقول «اتَّقِ ايُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ وَ اسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ، وَ اخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ» «3».

و طبقاً لهذا البيان الشامخ فإنّ السبب الأساس لشقاء الإنسان يكمن في ثلاث أشياء:

سكر الشهوة، الغفلة عن حقائق العالم، العجلة في الامور، حيث نجد أنّ الإمام أمير المؤمنين يحذر في هذا الكلام المختصر أفراد الإنسان من كلّ طائفة و قوم من هذه العناصر الثلاثة ليكونوا من أهل النجاة و السعادة في الدنيا و الآخرة.

النتيجة:

و بالرغم من أنّ أكثر الناس يعيشون الغفلة عن نتائج حالة الغفلة، و لكن أئمّة الدين كانوا يرون الفاجعة المترتبة على هذه الحالة المأساوية، و بيّنوا للناس بعبارات مختلفة وخامة هذا المرض العضال كما تقدّم آنفاً في الأحاديث الشريفة و دعوا الناس إلى التدبر و التفكر.

و الجدير بالذكر أنّ «الغفلة» لها مفهوم واسع و شامل، أي أنّ هذه المفردة و هذا المفهوم يشمل موارد كثيرة منها الغفلة عن اللَّه، و الغفلة عن يوم القيامة، و الغفلة عن كون الحياة الدنيا

______________________________

(1). سفينة البحار، مادّة غفل.

(2). شرح غرر الحكم، ج 7، ص 296.

(3). المصدر السابق، ج 7، ص 296.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 319

مهزوزة و غير مستقرة، و الغفلة عن الشيطان و وساوسه، و بشكل عام فإنّ الغفلة تستوعب جميع الامور الّتي تتعلق بشكل

أو بآخر بسعادة الإنسان في حركة الحياة.

ملاحظات مهمة حول الغفلة:

اشارة

بالرغم من أنّ هذه الصفة لها تأثير كبير في حياة الإنسان و مصيره و تعد من الصفات الرذيلة، و لكن قد يثار هذا السؤال، و هو انه لماذا لم يتعرض علماء الأخلاق لهذه الرذيلة في كتاباتهم و كلماتهم، و حتّى لو تعرضوا لها بالكلام فلا يكون كلاماً وافياً لهذا الموضوع المهم، و على أي حال فهناك عدّة مباحث في هذا الموضوع تستحق الدراسة و البحث كلًا على انفراد و هي:

1- عوامل الغفلة

ألف) الجهل «الغفلة» لها مصادر و أسباب كثيرة، من أهمها الجهل و عدم الاطلاع على حقيقة الحال، و كذلك عدم معرفة اللَّه في مقام الربوبية و عدم الاهتمام بمسألة المعاد و كذلك عدم معرفة وهمية الثروة و المناصب الدنيوية و الجهل بوساوس الشيطان و أمثال ذلك.

و يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال «انَّ مَنْ عَرَفَ الايَّامَ لَمْ يَغْفَل عَنَ الاسْتِعْدَادِ» «1».

ب) الغرور و الانانية

يعتبر الغرور أحد عوامل الغفلة و أحياناً يكون الغرور نتيجة للغفلة أيضاً، لأن الإنسان المغرور لا يرى إلّا نقاطه الإيجابية و لا يفكر إلّا بميزاته الذاتية، و قد يتصور أحياناً انها باقية له مدى الحياة، و هذا الأمر يسبب له الغفلة عن الحقائق في عالم الوجود و الّتي يكون لها دور هام في أن يتعرض هذا الإنسان للهزيمة و الاندحار.

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 3، ح 15189، (باب الغفلة).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 320

و قد شوهد في التاريخ البشري شخصيات كثيرة قد وقعت في أسر «الغفلة» بسبب الغرور و العجب و تعظيم الذات حيث سلبتهم هذه الحالة القدرة على رؤية الواقع كما هو فتعرضوا للهزيمة أمام الأعداء و لم يتمكنوا من الصمود لأنهم لم يكونوا يروا نقاط ضعفهم.

ج) سكر النعمة

سكر

النعمة (و الّذي يشبه الغرور إلى درجة كبيرة و لكنه يختلف عنه في الواقع) قد يوقع الإنسان في مستنقع الغفلة أيضاً، فعند ما تنفتح الدنيا على بعض الأشخاص فسوف يصابون بسكر النعمة، و سكر النعمة هذا يوقعهم في مهاوي الغفلة عن الواقع المحيط بهم و تستمر هذه الغفلة حتّى يحين أجلهم و يستيقظون من نومتهم و سكرهم كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «مَنْ غَفَلَ عَنْ حَوَادِثِ الايَّامِ ايْقَضَهُ الْحِمَامُ» «1».

و يقول الإمام زين العابدين عليه السلام أيضاً «انَّ قَسْوَةَ الْبَطْنَةِ وَ فَتْرَ الْمَيْلَةِ وَ سَكْرَ الشَّبَعِ، وَ عِزَّةَ الْمُلْكِ مِمَّا يُثَبِّطُ وَ يُبْطِي عَنِ الْعَمَلِ وَ يَنْسِي الذِّكْرَ وَ يُلْهِي عَنِ اقْتِرَابِ الاجَلِ حَتّى كَانَّ الْمُبْتَلى بِحُبِّ الدُّنيَا بِهِ خَبْلٌ مِن سُكْرِ الشَّرَابِ» «2».

د) العافية و السلامة البدنية

بالرغم من أنّ السلامة البدنية و العافية الجسمانية تعد من النعم الإلهية الكبرى على الإنسان، و لكنها من جهة اخرى تعد من عوامل الغفلة أيضاً، و هذا فإنّ من الالطاف الإلهية الخفية أن تؤخذ هذه السلامة البدنية من الإنسان و يبتلى بألوان المحنة و المرض لكي تزول عن بصيرته سُحب الغفلة، فيرى بعين القلب حقائق العالم، و يتحرك حينئذٍ في سلوكياته و أفكاره بالاتجاه المناسب و الطريق الصحيح.

و لهذا أيضاً نجد أنّ الحديث الشريف الوارد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يذكر فيه منافع و بركات المرض و يقول مخاطباً سلمان الفارسي حينما عاده في مرضه «انتَ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرٍ وَ دُعَاؤُكَ ______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ج 7 ص 296.

(2). تحف العقول، كلمات الإمام السجّاد عليه السلام (و من كلامه عليه السلام في الزهد)، ص 311، طبع انتشارات العلمية الإسلامية مع الترجمة.

الاخلاق فى

القرآن، ج 2، ص: 321

فِيهِ مُسْتَجَابٌ» «1». أي أنك الآن تعيش حالة التذكر و التنبه و قد زالت منك حجب الغفلة و لهذا فإنّ دعائك مستجاب.

ه) طول الأمل و أحد العوامل الاخرى للغفلة هو طول الأمل و التمنيات الدنيوية الموهومة، حيث تستولي على قلب الإنسان و فكره و تجعله غافلًا عمّا يراد به، و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة المعروفة بالديباج «وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ انَّ الامَلَ يَذْهَبُ الْعَقْلَ وَ يُكَذِّبُ الْوَعْدَ وَ يَحِثُّ عَلَى الْغَفْلَةِ وَ يُورِثُ الْحَسْرَةَ» «2».

2- العواقب المشؤومة للغفلة

إن الغفلة عن ذكر اللَّه و المعاد و ما يتعرض له الإنسان في هذه الحياة من محن و ابتلاءات بسبب الذنوب و الآثام كلّ هذه الامور تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في منزلقات الخسران و الفناء و تسبب له اضراراً غير قابلة للجبران و التدارك، كما ورد هذا المعنى في كلمات المعصومين و أئمّة الدين عليهم السلام و من ذلك:

ألف) الغفلة تورث قساوة القلب إن قساوة القلب ليست سوى نتيجة للغفلة و الابتعاد عن المعارف الإلهية، لأن العامل المهم في لطافة الروح و انعطاف القلب أمام الحقّ هو ذكر اللَّه تعالى، فعند ما ينقطع مطر الرحمة الإلهية عن أرض القلب بانقطاع الذكر فسيتحول القلب إلى صحراء قاحلة مليئة بالاشواك و الحجارة كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «ايَّاكَ وَ الْغَفْلَةَ فَفِيهَا تَكُونُ قَسَاوَةُ الْقَلْبِ» «3».

ب) الغفلة و موت القلب الغفلة تفضي في النهاية إلى موت القلب أيضاً، أي أنّ الإنسان بعد أن يعيش حالة

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 74، ص 60.

(2). بحار الأنوار، ج 74، ص 293.

(3). بحار الأنوار، ج 75، ص 164.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 322

القساوة و عدم الانعطاف في قلبه

و روحه فسوف يقترب من موته المعنوي بحيث لا تعد المواعظ و النصائح تأثر في مثل هذا الإنسان، و في هذه الصورة سوف يوصد باب العودة و الانابة إلى اللَّه أمامه و لا يبقى هناك أمل في نجاته، يقول أمير المؤمنين عليه السلام «مَنْ غَلَبَتْ علَيْهِ الْغَفْلَةُ مَاتَ قَلْبُهُ» «1».

و في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغَفْلَةِ وَ الْغِرَّة» «2».

ج) الغفلة و فساد الأعمال كما و أنّ «الغفلة» تسبب في بطلان أعمال الإنسان و فسادها، و لهذا نجد أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الغفلة عن اللَّه و الآخرة قلما يتحركون في سلوكياتهم في دائرة الخيرات و المبرات، و لو أنّهم تحركوا في هذا السبيل فإنّ الغفلة لا تسوغ لهم أن يتمتعوا بحالة الأخلاص في طريق الانفتاح على اللَّه، فلا يصدر منهم ذلك العمل بنية خالصة.

و من ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام «ايَّاكَ وَ الْغَفْلَةَ وَ الِاغْتِرَارَ بِالْمُهْلَةِ فَانَّ الْغَفْلَةَ تُفْسِدُ الاعْمَالَ» «3».

و يحتمل في تفسير هذا الحديث أنّ المراد منه فساد الأعمال السالفة للإنسان بسبب الغفلة اللاحقة، لأنّ الغفلة تتسبب في ارتكاب الذنب و الوقوع في وادي الخطيئة، و الخطيئة بدورها تستوجب حبط الأعمال و افسادها.

د) الغفلة و القرب الإلهي مضافاً إلى ذلك فإنّ الغفلة تستوجب سلب الإنسان اللياقة لنيل مرتبة القرب من اللَّه تعالى و لقائه، لأن الوصول إلى هذه المرتبة و نيل هذا المقام السامي لا يتسنّى للإنسان إلّا في ظلّ المعرفة و التذكر و التفكر و أن يعيش الإنسان حالة الوعي و الاتصال مع المبدأ.

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ج 5، ص 293.

(2). شرح غرر الحكم، ج 3، ص 268.

(3). شرح غرر الحكم،

ج 2، ص 312.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 323

الاخلاق فى القرآن ج 2 349

و قد ورد في بحار الأنوار للعلّامة المجلسي إشارة إلى هذا الموضوع في مناجات أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «الهِي انْ أَنامَتْنِي الْغَفْلَةُ عَنِ الاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِكَ فَقَدْ نَبَّهْتَنِي الْمَعْرَفَةُ بِكَرمِ آلائِكَ» «1».

«مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتْهُ» «2».

هذه العبارة هي مقطع للمناجات المعروفة بالمناجات الشعبانية حيث يقول العلّامة المجلسي عنها انها المناجات الّتي كان أمير المؤمنين و الأئمّة المعصومين عليهم السلام يدعون اللَّه بها في شهر شعبان.

ه) الغفلة سبب الوقوع في الهلكة

«الغفلة» كذلك تسبب للإنسان الهلاك في الدنيا و الآخرة، لأن الإنسان الغافل سوف لا يدرك جيداً منافعه «سواء المادية أو المعنوية» و بالتالي فسوف يضيع الفرص الثمينة الّتي تتعرض له، و سوف يؤدي به هذا الحال إلى اتلاف طاقاته و قابلياته الحيوية، و من هذا المنطلق نقرأ في الحديث الشريف الوارد عن الإمام علي عليه السلام «مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتهُ» «3».

3- علائم الغفلة

الكثير من الناس يمكن أن يترددون في كونهم من الغافلين و لا يعلمون بهذه الحقيقه و هي هل أنّهم يتسمون بسمة الغفلة أم لا؟ إذاً فمن الضروري أن يفحص السالك إلى اللَّه و يتدبر حالته في كلّ مرحلة من حياته لئلّا يقع في زمرة الغافلين، و لذلك لا بدّ من الالتفات و الانتباه إلى علائم «الغفلة» حتّى لا يتورط في الوقوع في مخالبها و أسرها.

و لحسن الحظ فإنّ النصوص الشريفة و الأحاديث الإسلامية قد أوردت علائم كثيرة

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 91، ص 96- 99.

(2). شرح غرر الحكم، ج 5، ص 272.

(3). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 324

للغافلين نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

1- ورد في الحديث الشريف و المفصل

عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في جوابه لشمعون بن لاوي أحد أقطاب النصارى في ذلك الزمان عند ما سأل شمعون النبي الأكرم عن علائم الغافلين فقال: «امَّا عَلَامَةُ الغَافِلِ فَارْبَعَةٌ الْعَمى وَ السَّهْو وَ اللَّهْو وَ النِّسْيَانْ» «1».

و نفس هذا المضمون نجد في حكم و نصائح لقمان الحكيم لولده حيث يقول: يا بني لكلّ شي ء علامة يعرف بها و يشهد عليها ... و للغافل ثلاث علامات: السهو و اللهو و النسيان «2».

و الفرق بين السهو و النسيان هو أنّ النسيان بمعنى عدم تذكر الحوادث و الامور السابقة، و لكن السهو يعني عدم التوجه و الانتباه للُامور الّتي ينبغي التوجه و الانتباه لها.

2- و إحدى علائم الغفلة هي أنّ الإنسان يتحرك في معاشرته و مجالسته مع الفاسدين و المفسدين و يبتعد عن مجالس العبادة، و في ذلك يقول الإمام الحسن عليه السلام «الْغَفْلَةُ تَرَكُكَ الْمَسْجَد وَ طَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ» «3».

3- و من العلامات المهمة الاخرى للغفلة هي عدم الاكتراث بالنذر، مثلًا عند ما يمر الشخص على مقبرة فإنه لا يخطر في ذهنه انه سوف يكون من أهالي هذه المقبرة غداً، أو عند ما يشترك في تشييع جنازة أحد أقربائه أو أصدقائه فإنه لا يفكر في أنّه سوف يتعرض يوماً لمثل هذا الموقف و يكون هو المشيع و يسير الآخرون وراء جنازته.

و قد ورد في نهج البلاغة أنّ الإمام علي عليه السلام كان يسير خلف جنازة لأحد المؤمنين فسمع أحدهم يضحك بصوت عال فتألم الإمام من ذلك و قال: «كَأَنَّ المَوْتَ فيهَا عَلَى غَيرِنَا كُتِبَ وَ كَأَنَّ الْحَقَّ فيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ وَ كَأَنَّ الّذي نَرَى مِنَ الْاموَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيلٍ الَيْنَا رَاجِعُونَ».

______________________________

(1). بحار الأنوار،

ج 1، ص 122.

(2). الخصال للصدوق، ص 138، طبع انتشارات العلمية الإسلامية مع ترجمة السيّد أحمد فهري.

(3). بحار الأنوار، ج 75، ص 115.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 325

ثمّ أضاف: «نُبَوِّئُهُمْ اجْدَاثَهُمْ وَ نَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُم» «1».

4- و من العلامات الاخرى للغفلة أنّ الإنسان ينفق وقته و عمره الثمين في امور موهومة لا تنفعه لحياته الاخروية، أو يتلف السنوات المديدة من عمره و شبابه في مواقف و أعمال لا تعود عليه بالنفع الدنيوي و لا الاخروي، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «كَفى بِالْرَّجُلِ غَفْلَةً انْ يُضِيعَ عُمْرَهُ فِي مَا لا يُنْجيهِ» «2».

و في رواية اخرى عنه أنّه قال: «كَفى بِالْمَرْءِ غَفْلَةً أَن يَصْرِفَ هِمَّتَهُ فِي مَا لا يَعْنِيهِ» «3»

4- الطرق الكفيلة بمكافحة الغفلة

تعتبر «الغفلة» من الأمراض الأخلاقية الخطرة، و لا بدّ في علاجها من استخدام الأصول الكلية و المبادئ العامّة المستخدمة في هذه المباحث الأخلاقية.

ففي المرحلة الاولى علينا التفكر في عواقب و نتائج الغفلة و خاصّة ما تقدّم ذكره من الروايات الشريفة و المباحث الأخلاقية السابقة في هذا الموضوع، فإنّ التدبر في العواقب الوخيمة هذه له أثرٌ كبير في التنبه في أن يعيش الإنسان حالة التنبه و الوعي و يعود إلى سلوك طريق المعرفة و اليقظة، مثلًا عند ما يريد التخلص من الأدمان على المواد المخدرة أو يريد الوقاية من الوقوع في أسرها، فعليه أن يتفكر في الأشخاص الّذين ابتلوا بهذه البلية السوداء، و ما كانت نتيجة حالهم و عاقبة أمرهم، و ما حلَّ بهم و بأسرهم و ابنائهم من الدمار و الارباك و الاهتزاز في العلاقة العائلية، و حينئذٍ سوف يتسنّى له التوقف و الانتباه و سلوك طريق العودة بل و تقديم النصح للآخرين و تحذيرهم

من الوقوع في هذا الوادي المهلك، و كذلك لا بدّ من الرجوع إلى جذور هذه الحالة و العمل على علاجها و قطع جذورها و ... فما دامت أسباب المرض باقية في روح الإنسان فإنّ العلاج سوف يكون ابتراً.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الحكمة 122.

(2). شرح غرر الحكم، ج 4، ص 585.

(3). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 326

و قد تقدّم في المباحث السابقة تفصيل الكلام عن جذور الغفلة و أسبابها، فلا حاجة إلى التكرار، و لكن نواصل إلى المطالب السابقة نذكر فيما يلي بعض النقاط النافعة لإزالة الآثار السيئة للغفلة في واقع الإنسان.

1- كسب العبرة من التاريخ يجب دراسة التاريخ بدقة و تأمل و كسب العبرة من حوادثه و مجرياته، فأيوان كسرى في المدائن و اطلال قصور الملوك و اهرام مصر تحدثنا بلسانها غير الناطق و تخبرنا عمّا جرى على الأقوام السالفة لنأخذ العبرة منهم، و الخلاصة لا بدّ من استطلاع تاريخ البشرية و مشاهدة آثارهم الباقية و استيحاء العبرة من كلّ ذلك.

القبور المندثرة للابطال وقادة الحروب بالأمس ترزح أبدانهم المترفة أسيرة التراب، رؤية المسنين و العجائز الّذين كانوا بالأمس القريب شباباً ممتلئين حيوية و نظارة و هم الآن يعيشون العجز و عدم القدرة على ممارسة نشاطاتهم اليومية، كلّ هؤلاء كانوا بالأمس القريب أشخاصاً أقوياء و ممتلئين بالفتوة و الحيوية، و لكن حوادث الأيّام و السنين قد أخذت منهم مآخذها و أكلت منهم قوتهم و سلبتهم نشاطهم، و نحن الآن على آثارهم و سوف نبتلي بحالتهم.

و من الواضح إننا كلّما تفكرنا في هذا المواضع أكثر و تأملنا في تحول الأيّام و تبدل الحكومات و انتقال الثروات و تبدلّ المناصب الدنيوية فإننا سوف لا نعيش حالة

الغفلة.

الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «انَّ مَنْ عَرَفَ الْايَّامَ لَمْ يَغْفَل عَنْ الاسْتِعْدادِ» «1».

و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال «اغْفَلَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظ بِتَغَيُّرِ الدُّنْيَا مِنْ حَالٍ إلَى حالٍ» «2».

2- استمرار و دوام الذكر

و العامل المؤثر الآخر لطرد آثار الغفلة هو استمرار و دوام الذكر، لأن ذكر اللَّه تعالى يحيي ______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 3، ص 2285، ح 15189.

(2). بحار الأنوار، ج 74، ص 112.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 327

القلب و يجلي الروح و يفتح نور البصيرة حيث يرى الإنسان حقائق عالم الوجود و يرى الحقّ حقّاً و الباطل باطلًا، و حينئذٍ يتمكن من تشخيص الصديق و العدو لسعادته و كماله المعنوي في حركة الحياة.

و لذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام «بِدَوَامِ ذِكْرِ اللَّهِ تَنْجابُ الْغَفْلَةُ» «1».

3- الصلاة مع حضور القلب إن أداء الصلاة في الوقت المقرر مع حضور القلب و التوجه إلى مضامينها السامية و مفاهيمها العالية و التعامل مع اللَّه تعالى في الصلاة من موقع الفقر و المناجاة كلّ ذلك من شأنه أن يطهر القلب من أدران «الغفلة» و يجلي مرآة الروح الإنسانية في حركة الانفتاح على اللَّه و الكمالات الإلهية.

إن طبيعة الحياة الدنيوية موجبة للغفلة عادةً، و لذلك قد ينشغل الإنسان أحياناً إلى درجة انه ينسى و يغفل عن كلّ شي ء حتّى عن نفسه، و الصلاة تعتبر فرصة مناسبة جداً للعودة إلى الذات و التدبر في واقع النفس و كيفية انقاذها من مخالب «الغفلة»، و لذلك يقول الإمام الباقر عليه السلام: «ايُّمَا مُؤْمِنٍ حَافَظَ عَلَى الصَّلَواتِ الْمَفْرُوضَةِ فَصَلّاهَا لِوَقَتِهَا فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغَافِلين» «2».

4- التفكر و التدبر

الطريق الآخر للوقاية من الغفلة و علاجها هو التفكر و

التدبر في الامور، فكلّما تحرك الإنسان في أعماله و أفعاله من موقع التدبر في نتائجها الإيجابية و السلبية و تفكر فيما يترتب عليها من نتائج معنوية في دائرة النفس و الروح فإنّ ذلك من شأنه أن يبعد أمواج «الغفلة» الظلمانية عن الإنسان.

و قد ورد هذا المعنى في الحديث الشريف في خطابه لأبي ذرّ قال «يَا أَباذَر! هَمِّ بِالْحَسَنةِ

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 4269.

(2). فروع الكافي، ج 3، ص 270.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 328

وَ انْ لَمْ تَعْمَلْهَا لِكَي لا تُكْتَبَ مِنَ الْغَافِلِينَ» «1».

التفكير بالموت و نهاية الحياة من جملة الأفكار الّتي تورث الإنسان اليقظة و تبعده عن الغفلة و خاصّةً عند ما يمر الشخص على مقبرة من المقابر و يتصور انه في الغد القريب سيكون أحد سكنة هذه المقبرة و ينقطع عن الحياة الدنيا، فهذا التفكير من شأنه أن يزيل استار الغفلة الّتي تتراكم على القلب بسبب الأهواء و الشهوات و النوازع الدنيوية الاخرى.

و في ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام في أحد وصاياه لابنه الإمام الحسين عليه السلام «ايْ بُنَيَّ الْفِكْرَةُ تُورِثُ نُوراً وَ الْغَفْلَةُ ظُلْمَةً» «2».

5- تغير المحيط

إن الكثير من الاجواء الاجتماعية و الطبيعية تورث الإنسان الغفلة و خاصةً الاشتراك في مجالس الغافلين و البطالين، و جلسات اللهو و اللعب، و السكن في القصور الفخمة و المزخرفة و أمثال ذلك، فكلها تقود الإنسان باتجاه الغفلة عن حقائق الامور، و حتّى الكثير من المدن في عالمنا المعاصر قد تبدلت إلى مركز من مراكز الفساد و الغفلة.

و أحد الطرق للخلاص من قيود الغفلة هذه هو ترك المشاركة في مثل هذه الجلسات و الاماكن، و الهجرة من المدن الملوثة بالفساد، و في غير هذه الصورة فإنّ التخلص

من سلطان الغفلة عسيرٌ جداً.

فلذلك نرى أنّ الإمام السجاد يقول لأبي حمزة الثمالي عند بيان أحد عوامل سلب التوفيق: «او لَعَلَّكَ رَأَيْتَني آلِفُ مَجَالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْني و بَيْنَهُم خَلَّيْتَني».

و نختم هذا البحث بحديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال «احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَ الْجَفاءِ وَ قِلَّةَ الاعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّه» «3».

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 3، ح 15188.

(2). بحار الأنوار، ج 74، ص 237.

(3). غرر الحكم، ح 2600- ميزان الحكمة، ح 15147.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 329

5- اليقظة و الانتباه

«اليقظة» هي اليقظة المقابلة للغفلة و تأتي بمعنى الانتباه من النوم البدني أو النفسي، و قد ذهب بعض العرفاء إلى أنّ اليقظة هي أوّل منازل السير و السلوك لأرباب المعرفة.

و اليقظة في مصطلح العرفاء الإسلاميين هي الانتباه من نوم «الغفلة» و التوجه للأعمال و الأفعال من موقع الضبط و الوعي و لجبران الأخطاء السالفة و تصحيح المسيرة في حركة السلوك المعنوي للإنسان.

الإمام الخميني يرى في كتاب «الجهاد الأكبر أو جهاد النفس» ضمن اعتقاده بان اليقظة هي الخطوة الاولى في تهذيب النفس يقول في ذيل بحثه عن اليقظة «إلى متى تريد أن تبقى في نوم «الغفلة» و أنت غارق في لجة الفساد و الشر، اتقِ اللَّه و أحذر عواقب الامور و انتبه من نوم الغفلة، فأنت لحدّ الآن لم تخطو الخطوة الاولى في سلوكِكَ إلى اللَّه تعالى فالقدم الأوّل في دائرة السلوك هو «اليقظة»، و لكنك ما زلت في حالة النوم، فافتح عينيك و قلبك و اترك نومك، فلو أنّ قلبك لم يكن ملوثاً بآفاق الذنوب السوداء لم تقنع و تستمر على هذا النوم و كأن شيئاً لم يكن، فلا تشعر ما ذا يجري حولك بل تستمر في سلوكك

و أعمالك و أقوالك الباطلة، فلو أنك تفكرت قليلًا في أمر آخرتك و عاقبتك المخيفة يوم القيامة لتحركت من موقع الاهتمام بالتكاليف و أداء المسؤوليات الثقيلة الملقاة على عاتقك».

امّا الآيات و الروايات الشريفة الّتي تقرر هذا المضمون و المحتوى فكثيرة، و أساساً فإنّ جميع آيات الإنذار و البشارة هو من أجل الوصول إلى هذه الغاية و الهدف، أو إزالة آثار الغفلة عن قلب الإنسان و إيقاظه إلى ما ينتظره في الغد و لكي لا يبقى في نوم الغفلة و الجهل.

إن من جملة التعبيرات القرآنية في دائرة الانذار و التحذير هي «أَ فَلا تَعْقِلُون» «1»» «أ فَلا تَذَكَّرُون» «2» و «أَ فَلَا تَتَفَكَرُونَ» و «او لَم يَتَدبَّرُوا القُرآن» و أمثال ذلك.

فكلّها بمثابة الاعلام عن الخطر المحدق بالإنسان و ايقاظه من النوم العميق الّذي يعيشه ______________________________

(1). ذكرت هذه العبارة 13 مرّة في القرآن الكريم.

(2). ذكرت أيضاً هذه العبارة في 7 مواضع.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 330

في أجواء الطبيعة المادية، و لذلك كان لا بدّ له من منبه و جرس انذار ليستعد للمسير في خط الإيمان و الصلاح و التقوى و كذلك الآيات الّتي تؤكد على ذكر اللَّه تعالى لأن الاعراض عن ذكر الحقّ من شأنه أن يفسد حياة الإنسان، و يعيش بالتالي «معيشة ضنكا» في هذا العالم و يحشر يوم القيامة أعمى، و لذلك نجد أنّ المفاهيم القرآنية تتحرك باتجاه تحذير المسلمين من اسباب اللهو أو الغفلة و تسوقهم باتجاه ذكر اللَّه تعالى و كلّ ذلك من شأنه انعاش حالة «اليقظة» و الوعي بالمصير في واقع الإنسان و فكره.

و قد أشارت الروايات الإسلامية بشكل واسع إلى مسألة «اليقظة» منها:

1- ما ورد عن أمير المؤمنين في

خطبته لدى الإشارة إلى الهدف من بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و قال «ايُّهَا النَّاسُ انَّ اللَّهَ ارْسَلَ الَيْكُمْ رَسُولًا لِيُزِيحَ بِهِ عِلَّتَكُمْ وَ يُوقِظَ بِهَ غَفْلَتَكُمْ» «1».

و ليس هذا الهدف مختصٌ بنبي الإسلام فحسب بل يشمل جميع الأنبياء فإنّهم بعثوا لهذا الغرض أيضاً، و ايقاظ الناس من غفلتهم، أو على الأقل أنّ هذا الهدف هو أحد الأهداف الأساسية من دعوتهم.

2- و يقول الإمام الحسن عليه السلام في خطبته لأهل الكوفة:

«ايُّهَا النَّاسُ تَيَقَّظُوا مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ وَ مِن تَكَاشُفِ الظُّلْمَةِ، فَو الّذي خَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ وَ تَرَدّى بِالْعَظَمَةِ، لَئنِ قَامَ اليَّ مِنْكُمْ عُصْبَةٌ بِقُلوبٍ صَافِيَةٍ وَ نِيّاتٍ مُخلِصَةٍ، لا يَكُونَ فِيها شَوْبُ نِفاقٍ وَ لا نِيّةَ اقْتِرَاقٍ لَاجاهِدنَّ السَّيفَ قَدَماً قَدَماً وَ لَاضَيِّقَنَّ مِنَ السُّيُوفِ جَوَانِبَها وَ مِنَ الرِّماحِ اطرافَهَا وَ مِنَ الْخَيْلِ سَنابِكَها فَتَكَلَّمُوا رَحِمَكُمُ اللَّه» «2».

و هنا نرى أنّ الإمام الحسن عليه السلام في هذا الكلام يدعو أهل الكوفة إلى جهاد معاوية و جيش الشام في حين أنّهم قد تمكنت منهم «الغفلة» فلم يستجيبوا له.

3- و نقرأ في كتاب «فلاح السائل» الدعاء الّذي أقرّه الإمام الصادق عليه السلام أيضاً بغرض ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 74، ص 296.

(2). بحار الأنوار، ج 44، ص 67.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 331

جبران الأخطاء و الغفلة في الصلاة حيث قال «فَصَلِّ عَلَى مُحَمّدٍ وَ آلِهِ وَ اجْعَلْ مَكَانَ نُقْصَانِها تَماماً وَ عَجَلَتي تَثَبُّتاً وَ تَمَكُّناً، وَ سَهْوِي تَيَقُّظاً، وَ غَفْلَتي تَذَكُّراً، و كَسَلي نَشاطاً» «1».

4- و ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة قوله مخاطباً للإنسان اللاأبالي «أما مِنْ دائك بُلُولٌ امْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقْظَةٌ» «2».

5- و يقول أمير

المؤمنين في حديثٍ آخر أيضاً «ا لَا مُسْتَيْقِظٌ مِنْ غَفْلَتِهِ قَبْلَ نَفَادِ مُدَّتِهِ» «3».

و في جميع هذه الروايات نجد أنّ «الغفلة» شبهت بنوعٍ من النوم تارةً، و اخرى بنوعٍ من السكر، و شُبه قصد التذكر بنوعٍ من الانتباه و اليقظة، و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال: «سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَ الْغُرورِ ابْعَدُ افاقَةَ مِنْ سُكْرِ الْخُمُورِ» «4».

6- و نختم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام أمير المؤمنين في تشبيهه اليقظة بالمصباح المنير حيث قال «فَاسْتَصْبِحُوا بِنُورِ يَقْظَةٍ فِي الابْصَارِ وَ الاسْماعِ وَ الافْئِدَةِ» «5».

التغافل الإيجابي:

كما تقدّم أنّ الغفلة في نور الحياة سببٌ للشقاء و الانحطاط المادي و المعنوي فإنّ «التغافل» بالنسبة إلى هذه الامور يؤدي إلى نفس هذه النتيجة، أي أنّ الإنسان يجب أن يعلم بأن الواقع الدنيوي متزلزل و أنّ هذا العالم غير ثابت على أمرٍ واحد، و عليه أن يعبرهُ إلى حيث الحياة الخالدة، و أنّ الموت هو قانون طبيعي حتمي على الأشياء و لا اعتبار بالقوى الطبيعية و الثروات المادية، و لكن مع كلّ ذلك فإنّ الإنسان الّذي يعيش الغفلة و «التغافل» يمر على هذه الحقائق من الكرام و لا يعنيه من أمرها شي ء.

هذا هو التغافل السلبي الّذي قد يترتب عليه آثار و نتائج مضرة أكثر من الغفلة نفسها،

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 83، ص 14.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 223.

(3). غرر الحكم، ح 2752.

(4). غرر الحكم، ح 5651.

(5). نهج البلاغة، الخطبة 222.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 332

لأن «الغافلين» قد يقعون في دوامة الحوادث و المشاكل عن جهلٍ و عدم علمٍ بواقع الحال، اما «المتغافل» فهو يخطو باتجاه هذه المشاكل عن وعي و علم مسبق، و بذلك تكون مسؤوليته الإلهية أكثر و

ظلم الناس له أشد.

اما «التغافل الايجابي» فهو أن يعيش الإنسان بحالة يخفي معها الأشياء الّتي ينبغي اخفاؤها، أي أن يقوم الشخص باظهار عدم اطلاعه و عدم علمه بالأشياء الّتي يعلم بها و لكنَّ اظهارها له عواقب سيئة، و يتصرف معها تصرف المتغافل و يمر عليها مرّ الكرام من موقع سعة الصدر و قوّة الشخصية، لغرض حفظ ماء وجه الآخرين و احترامهم و حيثيتهم الاجتماعية.

و من جملة موارد التغافل الايجابي هو اخفاء عيوب الآخرين، فإنّ لكلّ شخص عيوباً و أخطاءً لا يحب أن يطلع عليها الآخرون، و لذلك يسعى لكتمانها، و لكن أحياناً يعلم بها بعض الأشخاص الأذكياء، ففي مثل هذه الموارد يكون التغافل مطلوباً، و في الحقيقة هو نوعٌ من ستر العيوب الخفية الّتي لا ينبغي اظهارها إلّا في موارد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ذلك بشكل لطيف و مستور أيضاً.

و هناك بعض الموارد يكون الكشف عن العيب فيها مؤدياً إلى تسقيط شخصية الأفراد و كذلك يؤدي إلى حث الآخرين على المعصية، فالفضيحة قد تؤدي إلى زيادة الايغال في ارتكاب الذنوب، و بعبارة اخرى: إذا زال حجاب الحياء عن المذنبين فإنّهم سوف يقدمون على ارتكاب الذنوب المختلفة، و لهذا ففي مثل هذه الموارد يكون «التغافل» مانعاً عن تفشي هذه الظاهرة الاجتماعية السلبية.

و ببيان عام يمكن القول أنّ أحد الاصول المهمة بالحياة الهادئة و الوادعة هي أن يعيش الإنسان «التغافل» عن بعض الامور لا سيّما بالنسبة إلى المدراء و أصحاب المناصب الحساسة في المجتمع حيث يجب عليهم الاستفادة من هذه المسألة بشكلٍ جيد لحلّ الكثير من المشاكل الّتي تعترضهم في عملهم الاجتماعي، و هذا يعني انه كلّما احتاج الأمر إلى تحذير و تنبيه فعليهم

أن يقوموا بهذا الأمر، و كلّما احتاجت المسألة إلى «تغافل» لحلّها أو

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 333

جعلها تراوح في مكانها و لا تنتشر و تتفشى و تتعاظم فإنه عليهم سلوك هذا الطريق، و من المعلوم ان المدير الّذي لا يرى للتغافل شيئاً حاسماً في سلوكه الإداري و لا يعير له اهتماماً فإنه سيوقع نفسه في مشاكل و صعوبات غير موجهة و بدون مبرر.

و لهذا السبب فإنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام أكدوا على هذه المسألة في أفعالهم و أقوالهم، فمثلًا نجد أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يتعامل مع بعض الامور من موقع التغافل بحيث أدّى ذلك إلى اعتراض بعض المسلمين الجهلة، فمثلًا اعترضوا على النبي بأنه سريع التأثر بما يسمعه من كلمات من هنا و هناك، فلو قيل له إنّ فلان يقول عنك كذا و كذا لأسرع في تصديقه و قبوله و أرسل خلف ذلك الشخص معاتباً إياه، و لو أنّ ذلك الشخص أقسم له انه لم يقل هذا الكلام في حقّه لاسرع كذلك إلى تصديقه أيضاً.

القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في الآية 61 من سورة التوبة و يقول «وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ وَ يَقُولُونَ هُوَ اذُنٌ قُلْ اذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤمِنُ لِلمُؤمِنينَ وَ رَحْمَة لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ...».

و من البديهي أنّ نبي الإسلام مع كلّ ذلك الذكاء و الحركة و الدراية الّتي اعترف بها الأعداء و الأصدقاء لم يكن بالشخص الساذج إلى هذه الدرجة، بل كان يرى أنّ وظيفته في بعض الموارد هي «التغافل» و هذا التغافل يُعد مصدر رحمة لجميع المؤمنين.

التغافل في كلمات المعصومين عليهم السلام:

1- ورد في الحديث المعروف عن الإمام زين العابدين عليه السلام و كذلك الإمام الباقر

و الصادق عليهما السلام عن «التغافل» قولهم «صَلاحُ حالِ التَّعايُشِ وَ التَّعَاشُرِ مِلُ مِكْيَالٍ ثُلْثاهُ فِطَنَةٌ وَ ثُلْثُهُ تَغَافُلٌ» «1».

هذه الرواية في الواقع ضمن تأكيدها على التغافل الايجابي تحذر الإنسان من التغافل السلبي، ففي البداية تؤكد على الفطنة و الانتباه و اليقظة في الامور و ترك الغفلة و أنّ ذلك يعد

______________________________

(1). تحف العقول، ص 264. البقية غير مترجم.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 334

ثلثي مكيال المعاشرة، و مفهومه هو أنّ الإنسان لا ينبغي أن يعيش الغفلة و عدم الاطلاع بالنسبة إلى مسائل الحياة و المعيشة بل يجب الانتباه و اليقظة و التعامل مع الامور بدقّة متناهية ليحرز بذلك خيره و صلاحه، و لكن من جهة اخرى يجب عليه أن يعيش «التغافل» بالنسبة إلى الامور الّتي ينبغي عليه التغافل عنها و جعلها في زاوية النسيان و الاهمال من قبيل التفكير في المسائل الجزئية للحياة و الّتي ليست بذات قيمة، لأنّ التفكر في مثل هذه الامور و السفاسف بإمكانه أن يمنع الإنسان من التفكير في المسائل الأهم منها، و كذلك اخفاء عيوب الآخرين المستورة في الموارد الّتي تستوجب المصلحة ذلك فإنّ التغافل في مثل هذه الموارد يعتبر أمراً محموداً.

2- و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «مِنْ اشْرَفِ اعمالِ الْكَريمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ» «1».

3- و في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «مَنْ لَمْ يَتَغَافَلْ وَ لَا يَغُضَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الاموُرِ تَنَغَّصَتْ عِيْشَتُهُ» «2».

و بديهي أنّ الحياة الدنيا لا تخلو من بعض الامور الّتي قد تحدث للإنسان من غير توقع أو لا تسير الحياة كما هو المطلوب و كما يريد لها الإنسان، فلو أنّ الشخص قد تحرّك في تعامله مع الحياة من

موقع الفحص و الدقّة في جزئيات الامور و عاش الفضول في حياة الآخرين و أخذ يحاسبهم و يعاتبهم على كلّ صغيرة و كبيرة فإنّ حياته و معيشته سوف تتنغص و يتفرق الآخرون من حوله.

و نختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً حيث يقول «وَ عَظِّموُا اقْدَارَكُمْ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الدَّنِّيِ مِنَ الامُورِ ... وَ لَا تَكوُنوا بَحَّاثِينَ عَمَّا غَابَ عَنْكُمْ، فَيَكْثُرُ عَائِبُكُمْ ... وَ تَكَرَّموُا بِالتّعَامِي عَنِ الاسْتِقْصَاءِ» «3».

و من هذا الحديث و كذلك بعض الأحاديث الاخرى يستفاد جيداً أنّ هذا المفهوم «التغافل» لا يرد إلّا في الموارد الجزئية و الصغيرة من سفاسف الحياة و الواقع الاجتماعي.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الرقم 222.

(2). غرر الحكم، ح 9149.

(3). بحار الأنوار، ج 75، ص 64.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 335

و على هذا الأساس فإنّ «التغافل» لا يتقاطع مع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الانتقاد البنّاء في حركة الحياة الاجتماعية لأن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يتعلقان بالواجبات و المحرمات الّتي هي خارجة عن دائرة «التغافل»، و اما الانتقاد البنّاء فيتعلق بالامور المصيرية في حياة الفرد و المجتمع و الّتي يترتب عليها نتائج مهمة، في حين أنّ التغافل لا يتعلق بالامور الجسيمة و ذات الأهمية أو الامور الّتي تكون المصلحة في سترها و التغاضي عنها.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 336

17

البخل و الشحّ

تنويه:

إن النعم و المواهب الإلهية على الإنسان تكون في كثيرٍ من الموارد أكثر من حاجة الإنسان نفسه بحيث يمكنه أن يسهم الآخرين بها و يشاركهم في الاستفادة منها بدون أي ضرر يُلحق به، و لكنَّ بعض الناس و بسبب البخل و الشح يمتنعون من ذلك و لا يجدون في أنفسهم رغبة

في العطاء و الجود بما لديهم من نِعم كثيرة، و أحياناً يتحركون من موقع التفرج و التفاخر بهذه النعم و الثروات الدنيوية إلى درجة أنّهم يثيرون حفيظة المحرومين و يجرحون قلوبهم بذلك و كأن هؤلاء يجدون لذّة خاصّة في إثارة المحرومين هؤلاء.

و أحياناً تقترن هذه الصفة مع حالة «الانانية» و «التكبر» و «الحرص» و أمثال ذلك من الصفات السلبية القبيحة.

إذا نظرنا إلى عالم الوجود من موقع التدبر و التأمل فسوف نشاهد آيات البذل و الكرم و الجود و الانفاق في كلّ مكان، الشمس تحترق دائماً و تبدل بعض وجودها إلى نور و حرارة و تُرسله إلى جميع المنظومة الشمسية حيث تعيش المخلوقات و الأحياء بهذا النور الساطع و تستدفي بهذه الحرارة الكافية.

الأرض بدورها تُخرج ما في باطنها من أنواع الكنوز و المعادن الثمينة و المواد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 338

الغذائية و المياه الجوفية، كلّ ذلك تضعه تحت اختيار الإنسان مجاناً و تعينه بذلك على مصاعب الحياة، و هكذا الحال في سائر موجودات هذا العالم الفسيح فإنّ كلّ واحدة منها يعطي للإنسان ما لديه مظهراً بذلك كرمه و جوده.

و مضافاً إلى هذا العالم الكبير نرى في العالم الصغير، أي الإنسان أيضاً نفس هذه المسألة، فالقلب، و الجهاز التنفسي، و المعدة، العين، الاذن، اليد و الرجل كلّها لا تعمل من أجل ذاتها فقط بل تخدم في حركتها و حياتها جميع أجزاء البدن، فلا معنى للبخل في وجودها، بل كلّما هناك هو الكرم و الجود يترشح من جميع أجزاء البدن و جميع خلاياه.

في هذا العالم الّذي تحكم فيه معالم الكرم و السخاء فهل هناك من مكان للإنسان البخيل؟ أ لا يتقاطع وجود هذا الإنسان البخيل مع عالم الوجود

و بالتالي فإنه محكوم بالموت و الاندثار و الزوال؟

على هذا الأساس نرى ذمّ «البخل» و مدح «السخاء و الكرم» بشكل واسع في الآيات و الروايات الإسلامية حيث نرى أنّ «الجود و السخاء» بعنوان أنّهما من الصفات و الأسماء الإلهية البارزة في عالم الوجود و تمثل سمة من سمات الأئمّة المعصومين عليهم السلام أيضاً.

بهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها ما يضفي على مفهوم «البخل» و «السخاء» ضوءاً و جلاءاً أكثر:

1- «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَ ءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَ ابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ وَ لَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَ أَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» «1».

2- «انّا بَلَوْنَاهُم كَما بَلَوْنا اصْحَابَ الْجَنَّةِ اذ اقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحينَ* وَ لا يَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُم نَائِمُونَ* فَاصْبَحَتْ كَالصَّريمِ» «2».

______________________________

(1). سورة القصص، الآية 76- 77.

(2). سورة القلم، الآية 17- 20.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 339

3- «وَ مِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّآ ءَاتَاهُم مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَ تَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ» «1».

4- «وَ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» «2».

5- «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ

يَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا» «3».

6- «وَ امَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِرُهُ لِلْعُسْرى «4».

7- «هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَ مَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ اللَّهُ الْغَنِىُّ وَ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم» «5».

8- «.. وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «6».

9- «وَ الَّذِينَ اذَا انْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً» «7».

10- «قُلْ لَوْ انْتُم تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّي اذاً لَامْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الانْفَاقِ وَ كَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً» «8».

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 75- 77.

(2). سورة آل عمران، الآية 180.

(3). سورة النساء، الآية 37.

(4). سورة الليل، الآية 8- 10.

(5). سورة محمّد، الآية 38.

(6). سورة التغابن، الآية 16 و سورة الحشر، الآية 9.

(7). سورة الفرقان، الآية 67.

(8). سورة الإسراء، الآية 100.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 340

تفسير و استنتاج:

مصير البخلاء

«الآيات الاولى من الآيات محل البحث تستعرض حادثة مهمة من الحوادث الّتي جرت على بني إسرائيل، فكانت عبرة لمن اعتبر ذلك أنّ أحد أثرياء بني إسرائيل و بسبب البخل و التكبّر و الغرور، ابتلي بمصيرٍ عجيب و موحش.

لقد كان «قارون» من أقرباء النبي موسى عليه السلام و من الوجوه و الشخصيات الثرية المعروفة لبني إسرائيل، و حسب الظاهر كان من أوّل المؤمنين بموسى عليه السلام أيضاً و كان مطلعاً و عارفاً بالتوراة، و لكنه كان كمثل الكثير من الأثرياء انانياً و محبّاً للدنيا و بعيداً عن اللَّه، و كان يحبّ بشكل عجيب اظهار ما لديه من الثروة أمام فقراء بني إسرائيل، و كان في كلّ مرّة

يظهر عليهم بزينته و ثروته الهائلة يخفق قلوب أصحاب الدنيا و أهل الطمع من بني إسرائيل حتّى وصل بهم الأمر إلى أن يكون أملهم الوحيد أن يكونوا مثل قارون من حيث الثراء و كثرة المال.

يقول القرآن المجيد في هذه الآيات «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ» «1».

لقد كان ظلمه و بغيه على قومه بسبب «البخل» الشديد حيث لم يكن راغباً في بذل شي ءٍ منها، و في نفس الوقت كان يخرج على الناس و الفقراء بزينته و ثراءه الفاحش و يجد بذلك لذّة في نفسه، و الأمر الآخر أيضاً الّذي زاد من بغيه هو مخالفته الشديدة للنبي موسى عليه السلام و تعامله مع الفراعنة و خاصّةً عند ما طلب منه موسى عليه السلام اداء الزكاة.

و أساساً أنّ الأثرياء و أصحاب الدنيا لديهم علاقة شديدة في تقوية نفوذهم و قدرتهم في المجتمع، و هذه العلاقة تارةً تكون بدافع من حبّ التكاثر، و اخرى بسبب الخوف من القدرات السياسية و الاجتماعية الاخرى لكي لا يلحق بثروتهم الضرر من قبل هذه القدرات و قوى السيطرة و السلطة، و لهذا السبب كانوا يقفون من الأنبياء و دعوتهم السماوية الّتي كانت تستوعب الناس و تظلهم تحت خيمة الحكومة الإلهية، كانوا يقفون منها موقف العناد و الرفض.

______________________________

(1). سورة القصص، الآية 76.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 341

القرآن الكريم في إدامة حديثه عن قارون و ثروته يقول في هذه الآية «وَ ءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ» «1».

لقد كان قارون فرحاً جدّاً من وضعه الاجتماعي و كان يعيش دائماً حالة اللهو و اللّذة و لا يشعر بما يجري على البؤساء و الفقراء و لا يعيش محنتهم و حرمانهم

و حتّى عند ما قال له العقلاء من قومه «إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَ ابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ وَ لَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَ أَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» «2».

هذه التعاليم الخمسة و النصائح المشفقة ليس لم تؤثر إطلاقاً في قلب قارون الأسود، بل زادته طغياناً و ضلالًا إلى درجة انه انكر بصراحة التوحيد الأفعالي للَّه تعالى و قال: «إنما اوتيته على علم».

و يتحدّث القرآن الكريم في آياتٍ اخرَى من هذه السورة عن إحدى الرذائل الأخلاقية لقارون الّتي تتمثل تقريباً بدرجة من الجنون الّذي يبتلي به جميع الأثرياء المغرورين و الّذين يتحركون في خطّ الإنحراف و طلب المزيد من الثروة و المال بعيداً عن اللَّه تعالى فتقول الآية: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «3».

و أخذ يتبرج بهذه الثروة الطائلة من موقع الغرور و التفاخر حيث استعرض معه الجياد الغالية المزينة بالذهب و حمل معه الجواري الجميلات الغارقات بأنواع الزينة و المجوهرات و كذلك سائر أنواع الأموال و الثروة و زخارف الدنيا و بريقها الخداع حتّى أنّ طائفة من المؤمنين نصحوه بترك هذه السلوكيات الذميمة، إلّا أنّه بدلًا من أن يستمع إليهم و يسلك مع الفقراء و المعدمين مسلك اللطف و الكرم و المواساة فانه انطلق من موقع العناد

______________________________

(1). سورة القصص، الآية 76.

(2). سورة القصص، الآية 76- 77.

(3). سورة القصص، الآية 79.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 342

و الإصرار لوضع الملح على جراح هؤلاء الفقراء و البؤساء و يجعلهم حيارى

غارقون بالحسرة أمام هذا الغرور العجيب.

و عند ما ازدادت حدّة طغيانه لم يمهله اللَّه تعالى أكثر من ذلك، فكان أن اصابت زلزلة قصره و محل إقامته فقط فخسفت به الأرض و غاص في أعماقها هو و جميع ثروته، و هكذا صار حديثاً بعد عين و عبرةً لمن اعتبر على طول التاريخ البشري.

إن الجذور الأصلية لشقاء «قارون» هو حالة «البخل» الّتي كان يعيشها بعمق بكامل وجوده، البخل الّذي صار منشأً و سبباً لانكاره لنبوّة موسى عليه السلام و تعامله مع عقيدة التوحيد الإلهي من موقع الاعتراض و الرفض، و أخيراً ادّى به الحال إلى اتهام نبي اللَّه موسى عليه السلام بالعمل المنافي للعِفة مع زانية معروفة، و لكن اللَّه تعالى فضح أمره سريعاً، فكان يتصور انه مع تملكه لهذه الثروة العظيمة فإنه لا أحد يقدر على إيصال الضرر إليه، و لهذا السبب فلم يكن يمتنع من أي ظلم و جور على قوم بني إسرائيل إلى أن نال جزاءه و عقابه.

«الطائفة الثانية» من الآيات محل البحث تشير إلى قصة اخرى من قصص هؤلاء البخلاء و مصيرهم الأسود حيث يتحدّث القرآن الكريم هنا عن جماعة يسموهم «أصحاب الجنّة» و يرى بعض المفسّرين أنّهم كانوا جماعة من بني إسرائيل يسكنون «اليمن» على مقربة من «صنعاء»، و ذهب بعض المحققين إلى أنّ كلمة «حرد» الواردة في سياق هذه الآيات يعني «المنع» و هي من الكلمات المتداولة في اليمن و تشير إلى أنّ هؤلاء كانوا من أهل اليمن.

لقد كان عدد هؤلاء عشرة أشخاص و كان لديهم بستان كبير و ثروه من أبيهم الّذي كان رجلًا كريماً و سخياً و صالحاً، و كان عند ما يحين قطاف الثمار يفتح باب البستان على

مصراعيه للفقراء و المساكين لينالوا منه حاجتهم، و بذلك كانت البركة وسعة المال و الثراء تزداد في أموال الأب، و لكنَّ ابناءه البخلاء كانوا يتصورون أنّ مثل هذا البذل و العطاء الكثير الّذي يصب في جيوب الفقراء و المحتاجين لا مسوّغ له، و لا مبرر لأن ينفق الإنسان من أمواله بهذه الدرجة، و بذلك لقد عزموا على أن يمنعوا كلّ فقير من الدخول إلى هذا البستان الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 343

الكبير، و قرروا أيضاً فيما بينهم أن ينهضوا في الصباح الباكر و من دون اعلان أو سخط ليقطفوا ثمار هذا البستان مع مجموعة من العمال و قبل أن يستيقظ الفقراء و المساكين من نومهم و يصل إليهم الخبر فإنّهم يقومون بنقل هذا المحصول الكثير.

يقول البرسوئي في «روح البيان»: «إنّ هذه الحادثة وقعت بعد عصر عيسى بقليل حيث كان لهم أب كريم جداً، فكان يأخذ من بستانه ما يكفيه لسنته و يوزع الباقي على الفقراء، و لكن ما أن توفي الأب حتّى قال الأولاد: إننا إذا سرنا بسيرة والدنا فإنّ حياتنا ستكون شاقة، لكثرة عيالنا و أطفالنا، فأقسموا أن يعجلوا في الصباح الباكر على قطف الثمار و حتّى أنّهم لم يقولوا: إن شاء اللَّه» «1».

و قد أنزل اللَّه تعالى عليهم عذاباً أليماً و عاقبهم بأشد العقاب كما تقول الآية «فَطَافَ عَلَيهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نَائِمُونَ» «2».

أجل، إن صاعقة محرقة و نار رهيبة نزلت على ذلك البستان و أحرقته من أوّله إلى آخره «فَاصْبَحَتْ كَالصَّريمِ» «3».

«الصريم» هو الشجرة غير المثمرة، أي أنّ الصاعقة اتلفت الثمار فقط دون الأشجار الّتي بقي منها الجذوع فقط، و في الغد عند ما نهض الاخوة و ذهبوا في الصباح

الباكر إلى بستانهم ترجموا خطتهم على أرض الواقع، فلما وصلوا إلى ذلك البستان و رأوا ذلك المنظر المهيب و المفجع قالوا: «فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا انَّا لَضَالُّونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» «4».

جملة «انّا لضالّون» إشارة إلى أنّهم لم يكونوا يصدقون أنّ هذا البستان قد احترق بأكمله بعد ما كان قبل قليل زاهراً و مليئاً بالثمار و لكن عند ما دققوا النظر أدركوا من خلال القرائن أنّ هذا البستان المحترق هو بستانهم الّذي اصبح بهذه الصورة لذلك قالوا «بَلْ نَحْنُ مَحرُومُونَ».

______________________________

(1). روح البيان، ج 10، ص 114، (لقد استفاد من كلمة «و لا يستثنون» أنّ المراد هو قول «إن شاء اللَّه»، و لكن المناسب مع مفهوم الآية هو أنّهم لم يتركوا شيئاً من ثمار البستان إلى الفقراء).

(2). سورة القلم، الآية 19.

(3). سورة القلم، الآية 20.

(4). سورة القلم، الآية 26 و 27.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 344

و هناك احتمال آخر، و هو أنّ المراد بالضلالة هنا هي الانحراف عن طريق اللَّه و الحقّ لأنهم كانوا يتصورون إن السعادة تكمن في عنصر «البخل»، و الحال أنّ الطريق الصحيح لنيل السعادة الحقيقية هو الطريق الّذي سلكه أبوهم الكريم من قبل.

و جاء في الآيات التالية إن هذه المجموعة من البخلاء انتبهوا من نوم الغفلة بسرعة و أخذوا يلومون أنفسهم و اعترفوا بذنبهم و عزموا على عدم تكراره في المستقبل بعد أن طلبوا من اللَّه تعالى بستاناً أفضل من السابق، و قد ورد في بعض الروايات أنّ اللَّه تعالى قبل توبتهم و وهبهم بستاناً أفضل و أحسن من بستانهم السابق.

و على أية حال فإنّ الآية أعلاه تبين العواقب المؤلمة لحالة «البخل» و الشُّح بحيث إن هذه الرذيلة تضر الإنسان حتّى في أمر دنياه

العاجلة.

و الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول في بداية هذه الآيات «إنا بَلَوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة» و لعلّ هذا التعبير إشارة إلى حالة القحط الشديد الّذي أصاب مكّة المكرمة بسبب البخل و ترك الانفاق من قبل أثرياء قريش.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن مصير شخص بخيل في عصر رسول اللَّه، و طبقاً للكثير من التفاسير فإنّ هذا الشخص كان من الأنصار و يدعى «ثعلبة بن حاطب» و الّذي كان في بداية أمره معسراً و فقيراً بشدة و كان يتمنّى أن يكون يوماً من الأثرياء و لذلك طلب من النبي بإلحاح شديد أن يدعو له بذلك ليكون من الأثرياء.

فقال له النبي صلى الله عليه و آله: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، و لكنه أصرّ على ذلك و قال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالًا و الّذي بعثك بالحق لئن رزقني اللَّه مالًا لاعطين كلّ ذي حقّ حقه و هو قوله «وَ مِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ» «1».

ثمّ إنّ النبي الأكرم دعا لهذا الرجل بعد إصراره الشديد ليكون عبرةً لغيره فلم تمض فترة

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 75.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 345

إلّا و انفتحت عليه أبواب الرزق و الثراء ببركة دعاء النبي صلى الله عليه و آله و حصل على ثروة طائلة غير متوقعة، فملك قطعان كبيرة من الأغنام و الإبل و أصبح من الموسرين جدّاً، و لكن عند ما نزلت آية الزكاة و سمع بها و علِمَ انه يجب عليه أن يدفع مقداراً قليلًا من هذه الأموال بعنوان الزكاة إلى الفقراء و المساكين، فما كان من هذا الرجل البخيل إلّا أن نقض

عهده مع اللَّه تعالى و مع رسوله الكريم و نسي وعده بمساعدة الفقراء و امتنع من دفع الزكاة.

و هنا يتحدّث القرآن الكريم عن هذه الحالة بايجاز فيقول «فَلَمَّآ ءَاتَاهُم مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَ تَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ» «1».

و بالرغم من أنّ «ثعلبة» لم يكن سوى رجل واحد، و لكن عند ما ازدادت أمواله و كثرت ثروته استخدم بعض الأشخاص لحفظها و رعايتها، و لذلك فمن المحتمل أن تكون صيغة الجمع الواردة في الآية إشارة إلى هذا المطلب.

و هناك احتمال آخر و ذلك بأن مثل هذه الحالات لا تختّص بثعلبة و طلبه من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، بل إن هذه الحالة تكثر بين الناس في المجتمعات البشرية حيث يطلبون من اللَّه تعالى هذا الطلب و يعدون بشتّى الوعود و لكنهم لا ينجحون في الامتحان الإلهي و يتحركون بعد ذلك من موقع نقض العهود هذه، و السلوك في خط الانانية و البخل و حب الدنيا و على أية حال فإنّ النتيجة الحتمية لنقض العهد و البخل هو أن تدب ريح النفاق في قلوب هؤلاء البخلاء و تستمر معهم إلى يوم القيامة كما تقول الآية «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ» «2».

أجل، فإنّ الرجل كان في أحد الأيّام من العباد و الزهّاد و كان يسمّى بحمامة المسجد و كانت جبهته متورمة كثفنات البعير من أثر السجود و لكن بسبب البخل و الانانية و الشح فإنه أصبح في مواجهة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بحيث إنه اعترض على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بسبب الأمر بالزكاة و قال بأن الزكاة تشبه الجزية

الّتي تؤخذ من أهل الكتاب، و بهذا أصبح في عداد

______________________________

(1). سورة التوبة، الآية 76.

(2). سورة التوبة، الآية 77.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 346

المنافقين و أخيراً تم طرده من المجتمع الإسلامي.

«الآية الرابعة» تبين في سياقها العقوبة الإلهية الشديدة للبخلاء، و ما ورد في هذه الآية من المجازات و الكنايات بالنسبة إلى البخل لم ترد في سائر آيات القرآن الكريم حيث تقول الآية «وَ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ...» «1».

ثمّ تضيف الآية «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «2». فتكون الأموال الّتي جمعوها على شكل سلسلة ثقيلة تكبلهم و تمنعهم من أي حركة في عرصات المحشر، و في ختام الآية يقول تعالى «وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» «3».

هذه الآية تشير إلى أنّ المحافظة على المال و السعي لاكتنازه و البخل به لا ينفع الإنسان شيئاً في حياته الدنيوية لأنّه سوف يضطر إلى ترك كلّ ما لديه و يرحل.

و بالرغم من أنّ بعض الروايات فسّرت الآية أعلاه بمسألة منع «الزكاة» و لكن حسب الظاهر فإن مفهوم الآية يستوعب في مضمونه جميع أشكال البخل و حتّى مضافاً إلى البخل بالأموال يشمل البخل بالعلم و المعرفة و أمثال ذلك كما ذكر بعض المفسّرين.

أمّا تصوير الحالة الّتي تجعل هذه الأموال على شكل حلقة و طوق حول رقبة البخيل يوم القيامة، فينبغي القول طبقاً لما ورد في بعض الروايات أنّ تلك الأموال تأتي يوم القيامة على شكل طوق من نار كما ورد في تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «ما من عبد منع زكاة ماله إلّا جعل اللَّه ذلك يوم القيامة

ثعباناً من نار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب، و هو قول اللَّه: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قال: ما بخلوا به من الزكاة» «4».

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 180.

(2). المصدر السابق.

(3). سورة آل عمران، الآية 180.

(4). تفسير البرهان، ج 1، ص 327، تفسير العياشي، ج 1، ص 207.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 347

و من التعبير أعلاه يستفاد بوضوح أنّ التعبير بكلمة «الطوق» هو في الواقع من قبيل تجسم الأعمال التي يسلكها الإنسان و يعملها في الدنيا. لأن «الطوق» لا يبتعد و لا ينفصل عن الإنسان بأية حال، و على كلّ حال فإنّ التعبيرات المختلفة للآية كلّها تحكي عن قبح «البخل» و حسن «الانفاق» في سبيل اللَّه و السخاء في المال و سائر المواهب الإلهية على الإنسان.

و الملفت للنظر أنّ أموال «البخلاء» لا تطوق الإنسان البخيل يوم القيامة فحسب، بل في الدنيا أيضاً تكون بمثابة القيود الّتي تثقل كاهل الشخص بسبب الاهتمام بحفظها و حسابها و الخوف من نقصانها او تلفها و أمثال ذلك حيث يتلف الإنسان السنوات العزيزة من عمره من أجلها، ثمّ يضطر إلى تركها و التوجه للحياة الاخرى محملًا بالمسؤولية بسببها.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن الأشخاص الّذين لا يعيشون البخل لوحدهم فقط و إنّما يدعون الناس إلى البخل أيضاً، و تبين حالهم من موقع الذمّ و التقبيح و أنّهم مصداق عنوان «مختالٍ فخور»، و قد صرَّح القرآن الكريم في عدّة مواضع أنّ اللَّه تعالى لا يحب من كان مختالًا فخوراً، و يقول اللَّه تعالى أيضاً بالنسبة إلى هذه الطائفة من الناس «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا

مُّهِينًا» «1».

و من البديهي أنّ اللَّه تعالى لا يحبّ الشخص الّذي يعيش التضاد المطلق مع صفاته الحسنى و أسماء الجلال و الجمال للَّه تعالى، و بالتالي فإنّ مثل هذا الإنسان يخرج من دائرة سُبل عنايات اللَّه الخاصّة.

و الملفت للنظر هو أنّ الآيات الّتي سبقت هذه الآية تشير إلى ما يصيب الإنسان من المصائب و البلايا و أن لا يتعلق الإنسان بهذه الحياة و لا يغتر بما لديه من امكانات مادية و قابليات دنيوية، و ليعلم أنّ «البخل» لا يجديه شيئاً في عملية الثراء و الغنى بل إنّ الحياة

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 37.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 348

الدنيا تتقلب من شكلٍ إلى آخر، و بذلك قد يكون أثرى الناس و أكثرهم مالًا في يوم آخر من أفقر الناس، و يتبدل حال الفقير كذلك بين عشية و ضحاها ليكون من أغنى الناس، إذاً فلا داعي إلى الفخر و المباهات و الغرور بهذه الثروات المتنقلة لانها لا تحل مشكلة حقيقية للإنسان في واقعه النفسي.

و الملاحظة المهمة الاخرى هي دعوة هؤلاء البخلاء الآخرين لسلوك طريق البخل أيضاً ليصبح الناس كلّهم مثلهم، فلا يفتضح أمرهم و لا يعيب عليهم الناس حالة الشح و البخل فيهم، مضافاً إلى أنّ مثل هؤلاء الأشخاص قد سحقوا العواطف الإنسانية تحت أقدامهم فهم يعيشون قساوة القلب و عدم الاحساس بالرحمة و العطف تجاه الآخرين، لذلك فإنّهم يتألمون عند ما يرون سخاء الآخرين و ترحمهم و عطفهم على الفقراء و المحتاجين و يودون أنّهم لو كانوا مثلهم في البخل.

و في هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام: «إن أمير المؤمنين عليه السلام بعث إلى رجل بخمسة أوساق من تمر المعيقة، و كان الرجل ممن يرجو نوافله

و يؤمل نائله و رفده و كان لا يسأل علياً عليه السلام و لا غيره، فقال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام: و اللَّه ما سألك فلان و لقد كان يجزيه من الخمسة أوساق وسق واحد، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لاكثّر اللَّه في المؤمنين ضربك اعطي أنا و تبخل أنت، للَّه أنت، إذا أنا لم اعط الّذي يرجوني إلّا بعد المسألة ثمّ أعطيته بعد المسألة فلم أعطه إلّا ثمن ما أخذت منه، و ذلك لأني عرضته أن يبذل لي وجهه الّذي يعفّره في التراب لربي و ربّه ...» «1».

«الآية السادسة» و ضمن الإشارة إلى العقوبة الشديدة و العذاب الاليم الّذي ينتظر البخلاء تقول «وَ امَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِرُهُ لِلْعُسْرى وَ مَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ اذْا تَرَدّى «2».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، ص 318.

(2). سورة الليل، الآية 8- 10.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 349

و يتضح جيداً من سياق هذه الآيات ما يلي:

1- إن البخل لا يتسبب في رفع حالة الاحتياج و الفاقة في النفس بل إنّ سلوك هذا الطريق سوف يزيد من مشاكل الإنسان الدنيوية و الاخروية (و الملفت للنظر أنّ كلمة «العسرى» في الآية مطلقة تشمل جميع اشكال العسر في الدنيا و الآخرة).

2- على فرض أنّ هذا الإنسان استطاع الحصول على ثروة طائلة من هذا السبيل و استطاع نقلها إلى الآخرة، و لكن ما ذا ينفع ذلك عند ما يهوي إلى جهنم في ذلك اليوم؟

و قد ذكر المفسّرون في تفسير كلمة «يسر» و هي النقطة المقابلة للعسر، احتمالات كثيرة تأتي كلّها أيضاً في النقطة المقابلة لها، أي مفهوم «العسر»، الاحتمال الأوّل: أنّ المقصود من ذلك

تهيئة أسباب التوفيق للتحرّك في خطّ الطاعة و الإيمان و الانفتاح على اللَّه تعالى، و على العكس من ذلك كلمة «العسر» و الّتي تعني سلب التوفيق للطاعة و الايمان، و ذهب بعض آخر إلى أن معنى هذه الكلمة هو سهولة الحياة في الدنيا و عدم مواجهة الإنسان صعوبات و مشاكل مهمة في امور المعيشة، و يرى البعض الآخر آنها تعني تيسير طريق الجنّة و الثواب الإلهي العظيم يوم القيامة، و البعض الآخر فسّرها بالامدادات الإلهية الغيبية للإنسان و أمثال ذلك و لكن كما تقدّمت الإشارة إليه فإنّ مفهوم «العسر» و كذلك «اليسر» مفهوم واسع يستوعب جميع هذه الامور المتعلقة بحياة الإنسان الدنيوية و الاخروية.

و في «الآية السابعة» نجد خطاباً إلهياً لأصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من موقع الذم و التقريع حيث تقول الآية «هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَ مَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ» «1».

و من أجل أن لا يتصور بعض الجهّال أنّ اللَّه تعالى يحتاج لمثل هذه الأموال و الانفاق تقول الآية في سياقها أيضاً «وَ اللَّهُ الْغَنِىُّ وَ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ» «2» و على هذا الأساس فإنّ ما ينفقه ______________________________

(1). سورة محمّد، الآية 38.

(2). نفس المصدر.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 350

الاخلاق فى القرآن ج 2 369

الإنسان من الأموال هو في الواقع أداء للأمانة الإلهية الّتي أودعت عنده لغرض اختباره و امتحانه و تربيته، و بذلك فإنّ اللَّه تعالى أمر عباده بإيصال بعض هذه الأمانة إلى الفقراء و المساكين أو إنفاقها في طريق الجهاد في سبيل اللَّه.

و في ختام الآية يتحرّك القرآن الكريم من موقع التهديد للأشخاص الّذين يعيشون البخل و الشُّح و يقول:

«وَ إِنْ تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم» «1».

و على هذا الأساس تنطلق الآية من موقع التهديد للبخلاء بالفناء و الاندثار، و هذا من أشد اشكال التهديد الوارد للبخلاء.

و بالرغم من أنّ مصداق الانفاق في سبيل اللَّه و مع ملاحظة سياق الآية و القرائن الموجودة هو الأنفاق في طريق الجهاد، و لكن المفهوم واسع و يشمل كلّ عملٍ خير يتحرّك فيه المؤمن من موقع البذل و العطاء للآخرين.

و الكثير من المفسّرين من الشيعة و أهل السنّة ذكروا في ذيل هذه الآية انه بعد نزولها سأل بعض الصحابة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن مراد القرآن الكريم من هؤلاء القوم الّذين يأتون بعد البخلاء و يحلون محلهم و لا يكونوا أمثالهم من هم؟

فوضع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يده على رجل سلمان الّذي كان جالساً إلى جنبه و قال «هَذَا وَ قَومُهُ وَ الّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الإيمانُ مَنُوطاً بِالثُرَيّا لَتَناوَلَهُ رِجالٌ مِنْ فَارْسٍ» «2».

«الآية الثامنة» بعد أن تأمر بالانفاق و تؤكد على أنّ الانفاق يورث الإنسان كلّ خير و بركة تقول: «.. وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «3».

يقول الراغب الاصفهاني في كتابه «مفردات القرآن» الشُّح، (على وزن مخ) بخلٌ مع ______________________________

(1). سورة محمّد، الآية 38.

(2). ذكر هذا الحديث «القرطبي» في تفسير «الأحكام»، و البرسوئي في «روح البيان» و الفخر الرازي في «التفسير الكبير»، و الطبري في «مجمع البيان»، و أبو الفتوح الرازي في تفسيره، و السيوطي في «الدرّ المنثور»، و جماعة آخرون أيضاً ذيل تفسيرهم لهذه الآية.

(3). سورة التغابن، الآية 16 و سورة الحشر، الآية 9.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 351

حرص و ذلك فيما كان

عادة.

«الفلاح» بمعنى الشق و القطع، و يستخدم لكلّ اشكال السعادة و النجاح و النصر و الوصول إلى المقاصد و الأهداف في حركة الحياة، و ينقسم أيضاً إلى الفلاح المادي و المعنوي.

و قد ورد في الآيات السابقة لهذه الآية انذار و تحذير للمسلمين بالنسبة إلى الفتنة من الأموال و الأولاد، و الظاهر انه مع هذا البيان تريد الآية أن تبيّن موانع الانفاق لانه أحياناً يواجه الشخص الوساوس من قبل الأبناء لكيلا يؤدي بهم انفاق الأب إلى الفقر و الحاجة أو يعيشوا بدون ميراث، و أحياناً اخرَى يعيش الإنسان الوساوس النفسية من مستقبل ابنائه و أنّهم سوف يعيشون حالة الفقر بعده، فيمنعه ذلك من الانفاق، و من المعلوم أنّ جميع هذه الوساوس تعد من أحابيل الشيطان و من موانع «الفلاح» و النجاح في معراج الكمال المعنوي، و تورث الإنسان الحرص و البخل الشديد.

و قد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام انه كان يطوف بالبيت من الليل إلى الصباح و يقول «اللّهُمَّ قِني شُحَّ نَفْسي» يقول الراوي فسألته: بأبي أنت و امّي لم اسمع منك هذه الليلة غير هذا الدعاء، فقال «وَ ايُّ شَي ءٍ اشَدُّ مِنْ شُحِ النَّفْسِ انَّ اللَّهَ يَقُولُ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاولئكَ هُمُ المُفلِحُون» «1».

و على هذا فصفة «البخل» تعد من الموانع المهمة للفلاح إلى درجة أنّ الإمام الصادق عليه السلام يدعو اللَّه تعالى في طوافه بالبيت من الليل إلى الصباح بهذا الدعاء و يعتبر أنّ هذه الحاجة هي من أهم حاجاته في خطّ الإيمان و الطاعة و التربية النفسية.

و تعبير «خيراً لأنفسكم» بعد الأمر بالانفاق هو إشارة إلى هذه النكتة اللطيفة، و هي أنّ السخاء و الانفاق في سبيل اللَّه

تعود معطياته الايجابية على الإنسان نفسه حيث تربّي فيه الروح الإنسانية و يتخلص قلبه من ظلمات الحرص و قيود «البخل»، و يترتب على ذلك الكثير من البركات المادية و المعنوية في حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية.

______________________________

(1). نور الثقلين، ج 5، ص 346.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 352

و نختم هذا البحث بذكر حديث شريف في تفسير معنى «الشُّح» عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سأل «الفضيل بن عياض»: هل تعلم معنى «الشحيح» فقال: البخيل، فقال له الإمام «الشُّحُ اشَدُّ مِنَ الْبُخلِ انَّ الْبَخيلَ يَبْخَلُ بِمَا فِي يَدِهِ وَ الشّحيحُ يَشُحُّ عَلَى مَا فِي ايْدِي النّاسِ وَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ حَتَّى لا يَرى فِي ايْدِي النّاسِ شَيْئاً الّا تَمَنّى انْ يَكُونَ لَهُ بِالْحِلِّ وَ الْحَرَامِ، لا يَشْبَعُ وَ لا يَقْنَعُ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ عَزّ وَ جَلّ» «1».

«الآية التاسعة» و ضمن استعراضها لمسألة «البخل» تحت عنوان التقتير تقول في ذكر صفات عباد الرحمن: «وَ الَّذِينَ اذَا انْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً» «2».

«يقتروا» من مادّة «قتر» على وزن «صبر» و يقع هذا المفهوم في النقطة المقابلة للاسراف، و أحياناً يذكر الاسراف و الاقتار كلٌّ منهما في مقابل الآخر، فالأوّل هو البذل أكثر من الحدّ اللازم، و الآخر هو البذل أقل من المقدار اللازم.

و في الواقع فإنّ «قتر» و «اقتار» تعد من المراحل الضعيفة للبخل، لأن الاقتار هو الحدّ الأدنى للانفاق في حين أنّ المراحل الأشد من البخل تفتقد إلى أي شكل من أشكال الانفاق و العطاء، و مع هذا الحال فإنّ اللَّه تعالى ينزه عباده المخلصين من هذه الصفة أيضاً رغم أنّها أفضل من البخل.

الكثير من المفسّرين أوردوا في معنى «الاقتار» مفهوم

البخل أو الشُّح و أمثال ذلك، و قد وردت رواية في تفسير «علي بن إبراهيم» عن الإمام الصادق عليه السلام في هذا المعنى حيث ذكرت الرواية أنّ «لم يقتروا» بمعنى «لَمْ يَبْخَلُوا فِي حَقِّ اللَّهِ عَزّ وَ جَلّ» «3».

و جاء في بعض التفاسير أنّ بعض الخلفاء أراد تزويج ابنته من أحد الامراء، فعند ما سأل هذا الخاطب لابنته عن مقدار ما ينفقه للزواج من ابنته أجاب بجواب جميل و قال «الحَسَنَةُ

______________________________

(1). نور الثقلين، ج 5، ص 291.

(2). سورة الفرقان، الآية 67.

(3). تفسير علي بن سورة إبراهيم، الآية ج 2، ص 117.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 353

بَيْنَ السَّيِئَتَينِ» ثمّ تلى هذه الآية الشريفة «1».

و في «الآية العاشرة» و الأخيرة من الآيات محل البحث نجد خطاباً من اللَّه تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه و آله «قُلْ لَوْ انْتُم تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّي اذاً لَامْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الانْفَاقِ» «2».

و في ختام هذه الآية يقول: «وَ كَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً» «3» و هنا وردت كلمة «إنسان» للاشارة إلى الإنسان المنقطع عن اللَّه و الّذي لم يتحرّك في طريق التربية النفسية و التهذيب الأخلاقي بل كان يسير في خطّ البخل و الامساك و التقتير، و إلّا فإنّ الإنسان إذا تحرّك تحت تعليم «أولياء اللَّه» و تربيتهم فإنّ ذلك من شأنه أن يحفظ له فطرته السليمة، فلا يكون بخيلًا أو ممسكاً أو قتوراً، و يستفاد من تعبير الآية أعلاه أن «البخل» لا يكون دائماً متزامناً مع حاجات الإنسان الشخصية أو الجماعية بل إنّ هذه الرذيلة الأخلاقية قد تترسخ في وجود الإنسان بحيث لو انه اعطي خزائن اللَّه تعالى لبخل في العطاء أيضاً رغم انه لا يجد في واقعه العملي حاجة إلى كلّ

تلك الكنوز و الخزائن.

و تعبير «كانَ الإنسانُ قَتُورا» ورد بشكل مطلق كما هو الحال في موارد اخرى من القرآن الكريم في قوله تعالى «انَّ الإنسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودَ» «4» و «انَّ الإنسانَ لَكَفُورٌ» «5» و «انَّ الإنسانَ لَكَفُورُ مُبين» «6» و «انَّ الإنسانَ لَظَلوُمٌ كَفَّارٌ» «7».

و أمثال هذه التعبيرات و كلّها تشير إلى أن الإنسان المتصف بمثل هذه الصفات هو من فقد فطرته الأولية السليمة و ابتعد عن تعاليم الأنبياء و الأولياء في خطّ التربية، و إلّا فإنّ كلّ ______________________________

(1). تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج 7، ص 4789.

(2). سورة الإسراء، الآية 100.

(3). المصدر السابق.

(4). سورة العاديات، الآية 6.

(5). سورة الحجّ، الآية 66.

(6). سورة الزخرف، الآية 15.

(7). سورة إبراهيم، الآية 34.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 354

إنسان لم يُخلق في ذاته كافراً و ملوثاً و بخيلًا و ظالماً، بل إنّ نظام الخلقة يوجب أن يكون الإنسان سليماً في فطرته و طاهراً في ذاته.

النتيجة:

إن الآيات محل البحث تدلّ على المفهوم الإسلامي و الموقف القرآني بالنسبة إلى «البخل» و قد ذكرت الآيات الشريفة نماذج من سلوك البخلاء و مصيرهم المشؤوم و عاقبتهم الاليمة و النتائج السلبية المترتبة على البخل في حياة الإنسان المادية و المعنوية، و قد ذكرت الآيات الشريفة البخل بعنوان رذيلة أخلاقية شنيعة من شأنها أن توقع الإنسان في ورطة الشقاء و التعاسة و تبعده عن «الفلاح» و السعادة المنشودة.

البخل في منظور الروايات الإسلامية:

و نقرأ في الأحاديث الشريفة روايات شديدة، توضح موقف الإسلام من ظاهرة «البخل» منها:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «الْبَخيلُ بَعيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعيدٌ مِن النّاسِ، قَريبٌ مِنَ النّارِ» «1».

2- و في حديث آخر يقول أمير المؤمنين عليه السلام «النَّظَرُ الَى الْبَخيلِ يُقْسِيِ الْقَلْبَ» «2».

3- و نقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله انه كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة و هو يقول: بحرمة هذا البيت إلّا غفرت لي ذنبي، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: و ما ذنبك؟ صفه لي، قال: هو أعظم من أن أصفه لك، قال: ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون؟ قال:

بل ذنبي يا رسول اللَّه، قال صلى الله عليه و آله: ويحك ذنبك أعظم أم الجبال؟ قال: بل ذنبي يا رسول اللَّه.

قال صلى الله عليه و آله: فذنبك أعظم أم البحار؟ قال: بل ذنبي يا رسول اللَّه، قال صلى الله عليه و آله: فذنبك أعظم أم ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 73، ص 308.

(2). تحف العقول، ص 214.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 355

السماوات؟ قال: بل ذنبي يا رسول اللَّه، قال صلى الله عليه و آله: ذنبك أعظم أم اللَّه؟ قال: بل اللَّه

أعظم و أعلى و أجل. قال: ويحك فصف لي ذنبك، قال: يا رسول اللَّه، إني رجل ذو ثروة من المال، و أنّ السائل ليأتيني ليسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من النار، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إليك عني، لا تحرقني بنارك، فو الّذي بعثني بالهداية و الكرامة، لو قمت بين الركن و المقام، ثمّ صليت الفي ألف عام، و بكيت حتّى تجري من دموعك الأنهار و تسقي بها الأشجار، ثمّ متّ و أنت لئيم، لأكبك اللَّه في النار، ويحك أما علمت أنّ اللَّه يقول:

«... وَ مَن يَبْخَلْ فَانَّمَا يَبْخَلُ عَن نَفْسِهِ ...» «1».

«.. وَ مَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2» «3».

هذا الحديث يدلّ بوضوح على أنّ «البخل» هو مصدر لأنواع الذنوب و المفاسد بحيث يبعده عن اللَّه تعالى إلى هذه الدرجة.

4- و جاء في حديثٍ آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يَقُولُ قَائِلُكُم الشَّحيحُ أَعْذَرُ مِنَ الظّالِمِ وَ أَيُّ ظُلْمٍ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الشُحِّ حَلَفَ اللَّهُ بِعِزَّتِهِ وَ عَظَمَتِهِ وَ جَلالِهِ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ شَحيحٌ وَ لا بَخيلٌ» «4».

5- و ورد في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله «الشُّحُ وَ الايمانُ لا يَجْتَمِعانِ فِي قَلْبِ واحِدِ» «5».

6- و ورد في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه و آله أيضاً قوله «الْبُخْلُ شَجَرَةٌ تَنْبُتُ في النّارِ فَلا يَلِجُ النّارُ الّا بَخيلٌ» «6».

7- و ورد في أحد الروايات أنّ أحد أصحاب النبي صلى الله عليه و آله استشهد في ميدان الجهاد

______________________________

(1). سورة محمّد، الآية 38.

(2). سورة الحشر، الآية 9.

(3). جامع السعادات، ج 2، ص 111.

(4). جامع السعادات، ج 2، ص 111.

(5). المصدر

السابق.

(6). جامع السعادات، ج 2، ص 110.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 356

فجاءت امرأة من ذويه و أرحامه تبكيه و تقول يا شهيداه، فقال النبي صلى الله عليه و آله: من أين علمتي انه شهيد، «فَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلّمُ بِمَا لا يَعنيهِ اوْ يَبْخَلُ بِمَا لا يَنْقُصُهُ» «1».

هذا الحديث يبين أنّ الكلام بما لا يعني و البخل و لا سيّما بما لا يضره يتسبب في سلب أكبر افتخار قد يناله الإنسان ألا و هو الشهادة في سبيل اللَّه.

8- و قد ورد في النصوص الإسلامية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كذلك قوله «جَاهِلُ سَخيٌّ احَبُّ الَى اللَّهِ مِنْ عَابِدٍ بَخيلٍ وَ ادْوَى الدّاءِ البُخْلْ» «2».

هذا الحديث يوضح أنّ البخل قد يؤدي إلى تلف معطيات العبادة و زوال آثارها الايجابية في حياة الفرد.

9- و أيضاً نقل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «المُوبِقاتُ ثَلاثٌ شُحٌ مُطاعٌ وَ هَوىً مُتَبَّعٌ وَ اعجَابُ المَرْءِ بِنَفِسهِ» «3».

10- و نختم هذا الموضوع برواية اخرى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رغم وجود روايات كثيرة في هذا الباب، فقد ورد في الحديث النبوي أنّ جماعة من الأسرى جي ء بهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بضرب أعناقهم ثمّ أمره بإفراد واحد منهم و أن لا يقتله فقال الرجل لم أفردتني من أصحابي و الجناية واحدة؟ فقال: إن اللَّه عزّ و جلّ أوحى إليّ أنك سخي قومك و لا اقتلك. فقال الرجل: فاني أشهد أن لا إله إلّا اللَّه و أنك رسول اللَّه «4».

جذور البخل و علائمه:

إن الجذور الأصلية لهذه الرذيلة الأخلاقية مثل سائر الرذائل الأخلاقية الاخرى تتمثل في ضعف دعائم

الإيمان و معرفة اللَّه لدى الشخص، فالإنسان إذا اعتقد بأن اللَّه تعالى قادر

______________________________

(1). جامع السعادات، ج 2، ص 111.

(2). المصدر السابق، 110.

(3). المصدر السابق.

(4). ميزان الحكمة، ج 2، ص 1277، ح 8380.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 357

على كلّ شي ء و إن جميع مفاتيح الخيرات و البركات بيده تعالى يجب أن يتيقن من أنّ اللَّه سيوفي بوعده بالنسبة إلى ما يترتب على الانفاق في سبيل اللَّه إلى النتائج المادية و المعنوية، فإذا عاش الإنسان بهذه العقيدة، فلا مجال لأن يتلوث قلبه بالبخل أو يتصف قلبه بالامساك.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام «البُخْلُ بِالمَوجُودِ سُوءُ الظَنِّ بِالمَعْبُودِ» «1».

أي أنّ الإنسان يسي ء الظن بما وعد اللَّه تعالى من الثواب على الانفاق و البذل في سبيله.

و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ان كانَ الخَلَفُ مِنَ اللَّهِ عزّ و جلّ حَقّاً فَالبُخْلُ لِما ذَا» «2».

و نقرأ في كتاب «فقه الرضا» «ايّاكُمْ وَ البُخْلَ فَانَّهَا عَاهَةٌ لا تَكُونُ في حُر وَ لا مُؤمِنٍ انَّها خِلافُ الإيمانِ» «3».

و ورد في الحديث القدسي عن رسول اللَّه تعالى صلى الله عليه و آله يقول «يَا عَبدِي اتَبْخَلُّني ام تَتَّهِمُني أَم تَظُنُّ انّي عَاجِزٌ غَيرُ قَادِرٍ عَلَى اثَابَتِكَ» «4».

أجل، إن الأحرار و المؤمنين و الّذين يؤمنون بوعد اللَّه تعالى فإنّهم يعيشون الاطمئنان لقدرة اللَّه تعالى على جميع أنواع الثواب، فلا تهتز لهم يد في عملية الانفاق في سبيل اللَّه، و لا يجد البخل إلى أنفسهم سبيلًا، بل يتحركون دائماً في خطّ الانفاق و الجود على عباد اللَّه من الفقراء و المساكين و المحتاجين و لا يطلبون الأجر إلّا ممن هو قادر على كلّ شي ء و كريم بذاته و عليم بحال

عباده.

و من العلائم الاخرى للبخل هي الاعتذار بالأعذار المختلفة لتبرير الامساك و منع البذل للآخرين، البخلاء يتحركون دائماً في عملية التغطية على هذه الرذيلة الأخلاقية المترسخة

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1258.

(2). بحار الأنوار، ج 70، ص 300.

(3). بحار الأنوار، ج 75، ص 346.

(4). بحار الأنوار، ج 93، ص 10.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 358

في أنفسهم من موقع التذرع بالأعذار الواهية بل أنّهم يخدعون أنفسهم أيضاً بمثل هذه الأعذار، و على سبيل المثال من كان لديه مالٌ كثير و لكنه غير مستعد للانفاق منه أو إقراض الغير فإنه يتمسك في هذا المنع بالأعذار من قبيل انه يحتمل انني سأواجه مشكلة احتاج فيها إلى هذا المال، أو يحتمل أن يقع ابني مريضاً على الفراش، أو من المحتمل أن يرد عليّ بعض الضيوف، أو أنّ المستقبل الاقتصادي للسوق يتجه إلى الكساد و أمثال ذلك.

يقول الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام في هذا الصدد «الْبَخِيلُ مُتَحَجِّجٌ بِالمَعاذيرِ وَ التَّعاليلِ» «1».

و يقول في مكان آخر «كَثْرَةُ العِلَلِ آيَةُ البُخْلِ» «2».

فمن العلائم الاخرى للشخص البخيل هي ستر النعم و المواهب الإلهية بحجج و ذرائع مختلفة عن أنظار الناس لكيلا يطلب الناس منه شيئاً منها، و بالطبع فإنّ هذه الحالة في الكثير من الأوقات تلبس لباس المنطق و الدليل من قبيل الخوف من الحسد أو الخوف من الأخطار غير المتوقعة و أمثال ذلك.

العلامة الاخرى للبخل هي انه عند ما يواجه الأمر الواقع و ينفق شيئاً في سبيل اللَّه فإنه يجد في نفسه ألماً و حزناً كبيراً و كأنه قد فقد شيئاً عزيزاً عليه أو أحد أحبته.

آثار و نتائج البخل:

إن من بين الصفات الذميمة و الرذائل الأخلاقية قلما نجد صفة من الصفات تورث الإنسان مشاكل

و مصاعب كالبخل بما له من افرازات سلبية كبيرة في حركة الحياة و المجتمع، و من جملة ذلك فان البخيل بالرغم من سعيه لحفظ أمواله و ثروته فإنه يتنازل و يفقد الكثير من شخصيته و حرمته بين الناس، و في هذا الصدد نجد أنّ الروايات الإسلامية

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1275.

(2). بحار الأنوار، ج 74، ص 209.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 359

قد أشارت إلى هذا المعنى على نحو الاجمال و منها:

1- يقول الإمام علي عليه السلام «الْبَخيلُ يَسْمَحُ مِنْ عِرْضِهِ بِاكْثَرِ مِمَّا امْسَكَ مِنْ عَرَضِهِ» «1».

2- إن البخيل سوف يفقد باستمرار أصدقائه و رفاقه و بالتالي يصبح وحيداً غريباً أمام المشكلات الكبيرة الّتي تفرزها تحديات الواقع الصعب، و في ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام «لَيْسَ لِبَخيلٍ حَبيبٌ» «2»؛ و على فرض انه كان له صديق لمدّة قصيرة من الزمان فإنّ «البخل» يتسبب في الحاق الذلّة لأصدقائه و العزّة لأعدائه كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام «الَبُخْلُ (البَخيلُ) يُذِلُّ مُصاحِبَهُ وَ يُعِزُّ مُجانِبَهُ» «3».

3- إن «البخيل» يوقع نفسه في التعب و الضنك دائماً، و في نفس الوقت فإنّ ورثته هم المستفيدون من عمله و تعبه، فهو في الدنيا يتعب نفسه في جمع الأموال، و في الآخرة يجد نفسه مسؤولًا عنها كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام «الْبَخيلُ خَازِنٌ لِوَرَثَتِهِ» «4» الورثة الّذين قد لا ينفقون من أمواله درهماً في سبيل اللَّه و في سبيل بذل الخيرات و المثوبات له.

4- «البخيل» يعيش عيشة الفقراء لأن البخل عند ما يشتد على الإنسان فإنه يبخل حتّى على نفسه، و بذلك لا يجد السعادة و الحياة الطيبة و المريحة لأنّه يعيش التفكير الدائم في كيفية حفظ أمواله و زيادتها، و

أحياناً تعرض عليه حالات نفسانية سلبية من قبيل سوء الظن الشديد بمن يحيط به، مثلًا يتصور أنّ الناس ينظرون إليه بعين الطمع و يحسدونه على ما لديه من الأموال و الثروات بل و يعادونه أيضاً، و في الأحاديث الإسلامية نجد أشارات جميلة إلى هذه المسألة، و من ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «عَجِبْتُ لِشَقِىَ الْبَخيلِ يَتَعَجَّلُ الفَقْرَ الّذي مِنْهُ هَرَبَ وَ يَفُوْتُهُ الْغِنَي الّذي ايّاهُ طَلَبَ فَيَعيشُ في الدُّنيا عَيشَ الفُقَراءِ وَ يُحاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسابَ الاغنياءِ» «5».

______________________________

(1). شرح غرر الحكم، ج 2 ص 130، ح 2084.

(2). المصدر السابق، ج 5، ص 78.

(3). المصدر السابق، ج 1، ص 370، ح 1409.

(4). شرح غرر الحكم، ج 1، ص 127، ح 464.

(5). شرح غرر الحكم، ج 4، ص 346، ح 6280.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 360

و في حديثٍ آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «اقَلُّ النّاسِ راحَةً الْبَخيلُ» «1».

5- «البخل» يوجب سوء الشهرة و السمعة و يؤدي إلى تهكم الناس و لعنهم لهذا الشخص البخيل كما قال أمير المؤمنين عليه السلام «بِالْبُخْلِ تَكْثُرُ المَسَبَّةَ» «2».

6- «البخل» جامعٌ للكثير من الأخلاق الرذيلة و الصفات الذميمة و يعتبر مصدراً للكثير من الرذائل الأخلاقيه من قبيل سوء الظن، الحسد، الخوف، الجبن، سوء النيّة و تلوث الباطن و قساوة القلب و ما إلى ذلك، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصدد «النَّظَرُ الَى البَخيلِ يُقْسِيَ الْقَلْبَ» «3».

و ورد حديث آخر جامع لمساوى ء البخل، يقول أمير المؤمنين عليه السلام «الْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَساوِي العُيوبِ وَ هُوَ زِمامٌ يُقادُ بِهِ الَىَ كُلِّ سُوءٍ» «4».

درجات البخل:

إن حال «البخل» كحال سائر الصفات الرذيلة في أنّ

له درجات و مراتب، و بعض هذه المراتب قد تكون خفية إلى درجة تخفى حتّى على الشخص نفسه و تخفى على الآخرين أيضاً، و هناك بعض المراتب إلى درجة من الوضوح بحيث إن كلّ إنسان يدركها حتّى الأطفال.

بعض الناس يبخلون بأموالهم فحسب أي أنّهم غير مستعدين بأن ينتفع الآخرون بأموالهم بأي مقدارٍ كان، و البعض الآخر يتجاوز هذا الحدّ فيبخل بأموال الناس أيضاً، أي انه لو رأى أنّ شخصاً يقوم بالبذل و الانفاق على الآخرين فإنه يتألم بذلك، و بعض آخر يتجاوز هذه المرحلة أيضاً فكلما رأى كرماً من الناس حتّى على نفسه فإنه يتألم بذلك و هذا أعجب أشكال البخل.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 300.

(2). شرح غرر الحكم، ج 3، ص 200، ح 4195.

(3). بحار الأنوار، ج 75، ص 53.

(4). بحار الأنوار، ج 70، ص 307.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 361

و من جهة اخرى فإنّ البعض يبخلون في الامور المادية، و البعض الآخر في الامور المعنوية كمن يبخل في بذل العلم و المعرفة، و بعض الناس يبخلون في الموضوعات المهمة من قبيل بذل الأموال الكثيرة، في حين أنّ البعض الآخر يبخلون حتّى بالمسائل الجزئية من قبيل السلام، و البعض قد يبخل في العطاء و الانفاق المستحب في حين أنّ هناك من يبخل حتّى في الواجبات مثل أداء الخمس و الزكاة، و بعض البخلاء لا يتحركون في تبرير بخلهم و امساكهم بينما نجد البعض الآخر يتسترون على هذا الامساك و الاقتار بالتمسك بعناوين ظاهرية من قبيل عدم الاسراف أو تأمين نفقات الابناء أو الابتعاد عن الرياء و التظاهر أو التشكيك في استحقاق المستحقين و أمثال ذلك.

و على هذا فإنّ للبخل فروع متعددة و أشكال

مختلفة، و ينبغي على المؤمن المتقي مراقبة جميع هذه الاشكال و الحذر منها و التصدي لها بإبعادها عن نفسه و الحذر من التلوث بها كيما يحصل على مقام القرب الإلهي و الكمال المعنوي في حركة الحياة.

و نجد في الروايات الإسلامية اشارات لطيفة إلى أشكال و فروع البخل هذه و منها:

1- ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْبُخْلُ بِاخْراجِ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الامْوَالِ اقْبَحُ البُخلِ» «1».

2- و ورد في حديثٍ آخر أنّ الإمام علي عليه السلام بعث إلى رجل بخمسة أوساق من تمر ...

فقال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام: و اللَّه ما سألك فلان و لقد كان يجزيه من الخمسة أوساق وسق واحد، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لاكثّر اللَّه في المؤمنين ضربك، أعطي أنا و تبخل أنت ...» «2».

3- و جاء في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «انَّ ابْخَلَ النّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلامِ» «3».

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 2038.

(2). وسائل الشيعة، ج 6، ص 318 مع التلخيص.

(3). بحار الأنوار، ج 73، ص 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 362

4- و في الحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الْبَخيلُ حَقّاً مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» «1».

5- و يستفاد من بعض الروايات أنّ بعض مراحل البخل ينطوي تحت عنوان «اللئيم» و هو الّذي يعيش الدرجة الشديدة من البخل كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «الرِّجَالُ أرْبَعَةٌ سَخيٌ وَ كريمٌ وَ بَخيلٌ وَ لَئيمٌ، فَالسَّخيُ الّذي يَأْكُلُ وَ يُعْطِي وَ الكَريمُ الّذي لا يَأْكُلُ وَ يُعطِيُ وَ البَخيلُ الّذي يَأكُلُ و لا يُعطِيُ و اللّئيمُ الّذي

لا يَأكُلُ و لا يُعطِيُ» «2».

الوقاية من البخل و علاجه:

كما أنّ الأمراض البدنية يتم التصدي لها و الوقاية منها بالبحث عن جذورها و أسبابها فكذلك الحال في الأمراض الأخلاقية، لأنّه ما لم تقلع جذور المرض فإنّ عناصر المرض تراوح في مكانها و سوف تظهر في آونة اخرى بالرغم من زوال آثارها بشكل مؤقت.

و بما أنّ دوافع «البخل» متعددة و كثيرة، فينبغي البحث عن جذور هذا المرض لأن البعض يعيشون التعلّق الشديد بشهوات الدنيا، و بما أنّ الأموال هي الوسيلة للوصول إلى هذه الشهوات فإنّهم يتعلقون بها و يعشقونها إلى درجة أنّهم غير مستعدين لبذل أي مقدار منها، هؤلاء الأشخاص يجب عليهم قطع هذه العلاقة الشديدة بتوجيه النفس و اشغال العواطف بامورٍ اخرَى و التفكر في العواقب الأليمة للخوض في الشهوات و ما يقع فيه أهل الدنيا من المشاكل و الازمات، و عند ذلك يتحفظون من السير في هذا الخط المنحرف.

الدافع الآخر للبخل هو طول الأمل، فإنّ الآمال الطويلة تدعو الإنسان إلى جمع المال و البخل في انفاقه، فلو أنّ هذا الإنسان قطع آماله و طموحاته و أدرك أهتزاز الدنيا و تذبذبها و عدم استقامتها على حالٍ واحد، و رأى الأشخاص الّذين رحلوا عن هذه الدنيا بحوادث ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 306.

(2). بحار الأنوار، ج 68، ص 356.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 363

مختلفة و أمراض متنوعة بدون انذار أو مقدمات و قد كانت لديهم أعمال و طموحات طويلة و عريضة في هذه الدنيا، فإنّ ذلك من شأنه أن يحد من حالة «البخل» لدى هذا الإنسان.

الباعث الآخر للبخل هو التعلق و العشق للأولاد و الأهل و العيال حيث يدفعه ذلك إلى جمع الأموال و ادخارها تحسباً لمستقبلهم في

حين أنّ اللَّه تعالى قد ضمَّن رزقهم و معيشتهم، فلو كانوا من أولياء اللَّه و أحباءه فإنّ اللَّه تعالى سوف لا يتركهم لوحدهم و لحالهم، و لو كانوا من أعداء اللَّه فإنّ جمع المال لمثل هؤلاء الأشخاص سيكون أداة لتوغلهم في الذنوب و الآثام و ستقع مسؤولية ذلك عليه، فليس من العقل و المنطق أن يجمع الإنسان المال و يدخره لمثل هؤلاء الأشخاص، و بالطبع أحياناً نجد بعض الأشخاص و بسبب لياقتهم الذاتية فإنّهم يتمتعون بعيشة حسنة و طيبة من دون أن يرثوا درهماً واحداً من والديهم بل قد يعيشون أفضل من حياة الّذين ورثوا أموالًا طائلة من أبيهم.

و الباعث الآخر لذلك كما يقول بعض علماء الأخلاق هو ما يشبه المرض من دون علاج، أي أنّ البعض يحب المال من أجل نفس المال و يعشقه و يسعى دائماً لجمعه و الاكثار منه و يستوحش من بذله و انفاقه، هؤلاء اصابتهم حالة من النسيان و الغفلة عن أنّ المال إنما هو وسيلة للتوصل إلى الأغراض المادية أو المعنوية، و إلا فلو استخدم في غير هذا السبيل و أصبح بحدّ ذاته هدفاً يجمعه الإنسان فإنه لا يختلف حاله مع الحجر و الخشب و الآجر.

امّا الطريق إلى الوقاية من «البخل» فإنّ على الشخص البخيل أن يجاهد نفسه و يعض على نواجذه و ينفق من أمواله مهما مانعته نفسه من ذلك، و كلما تكرر منه هذا العلم فإنّ العشق للمال سوف يذوب و يتلاشى من قلبه و مشاعره، كما هو الحال في الشخص الجبان الّذي إذا دخل ميادين الحياة من موقع مواجهة التحديات للواقع و المعيشة، فإنّ ذلك الخوف سوف يزول و يتلاشى بالتدريج، و هكذا بالنسبة إلى الشخص

الخجول حيث إنه إذا دخل مجالس الكبار و دفع بنفسه إلى التحدّث في مثل هذه المجالس مرّات عديدة فسوف تزول منه حالة الخجل هذه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 364

و من الطرق الاخرى هي التفكر في كراهية الناس و انزجارهم من الشخص البخيل و الأشخاص الّذين لا يعيشون حالة الكرم و البذل، فإنّ الناس يتعاملون معهم على مستوى أنّهم أشخاص غير مرغوب بهم و لا يحترمونهم كما يحترمون الاسخياء و الكرماء من الناس، و أحد طرق علاج «البخل» و الابتعاد عن هذه الرذيلة الأخلاقية هو التفكّر في العواقب الوخيمة و الآفاق السلبية الكبيرة لحالة البخل حيث يترتب على ذلك أن يتخلص الإنسان تدريجياً من هذه الحالة الذميمة.

و في هذا الصدد يقول أمير المؤمنين عليه السلام «البَخيلُ يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ بِاليَسيرِ مِن دُنياهُ وَ يَسمَحُ لِوُرّاثِهِ بِكُلِّها» «1».

و جاء في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَن بَرِءَ مِنَ البُخلِ نالَ الشَّرَفَ» «2».

فالتفكر في كلّ هذه الامور بإمكانه أن يخلص الإنسان من أسر البخل و خاصّة إذا التفت إلى الروايات الشريفة الّتي تقرر أنّ البخل لا يجتمع مع الإيمان إطلاقاً.

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1884.

(2). بحار الأنوار، ج 7، ص 229.

18

الجود و السخاء

تنويه:

تقع هاتين المفردتين «الجود و السخاء» في مقابل البخل، و تستعملان غالباً بمعنى واحد، و لكن أحياناً يستفاد من بعض كلمات العلماء أنّ الجود لنفس المرحلة أعلى من السخاء، لانه ورد في تعريف الجود انه «البذل بدون طلب و في نفسه يرى ما بذله قليلًا» و قيل أيضاً في تعريفه «الجود هو الفرح من طلب الناس و السرور من العطاء لهم» و قال البعض أيضاً «الجود هو بذل المال بأن يراه مال اللَّه و

السائل عبد اللَّه و يرى نفسه فيما بينهما واسطة فقط» في حين أنّ السخاء له معنىً واسع و يشمل كلّ أنحاء البذل و العطاء.

و ذكر البعض في تعريفهما أنّ «الشخص الّذي يهب قسماً من أمواله إلى الغير و يبقي لنفسه القسم الآخر فهو السخي، و الشخص الّذي يهب أكثر ماله إلى الغير و يبقي مقداراً قليلًا منه لنفسه فهو الجواد» و يتبين طبقاً لجميع هذه التعاريف أنّ «الجود» مرحلة أعلى من «السخاء».

و على أية حال فإنّ «الجود و السخاء» من الفضائل الأخلاقية المهمة، و كلّما كان «البخل» من علامات الدناءة و الحقارة و ضعف الإيمان و فقدان الشخصية للإنسان البخيل كان الجود و السخاء من علائم الإيمان و قوّة الشخصية و سمو المكانة الاجتماعية للشخص.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 366

اما في القرآن الكريم رغم أنّ كلمة «الجود» أو «السخاء» لم تستخدم في سياق الآيات الكريمة، و لكن التعبيرات الاخرى للآيات تنطبق على هذين المفهومين حيث يتبين جيداً أنّ القرآن الكريم يعطي أهمية بالغة لهما، و كنموذج على ذلك نورد هذه الآيات الشريفة:

1- «... يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ الَيهِم وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدورِهِم حَاجَةً مِمَّا اوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى انْفُسِهُمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ ...» «1».

2- «وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكيناً وَ يَتيماً وَ اسيراً* إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُريدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لَا شُكوراً» «2».

3- «مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَا لَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «3».

4- «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَا لَهُم بِالَّيْلِ وَ النَّهَارِ سِرًّا وَ عَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ

لَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «4».

5- «لَنْ تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَ مَا تُنفِقُواْ مِن شَىْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» «5».

6- «الَّذينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ وَ يُقيمُونَ الصَّلاةً وَ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون» «6».

7- «وَ لَا تَجْعَلَ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَ لَا تَبْسُطْهَا كُلِّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» «7».

تفسير و استنتاج:

سيماء الكرماء في القرآن

«الآية الاولى من الآيات محل البحث تتحدّث عن طائفة من الكرماء الأنصار في ______________________________

(1). سورة الحشر، الآية 9.

(2). سورة الدهر، الآية 8 و 9.

(3). سورة البقرة، الآية 261.

(4). سورة البقرة، الآية 274.

(5). سورة آل عمران، الآية 92.

(6). سورة البقرة، الآية 3.

(7). سورة الإسراء، الآية 29.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 367

المدينة الّذين استقبلوا المهاجرين إليهم من مكّة برحابة صدر و استضافوهم في بيوتهم و فضلوهم على أنفسهم بل حتّى أنّهم قالوا: نحن على استعداد لتقديم أموالنا و بيوتنا بيننا و بين المهاجرين و لا نطمع بشي ءٍ من الغنائم الحربية.

القرآن الكريم يستعرض حالة هؤلاء المؤمنين في الآية الشريفة فيقول «... يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ الَيهِم وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدورِهِم حَاجَةً مِمَّا اوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى انْفُسِهُمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ ...» «1».

و قد ذكر بعض المفسّرين المعروفين أنّ التاريخ البشري لم يعرف مثل هذا الاستقبال و الحفاوة لجماعة من الغرباء لدى دخولهم إلى مدينة من المدن حيث استقبلهم المؤمنون استقبالًا عظيماً حتّى أنّهم كانوا يفضلوهم على أنفسهم وسعوا إلى تقسيم كلّ ممتلكاتهم معهم بالسوية بل ورد في بعض الروايات أنّ عدد المهاجرين كان أقل من المستعدين لضيافتهم و كان ذلك سبباً في حدوث خلاف بينهم في نيل افتخار الضيافة. فكانوا يقترعون فيما بينهم على ذلك «2».

و على أية حال فإنّ اللَّه تعالى قد مدح هذا الخلق الكريم

و أثنى على هذا الايثار و السخاء بهذه العبارات الكريمة.

«الآية الثانية» تتحدّث عن الكرماء الّذين قدموا طعامهم إلى المسكين و اليتيم و الأسير في حين أنّهم محتاجون إليه بشدّة و من دون طمع في أجرٍ و ثناء من الطرف المقابل «وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكيناً وَ يَتيماً وَ اسيراً* إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُريدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لَا شُكوراً» «3».

و هناك روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنّة تتحدّث عن أنّ الآيات 8- 9 من ______________________________

(1). سورة الحشر، الآية 9.

(2). في ظلال، ج 7 ذيل الآية.

(3). سورة الدهر، الآية 8 و 9.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 368

سورة الدهر نزلت في أهل البيت عليهم السلام، كما ذكر العلّامة الأميني في كتابه «الغدير» عن أربع و ثلاثين نفر من علماء السنّة المعروفين و أنّهم ذكروا هذا الحديث الشريف في كتبهم (مع ذكر اسم الكتاب و رقم الصفحة).

و على هذا فإنّ الحديث المذكور مشهور بين أهل السنّة بل متواتر، و أما علماء الشيعة فهو محل اتفاق و أنّ جميع سورة الدهر أو قسم مهم منها نزلت في أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و هم «علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام».

و لدى التأمل و التدقيق في آيات سورة الدهر يتضح جيداً أنّ اللَّه تعالى قد ذكر هؤلاء الكرماء من موقع التمجيد و الثناء و المدح و وعدهم جزيل الثواب في الآخرة و وصفهم بأوصاف سامية، فتارةً وصفهم بأنّهم «أبرار»، و في مكانٍ آخر ذكرهم بعنوان «عباد اللَّه».

«الآية الثالثة» تتحرك من موقع التشويق و الترغيب الشديد لمسألة الانفاق و البذل و تثني على الكرماء و الاسخياء بتعابير في غاية العلو و

الجمال و تقول «مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَا لَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «1».

فلو أننا أخذنا بظاهر الآية و لم نرتكب بعض التأويل و الحذف و التقدير للمفهوم منها فإنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ روح المنفق و المحسن تنمو أو تشتد إلى درجة كبيرة بعملية البذل و الانفاق كما أنّ أمواله تتضاعف و تتكاثر عدّة أضعاف بسبب الانفاق و كذلك يتصاعد الإنسان الكريم في مدارج الكمال بسرعة كبيرة و حتّى أنّ الخطوات الصغيرة في هذا السبيل تترتب عليها آثار عظيمة و نتائج كبيرة.

و على هذا الأساس فإنّ الانفاق و البذل مضافاً إلى أنّه يُعد قوّة تصعد بالإنسان في مدارج الرشد و الكمال المعنوي و الإنساني للمجتمع البشري، فكذلك هو الحال بالنسبة إلى الشخص نفسه.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 261.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 369

و قد ورد في الرواية الشريفة عن الإمام زين العابدين عليه السلام انه كلّما جاءه سائل و أعطاه من ماله فإنه يُقبل يد السائل، فلمّا سُئل عن سبب ذلك قال «لِانَّها تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ يَدِ العَبدِ» «1».

«الآية الرابعة» و ضمن الإشارة إلى نكتة مهمة في دائرة الانفاق تقول «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَا لَهُم بِالَّيْلِ وَ النَّهَارِ سِرًّا وَ عَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «2».

و على هذا الأساس فإنّ «السخاء» و «الانفاق» في سبيل اللَّه بأي شكل كان فإنه مطلوب و محبوب، و من جهة اخرى فإنّ «الانفاق» يورث الإنسان الأمن من عذاب اللَّه و يزيل الهمَّ و الحزن من قلبه، فالأشخاص الكرماء لا خوفٌ عليهم و

لا هم يحزنون لأن اللَّه تعالى قد ضمن رزقهم و سعادتهم فلا يحزنون على ما بذلوه في سبيل اللَّه لانهم يعلمون انما ينتظرهم من فضل اللَّه تعالى أكثر و أكثر ممّا بذلوه في هذه الحياة الدنيا.

«الآية الخامسة» تقرر هذا المعنى بتعبير آخر و تتحدّث عن الانفاق بالقول «لَنْ تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَ مَا تُنفِقُواْ مِن شَىْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» «3».

و في لغة العرب فإنّ كلمة «بر» تأتي بمعنى الاحسان المقارن للقصد و الاختيار، و هذه من علامات شخصية الإنسان و معنويته، و اللطيف أنّ «البر» في هذه الآية جاء بشكل مطلق، و هذا يدلّ على أنّه ما لم يكن الإنسان سخياً و كريماً فإنه لا يصل إلى حقيقة البر و الاحسان، رغم أنّ بعض المفسّرين فسّر كلمة «البرّ» بمعنى الجنّة، و بعض آخر ذكر أنّها بمعنى «التقوى و «الثواب الجزيل» و لكنَّ الظاهر أنّ مفهوم البرّ واسعٌ يشمل جميع ما ذُكر له من مصاديق.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 93، ص 129.

(2). سورة البقرة، الآية 274.

(3). سورة آل عمران، الآية 92.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 370

الاخلاق فى القرآن ج 2 399

«الآية السادسة» تقرر أنّ الانفاق مضافاً إلى انه أحد الأركان المهمة للتقوى و أنّه مصدر الهداية الإلهية للمؤمنين، تقول: «الَّذينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ وَ يُقيمُونَ الصَّلاةً وَ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون» «1».

و مع ملاحظة أنّ «ينفقون» جاءت بشكل فعل مضارع، و مفهومها أنّ هؤلاء ينفقون من المواهب الإلهية و العطايا الربانية الّتي لديهم بصورة مستمرة، و هذا يدلّ على كرمهم و سخائهم المتجذر في نفوسهم بحيث اصبح ملكة إنسانية و صفة كريمة لديهم.

فتعبير «مما رزقناهم» يشير إلى نكتة لطيفة في المقام، و هي

أنّ هؤلاء يرون أنّ جميع ما لديهم من الأموال و النعم هي مواهب إلهية و من مال اللَّه، و عليه فلا دليل على البخل في بذل شي ءٍ منها إلى الفقراء و المساكين و المحتاجين، و يتضح أيضاً من ذلك أنّ «الانفاق» لا ينحصر بالزكاة بل يستوعب معنىً أكبر من ذلك بحيث يشمل الصدقات الواجبة و المستحبة.

«الآية السابعة» و الأخيرة من الآيات محل البحث و ضمن الأمر بضرورة رعاية الاعتدال في البذل و العطاء و الابتعاد عن الافراط و التفريط تصور لنا صياغة للسخاء و الكرم الّذي هو الحدّ الوسط بين البخل و الإسراف و تقول: «وَ لَا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَ لَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» «2».

و قد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام بيان هذا المطلب في مثال جميل حيث قال أخذ الإمام عليه السلام قبضة من التراب من الأرض و أمسك عليها بشدة و قال:

هذا هو البخل، ثمّ أخذ قبضة اخرى و فتح يده إلى درجة أنّ جميع التراب انثال على الأرض فقال: هذا هو الإسراف، و في الثالثة أخذ قبضة و قلب كفه نحو السماء و فتحها فوقع شي ء من ______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 3.

(2). سورة الإسراء، الآية 29.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 371

التراب من بين أصابعه و أطراف كفه على الأرض فقال عليه السلام: «القوام ما يخرج من بين الأصابع و يبقى في الراحة منه شي ء» «1».

و في الآية مورد البحث ورد التعبير عن البخل بأنه «اليد المغلولة إلى العنق»، و عبّرت الآية عن الإسراف بقولها «تبسطها كلّ البسط»، و بذلك تحدّثت عن هذين المفهومين من موقع الذمّ و التوبيخ و ذكرت في هذا

السبيل عاقبة هذين السلوكين بقولها «ملوماً محسوراً».

و من مجموع الآيات الشريفة المذكورة آنفاً و الّتي تحدّثت عن السخاء و الانفاق و البذل و ما ورد في تفسيرها يتضح جيداً عظمة و أهمية هذه الصفة الإنسانية و السامية من بين الصفات الأخلاقية و القيم الإنسانية حيث إنّ الجود و الكرم و السخاء لا تتسبب في سعادة المجتمعات البشرية و محاربة الفقر و أنواع الحرمان و الّتي هي بدورها تكون منشئاً للكثير من الذنوب و السلبيات الاخرى فحسب، بل لها دورٌ مهم في تكامل الإنسان المعنوي و الروحي في خط التقوى و الانفتاح على الحقّ.

السخاء في الروايات الإسلامية:

و قد ورد في الروايات الإسلامية تعبيرات كثيرة و شامخة حول الجود و السخاء يقل نظيرها بالنسبة إلى الصفات الاخرى، و نختار منها نماذج لبيان هذا المضمون و المحتوى

1- ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «السَّخاءُ خُلْقُ اللَّهِ الاعْظَمُ» «2».

و في الحقيقة أنّ جميع أشكال السخاء و الكرم في عالم الوجود ما هو إلّا تجليات للكرم الإلهي الواسع لأن كلّ ما لدينا فهو من اللَّه تعالى من أنواع النعم و المواهب، الأرض و السماء، الحياة و متعلقاتها الكثيرة و كلّ شي ء فهو من نعمه و كرمه، و كلّ كرم فهو فرعٌ من ذلك الأصل اللامتناهي و الأبدي، لأنّه لو لم نحصل على نعمة و موهبة من اللَّه تعالى فليس بامكاننا بذل ______________________________

(1). تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 158.

(2). كنز العمال، ج 6، ص 337، ح 15926.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 372

شي ء منها، و حتّى صفة الجود و الكرم هي من مواهبه و نعمه على الإنسان.

2- يقول الإمام الصادق عليه السلام «السَّخاءُ مِن

اخْلَاقِ الْانْبِيَاءِ وَ هُوَ عِمَادُ الْايْمَانِ وَ لَا يَكُونُ المُؤمِنُ الّا سَخِيّاً وَ لا يَكُونُ سَخِيّاً الّا ذُو يَقينٍ وَ هِمَّة عَالِيَةٌ لَانَّ السَّخاءُ شُعاعُ نُورِ اليَقينِ، وَ مَنْ عَرَفَ مَا قَصَدَ هانَ عَلَيْهِ مَا بَذَلَ» «1».

و يستفاد من هذا الحديث أنّ هذه الصفة السامية تتمثل أوّلًا في وجود الأنبياء كصفة كريمة من الصفات الأخلاقية العالية و من علامات الإيمان و اليقين للمؤمن.

3- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «تَحَلَّ بِالسَّخاءِ وَ الْوَرَعِ فَهُما حِلْيَةُ الإيمَانِ وَ اشْرَفُ خَلالِكَ» «2».

و هذا الحديث يبين أنّ هذه الصفة الشريفة من أفضل صفات المؤمن على الاطلاق.

4- و ورد في حديثٍ آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «السَّخاءُ ثَمَرَةُ العَقْلِ وَ القَناعَةُ بُرهانُ النُبُلِ» «3».

فالأشخاص الّذين يمتنعون عن بذل شي ءٍ ممّا لديهم إلى الآخرين و يسعون لجمع الأموال الطائلة ثمّ يتركونها و يرحلون إلى العالم الآخر، فهم في الحقيقة ليسوا بعقلاء لأنهم لم يحصلوا من جزاء ذلك سوى على التعب و النصب و لن ينتفعوا من أموالهم على المستوى المادي و المعنوي، فأيُّ عقلٍ يرتكب مثل هذه الحماقة؟!

5- و في تعبير آخر عن هذا الإمام في بيانه لأهمية «السخاء» يشير إلى نقطة لطيفة اخرى و يقول «غَطُّوا مَعايِبَكُم بِالسَّخاءِ فَانَّهُ سَتْرُ العُيوبِ» «4».

و قد ثبت بالتجربة صدق هذا الكلام الحكيم حيث نرى أشخاصاً لهم عيوب كبيرة و لكنَّ الناس مع ذلك يحترمونهم من أجلٍ كرمهم وجودهم.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 68، ص 355، ح 17.

(2). غرر الحكم، ح 4511.

(3). غرر الحكم، ح 2145.

(4). غرر الحكم، ح 644.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 373

6- و في تعبير آخر عن هذا الإمام عليه السلام

يقول «السَّخاءُ يَمْحَصُ الذُّنُوبَ وَ يَجْلُبُ مَحَبَّةَ الْقُلُوبِ» «1».

و هذا التعبير يدلّ على أنّ السخاء كفّارة للكثير من الذنوب.

7- و يقول مولى الموحدين الإمام علي عليه السلام في بيانه للتأثير العميق للسخاء في جذب قلوب الناس و محبتهم «مَا اسْتَجْلَبَتِ المَحَبَّةُ بِمِثلِ السَّخاءِ وَ الرِّفْقِ وَ حُسْنُ الخُلْقِ» «2».

8- و يقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا الصدد «السَّخيُّ قَريبٌ مِنَ اللَّهِ قَريبٌ مِنَ النّاسِ قَريبٌ مِنَ الجَنَّةِ» «3».

9- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «شَابٌّ سَخيٌّ مَرْهَقٌ في الذُّنُوبِ احَبُّ الَى اللَّهِ عَزّ وَ جلّ مِنْ شَيخٍ عَابدٍ بَخيلٍ» «4».

و من المعلوم أنّ «السخاء» هو يتسبب في الامدادات الإلهية للإنسان و بالتالي فإنه يفضي إلى انقاذ ذلك الشاب الملوث بالذنوب من واقعه المزري، و لكنَّ ذلك الشيخ العابد و البخيل يغرق في الذنوب بسبب بخله.

10- و نختم هذا البحث بحديثٍ شريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث يقول «تَجَافُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخي فَانَّ اللَّهَ آخِذٌ بِيَدِهِ كُلَّما عَثُرَ» «5».

و من مجموع الأحاديث الشريفة المذكورة آنفاً تتبين الأهمية الكبيرة للسخاء في كلمات المعصومين عليهم السلام حيث رأينا أنّ هذه الفضيلة تتميز من بين سائر الفضائل الأخلاقية على مستوى الأهمية و الفضيلة.

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1738.

(2). غرر الحكم، ح 9561.

(3). بحار الأنوار، ج 70، ص 308.

(4). بحار الأنوار، ج 70، ص 307.

(5). كنز العمال، ج 6، ص 392، ح 16212.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 374

معطيات السخاء:

إنّ الآفاق و المعطيات الإيجابية للسخاء ثابتة بالتجربة في حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية، و قد مرّت الإشارة إليها في الأحاديث الإسلامية أيضاً، و هي معطيات كثيرة منها:

1- ما يستفاد

من الروايات المتعددة و التجارب الكثيرة ان السخاء يولد المحبّة في قلب الصديق و العدو و بالتالي فإنه يزيد من كثرة الأصدقاء و يقلل من عدد الأعداء.

2- إنّ «السخاء» يعد ستاراً على عيوب الشخص و بالتالي يحفظ ماء وجهه و حيثيته في أنظار الناس و المجتمع.

3- إن السخاء في الوقت الّذي هو ثمرة من ثمار شجرة العقل فإنه يزيد من عقل الإنسان أيضاً، فالعقل يقول: انه لا معنى لأن يتعب الإنسان في جمع الأموال و تكديسها و بالتالي تركها للورثة بدون أن يستفيد منها في تحصيل الثواب و كسب الوجاهة بين الناس، و من جهة اخرى فإنّ «السخاء» بإمكانه أن يجمع العلماء حول هذا الإنسان السخي و بالتالي يمكنه الاستفادة من أفكارهم و عقولهم و علومهم.

4- إن «السخاء» يتسبب في تقليل الفاصلة بين طبقات المجتمع و بذلك يعمل على إزالة حالات التوتر النفسي المتولدة من حالات الصراع الطبقي أو يقلل من حدثها و تأثيرها، و يطفى ء نار الحقد على الأثرياء في قلوب المحرومين و يقلل من حس الانتقام لديهم، و بذلك يعمل على توطيد عنصر المحبّة و المودّة بين أفراد المجتمع.

5- إن «السخاء» يؤدي إلى زيادة أنصار الإنسان السخي و يحفظ له وجاهته و سمعته في المجتمع، و يدفع عنه شرَّ الأعداء و المغرورين، فلذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام «الْجُودُ حَارِسُ الَاعْرَاضِ» «1».

6- إن الجود و «السخاء» لهما من الآثار و المعطيات المعنوية الكبيرة جدّاً، و لهذا السبب فإنّها من صفات الأنبياء بالخصوص كما قرأنا في الروايات السابقة، و السخاء شعاعٌ لنور

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 333.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 375

اليقين، و حتّى لو كانت هذه الفضيلة لدى الأشخاص الّذين يعيشون البعد عن الإيمان

و التقوى فإنّ ذلك سيكون مفيداً لهم، و في حديثٍ شريف أنّ اللَّه تعالى أوحى للنبي موسى عليه السلام بأنه «لا تَقْتُلُ السَّامِريَّ فَانَّهُ سَخِيٌّ» «1».

و من المعلوم أنّ السامري تسبب في فساد عظيم في بني إسرائيل و اشاع فيهم دين الوثنية و عبادة الاصنام و في النهاية عاش طريداً و حقيراً إلى درجة انه ربما رجّح الموت على الحياة، و لكن مع ذلك فإنّ اللَّه تعالى أوحى لموسى عليه السلام أنّ يحفظ دمه و لا يقتله لسخاءه و كرمه.

و قد نقل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال لعدي ابن حاتم الطائي «دُفِعَ عَن أبَيكَ العَذابُ الشَّديدُ لِسَخاءِ نَفْسِهِ» «2».

و في ذيل هذا الحديث ورد أنّ رسول اللَّه عليه السلام أمر بقتل جماعة من الجناة القتلة في أحد الغزوات و استثنى منهم واحداً، فتعجب ذلك الرجل و قال: إن جنايتنا واحدة، فلما ذا لم تأمر بقتلي؟ فقال له النبي صلى الله عليه و آله: إن اللَّه تعالى أوحى إليّ بانك كريم قومك و لا ينبغي أن أقتلك.

فلمّا سمع الرجل هذا الكلام من النبي اسلم و تشهد الشهادتين، أجل فإنّ سخاء هذا الرجل قاده إلى الجنّة.

ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «السخيّ محبب في السماوات، محبب في الأرض ...

و البخيل مبغض في السماوات و مبغض في الأرضين» «3».

حدود السخاء:

إن السخاء كسائر الصفات و الأفعال الحسنة لا بدّ له من مقدار بحيث إذا تجاوز الإنسان ذلك المقدار وقع في الإفراط و بالتالي يكون من الرذائل، فلا ينبغي أن يؤدي السخاء إلى ______________________________

(1). اصول الكافي، ج 4، ص 41.

(2). بحار الأنوار، ج 68، ص 354.

(3). وسائل الشيعة، ج 15، ص

252.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 376

الاضرار بشخصية الإنسان و وجاهته و حيثيته و وجاهة من يلوذ به أيضاً.

يجب أن يكون «السخاء» في الأموال الحلال لا في الأموال الّتي يحصل عليها الإنسان من الطريق الحرام و الظلم و العدوان مثل سخاء الكثير من السلاطين و الملوك الجبابرة و امراء الجور.

و كذلك لا ينبغي أن يكون «السخاء» في الأموال المتعلقة ببيت المال، لأن أموال بيت المال ينبغي فيها الدقّة في الحساب و رعاية العدالة فيها.

طرق تحصيل ملكة السخاء:

إن هذه الفضيلة الاجتماعية كسائر الفضائل الاخرى تحصل في نفس الإنسان بالتعليم و التربية و التفكر و الممارسة العملية.

إذا توجه الإنسان و التفت إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ هذه الأموال و الثروات أمانة إلهية بيده و لا دوام لها، فهذا العلم يدفع الإنسان إلى البذل و العطاء و يحسب ذلك و كأنه يضع هذه الأموال في صندوق أمين يحفظها ليوم الحاجة و الفاقة، و كذلك التأمل في آثار و بركات السخاء و معطياته المهمة في واقع الإنسان و حياته فإنّ ذلك يمكنه أن يكون مؤثراً في تحريك عامل الشوق بالبذل و السخاء.

إن مطالعة تاريخ حياة الكرماء و البخلاء و سيرتهم و المقارنة بين هاتين الطائفتين من الاحترام الكبير و الشخصية النافذة لدى الناس بالنسبة إلى الطائفة الاولى، و الذلّة و الحقارة و الدناءة و سوء السمعة الّتي تحدق بالطائفة الثانية، كلّ ذلك من شأنه أن يورث الإنسان «السخاء» في دائرة السلوك الأخلاقي.

هذه الامور هي من البعد النظري للمسألة، اما من حيث البعد العملي فإنّ الإنسان كلّما مارس هذا العمل أكثر و تمرّن عليه في واقعه الاجتماعي فان هذه الفضيلة سوف تتعمق في نفسه حتّى تحصل له ملكة الجود و السخاء، لأن

تكرار الأعمال الكريمة و التحرّك من موقع البذل و العطاء في التعامل مع الناس حتّى لو كان ذلك شاقاً على النفس فإنّه سيكون الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 377

بالتدريج عادة، ثمّ يتحول إلى حالة، و بالتالي يكون ملكة أخلاقية في واقع النفس.

و ضمناً فإنّ عملية تربية الوالدين و المعلم و الاستاذ مؤثرة كثيراً في هذا المجال، فلو أنّهم عودوا الطفل حالة الجود و السخاء منذ الطفولة فإنّ هذه الملكة الأخلاقية سوف تمد جذورها إلى أعماق نفوسهم و قلوبهم و تكون في الكبر جزءاً من شخصيتهم، و يذكر في حالات «الصاحب بن عبّاد» أنّه كان في أوان صغره إذا أراد المضيّ إلى المسجد ليقرأ تعطيه والدته ديناراً و درهماً كلّ يوم و تقول له تصدّق بها على أوّل فقير تلقاه فجعل هذا دأبه في شبابه إلى أن كبر و ماتت والدته. و كان لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائناً من كان فيخرج من داره إلّا بعد الافطار عنده و كانت داره لا تخلو في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها و كانت صلاته و صدقاته و قرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة «1».

و نختم هذا البحث في بعض الأحاديث الشريفة:

ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الَجَنَّةُ دَارُ الاسْخِياء» «2».

و يقول الإمام الصادق عليه السلام أنّ اللَّه تعالى يقول «انّي جَوادٌ كريمٌ لا يُجَاوِرُني لَئيمٌ» «3».

و في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «طَعامُ الجَوادِ دَواءٌ وَ طَعامُ البَخيلِ داءٌ» «4».

و أحد العرفاء يدعى «ابن سمّاك» «5» يقول «عَجِبْتُ لِمَن

يَشتَرِيَ الْمَماليكَ بِمالِهِ ______________________________

(1). سفينة البحار، مادّة صحب.

(2). المحجّة البيضاء، ج 6، ص 62.

(3). المصدر السابق، ص 64.

(4). المصدر السابق، ص 61.

(5). عاش «ابن سمّاك» في القرن الثاني الهجري في زمن حكومة هارون الرشيد، و توفي عام 183 ه ق في الكوفة، يقول عنه المحدّث القمّي في سفينة البحار (مادة سمك) أنّه كان حسن الكلام صاحب مواعظ، و يذكر ابن أبي الحديد أنّه دخل ابن السماك على الرشيد فقال له، عظني، ثمّ دعا بماء ليشربه فقال، ناشدتك اللَّه لو منعك اللَّه من شربه ما كنت فاعلًا؟ قال، كنت أفتديه بنصف ملكي، قال، فاشرب، فلمّا شرب قال، ناشدتك اللَّه لو منعك اللَّه من خروجه ما كنت فاعلًا؟ قال، كنت افتديه بنصف ملكي، قال، إنّ ملكاً يفتدى بشربة ماء لخليق أن لا ينافس عليه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 378

وَ لا يَشتَرِي الْاحرارَ بِمَعروفِهِ» «1».

و قيل لابن عربي: من هو سيّدكم؟ فقال: «مَنِ احْتَمَلَ شَتْمَنَا وَ اعطى سَائِلَنَا وَ اغْضى جَاهِلَنا» «2».

______________________________

(1) المحجّة البيضاء، ص 65.

(2) المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 379

19

العجلة و التسرع

تلويح:

إن لكلّ عمل مقدّمات بحيث إذا لم تتوفر هذه المقدمات فالاقدام عليه يكون بغير طائل و بلا نتيجة مثمرة، و إذا توفرت هذه المقدمات و لم يقدم الشخص عليه و أفلتت الفرصة من بين يديه فالنتيجة تكون كذلك، فالشخص المدير و المدبر هو الّذي ينتظر و يصبر إلى أن تحين اللحظة المناسبة و تترتب المقدمات ثمّ يقدم على العمل لتحصيل النتيجة المرجوة و لا يتكاسل أو يهمل الموضوع حتّى تفلت منه الفرصة، و لهذا ورد في معنى العجلة و التسرع، أنّ هذه الحالة من الصفات الرذيلة حيث يقدم الإنسان على عملٍ بدون توفر المقدمات المطلوبة

و بدون أن تتهيأ الأرضية اللازمة لذلك، و في مقابل هذه الحالة ورد «الصبر و التأني» الّذي يعد من الفضائل الأخلاقية و دليلًا على عقل الرجل و حركته «و بالطبع فإنّ الصبر له أقسام اخرى سنشير إليها في الفصول اللاحقة».

إن الخسارة العظيمة الّتي تلحق بالأفراد و المجتمعات من جهة العجلة و التسرع أكثر من أن تحصى و القرآن الكريم يوصي الناس من موقع صياغة برنامج جامع للحياة بالصبر و التأني و الاجتناب من «العجلة و التسرع» مستعيناً بذلك بقصص من سيرة الأنبياء و القادة المصلحين للمجتمعات البشرية السالفة ليبين من خلال هذه القصص و الوقائع اضرار

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 380

العجلة المخربة و معطيات الصبر و التأني الطيبة.

و بهذه الأشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة و من سيرة الأنبياء الماضين مفاهيم مؤثرة في حركة الحياة الفردية و الاجتماعية للإنسان:

1- «قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا* قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا* وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قَالَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَ لَا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا» «1».

2- «وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ا لِمحْرَابَ* ... وَ ظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعًا وَ أَنَابَ» «2».

3- «فَاصْبِر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُن كَصاحِبِ الحُوتِ اذ نادى وَ هُوَ مَكظُومَّ* لَو لَا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعَراءِ وَ هُوَ مَذمُومٌ* فَأجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحينَ» «3».

4- «.. وَ لَا تَعْجَلْ بِالقُرآنِ مِن قَبْلِ ان يُقضى الَيكَ وَحيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» «4».

5- «خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ» «5».

6- «وَ يَدَعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرّ

دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا» «6».

7- «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ» «7».

8- «وَ لَوْ يُعَجّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «8».

______________________________

(1). سورة الكهف، الآية 66- 69.

(2). سورة ص، الآية 21- 24.

(3). سورة القلم، الآية 48- 50.

(4). سورة طه، الآية 114.

(5). سورة الأنبياء، الآية 37.

(6). سورة الإسراء، الآية 11.

(7). سورة الرعد، الآية 6.

(8). سورة يونس، الآية 11.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 381

9- «وَ يَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* ... فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ» «1».

10- «فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ اوُلُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَستَعْجِلْ لَهُم كَانَّهُم يومَ يَرَونَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلبَثُوا الّا سَاعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ الّا الْقَومُ الفَاسِقُونَ» «2».

تفسير و استنتاج

في «الآيات الاولى من الآيات محل البحث يستعرض القرآن قصة الخضر عليه السلام و النبي موسى عليه السلام، و طبعاً فإنّ القرآن الكريم لم يذكر اسم الخضر بل عبّر عنه بقوله «عَبْدَاً مِنْ عِبَادِنَا»، هذه القصة مشهورة و معروفة لدى القارى ء الكريم، و ما هو محل نظرنا و بحثنا منها هو أنّ النبي موسى عليه السلام طلب العلم و ذهب إلى حيث ينال العلم بسفرٍ خاصّ و جاء إلى الخضر ليستقي من علومه و معارفه ما يختلف عن العلوم الّتي اكتسبها عن طريق الوحي، و هي العلوم المتعلقة بأسرار الطبيعة و حقائق الامور و الحياة البشرية الّتي لا بدّ أن يطلع على قسم منها نبيّ من اولي العزم مثل موسى عليه السلام لتتضح له الصورة جيّداً في عملية

التفاعل الإنساني و الاجتماعي و ليكون على بيّنة من هذه الامور.

و هنا قال الخضر لموسى عليه السلام بعد طلب موسى عليه السلام التعلم منه: بانك لا تتحمل و لا تطيق ما تراه من هذه العلوم لأنك لم تدرك حقائق الامور في باطنها، و لكنَّ النبي موسى عليه السلام وعده بالصبر و التأني و اجتناب العجلة و التسرع، فشرط عليه الخضر هذا الشرط و انه إذا صحبتني فيجب أن تلتزم السكوت اتجاه أي فعلٍ يصدر مني مهما كان عجيباً و منافياً للمقررات و الاصول السائدة بين الناس، و لا بدّ أن تعلم أنّ في ذلك حكمة سوف أُطلعك عليها، فتقول الآيات و هي تحكي هذه الحادثة «فَوَجَدا عَبداً مِن عِبادِنا ... قَالَ فَانِ ______________________________

(1). سورة السجدة، الآية 28 و 30.

(2). سورة الاحقاف، الآية 35.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 382

اتَّبَعْتَني فَلا تَسْئَلْني عَنْ شَي ءٍ حَتّى احدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكراً» «1».

و على هذا الأساس أراد الخضر عليه السلام أن يُعلم موسى عليه السلام درساً في روح الصبر و التأني أمام الحوادث و المسائل المختلفة في حركة الحياة ليتربى موسى عليه السلام على هذه الصفة الأخلاقية، و يسلك حياته الاجتماعية بعيداً عن حالة «العجلة و التسرع» في تعامله مع الواقع و الحياة «خاصة العجلة في القضاء و الحكم و لا سيّما بالنسبة إلى أعمال شخصيات كبيرة مثل موسى عليه السلام ء و مع هذا الوعد و الشرط تحركا في مسيرهما و سفرهما حتّى وصلا البحر فوجدا سفينة تريد أن تتحرك و ترحل فركبا فيها، فلمّا مضت مدّة رأى موسى عليه السلام أمراً عجيباً من الخضر عليه السلام حيث شاهد الخضر عليه السلام و هو يحاول ايجاد ثقب في اسفل

السفينة سراً، فلم يتمالك موسى عليه السلام نفسه أمام هذا العمل الشنيع و اعترض على الخضر بشدّة، و لكنَّ الخضر عليه السلام ذكره بوعده و الشرط الّذي اشترط عليه، فما كان من موسى عليه السلام إلّا أن تراجع و اعتذر عن فعله.

ثمّ استمر في طريقهما و سفرهما، و فجأة ارتكب الخضر عملًا أعجب من الأوّل حيث شاهد صبياً فقتله، و هنا صرخ به موسى عليه السلام محتجاً عليه بانك لماذا تقتل الأبرياء، و لما ذا ترتكب هذه الأفعال القبيحة؟

و هنا نجد الخضر عليه السلام يذكره مرّة اخرى بعهده و وعده السابق من إلتزام الصبر و السكوت، فأجابه موسى معتذراً عن هذا التسرع و قال له: إذا رأيت مني اعتراضاً للمرّة الثالثة فإنّ لك الحقّ في أن تنفصل عني.

ثمّ تحركا متنقلين من مدينة إلى اخرى إلى أن وصلا إلى قرية يتسم أهلها بالبخل الشديد و عدم اعتنائهم بالضيف، و لكنَّ الخضر عليه السلام لم يهتم لذلك بل شرَع في ترميم جدار وجده في حالة الانهيار و السقوط، فرأى موسى عليه السلام أنّ مثل هذا العمل تجاه ما رأوه من جفاء أهل هذه القرية هو عمل سخيف، و لذلك نسي مرّة اخرى عهده مع الخضر عليه السلام و اعترض عليه في هذا العمل.

______________________________

(1). سورة الكهف، الآية 65- 70.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 383

و هنا جلس الخضر عليه السلام ليشرح لموسى عليه السلام أسرار هذه السلوكيات و الأفعال الغريبة و يبين له الحقائق الخفية لعالم الوجود بحيث إن موسى عليه السلام شعر بأنه قد فتحت أمامه نافذة جديدة على أسرار حياة الناس، و عندها ودع الخضر عليه السلام موسى عليه السلام بعد أن حمله معارف جمة من هذه

العلوم الغريبة.

و أخيراً تقول الآيات الكريمة في استعراضها لما حدث بين الخضر و موسى عليهما السلام حيث تبين تفاصيل و رموز العلل الكاملة وراء هذه التصرفات العجيبة للخضر عليه السلام و تقول على لسان الخضر عليه السلام «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَ كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً».

«وَ أَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَ كُفْراً* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً».

«وَ أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَ يَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» «1».

و لو أنّ موسى عليه السلام لم يستعجل بحكمه على أفعال الخضر عليه السلام لكان قد بقي مع الخضر و استفاد أكثر من علومه، و لكنَ «العجلة و التسرع» كانا السبب لأن يحصل على هذه الثمار الثلاثة فقط و يحرم من الزيادة.

«الطائفة الثانية» من الآيات محل البحث تستعرض واقعة اخرى لأحد الأنبياء العظام حيث تسببت العجلة و التسرع في القضاء و الحكم أن يقع مورد العتاب الإلهي.

و القصة هي انه بينما كان داود عليه السلام يوماً في محرابه إذ دخل عليه رجلان أحدهما يشتكي من الآخر و يقول: «انَّ هَذَا اخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ ______________________________

(1). سورة الكهف، الآية 60- 82.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 384

اكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ» «1».

و قبل أن يتحقق داود من المسألة و يدرس كافة تفاصيلها تسرع في الحكم «... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤآلِ نَعْجَتِكَ الَى نِعَاجِهِ ...» «2».

و هنا انتبه

النبي داود عليه السلام إلى انه ارتكب الترك الأولى «وَ ظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعًا وَ أَنَابَ» «3».

و ليس هذا البحث محلًا مناسباً لدراسة هذه الواقعة بتمام تفاصيلها الدقيقة «و قد بحثناها في التفسير الأمثل بالتفصيل» و لكننا نقتصر على بيان هذه الحقيقة، و هي أنّ «العجلة و التسرع» و خاصّةً بالنسبة إلى القضاء و الحكم بين الناس سيفضي حتماً إلى تعقيد الامور و الفضيحة و تعميق المشكلة على المستوى الفردي و الاجتماعي.

و تتعرض «الطائفة الثالثة» من الآيات محل البحث إلى قصة النبي يونس عليه السلام ه تيلوئسمو العظيمة في الدعوة إلى الحقّ و هداية الناس إلى اللَّه، و لكنه في لحظة من اللحظات تساهل في أمر هذه المسؤولية الإلهية و ارتكب الترك الأولى و بالتالي أصابه العقاب الإلهي بسبب ذلك.

و القصة هي أنّ النبي يونس عليه السلام عاش مدّة طويلة مع قومه كالأب الحنون حيث تحمل مسؤولية انقاذ قومه من الضلالة و الانحراف، و لكنه لم يواجه منهم أمام منطقه الحكيم سوى السفسطة و المغالطة و السخرية، و لم يؤمن له من قومه إلّا عدد قليل جدّاً، و لعلّه لم يتجاوز الرجلين «أحدهما عابد و الآخر عالم»، و أخيراً فإنّ النبي يونس عليه السلام أصابه اليأس من إيمان قومه، فدعى عليهم باقتراح من الرجل العابد، و استجاب اللَّه دعاءه، و أوحى إليه انه سينزل عليهم العذاب الإلهي في اليوم الفلاني، و عند ما اقترب زمان نزول العذاب ترك النبي يونس ______________________________

(1). سورة ص، الآية 23.

(2). سورة ص، الآية 24.

(3). سورة ص، الآية 24.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 385

عليه السلام هؤلاء القوم و صحب معه الرجل العابد بدون أن يُتم الحجّة عليهم فلعلّهم

يتوبون تلك اللحظات الأخيرة و يعودون إلى اللَّه تعالى، و لكنَّ الرجل العالم بقي معهم و استمر في تبليغ الرسالة الإلهية.

و قد أثمر هذا التبليغ و هذه الدعوة من الرجل العالم ثمره تزامناً مع اقتراب لحظات نزول العذاب، فحدث أن أوجب كلام هذا العالم و علامات نزول العذاب تحولًا كبيراً في أعماق نفوس هؤلاء القوم، و أثابوا إلى رشدهم و خرجوا مصطحبين معهم ذلك العالم إلى الصحراء ليعلنوا توبتهم و انابتهم إلى اللَّه و سلوكهم في طريق الإيمان و التقوى، فلعلّ اللَّه يرحمهم و يغفر لهم، و هكذا قبل اللَّه تعالى توبتهم و تاب عليهم و لكنه وبّخ يونس عليه السلام على تسرعه و عجلته في ترك هؤلاء القوم.

القرآن الكريم يخاطب نبي الإسلام في هذه الآيات الكريمة أن لا يستعجل في طلب العذاب الإلهي على المشركين من قريش و لا يكون كيونس عليه السلام «فَاصْبِر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُن كَصاحِبِ الحُوتِ اذ نادى وَ هُوَ مَكظُومَّ* لَو لَا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعَراءِ وَ هُوَ مَذمُومٌ» «1».

و لكن اللَّه تعالى قبل توبته من هذا الترك الأولى، و عند ما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت كان قد تطهر من كلّ ذنب و ترك للأولى، و لهذا نقرأ بعد هذه الآية قوله تعالى «فَأجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحينَ» «2».

فالبرغم من أنّ يونس لم يتم الحجّة على قومه بالمقدار اللازم، و لكن اللَّه تعالى كان يتوقع من هذا النبي الكريم أن يصبر و يتأنى أكثر من ذلك، و لذلك عاقبه على عجلته و تسرعه في مقابل عناد اولئك القوم.

و تتحرك «الآية الرابعة» من موقع منع نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من

«العجلة و التسرع» و تقول ______________________________

(1). سورة القلم، الآية 48 و 49.

(2). سورة القلم، الآية 48- 50.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 386

«فَتَعالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَ لَا تَعجَلْ بِالقُرآنِ مِن قَبلِ ان يُقضى الَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» «1».

و يستفاد من بعض الآيات القرآنية الاخرى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند نزول الوحي كان يعيش حالة خاصّة من الشغف و الشوق و الحرارة تقوده إلى الاستعجال في استلهام الوحي، و لذلك تصدت هذه الآية الشريفة لتذكير النبي صلى الله عليه و آله بذلك و منعه «.. وَ لَا تَعْجَلْ بِالقُرآنِ مِن قَبْلِ ان يُقضى الَيكَ وَحيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» «2».

و رغم أنّ المفسّرين ذكروا احتمالات عديدة في تفسير هذه الآية الشريفة، و لكنّهم متفقون على أنّ الآية ناظرة إلى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا ينبغي أن يستعجل في استلام الوحي بالرغم من أنّ أصل الموضوع هو عمل إلهي و يتضمّن هداية الناس إلى اللَّه تعالى.

و على الرغم من أنّ استعجال النبي صلى الله عليه و آله في استلام الوحي أو تلاوة الآيات القرآنية على أصحابه أو طلبه بنزول الوحي كلّ ذلك كان بسبب عشقه و شوقه لهداية الناس، و لكن حتّى هذا العمل الإيجابي و الإنساني لا ينبغي أن يتم من موقع العجلة بل ينبغي أن يكون متزامناً مع الصبر و التأني.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن جميع الناس، أو بتعبير آخر عن طبيعة الإنسان و تقول:

«خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ» «3».

و كأن الإنسان في سلوكه و حركته في حياته إلى درجة من العجلة و كأن ذاته و نفسه قد عجنت بالعجلة فهي

عين العجلة.

و تشير هذه الآية إلى أنّ طبيعة الإنسان مخلوقة منذ اليوم الأوّل بالعجلة و التسرع، و لكنه يجب عليه استخدام هذه الحالة و سلوك طريق التسرع و العجلة بعد توفر المقدمات للعمل لا

______________________________

(1). سورة طه، الآية 114.

(2). المصدر السابق.

(3). سورة الأنبياء، الآية 37.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 387

قبل ذلك.

و عبارة «بآياتي» يمكن أن تكون إشارة إلى معجزات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو آيات القرآن الكريم أو علائم العذاب الإلهي أو حلول القيامة أو جميع ذلك من الآيات الإلهية، فلا يختلف الحال في أخذنا لكلّ هذه التفاسير المذكورة لهذه الآية، لأن جميع هذه الامور من نزول آيات القرآن و ظهور المعجزات و حصول علائم القيامة و كذلك نزول العذاب الإلهي كلّها تتفق مع الحكمة الإلهية في ظرف نزولها الخاصّ، و لا تقترن مع العجلة و التسرع لأن اللَّه الحكيم لا يعمل عملًا على خلاف حكمته، و عليه فلا ينبغي الاستعجال في طلب هذه الامور.

أمّا قوله تعالى للآية الشريفة «خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ» فهو إشارة إلى الأشخاص الّذين لم يتحركوا في خطّ التربية الإلهية و لم يرّبوا أنفسهم في عملية تهذيب النفس و جهادها، و بعبارة اخرى: إن طبع الإنسان الأولي هو أن يتحرك بسرعة باتجاه اشباع حاجاته و رغباته البدنية و النفسية، و قد ورد هذا المضمون أيضاً في الآية 19 من سورة المعارج حيث يقول تعالى «انّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» أي حريصاً و قليل الصبر.

و لذلك نجد أنّ بعض الآيات الّتي تشير إلى كون الإنسان عجولًا فإنّها تتحدّث عن هداية الإنسان قبل ذلك كما في الآية 11 من سورة الإسراء و الّتي ستأتي الإشارة إليها لاحقاً.

و هذه الخاصية في الإنسان «كونه

عجولًا» حالها حال الأهواء النفسية و النوازع البدنية الاخرى الّتي هي بنّاءة و ضرورية و مفيدة فيما لو تحرّك الإنسان على مستوى تعديلها و تهذيبها و الاستفادة منها في خطّ السعادة و التكامل المعنوي و الإنساني، و بذلك تخرج هذه الحالات السلبية في الظاهر كونها مخربة و سلبية، فهي مثل السيل الهادر فإنه رغم ظاهره المدمر و لكنه إذا بنى الإنسان أمامه السدود لضبطه و الاستفادة من قوته فإنه يتحول إلى قوّة ايجابية تؤدي إلى العمران و النور و الرقي في حركة الحياة الدنيوية.

و نفس هذا المضمون ورد أيضاً في «الآية السادسة» من الآيات محل البحث مع تفاوتٍ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 388

يسير و هو أنّ في هذه الآية نجد إشارة إلى أحد الافرازات السلبية و السيئة للعجلة و التسرع حيث تقول الآية: «وَ يَدَعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا» «1».

و هنا أيضاً نجد مفردة «الإنسان» الّتي تشير إلى طبيعة الإنسان الأولية، و قد تكررت هذه الكلمة في أوّل الآية و في آخرها أيضاً.

«دعا» في هذه الآية بمعنى طلب و أراد، سواءاً كان باللسان أو بالعمل، و بما أنّ الإنسان يتصف بالعجلة في ذاته و التسرع في تحصيل المنافع الشخصية فإنّ ذلك قد يتسبب في أن لا يدرس جوانب المدرسة بشكل جيد و لا يدرك خيره و شره و بالتالي يوقع نفسه في المخاطر و المشاكل المتنوعة.

و هذا «الدعاء» تارةً يكون بصورة لفظية، يعني أنّ الإنسان يطلب من اللَّه تعالى و باصرار شديد بعض الامور الّتي لا تكون خيراً له في الواقع بل هي شرُّ له و إن كانت في ظاهرها أنيقة و مطلوبة كما يقول الإمام الصادق عليه السلام «وَ

اعِرِفْ طَريقَ نِجاتِكَ وَ هَلاكِكَ كَي لا تَدعُوا اللَّهَ بِشَي ءٍ عَسى فِيهِ هَلاكُكَ وَ انْتَ تَظُنُّ انّ فيهِ نَجاتُكَ قَالَ اللَّهُ تَعالى «وَ يَدَعُ الإنسانُ بِالشَّرِّ دُعائَهُ بِالخَيرِ وَ كانَ الإنسانُ عَجُولًا» «2».

و أحياناً يتحرّك الإنسان على مستوى العمل في طلب شي ءٍ بدافع من وحي الأهواء و الشهوات و يكون شقاءه في ذلك و لكنه بسبب تزيين النفس و تسويلات الشيطان يحسب ذلك خيراً له و موجباً لسعادته و يحزن عند ما لم يحصل عليه، في حين انه سيتضح له بمرور الزمان انه إذا كان اللَّه قد استجاب له طلبه ذلك و نال حاجته و حقق هدفه فإنّ ذلك سيكون سبباً لشقائه مدى الحياة.

و تستعرض «الآية السابعة» مطلباً جديداً على مستوى عجلة الإنسان، و هو أنّ هذا الإنسان العجول أحياناً بدلًا من أن يستعجل في طريق الخير و اكتساب الحسنات على ______________________________

(1). سورة الإسراء، الآية 11.

(2). نور الثقلين، ج 1، ص 141.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 389

الأقل فإنه يستعجل في طريق الشر و الفساد، كما نرى هذا الحال لدى الكفّار المعاندين عند ما يحذرهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من عذاب اللَّه و عقوباته الدنيوية، فتجدهم يستعجلون بهذا العذاب و يطلبون من النبي أن يسرع في نزول العذاب المهلك، و في الحقيقة يطلبون موتهم و هلاكهم من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كما تتحدّث الآية مورد البحث عن ذلك: «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ» «1».

أجل، إذا اقترنت العجلة لدى الإنسان بالعناد و الإصرار، فالنتيجة هي ما قرأناه في هذه الآية الشريفة، فبدلًا

من الاستعجال لطلب الخير و اكتساب الحسنات فإنّهم يستعجلون في طلب الشرّ و يوقعون أنفسهم بأمواج البلاء و الشقاء كما نجد هذا المضمون في الآية الاولى من سورة المعارج «سَئَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ وَاقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ».

و قد ذكر الكثير من المفسّرين و أرباب الحديث أنّ هذه الآية نزلت في «النعمان بن الحارث الفهري» عند ما نصب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الإمام علي في غدير خم خليفة له و قال قولته المشهورة «مَنْ كُنتُ مَولَاهُ فَهَذَا عَليٌّ مَولاهُ» فلمّا سمع بذلك هذا الرجل اغتاظ من ذلك و جاء إلى النبي معترضاً بشدّة، و عند ما سمع من النبي أنّ هذا الأمر إنما هو أمرٌ إلهيٌّ ازداد غيظاً و قال: إلهي إن كان هذا هو الحقَ من عندك فانزل علينا حجارةً من السماء، فلم يمكث مدّة حتّى نزلت عليه حجارةً من السماء فأصابته في رأسه و قتلته، و قد نزلت الآية في هذه الواقعة «2».

ألم يكن من الأفضل لمثل هؤلاء الأشخاص أن يطلبوا من اللَّه تعالى بدلًا من العناد و اللجاجة، الهداية و المغفرة و إزالة حالة التعصب و العناد في ذاتهم؟ و طبقاً للآية مورد البحث فإنّ مغفرة اللَّه تسبق عذابه «سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ» و هكذا فإنّ اللَّه تعالى لا يعذب أحداً ما دام احتمال هدايته موجوداً، و لكن مع الأسف فإنّ بعض الناس المعاندين ______________________________

(1). سورة الرعد، الآية 6.

(2). مجمع البيان، ج 10، ص 352.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 390

و المتعصبين يستعجلون بالعذاب الإلهي بدلًا من المغفرة و الرحمة.

و تتحرّك «الآية الثامنة» من الآيات مورد البحث للكشف عن بعد آخر من أبعاد صفة العجلة لهذا الإنسان و تقول: «وَ لَوْ يُعَجّلُ

اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ...» «1» و لكن بما أنّ اللَّه تعالى غفور رحيم كريم فإنه لا يسرع في عقاب القوم الفاسقين فلعلّهم ينتبهون من غفلتهم و يسيرون في خطّ التقوى و الإيمان و التوبة.

و يضيف القرآن الكريم في ذيل هذه الآية الشريفة «فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «2» إلى أن يحين وقت مجازاتهم و عقوبتهم.

و عليه فإنّ اللَّه تعالى لا يعمل مثل عملكم، فانتم تستعجلون باكتساب الخيرات و المنافع، و لكن اللَّه تعالى لا يُسرع في عقابكم، لأن المقصود الأصلي للَّه تعالى ليس هو عقابكم بل غرضه هدايتكم و أنزال الرحمة عليكم.

و طبقاً للآيات القرآنية الاخرى فيحتمل في تفسير هذه الآية أن يكون المراد منها هو أنّ هؤلاء الناس يستعجلون بطلب نزول العذاب الإلهي عليهم كما يستعجلون في طلب الخيرات و المنافع الدنيوية، و لكن القرآن الكريم يقول لهم: «لو أنّ اللَّه تعالى استجاب لطلبكم في مسألة التسريع بنزول العذاب لم يبق أحداً منكم» «3»، و لكنَّ المعنى الأوّل أو التفسير الأوّل للآية ينسجم أكثر مع ظاهرها.

و في «الآية التاسعة» و ضمن الإشارة إلى حالة الاضطراب و القلق لدى الكفّار و المشركين في مقابل وعد اللَّه تعالى للمسلمين بالنصر و هزيمة أعدائهم الكافرين ______________________________

(1). سورة يونس، الآية 11.

(2). سورة يونس، الآية 11.

(3). على هذا التفسير فإنّ هناك جملة تقديرية في الآية و هي، «و لو يعجل اللَّه للناس اجابة دعوتهم بالشر استعجالهم بالخير».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 391

و معاقبتهم تقول: «وَ يَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ» «1».

أي لماذا لم تتحقق هذه الوعود الإلهية؟ أ ليس هذا دليلٌ على كذبكم و انكم تخادعون أنفسكم بهذه الوعود

الزائفة؟

و يجيب القرآن الكريم على هذا التساؤل و يأمر النبي صلى الله عليه و آله بأن يقول لهم «قُل يَوْمَ الفَتحِ لا يَنْفَعُ الّذِينَ كَفَرُوا إيمَانُهُمْ وَ لَا هُم يُنْظَرُونَ ...» «2».

فلا تستعجلوا بنزول العذاب، لأنّه في ذلك اليوم لا يجد هؤلاء الكافرون فرصة للعودة إلى الحقّ.

إن اللَّه تعالى بلطفه و كرمه و عنايته قد أمهلكم هذا اليوم لتعودوا إلى وجودكم و تسلكوا في طريق الحقّ و الإيمان، و لكن عند ما يأتي ذلك اليوم فإنّ العذاب الإلهي سينزل عليكم و توصد أمامكم أبواب التوبة فلا تستطيعون العودة و الانابة إلى اللَّه، إذاً فبدلًا من أن تستعجلوا نزول العذاب عليكم، لا بدّ أن تستثمروا هذه الفرصة و المهلة الإلهية و تتحركوا من موقع إصلاح الذات و السلوك في خطّ التوبة و الإيمان و الانفتاح على اللَّه تعالى.

ثمّ تأمر الآية الشريفة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و تقول «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ» «3»، فعليك أن تنتظر رحمة اللَّه و نصره و هؤلاء ينتظرون عذابه و عقوبته.

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ جملة «أنّهم منتظرون» هي إشارة إلى ما كان ينتظره الكفّار من موت نبي الإسلام أو هزيمته في ميدان القتال، و لكنَّ التفسير الأوّل المذكور أعلاه أنسب إلى جو الآية.

«الآية العاشرة» تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و توصيه بالصبر و الاستقامة كما هي حالة

______________________________

(1). سورة السجدة، الآية 28.

(2). سورة السجدة، الآية 29.

(3). سورة السجدة، الآية 30.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 392

الأنبياء الماضين، و بالرغم من أنّ التاريخ شاهدٌ على أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لم يتحرك من موقع العجلة و التسرع بل كان يسلك في خطّ

المثابرة و الصبر و الاستقامة في كلّ أعماله و أفعاله، و لكنَّ الآية الشريفة جاءت لتؤكد هذا المعنى على نبيّنا الكريم و تقول «فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ اوُلُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَستَعْجِلْ لَهُم كَانَّهُم يومَ يَرَونَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلبَثُوا الّا سَاعَةً مِنْ نَهارٍ» «1».

و نظراً إلى أنّ جميع عمر الدنيا في مقابل الآخرة لا يعد سوى ساعة واحدة من الزمان، فعليه لا تستعجل في الأمر إلى أن تتم الحجّة عليهم، و يستفاد من هذا التعبير إلى أنّ جميع الأنبياء و المرسلين كانوا يعيشون الصبر و المثابرة و الاستقامة مقابل عناد أقوامهم و جهالتهم و لجاجتهم و كانوا يمهلون أقوامهم حتّى النفس الأخير لغرض اصلاحهم و هدايتهم.

و لم يكن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله إلّا كأحد هؤلاء الأنبياء اولي العزم، و ما ورد في الآية أعلاه هو في الواقع يعبر عن تأكيد الآية على هذا المعنى أو أنّ مضمون الآية له بعد تعليمي أو تربوي للآخرين، أو هو إنذارٌ إلى الكافرين بأن لا يهمل هذه الفرصة الثمينة و لا يُسي ء الاستفادة من الامهال الإلهي.

و هذه الآية شاهدٌ أكيد على أنّ الصبر و الاستقامة و ترك العجلة من الفضائل الأخلاقية المتوفرة لدى جميع الأنبياء العظام الّذين كانوا طيلة التاريخ البشري أُسوةً و قدوةً لأقوامهم في التحلّي بهذه الصفة الأخلاقية السامية.

النتيجة:

و يتضح من مجموع الآيات أعلاه أنّ العجلة و التسرع لدى الأقوام و الشعوب البشرية المختلفة في نظر الإسلام صفة سلبية، و تقع في مقابل القيم الأخلاقية الايجابية من الصبر و المثابرة و التأني إلى أن تتوفر مقدمات العمل، و أنّ الصبر و التأني يعد من أهم الفضائل الأخلاقية و الإنسانية، و هي الفضيلة

الّتي كانت متوفرة لدى جميع الأنبياء العظام وقادة البشرية في خطّ الحقّ و الإيمان.

______________________________

(1). سورة الاحقاف، الآية 35.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 393

العجلة و التسرع في الروايات الإسلامية:

و قد وردت بحوث كثيرة في الروايات الإسلامية في ذمّ العجلة و مدح التأني و الصبر و نقرأ في مضامينها نكات دقيقة في هذا الموضوع من قبيل:

1- ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الْاناةُ مِنَ اللَّهِ وَ العَجَلةُ مِنَ الشَّيْطانِ» «1».

2- و قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث آخر «انَّما اهْلَكَ النّاسَ الْعَجَلَةُ وَ لَوْ انَّ النّاسَ تَثَبَّتُوا لَمْ يُهلِكْ أَحدٌ» «2».

و طبعاً أنّ المقصود من الهلكة هو الموت بسبب الحوادث غير المتوقعة و الّتي تكون معلولة بالعجلة و عدم التثبت من الامور.

3- و قد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «ايّاكَ وَ العَجَلةَ فَانّكَ ان عَجَّلْتَ اخْطَأْتَ حَظَّكَ» «3».

4- و يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «مَعَ العَجَلِ يَكثِرُ الزَّلَلَ» «4».

5- و في وصية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام عند ما كان الإمام علي على فراش المرض قال: «انْهاكَ عَنِ التَّسَرُّعِ بِالقَوْلِ وَ الْفِعْلِ» «5».

6- و قد ورد أيضاً عن الإمام أمير المؤمنين قوله «الْعَجَلُ قَبلَ الْامْكانِ يُوجِبُ الغُصَّةَ» «6»؛ لأنّ العجلة تهدر أتعاب الإنسان و سعيه و لا يصل إلى نتيجة مطلوبة.

7- و ورد عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «مَن رَكَبَ العَجَلَ رَكِبَتْهُ المَلامَةُ» «7».

8- و عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَعَ التَّثَبُّتِ تَكونُ السَّلامَةُ وَ مَعَ العَجَلَةِ تَكونُ النَّدامَةُ» «8».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 68، ص 340.

(2). المصدر السابق.

(3). مجموعة ورّام، ص 255.

(4). غرر الحكم، ح 9740.

(5). بحار الأنوار،

ج 67، ص 339.

(6). غرر الحكم، ح 1333.

(7). غرر الحكم، ح 9095.

(8). بحار الأنوار، ج 68، ص 338.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 394

9- و جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «العَجَلَةُ مَذمُومَةٌ فِي كُلِّ أمْرٍ الّا فِي مَا يَدفَعُ الشَّرَّ» «1».

10- و نختم هذا البحث بحديثٍ شريف عميق المغزى عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «مَنْ اسْتَطَاعَ ان يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِن أَرَبَعَةٍ أَشياءٍ فَهُوْ خَليقٌ بِانْ لا يَنْزِلَ بِهِ مَكرُوهٌ ابَداً. قِيلَ وَ مَا هِي؟

قَالَ: الْعَجَلَةُ وَ اللِّجاجَةُ وَ العُجْبُ وَ التَّواني» «2».

و قد رأينا في هذه الأحاديث الشريفة أنّ التأني هو عطية إلهية و موهبة ربانية للإنسان بينما «العجلة» هي صفة شيطانية تدفع بالإنسان إلى طريق الخسران و الزيغ في حركة الحياة و تضيع عليه الفرص الثمينة، و تكثر اشتباهاته، و تكون عاقبته إلى الندم و الهلكة، في حين أنّ النقطة المقابلة لها، أي التأني و الصبر و التدبر يقود الإنسان إلى الفلاح و السعادة و الاستفادة الكبيرة من الفرص الثمينة في حياته الدنيوية.

ملاحظات مهمة:

1- مفهوم العجلة و التسرع

إن العجلة بما هي صفة ذميمة في سلوك الإنسان تظهر باشكال مختلفة، بمعنى أنّ الإنسان و قبل أن يوفر مقدمات العمل يُقدم على تحصيل النتيجة، و هذا العمل لا يترتب عليه سوى الفشل أو يثمر ثمرة ناقصة.

و هذا كما لو أنّ الإنسان قطف الثمرة قبل نضجها فإنه يحرم نفسه من طيب هذه الثمرة أو تكون ذات فائدة قليلة، أو أنّه يقوم بنثر البذور على الأرض قبل أن يحرثها فتكون النتيجة تلف البذور أو قلّة المحصول الزراعي، و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصدد: «وَ مُجْتَنِي ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 1950.

(2). بحار الأنوار، ج 75، ص

43.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 395

الثَّمَرةِ لِغَيرِ وَقتِ ايناعِهَا كَالزّارعِ لِغَيرِ ارْضِهِ» «1».

أي انه يتلف طاقاته و رأس ماله بدون أن يعود عليه بالفائدة المطلوبة،

و العجول: يقال للأشخاص الّذين لا يتمتعون بحالة الصبر في أعمالهم و أقوالهم و تعاملهم مع الآخرين و لغرض الوصول إلى هدفهم لا يسلكون الطريق الصحيح لذلك، فلهذا السبب فإنّهم يقعون في دوامة من المشكلات و النواقص في حركتهم الاجتماعية و سلوكهم في خطّ التكامل المادي و المعنوي.

و الصفة المقابلة للعجلة و التسرع هي «التأني» و التريث و التحمل و الطمأنينة و الوقار.

و لا ينبغي أن تؤخذ «العجلة» بمعنى السرعة في الأقدام على العمل و الّذي يحمل مضموناً ايجابياً في حركة الحياة، فالسرعة في العمل تكون بعد ترتب و توفر المقدمات المطلوبة لذلك العمل و أن لا يدع الإنسان الفرصة تفلت من يده للحصول على النتيجة و الثمرة، فمثل هذا العمل من الواضح أنّه يعد أحد العوامل المهمة للفلاح و النجاة و الموفقية، و لكننا نرى في موارد كثيرة وجود الاشتباه و الخلط بين مصاديق العجلة و موارد السرعة، أو نرى أنّ البعض و لغرض تبرير كسلهم و اهمالهم يضيعون الفرص الثمينة و يقولون انه لا ينبغي العجلة في الامور و أنّ العجلة من الشيطان، في حين أنّ هناك فرقاً واضحاً بينهما، ففي بعض الروايات نقرأ أنّ العجلة تعد من أسباب الندم، و أنّ التأني من أسباب السلامة، و هذا هو ما أشرنا إليه آنفاً.

و نختم هذا الكلام بحديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام يبين فيه الفرق بين مفهوم العجلة و السرعة أو مفهوم التسرع و السرعة و يقول «ايّاكَ وَ العَجَلَةَ بِالامُورِ قَبْلَ اوانِهَا، وَ التَّساقُطَ فِيها عِندَ امْكانِها» «2».

______________________________

(1).

نهج البلاغة، الخطبة 5.

(2). نهج البلاغة، الرسالة 53 (عهده إلى مالك اشتر).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 396

2- المسارعة في الخيرات

و نقرأ في القرآن الكريم في آيات متعددة انه يدعو إلى المسارعة في الخيرات و المسابقة في الحسنات، و من ذلك ما ورد في الآية 114 من سورة آل عمران في وصف بعض المؤمنين الحقيقين حيث يقول «.. وَ يُسارِعُونَ فِي الخَيراتِ وَ اولئكَ مِن الصَّالِحينَ ...».

و يقول فى سورة الأنبياء الآية 90 في وصف جماعة من الأنبياء العظام مثل زكريا و يحيى و يقول عنهم «.. انَّهُم كَانُوا يُسارِعُونَ فِي الخَيراتِ ...».

و يقول في الآية 61 من سورة المؤمنين في شرح الصفات البارزة لهؤلاء المؤمنين و يقول: «اولئكَ يُسارِعُونَ فِي الخَيراتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ».

و جاء في الآية 133 من سورة آل عمران أنّ هذه المسألة بعنوان خطاب عام لجميع المؤمنين أن يتحركوا من موقع المسارعة، و يقول: «وَ سَارِعُوا الَىَ مَغفِرةٍ مِن رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَ الْارْضُ اعِدَّتْ لِلمُتَّقينَ».

و نفس هذا المعنى ورد في الآية 142 من سورة البقرة تحت عنوان المسابقة في الخيرات حيث تقول الآية «... فَاستَبِقُوا الخَيراتِ ...».

و بديهي أنّ المسارعة في الخيرات كلها إشارة إلى هذه الحقيقة الواحدة، و في الواقع آنها من قبيل اللازم و الملزوم لأن المسابقة لا تتحقق بدون المسارعة، و كلّما طوى الشخص الطريق إلى مقصوده بسرعة أكثر فإنه بلا شكّ سيصل إلى مقصوده أسرع.

و قد ورد في الروايات الإسلامية إشارات جميلة و عميقة المعنى بالنسبة إلى هذا الموضوع، نختار منها نماذج معيّنة و هي:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «انّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنَ الخَيْرِ مَا يُعَجَّلُ» «1».

2- و في حديث آخر عن

أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «بَادِرُوا بِعَمَلِ الخَيرِ قَبلَ ان تُشغَلُوا عَنْهُ بِغَيرِهِ» «2».

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 142.

(2). ميزان الحكمة، ج 1، ح 5381.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 397

3- و في أحاديث متعددة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَن هَمَّ بِخَيرٍ فَلْيُعَجِّلْهُ وَ لا يُؤَخِّرْهُ» «1».

4- و جاء هذا المعنى أيضاً في حديث آخر بصورة مفصلة، قال الإمام الصادق عليه السلام «اذا هَمّ احَدُكُم بِخَيرٍ أَوَ صِلَةٍ فَانّ عَن يَمينِهِ وَ شِمالِهِ شَيطانَينِ فَلْيُبادِرْ لا يَكُفّاهُ عَن ذَلِكَ».

5- و قال أمير المؤمنين عليه السلام «لَيْسَ مِن عَادَةِ الْكِرامِ تَأخيرُ الْانعامِ» «2».

6- و قال الإمام الباقر عليه السلام «مَن هَمَّ بِشَيْ ءٍ مِنَ الخَيرِ فَلْيُعَجِّلْهُ فَانَّ كُلَّ شَيْ ءٍ فيهِ تَأخيرٌ فَانَّ لِلشَّيطانِ فِيهِ نَظْرَةً».

و خلاصة الكلام فإنّ الموانع النفسانية و الوساوس الشيطانية تصد الإنسان دائماً عن أعمال الخير، و لهذا فعند ما تتوفر مقدمات ذلك العمل تجب المسارعة إليه قبل أن يضع بعض الجهال الضيقوا الافق العوائق في طريق الحركة نحو الخير و يثبطوا الإنسان عن سلوك طريق الكمال المعنوي، و لا بدّ أيضاً أن يفرق الإنسان بين السرعة و المسارعة في أعمال الخير، و بين العجلة المذمومة الّتي تكون قبل توفر مقدمات العمل.

و نختم هذا الكلام بحديث شريف عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال «لا تُؤَخِّر انالَةَ الْمُحتَاجِ الَىَ غَدٍ، فَانَّكَ لا تَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَكَ وَ لَهُ فِي غَدٍ» «3».

الآثار السلبية للعجلة و التسرع:

1- اتلاف الوقت و الطاقات

إن هذه الصفة الذميمة يترتب عليها آثار مخربة كثيرة في حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية، و الأضرار التي تعود على الإنسان بسبب هذه الحالة السيئة هي أكثر من أن ______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 142.

(2). غرر الحكم، ح

7489.

(3). غرر الحكم، ح 10364.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 398

تحصى و من ذلك أنّها تعمل على اهدار طاقات الإنسان و اتلافها و بالتالي تمنعه من الوصول إلى مقصوده و مطلوبه، مثلًا إذا قصد جيش العدو بلاد الإسلام و لم يتريث جيش الإسلام لكي يباغت العدو في موقف من مواقف الضعف و العسر بالنسبة للعدو، أو قبل أن ينتهي جيش الإسلام من حيث العدّة و العدد و الخطّة العسكرية يقوم هذا الجيش بالهجوم على العدو، فتكون النتيجة الاندحار و الهزيمة لجيش الإسلام و اتلاف الكثير من الطاقات و القوى و بالتالي تقوية جيش الأعداء و جرأتهم أكثر.

و هذا المعنى يصدق أيضاً بالأعمال الفردية، لأن كلّ حركة تتصف بالعجلة فإنّها تتسبب في اهدار الطاقات و اتلاف الامكانات للإنسان.

و ينقل الفيض الكاشاني في «المحجّة البيضاء» حديثاً جميلًا و يعتبر شاهداً ناطقاً على ما تقدّم آنفاً، حيث جاء في هذا الحديث انه عند ما ولد المسيح عليه السلام فإنّ الشياطين جاءوا إلى إبليس فقالوا: أصبحت قد نكست رؤوسها، قال: هنا حادث قد حدث، مكانكم، فطار حتى جال خافقي الأرض و لم يجد شيئاً، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد، و إذا الملائكة قد حفّت حوله، فرفع إليهم فقال: إنّ نبيّاً قد ولد البارحة ما حملت انثى قط و لا وضعت إلّا و أنا بحضرتها إلّا هذا فآيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة و لكن ائتوا بني آدم من قبل العجلة و الخفّة «1».

2- اليأس

و من المعطيات السلبية الاخرى للعجلة، هو حالة اليأس الّتي تصيب الإنسان عند ما لا ينال مقصوده و لا يتسنّى له تحصيل النتيجة من عمله، و قد يفضي به هذا الحال إلى

أن يسي ء الظنّ بكلّ شي ء حتّى بالتقدير الإلهي، و لذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنّه قال: «لا تَعْجَلْ عَلَى ثَمَرَةٍ لا تدرك وَ انَّما تَنالُها فِي اوانِها وَ اعْلَمْ انَّ المُدَبِّرَ لَكَ اعْلَمُ بِالوَقتِ الّذي يُصلِحُ حَالُكُ فيهِ، فَثِقْ بِخِيَرَتِهِ فِي جَميع امورِكَ، يُصلِحُ حَالُكَ، وَ لا تَعجَلْ بِحَوائِجِكَ قَبلَ وَقِتها فَيَضِيقُ قَلبُكَ وَ صَدرُكَ وَ يَخشاكَ (يغشاك) القُنوط» «2».

______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 61.

(2). بحار الأنوار، ج 75، ص 379.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 399

3- الندامة

الثالث من الآثار السيئة للعجلة هي الندم كما مرّت الإشارة إليه في الأحاديث السابقة، فما أكثر الأشخاص الّذين استعجلوا في تحصيل النتيجة قبل أن تتوفر المقدمات و قبل أن تتهيأ الأرضية لذلك، فكانت النتيجة هي اتلاف طاقاتهم و امكاناتهم و عدم تحصيل مقصودهم الحقيقي، في حين أنّهم لو مكثوا و صبروا قليلًا فسوف لا يتورطون في ما وصلوا إليه، و ما أكثر الأشخاص الّذين اتجهوا من موقع العجلة في طريق خاص و إذا بهم يرون الخسارة تحيط بهم من كلّ جانب و عندها أدركوا خطأ هذا الطريق بعد فوات الأوان فاصبحوا يتحسرون على ما صدر منهم و يقولون يا ليتنا لم نسلك هذا الطريق.

و في ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «فَكَمْ مِن مُستَعجِلٍ بِما ان ادرَكَهُ وَدَّ انَّهُ لَمْ يُدرِكْهُ» «1».

4- الحزن و الغم

الرابع من العواقب السلبية للعجلة في الأعمال هو أن يعيش الإنسان امواج الحزن و الهم، لأن الفشل في حركة الحياة الاجتماعية المترتب على العجلة و التسرع تكلف الإنسان غالياً في كثير من الأوقات و تجعل الإنسان يعيش دائماً القلق و الاضطراب و الحزن.

و قد ورد هذا المعنى في إحدى الكلمات القصار لأمير المؤمنين عليه السلام حيث قال «العَجَلُ قَبْلَ الإمكانِ يُوجِبُ الغُصّةَ» «2».

5- زيادة الخطأ

إن من الآثار السيئة الاخرى للعجلة و التسرع هو كثرة ما يقع فيه الإنسان من الخطأ و الاشتباه بسبب ذلك، لأن التخطيط الصحيح يحتاج إلى كثير من التأمل و التدبر و الدقّة، و هذا المعنى يتقاطع مع العجلة و التسرع، و لذا نرى الأشخاص الّذين تستولي عليهم حالة العجلة في تصرفاتهم و سلوكياتهم فإنّهم يبتلون عادة بأخطار كثيرة سواءً على مستوى تشخيص الهدف أو على مستوى المنهج و الطريق للوصول إليه.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 150.

(2). غرر الحكم، ح 1333.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 400

الاخلاق فى القرآن ج 2 429

يقول أمير المؤمنين عليه السلام «مَعَ العَجَلِ يَكْثُرُ الزَّلل» «1».

و كذلك يقول عليه السلام: «مَن عَجَل كَثُرَ عِثارُهُ» «2».

6- كثرة الزلل

السادس من آثار العجلة و التسرع «كثرة الزلل» و الّذي يمكن أن يكون بمعنى واحد مع كثرة الأخطاء و يمكنه أن يكون قسماً مستقلًا «الخطأ في تشخيص الهدف و الزلل في طريق الوصول إليه».

و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال «اصابَ مُتَأَنٍّ اوْ كادَ، و اخطَأَ مُسْتَعجِلٌ او كَادَ» «3».

و على أية حال فإنّ الأضرار الناشئة من العجلة و التسرع أكثر من أن يتصورها الإنسان، و الضرر و الخسارة الّتي يدفعها الإنسان العجول في واقع الحياة من الامكانات المادية و الأضرار النفسية و المعنوية أكثر من أن تحصى

جذور هذه الصفة الذميمة:

1- اتباع الهوى

إن هذا الخلق الذميم حال سائر الأخلاق الرذيلة الاخرى ينبع من اتباع الهوى في الأساس، فالإنسان إذا تحرّك بوحي أهوائه فإنه عادةً و لأجل تحصيل مطامعه و رغباته النفسية يستعجل في ذلك، و الغالب أنّ الهوى لا يسمح له بأن يتدبر عواقب الامور و يتأمل في الطريق السليم في الوصول إلى مقصده، و لهذا السبب فإنه يلقي بنفسه بصورة عشوائية في هذا الاتجاه و يركض خلف ارضاء النوازع الذاتية و الأهواء النفسية و بالتالي يتورط فيما لا يحمد عقباه.

2- حبّ الدنيا و التعلق بها

الثاني من أسباب العجلة و التسرع هو حبّ الدنيا و التعلق بها الّذي يعد رأس كلّ خطيئة،

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 9740.

(2). غرر الحكم، ح 7838.

(3). غرر الحكم، ح 1290.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 401

فمن كان عبداً للدنيا فإنه لا يرى غيرها و كأنما يغلق عينه و اذنه عن رؤية عواقب الامور و يلقي بنفسه و بدافعٍ من العشق للدنيا و الشوق إلى تحصيل زخارفها من موقع العجله و التسرع و هو يتصور إنما يسعى لخيره و مصلحته و لكنَّ الأغلب هو أنّ هذه العجلة تتسبب في تورطه بالمشاكل و اصطدامه بالموانع الّتي لم يكن يراها بسبب العجلة و لم يكن مستعداً نفسياً لمواجهتها، و لهذا السبب فإنه يمنى بالهزيمة و الفشل الذريع.

3- ضيق الصدر وسعته

و من الدوافع الاخرى للعجلة و التسرع هو ضيق الصدر و افق التفكير، فالأشخاص الّذين يعيشون ضيق الصدر و ضيق الافق هم الّذين يسلكون طريق العجلة في تحصيل مبتغاهم، و اما من كان يعيش سعة الصدر و يتسم بسعة الافق في تفكيره فنجده يخطو في حركته الاجتماعية بتأنٍ و وقار و تدبّر فيما يصدر منه من سلوكيات و أعمال و يتجه لتحصيل مقاصده بعزم قوي و في نفس الوقت ببرودة أعصاب، و لهذا فإنه قلما يصاب بالفشل و الهزيمة.

إن تسويلات الشيطان و خداع رفاق السوء و المتملقين و الكاذبين و الحساد و النمامين هي بدورها من العوامل المهمة للوقوع في دائرة الاستعجال و التسرع.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصدد «وَ لا تَعجَلَّنَّ الَىَ تَصديقِ ساعٍ فَانَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَ ان تَشبَّهَ بِالنَّاصِحينَ» «1».

4- الجهل

و أحد العوامل الاخرى للاستعجال بالامور الجهل و السفه، فان الشخص الجاهل و السفيه يعيش في الغالب في دائرة الأوهام و الخيالات الباطلة فيتصور أن مقدمات هذا العمل الفلاني متهيئة و أنّ الأرضية مساعدة لذلك فيلقي بنفسه في دوامة الحوادث و لا يرجع منها إلّا بخف حنين و لا يكون مصيره منها سوى الفشل، في حين أنّ الشخص العالِم بالامور و العاقل الذكي فإنه يسعى لبرمجة خطواته العملية في سبيل الوصول إلى هدفه و مقصده و بالتالي فسوف يحصد ثمار هذا التأني و التدبر و لا يصيبه سوى الفلاح.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 402

يقول أمير المؤمنين عليه السلام «مِنَ الْحُمُقِ الْعَجَلَةُ قَبلَ الْامْكانِ» «1».

طرق العلاج:

و لغرض التصدي لهذه الرذيلة الأخلاقية و علاجها أو الوقاية منها فقبل كلّ شي ء يجب التفكر في هذه العواقب الوخيمة و الآثار السيئة لحال الاستعجال و التسرع، فنحن نشاهد الكثير من الوقائع المؤلمة و الحوادث و المشاكل الكثيرة الّتي تكون بسبب التسرع ... و هناك نماذج كثيرة من ذلك ذكرها لنا تاريخ الانسانية.

فلو أنّ الشخص تفكر في هذه الامور و الآثار السيئة، فإنه سيدرك حتماً أنّ الاستعجال في العمل مضافاً إلى انه لا يوصله إلى مقصده و لا يحصل على غايته بسرعة فإنه قد لا يحصل عليها أبداً فيما بعد.

و ما تقدّم من العبارات العميقة في الروايات الشريفة من قبيل «العَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ» و «وَ العَجَلَةُ قَبْلَ الامْكانِ يُوجِبُ الغُصّةَ وَ مَعَ العَجَلَةِ تَكوُن النَّدامَةُ» «2». يجب أن تكون بمثابة الشعار لحياة الإنسان الفردية و الاجتماعية يضعه نصب عينه كي يحد ذلك من عجلته في الامور، و يضع في خاطره دائماً الحديث الشريف الوارد عن رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّما أهلك الناس العجلة و لو أنّ الناس تثبّتوا لم يُهلك أحد» «3».

و من جهة اخرى يجب عليه أن يمارس عملية التأني و يتمرن عليها و يلقن نفسه بها حتّى يمتزج هذا الخُلق الحسن بروحه و يمتد إلى أعماق وجوده، فيكون له كالطبيعة الثانية، لأن كلّ عمل يتبدل بالممارسة و التمرن إلى عادة، و كلّ عادة تتبدل إلى خُلق و طبيعة في نفس الإنسان.

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 9394.

(2). بحار الأنوار، ج 68، ص 340.

(3). بحار الأنوار، ج 68، ص 340.

20

الصبر و التأني

تنويه:

إن الحياة الدنيوية مليئة بالمشاكل و المصائب الّتي تستوعب حياة الإنسان في واقعه الفردي و الاجتماعي، و لو انه تصدى لهذه المشكلات و واجه هذه المخاطر و التحديات للواقع العملي بصبرٍ و مقاومة و مثابرة فإنه سوف يتجاوزها و ينتصر عليها قطعاً، و إلّا فإنه لن يصل إلى مقصوده أبداً، و سيجد نفسه يعيش الخنوع و الخضوع للتحديات الصعبة الّتي يفرضها عليه الواقع.

و المراد من الصبر هو الاستقامة أمام المشاكل و الحوادث المختلفة، و الصفة المقابلة له هو «الجزع» و يعني افتقاد عنصر المقاومة و الاستسلام أمام تحديات الواقع و المشاكل الاجتماعية و النفسية في حركة الحياة على المستوى المادي و المعنوي، فلو أنّ الإنسان لم يقف أمام أهوائه الطاغية و نوازعه النفسية و لم يقاوم الجوانب الدنيوية و لم يسلك في طريق «معرفة اللَّه» و اطاعته، فإنه لن يصل إلى أي مرتبة من مراتب الكمال المعنوي و الإنساني، و لذلك قسم علماء الأخلاق الصبر إلى ثلاثة أقسام:

1- الصبر على الطاعة، أي على المشكلات الّتي تواجه الإنسان في خط التقوى و الإيمان و طاعة اللَّه تعالى.

الاخلاق فى القرآن،

ج 2، ص: 404

2- الصبر على المعصية، و يعني الصمود أمام النوازع النفسية و الأهواء الشيطانية و مقاومتها و التصدّي لها.

3- الصبر على المصيبة، و يعني الصمود أمام المصائب و الحوادث المرة الّتي تصيب الإنسان في حركة الحياة و عدم الانفعال عند حدوثها و الخضوع لتحدياتها و ترك الجزع و الفزع في عملية مواجهتها.

و يعتبر «الصبر» من أهم أركان الإيمان حيث يشبه الإمام علي مكانة الصبر بالنسبة إلى الإيمان كمكانة الرأس بالنسبة إلى الجسد، و قد لا نجد في القرآن الكريم مورداً اهتم فيه القرآن من موقع التأكيد و المدح مثل ما نجد ذلك بالنسبة إلى الصبر، فقد وردت سبعون آية تقريباً في هذا الموضوع، عشرةٌ منها مختصة بتوصيات القرآن للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله نفسه.

و نقرأ في آيات القرآن أنّ اللَّه تعالى وعد الصابرين أجراً عظيماً و بدون حساب «انَّما يُوَفّى الصَّابِرُونَ اجْرَهمِ بِغَيْرِ حِسَابٍ» «1».

و أنّ الصبر هو مفتاح الجنّة كما تقول الآية «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارُ» «2».

و جاء في الحديث النبوي المعروف اشارات إلى هذا المعنى و أنّ الصبر نصف الإيمان، كما سيأتي تفصيله لاحقاً.

و بهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم بدراسة هذا الموضوع الأخلاقي المهم من جوانبه و ابعاده المختلفة.

آيات الصبر:

1- «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «3».

2- «وَ جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ ______________________________

(1). سورة الزمر، الآية 10.

(2). سورة الرعد، الآية 24.

(3). سورة ص، الآية 44.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 405

الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ» «1».

3- «وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ» «2».

4- «قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا» «3».

5- «قَالَ

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» «4».

6- «فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ اوُلُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَستَعْجِلْ لَهُم كَانَّهُم يومَ يَرَونَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلبَثُوا الّا سَاعَةً مِنْ نَهارٍ ...» «5».

7- «فَاصْبِر صَبراً جَميلًا» «6».

8- «يا أَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَ صَابِرُواْ وَ رَابِطُواْ وَ اتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «7».

9- «يَا ايُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلوةِ انَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «8».

10- «قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» «9».

11- «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارُ» «10».

12- «أوْلَئكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَ يُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَ سَلامًا» «11».

13- «وَ لَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْ ءٍ مّنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مّنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَنفُسِ وَالَّثمَرَاتِ ______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 18.

(2). سورة الأنبياء، الآية 85.

(3). سورة الكهف، الآية 67.

(4). سورة البقرة، الآية 249.

(5). سورة الاحقاف، الآية 35.

(6). سورة المعارج، الآية 5.

(7). سورة آل عمران، الآية 200.

(8). سورة البقرة، الآية 153.

(9). سورة الزمر، الآية 10.

(10). سورة الرعد، الآية 24.

(11). سورة الفرقان، الآية 75.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 406

وَ بَشّرِ الصَّابِرِينَ» «1».

14- «.. وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَواْ بِالصَّبْرِ» «2».

تفسير و استنتاج:

اسوة الصبر و المقاومة

«الآية الاولى تستعرض حياة أحد الأنبياء العظام الّذي صار مثلًا للصبر و الاستقامة في مواجهته للبلايا و المصائب في الحياة، في حياته الفردية و الاجتماعية، و لهذا فإننا نقرأ في حالاته و سيرته المذكورة في سورة «ص» إن القرآن الكريم يضربه مثلًا للمسلمين في أوائل البعثة الّذين كانوا يعيشون التحديات الصعبة و الضغوط المستمرة من قِبل المشركين في مكّة

و يتعلموا منه درس الصبر و الاستقامة و الصمود في مواجهة المشاكل و المصاعب المفروضة عليهم.

و صحيح أنّ اسم النبي أيوب عليه السلام أو سيرته قد وردت في عدّة سور في القرآن الكريم، و لكنَّ ما ورد في سورة «ص» يعدو شرحاً وافياً لسيرته الكريمة حيث تقول الآية 44 من هذه السورة: «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «3».

و هكذا واجه النبي أيوب عليه السلام مصائب عظيمة لغرض اختباره و امتحانه لمعرفة درجة شكره و طاعته للَّه تعالى و ليصعد بهذا الطريق إلى مقامات سامية من القرب الإلهي، فقد كانت له ثروة كبيرة و بساتين و أغنام كثيرة و أبناء صالحون، و لكن كلّ ذلك فقده بين عشية و ضحاها حتّى أبناءه أيضاً و نفس أيوب ابتلي بمرض شديد و مزمن إلى درجة انه كان يتلوى في فراشه من شدّة الالم الّذي أوقعه في الفراش أسيراً، و لكن أي واحدٍ من هذه الامور لم يستطع أن يقلل من شكره للَّه تعالى، و لم يتمكن أن يخدش في صبره و استقامته في ______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 155.

(2). سورة العصر، الآية 3.

(3). سورة ص، الآية 44.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 407

خط الإيمان و الطاعة.

هذا و قد سمع أيوب الكثير من التعريض به و بشخصيته، و لعلّ هذه المصيبة كانت عليه من أعظم المصائب، و أحياناً كان عُبّاد بني إسرائيل و رهبانهم يأتون لرؤيته و يقولون له بصراحة: ما هو الذنب العظيم الّذي ارتكبته حتّى ابتلاك اللَّه بهذا الابتلاء و العذاب الشديد؟

و لكن هذا النبي العظيم لم يفقد صبره بل كان يعيش الانضباط الأخلاقي أمام نوازعه النفسية و يلهج لسانه بشكر اللَّه تعالى و يتعامل مع كلّ

هذه المصائب من موقع الشكر لا من موقع كفران النعمة و الشكوى و الجزع، و بعد أن مضت عليه سنوات عديدة و هو يتحدى هذه الصعاب العظيمة دعا اللَّه تعالى لأن يكشف عنه هذا البلاء كما تقول الآية: «وَاذْكُر عَبْدَنا ايّوبَ اذ نَادى رَبَّهُ انّي مَسَّنِيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ».

فعند ما ختم هذا النبي العظيم جميع مراحل هذا الامتحان الإلهي الكبير و وقف أمام البلايا و المصائب المختلفة كجبلٍ من الصبر و الاستقامة و أخجل الشيطان الرجيم من أن ينال منه و لو كلمة جزع و شكوى واحدة حتّى يئس منه، عندها فتح اللَّه تعالى أبواب رحمته عليه، و عاد عليه كلّ ما فقده من المال و الأولاد و المواهب الدنيوية الاخرى بل ضاعفها له أضعافاً مضاعفة، و الأهم من ذلك انه نال من ذلك مقاماً عظيماً في دائرة القرب الإلهي و نال وسام «نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

و ذكر المفسّر المعروف «ابن مسعود»: إن أيوب عليه السلام كان «رَأسُ الصَّابِرينَ الَىَ يَومِ القِيامَةِ» «1» و هكذا سجَّل أيوب لنفسه هذا الشرف و الافتخار على طول التاريخ البشري.

و لا ينبغي التساهل في المرور على هذا المطلب، و هو أنّ إنساناً كان يتمتع بجميع الامكانات المادية و الدنيوية، و فجأةً فقد كلّ شي ء و جلس صفر اليدين حتّى انه لم يسلم من تعريضات قومه من الأصدقاء و الأعداء و كناياتهم الموجعة الّتي كانت تؤلمهُ أكثر من طعنات السيوف و الخناجر و مع ذلك لم يصدر منه حتّى كلمة واحدة على خلاف رضى اللَّه تعالى بل كان لسانه لهجاً بذكر اللَّه و شكره، و في نهاية أمره قال كلمة واحدة تعبر عن دعاءه ______________________________

(1). تفسير روح البيان، ج

8، ص 45 ذيل الآية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 408

و تضرعه إلى اللَّه تعالى لا غير، و هي العبارة الّتي تصور البعض أنّها من قبيل الشكوى و لكنه خطأ فاحش لأنها لا تتضمن أي نوع و أي أثرٍ للشكوى فيها حيث تقول: «اذ نَادى رَبَّهُ انّي مَسَّنِيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ».

و تأتي «الآية الثانية» لتستعرض صبر «النبي يعقوب» الّذي يُعد اسطورة في الصبر و الاستقامة، فقد فَقَدَ ابنه و أعز ما لديه في الحياة، و هو «يوسف» الّذي كان يحبّه حبّاً جمّاً، و عاش سنوات مديدة بعينٍ باكية و صبرٍ عظيم حتّى انه عميت عيناه، و لكن رغم ذلك فإنه لم تفلت منه كلمة مخالفة لرضى اللَّه تعالى و كان شاكراً و صابراً دائماً و كما تعبر الآية على لسان يعقوب نفسه بكلمة «صبرٌ جميل» حيث تقول «وَ جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ» «1».

و هكذا نرى إن الاخوة الكذّابين غفلوا عن تمزيق قميص يوسف عند ما جاءوا به ملطخاً بالدم و قالوا لأبيهم إنّ الذئب قد أكل يوسف في غفلة منا، و لهذا لم يصدق يعقوب كلامهم هذا و قال: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا»، و لكن بما انه لم يكن يملك أي شي ء اتجاه هذه الحادثة المؤلمة فاكتفى بالبكاء على يوسف و قال: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» أي الصبر المقترن مع الشكر للَّه على هذه المحنة دون أن تمتد إلى قلبه حالة الجزع الذميمة.

و بالنسبة لعبارة «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» فللمفسّرين بيانات مختلفة في تفسيرها، فذهب البعض إلى أنّ «الصَبْرٌ الجَمِيلٌ» هو الصبر الّذي لا يخالطه الجزع و لا الشكوى للناس من المصيبة،

و ذهب البعض الآخر إلى أنّ الصبر الجميل أن يكون بدافع إلهي و طلباً لرضى اللَّه تعالى و قد ورد في الروايات انه سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن الصبر الجميل ما هو؟ و قال «هُوَ الّذي لَا شَكْوَى مَعَهُ» «2».

و ذهب آخرون إلى أنّ الصبر الجميل هو ما لم يقترن مع الشكوى إلى الناس، و أجمل منه ______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 18.

(2). تفسير القرطبي، ج 5، ص 338.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 409

أن يعرض حاله على اللَّه تعالى و يلتجي إليه في هذه المصيبة و يؤدي حقّ الطاعة و العبودية له.

فعند ما اعترض أبناء يعقوب على أبيهم بسبب كثرة البكاء على يوسف و تذكره الدائم قال لهم إنني لا أشكو حالي إلى الناس و إليكم بل «قَالَ انَّمَا أشْكُوا بَثّي وَ حُزْنِي الى اللَّهِ وَ اعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلمُونَ» «1».

«الآية الثالثة» تتحدّث عن طائفة اخرى من الأنبياء الإلهيين الّذين سلكوا في دعوتهم لأقوامهم و في مواجهة المشكلات و المصاعب في خطّ الاستقامة و التحمل، من أجل ذلك فإنّ اللَّه تعالى أغرقهم برحمته و جعلهم في زمرة الصالحين:

«وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ» «2».

أما صبر إسماعيل فواضح، و ذلك بانه أوّلًا: استعد لأن يضحي بنفسه في طاعة اللَّه و امتثال أمره و امتثل لما أمره به أبوه من ذبحه كما أمر اللَّه، و لكن اللَّه تعالى شملهما بعنايته و أرسل لإبراهيم خروفاً أو كبشاً ليذبحه بدل إسماعيل.

و ثانياً: لبقائه في الصحراء المحرقة في منطقة مكّة و إلى جانب بيت اللَّه الحرام كي ما يقوي و يشتد أمر هذا المركز الإلهي و يشيع أمرهُ بين الناس.

و

أمّا بالنسبة إلى صبر إدريس فقيل: أنّه أوّل من بُعث من بين قومه يدعوهم إلى عبادة اللَّه تعالى و لكنه بالرغم من ذلك واجه صعوبات كبيرة في هذا السبيل و لم يستجب له أحدٌ من قومه.

و أمّا «ذي الكفل» فإنما سمي بهذا الاسم و صار في زمرة الصابرين الكبار من الأنبياء الإلهيين فبسبب انه كان يعيش في بني إسرائيل، و كان يحكمهم نبيّاً من الأنبياء، و في يوم من الأيّام جاء الوحي إلى ذلك النبي و أخبره بحلول أجله و أنّ عليه أن يسلم مقاليد الحكم إلى ______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 86.

(2). سورة الأنبياء، الآية 85.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 410

شخص آخر تتوفر فيه هذه الصفات الثلاثة: أن يقوم في كلّ ليلة بالعبادة و الصلاة، و أن يصوم كلّ يوم، و أن يحكم بين الناس دون أن يغضب، فقال شابٌ من المؤمنين: أنا أتكفل بكلّ هذه الامور، قال ذلك و استمر على الوفاء بعهده و الاتيان بهذه الثلاثة (مع جميع ما تتضمنها من مشاكل و صعوبات) و بذلك نال مقام النبي أيضاً فسُمي: ذي الكفل.

أجل، فإنّ هؤلاء العظماء الثلاثة كانوا اسطورة للصبر و الاستقامة بحيث إنّ القرآن الكريم جعلهم اسوة لجميع المسلمين في العالم و أشار إليهم بذلك في هذه الآية الكريمة.

و تتعرض «الآية الرابعة» إلى الحديث عن «قصة موسى عليه السلام و الخضر عليه السلام» و نقرأ في هذه القصة دروساً و عبراً مهمة و نافعة حيث جاء موسى عليه السلام إلى الخضر عليه السلام لطلب العلم و سأله أن يعلمه من العلوم و الأسرار الإلهية، لأن هذه العلوم و الأسرار هي غير «علم الشريعة» الّذي تلقاه موسى عليه السلام بطريق الوحي و كان

على اطلاع عام به، و لكنَّ تلك العلوم و المعارف متعلقة بأسرار عالم التكوين و الحوادث الواقعة في عالم الوجود، و لكن على أية حال فإنّ الخضر عليه السلام كان قلقاً من عدم تحمل موسى عليه السلام بهذه العلوم و المعارف و قال له كما تذكر الآية «قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا* وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» «1».

فكان أن وعد موسى عليه السلام معلمه بأن يصبر و يتريث و لا يعترض على شي ء، و لكن الحوادث و الوقائع الّتي رآها فيما بعد كانت عجيبة و غريبة إلى درجة أنّ موسى عليه السلام لم يطق صبراً إلى أن يخبره الخضر عليه السلام عن أسرارها، و فتح فمه بالاعتراض على معلمه، فما كان من الخضر عليه السلام إلّا أن ذكره بوعده بالصبر و التريث، فاعتذر موسى عليه السلام بذلك و لكنه في المرّة الثالثة قرر الانفصال إلى الأبد.

و هذه القصة العجيبة تتضمن دروساً و معارف كثيرة، و لكن ما يرتبط ببحثنا هذا هو أنّ موسى عليه السلام لو صبر أكثر و لم يعترض على الخضر عليه السلام لكان يكتشف أسراراً جديدة و يزداد علماً إلى علمه، و لكن عدم صبره هذا تسبب بأن لا يتعلم سوى ثلاثة امورٍ فقط، في حين انه ______________________________

(1). سورة الكهف، الآية 67 و 68.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 411

و كما يقول بعض المفسّرين المعروفين أنّ موسى عليه السلام لو صبر أكثر لكان يتعلم من الخضر عليه السلام آلاف الأسرار و المعارف الموجودة في عالم التكوين و الخلقة.

و على هذا فإنّ الصبر يعد أحد مفاتيح العلوم و المعارف.

و يمكن أن يتساءل البعض: ألم يكن الأنبياء أعلم الناس في

زمانهم؟ فكيف طلب موسى من اللَّه تعالى أن يتعلم بعض العلوم من الخضر و حتّى انه فارقه بعد ذلك و لم يتعلم منه سوى بعض الامور و الأسرار القليلة؟

و الجواب على هذا السؤال واضح، و هو أنّ كلّ نبي يجب أن يكون أعلم الناس بالنسبة إلى دائرة مهمته و وظيفته في تحمل مسؤولية الدعوة إلى اللَّه و هداية الناس إلى الحقّ، و هكذا كان موسى أعلم الناس بنظام الشريعة و الدين، و لكنَّ مسؤولية الخضر و دائرة علومه ترتبط بعالم التكوين و عمله و هو كعمل الملائكة «المدبرات أمراً» المأمورين بتدبير عالم الوجود، و لهذا فإنّ الأعمال الّتي صدرت من الخضر قد لا تكون مطابقة لموازين الشرع في الظاهر حتّى أنّ موسى عليه السلام اعترض عليه في ذلك، و لكن عند ما شرح الخضر عليه السلام الأسرار الكامنة في أعماله قبل موسى عليه السلام منه و رضى بذلك.

و أساساً فإنّ القوانين الحاكمة على عالم التكوين رغم أنّها تصب في نتيجة واحدة مع قوانين عالم التشريع إلّا آنها منفصلة عنها في الظاهر، و لهذا السبب فإنّ صداقة موسى و الخضر عليهما السلام لم تدم طويلًا.

و من الممكن أنّ أن يكون لبعض الأنبياء و كذلك الأئمّة إحاطة بأسرار عالم التكوين أيضاً «كما يستفاد ذلك من الروايات بالنسبة إلى نبي الإسلام و الأئمّة المعصومين عليهم السلام» و لكن هذا الأمر لا لزوم له في توكيد مرتبة النبوة للأنبياء و كذلك مرتبة الإمامة للأئمّة لأن ذلك يعد مجرد فضيلة لا شرطاً للرسالة و الإمامة.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن أحد أنبياء بني إسرائيل الّذي ورد اسمه في التفاسير و التواريخ انه «اشموئيل» لكي يعين لهم رئيساً و قائداً للجيش ليحاربوا معه

جالوت، فاختار

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 412

لهم رجلًا يدعى «طالوت» لانه يمتاز ببعض المميزات و الصفات الإيجابية الموجودة فيه بتفاصيل قد تخرج عن موضوع هذا البحث.

و عند ما جاء طالوت بذلك الجيش العظيم من بني إسرائيل لحرب جالوت أدرك جيداً بفراسة من اللَّه تعالى أنّ هذا الجيش العظيم غير قابل للاعتماد، لانه رأى كثيراً من أفراده يعيشون حالة الكسل و الخمول و عدم الهمة، فمضافاً إلى أنّ وجودهم ليس فقط لا يبعث على تقوية الجيش، بل سيؤدي إلى تضعيف روحية الآخرين أيضاً، لذا عزم على تصفية جيشه بالعديد من الاختبارات و الامتحانات، و بعد أن نجح في ذلك و أتم اختباره لجيشه لم يبق منه إلّا عدّة قليلة.

و هذه الفئة القليلة كانت تعيش القلق و الاضطراب من قلّة الأفراد، فكان أحدهم يقول للآخر: نحن لا نستطيع مقاومة جيش جالوت العظيم و لا نتمكن من الصمود أمام قوته و جحافله، و لكنَّ البعض منهم كما يقول القرآن الكريم «قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» «1».

ثمّ إن هذه الفئة القليلة عند ما برزوا لجالوت دعوا اللَّه تعالى أن يرزقهم حسن الصبر كما تقول الآية: «وَ لَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَ ثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَ انصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» «2».

و على هذا فقد اثبتوا أنّ الجماعة الكثيرة للجنود و الجيش العظيم إذا كانوا فارغين من الدوافع المعنوية و الاستقامة و الصبر فإنّهم سينالهم الفشل الذريع في ميدان القتال، بخلاف الفئة القليلة، الّتي تعيش الاستقامة و الصبر و الثبات فإنه يمكنها الانتصار على الجيش العظيم في العدّة و العدد، و بذلك

استطاعت هذه العدّة القليلة مع قائدهم طالوت بالانتصار على جالوت و جنوده الكثيرين و يهزموهم شرَّ هزيمة، و هناك قتل داود الّذي كان شاباً قوياً في جيش طالوت، «جالوت» و استطاع بنو إسرائيل العودة إلى ديارهم و أهليهم فتخلصوا من ______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 249.

(2). سورة البقرة، الآية 250.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 413

سيطرة عدوهم جالوت و تحرروا من أسره، و بهذا فقد خلفوا للتاريخ البشري درساً آخر عن أهمية الصبر و الاستقامة في سلوكهم العملي.

و يستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ التوكل على اللَّه بالإيمان بالآخرة و الثواب الإلهي يشكل دعامة قوية للصبر و الاستقامة في واقع النفس، و نقرأ في بعض الروايات أنّ عدد جيش جالوت 313 نفراً كما كان أصحاب بدر كذلك في العدد، و اللطيف أنّ داود مع صغر سنه و لكنّه كان مسلحاً بقوّة الإيمان، و كان قد أخذ معه مقلاعاً و عدّة أحجار و رمى بأحدها باتجاه جالوت فأصابته بجبينه و خرَّ جالوت صريعاً بسبب ذلك، فلمّا رأى جيشه ذلك أسرعوا بالفرار يحدوهم خوف عظيم و تلاشى ذلك الجيش الكبير الّذي يبلغ عدده كما ورد في بعض الروايات «منه ألف نفر» مسلحين بأنواع الأسلحة.

و تستعرض «الآية السادسة» خطاب اللَّه تعالى للنبي الكريم صلى الله عليه و آله موصيةً له بالاستقامة و أن يقتدي بذلك بسيرة الأنبياء اولي العزم من قبله و تقول: «فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ اوُلُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَستَعْجِلْ لَهُم ...» «1».

و رغم أنّ هذه الآية الشريفة تتحدّث عن الصبر و التأني في مقابل طلب نزول العذاب الإلهي على المخالفين و الأعداء إلى أن تتم الحجّة عليهم فلعلّه يوجد من بينهم من له رغبة في سلوك طريق

الحقّ و يهتدي بالتالي إلى الإيمان و يكون في زمرة السعداء، و لكن هذا الأمر الإلهي بمثابة دستور عام و دليل واضح على فضيلة الصبر بعنوان منهج عام لجميع الأنبياء من اولي العزم.

أجل فإنّ جميع الأنبياء العظام و أصحاب الشرائع السماوية عند ما كانوا يواجهون أعدائهم المعاندين و الأشخاص الّذين يعيشون الجهل و السفه و العناد كانوا يتسلحون بالصبر و الاستقامة أكثر ليتمكوا من هداية الامّة إلى ساحل النجاة بصورة أفضل.

النبي نوح عليه السلام دعا قومه إلى طاعة اللَّه «950 سنة» ليل نهار في الخفاء و الاجهار

______________________________

(1). سورة الاحقاف، الآية 35.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 414

و وعظهم و حذرهم طيلة هذه المدّة المديدة و لكنه لم يؤمن له سوى بضع أفراد معدودين.

النبي إبراهيم عليه السلام أُلقي في النار الملتهبة، و النبي موسى عليه السلام تعرض هو و المؤمنين من قومه إلى أشد العذاب من قبل فرعون و أتباعه، و كذلك ما واجهه عيسى عليه السلام من بني إسرائيل من الأذى و الاتهام و الطرد إلى أن أرادوا صلبه و قتله و لكن اللَّه تعالى انقذه في اللحظة الأخيرة، و الخلاصة أنّ الحياة الدنيا هي دائماً محل التضاد بين الحقّ و الباطل حيث لا يمكن التغلب على المشكلات و المصاعب الّتي يواجهها الإنسان في حركة الحياة إلّا بقوّة الصبر و الاستقامة.

امّا المراد من الأنبياء اولي العزم من هم؟ فقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد به هم الأنبياء الّذين يأتون بشريعة جديدة و عددهم مع نبي الإسلام خمسة أشخاص، و امّا اختيار هذا الأسم و العنوان لهم فهو من أجل ارادتهم القوية و عزمهم القاطع في الدعوة إلى الحقّ و هداية الناس إلى اللَّه تعالى، و لا شكّ أنّ

هذه الفئة من الأنبياء كانوا يواجهون من المشاكل و المصاعب في حركة التغيير بالرسالة الإلهية أكثر من غيرهم، لأن عرض شريعة جديدة تتقاطع مع كلّ ما يألفه الناس من الشرائع و القوانين السائدة لديهم يتضمّن مشكلات كثيرة و صعوبات يقوم بها المتعصبون من هذه الأقوام البشرية.

و ذهب بعضٌ آخر إلى أنّ عددهم «18 نفر» حيث ورد اسمهم في الآيات 83 إلى 90 من سورة الأنعام، و ذهب البعض الآخر إلى أنّهم تسعة أشخاص، و آخرون إلى سبعة أشخاص، بينما ذهب البعض إلى ستة أشخاص، و بعض قال بأنّهم خمسة أشخاص، و ذكر آخرون أنّ جميع الأنبياء الإلهيين هم «اولي العزم»، لأنهم يرون أنّ جميعهم يتمتعون بالعزم الراسخ في أداء المسؤولية الإلهية الملقاة على عاتقهم، و لكنَّ القول الأخير بعيد حسب الظاهر، و سائر الأقوال لا دليل عليها سوى ما ورد من الروايات الشريفة عن المعصومين عليهم السلام في تفسير هذه الآية و أنّ عددهم مع نبي الإسلام هو خمسة أشخاص.

و أما «الآية السابعة» فتعود لتخاطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من موقع الأمر بالصبر مقابل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 415

استهزاء و تكذيب المشركين و اذاهم و تقول: «فَاصْبِر صَبراً جَميلًا» «1».

و قد ذكر المفسّرون في تفسير «صبراً جميلًا» تفاسير مختلفة و قد تقدّم البحث عنها في تفسير الآية الثانية في هذا البحث و سنتابع الكلام فيها في حديثٍ آخر لاحقاً، و يقول الإمام الباقر عليه السلام في الجواب عن معنى الصبر الجميل في هذه الآية، «صَبْرٌ لَيْسَ فِيهِ شَكْوىً الَى النّاسِ» «2».

و في «الآية الثامنة» يخاطب اللَّه تعالى جميع المؤمنين و يأمرهم بالصبر و المثابرة و أنّ ذلك هو مفتاح السعادة و النجاة

و يقول «يا أَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَ صَابِرُواْ وَ رَابِطُواْ وَ اتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «3».

فنقرأ في هذه الآية أربع أوامر تمثل مفتاح السعادة و مصدر الخيرات و البركات على الإنسان في حياته المادية و المعنوية.

الأوّل: الصبر و الاستقامة و الصمود أمام الحوادث و المشكلات و المصائب و الموانع الّتي يجدها الإنسان في حركته الدنيوية لتحديات الواقع و صعوبة الظروف.

الثاني: المصابرة، و هي من باب «مفاعلة» و تأتي بمعنى الصبر و الاستقامة مقابل صبر و استقامة الآخرين، و في الحقيقة فإنّ الدستور الأوّل ناظرٌ إلى الصبر و الاستقامة أمام أنواع المشكلات و الحوادث الّتي يفرضها الواقع على الإنسان، أما الدستور الثاني فناظرٌ إلى الصبر و الاستقامة أمام الأعداء، و عليه فكلّما بذل الأعداء جهداً في سبيل المقاومة في ميدان القتال، فعلى المؤمنين أن يبذلوا جهداً أكبر من ذلك و يعيشوا الصبر بأقوى ممّا لدى العدو كي ينالوا النصر و الغلبة عليه.

«رابطوا» من مادّة «مرابطة» و هي في الأصل من «رباط» بمعنى شد الشي ء إلى مكان معين، و تستعمل هذه المفردة «مرابطة» عادّةً بمعنى مراقبة الحدود و الثغور لأن جنود

______________________________

(1). سورة المعارج، الآية 5.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 93.

(3). سورة آل عمران، الآية 200.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 416

الإسلام يضعون مراكبهم و أدوات حربهم و امتعتهم في ذلك المكان.

و آخر دستور إلهي في هذه الآية هو الأمر بتقوى اللَّه الّذي هو من قبيل الخيمة الّتي تستوعب بظلّها جميع الأوامر و الدساتير السابقة، فعند ما يكون الصبر و المصابرة و المرابطة من أجل اللَّه و بعيداً عن أي أشكال الرياء و الأمراض الشخصية و تكون مقترنة بالتقوى فإنّ ذلك سيتسبب في الفلاح و النجاة في

الدنيا و الآخرة.

بعض المفسّرين ذكر في تفسير «المصابرة» أنّها الصمود و مقاومة العادات و الأهواء النفسانية، لانها تقف في المقابل أمام الإنسان لتمنعه من سلوك طريق الهدى و الصلاح و السير في خطّ التقوى و الإيمان، فيجب على الإنسان أن يقف في مقابلها بالمثل، و قالوا في تفسير «المرابطة» أنّ المراد منها هو ربط النفس بطاعة اللَّه أو ربط القلب باللَّه تعالى

و قد نقل عن أحد العرفاء انه كان يتجه إلى الحجّ مشياً على الأقدام، فالتقى بأعرابي راكباً جمله فقال له الأعرابي: أين تذهب يا شيخ؟ فقال له: إلى بيت اللَّه الحرام. فقال: لماذا أنت راجل؟ فقال: بل لدي مراكب كثيرة، فتعجب الأعرابي من ذلك فسألة: و ما هي هذه المراكب؟ فقال العابد: عند ما تنزل عليّ مصيبة فسأركب مركب الصبر، و عند ما تنزل عليّ نعمة أركب مركب الشكر، و عند ما يداهمني القضاء و القدر أركب مركب الرضا، و عند ما تطغى نفسي و تطلب مني شيئاً فأعلم أنّه لم يبق من عمري شي ء و ما مضى منه أكثر ممّا بقي.

فقال الأعرابي: في الواقع أنت الراكب و أنا الراجل و السلام عليكم، فودعه و انصرف.

«الآية التاسعة» تخاطب جميع المؤمنين بتعبيرٍ جديد و تتحرك ضمن توصيتهم بأن يلتزموا الصبر و يستعينوا بالاستقامة و التحمل في مقابل تحديات الواقع الصعبة و المشكلات المفروضة عليهم و تقول: «يَا ايُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلوةِ انَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «1».

و هذه الآية لها مفهوم واسع بحيث تشمل كلّ أشكال الصبر و الاستقامة، سواءٌ الصبر على ______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 153.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 417

الطاعة أو الصبر على المعصية أو الصبر على المصيبة، فتوجب على

الإنسان أن يستعين بكلّ عمل مهم بالصبر سواءً كان ذلك العمل هو الجهاد في سبيل اللَّه أو غير ذلك، فلا بدّ من الاستعانة بأحد أقسام الصبر بما يتناسب مع المشكلة الّتي تواجه الإنسان.

و لا بدّ من القول في من فسّر الصبر بالصوم أنّ الصوم أحد المصاديق البارزة للصبر لا أنّه يستوعب جميع مفهوم الصبر في هذه الآية الشريفة.

و هنا يثار سؤال، و هو أنّه ما هي الرابطة بين الصبر بمعناه الواسع، و بين الصلاة؟

ذكر بعض المفسّرين في مقام الجواب أنّ الرابطة بينهما هو أنّ الإنسان قد يفقد صبره أحياناً أو يتضعضع أمام المشكلات و ضغط الواقع الصعب فتأتي الصلاة لتمنحه قوّة القلب الإرادة و العزم و التوكل على اللَّه تعالى، و بذلك فإنّ الصلاة تزيد الإنسان قوّة في عملية الصبر و المقاومة.

و بتعبير آخر: عند ما يتجه الإنسان إلى الباري تعالى من خلال الصلاة فإنه يجد نفسه مرتبطاً بالقدرة اللامتناهية و الحقّ الأزلي، و هذا العمل يزيد من مقاومة الإنسان في مقابل المشكلات بحيث يبلغ به مرتبة أن يتغلب على جميع ما يواجهه من صعوبات و مشاكل و يستمر في خط الاستقامة و التحمل و المثابرة، و لهذا ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و أحياناً عن أمير المؤمنين عليه السلام، و كلا الحديثين صحيحان من حيث السند: «اذَا أَهَالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ، قَامَ الى الصَّلَوةِ ثُمَّ تَلى هَذِهِ الآيَةِ وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَوةِ «1»» «2».

و على أية حال فإنّ هذه الآية من أوضح الآيات القرآنية الّتي تبيّن أهمية الصبر و كونه عاملًا مهماً في نجاح الإنسان في حركة الحياة الفردية و الاجتماعية.

«الآية العاشرة» تخاطب نبي الإسلام صلى الله

عليه و آله «من جانب اللَّه تعالى» بأن يقول لجميع عباده المؤمنين: «قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ

______________________________

(1) سورة البقرة، الآية 153.

(2) اصول الكافي، ج 1، ص 154، روح البيان، ج 1، ص 257.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 418

وَأَرْضُ اللَّهِ وَا سِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» «1».

و هذه الآية الشريفة تدلّ من جهة على أنّ الإنسان يجب عليه أن يستعين بقوّة الصبر و الاستقامة في مقابل الصعوبات الّتي يفرضها الواقع و تفرضها عليه عملية الصراع مع الظالمين و الجبابرة، لأنّه بدون ذلك فلا يوجد منفذ أمام الإنسان سوى الاستسلام للظالمين و قوى الإنحراف و الخضوع لهم.

و من جهة اخرى فإنّها تشير إلى ثواب الصابرين عند اللَّه و أنّه لا يقبل العد و الحساب.

عبارة «بغير حساب» تشير إلى أنّ اللَّه تعالى سوف يجازي هؤلاء الصابرين بالثواب العظيم إلى درجة أنّ أحداً لا يقدر على عدّه و احصائه إلّا اللَّه تعالى، و لهذا نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه أنّه قال: «إذا نشرت الدواوين و نُصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان و لم ينشر لهم ديوان، ثمّ تلا هذه الآية: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» «2».

و هذه العبارة «بغير حساب» وردت في آيات متعددة اغلبها يتعلق بالرزق الدنيوي الكثير الّذي يهبه اللَّه تعالى لبعض الناس، و لكن فقط في هذه «الآية 40 من سورة المؤمن» فتتحدّث عن الثواب الإلهي للمؤمن و الصابر يوم القيامة، و من المعلوم انه إذا كان الرزق الدنيوي بدون حساب فإنّ ذلك لا يعني انه يتناسب مع كمية العمل أو كيفيته، بل يتناسب مع لطف اللَّه تعالى و عنايته لعبده، و بالتالي

تكون ثمرته سامية جداً في مقام القرب الإلهي و الكمال المعنوي.

و نقرأ في «الآية الحادية عشر» تعبيراً جميلًا جداً عن أهمية الصبر و الاستقامة، و ذلك أنّ الملائكة عند ما تستقبل أهل الجنّة من كلّ باب يردون إليها يقولون لهم: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا

______________________________

(1) سورة الزمر، الآية 10.

(2) أورد هذا الحديث كلّ من الطبرسي في مجمع البيان، و القرطبي في تفسيره، و البرسوئي في روح البيان، مع تفاوت يسير ذيل هذه الآية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 419

صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارُ» «1».

و اللطيف أنّ الملائكة هنا أشاروا من بين جميع الأعمال و الطاعات و العبادات الّتي أتى بها أهل الجنّة إلى الصبر و الاستقامة لأن ذلك كان سبب دخولهم الجنّة، و لو دققنا النظر لرأينا أنّ الصبر بحد ذاته له دورٌ مهم في سعادة الإنسان و نجاته في الآخرة و دخوله الجنّة لانه بدون الصبر فلا يستطيع الإنسان أن يتوقى من الذنوب و لا يؤدي العبادات و الطاعات و لا جهاد النفس أو جهاد الأعداء، و لهذا السبب فإنّ الملائكة في أوّل سلامٍ و تبريك لهؤلاء ذكروا مسألة الصبر.

و الشاهد على هذا الكلام أنّ جميع الطاعات يأتي بها الإنسان في ظلّ عنصر الصبر و نقرأ في الآية 22 من هذه السورة قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ اقَامُوا الصَّلَوةَ وَ انْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السيِّئَة ...».

و جاء في تفسير هذه الآية حديثاً جميلًا عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم جمعي من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة. قالوا:

قبل الحساب؟

قالوا: نعم، فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: و ما كان صبركم؟ قالوا:

صبرنا أنفسنا على طاعة اللَّه، و صبرناها عن معاصي اللَّه، و صبرناها على البلاء و المحن في الدنيا، قال علي بن الحسين عليه السلام: فتقول لهم الملائكة: «سلام عليكم بما صبرتم فنعم أجر العاملين» «2».

و ذكر بعض رواة هذا الحديث أنّ الملائكة تقول لهم: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ» «3».

«الآية الثانية عشر» تكرر هذا المطلب بصورة جذابة، و هذه الآية هي استمرار للآيات ______________________________

(1). سورة الرعد، الآية 24.

(2). القرطبي، ج 5، ص 4532.

(3). تفسير القرطبي، ج 5، ص 4532.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 420

الّتي تحدّثت عن صفات «عباد الرحمن» و استعرضت في سياقها اثنى عشر صفة ايجابية تبين شخصيتهم السامية في جميع الأبعاد «اولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَروا وَ يُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَ سَلاماً» «1».

«غُرفة» من مادّة «غَرْفَ» على وزن «ظرف» بمعنى حمل الشي ء و أخذه باليد و لذلك يقال لمن يتناول الماء من العين بيده انه: اغترف من الماء، و كذلك تطلق هذه الكلمة على الأقسام العلوية من البناء فيقال لها «غرفة» و في هذه الآية اطلقت هذه الكلمة على أعلى المنازل في الجنّة و أنّها من نصيب الصابرين.

و يستفاد من تعبير الآية أعلاه أنّ الصبر هو العنصر المشترك الممتد في جميع الصفات الاثنى عشر لهؤلاء العباد المخلصين «عباد الرحمن».

و تأتي «الآية الثالثة عشر» و هي من الآيات المعروفة في مسألة الصبر لتثير في أجواء الصابرين البشارة بالثواب الإلهي الجزيل و تقول: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْ ءٍ مّنَ ا لْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مّنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَنفُسِ وَالَّثمَرَاتِ وَ بَشّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ اذَا اصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالُوا انَّا للَّهِ وَ انَّا الَيهِ

رَاجِعُونَ* اولئِكَ عَلَيْهِم صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم وَ رَحْمَةٌ وَ اولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» «2».

و بالرغم من أنّ هذه الآيات تشير إلى غصن واحد من اغصان شجرة الصبر، و هو الصبر على المصائب و المشكلات، و لكن تتضح أهمية ذلك من خلال ما يترتب على هذا اللون من الصبر من صلوات اللَّه و رحمته على هؤلاء الصابرين و أنّهم يسيرون في خطّ الهداية و الاستقامة و التوجه إلى اللَّه تعالى من خلال حالة الاستقامة و الصبر أمام البلايا و المصائب.

فنظراً إلى أنّ الامتحان الإلهي للإنسان في هذا العالم الدنيوي يُعد من السنن الحتمية في عالم التكوين، و أنّ العبور من هذا النفق و الوادي العسير لا يتسنّى ألا بالاستعانة بالصبر،

______________________________

(1). سورة الفرقان، الآية 75.

(2). سورة البقرة، الآية 155- 157.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 421

و حينئذٍ يتضح دور الصبر و الاستقامة في حركة الحياة الدنيوية و النتائج المترتبة على ذلك، فما أعظم أن يجد الإنسان نفسه مشمولًا بثلاث عنايات إلهية في مقابل الصبر و هي:

الاولى: الصلوات و التحيات الإلهية من النوع الّذي يصلي فيه اللَّه تعالى على نبيّه الكريم، ثمّ شمول رحمته الواسعة لهذا الإنسان و دخوله في دائرة اللطف الإلهي، و الأهم من ذلك أنّ الهداية الإلهية ستكون من نصيب هؤلاء و الّتي هي مصدر جميع النعم و المواهب و أشكال السعادة الدنيوية و الاخروية.

و أما لماذا وردت كلمة «صلوات» بصورة جمع؟ هنا ذكر تفسيران كلّ منهما محتمل في معنى الآية، الأوّل أنّ ذلك إشارة إلى أنواع الاكرام الإلهي و الاحترام الرباني لهؤلاء، و الآخر انه إشارة إلى تكرار هذه العملية و أنّ اللَّه يصلّي عليهم عدّة مرّات، اما التعبير بالرحمة بصورة نكرة فهو إشارة إلى الأهمية

و العظمة لهذه النعمة.

و اما الفرق بين الصلوات و الرحمة فقد ذكر البعض أنّ الصلوات إشارة إلى مدح اللَّه و لطفه و مغفرته، في حين أنّ الرحمة إشارة إلى النعم المادية و المعنوية في الدنيا و الآخرة.

«الآية الرابعة عشر» و الأخيرة من الآيات مورد البحث و الّتي وردت في سورة العصر فإنّها ضمن بيان هذه الحقيقة، و هي أنّ جميع الناس سيكون مصيرهم إلى الخسران حتماً ما عدا الأشخاص الّذين يتمتعون بأربع صفات، و أحدها: الصبر و الاستقامة و تقول «وَ الْعَصْرِ* انَّ الْانْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* الَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلوا الصَّالِحَاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» «1».

جملة «تواصوا» من مادّة «تواصي» و تشير إلى انه ينبغي على المؤمنين بعد الإيمان و المعرفة و العمل الصالح أن يتحركوا من موقع التكاتف و التعاون لاحقاق الحقوق و الانصاف و العدالة في التعامل مع الغير و التوصية بذلك فيما بينهم، لأنّ إحقاق الحقّ و اجراء العدالة في المجتمع الإنساني لا يتسنّى إلّا بالاستقامة و الصبر أمام تحديات الواقع الصعبة

______________________________

(1). سورة العصر، الآية 1- 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 422

و الموانع العسيرة، و لذلك أوصت الآية الشريفة بالصبر على مستوى العامل الرابع من العوامل المؤدية إلى النجاة، و في الحقيقة أنّ هذا العامل هو دعامة و أساس للعوامل الثلاثة الاخرى، و عليه فإنّ الصبر يعد أحد الأركان الأصلية لسعادة الناس و تحركهم في خطّ الإيمان و تعميق شجرة الأخلاق و الصلاح في قلوبهم، و بدونه سوف لا تثمر القيم الأخلاقية و الأعمال الصالحة في واقع الإنسان و المجتمع شيئاً، و لا يمكن احقاق الحقوق و اجراء العدالة في المجتمع البشري، و لا شكّ أنّ احقاق الحقوق و

اجراء العدالة يعد من أهم الامور و الوظائف، لأنّه أحياناً يكون الحقّ في الطرف المقابل للإنسان أو لأحد أحبته و أقربائه، و هنا تكون اجراء العدالة و العمل بالحقّ بحاجة إلى الاستمداد و الاسترفاد من عنصر الصبر.

و من مجموع ما تقدّم من الآيات الشريفة تتضح هذه الحقيقة، و هي أنّ أهمية الصبر و الاستقامة و المثابرة في خطّ العدالة و الحقّ إلى درجة من الأهمية أكثر ممّا نتصور، و كما يقول بعض المفسّرين أنّ الصبر في القرآن الكريم ورد أكثر من سبعين مرّة أو تكرر بما يقرب من مئة مرة، في حين اننا لا نجد فضيلة من الفضائل الأخلاقية و الإنسانية قد وردت بمثل هذا التأكيد في الكتاب العزيز، و هذا إنما يدلّ على أنّ القرآن الكريم يولي هذه الفضيلة الأخلاقية أهمية كبيرة و يعدها عصارة جميع الفضائل و الأساس لجميع أشكال السعادة الدنيوية و الاخروية و الاداة الحاسمة للوصول إلى أي نوع من أنواع الفلاح و النجاح و الموفقية.

الصبر في الأحاديث الإسلامية:

و كما يقول بعض علماء الأخلاق أنّ الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام في فضيلة الصبر و الاستقامة أكثر من أن تحصى و قد ورد في بعض الكتب الأخلاقية ما يقرب من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 423

تسعمائة حديثاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام في هذا الموضوع، و لذلك نختار بعض النماذج من هذه الأحاديث الشريفة لنستوحي منها دورساً في هذه الفضيلة:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «الصَّبْرُ خَيْرُ مَرْكَبٍ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَبْداً خَيراً لَهُ وَ لَا اوسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» «1».

و عبارة «خيرُ مركب» الواردة في هذا الحديث الشريف تشير إلى أنّ

الصبر هو أفضل وسيلة للوصول إلى السعادة و النجاة و أنّ الإنسان بدونه لا يصل إلى شي ء من المقامات الاجتماعية و المعنوية في الدنيا و الآخرة.

2- و عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «عَلَيْكُم بِالصَّبْرِ فَانَّ الصَّبْرَ مِنَ الْايمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ» «2».

و هذا الحديث يدلّ على أنّ الصبر يعد مفتاحاً لجميع الأبعاد الحيوية في حركة الإنسان المادية و المعنوية، و لهذا ورد في ذيل الحديث المذكور «لا ايمانَ لِمَنْ لا صَبْرَ لَهُ».

3- و في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «لا يَعْدِمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ و انْ طَالَ بِهِ الزَّمانُ» «3».

و مع الالتفات إلى أنّ الصبر ذكر هنا بشكل مطلق و كذلك الظفر و النصب، فهذا يدلّ على أنّ هذه الحكم يستوعب جميع الأبعاد المادية و المعنوية في حياة الإنسان.

4- و قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في باب الصبر «الصَّبْرُ نِصْفُ الإيمانِ» «4».

و جاء في بعض الروايات الاخرى أنّ نصف الإيمان هو الشكر و النصف الآخر هو الصبر.

أي الصبر و الاستقامة للوصول إلى النعم و المواهب الإلهية ثمّ الشكر على هذه النعمة، أي الاستفادة الصحيحة من المواهب و النعم الإلهية.

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 2، ح 10025.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، 82.

(3). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الحكمة 153.

(4). المحجّة البيضاء، ج 7، ص 106.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 424

و من الواضح أنّ هذا الحديث لا يتنافى مع الأحاديث السابقة، لأنّه كما تقدّم أنّ المؤمن إذا لم يتمسك بالصبر فإنّ إيمانه سوف يتعرض للاهتزاز و الارتباك بسبب الموانع الكثيرة الّتي يجدها في طريقه، و كذلك لو لم يكن شكوراً على نعم اللَّه تعالى، فإنّ هذه النعم ستزول و تهرب

من يده كما ورد في الآية: «وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ انَّ عَذَابِي لَشَديد».

5- و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الصَّبْرُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» «1».

6- و دليل هذا المعنى ما ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام يوضح هذا المعنى و يقول «الصَّبْرُ عَوْنٌ عَلى كُلِّ امْرٍ» «2».

لأنّه كما تعلمون أنّ نظام الحياة في الدين و الدنيا يضع أمام كلّ عملٍ مهم بعض الموانع الّتي لا يتجاوزها و لا يعبرها إلّا بالاستعانة بالصبر و الاستقامة.

7- اما بالنسبة للصبر عند المعصية فورد في الحديث الشريف «وَ مَنْ صَبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبيلِ اللَّهِ» «3».

أجل فكليهما مجاهد في سبيل اللَّه، مع فارق أنّ أحدهما يجاهد العدو الخارجي «الجهاد الأصغر» و الآخر يجاهد العدو الداخلي «الجهاد الأكبر».

8- و ورد في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين قوله: «انْ صَبَرْتَ ادْرَكْتَ بِصَبْرِكَ مَنازِلَ الابْرارِ وَ ان جَزَعْتَ اوْرَدَكَ جَزَعَكَ عَذابَ النّارِ» «4».

9- و عن الإمام الصادق عليه السلام قال في الصبر في مقابل البلايا و المصائب «مَن ابْتُلي مِنَ المُؤمِنينَ بِبَلاءٍ فَصَبَرَ عَلَيهِ كَان لَهُ مَثلُ اجرِ الْفِ شَهِيدٍ» «5».

و يقول العلّامة المجلسي بعد ذكر هذا الحديث في الجزء 68 من بحار الأنوار انه كيف يعقل أنّ للصبر مثل هذا الثواب في حين أنّ للشهيد بنفسه أحد الصابرين لانه صبر أمام ______________________________

(1). المحجّة البيضاء، ج 7، ص 107.

(2). غرر الحكم، ح 765.

(3). جامع الأحاديث الشيعة، ج 14، ص 253.

(4). شرح غرر الحكم، ح 3713.

(5). اصول الكافي، ج 2، ص 92.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 425

العدو حتّى استشهد؟

و يمكن في مقام الجواب عن هذا السؤال أن نقول: إنّ الشهيد

يصبر أمام هجوم الأعداء، و هؤلاء الصابرون إنما يصبرون في مقابل الصعوبات المرة الّتي تعترضهم في الحياة من قبيل أنواع المرض، الفشل، و فقد الأحبّة و أمثال ذلك.

و الدليل الآخر على أفضلية الصابر بالنسبة إلى الشهيد هو أنّ الشهادة تحدث مرة واحدة للإنسان، و لكنَّ صعوبات الحياة تتكرر آلاف المرات.

10- و يقول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالنسبة إلى الثواب المعنوي للصابرين «مَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ وَ اعْطِيَ فَشَكَرَ وَ ظُلِمَ فَغَفَرَ اولَئِكَ لَهُم الْامْنُ وَ هُم مُهتَدونَ» «1».

11- و يقول الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «الصَّبْرُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِ العِبادِ مِنَ النُّورِ وَ الصَّفاءِ و الْجَزَعُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِهِم مِنَ الظُّلْمَةِ وَ الْوَحْشَةِ» «2».

12- و نختم هذا البحث عن أحاديث الصبر بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول «الصَّبْرُ مَطَيِّةٌ لا تَكبُوا وَ القَناعَةُ سَيفٌ لا يَنْبُوا» «3».

معطيات الصبر و نتائجه:

كما تقدّم في المباحث السابقة فإنّ طبيعة الحياة الدنيا تقترن بالموانع و المشكلات و البلايا، فلو أنّ الإنسان لم يلتزم بالمقررات و القوانين الّتي تنسجم مع هذه الحياة و يحل بذلك ما يواجهه من مشكلات فإنّه سوف لا يصل إلى مقصده و لا يحقق غايته، و كذلك فإنّ الآفات و المصائب موجودة في ضمن النعم و المواهب و تتسبب في فقدها أو الاضرار بها من ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 2، ص 526، ح 830.

(2). بحار الأنوار، ج 68، ص 90، ح 44.

(3). بحار الأنوار، ج 68، ص 96.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 426

قبيل المصائب الّتي تواجه الإنسان في أولاده و أقربائه و أمثال ذلك.

فالإنسان بدون الاستعانة بالصبر و الاستقامة سوف لا يتمكن من سلوك طريق الكمال و السعادة في بعده الإيجابي، و

كذلك لا يتمكن من الصمود أمام عناصر الشَّر في حركة الحياة، و لهذا السبب فإنّ المفتاح الأصلي للموفقية و النجاح في الحياة هو الاستعانة بالصبر و الاستقامة، و بما أنّ الدين هو عبارة عن مجموعة الواجبات و المحرمات، أو الطاعات و ترك المعاصي، فإنّ الإيمان و الالتزام بالدين لا يكون و لا يتحقق بدون الصبر و الاستقامة، لانه و طبقاً لما تقدّم من البيان فإنّ الصبر بالنسبة للإيمان كالرأس بالنسبة إلى الجسد، و لذلك ورد في بعض الأحاديث الإسلامية «و منها الأحاديث الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام» أنّ الصبر قرين الظفر «الصَّبْرُ الظَّفَرُ» «1».

و نقرأ أيضاً في الآيات القرآنية أنّ الشرط المهم لإنتصار المجاهدين في سبيل اللَّه هو الصبر و الاستقامة في هذا الطريق و من ذلك قوله تعالى «... إِنْ يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُن مّنكُم مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» «2».

ما هذه القوّة الّتي تمنح رجلًا واحداً القدرة على مقابلة عشرة أشخاص، و تمنح مئة شخص القدرة على مقابلة ألف شخص؟

إن هذه القوّة هي قوّة الصبر و الاستقامة الّتي ورد التصريح بها في الآية الشريفة.

فالأشخاص الّذين يعيشون ضعف الإرادة و قلّة العزيمة سوف يواجهون الحوادث و المشاكل من موقع الاذعان و الخنوع أو يديرون ظهورهم لها و يجمحون عن مقاومتها، و لكنه لا الدنيا تتحقق للإنسان بدون الصبر و الاستقامة و لا الآخرة، و لهذا السبب فان الشعوب الّتي حقّقت تقدماً علمياً و تطوراً حضارياً فإنما تحقق لها ذلك بواسطة الاستقامة و المثابرة و الصبر، و يذكر في حالات العلماء الكبار، سواءاً الشخصيات الدينية الّتي فتحت أبواب العلوم و المعارف الدينية أمام الناس، أو علماء العلوم الطبيعية

الّذين حققوا للبشرية

______________________________

(1). غرر الحكم، ح 213.

(2). سورة الأنفال، الآية 65.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 427

اكتشافات و اختراعات مهمّة، أنّهم كانوا يعيشون قبل كلّ شي ء حالة الصبر و الاستقامة و المثابرة في أعمالهم و دراساتهم، فأحياناً يضطر أحد العلماء للكشف عن قانون علمي إلى اختيار العزلة و الانزواء في المكتبة أو المختبر لعدّة سنوات حتّى يوفق أخيراً إلى هدفه و اكتشافه.

و قد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله «مَنْ رَكِبَ مَراكِبَ الصَّبْرِ اهْتُدِىَ الَىَ مَيْدَانِ النَّصْرِ» «1».

و كذلك ورد عن هذا الإمام قوله «مِفْتَاحُ الظَّفَرِ لُزُومِ الصَّبْرِ» «2».

و من جهة اخرى نجد أنّ الأشخاص الّذين يشكون ضعف العزم و قلّة الصبر و الاستقامة فإنّهم يتلوثون بسرعة بأنواع الذنوب، لأنّ الذنوب لها جاذبية قوية للنفس الأمارة في الإنسان، فلو لم تكن في الإنسان قدرة على مقاومتها لأسرع الإنسان الخطى في منزلقات الانحطاط و الرذيلة.

و ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام قوله «كَمْ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ قَدْ اوْرَثَتْ فَرَحَاً طَويلًا وَ كَمْ مِنْ لَذَّةِ سَاعَةٍ قَدْ اوْرَثَتْ حُزْناً طَويلًا» «3».

و من الممكن أن يبتلي الإنسان في مسيرة حياته بأنواع الضرر و الخسارة المادية و المعنوية و الاجتماعية، مثلًا بالنسبة إلى موت الأحبّة يجب القول: إن هؤلاء الأحبّة من الأصدقاء و الاقرباء لم يتولدوا في وقت واحد و سوف لا يرحلون من هذه الدنيا في وقتٍ واحد أيضاً، فهناك من يرحل قبل الآخر و هناك من يتأخر، و الأشخاص الّذين يرحلون من هذه الدنيا أسرع سوف يخلفون في قلوب أحبتهم حالات الغم و الحزن على فراقهم، فلو أنّ الإنسان لم يتحل بالصبر فسوف يفقد سلامته النفسية و صحّته الجسمية و يعيش اليأس في

الحياة و يتأخر عن القافلة.

______________________________

(1). كنز الفوائد، ص 58.

(2). غرر الحكم، ح 9809.

(3). بحار الأنوار، ج 68، ص 19، ح 45.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 428

أجل فإنّ الصبر مع وجود جميع هذه الحوادث و المصاعب يمنح روح الإنسان و قلبه القدرة على الاستمرار في حركة الحياة و إدامة السلوك في خطّ التكامل الإنساني.

و قد رأينا في الأحاديث السابقة أنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول إنّ ثواب الصبر لدى الشيعة مقابل المصائب و البلايا يعادل ثواب ألف شهيد، و هذا المعنى يدلل على ما تقدّم آنفاً من أهمية الصبر.

و الخلاصة هي إننا كلّما تحدّثنا عن أهمية الصبر و دوره في الصعود بالإنسان في مدارج الكمال المادي و المعنوي، الدنيوي و الأخروي، فلا نصل إلى غاية الكلام و لا نحيط بتمام الموضوع، و لهذا فلا ينبغي أن نتصور أنّ ما ورد في الروايات الشريفة عن ثواب الصابرين هو مبالغة في الكلام، و بعبارة اخرى: يمكن التمسك بالحديث الشريف الوارد عن الإمام الباقر عليه السلام حيث قال «انَّهُ مَنْ صَبَرَ نَالَ بِصَبْرِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ الْقائِمِ، وَ دَرَجَةِ الشَّهيدِ الّذي ضَرَبَ بِسَيفِهِ قُدّامَ مُحمَّدٍ صلى الله عليه و آله» «1».

أقسام الصبر:

و قد ورد في الكثير من كتب الأخلاق و كلمات علماء الأخلاق أنّ الصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- الصبر على الطاعة.

2- الصبر على المعصية.

3- الصبر على المصيبة.

و المراد من «الصبر على الطاعة» هو مقاومة المشكلات الّتي تعترض طريق الطاعة للَّه تعالى و امتثال أوامره من قبيل أداء الصلاه و الصوم و الحجّ و الجهاد و دفع الحقوق المالية مثل الخمس و الزكاة، و كذلك الصبر و الاستقامة مقابل المشكلات الّتي تقع في طريق طاعة الأوامر الاستحبابية و الّتي تستوعب

دائرة عريضة، و المقصود من «الصبر على المعصية» هو

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 11، كتاب الجهاد، ص 209، ح 5.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 429

الوقوف أمام الأهواء و الدوافع النفسية و النوازع الدنيوية الّتي تستعر في قلب الإنسان و باطنه، و قد تستعر نيرانها إلى درجة أن تتحول إلى اعصار يدمر جميع عناصر الخير في الإنسان، و يتلف ما لديه من الإيمان و التقوى و الطهارة و الصدق و الصفاء و أمثال ذلك.

و المقصود من الصبر على المصيبة هو أن يتحلّى الإنسان بالصبر في حياته مقابل الحوادث المؤلمة من قبيل فقد الأحبّة، الخسارة المالية الكبيرة، وقوع شخصيته و سمعته الاجتماعية في الخطر، وقوع الإنسان في مخالب المرض العسير و المؤلم، و الابتلاء برفاق السوء أو الشريك الخائن أو الحكومة الظالمة و أحياناً الزوج و الزوجة الفاسدة و أمثال ذلك.

و قد أورد علماء الأخلاق هذا التقسيم للصبر اقتباساً من الروايات الشريفة كما ورد في الحديث الشريف النبوي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «الصَّبْرُ ثَلاثَةٌ، صَبْرٌ عَلَى الْمُصيبَةِ وَ صَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وَ صَبْرٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى المُصيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزائِهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلاثَ مِائةٍ دَرَجَةٍ مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الَىَ الدَّرَجَةِ كَما بَينَ السَّمَاءِ الَى الارضِ، وَ مَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ سِتَّ مائةِ دَرَجَةٍ، مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَينَ تُخُومُ الْارضِ الَى الْعَرْشِ وَ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْمَعْصيةِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ تِسْعَ مِائةِ دَرَجَةٍ مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الى الدَّرَجَةِ كَمَا بَينَ تُخُومِ الارْضِ الَىَ مُنْتَهَى الْعَرْشِ» «1».

و يستفاد من عبارات هذا الحديث الشريف الصبر على المعصية أهمّ من الجميع، ثمّ الصبر على الطاعة، ثمّ الصبر

على المصيبة الّذي يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية و الثواب.

و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في حديث آخر بعد أن يقسم الإيمان إلى أربع «الصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى ارْبَعِ شُعَبٍ، عَلَى الشَّوْقِ وَ الشَّفَقِ وَ الزُّهْدِ وَ التَّرَقُبِ» «2».

و مع قليل من التأمل يتضح أنّ هدف الإمام عليه السلام من هذا البيان هو شرح دوافع الصبر و الاستقامة لا فروعه و أغصانه، و هو مثل ما تقدّم من الحديث النبوي الشريف.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 68، ص 77، في اصول الكافي، ج 2، ص 91 بهذا المعنى.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، ح 31.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 430

الاخلاق فى القرآن ج 2 440

دوافع الصبر و الاستقامة:

إن العوامل و العناصر الّتي تمنح الإنسان القدرة على الصبر مقابل مشكلات الطاعة و ترك المعصية أو مقابل المصائب هي كثيرة، و لكلٍّ واحدٍ منها تأثير خاصّ في تقوية و تعميق هذه الفضيلة الأخلاقية في واقع النفس، و أهمها:

1- تقوية دعائم الإيمان و اليقين في القلب، و خاصّةً مع ملاحظة هذه النكتة، و هي أنّ اللَّه تعالى هو أرحم الراحمين و هو المتكفل لرعاية مصالح عباده و العناية بهم، و من هذا المنطلق قد يبتلي الإنسان ببعض الحوادث الّتي تكون أسرارها و منافعها خفية على الإنسان ليقوي به روح الصبر، و هنا ينبغي الالتفات و التفكر بالثواب العظيم الّذي أعده اللَّه تعالى للمطيعين و الورعين عن ارتكاب المعاصي فإنّ ذلك من شأنه أن يرسخ في عزم الإنسان عنصر الصبر و الاستقامة.

و من ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «أَصْلُ الصَّبْرِ حُسْنُ الْيَقِينِ بِاللَّهِ» «1».

و بديهي انه كلّما اشتد إيمان الإنسان و كثرت معرفته بحكمة اللَّه و رحمته فإنّ

صبره سيزداد تبعاً لذلك، و بتعبير آخر: أنّ تحمل الصبر سيكون أسهل و أيسر، و لهذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لبعض أصحابه «انَّا صُبَّرٌ وَ شِيعَتُنا اصْبَرُ مِنّا» فقال له الراوي: جعلت فداك كيف يكون شيعتكم أصبرُ منكم؟ فأجابه الإمام عليه السلام «لَانّا نَصْبِرُ عَلَى مَا نَعْلَمُ وَ شيعَتُنا يَصْبِرُونَ عَلَى مَا لا يَعْلَمُونَ» «2».

2- إن تحصيل ملكة الصبر و اكتساب هذه الفضيلة حاله حال الفضائل الأخلاقية الاخرى لا بدّ فيه من الممارسة و التمرن و مقابلة الحوادث الصعبة و مواجهة التحديات المفروضة على الإنسان، و لهذا ورد عن أمير المؤمنين قوله «مَنْ تَوالَتْ عَلَيهِ نَكَباتُ الزَّمانِ اكْسَبَتْهُ فَضيلَةُ الصَّبْرِ» «3».

و بعبارة اخرى: إن الإنسان في بداية مواجهته للمصيبة قد يصرخ و يحزن بشدّة، و كذلك ______________________________

(1). غرر الحكم، ح 3084.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 93، ح 25.

(3). غرر الحكم، ح 9144.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 431

عند ما يتحرّك في خط الطاعة و الاتيان بالعبادة فإنه قد يواجه مشكلة من ثقل هذه العبادة و يشعر بالتعب، و لكن تكرار هذه الحوادث و ممارسة هذه العبادات سوف تكسبه بالتدريج فضيلة الصبر و تمنحه القوّة في ذاته على الاستمرار في خطّ الاستقامة.

3- و من العوامل المهمة في تقوية ملكة الصبر في الإنسان أن يلتفت الشخص إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ الدنيا دار الحوادث و المشكلات، و لا يتسنّى له الحصول على أية موهبة من المواهب المادية و المعنوية من دون عبور هذه الموانع المختلفة و التغلب على تلكم المشكلات، و أيضاً يلتفت إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ الأفراد الّذين يعيشون النزق و قلة الصبر و سرعة الانفلات

لا يصلون إلى مرتبة من مراتب الكمال النفسي و الاجتماعي، كلّ ذلك من شأنه أن يقوي في الإنسان العزم و الإرادة و الصمود أمام المشكلات و الحوادث.

و كما تقدّمت الإشارة إليه انه لا بدّ لقطف الوردة من تحمل ألم الوخزة، و لتناول جرعة من العسل لا بدّ من تحمل لسع النحل، و أنّ الكنوز موجودة عادّةً في الخرائب، و الجنّة كامنة في أعماق المشاكل و الحوادث المؤلمة.

و من المعلوم أنّ كلّ إنسان يتفكر جيّداً في هذه الامور فإنه سيجد في نفسه القدرة على الصبر أكثر و تتعمق فيه هذه الفضيلة الأخلاقية، و من ذلك ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لِكُلِّ نِعْمَةٍ مِفْتاحٌ وَ مِغْلاقٌ وَ مِفتاحُهَا الصَّبْرُ وَ مِغلاقُها الْكَسَلْ» «1».

4- و أحد العوامل و الدوافع الاخرى للصبر و سُبل تقويته في وجود الإنسان هو أن يتشبه الإنسان بالصابرين، و هذا الأمر يصدق على جميع الفضائل الأخلاقية، فكلّما تحلّى الإنسان في الظاهر بصفة معيّنة فسوف تنفذ و تمتد إلى باطنه بالتدريج و يكتسب بذلك هذه الملكة.

و ورد في حديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرُهُ اللَّهُ وَ مَنْ يَسْتَعْفِف يَعُفَّهُ اللَّهُ، وَ مَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهُ اللَّهُ وَ مَا اعْطِي عَبْدٌ عَطاءً هُوَ خَيرٌ وَ اوسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» «2».

______________________________

(1). شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 20، ص 322.

(2). ميزان الحكمة، ج 2، ح 10128.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 432

5- الصبر له علاقة وثيقة بسعة وجود الإنسان و شخصيته، فكلّما اتسعت ظرفية الإنسان و قويت شخصيته فإنه يعيش الصبر و الاستقامة أكثر و أشد، و لهذا السبب فإنّ الأطفال و كذلك الكبار الّذين يعيشون

حالة الطفولة يجزعون لأقل حادثة، في حين أنّ الأشخاص الّذين يتمتعون بشخصية قوية وسعة صدر فإنه يهضمون المشكلات و يتغلبون عليها.

إن المسبح الصغير قد يتماوج بأدنى نسيم و أقل ريح بينما البحر الكبير لا يتماوج بهذه السهولة، و إنما سمّي أكبر المحيطات في الدنيا بالمحيط الهادي لأن هيجان أمواجه هي أقل من هيجان الأمواج في المحيطات الاخرى.

إن مطالعة سيرة الشخصيات المهمة في التاريخ البشري و خاصّة الأنبياء و الأولياء الإلهيين الّذين وصلوا إلى مقامات عالية و مراتب سامية في دائرة الكمال المعنوي بسبب الصبر و الاستقامة، يمكنها أن تكون من العوامل المؤثرة في تقوية هذه الملكة الحميدة في الإنسان و يكون دافعاً له على التحلي بهذه الفضيلة أسوةً بهؤلاء العظام.

إن مسألة الصبر و الاستقامة مقابل الحوادث المؤلمة و المشكلات الكبيرة الّتي تواجه الإنسان في حركة الحياة لا تقتصر على البعد الأخلاقي و المعنوي فحسب بل هي مؤثرة بالنسبة إلى سلامة البدن و قواه الحيوية، فالأشخاص الّذين لا يملكون حالة الصبر أمام الحوادث فإنّ حياتهم عادةً تكون مقترنة بأنواع الأمراض و أهمها الأمراض القلبية و العصبية، في حين أنّ الصابرين يتمتعون بعمرٍ طويل مع سلامة بدنية نسبية، و لذلك فإنّ علماء النفس يرون أنّ الدين بصورة عامة «و الّذي يقوي في الإنسان حالة الصبر أمام المشكلات» يعد أحد شروط سلامة الجسم و الصحّة النفسية.

و في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «مَن احَبَّ الْبَقاءَ فَلْيُعِدَّ لِلْمَصائِبِ قَلْباً صَبُوراً» «1».

«الجزع» يقع في النقطة المقابلة للصبر، و هو الحالة النفسية الّتي لا تنضبط فيها النفس أمام الحوادث و المشاكل بحيث يعيش الإنسان الرضوخ و الإذعان بالأمر الواقع و تحدياته ______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 75، ص

81، ح 71.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 433

الصعبة و تتملكه حالة اليأس من الخلاص، أو تمنعه هذه الحالة من التحرّك و السعي نحو المقصود و الهدف.

إن الجزع يعد من اشنع الصفات الأخلاقية و أسوأ الحالات النفسية للإنسان حيث تفضي به إلى الشقاء في الدنيا و الآخرة و تمنعه من تحصيل المقامات و المراتب العالية في معراج الكمال، و تؤدي كذلك إلى فقدان شخصيته و حيثيته في المجتمع و تكون حياته مليئة بالمنغصات و المؤلمات فلا يرى للراحة و السعادة وجهاً.

و قد وصف القرآن الكريم الإنسان في سورة المعارج بأنه موجود حريص و قليل الصبر عند ما يدهمه بلاءٌ و سوء، و عند ما يحصل على شي ء من النعمة و الخير فإنه يتحرك فيه عنصر البخل و يمنعه من البذل و العطاء كما تقول الآية: «انَّ الْانْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* اذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ اذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» «1».

و المراد من الإنسان في هذه الآية «كما وردت هذه الكلمة في آيات قرآنية اخرى تصف الإنسان بصفات سلبية مشابهة» هو الإنسان الّذي لم يصل بعد إلى مستوى النضج الأخلاقي و العاطفي و لم يسلك في خطّ تهذيب النفس، و لذلك ورد في ذيل هذه الآيات استثناء الأشخاص الّذين يعيشون الإيمان و يسلكون في خطّ الصلاة و مساعدة المحرومين و مراعاة اصول العفة و الأمانة كما تقول الآيات «الَّا الْمُصَلِّينَ ..... و الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِم يُحَافِظُونَ» «2».

إنّ تعبير الآيات أعلاه لعلّه إشارة إلى هذه الحقيقة و هي أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الجزع و قلّة الصبر هم عادةً من البخلاء أيضاً، كما أنّ البخلاء يتسمون بالجزع أيضاً، و بعبارة اخرى: أنّ هاتين الصفتين يرتبطان برابطة وثيقة و يجتمعان

في دائرة مفهوم «هلوع».

و قد ورد في الروايات الإسلامية أيضاً بحوث عميقة و جذابة تتضمن ملاحظات دقيقة في هذا المجال، و فيما يلي نشير إلى بعض النماذج منها:

______________________________

(1). سورة المعارج، الآية 19- 21.

(2). سورة المعارج، الآية 22- 34.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 434

1- ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذمّ الجزع قوله «ايَّاكَ وَ الْجَزَعَ فَانَّهُ يَقْطَعُ الامَلَ وَ يُضَعِّفُ الْعَمَلَ وَ يُورِثُ الهَمَّ» «1».

2- و قد ورد أيضاً عن هذا الإمام يقول في حديث آخر ضمن الإشارة إلى نكتة لطيفة اخرى: «الْجَزَعُ اتْعَبُ مِنَ الصَّبْرِ» «2».

و السبب في ذلك واضح، و هو أنّ الجزع و قلّة الصبر لا يحل أيَّة مشكلة و ليس له أثر سوى أن يحطم عناصر القوّة و الاستقامة في روح الإنسان و جسمه، و لهذا فإنّ الّذي يعيش الجزع يوقع نفسه في التعب أكثر من الصابر، مثلًا عند ما يفقد الإنسان عزيزاً له يمكن أن يصرخ و يلطم وجهه و يضرب رأسه بالجدار أو ينتحر أخيراً، و لكن أية واحدة من هذه السلوكيات لا تعيد له عزيزه، بل من شأنها أن تدمر دعائم الإيمان في قلبه و تحطيم أركان سلامته البدنية و الروحية، مضافاً إلى انه سيتلف ثوابه الأُخروي.

3- و يقول الإمام علي عليه السلام أيضاً «الْجَزَعُ لا يَدْفَعُ الْقَدَرَ وَ لَكِنْ يُحْبِطُ الاجْرَ» «3».

و بالنسبة إلى سبب احباط الأجر فلا بدّ من القول: أنّ الجزع و عدم الصبر علامة على عدم الرضا و عدم التسليم لقضاء اللَّه و قدره، فهو في الواقع اعتراض على عدل اللَّه و حكمته حتّى لو كان الجازع غافلًا عن هذا المطلب.

4- و ورد في حديثٍ آخر عن الإمام الهادي عليه السلام و

ضمن الإشارة إلى نكتة اخرى «الْمُصِيبَةُ لِلصَّابِرِ وَاحِدَةٌ وَ لِلْجَازِعِ اثْنانِ» «4». و كما تقدّم أنّ الجزع و عدم الصبر من شأنه مضافاً إلى زوال أجره و انعدام ثوابه أن يزيد في مشكلته، و عليه فإنّ المصيبة على الجازع مضاعفة.

5- و يقول الإمام الكاظم عليه السلام في بيانه لأحد وصايا المسيح عليه السلام «وَ لَا تَجْعَلُوا قُلُوبَكُم مَأْوىً لِلشَّهَواتِ انَّ اجْزَعَكُم عِنْدَ الْبَلاءِ لَاشَدُّكُم حُبّاً لِلدُّنيَا وَ انَّ اصْبَرَكُمْ عَلَى الْبَلاءِ

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 79، ص 144.

(2). بحار الأنوار، ج 79، ص 131، ح 16.

(3). غرر الحكم، ح 1876.

(4). بحار الأنوار، ج 79، ص 144.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 435

لَازْهَدُكُم فِي الدُّنيَا» «1».

و يستفاد من هذه الرواية أنّ المصدر الأساس للجزع و عدم الصبر هو الحرص و حبّ الدنيا، و لأجل أن يخفف الإنسان من شدّة الجزع عليه أن يخفف من حبّه للدنيا و تعلقه بزخارفها.

6- و نقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «انْ تَحْتَسِبُوا وَ تَصْبِرُوا تُوجَرُوا، وَ انْ تَجْزَعُوا تَأْثِمُوا وَ تُوزَرُوا» «2».

7- و في حديثٍ مختصر و عميق المعنى عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول «مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ اهْلَكَهُ الْجَزَعُ» «3».

و نختم هذا البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بعنوان «مسك الختام» فقد ورد في هذا الحديث أنّ رسول اللَّه كتب إلى بعض أصحابه يعزّيه بابنه: «أما بعد فعظم اللَّه جلّ اسمه لك الأجر و الهمك الصبر ... فلا تجمعن أن يحبط جزعك أجرك و أن تندم غداً على ثواب مصيبتك و انك لو قدمت على ثوابها علمت أنّ المصيبة قد قصرت عنها

و اعلم أنّ الجزع لا يرد فائتاً و لا يدفع حزن قضاء فليذهب أسفك ما هو نازل بك مكان ابنك و السلام» «4».

و ينقل المرحوم المحدّث القمّي في «سفينة البحار» قصة جميلة عن «بزرجمهر» وزير كسرى تتعلق بمسألة الصبر هذه و يقول: «حكي عن بعض التواريخ أنّه سخط كسرى على بزرجمهر، فحبسه في بيت مظلم و أمر أن يصفّد بالحديد، فبقي أياماً على تلك الحال، فأرسل إليه من يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق و نراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستة أخلاط و عجنتها و استعملتها فهي الّتي ابقتني على ما ترون.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 1، ص 106.

(2). بحار الأنوار، ج 6، ص 169.

(3). بحار الأنوار، ج 68، ص 96.

(4). ميزان الحكمة، ج 2، ص 1563، ح 10118.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 436

قالوا: صف لنا هذه الأخلاط لعلّنا ننتفع بها عند البلوى.

فقال: نعم، أما الخلط الأوّل فالثقة باللَّه عزّ و جلّ.

و أما الثاني: فكلّ مقدّر كائن.

و أما الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتحن.

و أما الرابع: فإذا لم أصبر فما ذا أصنع و لا أعين على نفسي بالجزع.

و أما الخامس: فقد يكون أشدّ ممّا أنا فيه.

و أما السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ما قاله كسرى فأطلقه و أعزّه «1».

علاج الجزع و قلّة الصبر:

اشارة

إن هذا المرض النفسي و الأخلاقي مثل بقية الأمراض الاخرى له طرق للعلاج و نشير إليها فيما يلي:

1- تشخيص المرض

عند ما يتوجه المريض إلى الطبيب الروحاني يقوم هذا الطبيب بالفحص عن علامات المرض الأخلاقي و الروحي من قبيل: الضرب على الرأس و الوجه، عض الأنامل، الصراخ و العويل، سوء الأخلاق و الجفاف في التعامل مع الآخرين، سوء المعاملة مع الزوجة و الأطفال و كذلك الشكوى و عندها يدرك هذا الطبيب وجود مرض الجزع في مثل هذا الشخص و بالتالي يقوم بعلاجه بطرق مختلفة.

2- التفكير بالعواقب السلبية للجزع و قلّة الصبر

إن تفكير المريض بعواقب الجزع الوخيمة و الآثار السلبية لقلّة الصبر له دورٌ مهم في علاج هذا المرض الروحي، و قلما يسمع الإنسان بعواقب هذا المرض الوخيم و لا ينزجر لهذه الحالة و يتصدّى لرفعها من نفسه و إزالتها من أخلاقه.

______________________________

(1). سفينة البحار، مادّة صبر.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 437

أجل، فعند ما يعلم الإنسان أنّ الجزع يذهب بأجره و ثوابه عند اللَّه تعالى من دون أن يحل له أية مشكلة، و كذلك يحطم أعصابه و قواه النفسية و يسلب منه سلامته البدنية و الروحية، و الأسوأ من ذلك انه يوصد أمامه أبواب حلّ المشكلة، لأن الإنسان إذا احتفظ ببرودة أعصابة عند بروز المشكلات و المصائب و تسلط على نفسه فإنّ ذلك من شأنه أن يفتح أمام عقله أبواب الحلّ لذلك المشكل أو على الأقل يقلل من شدّة المصيبة، و لكنَّ الإنسان و بسبب حالة الجزع و الاضطراب و عدم التسلط على الأعصاب و بالتالي عدم تمركز الفكر فإنه لا يجد أمامه نافذة مفتوحة للأمل و الحلّ، بل حتّى لو فتحت له الأبواب و النوافذ ليرى حلًا لهذه المشكلة فإنه و بسبب ما يعيشه من حالة الأضطراب و التوتر لا يرى هذه الأبواب و النوافذ، بخلاف ما إذا هدأ لحظة و ضبط

نفسه لفترة وجيزة و نظر إلى ما حوله فسيجد طريق النجاة و الحلّ أمامه يسيراً.

إن النظر الدقيق إلى هذه الحقائق و التدبر فيها له تأثير مهم في تغير حالة الجزع لدى الإنسان و بالتالي مع تكرارها سينطوي الشخص تحت لواء الصابرين.

3- مطالعة الآيات و الروايات الواردة في هذا الباب

إن مطالعة الآيات و الروايات الشريفة الّتي تتحدث عن أجر الصابرين و ثوابهم و مقامهم عند اللَّه له دور مهم في تقوية عناصر الصبر و الاستقامة في روح الإنسان، و من ذلك ما ورد في الآية الشريفة الّتي تبشر الصابرين بأعظم بشارة و تقول: «وَ بَشّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ اذَا اصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالُوا انَّا للَّهِ وَ انَّا الَيهِ رَاجِعُونَ* اولئِكَ عَلَيْهِم صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم وَ رَحْمَةٌ وَ اولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» «1».

و عبارة «أُولئك هم المهتدون» تتضمن معنىً عميقاً و لها تفاسير مختلفة، و أحدها هو ما ذكر آنفاً من أنّ الصابرين سيجدون حلًا لمشكلاتهم أسرع من الآخرين و تفتح أمامهم أبواب النجاة و الخلاص من الأزمات و البلايا، لأن أحد العوامل الأصلية للجزع هو «ضعف النفس» فكلّما سعى الإنسان في تقوية معنوياته و تكريس عناصر الشد و القوّة في نفسه فإنّ ______________________________

(1) سورة البقرة، الآية 155- 157.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 438

ذلك من شأنه أن يمنحه التوفيق لإزالة عناصر الجزع و قلّة الصبر من نفسه.

4- مطالعة حالات الأنبياء و الأولياء

و أحد الطرق لعلاج حالة الجزع هي مطالعة حالات الأنبياء و الأولياء في دائرة صبرهم و استقامتهم أمام المصائب و البلايا الكثيرة و ما كانوا يتحملونه من أعدائه و أقوامهم، و تذكر هذه الحالات و مطالعتها يلهم الإنسان القوّة في الصمود أمام حجم التحديات المفروضة عليه من الواقع الخارجي و الداخلي.

5- تلقين الاعتماد على النفس في تحمّل الصعاب

و لا ينبغي أن ننسى هذه الحقيقة، و هي أنّ التلقين سواءً كان من طرف الشخص نفسه أو من قبل الآخرين فإنه يشكل عاملًا مؤثراً في إزالة الأخلاق السيئة و الصفات الذميمة من واقع النفس، فلو أنّ الشخص الّذي يعيش قلّة الصبر و الجزع يلقن نفسه كلّ يوم بضرورة أن يتحلّى بالصبر، و كذلك يسعى ممن حوله من افراد الاسرة أو الأصدقاء في تعميق هذا التلقين لديه، فلا شكّ في ظهور آثار الصبر على سلوكياته و حالاته النفسية.

و نختم هذا البحث بدعاء شريف للإمام زين العابدين عليه السلام يقول فيه: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ يَوْمِي هَذَا صَلاحاً وَ اوسَطَهُ فَلاحاً وَ آخِرَهُ نَجاحاً و اعُوذُ بِكَ مِنْ يَومٍ اوَّلُهُ فَزَعُ وَ اوسَطَهُ جَزَعٌ وَ آخِرُهُ وَجَعٌ»

و يستفاد من هذا الحديث أنّ الجزع يورث الإنسان الألم و الوجع، فمضافاً إلى انه لا يزيل همه و ألمه فإنه من شأنه أن يزيده ألماً و همّاً.

الفرق بين الجزع و العواطف المعقولة:

إن قلب الإنسان هو مركز العواطف و الاحساسات الإنسانية، و كلّما فقد الإنسان عزيزاً له فإنه يتألم لذلك و يجري دمع عينه من شّدّة التأثر، و لكن لا ينبغي الخلط بين إظهار التأثر و الحزن مع الجزع و قلّة الصبر، لأن قلب الإنسان يتأثر بالحوادث المؤلمة بطبيعة الحال، و يمكن أن تعكس عينه حالة التأثر هذه و تبكي بسبب ذلك.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 439

و عليه فإنّ البكاء و الحزن على فقد الأحبّة يعد أمراً طبيعياً و إنسانياً.

فالمهم هو أنّ الإنسان لا يسلك في المصيبة في خطّ الجزع و الشكوى و عدم الشكر و يتكلّم بكلمات لا تنسجم مع الإيمان و العبودية للَّه تعالى و الرضا بقضائه، و في هذا المجال نقرأ حديثاً

عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وَ شَقَّ الجُيُوبَ وَ دَعا بِدَعْوَىَ الجَاهِليَّةِ» «1».

و قد ورد في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله انه عند ما توفي ولده إبراهيم عليه السلام بكى النبي صلى الله عليه و آله عليه بحيث جرت دموعه على خديه و صدره الشريف فقالوا: يا رسول اللَّه أنت تنهانا عن البكاء و لكنك تبكي لوفاة إبراهيم؟ فقال «لَيْسَ هَذَا بُكاءً وَانّ هَذِهِ رَحْمَةٌ وَمَن لَم يَرحَمْ لا يُرْحَمُ» «2».

أي هذا نوع من إظهار المحبة و الرحمة الصادرة من العاطفة الإنسانية الّتي يعيشها الإنسان الواقعي.

و قد ورد هذا الموضوع بتفصيلٍ أكثر في كتاب «بحار الأنوار» حيث ذكر المجلسي أنّه عند ما اتَى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ابنه إبراهيم و هو يجود بنفسه فوضعه في حجره فقال له: يا بني أنّي لا أملك لك من اللَّه شيئاً و ذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن: يا رسول اللَّه تبكي أو لم تنه عن البكاء، قال: إنّما نهيت عن النوح عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعم لعب و لهو و مزامير الشيطان و صوت عند مصيبةٍ خمش وجوه و شق جيوب و رنّة شيطان إنّما هذه رحمة، من لا يرحم لا يرحم، لو لا أنّه أمر حقّ و وعد صدق و سبيل باللَّه و أن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزناً أشد من هذا و أنا بك لمحزونون»، «وَإِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ تَبْكِيَ الْعَينُ وَيَدْمَعُ الْقَلْبُ وَلا نَقولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ عَزَّوَجَلَّ» «3».

و أحياناً يمكن أن يفقد الإنسان انضباطه و إلتزامه و يشق جيبه و يخمش وجهه و لكن كلّ ذلك يكون

بالمقدار المعقول و الطبيعي لغرض إيجاد الهيجان العام و تعبئة العواطف ______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 85، ص 93.

(2) أمالي الطوسي، ص 388.

(3) بحار الأنوار، ج 79، ص 90.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 440

و الاحساسات في مقابل الأعداء فإنّ ذلك قد يكون ضرورياً أيضاً و يستثنى من الأصل، إذاً فما ورد من بعض الحالات الاستثنائية لبعض العظماء يكون من هذا الباب.

و نختم هذا الحديث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: «النِّياحَةُ عَمَلُ الجَاهِلَيَّةِ» «1».

و المراد من النياحة هنا ليس إقامة المآتم أو ذكر المصيبة و البكاء على الميت بصورة فردية أو جماعية بل هو إشارة إلى ما كان مرسوماً و متداولًا في زمان الجاهلية بين العرب عند ما كان يفقدون أحد الأحبّة، فإنّهم يدعون نسوة لإقامة النياحة و التحدّث بكلمات لزيادة النوح و البكاء على الميّت، و في الغالب يصفونه بأوصاف كاذبة و مبالغ فيها و قد يعملن على تمزيق ثيابهنَّ فيلطمن وجوههن و يخدشن خدودهن، و بذلك يسعين إلى تثوير عواطف أهل العزاء و تفعيل حرارة المجلس.

نهاية الجزء الثاني:

اللّهمّ! أنت تعلم جيداً بأننا إذا وفقنا لسلوك طريق أوليائك في تهذيب النفس و حسن الأخلاق وصفاء الباطن فانّا نطلب ذلك و نتعشقه من صميم القلب، فزدنا توفيقاً في سلوك هذا الطريق و أعنا في سلوك خطّ الإيمان و التقوى و حسن الأخلاق و الحقنا بجماعة «مَنْ انْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» و اجعلنا من جملة «وَ حَسُنَ اولئكَ رفِيقاً».

(آمين يا ربَّ العالمين)

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 79، ص 103.

الجزء الثالث

الإعراض عن الأخلاق إعراض عن كل شي ء

مقدمة:

في هذا الوقت الذي أكتب فيه هذه المقدمة، يدور الحديث في الأوساط العالمية عن العمليات الإرهابية التي وقعت في أمريكا و أضرارها على ذلك البلد و على جميع العالم، ثم الحديث عن الحملات الانتقامية التي تزمع أمريكا القيام بها ضد أفغانستان و مناطق اخرى.

الجميع يتحدث عن الآثار السياسية و الاقتصادية المترتبة على هذه العمليات الإرهابية المدمّرة على المدى القصير و البعيد، و لكن قلّما نجد من يتحدث عن المعطيات الأخلاقية لهذه الحادثة الفريدة.

واحدى هذه المعطيات هو أنّ أكبر قدرة عالمية يمكنها أن تكون الأضعف بين دول العالم بحيث ينهار رمز عظمتها و شموخها فجأة بواسطة هجوم عدّة أشخاص.

و المعطى الآخر يشير إلى عدم إمكان الاعتماد على شي ء في هذا العالم، حيث يمكن أن تتبدل جميع الحسابات و المعادلات بواسطة حادثة ارهابية قام بها أشخاص معدودون بحيث أذلّت رقاب المقتدرين و فضحت إدعاءات المستكبرين و دوّخت أذهان المدبّرين و استغفلت عقول الحاكمين بحيث لم ينتبهوا إلّا بعد أن انتهى كل شي ء.

و الآخر، أنّ الإنسان المعاصر و بسبب ضعف دعائم الأخلاق الفردية و الاجتماعية يدفع ثمناً باهضاً في حركة الحياة و يرى كل شي ء في خطر المحق و الانهيار.

عند ما ينهار قصر «العدالة» البهيج و تحل محلّه اطلال الظلم و

الجور، و افرازات الأنانية و حبّ الجاه و السلطة لقوى الانحراف و يصل النصل إلى العظم لدى المحرومين و المعدمين و يعيشون الاختناق في هذه الظروف العصيبة.

و عند ما لا تسمح حالات الغرور و التكبر بإدراك الحقائق الموجودة على أرض الواقع من موقع الوضوح في الرؤية بحيث يعجز الإنسان عن إدراك ما يجري حوله من تفاصيل

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 6

الحياة، فانّ مثل هذه الحوادث لا تكون خارج اطار التوقع، الحوادث التي أحدثت اهتزازاً في صرح قوى الاستكبار و الظلم و جعلتهم يعيشون التخبّط و التشنّج لأيّام و شهور عديدة.

ألم يحن الوقت الذي ينكشف لنا أنّ العالم المادي قد وصل إلى طريق مسدود، و لا بدّ له من العودة إلى أجواء المعنويات و الأخلاق الإنسانية ليتسنى لها تجميد عناصر الارهاب من جهة، و اشاعة أجواء الحب و الودّ و الصفاء من جهة اخرى.

إنّ التغافل عن الواقعيات لا يؤدّي إلى زوالها، فما دامت أشكال الظلم و الجور و العدوان و الأنانية موجودة في العالم، فلا بدّ أن نتوقع حدوث مثل هذه الوقائع بل أشدّ منها.

إنّ الحديث في هذا المجال واسع و كثير التفاصيل و التحاليل لا يسعنا استعراضها في هذه المقدمة القصيرة، و الغرض هو الإشارة فقط إلى هذه المسألة لنعيش اليقظة، و لنعلم جميعاً أنّ إصلاح الوضع الخطير في العالم المعاصر لا يجدي فيه القيام بعمليات انتقامية حيث تؤدّي إلى إلقاء الزيت على النار و تفضي إلى زيادة الهجمات الإرهابية، و لإلقاء اللائمة على هذا و ذاك.

لا بدّ أن يتحمل الجميع مسؤوليتهم و يتحركوا من موقع الإذعان لمبادي ء الأخلاق الإنسانية و لزوم تجسيدها في حياة الفرد و المجتمع لنيل الحياة السعيدة و المفعمة بالأمن

و التقدم.

و من هنا نمدّ أيدينا إلى الباري تعالى و نبتهل إليه و نشكره لتوفيقه لإتمام الجزء الثالث و الأخير لكتاب «الأخلاق في القرآن» حيث يمكننا أن نخاطب البشرية من هذا الموقع و نقول:

* هذه هي أخلاقنا الإسلامية!

* هذه هي طريقة حياتنا و معالم مسيرتنا!

* هذا هو دستور النجاة من الأزمات و المشاكل!

قم/ الحوزة العلمية

ناصر مكارم الشيرازي

1380 ه ش

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 7

1

حبّ الجاه

تنويه:

تختلف الميول الإنسانية من شخص إلى آخر فالبعض يحب المال و البعض الآخر يحب الجمال و آخر يحب الكمال، و آخر يطلب المقام و الجاه، أي يطلب الوجاهة، فيجب أن يحترمه الناس و ينحنون له، و يريد أن يشيرون إليه بالبنان و يطلبون منه حوائجهم، و بعبارة أدق يحس بأنّه أرفع شأناً من الباقين، له الكلام الأول و الأخير و إن كان أقل فهماً و درايةً، و يسمى مثل هذا الشخص بالراغب للوصول لأعلى المراتب أو محب الجاه.

هذه الصفة تتوفر في الكبار أكثر منها لدى الشباب و الصغار، و في بعض الأحيان ترافق الإنسان حتى الممات، فتتلاشى كل قواه إلّا حبّ الجاه فهو راسخ في القلب بل يزداد رسوخاً و قوّة كلما امتد العمر في الإنسان.

هذه الرذيلة هي مصدر لكثير من المفاسد و الفردية، فهي تبعد الإنسان عن الخَلق و الخالق، و لأجل الوصول لأهدافه المشؤومة تقحمه في المهالك، و الأنكى من ذلك أنّها تظهر في الغالب بصورة حسنة مثل الاحساس بالمسؤولية و العزم على أداء الواجبات الاجتماعية و لزوم الإرادة الصحيحة و ما شابه ذلك، فقد جاء في الحديث: «آخرُ ما يَخرُجُ مِنْ قُلوبِ الصِّدِّيقِينَ حُبُّ الجاهِ». الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 8

و يبين هذا الحديث خطورة هذهِ

الرذيلة الأخلاقية.

و الجدير بالذكر أنّ هذه الصفة لها صلة وثيقة مع الرياء و التكبر و العُجب و غالباً ما يُشتبه بينها و بين مثيلاتها.

و بهذه الإشارة نعود لنستوحي ما ورد عن عللها و عواقبها في القرآن الكريم:

1- في حادثة السامري التي جاءت في سورة طه في الآيات 85 و 88 و 95 و 96 تبين أنّ حبّ الجاه هو السبب في ضلال السامري و جمع غفير معه من بني اسرائيل حيث قال:

«قالَ فَانَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ ... فَاخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسَى فَنَسِىَ ...

قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ- قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» «1».

2- «وَ اذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَاخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» «2».

«وَ قالَ الَّذْينَ لا يَرْجُونَ لِقائَنا لَوْ لا انْزِلَ عَلَيْنا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنا لَقَد اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً» «3».

3- «وَ نادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قالَ يا قُومِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أ فَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِى هُوَ مَهْينٌ وَ لا يَكادُ يُبِيْنُ» «4».

4- «قالَ إِنَّما اوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ... فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذينَ يُرْيدُونَ الْحَيوةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما اوتِيَ قارُونَ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «5».

5- «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهاً غَيْري لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» «6».

______________________________

(1). سورة طه، الآيات 85 و 88 و 95 و 96.

(2). سورة البقرة، الآية 55.

(3). سورة الفرقان، الآية 21.

(4). سورة الزخرف، الآية 51 و 52.

(5).

سورة القصص، الآية 78 و 79.

(6). سورة الشعراء، الآية 29.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 9

6- «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّماءِ وَ لَنْ نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلُ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» «1».

«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذيْنَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ» «2».

تفسير و استنتاج:

ذم طُلاب الجاه

كما أشرنا سابقاً أنّ حبّ الجاه يعني التعلق الشديد بالمكانة و المنزلة الاجتماعية و السعي لنيلها بأي صورة كانت، و هو من الرذائل الخطيرة التي لا تؤثر على الجوانب الروحية للانسان فحسب بل تجعل الشخص منبوذاً اجتماعياً، و يعيش العزلة القاتلة.

و لقد رأينا على مدى تاريخ الأنبياء عليهم السلام و الأقوام السالفة، كم كانت هذه الرذيلة منتشرة و متفشية فيهم، بحيث تحدث عنها القرآن الكريم في أكثر من آية و سورة.

و تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كثيراً من الرذائل لها مفاهيم مشتركة، و كما يقول المثل وجهان لسكة واحدةٍ، بحيث يمكن أن يصدر فعل قبيح من الإنسان يكون مصداقاً لعدّة صفات رذيلة، و قد نزلت في مثل ذلك آيات من القرآن الكريم تعكس هذا المعنى لبعض الرذائل كالتكبر و الغرور و الأنانية و العجب و الرياء و حب الجاه.

و على أية حال، نرى في الآيات الاولى قصة السامري المعروفة لدى الجميع، فللسامري سمعة قبيحة عند بني اسرائيل، و كان محبّاً للجاه بشكل غريب، حيث استغل غياب النبي موسى عليه السلام و ذهابه للقاء ربّه في طور سيناء، فصنع من حلّي بني اسرائيل عجلًا جسداً له خوار، فعند ما كانوا يضعونه في اتجاه الهواء تصدر منه أصواتاً غريبة، أو يقال أنّه جمع مقداراً من التراب الذي كان تحت أقدام جبرائيل عليه السلام أو مركبه الذي

ظهر به عند ما

______________________________

(1). سورة الاسراء، الآية 93.

(2). سورة القصص، الآية 83.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 10

اغرق فرعون و جنوده في اليم، فوضع ذلك التراب داخل العجل الذهبي، و الصوت الذي كان يصدر منه من بركة ذلك التراب. و بعدها دعى السامري الناس لعبادة ذلك العجل و لم يمرّ وقت طويل حتى استجاب له بعضهم و عبدوا العجل و سجدوا له.

و قال اللَّه تعالى في القرآن الكريم: «قالَ فَانَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ».

فرجع موسى غضبان أسفاً إلى قومه و عاتب أخاه هارون عتاباً شديداً، و تبرأ القوم من فعلهم و اتهموا السامري فقال سبحانه و تعالى: «فَاخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسَى فَنَسِىَ ...».

و توجه بعدها موسى عليه السلام إلى السامري: «قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ- قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي».

كان هدف السامري من تلك الفتنة المضلّة هو الوصول إلى الجاه و المنصب و المقام، فعاقبه الباري تعالى بالطرد من المجتمع و الانزواء «قالَ فَاذْهَبْ فَانَّ لَكَ فِي الْحَيوةِ أَنْ تَقُوْلَ لا مِساسَ».

فكان في الشريعة الموسوية و قوانينها الجنائية، أنّ الإنسان، إذا ما أذنب ذنباً كبيراً، ينظر إليه و كأنّه رجس خبيث نجس فلا يحق أن يمسّه أحد و لا يمس هو أحداً.

و يقال: إن السامري ابتلي بمرض نفسي و وسواس شديد بحيث كان يخاف من جميع الناس و إذا ما تقرب إليه أحد يصيح و يقول «لا مساس»، نعم فهذا هو جزاء من يحب الجاه و يتلاعب بالدين لأجل أغراضه الدنيوية.

و تتطرق الآيات القرآنية في «الآية الثانية» إلى نوع آخر من حبّ

الجاه و المقام لبني اسرائيل، فقد طلبوا أمراً عجيباً من موسى عليه السلام، فقالوا: «ارنا اللَّه جهرةً» و إلّا لن نؤمن لك أبداً، فأخذتهم الصاعقة، و لو لا لطف الباري تعالى لماتوا إلى الأبد، و فيها قال تعالى في قرآنه الكريم:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 11

«وَ اذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَاخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

و لكن ما هي الصاعقة؟

إنّها رعد و برق ينتج نتيجة اصطدام الغيوم ببعضها، فهي تحمل الكهربائية الموجبة و عند وصولها للأرض تبحث عن الكهربائية السالبة فتتحد معها بدرجة حرارة تصل إلى 15000 مئوية فتحدث صوتاً مهيباً و إذا ما اصابت مكاناً ما فستدمره تدميراً كاملًا.

في قصة بني اسرائيل عند ما وقعت الصاعقة على بني اسرائيل و تجلّى الباري للجبل و جعله دكّاً مات جميع من اختارهم موسى عليه السلام من بني اسرائيل و عددهم (70) نفراً من شدة الخوف و الهلع الذي أصابهم، و بقي موسى على قيد الحياة و لكنه غاب عن الوعي و عند ما أفاق، طلب من الباري تعالى العفو و المغفرة و دعا لهم بالحياة فاستجاب الباري دعاءه و أحياهم و علم هؤلاء القوم المعاندين إلى أنّهم ليسوا بشي ء أمام قدرة الباري تعالى.

أشار القرآن الكريم إلى هذهِ الحادثة في مكان آخر و آية اخرَى فقال:

«يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ».

فيمكن أن يكون ذلك الطلب من التذرع أو من حبّ الجاه أو من الاثنين معاً، و يستمر القرآن الكريم و يقول قد سألوا أكبر من ذلك «1» «فَقَدْ سَئَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ».

فهذه التعبيرات

و ما شابهها تبيّن مدى تغلغل حبّ الجاه و الكبر و الغرور و العناد في قلوب بني اسرائيل، و لذلك كانوا دائماً يتذرعون و يتحججون في كل وقت، و هي نفس الصفات الرذيلة التي نراها عند اليهود في وقتنا الحاضر، و لحد الآن يعتبرون أنفسهم شعب اللَّه المختار، و يفكرون في السيطرة على اقتصاد العالم، مع عدم قدرتهم و كفاءتهم على ذلك.

و لم يكن حبّ الجاه متغلغلًا في قلوب بني اسرائيل فحسب، فالفراعنة و نمرود كانوا

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 153.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 12

أيضاً من مصاديق ذلك، فنقرأ في القسم الثالث من الآيات، أنّ الباري تعالى قال عن فرعون:

«وَ نادَى فِرْعَوْنُ فِي قَومِهِ قالَ يا قُوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أ فَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِنْ هذَآ الَّذي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبينُ فَلَو لا الْقِيَ عَلَيْهِ اسْورَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقتَرِنينَ».

و قد جمع فرعون في هذه الآية عدّة رذائل، الغرور، التكبر، حبّ الجاه و اغفال البُسطاء من الناس، و الغريب في الأمر أنّ فرعون شاهد معجزات النبي موسى عليه السلام بعينه و لكنه أصرّ و استكبر و تمسك بمسألة الطبقة الاجتماعية و الأسورة من الذهب، و لثغة موسى عليه السلام في الكلام (بالرغم من أن اللثغة قد زالت منه بعد البعثة بعد ما طلب موسى ذلك من اللَّه تعالى).

و على أيّة حال فإن فرعون لم يزد قومه إلّا ضلالًا.

و في «الآية الرابعة» من هذه الآيات نواجه قصة «قارون» فهو من النماذج البارزة للأشخاص الذين يعيشون حبّ الجاه عند بني اسرائيل، و هي الصفة القبيحة التي أودت بحياته و أرسلته إلى الحضيض.

فيا

للعجب من الغرور و حبّ الجاه كيف يضع الحجب على بصيرة و فهم الإنسان و يمنعه من درك أكثر الامور بداهةً، فعند ما و عضه بعض بني اسرائيل و قالوا له: بما أنّ اللَّه قد أنعم عليك فابتغ فيما آتاك اللَّه من النعم الدار الآخرة، و لا تنس نصيبك من الدنيا، فكل شي ء آيلٌ إلى الزوال و إيّاك أن تستعمل هذه الأموال للإفساد في الأرض و محاربة الرسول عليه السلام.

فقال ذلك الرجل المغرور في جوابه: «قَالَ اوتيتُهِ عَلى عِلمٍ عِندي ...» قال ذلك و استمر في عناده و جموحه، و لأجل أن يرضي غريزة حبّ الجاه عنده، خرج على قومه بزينة من الخيل و الخدّام و كثرة الغلمان الذين كانوا يجلسون على سرجٍ من ذهب و يلبسون أنواع الحُلي الذهبية.

و قد أخذ مثل ذلك المنظر البرّاق و المخادع بقلوب و عقول بني اسرائيل فقالوا: «قالَ الَّذِينَ يِرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما اؤتِيَ قارُونَ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظيمٍ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 13

و لكن و كما صرّح القرآن الكريم في هذه الآيات فإنّ اللَّه تعالى خسف بقارون الأرض و دفنت كل أمواله و قصوره و الزينة التي كانت عليه و كأن شيئاً لم يكن، لا قارون و لا امواله و لا زينته المبهرة للعقول!!

و عندها انتبه الذين تمنوا مقام قارون، انتبهوا من غفلتهم و رجعوا عن قولهم و استعاذوا باللَّه تعالى من أقوالهم. نعم فإنّ حبّ الجاه و الغفلة و الغرور، تغوي الإنسان و تورثه الغفلة عن أبسط الامور البديهية للحياة، و بما أنّ الإنسان خلق ضعيفاً، فانّ أوهى عنوان أو أمتياز يعرض عليه يغير حياته و يقلبها رأساً على عقب و يفضي

به إلى الهلكة لأنّه سرعان ما يدعي القدرة و الاستقلال، بل يتعداها إلى مقام الالوهية.

و في «الآية الخامسة» من الآيات تتحدث عن فرعون، و تصوّر لنا حبّ الجاه و أعماله الجنونية حيث خاطب موسى عليه السلام قائلًا: «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهاً غَيْري لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» بلا شك، أنّ فرعون بادعائه للربوبية لم يكن من السذاجة بدرجة لا يدرك فيها دعوة موسى عليه السلام المنطلقة من التعريف باللَّه ربّ العالمين، فهو الحاكم على أرض مصر الوسيعة.

و بديهي أن الأنانية و التكبر و حبّه للجاه، لم تكن لتسمح له بقبول الحق و المنطق السليم الصادر من اللَّه تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام.

و هذا هو طريق الطغاة و أفعالهم فدائماً ما يقابلون الحق بالقوّة، و الدليل و البرهان بالسجن!

و لكن عقوبة السجن في مثل هذه المواد لم تكن أداة رادعة في دائرة التصدي لخط الرسالة و النبوة بقيادة موسى عليه السلام الذي ضعضع أركان حكومة فرعون، و لهذا ذكر بعض المفسرين أنّ سجن فرعون لم يكن بالسجن الذي يخرج منه الإنسان حيّاً، فالمسجون فيه يلاقي شتى أنواع العذاب حتى يموت فيه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 14

و يدور الحديث في «الآية السادسة» من هذهِ الآيات، عن مشركي العرب فبدلًا من أن يطلبوا الدليل و البرهان و المعجزة من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله كانوا يتذرعون بأنواع الذرائع من موقع الانكار و الجحود، فتارة يطلبون منه تفجير الينابيع و العيون من الصحاري المقفرة اليابسة و الحارة من أرض الحجاز، و تارة يطلبون جنات من أعناب و نخيل تجري من تحتها الأنهار، و تارة يطلبون انزال الحجارة من السماء و اخرى حضور الباري تعالى و الملائكة و

البيوت من الذهب؟ و بعدها يقولون:

«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّماءِ وَ لَنْ نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلُ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ».

فاولئك بطلباتهم تلك، قد كشفوا عن واقعهم الزائف حيث يعيشون منتهى الكبر و حبّ الجاه الذي ملأ قلوبهم، و اثبتوا أنّ الإنسان عند ما يقع في سلوكه الأخلاقي و الفكري تحت تأثير تلك الصفات الذميمة، فسوف يتحرك بعيداً عن العقل و المنطق.

اختلف المفسرون بأن ما المراد من كلمة (بيت من زخرفٍ)؟

فاحتملوا فيها أمرين: الأول أنّ المراد من الكلمة هو بيت ملي ء بالذهب أو أشياء مصنوعة من الذهب، و الثاني: أنّ المراد هو بيت منقوش بالزخارف الذهبية، و لكن التفسير الأول أوفق لسياق الآية و ذلك بالنظر إلى عبارة (من زخرفٍ).

في «الآية السابعة» و الأخيرة من هذهِ الآيات التي وردت عقيب الحديث عن قارون، صدر أمر إلهي عام فقال:

«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدونَ عُلُوّاً فِى الْارْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ».

نعم فإن عاقبة محبّي الجاه و المستكبرين، نفس عاقبة قارون الذي باع كل شي ء من أجل حبّه للجاه و المقام و عاش مغضوباً عليه، و ختم حياته باللعن الإلهي إلى الأبد.

و يمكن الاستفادة من عطف الفساد على العلو في الأرض في الآية أنّ المتكبرين

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 15

و محبّي الجاه و المقام سيفسدون في الأرض في نهاية المطاف كي يشبعوا عطشهم و غرائزهم، و لن يتوقفوا عند أي جناية يرتكبونها.

و من الجدير بالذكر أنّ الإمام علي عليه السلام عند ما آلت اليه الخلافة كان يخرج بنفسه إلى السوق، فيرشد الضّال و يساعد الضعيف و عند مروره بجانب الباعة و الكسبة كان يقرأ عليهم هذهِ الآية: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ

نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدونَ عُلُوّاً فِى الْارْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ».

و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه عند ما تلا هذه الآية بكى و قال: «ذَهَبَتِ و اللَّهِ الأَمانيُّ عِندَ هذهِ الآيةِ» «1».

و يمكن أن يكون مراد الإمام عليه السلام أنّه بما أنّ الباري تعالى جعل الآخرة للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض و لا يريدون الرئاسة، و هو أمر صعب جدّاً، فسوف لا تبقى امنية للشخص المؤمن في حركة الحياة الدنيوية.

و يستفاد من مجموع الآيات التي ذكرت سابقاً و ما شابهها من الآيات أن طلب الجاه و الرئاسة، و خصوصاً إذا ما اقترن بالكبر و الغرور و العناد فانّه سيفضي بالحياة الإنسانية إلى السقوط، و سوف لا تؤثر على الفرد فقط بل تطال المجتمع ايضاً.

حبّ الجاه في الروايات الإسلامية:

ورد الحديث عن هذه الرذيلة مرّةً تحت عنوان (حبّ الجاه) و مرّة تحت عنوان (حبّ الرئاسة) و اخرى بعنوان «الشرف»، و نختار قسماً من تلك الروايات الكثيرة:

1- الروايات التي تتحدث عن مدى تأثير و تخريب هذهِ الرذيلة في دائرة الدين و المعتقد، بحيث جاء في الحديث النبوي الشريف: «ما ذِئبانِ ضاريانِ ارسِلا فِي زَرِيبَةِ

______________________________

(1). تفسير علي بن ابراهيم الوارد في ذيل الآية الآنفة الذكر.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 16

غَنَمٍ أكثرَ فَساداً فِيها مِنْ حُبِّ المالِ وَ الجاهِ فِي دِينِ الرِّجُلِ المُسلِمِ» «1».

و تأسيساً على ذلك، فإنّ حبّ الجاه و الثروة و عبادة المقام تمثل عناصر خطيرة على مستوى عملية هدم الدين و تخريب الإيمان في أعماق النفس، كما هو الحال في علاقة الذئب و الغنم.

2- و نقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «حُبُّ الجاهِ وَ

المالِ يُنبِتانِ النِّفاقَ فِي القَلبِ كَما يُنبِتُ الماءُ البَقلَ» «2».

3- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «مَنْ طَلَبَ الرِّئاسَةَ هَلَكَ» «3».

4- قد أولت الروايات الإسلامية أهمية كبرى لهذهِ المسألة من موقع التحسس لظهور أبسط العلامات لحبّ الجاه و حذّرت منها، ففي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «إِيّاكُم وَ هَؤلاءِ الرُّؤساءِ الَّذِينَ يَتَرَأسُونَ فَو اللَّهِ ما خَفَقْتِ النِّعالُ خَلفَ رَجُلٍ إلّا هَلَكَ و أَهلَكَ» «4».

و يجب التنوية إلى أن المستضعفين و المحرومين غالباً ما كانوا حفاة الأقدام في ذلك الزمان و النعال مختص بالغني، و من البديهي أنّ هؤلاء لا يتبعون شخصاً في سبيل اللَّه و من أجل الخير!

5- في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و في معرض حديثه عن الجذور الأصلية للذنوب: «أَوّلُ ما عُصِي اللَّهُ تَباركَ وَ تَعالى بِستِّ خِصالٍ حُبِّ الدُّنيا وَ حُبِّ الرِّئاسَةِ وَ حُبِّ الطَّعامِ وَ حُبِّ النِّساءِ وَ حُبِّ النَّومِ وَ الرَّاحَةِ» «5».

6- و عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنّ حُبَّ الشّرفِ وَ الذِّكرِ لا يَكُونانِ فِي قَلبِ الخائِفِ الرَّاهِبِ» «6».

______________________________

(1) ميزان الحكمة، ج 1، ص 492، ح 3034.

(2) المحجة البيضاء، ج 6، ص 112.

(3) اصول الكافي، ج 2، ص 297، ح 2.

(4) المصدر السابق، ح 3.

(5) الخصال، ج 1، ص 330.

(6) اصول الكافي، ج 2، ص 69، ح 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 17

7- و عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «مَنْ طَلَبَ الرِّئاسَةَ بِغيرِ حَقٍّ حُرِمَ الطَّاعَةَ لَهُ بِحَقٍ» «1».

و من ذلك البيان يتبين أنّ حبّ الجاه و المقام يتقاطع دائماً مع الحق، و منه يتبيّن أيضاً أنّ حبّ الرئاسة على نوعين:

الرئاسة بالحق و الرئاسة بالباطل:

نقرأ في بعض الآيات

أنّ «عباد الرحمن» يطلبون من الباري تعالى أن يجعلهم للمتقين إماماً «و اجعَلنا لِلمُتَّقِينَ إِماماً» «2».

و منه يتبيّن أنّ حبّ الرئاسة لا يقع في الدائرة الذميمة دائماً، كما ذكر هذا المعنى العلّامة المجلسي قدس سره في كتابه بحار الأنوار، حيث قسّم الرئاسة إلى نوعين: «رئاسة بالحق» و «رئاسة بالباطل»، بعدها ضرب مثالًا لرئاسة الحق و هو التصدي لمقام الفتوى و التدريس و الوعظ، و يعقب قائلًا: إنّ الذي له الأهلية لذلك و هو عالم بالكتاب و السنة و هدفه هداية الخلق و تعليم الناس، فيجب عليه إمّا عيناً أو كفايةً التصدي لذلك المقام، و لكن الذي لا علم له و لا اطلاع بالمسائل و ليس له هدف إلّا الشهرة و تحصيل المال و المقام، فتلك الرئاسة الباطلة، و هذا هو فعل المبتلين بالصفة الرذيلة و هي حبّ الجاه.

و بعدها نقل عن بعض المحققين أن معنى كلمة «الجاه» هو تملك القلب و التأثير عليه، فحكمها حكم تملك الأموال، كل هذهِ الامور هي من أهداف الحياة، و تنتهي بالموت، و الدنيا مزرعة الآخرة، فالذي يجعل من تلك زاداً له في الآخرة فهو السعيد و المنعم، و الذي يجعل منها وسيلة لإتباع الأهواء فهو الشقيّ الفقير «3».

و في الواقع أنّ الذين يطلبون الرئاسة لأغراض اجتماعية و إنسانية، أو بعبارة اخرَى

______________________________

(1) تحف العقول، ص 237.

(2) سورة الفرقان، الآية 74.

(3) بحار الأنوار، ج 70، ص 147 و ما بعدها (مع التلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 18

يطلبون الجاه للوصول للاهداف الإلهيّة و ليس لحب المقام و الرئاسة بالذات، اولئك في الحقيقة السائرون على خط الإمام علي عليه السلام الذي يقول: «أما وَ الَّذي فَلَقَ الحَبّةَ وَ برَأ النَّسمَةَ لَو لا

حُضُورِ الحاضِرِ وَ قِيامِ الحُجَّةِ بِوجُودِ النَّاصِرِ وَ ما أَخَذَ اللَّهُ عَلَى العُلَماءِ أَ لّا يُقارُّوا عِلى كِظّةِ ظالِمٍ وَ لا سَغبِ مَظلُومٍ لأَلقَيتُ حَبلَها عَلى غَارِبِها وَ لَسَقَيتُ آخِرها بِكأسِ أَولِها» «1».

علامات حبّ الجاه:

يمكن معرفة الأفراد الذين يحبون الجاه و المقام عن طريق حركاتهم و كلماتهم و سلوكهم، فكل ما يفعلوه من خير يرغبون في اظهاره و الإعلان عنه، حتى تكون لهم المنزلة و المقام عند الناس.

و على هذا فالذين يحبّون الجاه يتحرّكون في سلوكهم الأخلاقي نحو الرياء غالباً، لأنّ حبّهم للجاه لا يمكن اشباعه إلّا بالرياء، و لذلك فإنّ بعض كبار علماء الأخلاق، ادرجوا عنوان الرياء و حب الجاه سويةً في كتبهم «2».

و كثير من الذين يحبّون الجاه يحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا و بهذا جاءت الآية الشريفة: «يُحِبُّونَ أَن يُحمَدُوا بِما لَم يَفعَلُوا» «3» فهدفهم الشهرة و الوجاهة و الإشارة إليه بالبنان، عن أي طريق كان، و ليس هدفهم من الوجاهة هو التحرك باتّجاه تفعيل الخير في المجتمع من موقع الإصلاحات الاجتماعية، و لكن الهدف هو مدح الناس و خضوعهم لهم و الإشارة إليهم بالبنان كما قلنا، فهم يسعون للأعمال التي فيها الشهرة و إن كان مردودها قليلًا، و لا يسعون أبداً للأعمال التي لا تحقق لهم الوجاهة و السمعة و إن كانت تلك الأعمال تعود بالنفع الكثير للمجتمع.

محبو الجاه يتوقعون أن يُمدحوا دائماً، و لا يرغبون بالنقد و التأنيب و ينتظرون الاحترام

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 3.

(2). المحجة البيضاء، ج 6، ص 106 و ما بعدها حيث بحثت المسألة بما يقارب المائة صفحة.

(3). سورة آل عمران، الآية 188.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 19

من الجميع في المجالس و غيرها و لا يحبون

أن يجلس أحد في مكان أعلى منهم، أو يقاطعهم في أثناء كلامهم و يجب أن يكون كلامهم هو الكلام الأول و الأخير، و من قدّم إليهم صنوف المدح و آيات الاحترام و التبجيل فهو إنسان شريف و يعترف بالجميل، و من لم يكن كذلك فهو لئيم و ناكر للجميل، و لذلك فإن مثل هؤلاء الأشخاص غالباً ما يكونون منبوذين و مكروهين، و رجوع بعض المحتاجين إليهم هو من باب الإجبار و عدم الحيلة.

مثل هؤلاء الأفراد يعرفون بسرعة، و جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ شِرارَكُم مَن أَحبَّ أن يُوطّأ عَقِبَهُ» «1».

و نقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «مَنْ أَحبَّ أن يُمثّل لَهُ الرِّجالُ فَليَتَبَوءَ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ» «2».

و من العلامات الاخرى لهم، أنّهم يعيشون في حالة الوهم و الشخصية الخيالية الضاربة في أحلام اليقظة، فما لا يحصلونه في عالم الواقع من المنزلة و الجاه و الاحترام يجدونه حاضراً في عالم الوهم و الخيال.

أسباب و مقاصد حبّ الجاه:

في بحث «حبّ الجاه» علّق المرحوم «الفيض الكاشاني» تعليقاً لطيفاً، فقال: «إنّ تعلق الناس بحب الجاه و المقام، أو بعبارة اخرَى أنّ حبّ التسلط على القلوب أقوى من حبّ المال و الثروة، لأنّ الوصول للمال و الثروة يكون عن طريق الجاه، أسهل منه عن طريق المال للجاه، حيث يوجد الكثير من المتمولين لكن لا سيطرة لهم على قلوب الناس، و لكن الذين يستطيعون التأثير على القلوب، يكون تحصيل المال و الثروة أسهل لهم.

ثانياً: الأموال تكون معرضة للتلف و الحفاظ عليها يعدّ أمراً صعباً لكن الذي يملك

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 299، ح 8.

(2). مكارم الأخلاق، ج 1، ص 26.

الاخلاق فى القرآن،

ج 3، ص: 20

القلوب يكون المحافظة عليها أسهل (و إن كانت في هذا الطريق أسهل).

ثالثاً: التسلط على القلوب يزداد يوماً بعد يوم بدون تجشم عناء كبير، و نفس مدح و ثناء الناس كفيل بنشرها، و لكن جمع و زيادة الأموال يحتاج إلى تجشم العناء الكبير» «1».

و لقد ذكر المرحوم الفيض الكاشاني هذا الكلام لبيان ميل الإنسان لحالة «الجاه و المقام»، و لكن إذا دققنا النظر فسنرى أنّه يمكن أن نعتبرها من الدوافع «لحب الجاه»، لانّه عند ما يكون الجاه و المقام سبباً لزيادة الأموال و الوصول إلى جميع الأماني و الأهواء، علاوةً على خضوع الناس و تواضعهم، فمن الطبيعي أن تتوجه الأنظار إليه، بحيث يمكن القول أنّه لا يكاد أن ينجو منه أحد، و إن كان بمرتبةٍ أضعف عند بعض الناس، و قد ورد في كلمات أهل المعرفة و الحكمة أنّه: «آخِرُ ما يَخرُجُ مِنْ قُلُوبِ الصُّدِيقِينَ حُبُّ الجاهِ» «2».

و من الأسباب الاخرى لحبّ الجاه هو «حبّ الذات» المفرط عند الإنسان، حيث يتحرّك الإنسان لارضاء هذا الدافع المترسخ في أعماق النفس بكل وسيلة تمكنه من تحصيل ذلك الغرض، و منها المقام و المنزلة في واقع المجتمع.

و هناك دوافع اخرى لهذه الحالة النفسية مثل الشعور بالحقارة و الدونية، فالأشخاص الذين ذاقوا مرارة الحقارة و عاشوا الإهانة من الآخرين لأي سبب كان فإنّهم يسعون و عن طريق حبّ الجاه و الأماني الكاذبة لتعويض ذلك النقص.

و كذلك الحسد و الحقد و الانتقام يمكنها أن تكون من الأسباب و علل حبّ الجاه، فإنّ من يعيش الحسد تجاه الآخر يتحرّك من موقع طلب الرياسة و المنزلة الاجتماعية ليكون الآخر في موقع أسفل منه في دائرة العلاقات الاجتماعية و يستغل الفرصة لتنفيذ

ما في قلبه من الحسد و الحقد و الانتقام.

و الخلاصة أنّ حبّ الجاه من الرذائل المعقدة التي لها جذور و مشتركات مع كثير من الرذائل الاخرى

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 6، ص 115- 116 مع التلخيص.

(2). بعد التفحص الدقيق لم نعثر على هذهِ الجملة كنص روائي لا في البحار و لا في المستدرك و لا في الوسائل.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 21

علاج حبّ الجاه:

بالنظر للأبحاث التي مرّت بنا في الوقاية أو معالجة الرذائل الأخلاقية اتضح لدينا أصل كلّي و هو أن المبتلين بتلك الرذائل الأخلاقية إذا ما تنبهوا للعواقب السيئة لهذهِ الصفات، فإنّهم في الأغلب الأعم سيفكرون في طرق العلاج لها و تركها.

و هذا الأصل يصدق أيضاً في مورد حب الجاه، فإذا ما انتبه المبتلي بحبّ الجاه الى أنّ هذهِ الرذيلة لا تبعده عن الخالق فحسب بل عن المخلوق ايضاً، فيهرب منه الصديق و يبتعد عنه الناس، و أنّ هذه الصفة ستجرّه للرياء الذي هو من أخطر الذنوب أو ربّما يصبح «كالسامري» و «قارون» اللذان كفرا و عادا نبي اللَّه عليه السلام، و إذا ما علموا أنّ تأثير حبّ الجاه على الإيمان القلبي للإنسان كمثل الذئب الضاري في قطيع الغنم، فلا يسلم دين و إيمان للإنسان في حركة الحياة الروحية و يستبدله بالنفاق الذي ينبت في قلب المحب للجاه كما ينبت الزرع في الأرض السهلة، فإذا علم الإنسان بكل هذه المخاطر و الآثار المخرّبة لهذه الرذيلة فسوف يجدد النظر في سلوكياته و أعماله قطعاً.

و إذا فكر هذا الشخص بعدم ثبات هذهِ الدنيا و التفت إلى قصر العمر و أنّ النعم مواهب مؤقتة و عارية مستردة أو على حد تعبير بعض علماء الأخلاق، أنّ كل الناس شرقاً

و غرباً لو سجدوا للإنسان لمدّة طويلة فلا يلبث أن يموت الساجد و المسجود له، فمن الأكيد أنّه سينتبه من غفلته و يرعوي من سلوكه.

و من الدروس الاخرى النافعة في التخلص من حبّ الجاه و السلطة هو مطالعة أحوال و حياة فرعون و نمرود و قارون و السامري، و نهاية حياتهم المؤسفة، هذا من جهة، و من جهة اخرى فإنّ حب الجاه ناشي ء من ضعف الإيمان خصوصاً الإعتقاد بالتوحيد الأفعالي، فبتقوية دعائم الإيمان في أعماق القلب سيزول حب الجاه، فمن يدرك عظمة اللَّه تعالى، يوقن أنّ العالم بأسره لا يساوي شيئاً في مقابل ذاته المُقدّسة، و أن العزّة و الذلة و العظمة و الحقارة بيد اللَّه تعالى، و الأهم من ذلك كلّه أن القلوب بيد خالقها، فلا يمكن الاعتماد على اقبال الناس و إدبارهم، فإن إقبالهم و إدبارهم لا ثبات فيه مطلقاً و لا يعتمد عليه، فالبعض

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 22

يمثّلهُ بالقِدر فيه ماء وصل الى درجة الغَليان فهو في حالة تَغيّر مستمر، و من يتحرّك في تدبير اموره على ذلك الأساس فَمثله مثل الذي يريد البناء على أمواج البحر، و المراهنة على معطيات رضا الناس و حالة الاعتماد عليهم لا ينتج الضرر الاخروي فقط، بل لا ينسجم حتى مع خط العقل في سلوكياتنا الدنيوية أيضاً.

كل ما ورد هي طرق العلاج من الناحية العلمية، و أمّا من الناحية العملية، فطريقة علاج حب الجاه هو أن يضع الشخص نَفْسَه في حالة يميتُ فيها «حب الجاه»، فمثلًا يجلس في المجالس العامة مع الأفراد العاديين و ليس مع الشخصيات المرموقة، و على مستوى اللباس، يجب أن يتّخذه من النوع المتوسط و كذلك بيته و مركبه و

طعامه و أمثال ذلك.

و يعتقد بعض اعاظم علماء الأخلاق، أنّ أفضل طريقة لقطع حب الجاه هو العزلة عن الناس، بشرط ان لا تكون العزلة بدورها وسيلة لكسب الجاه عند الناس بطريقة غير مباشرة.

و قد كان كثير من المتصوفة و دعاة العرفان، و لأجل كسر حب الجاه في نفوسهم يتصرفون في واقع الممارسة بسلوكيات لا يقبلها الشرع، و العجيب أنّهم كانوا يسمّون مثل هذهِ الذنوب الجلية بالذنوب «الصورية» القابلة للصفح و التسامح، و ينقل المرحوم «الفيض الكاشاني» أنّ أحد الملوك القدماء قرر الذهاب الى زاهد زمانه، و عند ما أحسّ ذلك الزاهد قرب وصول الملك أمر بأن يأتوه بالخبز و الخضروات، و أخذ يأكل بنهمٍ و حرص و يكبر اللّقمة في يده، و عند ما رأى الملك ذلك المنظر، سقط الزاهد من عينه و عاد إدراجه بدون أن يكلمه بشي ء، فقال الزاهد: «الحَمدُ للَّهِ الّذِي صَرَفَكَ عَنّي».

و ينقل عن بعضهم أنّهم كانوا يأخذون بعض الأشربة و يضعونها في آنية ملوّنة كي يتصور الناس أنّهم يشربون الخمر و بذلك يسقطون من أعينهم.

و ينقل أيضاً عن آخر عرف بالزهد بين الناس و أصبح محطّاً للأنظار، فدخل الحمّام يوماً و لبس ثياب شخص آخر تعمداً و وقف في وسط الطريق فعرفه الناس فأخذوه و ضربوه و اخذوا الثياب منه و أعادوها لصاحبها، و قالوا هذا رجل كذّاب و مخادع، و ابتعدوا عنه!!

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 23

بلا شك أن هذهِ الأعمال و ما شابهها قد تكون من الموارد المحرمةً قطعاً و في اخرَى من المكروهات، و لم يبيح الشارع المقدس أبداً أن يضع الإنسان المسلم نفسه في هذهِ المواضع حتى يلوّث سمعته و يسقط من أعين الناس، و كما

أنّ سوء الظن بالناس محرم في الاسلام، فكذلك توفير عوامل سوء الظن هو بدوره من المحرمات.

و عليه يجب أن تكون الطرق في تهذيب الأخلاق مشروعة و مطابقة للموازين الإسلامية و العقلية، و مع وجود الطرق الشرعية لا داعي لسلوك السبل غير المشروعة.

و العجيب في الأمر أن المرحوم «الفيض الكاشاني» عند ما ذكر تلك الامور عقّب قائلًا:

إنّ وضع الشراب المحلل في آنية توهم الناظر بالشرب للمحرم هو محل تأملٍ من الناحية الفقهية و لكن أهل الحب و الهوى يمكن أن يعالجوا أنفسهم بامورٍ لا يفتي بها الفقيه أبداً، و يعتبرونها من طرق إصلاح القلب، فبعد ارتكابهم لتلك الذنوب «الصورية» كانوا يجبرونها بالأعمال الخيريّة، و بعدها يذكر قصة سارق الحمّام «1».

لو كان هذا الكلام من بعض المتصوفة لما كان محلًا للتعجب، و لكن يصدر من فقيه معتبر كالفيض الكاشاني، فهو غير متوقع منه، فالتسلط على أموال الآخرين و لبس ثياب شخص آخر في الحمام هو من الذنوب القطعية، و هو ليس بالذنب الصوري، و ارتكاب الذنب لا يناسب أهل الحب و الهوى و لا يُصلح القلب، علاوة على ذلك فمع وجود الطرق المشروعة فما الداعي للتوسل بتلك الطرق الملتوية؟

و الأقرب للحق أنّ هذا العالم الكبير تأثر بكلمات الغزالي في كتابه «احياء العلوم» فالغزالي لديه كثير من هذهِ الشطحات في دائرة السلوك و الممارسة الصوفية، و لعل قصد المرحوم الفيض الكاشاني هو نقل الكلام عن الغزالي و ليس تأييداً لمثل تلك السلوكيات.

و هناك فرقة «الملامتية» «2» و هي من الفرق الصوفية المعروفة، حيث انتخبوا تلك

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 6، ص 130.

(2). الملامتية، هم طائفة من المتصوفة ظهروا في القرن الثالث الهجري و ما بعده في خراسان، فكانت

عقيدتهم أنّ سوء الظن بالنفس هو من اولى الخُطى للوصول إلى حسن الظن باللَّه تعالى واصل المعرفة، فكانوا يخالفون الصوفية في سلوكهم، و كانوا من حيث المأكل و الملبس لا يختلفون عن الناس في الظاهر و كان سعيهم هو عدم اظهار الخير و عدم اخفاء الشر، حتى لا يقعون بالرياء و حب الجاه بعقيدتهم، فكانوا لا يتورعون عن اظهار قبائح و معايب النفس أمام الملأ، حتى يصبحوا عرضةً للملامة من قبل الناس فيرتدعوا عن الغرور (و كانوا يفعلون الافعال التي يستنكرها كل إنسان) و من يريد التفصيل فليراجع كتاب (جلوه حق) ص 63 و 64.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 24

الطريقة لتخريب سمعتهم و تشويه شخصيتهم أمام الغير، و من المؤكد أنّ الإسلام لا يقرّ مثل هذهِ الأعمال البعيدة عن المنطق و العقل و الشرع، و يريد من الإنسان الوصول للحق عن طريقه المشروع لا غير.

إنّ المرحوم الفيض الكاشاني لم يقرّ أعمال و طرق الملامتية، الذين كانوا يرتكبون الكبائر لكي يسقطوا في أعين الناس، بل حرّمها في أماكن اخرَى من كتابه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 25

2

التبرير و العناد

تنويه:

إنّ حالة التبرير للأخطاء تعتبر من أهم الموانع لدرك الحقيقة، لأنّها السبب في عدم وصول الإنسان للحق بل و تركسه في أو حال الباطل.

و القصد من اسلوب التبرير و العناد، ليس هو الاصرار على مستوى كشف الحقائق و طرح السؤال تلو السؤال، بل إنّ السؤال هو المفتاح لكشف الحقائق، و لكن المقصود هو أنّ الإنسان و بعد انكشاف الحقائق و البراهين، يبقى مصراً على الباطل و يتهرب من الحق بتشبثه بالحجج الواهية و ايراد المغالطات الغير المنطقية.

يمكن أن تظهر هذهِ الرذيلة في فردٍ ما بصورةٍ خاصة، أو تصبح سيرة و

عادة لقوم من الأقوام.

و قد أثبت التاريخ من بين الأقوام السابقة، أنّ قوماً من بني اسرائيل كانوا أكثر عناداً من من غيرهم، و لذلك تطرقت كثير من آيات القرآن الكريم لعنادهم و اصرارهم في خط الزيغ و الخطأ و سنتطرق لبحثها في تفسيرنا للآيات إن شاء اللَّه تعالى.

و يمكن القول أننا نجد هذهِ الرذيلة متمكنة و متجذرة في جميع الأقوام الذين يعيشون الجهل و الانانية حيث لا يتركون أعمالهم القبيحة و لا يقلعون عنها بسهولةٍ.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 26

و على أية حال فانّ هذا الخُلق القبيح من أسوأ الأخلاق الشيطانية، و يمكن القول إنّ أول درس تلقاه المعاندون على مستوى الاصرار على الخطأ كان بواسطة الشيطان، أمّا نتائج و افرازات هذا الخلق الذميم فكبيرة جداً لدرجةٍ أنّ الكثير من الحروب الدامية التي ذهبت بالأنفس و الأموال و دمرت فيها المدن العامرة كانت بفعل هذه الخطيئة.

بهذهِ الإشارة نعود للقرآن الكريم و الروايات الإسلامية و نستعرض العوامل المسببة لهذا الخُلق القبيح و آثاره الضارّة و طرق علاجه:

1- «وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجّوا فِى طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «1».

2- «امَّنْ هذَا الّذِي يَرْزُقُكُم إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ» «2».

3- «قالَ أَنْظِرنِى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنّكَ مِنْ المُنْظَرينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ» «3».

4- «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إِلّا فراراً* وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا إِسْتِكْباراً» «4».

5- «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ* قالَ أَ فَتَعْبُدونَ مِنْ دوُنِ اللَّهِ

ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ ... قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ» «5».

6- «وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قالُوا أَ تَتَّخذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ ... فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» «6».

7- «وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ

______________________________

(1). سورة المؤمنون، الآية 75.

(2). سورة الملك، الآية 21.

(3). سورة الاعراف، الآية 14- 16.

(4). سورة نوح، الآية 5- 7.

(5). سورة الأنبياء، الآية 64- 68.

(6). سورة البقرة، الآية 67- 71.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 27

تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْنكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «1».

8- «قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا ههُنا قاعِدُونَ» «2».

9- «وَ قالوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» «3».

10- «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِى السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» «4».

تفسير و استنتاج:

«الآية الأولى تتكلم عن الكفّار المعاندين، فإذا ما أنعم اللَّه عليهم و رحمهم و كشف عنهم البلاء لغرض تنبههم لأخطائهم نراهم على العكس يزدادون غروراً، و يصرون على غيّهم و طغيانهم «وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجّوا فِى طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

نعم فإن هذه الفئة التي تتعامل مع الحق و الواقع من موقع العناد و الاصرار على الباطل، مرّة يتهمون الرسول صلى الله عليه و آله بالجنون و تارة يطلبون منه التسليم لكلامهم، و عند ما يرون المعجزات كانوا يصرون و

يستكبرون و ينكرون كل شي ء. فاللَّه تعالى شأنه و لأجل تنبيههم، جعلهم عرضة للبلاء و التمحيص مرّة، و مرّة اخرَى يغدق عليهم من نعمهِ و رحمته، فلم ينفع كل ذلك لا البلاء و التمحيص و لا اغداق النعم، و كل ذلك كان بسبب جهلهم و عنادهم و تعصبهم.

و قال بعض المفسرين: إنّ الطغيان له أشكال مختلفة، طغيان العلم هو التفاخر، و طغيان

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 55- 56.

(2). سورة المائدة، الآية 23.

(3). سورة الزخرف، الآية 49 و 50.

(4). سورة الاسراء، الآية 93.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 28

المال البخل، و طغيان العبادة الرياء، و طغيان النفس اتباع الشهوات «1»، فيصاب الإنسان بكل هذه الامور على أثر اللجاج و العناد.

و تتحرك «الآية الثانية» لتتناول بالبحث المشركين اللجوجين ايضاً الذين لم يكونوا ليسلموا بأية قيمة كانت للمنطق السليم و الواضح للرسول صلى الله عليه و آله، و لا استعداد عندهم لترك آلهتهم المصنوعة بأيديهم.

فيقول القرآن الكريم في هذه الآية: «امَّنْ هذَا الّذِي يَرْزُقُكُم إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ».

كرّر القرآن الكريم هذا القول مراراً للمشركين من أنّ أصنامكم لا فائدة منها، فلا يدفعون عنكم عدوّاً، و لا يرزقونكم، و لا يكلمونكم، و لا ينفعونكم و لا يضرونكم و لا عقل لهم و لا شعور.

و مع ذلك كلّه أي دليل لديهم لعبادة تلك الأصنام؟ و على الرغم من فقدان الدليل الحاسم على سلوكهم المخالف للعقل و الفطرة، استمروا بلجاجةٍ على عبادة الأصنام.

و تتعرض «الآية الثالثة» من هذهِ الآيات إلى أول لجوج و متعصب في مقابل الحق، ألا و هو الشيطان، عند ما تكبّر و طرد من قبل الباري تعالى و فقد مقامه الرفيع و المنزلة التي

كانت لديه بين الملائكة، و قد كان عليه أن يلتفت لخطأه الكبير، و يعود إلى اللَّه تعالى من موقع الندم، و يغسل ذنبه بماء التوبة، و يطفى ء النار التي أججها بدموع الخجل، و لكنه أبى و استكبر و أصرّ على البقاء في دائرة المعصية أكثر و أكثر و لم يكن ذلك إلّا بسبب التكبّر و الحسد و اللجاجة، و قرّر أن ينتقم من آدم عليه السلام و ذرّيته، و يضلّهم بوساوسه، و ليس ليوم أو ساعة أو شهر و لكنه سيستمر إلى نهاية الدنيا، في تكريس الإثم و الخطيئة و عناصر

______________________________

(1). روح البيان، ج 6، ص 98.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 29

الانحراف و الزيغ في كل المجتمعات فلا يسلم من منزلقات البؤس و الفساد لا الكبير و لا الصغير و لا الرجل و لا المرأة.

فطلب من اللَّه تعالى: «قالَ أَنْظِرنِى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنّكَ مِنْ المُنْظَرينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ».

و من المؤكّد أن العمر الطويل له فائدة كبرى لكل شخص يزيد من حسناته، و يصحح أخطاءه، و إذا كان له ماضٍ أسود يبدّله إلى مستقبل سعيد و نوراني، و لكن العمر الطويل للطغاة و الصعاليك و المعاندين على العكس من ذلك فله نتائج عكسية.

و لعل إجابة دعائه بالعمر الطويل من رحمة اللَّه تعالى التي تستوعب الخاطئين، أو ربّما كان تقديراً من اللَّه و جزاءً لعبادته للَّه آلاف السنين، و لعله يعود عن غيّه، لكن هذهِ النعمة عند ما تقع في أيدي الطغاة و الصعاليك و المعاندين فستتحول إلى نقمةٍ عليهم.

و تأتي «الآية الرابعة» لتتحدث عن قوم نوح عليه السلام و عنادهم في مقابل دعوة نبيّهم الرحيم بهم، فدعاهم ليلًا و نهاراً

في الخلاء و الملأ لينجيهم من العذاب، و كلما ألحّ عليهم في قبول دعوة الحق، ازدادوا غيّاً و عناداً.

فاشتكى نوح عليه السلام إلى اللَّه و قال: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إِلّا فراراً* وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا إِسْتِكْباراً».

فأي تعصب و عناد هذا الذي يضع الإنسان اصابعه في آذانه حتى لا يسمع الحق و يلفّ وجهه و يغطيه بثوبه حتى لا يرى من يدعوه إلى الحق و السعادة و الخير، بل يتحرّك بعيداً عنه و يتهرب من مواجهته؟!

فالهروب من الحق له حدود، و لكنهم تعدّوها إلى أبعد شي ء و لم يتخذوا غير طريق المعاندة و التعصب و الاستبداد.

فكيف يجوز للإنسان المريض أن يفرّ من الطبيب، و للغارق في الظلمات أن يتهرب من النور، و للغريق أن يتملّص من المنقذ له؟ إنّه أمر محيرٌ حقّاً، و لكن العناد و اللجاج

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 30

و الاستكبار يقف وراء الكثير من هذا القبيل من السلوكيات الغارقة في الوهم و الزيف.

و لا نجد أحداً من الأنبياء عليهم السلام دعا قومه كما دعا نوح عليه السلام إذ عمّر فيهم 950 سنةً و أكّد عليهم دعوته الإلهية مراراً و تكراراً، و عبارة «الليل و النهار» يمكن أن تكون إشارة إلى مجالسهم العمومية التي كانوا يجلسون فيها بالليل و النهار، فكان يدعوهم إلى اللَّه تعالى في كل وقت، و لم يؤمن له إلّا قليل، و على حد تعبير البعض أنّ معدل من كان يؤمن به من قومه فرد واحد لكل اثني عشرة سنةً.

تعبير: «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ»، هو وضع رؤوس الأصابع في

الآذان لمنع السماع، أو هو إشارة لشدّة موقفهم في الهروب من الحق، و كأنّهم كانوا يريدون أن يدخلوا أصابعهم كلها في الآذان حتى لا يسمعوا الحق.

تعبير: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إِلّا فراراً»، يبين أنّ دعوة نوح النبي عليه السلام كانت لها نتيجةً عكسية عندهم، نعم فإن المشاكسين و المستكبرين يصرون على أفعالهم عند سماعهم للحق، و مثلهم كمثل المزابل عند هطول المطر عليها حيث تزداد عفونة و تشتد رائحتها النتنة.

«الآية الخامسة» تشير إلى عناد قوم ابراهيم عليه السلام من عبدة الأوثان في بابل بعد ما أثبت لهم ابراهيم عليه السلام بدليل قاطع زيف آلهتهم، فحطّم الأصنام كلها إلّا كبيرهم و طلب منهم أن يسألوا الكبير عمّن فعل بآلهتهم تلك الفعلة الشنيعة؟؟

لقد تنبهوا للأمر في واقعهم و لاموا أنفسهم و استيقظوا للحظة، و لو قدّر أن تستمر هذهِ اللحظة لتغير موقفهم من الشرك إلى الإيمان، و لكن عنادهم و لجاجتهم و تعصبهم لم يمنحهم الفرصة للتفكير السليم و تقول الآية: «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ».

فقال إبراهيم عليه السلام: «أَ فَتَعْبُدونَ مِنْ دوُنِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ افٍّ لَكُم وَ لِما تَعبُدُونَ أ فَلا تَعقِلُونَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 31

إذا تجرّد الإنسان من تعصبه و عناده، و رأى بامِّ عينيه أنّ الذي كان يعوّل عليه دائماً في المحن و الصعاب، أصبح لا قيمة له اليوم و تبيّن زيفه بحيث لا يستطيع معرفة من عمل على تخريبه و تحطيمه، أ ليس من الجدير بذلك الشخص أن يستيقظ من نومته تلك و يتحرّك بعيداً عن تلك السلوكيات الغارقة في الزيف و يتجنب هذهِ الخرافات و الاعتقادات السخيفة و يطهر فكره منها؟!

نعم فإن

التعصب و اللجاج يضع حجاباً قوياً على عين و قلب الإنسان فينكر اوضح المسائل.

و اللطيف في الأمر أنّ الآية الاولى ذكرت: «فَرجِعُوا إِلى أَنْفُسِهُم» و هو تعبير حاكي عن الاستيقاظ و الانتباه، و لكن الآية الثانية تقول: «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُوسِهُم» و هو تعبير عن تراجع من موقع الوضوح في الرؤية و بدوافع جاهلية و غير منطقية مترسبة في دوافع النفس.

«الآية السادسة»، تستعرض عناد بني اسرائيل الذي يضرب به المثل ففي، هذه الآية و ما قبلها اشارة إلى قصة القتل المُبهم الذي وقع في قوم بني اسرائيل، و كاد أن يفضي إلى إقتتال الطوائف فيما بينها.

فقال موسى عليه السلام: بأمرٍ من اللَّه سوف نعرّف القاتل، فاذبحوا بقرة و لامسوا بقسم من بدنها ببدن المقتول، فسيقول لكم من هو القاتل.

حيّر هذا الاقتراح العجيب بني اسرائيل، و لكنه في نفس الوقت بعث الأمل في نفوسهم، و حان الوقت لتنفيذ أوامر النبي موسى عليه السلام و انهاء المسألة، و لكن بني اسرائيل و بصورة غريبة أخذوا يستشكلون و يتساءلون من موقع العناد و عدم الرغبة في الامتثال، فمرّة يسألون عن عمرها و مرّة عن لونها و اخرى عن نوعها و عملها، فبأسألتهم تلك ضيّقوا فرصة العثور على مثل هذهِ البقرة لحظة بعد لحظة و بالتالي و بعد عناد كبير و سعرٍ خيالي وجدوا البقرة بتلك الأوصاف المطلوبة، و لو أنّهم لم يسألوا و لم يستشكلوا و ذبحوا أول بقرة وقعت في أيديهم، لأنحلت المشكلة، لأنّه لو كان (المأمور به) مشروطاً بشرائط معينة لوجب البيان

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 32

في مقام الحاجة، و كما يقول الاصوليون: «أن تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيحٌ». و في الحقيقة إنّ هذهِ

الأسئلة و التدقيق في المسألة يدلّ على عدم إيمانهم بحكمة اللَّه تعالى، و الحكيم لا بدّ و أن يبيّن كل ما هو لازم و ضروري من الشرائط و القيود، و لا يحتاج للسؤال، و يمكن أن يكون قصدهم من ذلك هو عدم وجود تلك البقرة حتى يستمروا بمغامراتهم التي يتحرّكون من خلالها في دائرة العناد دوماً في مقابل الإمتثال للحق، فقال القرآن الكريم:

«وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قالُوا أَ تَتَّخذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ».

فتبيّن هذهِ الآيات مدى النزاع الذي حصل بين بني اسرائيل لمعرفة القاتل، و على ذلك كان يتوجب عليهم تنفيذ أوامر موسى عليه السلام بسرعة ليجدوا القاتل، و لكن اللّجاج الذي دخل فيه بنو اسرائيل لم يعطهم الفرصة لانهاء الأمر فسألوا و سألوا حتى صعّب عليهم الباري تعالى الأمر فأصبح البحث عن تلك البقرة أمراً مستعصياً جداً، فهي بقرة، صفراء بالكامل تسرُّ الناظرين، لا فارض و لا بكر عوان بين ذلك، و لا ذلول و تثير الأرض و لا تسقي الحرث مسلّمةً لا شيَةَ فيها، فمن البديهي عدم توفّر مثل هذه الأوصاف في بقرة واحدة إلّا بصعوبةٍ، و لكن كان عليهم أن يدفعوا ثمن لجاجهم و عنادهم، فاضطروا لشرائها بثمنٍ باهظ جدّاً، فذبحوها و ضربوا بعضها ببدن الميت فعادت الحياة إليه باذن اللَّه و دلّهم على قاتله.

«الآية السابعة» أيضاً تتحدث عن بني اسرائيل و عنادهم العجيب حيث أخذوا باطراف موسى عليه السلام و طلبوا من نبيّهم المحال و قالوا: «وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً».

الظاهر أنّهم كانوا يعلمون أنّ اللَّه تعالى ليس بجسمٍ و لا جهة له

و لا مكان، و لكن كلامهم كان بسبب طغيانهم و عتوّهم، و من أجل أن يبيّن اللَّه تعالى جيداً مسألة استحالة رؤيته، و لتأديب اولئك القوم المعاندين أمر بسبعين من رؤوسائهم أن يخرجوا مع موسى عليه السلام للميعاد في جبل الطور، ليتلقوا الجواب على سؤالهم العجيب هناك و ينقلوا ما سيشاهدوه

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 33

لقومهم، و عند وصولهم لجبل الطور، سأل موسى عليه السلام بالنّيابة عنهم أن يتجلّى اللَّه تعالى لهم جهرةً، فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَ لَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي»، فأخرج هذه الفكرة من رأسك الى الأبد.

فصعقت صعقة شديدة ملأت الكون، و زلزل الجبل و تلاشى، و مات ال 70 نفر إلّا موسى عليه السلام فقد فَقَدَ الوعي كما ذكر القرآن في ذيل الآية: «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».

و عند ما استيقظ موسى عليه السلام، طلب من الباري تعالى إعادة الحياة إليهم، لئلا تعود المشاكل بينه و بين بني اسرائيل: «قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّاىَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا» و استجاب اللَّه دعاءه و أعادهم للحياة كما صرّح بها القرآن الكريم فيما بعدها من الآيات «ثُمَّ بَعَثناكُم مِنْ بَعدِ مَوتِكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ».

و يتبيّن ممّا ذكر آنفاً أنّ موسى عليه السلام لم يطلب هذا الأمر من تلقاء نفسه، و لكن نزولًا عند رغبة بني اسرائيل، حتى يُلَقّنوا درساً عملياً و يفهموا ان الذي لا يستطيع أن يشاهد الصاعقة كيف يمكن له أن يرى الباري تعالى شأنه؟

و هو أيضاً عقاباً و تأديباً لهم حتى لا يطلبوا اموراً مستحيلةً.

«الآية الثامنة» من الآيات التي وردت في مقام الحديث عن عناد بني

اسرائيل بعد ما نصرهم اللَّه على عدوّهم و خلّصهم من شر فرعون و جنوده حيث توجهوا نحو الديار المقدسة يعني بيت المقدس، التي كانوا يتمنون الوصول إليها، و عند ما وصلوا على مقربة من الأرض المقدّسة جاءهم الأمر أن ادخلوا هذهِ الأرض و لا تخافوا ممّا سيحدث فيها، و لكنّهم قالوا لموسى عليه السلام: إنّ فيها اناس يسمّون (بالعمالقة) أشداء أقوياء و لن ندخلها حتى يخرجوا منها. فقال لهم بعض المؤمنين من موقع النصيحة و المسئولية بأنّكم إذا دخلتم الباب عليهم فسينصركم اللَّه على العمالقة بفضله و عنايته.

و لكن بني اسرائيل ظلّوا على غيّهم و كما جاء في الآية الكريمة «قالُوا يا مُوسى إِنَّا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 34

لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا ههُنا قاعِدُونَ».

و هنا أيضاً ذاق بنو اسرائيل طعم عنادهم و لجاجتهم، فأخذ اللَّه تعالى النصر عنهم و دخول بيت المقدس أربعين سنةً، و تاهوا في الصحاري القريبة منها، فسمّوا تلك الصحاري بأرض «التيه» التي كانت قسماً من صحاري (سيناء).

و المسألة المهمّة و التي يجب الإشارة اليها هو أن الّلجاج و عدم الانصياع يفضي إلى التعامل مع الباري تعالى من موقع الاهانة و الاستهزاء، حيث قالوا: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا ههُنا قاعِدُونَ»، فالإهانة و الاستهزاء في هذا الكلام يتجليان بكل وضوح، و لكن الجاهل و الأناني و اللجوج لا يعرف منطق أفضل من هذا.

و الواقع أنّ التيه أربعين سنة في تلك الصحاري، كان حكمة و رحمة إلهية، و بهدف تغيير النسل الذي نشأ في مصر، و الذي لم يستطع عمل موسى عليه السلام الثّقافي و الفكري الدؤوب أن يغيّر فيه الكثير، فجاء نسل جديد

نشأ في الصحراء و في وسط المشكلات فحصلت فيه التغييرات الداخلية اللازمة لتحرير الديار المقدسة من الاعداء و إقامة الحكومة الإلهية، و في الحقيقة أن هذهِ العقوبة كانت في الواقع رحمة ربانية و لطف إلهي، و أكثر العقوبات الإلهية هي من هذا القبيل.

في «الآية التاسعة» من الآيات نقرأ حديثاً عن قوم فرعون الذين آتاهم اللَّه تعالى «بتسع آيات» «1» إلهية على مستوى الاعجاز، و لم يكونوا بأقل عنادٍ و اصرار على الانحراف من بني اسرائيل حتى أنّهم قالوا لموسى «وَ قالوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ».

تعبيرات الآية واضحة جدّاً، فكلها تبيّن و تعكس العناد الذي كانوا عليه، فأولها نعتوا موسى عليه السلام بالساحر و مع ذلك يلجأون إليه لكي يخلصهم من البلاء، و تعبير «ربّك» علامة اخرَى على العناد. و تأكيدهم على الإيمان بموسى عليه السلام على فرض انقاذهم من البلاء واضح

______________________________

(1). سورة الاسراء، الآية 101.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 35

من كلمة (إننا لمهتدون) و تعبير (ينكثون) التي وردت بصورة الفعل المضارع تبيّن أنّهم أبرموا العهود و نقضوها مرّات عديدة، و هو دليل على عنادهم أيضاً.

و بالتالي فانّهم ذاقوا عقاب عنادهم و لجاجتهم، حيث اغرقهم الباري تعالى بجميع عدّتهم و عددهم و رؤسائهم في اليمِ «1».

«الآية العاشرة» و الأخيرة من هذه الآيات، ناظرة لعناد المشركين العرب حيث كانوا يصرّون على عنادهم و يتهربون من قبول دعوة الرسول صلى الله عليه و آله و التي كانت مدعمة بالآيات و المعجزات، و لو كان عندهم ذرّة من روح الحب للحقيقة، لقبِلوا احدى تلك المعجزات الكبيرة التي اتَى بها الرسول الاعظم صلى الله عليه

و آله و من جملتها القرآن الكريم المعجزة الخالدة للرسول الكريم صلى الله عليه و آله، و لكنهم كانوا في كل يوم يطلبون معجزةً جديدة، و مع ذلك لا يؤمنون بها أيضاً، إلى أن وصلوا إلى أقصى درجات اللجاجة و العناد، «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِى السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ».

هذا الكلام هو دليل واضح على التعامل مع الموقف من موقع العناد، و فيه أيضاً نقطة مهمّة، ألا و هي أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: إني افعل ما اشاء و متسلط على جميع الكون، لكنّ الحقيقة أنّ المعجزات دائماً تتحقق بأمرٍ إلهي و كيفما يشاء الباري تعالى، لذا نقرأ في آخر الآيات: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا».

و يذكر في شأن النزول أنّ قوماً من مشركي مكّة و على رأسهم (الوليد بن المغيرة و ابو جهل) اجتمعوا عند الكعبة الشريفة و أخذوا يتحدثون عن النبي و كيفية مواجهته، و بالتالي قرّروا أن يذهب أحدهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و يقترح عليه أن يتوجّه إليهم يكلمهم و يكلمونه حول الدين الجديد، فأسرع إليهم الرسول على أمل قبولهم للحق، لكنّه سمع الكلام الآنف الذكر، بالإضافة إلى مجابهتهم له بامور واهية و مهينةً اخرَى.

و من المؤكد أنّهم لو كانوا يطلبون الحق و يريدونه، لتوجب على الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله

______________________________

(1). نظير هذه التعبيرات و بشرح اكبر جاء في سورة الاعراف في الآيات 131- 135.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 36

النزول عند رغبتهم، أو على الأقل تنفيذ إحدى المعجزات، و لكنهم طالما شاهدوا المعجزات من

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لم يذعنوا للحق، اضافة إلى أنّهم بطلبهم هذا اعترفوا إنّهم لن يؤمنوا لرقيّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله في السماء أمام أعينهم حتى ينزل عليهم كتاباً من السماء ليقرؤوه، و لو نزل الرسول صلى الله عليه و آله عند رغبتهم و آتاهم بالمعجزة هذه لما آمنوا، لأنّ سابقة عنادهم و مواقفهم السلبية من الدعوة هي أفضل دليل، فعند ما كانوا يشاهدون المعاجز الباهرة، يقولون هذا من السحر و إنّ الرجل لساحر، و هكذا يجهضون أي أثر للمعجزات في وعيهم بتعاملهم معها بلغة الاتهام الذي ينطلق من موقع العناد.

فتبيّن من مجموع الآيات الآنفة الذكر أنّ مسألة اللّجاج و العناد على مرّ العصور و تاريخ البشر كانت و لا تزال من أهم الموانع في طريق الحق، حيث كان وجود هذه الحالة النفسية السلبية يمثل مشكلة عويصة تمتد في أعماق نفوس المشركين في الأقوام السابقة، و عليه فلو تحرك الإنسان في عملية الوصول إلى الحق و الحقيقة فعليه أن يزيل هذه الصفة الذميمة من محتواه الداخلي و يتخلص منها.

اللجاج و المماراة في الروايات الإسلامية:

أشرنا فيما تقدم إلى الأبحاث المتعلقة بالتعصب و اللجاج، و أوضحنا ما يترتب على هذه الحالة الأخلاقية من خلال الآيات الكريمة، من العواقب الوخيمة الناشئة من التعصب و التقليد الأعمى أمّا في هذا البحث فسنتكلم عن المماراة و اللجاج في دائرة الجدل، أو بتعبير آخر التمسك بمسألة خاطئة لا للتعصب القومي الاعمى، و لكن بسبب تجذّر العناد الطفولي في النفس و الذي قد نشاهده في بعض الأفراد، فلا يسلّمون للحق بل يريدون التهرب منه.

و كما رأينا في الآيات السابقة فان هذهِ الرذيلة الأخلاقية أحرقت فرص السعادة و الحياة الكريمة لكثير

من الأقوام. فوقعوا في مستنقع البؤس و الرذيلة، و نرى في الأحاديث

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 37

الإسلامية ابحاث موسّعة حول هذا الموضوع:

1- في حديث عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله: «الخَيرُ عادَةٌ وَ الشَّرُّ لَجاجةٌ» «1».

2- في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إِيَّاكَ وَ مَذمُومَ اللَّجاجِ فإنّهُ يُثِيرُ الحُرُوبَ» «2».

فتعبير اللجاج المذموم يعني أنّ الإنسان ربّما يصرّ على امور الخير و بصورةٍ منطقية فهو بلا شك أمر محمود و رمز للموفقيّة. و لكن الاصرار على اللجاج المذموم، هو سبب لاستفزاز الآخرين، و المداومة عليه يؤدي إلى التعامل مع الآخرين من موقع العقدة و الخصومة و إثارة الحروب و سفك الدماء.

3- في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام: «جِماعُ الشَّرِّ اللَّجاجُ وَ كَثرَةُ المُمارَاةِ» «3».

و في الواقع أنّ كثيراً من المشكلات و المصائب الاجتماعية لا مصدر لها إلّا هذه الامور، فيقوم البعض بمناقشة الامور بدافع البحث و الجدال و المماراة، و يقوم البعض الآخر و نتيجةً للجهل بالردّ عليهم من هذا المنطلق نفسه، فينشأ النزاع و الصداع دون أن يكون لهم هدف معين على مستوى الكشف عن الحقيقة و تحصيل الواقع، و لو أنّهم سلكوا طريق العقل و التدبر، لاستطاعوا القضاء على كثير من المفاسد الاجتماعية من خلال الحوار المشترك الذي ينطلق من دوافع إنسانية في واقع الإنسان و الحياة.

4- و في حديث آخر عن نفس الإمام الهمام عليه السلام: «خَيرُ الأخلاقِ أَبعَدُها عَنِ اللَّجاجِ» «4».

يستفاد من هذا التعبير أنّ روح اللجاج و المماراة لها علاقة وثيقة بجميع الصفات الرذيلة، فإمّا أن يتأثر بها أو يؤثر بواسطتها.

5- و نقل عنه عليه السلام أيضاً: «لا مَرْكَبَ أجمَحَ مِنَ اللَّجاجِ» «5».

و يستفاد

من هذا الحديث، أنّ اللجاج يؤدي بصاحبه إلى منزلقات سحيقةٍ في حركة

______________________________

(1). سنن ابن ماجه، ح 221؛ ميزان الحكمة، ح 18114.

(2). غرر الحكم.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

(5). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 38

الواقع الأخلاقي للإنسان، فمرة يجرّه الى الكذب، و اخرى إلى التكبر، و ثالثة إلى الخداع و الحيلة، و رابعة إلى الحرب و الجدال كما جاء في الروايات السابقة.

6- جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّ موسى بن عمران عليه السلام عند ما أراد أن يترك استاذه الخضر عليه السلام، طلب منه النصيحة و الموعظة، فقال له: «إِيَّاكَ وَ اللَّجاجَةَ أوْ تَمشِي فِي غَيرِ حاجَةٍ أَو تَضْحكَ مِنْ غَيرِ عَجبٍ وَاذكُرْ خَطِيئَتَكَ وَ إِيَّاكَ وَ خَطايا الناسِ» «1».

في هذا الحديث وضع اللجاج موضع من يمشي بلا هدف و التدخل بما لا يعني الإنسان، و هو دليل على أنّ اللجوج لا يتبع العقل و المنطق بتاتاً.

7- و نختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «مَن لَجَّ وَ تَمادى فَهُوَ رَاكِسٌ الَّذِي رانَ اللَّهُ عَلَى قَلبِهِ وَ صارَتْ دَائِرَةُ السُّوءَ عَلَى رَأسِهِ» «2».

و على أيّة حال فان الأحاديث في ذم هذه الرذيلة كثيرة جدّاً.

و الأحاديث التي أوردناها هي غيض من فيض، و هي تبيّن أنّ هذهِ الرذيلة لا تسلك بصاحبها سوى سبيل البؤس و الدمار و تبعده من الحق و تقربه من الباطل، و تكون عاقبته أليمة و موحشة.

دوافع و عواقب اللجاج و المماراة:

من المعلوم أنّ هذه الصفة الأخلاقية هي من أخلاق الصبيّان، و لكنها قبل كل شي ء تنشأ من الجهل و قصر النظر، فذوا العقول يتحرّكون في حركة الواقع من خلال التدبّر و التفكر الذي ينطلق من موقع المنطق و الدليل،

فإذا ما ثبت لهم بالبرهان المنطقي، أنّ أمراً ما لا يتوافق مع الحقيقة فسرعان ما يتركونه و يقلعون عنه رغم اعتقادهم به لسنوات متمادية.

و لكن الأفراد الجهّال و القصيري النظر لا يقلعون عن شي ء يعتقدون به و يمثل لديهم مفردة على مستوى المعتقد و الدين، و لا يفيد معهم الدليل و لا المنطق.

______________________________

(1). سفينة البحار، مادة لجّ.

(2). نهج البلاغة، الرسالة 58.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 39

و من الأسباب الاخرى لتكريس حالة اللجاج و العناد هو مواجهة الشخص الذي ارتكب مخالفة معينة باللّوم المفرط و التقريع الزائد عن الحدّ و أمام الملأ العام، فانّ ذلك من شأنه أن يدفعه نحو الاصرار و العناد لإثبات أنّه ليس على خطأ و يتحرّك في مواجهة الآخرين من خلال التمسك برأيه، و بالتدريج يعتقد أنّه على صواب و يبقى على ما هو عليه، و العكس صحيح فإذا ما عومل بلطف و لين و محبّةٍ فسيرتدع و يعود إلى رشده.

و لذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: «الإِفراطُ فِي المَلامَةِ يَشُّبُ نِيرانُ اللَّجاجَةِ» «1».

العامل الثالث لظهور هذه الصفة: هو احساس الإنسان بالحقارة و الدونية، فعقدة الحقارة تمنع الأفراد من الاستماع و الانصياع للآخرين توكيداً لشخصيتهم، فلا يقبلون الكلام المنطقي و يصرّون على سلوكهم و عملهم الباطل.

أما الأفراد الذين لا يعيشون هذه العقدة و يمتازون بشخصية قوية، فلا حاجة لهم إلى هذا السلوك الباطل و سرعان ما يسلّمون للبرهان و المنطق السليم و لا يجدون في أنفسهم حاجة للاصرار على أفعالهم الخاطئة.

ضعف الإرادة و اهتزاز الشخصية يمكن اعتباره عامل رابع للّجاج، و من البديهي أنّ إقلاع الشخص من عادة تعودها لمدّة طويلة ليس بالأمر السهل، و الاعتراف بالخطأ ليس بالأمر

الهيّن أيضاً، و يحتاج إلى قوة الإرادة و الشجاعة، و الأشخاص الذين يعيشون الحرمان من تلك الفضيلتين سيجدون في أنفسهم دوافع لا شعورية لسلوك طريق العناد و اللجاج.

«حبّ الراحة» يمكن أن يكون العامل الخامس، لأن ترك المسير الذي سار عليه الإنسان و لمدّة طويلة ليس بالأمر السهل، و خصوصاً لدى الشخص المنعّم و المحبّ للراحة.

و من اليقين أنّ التحرك على خلاف حالة الاسترخاء الفكري و الكسل النفسي لا يلائم مذاقهم.

فهذه من العوامل التي يمكن الإشارة إليها في دائرة اللجاج و المماراة.

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 74، ص 212.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 40

و أمّا آثارها السلبيّة فليست خافيةً على أحد، فهي تورط الإنسان في مشاكل بعيدة عنه كل البعد، كما تورط بنو اسرائيل بالبقرة من خلال البحث عن التفاصيل الدقيقة في دائرة الطاعة و امتثال الأمر، و ما ترتب من صعوبة البحث عنها و ثمنها الباهض، فقد جاء في الحديث أنّهم جمعوا أموالهم كلها لشرائها، و بعدها جاؤوا لموسى عليه السلام يبكون و يشتكون بأننا قد أ فلسنا و افتقرت قبيلتنا و أصبحنا نستعطي من الناس بسبب العناد، فَرَقَّ لهم النبي موسى عليه السلام و علّمهم دعاءً يعينهم على مشاكلهم «1».

و من افرازات هذه الرذيلة و مردوداتها السلبية على النفس هو الحرمان من فهم الحقائق التي تتولى تهيئة الأرضية لتكامل الإنسان، لأنّ اللجاج لا يعطي الفرصة للإنسان لإصلاح الخطأ و الإذعان للحقائق، و على أثرها لا يستطيع التقدم و الرقي في درجات الكمال.

و الأثر الثالث لهذا الخلق الردي ء، هو العزلة الاجتماعية و ابتعاد الناس عن الشخص الذي يعيش حالة العناد، فالناس عموماً لا يحبّون اللجوج و ينفرون منه، و ليس لديهم استعداد للتعاون معه و الدخول

معه في أجواء حقيقية من التكافل الاجتماعي، لأنّ التعاون الاجتماعي يحتاج للمرونة و السماحة و غض النظر، و هي أمور لا تتوفر في اللجوج.

و فوق هذا و ذاك فمثل هؤلاء الأشخاص المغرورين ينعتون بالجهل و خفّة العقل في المجتمع، و نفس سوء السمعة هذهِ يكون سبباً في عزلتهم و انزوائهم، كما هو معروف في حديث دعائم الكفر عن الإمام علي عليه السلام حيث قال: «وَ مَنْ نازَعَ فِي الرَّأي وَ خاصَمَ شَهُرَ بِالمَثلِ (بالفشل) مِنْ طُولَ اللِّجاجِ» «2».

و خلاصة القول أنّ اللجاج و المماراة يبعد الإنسان عن اللَّه و الناس، بل حتى عن نفسه، و لن تصبح للإنسان مكانةً بين الناس إلّا بترك هذا الخلق السيّ ء.

الفرق بين الإستقامة و اللجاج:

إذا ما اختار الإنسان طريق الخير و مسير الحق و ثبت عليه، فيكون قد عَمِل بأفضل

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 13، ص 272.

(2). بحار الانوار، ج 69، ص 119.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 41

الامور و هي بعينها فضيلة الصبر و الاستقامة و التي تحدثنا عنها سابقاً، و إذا ما اختار الإنسان طريق الباطل و سبيل الانحراف مع عدم المرونة للتغيير بحيث إنّه يعتبر الجميع على خطأ و هو وحده الصحيح، و لا يتحرّك في سبيل تصحيح الخطأ و جبران الزيغ، فيكون قد اختار طريق الّلجاج، و هو من أسوأ الأخلاق.

طريقة العلاج:

بصورة عامّة و كما هو معلوم فإنّ طريق العلاج للإمراض الأخلاقية يتمثل في أمرين:

«الأول»: الطريق العلمي و ذلك من خلال تحليل عواقب تلك الرذيلة الأخلاقية، و من هذا الطرق يمكن للشخص أن يعرف آثارها السلبية، و يعلم أنّها ستبعده من اللَّه تعالى و الناس و تقف عقبة في طريق تكامله و تمنعه من إدراك الحقائق و تعزله عن الناس، و تضع الحجب على القلب، و حينئذٍ يتحرّك هذا الإنسان من موقع الابتعاد عن هذه الرذيلة و يقلع جذورها من نفسه.

اللجاج و المماراة لا ينسجم مع الإيمان كما قال الإمام الصادق عليه السلام: «سِتَّةٌ لا تَكُونُ فِي المُؤمُنِ قِيلَ وَ ما هِي؟ قَالَ العُسرُ وَ النَّكدُ وَ اللّجاجَةُ وَ الكِذبُ وَ الحَسَدُ وَ البَغي» «1».

و «الطريق الآخر» لمحاربة تلك الرذيلة هو الحلّ العملي و التصدي لها في ميدان الممارسة و العمل، فعند ما يرى نفسه قد توفّرت على عناصر و مقدمات ظهور الرذيلة في دائرة الحوار و النقاش، فعليه أن يُسلّم فوراً للحق و يشكر المتحدث، و إذا ما عاند و شاكس فليعتذر، و لا يعيد

الكلام من لجاجةٍ أبداً، و إذا ما تكلم سهواً فليسكت و يستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم، و بتكرار هذا البرنامج العملي ستنكسر حدة اللجاج في نفسه و تندثر.

ثم عليه أن يبتعد عن الأفراد اللّجوجين، و لا يترك الجدال و البحث أو المِراء، و ليقرأ عن العظماء كيف كانوا يقبلون الحق و لو من الصغير أو العبيد أو تلامذتهم، و يجلّوهم و يحترمونهم لأنّهم قالوا الحق.

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 64، ص 301، ح 29.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 42

و بما أنّ من آثارها المباشرة هو الرياء و الجهل فكلّما استطاع الإنسان أن يكسِر شوكة هاتين الصفتين في نفسه فستقل لجاجته، و ليتذكر حالات الأقوام السابقة و كفرهم و مقابلتهم للأنبياء و اختيارهم الكفر على الإيمان و استحقاقهم العذاب الإلهي لا لشي ء إلّا لأنّهم لجّوا في باطلهم و أصروا على زيفهم، و لئلا يصاب بما أصاب اولئك القوم من قبل، و كيف أن بني اسرائيل باعوا كل ما لديهم ليشتروا تلك البقرة بحيث أفضى بهم إلى الاستجداء و ذهبوا لموسى عليه السلام ليساعدهم في التخلص من هذه الورطة، فعلمهم دعاء يعينهم على دنياهم «1»، و كل ذلك كان بسبب لجّتهم و عنادهم.

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 13، ص 272.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 43

3

الشكر و كفران النعمة

تنويه:

«شكر النعمة» يمكن أن يكون باللسان أو بالعمل، و عليه فإنّ «الكفران» هو عدم الاعتناء بالنعم و تحقيرها و تضييعها، و هو أيضاً من الرذائل الأخلاقية ذات العواقب الوخيمة، سواء كانت على الصعيد الفردي أو الاجتماعي، و الواقع أنّ الشكر يقرّب القلوب و يحكّم المحبّة في المجتمع، و الكفران يقطع أواصر المحبّة و الوئام و يجعل من المجتمع جهنّماً لا يطاق يعيش فيه الانسان

حالات من العداوة و البغض و الحقد!

كفران النعمة مانع كبير أمام تكامل الروح الإنسانية و تهذيبها و السير إلى اللَّه تعالى، حيث يتسبب في ذبول عناصر الخير في الضمير و يطفي ء النور الباطني الممتد في أعماق الوجدان و يلّوث الروح.

و «شكر النعمة» هو قضية فطرية، اودعت في الإنسان لتفتح له آفاق التوحيد و معرفة اللَّه تعالى، و لهذا نجد أنّ كثيراً من علماء العقائد يفتتحون بحوثهم بمسألة «ضرورة معرفة المنعم»، و سيأتي شرحها في المستقبل إن شاء اللَّه تعالى.

بهذه الإشارة نعود للقرآن الكريم لنستعرض فيه الآيات التي تذم حالة الكفران، و تمدح حالة الشكر للنعمة:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 44

1- «وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ» «1».

2- «وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ» «2».

3- «وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ» «3».

4- «وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ» «4».

5- «وَ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً» «5».

6- «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ الْقَرَارُ» «6».

7- «وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» «7».

8- «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ

بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ» «8».

تفسير و استنتاج:

«الآية الاولى» تستعرض كلام النبي موسى عليه السلام مع بني اسرائيل، حيث يذكرهم بأمر

______________________________

(1). سورة ابراهيم، الآية 7.

(2). سورة النمل، الآية 40.

(3). سورة لقمان، الآية 12.

(4). سورة هود، الآية 9 و 10.

(5). سورة الاسراء، الآية 67.

(6). سورة ابراهيم، الآية 28 و 29.

(7). سورة النحل، الآية 112.

(8). سورة السبأ، الآية 15- 17.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 45

إلهي مهم: «وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»، فذكّرهم النبي عليه السلام بقضية الشكر و معطياته و الكفران و آثاره السلبية و ذلك بعد ما انتصروا على فرعون و نالوا الاستقلال و ذاقوا طعم الحرية و العظمة و ظهرت منهم بوادر كفران النعمة.

جملة «لأزيدنّكم» فيها أنواع من التأكيدات، فهي وعد إلهي قطعي للشاكرين، بأنّه سيزيدهم من فضله، و اللطيف في الأمر أنّ اللَّه تعالى لم يخاطب كفّار النعمة بالقول:

«لُاعذّبنكم» بل قال: «إنّ عذابي لشديد» و هو نهاية اللطف و الرحمة في دائرة التعامل المولوي تجاه المخلوقين، و في نفس الوقت تهديد شديد و وعيد مخيف لكفّار النعم بأنّ عليهم أخذ العبرة من قصة بني اسرائيل عند ما كفروا أنعُم اللَّه «فتاهوا» في الصحراء أربعين سنة.

في «الآية الثانية» يدور الحديث عن النبي سليمان عليه السلام و قومه، عند ما اقترح عليهم أن يأتوه بعرش ملكة «سبأ»، فقال له أحد حواريه و كان عنده علم من الكتاب: «أنا آتِيكَ بِهِ قَبلَ أن يَرتدَّ إلَيكَ طَرفُكَ»، فشعر سليمان عليه السلام بالفرح يغمر

نفسه لوجود مثل هذه الشخصيات في بلاطه و لديهم الروحيات و المعنويات القوية، فقرر أن يشكر الخالق تعالى، فقال:

«وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ».

و الجدير بالذكر أنّ ثواب الشاكر ذكر في هذه الآية بوضوح، و لكن عقاب من يكفر بالنعمة ذكر بصورة غير مباشرة «وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ» حيث ركزت الآية على كرم اللَّه تعالى، و هو نهاية رحمة اللَّه و لطفه في دائرة التخاطب مع الإنسان.

و يمكن استفادة نقطة مهمّة اخرى من الجملة الانفة الذكر، و هي أنّ اللَّه تبارك و تعالى يحذّر عباده من الكفر و يدعوهم للشكر لا لحاجة منه إليهم، و حتى على فرض كفران النعمة فإنّه يفيض من كرمه و لطفه على الناس لعلّهم يرجعون عن غيّهم و لا يحرمون أنفسهم من أنعُم اللَّه تعالى.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 46

و أساساً فإنّ الكتب الإلهية تعود بالنفع على العباد أنفسهم، فهي بمثابة دروس لهم، لتربية أنفسهم، فالباري تعالى غنيٌّ بذاته و لا يحتاج إلى أحد، لا لطاعة العباد و لا عصيانهم و لا يضرونه بالعصيان شيئاً.

«الآية الثالثة» تحمل مضمون الآية السابقة حيث تستعرض لنا قصة «لقمان الحكيم»:

«وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ».

الحكمة التي أتاها اللَّه تعالى للقمان تشمل معرفة أسرار الكون و العلم بطرق الهداية و الصلاح، و الطريقة المثلى للحياة الفردية و الاجتماعية، التي جاءت بصورة نصائح لقمان لابنه في سورة لقمان، و هي موهبة إلهية و نعمة روحية أكّد اللَّه تعالى على أهميّتها، كما ذكر في الآية التي قبلها على أحدى النعم المعنوية، حتى لا يغرق الناس في منزلقات النعم المادية و

يتصورون أنّ النعم و المواهب الإلهية تنحصر في الماديّات فقط.

و يجدر هنا الإشارة إلى نقطتين:

«الأولى» إنّ الشكر أتى بصورة الفعل المضارع، و الكفران بصيغة الماضي، و هي إشارة إلى أنّ مسير التكامل و الرقيّ و القرب إلى اللَّه تعالى يحتاج إلى المداومة على الشكر في حين أنّ لحظة من كفران بإمكانها أن تفضي إلى نتائج وخيمة و عواقب مؤلمة.

و «الثاني» إنّ الآية ركّزت على صفتي (الغني الحميد)، بينما كان التركيز في آية النبي سليمان عليه السلام على صفتي (الغني و الكريم) و هذا الفرق يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ اللَّه تعالى غنيٌّ عن شكر المخلوقين، فالملائكة تسبح بحمده و تقدسه على الدوام، و إن كان غنيّاً عنهم أيضاً، و لكن العباد بشكرهم يستوجبون المزيد من النعم عليهم.

«الآية الرابعة» انطلقت للحديث عن الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق و عدم الإيمان و التقوى، فهم يعيشون الكفران للنعمة بكل وجودهم:

«وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 47

بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ».

نحن نعلم أنّ القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الإنسان في واقعه السي ء و يصفه بصفات ذميمة بصورة مطلقة، إنّما يقصد الإنسان المنفصل عن اللَّه في حركة الحياة و من يعيش عدم الإيمان أو ضعف الإيمان، و لهذا ورد في الآية التي جاءت بعد الآيات مورد بحثنا: «إلَّا الّذِينَ صَبَروا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ اولئِكَ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَرَيمٌ».

بهذا الاستثناء يتبيّن أنّ الأفراد الذين يعيشون حالة اليأس من رحمة اللَّه و الغافلين و الكفورين، أفراد لم يصلوا في واقعهم النفسي لمرحلة الإيمان بعد.

و على العموم يمكن أن نستنتج من

الآيات الآنفة الذكر، أنّ الكفران و عدم الشكر تؤدي بالإنسان إلى التلّوث بصفات سيئة اخرى تحرمه المغفرة و الأجر الكبير.

تعبير «لئن أذقنا» تعبير لطيف في الموردين فيقول: إنّ ضعاف النفوس و الإيمان إذا سلبت منهم نعمة من النعم، فسرعان ما يجري على ألسنتهم الكفر و يدب اليأس في قلوبهم، و إن جاءتهم نعمة إذا بهم يغترّون و يتحركون في أجواء الغفلة و الطغيان، و الدنيا هي كلها شي ء صغير و حقير، و ما يصل إلى الإنسان منها أصغر و أحقر، و مع ذلك فإنّهم يتأثرون بسرعة لضعف نفوسهم و ضيق آفاق إيمانهم.

و لكن الإيمان باللَّه تعالى و معرفة ذاته المقدسة اللّامتناهية في القدرة و العلم، تمنح الإنسان عناصر القوة و الحركة و تعينه على مواجهة أكبر الحوادث السيئة و الحسنة دون أن تؤثر في نفسه شيئاً.

و تنطلق «الآية الخامسة» لتشير إلى الأفراد الذين يتوجهون إلى اللَّه تعالى عند وقوع المصيبة و يدعونه و يتوسلون بلطفه بكل وجودهم، و بمجرّد انقشاع سحائب الأزمة ينسون كل شي ء و يكفرون مرّة اخرى:

«وَ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً»

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 48

و طالما جرّبنا هذا الأمر في حياتنا الشخصية و شاهدنا ضعيفي الإيمان عند ما يمحصون بالبلاء، كالمرض و الفقر و المصائب الاخرى، يتوجهون باخلاص للباري تعالى و بمجرّد انكشاف تلك المصائب و عودة المياه إلى مجاريها تراهم يتغيّرون و يسلكون طريق الكفر و الحال أنّ الإنسان في هذه الأحوال أيضاً يجب عليه التوجه و الالتجاء إلى الذات المقدسة أكثر من ذي قبل.

و في تكملة الآية الكريمة يعبّر القرآن الكريم بتعبير جميل جدّاً حيث

يقول: «أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً».

فهنا إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن تكفروا و تتغيّروا فأينما تذهبوا فأنتم تحت سلطته، و بإمكانه أن يعذبكم في أي مكان كنتم فيه سواء في البرّ أو في البحر؟

و يجب التوجه إلى أنّ كلمتي «الخسف» و «الغرق» في هذه الآية لهما مفهوم مترادف فالأولى يراد بها الاختفاء في الأرض، و الثانية الاختفاء في البحر.

«الآية السادسة» من الآيات تتوجه بالخطاب إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و تشرح عاقبة كفران النعم:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ» و بعدها يضيف:

«جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ الْقَرَارُ».

هذه التعبيرات تبيّن أنّ كفران النعم الإلهية، يمكن أن يؤدي بقوم أو بمجتمع بأكمله إلى قعر جهنّم و لا يستبعد نزول العذاب الدنيوي فيها حيث تبدل دنياهم إلى جحيم لا يطاق.

و قد اختلف المفسّرون في المقصود من النعمة في هذه الآية، فبعض قال: إنّها بركة وجود الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله فالعرب المشركون قد كفروا بالنعمة بانكارهم لدعوته و رفضهم الاذعان لرسالته فاحلّوا قومهم دار البوار، و فسّرها البعض الآخر بأهل البيت عليهم السلام حيث كفر بهم البعض أمثال بني امية، و لكن على الظاهر أنّ مفهوم الآية أوسع من هذه الدوائر و الاطر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 49

في مصاديق الآية و يشمل جميع النعم الإلهية، و ما ذكر آنفاً يعدّ من مصاديقها الواضحة، على الرغم من تصريح الآيات التي وردت بعدها بالأشخاص الذين تركوا الإسلام و التوحيد و اختاروا الشرك و عبادة الأصنام، و لكن هذه النماذج تعتبر

أيضاً من مصاديقها البارزة.

و قال البعض الآخر: مثل الفخر الرازي و المرحوم الطبرسي في مجمع البيان، إنّ سبب النزول لهذه الآية ناظر لأهل مكّة الذين أعطاهم اللَّه تعالى أنواع النِعم و أهمها بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من بين ظهرانيهم، و لكنهم لم يقدّروا تلك النعمة و كفروا بها، فأصبحت عاقبتهم أليمة، فكفرهم بنعمة الرسول صلى الله عليه و آله هو نفس كفرهم باللَّه و الرسالة!

و لكننا نعلم أنّ شأن النزول لا يخصص مفهوم الآية بمورد خاص.

و تأتي «الآية السابعة» لتتحدث عن جماعة أنعم اللَّه تعالى عليهم بنعمة ظاهرة و باطنة، نعمة الأمان و الرزق الكثير و النعم المعنوية و الروحية التي نزلت عليهم بواسطة نبيّهم و لكنّهم كفروا تلك النعم فعاقبهم اللَّه تعالى بعقاب الجوع و الخوف:

«وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»

اختلف المفسّرون بأن هذه الآية هل تشير إلى مكان بالخصوص أم إنّها مثال عام كلي، فبعض يعتقد أنّها أرض مكّة، و تعبير «يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ...»، يقوي ذلك الاحتمال، لأنّه ينطبق بالكامل على أحوال و شرائط مكّة، إذ هي أرض جافة و صحراء قاحلة غير ذات زرع و ماء و لكن اللَّه سبحانه قد باركها و أنزل عليها النعم من كل مكان.

و تعبير «كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً» هو قرينة اخرى على أنّها مكّة، فأرض الحجاز غالباً ما كانت أرضاً غير آمنة إلّا مكّة و ذلك ببركة وجود الكعبة الشريفة.

و عند ما وصلت النعم المادية على أهل مكّة إلى الذروة أتمها اللَّه تعالى ببعثة النبي الأكرم صلى الله عليه

و آله، و لكنّهم كفروا النعم الماديّة و المعنوية، فابتلاهم اللَّه تعالى بالقحط و الخوف، و هذا هو مصير من كفر بأنعم اللَّه تعالى.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 50

الاخلاق فى القرآن ج 3 99

و مع ذلك فإنّ مفهوم الآية يمكن أن يكون أعم فيستوعب في مضمونه جميع من يكفر بالنعمة و أرض مكّة هي أحد مصاديق هذه الآية، حيث ورد في الروايات أن القحط و الجوع أخذ منهم مأخذاً كبيراً بحيث كانوا يتغذّون على أجساد الموتى لسدّ جوعهم، و كذلك في الغزوات الإسلامية، حيث أضرّت بهم كثيراً.

«الآية الثامنة» من الآيات، تتطرق إلى قوم من أكفر الناس، و هم (قوم سبأ) حيث حباهم اللَّه تعالى: بأفضل النعم و أحسنها، و لكن غرورهم و غفلتهم و اتباعهم لأهوائهم، أعماهم و أضلّهم، فكفروا، فأخذهم اللَّه بذنوبهم و محق تلك النعم من أيديهم، فقال:

«لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ».

و قد ذكر المفسّرون أنّه على الرغم من أنّ أرض اليمن خصبة و لكن لفقدان الأنهار فيها، كانت أغلب أراضيها بائرة لا يستفاد منها، ففكر القوم ببناء سدّ يمنع السيول القادمة من الجبال، فبنوا عدّة سدود و أهمها (سد مأرب) حيث كان يقف أمام السيول بين جبلي بلق العظيمين، فتجتمع خلفه مياه كثيرة استطاعوا بواسطتها أن يزرعوا و يسقوا به جنائن و بساتين كثيرة قامت على طرفي السدّ، و نشأت حولها القرى و أصبحت مركزاً عظيماً للنشاط التجاري و تجمع الناس، فالقرى كانت متصلة ببعضها بحيث أن ظلال الأشجار كانت متصلة على طول الطريق و وفور تلك النعم كان مقترناً مع الأمان الاجتماعي

و الرفاه الاقتصادي، فكانت حياتهم هانئة جدّاً، اجتمعت فيها كل متطلبات الحياة آنذاك و مثل هذه الأجواء كان من شأنها أن تفضي لإطاعة اللَّه تعالى و التكامل الروحي.

و يستمر القرآن الكريم، فيقول إنّ النعم أصبحت كثيرة جدّاً ممّا حدى بهم لأنّ تتحرك فيهم عناصر الطغيان فنسوا ذكر اللَّه تعالى و أخذوا يتفاخرون و يقسّمون الناس إلى طبقات، و لكنهم بالتالي ذاقوا وبال أعمالهم فأرسل الباري تعالى عليهم سيل العرم:

«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 51

وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ».

و من عجائب هذه القصّة أنّ المفسّرين ذكروا هجوم الجرذان الصحرواية على السدّ فأخذت تنخر فيه من الداخل دون أن يراها الناس المغرورون المشتغلون بالملذّات و كفران النعم، و فجأة أمطرت السماء مطراً شديداً، و تحرّك سيل عظيم و تجمعت المياه خلف السدّ، و لكن جدران السد لم تتحمل كل هذا الضغط، فانهارت و أخذ السيل طريقه للقرى و الأراضي الزراعية، فلم يُبق لها شي ء، لا مزارع و لا أنعام، و تبدل كل شي ء إلى صحراء قاحلة لا ينمو فيها سوى النباتات البرية، ففرت الطيور الجميلة و حلّت محلّها الغربان و البوم، و تفرق الناس إلى الأطراف و أصبحوا من أفقر الناس يأسفون على ماضيهم الجميل، و لكن هيهات، حيث لا تفيد ساعة ندم.

نعم فهذه هي حال الأقوام التي تغفل عن ذكر اللَّه و تكفر بأنعمه.

و الطريف في الأمر أنّ الأثرياء منهم اعترضوا على قرب المسافات بينهم، حيث يستطيع أن يسافر كل أحد لقرب المسافة و وفرة الخير في الطريق، فقالوا: أصبح بإمكان الفقير أن

يسافر معنا أيضاً، فطلبوا من اللَّه تعالى أن يباعد بين أسفارهم حتى لا يستطيع الفقراء السفر معهم أيضاً، نعم فقد وصلوا إلى أعلى مراتب الطغيان، فعاقبهم اللَّه تعالى بأشدّ العقاب، فتفرق جمعهم و أصبحوا مضرباً للأمثال و خصوصاً في الفرقة، فقالوا فيهم: (تفرقوا أيادي سبأ).

من مجموع الآيات محل البحث تتبين خطورة و بشاعة كفران النعم، حيث تناولت الآيات هذه المسألة و آثارها السيئة على الفرد و المجتمع و خاصة ما أحلّ الكفران بالأقوام السابقة من نتائج مدمرة و عواقب مشؤومة في حركة الإنسان و الحياة.

كفران النعم في الروايات الإسلامية:

اشارة

تناولت الروايات الإسلامية هذه المسألة بصورة واسعة و مفصلّة و تكلّمت عن آثار حالة الكفران المشؤومة و أضرارها، و كذلك تناولت بركات الشكر للنعم و المواهب الإلهية، و منها:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 52

1- جاء في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَسرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفرانُ النِّعْمَةِ» «1».

2- و نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «سَبَبُ زَوالِ النِّعَمِ الكُفرانُ» «2».

3- و عنه أيضاً عليه السلام: «كُفرُ النِّعْمَةِ مُزيلُها وَ شُكرُها مُستَدِيمُها» «3».

4- في حديث آخر عنه عليه السلام: «كُفرانُ النِّعَمِ يُزِلُّ القَدَمَ وَ يَسلُبُ النِّعَمَ» «4»

5- و أيضاً عنه عليه السلام: «آفَةُ النِّعَمِ الكُفرانِ» «5».

6- و عنه عليه السلام أيضاً: «كافِرُ النِّعْمَةِ كافِرُ فَضلِ اللَّهِ» «6».

7- و الاستدراج هو أحد عقوبات الباري تعالى و يعني أنّ اللَّه تعالى يغدق على عبده الكافر نعمه ثم يسلبها منه حتى يحس بالألم و العناء الشديدين، و قد جاء في حديث عن الإمام الحسين عليه السلام: «الإِستِدراجُ مِنَ اللَّهِ سُبحانَهُ لِعَبدِهِ أَنْ يُسْبِغَ عَلَيهِ النِّعَمَ وَ يَسلُبَهُ الشُّكرَ» «7».

8- عن الإمام السجاد علي بن

الحسين عليه السلام أنّه قال: «الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيُّرُ النِّعَمَ البَغيُ عَلَى النّاسِ و الزَّوالُ عَنِ العادَةِ فِي الخَيرِ و اصطِناعُ المَعرُوفِ، وَ كُفرانُ النِّعَمِ وَ تَركِ الشُّكْرِ» «8».

9- و في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «كُفرُ النِّعْمَةِ لُؤمٌ وَصُحْبَةُ الأحمَقِ شُؤمٌ» «9».

10- و ختاماً نختم بحثنا بهذا الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام في معرض حديثه عن جنود العقل و جنود الجهل، حيث أمر أصحابه بأن يتعرفوا على جنود العقل و جنود الجهل، و عند ما سأله بعض أصحابه عنه قال: «إنّ اللَّهَ جَعَلَ للِعَقلِ خَمساً وَ سَبعينَ جُندِياً وَ ضِدَّهُ

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 66، ص 70.

(2). غرر الحكم، ج 4، ص 121.

(3). المصدر السابق، 627.

(4). المصدر السابق، ص 630.

(5). بحار الانوار، ج 3، 298.

(6). المصدر السابق، ج 4، ص 634.

(7). المصدر السابق، ج 75، ص 117.

(8). بحار الأنوار، ج 70، ص 375.

(9). غرر الحكم، ج 4، ص 630.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 53

الجَهلُ إلى أن قال- و الشُّكرُ و ضِده الكُفرانُ» «1».

ما ذكر في الروايات العشر السابقة، يبيّن مدى خطورة هذه الرذيلة و آثارها السيئة على مستوى الحياة الفردية و الاجتماعية و كيف أنّ الإنسان ينحدر من أوج الكرامة و ذروة النعمة إلى قعر الذلّة و المسكنة، و تسلب منه التوفيقات الإلهية و يبتعد عن اللَّه تعالى و يقترب من الشيطان.

و هنا يجدر الإشارة إلى عدّة نقاط:

1- معنى كفران النعمة

الكفر يعني في الأصل الإخفاء، و بما أنّ الكافر يسعى في إخفاء و تغطية النعمة، و قيمتها فسمّي عمله بالكفران.

و من البديهي أنّ الكفران مرّة يكون بالقلب و اخرى باللسان و اخرى بالعمل.

ففي قلبه لا يستشعر الإنسان أهمية تلك النعمة، و يصرّح

بلسانه بقلّة النعمة و عدم أهميتها، و في العمل لا يتحرك من موقع الاهتمام بمواهب اللَّه عليه، و بدلًا من أن يستعملها بالخير، يستعملها بالشر و لذلك قال كبار علماء الأخلاق:

«الشُّكْرُ صَرفُ العَبدُ جَمِيعَ ما أَنْعَمَهُ اللَّهُ تَعالى فِي ما خُلِقَ لأجلِهِ».

لذلك فالكفران هو استعمال النعم في غير محلها، فالعين التي وهبها اللَّه تعالى للإنسان ليرى بها طريق الحق و الآيات الإلهية و يشخص بها الطريق السوي من البئر لئلا يقع فيه، فإذا به يستعملها في موارد الحرام، و كذلك اليد و الاذن و غيرها من الجوارح أو المال و الثروة.

و كأنّ هذا الكلام مقتبس من كلام الإمام الصادق عليه السلام، حيث يقول: «شُكرُ النِّعمَةِ إجتِنابُ المَحارمِ» «2».

و بهذا يتبيّن لنا معنى الشكر و عدم الشكر.

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 1، ص 110 مع التلخيص.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 95، ح 10؛ نور الثقلين، ج 2، ص 529.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 54

2- عواقب الكفران

الكفران بالنعمة يفضي إلى نتائج سيئة كثيرة في دائرة الماديات و المعنويات في حياة الإنسان فمن ذلك أنّه يتسبب في زوال النعم، لأنّ الباري تعالى حكيم، لا يعطي شخصاً شيئاً بدون حساب و لا يسلب أحداً شيئاً بلا مبرر، فالذين يكفرون بالمنعم فلسان حالهم يقول:

بأننا لا نليق و لا نستحق هذه النعم، فتوجب الحكمة الإلهية سلب تلك النعم منهم، و الذين يشكرون النعم فلسان حالهم يقول: إننا نستحق تلك النعم الإلهية و زد علينا يا ربّ، مثلًا عند ما يرى الفلاح أنّ في بستانه أشجاراً مورقة أكثر من غيرها فسوف يعتني بها أكثر من غيرها حتى تنمو و تكبر بسرعة و تثمر، و إذا شاهد أشجاراً لا تثمر و لا تورق و

لا ظلّ لها مهما أهتم بها و بذل لها العناية في مجال السقي و التهذيب، فكفران الأشجار للنعمة يدعو الفلاح لعدم الاعتناء بها و تركها لحالها.

و قد ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«مَنْ شَكَرَ النِّعَمَ بِجِنانِهِ استَحَقَّ المَزيدَ قَبْلَ أَن يَظهَرَ عَلَى لِسانِهِ» «1».

و جاء في روايات اخرى نقلت عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه و بمجرّد الحمد و الثناء يصدر الباري تعالى أمره بزيادة النعم على ذلك العبد، فقال: «ما أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبدٍ مِنْ نِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ وَ حَمِدَ اللَّهَ ظاهِراً بِلِسانِهِ فَتَمَّ كَلامُهُ حَتّى يُؤمَرَ لَهُ بِالمَزيدِ» «2».

و بديهي أنّ الكفران يفضي إلى نتائج معاكسة كذلك، و يمكن أن يلطف به اللَّه تعالى و يؤخر عنه سلب النعمة و لكن و على أية حال إذا لم يتنبه الإنسان و بقي على ما هو عليه في دائرة الغفلة و الجحود للنعمة، فستسلب منه بالتأكيد، لأنّ ذلك من لوازم الحكمة الإلهية.

و من جهة اخرى فإنّ الكفران يسبب البعد من اللَّه تعالى و هو الخسران الأكبر، فعظماء علماء الكلام في أول أبحاثهم ذهبوا إلى أن شكر المنعم هو من أول الدوافع لمعرفة الباري تعالى و أنّ شكر المنعم أمر وجداني، فعند ما يرى الإنسان نفسه غارقاً بالنعم الظاهرة

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 2، ص 399.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 95، ح 9.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 55

و الباطنة، و أنّها ليست منه فسيسعى لشكر المنعم من خلال البحث عن مصدر النعمة، و هذا هو الذي يُمهد الطريق لمعرفة اللَّه تعالى، و لكنّ الناكرين لأنعم اللَّه و الذين لا يقدّرون المنعم فسيحرمون من معرفة اللَّه تعالى، بالإضافة إلى ذلك فإنّ عدم شكر

الخالق يفضي بدوره إلى عدم شكر المخلوق، فلا يقيم وزناً لجميل الآخرين و معروفهم، و كأنّه هو الذي له الحق عليهم، ممّا يسبّب نفور الناس منه و كراهيتهم له، و بالتالي سيؤدي إلى العزلة و الانزواء في حركة الواقع الاجتماعي و قلّة الصديق و الناصر في مقابل المشكلات و تحديات الواقع الصعبة.

أسباب و دوافع الكفران و طرق علاجه:

التقصير في الشكر ينشأ من عدم معرفة الإنسان بالمنعم بصورة كاملة، و أساساً فانّه لا يتحرك في طريق التدبّر في النعم الإلهية، فمثلًا عند ما ننظر إلى بدننا و ما فيه من عجائب و دقائق و تفاصيل على مستوى الخلقة فسنتوجه إلى أهمية تلك النعم و يتحرك فينا حسّ الشكر للَّه تعالى.

و على سبيل المثال إذا استطاع البشر أن يصنع مثل الأجهزة الموجودة في الإنسان (مثل القلب و الكبد و الكلية و الرئتين) فستكون قطعاً أقل كيفية من صنع خالقها، و ستكلفه الكثير جدّاً، و على هذا فإذا أردنا حساب قيمة ما يوجد لدينا من أعضاء و جوارح بدنية فسيتبين أنّ لدينا و بحوزتنا ثروة كبيرة جدّاً.

أمّا النعم الخارجية، فيمكن أن تكون جرعة ماء تساوي الدنيا بما فيها، و قد نقل عن بعض العلماء أنّه دخل على أحد الملوك و كان بيد الملك قدح ماء فأراد أن يشرب فتوجه للعالم الكبير و قال له عِظني، فقال له العالم: إذا كنت في يوم من الأيّام عطشاناً لدرجة الموت و جاءوك بالماء بشرط أن تتنازل عن الملك، فهل ستتنازل؟ فقال نعم، فلا حيلة في ذلك.

فقال له: كيف تتعلق بُملك و حكومة تساوي شربة ماء؟

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 56

و يرى الإنسان حيناً آخر مريضاً يصرخ من شدّة الألم بحيث يتمنى الموت على هذا الألم، فلو

اعطيت للإنسان الدنيا بأسرها و هو على ذلك المرض، فلن يقبل بذلك، بل يرضى أن يأخذوا منه كلّ شي ء إلّا العافية.

هناك نعمٌ ظاهرها غير مهم لكنّها إن فقدت فستتعرض حياة الإنسان للخطر، مثل غدد اللّعاب التي ترطب الشفاه و الفم و تلين الأكل و تسهل عملية البلع، فإذا توقفت هذه الغدد في يوم ما فسيجف الفم و يعسر عليه الأكل و يتوقف عن الكلام و تصبح الحياة مستحيلة، فذلك الجزء الصغير من بدن الإنسان أهم بكثير من ثروات الدنيا أجمع.

و كذلك في نعمة الشمس و الهواء و النباتات و المواهب الاخرى العظيمة و على حدّ تعبير القرآن الكريم: «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» «1».

و يجب التنبه أنّ كثيراً من النعم الإلهية لا يتسنى للإنسان معرفتها، لأنّها لن تُسلب منه، فبعض النعم و المواهب تعيش مع الإنسان فاذا سلبت منه عرفها و أقرّ بعظمتها، و بعضها سيبقى في الكتمان و هي كثيرة جدّاً.

مثلًا مسألة الجاذبية فلم يكن أحد يعرف قبل السفر إلى الفضاء و فقدان الجاذبية هناك، كم هي مهمّة هنا على الأرض، إذ لولاها لما استطاع الإنسان أن يفعل شيئاً لا زراعة و لا صناعة و لا حركة، فأقل حركة من الإنسان سيرتطم بالسقف و الجدار و ستتناثر الأطمعة و الأشربة من المائدة و لن يستطيع الإنسان أن يأكل أو يشرب شيئاً، فحركة الأرض تؤدي إلى قدف كل شي ء في الفضاء لو لا الجاذبية و ستتحول الأرض إلى صحراء قاحلة محرقة، فتفكروا إننا لو قضينا العمر في شكر هذه النعمة فهل سنؤدّي شكرها؟

و إذا أضفنا إليها النعم المعنوية و هداية الأنبياء و كلام المعصومين عليهم السلام و نزول الكتب الإلهية، و التي هي

أعلى و أهم من النعم الماديّة، فسنعرف مدى عظمة و قيمة مواهب الرحمن و سنعرف قدرتنا على الشكر كم هي ضعيفة و ضئيلة.

فالتوجه لهذه الامور تقلع جذور الكفران و تحيي فيه روح الشكر.

______________________________

(1). سورة النحل، الآية 18.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 57

و منها نعرف طريقة العلاج، و لذلك قالوا: إنّ أول طريق للشكر هو المعرفة و التفكير بالمواهب و الصنائع الإلهية و أنواع نعمه الظاهرة و الباطنة «1».

الطريقة الاخرى: هي النظر في دائرة النعم و المواهب المادية إلى المستويات الدنيا للناس، فكلما فكّر الإنسان فيها فستبعث فيه روح الشكر، و لكن إذا نظر إلى من هو أعلى منه من حيث الثروة و النعمة فسوف تستولي عليه الوساوس الشيطانية و تؤذيه.

و من جهة ثالثة إذا ابتلي بمصائب الدنيا، فليعلم أنّه يوجد مصائب أكبر من التي اصابته و ليشكر اللَّه أنّه لم يتورط بالأكبر و الأشد منها.

و قد نقل عن شخص أنّه اشتكى عند أحد العظماء أنّ السارق قد أتى و سرق كل شي ء، فقال له: اذهب و اشكر اللَّه تعالى إذ لم يأت الشيطان الى بيتك بدلًا من السارق، فلو أخذ منك إيمانك فما كنت تفعل؟ «2»

و قد ذكر الإمام الصادق عليه السلام في كتاب «التوحيد» المعروف بتوحيد المفضل حقائق توحيدية هامة من موقع تحليل ماهية النعم الإلهية في تفاصيلها الدقيقة و من خلالها ينفتح الإنسان على المنعم الحقيقي.

و من جملتها نعمة الكلام و الكتابة و قد اعتبرها الإمام الصادق عليه السلام عمود الحضارة الإنسانية: و بعد شرح طويل لها قال:

«فَإنّه لَو لَم يَكُن لَهُ لِسان مُهيأ للكَلامِ وَ ذِهن يَهتَدِي بِهِ للُامورِ لَم يَكُن لِيتَكَلَّمَ أَبَداً، وَ لَو لَم يَكُن لَهُ مُهيأةً وَ أَصابِعَ للِكِتابَةِ

لِيَكتُبَ أَبداً، و اعتَبر ذَلِكَ مِنَ البَهائِمِ الّتي لا كَلامَ لَها و لا كِتابَةَ، فَأصلِ ذَلِكَ فَطرَةِ الباري عَزَّ و جَلَّ و ما تَفضل بِهِ عَلَى خَلقِهِ، فَمن شَكَرَ اثِيبَ، وَ مَنْ كَفَرَ فإنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عَنِ العالَمِينَ» «3».

______________________________

(1). معراج السعادة، ص 810.

(2). المحجة البيضاء، ج 7، ص 277.

(3). بحار الانوار، ج 3، ص 82.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 58

الشكر قناة موصلة للنعم الإلهية:

النقطة المقابلة للكفران، هي شكر الإله، و مفهومها تقدير النعم بالقلب و اللسان و العمل، أمّا التي بالقلب فهي معرفة الخالق و التسليم إليه و الرضا بعطائه و ذكر الامور التي تبيّن تقدير و شكر الخالق من قبل المخلوق في مقابل نعمه تبارك و تعالى، أمّا من الناحية العملية فهو وضع النعم و المواهب الإلهية في المكان اللائق و الذي خلقها اللَّه تعالى لأجله.

يقول الراغب في المفردات: الشكر هو بمعنى التصور للنعمة و اظهارها، و قال البعض أن الكلمة في الأصل كانت «كشر» بمعنى الإظهار و الابراز (و الدابة الشكورة) تطلق على الحيوان الذي يواظب و يهتم بالزرع و الماء و تسمن يوماً بعد يوم، و «العين الشكراء» بمعنى العين المليئة بالماء و لذلك فإنّ الشكر بمعنى امتلاء وجود الإنسان من ذكر المنعم للنعم.

و الشكر على نوعين: شكر تكويني و شكر تشريعي، الشكر التكويني هو شكر المخلوق للمواهب و النعم التي بحوزته و تحت تسلطه، لتنمو كالشجر و الورد و الثمرة تكون تحت إشراف الفلّاح الخبير الذي يعرف كيف تثمر الثمار الجيدة، و الكفران هو عدم ظهور أثر للمحافظة و المراقبة فيها من قبل الفلّاح.

لذلك فإنّ الذي يستعمل النعم الإلهية في طريق العصيان فقد كفرها تكوينيّاً.

الشكر التشريعي هو أن يقوم الإنسان بشكر الخالق بالقلب و

اللسان.

و ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان لا يستطيع أن يؤدّي شكر الخالق و نعمه، لأنّ نفس هذا التوفيق للشكر هو نعمة منه تعالى و هو نفسه يحتاج لشكر آخر، و لذلك جاء في رواياتنا الإسلامية أنّ أفضل شكر الإنسان هو أظهار العجز عن شكر اللَّه في مقابل نعمه و المعذرة عن ذلك التقصير، لأنّه لا يستطيع أحد أن يؤدّي ما يستحقه الباري تعالى.

و ذكرنا سابقاً الكثير من مطالب الشكر و ما يقابلها من الكفران، و لتكميل هذا البحث نذكر بعض من الآيات و الروايات عن المعصومين عليهم السلام، و نكتفي بهذا القدر منها:

«وَ مِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» «1».

______________________________

(1). سورة الشورى، الآية 32 و 33.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 59

و شبيه لهذا التعبير جاء في آيات اخرى.

و مرّة يشير إلى العين و السمع و العقل فإنّها أهمّ وسيلة للمعرفة الإنسانية فيقول:

و أمّا القرآن الكريم فقد جعل الصبر و الشكر أحدهما قرين للآخر و هما وسيلتان لتفتح العلم و الإيمان في قلب الإنسان فقال:

«وَ جَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «1».

فالقرآن الكريم أشار في موارد عديدة لوجود هذه الفضيلة (فضيلة الشكر عند الأنبياء العظام)، و أمرهم بالشكر «2» و مرّة يخاطب آل داود:

«اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ» «3».

و يقول في مكان آخر أنّ شرط رضا الباري تعالى هو الشكر: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنْكُمْ وَ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» «4».

الآيات حول الشكر في القرآن الكريم كثيرة و تصل إلى حوالي ال 70 آية، و الجدير بالذكر أنّ صفة

الشكور نسبت للَّه تعالى في سورة النساء الآية 147:

«مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً».

مفهوم الآية يبيّن أنّ الشكر إذا صدر بصورة و معنى حقيقي فإنّ العذاب الإلهي سيرتفع بالكامل، علاوة على أنّ صفة الشكور نسبت للَّه تعالى، فإنّ الشكر هو من الصفات المشتركة مع الباري تعالى، و الفرق أن الإنسان بوضع النعمة في موضعها السليم يكون قد أدّى شكرها، و في المقابل يكون شكر الباري تعالى بزيادة المواهب لعباده.

و جاء في بعض الآيات القرآنية أن التوجه و الانتباه للنعم الإلهية هو السبب في حثّ الإنسان على الشكر و يكون هو الرادع عن الذنوب، و نقرأ في سورة الأعراف في خطابه للاقوام السابقة، الآية 74: «فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

______________________________

(1). سورة النحل، الآية 78.

(2). راجع الآيات، النحل، 212؛ الاسراء، 3؛ لقمان، 12؛ سبأ، 13.

(3). سورة سبأ، الآية 13.

(4). سورة الزمر، الآية 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 60

و في الآية 69 من نفس السورة يقول: «فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

و هذا التعبير صريح بأن الشكر يكون سبباً للفلاح.

خلاصة القول، أنّ أساس كل سعادة و بركة إلهية هو الشكر، لأنّه يقرّب الإنسان يوماً بعد يوم من اللَّه تعالى، ويحكم أواصر المحبّة بين العباد و خالقهم، و هو طريق التقوى و الفلاح.

فلسفة الشكر:

الإنسان المنعم قد يتوقع الشكر من الطرف الآخر، أو ربّما يحتاجه في بعض الأحيان، سواء كان احتياجاً مادياً أو معنوياً، أو لأجل موقعه و مركزه الإجتماعي.

و لكن الباري تعالى، هو الغني عن العالمين، حتى و لو كفر الناس جميعاً، فهو لا يحتاج لشكرهم، و مع ذلك فقد أكد على الشكر، فمثله كمثل باقي العبادات، و نتيجته

تعود على نفس الإنسان، و إذا ما دققنا النظر قليلًا فستتوضح فلسفته.

إذا قدّر الشخص النعم الإلهية سواء كان بالقلب أو اللسان أو بالعمل، فهو يستحق تلك النعمة، و اللَّه سبحانه و تعالى هو الحكيم لا يسلب النعمة من أحد من دون دليل و لا يعطي لأحد من دون دليل، فعند ما يشكر الإنسان النعم فلسان حاله يقول إنني مستحق للنعم، و حكمة الباري لا توجب له النعمة فقط بل تزيده أيضاً.

و لكن لسان حال الكافر يقول: إننّي غير مستحق للنعمة و حكمة الباري تعالى توجب سلب تلك النعمة منه، و إذا شكر يوماً و كفر يوماً، فسيتعامل معه كالتالي:

«ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «1».

و عند ما نقول أنّ الشكر سبب في دوام النعمة فدليله هذا بعينه، و في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: «بِالشُّكرِ تَدُومُ النِّعَمِ» «2».

______________________________

(1). سورة الانفال، الآية 53.

(2). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 61

و في حديث آخر قال: «ثَمَرَةُ الشُّكرِ زِيادَةُ النِّعَمِ» «1».

و علاوة على ذلك عند ما يتم غرس روح الشكر عند الإنسان، فتصل إلى شكر المخلوق، فشكر المخلوق في مقابل ما يؤدّيه من أعمال جيدة، يكون سبباً مؤثراً في حركة المجتمع و تفتح الاستعدادات الخلّاقة و في أعماق الإنسان و بالتالي فسيتحرك المجتمع لشكر الخالق و منه يفتح باب معرفته، فتتعمق العلاقة بين الإنسان و ربّه، و كما أشرنا سابقاً فإنّ أول مسألة تبحث في علم الكلام هي معرفة اللَّه عزّ اسمه، و أهمّ دليل فيها هو مسألة شكر المنعم و التي هي بدورها نابعة من الوجدان أو كما يقال بأنّ: قياساتها معها.

عملية الشكر

بالإضافة إلى أنّها تعرف الواهب، فإنّها تعرف النعم نفسها أيضاً، فالنعمة كلّما إزداد حجمها و كيفيتها، تستدعي شكراً أكبر و أكثر، و لأداء شكر المنعم تكون معرفة النعمة أمراً ضرورياً، و بالتالي تؤدي إلى توثيق الأواصر بين الخالق و عباده و تشغل نيران الحب له في القلوب، و كم استتبعت المواهب المادية، مواهب معنوية أعلى و أسمى!

الشكر في مصادر الحديث

الروايات في هذا المجال لا تعد و لا تحصى، و نختار طائفة منها للقارى ء الكريم:

1- في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأجَرِ كَأَجرِ الصَّائِمِ المُحتَسِبُ و المُعافِى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجرِ كأَجرِ المُبتلى الصَّابِرِ و المُعطى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجرِ كأجر المَحرُومِ القانِعِ» «2».

2- في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«مَكْتُوبٌ فِي التُوراةِ الشُّكرُ مِنَ النِّعَمِ عَلَيكَ، وَ أَنعِم عَلى مَنْ شَكَرَكَ فَإنَّهُ لا زَوالَ لِلنَّعماءِ إِذا شُكِرَتْ وَ لا بَقاءَ لَها إِذا كُفِرَتْ» «3».

3- فيبيّن هذا الحديث أنّ اللَّه تعالى وحده لا يزيد النعم فقط عند الشكر، بل و على

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 94، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 62

الإنسان أن يزيدها عند الشكر أيضاً.

3- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«ثَلاثٌ لا يَضُرُّ مَعَهُنَّ شَي ءٌ، الدُّعاءُ عِندَ الكَربِ، و الاستِغفارُ عِندَ الذَّنْبِ، و الشُّكْرُ عِندَ النِّعمَةِ» «1».

و أهمية الدعاء و الاستغفار في الثقافة الإسلامية معلومة، و مع ما تقدم من الروايات أعلاه تتبيّن أهمية الشكر للإنسان و أنّ أمامه ثلاث حالات لا رابع لها، فإمّا أن يكون قد اصيب بمصيبة، أو وصلته نعمة، فهو خائف بسبب الحفاظ عليها، أو يزلّ و يصدر منه

ما يغضب الربّ، و دواء كل واحد منها ذكر في الروايات، فالمشاكل تزول بالدعاء و الذنوب بالاستغفار، و تثبيت النعم بالشكر، و جاء في هذا المجال حديث عن الإمام عليه السلام: «نِعمَةٌ لا تُشكَرُ كَسَيِّئةٍ لا تُغفَرُ» «2».

4- في حديث آخر عنه عليه السلام أيضاً، أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان في يوم من الأيّام راكباً ناقته و فجأة نزل و سجد خمس سجدات، و عند ما قام و ركب مركبه، قلت له: يا رسول اللَّه رأيت منك اليوم أمراً لم أره من قبل، فقال: «نِعَمٌ إستَقبَلَني جِبرئِيلُ فَبَشَّرنِي بِبشاراتٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَسَجَدتُ للَّهِ شكُراً لِكُلِّ بُشرى «3».

و نستوحي من هذا الحديث أنّ القادة الإلهيين يؤدّون شكر كل نعمة على حدة مهما استطاعوا.

5- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه أمر بشكر جامع و كامل فقال: «إِذا أَصبَحتَ وَ أَمسَيتَ فَقُلْ عَشرَ مَرّات: اللَّهُمَّ ما أَصبَحتْ بِي مِنْ نِعمَةٍ أو عافِيةٍ مِنْ دِينٍ أو دُنيا فَمِنكَ وَحدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمدُ وَ لَكَ الشُّكرُ بِها عَلَيَّ يا ربَّ حَتّى تَرضى وَ بَعدَ الرّضا» «4».

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 94، ح 7.

(2). غرر الحكم.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 98، ح 24.

(4). المصدر السابق، ح 28.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 63

و بعدها قال الإمام الصادق عليه السلام: إنّك إن فعلت ذلك فتكون قد أدّيت شكر النعم التي وافتك في ذلك اليوم.

6- عن أمير المؤمنين عليه السلام في أحاديثه القصار و المليئة بالمعاني الجميلة، فيقول:

«شُكرُ النِّعمَةِ أَمانٌ مِنْ تَحلِيلِها وَ كَفِيلٌ بِتأييدِها» «1».

7- و قال عليه السلام في حديث آخر: «شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَشكُرُ النِّعمَةَ

وَ لا يرعى الحُرُمَةَ» «2».

و الأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً و لا يسعها هذا المختصر و ما ذكر سابقاً هو نزر يسير منها.

الشكر في سيرة المعصومين عليهم السلام:

نحن نعلم أنّ احدى أشكال الحديث، هو فعل و تقرير المعصوم، و كما أنّ قوله يوضّح و يبيّن لنا معالم الدين و معارفه، فكذلك بعمله و سكوته في المواقع و المواضع التربوية المختلفة، سيرسم لنا معالم الطريق الصحيح للأحكام و المعارف و الأخلاق خصوصاً في مجال الشكر، و الأمثلة عليه كثيرة:

1- قال الإمام الباقر عليه السلام: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله عِندَ عائِشة لَيلَتها فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَتعَب نَفسَكَ وَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ما تَقَدمَ مِنْ ذَنبِكَ وَ ما تأَخرَ؟ فَقَالَ: يا عائِشة أَ لا أَكُونَ عَبدَاً شَكُوراً؟» «3».

و منه يتبيّن أن الدافع لعبادة الأولياء هو الشكر، و نقلت هذه الجملة كثيراً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في أحاديثه المختلفة، و هي «أَ فلا أَكُنْ عَبدَاً شَكُوراً».

2- في حديث عن هشام بن الأحمر أنّه قال: «كُنتُ أَسِيرُ مَعَ أَبي الحَسن عليه السلام (الكاظم) فِي بَعضِ أَطرافِ المَدِينةِ إذ ثَنّى رِجلَهُ عَن دابَّتِهِ فَخَرَّ ساجِداً، فَأَطالَ وَ طالَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ

______________________________

(1). غررر الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 95، باب الشكر، ح 6 ..

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 64

وَ رَكَبَ دابَّتَهُ فَقُلتُ: جُعلتُ فداك قَد أَطلتَ السُّجُودَ؟ فَقالَ:

«إنّني ذَكَرتُ نِعمَةً أَنعَمَ اللَّهُ بِها عَلَيّ فأَحبَبتُ أَنْ أَشكُرَ رَبِّي» «1»

و يعلم من هذه الرواية أنّ الأئمّة عليهم السلام، كانوا ملتزمين بأداء الشكر لكل نعمة، و كانوا يوصون مريديهم و محبّيهم بذلك أيضاً، حيث جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام

أنّه قال: «إِذا ذَكَرَ أَحَدُكُم نِعمَةَ اللَّهِ عَزَّ و جَلَّ فَليَضَع خَدَّهُ عَلى التُّرابِ شُكراً للَّهِ، فَإِنْ كانَ راكِباً فَليَنزِل فَليَضَعَ خَدَّهُ عَلَى التُّرابِ، و إِنْ لَم يَكُن يَقدَرُ عَلَى النُّزُولِ للشُّهرَةِ فَليَضَع خَدَّهُ عَلى قَربُوسِه، و إن لَم يَقدر فَليَضَع خَدَّهُ عَلى كَفِّهِ ثُمَّ لِيحمِدَ اللَّهَ عَلى ما أَنعَم عَليهِ» «2».

3- في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه و اسمه أبو بصير: «إِنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيشرَبَ الشِّربَةَ مِنَ الماءِ فَيُوجِبُ اللَّهُ لَهُ بِها الجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيأَخُذ الإِناءَ فَيَضَعهُ عَلى فِيهِ فَيُسمِّي ثُمَّ يَشرَبُ فَيُنَحِّيهِ و هُوَ يَشتَهيهِ، فَيَحمدُ اللَّهَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشرَب، ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيحمُدُ اللَّهَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشرَب، ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيَحمُدُ اللَّه، فَيُوجِبُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَهُ بِها الجَنَّةَ» «3».

كيف يتمّ الشكر:

قلنا في تعريف الشكر أنّه التقدير و عرفان الحرمة سواء كان باللسان أم بالقلب، و الكفر هو التحقير للنعمة، و تضييعها، و عدم الاعتناء بالمنعم لها.

و أهمّ قسم من مراحل الشكر، هو الشكر العملي، و كم يوجد أفراد يشكرون باللسان و لكنهم يخالفون عملًا، و يكفرون بأنعم اللَّه تعالى.

فالمسرفين و المبذّرين و البخلاء و المتفاخرين و الطاغين كل اولئك من مصاديق الجاحدين للنعم الإلهية، و يمشون في طريق كفران النعم، بعكس اولئك الذين ينفقون أموالهم سرّاً و علانية، و يتواضعون للَّه و للناس رغم سعة أموالهم و تراثهم، و لا يريدون تضييع ما آثرهم اللَّه تعالى به من فضله و يضعون الشي ء موضعه، أو كما قال اللَّه تعالى: «فِي أموالِهِم حَقٌّ مَعُلومٌ لِلسَّائِلِ وَ الَمحرُومِ» اولئك المؤدّون شكر النعم حقّها في مقابل المعطي الحقيقي

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 98، ح 26.

(2). المصدر السابق، ح

25.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 96، ح 16.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 65

لها، بل و يستحقون الزيادة، «وَ لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم» و ورد في الروايات الإسلامية اشارات لطيفة لمراحل الشكر الثلاثة.

نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَنْ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِ بِنِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ فَقَد أَدّى شُكرَها» «1».

و من البديهي أنّ معرفة النعمة و أهميتها و قيمتها، يؤدّي إلى معرفة الواهب لها و يحثّ على تأدية شكرها بالعمل و اللسان.

و ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال لأحد أصحابه: «ما أَنعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبدٍ بِنِعمَةٍ صَغُرَتْ أَو كَبُرَتْ فَقَالَ الحَمدُ للَّهِ إلّا أَدّى شُكْرَها» «2».

و من المؤكد أنّ القصد من القول الحمد للَّه ليس هو لقلقة اللسان بل الحمد الحقيقي النابع من القلب و الروح.

و لذلك فإننا نقرأ في حديث ثالث عنه عليه السلام، أنّ أحد أصحابه سأله: «هَلْ لِلشُّكرِ حَدٌّ إِذا فَعَلَهُ العَبدُ كَانَ شاكِراً؟ قَالَ: نَعم، قُلتُ: ما هُوَ؟

قَالَ: يَحَمدُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ نِعمَةٍ عَلَيهِ فِي أَهلٍ وَ مالٍ و إِن كانَ فِيما أَنعَمَ عَلَيهِ فِي مالِهِ حَقٌّ أَداهُ، وَ مِنهُ قَولُهُ عَزَّ وَ جَلَّ: «سُبحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وَ ما كُنّا لَهُ مُقرِنِينَ» ...» «3».

و كذلك في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «شُكرُ العالِمِ عَلى عِلمِهِ، عَمَلُهُ بِهِ وَ بَذْلُهُ لِمُستَحِقِّهِ» «4».

فهذه اشارات للشكر العملي في مقابل النعم الإلهية، و بالطبع إنّ العالم الذي لا يعمل بعلمه، أو يحجب علمه عن الآخرين، فهو عبد لا يؤدّي شكر النعم، و لسان حاله يقول: أنني لا أستحق هذه النعم العظيمة.

و يجب الإشارة إلى أنّ الشكر العملي يختلف باختلاف الأفراد و يتغيّر

شكله من مكان

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 96، ح 15.

(2). المصدر السابق، ح 14.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 96، ح 12.

(4). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 66

إلى مكان، و كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في حديثه القصير القيم، حيث أشار إلى أربع نماذج، فقال:

«شُكرُ إِلهكَ بِطُولِ الثَّناءِ، شُكرُ مَنْ فَوقَكَ بِصِدقِ الولاءِ، شُكرُ نَظِيرَكَ بِحُسنِ الإِخاءِ، شُكرُ مَنْ دُونَكَ بِسَببِ العَطاءِ» «1».

واحدى فروع الشكر العملي، و هو عند ما ينتصر الإنسان على عدوّه، أو بعبارة اخرى العفو عند المقدرة على العدو ما لم يكن خطراً فعلياً، و ليجعل العفو عنه هو علامة لشكر اللَّه تعالى و انتصاره عليه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إِذا قَدَرتَ عَلَى عَدوِّكَ فاجعَلِ العَفوَ عَنهُ شُكراً للقُدرَةِ عَلَيهِ» «2».

كما و تجدر الإشارة إلى أنّ أفضل طرق الشكر العملي للنعم، هو الانفاق منها في سبيل اللَّه تعالى، و قال علي عليه السلام في هذا المجال: «أحسَنُ شُكرِ النِّعَمِ الإنعامُ بِها» «3».

و الطريقة الاخرى لشكر النعم العملي هي العبادة و الدعاء، بل هو و حسب ما جاء في الروايات الإسلامية أفضل دافع للعبادة، و الحال أنّ العبادة لأجل الحصول على الجنّة هي من عبادة التّجار و العبادة خوفاً من النار تعتبر من عبادة العبيد، فإذا كان الدافع للعبادة هو الشكر، فتلك هي عبادة الأحرار، و قال علي عليه السلام: «إِنّ قَوماً عَبَدُوهُ شُكراً فَتِلكَ عِبادَةُ الأَحرارِ» «4».

دوافع الشكر:

يمكننا تقوية روح الشكر و دوافعه، بطرق مختلفة متعددة، و أولها معرفة النعم،

نحن نعلم أنّ اللَّه تعالى قد أغرق الإنسان بنعمه ظاهرة و باطنة و فردية و اجتماعية، و لحسن الحظ فإنّ تقدم العلوم من عجائب و نعم اللَّه المحيطة

بنا، من عجائب صنع الكون

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الحكمة 11.

(3). غرر الحكم.

(4). بحار الانوار، ج 75، ص 69، ح 18.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 67

و العالم إلى عجائب خلقة الإنسان و كل واحدةٍ منها تعتبر نعمة عظيمة كبيرة تستحق الإجلال و الوقوف عندها، فمثلًا الكل يعرف في وقتنا الحاضر جسم الإنسان و تركيبه و أنّه مكوّن من مليارات الخلايا الصغيرة، و هي بدورها لها هيكل و شكل معقد محير للعقول، و كل خليّة منها تعتبر نعمة تستحق الشكر، هذا بالنسبة للخلايا، و أمّا الدم فهو أيضاً يتكون من مكوّنات عديدة أحدها كريّات الدم البيض و التي القي على عاتقها مهمّة الدفاع عن الجسم في مقابل الميكروبات و الأمراض المختلفة التي تهجم عليه نتيجة لتعامل الإنسان مع البيئة التي يعيش فيها، و إذا ما قيل قديماً أنّ كل نفَس يستنشقه الإنسان يتألف من نعمتين و كل نعمة تستحق الشكر، اليوم و في وقتنا الحاضر استحدثت آلاف بل ملايين النعم و كل واحدة منها تستحق الشكر فعلًا و حقاً.

و إذا قال القدماء بأنّ العوامل الأربعة من الشمس و الأرض و المطر و الرياح تلتقي مع بعضها لتولّد لك رغيف الخبز، فنحن اليوم و بسبب تقدّم العلوم نعلم جيداً أنّ العوامل التي تهب لنا رغيف الخبز لا تقتصر على هذه العوامل الأربعة بل هناك ألالاف من العوامل البيئية و البشرية تلتقي لتولّد لنا هذه النعمة و الموهبة الإلهية.

و عليه فانّ دوافع المعرفة التي تتصل من خلال المعرفة تتسع يوماً بعد آخر و تأخذ أبعاداً جديدة و متنوعة، و على هذا الأساس فإنّ استمرار حالة الشكر للنعم الإلهية يحصل و يتعمّق في وجود الإنسان من

خلال التدبّر و دوام التفكّر في هذه النعم الإلهية في حركة الحياة و الواقع.

الدافع الآخر للشكر هو أنّ الإنسان لا بدّ أن ينظر في الموارد الدنيوية إلى ما دونه من الناس ليدرك عظيم نعمة اللَّه عليه و ما حباه من كثير المنّة و ما أعطاه من القابليات و القوى و الإمكانات التي يفتقدها الآخرون لأسباب مختلفة، و في ذلك نقرأ في الحديث الشريف الوارد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لأحد أصحابه المعروفين (حارث الهمداني) يقول:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 68

«وَ أَكثِر أَنْ تَنظُرَ إِلى مَنْ فُضِّلتَ عَلَيهِ فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبوابِ الشُّكرِ» «1»

في حين أنّ الإنسان لو نظر إلى من فوقه من الأشخاص المثرين فإنّ ذلك سوف يتسبب له بتفعيل روح الطمع و عدم الشكر و بالتالي تتحرّك الوساوس الشيطانية في نفسه لتثير فيه حالة الابتعاد عن اللَّه تعالى و نسيان النعمة، و من الدوافع المهمّة الاخرى مطالعة بركات و آثار شكر النعمة و المنعم و ما يترتب عليه من زيادة النعمة و دوامها كما تقدم ذلك بالتفصيل في الأبحاث المتقدمة.

و من أفضل الطرق لتفعيل حالة الشكر بين الناس تجاه أحدهم الآخر أن يتحرك الناس باتجاه مكافأة المحسن و تقدير الأشخاص الذين يساهمون في حركة الخدمة و الإحسان في المجتمع سواءً كان التشجيع و الثناء كلامياً أو فعلياً و لذلك قال الإمام علي عليه السلام في عهده المعروف لمالك الأشتر: «و لا يَكُونَنَّ المُحسِنُ و المُسِى ءُ عِندَك بِمَنزِلَةٍ سواءِ فإنَّ فِي ذَلِكَ تَزهِيداً لأَهلِ الإِحسانِ فِي الإِحسانِ وَ تَدرِيباً لأَهلِ الإِساءَةِ عَلَى الإِساءةِ» «2».

شكر الخالق و شكر المخلوق:

لا شكّ أنّ الشكر للنعمة كما هو خُلق جميل بالنسبة للَّه لشكر اللَّه تعالى فكذلك هو خُلق جميل

و مطلوب من الإنسان تجاه المخلوق أيضاً، فالشخص الذي يؤدّي خدمة إلى الآخر و يتحرك في سبيل ايصال نعمة أو يتنازل عن خير من نفسه إلى الآخر فإنّ وظيفة الآخر الذي حصل على هذا الخير أن يشكر هذا الإنسان الذي تسبب في إيصال النعمة له رغم أنّه لا يريد و لا يتوقّع الشكر من الآخر، فقد ورد في الرواية المعروفة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قوله: «مَن لَم يَشْكُرِ المُنعِمَ مِنَ المَخلُوقِينَ لَم يَشكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ» «3».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 69.

(2). المصدر السابق، الرسالة 53.

(3). عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 24.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 69

إنّ العبارة المعروفة: «مَنْ لَم يَشكُرِ المَخلُوقَ لَم يَشكُرِ الخالِقَ» رغم أنّها لم ترد في الروايات الإسلامية بهذا النص إلّا أنّ هذا المضمون و المفهوم قد ورد في الروايات الشريفة عن المعصومين، و يمكن أن يكون لها معنيان و تفسيران:

الأول: أنّ ترك شكر المخلوق هو شاهد و دليل على روح العناد و كفران النعمة لدى هذا الشخص و بسبب ذلك فإنّه لا يعيش التقدير و الاحترام للآخرين بل أحياناً تستولي عليه حالة انتظار الاحسان من الناس و يرى أنّهم مقصّرون في حقّه، و مثل هذا الإنسان سوف لا يعيش الشكر للخالق جلّ و علا، و لا سيّما أنّ النعم و الخيرات التي تصل إلى الإنسان عن طريق الآخرين تكون محدودة و لذلك يشعر بها الإنسان و يلمسها من قريب لأنّها تقع بين الفينة و الاخرى، أمّا المواهب الإلهية فكثيرة و لا متناهية و تحيط بوجود الإنسان تماماً و لذلك فإنّها لشدّة ظهورها تكاد تخفى على الإنسان الغارق في النعمة فلا يكاد يشعر بها.

و الآخر:

أنّ شكر المخلوق هو في الواقع شكر اللَّه تعالى، لأنّ شكر المخلوق ما هو إلّا واسطة للفيض و انتقال النعمة من اللَّه تعالى إلى الآخرين، و عليه فإنّ من لم يشكر المخلوق فهو في الواقع لم يشكر اللَّه تعالى.

و على كل حال فقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الروايات الإسلامية و أنّ المسلم لا بدّ أن يعيش الشكر للمخلوق الذي أوصل إليه النعمة، و للخالق الذي هو أصل النعمة بل و ينبغي اعطاء الشاكر مزيداً من النعمة تشجيعاً لواقع الشكر كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله، أنّه ورد في التوراة: «اشكُرْ مَنْ أَنعَمَ عَلَيكَ وَ أَنعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ» «1».

و نقرأ في المفاهيم القرآنية أنّ اللَّه تعالى يأمر بتقديم الشكر للمخلوقين إلى جانب شكره تعالى: «وَ وَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَ فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ» «2».

و لا شكّ أنّ الوالدين لا يختصّون بإيصال الخير للإنسان أو أنّهما أصحاب الحق فقط عليه (رغم أنّ حقهما عظيم) فإنّ كل من كان له حق معنوي أو مادّي على الإنسان فلا بدّ من تقديم الشكر له.

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 94.

(2). سورة لقمان، الآية 14.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 70

و نشاهد هذا المعنى في حالات و سيرة القادة الإلهيين حيث يشكرون الآخرين على أيّة خدمة مهما كانت ضئيلة و يجزلون العطاء على أقل نعمة تصل إليهم من الغير و من ذلك ما ورد في قصة احدى جواري الإمام الحسين عليه السلام التي أهدت له وردة جميلة فما كان من الإمام عليه السلام إلّا أن أعتقها جزاء صنيعها هذا، و عند ما سئل عن سبب ذلك

و أنّ هذا الجزاء الكبير لا يتلاءم مع تلك الخدمة الصغيرة من الجارية قال: «كذا أدّبنا اللَّه» «1».

و كذلك القصّة المعروفة الاخرى عن الثلاثة الكرام و هم الإمام الحسن عليه السلام و الإمام الحسين عليه السلام و عبد اللَّه بن جعفر الذين كانوا في قافلة فتأخروا يوماً عنها فلجأوا في الصحراء إلى خيمة عجوز منفردة فسقتهم الماء و أطعمتهم من لحم الشاة الوحيدة لديها فلّما انتهوا من الطعام و أرادوا الرحيل عنها قالوا لها: إذا وردت المدينة فأتي إلى دورنا لنجازيك على هذه الخدمة الكبيرة، ثم مضت أعوام من القحط الشديد في تلك الصحراء إلى درجة أنّ الأعراب و أهل الخيام في تلك الصحراء جاءوا إلى المدينة طلباً للطعام و الغذاء، و في أحد الأيّام وقعت عين الإمام الحسن عليه السلام على تلك العجوز في أزقّة المدينة تطلب لها طعاماً، فناداها الإمام و ذكّرها بنفسه و أنّه قدم عليها مع أخيه و ابن عمّه إلى خيمتها فاطعمتهم من ذلك الطعام و لكن العجوز لم تتذكر شيئاً و رغم ذلك فإنّ الإمام قال لها: إذا لم تذكري ذلك فأنا أذكره ثم إنّه وهب لها مالًا كثيراً و أغناماً كثيرة و بعثها إلى أخيه الإمام الحسين عليه السلام، فقام الإمام الحسين عليه السلام بمثل ما قام به أخيه الإمام الحسن عليه السلام من العطاء و الكرم إلى هذه المرأة الكريمة، ثم أرسلها إلى عبد اللَّه بن جعفر الذي صنع مثل ما صنع الحسن و الحسين عليهما السلام حتى أنّ هذه المرأة (صارت من أغنى الناس) كما ورد في ذيل الحديث «2».

و نقرأ أيضاً قصّة (شيماء) بنت حليمة السعدية و اُخت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله

من الرضاعة حيث حباها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و تقدّم لها بفائق الاحترام و الشكر جزاء للخدمة التي تقدّمت بها امّها حليمة السعدية للنبي صلى الله عليه و آله في طفولته، فقد ذكر المؤرخون بأنّ طائفة كبيرة من قبيلة

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 44، ص 195 و نقل مثلها عن الإمام الحسن عليه السلام.

(2). نور الابصار، محمد الشبلنجي المصري (مع التلخيص)؛ بحار الانوار، ج 43، ص 348.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 71

بني سعد قبيلة حليمة السعدية وقعوا أسرى بيد المسلمين في حرب حنين، و عند ما رأى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله شيماء بين الأسرى تذكّر خدماتها هي و امّها في أيّام طفولته، فنهض من مكانه إحتراماً لها و فرش عباءته على الأرض و أجلس شيماء عليها و أخذ يسألها بكل لطف و محبّة عن أحوالها و قال: أنت صاحبة الفضل عليّ و كذلك امّك، في حين أنّه قد مرّ على ذلك ستون سنة تقريباً، و هناك طلبت شيماء من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يطلق سراح أسرى قبيلتها فقال: أنا اوافق على هذا الطلب من سهمي، فعند ما سمع المسلمون ذلك وهبوا حصّتهم كذلك من الأسرى لشيماء، و بالتالي تم تحرير جميع أسرى هذه القبيلة بسبب تلك المحبّة و الخدمة التي عاشها النبي صلى الله عليه و آله في مرحلة الطفولة «1».

و مثال آخر على ذلك هو ما ورد في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من أنّه كانت هناك امرأة تدعى (ثويبة) التي نالت شرف ارضاع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل «حليمة السعدية» من لبن ولدها «مسروح»، فعند ما هاجر النبي

صلى الله عليه و آله و رزقه اللَّه المال كان يرسل لها بعض الثياب و الهدايا إلى آخر حياتها حيث توفيت بعد واقعة «خيبر».

و العجيب أنّه جاء في بعض التواريخ أنّ هذه الامرأة «ثويبة» كانت أَمة «أبي لهب» و عند ما بشرت أبا لهب بولادة رسول اللَّه أعتقها أبو لهب (و معلوم أنّ أبا لهب في ذلك الزمان قام بهذا العمل بسبب رابطة القرابة بينه و بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث فرح أبو لهب لمّا رزق أخوه عبد اللَّه).

و عند ما مات أبو لهب بعد سنوات من العداء و الأذى لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله رآه أخوه العباس في عالم الرؤيا، فسأله عن حاله، فقال: أنا معذّب في النار، و لكن يخفّف عني العذاب في ليالي الاثنين بحيث أشرب الماء من بين أصابعي، لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولد يوم الأثنين، و عند ما بشرتني أمتي ثويبة بولادته و علمت أنّها أرضعته لعدّة أيّام أعتقتها» «2».

______________________________

(1). اعلام الورى، ص 126 و 127، سفينة البحار مادة «حلم».

(2). سفينة البحار، ج 1، ص 522 (مفردة ثويبة).

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 72

4

الغيبة، التنابز بالألقاب و حفظ الغيب

تنويه:

تقدّم في الجزء الأول من هذا الكتاب و الذي يبحث عن الاصول العامة للقيم الأخلاقية بحث حول علاج آفات اللسان على أساس أنّها أول خطوات إصلاح الأخلاق و تهذيب النفس و السير و السلوك إلى اللَّه تعالى، و قد وعدنا هناك أن نفصّل الحديث عن هذه الحالة و نذكر جزئيات اخرى في البحوث اللاحقة، و أحد افرازات آفة اللسان هذه هي مسألة (الغيبة) التي هي من أخطر المفاسد الأخلاقية و أكثرها إتّساعاً و شيوعاً حيث تتسبب في

هتك حُرمة الآخرين، و كشف أسرارهم، و إشاعة الفحشاء، و تمادي المذنبين و المجرمين في سلوكهم، و بالتالي تفضي إلى تزلزل إعتماد الناس و ثقتهم بالبعض الآخر، و لا ريب أنّ لكثير من الناس عيوب و نقاط ضعف مستورة غالباً، فإذا اتّضحت هذه العيوب و نقاط الضعف فسوف تتزلزل الثقة العامة بين الناس و تنتشر المفاسد الأخلاقية العديدة التي ذكرناها آنفاً في الوسط الاجتماعي، و لذا نهى الإسلام عن ذلك بشدّة، و جاء في كتب علماء الأخلاق أنّ الغيبة من أسوأ آفات اللسان (رغم أنّ الغيبة لا تنحصر بذكر الطرف الآخر باللسان، بل قد تتحقق بالقلم أو الإشارة أو التعرض بشكل من الأشكال للآخر).

و بما أنّ السلوك إلى اللَّه تعالى لا يمكن أن يتحقق للإنسان و لا يرى المجتمع الإنساني

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 74

السعادة و الصلاح بدون إزالة هذه الرذيلة الأخلاقية بين أفراد المجتمع فلذلك نجد أنّ النصوص الدينية قد اهتمت بهذا الأمر إهتماماً بالغاً.

إنّ تسمية الأشخاص الآخرين بأسماء وقحة و ألقاب قبيحة في غيابهم يعتبر فرع من فروع الغيبة المحرّمة، رغم أنّه قد يذكر بعنوان مستقل، و لذلك ذكرناهما تحت عنوان واحد.

النقطة المقابلة للغيبة حفظ الغيب، أي أنّ الإنسان يذكر الآخرين من موقع المدح و الثناء و يدافع عنهم في حال تعرضهم للغيبة لحفظ كرامتهم و سمعتهم بما ستأتي الإشارة إليه، و هذه احدى الفضائل الأخلاقية المهمّة و تتضمّن بركات كثيرة على مستوى الفرد و المجتمع.

على أية حال و نظراً لأهمية الموضوع، فقد تطرق القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى هذه المسألة و أصدر أحكاماً مشددة عليها:

1- «وَ لَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» «1».

2-

«وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «2».

3- «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ» «3».

4- «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَ كَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» «4».

تفسير و استنتاج:

تنطلق «الآية الاولى» لتتحدث بصراحة عن ثلاث أشياء نهى القرآن الكريم عنها، الأول: سوء الظن، ثم التجسس، ثم الغيبة، و معلوم أنّ سوء الظن يقود الإنسان إلى التجسس على أحوال الآخرين و كشف أسرارهم، و بما أنّ كل إنسان لا يخلو من نواقص و نقاط

______________________________

(1). سورة الحجرات، الآية 12.

(2). سورة الهُمزة، الآية 1.

(3). سورة النور، الآية 19.

(4). سورة النساء، الآية 148.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 75

ضعف، فسوف تنكشف من خلال التجسس، و بالتالي تكون موضوعاً للغيبة.

هذا و أنّ القرآن الكريم اهتمّ بمسألة الغيبة في هذه الآية أكثر من اهتمامه بمسألة سوء الظن و التجسس حيث تحرك في استجلاء مضمونها من موقع الاستدلال و قال:

«وَ لَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ».

هذا التشبيه يشكل في الواقع دليلًا منطقياً يبيّن جميع أبعاد المسألة، فالشخص الغائب قد شبّه هنا بالميت، و الرابطة معه هي رابطة الاخوة، و سمعته و شخصيته بمثابة جسده، و غيبته بمثابة أكل لحمه، و هو العمل الذي ينفر منه وجدان كل فرد مهما كان ضعيفاً، و لا يجد كل إنسان الاستعداد لارتكابه حتى في أشدّ الظروف و أقسى الحالات.

و هذا التشبيه يمكن أن يكون إشارة إلى نكات اخرى كثيرة: فمن جهة أنّ الشخص الغائب مثل الميت في عدم قدرته على الدفاع عن نفسه، و التهجم على من لا يقدر على الدفاع عن نفسه يعدّ من أسوأ الحالات الأخلاقية في الدناءة

و الحقارة.

و لا شك أيضاً أن تناول الميتة لا يتسبب في سلامة البدن و الروح، بل يفضي إلى الابتلاء بأنواع الأمراض، و عليه فإنّ المستغيب إذا ما استطاع اطفاء نار حسده و حقده بواسطة الغيبة و بصورة مؤقتة، فسوف لا يمضي وقت طويل حتى تورق بذور المفاسد الأخلاقية التي زرعها في قلبه و تعمل على زيادة قلقه و توتره النفسي.

و كما أنّ الحيوان أو الإنسان الآكل للميتة يتسبب في انتشار الأمراض و الميكروبات في الوسط الذي يعيش فيه، فكذلك الشخص المستغيب يعمل على إشاعة الفحشاء و المنكر بين المسلمين بذكره عيوب و ذنوب الآخرين المستورة.

عند ما يذكر القرآن الكريم هذا المثال بتفاصيله الدقيقة فإنّه يروم إلى تثوير وجدان الإنسان و فطرته تجاه هذا الذنب الكبير، و لعل هذا هو السبب في حكاية الآية المثال المذكور بصيغة سؤال لكي يجد الإنسان الجواب بنفسه في أعماق وجدانه و بالتالي يكون تأثيره أكبر في واقع الإنسان و أحاسيسه حيث تقول الآية: «أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 76

و ضمناً فانّ الآية يمكن أن تكون إشارة إلى هذه الحقيقة، و هي أن موارد الاستثناء من حكم الغيبة و جوازها (من قبيل التظلم و المشورة و إصلاح ذات البين) هي في الواقع من قبيل المضطر لتناول الميتة حيث ينبغي به أن يقنع بالحدّ الأقل منها.

و لكن قد يثار هذا السؤال، و هو أننا لا نرى في جميع انحاء العالم من يتناول لحم إنسان ميت (فكيف إذا كان أخاه)، فانّ شناعة هذا الفعل و قبحه ممّا لا يكاد يخفى على أحد، في حين أنّ ممارسة الغيبة تعدّ من الامور المتعارفة و المنتشرة في المجالس إلى

درجة أنّها تعدّ أحد وسائل الترفيه و الفكاهة، فكيف نفسّر هذا الاختلاف بين هذين الحالين؟

الظاهر أنّ هذا الأمر لا دليل له سوى تفشي الغيبة و كثرة تداولها بين الناس بحيث أدّى إلى التقليل من قبحها إلى هذه الدرجة.

و تتحرك «الآية الثانية» من موقع التهديد الشديد لمن يمارس الغيبة (السخرية و الاستهزاء) في حق الآخرين و تقول بأنّ العذاب العظيم ينتظر هؤلاء الأشخاص الذين يسخرون من المؤمنين و يلمزونهم بألسنتهم أو حركات أيديهم أو يغمزونهم بأعينهم من موقع التهمة و الخصومة: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ».

كلمة «لمزة» من مادة لمز على وزن رمز و كلمة «همزة» بنفس الوزن كليهما من صيغ المبالغة، و اختلفوا هل أنّهما بمعنى واحد، أو يختلفان في المعنى؟ هناك كلام بين المفسّرين، بعض يرى أنّهما بمعنى واحد، و بعض آخر يرى أنّ الهمزة بمعنى الغيبة و اللمزة بمعنى التعيير، و ذهب ثالث إلى عكس هذا المعنى، و رابع إلى أنّ الهمزة تقال لمن يعيب على الآخرين بالإشارة بينهما اللمزة تقال لمن يقوم بهذا العمل باللسان، و خامس يرى بأنّ الاولى هي تعيير الشخص بالعلن و الثانية و بالخفاء و بعض يرى أنّ «الهُمزة» تقال لمن يعيب الشخص في حضوره بينما «اللمزة» تقال لمن يعيب شخصاً في غيابه.

و يذكر بعض المفسّرين أنّ مقولة «الهمز و اللمز» عبارة عن صفتين رذيلتين مركبتين من حالات الجهل و الغضب و التكبّر، لأنّهما تتسببان في إيذاء الآخرين و جرح عواطفهم

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 77

و شخصيتهم و كذلك تتضمّنان نوع من حالة التفوّق و طلب العلو، و بما أنّ مثل هذا الإنسان لا يرى في نفسه فضيلة و صفة حسنة فإنّه يتحرّك لجبران هذا النقص من موقع

ذكر عيوب الآخرين و نقائصهم ليحرز بذلك تفوّقه «1».

و قد ذكرت بعض التفاسير و طبقاً لحديث شريف أنّ هاتين الصفتين هما من صفات المنافقين «2»، و التعبير بكلمة (ويل) في بداية هذه الآية و التي وردت في سبع و عشرين مورداً في القرآن الكريم هي إشارة إلى اللعن و الهلاك و أنواع العذاب لمن يرتكب مثل هذه الأفعال، و ما يقال من أنّ هذه الكلمة إشارة إلى بئر أو وادي عميق في جهنّم ملتهب بالنيران هو في الواقع من قبيل تفسير الكلي بمصداقه.

و هذه الكلمة و كذلك كلمة (ويس) و (ويح) كلّها تأتي لبيان حالة التأسف التي تصيب الإنسان، غاية الأمر أنّ (الويل) تأتي في الموارد الشديدة القُبح و (ويس) تأتي في مقابل حالة التحقير، و (ويح) تأتي في مقام الترحّم «3».

و مع الالتفات إلى موارد استعمال كلمات (ويل) في القرآن الكريم يتّضح جيداً أنّ هذه المفردة تستخدم في الموارد التي يكون فيها العمل قبيحاً جدّاً، و منه يتّضح كذلك أنّ الغيبة و التنابز بالألقاب يعتبر في دائرة المفاهيم القرآنية من أقبح الأعمال.

«الآية الثالثة» تتحدث عن الذين يشيعون الفحشاء بين الناس من موقع الذم لهم و التهديد الشديد بالعذاب الأليم لمرتكب هذه الرذيلة و تتضمّن كذلك ذم الغيبة لأنّ إشاعة الفحشاء تتمّ غالباً من خلال الغيبة أو التهمة فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ»

و بالطبع فإنّ شأن نزول هذه الآية إنّما هو في مورد التهمّة التي نسبهما المنافقون لبعض زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و لكن مسألة إشاعة الفحشاء بين الناس لها مفهوم عام يستوعب

______________________________

(1). روح البيان، ج 10، ص

58.

(2). المصدر السابق.

(3). تفسير الفخر الرازي، ج 32، ص 91.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 78

موارد كثيرة لا سيما الغيبة.

و في الحقيقة إنّ الآية الاولى من الآيات المذكورة آنفاً تتحدث عن البعد الفردي لحق الناس بالنسبة إلى الغيبة و من هذه الآية نستوحي الآفاق السلبية الاجتماعية لظاهرة الغيبة، لأنّه في كل مورد يقوم الناس بارتكاب الخطايا و الذنوب في الخفاء ثم يفتضح أمرهم فإنّ الكثير من الأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان و اهتزاز القيم الأخلاقية في واقعهم سوف يجدون في أنفسهم ميلًا و رغبة لإرتكاب مثل هذه الذنوب.

«الفاحشة» من مادة فحش، و هي في الأصل تعني كل فعل خرج عن حدّ الاعتدال و أضحى فاحشاً، و عليه فإنّ هذه الكلمة تشمل جميع المنكرات و السلوكيات القبيحة في دائرة الأخلاق رغم ورود هذه الكلمة في القرآن الكريم في عدّة موارد و كذلك في المصطلح المتداول بين الناس بمعنى الانحراف الجنسي و التلّوث بأنواع المحرّمات للشهوة الجنسية، و لكن هذا لا يمنع من عمومية الفاحشة لموارد اخرى، و في الحقيقة إنّ استعمالها في خصوص الانحرافات الجنسية هو من قبيل استعمال الكلي في مصداقه البارز، و عليه فإنّ اشاعة الفحشاء الوارد في هذه الآية لا ينحصر بالانحراف الجنسي، بل يرد في موارد اخرى تأتي غالباً عن طريق الغيبة.

و في الآية 45 من سورة العنكبوت نقرأ عن الصلاة: «إنّ الصّلاةَ تَنهى عنِ الفَحشَاءِ و المُنكَرِ».

و لهذا السبب ورد في ذيل هذه الآية حديثاً شريفاً يقول: «مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَ سَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الِّذينَ آمَنُوا لَهُم عَذابٌ أَلَيمٌ»

و الجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم

يذكر في الآية أعلاه أنّ جزاء مثل هؤلاء الأشخاص هو العذاب الأليم في الدنيا و الآخرة، و هذا يوكّد أنّ الغيبة و إشاعة الفحشاء لها آثار مخربّة في حياة الإنسان على المستوى الفردي و الاجتماعي.

و آخر ما يقال في تفسير الآية محلّ البحث أنّ القرآن الكريم و لغرض التأكيد على هذه

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 79

المسألة المهمّة لم يقل إنّ الذين يشيعون الفحشاء لهم عذاب أليم في الدنيا و الآخرة بل قال:

« «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ»

و في «الآية الرابعة» و الأخيرة من الآيات محلّ البحث نقرأ إستثناءاً لحرمة الغيبة، و هو ما إذا كانت الغيبة صادرة من مظلوم يريد أن يأخذ بحقّه من الظالم و من ذلك يتّضح جيداً أنّ الغيبة لا تجوز بدون مبّرر و مسوّغ فتقول الآية: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَ كَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً».

و المراد بالجهر من القول هو أي نحوٍ من الإظهار اللفظي سواءاً كان بصورة شكوى أو حكاية أو غيبة أو لعن و ذم و أمثال ذلك، و عليه فإنّ من وقع مظلوماً يحقّ له و لغرض الدفاع عن نفسه أن يفضح هؤلاء الظالمين و يذكر أعمالهم العدوانية للآخرين.

و من أجل، أن لا يسي ء الناس الاستفادة من هذا الاستثناء و يتحرّكون من موقع الغيبة و الوقيعة بالآخرين بحجّة أنّهم مظلومون فإنّ الآية الكريمة تعقّب في آخرها بقوله تعالى:

«وَ كَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً»، فهو مطلّع على نيّات الأشخاص و أفكارهم و دوافعهم في أعمالهم هذه.

و ممّا تقدّم من الآيات الكريمة نستوحي قبح و شناعة الغيبة و بالتالي فإنّ عواقبها الدنيوية و

الاخروية ستكون أليمة للغاية.

الغيبة في الروايات الإسلامية:

و قد ورد في المصادر الروائية و كتب الأخلاق روايات كثيرة في ذم الغيبة، حيث تقرّر هذه الروايات في مضامينها حقيقة مذهلة حول الآثار الوخيمة للغيبة و عقوبتها الأليمة إلى درجة أنّه قلّما نجد بين الذنوب و المحرّمات ما ورد في حقّه مثل هذه الكلمات و التعبيرات، و نحن نختار منها عشر روايات:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 80

1- نقرأ في حديث شريف أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله خطب يوماً في المسلمين و نادى بصوتٍ رفيع بحيث سمعته النساء في بيوتهنّ و قال: «يا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسانِهِ وَ لَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لا تَغتابُوا المُسلِمِينَ و لا تَتَبِّعُوا عَوراتَهُم فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَورةَ أَخِيهِ يَتَتَبَّعُ اللَّهُ عَورَتَهُ حتى يَفْضَحَهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» «1».

2- و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه خطب يوماً بالمسلمين و تحدّث عن ذم الربا حتى أنّه ذكر أنّ الدرهم من الربا أشدّ من ستة و ثلاثين زنية ثم قال: «إنّ أَربا الرِّبا عِرضُ الرَّجُلِ المُسلِمِ» «2».

هذا التعبير الذي يقرّر أهميّة و وخامة الغيبة بالنسبة إلى الزنا حيث ورد في روايات متعددة و في بعضها ذكر السبب في ذلك و هو: «أمّا صاحب الزنا فيتوب فيتوب اللَّه عليه، و أمّا صاحب الغيبة فلا يتوب اللَّه عليه حتى يكون صاحبه الذي يحلّه» «3».

3- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: «الغَيبَةُ حَرامٌ عَلى كُلِّ مُسلِمٍ وَ أَنَّها لَتأكُلُ الحَسناتِ كَما تأكلُ النّارَ الحَطَبَ» «4».

و هذه الخصوصية تترتب على الغيبة و كما سيأتي في البحوث اللآحقة بسبب أنّ الغيبة تتعرّض لحقّ الناس و بالتالي فإنّ حسنات المغتاب سوف تنتقل إلى صحيفة

أعمال الشخص الآخر الذي وقع مورد الغيبة لجبران الخسارة و الضرر الذي تحمّله من هذه الغيبة.

4- و جاء في حديث قدسي أنّ اللَّه تعالى خاطب نبيّه موسى عليه السلام و قال: «مَن ماتَ تائِباً مِنَ الغَيبَةِ فَهُوَ آخِرُ مَنْ يَدخُلِ الجَنَّةَ و مَن ماتَ مُصِرّاً عَلَيه، فَهُوَ أَوّلُ مَنْ يَدخُلُ النَّارَ» «5».

و في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله نجد تعبيراً مذهلًا عن مخاطرة الغيبة حيث قال:

«مَن مَشى فِي غَيبَةِ أَخِيهِ وَ كَشفِ عَورَتِهِ كانَ أَوَّلَ خُطوَةٍ خَطاها وَضَعَها فِي جَهَنّمَ» «6».

______________________________

(1). جامع السعادات، ج 2، ص 303.

(2). المصدر السابق.

(3). وسائل الشيعة، ج 8، ص 601، ح 18.

(4). جامع السعادات، ج 3، ص 305.

(5). جامع السعادات، ص 302.

(6). المصدر السابق، ص 303.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 81

6- و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «ما عُمّرَ مَجلِسٌ بِالغَيبَةِ إلّا خُرِّبَ بِالدِّينِ فَنَزِّهُوا أَسمَاعَكُم مِنْ اسْتِماعِ الغَيبَةِ فَإِنَّ القائِلَ وَ المُستَمِعَ لَها شَريكَانِ فِي الإثْمِ» «1».

7- و في حديث آخر أيضاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتحدّث فيه عن الأضرار المعنوية الكبيرة للغيبة و يقول: «مَن إِغتابَ مُسلِماً أَو مُسلِمَةً لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ صَلاتَهُ وَ لا صِيامَهُ أَربَعِينَ لَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» «2».

8- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَن رَوى عَلى مُؤمُنٍ رَوايَةً يُريدُ بِها شَينَهُ وَ هَدْمَ مُرُوَّتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعيُنِ النّاسِ، وَ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ وِلايَتِهِ إِلى وِلايَةِ الشَّيطانِ فَلا يَقْبَلُهُ الشَّيطَانُ» «3».

و من الواضح أنّ المصداق البارز للرواية أعلاه هو الشخص المغتاب الذي يهدف من الغيبة إظهار عيوب المؤمنين المستورة و يعمل على

هدم شخصيتهم الاجتماعية و اسقاطهم بين الناس، فعذاب مثل هؤلاء الأشخاص عظيم إلى درجة أنّ الشيطان نفسه يستوحش من قبول ولاية هؤلاء و يتبرأ من رفقته و صحبته.

9- و في الحديث الوارد في مناهي النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «نَهى عَنِ الغَيبَة وَ قالَ مَنْ إِغتابَ امرءً مُسلِماً بَطَلَ صَومُهُ وَ نَقَضَ وَضُوءُهُ، وَ جاءَ يَومَ القيامَةِ يَفُوهُ مِنْ فِيهِ رائِحَةٌ أَنتنَ مِنَ الجِيفَةِ يَتَأَذَّى بِهِ أَهلَ المَوقِفِ» «4».

10- و نختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام رغم وجود روايات كثيرة اخرى في هذا المجال و لكننا نكتفي بهذا المقدار الممكن من بيان عواقب الغيبة و آثارها الوخيمة الدنيوية و الاخروية حيث يقول: «إِيّاكَ و الغَيبَةِ فَإنّها تُمقِتُكَ إلى اللَّهِ و النّاسِ وَ تَحبِطُ أَجرَكَ» «5».

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 75، ص 259.

(2). المصدر السابق، ج 72، ص 258، ح 53.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 358، ح 1.

(4). وسائل الشيعة، ج 8، ص 599، ح 13.

(5). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 82

و من المعلوم أنّ حديثاً واحداً من هذه الأحاديث يكفي للأحاطة بأهميّة هذه المعصية و خطرها على واقع الإنسان و حياته المعنوية فكيف لو ضممنا و جمعنا هذه الأحاديث بعضها إلى البعض الآخر؟

و لا شكّ أنّه مضافاً إلى القرآن الكريم و تواتر الروايات الإسلامية و إجماع المسلمين على حرمة الغيبة، فإنّ العقل أيضاً يقرّر قبح هذه الخطيئة و يذمّها باعتبارها أنّها من المصاديق البارزة للظلم و العدوان الذي هو من المستقلات العقلية، و عليه فإنّ حرمة الغيبة تقوم عليه جميع الأدلة الأربعة الفقهية.

و بقيت هنا مسائل مهمّة لا بدّ من استعراضها و بحثها:

تعريف الغيبة:

ورد تعريف الغيبة لأرباب

اللغة و الفقهاء و علماء الأخلاق تعاريف و تفاسير مختلفة تعود في حقيقتها إلى معنى واحد رغم اختلافها على مستوى التعميم و التخصيص و غير ذلك.

يقول في صحاح اللغة أنّ الغيبة هي أن يذكر الإنسان عيب الآخر و عمله في حال عدم حضوره بحيث لو سمعه ذلك الشخص لتألم و تأثر.

و يقول في المصباح المنير: أنّ الغيبة هي كشف العيوب المستورة للآخرين بحيث يتألمون منها و ذلك غيبتهم.

و ينقل الشيخ الأنصاري قدس سره عن بعض كبار العلماء أنّ الإجماع و الأحاديث الشريفة تدلّ على أنّ الغيبة في حقيقتها هي (ذكر أخاك بما يكره) في غيبته «1».

و هذا المضمون ورد أيضاً في حديث نبوي شريف، و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام في تعريف الغيبة يقول: «الغَيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي أَخِيكَ ما قَد سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيهِ ...» «2».

و يستفاد ممّا ذكر آنفاً أنّ للغيبة عدّة أركان، أوّلها أن يكون الكلام في حال غيبة الشخص

______________________________

(1). المكاسب، كتاب المكاسب المحرمة، الشيخ الأنصاري، ص 41.

(2). وسائل الشيعة، ج 8، أبواب أحكام العشرة، ص 602.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 83

المذكور، فلو قيل هذا الكلام في حضوره فإنّه يكتسب عنواناً آخر (كعنوان الايذاء أو التهتك و أمثال ذلك) و الآخر أن يكون الكلام من قبيل ذكر عيوب الشخص المستورة و الخفيّة فلو كانت من العيوب البارزة و الظاهرة لم تكن من الغيبة رغم أنّها قد تكون محرّمة بعناوين اخرى، و الثالث أن يكون الكلام بحيث إذا سمعه الشخص المذكور بالغيبة فسوف يتألم و يتأثر، و لكن الظاهر أنّ هذا القيد قيد توضيحي فحسب، لأنّ إظهار العيوب المستورة للآخرين و خاصة في غيبتهم تورث التألم و الأذى، و قد

يكون هناك بعض الأراذل الذين لا يمتعضون بذكر معايبهم و نشر فضائحهم بين الناس و لكن مثل هؤلاء الأشخاص قلّة نادرة.

و ممّا تقدمّ آنفاً تتضح لنا هذه الحقيقة جيداً، و هي أنّه عند ما يقال لبعض العوام من الناس: لماذا ترتكب غيبة الشخص الفلاني و تذمّه وراء ظهره؟ يقول: إنني أتحدث بهذا الكلام أمامه أيضاً و في حضوره، فهذا من قبيل العذر أقبح من الذنب، لأنّ التحدّث بذلك أمامه و في حضوره لا يجوّز غيبته أبداً، فذلك أيضاً ذنب كبير بدوره لأنّه يدخل تحت عنوان أذى المؤمن و كذلك هتك حرمته بين الناس و هدم شخصيته في المجتمع.

و نقرأ في حديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه ذكر بين يديه رجل فقال بعض الحاضرين: أنّه رجل عاجز و ضعيف فقال: رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لقد اغتبتموه، فقالوا: يا رسول اللَّه لقد ذكرنا صفته فقال: «إِنْ قُلتُم ما لَيسَ فِيهِ فَقَد بَهَتّموه» «1».

و العذر الآخر الذي يذكره بعض الجهّال كمسوّغ للغيبة و يتذرّعون به أمام من ينهاهم عن الغيبة يقولون: إنّما نقوله هو حق و ليس بكذب، فالشخص الفلاني لديه هذا العيب، و هذه الذريعة لا تقل قبحاً عن سابقتها لأنّه لو لم يكن هذا العيب في الطرف الآخر لدخل تحت عنوان التهمة لا الغيبة، فالغيبة كما ذكرنا هي ذكر العيوب الخفيّة للآخرين في غيبتهم.

و لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّه يستفاد من بعض كلمات الأعاظم و علماء الأخلاق أنّ الغيبة لا تقع بالنسبة إلى جميع المؤمنين، بل تقع في مورد الأشخاص الذين تابوا من ذنوبهم و ندموا على خطيئتهم و عادوا إلى جادة الصواب، و أمّا الفاسق

و المذنب و المتجاهر بالإثم،

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 5، ص 256.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 84

فإنّ غيبته مباحة حتى لو كان ذنبه مستوراً و يتمسّكون في هذا بالرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث أنّه قال: «مَنْ عامَلَ النّاسَ فَلَم يَظلِمهُم، وَ حَدَّثَهُم فَلَم يَكذِبْهُم، وَ وَعَدَهُم فَلَم يُخْلِفْهُم كَانَ مِمَّنْ حُرِّمَ غَيبَتُهُ وَ كَمُلَتْ مُرُوَّتُهُ وَ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَ وَجَبَتْ إخُوتُهُ» «1».

و بهذا فإنّ الغيبة تكون محرّمة إذا كانت بالنسبة إلى الشخص العادل بينما الشخص الفاسق فيجوز غيبته حتى لو كان يمارس الذنب في الخفاء.

العلّامة المجلسي قدس سره يميل إلى هذا الرأي أيضاً في الجزء 72 من بحار الانوار باب كتاب العشرة رغم أنّه عدل عن هذا الرأي في ذيل كلامه أيضاً «2».

و لكن من المسلّم أنّ هذه الرؤية تسبب في أن يكون أكثر الناس تجوز غيبتهم و هذا على خلاف اطلاق الآية القرآنية و الروايات العديدة في مجال حرمة الغيبة.

و مضافاً إلى الروايات الكثيرة التي تقرّر أنّ عدّة طوائف من الناس تجوز غيبتهم أو لا غيبة عليهم و منهم الفاسق المتجاهر بالفسق و من جملة ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَربَعَةٌ لَيسَتْ غَيبَتُهُم غَيبَةٌ، الفاسِقُ المُعلِنِ بِفِسقِه، ....» «3».

و نفس هذا المضمون ورد في رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه السلام أيضاً.

و يقول الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد: «إذا جاهَرَ الفاسِقُ بِفِسقِهِ فَلا حُرمَةَ لَهُ عَلى غَيبَةٍ» «4».

و نقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» «5»، و هناك أحاديث متعددة اخرى صريحة في هذا المعنى،

و بمقتضى مفهوم الوصف لهذه الأحاديث، بل مفهوم الشرط حيث يكون الكلام في مقام الاحتراز و نفي الغير يتّضح جيداً أنّه إذا إرتكب الشخص الذنب في الخفاء فلا يجوز غيبته، و كما سوف يرد

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 239، ح 28.

(2). بحار الانوار، 72، ص 235 إلى 237.

(3). المصدر السابق، ص 261.

(4). بحار الأنوار، ج 72، ص 253.

(5). المصدر السابق، ص 260.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 85

في بحث إستثناءات الغيبة أنّ الشخص المتجاهر بالفسق تجوز غيبته في خصوص الذنب الذي تجاهر به لا بالنسبة إلى جميع أفعاله الاخرى.

و مضافاً إلى أنّ حرمة الغيبة ثابتة بدليل العقل أيضاً لأنّها نوع من الظلم و العدوان على الآخرين و إفشاء أسرارهم و إسقاط شخصيتهم بين الناس، و لا شكّ أنّه لا فرق بين الفاسق و العادل في هذا المجال إلّا أن تكون الغيبة في موارد النهي عن المنكر أو دفع الخطر أو الضرر عن المجتمع الإسلامي و حينئذٍ لا فرق أيضاً بين الفاسق و العادل.

و سيأتي في بحث إستثناءات الغيبة تفصيل أكثر حول هذا الموضوع.

أقسام الغيبة:

أحياناً يتصوّر أنّ الغيبة تقع باللسان فحسب، في حين أنّ حقيقة الغيبة كما إتّضح آنفاً هي اظهار العيوب المستورة للشخص الآخر بحيث إذا سمع بذلك تألّم و تأثر منها، و هذا العمل يمكن أن يحصل بواسطة اللسان أو بواسطة القلم أو حتى بالإشارة باليد و العين و الحاجب، و أحياناً تتخذ الغيبة صبغة المزاح و اخرى صبغة الجد، و كم من الذنوب و الآثام التي يرتكبها البعض في لباس المزاح و السخرية حيث تكون أخطر من الذنوب التي تلبس لباس الجد، لأنّ الإنسان يتحرّك بحرية أكثر في حالة المزاح بخلاف حالة الجد،

حيث لا يكون قادراً على بيان المطلب المراد بصورة وافية فيذكره بصبغة المزاح و الإثارة للتفكّه و الضحك.

مضافاً إلى أنّ الغيبة تارةً تقع بتعبيرات صريحة (و بالاصطلاح المنطقي بالدلالة المطابقية و التضمنية) و اخرى بالدلالة الالتزامية و التعبيرات الكنائية التي قد تكون أبلغ من التصريح، مثلًا عند ما يتحدّث الشخص عن أحد المؤمنين يقول: سامحه اللَّه لنسكت عن هذا فإنّ الشرع المقدس قد أغلق أفواهنا، و بهذه الكلمات يريد أن يفهم الآخرين على أنّ ذلك الشخص قد إرتكب أفعالًا قبيحة و عظيمة، و قد يكون التصريح بها لا يثير المستمع كما هو الحال في الكناية، و لكن بما أنّ مثل هذا الكلام يثير تصوّرات مجملة عن الموضوع فإنّ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 86

ذهن المستمع قد يتصوّر ذنوباً متنوعة و كثيرة يكون الشخص المذكور بريئاً منها.

أو يقول: إنّ الشخص الفلاني له صفات جميلة و أفعال حسنة و لكن ... و يسكت عن إكمال الحديث.

و أحياناً اخرى يتحرّك المتكلّم من موقع النصيحة و التحرق القلبي و يقول: سامح اللَّه فلان و جعل عاقبته إلى خير، أو يقول: أنا خائف من عاقبة أمره، فهو في الحقيقة يعرض الذنب بلباس الطاعة و الشر بثياب الخير، و كما يقول بعض العلماء أنّه بذلك يكون قد ارتكب إثماً مضاعفاً، فيكون قد اغتاب من جهة و ارتكب الرياء من جهة اخرى، فمن جهة قد إغتاب الشخص الآخر بتلميحه لمعايب كثيرة و نسبتها إلى الطرف الآخر، و تحرّك من موقع الرياء حيث تظاهر بأنّه ليس من أهل الغيبة، بل من أهل التقوى و الطاعة لأوامر اللَّه تعالى.

دوافع الغيبة:

إنّ للغيبة عوامل كثيرة و دوافع متعددة يكاد كل واحد منها يكون سبباً كافياً لإرتكاب

الغيبة، و من ذلك:

1- الحسد.

2- الأنانية و العجب و رؤية الذات.

3- الغرور و الكبّر.

4- الحرص.

5- الحقد.

6- حبّ الجاه.

7- حبّ الدنيا و الثروة و المقام.

8- الرياء.

9- تزكية النفس و اظهار الطهارة و التقوى.

10- طلب الترفيه عن النفس بأمور غير مشروعة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 87

11- سوء الظن.

12- حبّ الانتقام.

13- التشفي و إطفاء سورة الغضب.

14- السخرية و الاستهزاء، و غير ذلك من أمثال هذه الدوافع النفسية.

و القدر المشترك بين هذه الامور هو أنّ الإنسان يسعى لتسقيط الشخص الآخر و كسر شخصيته و موقعيته الاجتماعية ليضحى في أنظار الناس ذليلًا و لا قيمة له، و من هذا الطريق يجبر نقصه و يهدأ غضبه و يشيع حالة الانتقام من الطرف الآخر، أو يتحرك لحرمانه من المقام و الثروة أو لاظهار الزهد و القداسة الزائفة أو يتحرك من موقع إثارة الضحك و السخرية أو يرى لنفسه امتيازاً و مقاماً على الآخرين.

و من هنا يتّضح أولًا: أنّ الغيبة مفهوم واسع الأطراف و لها عوامل متنوعة و كثيرة، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «أَصلُ الغَيبَةِ تَتَنوَّعُ بِعَشرَةِ أَنواعِ، شِفاءِ غَيظٍ وَ مُساعَدَةِ قَومٍ وَ تُهمَةٍ، وَ تَصدِيقِ خَبَرٍ بِلا كَشفِهِ، وَ سُوءِ ظَنٍّ وَ حَسَدٍ وَ سُخرِيَّةٍ وَ تَعَجُّبٍ وَ تَبَرُّمٍ وَ تَزَيُّنٍ، فَان أَرَدتَ السَّلامَةَ فَاذكُرِ الخالِقَ لا المَخلُوقَ فَيَصِيرُ ذلِكَ مَكانَ الغَيبَةِ عِبرَةً وَ مَكانَ الإِثمِ ثَواباً» «1».

و من الواضح أنّ الإمام هنا في صدد بيان قسماً من العوامل المهمّة للغيبة لأنّه كما تقدّم أنّ دوافع الغيبة متعددة و كثيرة غير ما ذكر في الحديث الشريف.

العواقب السلبية للغيبة:

للغيبة آثار سلبية و نتائج مخربّة كثيرة على الفرد و المجتمع البشري فلو تساهل الناس معها لأزداد الحال خطورة،

و مضافاً إلى ذلك العواقب الوخيمة المعنوية و العقوبات الإلهية المتربتة على هذه المعصية كما سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة.

و بالنسبة إلى المورد الأول يمكن الإشارة إلى ما يلي:

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 72، ص 257.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 88

1- إنّ الغيبة تقوم بأتلاف أهم رأسمال للمجتمع البشري، و الذي يتمثل بتبادل الثقة و الاعتماد بين الأفراد، لأنّ أغلب الأشخاص لديهم نقاط ضعف يسعون لكتمانها و سترها ليحفظوا ثقة الناس و اعتمادهم، و قبح هذه النواقص و نقاط الضعف من شأنه أن يقطع أواصر الاعتماد و الثقة بين الناس.

و من المعلوم أنّ الأساس في ظاهرة التعاون الاجتماعي و التفاعل الإيجابي و العاطفي بين الناس يتمثل في الاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع و بدون ذلك يتبدل المجتمع إلى جحيم لا يطاق من كثرة المشاكل الاجتماعية.

2- إنّ الغيبة تتسبب في سوء الظن بين الأفراد، لأنّ العيوب المستورة للأشخاص عند ما تنكشف للناس فتتسبب في زوال حسن الظن لدى الإنسان بالنسبة لجميع الأسوياء و الصالحين أيضاً حيث يقول: إنّ هؤلاء قد يمارسون مثل هذه الأعمال الشنيعة في الخفاء و يتظاهرون بالصلاح و الخير فلا نعلم من حقيقة حالهم.

3- إنّ الغيبة هي أحد أسباب إشاعة الفحشاء و المنكر، لأنّ الذنوب المستورة إذا ظهرت بسبب الغيبة فإنّ ذلك سيؤدي إلى تشجيع الآخرين على إرتكابها، و أساساً فإنّ إظهار الذنوب و الكشف عنها من شأنه أن يزيل حالة الخشية منها فيستصغرها الناس و يكون ذلك عذراً للفسّاق في تبرير ذنوبهم و ممارساتهم الخاطئة و أنّه إذا قمنا بارتكاب هذا الذنب فإنّ غيرنا و من هو أفضل منّا و أعلم قد إرتكبه قبلنا.

و نقرأ في حديث شريف عن الإمام الصادق أنّه

قال: «مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَ سَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهوَ مِنَ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذابٌ أَلِيمٌ» «1».

4- إنّ الغيبة من شأنها أن تبعث الجرأة في نفوس المذنبين على ارتكاب الذنوب و كسر حاجز الحياء، لأنّ أعمال الإنسان ما دامت مستورة فإنّ الحياء يمنعه من إرتكاب الأشنع منها و التجاهر بها خوفاً من الفضيحة و الخزي أمام الآخرين، فلو أنّه إفتضح أمره، فحينئذٍ

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 357.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 89

يزول مانع الحياء من نفسه و يتجرّأ أكثر على ارتكاب الذنب.

5- إنّ الغيبة تورث الحقد و العداوة و البغضاء بين الناس لأنّ أهم رأسمال للإنسان في المجتمع هو حيثيته و شخصيّته الاجتماعية، و الغيبة بإمكانها أن تذيب و تحرق رأس المال هذا فلا يبقى للإنسان شيئاً يعتدّ به في حركة الحياة الاجتماعية، و لذا تسبب الغيبة العداوة الشديدة و الحقد العميق في قلب الشخص المستغاب (فيما لو سمع بذلك).

6- إنّ الغيبة من شأنها أن تسقط المستغيب في أنظار الآخرين، لأنّهم سوف يتصوّرون أن هذا الشخص الذي يتحدّث لهم عن عيوب الآخرين سوف يتحدّث عن عيوبهم أيضاً للآخرين و يغتابهم، و لذلك ورد في الرواية عن أمير المؤمنين أنّه قال: «مَنْ نَقَلَ إِلَيكَ نَقَلَ عَنكَ» «1».

و في حديث آخر نقرأ: «لا مُرُوَّةَ لِمُغتابٍ» «2».

7- إنّ الغيبة من شأنها أن تكون عذراً لتبرير خطايا و ذنوب الشخص المستغيب، فمن أجل أن يكون في أمان من اعتراض الناس و هجومهم، فإنّه يتحرّك لممارسة هذا الذنب و يستغيب الآخرين لدفع التهمة عن نفسه.

(و أمّا الآثار المعنوية السلبية) للغيبة فأكثر من أن تحصى

في هذا البيان، و لكن نشير إلى بعض ما ورد في الروايات الإسلامية عن ذلك:

1- تقدّم في الروايات السالفة أنّ الغيبة تمحق الحسنات و تبطل الأعمال الخيّرة كما تحرق النار الحطب، و يقول العالم الكبير الشيخ البهائي قدس سره في أحد كتبه: إنّ الغيبة كالصاعقة التي تحوّل الحسنات إلى رماد في لمح البصر ثم يقول: إن الشخص الذي يرتكب الغيبة هو كمن نصب منجنيقاً و استهدف به حسناته لتحطيمها و تدميرها «3».

2- إنّ الغيبة تعمل على تدمير إيمان الإنسان و دينه و تشويه قلبه كما يصنع مرض الجدري بجلد الإنسان.

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). كشكول الشيخ البهائي، ج 2، ص 295.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 90

3- إنّ المرتكب للغيبة في حالة العفو عنه سيكون آخر شخص يدخل الجنّة، و في حالة عدم العفو عنه سيكون أول من يدخل النار.

4- إنّ الغيبة تتسبب في فضيحة الإنسان، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا مَعْشَرَ مَن آمَنَ بِلِسانِهِ وَ لَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لا تَغتَابُوا المُسلِمِينَ وَ لا تَتَبَّعُوا عَوراتِهم فَإنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَورَتَهُ وَ مَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَورَتَهُ يَفضَحُهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» «1».

5- إنّ الغيبة تؤدّي إلى انتقال حسنات الشخص المغتاب إلى كتاب أعمال الطرف الآخر، و كذلك تؤدّي إلى انتقال سيئات الطرف الآخر المستغاب إلى كتاب أعمال المستغيب فنقرأ في رواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يُؤتى بِأَحَدٍ يَومَ القِيامَةِ يُوقَفُ بَينَ يَدَي اللَّهُ يُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَلا يَرى حَسَناتَهُ فَيَقُولُ إِلهي لَيسَ هذا كِتابِي فَإِنِّي لا أرى فِيها طاعَتِي فَقالَ إِنَّ رَبَّكَ لا يُضِلُّ و لا

يَنسى ذَهَبَ عَمَلُكَ بِاغتِيابِ النّاسِ ثُمَّ يُؤتى بِآخَرَ وَ يُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَيَرى فِيها طاعاتٍ كَثِيرَةٍ، فَيَقُولُ إِلَهي ما هذا كِتابِي فَإنِّي ما عَمِلتُ هذِهِ الطَاعاتِ، فَيَقُولُ: إِنَّ فُلاناً إِغتَابَكَ فَدُفِعَتْ حَسَناتُهُ إِلَيك» «2».

و من هذا المنطلق نقل عن بعض الشخصيات المعروفة السالفة أنّه أرسل إلى شخص إستغابه طبقاً من التمركهدية له و قال: إنّك قد أرسلت إليّ حسناتك و أهديتها لي فأردت جبران صنيعك هذا بهذه الهدية.

و نقل عن شخص آخر أنه كان يقول: أَنّني إذا أردت أن أستغيب أحد الأشخاص فإنّ امّي هي الأولى بذلك لأنّها أولى بحسناتي من الآخرين.

6- إنّ الغيبة تتسبب في أن لا تقبل صلاة المغتاب و صومه لمدّة أربعين يوماً كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَنْ إِغتابَ مُسلِماً أو مُسلِمَةً لَم يَقبَل اللَّهُ تَعالى صَلاتَهُ و لا صِيامَهُ أَربَعِينَ يَوماً وَ لَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» «3».

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 5، ص 252.

(2). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 121، ح 30.

(3). المصدر السابق، ص 122، ح 34.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 91

علاج الغيبة:

اشارة

إنّ علاج هذا المرض الأخلاقي الخطير يشبه من جهات علاج سائر الأمراض الأخلاقية الاخرى، و يختلف عنها من بعض الجهات، و في المجموع لا بدّ من رعاية الامور التالية للوقاية من الوقوع في هذا المرض أو علاجه:

1- إنّ العلاج الحقيقي لكل مرض بدني أو نفسي أو أخلاقي يتمثّل بالعثور على الجذور و الأسباب الكامنة وراء الابتلاء بهذا المرض و السعي لإزالتها و القضاء عليها، و بما أنّ عوامل حصول هذه الصفة القبيحة في النفس كثيرة و متعددة فلا بدّ من التوجه إلى تلك العوامل و

الاسباب، و قد رأينا أنّ من العوامل المهمّة هو: الحسد، الحقد، الأنانية، حبّ الانتقام، التكبّر و الغرور و أمثال ذلك، و ما دامت هذه الحالات النفسية السلبية موجودة في أعماق النفس و ما دام الإنسان لا يتحرّك على مستوى إزالتها من واقعه و ذاته فإنّ هذه الحالة الرذيلة أي- الغيبة- لا تنقلع و لا تزول.

و عند ما لا يجد الإنسان في نفسه حسداً على أحد و لا يعيش حالة الحقد و الكراهية و المقت تجاه الآخرين و لا يرى في نفسه إمتيازاً و لا تفوّقاً على الغير فلا مسوّغ له للتلّوث بخطيئة الغيبة و لا يجد في ذاته رغبة و ميلًا إلى ارتكاب هذا الفعل الذميم.

2- و من الطرق الاخرى لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو الالتفات و التفكّر في عواقبها السلبية على المستوى المادي و المعنوي، و الفردي و الاجتماعي، فإنّ الإنسان متى ما إلتفت إلى أنّ الغيبة ستؤدّي به إلى المهانة و السقوط في أنظار الناس فيعرفونه بأنّه شخص خائن، ضعيف النفس، و يشعر بالدونية و الحقارة، فإنّهم سوف يتحرّكون في الإرتباط معه من موقع عدم الثقة و سوف تهتز شخصيته و مكانته الاجتماعية لدى الآخرين، و أنّ الغيبة سوف تتلف حسناته و تهدر طاقاته و تنقل سيئات الآخرين إلى صحيفة أعماله، و لا تقبل عباداته لمدّة أربعين يوماً و هو أول من يدخل النار، و فيما لو تاب و قبلت توبته يكون آخر من يدخل الجنّة.

و أيضاً عليه أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ الغيبة هي حق الناس لأنّها تتسبب في

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 92

هدم سمعتهم و الذهاب بماء وجوههم، و نعلم أنّ قيمة ماء الوجه مثل قيمة النفس

و المال لدى الإنسان أو أكثر و ما لم يرض عنه صاحب الحق، فإنّ اللَّه تعالى لا يرضى عنه، و ربّما لا يتسنى له التوصل إلى كسب رضى الطرف الآخر أبداً و حينئذٍ سيتحمل وزر هذا الفعل مدى الحياة.

أجل، فلو أنّ الإنسان تدبّر في هذه الامور جيداً فسوف يندم بالتأكيد على عمله و يتحرّك بعيداً عن هذا السلوك المنحرف، و الأشخاص الذين يعيشون ممارسة الغيبة في مجالسهم و بهدف الترفيه و التفريح و اللهو إذا ما فكّروا في عواقب الغيبة فسوف يتحوّلون عنها بالتأكيد و لا يقتربون من ممارسة هذا السلوك السلبي و العدواني.

3- يجب أن ينتبه المستغيب إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ طاقات الإنسان محدودة، فلو أنّه بدلًا من إتلاف هذه الطاقات و صرفها في تسقيط شخصية الآخرين و هدم مكانتهم الاجتماعية كان يستخدم هذه الطاقات و القابليات و المواهب الإلهية في خط الكمال المعنوي و المنافسة السلمية و الصحيحة بينه و بين الآخرين فقد لا تمضي فترة قصيرة إلّا و يحرز التوفيق في الكمالات الإنسانية و المعنوية على الخير و يصل إلى مراتب سامية في حركة الحياة و التكامل المعنوي و المادي من دون أن يجد حاجة إلى تسقيط الآخرين و العدوان عليهم و بالتالي سوف ينقذ نفسه من نتائج الغيبة و عواقبها الوخيمة في الدنيا و الآخرة.

و بعبارة اخرى أنّ الأفضل للإنسان أن يقوم باعمار بيته و بناء داره بدلًا من تخريب بيوت الآخرين ليعيش في منطقة عامرة و في دارٍ مشيّدة، و لكن الشخص الذي يتحرّك دائماً من موقع تخريب بيوت الآخرين فإنّ نتيجته سوف تكون تخريب بيوت المنطقة و تخريب بيته أيضاً فيعيش في الأطلال و الخرائب.

يجب أن يلتفت

المستغيب إلى هذه الحقيقة و هي أنّ الغيبة هي احدى العلامات البارزة لضعف الشخصية و فقدان الهمّة و المروءة و أنّه يعيش عقدة الحقارة و الدونيّة، و لذلك فهو يمارس الغيبة لجبران هذا الضعف النفسي و في الحقيقة يقوم باظهار هذه العيوب الذاتية

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 93

و الصفات الباطنية و يجهر بها أمام الناس، فهو يقوم بتدمير شخصيته و تحطيم كيانه قبل أن يحطّم شخصية الآخرين الذين يغتابهم.

و هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام و هي أنّه لا بدّ لترك الغيبة و خاصة فيما لو أصبحت عادة لدى الشخص، أن يقوم قبل كل شي ء بفرض الرقابة الشديدة على لسانه و كلماته و يتحرّك من موقع الضغط الأخلاقي في دائرة الكلام، و كذلك ينبغي له أن يتجنّب معاشرة الأصدقاء الذين لا يجدون حرجاً في ممارسة الغيبة و يدفعونه بهذا الاتجاه و يترك المجالس المهيئة للغيبة، بل و جميع الامور التي توسوس له في ممارسة الغيبة.

و في حديث شريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «ما عُمِّرَ مَجلِسٌ بالغَيبَةِ إلّا خَرِبَ مِنْ الدِّينِ» «1».

الملاحظة الاخرى هي أنّ أحد دوافع الغيبة هو السعي لتبرئة الذات و الدفاع عنها، مثلًا أن يقول: إذا كنت قد إرتكبت هذا الذنب، فإنّ من هو أفضل منّي و أعلم قد ارتكبه أيضاً، و الحال أنّ تبرئة الذات لها طرق اخرى كثيرة لا تنتهي بهذا الذنب الكبير أي- الغيبة- و أساساً فإنّ الاعتراف بالخطأ في هذه الموارد يكون أسلم عذر و أفضل سبيل لتدارك الخطأ، مضافاً إلى أنّ أحد الأخطاء الكبيرة لدى الإنسان أن يقارن بينه و بين الفاسقين و الأراذل من الناس و يترك المقارنة بينه و بين الأخيار و الصلحاء من أفراد

المجتمع.

أحياناً يتحرّك الشخص لتبرئة نفسه و تبرير سلوكه إلى التشبث بهذا العذر و هو أنني عند ما رأيت العالم الفلاني قد إنحرف على مستوى السلوك و ارتكب الذنوب زالت عقيدتي و ضعف إيماني و أصبحت في أمر العقيدة بالمبدأ و المعاد غير مكترث، هذه المعاذير و التبريرات هي المصداق الأتم لمقولة العذر أقبح من الذنب، و يترتب على ذلك عواقب خطرة جدّاً، فما أحرى بالإنسان أن يعترف بخطئه و يسعى في تعامله مع الآخرين في حمل سلوكياتهم و أفعالهم على الصحة، و على فرض أنّ أحد القادة أو العلماء أو الجهّال تصرّف من موقع الإنحراف و ارتكب بعض الذنوب، فلا يكون ذلك مسوّغاً للآخرين على سلوك هذا

______________________________

(1). روضة الواعظين، ص 542.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 94

المسلك و تبريره بتلك الذريعة الشيطانية، بل يجب على الإنسان أن يجعل الصلحاء و الأولياء اسوة له في دائرة السلوك و التكامل المعنوي و الأخلاقي.

بقي من موضوع الغيبة عدّة امور مهمّة لا بدّ من التعرّض لها:

1- استماع الغيبة

كما أنّ التحدّث بالغيبة من الذنوب الكبيرة فكذلك المشاركة في مجلس الغيبة و الاستماع للمغتاب في تعرضّه للمؤمنين و الوقيعة بالآخرين أيضاً من الذنوب الكبيرة، لأنّ جميع المفاسد المترتبة على الغيبة تتعلق بطرفين، المغتاب و المستمع للغيبة، فلو أنّ الشخص لم يجد في نفسه استعداداً لسماع الغيبة فمضافاً إلى أنّه قد تقدّم خطوة في طريق النهي عن المنكر، فكذلك لا يمكن للغيبة أن تتحقّق في الواقع، فلا يجد المغتاب من يستمع له ليكشف عن عيوب الناس و لا يتمكن من تسقيط شخصية الآخرين و لا هتك حرماتهم و لا يترتب على ذلك المفاسد الاجتماعية الاخرى.

و لهذا السبب نجد الروايات الإسلامية قد شاركت المستمع للغيبة

و جعلته أحد المغتابين كما ورد في أحد الروايات عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «المُستَمِعُ أحدُ المُغتَابِينَ» «1».

و ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله: «السّامِعُ للغَيبَةِ أَحَدُ المُغتَابِينَ» «2».

و في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه عند ما رأى أحد الأشخاص يرتكب الغيبة في حضور ولده الإمام الحسن عليه السلام فقال له: «يا بُنَي نَزِّهِ سَمعَكَ عَنْ مَثلِ هذا فَإنَّهُ نَظَرَ إلى أَخبَثِ ما فِي وِعائِهِ فَأَفرَغَهُ فِي وِعائِكَ» «3».

و كذلك ورد في الروايات الشريفة أنّ المستمع للغيبة يجب أن يتحرك من موقع الدفاع عن أخيه المسلم و ذلك من خلال حمل سلوكه على الصحّة.

______________________________

(1). جامع السعادات، ج 2، ص 297؛ بحار الانوار، ج 72، ص 226.

(2). المصدر السابق.

(3). ميزان الحكمة، ج 3، ص 2339.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 95

و في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: «مَنْ أُغتِيبَ عِندَهُ أَخُوهُ المُسلِمُ فاستَطاعَ نَصرَهُ وَ لَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنيا و الآخِرةِ» «1».

و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «إذا وَقَعَ فِي رَجُلٍ وَ أَنْتَ فِي مَلاءٍ فَكُنْ لِلرَّجُلِ ناصِراً وَ لِلقَومِ زاجِراً وَ قُم عَنهُم» «2».

و أيضاً ورد في الحديث النبوي الشريف قوله: «الساكِتُ شَرِيكُ المُغتَابِ» «3».

و نختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً حيث قال: «ألا وَ مَنْ تَطَوَّلَ عَلى أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ فَرَدَّها عَنهُ رَدَّ اللَّهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَ الآخِرَةِ فإنْ هُوَ لَم يَرُدَّها وَ هُو قادِرٌ عَلى رَدِّها كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ

مَنْ إِغتابَهُ سِبعِينَ مَرَّةً» «4».

و يمكن أن تكون هذه الرواية ناظرة إلى الموارد التي يكون فيها الشخص المستمع من أصحاب النفوذ و المكانة الاجتماعية في حين أنّ المغتاب ليس كذلك، و من الواضح أنّ سكوت مثل هذا الشخص يترتب عليه نتائج وخيمة على مستوى هتك حرمة ذلك الشخص المسلم حيث يكون استماعه لذلك أكثر ضرراً من كلام المغتاب نفسه.

2- الغيبة حق الناس أو حق اللَّه؟

و طبقاً لما ورد في تعريف الغيبة سابقاً يتّضح أنّ الغيبة من حقوق الناس لأنّها تتسبب في هتك حرمتهم و تسقيط شخصيتهم و إزهاق سمعتهم: و نعلم أنّ ماء وجه المسلم له من القيمة كما هو الحال في روح المسلم و ماله و عرضه.

و من التشبيه الوارد في الآية من سورة الحجرات حول الغيبة و أنّها كمن يأكل لحم أخيه ميتاً يتّضح جيداً أنّ الغيبة من حق الناس؛ و من الأحاديث الكثيرة يمكننا أن نستوحي هذا

______________________________

(1). المصدر السابق، ص 2339.

(2). كنز العمال، ح 8028.

(3). آثار الصادقين، ج 16، ص 98.

(4). من لا يحضره الفقه، ج 4، ص 8 و 9.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 96

المفهوم أيضاً و هو أنّ الغيبة نوع من الظلم و العدوان على الآخرين و الذي يجب التحرك على مستوى جبران هذا العدوان و تعويض الطرف الآخر لجبران الظلم الذي وقع عليه، و من ذلك:

1- أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال في حجة الوداع: «أَيُّها النّاسُ إِنَّ دِمائَكُم وَ أَموالَكُم وَ أَعراضَكُم عَلَيكُم حَرامٌ كَحُرمَةِ يَومِكُم هذا فِي شَهرِكُم هذا فِي بَلَدِكُم هذا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الغَيبَةَ كَما حَرَّمَ المَالَ وَ الدَّمَ» «1».

و لا شك أنّ كل دم برى ء يسفك لا بدّ من جبرانه، و كل مال مشروع يتُم اتلافه

من قِبل شخص آخر يجب عليه أن يقوم بتعويضه، و الغيبة أيضاً و من خلال هذا المنطلق يجب العمل على تلافيها و جبرانها بأي نحو ممكن.

و أساساً فإنّ جعل عرض المؤمن إلى جانب ماله و دمه لهو دليل واضح على أنّ تسقيط شخصية الإنسان و هتك حرمته إنّما هي من حق الناس.

2- و في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بعد أن قارن الغيبة بالزنا و أنّها أشدّ إثماً منه قال: «إنّ صاحِبَ الغَيبَةِ لا يُغفَرُ لَهُ حتّى يَغفِرَ لَه صاحِبُهُ» «2».

3- و جاء في كتاب مجموعة ورام أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «كُلُ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرامٌ وَ دَمُهُ وَ مالُهُ وَ عِرضُهُ، و الغَيبَةُ تَناوُلِ العِرضِ» «3».

العبارة الأخيرة من هذا الحديث الشريف و هي أنّ (الغيبة تناول العرض) مصداق التعرّض لناموس الشخص سواء كانت من كلمات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو كلمات الرواة، فإنّها على أي حال يمكن أن تكون شاهداً على المقصود.

و الشاهد الآخر على هذا المعنى هو الروايات الشريفة التي تتحدث عن أنّ الغيبة تسبب في نقل حسنات المغتاب من صحيفة أعماله إلى صحيفة أعمال المغتاب، و نقل سيئات المستغاب إلى الشخص المرتكب للغيبة (كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك) و هذا يعني أنّ الغيبة

______________________________

(1). شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 9، ص 62.

(2). المحجة البيضاء، ج 5، ص 251.

(3). مجموعة ورام، ج 1، ص 123.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 97

هي من حق الناس، لأنّ نقل الحسنات و السيئات لجبران الضرر الذي لحق بالمستغاب يعني أنّ الغيبة من حقوق الناس.

و بعد أن اتّضح هذا المفهوم و أنّ حق الناس يجب

أن يجبر و يعوّض يثار في الذهن هذا السؤال، و هو أنّ المغتاب كيف يتمكن من جبران خطئه و ذنبه؟

و يستفاد من بعض الروايات أنّ المستغاب لو علم بذلك و سمع بأنّ المستغيب يذكره بسوء، فيجب على المستغيب أن يذهب إليه و يطلب منه أن يرضى عنه و يجعله في حِلّ و إلّا لو لم يتصل به فيجب عليه أن يستغفر اللَّه تعالى، و يدعو للمستغاب بالرحمة و المغفرة (ليتم له التعويض عن ذلك الظلم في حق أخيه المؤمن) و هذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «فَإنَّ اغتِيبَ فَبَلَغَ المُغتابَ فَلَم يَبقَ إلّا أَن تَستَحِلَّ مِنهُ و إنْ لَم يَبلُغْهُ وَ لَمْ يَلحَقهُ عِلمَ ذَلِكَ فاستَغْفِرِ اللَّه لَهُ» «1».

و يتّضح من هذا الحديث الشريف أنّه لو لم تصل الغيبة إلى مسامع المستغاب فإنّ نقل هذا الخبر إليه قد يتسبب في أذاه أكثر و يترتب على ذلك مسؤولية أكبر، و لهذا السبب نجد أنّ الوارد في الحديث الشريف هو الاستغفار فحسب، و عليه ففي الموارد التي لا يتأثر فيها المستغاب من خبر الغيبة فلا يبعد وجوب طلب التحلل منه و كسب رضاه.

و من هنا يتّضح جيداً ما ورد في الروايات الشريفة أنّه: «كَفَّارَةُ الإغتِيابِ أَنْ تَستَغفِرَ لِمَنْ إِغتَبتَهُ» «2».

و الشاهد الآخر ما ذكر آنفاً هو الحديث الشريف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال: «مَنْ كانَتْ لأخِيهِ عِندَهُ مَظلَمَةٌ فِي عِرضٍ أَو مالٍ فَليَتَحَلَّلها مِنهُ مِنْ قبلِ أَنْ يَأتِي يَومٌ لَيسَ هُناكَ دِينارٌ وَ لا دِرهَمٌ إِنَّما يُؤخَذُ مِنْ حَسَناتِهِ فَإن لَم تَكُن لَهُ حَسَناتٌ اخِذَ مِنْ سَيئَاتِ صاحِبِهِ فَزِيدَتْ عَلَى سَيئَاتِهِ» «3».

و جاء في أدعية

أيّام الاسبوع للإمام زين العابدين عليه السلام الواردة في ملحقات الصحيفة

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 72، ص 242.

(2). ميزان الحكمة، ج 3، ص 2339، ح 15543 إلى 15548.

(3). جامع السعادات، ج 2، ص 306.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 98

السجادية عبارات واضحة لهذا المفهوم في دعاء يوم الإثنين حيث يقول فيه الإمام (من خلال كونه اسوة للآخرين): «وَ أَسأَلُكَ فِي مَظَالِمِ عِبادِكَ عِندِي، فَأَيُّما عَبدٍ مِنْ عَبِيدِكَ، أَو أَمَةٍ مِنْ إِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظلَمَةٌ ظَلَمتُها إِيَّاهُ فِي نَفْسِهِ أَو عِرضِهِ أَو فِي مالِهِ أَو فِي أَهلِهِ وَ وَلَدِهِ، أو غَيبَةٍ اغتَبتُهُ بِها، أو تَحامُلٌ عَلَيهِ بِمَيلٍ أو هَوىً، أو أنَفَةٍ أو حَمِيَّةٍ أو رِياءٍ أَو عَصَبِيةٍ غائِباً كانَ أَو شاهداً، حَيَّاً كانَ أَو مَيتاً، فَقَصُرتْ يَدِي وَ ضاقَ وسعِي عَنْ رَدِّها إِلَيهِ، وَ التَّحلُّلِ مِنهُ.

فَأَسأَلُكَ يا مَنْ يَملِكُ الحاجاتِ وَ هِيَ مُستَجِيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَ مُسرِعَةٌ إِلى إِرادَتِهِ أَن تُصَلِّي عَلى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ و أَن تُرضِيَهُ عَنِّي بِما شِئتَ ...» «1».

و على أيّة حال فإنّ احتمال كون الغيبة من حق الناس قوي جدّاً، و لذلك فإنّه لو لم يكن أمامه مشكل في طلب الرضا و التحلل منه وجب عليه ذلك.

و هناك ملاحظة مهمّة و هي أنّ أحد طرق جبران الغيبة هو أن يقوم المستغيب بالحضور في مجلس يحوي الأشخاص الذين كانوا قد حضروا مجلسه السابق، فيقوم بإعادة الشريط و تبرير سلوك أخيه المؤمن بما يوافق الأخلاق الحسنة و الشرع المقدّس و يحمله على الصحة بحيث تزول من الأذهان آثار الغيبة و تعود المياه إلى مجاريها.

3- مستثنيات الغيبة

يتفق علماء الأخلاق و كذلك الفقهاء على أنّ هناك موارد تجوز فيها الغيبة و قد تصبح واجبة أحياناً، و ذلك

بسبب طروء عوارض معينة على الغيبة ممّا يغيّر حكمها الأصلي.

و بعبارة اخرى أنّ الغيبة بعنوانها الأولى حرام بلا شك و من الذنوب الكبيرة و في ذلك يتفق علماء الإسلام، و لكن هناك عناوين ثانوية تطرأ على هذا الفعل بإمكانها أن تكون حاكمة على العنوان الذاتي و الأولى ممّا يفضي إلى أن تكون الغيبة جائزة بل واجبة، و ذلك في الموارد التي تكون فيها المصلحة أهم و يكون حفظ هذه المصلحة غالب على المفاسد

______________________________

(1). ملحقات الصحيفة السجادية، دعاء يوم الاثنين.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 99

الكبيرة المترتبة على الغيبة. و من جملة هذه الموارد التي تدخل في مستثنيات الغيبة ما يلي:

1- أن يكون الإنسان في حالة التظلّم و طلب حقّه من الآخر و يسعى لرفع هذه الظلامة بحيث لو أنّه لم يتعرّض لذكر الطرف الآخر بالسوء و لم يصرّح للآخرين بسلوك ذلك الظالم فإنّه لا يصل إلى حقّة.

و هذا هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى: «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَ كَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» «1».

2- في موارد النهي عن المنكر، أيّ في حالة ما إذا لم يتحرّك الإنسان لفضح الطرف الآخر و يكشف عن أعماله السيئة، فإنّ ذلك المذنب سوف يستمر في غيّه و يقوم على ذنبه، فهنا ترجح مصلحة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على مفسدة الغيبة، بل قد تكون واجبة في بعض الحالات.

3- في مورد أهل البدع و كذلك الذين يحيكون المؤامرات ضدّ المسلمين بحيث لو أنّ أعمالهم الخفيّة تجلّت و كشفت للمسلمين، فإنّ الناس سوف يتصدّون لهم و يتحركون من موقع دفعهم و ابطال مؤامراتهم، فهنا تكون غيبة مثل هؤلاء الأشخاص جائزة، بل واجبة.

4-

في مورد ما إذا كان المسلم يعيش الخطر على نفسه أو ماله أو عرضه من شخص آخر و هذا المسلم لم يكن على علم بالخطر المحيط به، و هنا يكون إخباره بهذا الخطر جائز، بل واجباً أحياناً.

5- في مورد المشورة، بمعنى أنّ أحد الأشخاص أراد مثلًا الزواج من مسلمة و أراد طلب يدها من والديها أو أراد شخص تشكيل شركة أو السفر إلى أحد البلدان، و طلب من شخص آخر أن يشير عليه بما يراه صلاحاً له، فهنا لا يمكن القول بأنّ الكشف عن عيوب الطرف الآخر حرام، بل إنّ أمانة المشورة تقتضي أن يقول المستشار ما يعلمه و ما هو مطلّع عليه من نقاط القوّة و الضعف، و لا ينبغي أن يحجم عن النصح و المشورة لأخيه المؤمن خوفاً

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 148.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 100

الاخلاق فى القرآن ج 3 149

من الوقوع في الغيبة، لأنّ ستر مثل هذه المعايب يعتبر خيانة للمستشير و الخيانة في المشورة حرام.

6- في مورد الشهادة، و ذلك عند ما يطلب من الإنسان أن يدلي بشهادته في موقع التحكيم أو المحكمة، فهنا تجوز الغيبة، لأنّ مصلحة الشهادة أقوى، و كذلك في موارد إجراء الحدود الإلهية، فلو أنّ عدّة أشخاص رأوا بأنّ الشخص الفلاني يشرب الخمر أو يزني فلهم أن يأتوا إلى حاكم الشرع و يشهدوا عليه بذلك ليجري عليه الحدّ، و كذلك فيما لو شهد أشخاص على أمر معيّن و كان هؤلاء الشهود في الواقع فسّاق و لم يكن الحاكم يعلم بخبرهم و حالهم، و هنا يجوز فضح هؤلاء الشهود، و بعبارة اخرى يجوز جرح الشهود (و طبعاً فإنّ جميع هذه الموارد هي فيما لو كان عدد

الشهود كافياً لإثبات الموضوع).

4- حكم المتجاهر بالفسق

يتفق علماء الأخلاق و الفقهاء العظام عادةً على جواز غيبة المتجاهر بالفسق و يرون أنّها من مستثنيات الغيبة و يصرّحون بأنّ غيبة مثل هؤلاء الأشخاص الذين مزّقوا ستار الحياء و أجهروا بالمعاصي أمام الناس، فإنّهم لا غيبة لهم و قد تمسكوا في ذلك بروايات في هذا الباب.

ففي حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: «أَربَعَةٌ ليستْ غَيبَتُهُم غَيبَة الفاسِقُ المُعلِنُ بُفسقِهِ ...» «1».

و في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «ثَلاثَةٌ لَيسَ لَهُم حُرمَةٌ صحِبُ هَوىً مُبدِعٍ و الإمامُ الجائِرُ و الفاسِقُ المُعلنُ الفِسقَ» «2».

و في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» «3».

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 72، ص 261.

(2). المصدر السابق، ص 253.

(3). المصدر السابق، ص 260.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 101

و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَ تنزَعُونَ عَنْ ذِكرِ الفاجِرِ أَنْ تَذكُرُوه، فَاذكُرُوهُ يَعرِفُهُ النّاسُ» «1».

و الأحاديث في هذا الباب كثيرة.

و لكن الظاهر أنّ مثل هؤلاء الأفراد خارجون بالتخصص من موضوع الغيبة لا أنّ حكم الغيبة يشملهم أولًا ثم يدخلون في مستثنيات الغيبة، لأنّ للغيبة شرطين:

الأول: أن يكون العيب مستوراً و هذا الشرط لا يتوفر في هؤلاء الأشخاص.

الثاني: كراهية الطرف الآخر لأن يذكر بسوء، و هذا الشرط أيضاً غير متوّفر فيما نحن فيه لأنّ المتجاهر بالفسق لو كان يتأثر و يتألم من ذكره بسوء لم يكن يرتكب ذلك العمل علانية و جهراً، و بتعبير علماء الاصول أنّ خروج مثل هؤلاء الأشخاص يكون بالتخصص لا بالتخصيص.

و هنا تثار عدّة أسئلة في هذا الصدد، الأول

هو أنّه هل أنّ جواز غيبة المتجاهر بالفسق يختص بالذنوب التي تجاهر بها أو يستوعب جميع الذنوب فتكون غيبته جائزة مطلقاً؟

و الآخر هو أنّه إذا كان يتجاهر بالفسق عند جماعة معينة أو في مكان خاص و لكنه لا يرتكب ذلك المنكر أمام جماعة اخرى أو في مكان آخر فهل يجوز غيبة هذا الشخص أيضاً؟

و الثالث هو هل أنّ جواز غيبة المتجاهر بالفسق مشروط بوجود شرائط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أي أن تكون الغيبة مؤثرة في عملية الردع و إلّا فلا تجوز؟

و نظراً لما تقدّم من بيان حالة هؤلاء الأفراد من الناحية الشرعية يتّضح الجواب عن هذه الأسئلة جميعاً، و هو أنّ غيبة هؤلاء الأشخاص إنّما تجوز في موارد التجاهر بالفسق، و لكن بالنسبة إلى الأعمال الاخرى أو الوسط الآخر و الأجواء الاخرى، فلا تجوز، لأنّ أدلة حرمة الغيبة لا تشمل المتجاهر بالفسق و من المعلوم أنّ حالة التجاهر لا يستوجب توّفر شرائط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فلا ضرورة لها لأنّ عناصر تشكيل الغيبة غير متوّفرة.

______________________________

(1). كنز العمال، ج 3، ص 595، ح 8069.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 102

و يحتمل كذلك أنّ المقصود بالمتجاهر بالفسق هو الشخص الذي قام بتمزيق ستار الحياء و تحرّك في ارتكابه للمعاصي و الذنوب من موقع الجرأة على الدين و المجتمع الإسلامي، فمثل هؤلاء الأفراد لا احترام لهم، بل يجب التعريض بهم و فضحهم ليكون الناس على حذر منهم و في أمان من أعمالهم كما ورد في الحديث الشريف المتقدّم: «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ» فحينئذٍ يقول الحديث «فاذكروه يعرفه الناس» فهو ناظر إلى هذا المعنى.

و على هذا الأساس يمكن القول بأنّ المتجاهر بالفسق على نحوين:

الأول: أن يكون

متجاهراً بعمل معيّن فحينئذٍ تجوز غيبته في ذلك العمل بالخصوص، و الآخر: الأشخاص الذين قاموا بتمزيق لباس العفة و الحياء و انطلقوا وراء ارتكاب الذنوب بكل صلافة و جرأة من دون رعاية القيم الاجتماعية و الدينية، فمثل هؤلاء الأشخاص لا احترام لهم أبداً من فضحهم و كشف واقعهم أمام الناس كيما يحذر الآخرون من أخطارهم و مفاسدهم.

و نختم هذا الكلام بذكر ملاحظتين:

الاولى: هي أنّنا نعلم أنّ أحد العلوم الإسلامية المعروفة هو علم الرجال حيث يبحث فيه صدق و كذب الرواة و حالتهم على مستوى كونهم ثقة أو غير ثقة، و هناك بعض من لا خبرة له بالامور يتجنّب الخوض في علم الرجال و يرفض تعلّم هذا العلم لأنّه بحسب تصوّره أنّه يفضي إلى الخوض في الغيبة في حين أنّ من الواضح أنّ حفظ حريم الشرع و الأحكام الإسلامية من المواضيع الكاذبة و الأخبار المختلفة أهمّ كثيراً من التعرّض لبعض الرواة و جرحهم، و هذا الهدف السامي هو الذي يبيح لنا أن نتحرّك على مستوى التحقيق في سوابق الرواة و حالاتهم و البحث عن نقاط ضعفهم و إثباتها في كتب الرجال لكي نأمن على الشريعة المقدّسة من الأخبار المزيفة و لكي تكون الأحكام الإلهية في مأمن من تدخل الأهواء و النوازع الذاتية لبعض الرواة.

و الاخرى: هي أنّ المسائل الاجتماعية و السياسية و المناصب الحساسة في المجتمع الإسلامي تقتضي أحياناً إفشاء بعض نقاط الضعف للمسؤولين، فهذا المعنى و إن كان في حدّ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 103

ذاته مشمولًا لعنوان الغيبة و مصداقاً من مصاديقها إلّا أنّ أهمية حفظ النظام الإسلامي و كشف و إبطال المؤامرات الموجهة إلى المجتمع الإسلامي أهم بكثير و لذلك لا إشكال في ذلك،

بل قد يكون واجباً أحياناً، و الأشخاص الذين يتسترون على عيوب هؤلاء لكي لا يقع في ورطة الغيبة هم في الواقع يضحّون بمصالح المجتمع الإسلامي من أجل الأفراد، و قد تقدّم في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه ذمّ هؤلاء و قال: «أَ تنزَعُونَ عَنْ ذِكرِ الفاجِرِ أَنْ تَذكُرُوه، فَاذكُرُوهُ يَعرِفُهُ النّاسُ»، و أمر بفضحهم ليعرفهم الناس.

و لكن هذا لا يعني أن يقوم بعض الناس بهتك حرمة الأفراد و فضحهم بدون مبرّر أو يتحرّكون في هذا السبيل أكثر من اللازم و يتعرّضون لحيثية الأفراد و يتجاوزون حدودهم الشرعية.

و ما تقدّم آنفاً يوضّح وظيفة الأجهزة الخبرية و المخابراتية في الدوله الإسلامية، فإن كان نشاط هذه الأجهزة و المجاميع التجسسية تصب في غرض الكشف عن الخطر الذي يهدّد سلامة المجتمع الإسلامي و سلامة المناصب الحساسة في غ الدولة الإسلامية، فلا ينبغي أن يتجاوزوا الحدود المشروعة، و حينئذٍ فانّ عمل هؤلاء لا يحسب في دائرة التجسس و لا يكون مشمولًا لعنوان الغيبة المحرمة، بل هو أداء للوظيفة الشرعية و الواجب الإنساني.

5- شمول دائرة الغيبة

لا شك في حرمة غيبة الشخص المؤمن البالغ العاقل، و لا شك في جواز غيبة الكافر الحربي الذي ينوي هدم الإسلام و يتحرّك من موقع التعرّض للمجتمع الإسلامي، لأنّه لا حرمة لمثل هذا الشخص.

و لكن هل أنّ غيبة سائر فرق المسلمين و أهل الذمة (و هم الذين لديهم كتاب سماوي من غير المسلمين و يعيشون في داخل إطار المجتمع الإسلامي) جائزة أو أنّ غيبتهم حرام كما هم محترمون في أنفسهم و أموالهم؟

بعض الفقهاء مثل المحقق الأردبيلي و العلّامة السبزواري يرون حرمة الغيبة بشكل عام

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 104

و يتمسكون بالروايات

الواردة بعنوان (المسلم) أو الناس و ذهبوا إلى أنّ حرمة غيبة هؤلاء ليست عجيبة، لأنّ أموالهم و أنفسهم محترمة فلما ذا لا يكون عرضهم كذلك؟

و لكن المرحوم صاحب الجواهر قدس سره خالف ذلك بشدّة و قال: «بأنّ ظاهر الروايات يدلّ بضم بعضها إلى بعض على أنّ حرمة الغيبة مختصة بالمؤمنين و أتباع أهل البيت عليهم السلام و حتى أنّه استدل بالسيره المستمرة بين العلماء و العوام أيضاً.

إذا كان مقصود هذا الفقيه الكبير من المخالفين لأهل البيت عليهم السلام هم النواصب و أعداء المؤمنين و المسلمين فلا شك في عدم حرمتهم و حرمة غيبتهم، و لكن إذا كان الكلام عن الفرق الإسلامية التي من المقرر حفظ و احترام أنفسهم و أموالهم و كذلك أهل الكتاب من أهل الذمة فإنّ رأي المحقق الأردبيلي قدس سره هو الأقرب إلى الصواب، لأنّه في كل مورد تكون نفس الإنسان و ماله محترماً، فكذلك عرضه و ماء وجهه فلا يجوز التعرّض له بالغيبة، و توجيه الخطاب للمؤمنين في الآية 12 من سورة الحجرات (آية الغيبة) أو التعبير بالمؤمن في بعض الروايات لا يدلّ على عدم شمول حكم الغيبة بالنسبة إلى الآخرين، و بعبارة اخرى إنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه.

و على هذا الأساس يجب اجتناب غيبة جميع الأشخاص الذين تكون نفوسهم و أموالهم و أعراضهم محترمة و جميع هؤلاء يشملهم حق الناس، و طبعاً هذا في صورة ما إذا لم يكن متجاهراً بالفسق و لم يكن يتحرّك من موقع المؤامرة و الدسيسة على الإسلام و المسلمين، بل كانت لهم عيوب و ذنوب مستورة و خاصة بهم، فيكون فضحهم و الكشف عن هذه العيوب و إراقة ماء وجههم ليس مسوّغ شرعي

قطعاً.

و أمّا بالنسبة إلى الطفل المميّز الذي يتألم من الغيبة فأيضاً يجب القول بأنّ غيبته حرام كما أشار إلى ذلك الشيخ الأنصاري قدس سره في المكاسب المحرّمة و قال: إنّ عنوان الأخ المؤمن صادق عليه أيضاً كما قال تعالى عن الأيتام: «و إنْ تُخالِطُوهُم فَاخوانُكُم» «1».

و لكنّ الصواب هو أنّه لا ينبغي تقييد المورد بالمميّز، لأنّ كشف العيوب المستورة للطفل

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 220.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 105

غير المميز يعدّ هتكاً لشخصيته المستقبلية أو هتكاً لحيثية اسرته، و هو عمل مخالف للقيم الأخلاقية، و لهذا السبب فإنّ الشهيد الثاني قدس سره في كتابه (كشف الريبة) لم يفرّق بين الصغير و الكبير، بعبارة اخرى أنّ أطفال المؤمنين كالمؤمنين أنفسهم من حيث حرمة النفس و المال و العرض.

و من هنا يتّضح حكم المجانين و السفهاء أيضاً.

6- الغيبة العامة و الخاصة

أحياناً تكون الغيبة عن شخص خاص أو أشخاص معيّنين حيث تبيّن حكمها في الأبحاث السابقة من جهات مختلفة، و لكن هناك موارد اخرى تكون الغيبة ذات جهة عامة و كلية، مثلًا يقول: إنّ أهل المدينة الفلانية بخلاء، أو جهلاء، أو سفهاء، أو يقول إنّ أهالي القرية الفلانية لصوص أو مدمنين أو متحلّلين أخلاقياً و أمثال ذلك.

فهل أنّ جميع أحكام الغيبة ترد في مثل هذه الموارد أم لا؟

يمكن القول أنّ الغيبة لها عدّة صور و وجوه:

1- فيما إذا كانت الغيبة متوجّه لشخص أو أشخاص معدودين لا يعرفهم المخاطب، كأن يقول: إنّ في المدينة أو القرية الفلانية عدّة أشخاص يشربون الخمر أو يرتكبون الأعمال المنافية للعفة، فلا شك في عدم جريان أحكام الغيبة هنا، لأنّ المتكلم لم يذكر في كلامه عيباً مستوراً عن شخص معيّن.

2- أن يكون المورد من قبيل الشبهة

المحصورة (و كما يصطلح عليه شبهة القليل بالقليل أو الكثير بالكثير) مثلًا يقول: أنني رأيت أحد هؤلاء الأربعة أشخاص يشرب الخمر (أو يذكر أسماء هؤلاء الأربعة أو يقول أنّ أولاد زيد و أمثال ذلك) أو يقول: أنّ جماعة كثيرة من أهالي القرية الفلانية يرتكبون هذا العمل بحيث أنّ التهمة تتوجه إلى الجميع من موقع الشك فيهم.

و الظاهر أنّ أدلة حرمة الغيبة تشمل هذا المورد، و على فرض عدم اطلاق اسم الغيبة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 106

عليها من حيث أنّها تعدّ كشفاً ناقصاً عن العيب المستور، فهي حرام من جهة هتك احترام المؤمن و جعله في قفص الإتّهام.

3- أن ينسب إلى جميع أهل البلدة أو القرية أمراً قبيحاً و مخالفاً للشرع و الأخلاق، فلا شك في جريان أحكام الغيبة على هذا المورد أو على الأقل صدق عنوان هتك احترام المؤمنين سواء كان مقصوده جميع أهالي البلدة بدون استثناء أو الأكثرية منهم.

و على هذا الأساس لا يجوز نسبة بعض الصفات أو الممارسات القبيحة لأهالي بلدة معيّنة إلّا أن يكون هناك قرينة على أنّ مقصوده بعض الأشخاص القلّة منهم، و كما يصطلح عليه شبهة القليل في الكثير أو الشبهة غير المحصورة، أو يكون كلامه عنهم معروفاً لدى الجميع و في نفس الوقت لم يكن قاصداً لهتكهم و ذمّهم.

7- الدفاع في مقابل الغيبة

هل يجب على الشخص المستمع للغيبة أن يدافع عن أخيه المؤمن الذي تعرّض للغيبه و يرد على المستغيب أم لا؟ مثلًا يقول في دفاعه: أنّ الإنسان غير معصوم و كل شخص يتعرّض لارتكاب الخطأ أو يقول: أنّ من الممكن أن يكون قد صدر هذا الفعل منه سهواً أو نسياناً أو كان في نظره حلالًا و هكذا يحمل فعل أخيه المسلم

على الصحة، و عليه فلو كان الفعل قابلًا للتبرير فإنّه يتحرّك في تبريره و توجيهه، و إن لم يكن كذلك قال: من الأفضل أن نستغفر له بدل أن نقع في غيبته لأننا جميعاً معرّضين لمثل هذه الأخطاء.

بعض الفقهاء الكبار يرون وجوب الدفاع و منهم شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره في بحث الغيبة في المكاسب المحرّمة.

و هناك روايات كثيرة أيضاً تتحدّث عن لزوم ردّ الغيبة و قد ذكرها المرحوم صاحب كتاب وسائل الشيعة في الباب 156 من أبواب أحكام العشرة في الحج و منها:

في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا عَلي مَنْ اغتِيبَ عِندَه أخوهُ المُسلِمُ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 107

فاستَطاعَ نَصرَهُ وَ لَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنيا و الآخِرَةِ» «1».

و نفس هذا المضمون أو ما يشبهه ورد في روايات متعددة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و الإمام الصادق عليه السلام.

و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال في خطبة له أمام الناس: «مَنْ ردّ عَنْ أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ رَدَّ اللَّهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَ الآخِرَةِ فإنْ لَم يَرُدَّ عَنهُ و أَعجَبَهُ كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ» «2».

و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرضِ أَخِيهِ كانَ لَهُ حِجاباً مِن النّارِ» «3».

و لكنّ الصحيح أنّه لا يستفاد وجوب الدفاع من هذه الروايات، بل غاية ما يستفاد منها هو الاستحباب المؤكّد، لأنّ التعبير لكلمة (خذله اللَّه) الوارد في عدّة روايات من هذا الباب لا يقرّر أكثر من أنّ اللَّه تعالى

لا يعين هذا الشخص و يتركه لحاله (لأنّ معنى الخذلان هو ترك النصرة و المساعدة) و كذلك ما ورد في الثواب و الجنّة أو النجاة من النار في بعض الروايات فانّه في قوله: «كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ» قد تدل على وجوب الدفاع و لكنّ الوارد في هذه الرواية هو أنّ الإثم لا يقتصر على الاستماع و عدم الدفاع فقط بل ينشرح و يفرح من سماعه لهذه الغيبة، و على أية حال فسواء كان الدفاع عن المسلم في مقابل الغيبة واجباً أو مستحباً مؤكّداً فانّه يعدّ وظيفة مهمّة في دائرة المفاهيم الإسلامية، و إذا كان الدفاع نهياً عن المنكر فهو واجب قطعاً.

8- غيبة الأموات

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 66.

(2). المصدر السابق، ص 607.

(3). المصدر السابق، ج 19، ص 47، باب 24.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 108

أحياناً يتصوّر البعض أنّ مفهوم الغيبة الوارد في الروايات الشريفة ناظر إلى الأحياء من المسلمين و لا يشمل الأموات، و عليه يجوز غيبة الأموات، و لكنّه خطأ فاحش، لأنّ الوارد في الروايات الإسلامية أنّ «حرمة الميت كحرمته و هو حي» بل يمكن القول بأنّ غيبة الميت أقبح و أشنع من بعض الجهات من غيبته و هو حي لأنّ الأحياء يمكن أن يصل إليهم خبر الغيبة و يتحرّكون من موقع الدفاع عن أنفسهم و يردّون على من إغتابهم، و لكنّ الميت غير قادر على الدفاع أبداً، مضافاً إلى أنّ الشخص المرتكب للغيبة قد يرى الطرف الآخر فيما بعد و يطلب منه الصفح و أن يكون في حلّ و لكن هذا المعنى لا يصدق على الأموات.

و مضافاً إلى ذلك الأوامر و الإرشادات الدينية الواردة في ضرورة احترام جسد الميت المسلم من قبيل

الأمر بغسله و تكفينه و الصلاة عليه و المفاهيم الواردة في الصلاة عليه و دفنه و زيارة أهل القبور و حرمة هتك قبر المؤمن و أمثال ذلك كلّها يدلّ على وجوب حفظ حرمة الميت المسلم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 109

5

حسن الخلق و سوء الخلق

تنويه:

حسن الخلق بمعناه الخاص هو أن يعيش الإنسان في تفاعله الاجتماعي و علاقاته مع الآخرين بصورة حسنة و كلام طيب و وجه بشوش و سلوكيات قابلة للمرونة و التلاؤم مع الآخرين و يتحدّث معهم من موقع المحبّة و اللطف و ترتسم على شفتيه الابتسامة و الانفتاح، و كل هذه تعتبر من الفضائل الأخلاقية المؤثرة إيجابياً في تعميق الروابط الاجتماعية.

(و على العكس من ذلك سوء الخلق و مواجهة الآخرين بوجه خشن و التقطيب في وجوههم و الجفاف في معاملتهم و الخشونة في التحدّث معهم، فهو من الرذائل الأخلاقية التي تمتد في جذورها إلى أعماق النفس الإنسانية و تبعث على تنفّر الآخرين و ابتعادهم عن هذا الشخص و تؤدّي بالتالي إلى إرباك العلاقات الاجتماعية و ضعف الروابط الأخوية بين الأفراد.

و هناك مطالب كثيرة في هذا المجال في القرآن الكريم و الروايات الشريفة و سيرة المعصومين عليهم السلام تحكي عن الأهمية البالغة لهذه الفضيلة و تلك الرذيلة على مستوى الفرد و المجتمع.

و من المعلوم أنّ جانباً مهمّاً من نجاح الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في مهمّته و رسالته، و كذلك

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 110

سائر المعصومين و كبار العلماء و القادة المصلحين مدين لهذه الخلّة الحسنة في تعاملهم مع أفراد المجتمع و هي (حسن الخلق)، و من الأسباب المهمّة في عدم موفقيّة بعض القادة و العظماء في التاريخ البشري رهين لسوء خلقهم أيضاً، إنّ تاريخ

الأنبياء و الأولياء و المعصومين و سائر القادة المصلحين في العالم ملي ء بشواهد حيّة على هذا الموضوع.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ما يرشدنا في هذا الطريق و يسلّط الضوء على زواياه المعتّمة:

1- «فَبَما رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» «1».

2- «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «2».

3- «وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» «3».

4- «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ» «4».

5- «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» «5»

6- «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ* وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «6».

تفسير و استنتاج:

«الآية الاولى» وردت مسألة (حسن الخلق) بعنوان أنّها أحد الخصوصيات للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أحد العوامل المهمّة لتقدّم و تكامل الدعوة الإسلامية في المجتمع العربي آنذاك

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 159.

(2). سورة قلم، الآية 4.

(3). سورة لقمان، الآية 18 و 19.

(4). سورة البقرة، الآية 84.

(5). سورة طه، الآية 43 و 44.

(6). سورة فصلت، الآية 34 و 35.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 111

فتقول الآية: «فَبَما رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...».

و على هذا الأساس فانّ حسن خلق النبي الأكرم صلى

الله عليه و آله هو في الحقيقة رحمة إلهية له و لأُمّته، و بديهي أنّ هذا الخلق الحسن و قابلية الانعطاف و مداراة الآخرين تعد من البركات و المواهب الإلهية على كل إنسان يتحلّى بهذه الخصال و السلوكيات الحميدة.

و من التعبير أعلاه في الآية الشريفة نجد النقطة المقابلة لهذا السلوك، و هو أن يكون الإنسان غليظ القلب و سيئ الخلق و خشناً في التعامل مع الآخرين حيث تشير الآية إلى نتائج مثل هذا السلوك السلبي، و هي تفرّق الناس و انفضاضهم عن هذا الإنسان الخشن و ابتعادهم عنه، و بعبارة اخرى أنّ (حسن الخلق) يمثّل اللبنة الاساسية في شد أوصال المجتمع و تقوية وشائج المحبّة بينهم، و سوء الخلق عامل لتفرّق الأفراد و إيجاد الخلل في العلاقات الاجتماعية و يؤدّي إلى نفور الناس.

إنّ كلمة (فظ) و (غليظ القلب) يأتيان بمعنى واحد و يراد بذلك التأكيد، و يمكن أن يكون لهما معنى مختلف عن الآخر، و يقول (الطبرسي) في مجمع البيان في كلمة جامعة: «و قيل إنّما جمع بين الفظاظة و الغلظة و إن كانا متقاربين لأنّ الفظاظة في الكلام فنفي الجفاء عن لسانه و القسوة عن قلبه» و عليه فكلا الكلمتين تردان بمعنى الخشونة و الجفاء، و أحدهما في الكلام، و الاخرى في السلوك و الفعل.

و على أي حال فانّ اللَّه تعالى قد وهب نبيّه الكريم حالة اللّيونة و الانعطاف و البشاشة و حسن التعامل مع الآخرين بحيث أنّه كان يسلك هذا السلوك مع أعتى الناس و أخشنهم و أقساهم قلباً، و بهذه الطريقة جذب هؤلاء القساة إلى الإسلام فاعتنقوا الإسلام من موقع الرغبة و الشوق و الانجذاب لهذا الخلق الرفيع.

و بتبع ذلك توجّه الآية

سلسلة إرشادات و أوامر عملية تخرج حالة (حسن الخلق) و البشاشة من صورتها الظاهرة و تلبسها ثياباً عملية على مستوى الممارسة و التطبيق و تقول: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 112

و على هذا الأساس استقطب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أبعد الناس عن اللَّه تعالى و الدين و الأخلاق و جذبهم إليه و أصبح قدوتهم و أسوتهم في حسن الأخلاق.

إنّ سياق هذه الآيات يشير إلى أنّ هذه الآية متعلقة بالآيات النازلة في معركة أحد حيث كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و المسلمين يعيشون أشدّ الظروف و أقسى الحالات النفسية طيلة هذه الحرب، و بديهي إنّ عملية العفو و الاستغفار و الانفتاح على الآخرين من موقع المحبّة و اللطف جعلت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في أسمى مراتب حسن الخلق و حسن التعامل الكريم مع الغير، و قلّما نجد إنساناً يتمكّن في مثل تلك الظروف الصعبة و التحديّات الشرسة أن يحافظ على حسن أخلاقه و لا ينفعل أمام تحديّات الواقع الصعب.

و تأتي «الآية الثانية» لتشير إلى حسن الخلق العجيب للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث تعبّر عنه بالخلق العظيم و تقول: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».

(خُلُق) على وزن افق، مفرد و هو مع كلمة خُلْق (على وزن كُفر) بمعنى واحد، و يستفاد من مفردات الراغب أنّ خَلْق (على وزن حلق) تشترك في جذر واحد معها غاية الأمر أنّ (خَلْق) تطلق على الصفات الظاهرية، و (خُلْق) تطلق على الصفات الباطنية.

و يرى بعض أرباب اللغة أنّ كلمة (خُلْق) و (خُلُق) تردان بمعنى

الدين و الطبع و السجية حيث يقصد بها الصورة الباطنية للإنسان «1».

و على أيّة حال فانّ وصف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأنّه ذو خلق عظيم يدلّ على أنّ هذه الصفة الأخلاقية من أعظم صفات الأنبياء، و يرى بعض المفسّرين أن الخلق العظيم للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله يتمثّل في صبره و تحمّله في طريق الحق وسعة بذله و كرمه، و تدبير امور الرسالة و الدعوة، و الرفق و المداراة للناس و تحمّل الصعوبات الكبيرة في مواجهة تحدّيات الواقع الصعب في طريق الدعوة إلى اللَّه و الجهاد في سبيله و ترك الحرص و الحسد و التعامل مع

______________________________

(1). لسان العرب، مادة خلق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 113

الأعداء و الأصدقاء من موقع العفو و اللطف و المحبّة «1» و كل هذه الامور تشير إلى أنّ الخلق العظيم لا ينحصر بالبشاشة و الانعطاف في مواجهة الآخر، بل هو مجموعة من الصفات الإنسانية السامية و القيم الأخلاقية الرفيعة، و بعبارة اخرى: يمكن القول بأنّ جميع الأخلاق الحسنة الرفيعة جُمعت في عبارة (خلق عظيم).

و ممّا يؤيد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ أَدّبَ نَبِيَّهُ فَأَحسَنَ أَدَبَهُ فَلَمّا أَكمَلَ لَهُ الأَدَبَ قَالَ إِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «2».

و عند ما نقرأ في بعض الروايات أنّ الخلق العظيم يراد به الإسلام أو الآداب القرآنية إنّما هو لأنّ الإسلام و القرآن يحويان جميع الفضائل الأخلاقية، في حين أنّ بعض الروايات الواردة في تفسير هذه الآية فسّرت (حسن الخلق) بالبشاشة و المداراة و من ذلك الحديث الذي أورده (نور الثقلين) في ذيل هذه الآية عن الإمام الصادق

عليه السلام حيث سئل عن حسن الخلق في هذه الآية فقال: «تَلِينُ جانِبَكَ وَ تُطَيِّبُ كَلامَكَ وَ تلِقى أَخاكَ ببُشرِ حسنٍ» «3».

و لكن الظاهر عدم التنافي بين هذين المعنيين.

و آخر ما يقال في هذا المورد و الجدير بالتأمل في هذه الآية هو أنّ بعض المفسّرين إستفادوا من كلمة (على) في قوله «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» و التي تفيد مفهوم التسلّط و القدرة أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله له تسلط كامل على الفضائل الأخلاقية و كأنّ الأخلاق و القيم الإنسانية جزء من كيانه الشريف حيث يتحرّك من هذا الموقع بدون تكلّف و تصنّع.

و تستعرض «الآية الثالثة» وصايا و نصائح (لقمان الحكيم) لولده حيث يذكر له أربعة امور مؤكّداً عليها:

______________________________

(1). مجمع البيان، ج 10، ص 331، ذيل الآية المبحوثة.

(2). نور الثقلين، ج 5، ص 389؛ اصول الكافي، ج 1، ص 26، ح 4.

(3). نور الثقلين، ج 5، ص 391.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 114

الأول: قول: «وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ».

ثم أضاف «وَ لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»

و في الثالث و الرابع من هذه النصائح القيمة يوصي لقمان ابنه بالاعتدال في المشي و عدم رفع الصوت و يقول: «وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».

و هذه الامور الأخلاقية تمثّل جزءاً مهمّاً من (حسن الخلق) في التعامل مع الآخرين و طريقة السلوك الاجتماعي بين الناس و المقترنة بالبشاشة و التواضع و الاتّزان في الكلام و السلوك، و نستوحي من ذلك أنّ اللَّه تعالى قد إهّتم بكلمات لقمان الحكيم هذه بحيث ضمّنها في كتابه الكريم.

(تصعر) من مادة (صَعَرَ) على وزن خطر، و هي

في الأصل نوع من الأمراض التي تصيب الابل فتلوي أعناقها، ثم اطلقت على أي نوع من ميل العنق، و هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى و هو أنّ سوء الخلق نوع من المرض الذي يشبه في سلوكه سلوك الحيوان، و الملفت للنظر أنّ هذا النهي عن هذا العمل لا يقتصر على المؤمنين بل يستوعب جميع أفراد البشر و يقول: «وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ». و على أيّة حال فإنّ جعل هذه الصفة الرذيلة إلى جانب التكبّر و الافراط في المشي و الصوت يبيّن أنّ جميع الصفات الرذيلة تؤدّي بشكل من الأشكال إلى نفور الناس و امتعاضهم.

و في الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير عبارة «وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ» قال: «أَي لا تَذُل للنَّاسِ طَمعاً فِيما عِندَهُم وَ لا تَمشِي فِي الأَرضِ مِرَحاً أي فَرحاً» «1».

«الآية الرابعة» من هذه الآيات محل البحث نقرأ خطاباً إلهياً لبني اسرائيل على أساس من العهد الإلهي للمخاطبين بعد التأكيد على التوحيد الخالص و الاحسان للوالدين و الأقربين و اليتامى و المساكين، يقول تعالى: «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ».

فهذا الخطاب يبيّن التوحيد من جهة و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة من جهة اخرى يبيّن

______________________________

(1). تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 207.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 115

أهميّة حسن المعاملة و مداراة الناس و التعامل بالأخلاق الحسنة، و بهذا يكون حسن الخلق في عملية التفاعل الاجتماعي و على مستوى الروابط الأخلاقية الحسنة للآخرين في عداد أهم التشريعات الإسلامية و المقرّرات الدينية.

و في الواقع بما أنّ مال الإنسان محدود و لا يمكن أن يصل باحسانه المادي إلى المحتاجين كافة من الأقرباء

و الأصدقاء و سائر الفقراء فقد ورد جبران ذلك بالبشاشة و حسن الخلق مع الناس حيث يمثّل كنزاً لا يفنى كما ورد في الحديث المعروف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِنّكُم لا تَسَعُونَ النّاسَ بِأَموالِكُم وَ لَكن يَسَعُهُم مِنكُم بَسطَ الَوجهِ وَ حُسنِ الخُلقِ» «1».

و في حديث آخر عن الإمام الباقر في تفسير هذه الآية أنّه قال: «قُولُوا للنّاسِ أَحسَنِ ما تُحِبُّونَ أَن يُقالُ لَكُم» «2».

و صحيح أنّ المخاطبين بهذه الآية هم بنو اسرائيل، و لكنّ خصوصية المورد لا تخصّص الآية بهؤلاء المخاطبين حيث إنّ هدف القرآن الكريم هو بيان أصل كلّي لجميع أفراد البشر.

«الآية الخامسة» تتحرّك من خلال بيان مسألة البشاشة و التعامل مع الآخرين حتّى لو كانوا أعداءاً و لا سيّما في مقام دعوتهم إلى الحق و الطريق القويم، و من ذلك نجد أنّ الأمر الإلهي لموسى عليه السلام بايصال الرسالة الإلهية إلى فرعون الطاغية الذي إستعبد بني اسرائيل و أنّ الآية تتحدّث عن خطاب اللَّه تعالى لموسى و هارون عليهما السلام: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى».

هذا التعبير يبيّن أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الدعوة إلى الحق لا بدّ أن تكون مقرونة باللّيونة و اللطف و التعامل من موقع المحبّة و الرحمة لا سيما مع الاشخاص

______________________________

(1). كنز العمال، ج 3، ح 6، و ورد مثلها في المصادر الشيعية.

(2). تفسير البرهان، ذيل الآية المبحوثة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 116

المنحرفين بأمل أن يؤثر هذا السلوك الأخلاقي و الإنساني في قلوبهم.

و هنا يثار هذا السؤال، و هو ما الفرق بين قوله: «يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»؟

و يمكن القول بأنّ المقصود من

ذلك أنّكما إذا حدثتماه بكلام ليّن و في نفس الوقت ذكرتم له بصراحة و وضوح مضمون الدعوة الإلهيّة و بدلائل منطقيّة فلعله يقبل و يؤمن بها من أعماق قلبه، و لو لم يؤمن فلا أقل فانه سيخاف من العقوبة الإلهية بسبب العناد و الاصرار على الكفر و الابتعاد عن طريق الحق:

و يقول (الفخر الرازي): «نحن لا نعلم لماذا أرسل اللَّه تعالى موسى إلى فرعون مع أنّه يعلم أنّه لا يؤمن أبداً؟ ثم يقول: في مثل هذه الموارد ليس لنا سوى التسليم في مقابل الآيات القرآنية و لا سبيل إلى الاعتراض» «1».

و لكن جواب هذا السؤال واضح و لا ينبغي أن يخفى على من مثل الفخر الرازي، لأنّ اللَّه تعالى يهدف إلى إتمام الحجة، أي حتّى بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يؤمنون قطعاً فإنّ اللَّه تعالى يتمّ الحجّة عليهم كي لا يقفوا في الآخرة موقف الاعتراض على العقاب الاخروي و أنّهم لم يصل إليهم النداء الإلهي و لم يجدوا رسولًا أو نبيّاً يخبرهم بالخبر كما ورد هذا المضمون في الآية 165 من سورة النساء حيث يقول تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنذِرِينَ لِئلّا يَكُونَ للنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ».

و أمّا قوله لعله (يتذّكر أو يخشى) فهو بمعنى أنّ طبيعة التبليغ لا بدّ و أن تكون مقرونة باللين و المداراة ليصل الإنسان إلى النتيجة المتوخّاة، رغم أنّه قد يواجه النبي الإلهي موانع صعبة تنبع من ذات الأفراد، و بعبارة اخرى أنّ التبليغ المقرون باللّين و المحبّة هو مقتضي للقبول لا علّة تامّة.

و بديهي أنّه بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو موسى و هارون فحسب و لكن مفهوم الآية شامل لجميع المبلّغين لرسالات اللَّه و الآمرين

بالمعروف و الناهين عن المنكر، و هكذا يتّضح أنّ الإنسان قد يتحرّك من موقع هداية الناس باللّين و العطف و المداراة و يحقّق

______________________________

(1). تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية المبحوثة (ج 22، ص 59).

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 117

نجاحاً أكبر بكثير ممّا لو استخدم طرق اخرى مقرونة بالخشونة و الجفاء الروحي لتحقيق هذا الهدف، و هذا المعنى مجرّب على مستوى الممارسة بكثرة.

«الآية السادسة» و الأخيرة من الآيات محل البحث تقرّر أنّ المداراة و اللّين محبّذة حتى مع الأعداء الشرسين و تؤثر في أعماق نفوسهم تأثيراً بالغاً و تقول الآية: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ».

و بالطبع فإنّ دفع السيئات بالحسنات له طرق و مصاديق مختلفة، أحدها أن يتعامل الشخص من موقع المداراة و الأدب و البشاشة مع عدوّه المعاند و الحقود إلى درجة بحيث يمكن أن ينقلب هذا الإنسان الحقود إلى صديق محبّ و يتحوّل بصورة تامّة من حالة العداوة و البغضاء إلى حالة الصداقة و المحبّة.

و الملفت للنظر أنّ الآية التي تليها تؤكد على أنّ هذه المرتبة هي من شأن الصابرين و الذين يتمتّعون بحظ وافر من الإيمان و التقوى و التوفيق و تقول: «وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».

و طبعاً فالوصول إلى هذه المرتبة من حسن الخلق بحيث يواجه الإنسان السيئات بعكسها من الحسنات ليست من شأن كلّ إنسان لأنها تحتاج إلى تسلط كامل على قوى النفس و لا يستطيع ذلك إلّا من اوتي حظاً عظيماً من سعة الصدر و تخلّص من عقدة الانتقام.

و من مجموع الآيات محل البحث نستوحي هذا المفهوم القرآني في دائرة الأخلاق الإسلامية و هو

أنّ القرآن الكريم دعى الناس إلى حسن الخلق و التعامل فيما بينهم من موقع المحبّة و المداراة، و في ذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اسوة و نموذجاً كاملًا في هذا السلوك الإنساني بحيث يمكن القول بأنّ أحد معجزات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هي سلوكه الأخلاقي العظيم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 118

أهميّة حسن الخلق في الروايات الإسلامية:

هناك روايات كثيرة مذكورة في المصادر الإسلامية حول حسن الخلق مع الناس و كيفية التعامل معهم في حركة التفاعل الاجتماعي، و التعبيرات الواردة في هذه الروايات عن هذه الفضيلة الأخلاقية إلى درجة من الكثرة و التأكيد أننا قلّما نجد نظيراً لها في النصوص الإسلامية، و هذا يبيّن مدى إهتمام الإسلام في هذه الخصلة الحميدة، و نختار من بين الروايات الكثيرة ما يلي:

1- ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الإِسلامُ حُسنُ الخُلُقِ» «1».

2- و نقرأ عن الإمام علي عليه السلام في حديث لطيف يقول: «عِنوانُ صَحِيفَةُ المُؤمنُ حُسنُ خُلُقِهُ» «2».

و نعلم أنّ ما يذكر في عنوان الصحيفة و كتاب عنوان أعمال الإنسان هو أفضل ما يمكن ذكره في هذه الصحيفة، و بعبارة اخرى يكتب في العنوان القدر الجامع و المشترك لجميع مفردات الأعمال و السلوك الأخلاقي في واقع الإنسان و نفسه.

3- و في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَكثَرُ ما تَلِجُ امَّتِي الجَنَّةَ التّقوى وَ حُسنُ الخُلُق» «3».

4- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «أَكْمَلُكُم إِيماناً أَحسَنَكُم خُلقاً» «4».

و ما ذكر آنفاً من الأحاديث الشريفة هو بعض الروايات في أهميّة حسن الخلق.

و الآن نستعرض قسماً آخر من الروايات التي تتحدّث عن النتائج و

الآثار الماديّة و المعنوية على هذا السلوك الأخلاقي:

1- نقرأ في حديث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الخُلْقُ الحَسَنُ يُذِيبُ السَّيِّئَةَ» «5».

______________________________

(1). كنز العمال، ج 3، ص 17، ح 5225.

(2). بحار الانوار، ج 68، ص 392، ح 59.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 100، ح 6.

(4). بحار الانوار، ج 68، ص 387، 34.

(5). بحار الانوار، ج 72، ص 321.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 119

2- و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله قال: «إِنَّ صاحِبَ الخُلقِ الحَسَنِ لَهُ مِثلُ أَجرِ الصَّائِمِ» «1».

3- ورد في حديث ثالث عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وَ تَعالى لَيُعطي العَبدَ مِنَ الثَّوابِ عَلى حُسنِ الخُلقِ كَما يُعطي المُجاهِدُ فِي سَبيلِ اللَّهِ» «2».

و بهذا يتبيّن أنّ صاحب الخلق الحسن يتميّز على من يقوم الليل في العبادة و المجاهد في سبيل اللَّه و يضاهيهما في الثواب حيث يطهّر حسن الخلق النفس الإنسانية من أدران الذنوب و تلوّثات الأهواء و النوازع الدنيوية، هذا بالنسبة إلى النتائج المعنوية لحسن الخلق، أمّا بالنسبة إلى الآثار و النتائج المادية و الدنيوية فقد وردت تعبيرات مهمّة في النصوص الدينية منها:

4- نقرأ في حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «حسُنُ الخُلقِ يُثبِتُ المَوَدّةَ» «3».

5- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «لا عَيشَ أَهنَأَ مِنْ حُسنِ الخُلقِ» «4».

6- ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «البِرُّ وَ حُسنُ الخُلقِ يَعمُران الدِّيارَ وَ يَزِيدانِ فِي الأَعمارِ» «5».

7- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «حُسنُ الخُلقِ يُدِرُّ الأرزاقَ» «6».

8- و في حديث آخر عنه عليه السلام قال: «فِي

سَعَةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزَاقِ» «7».

و من مجموع هذه الروايات الإسلامية المذكورة أعلاه ندرك جيداً الأهميّة البالغة لحسن الخلق في حركة الحياة المادية و المعنوية للإنسان، و يتّضح من خلال ذلك تأكيد الإسلام على هذا الأمر المهم، و في الواقع أنّ جميع النتائج الإيجابية و البركات المادية و المعنوية مترتبة على حسن الخلق مع الناس بحيث يمكن القول بأنّ حسن الخلق أحد الاسس في

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 100، ح 5.

(2). المصدر السابق، ص 101.

(3). بحار الانوار، ج 74، ص 148، 71.

(4). غرر الحكم، ج 6، ص 399.

(5). اصول الكافي، ج 2، ص 100، ح 8.

(6). غرر الحكم.

(7). بحار الانوار، ج 75، ص 53، ح 86.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 120

دائرة المفاهيم الإسلامية و التعليمات الدينية.

و هنا ينبغي الإشارة إلى بعض النقاط:

تعريف حسن الخلق:

لعل من الامور الواضحة هو مفهوم حسن الخلق فلا حاجة إلى تعريفه لوضوح معناه و مداه لدى الناس، و لكن لغرض إستجلاء هذا المفهوم أكثر نقول: إنّ حسن الخلق عبارة عن مجموعة من الصفات و السلوكيات التي تتمثّل بمداراة الناس، البشاشة، الكلام الطيب و إظهار المحبّة، و رعاية الأدب، التبسّم، و التحمّل و الحلم مقابل أذى الآخرين و أمثال ذلك، فلو إمتزجت هذه الصفات مع العمل و ترجمها الإنسان في حركة الواقع الخارجي سمّي ذلك حسن الخلق.

و في حديث جامع جميل عن الإمام الصادق عليه السلام في تعريف حسن الخلق ورد أنّ أحد أصحاب الإمام سأله: ما حَدُّ حُسنِ الخُلقِ؟

قال الإمام عليه السلام: «تَلِينُ جانِبَكَ وَ تُطَيِّبُ كَلامَكَ وَ تلقى أَخاكَ ببُشرٍ حسنٍ» «1».

و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في تفسير حسن الخلق قال: «إِنَّما تَفسِيرُ

حَسنُ الخُلقِ ما أَصابَ الدُّنيا يَرضى وَ إِن لَم يُصِبهُ لَم يَسخَطْ» «2».

النتائج المترتبة على حسن الخلق:

قرأنا في الروايات المذكورة آنفاً نقاط مهمّة تتحدّث عن النتائج و الآثار المادية و المعنوية لحسن الخلق في حركة الإنسان و الواقع الاجتماعي و تحتاج إلى شي ء من التفصيل و التحليل.

و من الآثار الاجتماعية و الدنيوية لهذه السمة الأخلاقية هو أنّ حسن الخلق يتسبب في

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 68، ص 389، ح 42.

(2). كنز العمال، ج 3، ص 17، ح 5229.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 121

كسب محبّة الآخرين و تعاطفهم مع صاحب هذا الخلق، و هذه المسألة ثابتة بالتجربة للجميع تقريباً و أنّه يمكن اصطياد قلوب الناس من خلال التعامل معهم من موقع المحبّة و حسن الخلق و رعاية الأدب و ليس فقط أنّ الأشخاص العاديين ينجذبون إلى حسن الخلق بل أهل النظر و المعرفة و العلم كذلك.

و من النتائج الاخرى أنّ حسن الخلق و البشاشة تعمّر الديار و تطيل العمر، لأنّ خراب الديار معلول للتضارب و النزاع و حالات الصراع بين الأفراد، فإذا أخلى النزاع و الصراع الاجتماعي مكانه لحسن الخلق و التعامل باللطف و المحبّة بين الأفراد، فإنّ ذلك كفيل بتعميق أواصر الاخوة و تعميق عنصر التعاون بين الأفراد و الذي يعتبر محور الخير و عامل مهم من عوامل البناء، مضافاً إلى ذلك فإنّ حسن الخلق يورث الإنسان الهدوء النفسي و الاطمئنان الروحي الذي يعتبر من النتائج المباشرة للتعامل الأخلاقي الحسن مع الناس و عاملًا مهمّاً من عوامل طول العمر، لأنّ من الثابت علميّاً هو أنّ من العوامل المهمّة لسرعة الموت و كثرته هو عنصر القلق و الاضطراب الروحي الذي يعيشه الإنسان في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة و بالتالي

تكون منشأ لكثير من الأمراض المختلفة، و من المسلّم أنّ حسن الخلق و التعامل باللّطف و المحبّة مع الناس يقللّ من شدّة الضغط العصبي و القلق النفسي و بالتالي يسبب طول العمر، و الشي ء الآخر أنّ حسن الخلق يسبّب زيادة الرزق و كثرة العوائد المادية و الموفقيّة في الكسب و التجارة، لأنّ التاجر و الكاسب أو الطبيب لا يكون موفّقاً في عمله إلّا بكسب المراجعين و المشترين، و أحد عوامل كسب الثقة و الاطمئنان بالشخص هو حسن خلقه و أدبه مع الطرف الآخر، فالكثير من الأشخاص يفضّلون شراء البضاعة و ما يحتاجونه من السوق من امور المعاش من الكاسب الحسن الاخلاق و المعاملة مع المشتري و يرجّحونه على الشخص العبوس و الحاد المزاج، و لهذا السبب فإنّ المؤسسات و الشركات الاقتصادية الكبيرة تسعى إلى تعليم موظفيها على كيفية التعامل مع الزبائن بالصورة المطلوبة، و من خلال ذلك يتحرّكون في كسب ثقة الزبائن بمؤسساته التجارية و شركاته الصناعية.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 122

و قد رأينا كثيراً في الرحلات الجوية أنّ بعض الشركات تقدّم لزبائنها و مسافريها بعض لعب الأطفال و قطع الحلوى مجّاناً لأطفالهم المسافرين معهم، و لعلّ قيمة هذه اللّعب ليست بكثيرة و لكنّها ذات أثر عميق في نفسيّة الأفراد و هذه الطريقة من التعامل مع الزبائن تورث في أنفسهم حسن الظن و الثقة للطرف الآخر.

و طبعاً فالإسلام يؤيّد حسن الخلق من موقع الصفاء الذاتي و التعامل الإنساني لا كما هو السائد من الرياء و التظاهر في العالم المادي المعاصر، و لكن في نفس الوقت فانّه يعتبر أنّ حسن الخلق له آثار مادية و دنيوية كثيرة تمثّل في زيادة النعمة و البركة في حركة الحياة

و الواقع المادي.

و بالنسبة إلى البعد المعنوي فإنّ الثواب المترتّب على حسن الخلق يعادل ثواب المجاهدين في سبيل اللَّه، و دليل ذلك واضح لأنّ المجاهد يسعى لنشر راية الإسلام و يتحرّك في هذا السبيل لأعلاء كلمة اللَّه، و صاحب الخلق الحسن أيضاً يتسبب في تعميق الثقة و الانفتاح على الإسلاك في قلوب الناس، و قد ورد في الروايات الشريفة أيضاً أنّ أجر صاحب الخلق الحسن مثل أجر الصائم القائم، لأنّ الصائم القائم يتحرّك في هذا السلوك العبادي من موقع تهذيب النفس و تصفيتها، فكذلك الأشخاص الذين يتعاملون في مواجهة تحدّيات الواقع الصعب من موقع غلبة الأهواء و حفظ النفس في اطار الضوابط الأخلاقية و الشرعية في سبيل اللَّه تعالى.

و الخلاصة أنّ صاحب الخلق الحسن يكون محبوباً عند اللَّه تعالى و عند الخلق كذلك، و يكون موفقاً في حياته الشخصية و الفرديّة و كذلك موفّقاً في حياته الاجتماعية.

و من المعلوم أنّ حسن الخلق يعدّ أحد أركان عناصر الإدارة و لو أنّ عشرات من الشروط المتوفّرة في المدير المدبّر من دون عنصر حسن الخلق لما تسنىَ لهذا المدير أن يكون موفّقاً في عمله و تدبيره في حين أنّه لو كان حسن الخلق فانّ هذه الصفة بإمكانها العمل على ستر الكثير من نقاط الضعف أو جبرانها.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 123

منابع حسن الخلق:

إنّ بعض الناس يتمعتون بحسن الخلق بشكل طبيعي، و هذا يعدّ من المواهب الإلهية للإنسان التي لا تكاد تكون من نصيب كل شخص، و على هذا الإنسان أن يشكر اللَّه تعالى بجميع وجوده على هذه الموهبة العظيمة.

و لكن الكثير من الناس ليسوا كذلك، فعليهم أن يقوموا بتعميق و توكيد حسن الخلق في نفوسهم من خلال التمرين و

الممارسة على أرض الواقع العملي بحيث يكتسبوا طبيعة ثانية لهم و يكون حسن الخلق نافذاً و راسخاً في وجودهم و واقعهم النفسي، و أفضل طريق إلى نيل هذه الصفة الأخلاقية و المرتبة الكمالية هو أن يتفكّر الإنسان في الآثار المعنوية و المادية لهذه الصفة الأخلاقية و يطالع الروايات الشريفة المذكورة سابقاً في هذا الباب و يتأمل فيها و يقوم بتكرارها بين الحين و الآخر لتترسخ مضامينها في أعماق نفسه.

و من جهة اخرى يجب أن يتحرّك الإنسان على المستوى العملي لتطبيق و ترجمة هذه الصفة في سلوكه الخارجي، لأنّ الفضائل الأخلاقية كالقابليات البدنية تقوى و تشتد بالتمرين و التكرار كما نرى في الرياضين أنّهم بعد مدّة من التمرين يتمتعون بأبدان قوية و جميلة فكذلك الرياضة الأخلاقية بإمكانها أن تقوّي روح الإنسان.

و يقول علماء الأخلاق في صدد تربية الأفراد البخلاء على صفة الكرم أنّ الإنسان البخيل يجب أن يضغط على ميوله النفسي و حرصه على الأموال، و يتحرّك على مستوى بذل المال للآخرين في البداية، و رغم أنّ هذا العمل يكون عسيراً في البداية إلّا أنّه تدريجياً يصبح ميسوراً و بالتالي يعتاد الإنسان على حاله البذل و الكرم بحيث أنّه لو لم يبذل من أمواله يوماً لوجد في نفسه امتعاضاً.

و كذلك يوصي علماء الأخلاق الشخص الجبان بأن يحضر إلى ميادين القتال و المواجهة مع العدو حتى تزول عنه حالة الخوف و الجبن بالتدريج و يحل محلّها صفة الشجاعة و الجرأة و الإقدام.

و هكذا بالنسبة لأصحاب الخلق السي ء، فإنّهم من خلال التمرين و الممارسة المستمرة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 124

لموارد و مصاديق حسن الخلق فإنّهم سيتمكّنون في المستقبل من توفير رأس مال كبير من هذه الصفة الإنسانية و

ينتفعون من بركاتها و نتائجها الإيجابية في حياتهم النفسية و الاجتماعية.

و مضافاً إلى كل ذلك و نظراً إلى أنّ أحد عوامل سوء الخلق هو التكبّر و الغرور و كذلك الحدّة و الغضب و روح الانتقام و أحياناً يكون بسبب الحرص و البخل و الحسد، فلو أنّ الإنسان أراد أن يكون حسن الخلق في جميع موارد الحياة الفردية و الاجتماعية لوجب عليه أن يدفع و يزيل هذه الصفات و الحالات السلبية عن واقعه النفسي.

عليه أن يراعي حدّ الاعتدال في القوّة الغضبيّة و الشهوية و أن تكون له سعة الافق و شرح الصدر ليتمكّن بذلك من تطهير قلبه و روحه من الأنانية و الحسد و البخل و بالتالي يورثه ذلك حسن الأخلاق و يكون في أمان من سوء الخلق مع الناس.

و عليه فإنّ تحصيل هذه الفضيلة الأخلاقية الكبيرة تتطلب وجود و توّفر مجموعة من الصفات الحسنة في واقع الإنسان النفسي حيث إنّه بدونها لا يكون حسن الخلق في سلوكه الأخلاقي.

و يقول (الغزالي) في هذا الصدد: كما أنّ صاحب الوجه الحسن لا يكون كذلك بجمال العين فقط بل لا بدّ أن يضم إليه جمال الأنف و الفم و جميع أعضاء الوجه، ليكون جميلًا و كاملًا في مجال الجمال البدني و المادي، فكذلك حال الجمال الباطني و المعنوي فما لم يصل الإنسان إلى حد الاعتدال في قواه الأربعة ... العلم و الغضب و الشهوة و العدالة، فإنّه لا يصل إلى مقام الجمال الباطني.

و لا شك أنّ عامل (الوراثة) يوثّر في سلوك الإنسان الأخلاقي حيث يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «حُسنُ الخُلقِ بُرهانُ كَرمِ الأعراقِ» «1».

و يقول عليه السلام في مكان آخر: «أطهَرُ النّاسِ أَعراقَاً أَحسَنُهُم أَخلاقاً» «2».

______________________________

(1). غرر

الحكم، ح 4855.

(2). المصدر السابق، ح 3032.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 125

و هناك ملاحظة ينبغي الالتفات إليها في البحوث الأخلاقية و هي، أنّ الفضائل الأخلاقية لا يمكن إكتسابها و تحصيلها من دون التوفيق الإلهي و الامداد الربّاني، فيجب الاستمداد من اللَّه تعالى في سبيل تحصيل هذه الملكات الأخلاقية الفاضلة و غرسها و تنميتها في واقع الإنسان و روحه.

و نقرأ في حديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الأخلاقُ مَنائِحُ مِن اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَإذا أَحَبَّ عَبداً مَنَحَهُ خُلُقاً حَسَناً وَ إِذا أَبغَضَ عَبدَاً مَنَحَهُ خُلقاً سَيِّئاً» «1».

سيرة الأولياء:

و من أفضل الطرق لكسب فضيلة حسن الخلق و ملاحظة نتائجها الإيجابية على واقع الإنسان هو التحقيق في سيرة الأولياء العظام.

1- نقرأ في حديث عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله دَائِمُ البُشر، سَهلُ الخُلق، لَينُ الجَانبِ، لَيسَ بِفَظٍّ و لا غلِيظٍ و لا سَخّابٍ، و لا فَحّاشٍ، و لا عيّابٍ، و لا مَدّاحٍ، و لا يَتَغافَلُ عَمّا لا يَشتَهِي، و لا يُؤيس مِنهُ، قَد تَركَ نَفسَهُ مِنْ ثَلاث: كَانَ لا يَذُمُّ أَحداً، و لا يُعيّرُه، و لا يَطلُبُ عَورَتَهُ، و لا يَتَكَلَّمُ إِلّا فَيما يَرجُو ثَوابَهُ، إِذا تَكَلَّمَ أَرقَ جُلساؤُهُ كَأَنّما عَلى رُؤوسِهِم الطَّيرُ، و إذا تَكَلَّمَ سَكَتُوا و إذا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لا يُسارِعُون عِندَهُ بِالحَديثِ، مَن تَكَلَّمَ نَصتُوا لَهُ حَتّى يَفرَغَ حَدِيثُهُم عِندَهُ حَديث إِلَيهم، يَضحَكُ ممّا يَضحَكُونَ مِنهُ، وَ يَتَعَجَّبُ ممّا يَتَعَجَّبُونَ مِنهُ، يُصبِّرُ الغريبَ عَلى الجَفوةِ فِي المنطِقِ، وَ يَقُولُ: (إِذا رَأَيتُم صاحِبَ الحَاجَة يَطلُبُها فَأَرفِدُهُ)، و لا يَقبَلُ الثَّناءَ إلّا مِنْ مُكافي ء، و لا يَقطَعُ عَلَى أَحدٍ حَدِيثَهُ حَتّى

يَجُوزَهُ فَيَقطَعُهُ بِانتهاء أَو قِيام» «2».

2- و نقرأ في حالات الإمام علي عليه السلام في الرواية المعروفة أنّ الإمام كان قاصداً الكوفة فصاحب رجلًا ذميّاً فقال له الذمّي: أين تريد يا عبد اللَّه، قال: اريد الكوفة، فلما عدل الطريق

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 68، ص 394، ح 64.

(2). جلال ء الأفهام، لابن قيم الجوزي، ص 92.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 126

بالذمّي عدل معه علي عليه السلام، فقال له الذمي: أ ليس زعمت تريد الكوفة؟ قال: بلى.

فقال له الذمي: فقد تركت الطريق، فقال عليه السلام: قد علمت، فقال له: فلم عدلت معي و قد علمت ذلك؟

فقال له علي عليه السلام: «هذا مِن تمام الصُّحبةِ أَن يُشيِّعَ الرّجلُ صاحِبهُ هُنيئةً إذا فارَقَهُ وَ كَذلِكَ أَمرنا نَبيِّنُا».

فقال له الذمي: هكذا أمركم نبيّكم؟ فقال: نعم، فقال له الذمّي: لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، و أنا أشهد على دينك، فرجع الذمّي مع الإمام علي عليه السلام، فلما عرفه أسلم» «1».

3- و في حديث آخر في تفسير الإمام الحسن العسكري أنّه قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة و قد لبس عليها في أمر صلاتها شي ء و قد بعثتني إليكِ فأجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى عشرة فأجابت ثم خجلت في الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالت فاطمة: هاتي و سلي عمّا بدا لك، أ رأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل و كراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا، فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملأ ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى

أن لا يثقل عليَّ، سمعت أبي صلى الله عليه و آله يقول: «علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد اللَّه ..» «2».

و هذا الصبر العجيب و التعامل الملي ء بالمحبّة و اللطف و هذا التشبيه الجميل الباعث على إزالة الحياء من السائل من كثرة سؤاله كل واحدة منها مثال جميل على حسن خلق الأولياء العظام حيث ينبغي أن يكون درساً بليغاً و عبرة نافعة في طريق إرشاد الناس إلى سلوك مثل هذه الممارسات الأخلاقية.

4- و ممّا ورد عن حلم الإمام الحسن عليه السلام أنّ شامياً رآه راكباً (في بعض أزقة المدينة)

______________________________

(1). سفينة البحار، ج 2، ص 692 الطبعة الحديثة.

(2). بحار الانوار، ج 2، ص 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 127

فجعل يلعنه و الحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السلام فسلّم عليه و ضحك فقال:

«أيُّها الشّيخ أَظُنُّك غَريباً، وَ لَعلَّك شُبّهت، فَلَو استَعتَبتَنا أَعتَبناكَ، وَ لَو سَأَلتَنا أَعطَيناكَ، وَ لَو استَرشَدتَنا أَرشدناك، وَ لَو استَحمَلتَنا أَحملناكَ، و إن كُنتَ جائِعاً أَشبَعنَاك، وَ إِن كُنتَ عُرياناً كَسوناك، و إِن كُنتَ مُحتاجاً أَغنَيناكَ، و إِن كُنتَ طِريداً آويناكَ، و إن كانَ لَكَ حاجَةً قَضيناها لَكَ، فَلَو حَركتَ رَحلَكَ إِلينا وَ كُنتَ ضَيفَنا إِلى وَقتِ إرتحالِك كانَ أَعود عَلَيكَ، لأنَّ لَنا مَوضِعاً رَحِباً وَ جاهاً عَريضاً وَ مالًا كَثَيراً».

فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال أَشهدُ أَنّك خَليفة اللَّه في أرضه، اللَّهُ أَعلَمُ حيثُ يَجعلُ رسالتهُ و كنتَ أَنت و أبوك أبغضُ خلق اللَّه إليَّ، و الآن أَنت و أبُوكَ أحبُّ خلق اللَّهِ إليَّ، وَ حوّل رحله إليه، و كان ضيفه إلى أن ارتحل، و صار معتقداً لمحبتهم «1».

5- و

جاء في كتاب «تحف العقول»: أنّ رجلًا من الأنصار جاء إلى الإمام الحسين عليه السلام يريد أن يسأله حاجة، فقال عليه السلام: «يا أخا الأنصار صُن وجَهك عَن بَذلِ المسألةِ و ارفع حاجتَك فِي رقعةٍ فإنّي آت فِيها ما ساركَ إن شاء اللَّه»، فكتب الأنصاري: يا أبا عبد اللَّه إنّ لفلان عليَّ خمسمائة دينار و قد الجّ بي فكلّمه ينظرني إلى ميسرة، فلما قرأ الإمام الحسين عليه السلام الرقعة، دخل إلى منزله فأخرج صرّة فيها ألف دينار و قال عليه السلام له: «أَما خمسمائة فاقض بِها دينك و أمّا خمسمائة فاستعن بِها على دَهرِكَ و لا تَرفع حاجتَكَ إلّا إِلى أحد ثلاث: إِلى ذِي دين، أَو مروّة، أو حسب، فأمّا ذو الدين فَيصُون دِينُهُ، و أَمّا ذو المُروة فإنّه يستحي لمروّته، أَمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهكَ أن تَبذلُه فِي حاجتِكَ فَهو يَصون وَجهكَ أن يردَك بِغير قضاءِ حاجتِك» «2».

6- و نقرأ في حالات الإمام زين العابدين أنّه وقف على علي بن الحسين عليه السلام رجل من أهل بيته فأسمعه و شتمه فلم يكلّمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل و أنا احب أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردي عليه.

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 43، ص 344.

(2). تحف العقول، ص 178.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 128

فقالوا له: نفعل و لقد كنّا نحبّ أن تقوله له و نقول، قال: فأخذ نعليه و مشى و هو يقول:

«... وَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ» «1».

فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً قال: فخرج إلينا متوثباً للشر و هو لا يشك أنّه إنّما جاءه مكافياً له على بعض

ما كان منه فقال له علي بن الحسين عليه السلام: «يا أَخي إنَّكَ كُنتَ قَد وَقفتَ عليَّ آنفاً قُلتَ وَ قُلتَ فإن كُنتَ قَد قُلتَ ما فيَّ فأنا استغفرُ اللَّهَ مِنهُ و إن كُنتَ قُلتَ ما لَيس فيَّ فَغفرَ اللَّهُ لَكَ».

قال (الراوي) فقبل الرجل بين عينيه و قال: بلى قلت فيك ما ليس فيك و أنا أحق به.

قال الراوي الحديث: و الرجل هو الحسن بن الحسن عليه السلام «2».

7- و نقرأ في حالات الإمام الباقر: عن محمد بن سليمان عن أبيه قال: كان رجل من أهل الشام يختلف على أبي جعفر عليه السلام (الإمام الباقر) و كان مركزه بالمدينة يختلف إلى مجلس أبي جعفر يقول له: يا محمد أ لا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياء منك و لا أقول أنّ أحداً في الأرض أبغض إليَّ منكم أهل البيت، و أعلم أنّ طاعة اللَّه و طاعة رسوله و طاعة أمير المؤمنين في بغضكم و لكن أراك رجلًا فصيحاً لك أدب و حسن لفظ، فإنّما اختلافي إليك لحسن أدبك.

و كان أبو جعفر عليه السلام يقول له خيراً و يقول: لن تخفى على اللَّه خافية فلم يلبث الشامي إلّا قليلًا حتى مرض و اشتدّ وجعه، فلمّا ثقل دعا وليّه و قال له: إذا أنت مددت عليَّ الثوب فأت محمد بن علي عليه السلام و سله أن يصلّي عليَّ و اعلمه إنّي أنا الذي أمرتك بذلك.

قال: فلمّا أن كان في نصف الليل ظنّوا أنّه قد برد و سجّوه، فلمّا أن أصبح الناس خرج وليّه إلى المسجد، فلمّا أن صلّى محمد بن علي عليه السلام و تورّك و كان إذا صلّى عقب في مجلسه، قال له: يا أبا جعفر

إنّ فلان الشامي قد هلك و هو يسألك أن تصلي عليه.

فقال أبو جعفر عليه السلام: كلّا إنّ بلاد الشام بلاد صرد و الحجاز بلاد حر لهبها شديد انطلق فلا

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 134.

(2). منتهى الآمال،

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 129

تعجلنّ على صاحبك حتى آتيكم ثم قام عليه السلام من مجلسه فأخذ وضوءاً ثم عاد فصلّى ركعتين ثم مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء اللَّه ثمّ خرّ ساجداً حتّى طلعت الشمس ثم نهض فانتهى إلى منزل الشامي، فدخل عليه فدعاه فأجابه ثم أجلسه و أسنده و دعا له بسويق فسقاه و قال لأهله: املؤوا جوفه و برّدوا صدره بالطعام البارد. ثمّ انصرف عليه السلام، فلم يلبث إلّا قليلًا حتّى عوفي الشامي فأتى أبا جعفر عليه السلام فقال: اخلني فأخلاه، فقال: أشهد أنّك حجّة اللَّه على خلقه و بابه الذي يؤتى منه فمن أتى من غيرك خاب و خسر و ضلّ ضلالًا بعيداً.

قال له أبو جعفر عليه السلام: و ما بدا لك؟

قال: أشهد أنّي عهدت بروحي و عاينت بعيني فلم يتفاجأني إلّا و مناد ينادي اسمعه بأذني ينادي و ما أنا بالنائم ردّوا عليه روحه فقد سألنا ذلك محمد بن علي.

فقال له أبو جعفر عليه السلام: «أَ ما عَلِمتَ أَنّ اللَّهَ يُحبُّ العَبدَ و يُبغِضُ عَمَلهُ و يُبغض العبد و يحبّ علمه؟»، (أي كما أنّك كنت مبغوضاً لدى اللَّه لكنّ عملك و هو حبّنا مطلوباً عنده تعالى).

قال الراوي: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه السلام «1».

8- ورد في الحديث المعروف في حالات الإمام الصادق المذكور في مقدمة (توحيد المفضل) أنّ المفضل بن عمر قال كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة و بين

القبر و المنبر و أنا مفكّر فيما خصّ اللَّه به سيّدنا محمداً من الشرف و الفضائل، و ما منحه و أعطاه و شرّفه به و حباه لا يعرفه الجمهور من الامّة، و ما جهلوه من فضله و عظيم منزلته و خطر مرتبته، فإنّي لكذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه، فلمّا استقرّ به المجلس إذا رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه فتكلّم ابن أبي العوجاء؟ فقال: لقد بلغ صاحب هذا القبر العزّ بكماله، و حاز الشرف بجميع خصاله، و نال الحظوة في كل أحواله، فقال له صاحبه: إنّه كان فيلسوفاً إدّعى المرتبة العظمى و المنزلة الكبرى، و أتى على ذلك بهجرات بهرت العقول، و ضلّت فيها الأحلام، و غاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر فرجعت خاسئات و هي حسير، فلمّا استجاب لدعوته العقلاء و الفصحاء و الخطباء

______________________________

(1). منتهى الآمال، ص 63 (بتلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 130

دخل الناس في دينه أفواجاً فقرن اسمه باسم ناموسه، فصار يهتف به على رؤوس الصوامع في جميع البلدان ...

فقال ابن أبي العوجاء: دع ذكر محمد، فقد تحيّر فيه عقلي، و ضلّ في أمره فكري، و حدثنا في ذكر الأصل الذي يمشي به، ثمّ ذكر ابتداء الأشياء و زعم أنّ ذلك باهمال لا صنعة فيه و لا تقدير، و لا صانع له و لا مدبّر، بل الأشياء تتكوّن من ذاتها بلا مدبّر، و على هذا كانت الدنيا لم تزل و لا تزال.

قال المفضّل: فلم أملك نفسي غضباً و غيظاً و حنقاً، فقلت: يا عدوّ اللَّه ألحدت في دين اللَّه، و أنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم، و صوّرك في أتمّ صورة،

و نقلك في أحوالك حتى بلغ بك إلى حيث انتهيت.

فقال ابن أبي العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك، فإن ثبت لك حجّة تبعناك، و إن لم تكن منهم فلا كلام لك، و إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد (الصادق)، فما هكذا يخاطبنا، و لا بمثل دليلك يجادلنا، و لقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا و لا تعدّى في جوابنا، و إنّه للحلوم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق و لا طيش و لا نزق، و يسمع كلامنا و يصغي إلينا و يستعرف حجّتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا و ظننا أن قد قطعناه أدحض حجّتنا بكلام يسير و خطاب قصير يلزمنا به الحجّة، و يقطع العذر، و لا نستطيع لجوابه ردّاً، فان كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه «1».

9- و نقرأ في حالات الإمام موسى بن جعفر أنّ رجلًا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه و يشتم علياً عليه السلام قال: و كان قد قال له بعض حاشيته دعنا نقتله فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي و زجرهم أشدّ الزجر و سأل عن العمري فذكر له أنّه يزرع بناحية من نواحى المدينة، فركب إليه في مزرعته فوجده فيها فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا فوطئه بالحمار حتى وصل إليه فنزل فجلس عنده و ضاحكه و قال له: كم غرمت في زرعك هذا قال له: مائة دينار قال: فكم ترجو أن يصيب، قال له: أنا لا أعلم الغيب، قال: إنّما

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 3، ص 57 و 58 (مع التلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 131

قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه قال: أرجو

أن يجيئني مائتا دينار، قال: فأعطاه ثلاثمائة دينار، و قال: هذا زرعك على حاله، قال: فقام العمري فقبل رأسه و انصرف.

قال الراوي: فراح المسجد فوجد العمري جالساً فلمّا نظر إليه قال: اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته، قال: فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتّك؟ قد كنت تقول خلاف هذا، قال: فخاصمهم و شاتمهم، قال: و جعل يدعو لأبي الحسن موسى كلّما دخل و خرج، قال فقال أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري: «أيما كان خير ما أردتم أو ما أردت أصلح أمره بهذا المقدار» «1».

10- و هكذا ورد في سيرة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام و كيفية تعامله مع الناس من موقع المحبّة و اللطف، نقل عن اليسع بن حمزة، قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضا عليه السلام احدثه و قد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال و الحرام، إذ دخل عليه رجل طوال آدم فقال: السلام عليك يا بن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رجل من محبيك و محبّي آبائك و أجدادك مصدري من الحج و قد افتقدت نفقتي و ما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي و للَّه عليَّ نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة.

فقال له الإمام عليه السلام: اجلس يرحمك اللَّه، و اقبل على الناس يحدثهم حتّى تفرقوا و بقي هو و سليمان الجعفري و خيثمة و أنا، فقال: أ تأذنون لي في الدخول؟

فقال له سليمان: قدم اللَّه أمرك، فقام و دخل الحجرة و بقي ساعة ثم خرج ورد الباب و أخرج يده من أعلى الباب، و قال اين الخراساني؟ فقال: ها

أنا ذا.

فقال عليه السلام: خذ هذه المأتي دينار فاستعن بها في مؤنتك و نفقتك و تبرك بها و لا تصدق بها عنّي و اخرج فلا أراك و لا تراني، ثم خرج، فقال سليمان الجعفري: جعلت فداك لقد اجزلت و رحمت فلما ذا استرت وجهك عنه؟

فقال عليه السلام: مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «المُستَترُ بِالحسنَةِ تَعدِلُ سَبعِينَ حِجَّةً، وَ المُذِيعُ بِالسيئَةِ مَخذُولٍ، وَ المُستَترُ

______________________________

(1). أعيان الشيعة، ج 2، ص 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 132

بِها مَغفُورٌ لَهُ»، أَ ما سمعت قول الأول:

متى آته يوماً اطالب حاجةرجعت إلى أهلي و وجهي بمائه «1».

11- و نقرأ في حالات الإمام الجواد عليه السلام، عن علي بن جرير قال: كنت عند أبي جعفر ابن الرضا عليهما السلام جالساً و قد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم إليه و يقولون:

أنتم سرقتم الشاة، فقال أبو جعفر الإمام الجواد عليه السلام: ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم الشاة في دار فلان، فاذهبوا فأخرجوها من داره، فخرجوا فوجدوها في داره، و أخذوا الرجل و ضربوه و خرقوا ثيابه، و هو يحلف أنّه لم يسرق هذه الشاة إلى أن صاروا إلى أبي جعفر عليه السلام فقال: ويحكم ظلمتم الرجل فإنّ الشاة دخلت داره و هو لا يعلم بها، فدعاه فوهب شيئاً بدل ما خرق من ثيابه و ضربه «2».

12- و كذلك ورد في سيرة الإمام الهادي عليه السلام عن أبي هاشم الجعفري قال: أصابني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (الإمام الهادي عليه السلام) فأذن لي فلمّا جلست قال: يا أبا هاشم أي نعم

اللَّه عزّ و جلَّ عَلَيكَ تُريدُ أَن تُؤدّي شُكرَها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدري ما أقول له.

فأبتدأ عليه السلام فقال: «رَزقَك الإيمانَ فَحرَّمَ بَدَنَك عَلى النّارِ، وَ رَزَقَكَ العافِيةَ فَأعانَتكَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَ رَزَقَكَ القنُوعَ فَصانَكَ عَن التَّبَذُّلِ، يا أبا هاشم إِنَّما ابتدأتُكَ بِهذا لأَنّي ظننتُ تُريدُ أن تَشكُو لِي مَن فَعَلَ بِكَ هذا، وَ قَد أَمرتُ لَكَ بِمائةِ دينار فَخُذها» «3».

13- و أورد (الكليني) في الجزء الأول من اصول الكافي- حول الإمام العسكري عليه السلام- أنّه قال: «حُبِس أبو مَحمّد (الإمام العسكري) عِندَ عَلي بن نارمش و هو أنصب الناس و أشدّهم عَلى آل أبي طالب وَ قِيلَ لَهُ: افعل به و افعل- يعني مِن السوء وَ الاذى- فما أقام- الإمام- عِندَهُ إلّا يَوماً حَتّى وَضَعَ خديَّه لَه، وَ كانَ لا يَرفَع بَصره إليهِ إجلالًا و إعظاماً فَخرجَ

______________________________

(1) فروع الكافي، ج 4، ص 23، ح 3 مع قليل من التلخيص.

(2) بحار الانوار، ج 50، ص 47.

(3) المصدر السابق، ص 129.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 133

مِن عِندِهِ و هو أحسنَ النّاسَ بَصيرة وَ أحَسنهم فِيهِ قَولًا» «1».

14- و جاء في الروايات عن الإمام المهدي أرواحنا فداه و حسن خلقه و عنايته بالأشخاص الذين يتشرفون بلقائه روايات و قصص كثيرة، منها ما ذكره المرحوم (المحدّث النوري) في كتابه (جنّة المأوى) عن أحد علماء النجف الأشرف أنّه قال: كان في النجف الأشرف رجل مؤمن يسمّى الشيخ محمد حسن السريرة، و كان في سلك أهل العلم ذا نية صادقة، و كان معه مرض السعال إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم، و كان مع ذلك في غاية الفقر و الاحتياج لا يملك قوت يومه، و

كان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الذين في اطراف النجف الأشرف ليحصل له قوت و لو شعير و ما يتيسر ذلك، و كان يكفيه مع شدّة رجائه و كان مع ذلك قد تعلق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف، و كان يطلبها من أهلها و ما أجابوه إلى ذلك لقلّة ذات يده، و كان في هم و غم شديد من جهة ابتلائه بذلك، فلما اشتدّ به الفقر و المرض و أيس من تزوج البنت عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أمر فواظب الرواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء، فلا بدّ أن يرى صاحب الأمر عجّل اللَّه فرجه من حيث لا يعلم و يقضي له مراده، فواظب على ذلك أربعين ليلة أربعاء، فلما كان الليلة الأخيرة و كانت ليلة شتاء مظلمة و قد هبّت ريح عاصفة فيها قليل من المطر و أنا جالس في الدكة التي هي داخل باب المسجد و كانت الدكة الشرقية المقابلة للباب الأول تكون على الطرف الأيسر عند دخول المسجد و لا أتمكن الدخول في المسجد من جهة سعال الدم و لا يمكن قذفه في المسجد و ليس معي شي ء اتقي فيه عن البرد و قد ضاق صدري و اشتد عليَّ همّي و غمّي و ضاقت الدنيا في عيني و افكر أن الليالي قد انقضت و هذه آخرها و ما رأيت أحداً و لا ظهر لي شي ء و قد تعبت هذا التعب العظيم و تحملت المشاق و الخوف في أربعين ليلة أجيى ء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة و يكون لي الاياس من ذلك، فبينما أنا افكر في ذلك و ليس في

المسجد أحد أبداً و قد أوقدت النار

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 1، ص 508، ح 8.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 134

لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف لا أتمكن في تركها لتعودي عليها و كانت قليلة جدّاً إذا بشخص من جهة الباب الأول متوجهاً إليَّ، فلما نظرته من بعيد تكدرت و قلت في نفسي هذا اعرابي من أطراف المسجد قد جاء إليَّ ليشرب من القهوة أبقى بلا قهوة في هذا الليل المظلم و يزيد عليَّ همّي و غمّي، فبينما أنا افكر إذا به قد وصل إليَّ و سلّم عليَّ باسمي و جلس في مقابلي فتعجبت من معرفته باسمي و ظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف أسأله من أي العرب يكون؟ قال: من بعض العرب، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف فيقول: لا لا و كلما ذكرت له طائفة قال: لا لست منها فاغضبني، و قلت له: أجل أنت من طريطرة مستهزءاً هو لفظ بلا معنى، فتبسّم عليه السلام من قولي ذلك و قال: لا عليك من اين كنت ما الذي جاء بك إلى هنا، فقلت: و أنت ما عليك السؤال عن هذه الامور؟

فقال: ما ضرّك لو أخبرتني فاعجبت من حسن أخلاقه و عذوبة منطقه فمال قلبي إليه و صار كلّما تكلم ازداد حبّي له فعملت له السبيل من التتن و أعطيته فقال: أنت اشرب فأنا لا أشرب و صببت في الفنجان قهوة و أعطيته فأخذه و شرب شيئاً قليلًا منه ثم ناولني الباقي و قال: أنت اشربه فأخذته و شربته و لم التفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، و لكن ازداد حبّي به آناً فآناً.

فقلت له: يا أخي قد

ارسلك اللَّه إليَّ في هذه الليلة تأتيني أ فلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم عليه السلام و نتحدّث؟ فقال: أروح معك فحدّث حديثك.

فقلت له: أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر و الحاجة مذ شعرت على نفسي و مع ذلك معي سعال أتنخع الدم و أقذفه من صدري منذ سنين و لا أعرف علاجه و ما عندي زوجة و قد علق قلبي بامرأة من أهل محلتنا في النجف و من جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر أخذها.

و قد غرّني هؤلاء الملائية و قالوا لي: اقصد في حوائجك صاحب الزمان و بت أربعين ليلة أربعاء في مسجد الكوفة فانك تراه و يقضي لك حاجتك و هذه آخر ليلة من الأربعين و ما رأيت فيها شيئاً و قد تحملت هذه المشاق فى هذه الليالي فهذا الذي جاءني هنا و هذه حوائجي.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 135

فقال لي و أنا غافل غير ملتفت: أمّا صدرك فقد برأ و أمّا الامرأة فتأخذها عن قريب، و أمّا فقرك فيبقى على حاله حتى تموت و أنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً.

فقلت: أ لا تروح إلى حضرة مسلم؟ قال: نعم فقمت و توجّه أمامي فلّما وردنا أرض المسجد فقال: أ لا تصلّي تحية المسجد، فقلت: افعل فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد و أنا خلفه بفاصلة فاحرمت الصلاة و صرت أقرأ الفاتحة.

فبينما أنا أقرأ و إذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً مثلها أبداً، فمن حسن قراءته قلت في نفسي لعله هذا هو صاحب الزمان و ذكرت بعض كلمات له تدل على ذلك ثم نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك و هو في

الصلاة و إذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف و هو مع ذلك يصلّي و أنا أسمع قراءته و قد ارتعدت فرائصي و لا استطيع قطع الصلاة خوفاً منه فأكملتها على أي وجه كان و قد علا النور من وجه الأرض فصرت اندبه و أبكي و اتضجر و اعتذر من سوء أدبي معه بباب المسجد و قلت له: أنت صادق الوعد و قد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.

فبينما أنا اكلم النور و إذا بالنور قد توجّه إلى جهة مسلم فتبعته فدخل النور الحضرة و صار في جو القبة و لم يزل على ذلك و لم ازل أندبه و أبكي حتى إذا طلع الفجر عرج النور.

فلّما كان الصباح التفت إلى قوله، أمّا صدرك فقد برأ و إذا أنا صحيح الصدر و ليس معي سعال أبداً، و ما مضى اسبوع إلّا و سهّل اللَّه علي أخذ البنت من حيث لا أحتسب و بقي فقري على ما كان كما أخبر صلوات اللَّه و سلامه عليه و على آبائه الطاهرين «1».

و ما ذكر أعلاه نماذج و نقاط مضيئة من سيرة الأئمّة و الأولياء العظام و بما يكون بمثابة تجلّيات نورانية لسلوكهم الأخلاقي السامي و حسن تعاملهم مع الصديق و العدو، و هذه النماذج القليلة تدل على مدى تأكيد هؤلاء العظام و القادة على هذه السجية و أهميّتها في حياة الإنسان المعنوية، و ما ورد في القرآن الكريم حكاية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من حسن الخلق العظيم نجده مترجماً في سلوكيات الأئمّة الكرام عليهم السلام في دائرة العمل و السلوك

______________________________

(1). جنّة المأوى، المطبوع بضميمة ج 53، ص 240.

الاخلاق فى القرآن، ج 3،

ص: 136

الأخلاقي، نعم فإنّ الدعوة إلى حسن الخلق لا تكون باللسان فقط و من خلال التوصيات و الإرشادات الكلامية، بل إنّ الممارسة الأخلاقية و التحرّك الأخلاقي العملي يمثّل أسمى نداء أخلاقي و إرشاد تربوي في عملية التكامل المعنوي و الحضاري للبشرية.

نتائج سوء الخلق:

النقطة المقابلة لحسن الخلق في واقع الإنسان و سلوكه الأخلاقي هي (سوء الخلق) حيث يمكن أن يفسّر على مستوى الخشونة و الحدّة و سوء الكلام.

الأشخاص الذين يعيشون سوء الخلق مع الناس هم بمثابة بلاء عظيم على أنفسهم و اسرتهم و مجتمعهم الذي يعيشون فيه.

إنّ سوء الخلق من أهم عوامل إيجاد الكراهية و التنفّر و التفرّق بين أفراد المجتمع، و الأشخاص الذين يعيشون الابتلاء بهذه الحالة السيئة، فإنّهم غالباً ما يعيشون الانزواء في المجتمع حيث يبتعد الناس عنهم و يتجنّبون معاشرتهم، و حتى لو اجبروا على معاشرتهم بسبب بعض الواجبات الاجتماعية أو بسبب مقامهم و مكانتهم الاجتماعية فإنّهم يشعرون بالنفور منهم في قلوبهم و يجدون في أنفسهم الرغبة في الابتعاد عنهم مهما أمكنهم ذلك.

و عند ما يتوفّر هذا الخلق السي ء و المرض النفسي لدى علماء الدين و رجال المذهب، فإنّ ذلك يمثّل خطراً كبيراً على الدين و المجتمع و يتسبب في سوء ظن الناس بأساس الدين و فرارهم من التعاليم و الإرشادات الدينية و هذا بحدّ ذاته ذنب عظيم جدّاً لا يمكن جبرانه.

و لهذا السبب ورد في الروايات تعبيرات شديدة تتحدّث عن سوء الخلق و أحياناً نقرأ فيها كلمات مذهلة و مخيفة عن النتائج الوخيمة و الآثار السلبية لهذا المرض الأخلاقي، و من ذلك نقرأ ما ورد في بعض هذه الروايات:

1- جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «إيّاكُم وَ

سُوءَ الخُلقِ فإَنَّ سُوءَ الخُلقِ فِي النَّارِ لا مَحَالَةَ» «1».

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 68، ص 383.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 137

2- و في حديث آخر- عبرّ عنه بأنّه لا توبة لصاحب الخلق السي ء- و عنه صلى الله عليه و آله قال: «أَبى اللَّهُ لِصاحِبِ الخُلقِ السَّي ء بِالتَّوبَةِ»

قيل: و كيف يا رسول اللَّه؟

قال: «لأنّهُ إذا تابَ مِنْ ذَنبٍ وَقَعَ فِي أَعْظَمَ مِنَ الذَّنبِ الَّذِي تابَ مِنهُ» «1».

و يمكن أن يكون المقصود من هذا الحديث الشريف أنّ الشخص السي ء الخلق عند ما يتوب في مورد من الموارد و يقلع عن بعض الممارسات الأخلاقية، فإنّ ذلك من شأنه أن يوقعه فيما هو أسوأ من ذلك، لأنّ جذور هذا المرض لا زالت موجودةً في أعماق نفسه ممّا يزيد في عقدته النفسيّة، و لهذا السبب فإنّه لا يوفّق للتوبة الكاملة إلّا بالاقلاع عن هذه الرذيلة الأخلاقية و اجتثاث جذور من واقعه النفسي و باطنه المعنوي.

3- و جاء عن الإمام علي عليه السلام في تقريره لحالة سوء الخلق أنّ: «أشَدُّ المَصائِبِ سُوءُ الخُلقِ» «2».

و هل هناك مصيبة أعظم من أن يكون الإنسان منزوياً و معزولًا في مجتمعه و بين أرحامه و معارفه و يقطع الصلة بينه و بين الخلق و الخالق على السواء.

4- و نقرأ في الرواية الواردة عن هذا الإمام العظيم أنّه قال: «لا وَحشَةَ أَوحَشُ مِنْ سُوء الخُلقِ» «3».

و دليل ذلك واضح و هو أنّ الإنسان السي ء الخلق يغرق في الوحدة الموحشة و يعيش وحيداً منقطعاً عن الآخرين، و لهذا السبب ورد في حديث آخر أنّه قال: «لا عَيشَ لِسَّيِّى ء الخُلقِ» «4».

لأنّه يعيش دائماً حالة الضجر و التعب في نفسه و يودّي أيضاً إلى تعب المعاشرين له.

6- و شبيه

هذه الرواية مع اختلاف يسير ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 70، ص 299.

(2). عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 2، ص 37.

(3). غرر الحكم.

(4). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 138

المؤمنين أيضاً أنّه قال: «لا سُؤدَدَ لِسَّيِّى ءِ الخُلقِ» «1».

فالإنسان السي ء الخلق لا يكون كبيراً في مجتمعه و دليل ذلك واضح أيضاً، لأنّ من أول شروط تحصيل المكانة الاجتماعية و السيادة و العزّة لدى الأهل و العشيرة هو التعامل الأخلاقي الحسن مع الآخرين و مراعاة الأدب و اللّيونة و اللطافة، فمن إفتقد رأس المال هذا فإنّه لا يصل إلى ذلك المقام.

7- و ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً قوله: «المُؤمِنُ لَيِّنُ الأرِيكَةَ، سَهلُ الخَلِيقَةَ، و الكَافِرُ شَرِسُ الخَلِيقَةَ سَيِّى ءُ الطَّرِيقَةَ» «2».

علاج سوء الخلق:

إنّ ما أوردنا في الروايات أعلاه و روايات اخرى كثيرة لم نذكرها حرصاً على الايجاز و عدم الأطالة هو شاهد على أنّ سوء الخلق يعتبر أحد أسوأ الصفات النفسية و الأخلاقية في واقع الإنسان و سلوكه الاجتماعي حيث يترتب عليها نتائج وخيمة في حركة الإنسان و المجتمع و يفضي إلى تدمير افق الحياة السعيدة و يبدّل عناصر الخير و السعادة في حياة الإنسان إلى الشر و الشقاء.

و على هذا فإنّ الأشخاص الذين يعيشون هذه الرذيلة الأخلاقية يجب عليهم علاج أنفسهم بأسرع ما يمكن، و الاستفادة من كلمات و نصائح علماء الأخلاق في هذا المجال و منها قولهم:

إنّ من يبتلى بهذه الصفة الرذيلة يجب عليه أن يفكّر و يتدبّر في عواقبها الوخيمة في كل يوم و يقرأ باستمرار الروايات التي تتحدّث عن آثارها السلبية في الدنيا و الآخرة كما تقدمت الإشارة إليها، و يشاهد ما يجري في حياة

المبتلين بهذا المرض و كيف أنّ الناس تنفر منهم و تبتعد عنهم و بذلك يعيشون حالة الوحشة و الصعوبة في مقابل تحدّيات الواقع فلا

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 139

يشاركهم أو يواسيهم أحد من الناس فيما يصيبهم من بأساء و ضرّاء في حركة الحياة، و الخلاصة أنّه يتّعظ من حياة هؤلاء الذين يعيشون العزلة على اللَّه و الخلق.

و ما يجدر ذكره هو أنّه ينبغي لغرض قلع جذور الصفات الأخلاقية القبيحة من واقع الإنسان و روحه أن يتحرّك الإنسان على مستوى التمرّن و ممارسة الرياضة المعنوية و الاصرار في سلوك هذا الطريق و إن كان بواسطة التصنّع ليكون حسن الخلق له بصورة عادة و ملكة، و فيما إذا وجد في نفسه عناصر و عوامل نفسية تبعث على سوء الخلق فانّه يتحرّك فوراً لازالتها و تطهير نفسه منها و ذلك من خلال ممارسة الصلاة و العبادة و زيارة المراقد المقدّسة أو يتحرّك من موقع الترفيه السليم و الألعاب المسلّية المشروعة ليدرأ هذا المرض و هذه العوامل السلبية من كيانه و شخصيته.

و كذلك يتحرّك الإنسان في طريق تهديد نفسه من خلال التلقين، و ذلك بالايحاء إلى نفسه بأنّه صاحب خلق حسن و يتّصف بحسن التعامل و الطيبة و اللطف مع الآخرين، فمن شأن هذا التلقين أن يؤثّر أثره بالتدريج فيغرس في قلبه نبتة حسن الخلق و يعمل على تقويتها و تعميقها و إزالة عناصر الشر و عوامل سوء الخلق من ذاته.

و أحياناً يتحقّق سوء الخلق في النفس بسبب الجوع و العطش أو بعض الأمراض البدنية حيث ينبغي على هذا الإنسان أن يعالج هذه المسألة من الأساس و الجذور و يحاول الابتعاد عن الناس و التعامل

معهم في هذه الحالة الاستثنائية مهما أمكن.

و أحياناً تنقل هذه الرذيلة الأخلاقية الإنسان من رفاقه و أصدقائه من الأراذل و الأخلاء السيّى ء الخلق، فينبغي عليه أن يقطع أواصر الصداقة مع هؤلاء و يحاول الإرتباط من موقع الصداقة و المودّة مع من هم أهل لذلك و يعيشون الفضيلة و حسن الخلق مع الناس، و هكذا فإنّ أسوأ الناس أخلاقاً إذا تحرّك في اصلاح نفسه في علاج مرضه الأخلاقي من خلال ممارسة هذه التعليمات المذكورة آنفاً و عزم على تحقيق هذه الملكات الأخلاقية في نفسه بإرادة قويّة و سعى لإصلاح نفسه بتصميم راسخ فإنّه سوف يحصل على النتائج المرجوّة حتماً.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 140

المزاح:

لقد ورد في الروايات الإسلامية و كذلك كلمات علماء الأخلاق بحوث واسعة عن (المزاح) حيث يتوصّل الإنسان من خلال مطالعتها و دراستها إلى هذه النتيجة، و هي أن المزاح إذا كان في حدّ الاعتدال و لم يكن ملوّثاً بالإثم و المعصية فإنّه ليس فقط غير قبيح، بل يمكن اعتباره من مصاديق حسن الخلق و الأخلاق الفاضلة و حسن المعاشرة مع الناس، و لا شك أن الافراط في ذلك إمّا أن يوقع الإنسان في المعصية و الإثم يتحول إلى أحد الرذائل الأخلاقية، و أحياناً يكون خطره أكثر من خطره في الكلام إذا كان من موقع الجد، لأنّ في المزاح نوع من الحرية لا توجد في الكلام الجدّي و الذي ينطلق من موقع المسؤولية.

و يستفاد من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام و علماء الدين أنّهم كانوا يمارسون المزاح بشكل معتدل في معاشرتهم مع الناس.

و بهذه الإشارة نستعرض بعض الروايات التي تقرر حسن المزاح بصورة عامّة، ثم

نستعرض الروايات التي تذم المزاح، ثم نذكر طريق الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات الشريفة:

1- ما ورد في الحديث عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله لَيَسُرُّ الرَّجُلَ مِنْ أَصحابِهِ إِذا رَآهُ مَغمُوماً بِالمُدَاعَبَةِ» «1».

أجل فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يستخدم المزاح لتحقيق الأغراض الإنسانية و ادخال السرور على القلوب المهمومة و النفوس الكئيبة.

2- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال لأحد أصحابه: «كَيفَ مُداعَبَةِ بَعضُكُم بَعضاً».

قلت: قليل.

فقال الإمام عليه السلام: «أ فَلا تَفعَلُوا فإنّ المُداعَبَةَ مِنْ حُسنُ الخُلقِ وَ إنَّك لَتُدخلُ بِها السُّرورَ

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 8، ص 408.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 141

عَلى أَخِيكَ وَ لَقَد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يُداعِبُ الرَّجُلَ يُريدُ أَن يَسُرَّهُ» «1».

3- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: «ما مِنْ مُؤمُنٍ إلّا وَ فَيهِ دُعابَةٌ، قلت: وَ ما الدُّعابَةُ؟ قال: المِزاح» «2».

و يستفاد من هذا التعبير أن المؤمن لا ينبغي أن يكون جافّاً، بل إنّ أغصان حسن الخلق هو المزاح و طبعاً مقرون بالتقوى.

4- و يستفاد من الروايات الشريفة أنّ المعصومين عليهم السلام أحياناً كانوا يتحرّكون لحث الآخرين للتمازح في مجلسهم ليتمّ بذلك إدخال السرور على قلوب المؤمنين، ففي كتاب الكافي للمرحوم (الكليني قدس سره) نقرأ حديثاً شريفاً يرويه عن معمر بن خلّاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام قلت: جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون و يضحكون؟

فقال عليه السلام: «لا بأسَ ما لَم يَكُن، فَظَننتُ أَنّه عنى الفحش، ثُمَّ قال: إنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و

آله كانَ يَأتِيهِ الأعرابِي فَيَهدِي لَهُ الهديَّةَ ثُمَّ يَقُولُ مكانَهُ: أَعطِنا ثَمَنَ هَديتِنا فَيضحَكُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله وَ كَانَ إِذا اغتَمَّ يَقُولُ: ما فَعَلَ الأَعرابي لَيتَهُ أتانا» «3»

5- و قد ورد في الأحاديث الشريفة نماذج من موارد مزاح النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع أصحابه منها ما ورد عن امرأة تدعى (ام أيمن) جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: إنّ زوجي يدعوك، فقال: و من هو أ هو الذي بعينه بياض، فقالت: و اللَّه ما بعينه بياض، فقال: بلى أنّ بعينه بياضاً، فقالت: لا و اللَّه.

فقال صلى الله عليه و آله: ما أحد إلّا و بعينه بياض «4».

و في مقابل هذه الأحاديث هناك أحاديث كثيرة تنهى عن المزاح منها:

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 663، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 1

(4). تنبيه الخواطر، ج 1، ص 112.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 142

1- في الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِيّاكُم وَ المَزاحَ فَإنَّهُ يَذهَبُ بِماءِ الوَجهِ وَ مَهابَةِ الرِّجالِ» «1».

2- و أيضاً في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «إِذا أَحبَبتَ رَجُلًا فَلا تُمازِحهُ وَ لا تُمارِهِ» «2».

3- و في حديث شريف عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إِيّاكُم وَ المَزاحَ فَإنَّهُ يَجُرُّ السَّخِيمَةَ وَ يُورِثُ الضَّغِينَةَ وَ هُو السَّبُّ الأصغَرُ» «3».

4- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لا تُمازِح فَيُجتَرَءُ عَلَيكَ» «4».

*** و على هذا الأساس يمكن القول أنّ المزاح يبعث على الذهاب بوقار الإنسان و الحط من شخصيّته أمام الناس و يسبب العداوة و البغضاء بينهم و يوجب

تجرّؤ الجهّال و يعرّض شخصية الإنسان إلى المهانة و الضعف و الاهتزاز.

و من خلال مطالعة التعبيرات الواردة في روايات الطائفة الاولى المادحة للمزاح و روايات الطائفة الثانية الناهية عنه يمكن معرفة السبل إلى الجمع بين هاتين الطائفتين، و توضيح ذلك أنّ المزاح أمر معقّد و أحياناً يتّسم بأنّه أشدّ من حالة الجدية في الكلام و بعبارة اخرى أنّ المزاح أمر رقيق جدّاً بحيث أنّه إذا خرج قليلًا عن حدّ المقرّر، فإنّ له آثار مخرّبة مدمّرة.

إذا كان المزاح في الأطار المقبول و لم يخرج عن حدّ الاعتدال و كان لغرض رفع السأم و التعب و الحزن عنهم مع رعاية الجهات الشرعية فإنّه يقع مطلوباً و مورد رضا اللَّه تعالى.

و لكن إذا كان المزاح لغرض الانتقام و السخرية بالطرف الآخر و بدافع الحقد و الكراهية و خاصة إذا كان بلباس الجدّية فإنّه لا يحقق الامور المذكورة فحسب، بل إنّ البعض قد يهدف إلى أغراض شيطانية من خلال المزاح فلا شك في أنّه يقع مبغوضاً و منفوراً و أحياناً

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 665، ح 16.

(2). المصدر السابق، ص 664، ح 9.

(3). المصدر السابق، ص 664، 12.

(4). المصدر السابق، ص 665، ح 18.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 143

يكون أشدّ من السب و الشتم.

و كذلك إذا استخدمت في المزاح كلمات واهنة و مبتذلة فلا شك أنّها تتسبب في هتك حرمة الإنسان و إزهاق شخصيته.

و هكذا إذا كان المزاح أمام أشخاص ليست لهم قابلية على تقبّله أو لا يحفظون حريم شخصيّة الإنسان ممّا يؤدّي إلى جرأتهم و تطاولهم على الكبير فيقولون من موقع المزاح ما يوهن شخصيته و يطعن في احترامه.

و مثل هذه الانحاء من المزاح ليست فقط غير

مطلوبة بل أحياناً تقع في دائرة الذنوب الكبيرة أيضاً.

فعلى السالكين طريق الحق و الذين يتحرّكون في تهذيب النفس و تزكيتها يجب عليهم الانتباه فلا يشطبون على المزاح تماماً و يحذفونه من حياتهم و يتحوّلوا إلى أشخاص جامدين و يعيشون الجفاف الروحي و العواطف البشرية و اللطافة و المحبّة مع الآخرين، و لا يتورّطون مقابل ذلك في الذنوب أو الأعمال المنافية للمروءة عند ممارسة المزاح، فكثيراً ما رأينا بعض الأشخاص المتدينين حسب الظاهر عند ما يتحدّثون في مجالسهم و يتمازحون مع الآخرين يطلقون ألسنتهم بالحكايات المبتذلة التي يشمّ منها رائحة الغيبة أحياناً أو التهمة أو إشاعة الفحشاء أو يتسبب كلامهم في إهانة بعض المسلمين و جرح كرامتهم.

و حتى لو كان المزاح يخلو من أي مطلب منافي للشرع، فإنّ الإكثار منه يسّبب آثار سلبية و كما يقول بعض العلماء (المَزاحُ فِي الكلامِ كَالمِلحِ فِي الطَّعامِ)، فلو كان أكثر من اللازم أو أقل منه لما كان الطعام سائغاً و طيّباً.

و مضافاً إلى ذلك فإنّ من يكثر من المزاح فانّ كلامه الجدّي سوف يكون بدون قيمة، و لا يقبل الناس كلامه الجدّي كما يرام، و هذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين قال: «مَن كَثُرَ هَزَلُهُ بَطَلَ جِدُّهُ» «1».

______________________________

(1). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 144

و الملاحظة الجديرة بالذكر أنّ المزاح أحياناً يهدف إلى أغراض معقولة و مهمّة، فلو كانت هذه الأهداف الجديّة تدخل في المسائل التربوية و البنّاءة لكان مفيداً جدّاً، مثلًا أن يسعى الشخص لافهام الطرف الآخر من خلال المزاح أن يواظب على المسائل الدينية و القيم الأخلاقية، فمثل هذا العمل مفيد جدّاً، و لكن لو كان الهدف الجدّي المتضمّن للمزاح يؤدّي إلى مفسدة أو

كان لغرض الانتقام و تخريب شخصية الآخرين، فإنّ ذلك المزاح يكون مبغوضاً و مذموماً جدّاً و ذلك بأن يقوم الإنسان بهتك حرمة الأشخاص في لباس المزاح و يهدم شخصيّتهم و يعمل على تسقيطهم بهذه الوسيلة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 145

6

الأمانة و الخيانة

تنويه:

(الأمانة) من أهمّ الفضائل الأخلاقية و القيم الإسلامية و الإنسانية و التي وردت كثيراً في القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة، و قد أولاها علماء الأخلاق و السالكون إلى اللَّه تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذات و الشخصية، و على العكس من ذلك (الخيانة) التي تعدّ من الذنوب الكبيرة و الرذائل الأخلاقية في واقع الإنسان و سلوكه الإجتماعي.

الأمانة هي في الحقيقة رأس مال المجتمع الإنساني و السبب في شدّ أواصر المجتمع و تقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي و حياتهم الدنيوية و الاخروية في حين أنّ الخيانة بمثابة النار المحرقة التي تحرق جميع العلاقات الاجتماعية و تؤدّي إلى الفوضى و الفقر و الشقاء و بالتالي تخريب الاطر الإنسانية و الحضارية في المجتمعات البشرية.

الأمانة من الصفات التي تربط الإنسان من جهة مع اللَّه تعالى و كذلك تربطه مع غيره من أفراد البشر، و من جهة ثالثة ترسم علاقته مع نفسه أيضاً و مع الطبيعة و البيئة كذلك و قد اعتبرت الكتب السماوية و الشرائع الإلهية أنّها أمانة بيد البشر.

إنّ جميع النعم المادية و المواهب المعنوية الإلهية على الإنسان في بدنه و نفسه هي في الحقيقة أمانات بيد الإنسان.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 146

و هكذا الأموال و الثروات المادية و المقامات و المناصب الاجتماعية و السياسية هي أمانات بيد الناس و يجب عليهم مراعاتها من موقع الحفظ و أداء المسؤولية.

الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، و الطلاب

أمانة بيد المعلمين، الماء و التراب و الهواء و جميع ما خلقه اللَّه تعالى من الكائنات الطبيعية لتيسير حياة الإنسان في حياته الدنيا كل ذلك يعتبر أمانة غالية بيد الإنسان و التي يعدّ التفريط فيها و عدم أداء حقّها خيانة بالنسبة إلى هذه المواهب و من الذنوب الكبيرة.

و نظراً إلى سعة مفهوم الأمانة و الخيانة و استيعابها لأبعاد مختلفة و واسعة من حياة الإنسان ندرك جيداً أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الحكيمة ما يلقي الضوء على صفة الأمانة و الخيانة في حركة الإنسان و المجتمع.

إنّ «الأمانة» وردت في القرآن الكريم مرّات متعددة بصورة مفردة أحياناً و بصورة جمع أحياناً اخرى.

و قد وردت بالنسبة إلى ستة من الأنبياء الكبار بعبارة: «إِنّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ» عن النبي نوح عليه السلام في سورة (الشعراء، 107) و النبي هود عليه السلام (الشعراء، 125) و النبي صالح عليه السلام (الشعراء، 143) و النبي لوط عليه السلام (الشعراء، 162) و النبي شعيب (الشعراء، 178) و النبي موسى (الدخان، 18) و هذا يدلّ دلالة واضحة على أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية إلى جانب مهمّة إبلاغ الرسالة الإلهية، و بدون ذلك لا يمكن لهؤلاء الأنبياء من كسب ثقة الناس و اعتمادهم على أقوالهم.

و مضافاً إلى ذلك فهناك آيات متعددة في سور مختلفة تتحدّث عن أهميّة الأمانة و لزوم رعايتها في سلوك الإنسان الفردي و الاجتماعي حيث نستعرض الآن هذه الآيات و نفسّرها:

1- «وَ الَّذِينَ هُمْ لِامَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ» «1».

______________________________

(1). سورة المؤمنون، الآية 8؛ سورة المعارج، الآية 32.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 147

1- «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ

أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً» «1».

3- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «2».

4- «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» «3».

5- «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا» «4»

تفسير و استنتاج:

«الآية الاولى» تتحرّك من خلال بيان أوصاف المؤمنين الحقيقيين و ضمن تبشيرهم بالفلاح و النجاة في الآخرة، و بعد بيان أهميّة الصلاة و الابتعاد عن اللغو و الكلام لفارغ و أداء الزكاة و اجتناب أي لون من ألوان الانحراف الجنسي يشير القرآن الكريم في الآية الخامسة و السادسة إلى مسألة حفظ الأمانة و الالتزام بالعهد و يقول: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِامَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ».

و نفس هذا التعبير ورد في سورة المعارج الآية 32 ضمن بيان أوصاف الإنسان الجميلة و الفضائل الأخلاقية و منها الأمانة و الوفاء بالعهد.

و الملفت للنظر أنّ (الأمانات) الواردة في هذه الآية ذكرت بصورة الجمع و هي إشارة إلى أنّ الأمانة لها أنواع و أشكال مختلفة و الكثير من المفسّرين ذكروا أنّ مفهوم الأمانة في هذه الآية لا يقتصر على الأمانة المالية بل يشمل الأمانات المعنوية كالقرآن الكريم و الدين الإلهي و العبادات و الوظائف الشرعية و كذلك النعم الإلهية المختلفة على الإنسان في حركة الحياة المادية و المعنوية.

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 58.

(2). سورة الانفال، الآية 27.

(3). سورة البقرة، الآية 283.

(4). سورة الأحزاب، الآية 72.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 148

و من هنا يتّضح أنّ المؤمن الواقعي و الإنسان الذي يتمتع باللّياقة الكاملة هو الذي يتحرّك في

سلوكه من موقع مراعاة الأمانة بصورها المختلفة و يهتم بالحفاظ عليها من موقع المسؤولية و أداء الوظيفة.

أمّا عطف الوفاء بالعهد على حفظ الأمانة فيبيّن هذه الحقيقة، و هي أنّ هذين المفهومين يعودان إلى جذر واحد و يشتركان في الأصل، لأنّ نقض العهد يعتبر نوع من الخيانة في العهد و الميثاق، و رعاية الأمانة نوع من الوفاء بالعهد و الميثاق أيضاً.

و تعبير (راعون) مأخوذ من مادة (رعاية) و هي من مادة (رعى) التي يراد بها رعي الأغنام و مراقبتها في عملية سوقها إلى حيث الماء و الكلاء في الصحراء، و هذا إنّما يدلّ على أنّ المقصود من هذه العبارة في الآية الكريمة هو أكثر من أداء الأمانة في مفهومها الظاهري، أي النظر و المحافظة و المراقبة للشي ء من جميع الجوانب.

و بديهي أنّ الأمانة تارة تكون ذات بعد فردي و تسلّم بيد شخص معين (كالأمانات المالية التي يودعها الإنسان لدى الآخرين) و تارة اخرى لها بعد جماعي مثل حفظ القرآن الكريم من التحريف و الدفاع عن الإسلام و المحافظة على كيان الدول الإسلامية، فهي كلّها أمانات وضعت بيد المسلمين و عليهم أن يتحرّكوا بصورة جماعية و يتكاتفوا فيما بينهم من أجل حفظ و صيانة هذه الأمانات الإلهية.

و تتحرك «الآية الثانية» لتثبيت أمرين إلهيين:

الأول: يتحدّث عن أداء الأمانة.

الثاني: يتحدّث عن الحكم بالعدل فتقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً».

و مع أنّ مسألة الحكومة العادلة أو التحكيم الصحيح و السليم بين الناس له مكانة سامية في نظر القرآن الكريم، و لكن في نفس الوقت ورد الأمر بأداء الأمانة

قبله و هذا يبيّن الأهميّة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 149

العظيمة للأمانة و أنّ لها مفهوم عام يستوعب في مضمونه التحكيم بين الناس من موقع العدل و أنّه أحد مصاديق أداء الأمانة، لأنّ الأمانة بمفهومها العام تشمل جميع المقامات و المناصب الاجتماعية التي تعتبر أمانات إلهية، و كذلك أمانات بشرية من قبل الناس بيد أصحاب المناصب هذه.

و التأكيدات الواردة في ذيل الآية الشريفة تقرّر من جهة أنّ الأمر بالأمانة و العدالة ما هي إلّا موعظة إلهية حسنة للناس، و من جهة اخرى تحذّر الجميع بأنّ اللَّه تعالى يراقب أعمالكم و سلوكياتكم، و هذا يعطي أهميّة مضاعفة على هذين المفهومين و هما رعاية الأمانة و العدالة.

و نقرأ في التفسير الكبير للفخر الرازي أنّ الأمانة لها ثلاث موارد و فروع:

الأمانة الإلهية، و أمانة الناس، و أمانة النفس، ثم يتطرّق الفخر الرازي إلى شرح كل واحدة من هذه الفروع و الأغصان للأمانة بالتفصيل و من جملتها أداء الواجبات و ترك المحرمات حيث يعتبرها من موارد الأمانات الإلهية، و يقسّمها إلى تقسيمات عديدة، منها أمانة اللسان، أمانة العين و الاذن (أي أنّ الإنسان يجب أن لا يتحرّك بالمعصية، و العين لا تنظر بنظر الخيانة، و الاذن لا تسمع الكلام المحرّم).

أمّا الأمانات البشرية فهي من قبيل الودائع التي يضعها بعض الناس لدى البعض الآخر و كذلك ترك التطفيف في الميزان و ترك الغيبة و رعاية العدالة من جهة الحكّام و الامراء و عدم تحريك العوام من موقع التعصّب للباطل و أمثال ذلك، أمّا أمانة الإنسان بالنسبة إلى نفسه فيرى الفخر الرازي أنّ على الإنسان أن يختار لها خير الدين و الدنيا و لا يستسلم لدوافع الشهوة و الغضب و ما يترتب

عليهما من ذنوب و آثام. «1»

إنّ سعة مفهوم الأمانة و شمولها لكثير من الوظائف المهمّة و النعم الكثيرة قد ورد في الكثير من التفاسير المهمّة، منها تفسير (أبو الفتوح الرازي) و (القرطبي) و تفسير (في ظلال القرآن) و تفسير (مجمع البيان) و غيرها من التفاسير الاخرى.

______________________________

(1). تفسير فخر الرازي، ج 10، ص 139 ذيل الآية المبحوثة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 150

الاخلاق فى القرآن ج 3 199

و قد ورد التصريح بهذا المعنى أيضاً في الروايات الإسلامية التي سوف نشير إليها لاحقاً.

أمّا ما ورد في شأن نزول هذه الآية فأنّه يشير بوضوح إلى سعة مفهوم الأمانة أيضاً، لأنّ سبب نزول هذه الآية كما ورد في الروايات هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله عند ما دخل مكّة منتصراً جاءه (عثمان بن طلحة) خازن الكعبة بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلّم إليه مفاتيح الكعبة ليطهرها من الأصنام الموجودة في داخلها، و بعد أن تمّ تطهير الكعبة من الأوثان جاء العباس عمّ النبي صلى الله عليه و آله و طلب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يكون خازن بيت اللَّه و أن يسلّمه مفاتيح الكعبة و الذي يعتبر منصباً مهمّاً لدى المجتمع العربي و الإسلامي آنذاك، و لكن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يوافق على هذا الطلب و أعاد المفتاح إلى (عثمان بن طلحة) ثم تلى هذه الآية الشريفة ( «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ...» هذا في حين أنّ عثمان بن طلحة لم يعتنق الإسلام بعد.

«الآية الثالثة» تتحرّك من موقع النهي عن ثلاثة أشياء مخاطبة المؤمنين في هذا النهي و هي: خيانة

اللَّه، خيانة الرسول، خيانة أمانات الناس، و تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ «1» وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ».

و المشهور بين المفسرين أنّ المقصود بحفظ أمانة اللَّه و رسوله و النهي عن خيانتهما هو عدم إفشاء أسرار المسلمين حيث قام بعض الأفراد من ضعفاء الإيمان إلى إفشاء أسرار المسلمين إلى المشركين بهدف حفظ منافعهم الشخصية و لكنّ اللَّه تعالى أعلم بيّنة ذلك، و كنموذج على هذا المضمون هو قصة (أبو لبابة) الذي أخبر عن بعض الأسرار العسكرية للمسلمين و كشفها لأعدائهم من اليهود من (بني قريظة)، أو قصة حركة النبي لفتح مكّة و إفشاء هذا السر لأبي سفيان، و المراد من الخيانة في أماناتكم الوارد في الآية الشريفة هو

______________________________

(1). وردت احتمالات عديدة حول اعراب جملة «و تخونوا أماناتكم» و الأنسب ما قيل في هذا المورد أن تخونوا مجزوم ب «لاء» محذوفة و معطوف على لا تخونوا التي وردت في الجملة، فعليه أنّ الواو، واو عاطفة لا واو حالية بمعنى «مع».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 151

الأمانات المتداولة بين الناس.

و يرى بعض آخر من المفسّرين أنّ المراد من خيانة اللَّه هي ما يتعلق بالوظائف و الواجبات الدينية و الشرعية، أمّا الخيانة للنبي فهي ما يتعلق بالسنن و السلوكيات الأخلاقية، و أمّا خيانة أمانات الناس فهي ما يتعلّق بأموالهم المودعة لدى الآخرين.

و هناك احتمال آخر أيضاً أفضل و أشمل من الاحتمالات السابقة، و هو أنّ مفهوم الآية عام و شامل لجميع مصاديق و مفردات الأمانات المعنوية و المادية و المالية و غير المالية، و على هذا الأساس فالخيانة محرّمة لجميع أشكال الأمانة: الإلهية منها و أمانة النبي و هو الدين الذي أودعه النبي

لدى امته، و كذلك أمانات الناس بيد بعضهم للبعض الآخر سواءً كانت متعلّقة بالامور المالية أو بأسرار المعيشة و الحياة الشخصية لدى الأشخاص، و لذلك ورد في الحديث النبوي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لأبي ذر رضى الله عنه: «يا أبا ذر المَجالِس بِالأمانَةِ و إفشَاءِ سرّ أَخِيكَ خِيانَة» «1».

و توضح الآية 28 من سورة الأنفال هذه اللاحقة لهذه الآية أنّ الخيانة محرّمة حتى لو عرّضت أموال الإنسان و منافع أولاده إلى الخطر (كما قرأنا في قصة أبي لبابة و أنّ وجود أمواله و أولاده لدى اليهود هو السبب في إفشاءه أسرار المسلمين العسكرية للعدو) فتقول الآية «وَ اعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» و على هذا فالأمانات الإلهية و البشرية ليست شيئاً يمكن التضحية و التساهل معه و خيانة هذه الأمانات بأعذار و تبريرات مختلفة.

«الآية الرابعة» تتعرض للأمانات و الودائع المالية لدى الناس و تتحدّث في سياقها عن لزوم تنظيم الوثائق و المستندات بالنسبة إلى هذه الودائع و تقول: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ».

أي يمكنه ذلك بدون كتابة السند أو أخذ الرهن، و في هذه السورة على الأمين حفظ

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 74، ص 89.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 152

الأمانة و ردّها إلى صاحبها بالموقع المناسب و عليه أن يخاف اللَّه فيما لو تحدّثت له نفسه بالخيانة.

أنّ تعبير الأمانة في الآية أعلاه يمكن أن يكون إشارة إلى القروض المالية التي يقرضها المسلم لأخيه المسلم من دون كتابة وثيقة أو تأمين وديعة و رهن و ذلك بسبب الثقة المتبادلة بين الأفراد، أو أنّها إشارة الى الأموال التي توضع

لدى الشخص بعنوان الرهن، أو كليهما، و على كل حال فانّ الآية فيها دلالة واضحة على لزوم احترام الأمانة و أدائها في أيّة حالة.

أمّا «الآية الخامسة» و الأخيرة من الآيات مورد البحث فتتحدّث أيضاً عن الأمانة الإلهية العظيمة التي عجزت السماوات و الأرض و الجبال عن حملها و حفظها و لكن الإنسان حملها لوحده و تقول: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا».

فما هي هذه الأمانة العظيمة التي خشيت السماوات مع عظمتها و الأرض مع سعتها و الجبال مع صلابتها أن يحملنها في حين أنّ الإنسان الضعيف و الصغير جدّاً قد حملها؟

و لقد أورد المفسّرون من القدماء و المعاصرين احتمالات كثيرة في تفسير هذه الآية، و لكنّ ما يقرب للنظر هو أنّ المقصود من الأمانة الإلهية الكبيرة هذه هو المسؤولية و التكليف الملقى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل و الحرية و الإرادة.

أجل فإنّ التكليف و المسئولية أمام اللَّه تعالى و الناس و النفس هي وظيفة ثقيلة لا يكاد يتحملها و لا يليق بحملها أي موجود آخر سوى الإنسان، و بتبع ذلك فقد جعل اللَّه تعالى العقل و الحرية و الإرادة في عملية الانتخاب هي الثواب و العقاب، و مجموع هذه الصفات الثلاث تبيّن عظمة الإنسان بين المخلوقات بحيث إختاره الله لمقام الخلافة الإلهية و ميزه على سائر المخلوقات الاخرى في عالم الوجود.

و لكن هذا الإنسان الظلوم و الجهول لم يقدّر هذا المقام الرفيع و تورّط في منزلقات

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 153

الشهوة و الأهواء الرخيصة و بذلك ظلم نفسه و حرمها من نيل السعادة

العظيمة التي تنتظره في حركته التكاملية نحو الحق و الانفتاح على اللَّه.

و على هذا الأساس فكون الإنسان ظلوماً و جهولًا إنّما هو لم يكن بسبب قبول هذه الأمانة الإلهية، لأنّ قبولها علامة العقل و سبب الافتخار، و من دون ذلك لا يصل إلى مقام الخلافة الإلهية، بل كونه ظلوماً و جهولًا بسبب عدم حفظ هذه الأمانة و سلوكه طريق الخيانة في أداء هذه المسوؤلية الكبيرة.

أجل فإنّ الأمانة التي من شأنها أن توصله إلى ذروة السعادة الحقيقية في حال حفظها، فإنّ خيانتها يتسبب كذلك في سقوط هذا الإنسان في مستنقع الذلّة و المسكنة و الشقاء حتى أنّه يكون مصداق (بَل هُم أَضَلُ مِنَ الأنعامِ و الدّوابِ).

و بعبارة اخرى: أنّ السموات و الأرض و الجبال مع عظمتها وسعتها ليست لها القابلية على قبول هذه الأمانة الإلهية، و أعلنت عدم صلاحيتها لذلك بحالتها التكوينية و بلسان حالها، و لكن الإنسان و بسبب وجود هذه القابلية و القوى الكريمة التي منحه اللَّه تعالى إيّاها أصبح لائقاً تكوينياً لقبول هذه المنحة و الأمانة الإلهية، و هذا بحدّ ذاته إفتخار عظيم للإنسان من بين المخلوقات.

و لكن بما أنّ أكثر الناس لم يراعوا حق هذه الأمانة الإلهية و لم يتحرّكوا في سبيل حفظها و أدائها فلذلك إستحقوا عنوان الظلوم و الجهول، لأنّهم ظلموا أنفسهم أشدّ الظلم بحرمانها من نيل هذا الإفتخار العظيم الذي منحه اللَّه تعالى للإنسان و عاشوا الغفلة عن هذه الموهبة الإلهية العظيمة و تركوها وراء ظهورهم.

و في ذيل هذه الآية نجد إشارة إلى هذه النقطة المهمّة، و هي أنّ الخيانة في الأمانة إنّما تنشأ من الظلم و الجهل، و هذا هو ما نسعى لتحقيقه و تقريره في هذا البحث

الأخلاقي، أجل فانّ حفظ الأمانة يدل على العقل و العدالة، بينما الخيانة هي دليل على الظلم و الجهالة.

و ممّا تقدّم آنفاً يتّضح جيداً أنّ المراد من كون الإنسان ظلوماً و جهولًا هم الأشخاص الذين يعيشون حالة الكفر أو الذين يعيشون ضعف الإيمان و التقوى، و إلّا فإنّ أولياء اللَّه

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 154

تعالى و الصالحين من العباد الذين يتحرّكون في سلوكهم الأخلاقي و الاجتماعي تبعاً للأنبياء و الأولياء فإنّهم يراعون حق هذه الأمانة و يسعون لأدائها و القيام بهذه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم، و في الحقيقة إنّ هؤلاء يمثّلون الهدف الأسمى من وجود عالم الخليقة و وجود الإنسان.

و من مجموع ما ورد من الآيات أعلاه يتّضح جيداً أهميّة حفظ الأمانة (سواءً الأمانات الإلهيّة أو الإنسانية) و جعله من علامات العقل و الإيمان و العدالة.

الأمانة و الخيانة في الروايات الإسلامية:

أمّا ما ورد من الأحاديث الشريفة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام فإنّه يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة حيث وردت الأمانة تارة بعنوان أنّها من الاصول و المبادي ء الأساسية المشتركة بين جميع الأديان السماوية، و تارة اخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان، و ثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرزق و الثروة و الثقة و الاعتماد لدى الناس و سلامة الدين و الدنيا و الغنى و عدم الفقر و أمثال ذلك، و فيما يلي نختار من هذه الروايات الشريفة ما يتضمّن هذه المعاني و المفاهيم العميقة:

1- ورد في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال للإمام علي عليه السلام: «يا أبا الحَسَنِ أَدِّ الأَمانَةَ للِبِرِّ و الفاجِرِ فِي ما قَلَّ وَجَلَّ حتّى فِي الخَيطِ وَ المَخِيطِ» «1».

و يقول

الإمام علي عليه السلام أنّ النبي قال لي ذلك في الساعة الأخيرة من حياته و كررها عليّ ثلاث مرّات.

2- و في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا إِيمانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ» «2».

3- و في حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه قال: «إنّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَم يَبعَثً نَبِيّاً إلّا بِصِدقِ

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 74، ص 273.

(2). المصدر السابق، ج 69، ص 198.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 155

الحِدِيثِ وَ أَداءِ الأَمانَةِ إِلىَ البِرِّ وَ الفاجِرِ» «1».

و هذا التعبير يوضّح أنّ جميع الأديان السماوية قد جعلت الصدق و الأمانة جزءً مهمّاً من تعليماتها الدينية و الإنسانية و من الاصول الثابتة في الأديان الإلهية.

4- ورد عن الإمام أيضاً على مستوى إمتحان إيمان الناس أنّه قال: «لا تَنظُروا إلى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وَ سُجُودِهِ فَإنَّ ذَلِكَ شَي ءٌ إِعتَادَهُ فَلَو تَرَكَهُ إِستَوحَشَ لِذلِكَ وَ لَكِنْ انظُرُوا الى صِدقِ حَدِيثِهِ وَ أَداءِ أَمانِتِهِ» «2».

5- و مثل هذا المعنى ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعبير شديد حيث قال: «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَ صَومِهِم وَ كَثْرَةِ الحَجِّ وَ المَعرُوفِ وَ طَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ وَ لَكِنْ انظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَ أَداءِ الأَمانَةِ» «3».

و الهدف من هذا التعبير ليس هو أنّ هؤلاء لا يهتمّون بصلاتهم و صومهم أو يستخفّون بحجّتهم و إنفاقهم بل الهدف هو أنّ هذه الامور ليست هي العلامة الوحيدة لإيمان الفرد بل هناك ركنان أساسيان لدين الشخص أي الصدق و الأمانة.

6- و ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المجال تعبير عجيب حيث يقول لشيعته:

«عَلَيكُم بِأَداءِ الأَمانَةِ فَو الَّذي بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه

و آله بِالحَقِّ نَبِيَّاً لَو أَنَّ قاتِلَ أَبِي الحُسَينِ ابنِ عَلَيٌّ عليه السلام ائتَمَننِي عَلَى السَّيفِ الَّذِي قَتَلَهِ بِهِ لَأَدَّيتُهُ إِلَيهِ» «4».

7- و مثل هذا المعنى و لكن بتعبير آخر ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «إنَّ ضارِبَ عَلِيٌّ بِالسَّيفِ وَ قاتِلَهُ إِذا إِئتَمَننِي وَ استَنصَحَنِي وَ استِشارَنِي ثُمَّ قَبِلتُ ذَلِكَ مِنهُ لأَدَّيتُ إِلَيهِ الأمانَةَ» «5».

8- و في حديث آخر عن الإمام أيضاً يستفاد أنّ الوصول إلى المقامات السامية حتّى

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 104.

(2). المصدر السابق، ص 105، ح 13.

(3). بحار الانوار، ج 72، ص 114، ح 5.

(4). المصدر السابق، ح 3.

(5). مجموعة ورام، ج 1، ص 20.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 156

للأئمّة المعصومين عليهم السلام مثل الإمام علي عليه السلام يتم عِبر صدق الحديث و أداء الأمانة، حيث يقول الإمام الصادق لأحد أصحابه و يدعى (عبد اللَّه بن أبي يعفور): «انظُر ما بَلَغَ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله فَأَلزَمَهُ» ثم قال: «فَإنَّ عَلِيّاً عليه السلام إِنّما بَلَغَ ما بَلَغَ عِندَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله بِصدقِ الحَدِيثِ وَ أداءِ الأمانَةِ» «1».

9- و نقرأ في حديث آخر بالنسبة إلى الآثار و النتائج الدنيوية المهمّة للأمانة و الخيانة فقد ورد عن علي عليه السلام أنّه قال: «الأمانَهُ تَجُرُّ الرِّزقَ وَ الخِيانَةُ تَجُرُّ الفَقرَ» «2».

10- و في حديث مختصر و عظيم المعنى عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «رَأَسُ الإسلامُ الأَمانَةُ» «3»

11- و ورد شبيه لهذا الحديث مع اختلاف يسير عن لقمان الحكيم حيث أنّه قال: «يا بُنَيَّ أَدِّ الأَمانَةَ تَسلُمُ لَكَ الدُّنيا وَ آخِرَتُكَ وَ كُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً» «4».

12- و نختم هذا البحث

بحديث شريف آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا تَزَالُ امتِي بِخَيرٍ ما تَحابُوا وَ تَهادُّوا وَ أَدُّوا الأَمانَةَ وَ اجتَنبُوا الحَرامَ وَ وَقَّرُوا الضَّيفَ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتوا الزَّكاةَ فَاذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ إبتَلَوا بِالقَحطِ وَ السِّنِينَ» «5».

*** هذه الروايات ما هي إلّا موارد مختارة من المصادر الإسلامية الواردة في باب الأمانة و توضّح جيداً أن هذا المفهوم الأخلاقي على درجة عالية من الأهمية من بين التعليمات الإسلامية، و كذلك الصفة التي تقع في مقابل الأمانة أي الخيانة و مدى اضرارها بدين الإنسان و شخصيته من موقع تخريب الإيمان و أنّها تورث الشقاء و البعد عن اللَّه تعالى، و كل واحدة من هذه الروايات المذكورة آنفاً تشير إلى أحد الأبعاد و الآثار البنّاءة للأمانة أو

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 104، ح 5.

(2). بحار الانوار، ج 78، ص 60.

(3). غرر الحكم.

(4). معاني الأخبار، 259؛ بحار الانوار، ج 72، ص 117.

(5). بحار الانوار، ج 72، ص 115.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 157

الأبعاد و النتائج السلبية و المخربّة للخيانة، بحيث إنّ الإنسان عند مطالعتها و التأمل و التدبّر فيها يستوحي الكثير من المفاهيم الإسلامية و القيم الأخلاقية و الاجتماعية المهمّة و البنّاءة في حركة الحياة و المجتمع.

فروع الأمانة:

عند ما نتحدّث عن الأمانة فإنّ أغلب الناس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الامور المالية، و لكن كما تقدّم في تفسير الآيات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام أنّ الأمانة لها مفهوم واسع جدّاً بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة و النعم الربانيّة على الإنسان.

هذه النعم و المواهب الإلهيّة المندرجة في مفهوم الأمانة تشتمل على مصاديق لا تعد، فهي ترد بالنسبة إلى القرآن الكريم

و الإسلام و الإيمان و الولاية و حتّى إلى أقل النعم و المواهب المادية و المعنوية.

الأحاديث الشريفة التي تؤكد على أنّ الأمانة تورث الغنى، و أنّ الخيانة تورث الفقر ناظرة إلى الأمانة المالية و المادية، و لكنّ الآية الشريفة و بعض الروايات التي تشير إلى عرض الأمانة على السموات و الأرض لا تقصد الأمانة المادية و المالية قطعاً بل تمتد أبعد من ذلك و تنظر إلى الأمانات المعنوية.

و نقرأ في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عند ما يحين وقت الصلاة فإنّ حاله يتغيّر و عند ما سئل عن ذلك قال: «جَاءَ وَقتُ الصَّلاةِ، وَقتُ أَمانَة عَرضَها اللَّهُ عَلَى السَّمواتِ وَ الأَرضِ فأَبَينَ أنْ يَحمِلنَها و أَشفَقنَ مِنها» «1».

و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ تَباركَ وَ تَعالى خَلَقَ الأَرواحَ قَبَلَ الأَجسَادِ بِأَلفَي عامٍ فَجَعَلَ أَعلاها وَ أَشرَفَها أَرواحَ مُحَمَّدٍ وَ عَليٍّ وَ فاطِمَةَ وَ الحَسنِ و الحُسَينِ وَ الأَئِمَةُ بَعدَهُم صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيهِم فَعَرضَها عَلى السَّمواتِ و الأرضِ وَ الجِبالِ ...

______________________________

(1). نور الثقلين، ج 4، ص 313.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 158

إلى أن يقول: فولايَتُهُم أَمانَةٌ عِندَ خَلقِي» «1».

و يستفاد من أحاديث اخرى أنّ مفهوم خلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «2» أيضاً مصداق مهم من مصاديق الأمانة.

و كذلك الصلاة و الزكاة و الحج هي أمانات و ودائع إلهيّة. «3»

و كذلك الزوجة أيضاً أمانة إلهيّة «4».

و نقرأ في نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأشعث بن قيس، يقول له: «و إنَّ عَمَلَكَ لَيسَ لَكَ بِطُعمَةٍ وَ لَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمانَةً» «5».

و كذلك نقرأ في الحديث النبوي الشريف الذي ذكرنا فيما سبق أنّ

«المَجالِس بِالأمانَةِ» «6»، لأنّ في المجالس الخصوصية تذكر أسرار تخص المجلس.

و حتى ورد في بعض الروايات أنّ غسل الجنابة (بعنوان أنّه تكليف إلهي) هو أمانة إلهية لدى المسلم «7».

و على أي حال فإنّ الأمانة و الخيانة لا تختصان بعمل معيّن و مصداق خاص و محدود، لأنّ النتائج المترتبة على هاتين الصفتين لا تتحدد بالامانة و الخيانة المالية.

معطيات الخيانة و الأمانة:

إنّ أهمّ معطيات الأمانة على المستوى الاجتماعي هي مسألة الاعتماد و كسب ثقة الناس، و نعلم أنّ الحياة الاجتماعية مبتنيّة على أساس التعاون و التكاتف بين أفراد المجتمع

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 26، ص 320.

(2). المصدر السابق، ج 99، 175.

(3). المصدر السابق، ص 274.

(4). المصدر السابق، ج 21، ص 381.

(5). نهج البلاغة، الرسالة 5.

(6). المحجة البيضاء، ج 3، ص 327. 0

(7). بحار الانوار، ج 10، ص 181.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 159

لحل المشاكل و التخفيف من تحدّيات الواقع و الظروف القاهرة و الاستفادة الأفضل من مواهب الحياة و الطبيعة، و لهذا فإنّ مسألة الثقة و الاعتماد لها دور أساس في تأصيل هذا المفهوم الاجتماعي لأنّه لو لا وجود الاعتماد المقابل فإنّ المجتمع سيتحوّل إلى جهنّم لا يطاق، و يتعامل الأفراد بينهم من موقع التوحّش و الأنانية، و يسود قانون الغاب في مثل هذا المجتمع، و بدلًا من أن تتكاتف القوى و الطاقات على مستوى بناء المجتمع و التصدي لتحدّيات الظروف القاهرة فإنّ هذه القوى سوف تتحرّك بالجهة المقابلة لتعميق التوحّش و التنفّر في المجتمع.

و بعبارة اخرى: إنّ المجتمع البشري سيفقد كل شي ء بدون وجود حالة الاعتماد المتقابل بالرغم من توفّر كافة الأمانات و المواهب الطبيعية الاخرى، و بعكس ذلك إنّ المجتمع الذي تتوفّر فيه حالة الاعتماد المتقابل سيحصل

على كل شي ء بالرغم من فقدانه للإمكانات و الموارد الطبيعية.

و هذا الاعتماد الاجتماعي يرتكز على ركنين:

1- الأمانة.

2- الصدق.

و ما ورد في الروايات المذكورة آنفاً أنّ الأمانة تورث الغنى و عدم الحاجة و الخيانة تورث الفقر فإنّ ذلك إنّما يشير إلى هذا الدليل.

و أمّا ما ورد في الروايات الشريفة أنّ جميع الأنبياء الإلهيين جعلوا من الأمانة و صدق الحديث محوراً لتعليماتهم فهو أيضاً ناظر إلى هذا المعنى.

و يذكر الكليني في (الكافي) قصّة جميلة في هذا الصدد و يقول: عن الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن كثير بن يونس، عن عبد الرحمن بن سيّابة قال: لما هلك أبي سيّابة، جاء رجل من إخوانه إليَّ فضرب الباب عليَّ، فخرجت إليه فعزّاني، و قال لي: هل ترك أبوك شيئاً فقلت له: لا، فدفع إليَّ كيساً فيه ألف درهم و قال لي: أحسن حفظها و كُلْ فضلها، فدخلت إلى امّي و أنا فرح، فأخبرتها، فلمّا كان بالعشيّ، أتيت صديقاً كان لأبي فاشترى لي بضائع سابري، وجلت في حانوت فرزق اللَّه جلّ و عزّ فيها خيراً كثيراً، و حضر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 160

الحج، فوقع في قلبي، فجئت إلى امّي و قلت لها: إنّه قد وقع في قلبي أن أخرج إلى مكّة؟

فقالت لي: فردّ دارهم فلان عليه فهاتها، و جئت بها إليه فدفعتها إليه فكأني وهبتها له، فقال: لعلّك استقللتها فأزيدك؟

قلت: لا، و لكن قد وقع في قلبي الحج فأحببت أن يكون شيئك عندك، ثم خرجت فقضيت نسكي، ثمّ رجعت إلى المدينة فدخلت مع الناس على أبي عبد اللَّه عليه السلام- و كان يأذن إذناً عاماً- فجلست في مواخير الناس و كنت حدثاً، فأخذ الناس يسألونه و يجيبهم،

فلما خفّ الناس عنه، أشار إليَّ فدنوت إليه، فقال لي: أ لك حاجة؟ فقلت: جُعلتُ فداك أنا عبد الرحمن بن سيّابة، فقال لي: ما فعل أبوك؟ قلت: هلك، قال: فتوجّع و ترحّم، ثم قال: قال لي: أ فترك شيئاً قلت: لا، قال: فمن أين حججت؟ قال: فابتدأت و حدثته بقصّة الرجل، قال فما تركني أفرغ منها حتّى قال لي: فما فعلت في الألف؟ قال: قلت: رددتها على صاحبها، قال: فقال لي: قد أحسنت، قال لي: أ لا اوصيك؟ قلت: بلى جُعلت فداك.

قال عليه السلام: «عَلَيكَ بِصدقِ الحَديثِ، وَ أَداءِ الأمانَةِ تُشرك النّاسَ فِي أَموالِهِم هكذا- و جمع بين أصابعه-»، فحفظت ذلك عنه، فزكيّت ثلاثمائة ألف درهم «1».

و نحن أيضاً رأينا في حياتنا أشخاصاً مثل هؤلاء الأشخاص فقد كان هناك تاجر متدّين في النجف الأشرف يعرفه الكثير من المعاصرين أيضاً و بسبب إشتهاره بالأمانة فإنّ الناس كانوا يودعون عنده أموالهم و ودائعهم مطمئنون إلى حد أنّ الكثير من العلماء و الفضلاء و طلّاب العلوم الدينية كانوا يسجّلون سندات بيوتهم بإسمه لأنّه كان يمتلك الجنسية العراقية و لعلّه كان عند وفاته قد بلغ عدد البيوت المسجّلة باسمه ما يربو على الخمسمائة بيت لهؤلاء العلماء و الطلّاب و لم يواجه أي واحد منهم مشكلة في هذا المورد.

و من جهة اخرى عند ما تسود الأمانة في المجتمع و في العائلة فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء و السكينة الفكرية و الروحية، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة فإنّ ذلك يسبب القلق و الخوف للأفراد بحيث يعيشون حالة من الإرتباك في علاقاتهم مع الآخرين و من الخطر

______________________________

(1). فروع الكافي، ج 5، ص 134 (مع التلخيص).

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 161

المحتمل الذي ينتظر

أموالهم أو أنفسهم أو أغراضهم أو مكانتهم الاجتماعية، و من المعلوم أنّ الاستمرار في مثل هذه الحياة المربكة و الموحشة عسير جدّاً و قد يورثهم الكثير من الأمراض الجمسية و الروحية أيضاً.

و من جهة ثالثة فإنّ الأمانة تقلل كثيراً من نفقات المعيشة و مصاريف الحياة و تسبب في الاقتصاد في الوقت و العمر و المال، لأنّ الخيانة إذا فتحت طريقها إلى المجتمع فانّ المسؤولين و أصحاب المواقع الاجتماعية يضطرون إلى تخصيص نفقات باهظة لإيجاد سجّلات خاصة و محاسبين و مفتشين لدرء احتمال الخيانة في حساباتهم، و أحياناً يضطرون إلى إيجاد مفتشين على المفتشين الأوائل لضبط أعمالهم و يشرفوا على حساباتهم، و مع ذلك فانّ مثل هذه الامور لا تستطيع أن تحلّ المشاكل الناشئة من الخيانة تماماً، و لكن على أي حال يقتضي الواقع المفروض تخصيص هذه النفقات للتصدّي إلى هذه المشكلة، و نشاهد في مجتمعنا الحالي أيضاً مثل هذه الامور الأليمة بالنسبة إلى الامور المالية و عدم الأمن الاقتصادي و كثرة من يلقى في السجن بسبب زوال الثقة و عدم الاعتماد المتقابل بين الناس، و لو أنّ أفراد المجتمع تحلّوا بقليل من الصدق و الأمانة بدلًا من هذه النفقات و المصروفات و الجهود المهدورة، فاننا سوف لا نبتلى بمثل هذا الاسراف الفضيع و إتلاف الثروات الاجتماعية الكبيرة.

و من جهة رابعة فإنّ الأمانة قد تسبب في كسب المحبّة و تعميق أواصر الصداقة بين الأفراد، في حين أنّ الخيانة تعتبر عاملًا للكثير من الجرائم و الحوادث السلبية و أشكال الخلل الاجتماعي، و إذا طالعنا وثائق المحاكم و السجون لرأينا أنّ الكثير من هذه الجرائم معلولة لحالة الخيانة، و عند ما ندرس ظاهرة كثرة الطلاق و حالة إنحلال

الأُسر و تلاشي العوائل نرى أنّ الكثير من هذه الحالات يعود إلى خيانة أحد الزوجين بالنسبة للآخر.

و في بعض الروايات إشارة لطيفة إلى هذا المعنى حيث يقول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لا تَزَالُ امتِي بِخَيرٍ ما تَحابُوا وَ تَهادُّوا وَ أَدُّوا الأَمانَةَ وَ اجتَنبُوا الحَرامَ وَ وَقَّرُوا الضَّيفَ وَ أَقامُوا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 162

الصَّلاةَ وَ آتوا الزَّكاةَ فَاذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ إبتَلَوا بِالقَحطِ وَ السِّنِينَ» «1».

و من جهة خامسة فإنّ مفهوم الأمانة يمتد و يتسع ليشمل الموارد و المسائل العلمية، فإنّ تطور العلوم و المعارف البشرية كان بسبب وجود العلماء الذين كانوا يتحرّكون من موقع الأمانة و الصدق في تحقيقاتهم و مطالعاتهم و تجاربهم العلمية فكانوا يقدّمون للآخرين ما اكتسبوه من تجارب ثمينة و علوم جديدة بأمانة و صدق، و هذا هو الذي أدّى إلى التطور الحضاري و العلمي في عالمنا المعاصر في حين أنّه لو لم يكن أصل الأمانة في المطالعات العلمية فإنّ ذلك قد يفضي إلى التيه العلمي و يتسبب في اضلال الناس و وقوعهم في التخبط الثقافي و العلمي.

و نقرأ في هذا الصدد حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: «كُلُّ ذِي صَناعَهٍ مُضطَرٌّ إِلى ثَلاثِ خِلالٍ يَجتَلِبُ بِها المَكسَبَ وَ هُوَ أَنْ يَكُونَ حاذِقاً بِعَمَلِهِ مُؤَدِّياً لِلأَمانَةِ فَيهِ، مُستَمِيلًا لَمَنْ إِستَعمَلَهُ» «2».

و الجدير بالذكر أنّ الأمانة تدعو الإنسان إلى صدق الحديث أيضاً كما أنّ صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة، لأنّ صدق الحديث نوع من الأمانة في القول، و الأمانة نوع من الصدق في العمل، و على هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين يرتبطان بجذر مشترك و يعبّران عن وجهين لعملةٍ واحدة، و لذلك ورد

في الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الأمانَةُ تُؤدِّي إِلى الصُّدقِ» «3».

و في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «إذا قَويَتْ الأَمانَةُ كَثُرَ الصّدقُ» «4».

دوافع الأمانة و الخيانة:

______________________________

(1) بحار الانوار، ج 72، ص 115.

(2) المصدر السابق، ج 75، ص 236.

(3) غرر الحكم.

(4) المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 163

إنّ أغلب الأشخاص الذين يتحرّكون في سلوكياتهم من موقع الخيانة و يفضّلونها على الأمانة فأنّهم يعيشون ضيق الافق في منافعهم و مصالحهم و يفكّرون في المنافع العاجلة فحسب، لأنّ الخيانة تؤفّر لهم في الكثير من الموارد هذه المنافع العاجلة و تحقق لهم بعض المصالح الفردية على حساب اهتزاز كرامتهم المعنوية و من دون أن يتفكّروا في العواقب الوخيمة لهذا السلوك في المستقبل على المستوى الدنيوي و الاخروي و مكانتهم الاجتماعية.

هؤلاء الأفراد يعيشون في سجن الحرص و الطمع فلذلك قليلًا ما يفكّرون في عواقب الخيانة، لأنّ المنافع العاجلة حجبت أعينهم و عقولهم عن مشاهدة ما يترتب على ذلك من سلبيات كثيرة في المستقبل.

هؤلاء و بسبب ضعف الإيمان و عدم الالتفات إلى القدرة الإلهيّة المطلقة التي تكفّلت برزق الناس جميعاً و وعدت من يعيش الأمانة و الصدق منهم بالثواب العاجل و الآجل فإنّهم قد حجبوا بصيرتهم عن ذلك جميعاً و تحرّكوا من موقع التغافل عن الوجدان و عن تحذيرات الشرع و تورّطوا في شراك الخيانة و فخاخ الشيطان.

و على هذا الأساس يمكننا في هذا الصدد ذكر دوافع الخيانة فيما يلي:

1- ضعف الإيمان و اهتزاز العقيدة و عدم التوجّه إلى حالة التوحيد الأفعالي للَّه تعالى و حاكميته المطلقة على جميع الأشياء.

2- غلبة الأهواء و الشهوات و حبّ الدنيا.

3- تسلّط حالة الحرص و الطمع على الإنسان.

4-

عدم التفكّر في نتائج الخيانة في حركة الحياة المادية و المعنوية.

5- ترك السعي المستمر و العمل الدؤوب لتحصيل المقاصد الدنيوية بطرق مشروعة و ذلك بسبب التكاسل و حبّ الراحة و ضعف الإرادة.

و عند الإلتفات إلى هذه الامور تتّضح النقطة المقابلة لها، و هي دوافع الأمانة و ذلك:

إنّ الأمانة تنبع من الإيمان و اليقين بقدرة اللَّه تعالى و علمه المطلق و الاعتماد عليه في جميع الامور.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 164

الأمانة تعدّ من معطيات العقل و التدبّر السليم و الالتفات إلى عواقب الامور و نتائج الأفعال.

الأمانة هي دليل على أنّ الإنسان يعيش الواقع الحاضر و يرى حقائق الامور و يترك الخوض في الأوهام و الخرافات و التصورات الزائفة.

الأمانة تنبع من شخصية الإنسان السامية و تمثّل نتيجة لحالة التفاني و التعالي في الروح الإنسانية، لأنّ مثل هذا الإنسان لا يكون مستعداً لئن يبيع شخصيته و وجدانه لتحصيل المال و المقام و زخارف الدنيا عن طريق الخيانة.

و بكلمة واحدة فإنّ الأمانة وليدة الفهم و الشعور و العقل و الإيمان و الاخلاص و أصالة الشخصية، و أحياناً يكون الفقر و الظلم عاملان من عوامل الخيانة، فمن لا يحصل على حقوقه المشروعة في المجتمع من الطرق الصحيحة و يقع تحت طائلة الفقر و العوز فإنّه قد يؤدّي به إلى التلّوث بالخيانة، و لهذا نرى أن التعاليم الدينية أكّدت على أن يموّل القاضي من بيت المال بشكل تام كيما يحفظ أمانته في القضاء بين الناس، و نقرأ في عهد الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر أنّه يقول: «وَ افسَحْ لَهُ فِي البَذلِ ما يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَ تَقِلُّ مَعَهُ حاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَ أَعطِهِ مِنَ المَنزِلَةِ لَديكَ ما لا يَطمَعُ

فِيهِ غَيرُهُ مِنْ خاصَّتِكَ لَيأَمَنَ بِذَلِكَ إِغتِيالَ الرِّجالَ لَهُ عِندَكَ فَانظُر فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً» «1».

و نختم هذا البحث بحديث مهم عن الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد يشير فيه إلى مصادر الخيانة المتنوعة و يوصي بالتوجّه إليها لحفظ الأمانة في واقع الإنسان و المجتمع فيقول: «مَنْ اؤتُمِنَ عَلى أَمانَةٍ فَأَدّاها فَقَد حَلَّ أَلفَ عُقدَةٍ مِنْ عُقَدِ النّارِ، فَبادِرُوا بِأَداءِ الأَمانَةِ، فَإنَّ مَنْ اؤتِمِنَ عَلى أَمانَةٍ وَكَّلَ بِهِ إبلِيسَ مِائةَ شَيطانٍ مِنْ مَردَةِ أَعوانِهِ لِيُضِلُّوهُ وَ يُوسوِسُوا إِلَيهِ حتّى يُهلِكُوه إلّا مَنْ عَصَمُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ» «2».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.

(2). بحار الانوار، ج 72، ص 114.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 165

طرق الوقاية و العلاج:

إنّ تعميق روح الأمانة في أفراد المجتمع و الوقاية من الخيانة لا يتسنى إلّا في ظل التقوى و الإيمان و الالتزام الديني و الأخلاقي، لأنّه كما تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ أحد جذور الخيانة هو الشرك و عدم الاعتقاد الكامل بقدرة اللَّه تعالى و رازقيته، و لهذا فالأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان و يتصوّرون أنّهم سوف يعيشون الفقر في حالة تحلّيهم بالأمانة و الصدق و أنّهم سوف لا يحصلون على ما يحتاجونه إلّا بواسطة الخيانة يكبلون أنفسهم بطوق الخيانة، و لكن عند ما يتحرّكون من موقع تقوية دعائم الإيمان في قلوبهم و تعميق حالة التوكّل و الاعتماد على اللَّه تعالى و الثقة بوعده، فانّ ذلك يتسبب في تصحيح مسارهم في عملية الوصول و تحصيل مواهب الحياة.

و من جهة اخرى فبما أنّ أحد العوامل المهمّة للخيانة هي الحاجة فاذن لا بدّ للإنسان من تدبير حاجاته و حاجات من يلوذ به المعقولة و المشروعة بصورة حسنة لئلّا يضطرّ إلى كسر قيود الأمانة و

التلّوث بالخيانة بدافع من حاجاته المادية و النفسانية.

و من جهة ثالثة فانّ من الأسباب و العوامل المهمّة في الوقاية من التورط بالخيانة هو التفكّر في عواقبها الوخيمة في الدنيا و الآخرة و ما يترتب عليها من فضيحة و حرمان و زوال الثقة و ماء الوجه أمام الخلق و الخالق و بالتالي الابتلاء بالفقر المزمن الذي سعى إلى الفرار منه بارتكاب الخيانة، و من المعلوم أنّ التأمل في هذه النتائج و الافرازات السلبية لسلوك طريق الخيانة سوف يضعف الدافع في الإنسان لارتكابها.

عند ما يتأمل الشخص نصيحة لقمان لابنه على مستوى بيان معطيات الأمانة حيث يقول: «يا بُنَيَّ أَدِّ الأَمانَةَ تَسلُمُ لَكَ الدُّنيا وَ آخِرَتُكَ وَ كُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً» «1».

فعندها يعيش الشوق في وجوده نحو تحصيل هذه الفضيلة الأخلاقية أي الأمانة و يجتنب التحرّك في خط الخيانة، و لو تأملنا كذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 1، ص 215.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 166

«رَأسُ الكُفِر الخِيانَةُ» «1».

و يقول في مكان آخر: «رَأسُ النِّفاقِ الخِيانَةُ» «2».

و يقول أيضاً في حديث آخر: «جانِبِ الخِيانَةَ فَإنَّها مُجانِبَةِ الإِسلامِ» «3»

فعندها يسيطر عليه الخوف من الخيانة و يدرك عظمة هذا الذنب الكبير الذي يساوق في إثمه و ابتعاده عن اللَّه تعالى و الإسلام الكفر و النفاق، و حينئذٍ سيتحرّك بعيداً عن ممارسة الخيانة أو التفكير بها.

و إذا أردنا أن نتعمّق في خطر الخيانة و شؤمها فلنستمع إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في حديثه المثير عن بعض عناصر الشر و عوامل الانحراف حيث يقول: «أَربَعٌ لا تَدخُلِ بَيتاً وِاحُدَةٍ مِنهُنَّ إلّا خَرَبَ وَ لَم يَعمُرْ بِالبَرَكَةِ الخِيانَةِ و السَّرقَةُ وَ شُربُ الخَمرِ و الزِّنا»

«4».

و من المعلوم أنّ المجتمع الذي يعيش أحد هذه العناصر الأربعة أو كلّها فانّه يكون مصداقاً لهذا الحكم النبوي و سوف يخلو من البركة و بالتالي يصيبه الدمار و الاندثار.

و من الملفت للنظر أنّه كما أنّ الشخص الأمين يجب أن لا يخون الأمانة، فكذلك المودع للأمانة و صاحب المال يجب أن يكون ذكيّاً و لا يودع أمانته عند أي شخص كان، فإذا وضع أمانته تحت تصرّف شخص سي ء السمعة ثمّ خانه هذا الشخص فعليه أن يلوم نفسه كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم أنّه قال: «من أئتمن غير أمين فليس له على اللَّه ضمان لأنّه قد نهاه أن يأتمنه».

و يقول الإمام الباقر عليه السلام: «من إتمن غير مؤتمن فلا حجة له على اللَّه».

و علي هذا الأساس يجب على جميع الإداريين و أصحاب المسؤوليّات في المجتمع الإسلامي أن يكونوا على درجة من الذكاء و الحنكة و لا يضعوا امور الناس و المناصب

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). بحار الانوار، ج 76، ص 125.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 167

الحسّاسة في الحكومة و التي هي أهم أمانة إلهيّة بيدهم عند الأشخاص الذين يشم منهم رائحة الخيانة، فإنّه عند ذلك سوف يفسد دينهم و دنياهم و يكونون مسؤولين أمام اللَّه تعالى.

الأمانة و الخيانة في بيت المال:

إنّ الأمانة خلق محمود و مطلوب في أي مكان و مورد، و لكن بالنسبة إلى بيت المال و رءوس الأموال المادية و المعنوية المتعلّقة بالمجتمع لا بشخص معيّن فقد ورد التأكيد على الأمانة فيها بشكل خاص في النصوص الدينية، و الحكمة في ذلك واضحة لأنّه أولًا: أنّ البعض يتصوّر أنّ مثل هذه الأموال بما أنّها لا تقع في دائرة الممتلكات لشخص معيّن بل هي

ملك عموم الناس فإنّهم أحرار في تصرفاتهم و تعاملهم بها.

و ثانياً: إذا تفشّت الخيانة بالنسبة إلى الأموال العامة و بيت المال فإنّ نظم المجتمع سوف يتلاشى و ينهار، فلا يرى مثل هذا المجتمع البشري وجه السعادة أبداً.

و من أجل درك أهميّة هذا الموضوع يكفي مطالعة قصّة (الحديدة المحماة) حيث ورد أنّ عقيل رضى الله عنه جاء إلى أخيه علي بن أبي طالب عليه السلام و طلب منه أن يزيده قليلًا من حصّته و سهمه من بيت المال دون مراعاة ضوابط العدالة و المساواة بين المسلمين على أساس العلاقة الاخويّة بينه و بين الإمام علي عليه السلام، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلّا أن أحمى له حديدة و قرّبها منه، صرخ عقيل من حرارتها فقال له الإمام عليه السلام: «يا عَقِيلُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحماها إِنسانَها لِلَعبِهِ وَ تَجِرُّنِي إِلى نارٍ سَجَرَها جَبارُها لِغَضَبِهِ، أَتَئِنُّ مِنْ الأَذى وَ لا أَئِنُّ مِنْ لَظى «1».

و قال أمير المؤمنين عليه السلام في مكان آخر كلاماً مثيراً بالنسبة إلى عطايا عثمان من بيت المال إلى أقربائه و ذويه حيث عزم الإمام علي عليه السلام على ردّها جميعاً إلى بيت المال و قال:

«وَ اللَّهِ لَو وَجَدته قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ و مُلِكَ بِهِ الإِماءُ لَرَدَدتُهُ، فَإنَّ فِي العَدلِ سَعَةً، وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيهِ العَدلُ فَالجَورُ عليه أَضيَقُ» «2».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 224.

(2). المصدر السابق، الخطبة 15.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 168

و عند ما اقترح عليه استخدام الأشخاص المعروفين في تدبير أمر الحكومة و زيادة رواتبهم و عطاياهم من بيت المال لغرض الإستعانة بهم في امور الدولة و الحكومة (و لا أقل في بداية خلافته) فقال: «أَ تَأمُرُنِي أَنْ أَطلُبَ

النَّصرَ بِالجَورِ فِيمَن وُلِّيتُ عَلَيهِم وَ اللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ ما سَمَرَ سَمِيرٌ وَ ما أَمَ نَجمٌ فِي السَّماءِ نَجمَاً، وَ لَو كانَ المَالُ لِي لَسَويَّتُ بَينَهُم فَكَيفَ وَ إِنَّما المَالُ مالُ اللَّهِ» «1».

بل إنّ الإمام علي عليه السلام تحرّك لحفظ الأمانة في بيت المال من موقع التهديد الشديد لأقرب المقرّبِينَ إليه حتّى يتّعظ بذلك الأبعد من الناس و يعلم أنّ المسألة هنا جدّية فلا مهادنة في بيت المال، و لذلك نقرأ في الكتاب الذي أرسله أمير المؤمنين عليه السلام إلى بعض امرائه في البلد الإسلامي الذي أساء الاستفادة من بيت المال و أنفقه في موارد اخرى، فكتب له الإمام يقول: «فَاتَّقِ اللَّهَ و اردُد إلى هَؤلاءِ القَومِ أَموالَهُم فَإِنَّكَ إنْ لَم تَفعَل ثُمَّ أَمكَننِي اللَّهُ مِنكَ لأَعذِرنَّ إِلى اللَّهِ فِيكَ وَ لأَضرِبَنَّكَ بِسَيفِي الَّذِي ما ضَربَتُ بِهِ أَحَداً إِلّا دَخَلَ النَّارَ، وَ اللَّهِ لَو أَنَّ الحَسَنَ و الحُسَينَ فَعَلا مِثلَ الَّذِي فَعَلتَ ما كَانَتْ لَهُما عِندِي هَوادَةٌ، و لا ظَفِرَا مِنِّي بِأرَادَةٍ حَتّى آخُذَ الحَقُّ مِنهُما» «2».

و نعلم أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند ما فتح مكّة قد عفى عن قريش و جميع المجرمين و الجناة من قريش و غير قريش الذين حاربوه قرابة عشرين سنة و سفكوا دماء الكثير من المسلمين و رغم ذلك فقد أصدر النبي أمره بالعفو عنهم و إسدال الستار على ما مضى من جرائمهم و عداوتهم، و لكن مع ذلك فقد استثنى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عدّة أشخاص من هذا العفو و أهدر دمهم و أمر بقتلهم في أي مكان كانوا، و أحد هؤلاء هو (ابن خطل) و كان ذنبه أنّه اعتنق الإسلام

في الظاهر و هاجر إلى المدينة، فجعله النبي صلى الله عليه و آله على الزكاة و جمعها و أرسل معه شخصاً من قبيلة خزاعة، فعند ما ذهب لجمع الزكاة و اجتمع لديه مقدار مهم من الزكاة قتل صاحبه و هرب بالأموال إلى مكّة، و عند ما سأله المشركون في مكة عن سبب رجوعه قال:

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 126.

(2). المصدر السابق، الرساله 41.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 169

«لم أجد ديناً أفضل من دينكم»، و أخذ يهجو النبي بقصائد من الشعر و كانت لديه بعض الجواري المغنيّات و الراقصات، فكان يجلس مجالس الطرب و اللّهو و يشترك معه مجموعة من المشركين فيشربون الخمر و يهجون النبي بهذه الأشعار، و بما أنّه بلغ من الوقاحة و الخيانة في بيت المال إلى هذه الدرجة العظمية حتّى أنّ هذه الخيانة تسببت في إرتداده عن الإسلام و هتكه لحرمة النبي الأكرم، فلذلك أصدر النبي أمره هذا، فلّما سمع بذلك التجأ إلى الكعبة، و بما أنّ من يلوذ بالكعبة سوف يصان دمه، فلذلك سحبوه إلى خارج الحرم و قتلوه «1».

فهذه التصريحات الشديدة و الأحاديث المثيرة تشير إلى أنّ الخيانة في بيت مال المسلمين و رغم أنّ البعض يتصوّر أنّها سهلة و يسيرة فإنّها من أعظم الذنوب و الخطايا، و عقوبتها من أشدّ أنواع العقوبات الدنيوية و الاخروية.

و نختم هذا البحث بالإشارة إلى حادثة وقعت في زمان رسول اللَّه حيث تبيّن الأهميّة الكبيرة لبيت المال، و الحادثة هي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند ما عاد من خيبر و وصل إلى وادي القرى كان معه غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي قال: فو اللَّه إنّه ليضع رحل رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله إذا أتاه سهم غرب فأصابه فقتله، فقلنا: هنيئاً له الجنّة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«كَلّا و الذي نفس محمد بيده إنّ شَملتّهُ الآن لتحترق عليه في النار كان غلها من في ء المسلمين يوم خيبر».

قال: فسمعها رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتاه فقال: يا رسول اللَّه أصبت شراكين لنعلين لي، قال:

فقال عليه السلام: «يُقد لك مثلهما من النار» «2».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 18، ص 14 و 15.

(2) سيرة ابن هشام، ج 2، ص 353.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 170

7

الصدق

تنويه:

إنّ هذه الصفة هي أحد العلائم المهمّة في عناصر الشخصية لكل إنسان، و عند ما يجتمع الصدق مع الأمانة تشكل من ذلك أساس الشخصية الإنسانية السويّة و الكاملة بحيث لا يمكن اطلاق اسم الإنسان الحقيقي عند من يخلو من هاتين الصفتين الأخلاقيتين.

و هاتان الصفتان لهما جذر و أصل مشترك، لأنّ الصدق ليس شيئاً سوى الأمانة في القول، و الأمانة ليست شيئاً سوى الصدق في العمل، و لهذا السبب فقد وردت في الروايات الإسلامية و كلمات المعصومين عليهم السلام هاتان الصفتان أي (صدق الحديث و أداء الأمانة) سوية.

و إلى جانب هذه الصفة نرى وجود صفات ممتازة اخرى في منظومة القيم الأخلاقية لدى الإنسان و التي هي في الواقع من قبيل اللازم و الملزوم، لأنّ الصادقين هم عادة يتحلّون بالشجاعة، صراحة اللهجة، قلّة الطمع، الأخلاص، الابتعاد عن الافراط في الحب و البغض و التعصب، في حين أنّ من يعيش الكذب في سلوكه و أقواله فهو يتحلّى عادة بصفة الخوف، الرياء، التعصّب و اللجاجة، الطمع، و الافراط في الحب و البغض.

الإنسان يعيش الانضباط

في حياته باصول أخلاقية و يتحرّك من موقع المسؤولية مع

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 172

الآخرين في حين أنّ الشخص الكاذب منافق عادة و يعيش الحالة الانتهازية في تعامله مع الناس.

و بكلمة واحدة يمكن القول: إنّ الصدق و الأمانة مفتاحان للكشف عن باطن الأشخاص في أبعاد مختلفة، و لذلك كما سوف يأتي في البحث الروائي في كلمات المعصومين أنّ هاتين الصفتين يمثلان الأداة البليغة لأختبار الأشخاص، فلو أردت معرفة حسن الشخص أو سوئه فعليك بأمتحانه و اختباره بالصدق و أداء الأمانة.

و بهذه الإشارة نعود إلى الآيات القرآنية و الروايات الإسلامية الشريفة التي تتحدّث في أجواء الصدق و الدوافع و النتائج المترتبة على هذه الصفة الأخلاقية و بعض النقاط المتعلّقة بهما ثمّ نستعرض بعض ما يتعلق بصفة الكذب و آثاره السلبية في حركة الإنسان و المجتمع.

و قد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدّث عن أهميّة الصدق منها:

1- «قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «1».

2- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» «2».

3- «لِيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً» «3».

4- «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِمَاتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ الْقَانِتِينَ وَ الْقَانِتَاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقَاتِ ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً» «4».

5- «طَاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ» «5».

6- «وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» «6».

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 119.

(2). سورة التوبة، الآية 119.

(3). سورة الاحزاب،

الآية 24.

(4). سورة الاحزاب، الآية 35.

(5). سورة محمد، الآية 21.

(6). سورة العنكبوت، الآية 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 173

تفسير و استنتاج:

إنّ العبارات الواردة في الآيات الكريمة التي تتحدّث عن أهميّة الصدق لا نجد مثيلًا لها في دائرة المفاهيم القرآنية الكريمة، و من جملة التعابير الشديدة الواردة في هذه الصفة الأخلاقية هو ما ورد في «الآية الاولى» من الآيات محل البحث و التي جاءت بعد بيان مفصّل عن ظاهرة انحراف النصارى عن دائرة التوحيد و سؤال اللَّه تعالى المسيح يوم القيامة عن سبب هذا الانحراف و تبرئة المسيح لنفسه عن هذه التهمة و حينئذٍ تقول الآية: «قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ»

و هذه إشارة إلى أنّ اتصافهم بالصدق في الحياة الدنيا سوف ينفعهم في حياتهم الاخروية يوم القيامة و يكون سبباً لنجاتهم من النار (لا أنّ صدقهم يوم القيامة سيكون سبباً لنجاتهم في ذلك اليوم لأنّه لا تكليف يوم القيامة).

ثمّ تستمر الآية الشريفة في استعراض ما يترتب من النتائج الايجابية و الثواب العظيم على هؤلاء الصادقين و تقول: «لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

فمن جهة سوف ينالون الجنّة و يتمتعون بعظيم نعيمها و مواهبها الخالدة، و من جانب آخر ينالون رضا اللَّه تعالى عنهم، و التعبير بالفوز العظيم في الآية يدلّ بوضوح على عظمة مقام الصادقين، و لعلّه لهذا السبب فإنّه بالإمكان جمع كافة أعمال الخير و الصلاح و إدخالها في دائرة الصدق، أو بتعبير آخر أنّ الصدق هو مفتاح لكافّة أعمال الخير و الصلاح.

و من البديهي أنّ اللَّه تعالى إذا رضي عن عبد فإنّه سوف يعطيه ما يريد، و طبيعي أنّ الإنسان إذا

أعطي كل ما يريد فإنّه سيعيش حالة السعادة المطلقة و عليه فإنّ رضى اللَّه تعالى سيتسبب في رضا العبد، و هذا الرضا المتقابل يعدّ نعمة عظيمة لا تصل إليها أي نعمة اخرى، و هي موهبة إلهية للصادقين من الناس.

و عبارة (رضي اللَّه عنهم و رضوا عنه) وردت في القرآن الكريم في أربع موارد و التوفيق فيها يبيّن عظمة هذا المفهوم السامي، ففي أحد الموارد يتحدّث القرآن الكريم عن

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 174

المهاجرين و الأنصار و التابعين، و في مكان آخر يتحدّث عن حزب اللَّه تعالى، و في مورد ثالث يتحدّث عن (خير البرية)، و في هذه الآية محل البحث يتحدّث عن الصادقين، و هذا يدلّ على أنّ الصادقين هم حزب اللَّه تعالى و خير البرية، و من المهاجرين و الانصار و التابعين.

«الآية الثانية» تخاطب جميع المؤمنين من موقع الأمر بتقوى اللَّه تعالى الذي يقترن مع الصدق و تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».

و نظراً إلى أنّ مثل هذه الخطابات القرآنية و كما ورد في الاصطلاح أنّها خطابات المشافهة فإنّها تستوعب في دائرتها و مصاديقها جميع المؤمنين في كل زمان و مكان، و من الواضح أنّ الكون مع الصادقين وظيفة و واجب على الجميع في أي مكان و زمان، و هذا يدلّ على أنّ الإنسان إذا أراد التحرّك في خط التقوى و الإيمان و الاستقامة فعليه أن يعيش مع الصادقين و يلتزم بهم.

أمّا المقصود من الصادقين في هذه الآية ما هو؟ فهناك تفاسير متعددة لذلك، فالبعض ذكر أنّ المقصود هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أصحابه، و ذهب البعض الآخر إلى أنّ مراد الآية من الصادقين

هم الأشخاص الذين يتمتعون بصدق النيّة و الصلاح في العقائد و الأعمال، و أورد آخرون تفاسير اخرى لهذه العبارة.

و لكن عند الرجوع لسائر الآيات القرآنية نجد أنّ القرآن نفسه يفسّر المراد من هذه الآية حيث يقول في سورة الحجرات: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ» «1»

و هكذا نرى أنّ هذه الآية قد ذكرت للصادقين صفات سامية كالإيمان الذي لا يشوبه أي شك و ريب و الجهاد في سبيل اللَّه بالمال و النفس و أمثال ذلك.

و قد ذكرت الآية 8 من سورة الحشر أحد المصاديق البارزة للصادقين و هم المهاجرون

______________________________

(1). سورة الحجرات، الآية 15.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 175

الذين تركوا أموالهم و بيوتهم و هاجروا في سبيل اللَّه و كانوا ينصرون دين اللَّه و نبيّه الكريم دائماً.

و نقرأ في الآية 117 من سورة البقرة صفات مهمّة اخرى لهؤلاء الصادقين من قبيل الإيمان باللَّه تعالى و يوم القيامة و الكتب السماوية و الأنبياء و إنفاق الأموال في سبيل اللَّه و إقامة الصلاة و أداء الزكاة و الوفاء بالعهد و الصبر على المشكلات و الصعوبات التي يواجهها المؤمن في حالات الجهاد.

و من مجموع هذه الصفات الكريمة يتبيّن جيداً أنّ الصادقين ليس هم الصادقين في الكلام فقط، بل الصدق في الإيمان و العمل من خلال التقوى و التضحية و طاعة اللَّه تعالى و التحرّك في خط الإيمان، رغم أنّ هذا المفهوم يمتد ليستوعب دائرة واسعة من المفاهيم الأخلاقية لكن النموذج الأكمل و الأتم لذلك هم المعصومون عليهم السلام و لذلك ورد في الروايات الشريفة من طرق الشيعة و أهل السنة في تفسير هذه

الآية أن المقصود بها علي بن أبي طالب عليه السلام و أصحابه، و كذلك ورد أنّ المقصود علي بن أبي طالب و أهل بيته عليهم السلام.

و قد أورد العلّامة (الثعلبي) في تفسيره عن ابن عباس أنّه قال: «مَعَ الصّادِقِينَ يَعنِي مَعَ عَلي بن أَبِي طالب وَ أصحابِهِ» «1».

و قد ذكرت جماعة اخرى من علماء أهل السنة مثل العلّامة الگنجي في كفاية الطالب و سبط ابن الجوزي في التذكرة نفس هذا المعنى و المضمون مع تفاوت أنّه بدل كلمة الأصحاب و أورد ذكر أهل البيت عليهم السلام حيث يقول في ذيل هذه الرواية: «قَالَ ابنُ عَباس:

عَلِيٌّ سَيِّدُ الصَّادِقِينَ» «2».

و جاء في الرواية الشريفة عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضى الله عنه عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الآية أنّه قال: «أَي آلُ مُحَّمد» «3».

و قد استوحى الكثير من المفسّرين من اطلاق هذه الآية أنّ هذا الأمر يشمل جميع

______________________________

(1). احقاق الحق، ج 3، ص 297.

(2). المصدر السابق.

(3). تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 280.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 176

المسلمين في كل زمان و مكان، و بما أنّ الصادق المطلق هو الإمام المعصوم فالآية تدلّ على أنّه يجب وجود إمام معصوم في كل زمان (و التعبير بصيغة الجمع «الصادقين» لغرض أنّ المخاطب هو كافة الناس في كل زمان).

و النتيجة المستوحاة من هذه الآية هي أننا جميعاً مطالبون في أن نكون دائماً مع الصادقين، و هم الذين وردت أوصافهم في الآيات أعلاه و المصداق الأكمل لهم هم المعصومون عليهم السلام.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن الثواب الذي ينتظر الصادقين يوم القيامة و قد جعلتهم الآية في مقابل المنافقين، و بعد أن بيّنت حال المؤمنين الصادقين و الذين استشهدوا

في سبيل اللَّه و كذلك من ينتظر الشهادة منهم فتقول: «لِيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً».

و بهذا يتبيّن الثواب العظيم على المستوى المادي و المعنوي الذي ينتظر الصادقين في الجنّة، و هم الصادقون في القول و العمل و العقيدة، و أمّا من خرج من دائرة الصدق و سلك في خط الباطل و الكذب فإنّه يسقط في وادي النفاق و الضلال.

«الآية الرايعة» من الآيات محل البحث تشير إلى عشرة طوائف مبشّرة إيّاهم بالمغفرة و الثواب الجزيل، و الطائفة الرابعة منهم هم الصادقون و الصادقات، و هذا يعني أنّ الإنسان بعد إعتناق الإسلام و الإيمان و الطاعة للَّه تعالى فلا فضيلة بعدها أعلى من الصدق في السلوك العملي حيث تبيّن هذه الآية إلى أية درجة يرتقي الصدق بالإنسان سواء الرجل أو المرأة، و قد ورد في الحديث النبوي المعروف: «لا يَستَقِيمُ إِيمانُ عَبدٍ حَتّى يَستَقِيمَ قَلبُهُ وَ لا يَستَقِيمُ قَلبُهُ حَتّى يَستَقِيمَ لِسانُهُ» «1».

و يستفاد من هذا الحديث أنّه حتى الإيمان الكامل لا يحصل للإنسان إلّا بعد الصدق

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 5، ص 193.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 177

و إصلاح اللسان و القول، و أمّا الأشخاص الذين يعيشون الكذب في كلامهم فهم الفارغون من الإيمان الكامل.

«الآية الخامسة» و بعد الإشارة إلى الحالة السلبية للمنافقين و تذبذبهم و تناقضهم في القول و العمل و خوفهم العظيم من الجهاد في سبيل اللَّه تعالى الذي هو في الحقيقة أصل العزّة و الفخر للإنسان المؤمن تقول الآية: «طَاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ».

فهؤلاء كانوا يقولون أننا عند ما ينزل علينا الأمر بالجهاد

فسوف نتحرّك من موقع الطاعة و لا نقول سوى المعروف و الصدق، و لكن عند ما يحين الوقت و ينزل الأمر بالجهاد يتجلّى حينئذٍ عدم صدقهم و تهافتهم و تخاذلهم في حين أنّهم لو صدقوا اللَّه لكان خيراً لهم.

هذا التعبير يدلّ على أنّ الكذب هو أحد علامات المنافقين، فقبل أن يواجهوا الأمر الواقع و تحين لحظة الحسم فأنّهم ينطلقون من موقع الوعد بالجهاد و الثبات و الانطلاق من موقع المسؤولية، و لكن عند ما تحين اللحظة الحاسمة يتّضح كذبهم و نفاقهم، أي أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية و هي الكذب تعدّ باباً و مفتاحاً للنفاق.

«الآية السادسة»: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ».

و لا شك أنّ أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد تجاوزوا اختبارات صعبة في ميدان العمل و الواقع، و أحد أهم هذه الاختبارات هي مسألة الهجرة، التي تعني ترك البيوت و الأموال و غض الطرف عن الأوطان و جميع التعلّقات التي ألفها الإنسان في وطنه و الانتقال إلى مكان آخر يبدأ فيه الحركة و الحياة من نقطة الصفر و يعيش هناك مع أنواع الحرمان و النقص في موارد المعيشة، و في حالة ما إذا لم تهاجر معه الزوجة و الأطفال فالصعوبات التي يواجهها هذا الإنسان المهاجر ستتضاعف و تشتد.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 178

القرآن الكريم يتحرّك في هذه الآية من موقع التحذير لأصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أنّ هذه الهجرة هي إمتحان إلهي كبير (فاذا بقوا في مكّة فسوف ينالهم أنواع التعذيب من قبل المشركين و لو هاجروا إلى المدينة فسيواجهون أنواع الحرمان و الفاقة) فيقول لهم القرآن الكريم أنّه لا تتصوّروا أنّ

هذا الامتحان العسير في مواجهة تحدّيات الواقع من تعذيب المشركين أو الهجرة إلى المدينة أو الجهاد في سبيل اللَّه و مواجهة الأعداء في ميدان القتال و أمثال ذلك منحصر بكم، فقد سبق أن اختبرنا الأقوام السالفة بأنواع الاختبارات و الابتلاءات، و أساساً فإنّ الحياة الدنيا تدور حول الإمتحان و الاختبار الإلهي ليتبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب و المدّعي.

و في الواقع أنّ هذه الآية تتحدّث عن الصدق بعنوان أنّه علامة الإيمان و الكذب علامة النفاق و الكفر.

و طبعاً إنّ الصدق و الكذب في هذه الآية هو الصدق و الكذب في العمل لا في القول، العمل الذي ينسجم و يتوافق مع ا دّعاءات الإنسان السابقة و يرسم له سلوكه الاجتماعي في حركة الحياة، و الكاذب هنا هو الذي لا يتحرّك في سلوكه بما ينسجم مع إدعاءاته، و أيضاً الصدق و الكذب في العمل و في القول لهما جذر مشترك، لأنّ الصدق هو بيان الحقيقة و الكذب على العكس من ذلك، و هذا التبيّن تارة يكون بوسيلة القول و اخرى بوسيلة العمل.

و من مجموع الآيات أعلاه يتبيّن الأهميّة الكبيرة للصدق و الصادقين و أنّ هذه الصفة تعد فضيلة أخلاقية من الفضائل التحتية للبناء الأخلاقي الفوقاني للإنسان، نعم فإنّه متى ما وجد الصدق فإنّ الصفاء و الأمانة و الثقة و الاعتماد و الشجاعة سوف تحصل للإنسان بالتبع، و لو لم يكن الصدق في واقع الإنسان فإنّ جميع هذه الصفات ستتبخّر و تتلاشى و يعيش الإنسان بدونها حالة الفراغ الروحي و الجفاف المعنوي و حتّى أنّ الإيمان و العقيدة سوف لا تبقى سليمة كما هو المطلوب، و الملفت للنظر أنّ الآيات الكريمة تذكر الصدق بعنوان أنّه صفة من الصفات

الأصلية للقادة الإلهيين كما أشارت إلى ذلك الآيات أعلاه و هذا إنّما يدلّ على أنّ سائر فضائل الإنبياء و الأولياء تدور حول محور الصدق و علينا إذا أردنا معرفتهم و الاطّلاع

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 179

على أحوالهم أن نتحرّك لتتبع أثر هذه الصفة الأخلاقية فيهم.

الصدق في الروايات الإسلامية:

اشارة

إنّ أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية في الروايات الإسلامية أكثر من أن يقال أو يذكر في هذا المختصر، فالأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام في هذا المجال تجاوزت حد الحصر، و لكننا نكتفي في هذا الفصل بذكر نماذج منها لبيان أهميّة هذه الصفة من بين الصفات الأخلاقية للإنسان حيث يستفاد جيداً من الروايات أنّ جميع الفضائل الإنسانية تنبع من حالة الصدق.

1- ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في بيان أهميّة الصدق و الذي تقدّم ذكره في الفصل السابق و لكننا نذكره مرة اخرى لأهميته: «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَ صَومِهِم وَ كَثْرَةِ الحَجِّ وَ المَعرُوفِ وَ طَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ وَ لَكِنْ انظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَ أَداءِ الأَمانةِ» «1».

2- و نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِن اللَّهَ لَم يَبعَثْ نَبيّاً إلّا بِصدقِ الحَدِيثِ وَ أَداءِ الأمانةِ إِلَى البِرِّ و الفاجِرِ» «2».

3- و في حديث آخر عن هذا الإمام يقول حول تأثير الصدق في جميع أعمال الإنسان و سلوكياته «وَ مَن صَدَقَ لِسانُهُ زكَى عَمَلُهُ» «3»، لأنّ الصدق يمثل الجذر و الأساس لجميع الأعمال الصالحة، و سوف يأتي لاحقاً بيان هذا المطلب بالتفصيل.

4- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق أيضاً في كتابه إلى أحد أصحابه و يُدعى عبد اللَّه

بن أبي يعفور حيث قال له: «انظُر ما بَلَغَ عَلَيٌّ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله فَأَلزَمَهُ، فَإنَّ عَلِيّاً عليه السلام إِنّما بَلَغَ ما بَلَغَ عِندَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله بِصدقِ الحَدِيثِ وَ أَداءِ الأمانَةِ» «4».

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 68، ص 9، ح 13.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 104، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). اصول الكافي، ج 2، ص 104، ح 5.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 180

هذا التعبير يدلّ على أنّ الإنسان حتّى لو كان شخصية كبيرة و عظيمة مثل علي بن أبي طالب عليه السلام إنّما وصل إلى هذا المقام السامي عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ببركة هاتين الصفتين: صدق الحديث، و أداء الأمانة.

5- و قد ورد في الحديث الشريف أنّه سُئل أمير المؤمنين عليه السلام: «أي النّاسِ أَكرمُ؟ فَقَالَ:

مَنْ صَدَقَ فِي المَواطِن» «1».

و نظراً إلى أنّ القرآن الكريم يقول: «إنّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم» «2» يتضّح أنّ روح التقوى هي الصدق في الحديث.

6- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام يتحدّث فيه عن تأثير الصدق في نجاة الإنسان من الأخطار و المشكلات حيث يقول: «ألزموا الصدق فإنّه منجاة».

و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام ورد تشبيهاً جميلًا عن الصدق حيث يقول:

«الصِّدقُ نُورٌ غَيرَ مُتَشَعشِعٍ إِلّا فِي عالَمِهِ كَالشَّمْسِ يَستَضي ءُ بِها كُلُّ شَيٍّ يَغْشَاهُ مِنْ غَيرِ نُقصانٍ يَقَعُ عَلى مَعناها».

و يقول الإمام عليه السلام في ذيل هذا الحديث: «الصِّدقُ سَيفُ اللَّهِ فِي أَرضِهِ وَ سَمائِهِ أَينما هَوى بِهِ يُقَّدُّ» «3».

7- و عن أهميّة الصدق يكفي أن نذكر الحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «الصِّدقُ رأسُ

الدِّينِ».

و يقول في حديث آخر: «الصِّدقُ صَلاحُ كُلِّ شَي ءٍ».

و يقول في حديث آخر أيضاً: «الصِّدقُ أَقوى دَعائِمُ الإِيمانِ».

و في رواية اخرى يقول: «الصِّدقُ جَمالُ الإنسانِ و دَعامَةُ الإيمانِ».

و أخيراً يضيف إلى ذلك تعبيراً مهمّاً آخر عن الصدق و يقول: «الصِّدقُ أَشرَفُ خَلائِقِ المُؤمِنِ» «4».

______________________________

(1) بحار الانوار، ج 67، ص 9، ح 12.

(2) سورة الحجرات، الآية 13.

(3) بحار الانوار، ج 68، ص 10، 18.

(4) غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 181

8- و نختم هذا البحث الطويل بحديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتحدّث فيه عن مفتاح الجنّة و النار و يقول: «إِنّ رَجُلًا جاءَ إِلى النَّبِيِّ فَقالَ يا رَسُولَ اللَّهِ ما عَمَلُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: الصِّدقُ، إِذا صَدَقَ العَبدُ بِرَّ و إذا بَرَّ آمَنَ، و إذا آمَنَ دَخَلَ الجَنَّةَ قَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ وَ ما عَمَلُ النَّارِ؟ قَالَ: الكِذبُ، إِذا كَذِبَ العَبدُ فَجَرَ، وَ إِذا فَجَرَ كَفَرَ، و إِذا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ» «1».

و الملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يعدّ الصدق منبع الخير و الصلاح و بالتالي فهو منبع الإيمان أيضاً، و ما ذلك إلّا لأنّ الفاسق يتحرّك في تبرير أعماله الدنيئة من موقع الكذب و الدجل و الخداع، هذا من جهة، و من جهة اخرى فإنّ روح الإنسان ستضعف بسبب الكذب و تدريجياً يضعف الإيمان أيضاً و بالتالي يفضي ذلك إلى الكفر و السقوط من درجة الإنسانية كما قال القرآن الكريم: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون» «2».

9- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «إذا أَحَبَّ اللَّهُ عَبدَاً أَلهَمَهُ الصِّدقَ» «3».

10- و نختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير

المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَربَعٌ مَنْ اعطِيَهُنَّ اعطِي خَيرَ الدُّنيا وَ الآخِرَةِ صِدقُ حَدِيثٍ وَ أَداءُ أَمانَةٍ وَ عِفَّةُ بَطنٍ وَ حُسنُ الخُلقٍ» «4».

و من مجموع هذه الأحاديث الشريفة يمكننا أن نستوحي نكات مهمّة في دائرة هذه الصفة الأخلاقية:

إنّ الصدق هو أحد الطرق التي تتجلّى فيها شخصية الإنسان و إيمانه و بذلك يمكن اختباره من هذا السبيل.

إنّ الدعوة إلى الصدق هي أحدى البنود الأساسية لدعوة الإنبياء و المرسلين في خط

______________________________

(1) ميزان الحكمة، ج 3، ص 2674.

(2) سور الروم، الآية 10.

(3) غرر الحكم.

(4) المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 182

التكامل المعنوي و الإلهي.

إنّ الصدق يتسبب في طهارة الأعمال و قبول الأفعال.

إنّ المقام المعنوي للإنسان عند اللَّه تعالى يدور مدار الصدق.

إنّ أكرم الناس هم الصادقون.

إنّ الصدق يتسبب في النجاة في الآخرة.

إنّ الصدق أقوى دعائم الدين.

إنّ الصدق مفتاح الجنّة.

الصدق علامة محبوبية الإنسان لدى اللَّه تعالى.

إنّ الإنسان الصادق سينال خير الدنيا و الآخرة.

و نظراً إلى هذه النتائج و المعطيات العشرة للصدق يتّضح جيداً أنّ هذه الصفة الأخلاقية المهمّة لا تلحقها صفة اخرى بهذه المعطيات الكثيرة.

بقي هنا في هذا الموضوع المهم أن نذكر عدّة امور (رغم أنّه قد أشرنا إليها في ضمن الأبحاث السابقة).

1- تأثير الصدق في حياة الإنسان

بالرغم من أنّ تأثير الصدق في حياة الإنسان يعدّ بديهيّاً و توضيح هذا الأمر يعدّ من توضيح الواضحات، و لكن عند ما ندخل تفاصيل المسألة نواجه المعطيات الإعجازية الكبيرة للصدق في جميع مفاصل الحياة البشرية، و الالتفات إلى هذه المعطيات المهمّة بإمكانه أن يكون دافعاً قوياً للتحلّي بهذه الصفة الأخلاقية الكبيرة.

و أول تأثير للصدق في حياة الإنسان هو مسألة الثقة و جلب الاطمئنان و الاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع في حركة التفاعل الاجتماعي.

و نعلم أنّ

أساس الحياة الاجتماعية للإنسان هو العمل على المستوى الجماعي و لا يتسنى ذلك إلّا بأن يتعامل أفراد المجتمع فيما بينهم من موقع الثقة المتبادلة و اعتماد البعض

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 183

على البعض الآخر، و هذا المعنى لا يتحصّل إلّا بتوفر عنصر الصدق و الأمانة بينهم، أجل فإنّ أهم وسيلة مؤثّرة في جذب إعتماد الناس هو الصدق، و أخطر وسيلة و أداة لهدم العلاقات الاجتماعية و تخريب أواصر المودّة بين الأفراد هو الكذب، و لا فرق في هذا الأمر بين المجالات العلمية و الثقافية و الاقتصادية و السياسية.

فالرجل السياسي المحنّك و الذي يعتمد عليه الناس إذا تورط في مورد أو عدّة موارد من الكذب و سمع منه الناس ذلك، فإنّهم سيتباعدون عنه و بهذا يخسر نفوذه و شخصيته بين الناس.

و العالم أو المكتشف إذا تلّوث بالكذب في تحقيقاته العلمية فقد إعتماد المحافل العلمية باختراعاته و تحقيقاته و بالتالي تذهب أتعابه أدراج الرياح و تكون تحقيقاته المدوّنة حبراً على ورق.

المؤسسات الاقتصادية أيضاً إذا تعاملت في الأعلان عن منتوجاتها و بضائعها من موضع الكذب و الدجل فإنّ الناس سوف لا يثقون بمنتوجاتها بعد ذلك و سوف تخسر هذه المؤسسات زبائنها سريعاً.

و في دائرة الإدارة إذا لم يصدق المدير مع مرؤوسيه و موظفيه فإنّ نظم هذه الدوائر أو المؤسسة سوف يتلاشى بالتأكيد، و على هذا نصل إلى هذه النتيجة و هي أنّ أساس جميع أشكال التقدّم المعنوي و المادي في المجتمع يتمثّل بالاعتماد المتقابل بين الأفراد و الذي يعتمد بدوره على الصدق.

و لذلك ورد في الرواية الشريفة عن أمير المؤمنين أنّه قال: «الصِّدقُ صلاح كُلِّ شي ءٍ و الكِذبُ فَسادُ كُلِّ شَي ءٍ» «1».

و قال أيضاً في حديث آخر:

«الكَذِّابُ و المَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ بِهِ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَياتُهُ» «2».

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 184

و الأمر الآخر هو أنّ الصدق يهب لصاحبه شخصية اجتماعية مرموقة في حين أنّ الكذب يتسبب في فضيحته و ذهاب ماء وجهه و سمعته، و الإنسان الصادق يعيش حياة العزّة و الكرامة دائماً أمّا الكاذب فيعيش حالة الدناءة و الحقارة و الانتهازية.

و لهذا ورد عن أمير المؤمنين أنّه قال: «عَلَيكَ بِالصِّدقِ فَمَنْ صَدَقَ فِي أَقوالِهِ جَلَّ قَدرُهُ» «1».

و من جهة ثالثة نجد أنّ الصدق و الأمانة يهبان للإنسان الشجاعة و الشهامة في حين أنّ الكذب و الخيانة يجرّان الإنسان إلى السقوط في هوة الخوف و الفزع من إنكشاف أمره و افتضاح حاله و بالتالي خسران جميع ما أعدّه سلفاً لحياة كريمة و سعيدة من خلال الكذب و الخداع و الخيانة.

و من جهة رابعة فإنّ الصدق بإمكانه أن ينقذ الإنسان من كثير من الذنوب و الآثام، لأنّه في حال ما لو ارتكب ذنباً معيناً ثمّ سأل عنه فإنّه لا يستطيع الإقرار بهذا الذنب و الاعتراف به، فمن الأفضل له أن لا يرتكبه سلفاً.

و قد ورد في الحديث الشريف المعروف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه جاء رجل إليه صلى الله عليه و آله و قال: أنا يا رسول اللَّه استسر بخلال أربع، الزنا، و شرب الخمر، و السرقة، و الكذب، فأيّتهنّ شئت تركتها لك، قال صلى الله عليه و آله: «دع الكذب».

فلما ولى هم بالزنا فقال: يسألني فان جحدت نقضت ما جعلت له و إن أقررت حددت، ثم هم بالسرقة ثم بشرب الخمر ففكر في مثل

ذلك فرجع إليه فقال: قد أخذت عليَّ السبيل كلّه فقد تركتهنّ أجمع «2».

و من جهة خامسة نجد أنّ الصدق يعمل على حلّ الكثير من المشاكل و الأزمات في المجتمع و يسهّل للإنسان الوصول إلى مقصده و يقلّل من نفقات المسير و يهب الناس هدوءاً و طمأنينة و يزيل الاضطراب و القلق و التوتر الذي ينشأ من حالات احتمالات الكذب في

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). شرح نهج البلاغة، لابن أبي اللحديد، ج 6، ص 357.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 185

أقوال الطرف الآخر و يوطد أركان المحبّة و يعمّق وشائج المودّة بين أفراد المجتمع و بذلك يفضي على شخصية هؤلاء الأفراد نوراً و بهاءً أكثر، و قد أشارت الروايات الكريمة إلى هذا المعنى أيضاً و أنّ شخصية الإنسان الذاتية هي التي تدعو لئن يكون الإنسان صادقاً كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «أَحسَنُ مِنَ الصِّدقِ قائِلُهُ وَ خَيرٌ مِنَ الخَيرِ فاعِلُهُ» «1».

و نختم هذا الكلام بحديث شريف عن أمير المؤمنين عليه السلام كشاهد صدق على هذا المطلب حيث يقول: «يَكتَسِبُ الصَّادِقُ بِصِدقِهِ ثَلاثاً، حُسنُ الثِّقَةِ و المَحَبَّةِ لَهُ وَ المَهابَةُ مِنهُ» «2».

2- دوافع الصدق

إنّ هذه الفضيلة الأخلاقية كسائر الفضائل الأخلاقية الاخرى لها جذور و دوافع في أعماق روح الإنسان منها:

الف: الاعتماد على النفس و عدم الشعور بالحقارة و الدونية، حيث تدعوه هذه الحالة النفسية الإيجابية إلى الصدق و التعامل مع الآخرين من موقع الثقة بالنفس و الواقع.

ب: الشجاعة و الشهامة الذاتية و الاكتسابية فلا يخاف من ذكر الامور الواقعية.

ج: الطهارة القلبية من أدران الذنوب و عدم وجود نقطة ضعف في شخصية الإنسان تدعوه إلى قلب الواقع، في حين أنّ الملّوث بالعيوب و الخطايا قد يدعوه ذلك إلى

الكذب لتغطية نقاط الضعف هذه.

د: و الأهم من ذلك جميعاً هو أن يتجلّى الإنسان بالإيمان باللَّه و الآخرة و يتحرّك في خط التقوى و الاستقامة، فذلك من شأنه أن يكون عاملًا أساسياً للصدق، و لهذا السبب ورد في الحديث المعروف في نهج البلاغة قوله عليه السلام: «أَن تُؤثِرَ الصِّدقَ حَيثُ يَضُرُّكَ عَلَى الكِذبِ حَيثُ يَنفَعُكَ» «3».

3- مفهوم الصدق

و رغم أننا نفهم من هذه المفردة وضوح المعنى و المفهوم، و لكن في نفس الوقت هناك

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 68، ص 9.

(2). غرر الحكم.

(3). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الرقم 458.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 186

خلاف كثير بين العلماء في تعريفها، فالبعض ذهب إلى أنّ الصدق هو مطابقة محتوى الكلام للواقع، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ الصدق هو مطابقة الكلام لاعتقاد الشخص و استدل بالآية الشريفة من سورة المنافقين حيث يقول تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ» «1».

و من البديهي أنّ المنافقين الذين يشهدون على نبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله تكون شهادتهم هذه مطابقة للواقع، و لكن بما أنّها غير مطابقة لاعتقادهم، فلذلك ذكرهم اللَّه تعالى بأنّهم كاذبون و نسبهم إلى الكذب، لأنّ هؤلاء يستخدمون هذه الشهادة بنبوّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كأداة للتغطية على شخصيتهم حيث يكون مفهوم كلامهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لاعتقادهم الباطني، و بما أنّ هذا الكلام غير مطابق لواقعهم، فلذلك كانوا كاذبين، أي أنّ هؤلاء يكذبون في ادعاءاتهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لمعتقدهم الباطني، و على هذا الأساس يتبيّن أنّ الصدق على كل حال هو تطابق الكلام مع الواقع سواءاً كان

الواقع الخارجي أو الباطني.

و لكننا نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام تعريفاً آخر للصدق و الكذب و هو ناظر إلى بعد العبودية للَّه تعالى حيث يقول: «الصِّدقُ مُطابَقَةُ المنَطِقِ لِلوَضعِ الإِلَهي و الكِذبُ زَوالُ المَنطِقِ عَنِ الوَضعِ الإِلَهي» «2».

و المقصود من الوضع الإلهي ظاهراً هو وضع عالم الخلقة و الوجود، الذي يتحرّك بإرادة اللَّه تعالى، و عليه فإنّ هذا التعريف لا يخرج عن إطار التعريف السابق إلّا بدخوله في دائرة المضمون التوحيدي.

و بالطبع فإنّ الصدق و الكذب كما يجريان في كلام الشخص فكذلك يجريان في عمله و سلوكه أيضاً، فالأشخاص الذين يخالف عملهم ظاهرهم فإنّهم كاذبون من هذه الجهة، و الأشخاص الذين يتطابق ظاهرهم مع باطنهم و أعمالهم، فإنّهم صادقون أيضاً.

______________________________

(1). سورة المنافقون، الآية 1.

(2). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 187

8

الكذب و آثاره و عواقبه

تنويه:

كان من المفروض أن نبحث الصدق و الكذب في فصل واحد للملازمة الشديدة بينهما، و لأنّ أحدهما لا يعرف بدون الآخر، و لكن بما أنّ هذه المسألة وردت في الآيات و الروايات الشريفة و كلمات علماء الأخلاق بصورة منفصلة رأينا أنّ من الأفضل التفكيك بينهما لنؤدي المطلب حقّه من البحث و التفصيل.

أجل فإنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد كثيراً على مسألة محاربة الكذب و الدجل إلى درجة أنّ الكاذبين في النصوص الدينية في عداد الكفّار و الملحدين و أنّ الكذب هو مفتاح جميع الذنوب كما ورد التصريح بذلك في الروايات الشريفة، بل إنّ الإنسان ما لم يترك الكذب بشتى أنواعه و أقسامه لن يذوق طعم الإيمان أبداً.

و نكتفي بهذه الإشارة إلى آثار الكذب و أخطاره لنعود إلى القرآن الكريم و نستوحي من آياته ما يتعلّق بهذا المفهوم و الصفة الأخلاقية الذميمة:

1- «إِنَّمَا

يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ» «1».

______________________________

(1). سورة النحل، الآية 105.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 188

2- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» «1».

3- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» «2».

4- «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ» «3».

5- «وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ» «4».

و في مسألة التكذيب الإلهي الذي هو أيضاً نوع من الكذب، وردت تعابير مهمّة في القرآن الكريم، منها:

6- «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ» «5».

7- «ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» «6».

تفسير و استنتاج:

«الآية الاولى» تتحدّث عن أنّ الكاذب هو الشخص الذي إنعدم فيه الإيمان باللَّه تعالى و أنّ الكاذب الحقيقي هو غير المؤمنين فتقول: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ».

و هذا في الوقت الذي كان فيه أعداء الإسلام من المشركين الجاهليين عند ما يرون بعض آيات القرآن الكريم قد نسخت بسبب تغيير الظروف الزمانية و إستبدلت الأحكام السابقة بأحكام جديدة، فكان ذلك ذريعة لديهم في إتهامهم النبي صلى الله عليه و آله بالكذب، و قولهم أنّ هذا النبي له معلّم يعلّمه هذه الآيات (و مرادهم من المعلّم غلامين نصرانيين أحدهما يدعى يسار، و الآخر جبر، أو رجل نصراني يدعى بلعام الرومي) في حين أنّ القرآن الكريم نزل

______________________________

(1). سورة الزمر، الآية 3.

(2). سورة غافر، الآية 28.

(3). سورة التوبة، الآية 77.

(4). سورة البقرة، الآية 10.

(5). سورة يونس، الآية 69.

(6). سورة آل عمران، الآية 61.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 189

بلسان عربي فصيح و هؤلاء كانوا من الأعاجم.

القرآن الكريم في مقام الجواب على إدّعاءات المشركين الواهية يقرّر

أنّ النبي الأكرم يتلقى الوحي الإلهي الذي ينزل به روح القدس من اللَّه تعالى و أنّ آثار الإيمان و الصدق جليّة في كلامه، و الأشخاص الذين يكذبون في كلامهم لا يؤمنون باللَّه تعالى، أي أنّ الإيمان لا يجتمع مع الكذب، و المؤمن الحقيقي لا يتحرّك لسانه من موقع الكذب اطلاقاً.

و جملة (يفتري الكذب) في الواقع تأكيد على كذبهم، أي أنّهم يرتكبون الكذب و التهمة في نفس الوقت، أو كما يقول الطبرسي في مجمع البيان بمعنى (يخترع الكذب) و هذا يعني أنّهم يختلقون كلاماً لا أصل له (الافتراء بمعنى فرية، هو في الأصل بمعنى قطع، ثم استعمل في كل عمل سلبي و مذموم و منه الشرك و الكذب و التهمة).

و في الواقع فإنّ النسبة بين الكذب و الافتراء هي نسبة العموم و الخصوص المطلق، فالكذب يعني كل كلام مخالف للواقع، و لكنّ الافتراء أو التهمة هي أن يكون الكلام يحتوي في مضمونه على نسبة عمل مذموم إلى شخص معيّن.

و يحتمل أنّ قوله (يفتري الكذب) إشارة إلى رؤساء المشركين وقادة الكفر حيث يختلقون الكذب و العناوين من قبيل شاعر و ساحر و ينسبونها إلى النبي صلى الله عليه و آله و يتبعهم الآخرون بذلك.

و على أية حال فإنّ الآية أعلاه تبيّن بوضوح أنّ الكذب لا يجتمع مع الإيمان اطلاقاً، و لذلك ورد في تفسير هذه الآية رواية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند ما سُئل: «يا رَسُولَ اللَّهِ المُؤمِنُ يَزني؟ قال: بلى، قالوا: المُؤمِنُ يَسرُقُ؟ قال: بلى، قالوا: المُؤمِنُ يَكذِبُ؟ قال: لا، ثُمَّ قرأ هذه الآية ..» «1».

و بالطبع فلا بدّ من ملاحظة أنّ الإيمان له مراحل و مراتب مختلفة.

«الآية الثانية» من الآيات محل

البحث تصّرح «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ».

______________________________

(1). الطبرسي في مجمع البيان؛ ابو الفتوح الرازي في تفسير روح الجنان، في ذيل الآية المبحوثة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 190

و من المعلوم أنّ الهداية و الضلالة هما بيد اللَّه تعالى حتى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا يتمكن أن يهدي شخصاً ما لم تتعلّق بذلك مشيئة اللَّه تعالى و إرادته كما ورد في الآية الشريفة: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» «1».

و لكن هذا لا يعني أنّ اللَّه تعالى يجبر بعض الناس على الهداية و البعض الآخر على الضلالة و الانحراف، ثمّ يهب الجنّة و نعيمها الدائم الى الطائفة الاولى و يرسل الطائفة الثانية إلى النار، فهذا هو مذهب الجبر الذي لا ينسجم مع العقل و المنطق و لا مع العدل الإلهي.

و المقصود من ذلك أنّه متى ما تهيأت الأرضية للهداية و الضلالة في الإنسان بواسطة أعماله و أفعاله فإنّ اللَّه تعالى سيمدّه بما يتوافق مع لياقته و قابلياته، فيعين الطائفة الاولى للوصول إلى كمالهم المعنوي في خط الإيمان و العبودية و الطاعة و يزيدهم من فضله و لطفه، و يرفع يده عن الطائفة الثانية ليبقوا في حيرتهم و في دوّامة من السلوكيات المنحرفة و العقائد الباطلة التي لا يصلون معها إلى مقصودهم النهائي.

و من أهم الامور التي توفّر الأرضية للضلالة و الزيغ و الانحراف هو الكذب و الاسراف و كفران النعمة التي وردت في هاتين الآيتين حيث يفهم بوضوح من سياق هاتين الآيتين أنّ من يقول بالجبر و أنّ اللَّه تعالى هو الذي يهدي و يضل عباده دون أن يكون لهم الخيرة في ذلك

فإنّ كلامهم هذا و اعتقادهم مجانب للحق و الصواب كثيراً و أنّ استدلالهم بهاتين الآيتين هو في الواقع خلاف الظاهر من جو هاتين الآيتين و سياقهما.

أجل، فإنّ الكذب يعتبر من أهم العوامل في اضلال الإنسان و شقائه.

و يمكن أن يكون مورد هاتين الآيتين هو نسبة الكذب إلى اللَّه تعالى و الانحراف عن أصل التوحيد، و لكنّ المورد لا يخصص الوارد كما في الاصطلاح، أي أنّ خصوصية المورد لا تمنع من عمومية الحكم الوارد في هاتين الآيتين.

أمّا العلاقة بين الكذب و كفران النعمة الوارد في الآية الاولى فهو يشير إلى هذه الحقيقة و هي أنّ بني اسرائيل كفروا بنعمة وجود موسى عليه السلام فيما بينهم لهدايتهم و كذّبوه، و العلاقة بين

______________________________

(1). سورة القصص، الآية 56.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 191

الاسراف و الكذب في الآية الثانية هو من جهة أنّ الفراعنة تحرّكوا من موقع عصيان الأمر الإلهي و ظلمهم لبني اسرائيل و قتل أولادهم، فهؤلاء سلكوا طريق الاسراف و كذّبوا بنبوّة موسى عليه السلام.

«الآية الرابعة» تستعرض اسلوب المنافقين في التظاهر بالإيمان و العمل الصالح و تتحدّث عن (ثعلبة بن حاطب الأنصاري) الذي كان قد عاهد اللَّه تعالى أنّه إذا رزقه مالًا كثيراً فإنّه سيتصدّق على الفقراء و المساكين و لكنّ سلوكه العملي كان مخالفاً لقوله و وعده حيث نقض عهده مع اللَّه تعالى بعد أن رزقه المال و الثروة و أصبح من الموسرين، و يقول اللَّه تعالى في هذه الآية: «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ».

ثم تضيف الآية أنّ ذلك كان بسبب نقضهم للعهد و كذبهم على اللَّه تعالى: «بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ».

و الجدير بالذكر أنّ نقض العهد مع اللَّه

تعالى يعتبر نوع من الكذب العملي.

و على أية حال فالآية أعلاه تصرح بأنّ نقض العهد كذب يورث الإنسان روح النفاق في قلبه إلى آخر حياته، و ما أشدّ هذه العقوبة في دائرة أركان الشخصية و دعائمها.

أمّا العلاقة بين هذين الذنبين (نقض العهد و الكذب) و بين النفاق فواضحة، لأنّ النفاق ليس شيئاً سوى اختلاف الظاهر و الباطن و أن يكون الإنسان ذا لسانين كما في اصطلاح الروايات، و نقض العهد و الكذب أيضاً هو عبارة عن التظاهر بالتمسك و الانضباط بالوعد و بالميثاق من موقع المسؤولية و التعهد القلبي في حين أنّ الواقع الباطني لا يتطابق مع هذا الظاهر الخادع.

أجل، فإنّ الكثيرين من أمثال ثعلبة بن حاطب الأنصاري عند ما يعيشون حالة الضيق و العسر في حركة الحياة يلجأون إلى اللَّه تعالى بجميع وجودهم و كيانهم ليحل لهم مشكلاتهم و يبذلون له العهود و المواثيق و النذور في هذا السبيل، و لكن عند ما يستجيب اللَّه تعالى لهم و تنفرج الأزمة و يحصلون على ما يريدون يتعاملون مع عهودهم و مواثيقهم من

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 192

موقع النسيان و التغافل، و هذا هو المصداق لنقض العهد و الكذب و النفاق في عملية التعامل مع الحياة و الواقع (نسأل اللَّه تعالى أن يحفظنا من شرّ هذه الآثام و السلوكيات الدنيئة).

«الآية الخامسة» تتحدّث عن صفات و أعمال المنافقين القبيحة و تسلّط الضوء خاصة على مسألة الكذب و تقول: «فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُم اللَّهُ مَرضاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ».

فهذه الآية لم تتحدّث بشكل دقيق عن نوع الكذب الذي كانوا يرتكبونه و لعله إشارة إلى الكذب الذي أشارت إليه الآية السابقة، و من ذلك إدّعائهم

الإيمان باللَّه في حين أنّهم غير مؤمنين في قلوبهم، و الآخر الخداع و الغش الذي كانوا يمارسونه مع المؤمنين و يستغفلونهم في عملية التعامل معهم، و الأهم من ذلك أنّهم كانوا يستفيدون من كل فرصة في سبيل تكذيب الرسالة الإلهية و الرسول الكريم، و لكن على أيّة حال، فإنّ هذه الآية تقول: إنّ العذاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء هو بسبب كذبهم، و هذا يدل على أنّ أشدّ و أشنع أعمال المنافقين هو أنّهم كانوا يرتكبون الكذب و يخترعون الإفك، بالرغم من أنّهم كانوا يرتكبون ذنوباً كثيرة إلى جانب الكذب.

و من الواضح أنّ المقصود بالمرض في هذه الآية هو مرض النفاق الذي يعدّ مرضاً أخلاقياً ناشئاً من انفصام شخصية المنافق و اهتزاز وجدانه بحيث يعيش بين الناس بلسانين و وجهين و ظاهره يختلف عن باطنه.

«الآية السادسة» تتحرّك على مستوى بيان قسم خاص من أقسام الكذب، و هو الكذب على اللَّه تعالى، حيث تخاطب الآية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و تقول: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ».

أساساً فانّ الكذب لا يجتمع مع الفلاح و الموفقّية في حركة الحياة و خاصّة إذا كان الكذب على اللَّه و الأنبياء الإلهيين، و المراد من الكذب على اللَّه في هذه الآية (و بقرينة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 193

الآيات السابقة لها) هو أنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة هم بنات اللَّه، و قيل أنّ المراد هو دعوى المسيحيين بأنّ المسيح ابن اللَّه، و كذلك دعوى اليهود بأنّ عزير إبن اللَّه، و على أية حال فانّ نسبة هذه الامور إلى اللَّه تعالى من الكذب الفاضح و الجلي، لأنّ اللَّه تعالى ليس بجسم و لا يتصف بالعوارض الجسمانيّة

و ليست له زوجة و أبناء.

و أساساً فانّ فلسفة وجود الابن تكون معقولة في دائرة نظام الخلقة على مستوى الإنسان و حاجاته الفطرّية و الطبيعية، فانّ الإنسان يحتاج إلى الأبناء لبقاء النسل و القيام بمعونته و إسناده في حركة المعيشة الشاقّة أمام تحدّيات الواقع و الحياة، أمّا مفهوم الأبن بالنسبة إلى اللَّه تعالى و هو الغني على الاطلاق و القادر على كل شي ء فلا معنى له في دائرة العقل و المنطق.

و من الجدير بالتأمّل أنّ الآية المذكورة اعتبرت عمل المشركين مصداقاً للكذب و الافتراء، و هذا يعني أنّ الكذب له مفهوم واسع يستوعب في مضمونه الإفتراء أيضاً (و كما في الأصطلاح أنّ النسبة بينهما نسبة العموم و الخصوص المطلق) فالكذب هو أن يتحدّث الإنسان بكلام مخالف للواقع سواءً كان يتحدّث عن شخص معيّن أو شي ء آخر، و لكنّ التهمة و الافتراء هو نسبة عمل قبيح و غير واقعي إلى شخص معيّن، فهنا يتحقق مصداق الكذب و مصداق التهمة أيضاً.

و نفس مضمون هذه الآية ورد في الآية 116 من سورة النحل حيث تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُون»

«الآية السابعة» و الأخيرة من الآيات مورد البحث تستعرض واقعة المباهلة المعروفة و التي تستبطن في طيّاتها الكلام عن قسم خاص من أقسام الكذب، أي نسبة الكذب إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و يترتّب على ذلك لعنة اللَّه على الكاذبين حيث تقول الآية: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 194

(المباهلة) في الأصل من مادّة

بهل (على وزن سهل) بمعنى الترك للشى ء، و قد ورد في التفاسير أنّ المباهلة تعني في المصطلح الديني أن تجتمع فئتان كل واحد منهما على مذهب معيّن فيتحاجون و أخيراً يتلاعنون و يدعون اللَّه تعالى بأن ينزل لعنته على الطرف الآخر الكاذب، و أي فئة تحقّق في موردها اللّعن و نزل عليها العذاب فهذا دليل على حقّانيّة الطرف الآخر، و قد حدث ذلك في صدر الإسلام بين نبي الإسلام صلى الله عليه و آله و نصارى نجران، فعند ما تقررّت المباهلة بينهما جاء النبي صلى الله عليه و آله و معه الإمام علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام إلى ساحة المباهلة و كانت تبدوا على سيماهم المباركة آثار إستجابة الدعاء، فتراجع النصارى عن إدّعائهم و صالحوا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله على أمور مذكورة بالتفصيل في التفاسير الشريفة ذيل هذه الآية و لذلك لا حاجة إلى الإطالة و التفصيل.

و المراد من قوله: «فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»، لبيان عظمة الكذب و أنّه يستحق نزول اللّعنة على صاحبه.

و الآية أعلاه و التي إستعرضت تأكيدات قرآنية مهمّة بالنسبة إلى قبح الكذب و آثاره المشؤمة و عواقبه الوخيمة توضّح جيداً أنّ هذا الذنب إلى أي درجة من القبح و الشر في دائرة المفاهيم القرآنية، فينبغي على المؤمنين في المجتمع الإسلامي أن يعيشوا حالة التنفّر و الكراهية لهذا النوع من السلوك الخاطي ء و الخلق الذميم و يتحرّكوا على مستوى تطهير مجتمعهم من شر هذه الخطيئة.

الكذب في الروايات الإسلامية:

و نقرأ في الروايات الإسلامية تعابير مثيرة و مدهشة تتحدث عن قبح الكذب و شناعته و فيما يلى نماذج منها:

1- يستفاد من بعض الروايات أنّ الكذب مفتاح الذنوب، كما

ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلشّرَّ اقْفالًا وَ جَعَلَ مَفاتِيحَ تِلْكَ الأَقْفالِ الشَّرابَ، وَ الْكِذْبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرابِ» «1».

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 3، ص 339.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 195

2- و ورد في حديث آخر عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام قوله: «جُعِلَتِ الْخَبائِثُ كُلُّها فِي بَيْتٍ وَ جُعِلَ مِفْتاحُهُ الْكِذْبَ» «1».

و العلّة في ذلك جليّة، و هي أنّ الإنسان الكاذب عند ما يجد نفسه في معرض الفضيحة فأنّه يتحرك في عمليّة التغطية على نقائصه و معايبه من موقع الكذب و الخداع، و بعبارة اخرى: إنّ الكذب يبيح له إرتكاب أنواع الذنوب من دون أن يخاف الفضيحة، في حين أنّ الإنسان الصادق سيجد نفسه مضطراً إلى ترك سائر الذنوب لأنّ الصدق لا يسوغ له إرتكاب الذنب، و الخوف من الفضيحة بسبب الصدق يدعوه إلى ترك الذنوب.

و كما سبق و أن ذكرنا الحديث المعروف عن الرجل الذي جاء إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و هو ملّوث بأنواع الذنوب و طلب منه النبي صلى الله عليه و آله أن يترك الكذب فقط فقبل منه ذلك، و كان هذا سبباً في أن يترك جميع الذنوب «2».

3- و يستفاد من الأحاديث الاخرى أنّ الكذب لا ينسجم اطلاقاً مع الإيمان كما نقرأ في الحديث الشريف: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يَكُونُ الْمُؤمِنُ جُبانَاً؟ قالَ: نَعَمُ؛ قَيلَ وَ يَكُونُ بَخِيلًا؟ قالَ نَعم، قِيلَ يَكُونُ كَذاباً قالَ: لَا» «3».

و نفس هذا المضمون ورد بصورة اخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «لا يَجِدُ الْعَبْدُ طَعْمَ الإِيِمانِ حَتّى يَتْرُكَ الْكِذْبَ هَزْلَهُ وَ جِدَّهُ» «4».

و لكن لماذا لا ينسجم الكذب

مع الإيمان؟ لأنّ الكذب إمّا أن يكون لغرض تحصيل الإنسان لمنفعة معيّنة أو للخلاص من مشكلة و أزمة، فلو كان إيمان الإنسان قوياً و مستحكماً في القلب فأنّه يرى أنّ الخير و الشر كلاهما بيد اللَّه تعالى و هو الذي بأمكانه حلّ مشكلاته و إنقاذه من الازمات التي يمر بها في مواجهة تحدّيات الواقع و الحياة و هو الذي يدفع عن الإنسان أنواع البلايا و المخاطر، فلو أنّ الإنسان تمسك بغصن من أغصان التوحيد

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 69، ص 263.

(2). شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 6، ص 357.

(3). جامع السعادات، ج 2، ص 322.

(4). اصول الكافي، ج 2، ص 34، ح 11.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 196

الأفعالي و اعتقد بذلك بصدق فلا يجد نفسه بحاجة إلى التمسّك بذيل الكذب حينئذٍ.

4- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «وَ شَرُّ الْقُولِ الْكِذُبُ» «1»، لأنّ آثاره السلبية و المدّمرة أشد من كل ذنب آخر.

5- و نقرأ أيضاً في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام حيث يقرّر أنّ الكذب من أعظم الخطايا و يقول: «أَعْظَمُ الْخِطايا عِنْدَ اللَّهِ الْلِسَ انُ الْكَذُوبِ و شَرُّ النَّدامَةِ نَدامَةُ يَوْمِ الْقِيامَةِ» «2».

6- و ورد في حديث آخر أنّ الكذب مصدر الفجور و منبع الفحشاء و سبب الدخول في النار كما في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث يقول: «إِيَّاكُم وَ الكِذبَ فإنَّ الكِذبَ يَهدِي إِلَى الفُجُورِ وَ إنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النّارِ» «3».

7- إنّ الكذب لا يتناغم و لا ينسجم مع العقل كما ورد هذا المضمون في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ العاقِلَ لا يَكذِبُ وَ

إِن كانَ فَيهِ هَواهُ» «4».

8- إنّ الكذب يبعد ملائكة الرحمة عن هذا الإنسان الكاذب ففي حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِذا كَذِبَ العَبدُ تَباعَدَ المَلَكُ مِنهُ مَسيرَةَ مِيلٍ مِنْ نَتِنِ ما جاءَ بِهِ» «5».

لأنّ الإنسان إذا تحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الكذب، فإنّه يتظاهر في نفس الحال بمظهر الصدق في حين أنّ باطنه يختلف عن ذلك، و هذا الاختلاف بين الظاهر و الباطن نوع من أنواع النفاق، و لذلك كان الكذب من جملة الأعمال الشائعة لدى المنافقين.

10- إن الكاذب يخسر اعتماد الناس و ثقتهم به كما نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ عُرِفَ بِالكِذبِ قَلَّتْ الثِّقَةُ بِهِ» «6».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 84.

(2). المحجة البيظاء، ج 5، ص 243، و ورد شبيه هذه الحديث مع تفاوت يسير في كنز العمال عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (كنز العمال، ج 3، ص 619، ح 8203).

(3). كنز العمال، ح 8219.

(4). بحار الانوار، ج 75، ص 305.

(5). شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 6، ص 357.

(6). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 197

و النقطة المقابلة لذلك وردت أيضاً في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «مَنْ تَجَنَّبَ الكِذبَ صَدَّقَتْ أَقوالُهُ» «1».

11- و نختم هذا البحث الطويل بحديث آخر من الأحاديث الحكيمة لأمير المؤمنين عليه السلام حيث يحذّر الناس من الصداقة و التعامل مع الكاذبين و يقول: «وَ إِيَّاكَ وَ مُصادَقَةَ الكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرابِ يُقَرِّبُ عَلَيكَ البَعِيدَ وَ يُبَعِّدُ عَلَيكَ القَرِيبَ» «2».

و يستفاد من الروايات أعلاه أنّ الكذب منبع الذنوب و المعاصي المختلفة و عنصر اهتزاز الإيمان باللَّه و الثقة بين الناس و

يعتبر أشنع أقسام الكلام و فرع من فروع النفاق و يفسد العلاقة بين أفراد المجتمع و يعمل على هدم إتّحادهم و مروءتهم و قلّما نجد مثل هذه الآثار الذميمة لذنب آخر من الذنوب الفردية و الاجتماعية.

بقيت هنا نقاط مهمّة نذكرها بشكل مختصر:

الآثار السلبية للكذب:

بالرغم من أنّ الآيات و الروايات المذكوره آنفاً قد درست هذه المسألة بشكل مفصّل و كشفت الستار عن نقاط مهمّة فيها، و لكن أهميّة هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أكثر و أعمق.

و أول: أثر من الآثار المضرّة و السلبية للكذب هي الفضيحة و ذهاب ماء الوجه و انهيار المكانة الاجتماعية للشخص الكاذب و سلب الثقة منه لدى الناس.

و كما يقول المثل المعروف: (الكاذب قرين النسيان) فإنّ التجارب تثبت أنّ الكلام الكاذب لا يمكن أن يستمر لمدّة طويلة في حجبه الحقيقة عن الناس، و قد تطوى المسألة في زاوية النسيان إذا لم تكن ذات أهميّة، و لكن إذا كانت المسألة مهمّة فإنّ الحقيقة سوف

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). نهج البلاغة، القصار الكلمات، الكلمة 38.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 198

تتجلّى في دائرة و يفتضح الكاذب حينئذٍ لا من أجل أنّ الكاذب ينسى ما قاله سابقاً، بل من أجل أنّ الكذب بنفسه لا يتأطر بأطار الحافظة، لأنّ الحادثة الواقعة في الخارج ترتبط بسلسلة من الحوادث الاخرى و من موقع العلّة و المعلول و ترتبط بما حولها من الحوادث بروابط عديدة و حتميّة، فالشخص الذي يصوغ حادثة مختلقة يجد نفسه مضطراً إلى أن يربطها بما قبلها و بعدها من ظروف الزمان و المكان و الأشخاص و الحوادث المحيطة بها و كل ذلك يجب أن يختلقة بما ينسجم مع هذه الحالة الكاذبة، و بما أنّ هذه الروابط ليس لها

حد و حصر، و على فرض أنّه استطاع أن يختلق عدّة حوادث و روابط منسجمة مع بعضها إلّا أنّه قد يترك ثغرات في كلامه حيث يتّضح من ذلك كذبه مثل ما رأينا من قصّة يوسف عليه السلام حيث جاء الأُخوة بقميصه الدامي إلى أبيهم و اختلقوا قصّة أكل الذئب له، و لكنّهم نسوا أن يمزقوا القميص من عدّة أماكن، و هكذا إتّضح كذبهم من بقاء القميص سالماً، أو مثل زوجة عزيز مصر عند ما إدّعت كذباً بأنّ يوسف كان يقصد بها سوء و لكنّها نسيت أنّ قميص يوسف عليه السلام قد قُدَّ من خلفه، و هذا دليل واضح على كذبها و أنّها هي التي كانت تلحق يوسف عليه السلام لا العكس.

و في هذا العصر فإنّ المحققين في عالم الجريمة يستطيعون بكل سهولة و من خلال الأسئلة المتعددة عن الحادثة و لوازمها و خصوصياتها أن يكشفوا صدق أو كذب المدّعي بحيث نادراً ما يفلت منهم كاذب دون أن يفتضح، أجل فإنّ الكاذب ليست له حافظة قويّة، و سوف يفتضح سريعاً على أيّة حال.

الثاني: من النتائج السلبية للكذب هو أنّه يجر الإنسان إلى أن يكذب مرّات عديدة أو يرتكب ذنوباً اخرى للتغطية على كذبته الاولى أو يرتكب حماقات خطيرة لهذا الغرض.

الثالث: من مضرّات الكذب هو أنّه يبيح للشخص الكاذب أن يغطي على خطيئته و إثمه و لو بشكل مؤقت و يتستر على سلوكياته المنحرفة في حين أنّه لو كان يتحرّك من موقع الصدق فإنّه يجد نفسه مضطراً إلى ترك هذه الأعمال القبيحة.

الرابع: من مضرّات الكذب هو أنّه يدفع بصاحبه إلى أن يسلك في خط النفاق و يصبح من

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 199

زمرة المنافقين، لأنّ الكذب

فرع من فروع النفاق، و الكاذب هو الذي يظهر غير ما يبطن و يتكلم بخلاف الواقع و بخلاف ما يعلمه في نفسه، فهذا الاختلاف بين الظاهر و الباطن سوف يسري بالتدريج إلى سائر أعماله و سلوكياته حتى يمسي منافقاً كاملًا.

و قد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الكذب يؤدي إلى النفاق».

الخامس: من مضرات الكذب هو أنّه لو كان الشخص يتمتع بلياقات كثيرة و طاقات ايجابية يمكنه إستخدامها في حركة التفاعل الإجتماعى فأنّه لو كان كاذباً في هذا المجال فسوف لا يستطيع الناس الإستفادة من لياقاته و طاقاته الإيجابيّة لأنهم سوف يتعاملون معه من موقع الشك و الترديد في سلوكياته و كلماته.

و لهذا السبب نجد أنّ الروايات الإسلامية إعتبرت الكاذب مثل الميّت حيث ورد:

«الكَذَّابُ و المَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ بِهِ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَياتُهُ» «1».

السادس: من النتائج السلبية المترتبة على الكذب هو أنّ الإنسان و بالاستفادة من أداة الكذب يمكنه أن يرتكب أعمالًا قبيحة اخرى، فالحسود و الحاقد و البخيل كل منهم يجد في الكذب وسيلة للتغطية على أعمالهم و سلوكيّاتهم و هكذا الحال في سائر الذنوب الاخرى، مثلًا عند ما يأتي إليه شخص و يطلب منه قرضاً فأنّه يكذب عليه و يقول: لقد إقترضت الآن مبلغاً من المال و ليس لدي ما أعطيك منه، أو عند ما يطلب منه أن يصف شخصاً من الأشخاص فأنّه و بسبب الحسد لا يذكر منه سوى صفاته السلبيّة و الحال أنّ ذلك الشخص هو إنسان شريف و ثقة.

السابع: هو ما نراه من الآثار المخربة في دائرة العلوم و المعارف البشرية، فلو أنّ المحققين و المخترعين و العلماء

تحرّكوا من موقع الكذب في تحقيقاتهم و اكتشافاتهم فانّ جميع الكتب و الدراسات العلميّة سوف يلحقها فيروس الشك و الترديد و بالتالي لا يضحى

______________________________

(1). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 200

الاخلاق فى القرآن ج 3 249

هناك إعتماد على تحقيقات و دراسات الآخرين فتتوقف حركة التطور الحضاري و العلمي في المجتمع البشري.

و هناك نتائج سلبية و مضرات كثيرة اخرى تترتب على الكذب في حركة الحياة الفردية.

و مضافاً إلى هذه النتائج و الآثار في حركة الحياة للإنسان فانّ هناك مضرات معنوية تترتب على الكذب وردت الإشارة إليها في الروايات الشريفة و من ذلك:

أنّ الملائكة تبتعد عن الإنسان كما قرأنا ذلك سابقاً في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حيث قال: «إِذا كَذِبَ العَبدُ تَباعَدَ المَلَكُ مِنهُ مَسيرَةَ مِيلٍ مِنْ نَتِنِ ما جاءَ بِهِ» «1».

و الآخر إنّ الكاذب يحرم من صلاة الليل كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «انَّ الَّرجُلَ لَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ فَيُحرَمُ بِها صَلاةَ الْلَيْلِ، فَاذا حُرِمَ صَلاةُ اللَيْلِ حُرِمَ بِها الرِّزْقُ» «2».

و الثالث أنّ الكذب يؤدّي إلى عدم قبول بعض العبادات، كما ورد في الصوم في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «فَإذا صُمتُم فَاحفَظُوا أَلسِنَتَكُم عَنِ الكِذبِ وَ غُضُّوا أَبصارَكُم» «3».

و هذا الحديث يدلّ على أنّ مثل هذه الأعمال المنافية للأخلاق تقلّل من قيمة الصوم.

و الآخر أنّ الكذب يتسبب في قطع البركات الإلهية على الإنسان كما نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إِذا كَذِبَ الولاةُ حُبِسَ المَطرُ» «4».

و قد وردت بعض الآثار السلبية للكذب في الروايات و التي لها بعد معنوي مضافاً إلى البعد الاجتماعي و الظاهري، و من

ذلك ما يستفاد من الروايات المتعددة من أنّ الكذب يتسبب في حرمان الإنسان من الرزق و يؤدّي به إلى الوقوع في هوّة الفقر و المسكنة.

______________________________

(1). شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 6، ص 357.

(2). بحار الانوار، ج 69، ص 360.

(3). وسائل الشيعة، ج 7، 119، ح 13.

(4). مسند الإمام الرضا عليه السلام، ج 1، ص 280.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 201

ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين قال: «إعتِيادُ الكِذبِ يُورثُ الفَقرَ» «1».

و في حديث آخر عن رسول اللَّه أنّه قال: «الكِذْبُ يُنقِّصُ الرِّزقَ» «2».

و هذا النقصان في الرزق يمكن أن يكون له نتائج وخيمة في دائرة الرزق المعنوي أو في العلاقات الاجتماعية، لأنّ الكذب يسلب اعتماد الناس و ثقتهم من هذا الشخص الكاذب، و بذلك سوف تتحدّد فعّاليته الاقتصادية و يتراجع نشاطه الاقتصادي و بالتالي يؤدّي إلى نقصان رزقه المادي أيضاً.

دوافع الكذب:

إنّ الكذب كما هو في سائر الصفات الرذيلة له أسباب و دوافع مختلفة و أهمّها:

1- ضعف الإيمان و العقيدة، لأنّه لو كان الكاذب عالماً بأنّ اللَّه تعالى قادر رحيم و عالم بأمره فإنّه لا يجد في نفسه حاجة إلى الكذب في سبيل تحصيل المال أو نيل الجاه و المقام، و لا يرى أنّ توفيقه في حركة الحياة مرتبط بالكذب و لا يخاف من الفقر و لا من تفرق الناس من حوله و زوال موقعيته الاجتماعية و قدرته على الكسب و الرزق بل يرى ذلك مرتبط باللَّه تعالى فلا يحتاج إلى الكذب في نيل تحصيلها و لذلك ورد في الرواية الشريفة عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «جانِبُوا الكِذْبَ فإنَّ الكِذْبَ مُجانِبُ الإيمانَ» «3».

2- و الآخر من دوافع الكذب هو ضعف الشخصية و عقدة

الحقارة، فالأشخاص الذين يعيشون هذه الحالة من ضعف الشخصية و الحقارة يضطرون إلى التستر على ضعفهم و دناءتهم من خلال استخدام الكذب، و قد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا يَكذِبُ الكَاذِبُ إِلّا مِنْ مَهانَةِ نَفسِهِ عَلَيهِ» «4».

3- و من دوافع الكذب أيضاً حالات الحسد و البخل و التكبّر و الغرور و العداوة بالنسبة

______________________________

(1). بحار الانوار، 69، ص 261.

(2). ميزان الحكمة، 17463.

(3). بحار الانوار، ج 66، ص 386.

(4). كنز العمال، ح 8231، (ج 3، ص 625).

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 202

إلى الآخرين حيث يدفعه ذلك إلى إتهامهم بما ليس فيهم أو التحدّث عنهم من موقع الكذب، و ما دامت هذه الحالات السلبية تعتلج في ذات الإنسان و باطنه فإنّه سوف لا يجد خلاصاً من الكذب.

و لهذا نرى أنّ المنافقين يتوسلون بحبل الكذب للتغطية على واقعهم السي ء كما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً.

4- و ممّا يورث الكذب لدى البعض هو الأمراض الأخلاقية و الاجتماعية و التلّوث بأنواع الذنوب و الانحراف عن خط الحق و الفطرة بحيث يصل به الحال إلى أن يقول: إنني إذا لم أكذب فسوف لا أستطيع التعامل مع الآخرين و نيل الموفقية في حركة الحياة الاجتماعية من الكسب و التجارة و أمثال ذلك.

5- الدوافع الاخرى لشيوع الكذب هو العلاقة الشديدة بالدنيا و حفظ المقامات الاجتماعية و حتّى أنّه قد يتوسل إلى ذلك بالكذب على اللَّه و رسوله.

و نقرأ في الخطبة 147 من نهج البلاغة قول أمير المؤمنين عليه السلام: «و إِنّه سَيأتِي عَلَيكُم بَعدِي زَمانٌ لَيسَ فِيهِ شَي ءٌ أَخفَى وَ لا أَظهَرَ مِنَ الباطِلِ وَ لا أَكثَرَ مِنَ الكِذبِ عَلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ».

طرق علاج الكذب:

لا بدّ لعلاج هذه الرذيلة

الأخلاقية و قطع جذورها من واقع النفس من سلوك الطريق المستخدم لعلاج سائر الرذائل الأخلاقية الاخرى، أي التعرّف في البداية على جذورها و دوافعها، فما لم يستطع الإنسان من إقتلاع جذور هذه الرذيلة من نفسه فإنّ هذه الشجرة الخبيثة سوف تبقى و تشتد في المستقبل، فلو كان الدافع للكذب هو ضعف الإيمان و الاعتقاد بالنسبة إلى التوحيد الأفعالي، فيجب عليه تقوية دعائم الإيمان في نفسه و باطنه و ليعلم أنّ اللَّه تعالى قادر على كلّ شي ء و أنّ مفاتيح الرزق و الموفقية و العزّة و الكرامة بيده فقط، و لذلك يتسنى له جبران عناصر الضعف في دائرة الإيمان و بالتالي يصدّه ذلك عن الكذب، و إذا كان الدافع لذلك هو الحسد و البخل و التكبّر و الغرور و أمثال ذلك من الحالات

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 203

السلبية في دائرة الأخلاق، فيجب عليه السعي لعلاجها، و ليعلم أنّه ما لم يقطع عن نفسه جذور هذه الحالات السلبية و يداوي هذه الأمراض الأخلاقية فإنّه لا يتسنى له أن يعيش الصدق و الكرامة و الشرف في حياته الفردية و الاجتماعية.

و من جانب آخر يجب عليه التفكّر في الآثار السيئة و الأضرار الوخيمة للكذب و التي تسبب له الفضيحة في الدنيا و الآخرة، و من المعلوم أنّ كل شخص يتفكّر و يتدبّر جيداً فيما ذكرناه سابقاً من هذه الأضرار للكذب و خاصة ما ورد في الروايات الشريفة في هذا الباب فإنّ ذلك سيكون رادعاً قوياً له عن سلوك هذا الطريق المنحرف.

إنّ لقادة المجتمع و كبار الأشخاص في الاسرة دوراً مهمّاً في دفع الناس و الأفراد نحو سلوك طريق الصدق، لأنّه لو رأى الناس أو أفراد الاسرة أنّ كبيرهم

و قائدهم لا يتحرّك في تعامله مع الآخرين إلّا من موقع الصدق، فإنّهم سوف يتحرّكون كذلك في تعاملهم و سلوكهم الاجتماعي، بخلاف ما لو رأوا أنّ الكبار يتعاملون مع الآخرين بالكذب و الدجل و الخداع، فإنّ أفراد المجتمع و الاسرة سرعان ما يتلوثوا بهذه الصفة الرذيلة.

كما نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ضمن بيانه عدم تلقين الناس الكذب حيث يقول: «لا تُلَقِّنُوا النّاسَ فَيَكذِبُونَ فَإنَّ بَنِي يَعقُوبَ لَمْ يَعلَمُوا إِنَّ الذِّئبَ يَأَكُلُ الإِنسانَ فَلَمّا لَقَّنَهُم إِنِّي أَخافُ أَنْ يَأَكُلُهُ الذِّئبُ، قَالُوا أَكَلَهُ الذِّئبُ» «1».

أجل، فإنّ ترك الأولى هذا قد صار ذريعة بيد أبناء يعقوب ليتحرّكوا من موقع الكذب في مواجتهم للمشكلة.

و أحد الطرق المؤثرة في علاج الكذب هو إيجاد قوّة الشخصية لدى الأفراد لأنّه كما سبقت الإشارة إليه أنّ أحد العوامل المهمّة للكذب هو الشعور بالحقارة و ضعف الشخصية، فالكاذب يريد جبران هذا النقص من خلال الكذب، فلو أنّه كان يجد الثقة في نفسه و يعيش حالة قوة الشخصية و يرى أنّه قادر على كسب المقامات العالية في المجتمع بما لديه من قابليات و ملكات إيجابية فلا يجد في نفسه حاجة إلى اختلاق شخصية كاذبة عن نفسه

______________________________

(1). كنز العمال، ج 3، ص 624، ح 8228.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 204

و الظهور إلى الآخرين بغير واقعه.

و خاصة إذا التفت المربّون و المصلحون إلى هذه الحقيقة في دائرة تربية الأفراد على الصدق، و هي أنّ الصادق في كلامه سيكون في مرتبة المقرّبين و الصديقين عند اللَّه تعالى، يحشر مع الإنبياء و الشهداء يوم القيامة، فبديهي أنّ ذلك سيكون مشجعاً و حافزاً على إقبال الناس نحو الصدق، و يقول القرآن الكريم:

«وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنِ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً» «1».

و الجدير بالذكر أن توغّل حالة الكذب الذميمة في باطن الإنسان كما هو الحال في الصفات الذميمة الاخرى يبتدأ من صغائر الامور و بالتدريج تجرّه إلى ما هو أخطر و أعظم كما قال الإمام زين العابدين عليه السلام: «إِتَّقُوا الكِذبَ فِي صَغِيرِ وَ كَبيرِ فِي كُلِّ جِدٍّ وَ هَزَلٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذا كَذِبَ فِي صَغِيرِ إِجتَرأَ عَلَى الكَبِيرِ» «2».

إستثناءات الكذب:

و بالرغم من أنّ الكذب من أهمّ الذنوب و أخطرها بحال الإنسان على المستوى المادي و المعنوي، و الفردي و الاجتماعي، و لكن مع ذلك هناك موارد عديدة وردت في الروايات الإسلامية و كلمات الفقهاء و علماء الأخلاق على شكل إستثناء من قبح الكذب.

و هذه الموارد عبارة عن:

1- الكذب لإصلاح ذات البين.

2- الكذب لخداع العدو و في ميادين القتال.

3- الكذب في مقام التقية.

4- لدفع الظالمين.

5- الكذب في جميع الموارد التي يجد الإنسان نفسه و ناموسه في خطر محدق و لا نجاة له إلّا بالتوسل بالكذب.

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 69.

(2). بجار الانوار، ج 69، ص 235.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 205

ففي جميع هذه الموارد يمكننا استخلاص قاعدة كلية، و هي أنّه إذا كانت الأهداف الأهم في خطر و لا يجد الإنسان لدفع هذا الخطر إلّا بواسطة الكذب فيجوز له ذلك، و بعبارة اخرى: إنّ جميع هذه الموارد مشمولة لقاعدة الأهم و المهم، و على سبيل المثال فلو ابتلى الإنسان بجماعة متعصبة و جاهلة و متوحشة و سألوه عن مذهبه، فلو أنّه قال الحقيقة لهم فأنّهم سوف يسفكون دمه فوراً، فالعقل و الشرع هنا

لا يبيحان له أن يصدقهم في جوابه بل يجوز له الكذب حينئذٍ لإنقاذ نفسه من شرّهم، أو في الموارد التي يكون هناك اختلاف شديد بين شخصين و يجد الإنسان لحلّ هذا الاختلاف و المشكلة العالقة بينهما طريقاً إلى ذلك بالاستعانة بالكذب (كأن يقول لأحدهما أنّ الشخص الفلاني يحبّك و يذكرك بالخير دائماً في المجالس) ممّا يثير في نفس الطرف الآخر أجواء المحبّة و الصفاء و الصلح بينهما، و هكذا في أمثال هذه الأهداف المهمّة و الغايات الخيّرة، لا أنّ الإنسان و بدافع من منافعه الشخصية و المصالح الجزئية يستخدم الكذب، فهذا الاستثناء لقبح الكذب تدخل في دائرة الضرورة و لا يصح أن تكون مسوّغاً و ذريعة بيد الأفراد لاستخدام أداة الكذب في كل مورد من الموارد الجزئية.

و في الحقيقة فإنّ اباحة الكذب في هذه الموارد الضرورية هي من قبيل حلّية (أكل الميتة) في المواقع الضرورية حيث يجب التناول منها بمقدار الضرورة و لا يسلك الإنسان هذا الطريق إلّا في مواقع الضرورة.

و الدليل على هذه الاستثناءات مضافاً إلى القاعدة العقلية المذكورة أعلاه (قاعدة الأهم و المهم) هو الروايات المتعددة المذكورة في المصادر الإسلامية عن المعصومين عليهم السلام:

1- ففي حديث معروف عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «لَيسَ شَي ءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ إلّا وَ قَد أَحَلَّهُ لِمَنِ اضطُرَّ إلَيهِ» «1».

2- و قد ورد عن الإمام علي عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «إحلِفْ بِاللَّهِ كاذِباً و نَجِّ أَخاكَ مِنَ القَتلِ» «2».

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 101، ص 284.

(2). وسائل الشيعة، ج 16، ص 134، ح 4، الباب 12 من أبواب كتاب الإيمان.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 206

3- و في حديث عن

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «كُلُّ الِكذبِ يَكتُبُ عَلَى إبنِ آدَمِ إلّا رَجُلٌ كَذَبَ بَينَ رَجُلَينِ يُصلِحُ بَينَهُما» «1».

4- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «الكِذبُ مَذمُومٌ إلّا فِي أَمرَينِ دَفعُ شَرِّ الظَّلَمةِ وَ إصلاحُ ذاتِ البَينِ» «2».

5- و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «كُلُّ الكِذْبِ مَكتُوبٌ كِذباً لا مَحَالَةَ إلّا أَنْ يَكذِبَ الرَّجُلُ فِي الحَربِ فَإِنَّ الحَربَ خُدعَةٌ أَو يَكُونَ بَينَ رَجُلَينِ شَحناءَ فَيُصلِحُ بَينَهُما أَو يُحَدِّثُ إِمرأَتَهُ يِرضِيها» «3».

و المراد من الجملة الأخيرة ليس هو أنّ الإنسان متى ما أراد الكذب على زوجته جاز له ذلك، بل ناظرة إلى موارد تكون الزوجة لها توقّعات كثيرة و غير معقولة من زوجها أو أنّ إمكانات الزوج لا تستوعب كلّ هذه التوقّعات و لذلك يتحرّك الزوج في تعامله معها من موقع الكذب و الوعد بتحقيق مطالبها ليسكت اعتراضها و ليهدّئ من ثورتها و يحتمل أن تنسى ذلك فيما بعد و تنتهي المنازعة فيما بينهما.

و يصدق هذا المعنى أيضاً على توقّعات الزوج غير المنطقية كما وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات أيضاً.

طريق الفرار من الكذب (التورية):

التورية (على وزن توصية) تقال للكلام الذي يثير في نفس المستمع معنىً آخر غير ما يقصده القائل، أو بتعبير آخر: الكلام الذي يحتمل وجهين، و يتعلق به الأشخاص الذين يجدون في أنفسهم حرجاً من الكذب، فمن جهة لا يرتكبون ذنب الكذب، و من جهة اخرى لا يخبرون السامع بسرهم.

______________________________

(1) المحجة البيضاء، ج 5، ص 245.

(2) بحار الانوار، ج 69، ص 263.

(3) المحجة البيضاء، ج 5، ص 245.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 207

و الأمثلة التالية توضّح

هذا المعنى بصورة كاملة:

1- إذا سأل الإنسان: هل إرتكبت المعصية الفلانية، فيقول في مقام الجواب: استغفر اللَّه، (فالمستمع يفهم من هذه العبارة النفي في حين أنّ مراد المتكلّم هو الاستغفار من إرتكابه لذلك العمل).

2- و قد يسأل شخص من آخر: هل أنّ فلاناً قد استغابني و تكلّم عنّي بسوء أمامك؟

فيجيب: و هل أنّ هذا ممكن و معقول (فالمستمع يفهم من هذا الكلام النفي في حين أنّ مقصود المتكلّم هو الاستفهام لا غير).

3- إذا جاء شخص إلى باب دار شخص آخر و قال: هل أنّ فلاناً موجود في البيت؟

فيقول الآخر في مقام الجواب مشيراً إلى مكان معيّن: كلا ليس هنا (فالمستمع يتصوّر أنّه غير موجود في البيت في حين أنّ مراد القائل أنّه غير موجود في ذلك المكان بالخصوص).

4- و قد سئل من أحد العلماء عن الخليفة الحق بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من هو؟ و لم يكن ذلك العالم في حالة تسمح له بالجواب بصورة صحيحة و شفافة فقال في جوابه: (من بنته في بيته).

فتصوّر المستمع أنّ المراد هو أبا بكر الذي كانت إبنته عائشة في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حين أنّ مراد القائل هو أنّه إبنته أي إبنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاطمة في بيته، أي بيت علي بن أبي طالب عليه السلام.

5- و نقرأ في قصة محادثة سعيد بن جبير مع الحجّاج عند ما سأله الحجاج عدّة أسئلة كذريعة لقتله فكان ممّا سأله: كيف تجدني في نظرك؟ فقال: أنت عادل (و العادل في نظر العرب ترد في معنيين) أحدهما بمعنى العدالة و الآخر بمعنى العادل عن الحق، أي الكافر أو الذي يرى

عديلًا أو شريكاً للَّه تعالى كما ورد ذلك في القرآن الكريم: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» «1».

أي يجعلون له عديلًا و شريكاً.

و ممّا تقدّم آنفاً يتّضح أنّ التورية ليست من الكذب، لأنّ القائل ليس في نيّته سوى

______________________________

(1). سورة الأنعام، الآية 1.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 208

الصدق و إرادة الجانب الصادق من كلماته، رغم أنّ المستمع يتصوّر المعنى الآخر من ذلك الكلام، و من الواضح أنّ اشتباه المستمع في فهم معنى كلام القائل لا ربط له بالقائل نفسه.

و هنا يتّضح أيضاً أنّه في الموارد التي يجد الإنسان ضرورة للاستفادة من الكذب إذا يمكن من التورية وجب عليه استخدامها للتخلّص من الوقوع في الكذب، و على هذا الأساس فإنّ الكذب لا يكون مباحاً في موقع الضرورة إلّا فيما لو كانت أبواب التورية موصدة أيضاً، و الاصطلاح العلمي أنّه لا تكون لديه مندوحة.

و من هنا يتّضح أيضاً خطأ ما ذهب إليه الغزالي من عدّه التورية من مصاديق الكذب، و لكنّه قال بأنّ قبحها و فسادها أدقّ من مصاديق الكذب الاخرى، إلّا أن يكون مراده من التورية أمر آخر بحيث تعدّ من مصاديق الكذب واقعاً.

و على أيّة حال فإنّ قبح الكذب و فساده إلى درجة كبيرة بحيث أنّ الإنسان لا بدّ له من إجتنابه بالمقدار الممكن حتّى لو تمكّن إجتنابه عن طريق التورية.

و نلاحظ في كلمات الأنبياء الواردة في القرآن الكريم و الروايات الشريفة أنّهم قد يتخلّصون من الكذب بالتورية في بعض الحالات من قبيل ما نراه من محاججة إبراهيم عليه السلام لقومه من عَبَّدْة الأوثان عند ما سألوه عن الشخص الذي إرتكب عملية تحطيم الأوثان و الأصنام فقال في مقام الجواب: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ

كَانُوا يَنطِقُونَ» «1».

فرغم أنّ السامع لهذا الكلام يمكن أن يفهم منه أنّ إبراهيم عليه السلام نسب تحطيم الأصنام إلى كبيرهم أي الصنم الكبير و لكنّ جملة (إن كانوا ينطقون) جاءت بعنوان شرط للمراد من الكلام، أي أنّهم لو كانوا ينطقون فإنّ هذا الفعل من فعل كبيرهم.

و كذلك جملة «إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ» التّي قالها عمال يوسف لأخوته، فمع ملاحظة الآيات السابقة قد ينعكس إلى الذهن أنّ هؤلاء الأخوة هم الذين سرقوا مكيال الملك في حين أنّ مرادهم هو سرقة الأخوة ليوسف من أبيهم في كنعان.

و خلاصة الكلام أنّ التورية و التكلّم بكلام يحتمل وجهين ليس من مصاديق الكذب

______________________________

(1). سورة الأنبياء، الآية 63.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 209

اطلاقاً رغم أنّ السامع قد يفهم منه شي ء آخر غير ما يقصده المتكلّم و غير ما يتطابق مع الواقع، و يكون مراد المتكلم صحيحاً و متطابقاً للواقع، و أمّا من يرى في معيار الصدق و الكذب هو ظاهر الكلام لا المراد و المقصود القلبي للمتكلم فيمكن أن يعتبر التورية نوع من الكذب الخفيف في حين أنّها ليست كذلك، فمعيار الصدق و الكذب هو المراد الجدّي للمتكلم الذي يتطابق مع محتوى و مضمون العبارة.

مثلًا قد يسأل شخص من آخر: هل أنّ هذا اللباس قد أهداه لك الشخص الفلاني؟ في حين أنّ المخاطب قد لا يكون راغباً في نفي هذا المطلب بصراحة فيقول في جوابه من موقع التورية: أطال اللَّه عمره، فيحسب السامع من هذا الكلام أنّ المتكلم قد أجاب بالإيجاب في حين أنّ المتكلم لم يكن يقصد ذلك بل دعا إلى ذلك الشخص فقط.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 210

9

الوفاء بالعهد و نقض العهد

تنويه:

رأينا سابقاً أنّ أهم رأسمال و أقوى دعامة في حياة المجتمع الانساني

هو الأعتماد المتبادل بين الأفراد، فكل شي ء يؤدّي إلى تقوية هذا الإعتماد و الثقة المتبادلة فانّ ذلك من شأنه أن يحقق للجميع السعادة و التطور الحضاري و الإنساني، و على العكس من ذلك فانّ كلّ شي ء يفضي إلى ارباك هذا العنصر المهم فأنّه يؤدّي إلى إنحطاط المجتمع و سقوطه.

و من أهم الامور التي تعمل على تقوية دعائم الثقة العامة و الخاصة بين الأفراد هو (الوفاء بالعهد و الميثاق) الذي يعد من الفضائل الأخلاقية المهمة في حركة الإنسان التكاملية، و بعكس ذلك (نقض العهد) الذي يعد من أسوأ الخصال و الرذائل الأخلاقية.

إنّ لزوم الوفاء بالعهد يعدّ ركناً من أركان الفطرة الإنسانية السليمة، و بتعبير آخر إنّ هذا المفهوم هو من الأمور الفطرية غير القابلة للإنكار.

و الفطرة هي من الامور التي يدركها كل إنسان و يقبلها كل شخص بدون الحاجة إلى دليل و برهان، من قبيل حسن العدل و قبح الظلم و كذلك أهمية الوفاء بالعهد و قبح نقض العهد حيث تعتبر من أوضح الامور الفطرية لدى الناس، و كل إنسان عند ما يراجع وجدانه يرى صحة هذه المفاهيم و يسلم بها من موقع القبول و الإذعان الوجداني، و لهذا السبب فانّ هذه

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 212

المفاهيم يقبل بها كل قوم من الأقوام البشرية سواءاً كانوا على دين معين و مذهب سماوي أولم يكونوا كذلك، فانّ الوفاء بالعهد مطلوب عند جميع الأمم و الشعوب حتى أنّ الذي يتحرك على مستوى نقض العهد يسعى إلى ذريعة و حجة لتبرير هذا التصرف حتى لا يتهم بنقض العهد و لا يزول إعتباره و شخصيته بين الآخرين، لأنّه يعلم أنّ الناس لا ترضى بنقض العهد و لا تحب المرتكب

لهذا الفعل حيث لا تبقى قيمة و اعتبار لديهم لمن يتهم بنقض عهده و وعده و سيفقد بذلك تأييد الناس و حبّهم و تعاونهم معه.

و حتى في الأقوام الجاهلية نرى أنّ الوفاء بالعهد و الميثاق يعدّ من الوظائف و الواجبات الحتمية للأفراد حيث نجد سعيهم الكبير في حفظ عهودهم و التعامل مع الآخرين من موقع الوفاء بالعهد و الميثاق، و نقرأ في الآيات القرآنية و الروايات الإسلامية في هذا الباب تعابير قوية و شديدة تبين الوفاء بالعهد و تذم الذين ينقضون العهد و الميثاق.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته وضوحاً أكثر في هذا الباب:

1- «وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا» «1».

2- «وَ الَّذِينَ هُمْ لِامَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ» «2».

3- «وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا» «3».

4- «بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» «4».

5- «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» «5».

6- «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَ قَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا» «6».

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 117.

(2). سورة المؤمنون، الآية 8؛ سورة المعارج، الآية 22.

(3). سورة الاسراء، الآية 34.

(4). سورة آل عمران، الآية 76.

(5). سورة التوبة، الآية 4.

(6). سورة النحل، الآية 91.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 213

7- «وَ مَا وَجَدْنَا لِاكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ» «1».

8- «أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ» «2».

تفسير و استنتاج:

«الآية الأولى» من الآيات محل البحث تتحدث عن الأساس و الأصل لجميع أعمال الخير و الصلاح و تذكر ستة صفات و عناوين لذلك، الأول

منها هو الإيمان باللَّه تعالى و يوم القيامة و الملائكة و الأنبياء و الكتب السماوية، ثم تأتي بعدها مسألة الأنفاق في سبيل اللَّه و تشير أيضاً إلى إقامة الصلاة و أداء الزكاة، و تذكر في الصفة الخامسة من هذه الصفات (الوفاء بالعهد) و في الصفة السادسة تأتي أهمية الصبر و الاستقامة في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة و المشاكل التي تواجه الإنسان في حركة الحياة و الصبر في ميدان القتال، و بالنسبة إلى الوفاء بالعهد تقول «وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا».

و هذا التعبير يوضّح، أنّ الوفاء بالعهد في دائرة المفاهيم الإسلامية و القرآنية مهم إلى درجة أنّه وقع رديفاً للإيمان باللَّه و الصلاة و الزكاة.

و مع ملاحظة أنّ المادة الأصلية لهذه الكلمة (وفى هي أن يصل الشي ء إلى حدُّ الكمال و التمام، فعند ما يترجم الشخص عهده و وعده عملياً على أرض الواقع يقال له (وفى بعهده) أو (أوفى بعهده)، و عليه فإنّ الثلاثي المجرّد أو المزيد لهذه المفردة يأتيان بمعنى واحد.

و كلمة (عهد) تأتي في الأصل بمعنى (الحفظ) و لهذا فإنّها تقال لكل شي ء لا بدّ من حفظه و الاهتمام به فيقال (عهد) لذلك.

و الجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم حث على وجوب الوفاء بالعهد في هذه الآية بدون أي قيد و شرط، و عليه فإنّه يشمل جميع أشكال العهد مع اللَّه تعالى و مع الناس، سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين، أي ما دام الشخص قد ارتبط بعهد و ميثاق مع المسلمين، فيجب

______________________________

(1). سورة الاعراف، الآية 102.

(2). سورة البقرة، الآية 100.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 214

عليهم مراعاة عهده و الوفاء به.

«الآية الثانية» تستعرض صفات المؤمنين الحقيقيين و تفتتح السورة آياتها بالقول «قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ»

ثم تذكر سبع صفات من الصفات المهمّة و الأساسية للمؤمنين، و في الصفة الخامسة و السادسة تقول: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِامَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ».

و في هذه الآية و التي وردت في القرآن الكريم في سورتين نجد أنّها أشارت إلى الأمانة و العهد بصورة مقترنة، و لعل ذلك إشارة إلى أنّ الأمانات هي نوع من العهد و الميثاق كما أنّ العهد هو نوع من الأمانة.

و التعبير بكلمة (راعون) المأخوذة في الأصل من (رعى) يتضمّن مفهوماً أعمق من مفهوم الوفاء بالعهد، لأنّ الرعاية و المراعاة تأتي بمعنى المراقبة الكاملة من موقع المحافظة بحيث لا يصل أي مكروه أو ضرر للشي ء، فالإنسان الذي قبل الأمانة أو ارتبط مع غيره بعهد و ميثاق يجب عليه مراعاته بحيث لا يصل أي ضرر لهذه الأمانة و العهد.

و طبعاً فإنّ الأمانة لها مفهوم واسع جدّاً و كذلك العهد أيضاً حيث ستأتي الإشارة إلى ذلك لاحقاً.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن مسألة لزوم الوفاء بالعهد بتعبير جديد و تقول: «وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا».

و قد ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة في جملة «إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا».

أحدها: ما ذكرنا آنفاً من أنّ الإنسان هو المسؤول، و العهد مسؤول عنه، يعني أنّه يسأل الإنسان عن وفائه بعهده.

و الآخر: أنّ نفس العهد يكون مسؤولًا، كما ورد في عبارة الموؤدة التي يسأل عنها «إذا المَوؤُدةُ سُئِلتْ» و كأنّه إشارة إلى الموجودات العاقلة و الحية التي يسأل منها، هل نالت حقّها و وفى الإنسان لها أم لا؟

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 215

و هذا هو نوع من المجاز الذي يستعمل للتأكيد.

و لكن التفسير الأول أقرب لسياق الآية و أكثر إنسجاماً معها.

و ضمناً يجب الالتفات إلى أنّ سورة الاسراء وردت في

بيان أهم الأحكام الإسلامية من الآية 22 إلى 39، من مسألة التوحيد إلى حق الوالدين إلى قتل النفس و الزنا و أكل أموال اليتامى و الوفاء بالعهد و حتى مسؤولية العين و الاذن و القلب، و هذا يبيّن أنّ مسألة الوفاء بالعهد جاءت ضمن إطار أهم الأحكام الإسلامية.

و اللطيف أنّ هذه الأحكام ختمت بقوله تعالى: «ذَلِكَ مِمَّا أَوحَى إِلَيكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكمَةِ».

و في «الآية الرابعة» بعد أن يذم القرآن الكريم طائفة من أهل الكتاب الذين لم يراعوا الأمانة في تعاملهم تقول: «بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».

و هنا نجد أنّ الوفاء بالعهد وقع رديفاً للتقوى التي هي أفضل زاد السالك إلى اللَّه تعالى و سبب ورود الإنسان إلى الجنّة و المعيار الأتم لشخصية الإنسان و مقامه عند اللَّه تعالى.

و هذا التعبير يدلّ على أنّ الوفاء بالعهد هو أحد الفروع المهمّة للتقوى، و تعبير الآية هنا هو من قبيل ذكر العام بعد ذكر الخاص.

«الآية الخامسة» من الآيات مورد البحث تتحدّث عن ضرورة احترام العهود من قبل المسلمين تجاه المشركين و تأمرهم بالوفاء بعهودهم ما دام المشركون لم يتحرّكوا في تعاملهم مع المسلمين من موقع النقض لهذه العهود (رغم أنّ الصارف المقابل هم من الكفّار المشركين)، فتقول الآية: (بعد إعلان البراءة من المشركين كافّة) «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».

و نعلم أنّ مراسم البراءة من المشركين وقعت في السنة التاسعة للهجرة و بعد فتح مكّة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 216

و استقرار الإسلام في ربوع الحجاز و الجزيرة العربية حيث أمر النبي الأكرم صلى الله عليه و

آله الإمام علي عليه السلام بقراءة الآيات الاولى من سورة براءة لمراسم الحج أمام جميع الناس و الإعلان للمشركين بأنّه بقيت لهم فرصة أربعة أشهر فأمّا أن يتركوا الشرك و يدخلوا في الإسلام أو يمتنعوا من الدخول إلى المسجد الحرام، و بعد انقضاء الأشهر الأربعة عليهم فيما لو لم يتركوا الشرك و عبادة الأوثان أن يستعدوا لمواجهة المسلمين عسكرياً.

و لكن مع هذا الحال فإنّ بعض المشركين كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العهد و الميثاق فأمر اللَّه تعالى أن يحفظوا لهم عهودهم إلى انتهاء مدّتهم.

و هنا يتبيّن من خلال إستثناء هذه الطائفة إلى جانب ما ورد من التعبير الشديد في بداية سورة التوبة، يتبيّن من ذلك الأهميّة الكبيرة التي يوليها الإسلام للوفاء بالعهد، و يتبيّن أيضاً ضمن هذا الاستثناء أنّه عند ما يلغي النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عهده و ميثاقه مع بعض الطوائف الاخرى فالسبب في ذلك أنّهم كانوا قد بدأوا نقض العهد أولًا، و إلّا فلا دليل على اختلاف تعامل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله معهم عن غيرهم.

و في ذلك اليوم كانت وظيفة الإمام علي عليه السلام هي أن يعلن للناس في مراسم الحج أربع مواضيع:

1- إلغاء العهود مع المشركين الذين سبق و أن نقضوا عهدهم مع المسلمين.

2- منع المشركين من الاشتراك في مراسم الحج للسنة القادمة.

3- منع ورود المشركين إلى بيت اللَّه الحرام.

4- منع الطواف في حالة التعرّي و التي كانت سائدة في ذلك الزمان.

و على أية حال و نظراً إلى أنّ هذه الواقعة كانت بعد فتح مكّة و أنّ المسلمين كانوا قد سيطروا على تلك المنطقة سيطرة تامّة و لا تستطيع أي قدرة أن تقف في مقابلهم إلّا أنّهم

في نفس الوقت احترموا عهودهم مع طائفة من المشركين، و بذلك يتّضح أنّ مسألة الوفاء بالعهد لا تقبل المساومة تحت أية ظروف «1».

______________________________

(1). راجع تفصيل الكلام في الآية الاولى من سورة البراءة في ج 9، من نفحات القرآن.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 217

و الملفت للنظر أنّ مدّة العهد الباقية لهذه الطائفة (قبيلة بني خزيمة) عشر سنوات منذ صلح الحديبية، و كان قد بقي لديهم من هذا الزمان و هو عام الفتح سبع سنين، حيث يجب على المسلمين تحمّل وجودهم إلى نهاية هذه المدّة الطويلة، فمع أنّ موقف الإسلام الشديد تجاه مسألة الشرك و الوثنية إلّا أنّه مع ذلك أوجب على المسلمين رعاية هذا الحق في هذه المدّة الطويلة.

«الآية السادسة» تخاطب جميع المسلمين و تأمرهم بالوفاء بعهد اللَّه و تقول: «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَ قَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا».

أمّا المراد من عهد اللَّه تعالى في هذه الآية ما هو؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين، فمنهم من ذهب إلى أنّ معناه هو العهود التي يبرمها الناس مع اللَّه تعالى، أو البيعة مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد هو جميع العهود التي يبرمها الإنسان مع اللَّه تعالى أو مع الناس أو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و عليه يكون لها مفهوم عام و أنّ اللَّه تعالى أمر بذلك، فهو نوع من عهد اللَّه تعالى، أو يكون المراد العهود التي تبرم بين الأشخاص في ظل اسم اللَّه تعالى كما يشبه الإيمان القسم الذي يورده الإنسان باسم اللَّه مع الآخرين.

و على كلّ حال فإنّ مفهوم الآية سواء كان عامّاً أو

خاصّاً فإنّه يدل على أهمية الوفاء بالعهد في دائرة المفهوم القرآني و الإسلامي.

و اللطيف أنّ القرآن الكريم بعد أن ذكر مسألة الوفاء بالعهد و القسم في هذه الآية فإنّه يتابع ذلك بالقول: «وَ لَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» «1».

و يستفاد من هذا التعبير أنّ عدم الالتزام باليمين و العهد من موقع الوفاء و الانضباط هو نوع من الحماقة و السفه، و كذلك الحال في الاستفادة من العهود لغرض الخيانة و الخداع و الفساد.

______________________________

(1). سورة النحل، الآية 92.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 218

و دليل ذلك واضح، لأنّه لو تزلزلت أركان الوفاء بالعهد و اليمين في المجتمع البشري فإنّ ذلك من شأنه أن يثير الفوضى و عدم الثقة بالآخرين، و في الواقع فإنّ الناقضين للعهود يضربون جذورهم بأيديهم، و لهذا فلا يوجد عاقل يرتكب مثل هذه الحماقة.

و نظراً إلى أنّ بعض الأقوياء أو الفئات المتنفّذة في المجتمع تبيح لنفسها أحياناً نقض العهد بذرائع واهية و تتحرّر من قيود القيم و التعهدات الفردية و الاجتماعية لذلك يقول القرآن الكريم: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ» و هو في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى، و هو أنّه إذا كانت فئة من الناس أقوى و أكثر عدداً من فئة اخرى فلا ينبغي ذلك أن يكون مسوّغاً لنقض العهد من قبلهم، لأنّ ذلك سوف يتسبب فيما بعد بالحاق الضرر لهم، فالآخرون عند ما تسنح لهم الفرصة و يكونون أقوياء في المستقبل سوف يعاملوهم بنفس المعاملة.

و هذه الآية لا تقرّر ضرورة الوفاء بالعهد في الإطار الفردي فحسب، بل تتسع لتشمل البنود و المواثيق الجماعية و العالمية أيضاً كما تشير إلى ذلك هذه العبارة

من الآية الشريفة:

«أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ».

و في «الآية السابعة» يشير القرآن الكريم إلى سيرة الأقوام السالفة و عاقبتهم المؤلمة و يذكر بعض نقاط ضعفهم و انحرافهم، و من ذلك يشير إلى أمرين مهمين في دائرة السلوكيات السلبية الذميمة، يقول: «وَ مَا وَجَدْنَا لِاكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ».

و هذا العهد هو العهد العام الذي أخذه اللَّه على الامم السابقة و لكنّهم نقضوه و لم يفوا به، و لكن ما هو ذلك العهد العام؟

هناك اختلاف و كلام بين المفسّرين في هذا المجال، فذهب البعض إلى أنّ المراد منه العهد و الميثاق الفطري الذي قرّره اللَّه تعالى في واقع الفطرة لجميع الناس أن يتحرّكوا في خط التوحيد و التقوى و الاستقامة، مضافاً إلى أنّ النعم و المواهب الإلهية المعطاة للإنسان

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 219

من العقل و العين و الاذن و غير ذلك، فإنّ مفهومها أنّ الإنسان يستخدمها في طريق الخير و الصلاح و يفتح أبواب عقله و فكره على الحقائق و الامور الواقعية و يذعن لها من موقع الطاعة و الإيمان و لا يستسلم أمام الأوهام و الخرافات و لا يتحرّك بوحي الأهواء و الشهوات.

و كذلك يمكن أن تكون إشارة إلى العهد و الميثاق الذي أخذه الأنبياء عليهم السلام على الناس في بداية الدعوة و لكن الكثير من الناس الذين يقبلون بهذه الدعوة السماوية في البداية، فإنّهم ينقضونها فيما بعد و يتحرّكون في خط الانحراف و الباطل.

و يمكن أن تكون إشارة إلى جميع العهود و المواثيق المذكورة آنفاً سواءً الفطرية و التشريعية.

و على أيّة حال فإنّ الآية الشريفة محل البحث شاهدة على هذه الحقيقة، و هي أنّ مسألة نقض العهد

و عدم الالتزام بالمواثيق هي أحد العوامل المؤثّرة في شقاء الامم و انحطاطهم و سلوكها في خط الانحراف و الضياع كما نجد هذا الحال في الامم الدنيوية المعاصرة التي تلتزم بالعهود و المواثيق ما دامت ضعيفة و لكن إذا وجدت في نفسها قوّة و قدرة على الطرف الآخر فإنّها لا تعترف بأي عهد و ميثاق، بل تكون الرابطة بينهما هي رابطة القوة، و القانون هو قانون الغاب.

«الآية الثامنة» و الأخيرة من الآيات مورد البحث بعد أن تتحدّث عن بعض جرائم اليهود و أزلامهم تقول: «أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»، و نقض العهد هذا من جانبهم يدلّ على كفرهم و عدم إيمانهم.

فمن جهة نرى أنّهم قد أخذ عليهم العهد بأن يؤمنوا بالنبي الموعود الذي وردت البشارة به في التوراة، و لكنهم ليس لم يؤمنوا به فحسب بل أنهم نقضوا العهود مع هذا النبي بعد هجرته إلى المدينة و انضمّوا إلى صفوف أعدائه و خاصة في حرب الأحزاب حيث إتحد اليهود مع المشركين ضد رسول اللَّه و المسلمين في المدينة و أجهروا بعداوتهم و استعدوا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 220

للمشاركة في قتال المسلمين.

و هذا هو خلق اليهود القديم حيث ينقضون العهود و المواثيق دائماً؛ و ينسون جميع المقررات و العهود فيما لو تعرضت مصالحهم إلى الخطر في أي زمان و مكان.

و في هذا العصر أيضاً نجد صدق قول القرآن الكريم في هذا الوصف لليهود و الصهاينة و أنهم كلما تعرضت منافعهم إلى الخطر فأنهم يسحقون جميع العهود و المواثيق التي أمضوها مع مخالفيهم و حتى إنّهم لا يلتزمون بالمعاهدات الدولية في دائرة الروابط بين الشعوب و الدول و التي اشتركت في تدوينها

و إمضائها جميع الدول، فنجدهم يتمسكون بذرائع واهية و تبريرات سخيفة ليتحرّكوا في تعاملهم من موقع نقض العهود و المواثيق، و هذه المسألة واضحة في عصرنا الحاضر إلى درجة أنّ بعض المفسرين ذكر في تفسير الآية أعلاه أنّ هذه الآية معجزة قرآنية حيث أخبرت عن المستقبل البعيد و كأنّنا نرى بأمّ أعيننا نقض العهود و المواثيق لبني إسرائيل حاضراً، كما كانوا في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

لقد كان لهؤلاء عهود و مواثيق كثيرة مع نبيّهم موسى و الأنبياء الذين جاءوا من بعده و كذلك مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و لكنهم لم يفوا بواحدة من تلك العهود و المواثيق.

و التعبير بكلمة (فريق) في بداية الآية، و كذلك التعبير (أكثرهم) في ذيل الآية يشير إلى أنّ المراد بالفريق هنا هو أكثر هذه الطائفة من الناس، و كذلك يشير إلى أنّ العلاقة بين نقض العهد و عدم الإيمان هي علاقة وثيقة.

إنّ سياق الآيات الشريفة المذكورة آنفاً يدل بصراحة على أنّ الوفاء بالعهد و الميثاق له منزلة رفيعة و مكانة سامية من بين المفاهيم الإسلامية و التعاليم القرآنية، فهو أحد علائم الإيمان و يقع في مرتبة التقوى و الأمانة، و على درجة من الأهمية بحيث أنّ المسلمين و غير المسلمين سيان في ذلك، أي أنّ المسلم أو جماعة المسلمين إذا إرتبطوا بعهدٍ و ميثاق مع آخرين فيجب عليهم الألتزام بذلك العهد و الميثاق سواءاً كان الطرف الآخر مسلماً أو كافراً ما دام ذلك الطرف ملتزماً بذلك العهد، و أيضاً تدل هذه الآيات على أنّ أحد أهم العوامل

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 221

و الأسباب في شقاء الإنسان و انحطاطه هو نقض العهد

و عدم الوفاء به.

الوفاء بالعهد في الروايات الإسلامية:

اشارة

و قد وردت في النصوص الدينية تعبيرات مهمّة و رائعة جدّاً في هذا الباب يمكنها أن تكون درساً لنا في تبيين معالم هذه الصفة الأخلاقية الكريمة.

و هنا نختار بعض النماذج من هذه الأحاديث لنضعها بين يدي القاري ء الكريم:

1- ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله في جملة مختصرة: «لا دِينَ لِمَنْ لا عَهدَ لَهُ» «1».

و هذا التعبير يشير إلى أنّ جميع معالم الدين و أركانه يتلخص بالوفاء بالعهد بالنسبة إلى الخالق و الخلق و على الأقل أنّه أحد الأركان المهمّة للدين، و لذلك ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَصلُ الدِّينِ أَداءُ الأَمانَةِ وَ الوَفَاءِ بِالعُهُودِ» «2».

2- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً: «ما أَيقَنَ بِاللَّهِ مَنْ لَم يَرع عُهُودِهِ وَ ذِمَّتِهِ» «3».

لأنّ الناقض للعهد يرى منافعه و مصالحه في دائرة عصيان اللَّه تعالى و مخالفته، و هذا إنّما يدلّ على عدم توحيده و اهتزاز عقيدته في دائرة التوحيد الأفعالي.

3- و نقرأ في عهد الإمام علي عليه السلام المعروف لمالك الأشتر رضى الله عنه حيث أَكّد الإمام علي عليه السلام على مسألة الوفاء بالعهد في مقابل أي إنسان و أي طائفة من البشر باعتباره من أهم المسائل على مستوى الحكومة و التعامل مع الناس حيث قال: «و إنَّ عَقَدتَ بَينَكَ وَ بَينَ عَدُوِّكَ أَو أَلبَستَهُ مِنكَ ذِمَّةً فَحُطَّ عَهدَكَ بِالوَفاءِ وَ ارعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمانِةِ، وَ اجعَلْ نَفسَكَ جُنَّةً دُونَ ما أَعطَيتَ فَإِنَّهُ لَيسَ مِنْ فَرائِضِ اللَّهِ شَي ءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيهِ إِجتِماعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهوائِهِم وَ تَشَتُّتِ آرائِهِم مِنْ تَعظِيمِ الوَفاءِ بِالعُهُودِ وَ قَدْ لَزِمَ ذَلِكَ المُشرِكُونَ فِيما بَينَهُم

دُونَ المُسلِمِينَ لِمَا

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 69، ص 198، ح 26.

(2). غرر الحكم.

(3). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 222

استَوبَلُوا مِنْ عَواقِبِ الغَدرِ» «1».

4- و نقرأ في حديث آخر قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أَقرَبُكُم غَداً مِنِّي فِي المَوقِفِ أَصدَقُكُم لِلحَدِيثِ وَ أَدّاكُم لِلأَمانَةِ وَ أَوفاكُم وَ أَحسَنُكُم خُلقاً وَ أَقرَبُكُم مِنَ النّاسِ» «2».

5- و نقرأ في حديث آخر حول أهميّة الوفاء بالعهد و العواقب الوخيمة لنقض العهد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَيُّها النَّاسُ إِنَّ الوَفاءِ تَوأَمُ الصِّدقُ، وَ لا أَعَلَمُ جُنَّةً أَوفى مِنهُ وَ ما يَغدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيفَ المَرجَعُ، وَ لَقَد أَصبحنا فِي زَمانٍ أَتَّخَذَ أَكثَرَ أَهلِهِ الغَدرَ كَيساً، وَ نَسَبَتهُم أَهلُ الجَهلِ فِيهِ إِلى حُسنِ الحِيلَةِ، ما لَهُم قاتَلَهُم اللَّهُ قَد يَرَى الحُوَّلُ القُلَّبُ وَجهَ الحَيلَةِ وَ دُونَها مانِعٌ مِنْ أَمرِ اللَّهِ وَ نَهيهِ» «3».

فهنا نجد أنّ الإمام عليه السلام يشكو من تغيّر الحال في عصره و زمانه و كيف أنّ الناس يرون في المنكر و الحيلة و نقض العهود من كمال العقل و التدبير و يعتبرون التقوى و الصدق و الوفاء بالعهد نوع من الضعف و كما يقول الشاعر:

غاضَ الوفاءُ و فاضَ الغدرُ و اتّسعتْ مسافَةُ الخُلفِ بَينَ القَولِ وَ العَملِ

و نجد في عصرنا الحاضر أنّ الوفاء بالعهد قليل جدّاً، بل نادر حيث يسود نقض العهود في ما يتعلق بالروابط بين الأفراد و المجتمعات البشرية و أنّ الفاصلة بين القول و العمل كبيرة جدّاً.

6- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «ثَلاثٌ لَم يَجعَلِ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِأَحِدٍ فِيهِنَّ رَخصَةً أَداءِ الأَمانِةِ إِلَى البَرِّ وَ الفاجِرِ، وَ الوَفاءِ بِالعَهدِ لِلبَرِّ

وَ الفاجِرِ، وَ بِرُّ الوالِدينِ برِّينَ كانا أَو فاجِرينِ» «4».

و جاء نفس هذا المضمون في رواية اخرى عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً «5».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

(2) بحار الانوار، ج 74، ص 150، ح 82؛ تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 92.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 41.

(4) اصول الكافي، ج 2، ص 162، ح 15.

(5) الخصال، ص 140، ح 118.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 223

و هذا الحديث يدلّ بوضوح على أنّ قانون الوفاء بالعهد و أداء الأمانة و الإحسان إلى الوالدين لا يقبل الاستثناء أبداً.

7- و جاء في حديث آخر عن الإمام عليه السلام يُشبّه العهد بالطوق المحيط برقبة الإنسان و يقول: «إنَّ العُهُودَ قَلائِدُ فِي الأعنَاقِ إِلى يَومِ القِيامَةِ فَمَنْ وَصَلَها وَصَلَهُ اللَّهُ، وَ مَنْ نَقضَها خَذَلَهُ اللَّهُ» «1».

8- و جاء في حديث آخر أنّ شخصاً سأل الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام قال: «أَخبِرنِي بِجَمِيعِ شَرايعِ الدِّينِ»

قال الإمام في جوابه: «قَولُ الحِقِّ وَ الحُكمِ بِالعَدلِ وَ الوَفاءِ بِالعَهدِ» «2».

9- و ورد في حديث مختصر و عميق المحتوى عن أمير المؤمنين أنّه قال: «أَشَرَفُ الخَلائِقِ الَوفاءِ» «3».

10- و نختم هذا البحث بحديث مهم آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) حيث قال: «إِذا نقَضَوا العَهدَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِم عَدُوِّهِم» «4».

و هنا نرى حقائق مهمّة فيما ورد من الروايات الشريفة أعلاه عن أهميّة الوفاء بالعهد و معطياته الكثيرة و آثاره العميقة في حياة الإنسان الفرديّة و الاجتماعية بحيث أنّ الوفاء بالعهد يعدّ (أساس الدين) و (علامة اليقين) و (سبب القرب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم القيامة) و (الدرع الحصينة مقابل الحوادث

الاجتماعية)، مضافاً إلى الروايات الإسلامية التي تصّرح بأنّ الوفاء بالعهد هو قانون إلهي شامل للمسلم و الكافر، و أنّ الوفاء بالعهد (علّة الفلاح و النصر و العزّة) و أنّ نقض العهد سبب في (الحرمان من الألطاف الإلهية).

______________________________

(1) غرر الحكم.

(2) سفينة البحار، مادة العهد.

(3) غرر الحكم.

(4) بحار الانوار، ج 97، ص 46، ح 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 224

1- المعطيات الفردية و الاجتماعية للوفاء بالعهد

رأينا فيما تقدّم أنّ جميع أشكال التطور العلمي و الثقافي و الاقتصادي الذي ناله الإنسان إنّما هو وليد الحياة الاجتماعية للبشر، حيث تلتقي تجارب الأفراد و تنظم أفكارهم بعضها إلى بعض و تتلاقح عقولهم و بذلك تتولّد المنتوجات الصناعية المتنوعة و أشكال التمدن و الحضارة البشرية في حركة الامم الحضارية.

فلو أنّ أفراد البشر عاشوا متفرّقين كل على إنفراد فعلى فرض أن يكسبوا تجارب في حركة حياتهم الفردية، إلّا أنّهم سوف يذهبون بها معهم إلى القبر، فلا حركة و لا علامة على وجود تحوّل حضاري و تطور علمي في البشرية، و لهذا السبب بالذات فإنّ الإسلام أعطى أهميّة فائقة لتحكيم و تقوية دعائم الحياة الاجتماعية بين الأفراد و تعميق أواصر العلاقات بينهم، و من المعلوم أنّ كل شي ء يؤدّي إلى تقوية هذه العلاقات الاجتماعية، فإنّه مطلوب و ممدوح في نظر الإسلام، و كلّ شي ء يتسبب في أضعاف هذه العلاقات فإنّه منفور و مذموم.

و بديهي أنّ أول عنصر يتسبب في تقوية هذه الروابط و العلاقات بين أفراد البشر و بالتالي يترتّب عليه زيادة التعاون و التكاتف في المجتمع هو مسألة الوفاء بالعهود و المواثيق، فلو أنّ هذه المسألة قد تركت ليوم واحد بين الأفراد و بين الشعوب العالميّة فإنّ مفاصل الحضارة البشرية سوف تتعرّض للأهتزاز و الارتباك و تتوقف

بذلك مسيرة الحضارة الإنسانية و التكامل البشري، و لهذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا تَعتَمِد عَلى مَودَّة مَنْ لا يَفِي بِعَهدِهِ» «1».

و أساساً يمكن القول بأنّ ميزان موفقيّة الأشخاص في حياتهم الدنيوية يرتبط بمدى التزامهم بعهودهم، فما كان منهم أكثر وفاءً بعهده فهو أعزّ و أشرف في نظر الناس، و في ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام في حديث آخر: «الوَفاءُ حِصْنُ السُّؤدَدِ» «2».

و في النقطة المقابلة نجد أنّ نقض العهد إذا ساد في أجواء المجتمع البشري، فإنّه يفضي

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 225

إلى سلب الثقة بين أفراد المجتمع و يتلاشى عنصر الإتّحاد و التكاتف فيما بينهم و بالتالي فإنّهم لا يستطيعون التصدي للعدو، و لهذا نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِذا نَقَضُوا العَهدَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِم عَدُوَّهُم» «1».

إنّ الوفاء بالعهد يتسبب في أن يعتمد الناس على هذا الشخص و بذلك يضعوا عنده رؤوس أموالهم من موقع الثقة به للإتّجار بها فينتفع هو و كذلك الآخرون من نشاطه الاقتصادي، فينال بذلك الرفاه و السعة في معيشته، و لهذا نجد أنّ جميع الدول في العالم تسعى إلى تحقيق هذا المعنى أي الالتزام بالعهود و المواثيق من أجل ترشيد وضعهم الاقتصادي و الاجتماعي و إلّا يكون نصيبهم الانزواء و العزلة و التلف عن الحركة الصناعية و التجارية في العالم، و حتى بالنسبة إلى الدول التي عاشت حالة الثورة على النظام السابق، فإنّ قادة الثورة عند ما يستلمون زمام الامور يعلنون التزامهم بجميع العهود و المواثيق التي كانت من النظام السابق حتّى لو كانت تلك العهود

على خلاف ذوقهم و مسيرتهم، لأنّه ليس لهم طريق سوى كسب الثقة العالمية من خلال هذا الالتزام الإنساني و الأخلاقي، و هذه المسألة تصدق أيضاً على الأفراد و الأشخاص، و مضافاً إلى ذلك فانّ أصل العدالة الذي هو من بديهيات الأصول الأخلاقية و الاجتماعية لا يتحقق بدون الوفاء بالعهد في دائرة المجتمعات البشرية، و بذلك فانّ ناقضي العهد يعدون من زمرة الظالمين و كل إنسان يتعامل معهم من موقع الذم و التحقير و اللوم و ذلك بدافع من الفطرة الإلهية في وجوده، و هذا يدل على أنّ لزوم الوفاء بالعهد هو أمر فطري.

2- دوافع الوفاء بالعهد و نقضه

بما أنّ معرفة دوافع الصفات الأخلاقية الإيجابية و السلبية له دورمهم في تحصيل الفضائل الأخلاقية، و علاج الرذائل، فمن الجدير بنا في هذا البحث أنّ نتتبع الدوافع للوفاء بالعهد و الدوافع على نقضه.

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 97، ص 46، ح 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 226

لا شك أنّ الإيمان الحقيقي و الاعتقاد بالتوحيد الأفعالي في واقع الإنسان و قلبه يعد أحد الأسباب المهمة للوفاء بالعهد و الالتزام به، لأنّ من ينقض العهد فأنه يرتكب هذه الخطيئة من موقع الجهل بقدرة اللَّه و رازقيته و بدافع من منفعته العاجلة فينسى ما وعد به اللَّه تعالى على الوفاء بالعهد.

و لهذا نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مِنْ دَلائِلِ الإِيمانِ الْوَفاءُ بِالْعَهْدِ» «1».

و في حديث آخر عنه أيضاً يقول: «ما ايْقَنَ بِاللَّهِ مَنْ لَمْ يَرْعَ عُهُودَهُ وَ ذِمَّتَهُ» «2».

مضافاً إلى ذلك فانّ شخصية الإنسان الذاتية تستدعي الوفاء و الالتزام بالعهد أيضاً، و لذلك فانّ الأشخاص الذين يتمتعون بقوة الشخصية لا يبيحون لأنفسهم نقض العهد مع أي شخص كان اطلاقاً و يرون

أنّ نقض العهد علامة الضعف و الحقارة و فقدان الشخصية، و لهذا نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام ما يشير إلى أنّ الوفاء بالعهد هو أحد علائم الصالحين و الطاهرين من الناس حيث يقول: «بِحُسْنِ الْوَفاءِ يُعْرَفُ الْابْرارُ» «3».

و من الدوافع النفسية على إرتكاب نقض العهد هي الجهل و الغفلة و عدم الاطلاع على العواقب المشؤومة لنقض العهد في حياة الناس الفردية و الاجتماعية، كما هو حال الشخص الذي يتناول طعاماً لذيذاً في الظاهر و لكنه مسموم في الحقيقة، فيتناوله بشوق و رغبة بدون أن يعلم عاقبته المؤلمة.

و الأشخاص الذين يتمتعون بعقل أكبر و علم أوفر و يرون المعطيات الحسنة للوفاء بالعهد و الأضرار المترتبة على نقض العهد فأنّهم لا يتركون هذه الفضيلة الأخلاقية اطلاقاً و لا يذلون أنفسهم بأرتكاب تلك الصفة الرذيلة و هي نقض العهد أبداً كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «الْوَفاءُ حِلْيَةُ الْعَقْلِ وَ عُنْوانُ النُّبْلِ» «4».

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 227

علاج نقض العهد:

رأينا فيما تقدم (من بحث الدوافع) أنّه بالإمكان معرفة الطرق لتحصيل فضيلة الوفاء بالعهد و كذلك يمكن معرفة طرق الوقاية من ضدها و علاج مرض نقض العهد.

إنّ الإنسان الناقض للعهد إذا أراد واقعاً إصلاح هذا الخلل في نفسه و شخصيته فيجب عليه قبل أي شي ء العمل على تقوية دعائم الإيمان في قلبه، لأننا نعلم أنّ نقض العهد هو من إفرازات ضعف الإيمان أو فقدانه كما تقدم، فلو أنّ معرفة الإنسان باللَّه تعالى و إيمانه وصل إلى درجة بحيث يرى أنّ جميع الامور بيد اللَّه تعالى فانّه لا يتحرك اطلاقاً بصدد تحصيل المال و المقام و الجاه

من خلال التوسل بهذه الرذيلة الأخلاقية.

و كذلك إذا فكرَّ في النتائج المشؤومة على هذا الفعل القبيح فرغم أنّه يترتب عليه بعض الربح و المنفعة على المدى القصير، و لكنه و على المدى الطويل يتسبب في سقوط شخصيته و مكانته بين الأصدقاء و الأقرباء و أخيراً يتسبب في فضيحته في المجتمع و يخسر بذلك أهم رأس ماله أي إعتماد الناس و ثقتهم به، و كذلك يفتضح أمام اللَّه تعالى و أمام خلق اللَّه، و قد رأينا نماذج عينية في حياتنا المعاصرة و في طول تاريخ الحياة البشرية لأمثال هذه الموارد، أجل كلما تفكر الإنسان و تدبر في هذه الامور فأنّه سيزداد قوة و عزماً على ترك هذه الرذيلة حتماً، و هذا هو ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام على أنّه قال: «وَ الْخُلْفُ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ النَّاسِ» «1».

و لهذا السبب نجد أنّ الكثير من المجتمعات البشرية التي تعيش الجهل بالدين و الابتعاد عن اللَّه تعالى فإنّها تسعى للتعامل فيما بينها من موقع الإلتزام بالعهود و المقررات و المواثيق، و كذلك ما نراه في الشركات الأقتصادية العالمية و المنظمات الدولية فإنّها و من أجل جذب الزبائن و كسب حسن السمعة و بالتالي زيادة الأرباح و المكاسب يهتمون بمسألة الوفاء بالعهد، و يترتب على ذلك أيضاً النتائج الإيجابية المثمرة.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53 في عهده إلى مالك الاشتر رضى الله عنه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 228

أقسام العهد:

هناك أنواع و أقسام للعهد حيث يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

1- العهد مع اللَّه.

2- العهد مع الناس.

3- العهد مع النفس.

أما العهد مع اللَّه تعالى فالكثير من الفقهاء ذكروا في كتبهم الفقهية بحث العهد إلى جانب بحث النذر، و

ذكروا أنّه لو أراد الشخص أن يعاهد اللَّه على أمر من الامور فعليه إجراء صيغة العهد و هي أن يقول مثلًا: «عاهَدْتُ اللَّهَ أَنَّهُ مَتى شَفانِي اللَّهُ أَصومُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَتَصَدَّقُ بِكَذا وَ كَذا».

و حينئذ يجب عليه الوفاء بعهده هذا و لو إرتكب ما ينقض هذا العهد عليه دفع كفارة، و كفارته على المشهور هي كفارة إفطار يوم من شهر رمضان المبارك.

و على هذا فانّ العهد مع اللَّه تعالى ليس لازماً من الناحية الأخلاقية فقط بل من الناحية الفقهية أيضاً و نقضه يستوجب الكفارة، و حتى إذا لم يقرأ المكلف صيغة العهد هذه بل نوى في قلبه ذلك فمن الأفضل له أن يوفي بعهده مع اللَّه تعالى.

القرآن الكريم يقول في ذم طائفة من المؤمنين الضعيفي الإيمان أو من المنافقين الذين لم يشتركوا في حرب الأحزاب: «وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤولًا» «1».

يقول في مكان آخر: «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ».

و بعض المفسرين ذكروا في تفسير هذه الآية أنّ العهد هنا يعنى البيعة مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، و ذهب بعض آخر إلى أنّه يعني الجهاد في سبيل اللَّه، و ذهب آخرون إلى أنّ معناه هو القسم باللَّه تعالى، و بعض آخر ذهب إلى أنّه يعنى كل عمل واجب بحكم العقل أو النقل «2».

______________________________

(1). سورة الأحزاب، الآية 15.

(2). تفسير الفخر الرازي، ج 20، ص 106.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 229

و أمّا العهد مع الناس فيشمل كل أشكال العقود و المواثيق بين أفراد البشر، و فيما لو تأطرت بقوالب شرعية و عقلائية فالوفاء بها واجب، و لكن بعض أشكال العهد الذي يقع من

جانب واحد كأن يتعاهد الإنسان أن يبذل المعونة لشخص آخر فمثل هذه العهود تسمى (عهود إبتدائية) و كذلك أشكال الوعد الذي يقوم من جانب واحد، فالوفاء بهذا العهد أو الوعد غير واجب من الناحية الفقهية بل مستحب مؤكد، و لكن في المنظور الأخلاقي فالالتزام بها واجب و لازم و إلّا فيحرم الإنسان من نيل الفضائل الإخلاقية و المقامات العالية الإنسانية.

و قد ورد في بعض الروايات أنّ الإنسان المؤمن إذا وعد غيره بشى ء فإنّه بمنزلة النذر رغم عدم وجوب الكفارة عند عدم الوفاء به، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: «عِدَةُ الْمُؤْمِنِ أَخاهُ نَذْرٌ لا كَفَّارَةَ لَهُ فَمَنْ أَخْلَفَ فَبِخُلْفِ اللَّهِ بَدَءَ وَ لَمِقْتِهِ تَعَرَّضَ وَ قَوْلُهُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أِنْ تَقولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» «1».

و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَفِ إِذا وَعَدَ» «2».

أما عهد الإنسان مع نفسه فهو أن يتعاهد الإنسان بأن يلتزم خط تهذيب النفس و إصلاحها في طريق التكامل الأخلاقي و المعنوي و التحلي بالصفات الحسنة و الأعمال الصالحة، و هذا العهد له دور مؤثر و بناء في سلوك خط التهذيب النفسي، و قد ذكره العرفاء الإسلاميون بأنّه أول مراتب السير و السلوك و ذكروه تحت عنوان المشارطة، و هو أنّ الإنسان يتعاهد مع نفسه كل صباح بأن يسير في خط الطاعة و الإيمان و اجتناب الذنوب و الابتعاد عن الموبقات و الآثام، ثم يتحرك في سلوكه اليومي من موقع المراقبة الدقيقة لأعماله و سلوكياته ليطمئن على وفائه بذلك الشرط و العهد الذي أخذه على نفسه صباح

اليوم، ثم تصل النوبة إلى المحاسبة في آخر اليوم و قبل النوم و هل أنّه قد إرتكب ما يخالف

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 36، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 364، ح 2.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 230

ذلك الشرط الذي إشترطه على نفسه أم لا؟

و لا شك أنّ الإنسان القوى الشخصية و من يتمتع بوجدان يقظ يهتم كثيراً بمثل هذه العهود و الشروط مع نفسه و غير مستعد لنقضها بسهولة.

و عليه يمكن القول أنّ الالتزام بالعهود التي يقطعها الإنسان مع نفسه يعدّ أحد طرق تهذيب النفس و نيل الفضائل الأخلاقية في حركة التكامل المعنوي للإنسان.

إلتزام المسلمين بالعهود و المواثيق:

إنّ التقدم المذهل للمسلمين في العصور الأولية من تاريخ الإسلام كانت و لا زالت مثار تعجب المؤرخين في الشرق و الغرب، و لكنهم إذا تفكروا في أسباب و عوامل هذا التقدم السريع لأدركوا بسرعة سرّه.

و من البديهى أنّ أحد علل التقدم السريع هو التزام جيش الإسلام بالمواثيق و العهود و هذا هو ما أكد عليه القرآن الكريم و نبي الإسلام صلى الله عليه و آله مراراً، و هذه المسألة على درجة من الأهمية بحيث كان الجيش الإسلامي يضحي من أجلها بالكثير من الإنتصارات السريعة على الكفار.

أنّ القانون المهم (الأمان) الذي يعد أحد التعاليم الإسلامية يؤكد هذا المعنى أيضاً و أنّ كل جندي من جنود الإسلام و في أى رتبة كان يمكنه أن يعطى الأمان لبعض رجال العدو بشكل مؤقت و يجب على جميع المسلمين في الجيش الإسلامي إحترام هذا الأمان و كأنّه عهد مقطوع و لازم الوفاء.

و هناك نماذج كثيرة ذكرها المؤرخون في تاريخ الإسلام تحكي هذا المعنى و منها:

1- ما ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان) عن فتح

مدينة (سهرياج) «1» من القصة

______________________________

(1). يوجد في مركز نواحي بوانات بلاد الفُرس قرية تسمى سوريان، و الظاهر هي نفس سهرياج، لانّه ورد في معجم البلدان في ذيل هذه القصة اسمها الفارسي سوريانج يكون مخففه سوريان.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 231

العجيبة حيث بعث الخليفة في ذلك الزمان الجيش إلى هذه المدينة لفتحها.

يقول فضل بن زيد الرقاشي: حاصرنا سهرياج في أيام عبد اللَّه بن عامر و قد سار إلى فارس افتتحها، و كنّا ضمنا أن نفتحها في يومنا و قاتلنا أهلها ذات يوم فرجعنا إلى معسكرنا و تخلف عبد مملوك منّا فراطنوه، فكتب لهم أماناً و رمى به في سهم فرحنا إلى القتال و قد خرجوا من حصنهم و قالوا: هذا أمانكم فكتبنا بذلك إلى عمر، فكتب إلينا: إنّ العبد المسلم من المسلمين ذمته كذمتكم، فلينفذ أمانه، فأنفذناه «1».

و مصدر هذه القصة هو ما ورد من الحديث النبوي المعروف في حجة الوداع حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للمسلمين كافة: «المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ تَتَكافَأُ دِمائُهُمْ وَ هُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ يَسْعى بِذِمَّتِهِمْ أَدْناهُمْ» «2».

2- و ورد في التواريخ الإسلامية أنّ المسلمين في عصر الخليفة الثاني هزموا الساسانيين و قبضوا على (هرمزان) قائد الجيوش الفارسية و جاءوا به إلى عمر بن الخطاب، فقال له الخليفة: لقد نقضت العهود معنا دائماً فلما ذا إرتكبت هذا العمل؟ فقال الهرمزان:

أخاف أن تقتلني قبل أنّ أقول لك سبب ذلك، فقال له الخليفة: لا تخف.

و في هذه الأثناء طلب الهرمزان الماء فجيى ء له بإناء فيه ماء فقال الهرمزان: لو أعلم بأنني أموت من العطش فأنني لا أشرب من هذا الأناء أبداً.

فقال لهم عمر: إذهبوا و أتوه بماء في إناءٍ يقبل أن

يشرب منه، فجاؤوا له بقدح فيه ماء و ناولوه بيده، فنظر إلى ما حوله و لم يشرب و قال: أنني أخاف أن أقتل و أنا أشرب الماء.

فقال له عمر: لا تخف فأنا أعطيك الإمان من القتل إلى أن تنتهى من شرب الماء.

فما كان من الهرمزان إلّا أن ألقى بالقدح من يده فانسكب الماء على الأرض، فقال عمر و هو يتصور أنّ القدح سقط من يده بدون اختيار: ناولوه قدحاً آخر ليشرب.

فقال الهرمزان: أنا لا أريد الماء بل كان مقصودي أن أحصل منك على الإمان، فقال له

______________________________

(1). معجم البلدان، ج 3 مادة سُهرياج.

(2). اصول الكافي، ج 1، ص 404، ح 2.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 232

الخليفة: و لكني سأقتلك لا محالة.

فقال الهرمزان في جوابه: إنك قد أعطيني الإمان من القتل.

فقال الخليفة: أنت تكذب فأنا لم أعطك الإمان.

و كان (أنس) حاضراً فقال: صدق الهرمزان لقد أعطيته الإمان إلى أن ينتهى من شرب الماء.

فتفكر الخليفة في ذلك و قال للهرمزان: لقد خدعتني و لكني سوف أقبل خدعتك هذه لكي تعتنق الإسلام، فلما رأى الهرمزان هذه الحالة (و هي إلتزام المسلمين بعهودهم و مواثيقهم) شع نور الإيمان في قلبه و أسلم «1».

و الملفت للنظر أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّه حتى شبهة العهود و الأمان يجب الوفاء بها، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: «لَوْ أَنَّ قَوْماً حاصَرُوا مَدينةً فَسَألُوهُمُ الأَمانَ فَقالُوا: لا فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قالُوا: نَعَمْ فَنَزِلُوا إِلَيْهِمْ كانُوا آمِنِينَ» «2».

و بهذا ترى أنّه ليس فقط العهد و الأمان يجب الوفاء به بل إحتمال وجود العهد الوفاء به أحياناً.

______________________________

(1). التفسير الأمثل.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، ص 50، ح 4.

10

البحث المنطقي و الجدال و المراء

تنويه:

إنّ أفضل طريق لتبيين الحقائق و

الوصول إلى الأفكار الصحيحة و النتائج السليمة هو البحث المنطقي الخالي من كل أشكال التعصب و العناد، لأنّ الأفكار عند ما تتلاقح و تضم بعضها إلى البعض الآخر و تتصل القابليات و العقول فسيسطع نور المعرفة ليضي ء كل شي ء.

و لكن إذا كانت أجواء البحث يسودها التعصّب و اللجاجة و الأنانيّة و الخشونة، و بكلمة واحدة المراء، فإنّ ذلك من شأنه أن يغطي على الحقائق الواضحة و يسدل ستار الظلمة على الواقعيات، فمهما استمر البحث و الجدال فإنّ الحجب تزداد على وجه الواقع.

و لهذا السبب فإنّ الإسلام وقف من الجدال و المراء، أو بتعبير آخر: التعصّب بالبحث و إثبات تفوّق الأنا على الطرف المقابل و ليس ذلك لغرض تبين الحق و كشف الحقيقة، موقفاً سلبياً و عدّ ذلك من الذنوب الكبيرة، لأنّ المراء بإمكانه أن يجعل سدّاً كبيراً في طريق فهم الحقيقة و الوصول إلى الواقعيات.

و بالطبع سوف نشير لاحقاً إلى الفرق بين الجدال و المراء باذن اللَّه تعالى، و لكنّ الهدف هنا الإشارة السريعة إلى موقف الإسلام السلبي من هذا الخلق الذميم أي الجدل و المراء، و موقفه الإيجابي و ثنائه على الأشخاص الذين يتحرّكون في بحثهم العلمي و مناقشاتهم

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 234

الفكرية من موقع البحث المنطقي لغرض الكشف عن الحقيقة و توخّي العدالة.

و بهذه الإشارة السريعة نعود إلى القرآن الكريم لنرى موقفه من هاتين الخصلتين:

1- «يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنظُرُونَ» «1».

2- «وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا» «2».

3- «وَ مِن النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ» «3».

4-

«وَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لَا هُدىً وَ لَا كِتَابٍ مُنِيرٍ» «4».

5- «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» «5».

6- «وَ قَالُوا أ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» «6».

7- «وَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» «7».

8- «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَ لَا فُسُوقَ وَ لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» «8».

9- «أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ» «9».

10- «وَ لَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتمارَوْا بِالنُّذُرِ» «10».

______________________________

(1). سورة الانفال، الآية 6.

(2). سورة الكهف، الآية 54.

(3). سورة الحج، الآية 3.

(4). سورة الحج، الآية 8.

(5). سورة غافر، الآية 56.

(6). سورة الزخرف، الآية 58.

(7). سورة الانعام، الآية 121.

(8). سورة البقرة، الآية 197.

(9). سورة الشورى، الآية 18.

(10). سورة القمر، الآية 36.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 235

تفسير و استنتاج:

«الآية الإولى»: من الآيات محل البحث تتعرض لطائفة من المؤمنين الضعيفي الإيمان من موقع الذم و التوبيخ بسبب ترددهم و جبنهم في ميدان القتال و تثاقلهم عن الجهاد في سبيل اللَّه فتقول: «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمُوتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ».

القرائن تشير إلى أنّ جماعة من المسلمين الجدد الذين لم تكن لهم تجربة كافية في الحرب قد تملكهم الخوف و سيطر عليهم الجبن عند ما سمعوا الأمر بالجهاد في سبيل اللَّه، و مع أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال لهم بصراحة: أنا مأمور بأمر من اللَّه تعالى في هذا الطريق، و رغم ذلك فإنّهم يجادلون النبي صلى

الله عليه و آله ليثنوه عن عزمه و يعيدوه إلى المدينة و كأنّما يرون الموت على بعد خطوات منهم، و في الواقع فإنّ ضعف الإيمان و الخوف من الموت و الشهادة في سبيل اللَّه دفعهم إلى التذرع بالحجج الواهية و التبريرات المختلفة لإضعاف عزم النبي صلى الله عليه و آله، القرآن الكريم يذم هذه الحالة و يصرح في الآيات اللاحقة أنّ مشيئة اللَّه قد قررت تقوية الحق و قطع جذور الكافرين (رغم سيطرة الأوهام و التخيلات على هذه الفئة من ضعفاء الإيمان).

و يستفاد جيداً من هذه الآية أنّ أحد أسباب الجدل و المراء و المناقشات غير المنطقية هو ضعف النفس و الخوف من تحديات الواقع و الحالة الإنهزامية لدى الشخص في مواجهة الظروف الصعبة.

و قد ورد في التواريخ الإسلامية المعروفة أنّه عند ما سمع المسلمون بخبر تحرك جيش قريش من مكة لأنقاذ القافلة التجارية المتحركة في الطريق إلى مكة حيث تعرضت لتهديد المسلمين فانّ جماعة من ضعفاء المسلمين أصروا على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يعود إلى مكة لأنّ المسلمين في نظرهم ليست لديهم القدرة الكافية على مواجهة جيش المشركين، و أساساً أنّهم لم يخرجوا طلباً للحرب و القتال.

و يذكر أنّ أبا بكر قام فقال: يا رسول اللَّه، إنّها قريش و خيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، و ما

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 236

ذلّت منذ عزّت، و لم تخرج على هيئة حرب ..

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اجلس، فجلس، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اشيروا عليَّ.

فقام عمر فقال: مثل مقالة أبي بكر.

فأمره النبي صلى الله عليه و آله بالجلوس فجلس.

ثم قام المقداد فقال: يا رسول اللَّه، إنّها

قريش و خيلاؤها، و قد آمنّا بك و صدقناك، و شهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللَّه، و اللَّه لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا (نوع من الشجر الصلب) و شوك الهراس لخضناه معك، و لا نقول لك ما قالت بنو اسرائيل لموسى: إذهب أنت و ربّك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، و لكنا نقول: إذهب أنت و ربّك فقاتلا، و إنّا معكم مقاتلون ... الخ.

فأشرق وجه النبي صلى الله عليه و آله و دعا له و سرّ لذلك «1»

و العجيب أنّ إبن هشام في سيرته و الطبري أوردا قصة الشورى التي شكلها النبي صلى الله عليه و آله قبيل غزوة بدر و لكن عند ما وصلا إلى كلام الخليفة الأول و الثاني قالا بكثير من التلخيص:

«قالَ أَبُو بَكر وَ احْسَنَ، ثُمَّ قامَ عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ وَ قالَ وَ أَحْسَنَ».

و اكتفيا بذلك دون أن يذكرا كلام الأول و الثاني في حين أنّه لو كان الأول و الثاني قد أحسنا في كلامهما لكان المفروض من هذين المؤرخين أن يذكرا مقولتهما، و الحال أنّهما ذكرا كلام المقداد بتمامه، و من هنا يتبين أنّ نقل هذين المؤرخين لا يخلو من تعصب مذهبي بإمكانه تزييف الحقائق التاريخية.

«الآية الثانية»: تتحدث عن جميع الأشخاص الذين يتحركون في حياتهم من موقع العناد و التعصب و عدم النضج الفكري و النفسي و تقول:

«وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذا الْقُرآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْانْسانُ اكْثَرَ شَى ءٍ جَدَلًا».

فلأجل هداية الناس فقد صرفنا و ذكرنا في القرآن الكريم قصص الأوائل و حوادث

______________________________

(1). المغازي للواقدي، ج 1، ص 48؛ قاموس الرجال، ج 9، ص 15.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 237

التاريخ البشري و

حياة الأقوام التي عاشت الظلم و الجور، و لكن الإنسان يعيش حالة الجدل أمام الحق و بذلك يقطع على نفسه طريق الوصول إلى الحقيقة و يوصد أبواب نور المعرفة أمامه و يستفاد جيداً من هذا التعبير أنّ الأشخاص الذين يعيشون الطفولة الفكرية و عدم النضج في شخصيتهم هم أكثر الموجودات جدلًا و مراءً، و على أية حال فانّ هذا التعبير يشير إلى أنّ الإنسان إذا إنحرف عن فطرته السليمة فأنّه يتّجه صوب الجدل و يتحرك في خط المراء و الباطل و يقف أمام الحق بدافع من التعصبات و الأهواء الذاتية و يوصد طريق الهداية أمامه، و هذا يمثل أكبر بلاء على الإنسان في طول التاريخ البشري.

و تستعرض «الآية الثالثة»: تعريفاً واضحاً للمجادلة بالباطل و تبيّن مصير أهل الجدل و المراء و تقول: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ».

و رغم أنّ شأن نزول هذه الآية كما ذكره جماعة من المفسرين أنها نزلت في (النظر بن الحارث) الذي كان من المشركين المعاندين و المتعصبين جداً و كان يتحدث عن القرآن بكلمات واهية و يتصور أنّ الملائكة هم بنات اللَّه، و لكن من الواضح أنّ مفهوم هذه الآية عام و شامل لجميع الأشخاص الذين يناقشون و يجادلون بدافع من التعصب و العناد و من دون علم و معرفة.

و اللطيف أنّ الآية تذكر في آخرها أنّ هؤلاء المجادلين يتحركون في خط الشيطان المتمرد و يتبعونه، و هذا التعبير يشير إلى أنّ الجدال بالباطل هو طريق الشيطان، بل إنّ الشيطان الرجيم ينفذ في كل شخص يسعى لإثبات وجهة نظره من موقع التعصب و العناد فيسيره إلى حيث يريد.

أما وصف الشيطان بأنّه (مريد)

أي المتمرد، فهو يبين هذه الحقيقة، و هي أنّ الذين يتحركون من موقع الجدل و المراء هم في صف واحد مع المتمردين على اللَّه و الحق و يمثلون جبهة واحدة مقابل جبهة الحق.

و المراد من جملة (يجادل في اللَّه) هو الجدال في صفة من صفات اللَّه أو في أصل وجود

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 238

اللَّه أو في قدرته و علمه أو في أفعاله، و على أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تنطلق من موقع الذم الشديد للجدال بالباطل.

قد ورد و هذا المعنى نفسه مع بعض الإضافات كذلك في (الآية الثامنة) من سورة الحج حيث تقول الآية: «وَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لَا هُدىً وَ لَا كِتَابٍ مُنِيرٍ»

و هذه إشارة إلى أنّ البحث و النقاش إذا كان مقترناً مع العلم و المعرفة، أو مع هداية أولياء الدين و الأنبياء الإلهيين، أو يكون مستنداً إلى كتاب من الكتب السماوية فليس لا ضرر فيه فحسب بل يمكنه أن يكون مفتاحاً لحل الكثير من المشاكل و الأزمات الفكرية و العقائدية.

و لكن عند ما لا تكون هذه العناصر الثلاثة الإيجابية على طاولة البحث و النقاش (أي العلم الشخصي، و هداية الأولياء، و الاستناد إلى الكتب السماوية) فانّ الجدال سوف ينزلق في طريق الأهواء و التعصبات و يتحرك الإنسان معه في خط الباطل و الانحراف و بالتالي لا تكون نتيجته سوى الضلال و الشقاء.

و يستفاد من الآية التاسعة من هذه السورة التي وردت بعد هذه الآية محل البحث أنّ أحد دوافع الجدال بالباطل هو التكبر و الغرور و العجب و الذي يتسبب في إضلال الآخرين أيضاً، فمثل هؤلاء الأشخاص يكون مصيرهم إلى الفضيحة في الدنيا و العذاب

الشديد في الآخرة كما تقول الآية: «ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْىٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ».

«الآية الخامسة»: من الآيات محل البحث و ضمن وصفها و تعريفها لمفهوم المجادلة بالباطل تشير إلى أحد الدوافع و الجذور الأصلية لهذه الرذيلة الأخلاقية في واقع الإنسان و تقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ» هؤلاء لا يوجد في قلوبهم سوى التكبر و الغرور حيث يريدون تحقيق نظراتهم من وحي الأهواء و التعصّب و لكنّهم لا يصلون إلى مرادهم و مقصودهم: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ».

كلمة (سلطان) تستعمل في مثل هذه الموارد بمعنى الدليل و الحجّة و البرهان و التي

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 239

وردت في الآية السابقة و تشمل العلم الشخصي، و هداية الأولياء، و إرشاد الكتب السماويّة، و من الملفت للنظر أنّ الآية تقول: أنّ المصدر الأصلي للمجادلة و العناد هو حالة التكبر التي يعيشها هؤلاء الأشخاص حيث يريدون التوصّل إلى غاياتهم و طموحاتهم الدنيوّية من خلال المجادلة بالباطل و لكنّهم بدلًا أن يحققوّا ذلك لأنفسهم في حياتهم فأنّهم سوف يعيشون الذّلة و المهانة.

و بما أنّ هذه الرذيلة الأخلاقيّة هي أحد المصائد الخطرة للشيطان الرجيم فانّ الآية الكريمة تقول في ختامها: «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»

و تنطلق «الآية السادسة»: لتتحدّث عن المشركين الذّين يتحرّكون في شركهم و كفرهم من موقع الأصرار و العناد و يجادلون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في عمليّة تبرير أعمالهم و سلوكيّاتهم الخاطئة و عند ما يقول لهم القرآن الكريم: إنّكم و ما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنّم فأنّهم يجادلون في ذلك و يقولون: «وَ قَالُوا أ

آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ».

ثمّ إنّ القرآن الكريم يضيف إلى ذلك أنّ هؤلاء يدركون الحقيقة جيّداً و لكنّهم يتكلّمون معك من موقع الجدل و الخصام و العناد: «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ».

ثمّ يبيّن القرآن الكريم الفرق بين المسيح و الأصنام فيقول بالنسبة إلى المسيح: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ» «1».

و هو إشارة إلى أنّ المسيح هو عبدٌ من عبيد اللَّه لا يقبل أن يعبده النصارى أبداً، و لو أنّ بعض الناس إنحرف عن جادّة الصواب و تصوّر أنّ المسيح أحد الأقانيم الثلاثة في مقام الالوهيّة فلا ذنب على المسيح نفسه و لا ينبغي أن يكون من أهل النار، و عليه فانّ هذا المثل لا يقبل المقارنة مع الأصنام أو الأشخاص من أمثال فرعون و جملة: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» تشير إلى أنّ أحد مصادر و دوافع الجدال بالباطل هو حالة الخصومة و العداوة التي يعيشها الإنسان الجاهل و غير المنطقي، و الغالب أنّه يعلم أنّه يسير في خط الباطل

______________________________

(1). سورة الزخرف، الآية 59.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 240

و لكنّ الحقد و العداوة لا يسمحان له بالتسليم في مقابل الحق و الإذعان للحقيقة.

«الآية السابعة»: و بعد الإشارة إلى حرمة الميتة و الأنعام التي ذبحت للاصنام أو ما ذبح بدون أن يذكر إسم اللَّه عليه فتقول «وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ» «1».

ثمّ تشير إلى أنّ الشياطين يوحون إلى أتباعهم بمفاهيم خاطئة لتبرير أفعالهم و تقول:

«وَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ».

المجادلة بالباطل هنا كما يذكر جماعة من المفسّرين الكبار أمثال الطبرسي و أبو الفتوح الرازي و سيد قطب هو أنّهم كانوا يقولون أننا إذا أكلنا من لحوم الميتة، فإنّ

ذلك بسبب أنّ اللَّه تعالى قد قتلها و بالتالي فهي أفضل من لحوم الحيوانات التي نقتلها بأيدينا، و في الحقيقة فانّهم أهملوا تحريم الميتة الوارد في الشريعة الإلهية من هذا الموقع الزائف.

و هذا التبرير السخيف و الباطل لأكل الميتة هو ما أوحى به شياطين الإنس و الجن لأوليائهم و أتباعهم ليعينوهم على مجادلة كلام الحق بمثل هذه التبريرات الزائفة و يقارنوا بين اللّحوم الملّوثة و الميتة مع اللّحوم الطاهرة التي ذبحت على اسم اللَّه تعالى و يفضّلون الاولى على الثانية.

و يستفاد من هذه العبارة أنّ مثل هذه المجادلة بالباطل تنطلق من دوافع شيطانية.

و يستفاد من بعض الروايات أنّ هذه التبريرات الواهية قد كتبها بعض المجوس في كتاب و أرسلها إلى المشركين من قريش.

«الآية الثامنة»: تتحدّث عن الجدال في حالة الاحرام للحج و تقول: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَ لَا فُسُوقَ وَ لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ».

و نعلم أنّ حالة الاحرام هي حالة معنويّة و روحانية سامية تصعد بالإنسان إلى حيث القرب الإلهي و أن يعيش أجواء الملكوت، و لهذا السبب فإنّ الكثير من الأعمال المباحة

______________________________

(1). سورة الأنعام، الآية 121.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 241

تصبح ممنوعة في حالة الاحرام هذه، بل إنّ بعض الامور المحرّمة تتضاعف حرمتها في هذه الحالة المقدّسة.

و المعروف حرمة 25 عمل أثناء الإحرام و أحدها هو الجدال، و رغم أنّ المشهور بين الفقهاء هو أنّ المراد من الجدال هنا هو قول (بلى و اللَّه) أو قول (لا و اللَّه) فالأول لإثبات المطلب و الثاني لنفي المطلب، و المراد من الفسوق الكذب و التهمة و السب و الشتم و إظهار التفوق على الآخرين في حال الإحرام، و لكن لا

يبعد أن تكون كلمة (جدال) شاملة لكل أنواع المجادلة و المخاصمة الكلامية، و على أية حال فإنّ المنع من الجدال في حال الإحرام يشير إلى أنّ هذا العمل يتقاطع بشدّة مع هذه العبادة الروحانية المهمّة و تبعد الإنسان عن اللَّه تعالى.

و تتابع الآية بالقول في جملة خبريّة بأنّه (لا جدال في الحج) ممّا يبيّن تأكيداً أكثر على هذا الموضوع و كأنّها تقول: (إنّ هذا العمل يتنافى مع روح الحج).

«الآية التاسعة»: تتحدّث عن (المراء) و هو كلام يشبه الجدال و تقول: «أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ».

و بديهي إنّ الهداية تتفرع في واقعها على أن يكون الإنسان طالباً للحق بحيث يقبله من أي مكان و يتقبّله برحابة صدر دون أن يجد في نفسه تعصّباً و تكبراً عليه، و كلّما عاش الإنسان حالة الكبر و الغرور و التعصّب فإنّ ذلك من شأنه أن يكون مانعاً جدياً من التسليم أمام الحق و أن ينزلق الإنسان في وادي الضلالة و الانحراف الشديد.

أمّا الفرق بين الجدال و المراء و كذلك النقاط المشتركة بينهما فسيأتي لاحقاً.

«الآية العاشرة»: و الأخيرة من الآيات مورد البحث تتحدّث عن عناد قوم لوط و أنّ نبيّهم الكريم حذّرهم من عذاب اللَّه و أنّ هذا العذاب ينتظرهم بالتأكيد إذا استمروا على غيّهم و عصيانهم، فلم يقبلوا كلامه و قاموا بوجهه من موقع المجادلة و المراء، تقول الآية: «وَ لَقَدْ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 242

أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتمارَوْا بِالنُّذُرِ».

و كان هذا هو السبب في أن يبقى قوم النبي لوط عليه السلام في حجاب الغفلة و الجهل إلى أن صدر أمر اللَّه تعالى بعذابهم فأصاب الزلزال الشديد مدنهم و أمطرت عليهم السماء حجارة فلم يبق من بيوتهم

و أجسامهم إلّا الدمار و الخراب، أجل فإنّ هذه هي نتيجة الجدال و المراء في مقابل الحق.

هذه الآيات الشريفة توضح جيداً أخطار هاتين الرذيلتين الأخلاقيتين و تبيّن كيف أنّ الإنسان و بسبب الجدال و المراء يتأخر عن قافلة الهداية و الرشاد و يكون من أتباع الشيطان و يلبس ثياب ولايته و يتحرّك في الضلال البعيد و يقع بالتالي في دوامة العذاب الإلهي الخالد.

الفرق ين الجدال و المراء و الخصومة:

إنّ كلمة (جدل) و (جدال) كما يقول الراغب في مفرداته (جدلت الحبل) أي شددته و الجدل شدّة الفتل، و كأنّ المجادل يريد من خلال كلامه الجاد مع الخصم أن يبعده بالقوة من أفكاره و عقائده.

و ذكر البعض أنّ (الجدال) في الأصل بمعنى المصارعة و السعي للتغلب على الآخر و طرحه على الأرض، و بما أنّ الشجار اللفظي و الكلامي يشبه هذا المعنى إلى حدٍ كبير استخدمت هذه الكلمة في هذا المعنى.

و بالطبع فإنّ الجدال على قسمين: الجدال بالحق و الجدال بالباطل، و الأول ممدوح و الثاني مذموم، و من ذلك نجد أنّ القرآن الكريم يقول في مورد: «وَ جادِلهُم بِالّتِي هِي أَحسَن» «1».

و هنا نجد أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مأمور بجدالهم بالحق و ورد ذلك إلى جانب الحكمة و الموعظة الحسنة.

______________________________

(1). سورة النحل، الآية 125.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 243

أمّا الجدال بالباطل فهو ما ورد في الآيات المذكورة آنفاً من أنّ بعض الأشخاص يتحرّكون في كلامهم و نقاشهم من موقع التعصب و العناد، و بذلك ينكرون أوضح دلائل الحق من خلال هذا الجدال، و أمّا (المراء) على وزن حجاب، فهو بمعنى المحادثة و المكالمة في شي ء يكون فيه مرية أي شك و ترديد، و يقول الراغب في مفرداته:

إنّها في الأصل من (مريت الناقة) أي حلبتها، ثم قيلت لكل كلام يكون في موضوعه الشك و الترديد (و لعل ذلك يتناسب مع كون الإنسان متردداً في وجود اللّبن في ضرع الناقة أو لا) و ذهب بعض إلى تعبير أدق من ذلك حيث يرى أنّ الجذر الأصلي لهذه الكلمة في قولهم (مريت الناقة) هو فيما لو حلبت الناقة قبل ذلك ثم جاء أحدهم بأمل أن يكون من اللبن بقية في الضرع فيحلبها مع هذا الشك و الترديد، و هكذا أطلقت على المناقشة الكلامية في البحوث المقترنة مع الشك.

و لكن هذه المفردة استخدمت بعد ذلك في كل نوع من البحث الكلامي و عن أي موضوع كان محل شك و ترديد سواءاً كان بحثاً إيجابّياً و طلباً للحق، أو كان بدافع من العناد و الخصومة و اللجاجة.

و من الموارد التي استخدم فيها المراء بالمعنى الإيجابي ما ورد في الآية الشريفة 22 من سورة الكهف حيث تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حول مجادلته عن أصحاب الكهف مع مخالفية و تقول: «فَلا تُمارِ فيهِمْ الَّا مِراءًظاهِراً» «1».

أمّا الموارد المستعملة في المعنى السلبي فكثيرة و منها ما تقدم من الآيات أعلاه.

و الجدير بالذكر أنّ مفردة (مرية) على وزن جزية و قرية، بمعنى الترديد في العزم و التصميم، و بعض ذهب إلى أنّها بمعنى الشك المقترن بقرائن التهمة مثل (الريبة).

الجدال و المراء في الروايات الإسلامية:

نظراً إلى أنّ الجدال بالباطل يتسبب في إخفاء الحق و زيادة عناصر التعصب و الخشونة

______________________________

(1). سورة الكهف، الآية 22.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 244

و ما يترتب على ذلك من المفاسد و الاضرار الكثيرة، نرى أنّ الروايات الإسلامية قد نهت عن الجدال و المراء بشدّة خاصّة إذا كان بالنسبة

إلى الامور الدينيّة و من ذلك:

1- ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما ضَلَّ قَومٌ بَعدَ أَنْ هَداهُمُ اللَّهُ إلّا اوتُوا الجَدَلَ» «1».

2- و هذا المضمون ورد أيضاً في حديث آخر مع تفاوتٍ يسير عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً حيث قال: «ما ضَلَّ قَومٌ إلّا أَوثَقُوا بالجَدَلَ» «2».

3- و قد ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي دِينِهِ اولئِكَ مَلعُونُونَ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ» «3».

4- و في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «الجَدَلُ فِي الدِّينِ يُفسِدُ اليَقِينَ» «4».

5- في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِيّاكُم وَ الخُصُومَةَ فِي الدِّينِ فَإنَّها تُشغِلُ القَلبَ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ تُورثُ النِّفاقِ، وَ تَكسِبُ الضَّغائِنَ، وَ تَستَجِيرُ بالكِذبَ» «5».

و التعبير بالخصومة في الدين رغم أنّها لا تنطوي تحت عنوان الجدال و لكنّها من الموارد الشبيهة بهذا المعنى.

6- و نظير هذا المعنى ما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «إِيَّاكَ وَ الخُصُومَةَ فَإنَّها تُورثُ الشَّكَّ وَ تَحبِطُ العَمَلَ وَ تُردِي بِصاحِبِها» «6».

7- و من نصائح لقمان الحكيم لابنه في ترك الجدال: «يا بُنَيَّ لا تُجَادل العُلَماءَ فَيَمقُتُوكَ» «7».

8- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالجَدَلِ تَزَندَقَ» «8».

______________________________

(1). احياء العلوم، ج 3، ص 1553.

(2). بحار الانوار، ج 2، ص 138، ح 52.

(3). المصدر السابق، ص 129، ح 13.

(4). غرر الحكم.

(5). بحار الانوار، ج 2، ص 128، ح 6.

(6). المصدر السابق، ص 134، ح 30.

(7). مجموعة الورام، ج 1، ص 117، (باب

ما جاء في المراء و المزاح).

(8). المحجة البيضاء، ج 1، ص 107.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 245

9- قال الإمام على بن موسى الرضا عليه السلام لأحد أصحابه: «أَبلِغْ عَنِّي أَولِيائِي السَّلامَ وَ قُلْ لَهُم أَنْ لا يَجعَلُوا لِلشِّيطانِ عَلى أَنفُسِهِم سَبِيلًا وَ مُرهُم بِالصِّدقِ فِي الحَدِيثِ وَ أَداءِ الأَمانَةِ وَ مُرهُم بِالسُّكُوتِ وَ تَركِ الجِدالِ فِيما لا يَعنِيهم» «1».

10- نختم هذا البحث بحديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن نسبة الإيمان و المراء و الجدال، حيث يقول: «لا يَستَكمِلُ عَبدٌ حَقِيقَةَ الإِيمانِ حتَّى يَدَعَ المِراءَ وَ الجَدَلَ و إِن كانَ مُحِقّاً» «2».

أمّا المراء الذي سبق و أن قلنا بالفرق بينه و بين الجدال فحاصل الكلام هو أنّ الجدال يعني كل شكل من أشكال الشجار اللفظي و النزاع الكلامي، في حين أنّ المراء يأتي بمعنى المباحثة في شي ء يكون فيه شك و ترديد، فتارة تكون هذه المباحثة بدافع من طلب الحق و توضيح المطلب، و اخرى تكون بدافع من التعصّب و اللّجاجة و إظهار التفوّق و الفضل على الطرف الآخر، و هذه الحالة مذمومة جداً، و في الروايات الإسلامية ينصب الذم على هذا النوع من المباحثة اللفظية، رغم عدم وجود تفاوت كبير بينه و بين الجدال.

1- ورد في الحديث الشريف معنى المراء بما تقدم أعلاه، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «لا يَستَكمِلُ عَبدٌ حَقِيقَةَ الإِيمانِ حتَّى يَدَعَ المِراءَ وَ الجَدَلَ و إِن كانَ مُحِقّاً» «3».

و هذا إشارة إلى أنّ المناقشة و المنازعة اللفظية من موقع اللجاجة و بدافع من إظهار التفوّق و الفخر على الآخر حتّى في المسائل الحقّة تكون سبباً في سقوط الإنسان على المستوى الأخلاقي و

العقائدي.

2- و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً بواسطة عدّة أشخاص من الصحابة الذين قالوا: دخل رسول اللَّه يوماً علينا و نحن نتمارى في شي ء من أمر الدين فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله ثم قال: «إِنّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبلَكُم بِهذا، ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ المُؤمِنَ لإ

______________________________

(1) ميران الحكمة، ج 1، ص 273.

(2) المحجة البيضاء، ج 5، ص 208.

(3) بحار الانوار، ج 2، ص 139، ح 53. الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 246

يُمارِي، ذَرُوا المِراءَ فَإنَّ المِماري قَدْ تَمَّتْ خَسارَتُهُ، ذَرُوا المِراءَ فَانا المِماري لا أَشفَعُ لَهُ يَومَ القِيامَةِ، ذَرُوا المِراءَ فَانا زَعِيمٌ بِثَلاثَةِ أَبياتٍ فِي الجَنَّةِ فِي رِياضِها وَ أَوسَطِها وَ أَعلاها لِمَنْ تَرَكَ المِراءِ وَ هُوَ صادِقٌ، ذَرُوا المِراءَ فَإنَّ أَوَّلَ ما نَهانِي عَنهُ رَبِّي بَعدَ عِبَادَةِ الأَوثانِ المِراءُ» «1».

3- و في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ذَرُوا المِراءَ فَإنّه لا تَفهَمُ حِكمَتُهُ وَ لا تُؤمَنُ فِتنَتَهُ» «2».

و هو إشارة إلى أنّ الشخص المماري يرى أنّه لم يعرف نفسه و لا الآخرين، و مثل هذا الشخص يعيش أجواء الحرمان من إدراك الحقائق الدينية قطعاً.

5- و جاء في حديث آخر أنّ رجلًا قال للإمام الحسين عليه السلام اجلس اناظرك في الدين، فأجابه الإمام: «يا هذا أَنَا بَصِيرٌ بِدِينِي مَكشُوفٌ عَلَيَّ هُداي فَإن كُنتَ جاهِلًا بِدِينِكَ فَاذهَبْ وَ اطلُبهُ، مالِي وَ للمُماراةِ و إِنَّ الشَّيطانَ لِيُوسوِسُ لِلرَّجُلِ وَ يُناجِيهِ وَ يَقُولُ ناظِرِ النَّاسَ فِي الدِّينِ كَي لا يَظُنُّوا بِكَ العَجزَ وَ الجَهلَ» «3».

6- و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَربَعٌ يُمِتْنَ القُلُوبَ الذِّنبُ عَلى

الذَّنبِ وَ كَثرَةُ مُناقشَةِ النِّساءِ يَعنِي مُحادَتَهُنَّ وَمُماراةُ الأَحمَقِ تَقُولُ وَ يَقُولُ وَ لا يَرجَعُ إِلى خَيرٍ وَ مُجالَسَةُ المَوتى فَقِيلَ: يا رَسُولُ اللَّهِ وَ ما المَوتى قَالَ: كُلُّ غَنِيٍ مُترَفٌ» «4».

7- جاء عن أمير المؤمنين قوله: «إِيّاكُم وَ المِراءِ وَ الخُصُومَةَ فَإِنَّهُما يَمرُضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ وَ ينبِتُ عَلَيهِما النِّفاقِ» «5».

______________________________

(1) بحار الانوار، ج 2، ص 139، ح 50.

(2) المصدر السابق، ص 134، ح 31.

(3) المصدر السابق، ح 32.

(4). المصدر السابق، ص 128، ح 10.

(5). المصدر السايق، ص 139، ح 56.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 247

8- و لهذا فقد ورد في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال في خطاب له أمام حشدٍ من المسلمين: «أَورَعُ النّاسِ مَنْ تَرَكَ المِراءَ وَ إِنْ كانَ مُحِقاً» «1».

9- و في رواية عن الإمام أمير المؤمنين صلى الله عليه و آله أنّه قال: «جِماعُ الشَّرِّ اللِّجاجُ وَ كَثرَةُ المِمارَاةِ» «2».

10- و نختم هذا البحث بحديث آخر عن سلمان الفارسي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«لا يُؤمِنُ رَجُلُ حَتّى يُحِبُّ أَهلِ بَيتِي وَ حَتّى يَدَعَ المِراءَ وَ هُوَ مُحِقٌّ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطابِ:

ما عَلامَةُ حُبِّ أَهلِ بَيتِكَ؟ قالَ: هذا، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى عَليِّ بنِ أَبِي طالِبٍ عليه السلام» «3».

و لا شك أنّ هذين الموضوعين يرتبطان ببعضهما برابطة وثيقة حيث ذكرهما النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في كلامه مقترنين، و لعل هذه الرابطة من جهة أنّ دلائل فضل الإمام علي و أهل بيته عليهم السلام إلى درجة من الوضوح و البداهة بحيث يقبلها كل إنسان يتحرّك من موقع الإنصاف و يبتعد عن الجدال و المراء و الخصومة و يهدف

إلى طلب الحقيقة.

*** إنّ الروايات الشريفة في ذمّ المراء كثيرة جدّاً، و ما ذكر من الروايات العشر أعلاه إنّما هي نماذج و عيّنات من هذا الباب و النظر الدقيق في هذه الأحاديث و الروايات يكفي لكي يحيط الإنسان بأخطار هذا الخلق الذميم و عواقبه الوخيمة و آثاره المخرّبة على المستوى الفردي و الاجتماعي.

الآثار السلبية للجدال و المراء:

إنّ التأكيدات الكثيرة الواردة في الآيات القرآنية و الروايات المتواترة الإسلامية في ذم الجدال و المراء و الخصومة في المباحثات الكلامية إنّما هي من أجل أنّ أول نتائج هذا العمل المضرّة و هذا الخلق السي ء هو التستّر و التغطية على الحقائق بحيث يجعل بين الإنسان و بين الحقيقة حجاباً سميكاً و سحابة سوداء على بصيرة الإنسان بحيث لا يدرك معها أوضح البديهيّات و يتحرّك في مناقشاته من موقع إنكار الامور الضرورية أو يدافع عن

______________________________

(1). المصدر السابق، ص 127، ح 3.

(2). غرر الحكم.

(3). سفينة البحار، مادة «مَرَء» بحار الانوار، ج 27، ص 107، ح 79.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 248

بعض المواضيع التي تدعو للسخريّة، و ليس هذا إلّا بسبب أنّ الإنسان عند ما تتصاعد عنده روح الجدال و تشتد حرارة الكلام فيه فأنّه يقوم بإنكار كل ما لا يراه مصيباً في نفسه و لا يتوافق مع كلامه.

و بما مرّ علينا من الروايات الشريفة تقرّر أنّ الخصومة و الجدال و المراء تمرض القلب فإنّه من الممكن أن تكون إشارة إلى هذا المعنى، لأنّ القلب يأتي بمعنى العقل، و مرض القلب بمعنى عدم درك الحقائق و الواقعيات، و لذا رأينا في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ الأشخاص الذين يعيشون الجدال و المراء تكون عاقبتهم و مصيرهم إلى الكفر، أو أنّ الجدال

يسبب الشك في دين اللَّه و فساد اليقين، كل هذا إشارات لطيفة إلى ما تقدّم آنفاً من أضرار الجدال و المراء.

و الآخر من الآثار السلبية لهذه الصفة الأخلاقية الذميمة هو إيجاد العداوة و البغضاء بين الأصدقاء و نسيان ذكر اللَّه تعالى و جرّ الإنسان إلى الكثير من أنواع الكذب في الكلام حيث مرّت الإشارة إلى ذلك في الأحاديث الشريفة السابقة، و السبب في ذلك واضح، لأنّ الشخص الذي يريد إثبات تفوّقه على أقرانه من خلال الجدال و المراء فإنّه يعمل على تحريك الطرف الآخر ضدّه ليحمى وطيس النقاش و غالباً ما نجد في كلامه عناصر التحقير و السخرية بالطرف الآخر، و هذه من أسوأ أسباب النفاق و إيجاد العداوة بين الأشخاص و حتّى أنّه أحياناً و من أجل تبرير كلامه يتوسّل بأنواع الكذب، و هذا بحد ذاته بلاء كبير آخر، و مجموع هذه الامور تؤدّي بالإنسان إلى الابتعاد عن اللَّه تعالى و يسقط في فخاخ الشيطان و شراكه و بالتالي يكون مصيره إلى الهلاك المعنوي و السقوط الإنساني.

و لهذا قرأنا في الأحاديث السابقة أنّ الإنسان لا يصل إلى حقيقة الإيمان إلّا إذا ترك المراء و الجدال حتى لو كان محقّاً، لأنّ النزاع اللفظي حتى في مسائل الحق و الدين يتسبب في إيجاد أنواع الخصومات و العدوان و أحياناً يجر الإنسان إلى ارتكابه الكثير من الذنوب من قبيل: تحقير المؤمن و إهانته بالكلام أو بالإشارة باليد و العين و الكذب و التكبّر و حبّ التفوّق و أمثال ذلك.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 249

مضافاً إلى هذا أنّ الجدال و المراء يذهب وقار الإنسان و يكسر من شخصيته و مروءته بحيث ينفتح عليه لسان الجهلاء إذا اشترك في

مجادلة معهم و يتسبب في هتك حرمته و الإهانة له، و إذا جادل العلماء فإنّه يذوق مرارة الهزيمة و يفتضح أمره و يكشف عن جهله و حقارته.

و من مجموع ما مرّ و كما قرأنا في الروايات السابقة أنّ الجدال و المراء يعدّ أحد الامور الأربعة التي تؤدّي إلى مرض قلب الإنسان و روحه.

فما أحسن بالإنسان أن يتباحث مع الآخرين من موقع المحبّة و الصداقة و التواضع و بدافع من طلب الحق و الحقيقة حيث يؤدّي ذلك إلى زيادة علمه و معرفته و الاستفادة من علوم الآخرين لإيضاح الحقيقة أكثر وحل المشاكل العلميّة العويصة و القيود المعرفيّة التي بأمكانها أن توصل الإنسان إلى أجواء المعرفة و الاطّلاع على المجهول، و هذا هو الجدال بالحق.

دوافع الجدال و المراء:

و نظراً إلى وجود علاقة وثيقة بين الصفات الرذيلة في واقع الإنسان حيث ترتبط غالباً فيما بينها بعلاقة العلّة و المعلول، يتّضح من ذلك أنّ هذه الصفة الذميمة، أي الجدال و المراء و الخصومة من موقع الجهالة، تنشأ من صفات قبيحة اخرى:

1- إنّ من العوامل المهمّة للجدال و المراء هو حالة الكبر و الغرور في النفس و التي لا تسمح للإنسان أن يذعن أمام الحق، بل تدفعه لغرض حفظ التفوّق على الطرف الآخر إلى سلوك طريق الجدال و المراء و إنكار ما يتّضح له أنّه الحق، و لذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه الكرام عليهم السلام: «إِنّ مِنَ التَّواضُعِ أَنْ يَرضى الرَّجُلُ بِالمَجلِسِ دُونَ المَجلِسِ وَ أَن يُسَلِّمَ عِلى مَنْ يَلقى وَ أَن يَترُكَ المِراءَ وَ إِنْ كانَ مُحِقَّاً وَ لا يُحِبَّ أَنْ يُحمَدَ عَلَى التَّقوى «1».

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 2، ص 131، ح 20.

الاخلاق فى

القرآن، ج 3، ص: 250

الاخلاق فى القرآن ج 3 299

2- و أحد الدوافع الاخرى للجدال و المراء و النزاعات اللّفظية هو الظهور بمظهر العالم المتفوّق و إظهار الفضل على الآخرين، و هذه الحالة متداولة كثيراً في أجواءنا الاجتماعية و خاصّة في المجلس الذي يحضره جماعة من العوام و يريد هذا الشخص أن يظهر نفسه و فضيلته أمامهم أو يريد أن يفتح له مكاناً بين أرباب العلم و المعرفة، و جاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه سابقاً عن الإمام الحسين عليه السلام قوله: «و إِنَّ الشَّيطانَ لِيُوسوِسُ لِلرَّجُلِ وَ يُناجِيهِ وَ يَقُولُ ناظِرِ النَّاسَ فِي الدِّينِ كَي لا يَظُنُّوا بِكَ العَجزَ وَ الجَهلَ» «1».

و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقسّم طلّاب العلم إِلى ثلاثة أقسام، و طائفة منهم طلبوا العلم للجدال و المراء، و طائفة اخرى للفخر على الناس، و ثالثة لغرض فهم الحقيقة و التعلّم و العمل بذلك، ثمّ يصف الإمام حال الطائفة الاولى و يقول: «فَصاحِبُ الجَهلِ و المِراءِ مُوذٍ مُمارٍ مُتَعَرِّضٍ لِلمَقالِ فِي أَندِيةِ الرِّجالِ».

و في ذيل هذا الحديث الشريف يلعن الإمام مثل هذا الشخص و يقول: «فَدَقَّ اللَّهُ مِنْ هذا خَيشُومَهُ» «2».

3- و من الدوافع الاخرى للجدال و المراء و التعصّب الكلامي هو الجهل بمقام الذات و مقام الآخرين، لأنّه يرى نفسه أكبر و أعلم من واقعه و يرى الآخرين يعيشون الجهل و عدم العلم، و لذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام و الذي ذكرناه فيما سبق بعد أن يعدّ الإمام المراء بأنّه أحد الأمراض الخطرة لقلب الإنسان و أنّه من الأخلاق الشيطانية يقول: «فَلا يُمارِي فِي أَيِّ حالٍ إلّا مَنْ كانَ جاهِلًا بِنَفسِهِ

وَ بِغَيرِهِ» «3».

4 و 5- حبّ الانتقام و الحسد يعتبران من العوامل المهمّة الاخرى التي تدفع بالإنسان إلى الجدال و المراء، فلغرض تسقيط شخصية الطرف المقابل و الانتقام منه و إشباع حالة الحسد في نفسه أو تضعيف مكانة الطرف الآخر أمام الانظار فإنّه يستخدم أداة الجدل

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 2، ص 135، ح 32.

(2). مقدمة كتاب معالم الاصول، ص 11.

(3). بحار الانوار، ج 2، ص 134، ح 31.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 251

و البحث العلمي المقترن مع الأهانة و التحقير ليستطيع بهذه الوسيلة أن يروي ظمأه إلى الانتقام من الطرف الآخر و يصب الماء على نار الحقد و الحسد المستعرة في قلبه.

6- و من العوامل المهمّة الاخرى التعصّب و اللّجاجة، لأنّ الشخص المتعصّب و اللّجوج غير مستعد أن يقبل التنازل عن عقائده الفاسدة بسهولة، و لذلك يجد في نفسه تعصّباً للتوقف عليها و حفظها و الدفاع عنها بالمجادلة و البحث الكلامي و يتشبّث بكل وسيلة لإثبات صحّة كلامه و بطلان كلام الطرف الآخر، و هذا هو ما نجده في سلوك الكثير من الكفّار و المشركين أمام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سائر الأنبياء الكرام عليهم السلام حيث تقدّم مثال واضح لذلك من مباحثة عبدة الأوثان و نمرود مع النبي ابراهيم عليه السلام، و ذلك عند ما وجدوا أنفسهم أمام الكلام المنطقي و الرصين لأبراهيم عليه السلام فوقعوا في حيرة من الأمر و انتبهوا مؤقتاً من نوم الغفلة و لكن حالة التعصّب و اللّجاجة أسدلت على عقولهم و قلوبهم سحابة ظلمانية منعتهم من قبول الحقيقة و الإذعان و انطلقوا مرّة اخرى في تأكيد معتقداتهم السخيفة من موقع الدفاع عنها بالأدلة الواهية و

الجدال الأجوف.

7- و من العوامل المهمّة للجدال و المراء أيضاً (حبّ الدنيا) الذي يعدّ عاملًا أساسياً لجميع الذنوب أو أكثرها، فالأشخاص الذين يعيشون هذه الصفة الرذيلة يريدون كسب المقام و الوجاهة الاجتماعية من خلال سلوك هذا الطريق لإثبات أعلميّتهم و ذكائهم و بذلك يتمكّنوا من نيل أهدافهم الدنيوية و تحصيل بعض المقامات الوهميّة و العناوين الزائفة.

و خلاصة الكلام هي أنّ العوامل السلبية الكثيرة تتفق مع بعضها لدفع الإنسان إلى الخوض في الجدال و المراء بعيداً عن الأدب و الخلق الإنساني و الإنصاف و تجرّه إلى الدخول في دائرة اللّجاجة و العناد أمام الحق و الدفاع عن الباطل.

أقسام المراء و الجدال:

يمكن تقسيم الجدال و المراء إلى قسمين:

الجدال و المراء على المستوى الإيجابي، أي أن يتباحث مع الآخرين على مستوى البحوث المنطقية لغرض تبييّن الحقائق و توضيح ما أشكل من المسائل الغامضة و الاطّلاع

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 252

على نظرات الآخرين و الوصول إلى الواقعيات من هذا الطريق.

أمّا المراء و الجدال على المستوى السلبي فيعني المباحثات و النزاعات الكلامية التي تنطلق بوحي من عقدة الخصومة و التي لا تهدف إلى غرض معيّن و صحيح و لا تسير في خط تبيين الحقائق، بل الهدف منها هو تكريس الخصومة و التعصّب و اللّجاجة و إثبات التفوّق و إظهار الفضل على الآخرين.

و هذا التقسيم نجده منعكساً في آيات القرآن الكريم حيث يقول في الآية 48 من سورة العنكبوت: «وَ لَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

و يقول في مكان آخر في الآية 125 من سورة النحل: «وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

و يقول في مكان آخر في مقام الذم لجماعة من الكافرين: «يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ».

و أمّا في مورد

المراء الإيجابي فنقرأ في (قصة أصحاب الكهف) و عددهم قوله تعالى:

«فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً» «1».

أي بالنسبة إلى عدد أصحاب الكهف فلا ينبغي أن تتباحث حولهم إلّا بالكلام المنطقي المقترن بالدليل.

و أمّا في مورد المراء السلبي فيقول تعالى: «أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ» «2».

و هناك تقسيمات اخرى أيضاً على حسب الأشخاص في طرفي المباحثة و كذلك بالنسبة إلى المواضيع و المسائل التي تدور في أجواء البحث و الجدال.

و من ذلك أن يكون طرف المناظرة إنساناً عاقلًا و فاهماً لكي تكون المباحثة معه مثمرة من خلال الاستدلال المنطقي و العلمي كما ورد في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «دَعْ المُمارَاةَ وَ مُجارَاتَ مَنْ لا عَقلَ لَهُ وَ لا عِلمَ» «3».

______________________________

(1). سورة الشورى، الآية 22.

(2). سورة الكهف، الآية 18.

(3). بحار الانوار، ج 2، ص 129، ح 14.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 253

و يجب أن يكون المناظر إنساناً مطّلعاً على الامور، لأنّ الأشخاص الذين يعيشون الجهل بالامور إذا أرادوا الدفاع عن الحق و الورود في ميدان المجادلة، فإنّهم و بسبب ضعف معلوماتهم و قلّة إطّلاعهم سوف يذوقون الهزيمة و يغلبوا في هذه المبارزة، و بالتالي ينعكس ذلك سلبياً على الحق و الحقيقة.

و لذلك نقرأ في الحديث الشريف أنّ محمد بن عبد اللَّه المعروف بالطيّار جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام و قال له: «بَلَغَنِي أَنَّكَ كَرِهتَ مُناظَرَةَ النّاسِ»،

قال الإمام عليه السلام: «أَمّا كَلامُ مِثلِكَ فَلا يَكرَهُ، مَنْ إِذا طارَ يَحسُنُ أَنْ يَقَعَ و إِنْ وَقَعَ يَحسُنُ أَنْ يَطِيرَ، فَمَنْ كانَ هكَذا لا نَكرَهُهُ» «1».

أمّا لقب الطيّار الذي يطلق على هذا الصحابي المعروف للإمام الصادق عليه السلام، فهو إشارة إلى هذا المعنى أيضاً،

لأنّه كان قوياً جدّاً في مجال المباحثة و الجدل و كان يتحرّك في دفاعه عن الحق بكل قدرة و مهارة.

و هنا ينبغي على جميع الأشخاص الذين ليس لديهم إطّلاع كافٍ حول مسائل الدين و معارفه العميقة و لا يجدون في أنفسهم القدرة على الدفاع عنه أن لا يدخلوا في مناظرة و مباحثة مع المخالفين، لأنّهم سوف ينهزمون في هذه المباحثة، و هزيمتهم توجب وهن مباني المذهب الحق في نظر الآخرين.

و من هنا فإنّ الافراط و التفريط غالباً موجود في سلوكيات هؤلاء الأفراد الجهلاء، فهناك الأشخاص الذين يسلكون طريق الافراط عن جهل و يقولون: بما أنّ الجدال و المراء مذموم في الإسلام و محرّم بشدّة، فنحن لا ندخل في أي بحث علمي و كلامي مع أي شخص من الأشخاص حتّى لو كان البحث مستدلًا و يقوم على قواعد منطقية من الأدلة و البراهين في طريق إثبات الحق و الدفاع عنه، و يختارون السكوت بدل البحث أو الاستدلال، و يسمّون ذلك من باب القيل و القال.

و هذا أيضاً انحراف كبير عن جادّة الصواب، لأنّ تبيّن الحقائق لا يتسنى إلّا في ظلّ

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 2، ص 136، ح 39.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 254

البراهين المنطقية و الدلائل المتينة، و إيصاد هذا الطريق على الناس يعني حرمانهم أو حرمان طائفة كبيرة منهم من الوصول إلى الحقائق و تحصيل الواقعيّات.

و نختم هذا الكلام بحديث جميل عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن جدّه الإمام الصادق عليه السلام حيث وقعت في محضره مجادلة كلامية في أمر الدين و أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا قد نهوا عن ذلك، فقال الإمام الصادق

عليه السلام: «لَمْ يَنهْهُ عَنْهُ مُطلَقاً لَكِنَّهُ نَهى عَنْ الجِدالِ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنِ، أما تَسمَعُونَ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: «وَ لَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «1»، وَ قَوله: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «2»، فَالجِدالُ بِالَّتِي هِي أَحسَنُ قَد قَرَنَهُ العُلَماء بِالدِّينِ وَ الجِدالِ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنُ مَحَرمٌ وَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى شِيعَتِنا، وَ كَيفَ يُحَرِّمُ اللَّهُ الجِدالَ جملَةً وَ هُوَ يَقُولُ: «وَ قَالُوا لَن يَدخُلِ الجَنَّةَ إلّا مَنْ كانَ هُوداً أو نصارى ، قالَ اللَّهُ تعالى «تِلكَ أَمانِيهِم قُل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ» «3».

فَجَعلَ عَلمَ الصِّدقِ و الإيمانِ بِالبُرهانِ وَ هَل يُؤتى بِالبُرهانِ إلّا فِي الجِدالِ بِالَّتِي هِي أحسَنُ؟

قِيل: يا ابنَ رَسُولِ اللَّهِ فَما الجِدالِ بِالَّتِي هِي أَحسَن وَ الَّتِي لَيسَتْ بِأَحسَنَ؟

قالَ: أَمّا الجِدالَ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنُ أَن يُجادِلَ مُبطلًا فَيُوردُ دَلِيلًا باطِلًا فَلا تَردَّهُ بِحُجَةِ قَد نَصَبَها اللَّهُ تعالى وَ لكن تَجحَد قَولَهُ ... وَ أَمَّا الجِدالُ بالَّتِي هِي أَحسَنُ فَهُوَ ما أَمَرَ اللَّهُ تعالى بِهِ نِبِيَّهُ أَن يُجادِلَ بِهِ مَنْ جَحَدَ البَعثَ بَعدَ المَوتِ وَ إِحياءُهُ لَهُ فَقالَ اللَّهُ حاكِياً عَنهُ: «وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَ نَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيم* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» «4» «5».

______________________________

(1). سورة العنكبوت، الآية 46.

(2). سورة النحل، الآية 125.

(3). سورة البقرة، الآية 111.

(4). سورة يس، الآية 78 و 79.

(5). بحار الانوار، ج 2، ص 125، ح 2 مع التلخيص.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 255

طرق علاج هذه الرذيلة الأخلاقية:

كلّما وجد الإنسان نفسه يعيش حالة الخصومة في مباحثة مع الآخرين و يكثر من الجدل و

البحث العقيم و بتعبير الروايات: الجدال غير الحسن بحيث أصبح هذا السلوك بمثابة العادة و الخلق له، فإنّ إيمانه و تقواه و دينه يتعرّض لخطر الذوبان و المحق، و ينبغي عليه الاسراع في انقاذ نفسه من هذه الرذيلة و التخلّص من هذا الخلق الذميم و التحرّك بصدد العلاج قبل أن تتجذّر هذه الصفة في أعماق نفسه.

و الطريق الأول للعلاج و لعلّه يعدّ من مقدمات العلاج لتسكين هذه الحالة المؤذية كيما يتسنى للإنسان علاجها فيما بعد هو اختيار السكوت في كل مورد يحتمل فيه أن يكون الجدال بالباطل، و كلّما استمر هذا السكوت مدّة أطول و تحّمل الضغط النفسي و تحدّيات الحالة المزاجية، فإنّ ذلك سيوفّر الأرضية المساعدة للتخلّص من شرّ هذه الحالة السلبية و معالجة هذه الصفة في النفس.

و طبعاً فإنّ السكوت يعدّ علاجاً للكثير من الرذائل (من قبيل الحسد و الحقد و النميمة و الرياء و كفران النعمة و التهمة و الكذب و حبّ التفوّق و غيرها من الرذائل الأخلاقية التي تتجلّى في سلوك الإنسان من خلال الكلام و النطق) فالسكوت يمكنه أن يكون عنصر الوقاية من جميع هذه الموارد، و لهذا السبب فإنّ الروايات الإسلامية قد مدحت السكوت كثيراً و قد تقدّم تفصيل هذا الموضوع في الجزء الأول من هذا الكتاب.

الطريق الآخر لعلاج هذه الفضيلة الأخلاقية هو التفكّر الدقيق في النتائج السلبية و العواقب الوخيمة المترتبة على هذه الصفة من قبيل أن يكون الإنسان محجوباً عن درك الحقائق و يعيش في زحمة الأوهام و التعصّبات و العداوات بين الأصدقاء و يبتعد بذلك عن حقيقة الإيمان و بالتالي سيكون مورداً للغضب الإلهي و زهوق شخصيته و سقوط حيثيته بين الخاص و العام.

و من اليقين

أنّ التفكّر في مثل هذه العواقب السيئة سيكون له تأثير عميق في وقاية الإنسان عن الوقوع في متاهة الجدال بالباطل، فكيف يمكن أن يعلم الإنسان بأنّ هذا الغذاء

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 256

مسموم و يتناوله في نفس الوقت؟ فالشخص الذي يتناول غذاء مسموماً هو الذي لا يدرك آثاره و عواقبه و لا يعلم بحاله.

إنّ إصلاح جذور الخلل في واقع النفس و تطهير الذات من الدوافع و النوازع التي تجرّ الإنسان للخوض في الجدل يعدّ أحد طرق العلاج لهذا الخلق الذميم، و عند ما نقول الدافع للجدال و المراء فهذا يعني التكبّر و حب التفوّق و التظاهر و الحسد و حبّ الانتقام و حبّ الدنيا و التعصّب و اللجاجة، و من المعلوم أننا إذا استطعنا أن نبعد هذه الحالات السلبية و الصفات الذميمة عن أنفسنا و نطهّر قلوبنا من أدرانها فإنّ ذلك من شأنه أن يقلع جذور حالة الجدال و المراء من النفس، و لكن مع وجود هذه الصفات في أعماق النفس، فإنّ إزالة هذه الصفة الأخلاقية سيكون عسيراً جداً.

و من الطرق الاخرى للعلاج هو إبتعاد الشخص عن الأفراد المتعصّبين و الذين يحبّون الخوض بالباطل و كذلك الامتناع عن مناقشة مثل هؤلاء الأشخاص حيث سيجرّ الإنسان إلى الجدال و المراء و إن كان غير قاصد لذلك.

و قد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ جالَسَ الجاهِلَ فَليَستَعِدَّ لِقِيلٍ وَ قالٍ» «1».

و من البديهي أنّ الإنسان قبل كل ذلك يجب عليه أن يوقظ في نفسه الإرادة و العزم القاطع على ترك المراء و الجدال و اجتناب هذه الرذيلة الأخلاقية، فاذا وجد الإنسان في نفسه ذلك و عزم بجدية على ترك المراء فانّه سيفلح

في النهاية.

الإنصاف في الكلام:

النقطة المقابلة للمراء و الجدال هي الانصاف في البحث و الكلام، أي أنّ الإنسان ينظر إلى كلام الآخرين كما ينظر إلى كلامه و يدافع عنه كما يدافع عن كلامه، و بتعبير آخر أن يكون طالباً للحق فيبحث عنه و يطلبه من أي شخص كان و من كل مكان حتّى لو كان الناطق

______________________________

(1). سفينة البحار، ج 2، ص 532 الطبعة القديمة (مادة مراء).

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 257

به شخصاً من العوام و كان هو عالماً كبيراً و معروفاً، بل حتى لو سمع كلام الحق من طفل أو كافر أو ظالم فعليه قبوله من موقع الإذعان للحق و الحقيقة.

و أمّا الانصاف في الروايات الإسلامية الذي ورد الثناء البالغ عليه فالمراد منه أن يرى الشخص مصالح الآخرين كمصالحه، و لكن أحد أغصان شجرة الانصاف هو الانصاف في الكلام، حيث ورد في الحديث المعروف عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «سَيِّدُ الأَعمالِ ثَلاثَةُ:

إِنصافُ النّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتّى لا ترضى بِشَي ءٍ إلّا رَضِيتَ لَهُم مِثلَهُ وَ مُواساتِكَ الأَخَ فِي المَالِ وَ ذِكُرُ اللَّهِ عَلى كُلُّ حالٍ» «1».

و الملفت للنظر أنّ بعض الروايات الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام تتحدّث عن أنّ الإمام عند ما ضمن أربعة قصور في الجنّة لمن يعمل أربعة أعمال، فإنّه عدّ ترك المراء ثالث عمل و انصاف الناس من النفس العمل الرابع، و يحتمل أن يكون إشارة إلى الانصاف في الكلام.

______________________________

(1) اصول الكافي، ج 2، ص 144.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 258

11

النميمة و إصلاح ذات البين

تنويه:

إنّ الحياة الاجتماعية تتزامن دائماً مع أشكال التضاد و النزاع بين أفراد المجتمع، و أحد فروع التضاد و التزاحم بين الأفراد هو النزاع الكلامي الذي قد يمتد و يتعمّق إلى أن يصل إلى

شجار و صراع بين الأطراف و قد يصل أحياناً إلى سفك الدماء أيضاً.

فالواجب على أفراد المجتمع أن يتحرّكوا من موقع إصلاح ذات البين و رفع سوء التفاهم و تهيئة الأرضية لايجاد جو حسن الظن بين الأطراف المتنازعة و كما في الاصطلاح: يصبوا الماء على نار الصراع و يعملوا على تهدئة التوتر الناشي ء من حالات الشجار و التضاد.

و لكن مع الأسف فإنّ بعض الناس و بدوافع مختلفة يتحرّكون على العكس من هذا الاتّجاه و كأنّهم يريدون صبّ الزيت على النار و يرغبون في إتساع دائرة الحريق، و من المعلوم أنّهم سيشتركون في جميع المفاسد المترتبة على هذا النزاع و الصراع بين أفراد المجتمع، هؤلاء يتحرّكون في هذا الاطار على مستوى إيصال كلام هذا الطرف إلى الطرف الآخر و بالعكس و قد يضيفون بعض الكلام من أنفسهم و يوصلونه إلى الطرف المتخاصم، و هذا هو معنى (النميمة) التي هي من أسوأ الأخلاق الذميمة في النفس البشرية في حين أنّ الفئة الاولى هم المصلحون الاجتماعيون الذين يعدّ عملهم في مرتبة الجهاد في سبيل اللَّه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 260

و قد ورد في الروايات الشريفة أنّه: «أنَّ أَجرَ المُصلِحِ بَينَ النّاسِ كَأجرِ المُجاهِدِ بَينَ أَهلِ الحِربِ» «1».

إنّ النميمة كلّما تكرّرت في سلوك الفرد فإنّ من شأنها أن تكون خلقاً و ملكة و سجيّة في هذا الإنسان، و من رذائله الأخلاقية القبيحة، و قد وردت في الآيات الكريمة و الروايات الإسلامية إشارات كثيرة إلى هذه الرذيلة الأخلاقية على مستوى ذمّها و تقبيح المرتكب لها، و على العكس من ذلك فقد ورد المدح الكثير لعملية إصلاح ذات البين.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من اياته ما يتعلق بهاتين الصفتين

الأخلاقيتين ثمّ نستعرض كل واحدة منهما من موقع الدوافع و النتائج و الآثار الإيجابية و السلبية و طرق علاج صفة النميمة و كذلك تقوية ضدّها و هي إصلاح ذات البين:

1- «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «2».

2- «وَ لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ» «3».

3- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» «4».

4- «مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً» «5».

5- «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ للَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ» «6».

6- «وَ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِايْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «7».

______________________________

(1). تفسير منهج الصادقين، ج 8، ص 417.

(2). سورة الهمزة، الآية 1.

(3). سورة القلم، الآية 10- 13.

(4). سورة الحجرات، الآية 6.

(5). سورة النساء، الآية 85.

(6). سورة الانفال، الآية 1.

(7). سورة البقرة، الآية 224.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 261

7- «لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً». «1»

8- «... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ» «2».

تفسير و استنتاج:

«الآية الاولى»: تحذّر الأشخاص الذين يتحرّكون في تعاملهم مع الآخرين من موقع السخرية و الاستهزاء: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ».

أمّا تفسير (همزة) و (لمزة) و الفرق بينهما هناك كلام كثير بين المفسّرين و قد

تحدثنا عنه في التفسير الأمثل ذيل الآية الشريفة، و المهم هو أنّه على أحد التفاسير فإنّ المراد من الآية أعلاه هو الإشارة إلى الأشخاص الذين يتحرّكون على مستوى النميمة بين الأفراد، و قد سئل ابن عباس عن المقصود من هذه الآية، و من هم هؤلاء الذين يهدّدهم اللَّه تعالى بالويل، فقال: ابن عباس: «هُم المَشاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المَفَرِّقُونَ بَينَ الأَحِبَّةِ النَّاعِتُونَ لِلنّاسِ بِالعَيبِ».

و يذكر المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان) هذا المعنى بعنوان أول تفسير له لهذه الآية، و الفخر الرازي يذكره بعنوان التفسير التاسع و الأخير لهذه الآية، و نظراً للمفهوم الواسع الذي يدخل في مضمون (همزة و لمزة) فإنّ كل أشكال الغيبة و النميمة و السخرية تندرج تحت مفهوم هذه الآية، و هنا نرى أنّ اللَّه تعالى قد وعد هؤلاء الأشخاص بالعقاب الشديد و هو (الحطمة) و هي النار التي سعّرها اللَّه تعالى في قلوب هؤلاء بحيث تندلع من قلوبهم لتستوعب كل وجودهم.

و يستفاد من هذه الآية أنّ نار الآخرة بخلاف نار الدنيا، فإنّها تنبع من داخل النفس و أعماق القلب ثم تسري إلى الظاهر، و لعلّ ذلك بسبب أنّ الرذائل الأخلاقية و الأعمال

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 114.

(2). سورة هود، الآية 88.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 262

القبيحة تنبع من ذات الإنسان و أعماقه ثم تظهر على السطح على شكل ممارسة عملية في الواقع الخارجي.

«الآية الثانية»: تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و تنهاه عن إطاعة هؤلاء النمّامين بعد عدّة أقسام و تقول: «وَ لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ»

و تبعاً لهذه الصفات الأخلاقية القبيحة تضيف الآيات التالية صفات اخرى من قبيل المنع من عمل الخير، العدوان، الحقد، الخشونة، الكفر بآيات

اللَّه تعالى، ثم تقول: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» و هكذا سيفتضح أمره في الدنيا و الآخرة.

أمّا ذكر النميمة في تسلسل الرذائل المهمّة الاخرى و كذلك الكفر بآيات اللَّه تعالى يدل على قبح هذه الخصلة الشنيعة في سلوك الإنسان.

و عبارة «مشّاءِ بنميم» جاءت بصيغة المبالغة، و هي إشارة إلى الأشخاص الذين يتحرّكون دائماً بين الناس بالنميمة و يثيرون العداوة و البغضاء فيما بينهم، و هذا بحدّ ذاته يعدّ من أهم الذنوب الكبيرة.

(حلّاف) يطلق على الشخص الذي يحلف و يقسم باللَّه كثيراً، و عادة فمثل هؤلاء الأشخاص لا يعتمد الناس عليهم و لا هم يعتمدون على أنفسهم، و وصفهم بكلمة (مهين) أيضاً شاهد آخر على هذا المعنى، و لهذا فإنّهم و بدافع من شعورهم بالحقارة و الذلة يعيبون على الآخرين و يمشون بينهم بالنميمة و الفساد و كأنّهم يتألمون ممّا يرون من المحبّة و الالفة و التكاتف بين الناس و يريدون ايقاع العداوة و الحقد بين الأشخاص كما هو حالهم في أنظار الناس حيث ينظر الناس إليهم نظرة الحقارة و الازدراء.

«الآية الثالثة»: و طبقاً لسبب نزولها المعروف تتحدّث عن (الوليد بن عقبة) الذي أرسله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لجمع الزكاة من قبيلة (بني المصطلق): إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعث إليهم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم هابهم فرجع

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 263

إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبره أنّ القوم قد همّوا بقتله و منعوه ما قبلهم من صدقتهم فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن يغزوهم، فبينما هم

على ذلك قدِم وفدهم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: «يا رسول اللَّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه و نؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً فبلغنا أنّه زعم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنا خرجنا إليه لنقتله و و اللَّه ما جئنا لذلك، فأنزل اللَّه تعالى فيه و فيهم:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»» «1».

فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خالد بن الوليد و أمره أن يتثبّت و لا يعجل، فانطلق خالد حتّى أتاهم ليلًا، فبعث عيونه، فلما جاؤوا أخبروا خالداً أنّهم متمسكون بالإسلام، و سمعوا أذانهم و صلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد و رأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان يقول نبي اللَّه صلى الله عليه و آله: «التَّأَنِي مِنَ اللَّهِ وَ العَجَلَةُ مِنَ الشّيطانِ» «2».

و طبقاً لحديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام فإنّ الآية محل البحث تشير إلى النمّام «3».

و من هنا يتّضح أنّ النميمة تشمل الكذب أيضاً.

«الآية الرابعة»: من الآيات محل البحث أوردها بعض العلماء كالعلّامة المجلسي في بحث النميمة و قال: إنّ من يشفع شفاعة سيئة الوارد في هذه الآية «وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا» له مفهوم واسع و يشمل النميمة أيضاً لأنّها شفاعة سوء بالحقيقة، بل هي أسوأ حيث يشعل النّمام نار العداوة بين الرجلين من المسلمين فيتحرّكوا فيما بينهما من موقع سوء الظن و الحقد و الكراهية، و لذلك ورد في الحديث النبوي الشريف قال رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله: «مَنْ أَمَرَ بِسُوءٍ أَو دَلَّ عَلَيهِ أَو أَشارَ فَهوَ شَرِيكٌ».

______________________________

(1) سيرة ابن هشام، ج 3، ص 308.

(2) تفسير القرطبي، ج 9، ص 6131.

(3) مستدرك سفينة البحار، ج 10، ص 152.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 264

«الآية الخامسة»: تتحدّث عن إصلاح ذات البين و الذي يقع في النقطة المقابلة للنميمة و إفساد ذات البين، و تقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ».

و قد ورد في سبب نزول هذه الآية أنّها نزلت بعد غزوة بدر حيث حدثت بين رجلين من الأنصار مشاجرة لفظية على الغنائم الحربية، و صرّحت الآية بأنّ الغنائم الحربية أمرها بيد النبي صلى الله عليه و آله و عليكم أن تسعوا لإصلاح ذات البين و إزالة الفرقة و الاختلاف بين المسلمين.

«الآية السادسة»: تشير إلى الذين يجعلون اللَّه عرضة لأيمانهم في تقواهم و اصلاح ذات البين: «وَ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِايْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

و قد ورد في تفسير هذه الآية رأيان:

الأول: أنّ هذه الآية ناظرة إلى الأشخاص الذين تتملكهم الحدّة أحياناً فيقولون: سوف لا نفعل الخير أبداً لفلان و فلان، أو لا نتحرّك لغرض الإصلاح فيما بينهم، فنزلت الآية الشريفة و قالت إنّ هذه الإيمان باطلة فلا شي ء يمكنه أن يمنع عمل الخير و الإصلاح بين الناس (و قد ذكر لهذه الآية سبب لنزولها يؤيّد هذه الرؤية حيث ذكر أنّه حصل اختلاف بين زوجين أحدهما بنت أحد الصحابة و يدعى (عبد اللَّه بن رواحة) و قد حلف هذا الصحابي أن لا يقدم على إصلاح ما بينهما من الخلاف و النزاع، و نزلت الآية و أكّدت

على بطلان مثل هذا القسم).

الثاني: هو أنّ هذه الآية تنهى عن القسم لغرض أعمال الخير و التقوى و الإصلاح بين الناس، لأنّ رجحان مثل هذه الأعمال و فضلها إلى درجة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى القسم.

و على أيّة حال فانّ أهميّة إصلاح ذات البين يتّضح من هذه الآية جيداً و خاصة أنّها ذكرت هذه الفضيلة إلى جانب أعمال الخير و التقوى و البر.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 265

تتحرك «الآية السابعة»: من موقع الحديث عن النجوى بين الأشخاص و الذي قد يتسبب أحياناً في أذى الآخرين و سوء ظنّهم، و أحياناً يوفّر الأرضية المساعدة لتنفيذ خدع الشيطان و لذلك تقول الآية: «لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ».

و لكنّها تضيف مباشرة هذا الاستثناء: «وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً».

إنّ استثناء مسألة إصلاح ذات البين من الذم للنجوى من جهة، و جعل الإصلاح إلى جانب الصدقة و المعروف من جهة اخرى، و كذلك بالوعد بالثواب العظيم عليه من جهة ثالثة كلّها شاهد على أهمية هذا الفعل و السلوك الإنساني.

أمّا ما الفرق بين الصدقة و المعروف؟ فقد ذهب البعض إلى أنّ الصدقة تعني المعونة المالية بلا عوض، و المعروف هو القرض الحسن، و ذهب بعض آخر إلى أنّ المعروف له مفهوم عام يشمل جميع أفعال الخير (و عليه تكون النسبة بين الصدقة و المعروف نسبة العموم و الخصوص المطلق).

و جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّ أحد أفضل الصدقات التي يحبّها اللَّه و رسوله صلى الله عليه و آله هو (إصلاح ذات البين) و يقول: «أ لا أَدُلُّكَ عِلى صَدقَةٍ يُحبُّها اللَّهُ وَ رَسُولُهُ؟

تُصلِحْ بَينَ النّاسِ إِذا

تَفاسَدُوا وَ تَقَرِّبْ بَينَهُم إِذا تَباعَدُوا» «1».

و عليه فإنّ إصلاح ذات البين ذكر بشكل مستقل تارةً، و اخرى بعنوانه أحد المصاديق البارزة للصدقة و المعروف، و بتعبير آخر أنّ إصلاح ذات البين هو المصداق الكامل للمعروف و الصدقة في هذا المورد.

و جاءت «الآية الثامنة»: و الأخيرة من الآيات محلّ البحث لتتحدّث عن منهج أحد الأنبياء العظام باسم (شعيب عليه السلام) حيث يبيّن للناس هدفه «... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ»، و هذا الهدف يشترك فيه جميع الأنبياء الإلهيين على مستوى إصلاح العقيدة،

______________________________

(1). تفسير القرطبي، ج 3، ص 1955.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 266

إصلاح الأخلاق، إصلاح العمل، و إصلاح الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

و ذهب بعض المفسّرين في تفسير كلمة الإصلاح أنّ مفهومها هو أَنني اريد إصلاح دنياكم بالعدالة و آخرتكم بالعبادة، و لكن من الواضح أنّ الإصلاح له مفهوم واسع يستوعب العدالة و غيرها أيضاً.

ثمّ إنّ الآية الشريفة تذكر أنّ النبي شعيب عليه السلام و لغرض التوفيق في هذا الأمر المهم، أي إصلاح دين و دنيا الناس في جميع الموارد يطلب من اللَّه تعالى التوفيق لذلك يقول: «وَ مَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ».

و اللطيف أنّ النبي شعيب عليه السلام قال هذا الكلام في حين أنّ قومه كانوا قد غرقوا في دوامة الفساد المالي و الأخلاقي، بحيث كانوا يعدّون نهي شعيب إيّاهم عن عبادة الأصنام و التطفيف في الميزان و الفساد المالي مخالف لحريتهم و يقولون: نحن نتعجّب منك و من عقلك أنّك تريد أن تقف أمام حرّيتنا على مستوى الفكر و العمل، و كأنّهم مثلما نجده من بعض الناس في هذا الزمان الذين لا يدركون جيداً المفهوم الصحيح للحرّية و

لا يعلمون أولا يريدون أن يعلموا أنّ الحرية التي يفتخر بها الإنسان لا بدّ و أن تكون مؤطّرة باطار القيم الأخلاقية و المثل الإنسانية و إلّا فإنّ مصير الناس إلى الضلال و الانحراف و السقوط، و بذلك أجابهم النبي شعيب عليه السلام أنّ هدفي هو الإصلاح بالمعنى الواقعي للكلمة لا الاستسلام لأهوائكم و طموحاتكم الدنيوية.

و الملفت للنظر أنّ قوم شعيب وصفوا نبيّهم بأنّه إنسان عاقل و رشيد «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ»، و لكنّهم بمجرد أن رأوا هذا النبي يقف أمام مطامحهم و يتصدّى لإصلاح فسادهم المالي و العقائدي، فإنّهم برزوا له بالمخالفة و العناد.

و من مجموع الآيات أعلاه تتّضح نقطتين مهمّتين:

الاولى: هي أنّ النميمة و السعي لإيجاد الاختلاف بين الناس يعدّ من أكبر الذنوب و أقبح الصفات الأخلاقية الرذيلة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 267

الثانية: أنّ الإصلاح بين الناس يعدّ أحد الوظائف المهمّة الإلهية و الإنسانية و التي لا يمكن إهمالها و التغاضي عنها بأي دليل.

النميمة في الروايات الإسلامية:

نظراً لأنّ النميمة تعدّ أشنع الظواهر الاجتماعية التي تنخر في مفاصل المجتمع البشري و تكون مصدراً و منبعاً لكثير من المفاسد الاخرى و حتى القتل و سفك الدماء، فلذلك نجد أنّ الأحاديث الإسلامية قد نهت عن هذا السلوك الذميم بشدّة و جاء في مضامين هذه الروايات ما يثير العجب من وخامة هذه الظاهرة و بشاعة هذا السلوك و منها:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال يوماً لأصحابه: «أَ لا انَبِّئُكُم بِشَرارِكُم، قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: المَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمِةِ وَ المُفَرِّقُونَ بَينَ الأَحِبَّةِ الباغُونَ لِلبُرآءِ المَعايبِ» «1».

النميمة بمعنى الصوت الواطي ء الهادي ء و الذي يصدر من حركة شي ء أو اصطدام قدم الإنسان

في الأرض حال المشي، و بما أنّ النّمام عادة يتحدّث من موقع النميمة بهدوء و إخفات لكي يلقي في نفس السامع أنّه يحمل إليه خبراً مهمّاً، و لذلك أطلقت هذه الكلمة على النّمام و من يسعى بين الأشخاص من موقع التفرقة و إثارة الاختلاف «2».

و ذهب البعض إلى أنّ النميمة في الأصل بمعنى تزيين الكلام الباطل و الكاذب (لأنّ الشخص النّمام يسعى إلى أن يلبس لكلامه الكاذب لباساً جميلًا) «3».

و شبيه هذا المعنى ورد أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام «4».

2- و جاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «الجَنَّةُ مُحَرَّمَةٌ عِلى القَتَّاتِينَ المَشَّائِينَ بِالنَّمِيمَةِ» «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 616.

(2). مقتبس من مفردات الراغب، (مصطلح النميمة).

(3). مقتبس من لسان العرب (من مصطلح النميمة).

(4). وسائل الشيعة، ج 8، ص 617.

(5). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 268

«قتّات) من مادة قت (على وزن شط) و هي في الأصل بمعنى الكذب و استراق السمع، سواءاً كان يحمل في طيّاته النميمة أم لا، و عليه فإنّ القتّات هو الشخص الذي يريد أن يطّلع على أسرار الناس و يسعى بينهم لإفساد ذات البين و الذي يقترن أحياناً بالنميمة أيضاً.

و قد ورد في بعض الروايات و كتب اللغة أنّ القتّات و النّمام بمعنى واحد.

3- و جاء في حديث آخر عن أبي ذر رضى الله عنه عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا أَبا ذَر صاحِبُ النَّمِيمةِ لا يَستَرِيحُ مِنْ عَذابِ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ» «1».

4- و ورد في حديث آخر تعبير أشدّ عن الأشخاص النّمامين حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أحد خطبه: «وَ مَنْ مَشى فِي نَمِيمَةٍ

بَينَ إِثنَينِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِ فِي قَبرِهِ ناراً تُحرِقُهُ إِلى يَومِ القِيامَةِ» «2».

5- و في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَصابَ بَنِي إِسرائِيلَ قَحطٌ فاستَسقى مُوسى مَرات فَما اجِيبَ فَأَوحى اللَّهُ تَعالى إِلَيهِ إِني لا أَستَجِيبُ لَكَ وَ لِمَنْ مَعَكَ وَ فِيكُم نَمَّام قَدْ أَصَرَّ عَلى النَّمِيمَةِ، فَقالَ مُوسى يا رَبِّ مَنْ هُوَ حَتّى نُخرِجُهُ مِنْ بَينِنا؟

فَقالَ: يا مُوسى أَنهاكُم عَنْ النَّمِيمَةِ وَ أَكُونَ نَمّاماً فَتابُوا بِأَجمَعِهِم فَسُقُوا» «3».

6- و في حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه قال: «أَربَعَةٌ لا يَدخُلُونَ الجَنَّةَ: الكَاهِنُ وَ المُنافِقُ وَ مُدمِنُ الخَمرِ وَ القَتَّاتُ وَ هُوَ النَمامُ» «4».

7- ورد عن أمير المؤمنين صلى الله عليه و آله قوله: «النَّمَ امُ جِسرُ الشَّرِّ» «5».

8- و في حديث آخر عن الإمام صلى الله عليه و آله نفسه أنّه قال: «لا تَجتَمِعُ أَمانَةٌ وَ نَمِيمَةٌ» «6»، أي الشخص النمّام هو خائن أيضاً.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 618، ح 6.

(3). المحجة البيضاء، ج 5، ص 276.

(4). وسائل الشيعة، ج 8.، ص 619، ح 11 (باب تحريم النميمة).

(5). المحجة البيضاء، ج 5، ص 279.

(6). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 269

9- و نختم البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب، قال: «إِنَّ أَحَبَّكُم إِلى اللَّهِ الَّذِينَ يُؤلَفُونَ وَ يَألِفُونَ و إِنَّ أَبغَضَكُم إِلى اللَّهِ المَشَّاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المُفَرِّقُونَ بَينَ الإخوانِ» «1».

و من مجموع هذه الأحاديث يستفاد جيداً أنّ النميمة تعتبر من الذنوب الكبيرة و الخطرة جدّاً و تسبب خسران الدنيا و الآخرة، و الأشخاص الذين يرتكبون هذا الفعل الشنيع و يفرّقون بين الأحبّة

و الأقرباء لا يرون سيماء الجنّه أبداً إلّا بأن يتوبوا من ذنوبهم و يتحرّكون على مستوى جبران أعمالهم و إصلاح ما أفسدوه، و من خلال هذه الروايات نرى إشارات عميقة إلى حكمة تحريم هذا العمل السي ء و آثاره السلبية على الفرد و المجتمع حيث سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث اللاحقة أيضاً.

النتائج السلبية للنميمة:

سبق و أن قلنا أنّ الأساس و القاعدة الأصلية التي يقوم عليها المجتمع البشري هو الاعتماد المتقابل بين الأفراد، و هذا الاعتماد المتقابل هو سبب إتّحاد الصفوف و التعاون و التكاتف بين أفراد المجتمع و بالتالي يتسبب في تقدّم المجتمع و تكامله على جميع الصُعد.

و قد أولى الإسلام أهميّة كبيرة لحفظ هذا العنصر الأساس و هو اعتماد الناس و وحدة صفوفهم و حرّم أي فعل من شأنه أن يلحق الضرر بوحدة المجتمع و قوّته، و أوجب كذلك كل فعل يسبب في تقوية شرائح المجتمع و شد أركانه (تارة من خلال الحكم الوجوبي و اخرى من خلال الحكم الاستحبابي.

و لا شك أنّ النميمة هي من العوامل المهمّة للتفرقة و إيجاد سوء الظن بين أفراد المجتمع و تفضي إلى العداوة و تعميق حالة الحقد و الكراهية بين الأفراد، و تارة تؤدّي إلى تلاشي الأسر و تمزّق العوائل، و لهذا السبب فإنّ الروايات المذكورة آنفاً تعدّ الشخص النّمام أشر أفراد المجتمع و أسوأهم.

______________________________

(1). آثار الصادقين، ج 24، ص 416.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 270

و نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «إِيّاكُم وَ النِّمائِمَ فَإِنَّها الضَّغائِنِ» «1».

و نقرأ في حديث آخر عن الإمام أيضاً قوله: «إِيّاكَ وَ النَّميمةَ فَإِنَّها تزرَعُ الضَّغِينَةَ وَ تُبَعِّدُ عَنِ اللَّهِ وَ النّاسِ» «2».

و جاء في أحاديث اخرى التعبير بكلمة

(شحناء) و التي تأتي بمعنى العداوة و الضغينة أيضاً، و يتّضح من الأحاديث الشريفة السابقة أنّ النمّام هو أسوأ خلق اللَّه تعالى بسبب سعيه للتفرقة بين الأحبّة و الأصدقاء و تحرّكه من موقع إتّهام الأشخاص الطاهرين.

و مضافاً إلى ذلك فإنّ الشخص النّمام يعيش في المجتمع منفوراً و مطروداً، لأنّ طرفي النزاع اللذين استمعا لكلامه و صدقا به فإنّهما غالباً يندمان بعد ذلك و يجدان في أنفسهما الكراهية الشديدة للشخص الذي سبب الفرقة بينهما و يلعنانه و يحذّران الناس من الاتّصال مع هذا الشخص و التصديق بأقواله، و قد مرّ علينا في أحد الأحاديث الشريفة أنّ النمام بعيد عن اللَّه و بعيد عن خلق اللَّه.

و الإمام الصادق عليه السلام يشبّه النّمام بالساحر الذي يفرّق بين الأحبّة بسحره و يقول في حديث مختصر و عميق المغزى: «إِنّ مِنْ أَكبَرِ السِّحرِ النَّمِيمَةِ يُفَرِّقُ بِها بَينَ المُتَحابِينَ وَ يَجلِبُ العَداوَةَ عَلى المُتَصافِّينَ وَ يَسفِكُ بِها الدِّماءَ وَ يَهدِمُ الدُّورَ وَ يَكشِفُ بِها السُّتُورَ، وَ النَّمامِ أَشرُّ مَنْ وَطأ عَلَى الأرضِ بِقَدَمِ» «3».

و طبعاً النميمة ليست بسحر، و لكنّها تحمل في نتائجها آثار السحر، و لذلك فإنّ الإمام قال عنها أنّها من أكبر أنواع السحر.

و الجدير بالذكر أنّ النميمة لها أثر تخريبي كبير و عادة تكون العناصر المخرّبة أقوى أثراً و أسرع نتيجة من العناصر الخيّرة و المصلحة، لأنّ الأرضية لسوء الظن موجودة في القلوب، و عند ما يتحرّك النّمام في إثارتها و تفعيلها فإنّها تتحرّك بسرعة و تستيقظ بذلك عناصر الشر

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 68، ص 293، ح 63.

(2). غرر الحكم.

(3). بحار الانوار، ج 60، ص 21، ح 14.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 271

في واقع الإنسان و نفسه، و

من الممكن أن تقوم كلمات قليلة بعملية التفرقة بين صديقين حميمين مضى على صداقتهما أربعون سنة، كما أنّ بناء سد مفيد لخزن المياه يمكن أن يستغرق عشرات السنين و لكنّ تخريبه و انهدامه بواسطة الديناميت و المواد المتفجرة قد لا يستغرق سوى بضع ساعات، و نختم هذا الكلام بالحديث الشريف عن الإمام الصادق حيث قال: «السَّاعِي قاتِلُ ثَلاثَةٍ، قاتِلُ نَفسَهِ وَ قاتِلُ مَنْ يُسعى بِهِ وَ قاتِلُ مَن يُسعى لَهُ» «1».

الكثير من الموارد المشهودة في حالات الامراء و الملوك تبيّن أنّ من سعى إليهم بالنميمة ضدّ شخص آخر فإنّه يلاقي حتفه على يدهم، و بهذه الصورة يكون الساعي أي النّمام قاتل نفسه أمام اللَّه تعالى، و كذلك الشخص الذي سعى إليه بالوشاية لأجل عدم التحقيق الكافي فَكأنّه قتل بيد ذلك الساعي لأنّه قتل بريئاً.

و ممّا تجدر الإشارة إليه أنّ بعض العلماء و أرباب اللغة ذهبوا إلى إشراك السعاية و النميمة في المعنى في حين أنّه من الممكن وجود فرق بينهما (رغم أنّهما متشابهان جدّاً) فالنميمة هي التفرقة بين صديقين أو بين قريبين أو شريكين، و لكنّ السعاية هي أن يتحدّث الشخص بعيوب شخص آخر عند كبير من الكبراء، و بهذا يعرض ذلك الشخص إلى الخطر، و لذلك وردت السعاية في كثير من الروايات بعنوان السعاية عند السلطان و أمثال ذلك، و لكن تشابههما في المعنى تسبب في أن يذكران تحت عنوان واحد.

دوافع النميمة:

و هذا الصفة الرذيلة كسائر الصفات الاخرى ترتبط مع الكثير من الرذائل الأخلاقية برابطة وثيقة، و منها الحسد، لأنّ الشخص الحسود لا يتمكن أن يتحمل سعادة الآخرين و راحتهم و المودّة التي تحكم بين الأفراد المتحابين و التعاون و التكاتف الذي يرى في

تعاملهما و حياتهما المشتركة، و يتألم ممّا يرى من روابط المودّة و وشائج المحبّة بين الزوجين و العوائل فيما بينهم، و لذلك يسعى من خلال النميمة أن يزرع بذور الفرقة و سوء

______________________________

(1). الخصال، للشيخ الصدوق، 22، الباب 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 272

الظن بين هؤلاء الناس و يغرس العداوة و النزاع بين الأفراد.

و من الدوافع الاخرى للنميمة هو حبّ الدنيا، لأنّ المحبّ للدنيا و العاشق لها يرغب في زرع نبتة الاختلاف و الفرقة بين الناس و يرى أنّ كسبه و عمله الاقتصادي و الاجتماعي في تقوية عناصر الشر و الكراهية بين الأفراد.

النفاق يعدّ عاملًا مهمّاً آخر من عوامل النميمة و دوافعها، يقول القرآن الكريم عن المنافقين: «أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَ لَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ» «1».

أجل فعملهم هو إيجاد الفساد و الفتنة بأي وسيلة كانت، و نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق قوله: «عَلامَةُ النِّفاقِ الحَثُّ عَلَى النَّمِيمَةِ» «2».

فمثل هذا الشخص يذهب إلى تلك الجهة، و يبدأ ببيان معايب الجهة الاخرى و يذمّها و يتظاهر بأنّه إنّما يريد الخير لهذا الطرف دون ذاك، فيلقي بكلامه المسموم لدى هؤلاء، ثمّ يتوجّه إلى الطرف المقابل و يكرّر نفس هذا العمل أيضاً، فهذا الشخص هو مصداق للإنسان ذي الوجهين وذي اللّسانين و الذي يهدف إلى إيجاد التفرقة و الاختلاف و زيادة حدّة الصراع الاجتماعي و التضاد الفئوي كيما يجد له فرصة من العيش و فسحة من الوقت.

العامل الآخر من العوامل الموروثة للنميمة هو ما يسمّى في هذا العصر بالمرض الأخلاقي (السادية)، فبعض الأفراد و بسبب عقدة الحقارة أو حبّ الانتقام أو الانحرافات و الأمراض النفسية الاخرى يجدون لذّة و راحة من أذى الآخرين و الإضرار بهم، و يتألمون

و يحزنون عند ما يرون الناس يعيشون براحة و نعمة، فهؤلاء الأشخاص يتحرّكون لهدم وحدة المجتمع و تدمير سعادة الناس من خلال السعاية بالآخرين و النميمة ثم يجلسون جانباً و يشاهدون بلّذة الصراع و النزاع الدائر بين الأطراف و الفئات الاجتماعية.

و يستفاد من بعض الروايات أنّ أحد الأسباب في تفعيل حالة النميمة و إيجاد هذه الصفة في النفس هو عدم طهارة المولد و عدم نقاء النطفة (و طبعاً هذا العامل لا يعدّ عامل اجبار، بل

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 12.

(2). بحار الانوار، ج 69، ص 207، ح 8.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 273

يهي ء الأرضية لذلك أي من العوامل المساعدة لظهور المرض) كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «السَّاعِي إِلَى النَّاسِ لِغَيرِ رُشدِهِ» «1».

أي يسير في مسير الباطل، ذكر البعض أنّ (لغير رشده) يعني أنّه ليس بولد حلال.

و من الأسباب الاخرى الاعتياد على الكذب، فالإنسان الذي يعتاد على الكذب و يتعامل في حياته مع الآخرين من موقع الإصرار على الكذب يجد في نفسه دافعاً، لأنّ ينقل لهذا الشخص خبراً كاذباً عن ذلك الشخص و يوقع بينهما بحيث يؤدّي إلى ارباك العلاقة بينهما و افسادها.

و في الحديث المطوّل عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حول علائم الصفات الإيجابية و السلبية نقرأ: «أَمّا عَلامَةُ الكَذَّابِ فَأَربَعَةٌ ... إِنْ قالَ لَم يَصدُق و إِنْ قِيلَ لَهُ لَم يُصَدِّق وَ النَّمِيمَةُ وَ البُهتُ» «2».

يعني عند ما تتجذّر صفة الكذب في أعماق الإنسان يظهر على سلوكه هذه الأفعال الأربعة.

طرق العلاج:

و لا بدّ لغرض علاج هذه الظاهرة المشؤمة في سلوك الفرد الأخلاقي و قطع جذورها من واقع الإنسان و نفسه من

الذهاب و التوجّه إلى العلل و الدوافع، و من المعلوم أنّه ما دام عنصر الحسد، و حبّ الدنيا، و النفاق، و حبّ العدوان، و الانتقام، التي تمثّل الدوافع الأصلية لهذه الظاهرة الذميمة، باقية في وجود الإنسان فإنّ هذه الرذيلة الأخلاقية باقية كذلك و لا يمكن إزالتها بسهولة من باطن الإنسان، و من الممكن للإنسان أن يحدّد أو يزيل هذه الخصلة بعزم شديد و تصميم قوي لمدّة محدودة و لكنها تظهر في مواطن معينة لاحقاً.

و لا ننسى أنّ الكثير من الفضائل أو الرذائل الأخلاقية بينها تأثير متقابل و كل واحد منها

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 5، ص 270.

(2). بحار الانوار، ج 1، ص 122.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 274

يعدّ سبباً و علّة للآخر و أحياناً مسبباً و معلولًا، و ذلك في حالات و مواطن مختلفة.

و من جهة اخرى فإنّ التأمل في الآثار السلبية الكثيرة المترتبة على النميمة و السعاية و التي تورث المجتمع الدمار و الخراب و تفضي إلى عواقب وخيمة على مستوى العوائل و الاسر كما تقدّم تفصيل ذلك في الأبحاث السابقة، و كذلك ما يترتّب على النميمة من العذاب الإلهي في الدنيا و الآخرة فإنّ ذلك يشكل عاملًا مهمّاً من عوامل التصدي لاستفحال هذه الظاهرة و الحالة الذميمة و بالتالي إزالتها من موقع النفس.

إنّ الشخص النّمام و خاصة إذا كان قد إعتاد على النميمة يجب عليه أن يأخذ بنظر الاعتبار الآثار الوخيمة الاجتماعية و العقوبات الإلهية المترتبة على هذا العمل و يعيد إلى ذهنه هذا المعنى كل يوم و يلقّن نفسه أنّ عاقبة النميمة و السعاية هي هذه و هذه، و إلّا فإنّ الوساوس الشيطانية و الأهواء النفسية لا تدعه لحاله.

معاشرة الأفراد المؤمنين يمكنها أن

تكون عاملًا آخر من عوامل التصدّي للنميمة، لأنّ الشخص المبتلى بهذا المرض عند ما يتحدّث في مجالس المؤمنين و يرى أنّهم لا يعتنون بكلامه و لا يهتمّون لأقواله و قد يطرودنه من مجالسهم بسبب ذلك، فإنّه سينته بسرعة إلى عدم وجود المشتري لكلامه، بل إنّ كلامه تسبب في نفرة الناس من حوله و سوء ظنّهم به، و نفس هذا الأمر يقوي فيه الإرادة على ترك هذا العمل القبيح و قد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَكذِبِ السِّعايَةَ وَ النَّمِيمَةَ باطِلةً كانَتْ أَو صَحِيحَةً» «1».

و نقرأ في حديث آخر أنّ رجلًا جاء بكتاب له إلى أمير المؤمنين عليه السلام كتب فيه النميمة عن شخص آخر فقال له الإمام عليه السلام: «إِنْ كُنتَ صادِقاً مَقَتناكَ و إِنْ كُنتَ كاذِباً عاقَبناكَ و إِن أَحببتَ القَيلَ أَقَلناكَ، قالَ: بَل تُقِيلُني يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ» «2».

و من الجدير بالذكر أنّ الأشخاص الذين يتحرّكون نحوك بالنميمة و التحدّث بالسوء عن شخص آخر فإنّهم سوف يتحدّثون عنك بسوء لدى ذلك الشخص أيضاً كما ورد في روضة

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). ميزان الحكمة، ج 4، ص 685؛ و مثله في بحار الانوار، ج 72، ص 270.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 275

بحار الانوار عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «وَ مَنْ نَمَّ إِلَيكَ سَيَنُّمُ عَلَيكَ» «1».

و آخر كلام في هذا الباب هو أنّ أغلب المفاسد الأخلاقية الكامنة في الصفات الرذيلة ناشئة من ضعف الإيمان، فكلما سعى الشخص لتقوية دعائم إيمانه باللَّه تعالى و اليوم الآخر، فإنّ هذه الرذائل سوف تتلاشى و تزول من باطنه تدريجياً.

موارد الاستثناء:.

إنّ حرمة النميمة بعنوان أنّها من الذنوب الكبيرة و القبيحة في نظر علماء الأخلاق يعدّ

أصلًا أساسياً يجب الإهتمام به دائماً، و لكن في بعض الأحيان يمكن أن يكون لهذا الحكم استثناءات كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية حيث يكون نقل الكلام من هذا إلى ذاك ليس جائزاً فحسب، بل يكون واجباً، و من تلك الموارد ما إذا شعر الإنسان أنّ الشخص الفلاني أو الفئة الفلانية تريد قتل زيد من الناس و كانت المسألة جدّية، فهنا يكون نقل كلامهم إلى زيد ليتّخذ جانب الحذر و الاحتياط و يبتعد عن الخطر من الواجبات لإنقاذ نفس بريئة، كما حدث ذلك لموسى عليه السلام بعد ما قتل القبطي المعتدي فجاء أحد الأشخاص و قال له:

«إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ» «2».

و أحياناً تؤدّي النميمة نتائج إيجابية للمؤمنين تعمل على إيجاد الفرقة و الاختلاف في صفوف الأعداء، فهذا المورد من موارد الجواز أو الوجوب كما ورد في قصّة (نعيم بن مسعود) في حرب الأحزاب حيث أوقع الفرقة و الاختلاف بين طائفتين من أعداء المسلمين و هم المشركون و اليهود بما نقل من كلمات هؤلاء لهؤلاء و بالعكس فكانت النتيجة إساءة الظنّ بينهم و تخاذلهم عن قتال المسلمين.

و لكنّ مثل هذه الاستثناءات نادرة جدّاً فلا ينبغي أن تكون ذريعة للتلّوث بهذه الخطيئة و قبول كلام من يسعى بالنميمة بين الناس، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 75، ص 230.

(2). سورة القصص، الآية 20.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 276

قال: «لا تَعجَلَنَّ إِلى تَصدِيقِ وَاشٍ و إِنْ تَشبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ» «1».

النقطة المقابلة للنميمة و السعاية هي إصلاح ذات البين بأن يسعى الإنسان بكلامه الجميل إلى إقرار الصلح و الصفاء بين شخصين متخاصمين و متعاديين، و هذه

الصفة تعدّ أحد الفضائل المهمّة الأخلاقية و التي وردت الإشارة إليها في آيات القرآن الكريم و الروايات الإسلامية.

و قد تمّ استعراض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن هذا المعنى في ذيل الآيات المتعلقة بذم النميمة و السعاية على المستوى السلبي، و هنا نشير إلى طائفة من الروايات الشريفة في هذا المجال:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ مَشى فِي صُلحٍ بَينَ اثنَينِ صَلَّى عَلَيهِ مَلائِكَةُ اللَّهِ حَتّى يَرجَعَ وَ اعطِي ثَوابَ لَيلَةِ القَدرِ» «2».

2- و في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام في آخر وصاياه لولديه الإمام الحسن و الإمام الحسين عليهما السلام أنّه قال ضمن وصيّته لهما بعدم ترك إصلاح ذات البين: «فَإِنِّي سَمِعتُ جَدَّكُما صلى الله عليه و آله يَقُولُ صَلاحُ ذاتِ البَينِ أَفضَلُ مِنْ عامَةِ الصَّلاةِ و الصِّيامِ» «3».

3- و جاء في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَ لا أَخبرُكُم بِأفضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيامِ و الصَّلاةِ وَ الصَّدَقَةِ إِصلاحُ ذاتِ البَينِ، فَإنَّ فَسادِ ذاتِ البينِ هِي الحالِقَةُ» «4».

4- و قال الإمام الصادق عليه السلام: «صَدَقَةٌ يُحِبُّها اللَّهُ إصلاحُ بَينَ الناسِ إِذا تَفاسَدُوا وَ تَقارِبُ بَينَهُم إِذا تَباعَدُوا» «5».

5- و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال للمفضّل بن عمر: «إِذا رَأَيتَ بَينَ اثنَينِ مِن شِيعَتِنا مُنازَعَةً فأَفتَدِهِ مِنْ مالِي» «6».

______________________________

(1). غر الحكم.

(2). وسائل الشيعة، ج 13، ص 163، ح 7.

(3). نهج البلاغة، الرسالة 47.

(4). ميزان الحكمة، ج 2، ص 1517.

(5). اصول الكافي، ج 2، ص 209، ح 1.

(6). المصدر السابق، ح 3.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 277

و على هذا الأساس فإنّ

أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام و يدعى أبُو حَنِيفَة سابُقُ الحَجِّ قالَ: «مَرَّ بِنا المُفضَّل وَ أَنا وَ خِتنِي نَتَشاجَرُ فِي مِيراثِ، فَوَقَفَ عَلَينا ساعَةً ثُمَّ قالَ لَنا:

تَعالُوا إِلَى المَنزَلِ فَأَتَيناهُ فَأَصلَحَ بَيننا بِأَربَعَمائةَ دِرهِمٍ فَدَفَعها إِلَينا مِنْ عِندِهِ حَتى إِذا استَوثَقَ كُلُّ وَاحدٍ مِنّا مِنْ صاحِبِهِ، قالَ: أَمّا إِنَّها لَيستْ مِنْ مالي و لَكن أَبُو عَبدِ اللَّهِ عليه السلام أَمَرَنِي اذا تَنازَعَ رَجُلانِ مِنْ أَصحابِنا أَن أَصلِحَ بَينَهُما وَ أَفتَدِيهما مِنْ مالِهِ، فَهذا مِنْ مالِ أَبِي عَبدِ اللَّهِ عليه السلام» «1».

6- و ورد في تفسير الآية الشريفة: «وَ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِايْمَانِكُمْ» أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا دُعِيتَ لِصُلحِ بَينَ اثنَينِ فَلا تَقُل عَلَىَّ يَمِينِي أَنْ لا أَفعَلَ» «2».

و هذا الحديث يشير إلى أنّه لو واجه الإنسان حين إقدامه لإصلاح ذات البين بعض المشاكل ثمّ حلف أن يترك هذا السلوك الإصلاحي فإنّ الإمام يقول بأنّ مثل هذا القسم و الحلف لا إعتبار له و إنّ المشاكل المحيطة بمثل هذا العمل لا يمكنها أن تمنع الإنسان من سلوك هذا الطريق و العمل على إصلاح ذات البين.

7- و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ استَصلَحَ الأضدَادَ بَلَغَ المُرادَ» «3».

و المراد من الأضداد في الحديث الشريف ليست الأضداد الفلسفية التي لا تقبل الجمع، بل الأضداد العرفية، و طبعاً هناك تفسير آخر لهذا الحديث أيضاً و هو أن يكون المراد أنّ الإنسان إذا استطاع التنسيق بين الأشخاص و الفئات التي تعيش أفكار مختلفة و متنوعة، فإنّه يبلغ مراده و يكون ذلك نعم العون له على إدارة امور المجتمع لكل هذه الأفكار المُتضادة.

8- إنّ أهميّة إصلاح ذات البين هي إلى درجة أنّ

الكذب قد يكون مباحاً في هذا السبيل كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «الكَلامُ ثَلاثَةٌ صِدقُ وَ كِذبٌ

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 209، ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 210، ح 6.

(3). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 278

وَ إصلاحٌ بَينَ النِّاسِ قِيلَ جُعِلتُ فِداكَ ما الإِصلاحُ بَينَ النّاسِ؟ قالَ: تَسمَعُ مِنَ الرَّجُلِ كَلاماً يَبلُغُهُ فَتَخبُتُ نَفسُهُ فَتَلقاهُ فَتَقُولُ سِمِعتُ مِنْ فُلانٍ قَالَ فِيكَ مِنَ الخَيرِ كَذا وَ كَذا خِلافَ ما سَمِعتَ مِنهُ» «1».

و يقول المرحوم العلّامة المجلسي في شرح هذا الحديث: «و هذا القول و إن كان كذباً لغة و عرفاً جائز لقصد الإصلاح بين الناس، و كأنّه لا خلاف فيه عند أهل الإسلام، و الظاهر أنّه لا تورية و لا تعريض فيه و إن أمكن أن يقصد تورية بعيدة كأن ينوي أنّه كان حقّه أن يقول كذا، و لو صافيته لقال فيك كذا، و لكنه بعيد» «2».

و لا شك أنّ الكلام يحتمل وجهين، فامّا مطابق للواقع و مخالف له، فالأول يدعى صدقاً و الثاني كذباً، و لكن بما أنّ الكلام المخالف للواقع بدوره على قسمين: فإمّا أن يكون موجباً للفساد أو موجباً للصلاح، فإنّ الإمام قد فصّل بين هذين القسمين و قرّر بأنّ القسم الموجب للصلاح هو قسم ثالث من أقسام الكلام.

و من مجموع ما تقدّم من الأحاديث الشريفة يتّضح جيداً أنّ من بين أعمال الخير يندر وجود عمل مهم و فضيلة أخلاقية تكون في مرتبة إصلاح ذات البين، فهي إلى درجة أنّ الملائكة تصلّي على هذا الشخص المصلح و يكون عمله أسمى و أفضل من الصلاة و الصوم بل يكون في مرتبة الجهاد في سبيل

اللَّه.

و من البديهي أَنّ إصلاح ذات البين لا يتسبب في الخير و الصلاح على المستوى الفردي فحسب، بل يتسبب في إنسجام طوائف المجتمع و تقوية دعائمه و توطيد أركان المحبّة و المودّة بين أفراده، و هذا الاتّحاد و الانسجام يتسبب في انتصار و عزّة المجتمع الإسلامي في حركة التقدّم الحضاري و الإنساني.

طرق إصلاح ذات البين:

إنّ عملية الإصلاح بين الناس على شكل أفراد أو جماعات و طوائف هو عمل معّقد

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 341، ح 16.

(2). بحار الانوار، ج 72، ص 252، كتاب الإيمان و الكفر، باب الكذب، ح 19.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 279

و دقيق و لا سيما إذا كانت العداوة و الكراهية قد توغّلت في الأعماق، و لهذا فقد يستغرق تحقيق هذا المعنى وقتاً طويلًا، و لا بدّ من مراعاة بعض الدقائق و النكات الظريفة في هذا السبيل، و كذلك يحتاج إلى التعرّف على بعض مبادي ء علم النفس و توصيات علماء النفس في هذا المجال، و من المعلوم أنّ الوصول إلى هذا الهدف المؤثر لا بدّ له من رعاية بعض الاصول و النقاط المهمّة، و منها:

1- العثور على جذور الاختلاف و النفاق، لأنّ الإنسان ما لم يعرف الأسباب و يبحث في جذور المشكلة، فإنّ علاجها يكون عسيراً للغاية، فلو أنّ الإنسان تحرّك على مستوى البحث على جذور الخلاف و النزاع و سعى إلى إزالة هذه الأسباب و الجذور من واقع النفس لدى المتخاصمين فإنّه يحصل على النتيجة أسرع.

2- إنّ التسّرع في عملية إصلاح ذات البين في كثير من الموارد تعطي نتائج معكوسة، و خاصة إذا كانت الاختلافات عميقة و متجذرة، ففي هذه الموارد يجب دراسة أوجه الاختلاف بدقّة و أحياناً يتطلب ذلك كتابتها في

دفتر و بالأرقام ثمّ تحليلها و دراستها و حلّها واحدة بعد الاخرى، و يعطي لكلّ طرف من المتخاصمين إمتيازات معقولة و بهذا يوجد التعادل و الانسجام بينهما و يترتب على ذلك النجاح في عملية الإصلاح.

3- يجب الاستفادة من المسائل العاطفية و الدينية أفضل استفادة من خلال تلاوة بعض الآيات القرآنية و الروايات الشريفة التي من شأنها تحريك عناصر الخير و عواطف المحبّة في نفوس المتخاصمين، و السعي لدعم شخصية كل طرف لكي يتحرّك باتّجاه الطرف الآخر على مستوى العفو و الصفح من موقع الاحساس لشخصيته و كرامته لا من موقع الاجبار و الإذعان للأمر الواقع.

4- و أحياناً يجب على المصلح أن يضحي بشي ء من الأشياء و على سبيل المثال يدفع للطرفين المتخاصمين مبلغاً من المال أو يهدي لهما هدية كما قرأنا في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام الذي خاطب فيه المفضّل، و من المعلوم أنّ المال الذي ينفق في هذا السبيل يعدّ من أفضل أنواع الانفاق في سبيل اللَّه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 280

5- إنّ المصلح يجب أن يتوقّى التحيز إلى أحد الطرفين و يتجنّب ذلك مهما أمكن و بعبارة اخرى أن يكون محايداً و في نفس الوقت محبّاً و نصوحاً إلى كل واحد من الطرفين، لأنّ أي تحيز إلى أحدهما سوف يمنعه من الوصول إلى النتيجة المطلوبة، و طبعاً يستثنى من ذلك الأشخاص الذين لم يتعلّموا المنطق الإنساني و لا يتعاملون إلّا من موقع الجهل و التعصّب و العناد أمام الحق و عملية الإصلاح فإنّه ينبغي سلوك طريق آخر معهم كما تقدّم في تفسير الآيات أعلاه.

6- و في كثير من المواقع يحتاج الإصلاح إلى سلوك طريق طويل محفوف بالمكاره و يحتاج إلى الصبر

و التأنّي و التعامل مع القضية ببرود الأعصاب، فالشخص المصلح لا ينبغي أن ييأس بسرعة و يوصد الأبواب أمامه، بل يجب أن يعلم أنّ أشدّ التعقيدات الاجتماعية و أعمق المشكلات يمكن حلّها بالصبر و التأنّي و التفكير و التدبير، و عليه فإذا لم يفلح في مرحلة من المراحل فلا ينبغي أن يعلن فشله و يتراجع عن مسيرته الإصلاحية.

و بتعبير آخر: إنّ الافساد بين الناس عمل تخريبي يسير و لكن الإصلاح له بعد بناء و معقّد، فالبناء العظيم يمكن تدميره بعدّة قنابل فيغدوا تراباً في لحظات، و لكنّ تشييد مثل هذا البناء يحتاج إلى سنوات مديدة، و هكذا الحال في بناء الثقة و المحبّة و الاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع البشري، فتخريب مثل هذا البناء الاجتماعي سهل يسير، و لكنّ بناءه و تشييده هو عملية معّقدة تحتاج إلى مدّة طويلة و صبر كبير، و عليه فإنّ عملية الإصلاح لا تنسجم مع التسّرع و العجلة.

و نختم هذا الكلام بحكاية ذات مغزى أوردها المجلسي في كتاب بحار الانوار، نقلًا عن بعض العلماء و هو أنّه: باع بعضهم عبداً و قال للمشتري ما فيه عيب إلّا النميمة، قال رضيت به، فاشتراه فمكث الغلام أيّاماً ثم قال لزوجة مولاه: إنّ زوجك لا يحبّك و هو يريد أن يتسرى عليك فخذي الموسى و احلقي من قفاه شعرات حتى أسحر عليها فيحبّك، ثم قال للزوج: إنّ امرأتك اتخذت خليلًا و تريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف، فتناوم فجاءته

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 281

المرأة بالموسى فظنّ أنّها تقتله فقام الزوج و قتلها، فجاء أهل المرأة و قتلوا الزوج، فوقع القتال بين القبيلتين و طال الأمر» «1».

أجل فإنّه بهذه السهولة ممكن ايقاع

الحرب و النزاع الدموي بين قبيلتين و لكنّ الإصلاح بينهما ليس بهذه السهولة قطعاً.

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 72، ص 270.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 282

12

سوء الظنّ و حسن الظنّ

تنويه:

إنّ سوء الظن عند ما يتحوّل إلى حالة باطنية و خصلة أخلاقية فإنّه يعدّ من أشنع الرذائل الأخلاقية التي تؤدّي إلى الفرقة بين العوائل و تمزّق المجاميع البشرية و الإنسانية.

و أوّل ثمرة سلبية لسوء الظن هي عدم الاعتماد و زوال الثقة بين الناس، و عند ما تزول الثقة فإنّ عملية التعاون و التكاتف في حركة التفاعل الاجتماعي ستكون عسيرة للغاية، و مع زوال التعاون و التكاتف في المجتمع البشري فسوف يتبدّل هذا المجتمع إلى جحيم و محرقة يعيش فيه الأفراد حالة الغربة و الوحدة من الأفراد الآخرين و يتحرّكون في تعاملهم من موقع الريبة و التشكيك و التآمر ضدّ الآخر.

و لهذا السبب فإنّ الإسلام و لأجل توكيد ظاهرة الاعتماد المتقابل بين الأفراد و الامم إهتمّ بهذه المسألة اهتماماً بالغاً، فنهى بشدة عن سوء الظن و منع الأسباب التي تورث سوء الظن لدى الأفراد، و على العكس من ذلك فإنّه مدح و أيّد بشدّة حسن الظن الذي يفضي إلى زيادة المحبّة و الاعتماد المتقابل و الثقة بالطرف الآخر، و بالتالي تحرّك المجتمع نحو التقدّم و التعالي و التكامل في مسيرته الحضارية، و اعتبر أنّ حسن الظن من الصفات و الأعمال الإيجابية جدّاً و دعي الناس إلى ذلك.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 284

و لا شك أنّ حسن الظن قد يؤدّي إلى بعض الخسارة أحياناً، و لكن هذه الخسارة لا تقبل القياس مع الاضرار الوخيمة و الآثار السلبية الكثيرة المترتبة على سوء الظن.

و طبعاً، فإنّ لسوء الظن فروعاً و أقساماً، و أحد أسوأ

هذه الفروع هو سوء الظن باللَّه و الذي يأتي بحثه لاحقاً.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة دروساً في دائرة سوء الظن و حسن الظن:

1- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُوا وَ لَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» «1».

2- «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» «2».

3- «وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً» «3».

4- «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ» «4».

5- «وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ» «5».

6- «لَوْ لَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ» «6».

تفسير و استنتاج:

«الآية الإولى»: تستعرض الحديث عن سوء الظن و تنهى المؤمنين بصراحة و بشدة عن

______________________________

(1). سورة الحجرات، الآية 12.

(2). سورة الفتح، الآية 12.

(3). سورة الفتح، الآية 6.

(4). سورة الاحزاب، الآية 10.

(5). سورة آل عمران، الآية 154.

(6). سورة النور، الآية 12.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 285

سوء الظن في تعاملهم الإجتماعى فيما بينهم و تشير إلى أنّه قد يكون بمثابة المقدمة إلى التجسس و الغيبة و تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُوا وَ لَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

و لكن لماذا ورد التعبير (كثيراً من الظن)؟ لأن أكثر أشكال الظن بين الناس بالنسبة إلى الطرف

الآخر تقع في دائرة السوء و الشر، لذلك ورد التعبير بقوله (كثيراً).

و يحتمل أيضاً أن يكون المراد من كلمة (كثير) أنّ أغلب الظنون هي من جنس الظنون السيئة بل إنّ الظنون السيئة كثيرة بالنسبة لها رغم أنّها بالمقايسة إلى ظنون الخير لا تكون كثيرة، و لكن ظاهر الآية ينسجم مع المعنى الأوّل أكثر.

و الملفت للنظر هو أنّ هذه الآية بعد النهى عن كثير من الظن ذكرت العلّة في ذلك و قالت بأنّ بعض الظنون هي في الحقيقة إثم و ذنب، و هو إشارة إلى أنّ الظنون السيئة على قسمين:

فمنها ما يطابق الواقع و منها ما يخالف الواقع، فما كان على خلاف الواقع يكون إثماً و ذنباً، و بما أنّ الإنسان لا يعلم أيّهما المطابق للواقع و أيّهما المخالف، و عليه فيجب تجنّب الظن السي ء اطلاقاً حتى لا يتورط الإنسان في سوء الظن المخالف للواقع و بالتالي يقع في الإثم و ممارسة الخطيئة.

و بما أنّ سوء الظن بالنسبة إلى الإعمال الخاصّة للناس يعد أحد أسباب التجسس، و أحد الدوافع التي تقود الإنسان إلى أن يتجسس على أخيه، و التجسس بدوره يتسبب أحياناً في الكشف عن العيوب المستورة للآخرين و بالتالي سيكون سبباً و دافعاً للغيبة أيضاً، و لذلك فانّ الآية الشريفة تتحدّث عن سوء الظن أوّلًا، و في المرحلة الثانية ذكرت عنصر التجسس، و في الثالثة نهت عن الغيبة.

و هناك بحث سنأتي عليه في ختام البحث عن الآيات و الروايات الشريفة و هو أنّه هل أنّ سوء الظن أمر اختياري أو غير اختياري؟ و إذا كان غير اختياري فكيف يمكن النهي عنه؟ و إذا كان اختيارياً فهل يحرم مطلقاً حتى إذا لم يرتكب الإنسان عملًا بدافع

من سوء الظن هذا، أم لا؟

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 286

و تأتي «الآية الثانية»: لتتحدّث عن المنافقين من موقع الذم و التوبيخ، و هم الذين إمتنعوا من السير في ركب النبي صلى الله عليه و آله و الخروج معه في واقعة الحديبية و توهّموا أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و المؤمنين الذين إنطلقوا إلى مكة سوف لا يعودون إلى أهليهم أبداً بل سيقتلون عن آخرهم بأيدي المشركين من قريش في حين أنّ القضية إنعكست تماماً و عاد المسلمون بذلك النصر الباهر في صلح الحديبّية و هو سالمون لم يصب أحد منهم بأذى فتقول الآية: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً».

و مفردة (بور) في الأصل بمعنى شدّة الكساد، و بما أنّ شدّة الكساد باعثة على فساد الشي ء كما في المثل المعروف لدى العرب (كسد حتى فسد) فانّ هذه الكلمة تأتي بمعنى الفساد، ثم أطلقت على معنى يتضمّن الهلكة و الاندثار، و أطلقت على الأرض الخالية من الشجر و النبات فيقال (بائر) لأنّها في الحقيقة فاسدة و ميتة.

و هكذا نجد أنّ فئة المنافقين الذين عاشوا هذا الظن السي ء في واقعة صلح الحديبية لم يكونوا قلّة، و من المعلوم أنّه لم يصيبهم الهلاك بمعنى الموت، و عليه فإنّ (بور) بمعنى الهلاك المعنوي و المحرومية من الثواب الإلهي و خلوّ أرض قلوبهم من أشجار الفضائل الأخلاقية و الشجرة الطيّبة للإيمان، أو يكون المراد الهلاك الاخروي بسبب العذاب الإلهي، و الهلاك الدنيوي بسبب الفضيحة، و على أيّة حال فالآية الشريفة تدل بوضوح على النهي عن سوء الظن و خاصة

بالنسبة إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

و في «الآية الثالثة»: من الآيات محل البحث نجد بحثاً آخر عن سوء الظن بالنسبة إلى ساحة الربوبية و الحقيقة المقدّسة الإلهية في حين أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن سوء الظن بالنسبة لأفراد البشر، فتقول الآية بعد أن قرّرت أنّ الهدف الآخر من الفتح المبين و هو فتح الحديبية أنّ اللَّه تعالى يريد أن يعذّب المنافقين و المشركين فتقول: «وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 287

عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً».

إنّ سوء الظن باللَّه تعالى من جانب هؤلاء هو لانهم كانوا يتصوّرون أنّ الوعود الإلهية للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله سوف لا تتحقّق أبداً و أنّ المسلمين مضافاً إلى عدم انتصارهم على العدو فإنّهم سوف لا يعودون إلى المدينة اطلاقاً، كما كان في ظن المشركين أيضاً حيث توهّموا أنّهم سوف يهزمون رسول اللَّه و أصحابه لقلّة عددهم و عدم توفّر الأسلحة الكافية في أيديهم و أنّ نجم الإسلام منذر بالزوال و الافول، في حين أنّ اللَّه تعالى وعد المسلمين النصر الأكيد و تحقّق لهم ذلك، بحيث أنّ المشركين لم يتجرّأوا أبداً على الهجوم على المسلمين (رغم أنّ المسلمين في الحديبية و على مقربة من مكّة كانوا تحت يدهم و لم يكونوا يحملون أي سلاح لأنّهم كانوا قاصدين لزيارة بيت اللَّه الحرام) و هكذا ألقى اللَّه تعالى الرعب و الخوف في قلوب المشركين إلى درجة أنّهم خضعوا و وجدوا أنفسهم ملزمين بكتابة الصلح المعروف بصلح الحديبية، ذلك الصلح الذي مهّد الطريق للإنتصارات الباهرة

التي نالها المسلمون فيما بعد.

و على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم يذم سوء الظن هذا ذمّاً شديداً و يعد عليه العذاب الأليم و العقاب الشديد في الدنيا و الآخرة.

و الملفت للنظر في هذه الآية أنّ مسألة سوء الظن باللَّه تعالى كانت بمثابة القدر المشترك بين المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات، و بيّنت هذه الآية أنّ جميع هذه الفئات و الطوائف شركاء في هذا الأمر، بخلاف المؤمنين الذين يحسنون الظن باللَّه تعالى و بوعده و برسوله الكريم و يعلمون أنّ هذه الوعود سوف تتحقّق قطعاً، و لعلّ تحقّقها قد يتأخر فترة من الوقت لمصالح معيّنة و لكنها أمر حتمي في حركة عالم الوجود، لأنّ اللَّه تعالى العالم بكل شي ء و القادر على كل شي ء لا يمكن مع هذا العلم المطلق و القدرة اللّامتناهية أن يتخلّف في وعده، و لهذا السبب فإنّ الآية التالية لهذه الآية من سورة الفتح تقول: «و للَّهِ جُنُودُ السماواتِ و الأَرضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً».

أمّا السبب الذي دفع المنافقين و المشركين أن يقعوا في حبالة سوء الظن في حين أنّ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 288

قلوب المؤمنين مملوءة بحسن الظن باللَّه تعالى فإنّما هو لأجل أنّ المشركين و المنافقين لا يرون من الامور إلّا ظاهرها و لا يتحرّكون إلّا من موقع الأخذ بظاهر الحوادث و الوقائع دون الحقائق الكامنة في باطنها، في حين أنّ المؤمنين الحقيقيين يتوجّهون إلى باطن الامور و يأخذون بالمحتوى و المضمون للواقعة.

و تستعرض «الآية الرابعة» أيضاً سوء الظن بالنسبة إلى الوعد الإلهي الذي تزامن مع حرب الأحزاب، و هي الحرب التي اعتبرت أخطر الحروب التي واجهها النبي صلى الله عليه و آله و المسلمون، لأنّ

المشركين كانوا قد اتحدوا مع جميع المخالفين للإسلام و شكّلوا أعظم جيش في ذلك الزمان بهدف القضاء على الإسلام و المسلمين، و كان هذا الجيش من القوة و العظمة أنّ ضعيفي الإيمان تزلزلوا لذلك و شككوا بالوعود الإلهية في نصرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و المسلمين، فتقول الآية حاكية عن هذه الحالة الشديدة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت العصيب: «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ* هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً».

و لا شك أنّ سوء الظن باللَّه تعالى يختلف كثيراً عن سوء الظن بالناس، لأنّ سوء الظن بالناس غالباً ما ينتهي بارتكاب الإثم أو سلوك طريق خاطي ء في التعامل مع الطرف الآخر، في حين أنّ سوء الظن باللَّه تعالى يتسبب في تزلزل دعائم الإيمان و أركان التوحيد في قلب المؤمن، أو أنّه يكون دافعاً و عاملًا من العوامل لذلك، لأنّ الاعتقاد بأنّ اللَّه تعالى قد يخلف وعده يقع في دائرة الكفر، لأنّ خلف الوعد إمّا ناشي ء من الجهل أو العجز أو الكذب، و معلوم أنّ كل واحد من هذه الامور محال على اللَّه تعالى و أنّ الذات المقدّسة منزّة عن هذه الامور السلبية، و لهذا السبب فإنّ الآيات محل البحث التي تستعرض سوء الظن باللَّه تذم هذه الحالة بشدّة و عنف.

«الآية الخامسة» تتحدّث أيضاً عن سوء الظن باللَّه تعالى، و هذه الآية ناظرة إلى

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 289

غزوة أحد و التي ابتلى بعض المسلمين فيها بعد هزيمتهم في ميدان الحرب أمام المشركين بسوء الظن بالنسبة إلى الوعد الإلهي بالنصر، فنزلت الآية المذكورة موبّخة

لهم بشدّة على سوء الظن هذا، في حين أنّ الآيات التي وردت قبلها هي في الحقيقة إشارة إلى أنّ وعد اللَّه بالنصر على الأعداء قد تحقق في بداية الأمر في معركة أحد، و لكنّ طلّاب الدنيا و الطامعين في زخارفها غفلوا عن هجوم العدو و انشغلوا بجمع الغنائم الحربية، و بالتالي تسببوا في الهزيمة المرّة لجيش الإسلام، فهنا نجد أنّ اللَّه تعالى قد وفى بعهده و وعده و لكنهم كما تقول الآية لم يتحرّكوا في خط الإيمان و الاستقامة، ثم تأتي الآية محل البحث لتقول للمسلمين:

«إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ* هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً».

و في ذيل هذه الآية إشارة أيضاً إلى أنّ هذا إمتحان إلهي لكم ليتّضح ميزان وفاءكم و استقامتكم و مقدار إيمانكم باللَّه تعالى و بالإسلام.

و يتّضح من سياق هذه الآية و الآيات التي قبلها هذه الحقيقة، و هي أنّ مسألة سوء الظن باللَّه غالباً تصيب الأشخاص الضعيفي الإيمان في مواقع الشدّة و الأزمة، سواءاً كانوا في معركة الأحزاب، أو في أحد أو في الحديبية، و في الحقيقة أنّ مثل هذه المواقع تعدّ بمثابة المختبر للكشف عن جوهر إيمان الشخص و إخلاصه.

و تأتي «الآية السادسة» و الأخيرة لتستعرض أيضاً سوء الظن بشكل عام من موقع الذم و تدعو كذلك إلى حسن الظن، و هذه الآية ناظرة إلى قصّة الإفك المعروفة في عصر النزول، و نعلم أنّ جماعة من المنافقين إتّهموا أحدى زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بخروجها عن جادّة العفاف و شاعوا ذلك بين الناس إلى درجة أنّ هذه الشائعة و بلحظات

قليلة استوعبت جميع من في المدينة، و بالرغم من أنّ هدف المنافقين حسب الظاهر هو اتهام احدى زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و لكنّهم في الواقع كانوا يستهدفون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و الإسلام و القرآن بالذات، و في هذه الفترة الحرجة نزلت الآيات أعلاه لتفضح نفاق المنافقين و تزيل الحجاب

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 290

عن سلوكياتهم الدنيئة و تبطل مؤامراتهم الخبيثة، و نرى أنّ عبارات هذه الآيات من القوة و الدقّة في المضامين و البلاغة بحيث أنّها تثير الاعجاب لدى كل إنسان، و الآية مورد البحث هي أحد الآيات الخمسة عشر النازلة في واقعة الإفك حيث تقول الآية: «لَوْ لَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ».

و التعبير بالمؤمنين و المؤمنات يدل على أنّ من علامات الإيمان هو حسن الظن بالنسبة إلى المسلمين، و تدلّ على أنّ سوء الظن يتقاطع مع جوهر الإيمان.

و في الواقع فانّ هذه الآية تقسّم الناس إلى ثلاث طوائف طائفة المنافقين الذين يشيعون الإفك بين المسلمين، و طائفة منهم هم القادة و الكبار من المنافقين الذين تعبّر عنهم الآية:

«وَ الَّذِي تَولَّى كِبرَهُ».

و طائفة ثالثة هم المؤمنون الذين توّرطوا في تصديق هذا الإفك المبين من موقع طيبة أنفسهم و طهارة قلوبهم و سذاجة عقولهم.

فهنا نجد أنّ القرآن الكريم يتحدّث في هذه الآية مخاطباً الطائفة الثالثة من موقع الذم الشديد و التوبيخ و أنّهم لماذا أصبحوا آلة و أداة بيد المنافقين الذين يشيعون الإفك و الفاحشة بين الناس؟

و في هذه الآيات الستة التي بحثت في بعضها سوء الظن بالنسبة إلى الناس و في بعضها الآخر سوء الظن بالنسبة إلى

اللَّه تعالى نرى أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية قد وقعت موقع الذم الشديد، و بعض الآيات أشارت إلى بعض ما يترتب عليها من الآثار السلبية على حياة الإنسان، و لو لم يكن في بيان قبح هذه الرذيلة الأخلاقية سوى ما ورد في بعض الآيات القرآنية الشريفة لكفى ذلك، فكيف بما ورد في الكثير من الآيات و الروايات الدينية الاخرى و التي سنتحدث عنها لاحقاً؟

سوء الظن في الروايات الإسلامية:

أمّا بالنسبة إلى الروايات الإسلامية فالمتتبع يرى أنّ تقبيح هذه الرذيلة الأخلاقية و ذمّها

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 291

على أساس أنّها من أشنع الخصال الأخلاقية السلبية و لهذه الرذيلة صدى واسع في النصوص الدينية الروائية، و نستعرض هنا بعض النماذج في هذا الباب:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِيّاكُم وَ الظّنُّ فَانَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الكِذبِ» «1».

2- و نقرأ في حديث آخر أيضاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ المُسلِمِ دَمَهُ وَ مالَهُ وَ عرِضَهُ وَ أَنَّ يَظُنَّ بِهِ السُّوءَ» «2».

3- و في حديث مثير عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا إِيمانَ مَعَ سُوءِ ظَنِّ» «3».

و هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى سوء الظن بكلا قسميه، سوء الظن بالنسبة إلى الناس، أو سوء الظن بالنسبة ا لى اللَّه تعالى.

4- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً قوله: «إِيِّاكَ أَنْ تُسِي ءَ الظّنَّ فَانَّ سُوءَ الظّنِّ يُفسِدُ العِبادَةَ وَ يُعَظِّمُ الوِزرَ» «4».

5- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «سُوءُ الظَّنِّ بِالمُحسِنِ شَرُّ الإِثمِ وَ أَقبَحُ الظُّلمِ» «5».

6- و ورد أيضاً عن هذا الإمام عليه السلام

نفسه قوله: «سُوءُ الظَّنِّ يُفسِدُ الامُورَ وَ يَبعَثُ عَلَى الشُّرُورِ» «6».

7- و ورد أيضاً عنه عليه السلام أنّه قال: «شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَثِقُ بِأَحَدٍ لِسُوءِ ظَنَّهِ وَ لا يَثِقُ بِهِ أَحَدٌ لِسُوءِ فِعلِهِ» «7».

8- و نقرأ في نهج البلاغة قول الإمام علي عليه السلام: «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 138، ح 42؛ بحار الانوار، ج 72، ص 195.

(2). المحجة البيضاء، ج 5، ص 268.

(3). غرر الحكم.

(4). المصدر السابق.

(5). المصدر السابق.

(6). المصدر السابق.

(7). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 292

وَ أَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلًا (مَحمَلًا» «1».

9- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً قوله: «وَ اللَّهِ ما يُعَذِّبُ اللَّهُ سُبحَانَهُ مُؤمِناً بَعدَ الإِيمانِ إِلّا بِسُوءِ ظَنِّهِ وَ سُوءِ خُلُقِهِ» «2».

و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام الهمام عليه السلام نفسه: «مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ سُوءُ الظَّنِّ لَم يَترُكْ بَينَهُ وَ بَينَ خَلِيلٍ صُلحَاً» «3».

و كذلك وردت روايات كثيرة في باب سوء الظن باللَّه و عدم الإيمان و التصديق بوعده حيث تحكي عن آثار سلبية خطيرة في حياة الإنسان المادية و المعنوية، و من ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «و اللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلّا هُوَ لا يُعَذِّبُ اللَّهُ مُؤمِناً بَعْدَ التَّوبَةِ وَ الإِستِغفَارِ إلّا بِسُوءِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ وَ تَقصِيرٍ مِنْ رَجائِهِ بِاللَّهِ وَ سُوءُ خَلُقِهِ وَ اغتَيابِهِ لِلمُؤمِنينَ» «4».

2- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ النبي داود عليه السلام قال: «يا رَبِّ ما آمَنَ بِكَ مَنْ عَرَفَكَ فَلَم يُحسِنِ الظَّنَّ بِكَ»

«5».

3- و قال الإمام علي عليه السلام أيضاً: «الجُبنُ وَ الحِرْصُ وَ البُخلُ غَرائِزُ سُوءُ يَجمَعُها سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ سُبحانَهُ» «6»

و من المعلوم أنّ الشخص الذي يعيش الإيمان بالعناية الإلهية و نصرته لعباده المؤمنين فلا يجد الخوف سبيلًا إلى قلبه من الأعداء، و الشخص الذي يثق بوعد اللَّه في مسألة الرزق، فلا يجد الحرص سبيلًا إلى نفسه و لا يعيش البخل في حياته، و عليه فإنّ هذه الصفات الثلاثة المذكورة في هذا الحديث الشريف هي في الواقع تنبع من سوء الظن باللَّه تعالى.

إن ما ورد في الروايات أعلاه يعدّ غيض من فيض الروايات الكثيرة في باب سوء الظن

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكلمات القصار، ح 360؛ بحار الانوار، ج 71، ص 187.

(2). غر الحكم.

(3). المصدر السابق.

(4). بحار الانوار، ج 67، ص 394.

(5). المصدر السابق، ص 394.

(6). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 293

الواردة في المصادر المعتبرة و التي تتضمن دقائق لطيفة عن علل و دوافع هذه الرذيلة الأخلاقية و آثارها السلبية الكثيرة، و قد أوردنا في هذا المقتطف عشر روايات في سوء الظن بالنسبة إلى الناس و ثلاث روايات في مورد سوء الظن باللَّه و تحتوي على مفاهيم دقيقة و نكات جميلة في تحليل هذا المفهوم الأخلاقي و دراسة أبعاده المتنوعة.

حسن الظن في الروايات الإسلامية:

كما رأينا أنّ سوء الظن يفضي إلى إيجاد الخلل و الارتباك في المجتمع البشري و يؤدّي إلى سقوط الإنسان الأخلاقي و الثقافي و يورثه التعب و الألم و الشقاء و المرض الجسمي و الروحي، ففي الجهة المقابلة نجد أنّ حسن الظن يتسبب في أن يعيش الإنسان الراحة و الوحدة و الاطمئنان النفسي، و لهذا السبب نجد أنّ الروايات الإسلامية الكثيرة تؤكّد على حسن الظن بالنسبة

إلى الناس، و كذلك بالنسبة إلى اللَّه تعالى، أمّا في مورد حسن الظن بالنسبة إلى الناس، فنختار من الأحاديث الشريفة ما يلي:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ أَفضَلِ السَّجايا وَ أَجزَلِ العَطايا» «1».

2- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام العظيم عليه السلام أنّه قال: «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ أَحَسنِ الشِّيَمِ وَ أَفَضلِ القِسَمِ» «2».

3- و أيضاً ورد عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «حُسنُ الظَّنِّ يُخَفِّفُ ألَهَمَّ وَ يُنجِي مِنْ تَقَلُّدِ الإِثمَ» «3».

4- و في حديث آخر عن هذا الإمام العظيم عليه السلام أيضاً أنّه قال: «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ رَاحَةُ الَلبِ وَ سَلامَةُ الدِّينِ» «4».

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 294

5- و أيضاً ورد في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «مَنْ حَسُنَ ظنُّهُ بِالنّاسِ حازَ مِنهُمُ المَحَبَّةَ» «1».

أمّا بالنسبة إلى حسن الظنّ باللَّه تعالى، فنقرأ أحاديث كثيرة في هذا الباب مذكورة في المصادر المعتبرة منها:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن بعض المعصومين عليهم السلام أنّه قال: «وَ الَّذِي لا إِله إِلّا هُوَ ما أُعطِيَ مُؤمِنٌ قَطُّ خَيرَ الدُّنيا وَ الآخِرَةِ إِلّا بِحُسنِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَ رَجائِهِ لَهُ وَ حُسنِ خُلقِهِ وَ الكَفِّ عَنْ إِغتِيابِ المُؤمِنِينَ» «2».

2- و كذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «وَ أَحسِنِ الظَّنَّ بِاللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنا عِندَ ظَنِّ عَبدِي المُؤمِنِ بِي إنْ خَيراً فَخَيراً وَ إِنْ شَرَّاً فَشَرَّاً» «3».

3- و يشبه هذا المعنى أيضاً و بشكل جامع ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«وَ الَّذِي لا إِله إِلّا هُوَ لا يَحسُنُ ظَنَّ عَبدٍ مُؤمِنٍ بِاللَّهِ إِلّا كانَ اللَّهُ عِندَ ظَنِّ عَبدِهِ المُؤمِنِ لأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ بِيَدِهِ الخَيراتُ يَستَحِيي أِنْ يَكُونَ عَبدُهُ المُؤمِنُ قَدْ أَحسَنَ بِهِ الظَّنَّ ثُمَّ يُخلِفُ ظَنَّهُ وَ رَجاءَهُ فَأَحسِنُوا بِاللَّهِ الظَّنَّ وَ ارغَبُوا إِلِيهِ» «4».

4- و نقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم قوله: «رَأَيتُ رَجُلًا مِنْ امتِي عَلَى الصِّراطِ يَرتَعِدُ كَما تَرتَعِدُ السَّعفَةُ فِي يَومِ رِيحٍ عاصِفٍ وَ جاءَهُ حُسنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَسَكَّنَ رَعدَتَهُ» «5».

5- و في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير حسن الظن باللَّه تعالى قال:

«حُسنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ أَنْ لا تَرجُو إِلّا اللَّهَ وَ لا تَخافَ إِلّا ذَنبَكَ» «6».

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 71، ح 2.

(3). المصدر السابق، ص 72، ح 3.

(4). بحار الانوار، ج 67، ص 365، ح 14.

(5). مستدرك الوسائل، ج 11، ص 250.

(6). اصول الكافي، ج 2، ص 72، ح 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 295

تعريف سوء الظن و حسن الظن:

عند ما ترد هاتان المفردتان و يراد بهما سوء الظن أو حسنه بالنسبة إلى الناس فَإنّ لهما مفهوماً واضحاً، فالمفهوم من سوء الظن هو أنّه كلّما صدر من شخص فعلٍ معيّن يحتمل الوجهين الصحيح و السقيم، فنحمله على المحمل السقيم و نفسّره بالتفسير السي ء، مثلًا عند ما يرى الشخص رجلًا مع امرأة غريبة فيتصوّر أنّ هذه المرأة أجنبية و أنّ هذا الرجل ينوي في قلبه نيّة سوء تجاهها و يريد ارتكاب المنكر معها، في حين أنّ حسن الظن يقود الإنسان إلى القول بأنّ هذه المرأة هي زوجته أو أحد محارمه حتماً، أو عند ما يقدم إنسان على بناء مسجد أو أي عمل من أعمال الخير الاخرى، فإنّ

مقتضى سوء الظن أن يوحي للإنسان بأنّ هدف هذا الشخص هو الرياء أو خداع الناس و أمثال ذلك، في حين أنّ حسن الظن يدفعه إلى القول بأنّ عمله هذا كان بدافع إلهي و نيّته خير و صلاح.

و من هنا يتّضح أنّ دائرة حسن الظن و سوء الظن واسعة جدّاً و لا تنحصر في ممارسة العبادات فقط، بل تستوعب في مصاديقها و مواردها المسائل الاجتماعية و الأخلاقية و الاقتصادية و السياسية أيضاً.

و عند ما تستعمل هاتان المفردتان بالنسبة إلى اللَّه تعالى فالمراد من حسن الظن باللَّه هو أن يثق الإنسان بالوعد الإلهي في مورد الرزق أو العناية بالعبد أو نصرة المؤمنين و المجاهدين، أو الوعد بالمغفرة و التوبة على المذنبين و أمثال ذلك، و معنى سوء الظن باللَّه تعالى هو أنّ الإنسان عند ما يجد نفسه في زحمة المشكلات و المصاعب فإنّه يعيش الاهتزاز و عدم الثقة بالوعد الإلهي، و عند ما يقع في بعض الابتلاءات العسيرة و في المسائل المالية و غيرها فإنّه ينسى وعد اللَّه تعالى للصابرين و الذين يتحرّكون في خط الاستقامة و الانضباط و المسئولية، و يتحرّك عندها في خط المعصية و الإثم.

و قد رأينا في الروايات السابقة تعبيرات مثيرة وحيّة توضّح ما ذكرناه آنفاً عن المفهوم من هاتين المفردتين.

و هنا لا بدّ من استعراض بعض النكات المهمّة و تحليل بعض النقاط في هذا الباب:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 296

الآثار السلبيّة لسوء الظّن

إنّ إتّساع دائرة سوء الظن في المجتمعات البشرية يترتب عليها آثار سلبية وخيمة و مضرّات كثيرة قد لا تكون مستورة على أحد من الناس، و لكن لغرض توضيح هذا المطلب ينبغي الالتفات إلى ما يلي:

أ) إنّ من أسوأ الآثار السلبيّة لهذه الرذيلة

الأخلاقية على المستوى الاجتماعي هو (زوال الثقة و الاعتماد المتقابل) بين أفراد المجتمع و الذي يعدّ محور المجتمعات البشرية و العنصر المهم في عملية شد مفاصل المجتمع و تقوية الوشائج و العلاقات التي تربط بين أفراده، و قد تقدّمت الإشارة إليها إجمالًا في الروايات الشريفة المتقدّمة، و من ذلك قوله عليه السلام:

«شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَثِقُ بِأَحَدٍ لِسُوءِ ظَنَّهِ وَ لا يَثِقُ بِهِ أَحَذٌ لِسُوءِ فِعلِهِ» «1».

فنجد أنّ المجتمع البشري الذي يسوده عدم الثقة و عدم الاعتماد بين أفراده فمثل هذا المجتمع تتبخّر فيه أجواء التعاون و التكاتف و تزول منه البركات الكثيرة للحياة المشتركة في حياة الإنسان، و نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام علي عليه السلام قوله: «مَنْ ساءت ظُنُونُهُ إِعتَقَدَ الخِيانَةَ بِمَنْ لا يَخُونُهُ» «2».

ب) إنّ سوء الظن يؤدّي إلى تدمير و تخريب الهدوء النفسي و الروحي، لذلك المجتمع كما يميت الهدوء النفسي لأصحاب هذه الرذيلة الأخلاقية، فمن يعيش سوء الظن فإنّه لا يجد الراحة و الاطمئنان في علاقته مع الآخرين و يخاف من الجميع و أحياناً يتصوّر أنّ جميع الأفراد يتحرّكون للوقيعة به و يسعون ضدّه، فيعيش في حالة دفاعية دائماً و بذلك يستنزف طاقاته و قابلياته بهذه الصورة الموهومة.

ج) و مضافاً إلى ذلك فإنّ في الكثير من الموارد نجد الإنسان يتحرّك وراء سوء ظنه و يترجم سوء الظن هذا إلى عمل و ممارسة و بالتالي يوقعه في مشاكل كثيرة، و أحياناً يؤدّي به إلى إرتكاب جريمة و سفك الدماء البريئة، و خاصة إذا كان سوء الظن يتعلق بالعرض

______________________________

(1). المصدر السابق.

(2). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 297

و الناموس أو يتصوّر أنّ الآخرين يتآمرون عليه و يهدفون إلى الوقيعة به

في ماله أو عرضه، بحيث يمكن القول أنّ العامل الأصلي للكثير من الحالات الجنائية هو سوء الظن الذي لا يقف على أساس متين و الذي يدفع الإنسان إلى إرتكاب حالات العدوان و الجريمة بحق الأبرياء.

و لهذا السبب ورد في الروايات السابقة عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «سُوءُ الظَّنِّ يُفْسِدُ الامُورَ وَ يَبْعَثُ عَلَى الشُّروُرِ».

و الأهم من ذلك أنّ في الكثير من موارد سوء الظن الّتي يترتّب عليها إرتكاب جريمة بحق الطرف الآخر فانّ هذا الإنسان الذي قاده سوء ظّنة لإرتكاب هذه الجريمة سوف يثوب إلى رشده و وعيه بعد ذلك و يشعر في قرارة نفسه بتأنيب الضمير و يتسلّط عليه الاحساس بالإثم الذي قد يؤدي به إلى الجنون أحياناً.

و على سبيل المثال نشير إلى حادثة واحدة منها، فعند ما دخل الطبيب النفساني يوماً ليعود مرضاه في مستشفى المجانين و المتخلفين عقلياً رأى رجلًا قد جى ء به حديثاً إلى هذا المكان و هو يرّدد كلمة (منديل) مرّات عديدة، و عند ما بحث هذا الطبيب النفساني عن حاله و استقصى مرضه العقلي رأى أنّ السبب في جنون هذا الشخص هو أنّه رأى يوماً في حقيبة زوجته منديلًا يحتوى على قنينة عطر و بعض الهدايا المناسبة للرجال، فأساء الظن بزوجته فوراً و تصور أنّها على إرتباط برجل أجنبي، فكان أن قتلها بدافع من الغضب الشديد و بدون تحقيق و فحص، و بعد أن فتح المنديل رأى في طيّاته ورقة كتب عليها، هذه هدية منّي إلى زوجي العزيز بذكرى يوم ولادته.

و فجأة أصابته وخزة شديدة و شعر بضربة عنيفة في أعماق روحه أدّت إلى جنونه فكان يتذكّر هذا المنديل و يكرّره على لسانه.

د) إنّ سوء الظن هو في

الحقيقة ظلم فاضح للغير، لأنّه يجعل الطرف الآخر في قفص الأتّهام في فكر هذا الشخص و ذهنه فيكيل له أنواع السهام و يطعنه في شخصيّته و حيثيته، فلو أضفنا إلى ذلك بعض الممارسات العملية المستوحاة من سوء الظن لكان الظلم أكثر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 298

و أوضح، و من هذه الجهة قرأنا في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «سُوءُ الظَّنِّ مَنْ أقَبَحَ الظُلُم».

ه) إنّ سوء الظن يتسبّب في أن يفقد الإنسان أصدقاءه و رفاقه بسرعة، و بالتالي يعيش الوحدة و الانفراد و العزلة و هذه الحالة هي أصعب الحالات النفسية الّتي يواجهها الفرد في حركة الحياة الاجتماعية، لأن كل إنسان متشخص و يحترم مكانته و شخصيته نجده غير مستعد لئن يعيش و يعاشر الشخص الذي يسي ء الظن بأعماله الخيرة و سلوكياته الصالحة و يتّهمه بأنواع التهم الباطلة، و قد قرأنا في الأحاديث السابقة عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً أنّه قال: «مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ سُوءُ الظَّنِّ لَم يَترُكْ بَينَهُ وَ بَينَ خَلِيلٍ صُلحَاً».

و) و قد رأينا في الروايات السابقة أنّ سوء الظن يفسد عبادة الإنسان و يحبط أعماله و يثقل من كاهله يوم القيامة، فإذا كان المراد بسوء الظن في هذه الرواية هو سوء الظن باللَّه تعالى قد يتّضح حينئذٍ السبب في فساد العبادة و حبط الأعمال، و إذا كان المراد هو سوء الظن بالناس (كما نستوحي ذلك من ذيل هذه الرواية) فإنّ ذلك بسبب أنّ الإنسان الذي يعيش سوء الظن بالناس يرتكب في الكثير من الموارد التجسّس على الناس، و بالتالي يترتب على ذلك أن ينطلق في ممارساته الاجتماعية من موقع الغيبة للطرف الآخر و التهمة أحياناً، و من المعلوم أنّ

الغيبة و التهمة هي أحد الأسباب في عدم قبول الطاعات و العبادات.

ز) إنّ سوء الظن باعتباره انحرافاً فكريّاً، فإنّه سيؤثر بالتدريج على أفكار الإنسان الاخرى و سيقود تصوراته و أفكاره في طريق الانحراف أيضاً، فتكون تحليلاته بعيدة عن الواقع و مجانبة للصواب، فيمنعه ذلك من التقدّم و نيل الموفقية في حركة الحياة، و قد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ ساءَ ظَنُّهُ ساءَ وَهمُهُ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 299

الآثار السلبية لسوء الظن باللَّه:

إنّ سوء الظن باللَّه تعالى و عدم الثقة بالوعود الإلهية الواردة في القرآن الكريم و الأحاديث المعتبرة له آثار سلبية مخرّبة في دائرة الإيمان و العقائد الدينية حيث يمثّل سوء الظن هذا عنصراً هدّاماً لإيمان الشخص يبعده عن اللَّه تعالى كما قرأنا في الروايات السابقة عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله في مناجاة النبي داود عليه السلام قوله: «يا رَبِّ ما آمَنَ بِكَ مَنْ عَرَفَكَ فَلَم يُحسِنِ الظَّنَّ بِكَ» «1».

و مضافاً إلى ذلك فإنّ سوء الظن بالوعود الإلهية يتسبب في فساد العبادة و حبط العمل، لأنّه يقتل في الإنسان روح الاخلاص وصفاء القلب، و قد قرأنا في الأحاديث السابقة أنّه:

«إِيِّاكَ أَنْ تُسِي ءَ الظّنَّ فَانَّ سُوءَ الظّنِّ يُفسِدُ العِبادَةَ وَ يُعَظِّمُ الوِزرَ» «2».

و الملاحظة الاخرى هي أنّ سوء الظن باللَّه تعالى و عدم الثقة بوعده يورث الإنسان الضعف و الاهتزاز أمام الحوادث الصعبة و الظروف العسيرة، كما ورد في تفسير الآيات الشريفة في باب سوء الظن أنّ بعض المسلمين الجدد ابتلوا بسوء الظن بالوعد الإلهي بنصر المجاهدين في ميادين القتال، و بالتالي عاشوا الهزيمة الروحية أمام الأعداء في حين أنّ المؤمنين الحقيقيين الذين كانوا يعيشون حسن الظن باللَّه كانوا يتصدّون

للأعداء و قوى الانحراف و الزيغ بمنتهى الشجاعة و الشهامة و الجرأة.

و مضافاً إلى ذلك فإنّ سوء الظن باللَّه تعالى بأمكانه أن يحرم الإنسان من العنايات الإلهية و اللطف الرباني، لأنّ اللَّه تعالى يتعامل مع عبده بما يتطابق مع حسن ظنه أو سوء ظنّه بربّه كما قرأنا في الأحاديث السابقة في وصيّة لقمان الحكيم لابنه حيث يقول:

«يا بُنَيَّ أَحسِنَ الظّنَّ بِاللَّهِ ثُمَّ سَل فِي النّاسِ مِنْ ذا الَّذِي أَحسَنَ الظَّنَّ بِاللَّهِ، فَلَم يَكُن عِندَ ظَنِّهِ بِهِ» «3».

و خلاصة الكلام أنّ الإنسان إذا أراد أن يعيش الهدوء النفسي و الاستقامة في خط

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 67، ص 394.

(2). غرر الحكم.

(3). آثار الصادقين، 12، ص 240.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 300

الاخلاق فى القرآن ج 3 349

الصلاح و الإيمان و التصدّي للنوازع الدنيوية و عناصر الشر و بالتالي ينال الإيمان الخالص و عناية اللَّه تعالى و رعايته ينبغي له أن يعيش حسن الظن باللَّه تعالى و يثق بوعده.

أسباب و دوافع سوء الظن:

اشارة

إنّ هذه الرذيلة الأخلاقية حالها حال سائر الرذائل الاخرى تنشأ من عدّة عوامل و أسباب:

1- التلّوث الظاهري و الباطني:

فالأشخاص الذين يعيشون حالة التلوث النفسي في واقعهم يتصوّرون الآخرين مثلهم من خلال (المقارنة مع الذات) و التي هي حالة تكاد تكون سائدة عند أغلب الناس حيث يتصوّرون أنّ الآخرين مثلهم، فما لم يتطهر الإنسان في ذاته و نفسه فمن العسير أن يتخلّى من سوء الظن بالنسبة إلى الآخرين، و في ذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «لا يَظُّنُّ بِأَحَدٍ خَيراً لأنّهُ لا يَراهُ إلّا بِطَبعِ نَفسِهِ» «1».

2- المعاشرة مع رفاق السوء:

فالشخص الذي يجالس رفاق السوء و الفاسدين و الأشرار من الناس فمن الطبيعي أن يسي ء الظن بجميع الناس لأنّه يتصوّر أنّ الناس مثل هؤلاء الرفاق كما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مُجالَسَةُ الأَشرارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالأخيارِ» «2».

3- المحيط الفاسد:

عند ما يعيش الإنسان في اسرة ملّوثة أو في مدينة أو مجتمع متخلّف و سيئ على المستوى الثقافي و الأخلاقي، فإنّ ذلك من شأنه أن يورثه سوء الظن بجميع الأفراد حتى الأخيار منهم، و حتى لو كان يعاشر و يجالس الصلحاء و لكنّ غلبة الفساد و الانحطاط في المجتمع بإمكانه أن يخلق فيه سوء الظن.

4- الحسد و الحقد و التكبّر و الغرور:

و تعتبر عاملًا آخر من عوامل سوء الظن، لأنّ الإنسان الحسود و الحقود يريد من خلال سوء الظن تسقيط شخصية الطرف الآخر و التقليل

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). بحار الانوار، ج 71، ص 197.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 301

من اعتباره، و كذلك الشخص المتكبّر يتحرّك من موقع تحقير الآخرين و السخرية بشخصيتهم من خلال إساءة الظن بهم و بذلك يخلق في ذهنه عن شخصية الطرف الآخر صورة مهزوزة و حقيرة.

5- عقد الحقارة: و هي أحد العوامل لسوء الظن بالناس، فالشخص الذي يعيش الحقارة في شخصيته و يشعر بالتفاهة لذاته أو يجد من الآخرين تحقيراً لشخصيته فانّه يسعى كذلك في التنقيص من شخصية الآخرين و احتقارهم و يتصوّرهم شخصيات ملّوثة و حقيرة ليشبع هذه العقدة في نفسه و يرضي حالته النفسية المهزوزة، و حينئذٍ يشعر بالراحة الكاذبة من جرّاء ذلك.

أمّا سوء الظن باللَّه تعالى فيعتمد في الأصل على ضعف الإيمان و اليقين في الإنسان و اهتزاز صورة الالوهية في دائرة صفات الذات و صفات الأفعال، فضعف اليقين و اهتزاز الإيمان من شأنه أن يخلق في فكر الإنسان سوء الظن و عدم الثقة بالوعود الإلهية لعباده، و كذلك بالنسبة إلى علم اللَّه تعالى و قدرته و رحمانيّته و رازقيّته و سائر صفاته الحسنى و بالتالي يوصد أمامه أبواب السعادة و النجاة.

مراتب سوء الظن:

و أحد الأسئلة المهمّة التي تثار على بساط البحث في هذا المورد هو أنّه أساساً هل أنّ سوء الظن أمراً اختيارياً أو غير اختياري؟ فلو رأى الإنسان ظاهرة معيّنة و أساء الظن بشخص أو أشخاص بدون اختيار، فهل هذا المعنى يوجب له الذم و التوبيخ؟ و هل تقع هذه الحالة مورداً للتكليف مع أنّ مقدّماتها غير اختيارية؟

و كيف يمكن تعلّق الذم و العقاب بأمر غير اختياري؟

و يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات و علامات الاستفهام من طريقين:

الطريق الأول: أنّ سوء الظن هذا الذي يقفز إلى ذهن الإنسان بدون اختيار منه لا يكون مورد الذم و العقاب لوحده، فلو أنّه لم يتجسّد في مرحلة العمل و لم يرتب الإنسان عليه أثراً

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 302

على مستوى الممارسة و الكلام، و لا يصدر منه سلوك يشير إلى سوء الظن هذا فإنّه لا يقع مورد الذم و لا العقاب، و لذلك ذكر بعض علماء الأخلاق في هذا المجال: «وَ أَمّا الخَواطرُ وَ حَدِيثُ النَّفسِ فَهُو مَعفُوٌ عَنهُ ... وَ لَكنَّ المَنهِيَّ عَنهُ أَنْ تَظُنَّ، و الظَّنُّ عِبارَةٌ عَمّا تِركَنُ إِلِيهِ النَّفسُ وَ يَميلُ إِلَيهِ القَلبُ» «1».

و خلاصة الكلام أنّ سوء الظن له ثلاثة مراحل:

أحدها: سوء الظن القلبي.

الثانية: سوء الظن اللّساني.

الثالثة: سوء الظن العملي.

فأمّا ما كان في القلب فلا يقع مشمولًا للتكليف لأنّه خارج عن دائرة الاختيار، و لكنّ ما يصدر من الإنسان بلسانه أو بعمله فهو الممنوع و الحرام.

و لهذا ورد في بعض الروايات قوله عليه السلام: «و إِذا ظَنننتَ فلا تَحَقِّقْ» «2».

الطريق الثاني: إنّ الكثير من أشكال سوء الظن غير الاختيارية تتضمّن مقدّمات اختيارية في البداية أو في إدامتها و استمرارها، فالأشخاص الذين يجالسون رفاق السوء فيحصل لهم سوء الظن بالأخيار ينبغي عليهم اجتناب مثل هذه المعاشرة و لمثل هؤلاء الرفاق من الفسّاق و الأشرار حتى لا تحصل لديهم حالة سوء الظن تجاه الآخرين، و هذا أمر اختياري، و لكن لو حصل له سوء الظن بدون مقدّمات اختيارية، فيجب على الإنسان أن يتفكّر في حالته هذه و يضع في تصوّره احتمالات صحيحة إلى

جانب الاحتمالات السيئة التي أورثته سوء الظن، مثلًا يقول: إنّ هذه المرأة الأجنبية التي رآها مع الشخص الفلاني، إمّا أن تكون أخته أو ابنة أخيه أو ابنة اخته أو زوجته و أمثال ذلك من أقرباء الشخص الذين لا يعرفهم هو، فلا شك أنّ مثل هذا التفكير السليم و احتمال هذه الاحتمالات الصحيحة يتسبب في إضعاف سوء الظن عنده أو يزيله تماماً من ذهنه، و لهذا ورد في الحديث الشريف

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 5، ص 268.

(2). فرائد الاصول للشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، في حديث الرفع؛ بحار الانوار، ج 55، ص 320، ذيل الحديث 6.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 303

عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «اطلُبْ لأخِيكَ عُذراً فَانْ لَم تَجِدْ لَهُ عُذراً فَالتَمِسْ لَهُ عُذراً» «1».

و قد مرّ علينا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام هو أنّه قال: «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَ أَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلًا (مَحمَلًا» «2».

و على هذا الأساس يمكننا تقسيم سوء الظن إلى ثلاثة أقسام:

1- سوء الظن الذي يتجسّد في أفعال الشخص و كلماته و أقواله، و هذا القسم من سوء الظن الحرام.

2- سوء الظن الذي لا يظهر أثره خارجاً، و لكنّه يمكن للشخص إزالته من خلال التفكير السليم و بواسطة إزالة مقدّماته الخارجية، فهذا النوع من سوء الظن يحتمل أن يكون مشمولًا لأدلّة الحرمة.

3- سوء الظن الذي لا يترتب عليه أثر خارجي، و هو خارج تماماً عن دائرة اختيار الإنسان و إرادته و لا يمكن إزالته بشتى الوسائل، فمثل هذا الظن السي ء لا يكون مشمولًا للتكاليف الشرعية ما دام الإنسان لم يرتّب عليه أثراً معيّناً.

و القرآن الكريم يشير إلى

هذا المعنى في الآية 36 من سورة الأسراء: «وَ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا».

و في هذه المرحلة يجب التوجّه إلى الاصول و المبادي ء الحاكمة في دائرة علاج الأمراض الأخلاقية و الرذائل النفسية، و أهمّها التفكّر في الآثار السلبية و العواقب الوخيمة لسوء الظن، لأنّه عند ما يتفكّر الإنسان في عواقب سوء الظن و كيف أنّه يتلف رأس المال الاجتماعي بين أفراد البشر و يسلب منهم الثقة و الاعتماد المتقابل و يربك الهدوء و الاستقرار في مفاصل المجتمع، و يتسبب في خسارة الإنسان لأصدقائه و فقده لأحبائه و يورثه الغفلة عن واقعيّات الامور و الحقائق الاجتماعية، و يقوده إلى إرتكاب الظلم و العدوان في حق الآخرين (كما تقدّم تفصيله سابقاً) فحينئذٍ سوف يبتعد عن هذه الرذيلة

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 72، ص 196، ح 15.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، ح 360؛ بحار الانوار، ج 71، ص 187.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 304

الأخلاقية بدون صعوبة، كما أنّ إطّلاع الإنسان على كون الغذاء مسموماً سيخلق في نفسه مناعة شديدة عن تناوله، هذا من جهة.

و من جهة اخرى فإنّه كلّما تحرّك الإنسان لقطع جذور هذه الرذيلة و قلع أسبابها من مواقع النفس، أي مجالسة رفاق السوء و التي تسبب سوء الظن بالأخيار أو يبتعد مهما أمكنه عن الأجواء الملّوثة و المحيط السي ء و الفاسد، و يطهّر قلبه من أدران الحسد و الحقد و التكبّر و الغرور التي هي من العوامل المهمّة لسوء الظن و أمثال ذلك من الأسباب و العوامل الاخرى فسوف تنتهي و تزول منه هذه الرذيلة الأخلاقية.

و مضافاً إلى ذلك فإنّ بعض الامور يمكنها أن

تساعد الإنسان على إنقاذه من شر هذه الحالة السلبية، و هي:

الف: البحث عن الاحتمالات السليمة في تبرير سلوكيات الآخرين المبهمة التي قد تورثه سوء الظن، كما قرأنا في الروايات السابقة عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَ أَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلًا (مَحمَلًا» «1».

و من الواضح أنّ الكثير من الأعمال و السلوكيات الصادرة من الأشخاص تقبل التبرير السليم و الحمل على الصحّة.

ب: أن يبتعد الإنسان عن التجسّس في أعمال الآخرين و الذي قد يكون معلولًا لسوء الظن أولًا، و يتسبب كذلك في سوء الظن أيضاً، فلو أنّ الإنسان تجنّب التجسّس في حياة الآخرين الخصوصية فانّه يكون قد تخلّص من أحد الأسباب المهمّة لسوء الظن.

ج: أن لا يرتب أثراً عملياً على سوء ظنّه و بذلك يحقّق له أحد طرق العلاج لهذه الرذيلة، لأنّ الإنسان إذا أساء الظن بشخص من الأشخاص و أفعاله ثم جسّد سوء الظن هذا على سلوكياته و أفعاله كأن يبتعد عنه و يظهر عدم الثقة به أو يستشمّ من أفعاله و علاقته بذلك الشخص أنّه يسي ء الظن به، فهذه الحالة تسبب في تقوية سوء الظن و زيادته و اشتداده، و لكن إذا لم يهتمّ لذلك و لم يرتّب عليه أثراً، فإنّه سيضعف تدريجياً و بالتالي سينتهي و لذلك

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكلمات القصار، ح 360.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 305

ورد في الروايات الإسلامية: «إِذا ظَنَنَّتُم فَلا تَحَقَّقُوا» «1».

و لا شك أنّ الالتفات إلى العقوبات الإلهية الاخروية و الآثار المعنوية السلبية لهذه الرذيلة الأخلاقية و التي سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة لها أثر قوي أيضاً في الوقاية من الابتلاء بهذا المرض المعنوي، و تمنح الإنسان

القدرة على التحرّك بعيداً عن ممارسة تداعيات هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.

موارد الاستثناء:

لا شك أنّ قبح سوء الظن رغم أنّه يعتبر قاعدة كليّة و أصل من الاصول الاخلاقّية في دائرة علم الإخلاق، إلّا أنّه هناك إستثناءات لهذا الأصل العام وردت الإشارة إليها في الروايات الإسلامية، و من ذلك:

ألف) إذا ساد الفساد و الانحطاط الأخلاقي في مجتمع ما و كان التلّوث بالرذائل الإخلاقيّة هو السائد لهذا المجتمع البشري فانّ حسن الظن في مثل هذه الحالات ليس فقط لا يعدّ من الفضائل الإخلاقية، بل يمكن أن يورّط الإنسان بعواقب سلبيّة و مشاكل حقيقية أيضاً، و ورد التحذير من هذا النوع من حسن الظن في الروايات الإسلاميّة.

فنقرأ في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «اذا اسْتَوْلَى الصَّلاحُ عَلَى الزَّمانِ وَ اهْلِهِ ثُمَّ أساءَ رَجُلٌ الظَنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَم، وَ إِذا اسْتَوْلَى الْفَسادُ عَلَى الزَّمانِ وَ اهْلِهِ فَاحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ» «2».

و هذا المضمون ورد أيضاً بتعبيرات مختلفة عن الإمام الصادق عليه السلام و الكاظم عليه السلام و الهادي عليه السلام «3».

و قد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ» «4».

______________________________

(1). كنز العمال، ج 3، ص 479، ح 7585.

(2). نهج البلاغة، كلمات قصار، ح 114.

(3). ميزان الحكمه، ج 2، ص 1787، ح 11575 تا 11577.

(4). بحار الانوار، ج 74، ص 158، ح 142.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 306

و هذا أيضاً يمكن أن يكون إشارة لمثل هذه الأزمان و الحالات التي يسود فيها الإنحطاط الأخلاقي في مفاصل المجتمع البشري، و إلّا فانّ سوء الظن بعنوانه أصل عام لا يمكن أن يكون مورد المدح و الثناء

و القبول.

و يستفاد من مجموع ما تقدم من الروايات أنّ الأصل في الأجواء الاجتماعية السالمة نسبياً هو حسن الظن، و على العكس من ذلك فإذا عاش الإنسان في أجواء فاسدة و متخلّفة فانّ الأصل يجب أن يبتنى على سوء الظن، و طبعاً هذا لا يعني أن ينسب الإنسان بعض التهم و يلفّق بعض العيوب و النقائص لشخص من الأشخاص، بل ينبغي الاحتياط في مثل هذه الظروف لئلّا يتورّط الإنسان في مشاكل و مصاعب يفرضها عليه هذا المحيط الفاسد.

و طبعاً لا ينبغي أن يكون هذا الاستثناء و هذه الروايات ذريعة بيد الأشخاص لكي يتحرّكوا من موقع سوء الظن بأيّ إنسان و يقول بأنّ هذا الزمان كثر فيه الفساد و شاع فيه الانحطاط فمن الخطأ حسن الظن بالناس، فحتى في الأزمنة الفاسدة و الأجواء المنحطة يجب على الإنسان أن يصنّف الناس إلى عدّة أصناف، فيجعل من الأشخاص الذين يتجّلى في محياهم الصلاح و الخير في دائرة الصالحين، فلا ينبغي أن يكونوا مورد سوء الظن ما دام لم يشاهد منهم أمراً منكراً من موقع الوضوح.

و لكنه عليه أن يضع الفئات التي شاهد منها سلوكيات مخالفة و أفعال منكرة بصورة متكررة في صف الأشرار و المفسدين، و لا ينبغي عليه أن يحسن الظن بنيّاتهم و أفعالهم اطلاقاً.

ب) بالنسبة إلى الامور الأمنيّة في المجتمع الإسلامي و التي يتعلّق بها سلامة المجتمع و أمنه و استقراره لا يجوز حسن الظن بأيّة حركة مشكوكة في هذا المجتمع، بل يجب عليه أن يبتعد عن حسن الظن ما أمكنه ذلك، أو بتعبير آخر يجب عليه أن يتّخذ جلباب الاحتياط في تعامله مع هذه السلوكيات و الحركات الصادرة من بعض الأفراد المشكوكين.

و مفهوم هذا الكلام

لا يعني أنّه يجوز هتك حرمة الأفراد أو التعامل معهم بسلبية نتيجة سوء الظن، بل المراد أنّ جميع الحركات و السلوكيات المشكوكة يجب أن توضع تحت النظر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 307

و يتمّ دراستها بدقّة، فلو اتّضح بعد التحقيق و من خلال القرائن و البيّنات الواضحة أنّ مثل هذه الحركات كانت بدافع من سوء النيّة و مقترنة بتصرفات خاطئة و محرّمة هناك ينبغي إتّخاذ التدابير العملية اللازمة.

ج) و من الموارد الاخرى التي يجوز فيها سوء الظن، بل قد يكون واجباً أيضاً هو في الحالات التي يكون الإنسان في مقابل العدو، و يمكن أن يطلب العدو الصلح و ينادي بالمحبّة و الصداقة و يعلن عن رغبته في التعاون و أمثال ذلك، فمثل هذه الموارد لا ينبغي التعامل معه بسذاجة و تصديق كلّما يقوله من موقع حسن الظن و اسدال الستار عن الماضي نهائيّاً و التقدّم إلى العدو بابتسامة عريضة و الشد على يده و معانقته، بل ينبغي أن يضع في زاوية الاحتمال أن يكون هذا السلوك من العدو من موقع المكر و الحيلة و الخدعة لإستغفال الطرف المقابل.

و لهذا ورد في عهد مالك الأشتر المعروف قول أمير المؤمنين عليه السلام: «الحَذَرُ كُلُّ الحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعدَ صُلحِهِ فَإنَّ العَدُوَّ رُبَّما قاربَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالحَزمِ وَ اتَّهِم فِي ذَلِكَ حُسنَ الظَّنِّ» «1».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 308

13

التجسّس في الحالات الخاصة للناس

تنويه:

(التجسّس) بمعنى البحث و الفحص في أعمال الآخرين و الامور المتعلّقة بهم، و غالباً ما يكون هذا البحث في الامور السلبية و نقاط الضعف و السلوكيات الذميمة، و لكنّ التجسّس في لغة العرب يأتي بمعنى البحث و الفحص في المسائل الإيجابية أيضاً.

و في الحقيقة أنّ سوء

الظن هو السبب في أن يتحرّك الإنسان للكشف عن أسرار الناس و امورهم الخفيّة، و أحياناً تدخل عوامل اخرى من قبيل: البخل و الحسد و ضيق الافق و أمثال ذلك في خلق هذه الحالة الذميمة لدى الإنسان.

التجسّس بالشكل المذكور آنفاً يعتبر حالة ذميمة جدّاً في دائرة المفاهيم الإسلامية و من الأعمال المحرّمة حيث يتسبب في سلب الأمن الاجتماعي و خلق أنواع الخصومات و النزاعات بين الأفراد، فلو ابيح لكلّ شخص أن يتدخّل في الكشف عن أسرار الآخرين و التدخل في امورهم الخاصّة في حياتهم الفردية و الاسرية، فلا يبعد أن يترتب على ذلك هتك حرمة الكثير من الأفراد و تدمير شخصيتهم الاجتماعية و بالتالي إندلاع نيران الحقد و العداوة و البغضاء في المجتمع بحيث يتحوّل مثل هذا المجتمع إلى جحيم لا يطاق.

و بالطبع فإنّ هذا الحكم الأخلاقي و الإسلامي لا يتقاطع أبداً مع ضرورة وجود أجهزة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 310

أمنيّة و تجسّسية في جهاز الحكومة الإسلامية، لأنّ ما تقدّم من التجسّس المذموم يتعلّق بالحياة الخاصة للأفراد، و أمّا هذا المعنى الثاني فيتعلّق بمصير المجتمع و أمنه و يهدف إلى التصدّي لمؤامرات الأعداء و كشف مخططاتهم و الوقاية من تسرّب عناصر الشر و الانحراف في مفاصل المجتمع الإسلامي.

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي منه الدروس الأخلاقية في هذا الباب.

نقرأ في القرآن الكريم آية واحدة تنهى عن التجسّس، و هي الآية 12 من سورة الحجرات حيث يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُوا وَ لَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

و كما تقدّمت الإشارة إليه في بحث الغيبة و سوء الظن فإنّ الآية الشريفة المذكورة أعلاه تنهى

عن ثلاثة أشياء، و هي في الواقع بمثابة العلّة و المعلول، فالأول تنهى عن سوء الظن الذي يعدّ العلّة و المصدر للتجسّس، ثم تنهى عن التجسّس الذي يتسبب في الكشف عن عيوب الآخرين المستورة و بالتالي التحرّك من موقع غيبتهم و فضح معايبهم.

و كما تقدّمت الإشارة إليه آنفاً فإنّ (التجسّس) له مفهوم سلبي و يراد به عادة سلوك غير أخلاقي تجاه الآخرين، و لكنّ (التجسّس) قد يرد في مورد يكون البحث و الفحص عن الشي ء مطلوباً و محموداً كما نقرأ في قصّة يوسف عليه السلام أنّ يعقوب عليه السلام أمر أولاده و قال: «يَا بَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» «1».

و ذهب البعض إلى أنّ التحسّس بمعنى إستراق السمع بالنسبة لكلمات و أحاديث الآخرين، في حين أنّ التجسّس هو البحث و الفحص العملي عن أسرار و عيوب الآخرين.

و ممّا يلفت النظر أنّ النهي عن التجسّس في آية سورة الحجرات لم يتقيّد بقيد أو شرط، و هذا يدلّ على أنّ الأصل هو حرمة التجسّس بعنوان قاعدة عامّة، و لو رأينا أحياناً في الأحكام الإسلامية جواز التجسّس لأغراض خاصّة فإنّ ذلك من قبيل الاستثناء.

و قد كان الحكم بحرمة التجسّس و بالنظر لهذه الآية الشريفة إلى درجة من الوضوح في

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 87.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 311

الذهنية المسلمة حتى أنّ المسلمين كانوا يستدلون بهذه الآية كدليل على حرمة التجسّس، فقد ورد في مصادر أهل السنة من قبيل كنز العمال نقلًا عن (ثور الكندي) حيث يقول: كان عمر بن الخطاب يعسّ في الليل في أزقة المدينة فسمع يوماً صوت رجل يغني في داخل بيته فما كان من عمر إلّا

أن تسلق الجدار فصاح به: يا عدو اللَّه أحسبت أنّك ترتكب الذنب في خفاء و أنّ اللَّه تعالى لا يراك؟

فقال له ذلك الرجل: لا تعجل يا أمير المؤمنين، فلو ارتكبت ذنباً واحداً فقد ارتكبت أنت ثلاثة، فانّ اللَّه تعالى يقول «وَ لا تَجَسَّسُوا» و أنت قد تجسّست علينا، و يقول أيضاً: «وَ أتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «1»، و أنت تسلقت الجدار، و اللَّه تعالى يقول: «لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا» «2»، و أنت دخلت البيت بلا اذن و لا سلام.

فما كان من عمر إلّا أن أطرق أمام هذا الاستدلال المتين ثم قال له: إذا عفوت عنك فهل تترك ما أنت عليه؟ فقال: نعم، فتركه عمر و ذهب «3».

التجسّس في الروايات الإسلامية:

إنّ مسألة التجسّس ذكرت في الروايات الإسلامية من موقع الذم و التقبيح بحيث أنّ القاري ء لهذه الروايات يستنتج أهمية و شناعة هذا العمل و السلوك الأخلاقي الذميم، و من ذلك:

1- ما ورد عن رسول اللَّه أنّه قال: «إِيّاكُم وَ الظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيثِ وَ لا تَحَسَّسُوا وَ لا تَجَسَّسُوا» «4».

2- و نقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم أيضاً قوله: «لا تَحاسَدُوا وَ لا تَباغَضُوا وَ لَا

______________________________

(1) سورة البقرة، الآية 189.

(2) سورة النور، الآية 27.

(3) كنز العمال، ج 3، ص 808، ح 8827.

(4) صحيح المسلم، ج 4، ص 1985، ح 2563.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 312

تَجَسَّسُوا وَ لا تَحَسَّسُوا وَ لا تَناجَشُوا وَ كُونُوا عِبادَ اللَّهِ إِخواناً» «1».

و يتّضح من هذا الحديث جيداً أنّ حال التجسّس كحال الحسد و الحقد و الكراهية فإنّه يتسبب في تباعد الناس و تمزّق أوصال المجتمع الإسلامي و التدهور و الارتباك في العلاقات الاجتماعية بين

الناس.

و قد أورد الكليني في كتابه الكافي حديثاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا مَعْشَرَ مَنْ أَسلَمَ بِلِسانِهِ وَ لَم يُسلِمْ بِقَلبِهِ لاتَتَبِّعُوا عَثَراتِ المُسلِمِينَ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَثَراتِ المُسلِمِينَ تَتَبَّعُ اللَّهُ عَثرَتَهُ وَ مَن تَتَبَّعُ اللَّهُ عَثرَتَهُ يَفْضَحْهُ» «2».

3- و في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «تَتَبَّعُ العَيُوبِ مِنْ أَقبَحِ العُيُوبِ وَ شَرِّ السَّيِّئاتِ» «3».

4- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «مَنْ بَحَثَ عَنْ أَسرارِ غَيرِهِ أَظهَرَ اللَّهُ أَسرارَهُ» «4».

5- و جاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً قوله: «مَن تَتَبَّعَ خَفِيَّاتِ العُيُوبِ حَرَّمَهُ اللَّهُ مَوَدّاتِ القُلُوبِ» «5».

6- و ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه: «لا تُفَتَّشِ النّاسَ عَنْ أَديانِهِم فَتَبقى بِلا صَدِيقٍ» «6».

و هذا يدلّ على أنّ أغلب الناس لهم عيوب و نقائص في دائرة العقيدة أو العمل، فعند ما تبقى مستورة و خفيّة، فإنّ ذلك من شأنه أن يوطّد العلاقات بين الأفراد و يتعامل الأفراد فيما بينهم من موقع المحبّة و الود و يلتزمون بأصالة الصحّة و العدالة في الطرف الآخر، و لكن في غير هذه الصورة فانّ الإنسان يبقى بلا صديق.

______________________________

(1). صحيح المسلم، ج 4، ص 1985، ح 2563.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 354، ح 4.

(3). غرر الحكم.

(4). المصدر السابق.

(5). المصدر السابق.

(6). بحار الانوار، ج 75، ص 253، ح 109.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 313

الآثار و العواقب السلبية للتجسّس:

إنّ البحث و التفحّص عن حال الآخرين لغرض الكشف عمّا خفي من معايبهم و نواقصهم له آثار سلبية كثيرة في حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية.

لأنّه من جهة يؤدّي إلى نفور الناس

و كراهيتهم لمن يتدخل في شؤونهم الخاصة و يتعدّى على أسرارهم و يهدف إلى الكشف عن امورهم الخاصة، فيرون مثل هذا الشخص معتدياً على حريمهم الخاص و لا يقيمون له احتراماً و لا يرون له شخصية و حيثية في نظرهم و يكرهون من يعيش هذه الحالة الذميمة بشدّة.

و قد قرأنا في الحديث السابق قول الإمام الصادق عليه السلام أنّ الشخص الذي يفتّش عن عيوب الناس يبقى بلا صديق، فيمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

و من جهة اخرى فإنّ أغلب الناس لديهم نقاط ضعف و عيوب في شخصيتهم و سلوكياتهم و أخلاقهم فهي لو أنّها بقيت مستورة و في حيّز الكتمان، فإنّ ذلك من شأنه أن يدفع بعجلة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد كما يرام، و لكن عند انتشار هذه العيوب و نقاط الضعف فإنّ ذلك من شأنه أن يتسبب في سوء الظن لدى الأفراد و انفصام علقة الاخوة و الصداقة و المحبّة بينهم.

و من جهة ثالثة فانّ التجسّس و التفتيش عن عقائد الآخرين و أسرارهم و عيوبهم يتسبب في تعميق حالة الكراهية و الحقد و العداوة بين أفراد المجتمع و أحياناً يؤدّي إلى النزاع الدموي الشديد بينهم.

فإذا أردنا أن يعيش المجتمع السلامة و الاطمئنان و الاستقرار فينبغي الحذر و الابتعاد عن هذا السلوك السلبي.

و من جهة رابعة فإنّ أكثر الناس يتحرّكون في مقابل هذا العمل من موقع المقابلة بالمثل، أي يسعون إلى التجسّس و الفحص عن عيوب الشخص الفضولي و المتجسّس على أحوالهم و يكشفونها إلى الملأ، و لعل هذا الحديث الشريف ناظر إلى هذا المعنى و هو قوله: «مَنْ بَحَثَ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 314

عَنْ أَسرارِ غَيرِهِ أَظهَرَ اللَّهُ أَسرارَهُ» «1».

و نقرأ في

حديث آخر قوله عليه السلام: «مَنْ كَشَفَ حَجابَ أَخِيهِ إِنكَشَفَتْ عَورَاتُ بَيتِه» «2»، و هو قد يكون إشارة إلى هذا المعنى بالذات، أو إشارة للأثر الوضعي و نتائج هذا العمل في الدنيا.

و نقرأ كذلك في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «مَنْ تَطَّلَعَ عَلى أَسرارِ جارِهِ إِنتُهِكَتْ أَستارُهُ» «3».

أمّا الدوافع على هذه الرذيلة الأخلاقية و هي التجسّس و التفتيش في أسرار الناس و أحوالهم الخاصة فكثيرة، و من ذلك:

1- سوء الظن بالآخرين الذي يقود الإنسان غالباً إلى التجسّس عن أحوالهم، فلو أنّه استبدله بحسن الظن فإنّه لا يفكّر عند ذاك بالتفتيش عن عيوب الآخرين، و لهذا السبب كما أشرنا سابقاً أنّ الآية 12 من سورة الحجرات تنهى عن التجسّس بعد النهي عن سوء الظن.

2- التلوّث بالذنوب و العيوب المختلفة و الذي يعدّ عاملًا آخر يدفع صاحبه نحو التجسّس على الآخرين، لأنّ الشخص الملّوث بالذنوب و الغارق في العيوب يريد أن يرى جميع الناس مثله، و بذلك سوف ينطلق من موقع جبران عيوبه و خلق أجواء كاذبة له من الهدوء النفسي و تسكين حالة التوتر التي تفرضها عليه عيوبه الكثيرة فيقول في نفسه بأنني إذا كنت ملّوثاً فسائر الناس كذلك.

و نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «شَرُّ النّاسِ الظّانّون و شَرُّ الظّانّين المُتَجَسِّسُونَ» «4».

و أحد العوامل الاخرى للتجسّس هي حالات الحسد و الحقد و العداوة و التكبّر و العجب في واقع الإنسان الناقص حيث تدفعه هذه العناصر الشريرة إلى التفتيش عن عيوب

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 147، الباب 141، ح 15 الطبعة الجديدة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 315

الآخرين

و استخدامها كأداة لتسقيطهم و هتك حيثيّتهم لغرض إرضاء الميل إلى التفوّق و رؤية الأنا متعالية على الآخرين.

4- و من العوامل الاخرى لهذه الرذيلة هو ضعف الإيمان أيضاً، لأنّ الإنسان الذي يعيش ضعف الإيمان باللَّه تعالى لا يلتزم باحترام إيمان الآخرين و شخصيتهم الاجتماعية، و لذلك يتدخّل بأدنى حجّة في امورهم الخاصة و حريم حياتهم الخصوصية و لا يرى بأساً في الكشف عن مثالبهم و هتك حرمتهم و إراقة ماء وجوههم، كما قرأنا في الأحاديث السابقة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأنّ مثل هؤلاء الأشخاص هو من قبيل: «يا مَعْشَرَ مَنْ آمَن بِلِسانِهِ وَ لَم يَدخُلِ الإيمانَ فِي قَلبِهِ».

استثناءات:

اشارة

هنا يطرح سؤال و هو: هل أنّ التجسّس يعدّ عاملًا منافياً للأخلاق و الشرع في جميع الموارد، أو هناك بعض الاستثناءات التي تخرجه عن دائرة الحرمة الشرعية؟ فإنّ جميع الدول و الحكومات في العالم سواءً الإسلامية و غير الإسلامية لديها أجهزة أمنيّة خاصة تعمل في دائرة التجسّس و الفحص عن أسرار الناس و حالاتهم و تتدخل في امورهم و تسعى إلى الكشف عن أسرارهم، و هناك موارد اخرى لا يكون التجسس في امور الناس ممنوعاً في نظر عقلاء العالم، بل قد يكون لازماً و ضرورياً.

و في مقام الجواب عن هذا السؤال يجب القول إنّ هذا الأصل العام في مسألة حرمة التجسّس و قبحه في دائرة القيم الأخلاقية له بعض الموارد الاستثنائية كما هو الحال في الاصول العامة الاخرى، و من ذلك:

1- الأجهزة الأمنيّة

إنّ كل حكومة و دولة تجد نفسها موظفة بحماية شعبها من شر مؤامرات الأعداء في الداخل و الخارج و تستخدم الحذر من جواسيس الأعداء، و لا شك أنّ المسؤولين في هذه الحكومات إذا أرادوا أن يواجهوا الأحداث و الوقائع من موقع حسن الظن و الحمل على

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 316

الصحة، فإنّ ذلك من شأنه أن يورطّهم في العواقب الوخيمة لمؤامرات الاعداء من المنافقين في الداخل و من تربّص بهم الدوائر في الخارج، لأنّ مؤامراتهم سريّة جدّاً و يتحرّكون بمنتهى الحذر و التستر بظواهر طبيعية و أقنعة جميلة و لا يتسنى للمسؤولين التعرّف على حالهم إلّا من خلال التفتيش الدقيق و التجسّس المستمر لكشف مؤامرات هؤلاء الأعداء و ابطال مفعولها.

ففي مثل هذه الموارد يجب اجتناب حسن الظن و الابتعاد عن الحمل على الظاهر الحسن، بل ينبغي النظر إلى كل ظاهرة اجتماعية و سياسية

من موقع سوء الظن لحفظ الأهداف الكبيرة و الأغراض المتعالية للمصالح العامة للُامّة الإسلامية و بذلك تتّضح الحكمة من تشكيل الأجهزة الأمنيّة و التجسسية في الداخل و الخارج، و بعبارة اخرى: إنّ هذا الاستثناء ينبع من قانون الأهم و المهم، فما أكثر الأفراد الذين يقعون مورد سوء الظن و بالتالي تتحرّك الأجهزة الأمنيّة للتفتيش عن أحوالهم الخاصة فيثبت برائتهم و سلامتهم من أي عمل شائن، و لكن من البديهي أنّه و لغرض العثور على المجرم الواقعي و عملاء الأعداء في الداخل فلا مفرّ من مزاولة البحث و الفحص الواسع في جميع الموارد المحتملة للوصول إلى نتيجة حاسمة.

و قد يلزم أحياناً أن تبعث الحكومة ببعض الجواسيس و بظواهر مختلفة وسط الأعداء أو إدخال بعض عناصر الأمن كموظفين في المؤسسات المهمّة التي تعمل في الداخل على شكل عامل أو موظف و أمثال ذلك كيما يتسنى لها الكشف عن بذور الفتنة و احباط أيّة مؤامرة قبل تشكلها و اشتدادها، و بالتالي تعرّض الامّة مصالحها للخطر.

و بالطبع فإنّ هذا لا يعني أنّه يمكن إتّخاذ هذا الاسلوب ذريعة للتدخل في الحياة الخصوصية لجميع أفراد المجتمع و إذاعة أسرارهم و كشف مساوئهم التي لا ترتبط اطلاقاً بمصالح الامّة و أهدافها البعيدة رغم أننا نرى مع الأسف الكثير من التخلفات التي تجري في إطار هذا الأصل العقلائي فيساء استخدامه في كثير من الأحيان، و نظراً إلى أنّ الجواز في عملية التجسّس يعتبر حكماً استثنائياً من الأصل العام فلا بدّ من مراعاة هذه الموارد بدقّة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 317

و النظر إلى فلسفة هذا الحكم بالذات كيما نتجنّب الافراط في بعض الممارسات التي تدخل تحت هذا العنوان.

و نقرأ في آيات القرآن الكريم و

سيرة النبي الأكرم و الروايات الإسلامية إشارات واضحة إلى هذه المسألة المهمّة.

فيقول القرآن الكريم في الآية 47 من سورة التوبة بصراحة أنّ من بين المسلمين أشخاصاً يمثّلون عملاء العدو و جواسيسه، و على المسلمين أن يحذروا منهم حيث تقول الآية: «وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ».

و من هذا القبيل ما ورد في قصّة المرأة التي أرسلها بعض المنافقين لتوصل أخبار المدينة إلى المشركين في مكّة قبيل الفتح و أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد جهّز جيوشاً كبيرة للهجوم على مكّة حيث أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الإمام علي عليه السلام ورائها فوجدها في الطريق و هددها لتسلّم الرسالة، فاضطرت أخيراً إلى الاعتراف و تسليم هذه الرسالة إلى أمير المؤمنين عليه السلام «1»، و كذلك قصّة تجسّس حذيفة في معركة الأحزاب لصالح المسلمين و نفوذه إلى قلب جيش الأعداء لتفحّص الأخبار و نقلها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «2».

و يستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هذه المسألة كانت موجودة أيضاً في عصر الانبياء السابقين، و أحياناً تتخذ صبغة إعجازية كما في قصّة النبي سليمان عليه السلام عند ما استخدم الهدهد ليوصل إليه أخبار المناطق البعيدة.

و نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذا بَعَثَ جَيشَاً فَاتَّهم أَمِيراً بَعَثَ مَعَهُم مِنْ ثِقاتِهِ مَنْ يَتَجَسَّسُ لَهُ خَبَرَهُ» «3».

و نقرأ في نهج البلاغة في الكتاب 33 قول الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام لقُشم بن عباس أمير مكّة: «أَمّا بَعدُ فَإنَّ عَينِي بِالمَغرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعلِمُنِي إِنَّهُ وُجِّهَ إِلَى المَوسِمِ مِنْ أَهلِ الشَّامِ العَمي القُلُوبِ ... الَّذِينَ يَلبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ وَ يُطِيعُونَ

المَخلُوقَ فِي مَعصِيةِ الخَالِقِ ...

______________________________

(1). راجع نفحات القرآن، ج 10

(2). راجع نفحات القرآن، ج 10.

(3). وسائل الشيعة، 11، 44، ح 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 318

فَأَقِمْ عَلى ما فِي يَدَيكَ قِيامَ الحَازِمِ الصَّلبِ».

و في حديث آخر عن أنس بن مالك عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه أرسل شخصاً يدعى (بسبسه) «1» من أصحابه للتجسّس على أحوال قافلة أبي سفيان و إخبار النبي بأخبارها «2».

و نقرأ إشارة واضحة إلى هذا المطلب في عهد مالك الأشتر حيث يأمره أمير المؤمنين عليه السلام أن يجعل العيون و الجواسيس على موظفيه و عمّاله كيما يراقب أعمالهم عن كثب من حيث لا يشعرون فيقول: «ثُمَّ تَفَّقَد أَعمالَهُم و ابعَثْ العُيُوَنَ مِنْ أَهلِ الصِّدقِ وَ الوَفاءِ عَليهِم، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لُامُورِهِم حَدوَةٌ لَهُمُ عَلى إِستِعمالِ الأَمانَةِ و الرِّفقِ بِالرَّعِيَّةِ» «3».

و جاء في الحديث المعروف عن الإمام الحسين عليه السلام في مسألة بقاء محمد بن الحنفية في المدينة أنّه عند ما عزم الإمام الحسين عليه السلام على التحرّك من المدينة باتجاه مكّة و منها إلى كربلاء أراد أخوه محمد بن الحنفية أن يصطحبه في هذا السفر فقال له الإمام عليه السلام: «أَمَّا أَنتَ فَلا، عَلَيكَ أَنْ تُقِيمُ بِالمَدِينَةِ وَ تَكُونَ لِي عَيناً لا تَخفِ عَنِّي شيئاً مِنْ امورِهِم» «4».

2- منظمات التفتيش و التحقيق

هناك الكثير من المنظمات في جميع الأدارات و المؤسسات المهمّة في هذا العصر باسم منظمات الفحص و التحقيق و التي تعمل لغرض إعمال النظر على عمل الموظّفين و العمّال و التصدّي لعمليات الاسراف و الخلاف و ضبط الامور و استطلاع الأحوال في مفاصل هذه الدوائر و المؤسّسات.

و بديهي أنّ عملهم ليس هو التجسّس على الامور الخاصة و الأحوال الشخصية

للعمّال و الموظّفين في هذه المؤسّسات و الدوائر، بل عملهم يهدف إلى النظارة على الامور المتعلّقة بأداء العمل و الوظيفة الاجتماعية و رعاية مصالح الامّة، فلو أنّه تمّ الاستغناء عن هذه

______________________________

(1). نقل في بعض الكتب (بَسْبَسْ) أو بسبس بن عمرو (سيرة ابن هشام، ج 2، ص 265).

(2). سنن أبي داود، ح 2618.

(3). نهج البلاغة، الرسالة 53.

(4). حياة الحسين عليه السلام، ج 2، ص 263.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 319

المنظمات الاستخباراتية و تعطيل أعمالها فيمكن أن يستشري الفساد و الخلل في مؤسّسات المجتمع الكبيرة و إداراته المهمّة.

و من الواضح أنّ هذه المسألة لا تختص بزمان و مكان معيّن بل كانت موجودة منذ قديم الأيّام و في مناطق مختلفة من العالم.

و أمّا الفرق بين الأجهزة الأمنيّة و هذه المنظّمات التحقيقية فهو أنّ الأجهزة الأمنيّة تعمل في الخفاء لرصد أعمال المتآمرين على أمن الوطن و الشعب و لكنّ المنظمات التحقيقية تعمل بوضح النهار و تدرس الحالات المشكوكة و تتفحّص عن ما يثير الريبة و الخلاف كيما تكشف عن السلوكيات الخاطئة لدى الموظّفين و المدراء و العمّال و تسلّمهم إلى العدالة.

3- التجسّس في المسائل المصيرية

يحق لمن يريد أن يختار له زوجة في حياته أو يسعى للعثور على شريك في أعماله التجارية أو موظّف يشتغل في منصب حسّاس في مؤسّسة معيّنة و لا يتمكن من تحقيق ذلك بدون سلوك التجسّس و التحقيق في هذه المسألة و الكشف عن زواياها الخفيّة، فالعقل و الشرع يبيحان له أن يتفحّص في أحوال هؤلاء الأشخاص من أصدقائهم و أقربائهم و أرحامهم أو يتحرّك بنفسه لمراقبة حالاتهم و أوضاعهم من بعيد لكي يحصل له الاطمئنان بصلاح هذا الشخص و أنّه مناسب لهذا الغرض الذي يسعى إليه.

و من

المعلوم أنّ مثل هذا التحقيق و التفحّص خارج عن دائرة التجسّس الحرام، و لكن لا ينبغي اطلاقاً أن يجعل ذلك ذريعة للتدخل إلى حريم الحياة الخاصة للأفراد، فلو أنّه لم يصمم فعلًا على الزواج من تلك المرأة أو يستخدم الشريك الفلاني فلا يجوز له بهذه الذريعة أن يتجسّس على أحوالهم و لكنّه يبرّر عمله هذا بالقول بأنّه يمكن أن تحصل لديه حاجة يوماً من الأيّام لمثل هذه المعلومات التي اكتسبها عن طريق التجسّس، فمثل هذه التبريرات الشيطانية لا يمكن أن تعتبر مجوّزاً للتعدّي على حدود الشرع و ارتكاب الحرام.

و الخلاصة أنّ كلّ شكل من أشكال الافراط و التفريط في هذه المسألة يتسبب في

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 320

الانحراف عن تعاليم الإسلام الأصلية، و بعبارة اخرى: أنّه لا يمكن الابتعاد عن التجسّس و الفحص و التحقيق في امهات المسائل الاجتماعية و الضرورات الحياتية للمجتمع بسبب حرمة التجسّس و بالتالي تتعرّض مصالح الامّة للخطر و مؤامرات الأعداء، و لا يمكن كذلك تعريض مصالح الامّة للخطر من جهة التدخل في خصوصيات الحياة الفرديّة للأشخاص التي لا ترتبط من قريب أو بعيد بالمصالح العامة و بذريعة جواز التجسّس في دائرة الاستثناء، فكلا هذين الأمرين خارج عن حدود الحق و العدالة و بعيد عن مفاهيم الإسلام.

طرق العلاج:

و ما لم يتحرّك الإنسان في طريق إزالة جذور هذه الحالة الذميمة من واقع النفس و القضاء على أسبابها و دوافعها فإنّ تركها و الابتعاد عنها سيكون عسيراً للغاية، و عليه فمن أراد التحرّك على مستوى تهذيب النفس و تطهيرها من هذه الصفة الذميمة يجب عليه أولًا الابتعاد عن سوء الظن (وفق ما ذكرنا في الأبحاث السابقة) لأنّ سوء الظن يدفع الإنسان دائماً

إلى الفحص و البحث عن أحوال الطرف الآخر الذاتية، و كذلك الحسد و الحقد و العداوة و التكبّر كل واحدة منها يمكنها أن تكون عاملًا من عوامل التجسّس على الامور الخاصة بالآخرين بحيث أنّ الإنسان لو سعى لقلع عناصر الشر هذه من وجوده و قلبه فإنّ التجسّس سيزول بالتبع.

و العامل الآخر (عقدة الحقارة) و التلّوث بالذنب الذي يدعو الإنسان إلى أن يتصوّر الآخرين مثله ليكون مصداقاً للمثل الشائع «البلية إذا عَمَّتْ طابَتْ» و ليحصل من ذلك على راحة نفسية كاذبة تدغدغ عواطفه و تسكّن من وخز ضميره، فلو سعى الإنسان لتطهير نفسه من هذا التلّوث و هذه العقدة، فإنّه لا يجد في نفسه حاجة للتفتيش و الفحص عن حالات الآخرين الخصوصية.

و مضافاً إلى ذلك فإنّ كل شخص يجب أن يفكّر في هذه الحقيقة، و هي هل أنّه يرضى للآخرين أن يتدخّلوا في حياته و اموره الخاصة و يكشف عن أسراره؟ فلو أنّه لم يرض عن

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 321

ذلك فلما ذا يجد في نفسه الرغبة للتدخل في حياة الآخرين الخصوصية و التجسّس عليهم و الكشف عن أسرارهم؟ هذه المقارنة و عملية استنطاق الذات للحكم في هذه المسألة يمكنها أن تمثّل رادعاً قوياً للإنسان، و كذلك الإلتفات إلى الآثار السلبية و النتائج السيئة للتجسّس على مستوى الحياة الفردية و الاجتماعية و شدّة العقاب الإلهي في الدنيا و الآخرة، و أنّ كلّ شخص يسعى لإذاعة أسرار الآخرين و الكشف عن خباياهم فإنّ اللَّه تعالى سيكشف عيوبه و أسراره على الملأ و يزيل ستره عن هذا الإنسان في الدنيا و الآخرة، فمثل هذه الامور يمكنها أن تخلق أثراً نفسياً قوياً يمنع الإنسان من التورّط في هذه

الخطيئة.

و لكن المهم و الضروري ليس في علاج هذه الخصلة الأخلاقية فحسب بل في الصفات و الخصال السلبية الاخرى، و هو ضرورة تكرار العمل المانع عن ارتكاب هذه الرذيلة، فيطالع ما ذكرناه آنفاً من الآثار السلبية و العقوبات الإلهية و الدوافع الشريرة لهذه الحالة الذميمة و يكرّرها مرّات عديدة لتحصل له بذلك حالة زاجرة و رادعة بإمكانها أن تقلع جذور هذا المرض من قلبه و تحلّي الروح و النفس بأنوار الفضيلة و الهدوء و الاستقرار.

حفظ السِّر و إفشائه:

هذه المسألة في الحقيقة تعدّ تكملة للأبحاث السابقة، أو بعبارة اخرى، يمكن أن نضع حفظ السر و إفشاءه بعنوان فضيلة أخلاقية للأول و رذيلة بالنسبة إلى الثاني و دراستهما بشكل مستقل، و يمكن أن نضعهما ضمن بحث التجسّس و لكونه مسألة من مسائل موضع التجسّس و داخل في إطار هذا الموضوع.

و على أيّة حال فإنّ تعريف حفظ السر أنّ الكثير من الناس لديهم أسرار خفيّة على الناس سواء كانت حسنة أو سيئة، فلو اذيعت على الملأ فإنّهم يتعرّضون للخسارة و الضرر، مثلًا إذا كان الشخص ذا مكانة اجتماعية كبيرة و منزلة قويّة في المجتمع و لكن بسبب غلبة الوساوس الشيطانية ارتكب بعض الذنوب الكبيرة، و قد علم بذلك شخص أو عدّة أشخاص

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 322

من الناس، فلو أنّ هذا السر اذيع على الناس و علم به الآخرون فانّ ذلك من شأنه أن يهدد شخصيته الاجتماعية و مكانته المرموقة بالسقوط، و لذلك فإنّه يطلب من ذلك الشخص أو الأشخاص الذين علموا بهذا السر أن يتحرّوا إخفاءه و يجتنبوا إذاعته للناس.

أو أنّه يقوم بعمل صالح و نافع للناس و لكن إذا علم الناس بذلك و فهموا ما لهذا الإنسان

من مقامات عالية و أخلاق سامية فمن الممكن أن تزداد فيهم حالة التمجيد و الثناء تجاه هذا الشخص و بالتالي تتعرّض نيّته الخالصة إلى التزلزل و التلّوث أو يبتلى بالعجب و الغرور، و لذلك فانّه يطلب من هذا الفرد أو الأفراد الذين علموا بصدور هذا الفعل الحسن منه أن يكتموا عليه هذا السر و لا يذيعوه للناس.

أو أنّه يقوم بعمل مهم على المستوى الاقتصادي و لكن لو علم بذلك منافسوه في السوق فإنّ منافعه و مصالحه المادية تتعرض للخطر، و لذلك يطلب من الشخص الذي علم بذلك أن يكتم عليه هذا العمل و لا يفشي سرّه على الناس، و عليه فإنّ مسألة حفظ السر لا تختص في الذنوب و الرذائل الأخلاقية بل قد تتعدّى إلى الفضائل المعنوية أو المنافع و المصالح المادية المهمّة، و بكلمة واحدة فإنّ حفظ السر يتعلّق بالأسرار التي إذا اذيعت فسوف تسبب الضرر و الخسارة على صاحبها، سواء كان هذا السر يتعلّق بشخص خاص أو بالمجتمع الإسلامي.

و قد لا نجد في الآيات القرآنية الكريمة ما يدلّ بصراحة على ضرورة حفظ السر أو قبح إفشاء السر، و بالطبع فإنّ كلمة (السر) وردت في القرآن الكريم مرّات عديدة و لكن ليس واحد منها يرتبط ببحثنا الحاضر، بل في الغالب تتضمّن علم اللَّه تعالى بجميع الأسرار و خفايا الامور، و بعبارة اخرى: إنّها تحكي عن سعة علم اللَّه تعالى، و مع الأسف فاننا نرى بعض الكتّاب الإسلاميين بدون الإلتفات إلى مضمون هذه الآيات تصوّروا أنّها تتحدّث عن مسألة حفظ السر.

هذا و لكن وردت في القرآن الكريم تعبيرات اخرى تدل على موضوعنا بالأدلة الالتزامية و تتضمّن مدح فضيلة حفظ السر أو اقبح إفشاء السر، و

من ذلك:

1- ما ورد في الآية 16 من سورة التوبة: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 323

جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لَا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

فهذه الآية تخاطب المسلمين بأنّ يحفظوا أسرارهم عن الأشخاص الذين لا يثقون بهم و لا يطمئنون إليهم، بل يكشفوا أسرارهم إلى من يطمئنوا إليهم و يثقوا بهم، و مفهوم هذه الآية الشريفة هو أنّ حفظ السر يعتبر فضيلة من الفضائل الأخلاقية بخلاف إفشاء السر الذي يعدّ رذيلة في المقابل.

2- و نقرأ في الآية 118 من سورة آل عمران قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا».

(بطانة) لها مفهوم يماثل مفهوم كلمة (وليجة) فكليهما معنيان محرم الأسرار و أنّ اللَّه تعالى يخاطب جميع المؤمنين و يقول مؤكّداً عليهم أن لا يجعلوا غير المسلمين محرم أسرارهم، فهو في الواقع إشارة إلى لزوم حفظ الأسرار و الذم لمن يعمل على إفشاء السر، غاية الأمر أنّ هذه الآية و الآية التي قبلها ليست ناظرة للأسرار الخاصة و الشخصية، بل ناظرة إلى أسرار المجتمع الإسلامي التي يمثل إفشاؤها للأعداء ضربة كبيرة للمسلمين.

و قد يتصوّر أنّ الآية 83 من سورة النساء التي تقول: «و إذا جاءَهُم أَمرُ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ».

أنّ اللَّه تعالى في هذه الآية الشريفة يتحدّث عن المنافقين أو بعض الأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان و اهتزاز العقيدة و يذمّهم على أنّه إذا وصل إليهم خبر انتصار المسلمين أو هزيمتهم في ميدان القتال أذاعوا هذا الخبر و نشروه بين الناس.

و لكن ذيل الآية يدلّ على أنّها ناظرة إلى

إشاعة الشائعات الواهية أو المشكوكة لأنّها تقول بعد ذلك: «وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «1».

و التعبير بالأمن أو الخوف الوارد في هذه الآية هو إشارة إلى أنّ الأعداء أحياناً يشيعون

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 83.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 324

أخباراً تتعلق بانتصار المسلمين لكي تضعف فيهم الرغبة في القتال و الجهاد، و أحياناً يبثّون الشائعات التي تتحدّث عن هزيمة المسلمين ليدّب اليأس في قلوبهم، القرآن الكريم يحذّر المسلمين هنا عن تصديق هذه الشائعات لكي لا تؤثر خطط الأعداء و مؤامراتهم في نفوسهم فلا يصلوا إلى مقاصدهم من تضعيف معنويات المسلمين.

و بالطبع فإنّ القرآن الكريم في مورد زوجات النبي و لزوم حفظ السر تحدّث بالتفصيل في سورة التحريم التي تعرّضت إلى بعض أزواج النبي من موقع الذم و التوبيخ الشديد لأنّهن قصّرن في حفظ أسرار بيت النبي صلى الله عليه و آله قالت: «وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ» «1».

أمّا ما هو السر الذي أذاعته بعض زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فهناك بحوث مفصّلة بين المفسّرين يطول إيرادها و ذكرها في هذا المقام و يمكن للقاري ء الكريم أن يرجع إلى التفسير الأمثل ذيل هذه الآية 3 و 4 من سورة التحريم.

المورد الآخر

الذي تحدّث القرآن الكريم فيه عن حفظ السر (و طبعاً بالإشارة لا بالتصريح) هو في مورد قصّة أبو لبابة الذي إستشاره بنو قريضة (و هم قبيلة من اليهود الذين كانوا يكيدون للمسلمين و يتآمرون عليهم بشدّة) و هل أنّهم سيتسلمون لحكم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله؟ فأشار إليهم أبو لبابة على رقبته بالذبح، أي أنّكم لو استسلمتم للنبي فإنّه يأمر بقتلكم جميعاً، ثمّ أنّه ندم على ذلك أشدّ الندم و أدرك أنّه ارتكب خيانة كبيرة للمسلمين، فما كان منه إلّا أن ربط نفسه بأحد اسطوانات المسجد و تاب من فعلته هذه فتاب اللَّه عليه، و نزلت الآية 72 من سورة التوبة تعلن قبول توبته حيث تقول الآية: «وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

و كلمة (آخرون) إشارة إلى أنّ محتوى هذه الآية لا يتعلّق بشخص خاص أو فرد معيّن،

______________________________

(1). سورة التحريم، الآية 3 و 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 325

بل يستوعب جميع الذين ارتكبوا بعض الذنوب و انطلقوا من موقع الندم و جبران هذا النقص و تابوا توبة صالحة و صادقة.

هذا ما يتعلّق بمجموع الإشارات الواردة في آيات القرآن الكريم بالنسبة إلى مسألة حفظ السّر و إفشائه.

حفظ السِّر في الروايات الإسلاميّة:

و نجد في الروايات الإسلامية تعبيرات مختلفة و كثيرة فيما يتعلّق بحفظ السر و ضرورة الالتزام بعدم إفشائه و إذاعته ممّا يدلّ على إهتمام الإسلام بهذا الموضوع حتى أنّه قرّر أنّ أسرار الآخرين بمنزلة الأمانة لدى الشخص و إفشائها يعني الخيانة للأمانة:

1- ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِذا حدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ إلتَفَتَ فِهي أَمانَةٌ» «1».

هذه الالتفاتة

تعني أنّه لا يريد أن يسمعه آخر، فحينئذٍ يكون إفشاء هذا السرّ بمثابة الخيانة بالأمانة.

2- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ أَفشى سرَّاً إِستَودَعَهُ فَقَدْ خانَ» «2».

3- و في حديث آخر عن الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «مَنْ كَشَفَ حَجابَ أَخِيهِ إِنكَشَفَ حَجابَ بَيتِه» «3».

4- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «جُمِعَ خَيرَ الدُّنيا وَ الآخِرَةِ فِي كُتمانِ السِّرِّ وَ مُصادَقَةُ الأَخيارِ وَ جُمِعَ الشَّرِّ فِي الاذاعَةِ وَ مُواخاةُ الأَشرارِ» «4».

و طبعاً فإنّ كتمان السر يمكن أن يكون إشارة إلى كتمان سر الإنسان نفسه، و لكنّ اطلاق

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 5، ص 237.

(2). غرر الحكم.

(3). المصدر السابق.

(4). بحار الانوار، ج 71، ص 178، ح 17.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 326

العبارة يدلّ على شمول الحديث لكتمان الأسرار الذاتية التي تتعلّق بالآخرين.

أقسام حفظ السِّر:

لحفظ السّر أقسام متعددة منها:

1- حفظ أسرار الآخرين.

2- حفط أسرار النفس.

3- حفظ أسرار أولياء الدين.

4- حفظ أسرار النظام و الحكومة الإسلامية.

أمّا ما ورد في الروايات المذكورة آنفاً فإنّه يتعلّق بحفظ أسرار الآخرين، و لكن هناك روايات واردة في حفظ أسرار النفس أيضاً حيث توصي المسلمين بحفظ أسرارهم الخاصة في حياتهم الفردية، لأنّه قد تكون إذاعتها و إفشائها سبباً لإثارة عناصر الحسد و الحقد و المنافسة غير المنصفة، و بالتالي يقع الإنسان مورد عدوان الأشخاص الذين يعيشون الحقد و ضيق الافق و تتعرّض مصالحه إلى خطر كما نقرأ فيما يلي نماذج لهذه الروايات:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «سِرُّكَ سُرُورُكَ إِنْ كَتَمتَهُ و إِنْ أَذَعَتَهُ كانَ ثُبُورَكَ» «1».

2- و يقول عليه السلام في حديث آخر: «سِرُّكَ

أَسِيرُكَ فَإنْ أَفشَيتَهُ صِرتَ أَسِيرَهُ» «2».

3- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «صَدرُ العاقِلِ صُندُوقِ سِرِّهِ» «3».

4- و نقرأ في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «سِرُّكَ مِنْ دَمِكَ فَلا يَجرِينَ فِي غَيرِ أَودَاجِكَ» «4».

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 6.

(4). ميزان الحكمة، ج 4، ص 427.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 327

5- و جاء في حديث عميق المعنى عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلّا إذا توفّرت فيه ثلاث خصال: «فَسُنَّةٌ مِنْ رَبِّهِ كِتمانُ سِرِّهِ قَالَ اللَّهُ تَعالى

عالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلى غَيبِهِ أَحَداً إلّا مَنِ ارتَضَى مِنْ رَسُولٍ» «1».

و نقرأ في بعض الروايات أيضاً أنّها توصي بحفظ الأسرار و عدم إذاعتها حتى لأقرب المقرّبين من الأصدقاء، لأنّه يمكن أن تتغيّر الظروف و الأيّام و ينقلب الصديق إلى عدو و بالتالي سوف يتحرّك على مستوى إذاعة هذه الأسرار و إفشائها.

و يقول الإمام الصادق عليه السلام: «لا تَطَّلِع صَدِيقَكَ مِنْ سِرِّكَ إِلّا عَلى ما لَو اطَّلَعتَ عَلَيهِ عَدُوَّكَ لَمْ يَضُرُّكَ فَإنَّ الصَّدِيقَ قَد يَكُونَ عَدُوُّاً يَوماً ما» «2».

أمّا في مورد إفشاء أسرار أولياء اللَّه تعالى و الأئمّة المعصومين عليهم السلام فقد وردت روايات مهمّة جدّاً تؤكّد بشدّة على كتمان هذه الأسرار.

و هذه الأسرار يمكن أن تكون إشارة إلى المقامات المعنوية المهمّة للمعصومين بحيث أنّ الأعداء إذا اطّلعوا عليها حملوا ذلك على محمل الغلو و كان ذلك ذريعة بيدهم لتكفير الشيعة أو تضعيفهم أو القضاء عليهم في حين أنّها ليست من الغلو بل هي مقامات موافقة للقرآن الكريم و للسنة النبوية.

أو هي إشارة إلى أسرارهم بالنسبة إلى العمل

في نشر مذهب أهل البيت في المناطق المختلفة من البلاد الإسلامية حيث يثير هذا الموضوع حساسية المخالفين فيزدادوا تعصّباً و يعملوا على منع هذه الأعمال و النشاطات الدينية.

أو أنّها إشارة إلى زمن الظهور للإمام القائم عليه السلام من أهل البيت عليهم السلام كما وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات الشريفة و أنّ بعض الأئمّة المعصومين عليهم السلام عزم على القيام بوجه الحكومات الظالمة في ذلك الزمان، و لكن بما أنّ بعض الشيعة أذاعوا أسرار هذه النهضة فإنّ ذلك أدّى إلى فشلها و إجهاضها، و قد وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات التي تحثّ

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 72، ص 68.

(2). ميزان الحكمة، ج 4، ص 427، ح 8419.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 328

الشيعة على كتمان أسرار المعصومين عليهم السلام و من ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِذا تَقارَبَ هذا الأَمرُ كانَ أَشَدُّ لِلتَّقِيَّةِ» «1».

2- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «مَنْ أَفشى سِرَّنا أَهلَ البَيتِ أَذاقَهُ اللَّهُ حَرَّ الحَدِيدِ» «2».

3- و نقرأ أيضاً في حديث آخر عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه:

«آمُرُكَ أَنْ تَصُونَ دِينَكَ وَ عِلمَنا الَّذِي أَودَعناكَ وَ أَسرارنا الَّذِي حَمَلناكَ فَلا تُبدِ عُلُومَنا لِمَنْ يُقابِلُها بِالعَنادِ ... و لا تُفشِ سِرَّنا إِلى مَنْ يَشِيعُ عَلَينا عِندَ الجاهِلِينَ بِأَحوالِنا» «3».

و يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ إذاعة أسرار الأئمّة المعصومين عليهم السلام أمام أهل الحق و من يتحرّك في سبيل طلب الهداية و الحق فإنّه لا بأس به و لا مندوحة منه، و لكنّ المنع الوارد في الروايات يختصّ باذاعتها للأشخاص الذين يعيشون العناد

و الحقد و أنّهم لو سمعوا بمقامات أهل البيت و فضائلهم و علومهم فإنّهم سيجدون في أنفسهم الحسد و تتحرّك فيهم البغضاء فيتكلّمون بكلمات غير مسؤولة و يثيرون المصاعب و المشكلات أمام أتباع أهل البيت عليهم السلام.

4- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «إِمتَحِنوا شِيعَتَنا عِندَ ثَلاثٍ: عِندَ مَواقِيتِ الصَّلاةِ كَيفَ مُحافَظَتَهُم عَلَيها، و عِندَ أَسرارهِم كَيفَ حِفظُهُم لَها عَنْ عَدُوِّنا وَ إِلى أَموالِهِم كَيفَ مُواساتِهِم لإِخوانِهِم عَلَيها» «4».

5- و ورد في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ما قَتَلَنا مَنْ أَذاعَ حَدِيثَنا قَتلَ خَطاءٍ وَ لَكِن قَتَلَنا قَتلَ عَمدٍ» «5».

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 72، ص 412.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق، ص 418.

(4). المصدر السابق، ج 80، ص 22.

(5). اصول الكافي، ج 2، ص 370، ح 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 329

6- و في الحقيقة أنّ الكثير من المشكلات و المصاعب التي واجهها الأئمّة المعصومين عليهم السلام و تعرّضوا بالتالي إلى الوقوع في أسر الظالمين و الأعداء بسبب أنّ بعض أفراد الشيعة لم يكونوا ملتزمين بالانضباط في كلماتهم و أحاديثهم فكانوا يتحدّثون عن فضائل أهل البيت عليهم السلام و مناقبهم أو عن رذائل أعدائهم و نقاط ضعفهم و يذيعونها إلى القريب و البعيد، فتصل إلى أسماع الحكّام و الامراء فتؤدّي إلى مضاعفة عمليات التضييق و الارهاب في حق أهل البيت عليهم السلام و قد تفضي إلى قتلهم على يد حكومات الجور، و كذلك في إذاعة الأخبار التي تتحدّث عن قائم أهل البيت عليه السلام و انتقامه من الأعداء و التي تورث هؤلاء الاعداء الخوف و الوحشة، فيتحرّكون في المقابل بالانتقام من أهل البيت عليهم السلام.

7- و جاء

في حديث آخر بهذا المضمون و لكن بصياغة جديدة عن هذا الإمام أيضاً في تفسير الآية الشريفة: «وَ يَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» «1»، قال: «أَما وَ اللَّهِ ما قَتَلُوهُم بِأَسيافِهِم وَ لَكن أَذاعُوا سِرَّهُم وَ أَفشَوا عَلَيهِم فَقُتِلُوا» «2».

8- و نقرأ في حديث آخر عن المفضّل بن عمر قال: دخلت على أبي عبد اللَّه عليه السلام يوم صلب فيه المعلى فقلت له: يا ابن رسول اللَّه أ لا ترى هذا الخطب الجليل الذي نزل بالشيعة في هذا اليوم؟ قال: و ما هُو؟ قال: قلت: قَتلُ المُعلى بن خُنيس، قال: «رَحِمَ اللَّهُ المُعلَّى قَد كُنتُ أَتَوقَّعُ ذِلِكَ أَنّهُ قَد أَذاعَ سِرَّنا، وَ لَيسَ النَّاصِبُ لَنا حَرباً بِأَعظَمَ مَؤونَةً عَلَينا مِنَ المُذِيعُ عَلَينا سِرَّنا» «3».

و على أي حال فإنّ حفظ أسرار أئمّة أهل البيت عليهم السلام، و بشكل عام حفظ أسرار المذهب من المسائل المسلّمة التي لا ينبغي الترديد فيها، لأنّ هذه الأسرار إذا اذيعت و وصلت إلى أيدي الأعداء فسوف يتحرّك فيهم عنصر الحسد بالنسبة إلى فضائل أهل البيت عليهم السلام و مناقبهم، فيسعون إلى التصدّي لنشاطات الأئمّة في الدائرة الاجتماعية و التربوية و الثقافية و يجهضوا أي عمل نافع للُامّة، و لهذا السبب ورد التأكيد في الروايات الشريفة على حفظ هذه الأسرار.

______________________________

(1). آل عمران، الآية 112.

(2). مرآة العقول، ج 11، ص 64، الرقم الجديد 7.

(3). المصدر السابق، ص 62.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 330

و القسم الأخير من حفظ السر هو المحافظة على الأسرار العسكرية و السياسية للدولة الإسلامية، و وجوبه من البديهيات، و لهذا نجد أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إهتمّ بهذا الأمر غاية الاهتمام، و أوصى كذلك أصحابه بالمحافظة على هذه

الأسرار أيضاً، و الكثير من الأنتصارات التي حققّها المسلمون على أعدائهم من المشركين و اليهود و قوى الانحراف الاخرى كان بسبب الالتزام و الانضباط في هذه المسألة الدقيقة، فمثلًا نقرأ في قصّة فتح مكّة أنّه لو أنّ تلك المرأة (سارة) كانت قد وصلت إلى مكة و أخبرت المشركين بما يعدّه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و المسلمون من الجيوش و القوى العسكرية لفتح مكّة، فمن الطبيعي أنّ فتح مكة لا يتيسّر للمسلمين بتلك السهولة، و قد تراق في سبيل ذلك الكثير من الدماء من الطرفين، و لكن تأكيد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله على حفظ الطرق و ارساله من يعيد هذه المرأة النمامة تسبب في أن يصل جيش الإسلام إلى أسوار مكة بدون أيّة صعوبة و بسرعة فائقة حتى أنّ المشركين انبهروا و تخاذلوا لما تفاجئوا من قوة الإسلام و سرعة المبادرة و عملية المباغتة لهم و استسلموا جميعاً.

و نقرأ في الروايات الإسلامية إشارات إلى هذه المسألة أيضاً بتعبيرات عميقة المغزى، و من ذلك:

1- ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الظَّفَرُ بِالحَزمِ بِإجالَةِ الرَّأَي، وَ الرَّأي بِتَحصَينِ الأَسرارِ» «1».

2- و ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَيَّرَ قَوماً بِالإِذاعَةِ فَقَالَ: إِذا جاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنُ أو الخَوفِ أَذاعُوا بِهِ، فَإِيَّاكُم وَ الإِذاعَةِ» «2».

3- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «إِظهارُ الشَّي ءِ قَبلَ أَنْ يَستَحكُمَ مَفسَدَةٌ لَهُ» «3»، لأنّ المخالفين عند ما يطلعون عليه فربّما تحركوا في سبيل المنع من تحقيقه و نجاحه.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الكمات القصار، الكلمة 48.

(2). مرآة العقول، ج 11، ص 65.

(3).

بحار الانوار، ج 72، ص 71.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 331

معطيات حفظ السّر و إفشائه:

إنّ جميع الناس في حياتهم الخصوصية لديهم بعض الأسرار المتعلّقة بنقاط ضعفهم و عيوبهم، و أحياناً يتعلق بموفقيّاتهم و أعمالهم الإيجابية، و من المعلوم أنّ إفشاء ما يتعلّق بنقاط الضعف و العيب يؤدّي إلى سقوط إعتبار و حيثيّة هؤلاء في نظر الناس، و قد يفضي إلى سلب الثقة منهم و سقوطهم الاجتماعي و إراقة ماء وجههم، و لهذا السبب نراهم يحرصون على التكتم على تلك الأسرار لتتسنّى لهم الفرصة لإصلاح تلك المعايب و جبران نقاط الضعف في واقعهم.

أَمّا إفشاء ما يتعلّق بنقاط القوّة و الصفات الإيجابية فإنّه من شأنه أن يسعر نار الحسد في قلب الحسّاد و يعمل على تحريك عناصر الشر في قلوب البخلاء و أصحاب الشخصيّات الهزيلة و المعقدة، و على أيّة حال فإنّه سيكون مصدر الشر و الفساد و الشقاء على المستوى البعيد، و لهذا قد يحرص بعض الناس على التحفّظ من الكشف عن هذه الموفقيّات و الإيجابيات في واقعهم.

و لذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: «إن كانَ فِي يَدِكَ هذِهِ شَي ء فإنْ استَطَعتَ أَنْ لا تَعلَم هِذِه فافعَل؛ قَالَ: وَ كَانَ عِندَهُ إنسان فَتَذاكَرُوا الإذاعَةَ، فَقَالَ:

احفَظ لِسانَكَ تُعِزَّ، و لا تُمَكِّن النَّاسَ مِنْ قِيادِ رَقَبَتِكَ فَتَذِّلَ» «1».

و الملفت للنظر أنّ الإمام عليه السلام قال في بداية هذا الحديث: «إِنْ كانَ فِي يَدِكَ هذِهِ شَي ءٌ فِإنْ إِستَطعتَ ألّا تُعلَمَ هذِهِ فَافعَل» «2».

و من هنا يتّضح أنّه إذا علم الإنسان بخبر مكتوم للآخر و انكشف له سر من أسراره فإنّ ذلك يعدّ أمانة لديه، فلو أذاعه فإنّه قد خان الأمانة و تسبب في أن يقع الطرف

الآخر في دوامة من المشكلات و الأضرار الكبيرة أو يؤدّي إلى أن يتعرّض إلى الخطر في شخصيته الاجتماعية و مكانته في الناس أو يؤدّي إلى تفعيل عناصر الشر لدى الحسّاد و البخلاء

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 225، ح 14.

(2). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 332

و أصحاب النفوس الضيقة، أو يطمع الاراذل و الأوباش في ماله و عرضه.

و لذا ورد في الأحاديث السابقة أنّ الإمام قال: «سِرُّكَ سُرُورُكَ إِنْ كَتَمتَهُ و إِنْ أَذَعَتَهُ كانَ ثُبُورَكَ» «1».

و عليه فلا بدّ للإنسان أن يحفظ أسراره مهما أمكن و لا يذيعها إلى الآخرين، و بعبارة اخرى: أن يجعل صدره صندوق أسراره، فلو اضطر في مورد معيّن أو إتفق له أن اطلع على سرّ من أسرار أخيه المؤمن فإنّه يجب عليه أن يسعى لحفظه و لا يرتكب الخيانة في حق أخيه المؤمن.

أمّا بالنسبة إلى إفشاء أسرار المذهب أمام المتعصّبين و الحاقدين الذين لا يتحمّلون سماع الرأي الآخر و لا يرون أي فكر حقّاً غير فكرهم القاصر فكذلك، و خاصة بالنسبة إلى فضائل الأئمّة المعصومين عليهم السلام التي لا يطيق سماعها الأعداء المعاندين و الحاسدين، و هكذا الحال بالنسبة إلى حفظ الأسرار السياسية و العسكرية للبلد الإسلامي حيث يؤدّي إذاعتها إلى تعرّض مصالح الامّة و مصير النظام الإسلامي إلى الخطر أو يتسبب في إراقة الكثير من الدماء البريئة و تلف الثروات الطائلة أو هتك الشخصيّات المرموقة في المجتمع الإسلامي، و لذلك فإنّ حفظ هذه الأسرار يعدّ من أهمّ الوظائف الدينية، و في المقابل فإنّ إفشاء هذه الأسرار يعدّ من أقبح الرذائل الأخلاقية و يترتّب عليه عقوبة شديدة، و لهذا السبب قرأنا في الأحاديث السابقة أنّ الإمام الصادق عليه السلام

يقول: «ما قَتَلَنا مَنْ أَذاعَ حَدِيثَنا قَتلَ خَطاءٍ وَ لَكِن قَتَلَنا قَتلَ عَمدٍ» «2».

و قد أورد العلّامة المجلسي في بحار الانوار حديثاً جذّاباً حيث يقول ما خلاصته:

«دخل على أمير المؤمنين عليه السلام رجلان من أصحابه فوطى ء أحدهما على حيّة فلدغته و وقع على الآخر في طريقه من حائط عقرب فلسعته و سقطا جميعاً فكأنّهما لما بهما يتضرّعان و يبكيان، فقال لهما أمير المؤمنين عليه السلام:

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 370، ح 4.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 333

«ما اصِيبَ وَاحدٌ مِنكُما إِلّا بِذَنبِهِ.

أَمّا أَنتَ يا فُلان- وَ أقبل على أحدهما- أَتَذكُر يَومَ غَمَزَ عَلى سَلمانِ الفارِسي فُلان وَ طَعَنَ عَلَيهِ لِموالاتِهِ لَنا فَلم يَمنَعُك مِنَ الرَّدِّ وَ الإِستخفَافِ بِهِ خَوفاً عَلى نَفسِكَ وَ لا عَلى أَهلِكَ وَ لا عَلَى وُلدِكَ وَ مالِكَ أَكثَرَ مِن أَنْ استَحييتَهُ، فَلِذلِكَ أَصابَكَ.

فإنْ أَرَدتَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ ما بِكَ فاعتَقِد أَنْ لا تَرى مرزئاً عَلَى وَليٍّ لَنا تَقدَرُ عَلَى نُصرتِهِ بِظَهرِ الغَيبِ إلّا نَصَرتَهُ، إلّا أَنْ تَخافَ عَلَى نَفسِكَ وَ أَهلِكَ وَ وُلدِكَ وَ مالِكَ.

وَ قالَ للآخَر: فَأَنتَ أَ تَدرِي لِما أَصابَكَ ما أَصابَكَ؟

قال: لا.

قَالَ عليه السلام: أَ ما تَذكُر حِيثُ أَقبَلَ قَنبَرَ خادِمِي وَ أَنتَ بِحضرَةِ فُلانَ العاتِي فَقُمتَ إِجلالًا لَهُ لإجلالِكَ لِي؟

فَقالَ لَكَ: أَوَ تَقُومُ لِهذا بِحضرَتِي؟

فَقُلتَ لَهُ: وَ ما بالِي لا أَقُومُ وَ مَلائِكةُ اللَّهِ تَضَعُ لَهُ أَجنِحَتِها فِي طَريقِهِ، فَعلَيها يَمشِي، فَلَمّا قُلتَ هذا لَهُ، قَامَ إِلى قَنبَرَ وَ ضَرَبَهُ وَ شَتَمَهُ وَ آذاهُ وَ تَهَدَّدنِي وَ أَلزَمَنِي الإغضاءَ عَلىَ قَذى فَلِهذا سَقَطتْ عَلَيكَ هذِهِ الحَيَّةُ.

فَإنْ أَردتَ أَنْ يُعافِيكَ اللَّهُ تَعالى مِنْ هذا فاعتَقِد أَنْ لا تَفعَلَ بِنا وَ لا بِأَحدٍ مِنْ مَوالينا بِحضَرةِ

أَعدائِنا ما يُخافُ عَلينا وَ عَليهِم مِنهِ» «1».

و كذلك نقرأ ما ورد في التواريخ الإسلامية أنّ بعض قادة الإسلام اعدموا الجواسيس بسبب أنّ عملهم يؤدّي إلى سفك الدماء البريئة و لذلك حكموا بقتلهم و إعدامهم.

الضرورات:

أحياناً تدفع الحاجة أو الضرورة الإنسان إلى إخبار الآخر بسرّه، ففي هذه الموارد يجب

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 26، ص 237، مع التلخيص.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 334

على هذا الإنسان أن يختار لذلك الشخص الأمين العاقل ليضع عنده سرّه كما قال الإمام علي عليه السلام: «مَنْ أَسَرَّ إِلى غَيرِ ثِقَةٍ فَقَد ضَيَّعَ أَمرَهُ» «1».

و حتى أنّ الإمام أوصى في حالة الضرورة و عند ما يريد الإنسان أن يودّع سرّه عند أخيه المؤمن أن يتلقى في المقابل سرّاً من ذلك الشخص لكي يكون بمثابة الضمانة لحفظ سرّه حيث يقول: «لا تَضع سرِّكَ عِندَ مَنْ لاسِرَّ لَهُ عِندَكَ» «2».

و يجب الانتباه إلى أنّ الأشخاص الذين لا يعيشون الانضباط في حفظ أسرارهم فإنّهم لا يليقون بالثقة و الاعتماد لحفظ أسرار الآخرين، فينبغي الاجتناب عن وضع السرّ عندهم.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال: «مَنْ ضَعُفَ عَنْ حِفظِ سِرِّهِ لَم يُطِق سِرَّ غَيرِهِ» «3».

دوافع إفشاء السّر و علاجها:

إنّ هذه الرذيلة الأخلاقية تنشأ من دوافع و نقاط ضعف مختلفة منها:

1- إنّ الشخص الحسود يسعى لإفشاء أسرار الطرف الآخر لتوجيه ضربة إلى نقاط قوّته و شخصيته بين الناس، و يسعى لذلك لإراقة ماء وجهه أو تهديد مصالحه الدنيوية و المادية.

2- إنّ الأشخاص الذين يعيشون الحقد و العقدة تجاه الآخرين فإنّهم يسعون أيضاً و لغرض الانتقام من الطرف الآخر و ارضاء دافع الحقد في نفوسهم إلى إفشاء أسرار الآخرين.

3- و من الدوافع الاخرى لهذه الرذيلة هو عنصر الجهل و ضيق الافق، فالأشخاص الذين يعيشون هذه الحالات الوضيعة ليست لديهم اللياقة لحفظ أسرار الآخرين.

و نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «ثَلاثٌ لا يُسْتَوْدَعْنَ سِرّاً:

المَرأَةُ وَ النّمّامُ وَ الأْحْمَقُ» «4».

______________________________

(1). غرر

الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). غر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 335

و في حديث آخر عن الإمام عليه السلام نفسه أنّه قال: «لا تُسِرَّ إِلَى الجاهِلِ شَيْئاً لا يُطِيقُ كِتْمانَهُ» «1».

4- و أساساً فإنّ إفشاء السِّر و بشكل عام نشر الأخبار الخفيّة و الجديدة و أحياناً العجيبة و الغريبة تجد في قلوب الناس جاذبية خاصة تقودهم إلى الرغبة الشديدة في الإستماع و الإصغاء لهذه الأخبار،. هذا المعنى قد يتسبب إلى أن يرغب بعض الناس لإفشاء أسرار الآخرين ليلفتوا إليهم نظر المستمعين.

5- و من العوامل المهمّة الاخرى لإفشاء الأسرار هو الأخطاء و الاشتباهات و عدم الالتفات إلى كون هذا الأمر من الأسرار، و لهذا السبب فقد يصدر من بعض الناس المنضبطين في مسألة حفظ السر بعض الاشتباهات و الزلل في هذا الأمر حتى قيل: «كُلُّ سِرٍّ جاوزَ الإثنِينَ شاعَ».

و نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه و يدعى عمّار حيث سأله الإمام الصادق عليه السلام: «هَل أَخبَرتَ بِما أَخبِرتُكَ بِهِ أَحَداً؟ قَلتُ: لا إلّا سُلَيمَانِ بنِ خالِدَ، قالَ: أَحسَنتَ أَما سَمِعتَ قَولَ الشَّاعِر:

فَلا يَعدُوَنْ سِرِّي وَ سِرِّكَ ثالثاًأَلا كُلُّ سِرٍّ جاوَزَ الإِثنِينِ شايعُ

و السبب في ذلك واضح لأنّه إذا كان البناء على أن يقوم كل شخص بأخبار أحد أصدقائه الموثوقين بأسرارهم، و يقوم الشخص الثاني بمثل العمل، و هكذا الثالث و الرابع فلا تطول المدّة حتّى ينتشر السِّر في المجتمع كلّه.

أمّا العلاج:

فقد رأينا في الأبحاث السابقة أنّه إذا كان موضوع إفشاء الأسرار يتعلّق بخصوصيات الأشخاص الآخرين فيترتب على ذلك الآثار السلبية الكثيرة من قبيل سقوط شخصيته و منزلته الاجتماعية، و زوال ثقة الناس و اعتمادهم عليه قد يصل الأمر

إلى سقوط شخصيته

______________________________

(1) غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 336

نهائياً في أنظار الناس و تلف جميع إيجابيّاته و نقاط قوّته في المجتمع.

و إذا كان إفشاء السّر متعلّقاً بالمجتمع أو المذهب و الدين فقد يؤدّي أحياناً إلى تعرّض ذلك المجتمع للخطر أو يتعرّض أتباع ذلك المذهب إلى مشاكل كثيرة و قد تسفك في ذلك دماء بريئة و تهتك حرمات المؤمنين و تصادر أموالهم من قبل الأشخاص الذين يعيشون التعصّب الأعمى و الجهالة و الانحراف.

إنّ الالتفات إلى هذه العواقب و الآثار السلبية الأليمة في إفشاء الأسرار يعدّ أحد العوامل المؤثّرة في الوقاية من هذه الرذيلة الأخلاقية، كما أنّ التدبّر في الآثار السلبية في كل صفة رذيلة من الصفات الأخلاقية الذميمة يعدّ عاملًا للتوقّي من الوقوع و الابتلاء في هذه الرذيلة.

و من الطرق الاخرى للعلاج هو القضاء على أسباب و دوافع هذه الرذيلة و اقتلاع جذورها من واقع النفس، أي عنصر الجهل و الحسد و الحقد أمثال ذلك.

و من الطرق الاخرى هو سعة ظرفية الإنسان و أفقه و شرح صدره و روحه و قوّة شخصيته، فهذا من شأنه أن يساعده على المحافظة و الانضباط في دائرة الأسرار.

و كذلك التفكّر في العقوبات الإلهية الشديدة المترتبة على إفشاء أسرار الناس و المجتمع و التي تقدّم الحديث عنها سابقاً يمكن أن يعدّ من الامور النافعة للوقاية من هذه الرذيلة أو علاجها.

و من العوامل المهمّة الاخرى هو الالتفات إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ إفشاء أسرار الآخرين إذا تسبب في لحوق الضرر و الخسارة بهم فإنّ المذيع لسّرهم يعدّ مسبباً لهذه الأضرار و في الكثير من الموارد يعتبر ضامناً شرعاً و قانوناً لها.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 337

14

الحلم و الغضب

تنويه:

(الغضب) من أخطر

الحالات و الانفعالات في الإنسان التي إذا لم يتصدّ الإنسان لضبطها و السيطرة عليها فإنّها قد تظهر بشكل جنوني على سلوكيات الفرد و تفقده أيّة سيطرة على أعصابه، و حتى أنّ الكثير من السلوكيات الخطرة و الجرائم الكثيرة في حركة الإنسان في حياته الاجتماعية تكون بدافع الغضب و يترتب عليه دفع كفّارة و ضريبة، و بعكسه، نرى صفة الحلم و هي من الصفات الاخلاقية الحميدة، و نرى القرآن الكريم قد إهتم بهذه الصفة أيما اهتمام، و قد وردت في الآية 134 من سورة آل عمران يصف فيها المتقين حيث ذكرت بعد صفة الانفاق، لما لهذه الصفة من آثار ايجابية على وضع الفرد و المجتمع. إنّ حالة الغضب كالنار المحرقة التي قد تأتي على الأخضر و اليابس من حياة الإنسان و تكفي شرارة صغيرة منها إلى إحراق بيوت و مدن كاملة و تحويلها إلى رماد.

و إذا تصفّحنا التاريخ البشري فإننا نجد أنّ المشكلات الكثيرة التي ابتلت بها المجتمعات البشرية كانت بدافع من قوّة الغضب هذه حيث تسببت في الكثير من الحوادث المؤلمة و الأزمات الخطيرة و الخسارة الهائلة على المستوى الفردي و الاجتماعي.

و بهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها دورساً و عبراً في خطر هذه

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 338

الرذيلة الأخلاقية و كذلك بركات الحلم و آثاره الإيجابية في النقطه المقابلة لها:

1- «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون» «1». 2- «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ» «2». 3- «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ» «3».

4- «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «4». 5- «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» «5». 6- «فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ» «6». 7- «وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً» «7». 8- «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ» «8».

تفسير و استنتاج:

«الآية الاولى» من الآيات محل البحث التي تتحدّث عن أوصاف طائفة من المؤمنين الصادقين الذين شملهم اللَّه تعالى برحمته و عنايته الخاصة، فتقول بعد أن تذكر إيمانهم و توكّلهم على اللَّه تعالى: «وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوَاحِشَ وَ إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون».

و بعبارة اخرى: أنّ هؤلاء عند ما تشتعل في نفوسهم نار الغضب يتحرّكون على مستوى

______________________________

(1). سورة الشورى، الآية 37.

(2). سورة آل عمران، الآية 134.

(3). سورة الأنبياء، الآية 87.

(4). سورة التوبة، الآية 114.

(5). سورة هود، الآية 75.

(6). سورة الصافات، الآية 101.

(7). سورة الفرقان، الآية 63.

(8). سورة الاعراف، الآية 199.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 339

ضبطها و السيطرة عليها و لا يسمحون لأنفسهم بالتلّوث بأنواع الخطايا و الذنوب لأجل ذلك.

إنّ ذكر هذه الصفة بعد مسألة التوقّي من الذنوب و الآثام الكبيرة لعله بسبب أنّ حالة الغضب تقود النفس إلى التحرر من قيود العقل و تفكّ عن قوى الشر جميع الضوابط الأخلاقية و الشرعية لتتحرّر و تنطلق في كل إتجاه.

و من الملفت للنظر أنّ هذه الآية لا تقول: إنّ هؤلاء لا يغضبون، لأنّ الغضب في مواجهة المصاعب اللاملائمات و التحدّيات هو حالة طبيعية لدى الإنسان، بل تقرر أنّ هؤلاء في حال الغضب يتحركون من موقع السيطرة على حالة الغضب هذه و أن لا يخضع الإنسان لايحاءات هذه القوة في نفسه و خاصة أنّ قوّة الغضب لا تقع دائماً في جانب الشرّ في الإنسان و لا تمثّل عنصراً سلبياً في دائرة

السلوك المخرّب، فأحياناً تكون قوّة مثمرة و بنّاءة كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد باذن اللَّه تعالى.

و تأتي «الآية الثانية» و بعد أن تستعرض وعد اللَّه تعالى للمتّقين بالجنّة التي وسع عرضها السموات و الأرض لتتحدّث عن أوصاف هؤلاء، و أوّل صفة تذكرها لهؤلاء هي صفة الانفاق و تقول: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ» ثمّ تضيف الآية «وَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ» و في النتيجة: «وَ الْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ» فمن يعيش هذه الحالات الايجابية و القيم الأخلاقية فهو من المحسنين الذين تقول عنهم الآية في ذيلها: «وَ اللَّهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ».

و الملفت للنظر أنّ الآية التي تليها وعدت هؤلاء بعفو اللَّه و مغفرته في حال صدور الخطأ منهم، و أنّهم عند ما يتحرّكون صوب الانحراف و ارتكاب الخطأ يتذكّرون اللَّه تعالى و يستغفرونه فيشملهم اللَّه بعفوه و مغفرته.

و هذا إشارة إلى أنّ هؤلاء كما أنّهم يتحرّكون في تعاملهم مع الآخرين من موقع العفو و الصفح عن أخطاء الغير فإنّ اللَّه تعالى كذلك يعفو عنهم و يصفح عن أخطائهم.

و على أيّة حال فإنّ (كظم الغيظ) في هذه الآية ورد بعنوان أحد الصفات الإيجابية المرموقة لهؤلاء المتّقين.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 340

«الآية الثالثة» تتحدّث عن حالة الغضب التي عاشها أحد الأنبياء الإلهيين، و هو النبي يونس عليه السلام تجاه امّته و قومه، و هو الغضب المقدس في ظاهره، و لكنّه في الواقع صادر من التسرع و الاستعجال و عدم إدراك بواطن الامور، و لهذا فإنّ اللَّه تعالى قد جعله يواجه ظروفاً صعبة بسبب تركه للاولى و أخيراً فإنّ هذا النبي الكريم قد تاب من ترك الاولى، و تقول الآية: «وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ

عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ».

و هكذا و بعد تحمّل صعوبات هائلة و قاسية قبل اللَّه توبته و لم تستطع الحوت أن تهضمه في بطنها، بل قذفته إلى الساحل بجسم نحيف و ضعيف و هزيل، أمّا ما هي المدّة التي مكث فيها يونس عليه السلام في بطن الحوت؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين بين من يقول أربعين يوماً، و من يقول اسبوعاً واحداً و ثلاثة أيّام، و طبقاً لرواية عن الامام علي عليه السلام أنّ المدّة تسع ساعات، و على أيّة حال فإنّ هذه المدّة مهما طالت أو قصرت فإنّها ممّا لا تطاق حتى للحظة واحدة.

و لكن ما ذا هو ترك الأولى الذي ارتكبه النبي يونس عليه السلام حتى استحق هذه العقوبة الشديدة، رغم أننا نعلم أنّ الأنبياء معصومون عن الزلل و الذنب؟

إنّ ما يتبادر إلى الذهن في البداية أنّ يونس عليه السلام غضب على قومه الضالّين الذين لم يقبلوا دعوته الإلهية و تحرّكوا في مقابله من موقع العناد و اللجاجة، فمن الطبيعي أن يغضب يونس عليه السلام لذلك، و لكن هذا الغضب بالنسبة لنبي كبير مثل يونس عليه السلام كان يعدّ من الترك للأولى، أي كان الأولى له بعد إطّلاعه على وقت نزول العذاب الإلهي على قومه أن يبقى معهم إلى آخر لحظة و لا ييأس من هدايتهم، فلو أنّ يونس عليه السلام لم يغضب هناك فلعل قومه يسمعون لكلامه و يلبّون دعوته في آخر اللحظات، و التجربة تؤيد هذا المعنى حيث إنتبه قومه في اللحظات الأخيرة و تابوا إلى اللَّه تعالى فقبل اللَّه توبتهم و أزال عنهم العذاب.

فمثل هذا الغضب ليونس عليه السلام (و الذي لم

يكون بدون دليل أيضاً) فإنّ اللَّه تعالى لم يغفر لنبيّه ذلك و عاقبه بتلك العقوبة، فكيف الحال فيما لو كان الغضب الذاتي للإنسان بدافع الحقد

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 341

و الانتقام و الحسد و الدوافع الرذيلة الاخرى؟

و من البديهي أنّ المراد من غضب يونس عليه السلام هنا هو غضبه على قومه الظالمين و الفاسقين، و المراد من العبارة «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» هو أنّ يونس عليه السلام تصوّر أنّ تركه لقومه لم يكن عملًا سيئاً بحيث يستلزم كل تلك العقوبة و التوبيخ، و المقصود من إعتراف يونس عليه السلام بظلمه هو ظلمه لنفسه الذي قاده إلى هذه النتيجة الصعبة.

و أمّا الآيات التي تستعرض الحلم من موقع الثناء و التمجيد و المدح فهي كالتالي:

«الآية الرابعة و الخامسة» من الآيات محل البحث يستعرض القرآن الكريم حالات النبي إبراهيم عليه السلام من موقع وصفه بعنوان: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» و «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ»، فالعبارة الاولى وردت في واقعة رفض آزر (عم إبراهيم) لدعوة إبراهيم للتوحيد و رفض الأصنام و استغفار إبراهيم عليه السلام له، و الثانية وردت في قصّة إخبار الملائكة لإبراهيم عن العذاب الإلهي النازل على قوم لوط و طلب إبراهيم الخليل عليه السلام من اللَّه تعالى أن يخفّف عذابهم أو يمهلهم أكثر من ذلك.

«أوّاه» تأتي بمعنى الرحيم و الحنون، و الذي يتحرّك قلبه لهداية قومه و امّته.

و على أيّة حال فإنّ ما ورد في القرآن الكريم من وصف النبي إبراهيم عليه السلام ب «أوّاه حليم) و (أوّاه منيب) يبيّن الرابطة الوثيقة بين هاتين الصفتين، و يدلّ على أنّ كظم الغيظ و السيطرة على الغضب و التحرّك من موقع الحلم و المحبّة تجاه الآخرين

حتّى لو كانوا مجرمين و السعي لإنقاذهم من الخطيئة و العقوبة كل ذلك يعدّ من الصفات الإيجابية البارزة للأنبياء الإلهيين.

إنّ النبي إبراهيم عليه السلام لم يكن حليماً تجاه عمّه آزر فحسب، بل حتى بالنسبة إلى قوم لوط عليه السلام الذين كانوا قد غرقوا في ذلك الوحل العفن من الخطيئة حيث نرى إبراهيم عليه السلام ينطلق من قلب متحرّك ليرفع عنهم العذاب أو يؤجله إلى إشعار آخر كيما يتسنى لهم

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 342

الخلاص من ادران هذه الخطيئة و ترك ذلك السلوك الشائن و يسيروا في خط الإيمان و التقوى و الانفتاح على اللَّه.

و لكنّ الأمر الإلهي كان قد صدر بحقهم رغم أنّ إبراهيم عليه السلام قد أظهر هذه الرحمة و الشفقة تجاه عمّه أو قوم لوط لأنّهم لم يكونوا قابلين للهداية و خاصة ما كان عليه قوم لوط من الخطيئة المزمنة حيث أصابهم العذاب الإلهي أخيراً.

«الآية السادسة» تستعرض إحدى المواهب الإلهية الكبيرة على إبراهيم و تقول: إنّ اللَّه تعالى قد استجاب لإبراهيم عليه السلام دعائه: «فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ».

و اللطيف أنّ من بين جميع الصفات الإيجابية الكبيرة للإنسان، فإنّ هذه تشير فقط إلى صفة الحلم لدى هذا الغلام العزيز لإبراهيم عليه السلام.

و يقول الراغب في مفرداته بأنّ: الحلم بمعنى ضبط النفس عند هيجان الغضب، و بما أنّ هذه الحالة ناشئة من العقل فإنّه كلمّا وردت كلمة الحلم فإنّها قد يراد بها العقل أيضاً.

و هذه البشارة تحقّقت بالنسبة إلى إسماعيل عليه السلام عند ما بلغ سن الرشد و وهبه اللَّه العقل و الحلم و النضج الكبير، و ذلك عند ما صدر الأمر الإلهي لإبراهيم بذبح إبنه اسماعيل كما تتحدّث الآيات التي بعد هذه الآية و

تقول على لسان إسماعيل عليه السلام: «يا أَبَتِ إفعَل ما تُؤمَر» فنرى حالة التسليم المطلق أمام الأمر الإلهي، و في مقابل الذبح الذي صدر لإبراهيم.

و تأتي «الآية السابعة» لتبيّن صفات (عباد الرحمن) البارزة، و تستعرض ضمن الحديث عن إثني عشر صفة من الصفات الكبيرة الأخلاقية و هذه الصفة خاصة و تقول: «وَ إِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً».

أي إذا واجههم الأشخاص الذين يعيشون الحمق و الجهل و الحقد بكلام غير مسؤول و ألفاظ ركيكة فإنّ جوابهم لا ينطلق من موقع الانفعال و الرد بالمثل، بل يمرّون على كلامهم ذلك من موقع الحلم وسعة الصدر و رغم أنّ كلمة (حلم) لم ترد في هذه الآية، و لكن المفهوم

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 343

من مجموع الآية هو أنّ عباد الرحمن لا ينطلقون من موقع الانفعال و الغضب للجاهلين الحوادث غير الملائمة و خاصة الكلمات غير المسؤولة للجاهلين و الحاقدين و يجنبوا أنفسهم شرّ النزاع و الصراع مع هؤلاء الأشخاص بأداة الحلم وسعة الصدر.

و قد ورد في الحديث الشريف في تفسير هذه الآية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال يوماً لأصحابه (مضمون الحديث): «هؤلاء جماعة من امّتي احبُّهُم وَ يُحبُّونني سيأتون بعدكُم (ثم أخذ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بذكر أوصافهم) و من ذلك صفة الصبر و الحلم و أنّهم يسلكون طريق الرفق و المداراة.

فقيل له: يا رسول اللَّه هل يرفقون بغلمانهم؟

فقال صلى الله عليه و آله: ليس لهم غلمان، و إنّما يرفقون مع الجهّال و السفهاء:

«وَ عِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً»» «1».

و المراد من كلمة (سلام) هنا هو أنّهم يتعاملون مع الآخرين من

موقع المسالمة لا من موقع الخشونة و التحدّي و الرد بالمثل و لا يواجهون كلمات غير مسؤولة لُاولئك الجاهلين إلّا من موقع عدم الاعتناء و اللّامبالاة و كأنّما لم يسمعوها أصلًا.

«الآية الثامنة» و الأخيرة من الآيات مورد البحث من سورة الأعراف تتحدّث عن ثلاثة أوامر مهمّة في خطابها للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله (باعتباره اسوة لجميع المؤمنين) و تقول: «خُذْ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ».

و من الطبيعي أنّ الأعراض عن الجاهلين يأتي بمعنى الحلم و الصفح و ترك أي شكل من أشكال الخصومة و الشجار، بل يمكن القول أنّ الجملتين السابقتين في هذه الآية من الأمر بالعفو و قبول العذر و الدعوة إلى الأخلاق الحسنة هي نوع من أنواع الحلم كذلك، و بالتالي

______________________________

(1). تفسير منهج الصادقين، ج 6، ص 417، طقباً لنقل تفسير الاثني عشري في ذيل الآية المبحوثة؛ و تفسير روح البيان، ج 6، ص 241 أيضاً ذيل الآية المبحوثة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 344

تدلّ و تشير إلى هذا المعنى أيضاً و أنّ سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كانت كذلك في مقابل الجاهلين و المعاندين حيث كان يظهر أمامهم منتهى الصبر وسعة الصدر و التحمّل و الحلم، و لا يتملكه الغضب اطلاقاً مقابل ما يسمعه منهم من كلمات غير مؤدّبة و عبارات غير مسؤولة.

و الآية التي تلي هذه الآية تقول: «وَ إِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «1».

يمكن أن تكون إشارة اخرى إلى هذا المعنى أيضاً و هو أنّ نار الغضب ما هي إلّا نزغ من نزغات الشيطان و على كل مؤمن أن يستعيذ باللَّه من هذه الحالة الشائنة.

و الشاهد على

ذلك ما ورد في الرواية الشريفة في تفسير روح البيان في ذيل هذه الآية و أنّه عند ما نزلت الآية السابقة و أمرت بالعفو و الحلم أمام الجاهلين قال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

«كَيفَ يا رَبِّ و الغَضبُ» «2».

فنزلت الآية التي بعدها و أمرت النبي أن يستعيذ باللَّه من شرّ الشيطان الرجيم.

و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: إنّ أجمع آية من آيات القرآن لمكارم الأخلاق هي هذه الآية.

و هو كذلك واقعاً، لأنّ هذه الآية تتضمّن العفو و الصفح أمام جهل الآخرين و تدعو الناس جميعاً لفعل المعروف، و كذلك مواجهة الجاهلين بالإعراض عنهم و عدم مجادلتهم و التحدّث معهم من موقع الانفعال، فهذه التعاليم الثلاثة تعد ثلاث برامج مهمّة فيما يتعلّق بالحياة الاجتماعية للإنسان في حركة الحياة بحيث لو تسنى لأفراد المجتمع أن يترجموا هذه الدساتير الثلاثة على أرض الواقع و يجسّدوها في سلوكياتهم و أعمالهم فإنّ أكثر المشكلات الاجتماعية و ما يترتب عليها من سلبيات اخرى ستجد طريقها إلى الحل.

و من مجموع الآيات المذكورة آنفاً يتجلّى لنا أهميّة الحلم كفضيلة أخلاقية سامية، و كذلك العواقب الوخيمة المترتبة على حالة الغضب الانفعالي و الشيطاني.

______________________________

(1). سورة الاعراف، الآية 200.

(2). تفسير روح البيان، ج 3، ص 298 في ذيل الآية المبحوثة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 345

الغضب في الروايات الإسلامية:

و نقرأ في الروايات الإسلامية تعبيرات عجيبة و مثيرة بالنسبة إلى الآثار السلبية للغضب و أضرار هذه الرذيلة الأخلاقية على حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية، و قد اخترنا من بين الأحاديث الكثيرة إثني عشر حديثاً:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الغَضَبُ جَمرَةٌ مِنَ الشّيطانِ» «1».

2-

و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «الغَضَبُ يُفسِدُ الإِيمانَ كَما يُفسِدُ الصَّبرُ العَسَلَ» «2».

3- و نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «أَعدَى عَدُوٍّ لِلمَرءِ غَضَبُهُ وَ شَهوَتُهُ، فَمَنْ مَلَكَهُما عَلَتْ دَرَجَتَهُ وَ بَلَغَ غايَتَهُ» «3».

4- و في حديث آخر عن الإمام عليه السلام نفسه قال: «الغَضَبُ نارٌ مُوقَدَةٌ مَنْ كَضَمَهُ أَطفَأَها وَ مَنْ أَطلَقَهُ كانَ أَوَّلُ مُحتَرقٍ بِها» «4».

5- و في عبارة ناطقة وردت في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «لَيسَ لإِبلِيسَ جُندٌ أَشَدُّ مِنْ النِّساءِ و الغَضَبِ» «5».

6- و جاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام في عبارة عميقة المعنى قوله: «الغَضَبُ مِفتاحُ كُلِّ شِرٍّ» «6».

7- و نقرأ في أحد الأدعية المعروفة للصحيفة السجادية في بيان الإمام زين العابدين عليه السلام لأخطار و أضرار الغضب و أنّها إلى درجة من الشدّة بحيث أنّ الإمام نفسه يستجير باللَّه منها و يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ هَيجانِ الحِرصِ وَ سُورَةِ الغَضَبِ وَ غَلَبَةِ

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 265.

(2). المصدر السابق.

(3). غرر الحكم.

(4). المصدر السابق.

(5). آثار الصادقين، ج 15، ص 452.

(6). اصول الكافي، ج 2، ص 303.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 346

الحَسَدِ وَ ضَعُفِ الصَّبرِ وَ قِلَّةِ القَناعَةِ» «1».

8- و نقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إِيَّاكَ وَ الغَضَبَ فَأَوَّلُهُ جُنُونٌ وَ آخِرُهُ نَدَمٌ» «2».

9- و ورد عن هذا الإمام عليه السلام في عبارة عميقة اخرى تتعلّق بالتقاطع بين الغضب و العقل و يقول: «عِندَ غَلَبَةِ الغَيظِ وَ الغَضَبِ تُختَبَرُ حِلمُ الحُلُماءِ» «3».

10- و أيضاً ورد في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام

عن عواقب الغضب الأليمة قوله: «عُقُوبَةُ الغَضُوبِ وَ الحَقُودِ وَ الحَسُودِ تَبدَءُ بِأَنفُسِهِم» «4».

11- و ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَورَتَهُ» «5».

12- و نختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، رغم وجود أحاديث كثيرة عن المعصومين في هذا الباب: «أَي شي ءٍ أَشَدُّ مِنَ الغَضَبِ إِنَّ الرَّجُلَ إِذا غَضَبَ يَقتُلُ النَّفسَ وَ يَقذِفُ المُحصَنَ» «6».

الآثار السلبية و المخرّبة للغضب:

إننا قلّما نجد صفة من الصفات الرذيلة تتضمّن عناصر الشر و التخريب مثلما لرذيلة الغضب، و لو أننا كتبنا تفصيلًا عن الآثار السلبية للغضب لاتّضح لدينا أنّها أكثر من الرذائل الأخلاقية الاخرى و من ذلك:

1- ينبغي الإلتفات قبل كل شي ء إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ حالة الغضب تقع ضمن أعداء الإنسان حيث أنّه يفقد عقله تماماً في ثورة الغضب و يتحوّل إلى كائن غير منسجم التصرفات و الحركات بحيث يتعجّب منه من حوله من الناس، بل إنّ الإنسان نفسه و بعد

______________________________

(1). الصحيفة السجادية، الدعاء 8.

(2). غرر الحكم.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

(5). المحجة البيضاء، ج 5، ص 293.

(6). سفينة البحار، مادة الغضب.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 347

هدوء هيجان الغضب يتعجّب من تصرفاته و سلوكياته الشائنة أثناء هذه الحالة، و في تلك الحال قد يهجم الشخص على أقرب المقرّبين إليه من دون أن يتعقّل ما ذا يفعل، و قد يتسبب في تلوث يده بدماء الأبرياء أيضاً، فيقتل و يحطّم و يسرق و يخرّب و كأنّه مجنون تماماً.

و لذلك ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «الغَضَبُ يُفسِدُ الألبابَ وَ يُبعِدُ مِنَ الصَّوابِ» «1».

و لهذا السبب ورد في الروايات الإسلامية أنّه إذا أردتم أن تختبروا عقل الأشخاص و

حنكتهم و رأيهم فعليكم بالنظر إليهم في حالة الغضب و مدى سيطرتهم على أنفسهم من شرّ هذه القوّة الهائجة، و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا يَعرِفُ الرَّأيُ عِندَ الغَضَبَ» «2».

2- إنّ الغضب يؤدّي إلى إضمحلال إيمان الشخص و تلاشيه، لانّ الشخص عند ما تمتلكه الحدّة فلا يرتكب الذنوب الكبيرة فقط بل يخرج من الإيمان أيضاً لأن هذه الحالة تتقاطع تماماً مع الإيمان الصحيح و العميق، بل أحياناً يتجرّأ هذا الشخص على اللَّه تعالى أو يعترض على حكمه و تقديره للُامور، و هذه المرحلة من أخطر المراحل التي تمر بالإنسان في حالة سورة الغضب.

و قد قرأنا الأحاديث السابقة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «الغَضَبُ يُفسِدُ الإِيمانَ كَما يُفسِدُ الصَّبرُ العَسَلَ».

3- إنّ الغضب يعمل على تخريب منطق الإنسان و كلامه الموزون، و يقوده إلى التلفظ بالباطل و الكلمات اللّامسؤولة، و عند ما يستند الغاضب مسند القضاء فإنّ حكمه سيكون غير سليم قطعاً، و لذلك نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «شِدَّةُ الغَضَبِ تَغَيِّرُ المَنطِقَ وَ تَقطَعُ مادَةَ الحُجَّةِ، وَ تَفَرِّقُ الفَهمَ» «3».

و قد ورد التصريح في آداب القضاء في الكتب الفقهية هذا المعنى أيضاً و أنّ القاضي لا ينبغي أن يجلس على كرسي القضاء في حالة الغضب.

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). بحار الانوار، ج 75، ص 113.

(3). بحار الانوار، ج 68، ص 428.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 348

و قد ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «مَنْ ابتَلى بِالقَضاءِ فلا يَقضِي وَ هُوَ غَضبان».

4- و الآخر من الآثار السلبية لحالة الغضب هو إشهارها لعيوب الإنسان الخفيّة، لأنّ هذا الشخص

في حالاته العادية يتحرّك من موقع السيطرة على قواة النفسية، فلا تتجلّى عيوبه و نقاط ضعفه للآخرين، بل تبقى مستورة و يحفظ بذلك سمعته و ماء وجهه في أنظار الناس، و لكن عند ما تستعر في نفسه نار الغضب، فإنّها تزيل السواتر و الأقنعة عن واقع الإنسان و تكسر قيود العقل و تظهر عيوب صاحبها الخفيّة و تؤدّي إلى سقوط شخصيته و مكانته بين الناس.

و لذلك ورد في درر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «بئسَ القَرِينُ الغَضَبُ يُبدِي المَعايبَ وَ يُدنِي الشَّرَّ وَ يُباعِدُ الخَيرَ» «1».

5- إنّ الغضب بإمكانه أن يفتح طريق الشيطان للإنسان و يوقعه في شراكه و مصائده، لأنّ الإيمان و العقل يعتبران مانعين مهمّين يصدّان هجمات الشيطان، و لكنّهما في حالات الغضب سينكمشان و يدركهما الضعف و عدم الحيلة و بذلك ترتفع الموانع أمام الشيطان لينفذ بسهولة و يصل إلى قلب الإنسان ويحكم سيطرته على قواه، و يفعّل عناصر الشر في نفسه و باطنه.

و نقرأ في الحديث المعروف: «أنّ نوح عليه السلام لمّا دعى ربّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلى قَومِهِ أَتاهُ إِبلِيسُ لَعنَهُ اللَّهُ فَقالَ: يا نُوحُ إِنَّ لَكَ عِندِي يَداً ارِيدُ أَن اكافِيكَ عَلَيه، فَقالَ لَهُ نُوحٌ عليه السلام: إِنَّهُ لَيبغَض إِليَّ أَن يَكُونَ لَكَ عِندِي يد فَما هِي؟ قالَ: بلى دَعوتَ اللَّهَ عَلى قَومِكَ فَأَغرَقتَهُم فَلم يَبقَ أَحدٌ أَغويهِ فأَنا مُستَريحٌ حتّى يَنسقَ قرنٌ آخر وَ اغويهِم، فَقال نُوحٌ عليه السلام: ما الّذِي تُريدُ أَن تُكافِينِي بهِ؟ قالَ: اذكُرنِي فِي ثَلاثِ مَواطِن فَإنّي أَقرَبُ ما أَكُونُ إِلى العَبدِ إذا كان في أحدهن: اذكُرنِي إِذا غَضِبتَ، اذكُرنِي إِذا حَكَمتَ بَينَ اثنَينِ، اذكُرنِي إِذا كُنتَ مَعَ امرأَةٍ خالياً لَيسَ مَعَكُما أَحَداً»

«2».

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة، كتاب الجهاد، ج 13، ص 428.

(2). بحار الانوار، ج 11، ص 318.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 349

و نقرأ في حديث آخر: «عَن ذي القَرنَين أَنّه لَقى مَلَكاً مِنَ المَلائِكَةِ فَقالَ عَلِمنِي عِلماً أَزدادُ بِهِ إِيماناً وَ يَقِيناً، قالَ: لا تَغضَبْ فإنَّ الشَّيطانَ أَقدَرُ ما يَكُونُ عَلى ابنِ آدمَ حِينَ الغَضَبِ» «1».

و لا شك أنّ الغضب مضافاً إلى هذه الآثار السيئة على المستوى المادي و الاجتماعي و الأخلاقي فإنّه تترتب عليه آثار معنوية سيئة كثيرة أيضاً بحيث يستفاد من الروايات المختلفة أنّ الشخص الذي يسيطر على غضبه و يكظم غيظه له ثواب الشهداء «2» و يحشر يوم القيامة مع الأنبياء «3» و يملأ قلبه من نور الإيمان «4».

أسباب و دوافع الغضب:

اشارة

إنّ الغضب باعتباره ظاهرة روحية معقّدة له عوامل و أسباب مختلفة، و معرفة هذه العوامل و الدوافع ضرورية في عملية الوقاية من أخطار هذه الحالة السلبية، و من جملة العوامل و الأسباب لتفعيل هذه الحالة في نفس الإنسان و ظهور آثارها السلبية الخطيرة هي:

1- التسرع في الحكم:

إنّ كل إنسان في حياته الفرديّة و الاجتماعية يسمع يومياً بعض الأخبار غير المسّرة و قد يحكم عليها مباشرة من موقع حالة الغضب المستعرة في قلبه، و قد يتصرف تصّرفاً أحمقاً و يرتكب بعض الأعمال الخطيرة و ما أكثر ما يتبيّن عدم صحة الخبر أو على الأقل عدم مطابقته للواقعيات تماماً لدى التحقيق و التأنّي، و بالتالي فلا مبرر له على الغضب و الحدّة.

أجل فإنّ التسرّع في الحكم في مثل هذه المسائل يعدّ عاملًا مهمّاً لبروز حالة الحدّة و الغضب على طول التاريخ و ترتّب العواقب الوخيمة عليه.

و قد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ طبائِعِ الجُّهالِ التَّسَرُّعُ

______________________________

(1). المحجة البيضاء، ج 5، ص 293.

(2). جامع أحاديث الشيعة، ج 13، ص 479.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق، ص 478.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 350

الاخلاق فى القرآن ج 3 399

إِلى الغَضَبِ فِي كُلِّ حالٍ» «1».

2- ضيق الافق:

إنّ الأشخاص الذين يعيشون سعة الصدر و كبر الروح و قوّة الشخصية وسعة الفكر فإنّهم يتحمّلون الحوادث الصعبة و يواجهون تحدّيات الواقع المرّة بكامل الوقار و حفظ النفس، و لكنّ الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق فإنّهم ينفعلون بأقل حادثة غير ملائمة و أحياناً يخرج زمام امورهم من أيديهم و يتصرّفون تصّرفاً طائشاً.

و الحديث الذي قرأناه آنفاً من أنّ سرعة الغضب و الحدّة من أخلاق الجهّال هو إشارة إلى هذه الحقيقة أيضاً.

3- التكبّر و الغرور:

إنّ الأشخاص الذين يعيشون روح التكبّر و الغرور، و يرغبون دائماً في أن يحفظ لهم الآخرون احترامهم و لا يتجاوزوا حدودهم و يقومون لهم حين دخولهم المجلس إكراماً لهم و احتراماً يرون لأنفسهم إمتيازات خاصة على سائر الناس، و لكن إذا لم يحصلوا على هذه التوقّعات و لم يجدوا في الناس ذلك الأحترام و الإكرام فسوف تتحرّك فيهم حالة الغضب و الحدّة، في حين أنّ عنصر الشر موجود في باطنهم و العامل الأساس لشقائهم موجود في ذواتهم و لا ذنب للآخرين.

و نقل في الرواية عن السيد المسيح عليه السلام ضمن بيانه لأسباب الغضب أنّه عدّ التكبّر و العجب و الغرور من العوامل لذلك «2».

و نقرأ في حديث آخر عن السيد المسيح عليه السلام أيضاً أنّ الحواريين قالوا له: «يا مُعَلمَ الخَيرِ، عَلِّمنا أَيّ الأَشياءِ أَشَدُّ؟

فَقَالَ عليه السلام: أَشَدُّ الأشياء غَضَبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالُوا: فَبِمَ يُتَّقى غَضَبُ اللَّه؟ قَالَ: بِأَنْ لا تَغضَبُوا.

قَالُوا: وَ ما بِدؤ الغَضَبِ؟ قال عليه السلام: «الكِبرُ و التَّجبُّرُ وَ مَحقَرَةُ النّاسِ» «3».

4- الحسد و الحقد:

إنّ الأشخاص الذين يعيشون الحسد و الحقد تجاه الآخرين فإنّ

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). محجة البيضاء، ج 5، ص 304.

(3). سفينة النجاة، مادة غضب.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 351

المواد الأولية لهذه الحالات الذميمة موجودة في باطنهم كما يخزن البارود و الديناميت في مخازن و لا يحتاج إلّا إلى شرارة خفيفة من الخارج حتى ينفجر بركان الغضب و يستولي على جميع كيانهم، و في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «الحِقدُ مَثارُ الغَضَبِ» «1».

5- الحرص و حبّ الدنيا:

إنّ الأشخاص الذين يهيمون بحبّ الدنيا و يملأ وجودهم الحرص على تحصيل زخارفها و زبارجها، فإنّهم لا يتحمّلون أن يجدوا أيّة مزاحمة و خسارة محتملة لمنافعهم الدنيوية، و لذلك نجدهم يثورون لأتفه الأسباب فيما لو تعرّضوا لبعض الخسائر الطفيفة، و بما أنّ الحياة الاجتماعية لا تخلو من أمثال هذه المزاحمات و المضايقات، بل يمكن القول أنّ هذه المزاحمات و المضايقات جزء من كل يوم من أيّام الدنيا، و لذلك نجد مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغضب و الحدّة باستمرار و فيما لو لم يستطيوا إبراز غضبهم في بعض الحالات فإنّ نار الغضب تستقر في ذواتهم و تحرق طاقاتهم الخيّرة و إمكاناتهم الإيجابية في عالم النفس.

و كما ورد في ذيل الحديث المذكور آنفاً عن السيد المسيح عليه السلام أنّه أشار إلى هذا العامل:

«وَ شِدَّةُ الحِرصِ عَلى فُضُولِ المَالِ وَ الجاهِ».

علاج الغضب:

و نظراً إلى أنّ الآثار السلبية و العواقب الوخيمة لحالات الغضب و الحدّة كثيرة و خطرة جدّاً و أحياناً تؤدّي إلى تدمير حياة الإنسان على كل المستويات و الصعد، لذلك كان من الضروري بذل الجهد لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية، و إلّا فإنّ الندم ينتظر هؤلاء الأشخاص، و قد ذكر كبار علماء الأخلاق في هذا الباب أبحاثاً مهمّة و كثيرة، و الأهم من ذلك ما ورد من التعليمات الدينية في النصوص الإسلامية التي ذكرت إرشادات مؤثّرة لإطفاء نار الغضب في واقع الإنسان، و نختار منها ما يلي:

______________________________

(1). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 352

1- أن يقوم الشخص الحاد المزاج بالتفكّر بآثار الغضب السلبّية و عواقبه السيئة قبل أن تستعر نيران الغضب في قلبه و تلتهم كيانه، فيتحرك على مستوى التلقين و الإيحاء لها بأنّ الغضب هو في الحقيقة

نار يمكنها أن تأتي على الأخضر و اليابس و تحرق إيمانه و سعادته و وجوده، و تسعّر غضب اللَّه عليه في الدنيا و الآخرة، و أنّ هذه الحالة الذميمة تبعد الناس من حوله و تفرّق عنه أصدقاءه و تكون ذريعة بيد أعدائه، و للغضب آثار وخيمة على أعصاب الإنسان و يؤدي إلى قصر العمر و يهدد سلامة الشخص البدنية أيضاً، و يمنعه من الصعود في مدارج الكمال الدنيوي و الاخروي.

بخلاف حالة الحلم وسعة الصدر التي هي رمز موفقّية الإنسان و تقدّمه و تفوّقه و صحّته الروحية و البدنية و التي تمنحه الإحترام و المودّة في قلوب الناس و توجب له رضا اللَّه تعالى و الابتعاد عن الشيطان، و كذلك يتفكر في الثواب الإلهي لمن يعيش الحلم وسعة الصدر، و العقاب الإلهي المترتب على من يعيش الحدة و سرعة الغضب.

و هذه الامور لا يتفّكر فيها الإنسان في حال الغضب فحسب بل عليه أن يتفّكر فيها قبل ذلك و يلقّن نفسه باستمرار لكي لا يتورّط في هذه الحالة الذميمة.

2- أن يفكّر في عواقب الغضب و الحدّة، و هذه المسألة مجربة تماماً، و إذا لم يجرّبها الإنسان نفسه فقد جرّبها الآخرون و هي أنّ كل تصميم على عمل معيّن يتّخذه الإنسان في حال الغضب فأنّه يكون زائفاً و سخيفاً و غالباً ما يوجب له الندم، فما أحسن أن يتذّكر هذه العبارة المعروفة عن أحد العلماء، و هي أنّه في حالة الغضب لا ينبغي عليه التصميم و لا التوبيخ و لا العقوبة.

3- و من الطرق المهمّة لعلاج حالة الغضب و التي ورد التأكيد عليها في الروايات الشريفة هو (ذكر اللَّه) و قد ورد في بعض الروايات أنّ من ثارت

فيه الحدّة عليه بقول: «أعوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ» «1».

______________________________

(1). سفينة البحار، مادة الغضب، المحجة البيضاء، ج 5، ص 307.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 353

و ورد في رواية اخرى أن يقول في هذه الحالة: «لا حَولَ وَ لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِّي العَظِيمِ» «1»، لتهدأ سورة الغضب في أعماقه.

و جاء في بعض الروايات أيضاً أنّه ينبغي أن يضع خدّه على الأرض أو يسجد للَّه تعالى.

و يقول أبو سعيد الخدري نقلًا عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «أَلا إنَّ الغضَبَ جَمرَةٌ فِي قَلبِ ابنِ آدمَ، أَ لا تَرَونَ إِلى حَمرَةِ وَ انتفاخِ أَودَاجِهِ فَمَن وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيئاً فَليلصَقِ خَدَهُ بِالأرِضِ» «2».

و من المعلوم أنّ كل شخص يسلك في حالة الغضب في خط العمل لهذه التوصيات و التعليمات الدينية و يلتجأ إلى اللَّه تعالى من شرّ الشيطان فإنّ غضبه سيهدأ قطعاً.

و معلوم أيضاً أنّ ذكر اللَّه مؤثّر جدّاً في مثل هذه الأحوال، و لكنّ ذكر اللَّه بالكيفية المذكورة آنفاً أكثر تأثيراً من علاج هذه الحالة.

و قد أورد الشيخ الحر العاملي في كتاب وسائل الشيعة باباً تحت عنوان (باب وجوب ذكر اللَّه عند الغضب) في أبواب جهاد النفس، حيث يدلّ على أهميّة هذا الموضوع بالذات «3».

4- تغيير الحالة الفعلية للشخص إلى حالة اخرى حيث تكون مؤثرة في علاج الغضب أيضاً كما ورد في الروايات الإسلامية أنّ الشخص إذا تملّكه الغضب و كان جالساً فعليه أن يقوم، و إذا كان قائماً عليه أن يجلس، أو يعرض بوجهه عن مواجهة الحدث، أو يستلقي على الأرض، أو إذا أمكنه أن يبتعد عن محل الحادثة، أو يشغل نفسه بأمر آخر.

و هذا التغيّر في الحالة الفعلية يوثر كثيراً في تهدئة

الغضب و الحدّة فنقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «كانِ النَّبِيّ إذا غَضِبَ وَ هُوَ قائِمٌ جَلَسَ وَ إذا غَضِبَ وَ هُوَ جالِسٌ اضطَجَعَ فَيَذهَبُ غَيضُهُ» «4».

______________________________

(1) جامع الأحاديث، ج 13، ص 427.

(2) المحجة البيضاء، ج 5، ص 308.

(3) وسائل الشيعة، ج 11، ص 291 (باب 54 من أبواب جهاد النفس).

(4) المحجة البيضاء، ج 5، ص 308؛ بحار الانوار، ج 70، ص 272.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 354

و قد ورد في بحار الانوار عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «وَ أَيُّما رَجُلٍ غَضِبَ وَ هُوَ قائِمٌ فَليَجلِس فَإِنَّهُ سَيَذهَبُ عَنهُ رِجزُ الشَّيطانِ وَ إِنْ كانَ جالِساً فَليَقُم» «1».

و جاء في ذيل هذا الحديث الشريف أنّه إذا غضب الإنسان على أحد أرحامه فعليه أن يلمس بدنه ليثير في نفسه عواطف الرحم ممّا يقوده إلى الهدوء و عودة حالته الطبيعية.

5- الوضوء، أو شرب الماء البارد و غسل الرأس و الوجه، و كلّها تؤثر حتماً في تهدئة الإنسان و زوال حالة الغضب عنه، بل ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذِا غَضِبَ أَحَدُكُم فَليَتَوضأ» «2».

و يستفاد من هذا التعبير أنّ الوضوء مستحب في حالات الغضب و مؤثر في تسكينه و زواله.

و قد ذكر العلّامة المجلسي قدس سره في تحليله المختصر لهذا الحديث الشريف أنّ: «سَببُ الغَضَبِ الحَرارَةُ وَ سَببُ الحَرارَةِ الحَرَكَةُ إذ قالَ صلى الله عليه و آله: إنَّ الغَضَبَ جَمرَةٌ تَتوقَدُ أَ لم ترَ إِلى انتِفاخ أَودَاجِهِ وَ حُمرَةُ عَينَيهِ؟ فإِن وَجَدَ أَحِدُكُم مِنْ ذَلِكَ شَيئاً فَليَتَوضأ بِالماءِ البارِدِ وَ ليَغسِل فَإِنَّ النِّارَ لا يُطفِئُها إِلّا الماءُ، وَ قَد قالَ صلى الله

عليه و آله: إِذا غَضِبَ أَحَدُكُم فَليَتوضأ وَ ليَغتسلِ فَانَّ الغَضَبَ مِنَ النَّارِ» «3».

فإذا عمل الإنسان على ضمّ هذه الامور العملية إلى ما تقدّم من ضرورة التفكّر في الآثار الخطرة للغضب في الدنيا و الآخرة و ما يترتب عليه من العقوبات الإلهية فإنّ ذلك من شأنه أن يطفأ نار الغضب بالتأكيد، و لكنّ المشكلة تبدأ من أنّ الإنسان، لا يرغب في تغيير حالته و العمل بالتوصيات المذكورة لإزالة حالة الغضب عن نفسه، و حينئذٍ فالنجاة و الخلاص من الآثار السلبية المترتبة على هذه الحالة الذميمة يكون عسيراً للغاية، بل غير ممكن أحياناً.

أقسام الغضب:

اشارة

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 70، ص 272.

(2) المصدر السابق، ج 77، ص 312.

(3) المصدر السابق، ج 70، ص 272.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 355

إنّ حالة الغضب ليست سلبية دائماً، بل قد تترتب عليها آثار إيجابية على المستوى المادي و المعنوي في حياة الإنسان و أحياناً تكون ضرورية و لازمة، و عليه يمكننا تقسيم الغضب إلى إيجابي و سلبي، أو ممدوح و مذموم، فإذا ضممنا إليها الغضب في دائرة الالوهية تحصّلت لدينا ثلاثة أقسام للغضب:

1- غضب اللَّه تعالى:

حيث ورد الحديث عنه في الكثير من الآيات القرآنية الشريفة و خاصة بالنسبة إلى بني اسرائيل حيث تشير الآيات إلى أنّ اللَّه تعالى غضب عليهم، بل ورد (المغضوب عليهم) حيث ذكر جماعة من المفسّرين أنّ المقصود بهذه العبارة هم بنو اسرائيل الفاسقون في كل زمان و مكان حيث سوّدوا صفحة التاريخ البشري بذنوبهم و أعمالهم الأثيمة.

و لا شك أنّ الغضب بمعنى الانفعال النفسي المقترن مع حبّ الانتقام و الذي يتجلّى في ظاهر الوجه على شكل إحمرار الوجه و احتقان الدم و أمثال ذلك لا يرد قطعاً في مفهوم الغضب في دائرة الالوهية، لأنّ اللَّه تعالى منزّه عن الجسم و الجسمانية و التغير و التبدّل في الحالات، فلا مفهوم لها بالنسبة إلى الذات المقدّسة، كما أنّ الانتقام بمعنى إرضاء حالة الغضب و تهدئة حرقة القلب الذي يصطلح عليه بالتشفّي المقترن مع تعذيب العدو و إلحاق الضرر به كذلك لا معنى و لا مفهوم بالنسبة إلى الذات الإلهية المقدّسة.

و من ذلك فإنّ المفسّرين ذهبوا إلى أنّ غضب اللَّه تعالى بمعنى إنزال العقوبة العادلة بالمذنبين و المجرمين في الدنيا و الآخرة.

يقول الراغب في مفرداته بصراحة: أنّه عند ما يراد بالغضب صفة من الصفات الإلهية

فإنّ المقصود هو الانتقام و العقاب من المجرمين.

فقد أشارت الأحاديث الإسلامية أيضاً إلى هذا المعنى، كما نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام عليه السلام الباقر عليه السلام عن سؤال حول غضب اللَّه تعالى ما ذا يعني؟ فقال: «غَضَبَ اللَّهُ تعالى عِقابَهُ يا عُمرَو «1» مَنْ ظَنَّ يُغَيِّرُهُ شَي ءٌ فَقَدْ كَفَرَ» «2».

______________________________

(1). إشارة إلى عمرو بن عبيد المعتزلي الذي جاء مع جماعة إلى مجلس الإمام الباقر عليه السلام لاختباره، و لكنهم رجعوا خائبين.

(2). بحار الانوار، ج 4، ص 68.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 356

و جاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ غضب اللَّه تعالى هو عقابه كما أنّ رضا اللَّه هو ثوابه (لا أنّ الغَضَبَ حالَةٌ نفسيّة فِي الذَّاتِ المُقَدَّسةُ تِقتَضِي التَّغَيُّرَ وَ التَّبَدُّلَ الُّذي نَراهُ فِي صِفاتِ المُمكِناتِ).

و خلاصة الكلام أنّ الآيات و الروايات الشريفة التي تتحدّث عن غضب اللَّه و سخطه لا تتعلّق بحالة الغضب لدى المخلوقين و لا تشبهها بشكل من الأشكال، بل هي في الواقع إنزال العقاب العادل في حق المجرمين و لغرض تربية الإنسان و ايصاله إلى كماله اللّائق.

2- الغضب السلبي و المخرب،

الذي تقدّم البحث فيه بالتفصيل في الاحاديث السابقة و رأينا الأضرار الكبيرة المترتبة على هذه الحالة النفسية و بحثنا أسبابها و طرق علاجها بما لا حاجة إلى توضيح أكثر.

3- الغضب الإيجابي للإنسان:

و معلوم أنّ هذه القوّة لدى الإنسان لم تخلق من دون غرض و حكمة، فلو تصوّر شخص أنّ هذه القوّة فد خلقها اللَّه تعالى و جعلها في الإنسان لغرض التخريب و الشر فإنّه لم يدرك جيداً حكمة اللَّه تعالى في خلقه، و في الحقيقة أنّ توحيده الأفعالي ناقص.

فمن المحال أن يخلق اللَّه تعالى عضواً من أعضاء بدن الإنسان أو قوّة في نفسه و روحه ليس لها فائدة و منفعة في حياة الإنسان و من ذلك قوّة الغضب.

عند ما يعيش الإنسان حالة الغضب و تسيطر عليه هذه القوّة فإنّها تعمل على تعبئة جميع طاقاته و قواه الفكريّة و الجسدية تجاه الخطر و أحياناً تتضاعف قدرته أضعاف ما كانت عليه في الحالات العاديّة، و الحكمة الوجودية لهذه الحالة في الواقع هي الدفاع عن الإنسان و منافعه في نفسه و ماله و عرضه تجاه الخطر و تحدّيات الظروف الخارجية، و هذه نعمة و موهبة إلهية كبيرة جدّاً.

إننا نرى الحيوانات أو الطيور أيضاً عند ما يشعرن بالخطر يتحرّكن و يلذن بالفرار بعيداً عن منطقة الخطر، و لكنّ هذه الحيوانات عند ما يتعرّض أطفالهن إلى الخطر فإنّها تتصدّى إلى هذا الخطر و تدافع بنفسها عن أولادها ممّا يثير تعجّب الكثيرين، و أحياناً قد يرى طائر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 357

جبان الخطر على فراخه فيهجم باتّجاه الخطر و يتصدّى إلى المهاجمين و يبعدهم عن أطفاله و يلحق بهم الهزيمة و حتى بعض الحيوانات كالقط إذا رأى نفسه محبوساً في غرفة و تعرّض

للهجوم فإنّه يتصدّى أيضاً للدفاع عن نفسه و يتبدّل إلى حيوان متوحّش و خطر حيث يهجم أحياناً على الإنسان و يلحق به أضراراً كثيرة.

و عليه فإنّ قوّة الغضب هي في الحقيقة قوّة مفيدة و مهمّة في عملية الدفاع عن النفس و ما يتعلّق بالإنسان من الامور المادية و المعنوية، و لذلك فهي ضرورية في بقاء و استمرار الحياة و تكامل الإنسان بشرط أن تستخدم في مكانها و في الغرض التي خلقت لأجله بدون افراط و تفريط.

و نقرأ في الآيات و الروايات الإسلامية موارد كثيرة تتحدّث عن الغضب المقدّس الإيجابي و الغضب الإلهي كذلك، و منها:

1- نقرأ في قصّة موسى عليه السلام أنّه عند ما توجّه إلى جبل الطور لإستلام الوحي الإلهي و التوراة، فإنّ السامري قد استغل هذه الفرصة في غياب موسى عليه السلام و صنع العجل الذهبي لبني اسرائيل و دعاهم إلى عبادته و قد أخبر اللَّه تعالى موسى عليه السلام بهذا الحدث العظيم و هو في جبل الطور ممّا جعل موسى عليه السلام يغضب لذلك و يحزن و يعود إلى قومه و هو غارق في الهم و يعتصره الألم، فألقى الألواح التي كتبت فيها التوراة و الأحكام الإلهية و أخذ برأس أخيه و بلحيته موبّخاً إيّاه على تساهله مقابل ما صنعه السامري من اضلال بني اسرائيل و حتى أنّه وبّخه كما تقول الآية: «وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَ لَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «1».

هذه الحالة المثيرة و الغضب الشديد

الذي استعر في قلب موسى عليه السلام تجاه ما صنعه بنو اسرائيل من عبادة العجل قد أثر أثره الكبير في قلوب اليهود و هزّهم من أعماقهم فانتبهوا من غفلتهم و أدركوا سوء تصرّفهم في انحرافهم عن التوحيد و سلوكهم في خط الشرك و عبادة الوثن.

______________________________

(1). سورة طه، الآية 92 و 93؛ سورة الاعراف، الآية 150 و 151.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 358

و معلوم أنّ مثل هذا الغضب الشديد في مقابل ظاهرة انحراف الناس و ضلالهم هو من الغضب الإيجابي و البنّاء و له بعد إلهي في حركة حياة الإنسان المعنوية.

و هكذا الحال في جميع أشكال الغضب لدى الأنبياء الإلهيين في مقابل أقوامهم المنحرفين و الضالّين.

و من اليقين أنّ موسى عليه السلام إذا كان قد واجه هذه الظاهرة من موقع برودة الأعصاب و عدم تثوير حالة الغضب في نفسه فإنّ بني اسرائيل يستوحون من هذا السلوك إمضاءاً و اعترافاً من موسى عليه السلام بأفعالهم و سلوكياتهم الخاصة، و بالتالي فإنّ مواجهة هذا الانحراف قد يكون مشكلًا فيما بعد، و لكنّ غضب موسى عليه السلام و هيجانه قد أثر أثره الإيجابي الكبير في رجوع بني اسرائيل عن خط الانحراف.

2- و نقرأ في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه أحياناً يتملكه الغضب الشديد تجاه بعض الحوادث و الوقائع بحيث تظهر آثار الغضب على محياه و وجه المبارك.

من قبيل ما ورد في قصّة صلح الحديبية أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد غضب بشدّة لبعض مقترحات (سهيل بن عمر) (وكيل قريش لعقد معاهدة الصلح مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله) و كان غضبه حول بعض الموارد المقرّرة لمكتوب الصلح بين الطرفين بحيث

ذكر المؤرّخون أنّ آثار الغضب ظهرت على وجهه و سيمائه (و هذا الأمر تسبب في سحب سهيل اقتراحه و عدم ذكره في بنود الصلح) «1».

3- و ورد في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام أنّه غضب بشدة على أحد المسلمين الذي أضرّ بزوجته و هدّدها بالحرق، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلّا أن تأثر بشدّة لذلك و سحب سيفه على هذا الرجل و قال: «آمرُكَ بِالمَعرُوفِ وَ أَنهاكَ عَنْ المُنكَرِ وَ تَردُ المَعروفَ؟ تُب وَ إِلّا قَتَلتُكَ. (و لما علِم الشابُ أَنّه أَمير المؤمنين عليه السلام) قالَ: يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ اعفُ عَنِّي عفا اللَّهُ عَنكَ وَ اللَّهِ لأَكُوننَ أَرضاً تَطأني، فَأَمرها بِالدُخُولِ إِلى مَنزِلِها و انكفأ وَ هُو يَقُولُ: لا خَيرَ فِي

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 20، ص 360.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 359

كَثيرٍ مِنْ نَجواهُم إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعرُوفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ» «1».

و من اليقين أنّ مثل هذ الغضب مقدّس و إلهي حيث يوثّر كثيراً على مستوى سوق الشخص المذنب بإتّجاه الحق و العدالة و السير في خط الإيمان.

4- و نقرأ في حالات أبي ذر رضى الله عنه عند ما لم يتحمل عثمان أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر أمر بتبعيده و نفيه إلى صحراء الربذة في أسوأ الظروف و الحالات، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلّا أن حضر لتوديعه و قال له: «يا أَبا ذَر إِنَّكَ غَضِبتَ للَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فَارْجُ مَنْ غَضِبتَ لَهُ إِنَّ القَومَ خافُوكَ عَلى دُنياهُم وَ خِفتَهُم عَلى دِينِكَ، فَاترُكْ فِي أَيدِيهِم ما خافُوكَ عَلَيهِ وَ اهرُب مِنهُم بِما خِفتَهُم عَلَيهِ» «2».

و بديهي أنّ غضب أبي ذر رضى الله عنه كان بالنسبة إلى

ما يراه من التلاعب بأموال المسلمين و بيت المال و ما يشاهده من الظلم و الجور بحق سائر المسلمين فإنّ مثل هذا الغضب يقع في دائرة الغضب الإلهي المقدّس.

و في كلام آخر لأبي ذر رضى الله عنه أيضاً عند ما أمر معاوية بنفيه عن الشام و ابعاده عنه لشدّة انتقاداته اللاذعة و جرأته و شجاعته في اللَّه حيث خاف معاوية على مقامه و سمعته بين أهل الشام، فما كان من أبي ذر رضى الله عنه إلّا أنّ خاطب المسلمين من أهل الشام الذين جاءوا لتوديعه و قال: «أَيُّها النّاسُ إِجمَعُوا مَعَ صَلاتِكُم وَ صَومِكُم غَضَباً للَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذا عُصِيَ فِي الأَرضِ» «3».

5- و نقرأ في حديث شريف عن سيرة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام عند ما جاء إلى والي المدينة الوليد بن عتبة: «فَقَد كانَتْ بَينَ الحُسينِ عليه السلام وَ بَينَ الولِيد بنِ عَقبةِ مَنازَعَةٌ فِي ضَيعَةٍ فَتَناوَلَ الحُسَينِ عليه السلام عَمامَةَ الوليدِ عَنْ رَأَسِهِ وَ شَدَّها فِي عُنقِهِ وَ هُوَ يَومَئِذٍ والٍ عَلَى

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 40، ص 113.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 130.

(3). ميزان الحكمة، ج 3، ص 2270.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 360

المَدينَةِ، فَقالَ مَروانُ: بِاللَّهِ ما رَأَيتُ كَاليَومِ جُرأَةَ رَجُلٍ عَلى أَمَيرهِ، فَقالَ الوَلِيدُ: وَ اللَّهِ ما قُلتَ هذا غَضَباً لِي وَ لَكِنَّكَ حَسَدتَنِي عَلى حَلمِي عَنهُ وَ إِنّما كَانَتِ الضَّيعَةُ لَهُ، فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام: الضَّيعَةُ لَكَ يا وَلِيدُ وَ قامَ» «1».

و هذه إشارة إلى أنّ غضبه عليه السلام لم يكن للدنيا و حطامها بل لإثبات عجز الوليد عن فرض رأيه بالقوة.

6- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عند ما بعث بمالك الأشتر

والياً على مصر فارسل معه كتاباً إلى أهل مصر يقول فيه: «مِنْ عَبدِ اللَّهِ عَليِّ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عليه السلام إلَى القَومِ الَّذِينَ غَضِبُوا للَّهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرضِهِ وَ ذُهِبَ بِحَقِّهِ» «2».

7- و ورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّ اللَّه تعالى أوحى لأشعياء النبي عليه السلام: «إِنِّي مُهلِكٌ مِنْ قَومِكَ مائَةَ أَلفٍ، أَربَعينَ أَلفاً مِنْ شِرارِهِم وَ سَتِّينَ ألفاً مِنْ خيارِهِم، فقالَ عليه السلام:

هَؤلاءِ الأَشرارِ فما بالُ الأَخيارِ؟ فَقالَ: داهَنُوا أَهلَ المَعاصِي فَلَم يَغضَبُوا لِغَضَبِي» «3».

هذه و أمثالها من الروايات الواردة في المصادر الإسلامية غير قليلة و تتحدّث جميعها عن الغضب المقدّس الذي يكون للَّه تعالى و للدفاع عن الحق مقابل الظالمين و قوى الانحراف و أصحاب البدع و الضلالة.

أمّا الفرق بين الغضب المقدّس و المذموم هو أولًا: إنّ الغضب المقدّس يقع تحت سيطرة العقل و الشرع و لا يتجاوز هذه الدائرة و يكون بهدف تعبئة جميع قوى الإنسان لمواجهة العمل المنكر الذي يراد ارتكابه لمنع وقوعه و ارتكابه، و أمّا الغضب الشيطاني فإنّه ليس فقط لا يقع تحت دائرة العقل و الشرع، بل يكون بوحي من الأهواء و الشهوات و النوازع الذاتية التي تقود الإنسان في خط الانحراف و الباطل.

ثانياً: إنّ الغضب المقدّس يتّجه لتحقيق أهداف مقدّسة و يتقارن مع المنهجية و النظم في دائرة السلوك و العمل، في حين أنّ الغضب المذموم و الشيطاني لا يهدف إلى تحقيق شي ء مفيد و مقدّس و يفتقد كذلك إلى البرمجة و النظم.

ثالثاً: إنّ الغضب المقدّس له حدود معيّنة لا يتجاوز عنها، في حين أنّ الغضب الشيطاني

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 44، ص 191.

(2). نهج البلاغة، الرسالة 38.

(3). بحار الانوار، ج 14، ص 161.

الاخلاق فى القرآن، ج 3،

ص: 361

لا يعرف حدّاً معيّناً، و على سبيل المثال يمكننا بيان ما تقدّم من الفرق بين هذين النحوين من الغضب بالقول بأنّ الغضب المقدّس حاله حال السيل النازل من الجبال و المجتمع خلف السد حيث يتمّ الإستفادة منه بشكل منظّم و محسوب، مياهه تجري في قنوات خاصة و تتسبب في عمران المنطقة و زيادة البركة و الخير العميم، في حين أنّ الغضب الشيطاني حاله حال السيول المخرّبة التي تسيل من الجبال و لا تجد أمامها مانعاً من الموانع و بالتالي فإنّها تدّمر كل شي ء تجده أمامها.

و نختم هذا الحديث بكلام عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: «إِنَّما المُؤمِنُ الَّذِي إِذا غَضَبَ لَم يَخرُجهُ غَضَبُهُ مِنْ الحِقِّ وَ إِذا رَضَيَ لَم يَدخُلهُ رِضاهُ فِي باطِلٍ» «1».

الحلم وسعة الصدر:

النقطة المقابلة لحالة الغضب و الحدّة المذمومة هي الحلم و ضبط النفس وسعة الصدر كما ورد عن الإمام الحسن عليه السلام عند ما سئل عن معنى الحلم فقال: «كَظمُ الغَيظِ وَ مِلكُ النَّفسِ» «2»، و من علاماته حسن التعامل مع الناس و المعاشرة بالمعروف مع الآخرين كما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «لَيسَ بِحَليمٍ مَنْ لَمْ يُعاشِرِ بِالمَعرُوفِ مَنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعاشَرَتَهُ» «3».

أمّا الأشخاص الذين يتحلّمون بسبب عجزهم و عدم قدرتهم على إشهار الغضب و ممارسته فهم يفتقدون في الواقع لفضيلة الحلم وسعة الصدر، لأنّهم كلّما وجدوا القدرة على ممارسة غضبهم و إخراجه إلى دائرة العمل يتحرّكون فوراً للإنتقام من الطرف الآخر كما ورد هذا المعنى في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «لَيسَ الَحلِيمُ مَنْ عَجَزَ فَهُجِمَ و إِذا قَدَرَ إنتَقَمَ إِنَّما الحَلِيمُ مَنْ إِذا قَدَرَ عَفى «4».

______________________________

(1).

بحار الانوار، ج 64، ص 354.

(2). المصدر السابق.

(3). كنز العمال، ج 3، ص 130، ح 5815.

(4). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 362

و على أية حال فإنّ الحلم و ضبط النفس يعدّ من أفضل و أكرم القيم الأخلاقية و خاصة للرؤساء و المدراء و الأولياء على العوائل حيث يتسبب في تكاملهم المعنوي و قوّة مديريّتهم و جذب القلوب إليهم و بالتالي بإمكانه أن يحل لهم الكثير من المشكلات و يهوّن عليهم المصاعب، أمّا بالنسبة إلى أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية فنختار في هذا المضمون عدّة روايات واردة في هذا الباب:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَ لا اخبِرُكُم بِأشبَهَكُم بِي أَخلاقاً؟ قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أَحسِنَكُم أَخلاقاً وَ أَعظَمَكُم حِلماً وَ أَبَرَّكَمُ بِقَرابَتِهِ وَ أَشَدَّكُم إِنصافاً مِنْ نَفسِهِ فِي الغَضَبِ وَ الرِّضا» «1».

2- و نقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً قوله: «ما جُمِعَ شَيٌّ إِلى شَيٍّ أَفضَلَ مِنْ حِلمٍ إِلى عَلمٍ» «2».

3- و ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَشجَعُ النَّاسِ مَنْ غَلَبَ الجَهلَ بِالحِلمِ» «3».

و يشبه هذا المعنى ما ورد أيضاً عن الإمام عليه السلام أنّه قال: «أَقوَى النّاسِ مَنْ قَوى عَلى غَضِبِهِ بِحِلمِهِ» «4».

4- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ أَفضَلَ أَخلاقِ الرَّجالِ الحِلمُ» «5».

5- و في حديث شيّق عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِنَّ المُؤمِنَ لَيُدرِكَ بِالحِلمِ و اللِّينِ دَرَجَةَ العابِدِ المُتَهَجِّدِ» «6».

و هذا تعبير في الحديث الشريف يبيّن بوضوح أنّ الحلم و ضبط النفس يعدّ من

العبادات

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 74، ص 152 و ورد مثلها مع تفاوت يسير في وسائل الشيعة، ج 11، ص 211.

(2). المصدر السابق، ص 212.

(3). غرر الحكم.

(4). المصدر السابق.

(5). المصدر السابق.

(6). مستدرك الوسائل، ج 11، كتاب الجهاد ..

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 363

المهمّة في دائرة القرب الإلهي.

6- و جاء في حديث آخر عميق المعنى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مِنْ أَحَبَّ السَّبِيلِ إِلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جُرعَتانِ جُرعَةَ غَيطٍ تَرُدُها بِحِلمٍ وَ جُرعَةُ مُصِيبَةٍ تَرُدُّها بِصَبرٍ» «1».

7- و سمع الإمام علي عليه السلام يوماً رجلًا يشتم خادمه قنبر و كأنّ قنبر أراد أن يجيبه فقال له الإمام: «مَهلًا يا قَنبَر، دَع شاتِمَكَ، مُهاناً، تَرضي الرَّحمنَ، وَ تُسخِطُ الشَّيطانَ، وَ تُعاقِب عَدوَّكَ،، فَوَ الَّذِي خَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرأَ النَّسَمَةَ ما أَرضى المُؤمِنُ رَبَّهُ بِمِثلِ الحِلمِ، وَ لا أَسخَطَ الشَّيطانَ بِمثلِ الصَّمتِ، وَ لا عُوقِبَ الأَحمَقُ بِمثلِ السُّكُوتِ عَنهُ» «2».

8- و ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ كَظَمَ غَيظاً وَ هُوَ قادِرٌ عَلى إِنفاذِهِ وَ حَلُمَ عَنهُ أَعطاهُ اللَّهُ أَجرَ شَهيدٍ» «3».

9- و ورد في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ أباه علي بن الحسين عليه السلام قال: «إنَّهُ لَيُعجِبُنِي الرَّجُلُ أَنْ يُدرِكُهُ حِلمُهُ عِنَدَ غَضَبِهِ».

10- و نختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام (رغم وجود روايات كثيرة في هذا الباب) ورد في هذا الحديث عن حفص ابن أبي عائشة قال: بعث أبو عبد اللَّه عليه السلام (الصادق) غلاماً له في حاجة فأبطأ، فخرج أبو عبد اللَّه عليه السلام على أثره لمّا أبطأ، فوجده نائماً، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه، فلمّا

تنبّه قال له أبو عبد اللَّه: «يا فلان و اللَّهِ ما ذَلِكَ لَكَ، تَنامُ اللّيلَ وَ النَّهارِ، لَكَ اللّيلُ وَ لَنا مِنكَ النّهارُ» «4».

هذا السلوك الممعن في المحبّة و التواضع و الحلم للإمام عليه السلام يمكنه أن يكون اسوة للأشخاص الذين يعيشون حالة الغضب و الحدّة و أنّهم في مثل هذه الموارد عليهم أن يسدلوا الستار على غضبهم و يسلكوا طريق الحلم و ضبط النفس.

و هنا ينبغي استعراض بعض الامور المهمّة في هذا الباب:

1- إنّ الحلم و ضبط النفس له آثار إيجابية كثيرة في حياة الناس على المستوى الفردي و الاجتماعي، و من ذلك:

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 110، ح 9.

(2). سفينة البحار، مادة الحلم.

(3). جامع الأحاديث، ج 13، ص 479، ح 12.

(4). اصول الكافي، ج 2، ص 112، ح 7.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 364

إنّه يحفظ الإنسان من أخطار الغضب التي قد تدمّر حياته و تجعله يعيش الندم إلى آخر عمره.

و الآخر أنّ الحلم يورث الإنسان العزّة و قوّة الشخصية و الشرف، لأنّ جميع الناس يرون أنّ الحلم و ضبط النفس في مقابل الأشخاص الجهلاء و الحاقدين دليل على عظمة النفس و قوّة الشخصية و رجحان العقل، و لذلك ورد في بعض الروايات عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:

«مَن حَلُمَ سادَ» «1».

مضافاً إلى ذلك أنّ الحلم في مقابل الجهلاء يتسبب في أنّ الناس يهرعون لنصرة الحليم ضدّ الجاهل، و لهذا ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إنَّ أَوّلُ عِوَضِ الحَليمِ مِنْ خِصلَتِهِ أَنَّ النَّاسَ كُلُّهُم أَعوانُهُ عَلى خَصمِهِ» «2».

و مضافاً إلى أنّ الحلم يورث الإنسان العزّة و ماء الوجه في حين أنّ الغضب العجين بالجهل يتسبب في

إراقة ماء الوجه و هتك حرمة الإنسان، كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما عَزَّ اللَّهُ بِجهلٍ قَطُّ وَ لا أَذَلَّ بِحلمٍ قَطُّ» «3»

و الخلاصة أنّ فضيلة الحلم و ضبط النفس وسعة الصدر لها بركات و إيجابيات كثيرة في حياة الإنسان، و أفضل ما قيل في هذا الباب ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «فَأَمّا الحِلمُ فَمِنهُ رُكُوبُ الجَمِيلِ، وَ صُحبَةُ الأَبرارِ، وَ رَفعٌ مِنَ الضِّعَةِ، وَ رَفعٌ مِنَ الخَساسةِ وَ تَشهِّي الخَيرِ، وَ يُقَرِّبُ صاحِبَهُ مِنْ مَعالِي الدَّرَجاتِ، وَ العَفوَ وَ المَهلِ وَ المَعرُوفِ و الصَّمتِ، فَهذِا ما يَتَشَعَّبُ لِلعاقِلِ بِحِلمِهِ» «4».

2- إنّ الحلم و ضبط النفس حاله حال سائر الصفات الأخلاقية للإنسان من حيث الدوافع و الأسباب المتعددة التي تقود الإنسان باتّجاه هذه الفضيلة، و يمكننا استعراض بعض هذه الأسباب و الدوافع:

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 74، ص 208، ح 1.

(2). المصدر السابق.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 112.

(4). تحف العقول، ص 19.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 365

الف) إنّ التسلط على النفس و ضبط القوى و النوازع النفسية يتسبب في أن يصمد الإنسان أمام المصاعب و الأزمات فلا ينهار أمامها، و بالتالي لا يخضع أمام قوّة الغضب و الانفعال، كما ورد عن الإمام علي عليه السلام في تعريف الحلم الإشارة إلى هذا المعنى حيث قال:

«كَظمُ الغيظِ و مِلكُ النَّفسِ» «1».

و نفس هذا المعنى ورد أيضاً عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام «2».

ب) و من الامور التي تمنع الإنسان من الانهيار و الخضوع أمام الغضب و تقوّي في واقعه فضيلة الحلم هو علو الطبع و علو الهمّة و قوّة الشخصية في الإنسان

و التي لا تدعه يواجه الغضب و الحدّة من موقع الانفعال و يسلك سلوك الجهلاء كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

«الحِلمُ وَ الأَناهُ تَوأَمانِ يَنتُجُهُما عُلوُ الهِمَّةِ» «3».

ج) و من الأسباب الاخرى في تقوية هذه الفضيلة الأخلاقية في واقع الإنسان و قلبه هو الإيمان باللَّه تعالى و التوجّه إلى الذات المقدّسة من موقع الذوبان في صفاته و أسمائه الحسنى و منها صفة الحلم الإلهي مقابل العصاة و المجرمين من عباده كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «الحِلمُ سِراجُ اللَّهِ يَستَضي ء بِهِ صاحِبُهُ إِلى جَوارِهِ وَ لا يَكُونُ حَليماً إِلّا المَؤيَّدُ بِأَنوارِ اللَّهِ وَ بِأَنوارِ المَعرِفَةِ وَ التَّوحِيدِ» «4».

د) و من العوامل الاخرى لتفعيل هذه الفضيلة هو مطالعة آثارها الإيجابية و نتائجها الحميدة على حياة الإنسان و كذلك مطالعة الآثار السلبية للغضب و الحدّة بإمكانه الحدّ من قوّة هذه الحالة النفسية و التقليل من أضرارها، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «الحِلمُ نُورُ جُوهَرَهُ العَقلَ» «5».

و قال عليه السلام أيضاً في حديث آخر: «بِوُفُورِ العَقلِ يَتَوَفَّرُ الحِلمُ» «6».

______________________________

(1). تحف العقول، ص 19.

(2). بحار الانوار، ج 75، ص 102.

(3). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 460.

(4). بحار الانوار، ج 68، ص 422، ح 61.

(5). غرر الحكم.

(6). المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 366

و نقرأ أيضاً في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «عَلَيكَ بِالحِلمِ فَإِنَّهُ ثَمَرَةُ العِلمِ» «1».

3- موارد الاستثناء، رغم أنّ الحلم يعدّ من الفضائل الأخلاقية البارزة في حياة الإنسان و سلوكه، و لكن هناك بعض الموارد في حركة التفاعل الاجتماعي لا يكون فيها الحلم فضيلة أخلاقية، و مثل هذه الاستثناءات موجودة في سائر الفضائل الأخلاقية أيضاً، مثلًا في الموارد التي

يتسبب فيها الحلم و ضبط النفس زيادة الجرأة لدى الجهلاء و المتعصبين الذين يستغلون الخُلق السامي لدى الطرف الآخر فيتعاملون معه من موقع العقدة و الخصومة و زيادة العدوان، فهنا يكون الحلم غير مؤثّر في التأثير على الجاهل الجاهل بل ينبغي استعمال طرق اخرى لإسكاته و كبح جماحه و ردعه عن غيّه.

و كذلك في الموارد التي يؤدّي فيها الحلم إلى الإضرار بالمجتمع أو بالمذهب و الدين فهنا من الخطأ استخدام صفة الحلم وسعة الصدر و السكوت.

و كذلك من الموارد الاخرى هو ما إذا كان سلوك طريق الحلم يحسب من علامات الضعف و الذلّة في صاحبه.

______________________________

(1). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 367

15

العفو و الانتقام

تنويه:

إنّ من أكبر الفضائل الأخلاقية التي لا يصل الإنسان إلى مراتب الكمال بدونها هي صفة العفو و الصفح عند القدرة على الردّ العملي على الطرف المقابل و ترك الانتقام منه.

إنّ الكثير من الناس يعيشون حالة الحقد الكامن في قلوبهم و أعماقهم و ينتظرون الفرصة السانحة للانتقام من عدوّهم و الظفر به، فلا يتحرّكون في خط الرد بالمثل و جواب السيئة بالسيئة فقط، بل يردون السيئة الواحدة بأضعافها من السيئات و الأعمال الانتقامية، و الأسوأ من الجميع أنّ هذه الصفة الرذيلة تتجلّى بمظهر الصفة الحسنة التي تبعث على الفخر و الاعتزاز فيقول الإنسان إنني قد ظفرت بعدوّي و أذقته العذاب الشديد و فعلت معه كذا و كذا.

إنّ التاريخ البشري ملي ء بحالات الانتقام و القسوة من قبل السلاطين و الامراء و رؤساء القبائل لأقوامهم أو لأقوام اخرى من أعدائهم.

و العجيب هو أنّ حالات الانتقام هذه تتشابك مع بعضها بصورة سلسلة و حلقات متوالية، فعلى سبيل المثال أنّ إحدى القبائل تقوم بقتل شخص من القبيلة الاخرى،

فتقوم قبيلة المقتول عند توفّر الفرصة بالثأر لنفسها و تقتل خمسين شخصاً من القبيلة الاخرى و هكذا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 368

يستمر النزاع و الصراع و سفك الدماء.

إنّ أشكال النهب و السلب و هتك النواميس و الأعراض و القتل الفجيع في التاريخ البشري معلول لهذه الصفة الخبيثة و الذميمة في أعماق البشر و تمتد إلى ذواتهم الحيوانية و عناصر الشر فيهم.

و بعكس ذلك ما نجده في سيرة الأنبياء و الأولياء هو أنّهم عند ما تسنح لهم الفرصة و يتغلّبون على عدوهم فإنّهم يتحرّكون من موقع العفو و الصفح عن جرائمه السابقة و بذلك يعملون على تبديل أشدّ الأعداء إلى أقرب الأصدقاء.

إنّ مثل هذه الشخصيات الفذّة في التاريخ البشري لا يعيشون حالة الرغبة في الثأر لأنفسهم و الانتقام من عدوّهم و غسل الدم بالدم (إلّا في الموارد الاستثنائية) و الردّ بالسيئة بمثلها، بل على العكس من ذلك كانوا يتحرّكون ما أمكنهم على مستوى جواب السيئة بالحسنة، لأنّ هدفهم تربية النفوس و تهذيبها و السير بها في خط الصلاح و الإيمان و الهداية لا في خط الانتقام، و لذلك كانوا يهدفون إلى إطفاء الفتنة لا إشعال نار جديدة.

و لكن من اليقين أنّ مثل هذا السلوك الإنساني لا يتسنى من أيّ شخص كان، بل يختص به الأشخاص الذين يعيشون الإيمان و التقوى و التسلّط على النفس في أعلى مستوياته، إنّه عمل الأشخاص الذين يعيشون الفضيلة و الأخلاق السامية، و إلّا فانّ من يعيش التوحش و القساوة في قلبه لا يعرف سوى الانتقام و لا يفتخر إلّا بالثأر لنفسه.

و أمّا بالنسبة إلى الآيات القرآنية و الروايات الإسلامية فنجدها مليئة في بيان فضيلة العفو و الصفح و ذم روح الانتقام

و الثأر، و الشاهد على ذلك ما نقرأه في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام في هذا الباب، و نموذج لذلك ما ورد في قصّة فتح مكّة و العفو العام الذي أصدره النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن أعدائه الشرسين و الحاقدين.

و مع هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دروساً في العفو و الصفح أو ما ورد فيه من ذم غريزة الانتقام و الثأر (و الجدير بالذكر أنّ مفردة (الانتقام) لم ترد في القرآن الكريم بالمعنى المذكور آنفاً، بل بمعنى العقاب الإلهي، و لذلك فكل مورد وردت فيه هذه

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 369

الكلمة فإنّه يراد بها ما ينسب إلى اللَّه تعالى من العقاب على المجرمين و لا يرتبط ببحثنا الحاضر):

1- «وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» «1».

2- «وَ لَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَ الْمَسَاكِينَ وَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2».

3- «خُذْ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» «3».

4- «وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» «4».

5- «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ» «5».

6- «وَ لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ* وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «6».

7- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ

بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ» «7».

8- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَ أَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «8».

9- «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً» «9».

10- «وَ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» «10».

______________________________

(1). سورة الشورى، الآية 40.

(2). سورة النور، الآية 22.

(3). سورة الاعراف، الآية 199.

(4). سورة النحل، الآية 126.

(5). سورة المؤمنون، الآية 96.

(6). سورة فصلت، الآية 34 و 35.

(7). سورة البقرة، الآية 178.

(8). سورة التغابن، الآية 14.

(9). سورة النساء، الآية 149.

(10). سورة المزّمل، الآية 10.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 370

تفسير و استنتاج:

تتعرض «الآية الاولى» من الآيات محل البحث إلى الحديث عن مسألة المقابلة بالمثل و جزاء السيئة بالسيئة و أنّ ذلك من حق المؤمنين (لكي لا يرى المعتدي و المجرم نفسه في أمن من العقاب) ثمّ أشارت الآية إلى مسألة العفو و الصفح و ترك الانتقام و تقول: «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ».

و نظراً إلى أنّ سورة الشورى من السور التي نزلت بأجمعها في مكّة المكرّمة، و نعلم أنّ المسلمين في ذلك الزمان كانوا في دائرة العدوان الواسع الموجّه إليهم من قبل الأعداء المشركين، و مع ذلك فالقرآن الكريم في الآية 39 من هذه السورة يأمر المسلمين أن لا يستسلموا في مقابل الظلم و العدوان، و عند ما يواجهون حالة الظلم هذه فعليهم أن يستمدّوا العون من إخوانهم و يتكاتفوا فيما بينهم لردع

هذا العدوان، ثم يشير في الآية 40 إلى هذه الحقيقة، و هي أنّه لا ينبغي أن يتحرّكوا من موقع الانتقام و الثأر بسبب ما يرونه من العدوان على بعض أصدقائهم و رفاقهم و بالتالي يتجاوزون الحدّ بالردّ بالمثل فيكونون في صف الظالمين أيضاً، و عليهم كذلك أن يتخذوا العفو و الصفح سلوكاً إنسانياً لهم فيما لو لم يترتب عليه آثار سيئة.

أمّا المراد من كلمة (و أصلح) في هذه الآية و التي وردت بعد كلمة العفو، فالمفسّرون ذهبوا إلى تفسيرات متعددة، فبعض ذهب إلى أنّ المراد من الإصلاح هو الإصلاح بين الإنسان و ربّه، بينما ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد به الإصلاح بين المظلوم و الظالم حتّى لا تتكرّر هذه القضيّة بينهما مرّة اخرى، و ذهب ثالث إلى أنّ المراد به هو إصلاح النفس و تطهيرها من أدران الانتقام و شوائب الغضب و التوتر الذي تفرضه حالات الصراع مع الطرف الآخر، و ذهب بعض إلى أنّ معناه ترك القصاص.

و لا يبعد أن يراد بهذه الكلمة جميع هذه المعاني التي ذكرت في تفسيرها، و على أيّة حال فإنّ الآية تبيّن بوضوح هذه الحقيقة، و هي أنّ العفو و الإصلاح الذي يأتي بعده بإمكانه أن يقلع جذور الحقد من قلوب الناس، و عبارة (فأجرُهُ عَلى اللَّهِ) بشكل مطلق و بدون تعيّين

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 371

حدود لهذا الأجر حتّى الجنّة أيضاً يدلّ على أنّ هذا الأجر و الثواب إلى درجة من العظمة و السعة أنّه لا يعلم مقداره إلّا اللَّه تعالى.

أمّا «الآية الثانية» فناظرة إلى حادثة الإفك التي وقعت في صدر الإسلام، يعني ما قام به بعض المنافقين من إتّهام إحدى زوجات النبي الأكرم صلى الله

عليه و آله بما ينافي العفة و لغرض الخدشة في شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و موقعيّة الإسلام، فتشير الآية الشريفة إلى أنّ مسألة العفو و الصفح مطلوبة في كل الأحوال حتّى تجاه المذنبين و الملوّثين، لأنّ هذه الآية نزلت عند ما أقسم بعض الصحابة بعد قضية الإفك أنّهم لن يساعدوا أي شخص من الأشخاص الذين اشتركوا في هذه الواقعة، فمنعتهم عن استخدام أدوات العقاب و أمرتهم بالعفو و الصفح تجاه هؤلاء الخاطئين و قالت: «وَ لَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَ الْمَسَاكِينَ وَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

ثمّ تضيف الآية: إنّ على المؤمنين أن يسلكوا طريق العفو و الصفح و تقول: «وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»، في حين أنّكم تأملون من اللَّه الرحمة و المغفرة، فكذلك عليكم أن تسلكوا هذا الطريق تجاه الآخرين: «وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فيغفر لكم أيضاً و يرحمكم.

و الملاحظة الملفتة للنظر هنا أنّ قضية الإفك كانت بمثابة مؤامرة خطيرة استهدفت الإسلام و شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث تبنّى هذه المؤامرة جماعة من المنافقين، و لكنّ بعض المسلمين الغافلين إنخدعوا بهذه الحيلة و تورّطوا في هذا الإثم، و رغم ذلك فالقرآن الكريم يوصي المؤمنين بالعفو و الصفح عن هؤلاء الغافلين الذين تورّطوا بهذه المؤامرة من موقع الجهل لا من موقع الخبث و الحقد و النفاق، و عليه فبالنسبة إلى المسائل الشخصية و الامور الخاصة بالأفراد فالعفو يكون بطريق أولى.

أمّا الفرق بين (العفو) و (الصفح) فيقول الراغب في مفرداته، إنّ العفو بمعنى المغفرة و الصفح ترك اللّوم و التوبيخ و الذي هو مرحلة أعلى

من العفو، لأنّه يمكن أن يعفو الإنسان

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 372

عن الطرف المقابل إلّا أنّه لا يترك لومه و توبيخه أو معاتبته، و لكن بما أنّ الصفح في اللغة يعني الإعراض بالوجه عن الإنسان المذنب فيمكن أن يكون إشارة إلى لزوم تناسي ذنب المذنب و وضعه في زاوية الإهمال و الغفلة و لا يكتفي بترك اللّوم فقط، أي أنّ لا يترتّب أي أثر سلبي على العلاقة بين الطرفين.

و هنا ملاحظة مهمّة اخرى و هي أنّ هذه الطائفة من المؤمنين أقسموا على أن لا يمدّوا يد العون لجميع المتورّطين في قضيّة الافك، أي أن قسمكم بالنسبة إلى مثل هذه الامور لا أثر له على مستوى العمل و الممارسة لأنّه لا يقع في دائرة التكليف بالنسبة إلى الامور الخيّرة.

«الآية الثالثة» تأمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأوامر أخلاقية ثلاثة و يتّضح منها تكليف الآخرين أيضاً و تقول: «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ».

هذه التعليمات الثلاثة التي وردت في الآية الشريفة بمثابة أوامر صادرة من اللَّه تعالى إلى نبيّه الكريم باعتباره قائداً للُامّة و اسوة حسنة لسائر المسلمين و بذلك توضّح في مضمونها أهميّة العفو و الصفح في دائرة المسؤولية الملقاة على عاتق القادة الإلهيين، فالأمر الأوّل من هذه الأوامر الإلهية هو الأمر بالعفو و الصفح، و الأمر الثاني إشارة إلى أنّ على القائد أن لا يحمّل الناس ما فوق طاقتهم و قدرتهم و أن لا يطلب منهم سوى المعروف الممكن، و في الأمر الثالث نجد التوصية بأهمال الكلمات اللامسؤولة الصادرة عن الجاهلين و المخالفين و عدم ترتيب الأثر على مزاحماتهم و ما يرتكبونه تجاه أتباع الحق من ممارسات سلبية و

كلمات شانئة.

إنّ القادة الحقيقيين و السالكين طريق الحق يواجهون في مسيرتهم الإلهية الكثير من الأفراد المتعصّبين و الجاهلين و المعاندين الذين لا يجدون فرصة في الوقيعة بأصحاب الحق و إيجاد الأذى و الضرر بهم إلّا و استغلّوها، فالآية أعلاه و كذلك الكثير من الآيات القرآنية الاخرى تؤكّد على المؤمنين السالكين في خط اللَّه و التقوى أن يجنّبوا أنفسهم الصراع مع هؤلاء و أنّ الأفضل لهم التعامل مع مثل هذه المسائل من موقع اللآمبالاة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 373

و الإهمال و الإعراض، و التجربة العملية تشير إلى أنّ أفضل طريق لإيقاظ هؤلاء من غفلتهم و إطفاء نار غضبهم و صدهم و تعصّبهم هو هذه الطريقة في التعامل معهم من موقع قوّة الشخصية و كبر النفس.

و قد ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه عند ما نزلت هذه الآية الشريفة سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جبرائيل عن ذلك فقال: لا أدري حتّى أسأل العالم، ثمّ أتاه فقال: «يا مُحِمَّد إِنّ اللَّهَ يَأَمُرُكَ أَنْ تَعفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَ تُعطِي مَنْ حَرَمَكَ وَ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ» «1».

و ينطلق الحديث في «الآية الرابعة» ليخاطب جميع المسلمين و يأمرهم بأنّهم إذا أرادوا التعامل بالمثل مع الأعتداء الموجّه من الآخرين و يعاقبوا عليه فعليهم أن لا يتجاوزوا المقدار المشروع و هو مقدار المثل فقط لا أكثر، و لكنّهم إذا التزموا جانب البر و العفو و الصفح فإنّ ذلك أفضل من الحل السابق و تقول الآية: «وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ».

و قد ورد في الروايات الشريفة أنّ هذه الآية نزلت في معركة احد عند ما

نظر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى جسد عمّه حمزة، و قد استشهد في ميدان المعركة و مثّل به الأعداء القساة و شقّوا بطنه و أخرجوا كبده و قطعوا اذنه و أنفه، فلّما رأى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذلك تأثّر كثيراً و بعد أن حمد اللَّه و أثنى عليه شكى له حاله و قال: «أَصبِرُ أَصبِرُ» «2».

و الملفت للنظر أنّ الآية التي تليها تقول: «وَ اصْبِرْ وَ مَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» و هي إشارة إلى أنّ على الإنسان الذي يعيش هذه اللّحظات الأليمة و تستولي على وجوده سحابة من الحزن و الهم بسبب ما يواجهه من عدوان القساة و جرائمهم فإنّ عليه أن يلتحف بالصبر و الصفح رغم أنّها حالة صعبة و عسيرة لا يستطيعها الإنسان إلّا بمدد من اللَّه تعالى و معونته.

و بالطبع فإنّ السماح بالردّ بالمثل الوارد في أوّل الآية الشريفة يعود إلى أصل قتل العمد،

______________________________

(1). مجمع البيان، 2، ص 512.

(2). تفسير العياشي؛ و الدر المنثور، في ذيل الآية المبحوثة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 374

و لكن بالنسبة إلى المثلة و التي هي عمل غير إنساني و صادر من روحيّة ملّوثة فإنّ المقابلة بالمثل لا تجوز في هذه الحالة، و هذا المعنى ورد بصراحة في الروايات الإسلامية التي تؤكّد عدم جواز المثلة حتّى بالكلب العقور، فحتّى لو استفيد من الآية الشريفة جواز المثلة «1» فإنّه يكون المراد منها بمعونة الروايات الصريحة هو أصل القتل فقط لا المثلة، و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مسألة الانتقام بالأكثر من الحد الشرعي و التهديد بالمثلة لم يكن صادراً من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، بل من المسلمين، و عمومية الخطاب

في الآية الشريفة تؤيّد هذا المعنى و أنّ هذا التصميم صدر من المسلمين لا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

و تأتي «الآية الخامسة» لتتحدّث إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و تأمره بما فوق العفو و الصفح و تقول: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ».

أمّا «الآية السادسة» فتؤكّد هذا المعنى أيضاً بعبارة اخرى تقول: «وَ لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ».

و نقرأ في الآية 22 من سورة الرعد عند ما تستعرض صفات اولوا الألباب و العقول أنّ إحدى صفاتهم هي: «وَ يَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» و هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء يتحرّكون على مستوى جبران أخطائهم و ذنوبهم بالحسنات و أعمال الخير، و كذلك يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء يجيبون الإساءة الموجّه من الغير بالإحسان من جهتهم و لا يردّون بالمثل على الطرف الآخر لكي يوقضوا عناصر الخير في وجدان الطرف الآخر و يجعلونه يعيش الندم على ما صدر منه تجاههم.

و يحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أن يكون كلا المعنيين مراداً لها «2».

و يستفاد من هذه الآيات الثلاثة جيداً أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و كذلك المؤمنين مأمورون

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 47.

(2). راجع تفسير الميزان ج 16 في تفسير ذيل الآية.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 375

بتجاوز حالة العفو و الصفح و الصعود إلى مرتبة أرقى منها ورد السيئة بالحسنة و هو العمل الذي لا يتيسّر من أي شخص كان، و لهذا فإنّ الآية التي بعدها تقول: «وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا

إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».

و في الحقيقة فإنّ مقابلة السيئة بالحسنة عمل ثقيل جدّاً لا يستطيع النهوض به إلّا من اوتي القدرة على النهوض بالأعمال الخيّرة المهمّة، و الذين يعيشون الإيمان و التقوى و القيم الإنسانية بالمستوى الأعلى.

و الملفت للنظر أنّ سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام طافحة بمثل هذه النماذج من السلوكيات الأخلاقية و الإنسانية حتّى أنّه أحياناً يؤدّي سلوكهم الإنساني هذا إلى انقلاب الطرف الآخر من موقع الشر و العداوة إلى موقع الخير و المحبّة، و التجارب العملية الكثيرة تشير إلى التأثير الكبير لهذه الأعمال الأخلاقية في دائرة السلوك الإنساني و العلاقات الاجتماعية.

و تتعرض «الآية السابعة» إلى الحديث عن مسألة القصاص و التي تعدّ أحد الأحكام الاجتماعية المهمّة للإسلام و التي تضمن حقوق الناس و تحفظ لهم أنفسهم و دمائهم من أشكال العدوان بحيث أنّ القرآن الكريم يعبّر عن القصاص بكلمة «الحياة» و لكنّه في نفس الوقت يفضّل عليه العفو و الصفح و تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى».

و بعد أن تذكر الآية موارد القصاص بالمثل تقول: «فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ».

فلو أنّ القصاص تبدّل إلى الدية فعلى الطرف الآخر أن يتّخذ سبيل المعروف في عملية أداء الدية إلى ولي المقتول، و هذا المعنى بمثابة التخفيف و الرحمة من اللَّه تعالى للناس.

و في ختام الآية صرح القرآن الكريم أنّ بعد العفو و الصفح أو تبديل القصاص إلى الدية لا حقّ في الرجوع في ذلك و ممارسة سلوك العدوان و القساوة و قتل القاتل عند القدرة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 376

و

الاستطاعة، و تحذّر المسلمين من هذا الموقف الخطير و تقول: «فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

لأنّ بعد العفو عن القاتل أو تبديل القصاص بالدية فإنّ ذلك يعني إغلاق الطريق تماماً عن العودة و بذلك يسقط حق القصاص تماماً، و عليه يكون الانتقام من القاتل بمثابة القتل العمد الذي يترتب عليه العقوبة في الشريعة الإسلامية.

و هذه الآية تضع القاتل بين الخوف و الرجاء، فمن جهة تفتح عليه باب القصاص حتى لا يتجرأ أحد على تلويث يده بدماء الأبرياء خوفاً من القصاص، و من جهة اخرى فإنّها قد فتحت باب العفو ثم حذّرت من الانتقام بعده و لتقف حائلًا في طريق الخشونة و العدوان اللّامسؤول من بعض الجماعات المتطرفة و المنفعلة، و هذا هو منتهى التدبير و الحكمة في هذه المسألة الاجتماعية المهمّة.

و التعبير بكلمة (أخيه) في الآية المذكورة يشير إلى أنّه حتى لو وقعت حادثة قتل بين المسلمين فإنّ ذلك لا يعني قطع رابطة الاخوّة بينهم، و في صورة عدم وجود ضرورة للقصاص فلا ينبغي إتّخاذه سبيلًا لحلّ الأزمة، و هذا التعبير يدلّ على أنّ الإسلام يرجّح العفو على القصاص و يتحرّك من موقع تفعيل الشعور بالمحبّة و الاخوّة لدى الأولياء بدلًا من روح الثأر و الانتقام.

و قد ورد هذا المضمون في رواية عن ابن عباس أيضاً «1».

و كذلك عبارة: «ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ» تدلّ مرّة اخرى على المفهوم القرآني في ترجيح العفو و الصفح على القصاص أو تبديله بالدية.

و في «الآية الثامنة» نقرأ خطاباً لجميع المؤمنين في دائرة الاختلافات و النزاعات العائلية حيث تقول الآية محذّرة للمؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَ أَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ».

______________________________

(1). تفسير روح البيان،

ج 1، ص 285.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 377

و هذه العداوة يمكن أن تتجسد في السلوك العملي للشخص بطرق مختلفة، فمثلًا تتجلّى العداوة في البعد المعنوي كأن تمنع الزوجة أولادها المسلمين من الهجرة إلى المدينة في عصر البعثة، أو استعمال أساليب الضغط النفسي لعدم الوصية ببعض التركة و الميراث إلى أعمال الخير و ما ينفع الإنسان في آخرته أو تعرض الإنسان لبعض الأذى و تحميل الظروف الصعبة من قبل الزوجة المشاكسة أو الأبناء المنحرفين و لكن الآية الشريفة تصرّح في ذيلها بأنّ العفو و الصفح أفضل و تقول: «وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

و لا شك أنّه لو لا وجود العفو و الصفح في أجواء العائلة من قبل الأب و الولي على امور الأهل و الأطفال أو كان كل فرد من أفراد الاسرة يتحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الانتقام و أخذ الحق و المقابلة بالمثل، فإنّ هذه الأجواء الاسريّة ستتحوّل إلى جهنّم و محرقة يعيش فيها الأفراد القلق و الاضطراب الدائم و عدم الأمن و الراحة و بالتالي يتسبب ذلك في إنهدام العائلة و تلاشيها.

و الملفت للنظر أنّ اللَّه تعالى يذكر في هذه الآية الشريفة بصراحة أنّ العفو في المرتبة الاولى ثم الصفح بعده، و يذكر في ذيل الآية بشكل ضمني الأمر مرّة اخرى بالمغفرة لأنّه يقول: «أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» أو إذا تحركتم أنتم من موقع العفو و الصفح و المغفرة فستكونون مشمولين لعفو اللَّه تعالى و مغفرته أيضاً.

أمّا الفرق بين العفو و الصفح و الغفران «1»، فالظاهر أنّ العفو هو المرتبة الاولى في عملية التعامل بالحسن في مقابل العمل السي ء و يعني ترك

الانتقام و ردّ الفعل المماثل، و أمّا الصفح فيعني الإعراض عن السيئة و عدم الاعتناء بها و كأنها لم تكن، و أمّا الغفران فيعني التغطية على آثار الخطيئة و الذنب بحيث ينساها الناس، و هذه آخر مرحلة من مراحل مقابلة السيئة و التعامل معها بالطريقة الإيجابية، و هي أفضل مقامات الإنسان المؤمن في مقابل خطأ الآخرين و سيرتهم.

______________________________

(1). الملفت للنظر أنّ كلمة (غفران) كما أنّها تطلق على اللَّه تعالى، كذلك تطلق على الإنسان في آيات عديدة مثل: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» (الجاثية، الآية 14)، و «وَ إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» الشورى، الآية 37.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 378

و في «الآية التاسعة» نجد أنّ العفو و الصفح ذكرا إلى جانب أعمال الخير الاخرى و أنّ اللَّه تعالى وعد بالعفو أيضاً في مقابل ذلك العمل فتقول: «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً».

و عليه فلا ينبغي أن يتصوّر الإنسان أنّ الانتقام عند القدرة سيجلب له الفخر و العزّة، فالفخر هو أن يتحرّك الإنسان في هذه الموارد من موقع ضبط النفس و تحريك عناصر الخير في أعماقه و المقابلة بالعفو و الصفح فيما إذا كان العفو في موقعه و لم يثر في نفس الطرف الآخر عناصر الشر أو سو الظن.

و تتعرض «الآية العاشرة» و الأخيرة من الآيات محل البحث إلى موقف النبي من المشركين و توصيته بأن يتخذ الصبر جلباباً في مقابل أذى المشركين و عدوان المعاندين و المخالفين و تقول: «وَ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا».

و معلوم أنّ أحد الوسائل في عملية التصدّي للرسالة و الدعوة الإلهية و ما كان يمارسه

المشركون و الأعداء تجاه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو أنواع الهتك و الإهانة و الشتم و الأذى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله بحيث كان يشتد على قلب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذلك أحياناً، و لكن مع ذلك فإنّ اللَّه تعالى يوصيه بالتزام الصبر و المداراة و غض الطرف عن ذلك الواقع المؤلم و أن يهجرهم هجراً جميلًا.

و المراد ب (الهجر الجميل) هو الهجران المقترن بالمحبّة و حسن الخلق و التأسف على حال هؤلاء الناس المشاكسين و دعوتهم إلى الحق و الخير، و هذه هي إحدى الطرق التربوية في مقابل الأفراد الذين يعيشون حالة الجهل و العناد في مقابل الحق بحيث إذا تعامل معهم الإنسان بالمثل فإنّ ذلك من شأنه أن يزيدهم طغياناً و عناداً، و لذا أمرت الآية الشريفة أن يتّخذ الإنسان موقف اللامبالاة أمام أذاهم و كلماتهم اللامسؤولة، و لكن البعض تصوّر أنّ الأمر في هذه الآية كان قبل نزول آية الجهاد التي نسخت هذه الآية و استبدلت العفو بالجهاد، و في حين أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّ الجهاد له محل معيّن، و الهجر الجميل له محل آخر.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 379

و على أيّة حال فإنّ هذه الآية توصي بإتّخاذ سلوك العفو و الصفح و خاصة في مقابل الأشخاص الذين ينطلق لسانهم دائماً بالكلمات الوقحة و اللّامسؤولة و لا يمتنعون عن أي كلام وقح و ذميم، لأنّ الهجر الجميل لا يتحقّق بدون عملية العفو و الصفح.

و كما يقول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّ هذه الآية بمثابة الخطاب لجميع الدعاة و المبلّغين في كل زمان و مكان أن يلتزموا جانب ضبط النفس في مقابل أذى

المخالفين و الأعداء و لا يستسلموا أمام حالات الانفعال لموقف الجهلاء و كلماتهم اللّامسؤولة و يقابلوهم بحسن الأخلاق و المداراة و الإغماض «1».

و هكذا توضّح الآيات أعلاه و التي تخاطب أحياناً جميع المسلمين و أحياناً اخرى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بعنوان قائد الامّة الإسلامية، المقام السامي للعفو و الصفح من بين الفضائل الأخلاقية و المثل الإنسانية العليا في مقابل الحوادث الصعبة و تحدّيات الواقع الاجتماعي غير الملائم، و تجعل من هذه الفضيلة الأخلاقية أساساً للتعامل الإسلامي بين أفراد المجتمع و حتى في مقابل الأعداء و المخالفين فيما لو لم يترتب على العفو و الصفح أثراً سلبياً.

العفو و الانتقام في الروايات الإسلامية:

أمّا في دائرة الروايات الإسلامية فنجد لمسألة العفو و كونه من الفضائل الأخلاقية السامية و كذلك ذم الانتقام إنعكاساً كبيراً، فقد وردت عبارات مثيرة في هذا الباب و من ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِذا كانَ يَومَ القَيامَةِ نادى مُنادٍ مَنْ كانَ أَجرُهُ عَلَى اللَّهِ فَليَدخُلِ الجَنَّةَ فَيُقالُ مَنْ ذا الَّذِي أَجرُهِ عَلَى اللَّهِ فَيُقالُ

______________________________

(1). مجمع البيان، ج 10، ص 379.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 380

العافُونَ عَنِ النَّاسِ فَيَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ» «1».

2- و نقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال في أحد خطبه: «ألا اخبِرُكُم بِخَيرِ خَلائِقِ الدُّنيا وَ الآخِرَةِ العَفوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ وَ الإِحسانُ إِلى مَنْ أَساءَ إِلَيكَ، وَ إِعطَاءُ مَنْ حَرَمَكَ» «2».

فنرى في هذا الحديث الشريف المرتبة السامية للعفو و الصفح، و هو جواب السيئة بالحسنة و أنّ هذا المقام هو مقام الأنبياء و الأولياء و الصلحاء من الناس.

3-

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: «العَفوُ تاجُ المَكارِمِ» «3».

و نعلم أنّ التاج هو علامة العظمة و القدرة و العزّة و كذلك يستخدم كزينة و يوضع على أشرف موضع من بدن الإنسان و هو الرأس، و هذا التعبير الوارد في الحديث الشريف يشير إلى أنّ العفو و الصفح له مقام ممتاز من بين الفضائل الأخلاقية الاخرى.

4- و ورد في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «شَيئانِ لا يُوزَنُ ثَوابُهُما العَفوُ وَ العَدلُ» «4».

إنّ جعل العفو إلى جانب العدل في الحديث الشريف يوضّح من جهة أهميّة العفو في عملية التفاعل الاجتماعي و المرتبة المعنويّة العالية له، و من جهة اخرى يدلّ على أنّه قرين العدل، لأنّ العدل مضافاً إلى أنّه سلوك الفرد في خط الحق فإنّه يتسبب في تقوية مفاصل النظام في المجتمع، و لكن العفو بما هو فضيلة أخلاقية يتسبب في رفع الحقد و الكراهية و استبدالهما بالعواطف الإنسانية و المحبّة في العلاقات الاجتماعية، و اقتران هذين العنصرين في الدائرة الاجتماعية يرفع كل أشكال الظلم و التعدّي على حقوق الآخرين.

5- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام في وصفه لأشقى الناس: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ لإ

______________________________

(1) المصدر السابق، في تفسير ذيل الآية الشريفة 40 من سورة الشورى.

(2) اصول الكافي، ج 2، ص 107.

(3) غرر الحكم.

(4) المصدر السابق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 381

يَعفُ عَنِ الزَّلَّةِ وَ لا يَستُرُ العَورَةَ» «1».

6- و نقرأ في حديث آخر أنّه جاء شخص من الأشقياء إلى المأمون و كان المأمون قد عزم على قتله، و كان الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حاضراً في ذلك المجلس فقال المأمون: «ما تَقُولُ يا أَبا الحَسَنِ، فَقَالَ: أَقُولُ:

إِنَّ اللَّهَ لا يَزيدُكَ بِحُسنُ العَفوِ إلّا عِزَّاً فَعفى عَنهُ» «2».

و هكذا نجد أنّ المأمون قد عفى عن هذا الشخص الذي تجرّأ على ارتكاب ما هو ممنوع (و باحتمال قوى أنّه ارتكب جرماً سياسياً).

7- و جاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «قِلَّةُ العَفوِ أَقبَحُ العُيُوبِ وَ التَّسَرُعُ إِلى الإنتِقامِ أَعظَمُ الذُّنُوبِ» «3»

8- و جاء في نهج البلاغة في الكلمات القصار عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «إذا قَدَرتَ عَلَى عَدُوكَ فَاجعَلِ العَفوَ عَنهُ شُكراً لِلقُدرَةِ عَلَيهِ» «4».

و نفس هذا المعنى ورد بصورة اخرى و من ذلك قوله: «العَفوُ زَكاةُ الظّفَرِ» «5».

9- و ورد في حديث الإمام أبو الحسن الرضا عليه السلام (أو الإمام الهادي عليه السلام) أنّه قال: «ما التَقَتَ فِئَتانِ قَطُّ إلّا نَصَرَ اللَّهُ أَعظَمُهُما عَفواً» «6»

10- و نختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «دَعِ الإِنتِقامَ فَإِنَّهُ مِنْ أَسوءِ أَفعالِ المُقتَدِرِ» «7».

و يستفاد من مجموع هذه الأحاديث الشريفة الأهميّة الكبرى التي يوليها الإسلام للعفو

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). بحار الانوار، ج 49، ص 172، ج 10.

(3). غرر الحكم.

(4). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 11.

(5). المصدر السابق.

(6). بحار الانوار، ج 68، ص 424، ح 65.

(7). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 382

و الصفح و كذلك يتّضح قبح الحقد و الانتقام و الثأر، و الأحاديث الشريفة في هذا الباب كثيرة لا يمكننا استعراضها في هذا المختصر.

أقسام العفو:

إنّ فضيلة العفو و الصفح و ترك الانتقام و الثأر تعتبر أصلًا من الاصول الشرعية و العقلية الواردة في الكتاب و السنة، و لكنّه لا يعني عدم وجود الاستثناء في بعض الموارد، بل هناك موارد يكون العفو و الصفح فيها سبباً

لجرّأة المجرمين و المنحرفين، و لا شك أنّه لا أحد يرى في العفو في مثل هذه الموارد فضيلة أخلاقية، بل إنّ حفظ نظام المجتمع و النهي عن المنكر و التصدّي لمنع وقوع الجريمة تقتضي عدم التساهل مع المجرم، و ترك العفو في مثل هذه الموارد، و العمل بمقتضى العدل و ما يفرضه من العقاب على المجرم.

و لذلك ورد في القرآن الكريم بالنسبة إلى المقابلة بالمثل في الآية 194 من سورة البقرة إشارة إلى هذا المعنى حيث تقول: «فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ».

و طبعاً هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية، و هو أنّ هذه الآية في مقام جواز القصاص العادل فقط و لا تدلّ على الوجوب أو الاستحباب (و في الاصطلاح أنّ الأمر هنا هو في مقام توهّم الخطر و المنع).

و على أية حال فإنّ العفو و العقوبة لكل واحدة منهما محلّاً خاصاً لا ينبغي استخدام أحدهما مكان الآخر، فالعفو إنّما يكون فضيلة فيما لو كان الإنسان قادراً على الإنتقام و المقابلة بالمثل و أنّه لو سلك طريق العفو لم يكن ذلك من موقع الضعف و التخاذل و لا يرى الطرف الآخر أنّ هذا الموقف الإنساني نقطة ضعف في هذا الشخص، فمثل هذه الحالة للعفو تكون مفيدة و بنّاءة للطرفين، فإنّها بالنسبة إلى الطرف المظلوم و الذي مكنته الظروف من الظالم يسبب في صفاء قلبه و ضبط جماح نفسه و سيطرته على نوازعه و أهوائه النفسانية، و كذلك يعتبر مفيداً للظالم المغلوب حيث يدفعه إلى إصلاح نفسه و تهذيبها و عدم تكرار ذلك العمل العدواني.

و قد نجد في الأحاديث الإسلامية أيضاً إشارة إلى هذا الاستثناء، و من ذلك ما ورد في

الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «العَفوُ يُفسِدُ مِنَ اللَّئِيمِ بِقَدَرِ إِصلاحِهِ مِنَ الكَرِيمِ» «1».

______________________________

(1). كنز العمال، ج 2، ص 182؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 20، ص 270، ح 124.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 383

و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: «العَفوُ عَنِ المُقِرِّ لا عَنِ المُصِرِّ عَفو» «1».

و أيضاً ورد في الحديث الشريف عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً قوله: «جاز بِالحَسَنَةِ وَ تَجاوَزَ عَنِ السَّيئَةِ ما لَم يَكُن ثَلماً فِي الدِّينِ أَو وَهناً فِي سُلطانِ الإسلامِ» «2».

ففي مثل هذه الموارد يجب التحرّك على مستوى إلحاق الجزاء العادل بالمسي ء.

و جاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين عليه السلام في تأييد هذا المعنى حيث قال: «حَقٌ مَنْ أَساءَكَ أَنْ تَعفُوَ عَنهُ، وَ إِنْ عَلِمتَ أَنَّ العَفوَ عَنهُ يضِرُّ إِنتَصَرتَ قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وَ تَعالَى وَ لَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلِمهِ فَاولَئِكَ ما عَلَيهِم مِنْ سَبِيلٍ» «3».

و لكن لا ينبغي أن يكون وجود هذا الاستثناء سبباً لسوء التصرّف في بعض الموارد و أن يجعلها بعض الناس ذريعة للإنتقام في مورد العفو بحجّة أنّ العفو هنا يتسبب في زيادة الجرأة لدى المذنب و المجرم، بل ينبغي النظر بأخلاص و بعيداً عن حالات التعصّب إلى أصل العفو و الصفح و موارد الاستثناء بدّقة كبيرة و العمل طبق هذه الموارد و الاستثناءات.

و الجدير بالذكر أنّ العفو في دائرة إجراء الحدود و التعزيرات الشرعية غير جائز إلّا في بعض الموارد المنصوصة في الروايات الإسلامية، لأنّ إجراء الحد و التعزير يعدّ من الواجبات الشرعية في مواردها.

الآثار الإيجابية و الثمار الطيبة للعفو و الصفح:

رأينا أنّ العفو و الصفح باعتبارهما من الفضائل الأخلاقية التي وردت كثيراً في الآيات و الروايات الشريفة

تجتمع فيها آثار إيجابية و معطيات حميدة كثيرة في حركة الحياة الفردية و الاجتماعية حيث يمكن بيان خلاصتها:

1- إنّ سلوك طريق العفو و الصفح يمكنه أن يبدّل العدو الشرس أحياناً الى صديق حميم

______________________________

(1). المصدر السابق، ح 783، و المصدر نفسه، ص 330، ح 783.

(2). غرر الحكم.

(3). ميزان الحمة، ج 3، ص 2015، ح 13225.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 384

و خاصة فيما لو كان متزامناً بالإحسان إلى الطرف المقابل، أي بالإجابة بالحسنة مقابل السيئة كما وردت الإشارة إلى ذلك في الآية 34 من سورة فصلت.

2- إنّ العفو و الصفح يتسببان في دوام الحكومات و استمرار القدرة السياسية بين ذلك الحاكم الذي يمارس العفو مقابل أعدائه حيث يقلل من حالة العداء و الخصومة لدى مخالفيه و يزيد من جماعة الأصدقاء و المحبّين، و نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «عَفوُ المُلُوكِ بَقاءُ المُلكِ» «1».

3- إنّ العمل بمقتضى العفو و الصفح يتسبب في زيادة عزّة الشخص و تقوية مكانته و شخصيته في المجتمع، لأنّ ذلك علامة على قوة الشخصية و الشرف وسعة الصدر، في حين أنّ ممارسة الانتقام و الثأر يدلّ على ضيق الافق و عدم التسلّط على النفس و انفلات قوى الشر و تسلطها على الإنسان، و قد جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«عَلَيكُم بِالعَفوِ فَإِنَّ العَفوَ لا يَزيدُ إِلّا عزاً» «2».

4- إنّ العفو يقطع تسلسل الحوادث اللّاأخلاقية في واقع الناس من الحقد و البغضاء و كذلك السلوكيات الذميمة و القساوة و الجريمة، و في الواقع فإنّ العفو بمثابة المحطّة الأخيرة التي تقف عندها كل عناصر الشرّ هذه فلا يتجاوزها، لأنّ

الانتقام و الثأر يتسبب من جهة إلى تسعير نار الحقد في القلوب و يدعوها إلى التعامل بقساوة أشد و يفعّل فيها الكراهية و عناصر الخشونة، و هكذا يستمر الحال في عملية تصاعدية، و أحياناً يؤدّي الحال إلى نشوب معارك طاحنة بين طائفتين أو قبيلتين كبيرتين أو تسفك في ذلك الكثير من الدماء و تدمر الكثير من الطاقات و الأموال و الثروات.

و قد ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «تَعافُوا تَسقُطُ الضِّغائِنُ بَينَكُم» «3».

5- إنّ العفو يتسبب في سلامة الروح و هدوء النفس و سكينة القلب و بالتالي يتسبب في طول العمر كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ كَثُرَ عَفوُهُ مُدَّ فِي عُمرُهُ» «4».

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 74، ص 168.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 108.

(3). كنز العمال، ج 3، ص 373، ح 7004.

(4). ميزان الحكمة، ج 3، ح 13184.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 385

و بالطبع فما ذكرنا أعلاه هو من قبيل الآثار الإيجابية الدنيوية و البركات الاجتماعية للعفو و الصفح، و أمّا النتائج المعنوية و الأجر و الثواب الاخروي فأكثر من ذلك بكثير، و نكتفي في هذا المعنى بحديث عن أمير المؤمنين صلى الله عليه و آله يقول فيه: «العَفوُ مَعَ القُدرَةِ جُنَّةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ سُبحانَهُ» «1».

و أمّا أسباب و دوافع الانتقام و الثأر فكثيرة أيضاً و منها ضيق الافق و الصدر و عدم النظر إلى المستقبل، و الحسد و الحقد، و ضعف النفس، و اتباع الهوى و الكثير من الصفات الذميمة الاخرى التي تدفع كل واحدة منها أو بضمّها إلى الاخرى الإنسان إلى السقوط في

نار الانتقام و حالة الردّ بالمثل للتشفي و الأخذ بالثأر، و بالتالي زيادة النزاعات و الصراعات بين الأفراد ممّا يفضي أخيراً إلى هدم نظام المجتمع و تلف الأموال و الأنفس و هدر الطاقات و الإمكانات للمجتمعات البشرية.

طرق علاج الانتقام و كسب فضيلة العفو:

إنّ أفضل الطرق لعلاج صفة الانتقام الرذيلة و الصعود إلى أوج العزّة و الكرامة باكتساب فضيلة العفو و الصفح يكمن في الدرجة الاولى بالتفكر السليم حول معطيات و آثار كل واحد من هاتين الصفتين الأخلاقيتين، فعند ما يرى الإنسان ما في العفو و الصفح من البركات و المواهب و المعطيات الدنيوية و الاخروية و كيف أنّه يتسبب في زيادة مكانته و علو قدره و عزّته في نظر الخلق و الخالق و يريح الإنسان من الكثير من المشكلات و المصاعب فيفتح له أبواب الحياة الكريمة و يثير المحبّة له في قلوب الناس، في حين أنّ الانتقام و الردّ بالمثل أحياناً يؤدّي إلى انهدام عناصر الخير في حياة الإنسان و يعرّض نفسه و ماله و سمعته إلى الخطر الأكيد، فحينئذٍ إذا قارن الإنسان بين هذه المعطيات الإيجابية و السلبية للطرفين فإنّه سيأخذ جانب العفو قطعاً و يرجحّه على جانب الانتقام و يستمر في سلوك هذا الطريق حتّى تحصل لديه ملكة أخلاقية لفضيلة العفو و الصفح.

______________________________

(1). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 386

و من جهة اخرى فعند ما يتأمل الإنسان في جذور الحالة السلبية للإنتقام و الدوافع النفسية التي تثير هذه الحالة في نفسه فإنّه سيتحرّك حتماً نحو علاجها و الحد من شرّها و بذلك يتسنى له القضاء على المعلول في القضاء على علّته، فيتبدّل الحقد و الكراهية و حبّ الانتقام إلى الاخوة و المحبّة و العفو و الصفح.

و بهذا نأتي

على ختام بحثنا في فضيلة العفو و الصفح و كذلك رذيلة حبّ الانتقام و الثأر و الردّ بالمثل رغم وجود مسائل كثيرة لم يسع المقام لذكرها.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 387

16

الغيرة و عدم الغيرة

تنويه:

إنّ (الغيرة) وردت في الروايات الإسلامية و النصوص الدينية بعنوان أنّها فضيلة أخلاقية مهمّة، و هي في الأصل بمعنى الدفاع الشديد عن العرض و الناموس أو المال و الدين و المذهب و الوطن و أمثال ذلك، و خاصة أنّ هذه المفردة وردت في موارد يكون فيها الحق مختصّاً بشخص معيّن أو جماعة، و يريد الآخرون التعرّض لهذا الحق و سلبه من صاحبه أو أصحابه، فيقوم الطرف الآخر بالدفاع الشديد عن حقّه.

و على أيّة حال فإنّ هذه الصفة إذا تحلّى بها الإنسان و سلك بها طريق الاعتدال فإنّها تعدّ فضيلة كبيرة في دائرة الأخلاق و القيم الإنسانية، فما أعظم حالًا من أن يقوم الإنسان بالتصدّي و منع الأجنبي عن التخطي إلى حريم عرضه أو وطنه و يقف في مقابل هذا العدوان و يدافع عن حقّه إلى حدّ الموت.

و مع الأسف فإننا نعيش في العالم المعاصر الذي إفتقد كثيراً من القيم الأخلاقية و استولت عليه الكثير من الانحرافات الأخلاقية في دائرة الاسر و العوائل الخاصة، و لا سيما ما نجده في العالم الغربي من الإرتباط اللّامشروع بين النساء و الرجال بحيث نسيت هذه الصفة الأخلاقية، بل إنّها وصلت لدى البعض إلى حالة معاكسة فأصبحت مخالفة للقيم

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 388

و الاصول الأخلاقية و اعتبرت من قبيل التعصّبات العمياء و الأنانية، و هذا يعدّ بذاته فاجعة كبيرة على المستوى الأخلاقي و الثقافي، في حين أنّ الإنسان و المجتمع البشري لا يستطيع أن يتحرّك باتّجاه حماية

الأخلاق و القيم و المبادي ء الدينية و الاجتماعية بدون عنصر الغيرة.

و في هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دورساً و عبراً في هذه المسألة المهمّة و الأساسية في حياة الإنسان الاجتماعية:

1- «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا* سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» «1».

2- «قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ» «2».

3- «... وَ لَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» «3».

تفسير و استنتاج:

تتحدّث «الآية الاولى» من الآيات محل البحث عن ثلاثة طوائف من الفئات الشريرة في المجتمع الإسلامي الأول في المدينة، فتذكر الآية هذه الطوائف الثلاث بأسم المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون، أي الذين يتحرّكون في بث الشائعات و الأكاذيب بين الناس لتضعيف معنويّات المسلمين و إتهام النساء العفيفات و المحصنات و تحذّرهم الآية بأشد العذاب الإلهي و تقول: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا».

______________________________

(1). سوره الأحزاب، الآية 60- 62.

(2). سورة يوسف، الآية 33.

(3). سورة النور، الآية 31.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 389

هذه الغيرة الإلهية التي تقود المسلمين إلى الدفاع الشديد عن أعراضهم و نواميسهم و كيانهم هي اسوة لجميع المسلمين في مسألة الغيرة على الدين و الناموس، و تدلّ على أنّ الإنسان الذي يتحرّك في خط الإيمان و الحق لا ينبغي أن يواجه ممارسات

الأراذل و المنافقين و الأشرار من موقع اللّامبالاة و عدم الاهتمام و البرودة.

و هذا التعبير الوارد في الآية الكريمة يدلّ على أنّ هذه المسألة عبارة عن فضيلة أخلاقية كبيرة و وظيفة اجتماعية للمؤمنين رغم ما أورده التاريخ من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الذي كان يتشدّد في مثل هذه الموارد مع المخالفين و قوى الإنحراف.

إنّ الصفات الثلاثة التي ذكرتها الآية لهؤلاء المخالفين: «الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ» يمكنها أن تشير جميعها إلى طائفة معيّنة تتحرّك باتّجاهات مختلفة لتكريس حالة التخاذل و الوهن و الضعف بين المسلمين، و لكنّ ظاهر الآية و ما ورد في شأن نزولها من الروايات يشير إلى أنّ هذه الصفات الثلاث هي لثلاث طوائف من هؤلاء المنحرفين و هم: المنافقون الذين يتحرّكون في بث الشائعات حول غزوات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لتضعيف روحية المسلمين و تقوية عنصر الانهزام و التخاذل في قلوبهم، و طائفة الأراذل و الأشرار الذين يتعرّضون لنساء المسلمين و يتسببون في إزعاجهّن و التحرّش بهنّ، و الطائفة الثالثة يتحرّكون في عملية بث الشائعات عن النساء المؤمنات و إتهامهنّ في عفتهن حيث يؤلمهنّ ذلك بشدّة، فنزلت الآية أعلاه من موقع التهديد لهذه الفئات الثلاث بالنفي و القتل.

أمّا قوله: «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» فقد يرد في الآيات القرآنية بمعاني مختلفة، فأحياناً يشير إلى النفاق مثل ما ورد في الآية 10 من سورة البقرة: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً»، و أحياناً اخرى يرد في مورد الأشخاص الذين يتّبعون غريزتهم الجنسية في دائرة الحيوانية كما ورد في الآية 32 من هذه السورة التي تخاطب نساء النبي و توصيهنّ بأن لا يخضعن بالقول للأشخاص

الأجانب حتى لا تتحرّك فيهم الغريزة و يطمعوا بالحرام فيقول: «فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 390

و الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم بعد هذه الآيات (الآية 60 و 61) يضيف أنّ هذه هي سنّة اللَّه في الأقوام السالفة (و لا تنحصر بالامّة الإسلامية و لا تبديل لسنة اللَّه).

و هذا السياق الشريف يشير إلى حكم عام وارد في جميع الأديان الإلهية، و سنة إلهية قطعية لا تتبدّل، و هي ضرورة المواجهة الجادّة مقابل المنافقين و الانتهازيين و الذين يبثون الشائعات المغرضة (طبعاً مع حفظ جميع المقرّرات الشرعية و العقلية) و هذا هو مفهوم الغيرة بكل وضوح.

و تتحرّك «الآية الثانية» لتحكي لنا عن نموذج للغيرة الدينية التي تتجلّى في سلوك أحد أكبر الانبياء الإلهيين، أي النبي يوسف عليه السلام و ذلك عند ما تعرّض للتحرش من قبل نساء مصر و خاصة زليخا إمرأة العزيز حيث طلبت منه الإستسلام و الرضوخ لمطاليبهن اللّامشروعة و ارتكاب الفاحشة، و بينما كان يوسف عليه السلام في سن الشباب و المراهقة و تهب في صدره أعاصير الحيوية و الغريزة و الانجذاب إلى الدنيا، إلّا أنّه قاوم كل هذه التحدّيات الداخلية و الخارجية الصعبة حتى أنّه فضّل دخول السجن مع جميع مشقاته و آلامه على الاستسلام لمطاليبهن و الرضوخ لعناصر الشهوة و المقام و الجمال و طلب من اللَّه تعالى أن يوفقّه لدخول السجن للخلاص من هؤلاء النسوة و قال: «قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنِ الْجَاهِلِينَ».

و هذا السياق الشريف يكشف عن مقام العصمة و العفّة ليوسف عليه السلام و كذلك يحكي عن غيرته و

تقواه أمام الهزات، فعند ما نقارن بين هذه الروحية العالية في دائرة التعفف و الصمود و الإرادة مع ما نجده لدى عزيز مصر من عدم الغيرة و التساهل في أمر العفّة لدى زوجته بعد ما ثبت له سلوك زوجته الخائن اكتفى بالقول: «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ» «1».

و يتّضح جليّاً الفرق بين هذين الرجلين من موقع الأمانة و التقوى و العفّة النفسية، و لم

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 290.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 391

يكن يوسف عليه السلام يقصد طلب السجن من اللَّه تعالى بالذات و لغرض شخصي بل كان هدفه التخلص من ممارسة اللّامشروع و أنّه إذا خيّر بين السجن و بين الممارسة اللّامشروعة فإنّه يفضّل السجن على ذلك العمل.

و تأتي «الآية الثالثة» لتستعرض الأمر الإلهي للنساء المؤمنات بأنّه مضافاً إلى لزوم حفظ الحجاب فيجب عليهنّ أن لا يضربن بأرجلهن أثناء المشي في الطرقات لكي لا يسمع الأجنبي صوت الخلاخل من الزينة و تقول: «... وَ لَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ».

فنرى في هذه الآية الشريفة إقتران الغيرة مع العفّة إلى درجة أنّه لم يسمح للنسوة أن يضربن بأرجلهن فيسمع الرجال أصوات الخلاخل في أرجلهن، و كما أشرنا آنفاً أنّ الإسلام يأمر نساء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (بعنوان كونهنّ اسوة و قدوة لسائر النساء المسلمات) أنّه عند ما يتحدّثن مع الغرباء فلا يخضعن بالقول و لا يرى الغريب عنصر المرونة و اللطافة في كلامهنّ و لئلّا تتحرّك فيه عناصر الشر، كل ذلك يعدّ تأكيداً لرعاية العفّة من جهة، و كذلك الالتزام بفضيلة الغيرة من جهة اخرى.

الغيرة في الروايات الإسلامية:

و نقرأ في الروايات الإسلامية الأهمية الكبيرة التي

يوليها الإسلام لمسألة الغيرة بعنوانها فضيلة أخلاقية في دائرة القيم و المثل و المعنوية و الكمالية للإنسان و حتى أنّ اللَّه تعالى وصف بالغيور (أي الذي يغار كثيراً) و من ذلك:

1- ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ وَ لِغيرَتِهِ حَرَّمَ الفَواحِشَ ظاهِرَها وَ باطِنَها».

2- و نقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «إذا لَم يَغُرِ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنكُوسُ القَلبِ» «1».

______________________________

(1). فروع الكافي، ج 5، ص 536، ح 2.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 392

و قال العلّامة المجلسي قدس سره إنّ المراد بالقلب المنكوس هنا هو التشبيه بالإناء المقلوب الذي لا يبقى فيه شي ء من الطعام أو الماء، فالحديث الشريف يقرّر أنّ قلب مثل هؤلاء الأشخاص الفاقدين للغيرة خالٍ من الصفات الأخلاقية السامية و فارغ من المثل الرفيعة «1».

و هذا التعبير يدلّ بوضوح إلى أنّ صفة الغيرة ترتبط برابطة وثيقة مع سائر الصفات الأخلاقية العليا للإنسان.

3- و نقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «كانَ إِبراهَيمُ أَبِي غَيُوراً وَ أَنا أَغيَرُ مِنهُ وَ أَرغَمَ اللَّهُ أَنفَ مَنْ لا يُغَارُ مِنَ المُؤمِنِينَ» «2».

4- و جاء في حديث آخر عن هذا النبي الأعظيم صلى الله عليه و آله قوله: «إِنِّي لَغَيُورٌ وَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَغيَرُ مِنِّي وَ أَنَّ اللَّهَ تَعالى يُحِبِّ الَغَيُورَ».

5- و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «إنَّ الغِيرَةَ مِنَ الإِيمانِ» لأنّ الإيمان يدعو الإنسان إلى حفظ الدين و البلد الإسلامي و السلوك في طريق التصدّي للأخطار التي تواجه هذه المتعلقات المهمّة للإنسان، فمن لم يتحرّك على مستوى الدفاع عنها و

لم يتحرك عنصر الغيرة في أعماق ذاته فإنّه بعيد عن الإيمان «3».

6- و ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «قَدْرُ الرَّجُلِ قَدْرِ هِمَّتِهِ ...

وَ شَجاعَتُهُ عَلى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتِهِ عَلى قَدْرِ غَيرَتِهِ» «4».

7- و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «أَتى النَّبِيّ بِاسارى فَأَمرَ بِقَتلِهِم وَ خلَّا رَجُلًا مِنْ بَينِهِم فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: كَيفَ اطلَقتَ عَنِّي؟

فَقَالَ صلى الله عليه و آله: أَخبَرَنِي جِبرئيل عَنِ اللَّهِ أَنَّ فِيكَ خَمسُ خِصال يُحِبُّها اللَّهُ وَ رَسُولُهُ: الغِيرَةُ الشَّدِيدَةُ عَلى حَرَمِكَ وَ السَّخاءُ وَ حُسْنُ الخُلقِ وَ صِدقُ اللِّسانِ وَ الشَّجاعَةَ».

______________________________

(1). مرآة العقول، في ذيل الحديث المبحوث.

(2). بحار الانوار، ج 100، ص 248، ح 33؛ كنز العمال، ج 3، ص 387، ح 7076.

(3). كنز العمال، ج 3، ص 385، ح 7065.

(4). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 47.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 393

فلما سمع الرجل أسلم و حسن اسلامه و قاتل مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى استشهد «1».

8- و في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام ضمن توبيخه لأهل العراق الذين تخرج نساؤهم من منازلهم بدون اهتمام بالحجاب و يختلطن مع الرجال فقال: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لا يغارُ» «2».

تعريف أقسام الغيرة:

كما أشرنا آنفاً أنّ الغيرة هي صفة أخلاقية تدفع الإنسان في طريق الدفاع المستميت عن الدين و المذهب و العرض و البلد، و أساساً فإنّ كل حالة من الدفاع الشديد عن القيم الإنسانية فهي تتضمّن نوع من الغيرة، و رغم أنّ هذه المفردة تستعمل غالباً في دائرة الغيرة على العرض و الناموس و لكنّ مفهومها واسع يستوعب مصاديق أكثر.

و بالطبع فإنّ هذه الصفة الأخلاقية حالها حال

الصفات الاخرى من حيث أنّها قد يسلك بها الإنسان سبيل الافراط و التفريط و بذلك تتبدّل إلى خلق ذميم، و ذلك في صورة ما إذا كان الدفاع المذكور يتّخذ صبغة التعصّب الذميم و الوسواس و الدفاع غير المنطقي و غير العقلائي.

فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مِنَ الغِيرةِ ما يُحِبُّ اللَّهُ وَ مِنها ما يَكرَهُ اللَّهُ فَأَمّا ما يُحِبُّ فَالغِيرَةُ فِي الرِّيبَةِ وَ أَمّا ما يَكرَهُ فَالغَيرَةِ فِي غَيرِ الرِّيبَةِ» «3».

يعني أنّ الإنسان يتّهم زوجته مثلًا بعدم العفّة على أساس من الظن و الاحتمال و تعتمل في صدره عناصر الوسواس و الشك تجاه زوجته البريئة، فمثل هذه الحالة السلبية تكون خطرة على سلامة الإنسان و الاسرة و تؤدّي إلى تشجيع الأشخاص الأبرياء إلى الوقوع في وحل الخطيئة و تقودهم إلى مستنقع الرذيلة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، ص 109، الباب 77، ح 10.

(2). بحار الانوار، ج 76، ص 115، ح 7.

(3). كنز العمال، ج 3، ص 385، ح 7067.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 394

و نقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في أحد كتبه إلى إبنه الإمام الحسن عليه السلام يقول: «وَ إِيّاكِ وَ التَّغايُرَ فِي غَيرِ مَوضِع غَيرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدعُو الصَّحِيحَةَ إِلى السَّقمِ وَ البَرِيئَةَ إِلى الرَّيب» «1».

و في الحقيقة أنّ الافراط في كل شي ء مذموم و خاصة في أمثال هذه الموارد من السلوك الأخلاقي تجاه العرض و الحساسية المفرطة تجاه سلوك الزوجات و الأرحام من النساء و النظر إلى سلوكهنّ من موقع الريبة و الشك و التهمة، فقد يكون هذا الأمر هو السبب في وقوعهنّ في وادي الرذيلة و الفساد، و

على أيّة حال إنّ هذه الموارد من الغيرة و سوء الظن تعتبر حراماً شرعاً و يجب اجتنابها و الابتعاد عنها تماماً، و قد ورد في الأخبار المتعلقة بزمن الجاهلية أنّ أحد الأسباب المهمّة لوأد البنات هو عنصر الغيرة المنحرف و اللّامنطقي لدى هؤلاء الجاهلين حيث كانوا يقولون: إنّ من الممكن أن تكبر هذه البنات و تتعرّض للأسر من قبل أفراد القبيلة المعادية فتكون أعراضنا في معرض النهب و التلاعب بيد الأعداء، فالأفضل أن ندفنهنّ و هنّ صغار لحفظ العرض.

آثار الغيرة في حركة الحياة:

إنّ الغيرة إذا استعملت بصورة صحيحة و معتدلة إيجابية فإنّها بمثابة قوّة دفاعية عظيمة تدفع الإنسان إلى التصدّي للأعداء و الانتصار عليهم، لأنّ مثل هذه القوّة الباطنية عند ما تتعرّض نفس الإنسان و أمواله و ناموسه و دينه و إيمانه أو استقلال وطنه إلى الخطر المحدق فإنّ هذه القوّة تعبي ء جميع الطاقات و القوى الذاتية و الباطنية في الإنسان و توحّدها تحت قيادة عنصر الغيرة لتعين الشخص في عملية الدفاع الشريف، و أحياناً يعيش الإنسان الغيور تحت عنصر الغيرة بحيث تتضاعف قوّته إلى قوّة عشرة أشخاص و تدفع به إلى حد التضحية بنفسه و الصمود البطولي بشجاعة و شهامة كبيرة، و لهذا السبب كانت الغيرة أحد العوامل المهمّة في طريق العزّة و الافتخار و الحياة الشريفة.

أمّا الأشخاص الذين يعيشون الانحراف و التلّوث فعند ما يواجهون إنساناً غيوراً في تحرّشهم بأعراض الناس فإنّهم يفقدون مقاومتهم بسرعة و يتراجعون أمامه في صورة من التخاذل و الذلّة، و هذا هو أيضاً من بركات الغيرة.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 31.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 395

الغيرة تسبب أيضاً في تقوية عناصر الشد للقيم الأخلاقية و المثل الرفيعة للمجتمع الإنساني و تجعله محفوظاً

من التلّوث و الانحراف في منزلقات الخطيئة.

إنّ الغيرة تتسبب أيضاً في حفظ أمن المجتمع و إزالة مظاهر الفساد و الفحشاء، في حين أنّ عدم الغيرة يهدم أمن المجتمع و يعمل على تحطيم المثل الإنسانية و القيم الأخلاقية في أفراد المجتمع و بالتالي ينزلق مثل هذا المجتمع نحو الفساد و الانحطاط الأخلاقي.

و نقرأ في سيرة الأنبياء أنّه عند ما رأى النبي لوط عليه السلام مظاهر الفساد و التلّوث من قومه الأشقياء حتى أنّهم راودوه عن ضيفه (و هم ضيوفه من الملائكة الذين دخلوا عليه على شكل فتيان حسان الوجوه و لم يكن لوط عليه السلام عليم بواقعهم) تملّكه الخوف و الاستياء الشديد ممّا رأى من تعرّض قومه الأشرار إلى هؤلاء الضيوف عند ما سمعوا بهم قد دخلوا في بيت لوط، و كلما نصحهم لوط عليه السلام فإنّ كلامه ذهب أدراج الرياح و لم يؤثر في هؤلاء الأشرار شيئاً حتى أنّه عرض عليهم الزواج من بناته (فيما إذا تابوا و آمنوا) و لكنّهم رغم هذا الإيثار العظيم من لوط لم يرتدعوا عن غيّهم و استمروا في طلبهم الدني ء و ممارسة الضغط على لوط عليه السلام ليسلمهم الضيوف الكرماء، فقال لهم لوط: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» «1».

و لكن عند ما رأى أنّ كلامه لا يؤثر شيئاً في نفوس هؤلاء الأشرار و لا يرتدعون عن غيّهم ازداد حزناً و ألماً و نصباً و عند ما كشف هؤلاء الضيوف عن واقعهم و أنّهم من الملائكة و طمأنوه بأن لا يخاف من هؤلاء الأشرار فإنّ العذاب الإلهي نازل بحقهم و سيتعرّضون للهلاك عمّا قريب.

و نختم هذا البحث بحديث شريف عن الإمام الصادق عليه

السلام حيث يقول: «إِنّ المَرَأ يَحتاجُ فِي مَنزِلِهِ وَ عيالِهِ إِلى ثَلاثِ خَلالِ يَتَكَلَّفُها وَ إِنْ لَم يَكُن فِي طَبعِهِ ذَلِك: مَعاشِرَةٌ جمِيلَةٌ، وَسِعَةٌ بِتَقدِيرٍ وَ غَيرَةٌ بِتَحصِينٍ» «2».

______________________________

(1) سورة هود، الآية 78.

(2) بحار الانوار، ج 75، ص 236.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 397

17

الأُلفة و الانفراديّة

تنويه:

لقد بحث علماء الأخلاق هذا الموضوع تحت عنوان المعاشرة و العزلة في كتبهم الأخلاقية، و نقرأ أحياناً في هذه الكتب اختلاف العلماء في أيّهما الأفضل، المعاشرة مع الناس أو العزلة و الانزواء؟ فقد يرى البعض أنّ العزلة أو الانزواء عن الناس أفضل من معاشرتهم و الاختلاط بهم، و بعض آخر رجحّ المعاشرة و الاختلاط على العزلة، و ذهب ثالث إلى أنّ ذلك يختلف باختلاف الظروف و الشرائط، فتارة يكون الأول أفضل من الثاني و اخرى بالعكس.

و لكن المحققين (و خاصة في عصرنا الحاضر) و بالاقتباس من الكتاب و السنة و دليل العقل يرون أنّ الأصل في حياة الإنسان هو أن يعيش حالة الأُلفة، و ذهبوا إلى أنّ الإنسان موجود اجتماعي و لا يتمكن من الصعود بمستواه الأخلاقي و تكامله المعنوي و النضج العقلي إلّا في ظل المجتمع و الاختلاط مع الآخرين، و بذلك يتسنى له التسريع في حلّ مشاكله و التخفيف من آلامه و وصوله إلى السعادة المنشودة.

هؤلاء يرون أنّ الانزواء أو العزلة لا تنسجم مع فطرة الإنسان السليمة و لا تتوافق مع روح التعليمات الإسلامية و القرآنية، بل إنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد على الروح

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 398

الاجتماعية لدى الإنسان و تجعل من المعاشرة البنّاءة بشكل عبادة جماعية من قبيل صلاة الجمعة و الجماعة و المسائل المتعلّقة بحقوق الإنسان و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إجراء

الحدود و إحقاق الحقوق و التعاون على البر و التقوى و أمثال ذلك.

إنّ الإسلام يرى أنّ «يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَماعَةِ» كما ورد في الحديث الشريف، و أنّ أي إبتعاد عن صفوف المسلمين يؤدّي إلى نفوذ الشيطان و استيلائه على الإنسان كما ورد في نهج البلاغة: «و الشَ اذُّ مِنَ الغَنَمِ لِلذِّئِبِ» «1».

و بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستعرض الآيات الشريفة في هذا الموضوع:

1- «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لَا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَ كُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «2».

2- «وَ مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً» «3».

3- «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «4».

4- «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ» «5».

5- «وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا» «6».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 127.

(2). سورة آل عمران، الآية 103.

(3). سورة النساء، الآية 115.

(4). سورة الانفال، الآية 62 و 63.

(5). سورة الصف، الآية 4.

(6). سورة الحديد، الآية 27.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 399

تفسير و استنتاج:

إنّ كل واحدة من الآيات الشريفة المذكورة آنفاً تشير إلى جهة خاصة من مسألة أهميّة المعاشرة و الاجتماع و أهميّة الوحدة و الاتّحاد بين أفراد المجتمع، ففي «الآية الاولى» نقرأ دعوة

إلى الاعتصام بحبل اللَّه و التمسك به و عدم سلوك طريق الفرقة و الاختلاف و تقول:

«وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لَا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً»

أمّا ما هو المراد من حبل اللَّه الوارد في الآية الشريفة؟ فإنّ المفسّرين اختلفوا في ذلك، و قد ورد في بعض الروايات الشريفة أنّ المراد منه هو القرآن الكريم الذي ينبغي أن يتّخذه المسلمون محوراً لوحدتهم و تماسكهم، و في بعض الروايات الاخرى ذكرت أنّ المراد من حبل اللَّه هو أهل البيت عليهم السلام، و معلوم أنّ كل هذه المعاني تشترك في حقيقة واحدة، و هي أنّ حبل اللَّه تعالى هو ما يربط الإنسان باللَّه تعالى سواءاً عن طريق القرآن الكريم أو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أهل بيته المعصومين عليهم السلام.

و كما نرى أنّ هذه الآية الشريفة تؤكّد على مسألة المودّة و وشائج المحبّة بين المسلمين و ترك العداوة و الفرقة، و من المعلوم أنّ ذلك لا يتوافق مع عزلة الإنسان و إنزوائه عن المجتمع و لا مفهوم حينئذٍ للإعتصام بحبل اللَّه تعالى، و اللطيف أنّ القرآن الكريم في الآية أعلاه يقرّر أنّ العداوة هي من سنن الجاهلية و أنّ المحبّة و الصداقة هي من خصائص الإسلام و يقول في ذيل الآية الشريفة مؤكّداً على هذا المعنى: «وَ كُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا».

و الجدير بالذكر أنّ الإسلام لا يرى العلاقة بين المسلمين هي علاقة الصداقة فحسب، بل علاقة الاخوة التي تعمّق في الناس الرابطة العاطفية بين الأخوان القائمة على أساس المساواة و المحبّة المتبادلة.

و بديهي أنّ هذه المحبّة الأخوية لا يمكن أن

تتجلّى و تتفاعل في حال ابتعاد الاخوة عن بعضهم البعض، فلا بدّ لتفعيل هذه العاطفة الإنسانية من الحياة المشتركة و المعاشرة فيما بين الاخوة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 400

الاخلاق فى القرآن ج 3 415

و الملاحظة المهمّة الاخرى هي أنّ الامور المادية و الدنيوية لا يمكن أن تكون محور وحدة المجتمع و أداة قويّة لتعميق الروابط الاجتماعية بين الأفراد، لأنّ الامور المادية عادة تكون سبباً للتنازع و الاختلاف و الفرقة، فحاجات الناس الدنيوية و المادية غير محدودة، و أمّا الامور المادية في الطبيعة فمحدودة، و من هنا ينشأ التضاد و الاختلاف، و لكن حبل اللَّه تعالى و الارتباط مع اللَّه تعالى هو أمر معنوي و روحاني و يمكنه أن يحقّق أفضل رابطة عاطفية بين أفراد البشر من كل قوم و لون و قبيلة و لغة.

و تأتي «الآية الثانية» لتتحدّث لنا عن المصير المؤلم للأشخاص الذين يعيشون بعيداً عن جماعة المسلمين و يسلكون سبيلًا مستقلًا و منفصلًا عن المجتمع الإسلامي و تقول:

«وَ مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً».

هذه الآية تدلّ بوضوح على أنّ اللَّه تعالى يأمر المسلمين في المجتمع الإسلامي بضرورة الالتزام الاجتماعي و عدم الانفصال و الفرقة و أن يسير المؤمنون سويّة في خط الإيمان و الانفتاح على اللَّه تعالى، و مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «وَ مَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ» و كذلك عبارة «سَبِيلِ المُؤمِنينَ» يتّضح جيداً أنّ المراد هو التنسيق بين أفراد المجتمع الإنساني من خلال إتّباع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و السير إثر خطواته الحكيمة في خط الإيمان و الطاعة للَّه تعالى حيث

تكون التقوى و الإيمان محوراً للسلوك الاجتماعي، و إلّا فلا معنى لأنّ تعني الآية مفهوم المعاشرة الاجتماعية بدون هذا المحور المعنوي.

و لا شكّ أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع الجماعة دائماً، فكان يصلّي معهم خمسة مرّات في اليوم و يصلّي صلاة الجمعة في اجتماع أعظم، و كذلك في اجتماع المسلمين العام لمراسم الحج، فكل هذه البرامج العبادية تنضوي تحت مدلول الآية الشريفة، و معلوم أنّ الأشخاص الذين يعيشون الإنزواء و العزلة و ينفصلون عن جماعة المؤمنين سيكونون مشمولين للتهديد و الوعيد و بالعذاب الأليم المذكور في الآية الشريفة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 401

بعض علماء أهل السنة إستدلّوا بهذه الآية الشريفة على حجّية الاجماع، و نحن لا نرى مانعاً من الاستدلال بهذه الآية على حجّية إجماع المسلمين، و لكنّ هذا الإجماع يجب أن يتضمّن حضور الإمام المعصوم أيضاً، و في الاصطلاح الاصولي يعبّر عنه بالإجماع الدخولي أو الإجماع الكشفي الذي يكون هو الحجّة في عملية الاستدلال.

«الآية الثالثة» تستعرض أحد المواهب الإلهية الكبيرة على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أنّ اللَّه تعالى هو الذي جمع المؤمنين حول النبي و ألف بين قلوبهم بحيث لا يتسنى ذلك أبداً من خلال الوسائل الطبيعية و الأدوات العادية فتقول الآية: «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

لو أنّ الإسلام يرى في العزلة و الانزواء عن المجتمع قيمة أخلاقية، فإنّه لم يكن يعدّ التأليف بين قلوب المسلمين بعنوان معجزة كبيرة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

و هذا التعبير في الآية الشريفة لا يدلّ على

مطلوبية المعاشرة و الاجتماع بين الأفراد فحسب، بل أن تكون الرابطة شديدة و إلى درجة كبيرة من الوثاقة في العلاقات الاجتماعية.

و بديهي أنّه لا يصحّ أن تقرر الآية هذا المفهوم في زمان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فقط، بل إنّ هذا المفهوم الإسلامي يستوعب جميع الأزمنة و الأمكنة و على كلّ طائفة مؤمنة أن تجتمع حول محور واحد و ترتبط فيما بينها برابطة وثيقة من الألفة و المحبّة كما كان حال المؤمنين في عصر النبوّة و البعثة.

و الملفت للنظر أنّ اللَّه تعالى نسب تأليف القلوب إليه مباشرة كما ورد هذا المضمون في الآية 103 من سورة آل عمران، رغم أننا نعلم أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو الذي قام بهذا العمل الإنساني و الاجتماعي، و ذلك لتشير الآية إلى أنّ هذا العمل إنّما هو معجزة إلهية جعلها اللَّه تعالى في يد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أظهرها على يده، و إلّا فمن المحال أن تزول و تتلاشى كل تلك الأحقاد و العداوات القديمة و الجديدة بين العرب المتعصّبين و الجاهلين مهما بلغت

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 402

قدرة المخلوق و مهما اوتي من أموال و ثروات طائلة كما تقول الآية بأنّك لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، و لكن تسنى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذلك من خلال تعليمات الإسلام و أخلاقه الإلهية و الإمدادات الربانية و استطاع بذلك من تحقيق أعظم معجزة في عالم العلاقات الاجتماعية، و حقّق الألفة و هي في اللغة بمعنى الاجتماع المقارن للإنسجام و الأنس و الالتيام و ربط تلك القلوب المتنافرة و المتباغضة مع بعضها

و جعلها كالبنيان المرصوص.

و تأتي «الآية الرابعة» لتتحدّث عن وحدة صفوف المسلمين و التي لا تتسنى و لا تتحقّق اطلاقاً مع العزلة و الانزواء: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ».

(بنيان) بمعنى كل بناء يبنيه الإنسان لسكنه أو لمآرب اخرى، كأقامة السدود مثلًا، أمّا (مرصوص) فهو من مادة (رصاص) و نظراً إلى أنّ البشر في ذلك الزمان كان يستخدم الرصاص في عملية البناء ليزيد في قوّته و استحكامه و ليملأ الفراغات و الثقوب و الثغرات الموجودة بين أحجار البناء، فلذلك أطلق على كل بناء محكم أنّه (مرصوص) إشارة إلى قوّته و استحكامه.

و صحيح أنّ الآية الشريفة ناظرة إلى الجهاد في سبيل اللَّه تعالى و التحرّك العسكري في ميادين القتال مع الأعداء، و لكن من الواضح أنّ هذا المعنى يجري في سائر التفاعلات الاجتماعية على مستوى السياسة و الثقافة و الاقتصاد و أمثال ذلك، ففي هذه الموارد يلزم أن يكون الناس في المجتمع الواحد منسجمين و متّحدين إلى درجة أنّهم كالبنيان المرصوص، و هذا المعنى يتقاطع حتماً مع العزلة و الانزواء فلا يتسنى للمجتمع الدفاع القوي أمام الأعداء و لا النهضة الحضارية و لا حلّ المشكلات الاقتصادية و السياسية و الثقافية من دون الالفة و المعاشرة و الاجتماع بين الأفراد.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 403

و تأتي «الآية الخامسة» و الأخيرة من الآيات محل البحث لتشير إلى مسألة الرهبانية و ترك الدنيا و العزلة عن الناس للعبادة و التبتّل إلى اللَّه تعالى كما كان شأن جماعة من النصارى، فتأتي هذه الآية لتقول إنّ هذا السلوك العبادي في الظاهر إنّما هو بدعة من قبل هؤلاء الرهبان و لم يؤمر به في الشريعة الإلهية و

تقول: «وَ رُهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ».

و نعلم أنّ جماعة من المسيحيين في هذا العصر و الزمان سلكوا طريق الانقطاع عن الناس و الرهبنة و العيش في الأديرة و عدم الزواج، كل ذلك لغرض العبادة في هذه الأماكن التي بنيت لهذا الغرض.

و هذا الموضوع لا يختص بهذا الزمان بل هو من البدع التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي في حكومة (ديس يونس) الأمبراطور الرومي الذي شدد النكير على النصارى و اتباع السيد المسيح و أخذ بتعذيبهم و التنكيل بهم، فلم يجد هؤلاء بدّاً للخلاص من شرّ هذا الطاغية من اللجوء إلى الأديرة و الهرب باتّجاه الجبال و المغارات و الكهوف و بذلك زرعوا بذرة الرهبانية في الديانة المسيحية.

و على هذا الأساس فإنّ مثل هذه الرهبانية تتعارض تماماً مع روح تعليمات الأنبياء الإلهيين و لم تكن موجودة في العصور الاولى للمسيحية، بل كانت بدعة ظهرت على يد الأشخاص الجهلاء و المنحرفين و استمرت إلى يومنا هذا، حيث نجد أنّ جماعة من المسيحيين يتركون حياتهم الاجتماعية و تأسيس الاسرة و الزواج و سائر النشاطات الاجتماعية و يلجئون إلى الأديرة لممارسة الطقوس العبادية و يقوم الأشخاص من أهل الخير بالانفاق عليهم لتأمين نفقاتهم.

أمّا ما يجري في هذه الأديرة من الانحرافات و الممارسات اللّاخلاقية و البعيدة عن اصول الفطرة الإنسانية فلها حديث مفصّل و مؤلم حتى أنّ بعض الكتّاب المسيحيين أشار إلى بعض هذه الأديرة و أطلق عليها اسم دار الفحشاء، و أساساً فإنّ مثل هذه الحياة غير

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 404

الطبيعية للإنسان تؤثر سلبياً على روحه و فكره و تسبب

له الكثير من الاهتزاز و الارتباك في قواه النفسية و العقلية.

و جاء الإسلام و أبطل كل هذه الممارسات العباديّة في الظاهر و دعا الناس إلى ممارسة الحياة الاجتماعية المتزامنة مع التقوى و الإيمان.

و الجدير بالذكر أنّ الرهبانية في الأصل اللغوي من مادة (رهبة) على وزن ضربة، بمعنى الخوف و الخشية، و المراد منها هنا الخوف من اللَّه تعالى، و كما يقول الراغب في مفرداته أنّها الخوف المقترن بالخشية و الاضطراب و القلق، ثمّ استعملت هذه المفردة في خصوص سلوك جماعة من المسيحيين أو من غيرهم الذين رجّحوا الانزواء و العزلة عن الناس طلباً للعبادة و التبتّل إلى اللَّه تعالى، و من جملة البدع السيئة للمسيحيين في دائرة الرهبانية هو تحريم الزواج بين النساء و الرجال الذين يسلكون في خط الرهبنة و كذلك ترك جميع المسؤوليات الاجتماعية و أشكال العلاقات بين أفراد المجتمع و اختيار الصوامع و الأديرة البعيدة لهذا الغرض.

و يستفاد من الآية أعلاه أنّ الرهبانية على قسمين: إيجابية و سلبية، و من المعلوم أنّ الرهبانية السلبية هو ما ذكرنا آنفاً، و أمّا الرهبانية الإيجابية فتتضمّن معنى الزهد و عدم التكالب على الدنيا و ترك التجمّلات المادية في حركة الحياة الفردية و الاجتماعية لكي لا يقع الإنسان في أسر هذه الزخارف الدنيوية من المال و المقام و لكن ذلك يجتمع مع الحياة الاجتماعية للفرد و إقامة علاقات بنّاءة في مسير المجالات المعنوية و المادية، و بعبارة اخرى: إنّ الآية الشريفة تقرّر وجود رهبانية في الديانة المسيحية مشروعة من اللَّه تعالى و تتضمّن ما كان عليه السيد المسيح عليه السلام من الزهد و الترك للدنيا، و لكن المسيحيين في القرون التالية ابتدعوا نوعاً آخر من الرهبانية

لم تكن في الديانة المسيحية أصلًا، و هي عبارة عن الإنزواء و العزلة عن المجتمع و الحياة الاجتماعية و ترك الزواج و الانقطاع إلى العبادة في الكهوف و الأديرة.

و يمكن أن يقال أنّ السيد المسيح لم يتزوج طيلة حياته أيضاً، و لكن لا ينبغي أن ننسى

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 405

أنّ عمر السيد المسيح كان قصيراً فلم يبلغ من العمر سوى ثلاثين سنة تقريباً، و كان في هذه المدّة مشغولًا بتبليغ الرسالة الإلهية و الترحال من منطقة إلى منطقة اخرى لهذا الغرض فلم يسعه المجال للزواج.

و على أيّة حال فإنّ الإسلام يرى الرهبانية بدعة و يذم النصارى على هذا السلوك السلبي، و قد ورد في الحديث النبوي الشريف: «لا رهبانية في الإسلام» في مصادر موثوقة كثيرة.

أمّا الحديث عن أبعاد الرهبانية و تاريخها و نتائجها فيطول بنا و يمكن لمن أراد التفصيل في هذا البحث مراجعة التفسير الأمثل ذيل الآية الشريفة، و سوف نشير أيضاً في البحوث القادمة إلى هذا الموضوع أيضاً.

المعاشرة و العزلة في الروايات الإسلامية:

إذا نظرنا نظرة إجمالية إلى التعليمات الإسلامية و المفاهيم الدينية في هذا الباب و من زوايا مختلفة نجد أنّ الإسلام يؤيّد تماماً المعاشرة و الاجتماع مع الناس و حتى أنّ العبادات الإسلامية التي يهدف منها توثيق الرابطة بين الإنسان و ربّه قد جعلها الإسلام بشكل جماعي، فالاذان و الإقامة تدعو الناس إلى الصلاة و الفلاح في عبارة «حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ حَيَّ عَلَى الفَلاحِ» و الضمائر في سورة الحمد تقرأ بشكل ضمير الجمع و الحديث مع الغير، و عند الانتهاء من الصلاة نقرأ سلاماً عاماً لجميع المؤمنين و المصلّين.

صلاة الجماعة و كذلك صلاة الجمعة و أعظم منهما مناسك الحج هي حقيقة عبادات ذات أبعاد

اجتماعية تماماً.

و نقرأ في الروايات الإسلامية تأكيدات كثيرة على لزوم الجماعة و الاجتماع و عدم الفرقة عن المؤمنين، و من ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «أَيُّها النَّاسُ عَلَيكُم بِالجَماعَةِ وَ إِيَّاكُم وَ الفُرقَةَ» «1».

______________________________

(1). كنز العمال، ج 1، ص 206، ح 1028.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 406

2- و في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً قال: «الجَماعَةُ رَحمَةٌ، و الفُرقَةُ عَذابٌ» «1».

3- و قال رسول اللَّه في حديث آخر: «يَدُ اللَّهِ عَلَى الجَماعَةِ فَإذا إِشتَدِّ (شَذَّ) الشَّاذَّ مِنهُم إِختَطَفَهُ الشَّيطانُ كَما يَختَطِفُ الذِّئبُ الشَّاةَ الشَّاذَّةَ مِنَ النِّعَمِ» «2»

4- و نفس هذا المضمون ورد بتعبير آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حيث قال: «و الزَمُوا السَّوادَ الأَعظَمَ فَإنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الجَماعَةِ، وَ إِيَّاكُم وَ الفُرقَةَ فَإِنَّ الشَّاذَّ مَنَ النَّاسِ للشَّيطَانِ، كَما أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الغَنَمُ للذِّئبِ، ألا مَن دعا إِلى هذا الشّعارِ فاقتُلُوه وَ لَو كانَ تَحتَ عِمامَتِي هذِهِ» «3».

5- و قد ورد هذا المضمون أيضاً في رواية اخرى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يعبّر عند مدى أهمية هذا المعنى حيث قال: «إِنَّ الشَّيطَانَ ذِئبُ الإِنسانِ كَذِئبِ الغَنَمِ يَأَخُذُ القاصِيَةَ وَ النَّاحِيَةَ وَ الشَّارِدَةَ، وَ إِيَّاكُم وَ الشِّعابِ، وَ عَلَيكُم بِالعامَّةِ وَ الجَماعَةِ وَ المَساجِدِ» «4».

6- و جاء في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً: «لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَنْ يَهجُرَ أَخاهُ فَوقَ ثَلاثَةَ (أَيَّامٍ)، وَ السَّابِقُ بِالصُّلحِ يَدخُلُ الجَنَّةَ» «5».

7- و هذا المضمون ورد أيضاً بتعبير آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال: «لا يَحِلُّ

لِمُسلِمٍ أَنْ يَهجُرَ أَخاهُ فَوقَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لا يُؤمِنُ بَوائِقَهُ» «6».

و قد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّه: «أَيُّما مُسلِمَينِ تَهاجَرا ثَلاثاً لا يَصطَلِحانِ إلّا ماتا خارِجَينِ عَنِ الإِسلامِ ...» «7».

صحيح أنّ هذه الأحاديث الشريفة وردت في مجال المخاصمة و العداوة بين المسلمين، و لكنّها علي أيّة حال تدلّ على أنّ الإسلام يؤيّد دائماً الحياة الاجتماعية و تعميق الالفة

______________________________

(1). ميران الحكمة، ج 1، ص 406، ح 2438.

(2). كنز العمال، ج 1، ص 206، ح 1032.

(3). نهج البلاغة، الخطبة 127.

(4). المحجة البيضاء، ج 4، ص 8.

(5). المصدر السابق، ص 7.

(6). المصدر السابق.

(7). سفينة البحار، مادة هجر.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 407

و المحبّة بين قلوب المسلمين، و من الواضح أنّ حالة العزلة و الانزواء لا تنسجم مع روح هذه التعاليم الدينية.

8- و ورد في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال عند ما أراد أحد الأشخاص التوجّه إلى الجبل و الاعتزال لغرض العبادة: «لَصَبرُ أَحَدِكُم ساعَةً عَلى ما يَكرَهُ فِي بَعضِ مَواطِنَ الإِسلامِ خَيرٌ مِنْ عِبادَتِهِ خالِياً أَربَعِينَ سَنَةً» «1».

9- و يستفاد من الروايات المتعددة أنّ الإسلام نهى عن الرهبانية التي تتضمّن الانزواء و العزلة و من ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه أنّه قال: «لَيسَ فِي امَّتِي رَهبانِيَّةَ وَ لا سِياحَةَ» «2».

و المراد من الرهبانية في هذا الحديث الشريف هو اختيار مكان منعزل للعبادة، و أمّا السياحة فهي الانزواء السيّار، لأنّ بعض الأشخاص كانوا في قديم الأزمان يتركون بيوتهم و محل معيشتهم و يسيحون في أرض اللَّه الواسعة و يتركون الدنيا و يعتبرون ذلك نوعاً من العبادة، و على هذا الأساس فإنّ الإسلام

لا يؤيد العزلة الثابتة و لا العزلة السيّارة.

10- و قد ورد في الحديث العميق المعنى عن أنس قال: توفي ابن لعثمان بن مظعون رضى الله عنه فاشتدّ حزنه عليه حتّى اتّخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له:

«يا عُثمانُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعالى لَم يَكتُبْ عَلَينا الرِّهبانِيَّةَ، إِنَّما رَهبانِيَّةُ امَتِّي الجِهادُ فِي سَبيلِ اللَّهِ».

ثم إنّه صلى الله عليه و آله أخذ يواسيه على فقد ابنه و قال: «يا عُثمان بن مظعون للجنّةِ ثَمانيةِ أبواب، و للنّارِ سبعة أبواب أَ فما يَسُّركَ أَن تَأَتِي باباً مِنها إلّا وَجدتَ ابنَك إِلى جَنبِكَ آخذاً بِحجزَتِكَ يَشفَعُ لَكَ إِلى رَبِّكَ؟ قَال: بلى» «3».

11- و مثل هذا المعنى ورد أيضاً في نهج البلاغة بالنسبة إلى أحد أصحاب الإمام علي عليه السلام عند ما دخل الإمام البصرة و ذهب لزيارة (علاء بن زياد الحارثي) فعند ما

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 3، ص 1966، 12914.

(2). بحار الانوار، ج 67، ص 115.

(3). بحار الانوار، ج 67، ص 114.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 408

رأى بيته الواسع و المجلل تعجب كثيراً و قال: «ما كُنتَ تَصنَعُ بِسعَةِ هذِه الدَّار فِي الدُّنيا، أما أَنتَ إِليها فِي الآخِرَةِ أَحوجُ وَ بلى إِن شِئتَ بَلَغتَ بِها الآخرةَ تُقرِي فِيها الضَّيفَ وَ تَصِلُ فِيها الرَّحمَ وَ تَطلِعُ مِنها الحقوق مطالعها فإذاً أَنتَ بَلغَتَ بِها الآخرةَ، فَقالَ لَهُ العلاءُ يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ أشكُوا إِلَيكَ أَخِي عاصِمَ بنَ زياد، قَالَ: وَ ما لَهُ؟ قال: لَبِسَ العباءةَ وَ تَخَلِّي الدُّنيا، فَلما جاءَ قَالَ: «يا عَدِيَّ نَفسِهِ لَقَد إِستَهامَ بِكَ الخَبِثُ، أَما رَحِمتَ أَهلَكَ وَ وَلَدَكَ، أَ تَرى أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيباتِ وَ

هُوَ يَكرَهُ أَنْ تَأَخُذَها؟ أَنْتَ أَهونُ عَلى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ هذا أَنتَ فِي خُشُونَةِ مَلبَسِكَ وَ جَشُوبَةِ مأكَلِكَ.

قَالَ: وَيحَكَ إِنِي لَستُ كأَنتَ، إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلى أَئِمَّةِ العَدلِ أَن يَقدِروا أَنفُسَهُم بِضَعَفَةِ النّاسِ كَيلا يَتَبَيَّغَ بَالفَقيرِ فَقرُهُ» «1».

12- و نقرأ في رواية اخرى عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في حديثه لعبد اللَّه بن مسعود في مسألة ذم الرهبانية و العزلة عن المجتمع و أنّه كان في بني اسرائيل نوع من الرهبانية في ظروف خاصة و استثنائية لم تكن من صميم الديانة المسيحية، قال ابن مسعود: كنت رديف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على حمار.

فقال: يا بن ام عبد هل تدري من أين احدثت بنو اسرائيل الرهبانية.

فقلت: اللَّه و رسوله أعلم.

فقال صلى الله عليه و آله: «ظَهَرَتْ عَلَيهِم الجَبابِرَةٌ بَعدَ عِيسى يَعمَلُونَ بِمَعاصِي اللَّهِ فَغَضِبَ أَهلَ الإِيمانِ فَقاتَلُوهُم فَهُزِمَ أَهلِ الإِيمانِ ثَلاثَ مَرّاتِ فَلَم يَبقَ مِنهُم إلّا القَلِيلَ فَقَالُوا إِنْ ظَهرنا لِهَؤلاءِ أَفنونا وَ لَم يَبقَ لِلدِّينِ أَحَدٌ يَدعُو إِلَيهِ، فَتعالُوا نَتَفَرَّقُ فِي الأَرضِ إِلى أِنْ يَبعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ الَّذِي وَعَدنا بِهِ عِيسى عليه السلام يَعنُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله فَتَفَرَّقُوا فِي غِيرانِ الجِبالِ وَ أَحدَثُوا رَهبانِيَّةَ» «2».

و على أية حال لم تكن الرهبانية من صميم الديانة المسيحية، بل كانت سلوكاً خاصاً ظهر في ظروف خاصة على بعض أنصار السيد المسيح عليه السلام حفاظاً على أنفسهم.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 209.

(2). مجمع البيان، ج 5، ص 243، ذيل الآية 27 من سورة الحديد.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 409

الأحاديث المتعارضة:

و في مقابل ما ذكرنا من الأحاديث الشريفة هنا روايات وردت في المصادر الحديثية تشير إلى أنّ الإسلام

يؤيّد حالة الانزواء و العزلة و تقع على الضد ممّا ذكرناه من الأحاديث السابقة، و من ذلك:

1- ما ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قوله: «العُزلَةُ عِبادَةٌ» «1».

2- ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ إِنفَرَدَ عَنِ النَّاسِ أَنَسَ بِاللَّهِ سُبحانِهِ» «2».

3- ما ورد أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام: «فِي اعتِزالِ أَبناءِ الدُّنيا جَماعُ الصَّلاحِ» «3».

4- و عن الإمام عليه السلام نفسه أيضاً قال: «فِي الإنفِرادِ لِعبادَةِ اللَّهِ كُنُوزُ الأَرباحِ» «4».

5- و نقرأ في حديث عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام أنّه قال لهشام: «الصَّبرُ عَلَى الوَحدَةِ عَلامَةُ عَلى قُوَّةِ العَقلِ فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ إِعتَزَلَ عَنِ الدُّنيا وَ الرَّاغِبِينَ فَيها وَ رَغِبَ فِي ما عِندَ اللَّهِ» «5».

و هذه الأحاديث تدلّ على أنّ الانزواء و الابتعاد عن الناس من علامات العقل و المعرفة و سبب لحضور القلب للعبادة و التوصل إلى كثير من المراتب المعنوية و الكمالات الأخلاقية.

6- و ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنْ قَدرْتَ أَنْ لا تَخرُجَ مِنْ بَيتِكَ فَافعَل، فَإنَّ عَلَيكَ فِي خُرُوجِكَ ألّا تَغتَابَ وَ لا تَكذِبَ وَ لا تَحسُدَ وَ لا تُرائِيَ وَ لا تَتصَنَّعَ وَ لا تُدهِنَ» «6».

7- قال أمير المؤمنين عليه السلام: «سَلامَةُ الإِنسانِ فِي إِعتَزالِ النَّاسِ» «7».

______________________________

(1). ميزان الحكمة، ج 3، ص 12884.

(2). غرر الحكم.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

(5). بحار الانوار، ج 67، ص 111.

(6). فروع الكافي، ج 8، ص 128.

(7). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 410

8- نختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام- و إن كانت الأحاديث في هذا الباب كثيرة- قال: «مَنْ إِعتَزلَ النَّاسَ سَلِمَ مِنْ شَرِّهِم» «1».

و قد يستدل

أتباع العزلة و الانزواء من المتصوّفة و المرتاضين و مؤيدوهم ببعض الآيات القرآنية لتبرير مسلكهم الانعزالي، و من ذلك ما ورد في الآية 16 من سوره الكهف حيث تقول: «وَ إِذْ اعْتَزَلُتمُوهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً».

و كذلك في ما ورد في سورة مريم عليها السلام الآية 48 و 49 من حديث ابراهيم عليه السلام:

«وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً* فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً».

فكلا هاتين الآيتين تقرّران أنّ العزلة عن الناس و الابتعاد عن المجتمع يتسبب في القرب من اللَّه تعالى و نيل المواهب الإلهية و نزول البركات و الرحمة من اللَّه تعالى على هذا الإنسان، و هذا يشير إلى أنّ العزلة ليست أمراً مذموماً و حسب، بل مطلوبة أيضاً في دائرة المفاهيم القرآنية.

طريق الجمع بين الآيات و الروايات:

و لكن بالنظر الدقيق إلى متون الآيات و الروايات الشريفة يتبيّن جيداً أنّ مسألة العزلة و الانزواء عن الناس تكون بصورة إستثنائية و في شرائط اجتماعية خاصة، و من المعلوم بالنسبة إلى أصحاب الكهف أنّهم كانوا يعيشون في أجواء اجتماعية كافرة و فاسدة و كانوا يعيشون الخوف من الحكومة الغاشمة في ذلك الزمان، فلم يكن لديهم طريق سوى الهروب و الابتعاد عن ديارهم و مدنهم و اللّجوء إلى الكهف في الجبال البعيدة.

______________________________

(1). غرر الحكم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 411

و بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام أيضاً نجد هذه الحالة الاستثنائية، فقد رأينا أنّ إبراهيم عليه السلام سعى بجديّة في خط التصدّي لقوى الانحراف و

الباطل و تبليغ الرسالة الإلهية بين الوثنيين، و لكن عند ما رأى عدم التأثير و عاش حالة الخطر على نفسه فعند ذلك أمر بالهجرة و اعتزال هؤلاء الناس.

و من البديهي أنّ الإنسان في مثل هذه الظروف الحساسة ليس أمامه سوى الهجرة و الاعتزال، و لكن هذا المعنى لا يكون أصلًا أساسياً في التعاليم الدينية بل هو الاستثناء يتعلّق بظروف خاصة.

و يمكننا الاستشهاد على هذا الجمع بين الروايات بالقرائن الكثيرة، فعند ما يختار الإمام الصادق عليه السلام العزلة عن الناس يذكر الدليل على ذلك و أنّ فساد الزمان و تغيّر الاخوان و عدم إمكان التعاون مع الناس هو السبب في اختيار هذا السلوك الاستثنائي.

و قرأنا في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين أنّ سلامة الدين تكمن في العزلة، فذلك يتعلّق بما إذا كانت المعاشرة مع الناس تهدّد إيمان الفرد و تعرّض دينه و علاقته باللَّه تعالى إلى الاهتزاز و الارتباك و الخطر.

و أحياناً يعيش بعض الأشخاص ظروفاً خاصة بهم حيث نجدهم يعيشون ضعف الإيمان أمام مظاهر الفساد، فلذلك قد يوحي هؤلاء الأشخاص بأن يعتزلوا المجتمع خوفاً عليهم من الابتلاء بمظاهر الفساد أيضاً كما هو المريض الذي يوصيه الطبيب بعدم الاختلاط مع الناس أو يوصي الطبيب الأفراد المسنّين بعدم الخروج الى الشارع خوفاً من التلّوث و التسمم، و معلوم أنّ مثل هذه التوصيات لا تشكل قاعدة عامّة و شاملة لجيمع الحالات و الأفراد بل تختصّ بحالات استثنائية للمرضى و المسنّين و الذين يعيشون الابتلاء بضعف القلب و خلل الجهاز التنفسي.

و عليه فلا يمكن تعميم هذه الحالات الاستثنائية إلى كل زمان و مكان بحيث يستكشف منها تعليمات كليّة في دائرة المفاهيم الإسلامية، و عند ما نرى أنّ الإمام الصادق

يوصي أحد أصحابه باعتزال الناس و أن لا يخرج من البيت حذراً من الوقوع في الغيبة و الكذب

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 412

و الحسد و الرياء و المداهنة و أمثال ذلك، فهذا يدلّ على أنّ الظروف الاجتماعية في ذلك الوقت كانت على غير ما يرام، أو أنّ هذا الشخص يعيش ضعف الإيمان و التأثر بالنوازع النفسية و الذاتية.

و من مجموع ما تقدّم آنفاً يمكننا الخروج بالنتيجة التالية:

إنّ الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يأنس بالآخرين و لكن بالرغم من ذلك فإنّه يحتاج في كل يوم إلى ساعة أو عدّة ساعات للخلوة بربّه و الانس بمناجاته و خاصة في الساعات من الليل ليكرّس هذا الوقت للعبادة و المناجاة و الانفتاح على اللَّه تعالى كما هو حال السالكين إلى اللَّه و العرفاء الإسلاميين الذين يحرصون على الخلوة باللَّه تعالى و الارتباط معه من موقع الانس و العشق و التوكّل بحيث لا يرون غيره و لا يأنسون بغيره.

و أحياناً يتّخذ بعض الأشخاص سلوك الابتعاد عن الناس من موقع الاعتراض على فساد الحال، و يكون ذلك أحد الطرق المشروعة للنهي عن المنكر و التصدّي للمفاسد الاجتماعية حيث يتسبب هذا السلوك السلبي تجاه الناس أن يخلق فيهم صدمة توقظهم من غفلتهم كما قد يشاهد مثل هذه السلوكيات من بعض العلماء الذين تركوا مجتمعهم و هجروا الناس اعتراضاً على بعض ما رأوه من انحرافات في سلوك الناس، و لم تمض فترة حتى أحسّ الناس بحالهم و النقص الذي خلّفه رحيل هذا العالم فانتبهوا من سباتهم و توجّهوا إلى ذلك العالم و طلبوا منه الرجوع إليهم شريطة أن يصلحوا أعمالهم و يسلكوا جادّة الصواب، كل هذه الاستثناءات من القاعدة الأساسية تكاد تكون مقبولة

و معقولة في مقابل الأصل العام و هو ضرورة الاجتماع و المعاشرة مع الناس.

أسباب و نتائج الاجتماع و الانزواء:

إنّ الدافع الأصلي في سلوك الإنسان في حركة الحياة من موقع الاجتماع و المعاشرة مع الآخرين ينبع من طبع الإنسان، و لذلك قيل أنّ (الإنسان مدني بالطبع) كما يقول علماء الاجتماع، و عليه فإنّ العزلة لا تنسجم مع روح الإنسان المنفتحة على الآخرين، و كما يقول

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 413

علماء الاجتماع في مطالعاتهم و تجاربهم عن الأشخاص التاركين للدنيا و المجتمع أنّ حالة العزلة تخلف آثاراً سلبية على النفس البشرية و تؤدّي بالإنسان إلى أن يعيش اليأس و الكآبة المزمنة و التوهّمات الضبابية و قد يورثه هذا الحال الكثير من الاختلالات العقلية أيضاً.

و لهذا السبب فإنّ أحد أشدّ أنواع التعذيب للإنسان هو السجن الانفرادي الذي لا ينبغي استمراره مدّة طويلة بأيّة صورة، لأنّ ذلك يؤدّي به حتماً إلى حالة نفسية من الإرتباك و المرض النفسي إلّا أن يكون له روح عرفانية قويّة فيأنس باللَّه تعالى و ينقطع عن كل شي ء إلّا بالعلاقة مع ربّه و خالقه.

و طبعاً فإنّ حياة الإنسان الاجتماعية لا تنبع من طبيعة الإنسان فقط، بل إنّ عقل الإنسان أيضاً يقوده إلى الحياة المشتركة من حيث إنّ الإنسان لا يمكنه أن يسير في طريق التكامل و الرقي و الحضارة إلّا بالحياة الاجتماعية و التفاعل المشترك مع الآخرين و الاستفادة من علومهم البشرية في طريق الرقي و التقدّم و الحضارة الكبيرة و الوصول إلى قمة الترقي و التكامل.

و بشكل عام يمكن القول أنّ الانفراد و العزلة و الانزواء عن المجتمع بإمكانه أن يكون مصدراً للكثير من المفاسد و الانحرافات في دائرة السلوك البشري و من ذلك:

1- إنّ الكثير

من الانحرافات الفكريّة و الذوقية و سوء الأخلاق تنبع من الانزواء و العزلة، و لهذا فإنّ الأفراد الذين يعيشون العزلة غالباً نجدهم يعيشون سوء الأخلاق و اللّجاجة و الغرور (و طبعاً فإنّ هذا الأصل له استثناءات أيضاً كما هو حال الاصول الاخرى).

2- و من الآثار السلبية الاخرى للعزلة و الانزواء هو حالة العجب التي تسيطر على الإنسان، لأنّ الإنسان يعيش حب الذات غالباً فيحبّ متعلّقاته بشدّة، و كلما انخفضت علاقته مع الآخرين و لم يشاهد كمالاتهم و فضائلهم و بالتالي عُدم الميزان الذي يوزن به كمالاته الذاتية فإنّ ذلك يتسبب في أن يرى نفسه أعلى من الآخرين و أفضل منهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 414

و لهذا السبب نلاحظ كثيراً من الأشخاص الذين يعيشون العزلة و الانفراد، أنّهم يدّعون إدعاءات كبيرة عن أنفسهم أكبر من حجمهم الحقيقي و أحياناً تكون إدعاءاتهم عجيبة تحكي بوضوح أن هذا الإنسان غارق في الوهم و الخيال و لا يعيش الواقع و متطلباته.

و لكن عند ما يعيش الإنسان الاختلاط مع الناس و يعاشر أفراد المجتمع فسوف يرى غالباً أشخاصاً أفضل منه و أعلم و أطهر، و على الأقل يرى من هو مثله في الفضل و العلم، و لهذا فسوف يبتعد عن عالم الخيال و يتجنب الإدعاءات الجوفاء و الشخصية الطوباوية التي لا تلامس الواقع.

3- و أحد الآثار السلبية الاخرى للعزلة و الانزواء سوء الظن بالناس حتى بأقرب المقربين منه، و العجيب أنّ سوء الظن يورث بدوره العزلة عن الناس كذلك، فكل منهما علّة و معلول للآخر و يتسبب في تعميق سوء الظن في جميع الناس و يتصور أنّهم حقودين و حسودين و أنانيين، و لكن عند ما يدخل إلى المجتمع و

يعاشر الناس و يجد فيهم الأصدقاء الجيدين، فسوف يدرك سريعاً أنّ جميع تلك التصوّرات السلبية عن الناس لا حقيقة لها على مستوى الواقع و العمل.

4- الغفلة عن عيوب الذات، فالإنسان و بسبب حبّه لذاته لا يرى عيوبه عادة، بل يرى عيوبه أحياناً امتيازات و حسنات و عناصر قوة في شخصيته، الحقيقة أنّ الإنسان يجب أن يرى عيوبه في مرآة الآخرين و يجلس لينظر إلى حكمهم عليه و يستمع إلى انتقاداتهم و خاصة فيما لو كانوا من المجاهدين، بل قد يرى الإنسان عيوبه و نقاط ضعفه في مرآة الحاقدين و المعاندين بصورة أفضل، لأنّهم يتحرّكون جاهدين للعثور على نقاط الضعف في شخصية الطرف الآخر و تفاصيل عيوبه الجزئية، و بهذا يحرم الشخص المنزوي من هذه المزايا التي تكشف عن وجهه الحقيقي.

5- الابتعاد عن تجارب الآخرين و الحرمان من الاستفادة من أفكارهم و عقولهم من شأنه تحديد فكر الإنسان و عقله و اقتصار حركة الفكر على امور جزئية و ضيقة، و لكن إذا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 415

تعامل مع الآخرين و انفتح على الناس و لا سيما أصحاب النظر و أرباب الفكر فسوف ينفتح أمامه بحر من العلم و التجربة و سيجد ضالته في ذلك و يكون بإمكانه حل مشكلاته بمعونة هذه العلوم و التجارب.

إنّ أحد أسرار النهضة الحضارية العلمية الحديثة التي يشهدها العالم المعاصر هو تشكيل المؤتمرات و المجلس و الهيئات العلمية بحيث يجتمع فيها أصحاب الفكر و النظر من مختلف مناطق المعمورة في كل عام، و أحياناً في كل شهر، و يتباحثون في مشاكلهم العلمية و منتوجاتهم الفكرية في هذه المؤتمرات و يتم بذلك انتقال العلوم و تبادل المعارف بين البشر، و أحياناً تقوم بهذه

المهمّة بعض الإذاعات و قنوات التلفزيون أيضاً.

و بكلمة واحدة: إنّ بركات و آثار الاجتماع الإيجابية و معطياته الكثيرة أكثر من أن تحصى في هذا المختصر، و ما ذكر آنفاً لا يمثل سوى جانباً منها، و هكذا بالنسبة لاضرار العزلة و الانزواء و الآثار السلبية المترتبة على الإبتعاد عن الناس و المجتمع.

إلهنا: لك الشكر و الثناء أن وفقتنا لبيان اصول المسائل الأخلاقية في دائرة المفاهيم القرآنية- لأول مرّة- و بيان العوامل و الأسباب و النتائج و الآثار للسلوكيات الأخلاقية في بعدها الإيجابي و السلبي، و طريق تقوية الفضائل الأخلاقية و كيفية التصدّي للرذائل الأخلاقية بمقدار وسعنا و افق تفكيرنا.

ربّنا: إننا نعلم أنّ بيان الفضائل و الرذائل الأخلاقية يحملنا مسؤولية ثقيلة في دائرة العمل بها و تجسيدها في سلوكياتنا و أنفسنا أولًا، فارزقنا القدرة و الإرادة للعمل بهذه المسؤولية الخطيرة و أعنا في هذا الطريق الصعب.

معبودنا: أنت تعلم أن النفس الامارة متمردة و عاصية و لو لا نصرك و معونتك في مجال تهذيب النفس فإننا عاجزون عن التصدّي لها و الوقوف أمام نوازعها و شهواتها، فنسألك بالخاصة من أوليائك و بالصالحين من عبادك أن لا تتركنا في مقابل عناصر الشر لوحدنا.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 416

ربّنا: نحن نعيش في زمان رحلت عنه القيم الإنسانية و الفضائل الأخلاقية و سادت في مجتمعاتنا البشرية سيل الرذائل و اندثرت فيه سنن الأنبياء و معالم سيرة الأولياء فامتلأت الأرض بالظلم و الجور، فانجز لنا ما وعدتنا من ظهور منقذ البشرية و مصلح العالم بقية اللَّه الأعظم الإمام المهدي عليه السلام و اجعلنا من أنصاره و أعوانه و المجاهدين بين يديه في الصف الأول.

(آمين يا ربّ العالمين)

نهاية الجزء الثالث

لكتاب: الأخلاق في

القرآن

آخر ذي القعدة 1421 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.