آلاء الرحمن في تفسير القرآن

اشارة

سرشناسه : بلاغي محمدجواد، 1933 - 1864

عنوان و نام پديدآور : آلاء الرحمن في تفسير القرآن المولف محمدجواد البلاغي تحقيق قسم الدراسات الاسلاميه - موسسه البعثه مشخصات نشر : قم موسسه البعثه مركز الطباعه و النشر، 1419ق = 1378.

مشخصات ظاهري : ج 2

شابك:964-309-269-0(دوره ؛ 964-309-269-0(دوره ؛ 964-309-269-0(دوره ؛ 964-309-269-0(دوره ؛ 964-309-270-4(ج 1) ؛ 964-309-271-2(ج 2)

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي يادداشت : كتابنامه موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنياد بعثت واحد تحقيقات اسلامي شناسه افزوده : بنياد بعثت مركز چاپ و نشر

رده بندي كنگره : BP98/ب 8آ7 1378

رده بندي ديويي: 297/179

شماره كتابشناسي ملي : م 78-8189

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

و له الحمد و هو المستعان و الصلاة و السلام على خيرته من خلقه محمد صلى اللّه عليه و آله سيد المرسلين و آله الطاهرين المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين (و بعد) ففي فجر سعادة البشر و تبلج صبح الهدى و رسالته. أشرق نور القرآن الكريم على العالم من أفق الوحي على الرسول الأمين الصادع بأمر ربه. فكان باعجازه الباهر حجة على وحيه و بفضائله الفائقة دليلا على فضله و بسناه الوضاح هاديا الى اتباعه. يعرّفك في كل باب من أبواب معارفه السامية انه تنزيل من ربّ العالمين. و لكن اختلاط اللسان و اختلاف الزمان و تشعب الأهواء و تضارب الآراء أثارت من دون أنواره غبارا و جعلت على البصائر من الجهل غشاوة. و قد أوجب اللّه على عباده أن ينصروا الحقيقة بالبيان و يجلوا غبار الشكوك بالحجة و يميطوا غشاوة الجهل بيد العلم الشافي.

و قد نهض جماعة لتفسيره و الإرشاد الى منهج فهمه. فآثرت و انا الأقل محمد جواد البلاغي ان أتطفل في هذا الشأن و أتقحم في هذا الميدان جاريا على ما تقتضيه أصول العلم متنكبا مالا حجة فيه من نقل الأقوال متحرّيا للاختصار مهما أمكن مستعينا باللّه و مستمدا من فضله و ما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت و اليه أنيب. و قد سميت الكتاب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) و جعلت للمقصود مقدمة فيها فصول و خاتمة

ص: 2

مقدمة

الفصل الأول: في اعجازه

اشارة

المعجز هو الذي يأتي به مدّعي النبوّة بعناية اللّه الخاصة خارقا للعادة و خارجا عن حدود القدرة البشرية و قوانين العلم و التعلم ليكون بذلك دليلا على صدق النبي و حجته في دعواه النبوة و دعوته

وجه شهادة المعجز

و دلالته على صدق النبيّ في دعواه و دعوته ليس إلّا انّ مدّعي النبوّة إذا كان ظاهر الصلاح موصوفا بالأمانة معروفا بصدق اللهجة و الاستقامة لا يخالف العقل في دعوته و أساسيّاتها لم يجز عقلا اظهار المعجز على يده إلّا إذا كان صادقا في دعوى النبوة و دعوتها. الا ترى انه لو كان مع صفاته المذكورة كاذبا في دعواه لكان اظهار المعجز على يده و تخصيص اللّه له بالعناية إغراء للناس بالجهل و توريطا لهم في متاهات الضلال. و هذا قبيح ممتنع على جلال اللّه و قدسه

توضيح ذلك

هو أنّ الناس بحسب فطرتهم التي لا تدنسها رذائل الأهواء و العصبية إذا ظهر لهم صلاح الشخص و صدقه و أمانته و استقامته فيما يعرفونه من أحواله و أطواره توسموا بباطنه الخير و انّ باطنه موافق لظاهره في الصلاح. و كلما زادت خبرتهم بصلاح ظاهره زاد وثوقهم بصلاح باطنه. إلا انه مهما يكن من ذلك فإنه لا يبلغ بهم مرتبة العلم و ثبات الاطمئنان بعصمته عن الكذب في دعواه و تبليغات دعوته فلا ينتظم تصديقهم له و لا يدوم انقيادهم إلى تبليغاته في دعوته. بل لا يزال اختلاج الشكوك يميل بهم يمينا و شمالا. لكن إذا خصته العناية الإلهية بكرامة المعجز و خارق العادة حصل العلم الثابت و اطمأنت النفوس السليمة بصدقه و عصمته في دعواه و ما يأتي به في دعوته. و يثبت اليقين و ينتظم امره بالنظر إلى أنه يمتنع على جلال اللّه و قدسه في مثل هذه المزلقة ان يظهر المعجز و عنايته الخاصة على يد الكاذب المدلس بصلاح ظاهره.

فإن اظهار المعجز حينئذ يكون مساعدة للمدلس على تدليسه و مشاركة له في اغوائه و إغراء للناس في الجهل الضار المهلك. و ذلك لما ذكرناه من مقتضى فطرة الناس السليمة. فالمعجز الشاهد بصدق النبي في دعواه و دعوته هو ما يقوم بما ذكرنا من الفائدة في مثل ما ذكرناه من المقام و الوجه

ص: 3

حكمة تنوع المعجز

و لا يخفى أنّ حصول الفائدة المذكورة من تنوّع المعجز المذكور يختلف كثيرا بسبب اختلاف الناس في أطوارهم و معارفهم و مألوفاتهم. فربّ خارق للعادة يعرف بعض الشعوب انه خارق للعادة لا يكون إلا بإرادة إلهية خاصة و يكون في بعض الشعوب معرضا للشك او الجحود لإعجازه و خرقه للعادة كان في عصر موسى النبي (علیه السلام) من الرائج بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عادية يجري عليها التعليم و التعلم. فكانوا يعرفون ما هو جار على نواميس هذه الصناعة و ما هو خارج عنها و عن حدود القدرة البشرية. و لأجل ذلك اقتضت الحكمة ان يحتج عليهم بمعجزة العصا التي ألقاها موسى (علیه السلام) أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون و يسحرون به الناس من الحبال و العصي ثم رجعت بعد ذلك عصا كحالها الأول و لم يبق لحبالهم و عصيهم عين و لا اثر فإنهم بسبب معرفتهم لحدود السحر عرفوا أن امر العصا خارج عن صناعة السحر و عن حدود القدرة البشرية و لذا آمن السحرة بأن أمرها من اللّه تعالى و كانت فلسطين و سوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان و فيها منهم نزلاء كثيرون. فكان للطبّ فيها رواج ظاهر و كان في الفصل الثالث عشر و الرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة تعليم طويل في تطهير القرع و البرص و القوبا بنحو يختص بروحانية الكهنوت و يوهم انه من بركات الكهنة و الآثار الرّوحية و إن كان من نحو الحجر الصحي فلأجل ذلك كانت معجزات المسيح بشفاء الأبرص و الأعمى و الأكمه مما يعرفون انه خارج عن حدود الطب و مزاعم الكهنة و قدرة البشر و من خارق العادة التي لا يكون إلا بقدرة اللّه تعالى

حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن

و أما العرب الذين ابتدأت بهم دعوة الإسلام في حكمة سيرها في الإصلاح فقد كانت معارفهم نوعا منحصرة بالأدب العربي و كانوا خالين من سائر العلوم و الصنائع الخاضعة للعلم و التعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العادية بحسب موازين العلم و التعلم و أسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها للباحث و الممارس و المتعلم و المجرّب و المكتشف و الداخلة تحت سيطرة العلم و التعلم. فلا يعرفون من الأعمال ما هو خارج عن هذه الحدود و خارق للعادة و لا يكون

ص: 4

إلا بإعجاز إلهيّ. فكل عمل معجز من غير الأدب العربي بمجرد مشاهدتهم له او سماعهم به يسبق الى أذهانهم و يستحكم في حسبانهم انه من السحر او من مهارة اهل البلاد الأجنبية في الصنائع و تقدّمهم في العلوم و اسرار الطبيعيات و قوانينها. و لا يذعنون بأنه معجز إلهي بل يسوقهم شك الجهل الى الجحود خصوصا إذا كان ذلك يحتج به النبي على دعوى و دعوة ثقيلتين على ضلالتهم باهظتين لعاداتهم الوحشية و أهواء الجهل نعم برعوا بالأدب العربي و بلاغة الكلام التي تقدّموا فيها تقدّما باهرا حتى قد زهى في عصر الدعوة روضه الخميل و أينعت حدائقه وفاق مجده و قرّروا له المواسم و عقدوا المحافل للمفاخرة بالرقيّ فيه. فرقت بينهم صناعته إلى أوج مجدها و زهرت بأجمل مظاهرها و أحاطوا بأطرافها و حدّدوا مقدورها. فعاد المرء منهم جدّ خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشرية و ما هو خارج عنها و لا يصدر على لسان بشر ابتداء إلا بعناية إلهية خاصة خارقة للعادة البشرية لحكمة إلهية شريفة و لذا اقتضت الحكمة الإلهية «و للّه الحكمة البالغة» ان يكون القرآن الكريم هو المعجز المعنون و الذي عليه المدار في الحجة لرسالة خاتم النبيين و صفوة المرسلين صلوات اللّه عليهم أجمعين. فانه يكون حجة على العرب باعجازه ببلاغته و بعجزهم عن الإتيان بمثله او بسورة من مثله. و بخضوعهم لاعجازه و هم الخبراء في ذلك يكون ايضا حجة على غيرهم في ذلك. و انه هو الذي يدخل في حكمة المعجز و الاعجاز في شمول الدّعوة للعرب و ابتدائها بهم بحسب سيرها الطبيعي على الحكمة و به تتمّ فائدة المعجز على وجهها

امتيازه عن غيره من المعجزات

مضافا الى انه امتاز عن غيره من المعجزات وفاق عليها بأكبر الأمور الجوهرية في شؤون النبوّة و الرّسالة و دعوتها «فمن ذلك» انه باق مدى السنين ممثل بصورته و مادّته لكل من يريد أن يطلع عليه و يمارس أمره و ينظر في أمره و يعرف كنهه و حقيقته. فهو باد في كل آن و مكان لكل من يطلب الحجة على النبوة و الرسالة و يريد النظر في حقيقة معجزها الشاهد لصدقها. ماثل لكل من يريد النظر في الحقائق و لا تحتاج معرفة حقيقته و وجه اعجازه الى أساطير النقل و مماراة قال او قيل. فلا يحتمل أمره. إنه دبرت دعواه بليل. و لا يستراب من أمره باحتمال التمويه

ص: 5

بل ينادي هو بنفسه في كل زمان و مكان (هذا جناي و خياره فيه) و كله خيار فائق متفوق «و من ذلك» انه بنفسه و لسانه و صريح بيانه قد تكفل بالاثبات لجميع المقدمات التي تنتظم منها الحجة على الرسالة الخاصة و شهادة اعجازه لها. و لم يوكل أمر ذلك الى غيره مما يختلج فيه الرّيب و تعرض فيه الشبهات و تطول فيه مسافة الاحتجاج و تكثر صعوباته: فالتفت و اعرف ذلك من أمور (الأول) انه تكفل ببيان دعوى النبي للنبوّة و الرّسالة كما في سائر النبوّات (الثاني) انه تكفل في صراحة بيانه بالشهادة للنبوّة و الرّسالة فلم تبق حاجة لدلالة العقل و دفع الشبهات عنها (الثالث) انه تكفل في صراحته المتكررة ببيانه لكمالات مدّعي رسالته و أطرى بصلاحه و أخلاقه الفائقة كما هو معروف. فمهد المقدمات اللازمة في البيان و صورة الاحتجاج بانه لو كان كاذبا لكان ظهور المعجزة له من الإغراء بالجهل القبيح الممتنع لقبحه على جلال اللّه و قدسه تعالى شأنه. و إليك فاسمع بعض ما جاء في القرآن في بيان هذه الأمور الثلاثة. ففي سورة الأعراف «157: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً و سورة النجم المكية من الآية الثانية الى الخامسة ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى و في سورة الفتح «29: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ و في سورة الأحزاب «40: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ و في أوائل سورة القلم المكية ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ الى قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ و قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ و في سورة الأعراف «156: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ و في سورة الأحزاب «44: و 45 يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (الأمر الرابع) انه تكفل بنفسه دفع الموانع عن الرسالة و النبوّة إذ بين مواد الدّعوة و أساسياتها و معارفها و قوانينها الجارية بأجمعها على المعقول من عرفانيها و أخلاقيها و اجتماعيها و سياسيها فلا يوجد فيها ما يخالف المعقول ليكون مانعا عن النبوّة و في سورة الاسراء المكية «9: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ و دونك القرآن الكريم و حقق و تبصر و تنوّر فيما تضمنه من هذه المواد الشريفة إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ

ص: 6

(الأمر الخامس) انه زاد على كونه معجزا بنفسه بأن كرّر النداء و المصارحة في الاحتجاج باعجازه و تحدّي الناس و أعلن بالحجة و هتف بهم هتافا مكررا مؤكدا بأن يعارضوه لو لم يكن معجزا و يأتوا بمثله أو بعشر سور أو سورة واحدة من مثله ان كان مما تناله قدرة البشر المحدودة و قد نادى بقرار الإنصاف و المماشاة و جعل لهم ان أتوا بعشر سور او سورة من مثله أن تسقط عنهم هذه الدعوة و يستريحوا من ثقلها الباهظ لضلالهم و يدعوا من يستطيعون عقلا ان يدعوه من دون اللّه لو استطاعوا أو وجدوا إلى ذلك من المعقول سبيلا. جعل لهم ذلك من باب المماشاة و المجاراة في الحجة تعليقا على المستحيل و لهم في ذلك المهلة و الأناة ليعدّوا عدّتهم في المظاهرة و التعاون ففي سورة هود المكية «16: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 17: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ و في سورة يونس المكية «39: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و في سورة البقرة «21: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما

تدعونهم و تصفونهم به «22» فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي و في سورة الاسراء المكية «90: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً هذا و قد مضت لهم عدة أعوام و دعوة الرسالة و الإعذار و الإنذار و الاحتجاج بإعجاز القرآن دائمة عليهم و هم في أشد الضجر من ذلك و الكراهية له و الخوف من عاقبته. و في أشد التألم من آثار الدعوة و تقدّمها و ظهورها. و في أشد الرغبة في أهوائهم و عاداتهم الوحشية و رئاساتهم و العكوف على معبوداتهم و مع ذلك لم يستطيعوا أن يعارضوا شيئا من القرآن الكريم و لو بأن يأتوا بسورة من مثله لكي تظهر حجتهم و تسقط عنهم حجة الرسول و يستريحوا من عناهم و قلقهم و آلامهم من دعوته التي شتتت جامعتهم الأوثانية و هدّدت رئاساتهم الوحشية و تشريعاتهم الأهوائية و فرّقت بين الأب منهم و بنيه و الأخ و أخيه و الزوج و زوجه و القريب و قريبه و كدّرت صفائهم و نافرت بين عواطفهم. و قد سامعهم في دعوته إصلاحا و خضوعا لم يكونوا يحتسبونه و لم يجدوا لذلك حيلة إلا الجحود السخيف و العناد الشديد و قساوة الاضطهاد و الاستشفاع بأبي طالب في ترك الرسول لدعوته أو تمرّدهم بالمثابرة الوحشية فاقتحموا فيها الأهوال و تجشموا المصاعب و قتال الأقارب و الاخوان و مقاساة الشدائد و ذلة المغلوبية. فلما ذا

ص: 7

لم يتظاهروا بأجمعهم عشر سنوات او اكثر و يأتوا بشي ء من مثل القرآن الكريم و لو سورة واحدة و يفاخروا الرسول (صلی الله علیه و آله) و يحاكموه في المواسم و المحافل التي أعدّوها لمثل ذلك فتكون لهم الحجة و الانتصار في الحكومة و قرار النصفة و ينادوا بالغلبة و يستريحوا من عناء هذه الدعوة و تهديدها لضلالهم. فلما ذا لم يفعلوا ذلك و القرآن و الرسول قد دعواهم إلى ذلك تعجيزا و هم هم و ينابيع فصاحتهم و بلاغتهم غزيرة. و غرائزهم في الأدب العربي متدفقة. و قرائحهم سيالة و مواد القرآن في مفرداته و تراكيبه من لغتهم. و أسلوبه من نحو صناعتهم التي لهم فيها الممارسة التامة و المهارة الفائقة و الرّقي المعروف و للّه الحجة البالغة و لو كان هناك أقلّ قليل من المعارضة و الإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن لرفعه الضلال نارا على علم. و احتفلت فيه ألوف الألوف من أضداد الإسلام و القرآن. و لسجلته دواوينهم في أقطار الأرض و أجيال الأمم. و تلقوه بأحسن ابتهاج. و صالوا به أكبر صولة لأنه الفيصل السلمي و الحجة الأدبية التي ما فوقها حجة لهم في الجدل و البرهان. و لكن هل سمعت أن أحدا نبس في ذلك ببنت شفة أو أجري فيه قلم. و إن أمر ذلك بمعزل عن داخلية الإسلام لكي يقال انه أخفته شوكة المسلمين او دسائس تواطيهم. بل إن بذرته و مغرسه و سوره و حفظه و حياطته ترجع إلى ألوف الألوف في كل جيل من أنصاره أضداد الإسلام و القرآن سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها أو بعد زمان الرسول (صلی الله علیه و آله). ألا ترى انه بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في جزيرة العرب بقي في اليمن و سوريا و العراق كثير من اليهود و النصارى و أمثالهم و هم الألوف أو ألوف الألوف من العرب أو من يعرف اللغة العربية و يتكلم بها و يتأدب بآدابها. و أضف إلى ذلك المنافقين الذين كانوا يكيدون الإسلام جهد وسعهم في عصر الرسول و بعده. فهل يخفي هؤلاء ما هو ضالّتهم المنشودة. و سلاح سطوتهم. و عدّة صولتهم و أقطع حجة لهم و اكبر مدافع عن أديانهم. فإنه لا عطر بعد عرس و لكن ماذا يصنعون بالعدم. و عدم القدرة من المتأخر على الاختلاق.

و مما يشهد لما ذكرناه و يجلو تمثيله لبداهة الاعتبار أن اليد الأثيمة غلبت بسنوح الفرصة حتى على المحدثين و المفسرين فدّست في كثير من كتب التفسير خرافة الغرانيق و خرافة سبب النزول في آية التمني من سورة الحج كما نجده في اكثر التفاسير. فلوّثت قدس رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بما شاءت و سنحت به لها الفرصة. و كذا قدس جميع الأنبياء و المرسلين في

ص: 8

حديثهم. و تلاوتهم بحيث لا يبقى بهم ادنى وثوق في ذلك (1) هذا في وجهة الاعجاز الذي تقوم به الحجة على العرب. و ان للقرآن المجيد ايضا وجوها من الإعجاز مما يشترك في معرفتها كل بشر ذي رشد إذا اطلع عليها. و هي عديدة نشيرا إلى بعض منها في هذا المختصر

اعجازه من وجهة التاريخ

لا نقول بذلك بمحض اخباره عن الحوادث الماضية و الأمم الخالية و إن كان رسول اللّه الذي جاء به لا يقرأ و لا يكتب و لم يدخل مدرسة و لم يمارس تعلما. كما هو المعلوم من تاريخ حياته (صلی الله علیه و آله). فإنه يمكن ان يقال ان هذا الإخبار المذكور ممكن في العادة لنوع البشر و ان كان معرضا للعثرات التي لا تقال. بل نقول ان القرآن الكريم اشترك في تاريخه في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود و النصارى على انها كتاب اللّه المنزل على رسوله موسى فأوردت هذه التوراة تلك القصص و هي مملوءة من الخرافات أو الكفر أو عدم الانتظام الذي تشابه فيه كلام المبتلى بالبرسام: فمن ذلك قصة آدم في نهي اللّه له عن الأكل من الشجرة و ما فيها من الخرافات و الكفر بنسبة الكذب و الخداع إلى اللّه جلّ و علا و سائر شؤون القصة على ما جاء في الفصل الثالث من سفر التكوين: و من ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر منه من شك ابراهيم في وعد اللّه له بإعطائه الأرض في سوريا و من ذكر العلامة في ذلك: و من ذلك ما جاء في الفصل الثامن عشر و التاسع عشر في مجي ء الملائكة إلى ابراهيم بالبشرى باسحاق و اخباره بأمر هلاك قوم لوط و من حكاية ذهابهم إلى لوط و خطابهم معه. و من ذلك ما جاء في الفصل الثالث من سفر الخروج في خطاب اللّه لموسى من الشجرة و في أواخره ما حاصله ان اللّه جل شأنه افتتح الرسالة لموسى بالتعليم بالكذب: و من ذلك ما جاء في الفصل الثاني و الثلاثين في سفر الخروج في ان هارون هو الذي عمل العجل ليكون إلها لبني إسرائيل و دعى لعبادته و بنى له رسوم العبادة فانظر إلى هذه القصص في مواردها المذكورة من التوراة الرائجة- و القرآن الكريم أورد القصة الأولى في سورتي الأعراف و طه- و الثانية في أواخر سورة البقرة- و الثالثة في سورتي هود و الذاريات- و الرابعة في سور طه و النمل و القصص-

ص: 9


1- فانظر في الجزء الأول من كتاب الهدى في صفحة 123 128 و الجزء الاول من الرحلة المدرسية في صفحة 37 و 38.

و الخامسة في سورتي طه و الأعراف فجاءت هذه القصص بكرامة الوحي الإلهي منزّهة عن كل خرافة و كفر و عن كل ما ينافي قدس اللّه و قدس أنبيائه. جارية على المعقول. منتظمة الحجة.

شريفة البيان. و ذلك مما يقيم الحجة و يوجب اليقين بأنه لا يكون إلا من وحي اللّه و لا يكون من بشر بما هو بشر مثل رسول اللّه الذي لم يمارس تعلما في المعارف الإلهية و لم يتخرج عن مدرسة و لم يتربّ إلّا بين اعراب وحشيين و ثنيين على أوحش جانب من الوحشية و الوثنية.

بل لو مارس جميع التعاليم و تخرج من جميع الكليات لما امكنه ان يتنزّه و ينزه معارفه و كلامه من أمثال هذه الخرافات الكفرية.

لم يكن في ذلك العصر و ما قبله إلّا تعاليم اليهود و النصارى. و أساسها في الديانة مبنيّ على ما أشرنا اليه من خرافات التوراة الرائجة فهم عكوف عليها في عبادتهم و مواسمهم و تعاليمهم و مدارسهم. أو تعاليم الوثنيين و منهم قومه. تلك التعاليم الجهلية الخاسئة. او تعاليم المجوس المتشعبة من كلا التعليمين المذكورين فإنه صلوات اللّه عليه لو كان أخذ القصص المذكورة من ذات التوراة الرائجة بالإتقان أو من الروحانيين المسيطرين على تعليمها و أراد أن يتقوّل بها على الوحي تزلفا أو مخادعة لهم ليستجيبوا إلى اتباع دعوته لأتى بها على ما في التوراة من الخرافة و الكفر. و لو كان أخذها سطحيا من أفواه الرجال كما يأخذ الأميّ من ألسن العامة لزاد عليها أضعاف خرافاتها و كفرها كما تستلزمه و توجبه أميته و تربيته و جهل قومه و بلاده و وحشيتهم و وثنيتهم لكن (إن هو إلا وحي يوحى) إلى رسول لا تأخذه في تبليغ الحقائق لومة لائم أو مخالفة أمم. فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من الرحلة المدرسية(1) و على هذا النحو يجري الكلام فيما ذكر في العهد القديم الذي يعدّه أهل الكتاب من الوحي الصادق حيث نسب إلى أيوب أشنع الاعتراض على اللّه و الجزع من قضائه و نسبة الظلم اليه جلّ و علا و طلب المحاكمة معه حتى انه صار يوبخ واعظيه و الناهين له عن هذه الجرأة و يسفه رأيهم. و نسب الزنا إلى داود بأشنع وجه. و نسب إلى سليمان انه تمادى في تأييد الشرك باللّه و العبادة الأوثانية و كثر منه بناء المباني لعبادة الأوثان. و قد كثرت مصائب الأناجيل في القدح بقدس المسيح مع صغر حجمها و قلة مكتوبها فنسبت الى قدسه شرب الخمر و تكرّر الكذب و الأحوال المنافية للعفة و انتهاره لوالدته و قدحه في قداستها و القول بتعدد

ص: 10


1- (1) صحيفة 7 11 و 41 و 42 و 43 46 و 47 و 58. و 30 34.

الآلهة و الأرباب و غير ذلك مما سنشير اليه. و جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بوحي قرآنه منزّها لهؤلاء الأنبياء و مبرّءا لهم عن هذه الوصمات الشنيعة فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى(1) و على هذا النحو يجري الكلام ايضا فيما ذكر في التوراة و العهد القديم من القصص الخرافية المنافية لجلال اللّه و قدس أنبيائه و شرفهم و شرف عائلاتهم كما في خرافات اختباء آدم عن اللّه. و برج بابل. و شأن لوط مع الخمر و ابنتيه و المصارعة مع يعقوب و مخادعة يعقوب لأبيه و تكرر كذبه عليه. و قصة يهوذا مع كنته ثامار و ولادة سبط يهوذا الذي منهم داود و سليمان و كثير من الأنبياء. و قصة امنون بن داود و ابن عمه مع أخته ثامار و ملاعب شمشون. و مشورة اللّه جل شأنه مع جند السماء في إغواء آخاب ملك إسرائيل(2) و كثير من ذلك و لأجل ان القرآن الكريم كلام اللّه القدّوس و وحيه لم يذكر شيئا من ذلك و لو كان من اختلاق رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كما يزعم الظالمون لامتنع في العادة على البشرية و أغراضها و تزلفاتها أن لا يذكر شيئا من ذلك مع ما فيها من القعقعة التاريخية. و ان البشر الذي يتطلب قصص العهدين و يذكرها في كلامه و أغراضه لا يفوته ما أشرنا اليه

اعجازه في وجهة الاحتجاج

نهض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لتعليم البشر و تنوير بصائرهم في عصر الظلمات و الجهل و العمى. و لإرشادهم الى حقائق المعارف التي حجبتها ظلمات الضلال المتراكمة في تلك العصور المظلمة تلك الظلمات التي استولت على ارجاء العالم بحيث لم تدع أن ينقدح من نور الحق للعقول المغلوبة أقل بصيص فجاء (صلی الله علیه و آله) في قرآنه بكثير غزير من الحجج الساطعة على أهمّ المعارف و أشرفها. تلك الحجج الجارية على أحسن نهج و أعمه نفعا في الاحتجاج و التعليم.

جاء بها على ارقى نحو يستلفت العامي الى نور الغريزة الفطرية فيمثله لشعوره. و الى سناء البديهيات فيجلوه لإدراكه. و يجري بمؤدى تلك الحجج مع الفيلاسوف في قوانين المنطق و تنظيم قياساته على أساسيات المعقول. فاحتجّ على وجود الإله و لوازم إلهيته. و علمه و قدرته. و توحيده.

ص: 11


1- (1) صفحة 100 110 و 112 116 و 227 232.
2- (2) انظر إلى ذلك في سفر (لتكوين في الاصحاح الثالث. و الحادي عشر. و التاسع عشر. و التاسع و العشرين. و الثامن و الثلاثين. و في الثالث عشر من صموئيل الثاني. و الرابع عشر إلى السابع عشر من سفر القضاة. و الثاني و العشرين من الملوك الأول. و الثامن عشر من الأيام الثاني

و على المعاد الجسماني. و على ان القرآن وحي إلهي. و على صدق الرسول في دعوته فلا يكاد يوجد في شي ء من هذه الحجج خلل عرفاني او وهن أدبي او شائبة اختلاف او شائنة من تناقض. فإذا فرضت أي بشر يكون في ذلك العصر المظلم و مثلت نشأته و تربيته بين الأعراب الوحشيين الوثنيين في تلك البلاد الماحلة من كل تعليم و القاحلة من كل فضيلة في المعارف و انه لم يتعاط تعلما و لا تأدّبا على معلم و لا قراءة مكتوب و لا دراسة كتاب علمت انه يمتنع عليه في العادة بما هو بشر و بلا وحي إلهي اليه أن يأتي ببيان المعارف الصحيحة و المناقضة للجهل العام في عصره و بيئته و قومه و يحتج عليها بتلك الحجج النيرة القيمة على ذلك المنهاج الممتاز بفضيلته و إن شئت أن تزداد بصيرة فيما ذكرناه فانظر الى ما في الأناجيل مما نسبته الى احتجاجات المسيح و حاشا قدسه منه و مما ذكرته من الحجج الساقطة الفاسدة على أمور أكثرها ضلال او غلط كالاحتجاج على تعدد الآلهة و على تعدد الأرباب. و على المنع من الطلاق. و انظر الى ما اشتملت عليه من الغلط و التحريف. نعم ذكرت الاحتجاج على القيامة من الأموات و لكن ماذا جاءت به من الغلط و الخبط في الحجة و احوال القيامة. و إن شئت الاطلاع على شي ء من ذلك فانظر في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 112- 116 و 197 و 205 و الجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة 73 و 32- 39.

اعجازه من وجهة الاستقامة و السلامة من الاختلاف و التناقص

قد خاض القرآن الكريم في فنون المعارف و الإصلاح مما يتخصص فيه الممتازون بالرقي في أبواب الفلسفة و السياسة و الخطابة و الإصلاح من علم اللاهوت او الأخلاق او التشريع المدني و التنظيم الإداري او الفن الحربي. او البشرى و الترغيب بالجزاء او الإنذار و التهديد بالنكال.

او الحجج و الأمثال. او تذكرة المواعظ و العبر. و جرى من ذلك في الميادين الشريفة بأحسن أسلوب و أقوم منهج و بلغ في جميع ذلك أكرم الغايات و أعلاها في الرقي و هو يكرر بحسب الحكمة كثيرا من قصصه و مقاصده و في جميع ذلك لم تشنه زلة اختلاف و لا عثرة تناقض و لا وهن اضطراب و لا سقوط حجة و لا فساد مضمون و لا سخافة بيان. و ها هو بارز في جميع العالم لكل من يريد الهدى و الفحص و التدبر ينادي بابهة الافتخار و جمال السداد و شوكة الاستظهار إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ(1)

ص: 12


1- (1) سورة الاسراء: 9

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً(1) منتشرا في أبوابه و مقاصده. فهل يمكن في العادة أن يكون كل هذا من بشر قد ذكرنا لك عصره و نشأته و تربيته و بلاده و قومه و جهلهم الوحشي الوثني و لك العبرة بكتب العهدين و هي التي منذ قرون عديدة يصفق لاستحسانها اكثر العالم المفتخر بالعلم و التمدّن و ينسبونها بكمال الاحتفال الى كرامة الوحي- فكم و كم يوجد فيها من الوهن و السقوط و الاختلاف و التناقض و قد ذكر شي ء من ذلك في كتب اظهار الحق و الهدى.

و الرحلة المدرسية. و اعتبر ايضا بأن كل واحد من الأناجيل لا يزيد على صحيفة اسبوعية و قد كثر فيها الخبط و التناقض و الاختلاف الى حد مهول مدهش و قد ذكر شي ء منه في الجزء الاول من كتاب الهدى صفحة 196- 234 و ايضا ان الأناجيل و كتب العهد الجديد مؤسسة على ان كتب العهدين الرائجة هي كتب وحي إلهي صحيحة. إذن فاعتبر بأنه كم وقع الاختلاف و التناقض بين الأناجيل و العهد الجديد و بين العهد القديم و قد ذكر شي ء مما ذكرنا في الجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة 132- 18

اعجازه في وجهة التشريع العادل و نظام المدنية

قدّر رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بشرا عاديا في مثل ما ذكرناه مرارا في عصره و نشأته و تربيته و بلاده و قومه و جهلهم و عاداتهم الوحشية. ثم انظر هل يمكن في العادة لمثل هذا البشر إذا لم يكن موحى اليه ان يأتي من عنده و من بشريته بمثل ما أتى به في القرآن الكريم من الشريعة الحقوقية العادلة و القوانين القيمة و الأنظمة المعقولة الجارية بأجمعها على ما هو الصالح للبشر في المدنية و الاجتماع و السياسة و الحرب و مقدماتها و نتائجها. و جرت في عنايتها بالإصلاح من ادارة جميع العالم إلى الإدارة العائلية و البيتية و الزوجية بل و إلى شؤون الكاتب و الشاهد كما في سورة البقرة آية 282 فمنعت فيها من مضارة الكاتب و الشاهد و نهت عن ان يحملا من أجل الكتابة و الشهادة و أدائها ضرر المشقة و العناء و تضييع وقت اكثر من الوقت الطبيعي لمحض الأداء. و في ذلك عبرة لأولي الألباب. و إليك فانظر ما في القرآن الكريم من الشرائع و القوانين العامة و الخاصة و اعتبر بكرامتها و مجدها في التشريع الفائق و الإصلاح الحميد. و لا تحتاج معرفة مجدها و كرامتها إلى المقايسة و الاعتبار بشرائع قطره و قومه تلك الشرائع الجائرة الوحشية الوثنية. نعم تزداد بصيرة إذا نظرت إلى شرائع التوراة الرائجة التي يعتبرها اليهود

ص: 13


1- (1) سورة النساء: 84.

و النصارى في اجيالهم في اكثر من خمسة و عشرين قرنا و يعدونها كتاب وحي إلهي مقدس فانظر فيما فيها من شريعة تقديس هارون و بنيه و تفصيل ثيابهم و أوضاعها. و شريعة امرأة الأخ الميت. و تفلتها و ولدها البكر من الأخ الثاني. و شريعة من ادعى زوجها انه لم يجد لها عذرة. و شريعة قتل الأطفال و النساء من البلاد المفتوحة بالحرب فإنك تعرف ان هذه الشرائع لا تكون إلا من بشر سخيف قاس و تزداد بصيرة بمجد القرآن الشريف في تشريعه و إنه لا يكون الا من وحي إلهي و قد أشير الى شي ء مما ذكرنا في أواخر الجزء الثاني من كتاب الهدى صفحة 280- 292 و الجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة 29 و 79- 82 و انظر إلى العهد الجديد و الغائه لنظام المدنية و الأخذ أمام الظلم و العدوان بحيث ترك العالم بلا نظام راذع و لا شريعة تأديب عادلة فإنك تزداد بصيرة بأن المتقول على الوحي في أمر التشريع لا بد له من ان يسقط سقطة تشوه التاريخ و تئنّ منها الحقائق جزعا. فاعرف اذن اعجاز القرآن في تشريعه الممتاز بفضيلة الوحي الإلهي

اعجازه من وجهة الأخلاق

و إذا نظرت إلى ظلمات العصر و القطر و التربية و شيوع الجهل في الأمة و سوء الأعمال و عدم الدراسة في العلم أو التخرج في الفضيلة على الحكماء الصالحين فإنك ترى هذه الأمور لها اثر كبير في الجهل بالأخلاق الفاضلة و الانحراف عن جادتها و الخبط في معرفتها و تمييز حدودها.

فلا ترد البشر إلى الاستقامة في ذلك تكلفات الفكر المحاط بالجهل العام و الجيل المظلم و القطر الوبي ء من نزغات الأهواء. و لئن حاول الرجل المريد للصلاح حينئذ شيئا من تهذيب الأخلاق لم يهتد السبيل في قوله و عمله إلا إلى شي ء يشير اليه التداول بين جملة من الناس و لئن تكلف المتفلسف شيئا من التعليم بالأخلاق خبط فيها خبطا غلب فيه الجهل و الزلل و تتابعت فيه العثرات.

و من بين تلك الظلمات المذكورة بزغ القرآن الكريم بأنواره و أتى بما لا تسمح به العادة بأن يأتي به في تلك الظلمات بشر من عند نفسه و تقولا على الوحي فجاء في اجماله و تفصيله مستقصيا للأخلاق الفاضلة على حدودها بالحث على التزين بها بما توجبه الحكمة من البعث و الترغيب. و محصيا للأخلاق الرذيلة بالزجر عن التلوث بها بما يوجبه الإصلاح من الإرهاب و التنفير. و اقام لذلك في العالم اشرف مدرسة زاهرة و أعلى فلسفة مرشدة و ابلغ خطابة واعظة

ص: 14

و إليك بعضا من جوامعه في ذلك كقوله تعالى في سورة النحل: 92 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. و من سورة الفرقان ما في الآية الرابعة و الستين الى الخامسة و السبعين. و من سورة المعارج ما في الآية الثالثة و العشرين الى الثالثة و الثلاثين. و من سورة الحجرات ما في الآيات العاشرة و الحادية عشرة و الثانية عشرة. و غير ذلك مما لا يكاد أن تخلو منه سورة او يتخطاه تعليم او يحابى به قوم دون قوم او يتجاوز بالإفراط الى التفريط و الإخلال بنظام المدنية و راحة الاجتماع و لك العبرة بأن التوراة الرائجة فيها و شل من تعاليم التوراة الحقيقية و لكن لأنها تلفيق و اختلاق بشري كدّرت ما فيها من ذلك الوشل و ذهبت بصفاء التعليم الإلهي. فأمرت بني إسرائيل بالحكم بالعدل لقريبهم و نهتهم عن الحقد على أبناء شعبهم و عن السعي بالوشاية و عن شهادة الزور على قريبهم و أن يغدر أحدهم بصاحبه. و يا للأسف على شرف هذا الأمر و النهي إذ شوّهت جماله بتخصيص تعليمها لبني إسرائيل و بتخصيص المأمور به و المنهي عنه بالقريب و الشعب و الصاحب.

و لك العبرة ايضا بأن الأناجيل الرائجة قد أفرطت بتصوفها البارد فنهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم و قطع مادة الفساد بالحدود الشرعية و دفاع الظالمين بل علمت بأن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر ايضا و من أراد أن يخاصمك و يأخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا و من أخذ الذي لك فلا تطالبه فلوثت بافراطها البشري قدس تعاليم المسيح المتلقاة من الوحي الإلهي

اعجازه في وجهة علم الغيب

و قد تكرر في القرآن معجزه في اخباره بالغيب اخبارا يقتضي التكهن و الفراسة خلافه من حيث النظر الى الحال الحاضر و طغيان الشرك و ضعف الدعوة الإسلامية و ما يجري من النكال و التشريد و الجفاء على ملبيها. فمن ذلك قوله في سورة الحجر المكية في الأمر لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بالإعلان بالدعوة و البشرى بنجاحها و ارغام معانديها و معارضيها و كان ذلك عند طغيان الشرك و استفحاله و هيجان المشركين على رسول اللّه «94 فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: 95 إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ: 96 الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و قد كفاه اللّه اشرف كفاية لم تكن تعلق بها الآمال بحسب العادة. و قد بان للمشركين و علموا

ص: 15

ما في قوله تعالى في آخر الآية فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. و قوله في سورة الصف المكية في الحال الذي وصفناه من طغيان الشرك و المشركين «9 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فأظهره على الذين أعز اظهار أرغمت به آناف المشركين. و من الاخبار بالغيب قوله تعالى في سورة الروم غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ فغلبت الروم فارس و دخلت مملكتها قبل مضي عشر سنين و قوله تعالى في سورة تبت في شأن أبي لهب و امرأته سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ و هو اخبار بأنهما يموتان على الكفر و لا يحظيان بسعادة الإسلام الذي يكفر عنهما آثام الشرك و يحط أوزاره فماتا على الكفر كما اخبر به اخبارا حتميا و لك العبرة في ذلك بأن إنجيل متى ذكر اخبارا واحدا غيبيا للمسيح و هوائه يبقى مدفونا في قلب الأرض ثلاثة أيام و ثلاث ليال. و لكن ما برح إنجيل متى أن كذب في أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الأخر على ان المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب و كفنها و دفنها و قبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت و خرج عن قبره. و على ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر الا ليلة السبت و نهاره و ليلة الأحد و ذلك نهار و ليلتان هذا و إني عند مقايستي للقرآن الكريم بما ينسب إلى الوحي الإلهي من كتب الأمم المتدينة و منهم البراهمة و البوذيون و غيرهم لم يحضر عندي الا كتب العهدين فلا ينبغي ان يجعل مقايستي بهما تحاملا على خصوص اليهود و النصارى. ولي العذر في ذلك فإنه لا يصح للإنسان ان تأخذه في خدمة الحق و إيضاح الحقيقة و تأييدها لومة لائم او يصده عذل عاذل. فإن خدمة الحق نصرة للبشر جميعا و اللّه المستعان هذا شي ء قليل من البيان في الوجهات المذكورة إذ لا يسع هذا المختصر اكثر من ذلك.

وهب ان الوساوس تتقحم على الحقائق و تغالط الأذهان بواهيات الشكوك في الاعجاز ببعض آحادها و لكن هل يمكن ذلك بالنظر إلى مجموعها. و هل يسوغ لذي الشعور ان يختلج في ذهنه الشك في اعجاز الكتاب الجامع بفضيلته لهذه الكرامات الباهرة و خروجه عن طوق البشر مطلقا و خصوصا في ذلك العصر و تلك الأحوال و هل يسمح عقله الا بأن يقول (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى

ص: 16

الفصل الثاني في جمعه في مصحف واحد

اشارة

لم يزل القرآن الكريم بحسب حكمة الوحي و التشريع و المصالح و المقتضيات المتجددة آنا فآنا يتدرج في نزوله نجوما(1) الآية و الآيتان و الأكثر و السورة. و كلما نزل شي ء هفت اليه قلوب المسلمين و انشرحت له صدورهم و هبوا الى حفظه بأحسن الرغبة و الشوق و أكمل الإقبال و أشد الارتياح. فتلقونه بالابتهاج و تلقوه بالاغتنام من تلاوة الرسول العظيم الصادع بأمر اللّه و المسارع إلى التبليغ و الدعوة إلى اللّه و قرآنه. و تناوله حفظهم بما امتازت به العرب و عرفوا به من قوة الحافظة الفطرية و أثبتوه في قلوبهم كالنقش في الحجر. و كان شعار الإسلام و سمة المسلم حينئذ هو التجمل و التكمل بحفظ ما ينزل من القرآن الكريم. لكي يتبصر بحججه و يتنور بمعارفه و شرائعه و أخلاقه الفاضلة و تاريخه المجيد و حكمته الباهرة و أدبه العربي الفائق المعجز. فاتخذ المسلمون تلاوته لهم حجة الدعوة. و معجز البلاغة. و لسان العبادة للّه. و لهجة ذكره. و ترجمان مناجاته. و أنيس الخلوة. و ترويح النفس. و درسا للكمال. و تمرينا في التهذيب. و سلما للترقي. و تدربا في التمدّن. و آية الموعظة. و شعار الإسلام. و وسام الإيمان و التقدّم في الفضيلة. و استمرّ المسلمون على ذلك حتى صاروا في زمان الرّسول يعدون بالألوف و عشراتها و مئاتها. و كلهم من حملة القرآن و حفاظه(2) و إن تفاوتوا في ذلك بحسب

ص: 17


1- (1) و لا بد من أن تكون كتب الوحي و الدعوة و التشريع جارية في كمالها على منهاج هذه الحكمة. و مما يشير إلى ذلك ان التوراة الرائجة تذكر ان نزول التوراة على موسى عليه السلام كان من زمان تكليمه من الشجرة متدرجا بحسب الأزمان و الحوادث و التاريخ و الحكم في التشريع إلى حين وفاته بعد التيه عند عبر الأردن و متراخيا في اكثر من أربعين سنة. فانظر في شرح هذا المجمل إلى المقدمة الثانية من الجزء الأول من كتاب الهدى صحيفة 9 إلى 12.
2- (2) اخرج ابن سعد و ابن عساكر عن محمد بن كعب القرضي قال جمع القرآن اي حفظا في زمان النبي (صلی الله علیه و آله) خمسة من الأنصار معاذ بن جبل و عبادة بن الصمت و أبي بن كعب و ابو أيوب الانصاري و ابو الدرداء. و اخرج ابن سعد و يعقوب بن سفيان و الطبراني و ابن عساكر عن الشعبي قال جمع القرآن على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ستة من الأنصار أبي بن كعب و زيد بن ثابت و معاذ بن جبل و ابو الدرداء و سعد بن عبيد و ابو زيد و كان مجمع ابن جارية قد أخذه كله إلا سورتين أو ثلاثة. و اخرج ابن عساكر عن محمد بن كعب القرضي قال كان ممن ختم القرآن و رسول اللّه حي عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و عبد اللّه بن مسعود. و اخرج عن انس قرأ القرآن على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) معاذ و أبي و سعد و ابو زيد. و اخرج الحاكم في الصحيح على شرط البخاري و مسلم عن زيد بن ثابت قال كنا عند رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) نؤلف القرآن من الرقاع. و في رواية حول رسول اللّه نؤلف القرآن «فانظر إلى كنز العمال و منتخبه اقلا» و لم اذكر هذه الروايات احتجاجا بها للحقيقة المعلومة و لكن لتجبه بالمعارضة بعض الروايات الشاذة الواردة في خلاف ما ذكرناه من حفظ المسلمين في عصر النبي و بعده للقرآن الكريم.

السابقة و الفضيلة .. هذا و لما كان وحيه لا ينقطع في حياة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لم يكن كله مجموعا في مصحف واحد و إن كان ما أوحي منه مجموعا في قلوب المسلمين و كتاباتهم له .. و لما اختار اللّه لرسوله دار الكرامة و انقطع الوحي بذلك فلا يرجى للقرآن نزول تتمة رأى المسلمون ان يسجلوه في مصحف جامع فجمعوا مادته على حين اشراف الألوف من حفاظه و رقابة مكتوباته الموجودة عند الرسول و كتاب الوحي و سائر المسلمين جملة و ابعاضا و سورا(1) نعم لم يترتب على ترتيب نزوله و لم يقدم منسوخه على ناسخه(2) فاستمرّ القرآن الكريم على هذا الاحتفال العظيم بين المسلمين جيلا بعد جيل ترى له في كل آن الوفا مؤلفة من المصاحف و الوفا من الحفاظ و لا تزال المصاحف ينسخ بعضها على بعض و المسلمون يقرأ بعضهم على بعض و يسمع بعضهم من بعض. تكون ألوف المصاحف رقيبة على الحفاظ، و ألوف الحفاظ رقباء على المصاحف و تكون الألوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدد منهما، نقول الألوف و لكنها مئات الألوف و ألوف الألوف. فلم يتفق لأمر تاريخي من التواتر و بداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم كما وعد اللّه جلت آلاؤه بقوله في سورة الحجر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و قوله في سورة القيامة إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ و لئن سمعت في الروايات الشاذة شيئا في تحريف القرآن و ضياع بعضه فلا تقم لتلك الروايات وزنا. و قل ما يشاء العلم في اضطرابها و وهنها و ضعف رواتها و مخالفتها للمسلمين و فيما جاءت به في مروياتها الواهية

ص: 18


1- (1) و مما يشهد لما ذكرناه ما عن أبي عبيد في فضائله و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه مسندا عن عمر بن عامر الانصاري ان عمر بن الخطاب قرأ «وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فرفع الأنصار و لم يدخل و او العطف على «الذين» فقال له زيد بن ثابت «وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فقال عمر «الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فقال زيد أمير المؤمنين اعلم فقال عمر ايتوني بابي بن كعب فسأله عن ذلك فقال «وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فجعل كل واحد منهما يشير إلى انف صاحبه بإصبعه فقال أبي و اللّه اقرأنيها رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و أنت تتبع الخبط فقال عمر فنعم إذن فنعم إذن. و اخرج ابو عبيد في فضائله و سنيد و ابن جرير و ابو الشيخ عن محمد بن كعب القرضي. و اخرج ابو الشيخ في تفسيره و الحاكم في المستدرك مصححا على شرط البخاري و مسلم عن اسامة و محمد بن ابراهيم التيمي انه جرى بين عمر و أبي بن كعب في هذه الآية نحو ذلك فانظر في كنز الأعمال و منتخبه.
2- (2) نعم من المعلوم عند الشيعة ان عليا أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد وفاة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لم يرتد برداء إلا للصلاة حتى جمع القرآن على ترتيب نزوله و تقدم منسوخه على ناسخه. و اخرج ابن سعد و ابن عبد البر في الاستيعاب عن محمد بن سيرين قال نبئت ان عليا ابطأ عن بيعة أبي بكر فقال أ كرهت امارتي فقال آليت بيميني ان لا ارتدي برداء إلا للصلاة حتى اجمع القرآن قال فزعموا انه كتبه على تنزيله قال محمد فلو أصبت ذلك الكتاب كان فيه علم قال ابن عوف فسألت عكرمة عن ذلك الكتاب فلم يعرفه.

من الوهن. و ما الصقته بكرامة القرآن مما ليس له شبه به و استمع من ذلك لأمور

اضطراب الروايات في جمع القرآ
الأمر الأول

جاء فيها ان أبا بكر هو الذي أدى رأيه أولا الى جمع القرآن و هو الذي طلب من زيد بن ثابت جمعه فثقل ذلك عليه فلم يزل ابو بكر يراجعه حتى قبل. و جاء فيها ايضا ان زيدا هو الذي أدى رأيه أولا الى جمع القرآن و عزم عليه و كلم في ذلك عمر فكلم فيه عمر أبا بكر فاستشار ابو بكر في ذلك المسلمين. و جاء فيها ايضا ان أبا بكر هو الذي جمع القرآن فى أيامه. و جاء فيها ان عمر قتل و لم يجمع القرآن. و جاء فيها ان عثمان هو الذي جمع القرآن في أيامه بأمره. و جاء فيها ان عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت و سعيد بن العاص لما أراد جمع القرآن أن يملي زيد و يكتب سعيد. و جاء فيها ان ذلك كان من عثمان في أيامه و بعد قتل عمر. و جاء في ذلك ايضا ان الذي يملي أبيّ بن كعب و زيد يكتبه و سعيد يعربه. و في رواية أخرى ان سعيدا و عبد اللّه بن الحرث يعربانه: هذا بعض حال هذه الروايات في تعارضها و اضطراباتها، و من جملة ما جاء فيها ما مضمونه ان براءة آخر ما نزل من القرآن فما ذا ترى لهذه الرواية من القيمة التاريخية. فانظر الى الجزء الأول من كنز العمال و منتخبه اقلا

(الثاني) بعض ما الصق بكرامة القرآن ا (الثاني) بعض ما الصق بكرامة القرآن الكريم

في الجزء الخامس من مسند احمد عن أبيّ بن كعب قال ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال ان اللّه أمرني ان اقرأ عليك القرآن قال فقرأ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فقرأ فيها «لو ان ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا فلو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب و يتوب اللّه على من تاب و ان ذلك الدين القيم عند اللّه الحنيفية غير المشركة و لا اليهودية و لا النصرانية و من يعمل خيرا فلن يكفره».

و في رواية الحاكم في المستدرك و رواية غيره ايضا «ان ذات الدين عند اللّه الحنيفية لا المشركة» و في رواية «غير المشركة» الى آخره و عن جامع الأصول لابن الأثير الجزري «ان الدين عند اللّه الحنيفية المسلمة لا اليهودية و لا النصرانية و لا المجوسية»

و ذكر في المسند ايضا بعد هذه الرواية عن أبي قال قال لي رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان اللّه أمرني ان اقرأ عليك فقرأ عليّ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً

ص: 19

مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ

إن الدين عند الله الحنيفية لا المشركة و لا اليهودية و لا النصرانية و من يفعل خيرا فلن يكفره قال شعبة ثم قرأ آيات بعدها ثم قرأ «لو ان لابن آدم واديين من مال لسأل واديا ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب». قال ثم ختمها بما بقي منها انتهى. و هذه الروايات رواها ايضا ابو داود الطيالسي و سعيد بن منصور في سننه و الحاكم في مستدركه كما في كنز العمال.

و ذكر في المسند ايضا عن أبي واقد الليثي قال كنا نأتي النبي (صلی الله علیه و آله) إذا انزل عليه فيحدثنا فقال لنا ذات يوم ان اللّه عزّ و جلّ قال «إنّا أنزلنا المال لإقام الصلاة و إيتاء الزكاة و لو كان لابن آدم واد لأحبّ أن يكون له ثان و لو كان له واديان لأحبّ أن يكون لهما ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب اللّه على من تاب انتهى.

هب ان المعرفة و الصدق لا يطالبان المحدثين «و لا نقول القصاص» و لا يسألانهم عن هذا الاضطراب الفاحش فيما يزعمون انه من القرآن و لا يسألانهم عن التمييز بين بلاغة القرآن و علو شأنه فيها و بين انحطاط هذه الفقرات. و لكن أليس للمعرفة أن تسألهم عن الغلط في قولهم «لا المشركة» فهل يوصف الدين بأنه مشركة. و في قولهم «الحنيفية المسلمة» و هل يوصف الدين او الحنيفية بأنه مسلمة و قولهم «ان ذات الدين» و في قولهم «إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة» ما معنى إنزال المال.

و ما معنى كونه لإقام الصلاة. هذا و استمع لما يأتي

ففي الجزء السادس من مسند احمد مسندا عن مسروق قال قلت لعائشة هل كان رسول اللّه يقول شيئا إذا دخل البيت قالت كان إذا دخل البيت مثل لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا و لا يملأ فمه الا التراب و ما جعلنا المال إلا لإقام الصلاة و إيتاء الزكاة و يتوب اللّه على من تاب.

و في الجزء السادس في اسناده عن جابر قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لو ان لابن آدم واديا من مال لتمنى واديين و لو ان له واديين لتمنى ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. و باسناده ايضا قال سئل جابر هل قال رسول اللّه لو كان لابن آدم واد من نخل تمنى مثله حتى يتمنى أودية و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب انتهى.

و هل تجد من الغريب او الممتنع في العادة ان يكون لابن آدم واد من مال أو من نخل.

او ليس في بني آدم في كل زمان من ملك واديا من ذلك بل اودية. اذن فكيف يصح في الكلام المستقيم أن يقال لو كان لابن آدم. لو ان لابن آدم. او ليست لو للامتناع. باللعجب من الرواة لهذه الروايات ألم يكونوا عربا أو لهم إلمام باللغة العربية. نعم يرتفع هذا الاعتراض

ص: 20

بما رواه أحمد في مسند ابن عباس لو كان لابن آدم واديان من ذهب و كذا ما يأتي من رواية الترمذي عن انس. و ايضا إن تمنى الوادي و الواديين و الثلاث ليس بذنب يحتاج إلى التوبة إذن فما هو وجه المناسبة بتعقيب ذلك بجملة «و يتوب اللّه على من تاب» و إن شئت ان تستزيد مما في هذه الرواية من التدافع و الاضطراب فاستمع إلى ما رواه الحاكم في المستدرك ان أبا موسى الأشعري قال كنا نقرأ سورة نشبهها بالطول و الشدة ببراءة فأنسيتها غير اني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.

و ذكر في الدر المنثور انه أخرجه جماعة عن أبي موسى. و أضف إلى ذلك في التدافع و التناقض ما أسنده في الإتقان عن أبي موسى ايضا قال نزلت سورة نحو براءة ثمّ رفعت و حفظ منها ان اللّه سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم و لو ان لابن آدم واديين لتمنى إلى آخره.

و أسند الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لو كان لابن آدم واد من ذهب لأحبّ ان يكون له ثان و لا يملأ فاه إلا التراب و يتوب اللّه على من تاب.

و ها أنت ترى روايات عائشة و جابر و انس و ابن عباس تجعل حديث الوادي و الواديين من قول رسول اللّه و تمثله.

فهي بسوقها تنفي كونه من القرآن الكريم. و مع ذلك فقد نسبت إلى كلام الرسول (صلی الله علیه و آله) ما يأتي فيه بعض من الاعتراضات المتقدمة مما يجب ان ينزّه عنه ودع عنك الاضطراب الذي يدع الرواية مهزلة.

(الأمر الثالث

و مما الصقوه بكرامة القرآن المجيد قولهم في الرواية عن زيد بن ثابت كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» و في الرواية عن ذر عن أبيّ ان سورة الأحزاب كانت تضاهي سورة البقرة او هي أطول منها و ان فيها أو في أواخرها آية للرجم و هي «الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم»

و في رواية السياري من الشيعة عن أبي عبد اللّه بزيادة قوله بما قضيا من الشهوة.

و في رواية الموطأ و المستدرك و مسدد و ابن سعد عن عمر كما سيأتي «الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة»

و في رواية أبي امامة ابن سهل ان خالته قالت لقد أقرأنا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) آية الرجم «الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» و نحو ذلك رواية سعد بن عبد اللّه و سليمان بن خالد من الشيعة عن أبي عبد اللّه (علیه السلام).

و يا للعجب كيف رضي هؤلاء المحدثون لمجد القرآن و كرامته ان يلقى هذا الحكم الشديد على الشيخ و الشيخة بدون ان يذكر السبب و هو زناهما اقلا فضلا عن شرط

ص: 21

الإحصان. و ان قضاء الشهوة أعمّ من الجماع و الجماع اعمّ من الزنا و الزنا يكون كثيرا مع عدم الإحصان. سامحنا من يزعم ان قضاء الشهوة كناية عن الزنابل زد عليه كونه مع الإحصان و لكنا نقول ما وجه دخول الفاء في قوله «فارجموهما» و ليس هناك ما يصحح دخولها من شرط أو نحوه لا ظاهر و لا على وجه يصح تقديره و إنّما دخلت الفاء على الخبر في قوله تعالى في سورة النور الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا لأن كلمة اجلدوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ. و الزنا بمنزلة الشرط. و ليس الرجم جزاء للشيخوخة و لا الشيخوخة سببا له. نعم الوجه في دخول الفاء هو الدلالة على كذب الرواية. و لعلّ في رواية سليمان بن خالد سقطا بأن تكون صورة سؤاله هل يقولون في القرآن رجم. و كيف يرضى لمجده و كرامته في هذا الحكم الشديد ان يقيد الأمر بالشيخ و الشيخة مع اجماع الأمة على عمومه لكل زان محصن بالغ الرشد من ذكر أو أنثى. و ان يطلق الحكم بالرجم مع اجماع الأمة على اشتراط الإحصان فيه. و فوق ذلك يؤكد الإطلاق و يجعله كالنص على العموم بواسطة التعليل بقضاء اللذة و الشهوة الذي يشترك فيه المحصن و غير المحصن. فتبصر بما سمعته من التدافع و التهافت و الخلل في رواية هذه المهزلة.

و أضف إلى ذلك ما رواه في الموطأ و المستدرك و مسدد و ابن سعد من ان عمر قال قبل موته بأقل من عشرين يوما فيما يزعمونه من آية الرجم لو لا ان يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب اللّه لكتبتها «الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة»

و اخرج الحاكم و ابن جرير و صححه ايضا ان عمر قال لما نزلت أتيت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فقلت اكتبها «و في نسخة كنز العمال» اكتبنيها فكأنه كره ذلك. و قال عمر الا ترى ان الشيخ إذا زنى و لم يحصن جلد و ان الشاب إذا زنا و قد أحصن رجم.

فالمحدثون يروون ان عمر يذكر ان رسول اللّه كره ان تكتب آية منزلة و عمر يذكر وجوه الخلل فيها. فيا للعجب منهم.

و في الإتقان أخرج النسائي ان مروان قال لزيد بن ثابت ألا تكتبها في المصحف قال أ لا ترى ان الشابين الثيبين يرجمان و قد ذكرنا ذلك لعمر فقال أنا أكفيكم فقال يا رسول اللّه اكتب لي آية الرجم قال لا تستطيع انتهى.

فزيد بن ثابت يعترض عليها. و لما رأوا التدافع بين قول عمر اكتبها لي و بين

قول النبي لا تستطيع

قالوا أراد عمر بقوله ذلك ائذن لي بكتابتها و كأنهم لا يعلمون ان عمر عربي لا يعبر عن قوله ائذن لي بكتابتها بقوله اكتبها لي و مع ذلك لم يستطيعوا ان يذكروا وجها مقبولا

لقوله (صلی الله علیه و آله) لا تستطيع.

و في رواية في كنز العمال عن ابن الضريس عن عمر قلت لرسول اللّه اكتبها يا رسول

ص: 22

اللّه قال لا أستطيع.

و اخرج ابن الضريس عن زيد بن اسلم ان عمر خطب الناس فقال لا تشكوا في الرجم فإنه حق و لقد هممت ان اكتبه في المصحف فسألت أبي بن كعب فقال أ ليس اتيتني و انا استقرئها رسول اللّه فدفعت في صدري و قلت كيف تستقرئه آية الرجم و هم يتسافدون تسافد الحمر انتهى. فهذه الرواية تقول ان عمر لم يرض بانزال شي ء في الرجم. و ليت المحدثين يفسرون حاصل الجواب من أبي لعمر و حاصل منع عمر لأبي عن استقرائها،

و اخرج الترمذي عن سعد بن المسيب عن عمر قال رجم رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و رجم ابو بكر و رجمت و لو لا اني اكره ان أزيد في كتاب اللّه لكتبته في المصحف.

فعمر يقول ان كتابة الرجم في المصحف زيادة في كتاب اللّه و هو يكرهها- فقابل هذه الروايات الأربع إحداهن بالأخرى و اعرف ما جناه المولعون بكثرة الرواية من المحدثين. و إذا نظرت إلى الجزء الثالث من كنز العمال صحيفة:

90 و 91 فإنك تزداد بصيرة في الاضطراب و الخلل هذا و مما يصادم هذه الروايات و يكافحها ما

روي من أن عليا (علیه السلام) لما جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة قال اجلدها بكتاب اللّه و ارجمها بسنة رسوله كما رواه احمد و البخاري و النسائي و عبد الرزاق في الجامع و الطحاوي و الحاكم في مستدركه و غيرهم. و رواه الشيعة عن علي (علیه السلام) مرسلا

فعلي (علیه السلام) يشهد بأن الرجم من السنة لا من الكتاب

الأمر الرابع

مما الصقوه بكرامة القرآن المجيد ما رواه في الإتقان و الدر المنثور انه اخرج الطبراني و البيهقي و ابن الضريس ان من القرآن سورتين «و قد سماها الراغب في المحاضرات سورتي القنوت» و نسبوهما الى تعليم علي (علیه السلام) و قنوت عمر و مصحفي ابن عباس و زيد بن ثابت و قراءة أبي و أبي موسى (و الأولى منهما) بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك و نستغفرك و نثني عليك الخير و لا نكفرك و نخلع و نترك من يفجرك انتهى.

لا نقول لهذا الراوي ان هذا الكلام لا يشبه بلاغة القرآن و لا سوقه فانا نسامحه في معرفة ذلك و لكنا نقول له كيف يصح قوله يفجرك و كيف تتعدى كلمة يفجر و ايضا ان الخلع يناسب الأوتان إذن فما ذا يكون المعنى و بماذا يرتفع الغلط (و الثانية منهما) بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد و إليك نسعى و نحفد نرجو رحمتك و نخشى عذابك الجدان عذابك بالكافرين ملحق انتهى. و لنسامع الراوي ايضا فيما سامحناه فيه في الرواية الأولى

ص: 23

و لكنا نقول له ما معنى الجدّ هنا أهو العظمة او الغنى او ضد الهزل او هو حاجة السجع نعم في رواية عبيد نخشى نقمتك و في رواية عبد اللّه نخشى عذابك و ما هي النكتة في التعبير بقوله ملحق.

و ما هو وجه المناسبة و صحة التعليل لخوف المؤمن من عذاب اللّه بأن عذاب اللّه بالكافرين ملحق بل ان هذه العبارة تناسب التعليل لأن لا يخاف المؤمن من عذاب اللّه لأن عذابه بالكافرين ملحق

الأمر الخامس

و مما الصقوه بالقرآن المجيد ما نقله في فصل الخطاب عن كتاب دبستان المذاهب انه نسب الى الشيعة انهم يقولون ان إحراق المصاحف سبب إتلاف سور من القرآن نزلت في فضل علي (علیه السلام) و اهل بيته (علیه السلام) «منها» هذه السورة و ذكر كلاما يضاهي خمسا و عشرين آية في الفواصل قد لفق من فقرات القرآن الكريم على أسلوب آياته. فاسمع ما في ذلك من الغلط فضلا عن ركاكة أسلوبه الملفق فمن الغلط «و اصطفى من الملائكة و جعل من المؤمنين أولئك في خلفه» ماذا اصطفى من الملائكة و ماذا جعل مّن المؤمنين و ما معنى أولئك في خلقه. و منه «مثل الذين يوفون بعهدك اني جزيتهم جنات النعيم» ليت شعري ما هو مثلهم. و منه «و لقد أرسلنا موسى و هارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل» ما معنى هذه الدمدمة و ما معنى بما استخلف و ما معنى فبغوا هارون و لمن يعود الضمير في بغوا و لمن الأمر بالصبر الجميل. و من ذلك «و لقد اتينا بك الحكم كالذي من قبلك من المرسلين و جعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون» ما معنى اتينا بك الحكم و لمن يرجع الضمير الذي في منهم و لعلهم. هل المرجع للضمير هو في قلب الشاغر. و ما هو وجه المناسبة في لعلهم يرجعون. و من ذلك «و ان عليا قانت في الليل ساجد يحذر الآخرة و يرجو ثواب و به قل هل يستوي الذين ظلموا و هم بعذابي يعلمون» قل ما محل قوله هل يستوي الذين ظلموا و ما هي المناسبة له في قوله و هم بعذابي يعلمون. و لعل هذا الملفق تختلج في ذهنه الآيتان الحادية عشرة و الثانية عشرة من سورة الزمر و في آخرها هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فأراد الملفق أن يلفق منهما شيئا بعدم معرفته فقال في آخر ما لفق هل يستوي الذين ظلموا و لم يفهم انه جي ء بالاستفهام الانكاري في الآيتين لأنه ذكر فيهما الذي جعل للّه أندادا ليضل عن سبيله و القانت آناء الليل يرجو رحمة ربه فهما لا يستويان و لا يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون. هذا بعض الكلام في هذه المهزلة.

ص: 24

و ان صاحب فصل الخطاب من المحدثين المكثرين المجدين في التتبع للشواذ و انه ليعدّ أمثال هذا المنقول في دبستان المذاهب ضالته المنشودة و مع ذلك قال انه لم يجد لهذا المنقول أثر في كتب الشيعة. فيا للعجب من صاحب دبستان المذاهب من اين جاء بنسبة هذه الدعوى إلى الشيعة. و في أي كتاب لهم وجدها أ فهكذا يكون النقل في الكتب و لكن لا عجب (شنشنة أعرفها من أخزم) فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب كما في كتاب الملل للشهرستاني و مقدمة ابن خلدون و غير ذلك مما كتبه بعض الناس في هذه السنين و اللّه المستعان

قول الإمامية بعدم النقيصة في القرآن

و لا يخفى ان شيخ المحدثين و المعروف بالاعتناء بما يروى و هو الصدوق طاب ثراه قال في كتاب الاعتقاد. اعتقادنا ان القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه (صلی الله علیه و آله) هو ما بين الدفتين و ليس بأكثر من ذلك و من نسب إلينا انا نقول انه اكثر من ذلك فهو كاذب انتهى. و حمل الروايات الواردة في النقصان على وجوه أخر. و في أواخر فصل الخطاب من كتاب المقالات للشيخ المفيد قدس سره إنه قال جماعة من أهل الإمامة انه (أي القرآن) لم ينقص من كلمة و لا من آية و لا من سورة و لكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين (علیه السلام) من تأويله و تفسير معانيه على حقيقة تنزيله. و عن السيد المرتضى قدس سرّه قوله بعدم النقيصة و ان من خالف في ذلك من الإمامية و الحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من اصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها. و في أول التبيان الشيخ الطوسي (قده) أما الكلام في زيادته و نقصه فمما لا يليق به أيضا لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. و النقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا و هو الذي نصره المرتضى و هو الظاهر في الروايات غير انه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة و العامة بنقصان كثير من آي القرآن و نقل شي ء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما و لا عملا و الأولى الاعراض عنها انتهى. و تبعه على ذلك في مجمع البيان و في كشف الغطاء في كتاب القرآن المبحث الثامن في نقصه لا ريب انه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان كما دل عليه صريح القرآن و اجماع العلماء في كل زمان و لا عبرة بالنادر و ما ورد من اخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها إلى ان قال فلا بد من تأويلها بأحد وجوه.

و عن السيد القاضي نور اللّه في كتابه مصائب النواصب ما نسب إلى الشيعة الإمامية من

ص: 25

وقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم. و عن الشيخ البهائي و ايضا اختلفوا في وقوع الزيادة و النقصان فيه و الصحيح ان القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصانا و يدل عليه قوله تعالى وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و ما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم امير المؤمنين عليه السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك في عليّ و غير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء. و عن المقدس البغدادي في شرح الوافية و انما الكلام في النقيصة و المعروف بين أصحابنا حتى حكي عليه الإجماع عدم النقيصة ايضا. و عنه ايضا عن الشيخ علي بن عبد العالي انه صنف في نفي النقيصة رسالة مستقلة و ذكر كلام الصدوق المتقدم ثمّ اعترض بما يدل على النقيصة من الأحاديث و أجاب بأن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب و السنة المتواترة أو الإجماع و لم يمكن تأويله و لا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه .. هذا و ان المحدث المعاصر جهد في كتاب فصل الخطاب في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة و كثر أعداد مسانيدها باعداد المراسيل عن الأئمة عليهم السلام في الكتب كمراسيل العياشي و فرات و غيرها مع ان المتتبع المحقق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد. و في جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها. و منها ما هو مختلف باختلاف يئول به إلى التنافي و التعارض و هذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين. هذا مع ان القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة انفار و قد وصف علماء الرجال كلا منهم اما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية. و اما بأنه مضطرب الحديث و المذهب يعرف حديثه و ينكر و يروي عن الضعفاء. و اما بأنه كذاب متهم لا أستحل ان اروي من تفسيره حديثا واحدا و انه معروف بالوقف و أشدّ الناس عداوة للرضا عليه السلام. و اما بأنه كان غاليا كذابا. و اما بأنه ضعيف لا يلتفت اليه و لا يعوّل عليه و من الكذابين. و اما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ. و من الواضح ان أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا. و لو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة ان ننزلها على ان مضامينها تفسير للآيات أو تأويل او بيان لما يعلم يقينا شمول عموماتها له لأنه أظهر الافراد و أحقها بحكم العام.

أو ما كان مرادا بخصوصه و بالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل. أو ما كان هو المورد للنزول. او ما كان هو المراد من اللفظ المبهم. و على احد الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد

ص: 26

فيها انه تنزيل و انه نزل به جبريل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات. كما يحمل التحريف فيها على تحريف المعنى و يشهد لذلك

مكاتبة أبي جعفر عليه السلام لسعد الخير كما في روضة الكافي ففيها و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه و حرفوا حدوده.

و كما يحمل ما فيها من انه كان في مصحف امير المؤمنين عليه السلام او ابن مسعود و ينزل على انه كان فيه بعنوان التفسير و التأويل. و مما يشهد لذلك

قول امير المؤمنين (علیه السلام) للزنديق كما في نهج البلاغة و غيره و لقد جئتهم بالكتاب كملا مشتملا على التنزيل و التأويل.

و مما أشرنا اليه من الروايات ان المحدث المعاصر أورد في روايات سورة المعارج اربع روايات ذكرت ان كلمة (بولاية علي) مثبتة في مصحف فاطمة و هكذا هي في مصحف فاطمة (علیه السلام) و لا يخفى ان مصحفها عليها السلام انما هو كتاب تحديث بأسرار العلم كما يعرف ذلك من عدة روايات في اصول الكافي في باب الصحيفة و المصحف و الجامعة و فيها

قول الصادق (علیه السلام) ما فيه من قرآنكم حرف واحد.

و ما أزعم ان فيه قرآنا كما في الصحيح و الحسن (و منها) ما

في الكافي في باب ان الأئمة عليهم السلام شهداء على الناس في صحيحة بريد عن أبي جعفر (علیه السلام) و روايته عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) من قولهما (علیه السلام) في قوله تعالى جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً

نحن الأمة الوسطى.

و في شرحه عن امير المؤمنين عليه السلام و نحن الذين قال اللّه جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.

إذن فما روي مرسلا في تفسيري النعماني و سعد من ان الآية أئمة وسطا لا بد من حمله على التفسير و ان التحريف إنما هو للمعنى (و منها) كما

رواه في الكافي في باب ان الأئمة هم الهداة عن الفضيل سألت أبا عبد اللّه (علیه السلام) عن قول اللّه تعالى وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فقال كل إمام هو هاد للقرن الذي هو فيهم.

و رواية بريد عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فقال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) المنذر و لكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به النبي (صلی الله علیه و آله) و الهداة من بعده عليّ (علیه السلام) ثمّ الأوصياء واحدا بعد واحد. و نحوها رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)

و رواية عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر عليه السلام ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) المنذر و عليّ الهادي و بمضمونها جاءت روايات الجمهور مسندة عن طريق أبي هريرة و أبي برزة و ابن عباس و طريق امير المؤمنين (علیه السلام) و صححه الحاكم في مستدركه.

و إذا أحطت خبرا بهذا فهل يروق لك التجاء فصل الخطاب في تلفيقه و تكثيره إلى النقل عن بعض التفاسير المتأخرة و عن الداماد في حاشية القبسات من قوله ان الأحاديث من طرقنا و طرقهم متضافرة بأنه كان التنزيل انما أنت منذر لعباد و عليّ

ص: 27

لكل قوم هاد انتهى. هذا الشعر الذي ينشده المداحون و لا يرضى العارف باللغة العربية ان ينسب اليه نظمه و لا أظنك تجد من طرقنا و طرق اهل السنة غير ما سمعته أولا و هو غير ما نقله فاعتبر (و منها)

رواية الكافي عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال قوله عز و جل رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ يعنون بولاية علي (علیه السلام)

و هذا صريح في كونه تفسيرا فهي حاكمة ببيانها على ضعيفتي أبي بصير في ظهورهما بأن لفظ «بولاية علي» محذوف من الآية و يسري البيان من رواية أبي حمزة إلى أمثال ذلك (و منها) رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) في قوله تعالى في سورة البقرة مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ. مخرجات. و لا أظن إلا انك تقول ان الحاق الإمام (علیه السلام) لكلمة مخرجات انما هو تفسير للمراد من كلمة. إخراج. لا بيان للنقيصة من القرآن الكريم و لكن فصل الخطاب أورده بعنوان البيان للنقيصة فاعتبر (و منها)

صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) كما في الكافي في أول باب منع الزكاة و فيها ثمّ قال (علیه السلام) هو قول اللّه عزّ و جل سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني ما بخلوا به من الزكاة

فالرواية كالصريحة بأن لفظ «من الزكاة» إنما هو تفسير من الإمام لا من القرآن فهي حاكمة ببيانها على مرسلة ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) في قول اللّه عزّ و جل. سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ. من الزكاة يَوْمَ الْقِيامَةِ و صارفة لها عن كونها بيانا للنقيصة. (و منها)

صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) كما في الكافي في باب نص اللّه و رسوله على الأئمة واحدا بعد واحد.

و فيها: فقلت له ان الناس يقولون فما له لم يسم عليا (علیه السلام) و أهل بيته في كتاب اللّه قال فقولوا لهم ان رسول اللّه نزلت عليه الصلاة و لم بسم اللّه لهم ثلاثا و لا أربعا حتى كان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) هو الذي فسر لهم ذلك.

و كذا قال (علیه السلام) في الزكاة و الحج. و مقتضى الرواية تصديق الإمام (علیه السلام) لقول الناس ان اللّه لم يسم عليا في القرآن و إن التسمية كانت من تفسير رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في حديث من كنت مولاه و حديث الثقلين. و يشهد لذلك ما رواه في الكافي ايضا في هذا الباب بعد ذلك بيسير في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر عليه السلام و رواية أبي الجارود عنه (علیه السلام) ايضا و رواية أبي الديلم عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) انهما تلوا في مقام الاحتجاج و عدم التقية قوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ و لم يذكرا في تلاوة الآية كلمة «في عليّ» و هذا يدلّ على انّ ما روي في ذكر اسم علي (علیه السلام) في هذا المقام بل و في غيره إنما هو تفسير و بيان للمراد في وحي القرآن بكون التفسير و البيان جاء به

ص: 28

جبرائيل من عند اللّه بعنوان الوحي المطلق لا القرآن وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (و منها)

رواية الفضيل عن أبي الحسن الماضي (علیه السلام) في باب النكت من التنزيل في الولاية من الكافي قال قلت هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ قال يعني امير المؤمنين (علیه السلام) قلت تنزيل قال (علیه السلام) نعم فإنه (علیه السلام) ذكر امير المؤمنين (علیه السلام) بقوله يعني بعنوان التفسير و بيان المراد و المشار اليه في قوله تعالى هذا فقوله في الجواب

«نعم» دليل على ان ما كان مرادا بعينه في وحي القرآن يسمونه عليهم السلام تنزيلا. فتكون هذه الرواية و أمثالها قاطعة لتشبثات فصل الخطاب بما حشده من الروايات التي عرفت حالها اجمالا و إلى ما ذكرناه و غيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قدست اسرارهم. فإن قيل ان هذه الرواية ضعيفة و كذا جملة من الروايات المتقدمة قلنا ان جل ما حشده فصل الخطاب من الروايات هو مثل هذه الرواية و أشد منها ضعفا كما أشرنا اليه في وصف رواتها على ان ما ذكرناه من الصحاح فيه كفاية لأولي الألباب

الفصل الثالث في قراءته

و من أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل استمرت مادته و صورته و قراءته المتداولة على نحو واحد فلم يؤثر شيئا على مادته و صورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين و غيرهم فلم تسيطر على صورته قراءة أحدهم اتباعا له و لو في بعض النسخ و لم يسيطر عليه ايضا ما روي من كثرة القراءات المخالفة له مما انتشرت روايته في الكتب كجامع البخاري و مستدرك الحاكم مسندة عن النبي (صلی الله علیه و آله) و علي (علیه السلام) و ابن عباس و عمر و أبي و ابن مسعود و ابن عمر و عائشة و ابى الدرداء و ابن الزبير و انظر اقلا الى الجزء الأول من كنز العمال صفحة 284- 289 نعم ربما اتبع مصحف عثمان على ما يقال في مجرد رسم الكتابة في بعض المصاحف في كلمات معدودة كزيادة الألف بين الشين و الياء من قوله تعالى لِشَيْ ءٍ من سورة الكهف و زيادتها ايضا في لَأَذْبَحَنَّهُ من سورة النمل و نحو ذلك في قليل من الكلمات. و ان القراءات السبع فضلا عن العشر إنما هي في صورة بعض الكلمات لا بزيادة كلمة او نقصها و مع ذلك ما هي إلا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا و لا وثوقا. فضلا عن و هنها بالتعارض و مخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة.

و ان كلا من القراء هو واحد لم تثبت عدالته و لا ثقته يروي عن آحاد حال غالبهم مثل حاله و يروي عنه آحاد مثله. و كثيرا ما يختلفون في الرواية عنه. فكم اختلف حفص و شعبة في الرواية

ص: 29

عن عاصم. و كذا قالون و ورش في الرواية عن نافع. و كذا قنبل و البزي في روايتهما عن أصحابهما عن ابن كثير. و كذا رواية أبي عمر و أبي شعيب في روايتهما عن اليزيدي عن أبي عمر. و كذا رواية ابن ذكوان و هشام عن أصحابهما عن ابن عامر. و كذا رواية خلف و خلاد عن سليم عن حمزة. و كذا رواية أبي عمر و أبي الحارث عن الكسائي. مع ان أسانيد هذه القراءات الآحادية لا يتصف واحد منها بالصحة في مصطلح اهل السنة في الاسناد فضلا عن الإمامية كما لا يخفى ذلك على من جاس خلال الديار. فيا للعجب ممن يصف هذه القراءات السبع بأنها متواترة. هذا و كل واحد من هؤلاء القراء يوافق بقراءته في الغالب ما هو المرسوم المتداول بين المسلمين و ربما يشذ عنه عاصم في رواية شعبة. إذن فلا يحسن أن يعدل في القراءة عما هو المتداول في الرسم و المعمول عليه بين عامة المسلمين في اجيالهم الى خصوصيات هذه القراءات. مضافا الى انا معاشر الشيعة الإمامية قد أمرنا بأن نقرأ كما يقرأ الناس أي نوع المسلمين و عامتهم.

و لعلّما تقول ان غالب القراءات السبع او العشر ناش من سعة اللغة العربية في وضع الكلمة و هيئتها نحو عليهم و إليهم و لديهم بكسر الهاء أو ضمها مع سكون الميم او ضمهما. و نحو تظاهرون بفتح الظاء او تشديدها. فعلى أي قراءة قرئت أكون قارئا على العربية. و لكن كيف يخفى عليك ان تلاوة القرآن و قراءته يجب فيها و في تحققها ان تتبع ما أوحي الى الرسول و خوطب به عند نزوله عليه و هو واحد فعليك أن تتحراه بما يثبت به و ليست قراءة القرآن عبارة عن درس معاجم اللغة.

و لا تتشبث لذلك بما روي من ان القرآن نزل على سبعة أحرف فإنه تشبث واه واهن.

اما أولا فقد قال في الإتقان في المسألة الثانية من النوع السادس عشر اختلف في معنى السبعة أحرف على أربعين قولا و ذكر منها عن ابن حيان خمسة و ثلاثين. و ما ذاك إلا لوهن روايتها و اضطرابها لفظا و معنى. و في الإتقان ايضا في أواخر النوع السادس عشر و قد ظن كثير من العوام ان المراد بها القراءات السبعة و هو جهل قبيح (و اما ثانيا)

فقد روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح على شرط البخاري و مسلم عن ابن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله) نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجرا و آمرا و حلالا و حراما و محكما و متشابها و أمثالا فأحلوا حلاله.

و روى ابن جرير مرسلا عن أبي قلابة عن النبي صلى اللّه عليه و آله أنزل القرآن على سبعة

ص: 30

أحرف آمر و زاجر و ترغيب و ترهيب و جدل و قصص و مثل.

و روى ابن جرير و السنجري و ابن المنذر و ابن الانباري عن ابن عباس عنه (صلی الله علیه و آله) ان القرآن على اربعة أحرف حلال و حرام الحديث.

و أسند السنجري في الابانة. عن علي (علیه السلام) انزل القرآن على عشرة أحرف بشير و نذير و ناسخ و منسوخ و عظة و مثل و محكم و متشابه و حلال و حرام

(و اما ثالثا) فقد جاء في روايات السبعة أحرف بأسانيد جياد في مصطلحهم ما يعرفك و هنها و إلحاقها بالخرافة

ففي رواية احمد من حديث أبي بكرة ان النبي (صلی الله علیه و آله) استزاد من جبرئيل في أحرف القراءة حتى بلغ سبعة أحرف قال يعني جبرئيل كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة و آية رحمة بعذاب.

و زاد في حديث آخر نحو قولك تعال و اقبل و هلم و اذهب و اسرع و اعجل. و نحوه في رواية الطبراني عن أبي بكرة. و في الإتقان اخرج نحوه احمد و الطبراني عن ابن مسعود

و اخرج ابو داود في سننه عن أبي عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الى قوله حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال ليس منها إلا شاف كاف ان قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة او آية رحمة بعذاب.

و في كنز العمال فيما أخرجه احمد و ابن منيع و الغساني و ابن أبي منصور و ابو يعلى عن أبي عن النبي (صلی الله علیه و آله) ان قلت غفورا رحيما او قلت سميعا عليما او عليما سميعا فاللّه كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة او رحمة بعذاب.

و اخرج ابن جرير عن أبي هريرة عنه (صلی الله علیه و آله) ان هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا و لا حرج و لكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب و لا ذكر عذاب برحمة.

و اخرج احمد من حديث عمر القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا او عذابا مغفرة.

فانظر الى هذه الروايات المفسرة للسبعة أحرف كيف قد رخصت في التلاعب في تلاوة القرآن الكريم حسبما يشتهيه التالي ما لم يختم آية الرحمة بالعذاب و بالعكس (و اما رابعا) ففي الروايات ما يقطع سند القراءات السبع فعن ابن الأنباري في المصاحف مسندا عن عبد الرحمن السلمي قال كانت قراءة أبي بكر و عمر و عثمان و زيد بن ثابت و المهاجرين و الأنصار واحدة.

و عن ابن أبي داود مسندا عن أنس قال صليت خلف النبي (صلی الله علیه و آله) و أبي بكر و عمر و عثمان و علي و كلهم كان يقرأ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

و روى ايضا ان أول من قرأ ملك يوم الدين هو مروان ابن الحكم (و اما خامسا) و هو فصل الخطاب

فقد روى من طرق الشيعة في الكافي مسندا عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) ان القرآن واحد نزل من عند واحد و لكن الاختلاف يجي ء من قبل الروايات. و أرسل الصدوق نحوه في اعتقاداته عن الصادق (علیه السلام)

و في الكافي ايضا في الصحيح

ص: 31

عن الفضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد اللّه (علیه السلام) ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة أحرف فقال (علیه السلام) كذبوا. و لكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد.

و يؤيد ما ذكرناه رواية السياري له ايضا عن الباقر و الصادق (علیه السلام)

الفصل الرابع في تفسيره

اشارة

و للحاجة اليه مقاما

(المقام الأول

في مفردات ألفاظه و بيان معناها في العربية- قد أنزل القرآن الكريم على افصح لغات العرب و أكثرها تداولا و مألوفية لنوع العرب فلا تخفى معاني مفرداته على العرب إلا نادرا لبعض الجهات التي لا ينفك عنها نوع الإنسان كما يروى في الأبّ و القضب في قوله تعالى في سورة عبس وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً. و لكن لما تشرفت الأمم من غير العرب بالإسلام و تطورت اللغة العربية بسبب الاختلاط و مرور الزمان عرض لبعض الألفاظ التي كانت متداولة مأنوسة معروفة المعاني في عصر النزول ان صارت غريبة بعد ذلك في استعمال العامة بعيدة عن فهمهم لمعانيها. و لا زال ذلك يزداد يوما فيوما حتى سرى داؤه إلى بعض الخواص. و لاستراحتهم في ذلك الى الاتباع و التقليد أثر غير هين إذن فيرجع في التفسير لمفردات ألفاظه الشريفة الى ما يحصل به الاطمئنان و الوثوق من مزاولة علم اللغة العربية و التدبر في موارد استعمالها مما يعرف انه من كلام العرب و لغتهم.

و ان للتدبر في أسلوب القرآن الكريم و موارد استعماله و قراءتها دخلا كبيرا في ذلك. و اما محض الركون الى آحاد اللغويين تعبدا بكلامهم و تقليدا لآرائهم فذاك مما لا مساغ له. فان الأغلب أو الغالب مما يستندون اليه في أقوالهم ما هو إلا الاعتماد على ما يحصلونه بحسب افهامهم و تتبعهم لموارد الاستعمال مع الخلط للحقيقة بالمجاز و عدم التثبت بالقرائن و مزايا الاستعمال. ألا ترى كم يشهد بعضهم على بعض بالخطإ و الوهم و من شواهد ما ذكرناه ما وقع في تفسير اللمس و المسّ من الاضطراب و الخبط. ففي النهاية مسست الشي ء إذا لمسته بيدك. و في القاموس لمسه مسه بيده و مسسته أي لمسته. و في المصباح مسسته أفضيت اليه بيدي من دون حائل هكذا قيدوه و قال قبل ذلك لمسه افضى اليه باليد. هكذا فسروه. و قال ابن دريد اصل اللمس باليد ليعرف مس الشي ء و قال لمست مسست و كل ماس لامس. و قال الفارابي اللمس المس. و في التهذيب عن أبن الاعرابي اللمس يكون مس الشي ء و قال في باب الميم المس مسّك الشي ء بيدك. و قال الجوهري اللمس

ص: 32

المس ثمّ قال في المصباح و إذا كان اللمس هو المس فكيف يفرق الفقهاء بينهما انتهى. و لعلك تذعن بأن الفقهاء احذق في استفادة المعنى من تتبع موارد الاستعمال و ذلك لما اعتادوه و شحذوا به أذهانهم من بذل الجهد بالبحث و التحقيق فإن الفرق بين معنيي اللمس و المس واضح بحكم التبادر و التتبع لموارد الاستعمال. و غير خفي ان المعروف و المتبادر تبادرا يجزم معه بعدم النقل عن المعنى اللغوي الأصلي هو ان اللمس هو الإصابة بما به الإحساس من البدن بقصد الاحساس للملموس لا خصوص اللمس باليد و لا مطلق المس نعم كثير من موارد اللمس ما يكون باليد باعتبار انها آلة عادية و أقوى إحساسا. كما ان المس هو مطلق الإصابة لا بقصد الاحساس و قد صرح جماعة من أساطين علمائنا بأن معنى المس لغة بل و عرفا هو ما ذكرناه كما في المعتبر و المنتهى و روض الجنان و الحدائق بل و المهذب البارع و أظن ان الذي يحقق في مراجعة العرف و التبادر و تتبع موارد الاستعمال قديما و حديثا لا يشك في ان معنى اللمس هو ما ذكرناه أولا.

و من شواهد ما ذكرناه هو الاضطراب في معنى التوفي و ما استعمل في لفظه المتكرر في القرآن الكريم. فاللغويون جعلوا الإماتة في معنى التوفي. و الكثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران 48 يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ قالوا أي مميتك.

و قال بعض مميتك حتف انفك. و قال بعض مميتك في وقتك بعد النزول من السماء و كأنهم لم ينعموا الالتفات الى مادة التوفي و اشتقاقه و محاورات القرآن الكريم و القدر الجامع بينها. و إلى استقامة التفسير لهذه الآية الكريمة و اعتقاد المسلمين بأن عيسى لم يمت و لم يقتل قبل الرفع إلى السماء كما صرح به القرآن. و إلى ان القرآن يذكر فيما مضى قبل نزوله ان المسيح قال للّه فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي و من كل ذلك لم يفطنوا الى أن معنى التوفي و القدر الجامع المستقيم في محاورة القرآن فيه و في مشتقاته إنما هو الأخذ و الاستيفاء و هو يتحقق بالإماتة و بالنوم و بالأخذ من الأرض و عالم البشر إلى عالم السماء. و إن محاورة القرآن الكريم بنفسها كافية في بيان ذلك كما في قوله تعالى في سورة الزمر 43: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ألا ترى انه لا يستقيم الكلام إذا قيل اللّه يميت الأنفس حين موتها و كيف يصح ان التي لم تمت يميتها في منامها. و كما في قوله تعالى في سورة الانعام 60: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ

ص: 33

لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ فإن توفي الناس بالليل إنما يكون بأخذهم بالنوم ثم يبعثهم اللّه باليقظة في النهار ليقضوا بذلك آجالهم المسماة ثم إلى اللّه مرجعهم بالموت و المعاد. و كما في قوله تعالي في سورة النساء 19: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ فإنه لا يستقيم الكلام إذا قيل يميتهنّ الموت و حاصل الكلام ان معنى التوفي في موارد استعماله في القرآن و غيره إنما هو أخذ الشي ء وافيا أي تاما كما يقال درهم واف و هذا المعنى ذكره اللغويون للتوفي في معاجمهم و قالوا ان توفاه و استوفاه بمعنى واحد و أنشدوا له قول الشاعر

ان بني الادرد ليسوا لأحد و لا توفاهم قريش في العدد

أي لا تتوفاهم و تأخذهم تماما (قلت) لكنّ بين الاستيفاء و التوفي فرقا واضحا من جهة اثر الاشتقاق فإن الاستيفاء استفعال كالاستخراج يشير إلى طلب الآخذ و استدعائه و معالجته و التوفي يشير إلى القدرة على الآخذ بدون حاجة إلى استدعاء و طلب و معالجة و لذا اختص القرآن الكريم بلفظ التوفي و عدل عن الأخذ لعدم دلالته على التمام و الوفاء كالتوفي الدال على تمام القدرة على نحو المعنى في إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. و لك العبرة فيما قلناه بقوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فإنك إن جعلت قوله تعالى وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ معطوفا على الأنفس لم تقدر أن تقول أن معنى يتوفى يميت. و إن قلت ان التوفي في المنام اماتة مجازية قلنا كيف يكون معنى اللفظ الواحد معنيين معنى حقيقيا و معنى مجازيا و يتعلق باعتبار كل معنى بمفعول و يعطف احد المفعولين على الآخر مع اختلاف المعنى العامل به. و هل يكون اللفظ الواحد مرآة لكل من المعنيين المستقلين كلا لا يكون. و إن جعلت قوله تعالى وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ مفعولا لكلمة «يتوفى» مقدرة يدل عليها قوله تعالى يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ قلنا ان دلالة الموجود على المحذوف إنما هي بمعناه كما لا يخفى على من له معرفة بمحاورات الكلام فى كل لغة فكيف يجعل التوفي بمعنى الموت دليلا على توف محذوف هو بمعنى آخر .. إذن فليس الا أن التوفي بمعنى واحد و هو الأخذ تماما و وافيا. إمّا من عالم الحياة. و إما من عالم اليقظة. و اما من عالم الأرض و الاختلاط بالبشر إلى العالم السماوي كتوفي المسيح و أخذه و من الغريب ما قاله بعض من أن رفع المسيح إلى السماء غير مشتمل على أخذ الشي ء تاما انتهى و ليت شعري ماذا بقي من المسيح في الأرض و ماذا تعاصى منه على قدرة اللّه في أخذه فلا يكون رفعه مشتملا على أخذ الشي ء تاما. هذا و لا يخفى ان القرآن ناطق بأن المسيح ما قتلوه

ص: 34

و ما صلبوه و لكن شبه لهم و رفعه اللّه اليه و إن عقيدة المسلمين مستمرة كإجماعهم على انه لم يمت بل رفع إلى السماء إلى ان ينزل في آخر الزمان فلأجل ذلك التجأ بعض من يفسر التوفي بالإماتة إلى ان يفسر قوله تعالى يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مميتك في وقتك بعد النزول من السماء و لكني لا أدري ماذا يصنع بحكاية القرآن لما سبق على نزوله في قوله في أواخر سورة المائدة «116 و 117: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ- ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ- فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ فهل

يسوغ ان تفسر هذه الآية بالوفاة بعد النزول و هل يصح القياس في ذلك على قوله تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ و هل يخفى ان مقتضى كلام المسيح في الآيتين هو انه بعد ان توفاه اللّه و انقطعت تبليغاته في دعوة رسالته و كونه شهيدا على أمته تمحض الأمر و رجع إلى ان اللّه هو الرقيب عليهم. و ان سوق الكلام و اتساقه ليدل على اتصال الحالين. و ان الرقيب كيفما فسرته إنما يكون رقيبا في وجود تلك الأمة في الدنيا دار التكليف لا الآخرة التي هي دار جزاء و انتقام. و لا تصح الطفرة في المقام من أيام دعوة المسيح لأمته في رسالته و كونه شهيدا عليهم إلى ما بعد نزوله من السماء في آخر الزمان حيث يكون وزيرا في الدعوة الإسلامية لا صاحب دعوة. و من الواضح أن المراد في الآيتين من الناس الذين جرى الكلام في شأنهم إنما هم الذين كانوا أمة المسيح و في عصر رسالته و نوبة دعوته و تبليغه ... و أما صرف وجهة الكلام إلى الناس الذين هم في أيام نزوله من السماء فما هو إلا مجازفة فيها ما فيها و تحريف للكلم ... و أما قوله تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فلم يكن اخبارا ابتدائيا يكون وقوع الفعل الماضي فيه باعتبار حال المتكلم كما في الآيتين بل جاء في سياق قوله تعالى ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ في حوادث زمان البعث و القيامة و مقدماتها فهو في سياقه ناظر إلى ذلك الحين و سياق الكلام يجعله بدلالته في قوة قوله و نفخ حينئذ في الصور فهو على حقيقة الفعل الماضي و باعتبار ذلك الحين كما في قوله وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. هذا و بعض المفسرين لقوله تعالى يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قال أي مميتك حتف انفك. و أقول ان أراد الإماتة بعد نزول المسيح من السماء شارك ما سبق من التفسير فى ورد الاعتراض عليه و ان أراد اماتته قبل ذلك و قبل نزول القرآن خالف المعروف من عقيدة المسلمين و إجماعهم في اجيالهم و يرد عليه السؤال ايضا بأنه من أين جاء بالإماتة حتف انفه و ماذا يصنع بما جاء في القرآن

ص: 35

كثيرا مما ينافي اختصاص التوفي بالموت حتف الأنف بل المراد منه الأخذ بالموت و إن كان بالقتل كقوله في سورة الحج 5 و المؤمن 69 في أطوار خلق الإنسان من التراب و النطفة إلى الهرم. وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لتكونوا شيوخا و منكم من يتوفى من قبل و في سورة البقرة 234 و 241 وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً و يونس 104 وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ و النحل 72 وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ و السجدة 11 قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ و الأعراف 35 حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ و النساء 99 تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ و النحل 30- 33 تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ و الانعام 61 تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا و محمد (صلی الله علیه و آله) 39 فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ و الأنفال 52 وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ و الزمر 43 اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها و إنك لا تكاد تجد في القرآن المجيد لفظ التوفي مستعملا فيما يراد منه الإماتة حتف الأنف إذن فمن اين جي ء بذلك في قوله تعالى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ نعم ابتلى لفظ التوفي و مشتقاته بالأخذ بمعناه يمنة و يسرة حتى ان العامة حسبوها مرادفة للموت حتى انهم يقولون في الذي مات توفى بفتح التاء و الواو و الفاء بالبناء للفاعل و يقولون في الميت متوفي بكسر الفاء و صيغة اسم الفاعل بل يحكى ان أمير المؤمنين عليا (علیه السلام) كان يمشي خلف جنازة في الكوفة فسمع رجلا يسأل عن الميت و يقول من المتوفي بكسر الفاء و أما ما نسب إلى ابن عباس من ان معنى قوله تعالى يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ إني مميتك فما أراه إلا كما نسب إلى ابن عباس في مسائل نافع بن الأزرق كما ذكر في الفصل الثاني من النوع السادس و الثلاثين من إتقان السيوطي من ان نافعا سأله عن قول اللّه ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي بما يرجع إلى معنى تبهظهم و تثقل عليهم كما قال عمر ابن كلثوم في معلقته.

(و متني لدنة سمقت و طالت روادفها تنوء بما ولينا)

و كما أنشده اللغويون.

(إلا عصا ارزن طالت برايتها تنوء ضربتها بالكف و العضد)

فذكر ان ابن عباس قال له في الجواب لتثقل أو ما سمعت قول الشاعر

تمشي فتثقلها عجيزتها مشي الضعيف ينوء بالوسق

أي ينهض بالوسق بتكلف و جهد على عكس المعنى المذكور في القرآن. أ فهل ترى ابن

عباس يفسر تنوء التي في الآية بغير معناها كما ثار من هذا الاستشهاد المنسوب اليه اعتراض

ص: 36

النصارى بأن القرآن جاء بلفظة «لتنوء» في غير محلها. و هل ترى ابن عباس لا يعرف ان معنى ينوء بالوسق ليس يثقل بل ينهض به بتكلف. و هل ترى ابن عباس لا يدري ببيت المعلقة ليستشهد به استشهادا صحيحا مطابقا منتظما. كيف و إن المعلقات كانت للشعر في ذلك العصر كبيت القصيد و لكن «حنّ قدح ليس منها» و قد خرجنا عما نؤثره من الاختصار و لكنا ما خرجنا عن المقصود الاصلي من الكلام في تفسير القرآن الكريم بل سارعنا إلى شي ء من الخير و اللّه المسدد الموفق

المقام الثاني

لا يخفى ان القرآن الكريم مبني على ارقى أنحاء البلاغة العربية و تفننها بمحاسن المجاز و الاستعارة و الكناية و الإشارة و التلميح و غير ذلك من مزايا الكلام الراقي ببلاغته مما كان مأنوس الفهم في عصر النزول و رواج الأدب العربي و قيام سوقه. و كان بحيث يفهم المراد منه و مزاياه بأنس الطبع و مرتكز الغريزة كل سامع عربي. و لكن بعد اشتراك الأمم في بركة الإسلام و امتلاء جزيرة العرب من الأمم و تفرق العرب بالتجنيد في غير البلاد العربية تغير أسلوب الكلام العربي في عامة الناس و تبدلت مزايا الكلام و أساليب المحاورات فعاد ذلك المأنوس غريبا في العامة و ذلك الطبيعي الغريزي يحتاج في معرفته إلى ممارسة التطبع و كلفة التعلم و التدرب في اللغة العربية و أدبها على النهج السوي. من دون تقليد معرقل و لا وقوف عند الأسماء و لا جمود على قشور القواعد التي مهدها المتدربون في العربية من الخواص اقتباسا بقدر الوسع من ذلك الأدب القديم. فدونوا من مبتذلها شيئا و فاتهم من أسرارها و حقائقها الشي ء الكثير. و ربما أدت بهم و عورة البحث و الجمود على التقليد إلى عثرات الوهم أو احجام الشكوك انظر إلى ان جماعة من النحويين كالشراح لألفية ابن مالك و غيرهم قالوا في قول الراجز «جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط» ان التقدير بمذق مقول فيه هل رأيت إلخ و لا يخفى ان الراجز يريد وصف المذق بما يبين حاله و تبدل لونه بكثرة الماء و ماذا يجدي فى ذلك كونه مقولا فيه هل رأيت الذئب قط و لم يفطنوا إلى ان الصفة التي يريدها الراجز كما يقتضيها المقام قد أشار إليها باستفهامه الذي هو بمنزلة التمثيل الحي لها. فكأنه قال جاؤوا بمذق لونه كلون الذئب هل رأيت الذئب يوما من الأيام فإن لون المذق كلونه فاعرف كيف كان.

و من شواهد ذلك ان صاحب الكشاف مع تضلعه من الأدب العربي و معرفته بفذلكات الكلام

ص: 37

اضطرب كلامه و تفسيره في كلمة واحدة تكررت في القرآن الكريم على نحو واحد و هو قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ ففي سورة الواقعة في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ قال فأقسم و ان «لا» مزيدة مثلها في قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ و في قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم و أشعارهم قال امرؤ القيس.

(و لا و أبيك ابنة العامري لا يدعي القوم اني افر)

و قال غوية بن سلمة.

(ألا نادت امامة باحتمال لتحزنني فلا بك لا ابالي)

و فائدتها توكيد القسم و قالوا انها صلة اي زائدة مثلها في لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ و قال في ذلك كلاما فيه ما فيه و قال و الوجه ان يقال هو للنفي و المعنى في ذلك انه لا يقسم بالشي ء إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فكأنه بإدخال حرف النفي يقول ان اعظامي له باقسامي به كلا إعظام يعني ان يستأهل فوق ذلك انتهى.

و مقتضى بيانه هذا ان يقول إعظاما للمقسم به فإنه أوضح للبيان من مثله. و ليته لم يخلط بين دخول «لا» على فعل القسم كما في الآيتين و بين دخولها على حرف القسم كما في بيتي امرء القيس و غوية و غيرهما مما لا يقع جوابه إلا منفيا فإنه واضح الظهور في ان «لا» فيه نافية موطئة لنفي الجواب لتأكيده و سبيلها سبيل قوله تعالى في سورة النساء 68 فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ. و في سورة الحاقة في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ قال اقسام بالأشياء كلها. و في سورة البلد فى قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قال اقسم بالبلد الحرام و لم يقل شيئا في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ في سورة المعارج و التكوير و الانشقاق. و من شواهد ذلك ما سمعته هنا عن صاحب الكشاف في قوله تعالى لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ من ان «لا» في لئلا مزيدة و صرّح ايضا بذلك في تفسير سورة الحديد حيث قال لِئَلَّا يَعْلَمَ ليعلم- و وافقه على ذلك جماعة فاغتنم اعداء القرآن الكريم من ذلك فرصة فاعترضوا على القرآن بأنه مشتمل على الزيادة اللغوية و لكن الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 350 و 355 أوضح البطلان في زعم الزيادة كما عليه جماعة من ان المعنى. ان اللّه وعد الذين آمنوا و يتقون اللّه و يؤمنون برسوله ان يؤتيهم كفلين من رحمته و يجعل لهم نورا يمشون به و يغفر لهم و من فوائد ذلك و غاياته ان لا يعلم اهل الكتاب ان الذين آمنوا لا يقدرون على شي ء من فضل اللّه و لأن الفضل بيد اللّه الآية و ليت شعري لماذا لا تنزه جلالة القرآن المجيد و براعته عن لغوية هذه

ص: 38

الزيادة التي لا غاية فيها إلا الإيهام.

و في تفسير قوله تعالى في سورة الأعراف 11 قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قال في الكشاف أيضا «لا» في ان لا تسجد صلة «أي زائدة» بدليل قوله تعالى أي في سورة (صلی الله علیه و آله) 75 ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ و مثلها لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ بمعنى ليعلم انتهى. أقول و إن التدبر في آيات الأعراف.

و ص يشهد بأن «لا» غير زائدة بل جي ء بها في الأعراف للاشارة إلى أمر قد صرح به في آيات ص و ذلك ان الفعل قد يكون له مانع من ضد او عذل أو غفلة او عجز أو كل و قد يكون له سبب داع و حامل على تركه و مخالفته الأمر به فسأل اللّه إنكارا أو توبيخا في سورة ص عن المانع بقوله تعالى ما مَنَعَكَ ان تسجد و عن السبب و الحامل على المخالفة بقوله تعالى أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ و أشار جل شأنه في سورة الأعراف بوجود (لا) إلى السؤال عن السبب الحامل على المعصية بعد السؤال عن المانع فكأنه قال ما منعك من ان تسجد و ما حملك على ان لا تسجد و لذا وقع الجواب من إبليس في كلا المقامين بيان السبب الحامل له على ان لا يسجد لا التعليل بالمانع فقال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و كذا الكلام في قوله تعالى في سورة طه 94 قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي فإن التفريع فى قوله أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي يدل على انه قد سبق السؤال عن المانع عن الاتباع و عن السبب الحامل على المعصية بتركه و أشير اليه بإدخال «لا» و لكن قال في الكشاف لا مزيدة و المعنى ما منعك ان تتبعني. و قال اللّه في سورة الأنبياء 95 وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ و في الكشاف فسر الإهلاك بالعزم عليه و فسر الرجوع بالرجوع من الكفر إلى الإسلام و هذا مختاره على الظاهر من الوجوه الثلاثة ثم قال فيه و «لا» صلة مزيدة انتهى و ليته أبقى الإهلاك على ظاهره و فسر الرجوع بالرجوع إلى الإيمان و التوبة عند مشاهدة آيات الهلاك و أحوال الموت كإيمان فرعون عند الغرق كما في سورة يونس 90. أو كالذين إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ و كما في سورة النساء 22.

و كما ذكره اللّه في سورة المؤمنين في حال المشركين و الظالمين 101 حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ فإن قولهم هذا رجوع إلى التوبة و لكنها لا تقبل كما قال اللّه في الموارد الثلاثة و يكون معنى الآية الكريمة هو ان أهل القرى

ص: 39

التي أهلكها اللّه حرام عليهم بسبب مشاهدتهم لآيات الإهلاك و حضور الموت و ممتنع في العادة و منفيّ بالمرة كونهم لا يرجعون إلى التوبة و الإيمان بحسب الفطرة و إن كان لا ينفعهم و يستمرون على ما هم فيه حتى إذا جاءت الساعة و صار يوم القيامة و عاينوا ما كانوا يوعدون قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة عن هذا.

و قال اللّه تعالى في سورة آل عمران 73 ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ 74 وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً و لا يخفى ان قوله تعالى (و لا يأمركم) معطوف على (يقول) المعطوف بثمّ على المنفي بقوله تعالى (ما كان) أي ليس له و إن (لا) هنا نافية يؤتى بها لتثبيت النفي في الأمرين مثلها في قولك ليس لك ان تقوم و لا أن تأكل لئلا يتوهم ان النفي للجمع بين الأمرين و الجمع بين القيام و الأكل كما قال في الكشاف في ثاني وجهيه في الآية. و قال في الكشاف ان في الآية وجهين أحدهما ان نجعل «لا» مزيدة و المعنى ثمّ يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له و يأمركم ان تتخذوا النبيين و الثاني ان نجعل «لا» نافية غير مزيدة و المعنى ما كان لبشر يستنبئه اللّه ان يأمر الناس بعبادته و ينهاكم عن عبادة الملائكة أي ما كان له أن يجمع بين الأمر و النهي. و يا للعجب ممن سوغ لنفسه في مثل بلاغة القرآن المجيد ان يفسر لا يأمركم بقوله ينهاكم و لو فسر بذلك كلام واحد من الناس لأوسعه من الملام ما أوسعه- و لم ينفرد الزمخشري بدعوى زيادة (لا) في هذه الموارد بل ادعى ذلك جماعة من المفسرين و النحويين كما ذكر ابن هشام في المغنى في كلمة «لا» و لو ان زيادة «لا» محققة في كلام العرب متداولة في شعرهم و نثرهم لما ساغ لهؤلاء ان يقولوا بذلك في مثل بلاغة القرآن الكريم و مجدها و في خصوص الموارد التي ادعوا فيها الزيادة فإن البلاغة بل استقامة الكلام تقتضي تثبيت إثباتها و رفع أوهام النفي عنها لو كانت مثبتة إذن فكيف يقلق مضمونها الشريف بما يوهم النفي و يشوش الكلام. و ان المخبر الذي يعرف كيف يتكلم لا يدخل على خبره ما يوهم نقيضه هذا مع اني لم أجد شاهدا ذكروه من الكلام على زيادة «لا» إلا قوله:

(و تلحينني في اللهو أن لا أحبه و للهو داع دائب غير غافل)

و لو كان هذا من شعر العرب و كان المراد منه ما فهموه لجاز أن يضمر فيه و تأمرينني بأن لا أحبه أو و تدعينني إلى أن لا أحبه. و من غرائبهم استشهاد بعضهم أيضا بقول الشاعر

ص: 40

ابى جوده لا البخل و استعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

نعم لم يوافقهم الزمخشري على زعمهم لزيادة (لا) في قوله تعالى في سورة الأنعام 109 وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ و قوله تعالى فيها 152 قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا. و من شواهد ذلك انك سمعت كلام الكشاف في دخول لا النافية على القسم و استفاضته في كلامهم و أشعارهم و ما ذكره من الشواهد في الشعر و مع ذلك قال في تفسير سورة النساء في قوله تعالى فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ معناه فو ربك كقوله تعالى فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ و «لا» مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لِئَلَّا يَعْلَمَ لتوكيد وجوب العلم انتهى ... فانظر فيه و اعتبر و قل أين ما ذكرته من الاستفاضة و اين مضى الاستشهاد بالشعر. و لو لا الحمل على التحامل لذكرنا عن الكشاف و غيره اكثر من ذلك و في ذلك كفاية لأولي الألباب: و من ذلك ما نقله السيد الرضي في حقائق التأويل من قول بعضهم بزيادة الواو في قوله تعالى في سورة آل عمران 85 وَ لَوِ افْتَدى بِهِ. و ابراهيم 52 وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ.

و الزمر 73 وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها. أقول و لمثل هذه الواو في القرآن موارد و هي فيها كلها واو العطف على محذوف يدل عليه سياق القرآن بكرامة نهجه و براعة أسلوبه في مناحي البلاغة و يجلوه المقام باشراق تلك البراعة بأجلى المظاهر كما سيأتي التنبيه عليه في موارده ان شاء اللّه. و من شواهد ذلك مما جناه القصور ان جماعة وقفوا عن الوصول في بعض ما في القرآن الكريم من فرائد البراعة و فوائد البلاغة حتى صار يلوح من ترددهم ان ذلك مخالف لقواعد العربية فاغتنم اعداء القرآن من ذلك فرصة الاعتراض و قد ساعد التوفيق على التعرض لتلك الاعتراضات و بيان خطأها بإيضاح براعة القرآن الكريم في مواردها بأسرار البلاغة و لباب الأدب العربي و بواهر اساليبه و قد كتب شي ء من ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى و في خصوص المقدمة الثالثة عشرة من صفحة 321 حتى آخره ... و من شواهد ذلك ان كثيرا من مجازات القرآن الكريم و استعاراته للواضحة العلاقة و الفائقة في لحاظ التشبيه و مرمى الإشارة و المؤيدة بأحكام العقل و محكمات الكتاب هذه الاستعارات التي كانت من ازهار الأدب العربي الغريزي حين ما كان روضه زاهيا زاهرا عادت بعد ما ذوى خميله معركة للآراء و هدفا للجحود و إن حامت عنها محكمات الكتاب و نصرتها البراهين العقلية في تقديس اللّه و تفرده بالكمال.

فمن ذلك ما في القرآن من نسبة الإضلال إلى اللّه جل اسمه في عدة آيات منها السابعة و العشرون

ص: 41

من سورة الرعد و الثانية و الثلاثون من سورة ابراهيم و نحوهما. فإن التعبير في ذلك بالإضلال مجاز فائق في الحسن يمثل ببراعته حاجة الإنسان مع نفسه الأمارة إلى لطف اللّه به و عنايته في توفيقه و يشير الى ما في اللطف و التوفيق من الأثر الشريف الكبير في النعمة على الإنسان و ينبه إلى ان خذلان اللّه للإنسان المتمرد برفع العناية في التوفيق و ايكاله إلى نفسه شبيه بإضلاله في قوة الأثر. كل ذلك لأجل التنويه و الامتنان بنعمة اللّه في توفيقه لعباده و لأجل هذه المزايا الفائقة استعير الإضلال لخذلان اللّه لعبده المتمرد و إيكاله إلى نفسه و العياذ باللّه و لقد كان يكفي في القرينة على التجوز في لفظ الإضلال هنا و صرفه عن مقتضى وضعه ما في القرآن من المحكمات مثل قوله تعالى في سورة الأعراف 27 إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ و في سورة النحل 92 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن تمجد اللّه بذلك كاف في كونه قرينة على ان الإضلال المنسوب للّه تعالى شأنه إنما هو مجاز. و إن مجده و الطافه جلت آلاؤه تعين المراد منه و هو ما ذكرناه. و كيف يكون الإضلال المنسوب إلى اللّه على حقيقته مع أن اللّه يذم الضالين و يعذبهم على ضلالهم و يوبخهم بقوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ. لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ. لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.

فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا و تمام الكلام في الكتب الكلامية.

و قد ذكر شي ء منه في الجزء الثالث من الرحلة المدرسية صفحة 29 إلى 42: و من ذلك ان الفرقة الظاهرية لم تلتفت إلى المجاز و وجهه الواضح في قوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى و لم يصرفهم عن المعاني الحقيقة لهذه الألفاظ ضرورة العلم من القرآن و البراهين القطعية في ان اللّه منزه عن الجسم و الأين و المكان لكي يعرفوا ان المراد بالعرش هنا هو شأن القدرة و الجلال و استيلاء السلطان على الملكوت في الأزل و الأبد. و لأجل إحضار هذا الشأن العظيم في أذهاننا القاصرة و ملأ قلوبنا بعظمته مثل القرآن لتصورنا المحدود بتشبيهه بما نعرفه و نعرف آثاره من العرش الجسماني للملك الأرضي الذي بالصعود عليه صعودا زمنيا ينفذ سلطانه و تعم قدرته.

و من آثار الظاهريين العجيبة ما

أخرجه ابن مردويه و الخطيب في تاريخه و ابن منصور في سننه من مسند عمر عن النبي (صلی الله علیه و آله) في قوله تعالى عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى قال حتى يسمع له اطيط الرحل.

و انظر إلى كنز العمال الجزء الأول صفحة 226 و كذا منتخب الكنز و اطيط

ص: 42

الرحل و القتب صوته أي صوت أخشابه من ضغط ثقل الراكب و الحمل و سيأتي شبيه ذلك في تفسير آية الكرسي. و في ميزان الذهبي من أنكر ما جاء عن مجاهد في التفسير في قوله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال يجلسه معه على العرش. و في شواهد الحق كتاب الشيخ يوسف النبهاني صفحة 130 قال و من كتب ابن تيمية كتاب العرش قال في كشف الظنون ذكر فيه إن اللّه يجلس على العرش و قد أخلى فيه مكانا يقعد معه فيه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كما ذكر ذلك ابو حيان فى قوله تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و قال يعني أبا حيان قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية بخطه ما صورته ما ذكرناه و نقلها كشف الظنون من طريق آخر عن السبكي انتهى. و على هذا الوتر ضرب محمد بن عبد الوهاب في رسالته المطبوعة في ضمن مجموعة فيها عدة من الرسائل طبعت في مكة فانظر إلى صفحة 155 و 156 من المجموعة و كذا عبد الرحمن بن حسن الوهابي في صفحة 36 من المجموعة المذكورة

المقام الثالث

جاء في القرآن شي ء كثير من الألفاظ العامة التي يراد بها الخاص أو التي هي نص في خاص باعتبار نزولها في شأنه و غير ذلك مما كان معروفا في عصر نزوله ثمّ صارت اسباب الخفاء تختلسه شيئا فشيئا و تجعل ضده كما في خرافة الغرانيق و آية التمني.

و المفزع في تفسير ذلك هو ما يحصل به العلم من اجماع المسلمين او اتفاقهم في الرواية للتفسير. او في الرواية عن الرسول (صلی الله علیه و آله) في الدلالة على من يفزع اليه بعده في تفسير كتاب اللّه و ذلك كحديث الثقلين المتواتر القطعي الذي ذكره إخواننا من اهل السنة في كتبهم و أوردوا من روايته عن الصحابة الذين سمعوه من رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) اكثر من ثلاثين صحابيا و بقي على ذلك متواترا في كل عصر إلى العصر الحاضر و هو

قوله (صلی الله علیه و آله) «إني تارك فيكم الثقلين او الخليفتين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»

و ان لفظ العترة و الأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في تعيين اهل البيت يعينان المراد من اهل البيت فضلا عن دلالة العرف و المحاورات.

و قوله (صلی الله علیه و آله) ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ابدا مع قوله (صلی الله علیه و آله) فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض

يعينان الأئمة الاثني عشر المعصومين من عترة الرسول و ذريته. و من دلائل ذلك اجماع المسلمين على ان من عدا هؤلاء ليس معصوما و لا يتصف بانه مثل كتاب اللّه لا يضل من تمسك به

ص: 43

و هاك اسماء الصحابة السامعين لهذا الحديث عن رسول اللّه (1) علي (علیه السلام) امير المؤمنين (2) عبد اللّه بن عباس (3) ابو ذر الغفاري (4) جابر الأنصاري (5) عبد اللّه بن عمر (6) حذيفة بن أسيد (7) زيد بن أرقم (8) عبد الرحمن بن عوف (9) ضميرة الأسلمي (10) عاصم ابن ليلى (11) ابو رافع (12) ابو هريرة (13) عبد اللّه بن حنطب (14) زيد بن ثابت (15) ام سلمة (16) ام هاني أخت امير المؤمنين علي (علیه السلام) (17) خزيمة بن ثابت (18) سهل بن سعد (19) عدي بن حاتم (20) عقبة بن عامر (21) ابو أيوب الأنصاري (22) ابو سعيد الخدري (23) ابو شريح الخزاعي (24) ابو قدامة الأنصاري (25) ابو ليلى (26) أبو الهيثم بن التيهان.

و هؤلاء الذين ذكرنا أسماءهم من بعد ام هاني قد رواه كل منهم منفردا كمن تقدمه و قاموا في رحبة الكوفة مع سبعة من قريش فشهدوا انهم سمعوه من رسول اللّه فهؤلاء ثلاثة و ثلاثون.

و رواه ابو نعيم الأصبهاني في كتاب منقبة المطهرين مسندا عن جبير بن مطعم و أسنده أيضا عن انس بن مالك و أسنده عن البراء بن عازب و رواه موفق بن أحمد اخطب خوارزم عن عمرو بن العاص. و قلّ ما يخلو عن رواية هذا الحديث مسند أو جامع أو كتاب في الفضائل لأهل السنة من أول ما اخرج الحديث من الحفظ و صدور الحفاظ الى صحف المحدّثين و لا زال يروي فيها عن صحابي واحد أو أكثر و ربما روي في واحد منها عن أكثر من عشرين صحابيا اما مجملا كما في الصواعق و اما مسندا مفصلا كما في كتب السخاوي و السيوطي و السمهودي و غيرهم و من أراد الاطلاع فليرجع إلى الجزأين المكتوبين في أسانيد هذا الحديث من كتاب العبقات و رواه الإمامية في كتبهم بأسانيدهم المتكررة عن الباقر (علیه السلام) و الرضا (علیه السلام) و الكاظم (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام) عن آبائهم (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و بالأسانيد الأخر عن أمير المؤمنين (علیه السلام) و عمر و أبي ذر و جابر و أبي سعيد و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت و حذيفة بن أسيد و أبي هريرة و غيرهم عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كما في غاية المرام و تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني طاب ثراه و غير ذلك.

و لعلك تقول ان البخاري لم يذكر هذا الحديث في جامعه فاعرف إذن ان المحدثين لا يلتفتون إلى استفاضة الحديث و تواتره و افادته للعلم من هذه الجهة كما هو شأن العالم المحقق في حجته و بحثه عن الحقائق. و إنما المهم للمحدث و الموضوع في فنه هو الحديث الآحادي

ص: 44

الذي يأخذه بما عندهم في طرق الأخذ من رجل عن آخر على شروط يقررها في السند فكأن البخاري لم يحصل شرطه في سند من أسانيد الحديث الآحادية و لكن

الحاكم في مستدركه استدرك عليه و على مسلم حديث زيد بن أرقم من طريق حبيب عن أبي الطفيل قال لما رجع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) عن حجة الوداع و نزل غدير خم أمر بدوحات فقممن فقال (صلی الله علیه و آله) إني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه و عترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ثم قال إن اللّه عز و جل مولاي و أنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد عليّ فقال من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه.

و قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه بطوله.

و من طريق مسلم بن صبيح عنه قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و اهل بيتي و انهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

و قال الحاكم أيضا هذا صحيح الإسناد على شرط الشيخين و لم يخرجاه قلت و لم أجد من تعقب الحاكم على استدراكه بهذين الحديثين فيكون ذلك موافقة ممن عاصر الحاكم و من بعده على الإستدراك و صحة الحديثين على شرط البخاري و مسلم.

و من طريق سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل انه سمع زيد بن أرقم يقول و ساق نحو الحديث الأول و فيه إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما كتاب اللّه و أهل بيتي عترتي الحديث

و تعقبه الذهبي بأن في طريقه محمد بن سلمة و قد وهاه السعدي و ذكر له ابن عدي أحاديث منكرة. و مراده من السعدي هو ابراهيم بن يعقوب السعدي الجوزجاني كما ذكره في ترجمة محمد بن سلمة. قلت و ما ادراك ما السعدي فإنه معروف بالنصب و في الميزان عن ابن عدي كان شديد الميل الى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي (علیه السلام) و قد قال في إسماعيل ابن ابان الوراق شيخ البخاري انه كان مائلا عن الحق قال ابن عدي و لم يكن يكذب الجوزجاني يريد به ما عليه الكوفيون من التشيع إذن فاعرف السبب في تحامل الجوزجاني و ابن عدي على محمد بن سلمة. و لعمر العلم الحق ان الحديث بتواتره في غنى عن التعرض له في جامع البخاري- هذا و اما الرجوع في التفسير و أسباب النزول إلى أمثال عكرمة و مجاهد و عطا و ضحاك كما ملئت كتب التفسير بأقوالهم المرسلة فهو مما لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه و بين اللّه و لا تقوم به الحجة. لأن تلك الأقوال إن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة و لا يكون حجة من المسانيد إلا ما ابتنى على قواعد العلم الديني الرصينة و لو لم يكن

ص: 45

من الصوارف عنهم إلا ما ذكر في كتب الرجال لأهل السنة لكفى. و إن الجرح مقدم على التعديل إذا تعارضا. أما عكرمة فقد كثر فيه الطعن بأنه كذاب غير ثقة و يرى رأي الخوارج و غير ذلك. و قيل للأعمش ما بال تفسير مجاهد مخالف او شي ء نحوه قال أخذه من أهل الكتاب.

و مما جاء عن مجاهد من المنكرات في قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال يجلسه معه على العرش. و أما عطا فقد قال أحمد ليس في المراسيل أضعف من مراسيل الحسن و عطا كانا يأخذان عن كل أحد و قال يحيى بن القطان مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطا بكثير كان عطا يأخذ من كل ضرب و روي انه تركه ابن جريح و قيس بن سعد.

و أما الحسن البصري فقد قيل انه يدلس و سمعت كلام احمد فيه و في عطا. و أما الضحاك ابن مزاحم المفسر فعن يحيى بن سعيد قوله الضحاك ضعيف عندنا و كان يروي عن ابن عباس و أنكر ملاقاته له حتى قيل انه ما رآه قطّ. و أما قتادة فقد ذكروا انه مدلس. و أما مقاتل بن سليمان فقد قال فيه وكيع كان كذّابا. و قال النسائي كان مقاتل يكذب و عن يحيى قال حديثه ليس بشي ء و قال ابن حيان كان يأخذ من اليهود و النصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم.

و أما مقاتل بن حيان فعن وكيع انه ينسب إلى الكذب و عن ابن معين ضعيف و عن أحمد بن حنبل لا يعبأ بمقاتل بن حيان و لا بابن سليمان فانظر إلى ميزان الذهبي من كتب الرجال اقلا ودع عنك ان أصول العلم عندنا تأبى من الركون إلى روايتهم فضلا عن أقوالهم الا في مقام الجدل أو التأييد أو حصول الاستفاضة و التوافق في الحديث.

هذا و إن كثيرا من كتب التفسير قد لهج بأكذوبة شنيعة و هي ما زعموا من أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قرأ سورة النجم في مكة في محفل من المشركين حتى إذا قرأ قوله تعالى أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى قال (صلی الله علیه و آله) في تمجيد هذه الأوثان و حاشا قدسه «تلك الغرانيق الأولى منها الشفاعة ترتجى» فأخبره جبرائيل بما قال فاغتمّ لذلك فنزل عليه في تلك الليلة أية تسلية و لكن بماذا تسليه بزعمهم تسليه بما يسلب الثقة من كل نبي و كل رسول في قراءته و تبليغه. و الآية هي قوله تعالى في سورة الحج 51 وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فقالوا معنى ذلك إذا تكلم أو حدث أو تلا و قرأ ادخل الشيطان ضلاله في ذلك.

إذن فما حال الأمم المساكين و ما حال هداهم مع هذا الإدخال الذي لم يسلم بزعمهم

ص: 46

منه نبي أو رسول و لم يسلم منه شي ء من كلامهم أو حديثهم او تلاوتهم على ما يزعمون «ما هكذا تورد يا سعد الإبل» أ فلا صدهم من ذلك اقلا ان سورة الحج مدنية امر فيها بالأذان بالحج 27 و اذن فيها بالقتال 40 و أمر فيها بالجهاد 77 و لم يكن هذا الأمر و هذا الاذن إلا بعد الهجرة بأعوام. و إن الذي بين ذلك و بين الوقت الذي يجعلونه لخرافة الغرانيق و خرافة نزول الآية هذه في ليلتها يكون اكثر من عشرة أعوام و قد ذكر شي ء من الكلام في ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 123- 129 فلا بأس بمراجعته و من ذلك ان جملة من المفسرين و القرّاء يترددون في الوقف على بعض الكلمات لترددهم في ارتباطها بما بعدها أو بما قبلها. فلم يراعوا في ذلك مناسبات الكلام و جودته و الحاجة إلى التقدير او حسنه ... و من ذلك كلمة «فيه» من قوله تعالى في أول سورة البقرة ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ زعما منهم انها تكون خبرا مقدما لقوله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ و يقدرون مثلها لقوله تعالى لا رَيْبَ مع ان الوقف على لا ريب يجعل الكلام قلقا مبتورا بنحو لا يجدي فيه التقدير. و مع انه لا حاجة لجعل الظرف خبرا مقدما لهدى و جملته تكون خبرا ثانيا لذلك الكتاب. فإن كلمة هدى هي بنفسها تكون خبرا ... و هذا هو الأنسب بكرامة الكتاب المجيد فقد قال اللّه انه هُدىً وَ رَحْمَةً كما في الأعراف 50 و النحل 66 و 91 و غير ذلك و إن القرآن هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ و هُدىً لِلنَّاسِ و هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ و لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ كما في سورة البقرة 91 و 181 و النمل 29 و حم السجدة 44 و من ذلك كلمة «هذا» من قوله تعالى في سورة (يس) من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن. فكأنهم لا يلتفتون إلى أنّ المقام غني عن وصف المرقد باسم الإشارة حتى للإيضاح لأنهم يقولون ذلك عند خروجهم من الأجداث و مراقد القبور. و ان إخراج اسم الإشارة عن كونه مبتدءا و ما وعدنا خبره ليخرج الكلام عن الانتظام و يجعل صورته الحسنى مشوشة هي للنفي اقرب منها للاثبات و هو ضد المعنى الذي سيقت لبيانه الآية. هذا و أما الذين تهاجموا بآرائهم على تفسير القرآن بما يسمونه تفسير الباطن ركونا بآرائهم إلى مزاعم المكاشفة و الوصول و نزعات التفلسف أو التجدد أو حب الانفراد و الشهرة بالقول الجديد و إن كان فيها ما فيها فقد آثروا متاهة الرأي على النهج السويّ عن أصول العلم و فارقوه من أول خطوة

ص: 47

المقام الرابع

ان القرآن الكريم كثيرا ما ينسب التعقل و الإدراك و الاهتداء و نحو ذلك إلى القلب و المتجددون ينسبون الإدراك و آثاره إلى الدماغ و يعتمدون في حدسهم في ذلك على انهم رأوا تلافيف الدماغ اي عقده في الإنسان اكثر منها في سائر الحيوانات و ان الأعصاب الجمجمية المتصلة بظاهر الدماغ و المنتشرة أليافها في باطنه مرتبطة بأعصاب آلات الحس كالأذن و العين و غيرهما: و لكن مباحث التشريح تقف دون حدسهم هذا. فإن المجموع العصبي و النخاع الممتد إلى الفقرة القطنية الأولى التي هي تحت الفقرة الثانية عشرة من الظهر هذه كلها كمخ الدماغ في كونها مكوّنة من الجوهر السنجابي و الجوهر الأبيض فلا ميزة لتكوين الدماغ لكي يحدس امتيازه عنها بكونه كرسي الإدراك و التعقل دونها. و إن الأعصاب كما ترتبط بآلات الحس ترتبط أيضا بالقلب و الكبد و المعدة بل حتى الأسنان و أعضاء البدن إلى أنامل اليدين و الرجلين.

و أما ما يتراءى من أن صغر الدماغ يقارن ضعف الإدراك و التعقل إلى أن يصل الحال إلى البله فلا يدلّ على مدّعاهم بل يجوز أن يكون خروجه عن المقدار الطبيعي للإنسان ككثير من العوارض البدنية موجبا لضعف الجزء الآخر العاقل في أداء وظيفته. و أما التفاوت بين أدمغة الرجال و بين أدمغة النساء فهو جار في قلوب الصنفين أيضا. هذا مع أن الدماغ يزيد نموه في زمان قلة القوة العاقلة إلى السنة السابعة ثمّ ينمو بطيئا إلى الرابعة عشرة و يتقهقر نموه إلى العشرين و منها إلى الثلاثين و يقف عند الأربعين ثمّ ينقص وزنه في كل عشر سنين نحو اوقية مع أنّ الإنسان من العشرين فما زاد يزداد في قوة التعقل و يترقى في كونه أقوى و أحسن تعقلا و إدراكا. و القلب لا يزال يأخذ بالنمو و الزيادة إلى الأدوار الأخيرة من الحياة و لا سيما في الذكور. و هذا أنسب بأزمنة حسن التعقل وجودة الإدراك. مضافا إلى أنّ القلب هو مبدء الحركة الحيوية المديرة للدورة الدموية و أسباب الحياة و النمو و توزيع القوى على جميع أجزاء البدن فهو أنسب من غيره بأن تستخدمه الروح الحيوانية في أعمالها العقلية. و أيضا انّ بناء القلب مؤلف من حلفات ليفية و الياف عضلية و كلها على نوع مدهش من التغمم و التصالب و التشبك بحيث يقال انّ البناء العضلي للقلب لم يعرف كما ينبغي إلى الآن. و انّ بناء القلب و أليافه العضلية أكثر و أكثر تضمما و تصالبا و تشبكا من البناء الذي امتازت به عضلات الحياة الحيوانية الحساسة للإرادة التي هي من أعمال النفس و الممتثلة في أعمالها لأمرها. و هذا كله يشير إلى

ص: 48

أنّ لعضلية القلب و ميزة بنائه عمل نفسي كبير فائق يفوق ما ذكر لعضلات الحياة الحيوانية و أنسب ما يكون بذلك هو الإدراك و التعقل. نعم يمكن ان يكون الدماغ محفظة لصور المدركات التي يستودعها القلب إياه.

و خلاصة الحجة في ذلك هو ان وجوه الإعجاز في القرآن الكريم حجة على انه منزل من اللّه خالق القلب و الدماغ بعلمه و حكمته. و قد اخبر بأنّ محلّ الإدراك و التعقل و آثاره هو القلب

خاتمه

من جملة ما يحضرني عند كتابتي لهذا التفسير من كتب الشيعة من كتب التفسير و انقل عنه تفسير القمي عليّ بن ابراهيم. و الجزء الخامس من كتاب حقائق التأويل في متشابهات التنزيل للسيد الرضي طاب ثراه و هذا هو المقدار الموجود منه و ابتداؤه من الآية الخامسة من سورة آل عمران إلى نهاية تأويل الحادية و الخمسين من سورة النساء.

و كتاب مختصر التبيان للشيخ الطوسي. و هو قليل النسخة جدا و فيه احالات على كتابيه الخلاف و شرح جمل العلم. و كتاب مجمع البيان للطبرسي. و كتاب البرهان للسيد هاشم البحريني و هو تفسير بالحديث و هو مع الوسائل واسطتي إلى تفسير العياشي. و اما التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) فقد أوضحنا في رسالة منفردة في شأنه أنه مكذوب موضوع و مما يدل على ذلك نفس ما في التفسير من التناقض و التهافت في كلام الراويين و ما يزعمان انه رواية و ما فيه من مخالفة الكتاب المجيد و معلوم التاريخ كما أشار اليه العلامة في الخلاصة و غيره.

و من كتب آيات الأحكام كنز العرفان للمقداد و زبدة البيان للأردبيلي. و القلائد للجزائري.

و من كتب الحديث. الكافي. و الفقيه. و التهذيبان. و الوسائل. و عدة من كتب الصدوق و غيرها و من كتب اهل السنة من كتب التفسير تفسير الطبري. و الكشاف. و الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي. و من كتب الحديث جوامعهم السنة. و موطأ مالك. و مسند احمد.

و مستدرك الحاكم. و كنز العمال. و مختصره. و ان الدر المنثور اجمع من غيره للمأثور في التفسير باعتبار الأحاديث و رواتها و مخرجيها في كتبهم فلذا كانت احالتي في الغالب عليه و ان اخرج الحديث عن صحاحهم التي هي أعلى منه سمعة. و قد انقل عنها ما لم يذكره. و إنما اذكر عنه ما أسنده عن الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و سلم. او عن الصحابة الكرام رضي اللّه عنهم. و اما ما يرويه موقوفا على التابعين و من بعدهم فلا حاجة لي فيه و اللّه الموفق و المعين و لنشرع بعون اللّه و توفيقه في المقصود

ص: 49

فاتحة الكتاب

تسميتها

تواترت تسميتها بفاتحة الكتاب و من ذلك

قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم لا صلاة لمن لم يقرء بفاتحة الكتاب

و نحو ذلك. و تكاثرت روايات الفريقين من الشيعة و اهل السنة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و امير المؤمنين (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام) في تسميتها بأم الكتاب. و أمّ القرآن. و السبع المثاني. و القرآن العظيم.

و عن أبي عبد اللّه الصادق (علیه السلام) إنما سميت المثاني لأنها تثنى في الركعتين

بركتها

و استفاضت الرواية من الفريقين عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و الباقر (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام) بل كادت ان تكون متواترة المعنى أن في قراءتها شفاء من الداء

محل نزولها

ذكر الواحدي في اسباب النزول و عن الثعلبي في تفسيره عن عليّ (علیه السلام) قد نزلت فاتحة الكتاب بمكة الحديث.

و روي عن عمرو بن شرجيل ما حاصله ان نزولها كان في أول الرسالة و نزول جبرائيل بالوحي. و لكن في مضامين الرواية ما فيها. و عن رجل من بني سلمة ما يقضي بأنها كانت تتلى قبل الهجرة. و قال اللّه تعالى في سورة الحجر 87 وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ و إذا كانت سورة الحجر كلها مكية قبل الهجرة ففي ذلك بضميمة ما ذكره في تسميتها دلالة على انها نزلت في مكة قبل الهجرة و لكن مرسوم في عناوين المصاحف انها مدنية و قبل انها مكية مدنية و هي سبع آيات باتفاق المسلمين و تضافر الأحاديث زيادة على أحاديث السبع المثاني بل الأحاديث في روايات الفريقين متواترة في ذلك

سورة الفاتحة (1): آية 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

بسملتها

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جزء من السورة باتفاق الإمامية و الشافعية و اجماع اهل البيت

ص: 50

و الروايات المتكاثرة عنهم (علیه السلام) و باتفاق المسلمين على رسمها في المصاحف من أول الأمر إلى الآن. و الأخبار من طرق اهل السنة عن رسول اللّه و فيها الصحاح و الحسان باصطلاحهم متكاثرة في ذلك كما في أحاديث علي (علیه السلام) و ام سلمة و عمار و جابر و بريدة و طلحة بن عبيد اللّه و ابن عمر و أبي هريرة و انس و النعمان ابن بشير كما روي ايضا عن علي (علیه السلام) و ابن عباس و محمد بن كعب القرضي

الجهر بالبسملة

يجهر بها باتفاق الإمامية و اجماع اهل البيت و عملهم و حديثهم و حديث اهل السنة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) من طريق علي (علیه السلام) و عمار و عائشة و الحكم بن عمير و ابن عمرو انس و أبي هريرة و النعمان بن بشير: و ان تفسير البرهان للسيد هاشم البحريني من الإمامية و تفسير الدر المنثور للسيوطي من اهل السنة قد ذكر فيهما الكثير مما أشرنا إليه من الأحاديث فليرجع إليها من أراد الاطلاع على التفصيل

اعراب البسملة

(بسم اللّه) يتعلق بمحذوف يشير اليه ظاهر المقام. و قيل تقديره ابدءوا او اقرأوا.

أو قولوا. قلت على تقدير اقرأوا او قولوا تكون الباء بمعنى الاستعانة باسم اللّه كما يقال اكتبوا بالقلم و ذلك لجلالة اسم اللّه و بركته بجلال المسمى جل و علا و بركته. و يكون المقروء و المقول هو ما بعد البسملة من السورة (و يرد) على هذا النحو من التقدير أولا انه مناف لجزئية البسملة من السورة و مساواتها لسائر آياتها في حكم القراءة. و ان التخلص يجعل البسملة معمولة ايضا لا قرءوا او مقولة لقولوا يستلزم تقدير عامل آخر تتعلق به الباء و مجرورها فما هو اذن. كما يرد ايضا ما ذكرنا على تقدير الكشاف اقرأ او اتلو من كلام القاري و التالي و يكون المقروء و المتلو هو ما بعد البسملة: و يرد الجميع ثانيا حتى ابدأوا للأمر انه لا يتجه اطراد هذه التقادير في السورة المصدرة بخطاب النبي (صلی الله علیه و آله) نحو يا أَيُّهَا النَّبِيُّ. يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُلْ أُوحِيَ بل و سائر السور المصدرة بكلمة (قل) و ما أشبه ذلك من السور. و كذا السور المصدرة بخطاب عير النبي نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فإن أمر اللّه للعباد بالقراءة أو القول يخرجها عن كونها في أول نزولها خطابا إنشائيا من اللّه لرسوله أو للناس أو للذين آمنوا. و كذا إذا كان المقدر اقرأ او اتلو بصيغة المضارع. مضافا إلى أن كلمة اقرأ او اتلو لا يصح ان تكون

ص: 51

من اللّه لأنه جلّ شأنه هو المتكلم بالقرآن و المنشئ له فكيف تنسب اليه القراءة و التلاوة: فإن قلت انا في السور المشار إليها نجعل المقدر ما لا ينافي خطابها و في غيرها نجعل المقدر كلمة اقرأ أو اتلو بصيغة المضارع من قول الناس. قلنا أولا ماذا تصنع بما أوردناه أولا (و ثانيا) ما هو الذي تقدره في السور المشار إليها بحيث لا ينافي مقام خطابها و إنشاءه فإنه ينبغي بيانه (و ثالثا) يلزم من ذلك ان تفكك بين سياق البسملات التي في القرآن بلا دليل و لا حاجة ملزمة. مع أن الظاهر كونها في جميع السور على سياق واحد متسق كما ان الظاهر ان المقدر في تلك السور و غيرها في حال النزول و وحي اللّه و في حال تلاوة الناس و قراءتهم هو واحد. كما ان الظاهر ان التالي يتلو البسملة على ما تعلقت به حال النزول و ان ما تعلقت به هو من القرآن المنزل الذي امر الناس بتلاوته و ان كان مقدرا.

فالظاهر ان البسملة في جميع السور متعلقة بكلمة «ابدء» للمتكلم من قول اللّه جل اسمه تنويها بجلال اسمه الكريم و بركاته و تعظيما له لجلال المسمى و عظمته جلّ شأنه و له الأسماء الحسنى كما أمر في القرآن بذكر اسمه و تسبيحه كما في سورة المائدة و الحج و المزّمل و الدهر و الأعلى.

فينتظم المقدر في جميع السور و جميع الأحوال بنظام واحد على نسق واحد. و لا يعتري ما استظهرناه غرابة و لا إشكال و كيف يعتريه ذلك و قد نسب اللّه الابتداء لذاته المقدسة في خلقه كما في قوله جل اسمه وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ و قد اقسم جل اسمه بمخلوقاته كالشمس و القمر و النفس و غيرها تعظيما لها لأنها مظاهر قدرته و آيات حكمتة

خلق القرآن

و ان لوحي اللّه بالسور إلى رسوله بداية و نهاية كما للسور كما قال اللّه تعالى في سورة الأحقاف في شأن القرآن وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى ودع عنك ان القرآن الكريم كلام مؤلف من الحروف و الكلمات و لا بد من أن يكون لها و لتأليفها بداية و نهاية و لا بد من ان يكون له علة في إيجاده و وجوده لأنه ليس بواجب الوجود فإن واجب الوجود واحد هو اللّه. و ليست علة وجود الموحى منه إلا خلق اللّه خالق كل شي ء قال اللّه في سورة الزخرف إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا و الجعل هو الخلق و كل مجعول و مخلوق له بداية.

(اللّه) علم لواجب الوجود إله العالمين جلت أسماؤه و عظمت آلاؤه. و تفخم لامه بعد الفتح و الضم (الرحمن) لا أظنك تشك في ان معنى الرحمة تتلقاه افهام الناس من لفظه

ص: 52

في المحاورات على حدوده و مزاياه و تتناوله غرائزهم في اللغة على خصائصه و تميز في كل مقام ما يراد منه. بيد ان مقام التفسير قد يشوش الذهن لعدم اللفظ المرادف و عدم الاستقصاء في البيان لمزايا المعنى و حدوده. و قد فسرت الرحمة بالعطف و الحنوّ. او الرأفة و الحنان. أو الرقة و التعطف. و كل هذه التفاسير إنما تحوم حول المعنى و تشير إلى شي ء منه من بعيد.

ألا ترى ان كلا من التفاسير الثلاثة تختلف كلمتاه في المعنى و إن هذه المذكورات قاصرة مع ان الرحمة تتعدى إلى المفعول. و ان الأساس لمعنى الرحمة و دعامه ان تتعلق بالمحتاج إلى ما لا يقدر عليه من نيل الخير و دفع الأذى و الضر. و يكون الداعي للراحم هو احتياج ذلك المحتاج و الرغبة في إسعافه و إعانته فيه من دون أن يرجع إلى أغراض الراحم من نحو حاجة أو محبة او ارتباط خاص به. و يعرف من تعديتها إلى المفعول انها ليست عبارة عن الانفعال النفسي بل هي تستعمل في حالة نفسية تتعلق بالمحتاج على الوجه المذكور و بالنسبة للّه جل شأنه نحو من كماله الذاتي يتعلق بالمحتاجين على الوجه المذكور. و لأجل قصور البشر نوعا عن فهم صفات اللّه جلّ اسمه على ما هي عليه جرى القرآن الكريم على التعبير عنها بما يعبر به عما يناسبها في الشبه بالآثار و المزايا من صفات البشر الحميدة و جرى على ذلك في المبدأ و الاشتقاق.

و تستعمل الرحمة ايضا بنفس الاسعاف او بنفس المسعف به. و من الثالث بحسب الظاهر قوله تعالى في سورة آل عمران وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً و في سورة الكهف رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً و غير ذلك. و في القرآن ايضا ما يصلح انطباقه على المعنى الأول و الثاني. فالرحمن فعلان لذي الصفة الفعلية البينة ذات الأثر الظاهر و لها بقاء و استمرار كغضبان و ريّان و فرحان.

فيدل على فعلية الراحمية البينة و استمرارها. و ان إهمال المتعلق مع اشتقاقها من المتعدّي ليدل على عموم هذه الراحمية ذات الأثر الظاهر و شمولها لكل محتاج إليها و الكل محتاج إليها. و من ذا الذي تكون راحميته او رحمته بمعنى اسعافه فعلية بينة ظاهرة الأثر مستمرة شاملة مطلقة و من ذا الذي يقدر على هذا الإسعاف غير اللّه جلت آلاؤه و لأجل ذلك اختص هذا الاسم الكريم باللّه جلّ شأنه (الرحيم) صفة مشبهة تؤخذ بهذه الصيغة من المعاني الثابتة كالسجايا و الأخلاق فتدل على ثبوت الرحمة و دوامها للّه كدوام السجايا و الأخلاق للبشر و لزومها و بهذه الدلالة و هذه المزية كانت ابلغ في المدح و بهذه الجهة صح الترقي إليها بالتمجد و المدح و لا يمتنع أخذ الصفة المشبهة بهذه الصيغة من الوصف المتعدي بحسب وضعه لأنه قد يجعل لازما بتضمينه معنى السجية

ص: 53

و الخلق فيؤول إلى معنى فعل بضم العين كقوله تعالى في سورة المؤمن 15 رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ اي رفيعة درجاته فأضيفت الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على ما هو من خصائص الصفة المشبهة كما قال الشريف في حاشية الكشاف و حكاه عن صرف المفتاح و فائق الزمخشري و مما يشهد بأن لفظ الرحيم ضمن معنى غير المتعدي هو انه حيث ذكر في القرآن متعلقا بمعمول ذكر متعلقا بواسطة الباء على سنة غير المتعدي دون لام التقوية كما في سورة البقرة 138 إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و في سورة الحج 164 أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و في سورة الحديد 8 وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ- 9 وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و في سورة بني إسرائيل 68 رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً 69 وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً 70 أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ- 71 أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ- فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ و في سورة التوبة إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ و في سورة النساء إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً و في سورة الأحزاب وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً و هذه الصفة غير مختصة باللّه فقد جاء في سورة التوبة في وصف الرسول (صلی الله علیه و آله) 129 بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ و قد عرفت مما ذكرناه من سورة البقرة و الحج و بني إسرائيل و الحديد ما ينبغي أن تطرح الرواية التي تذكر ان الرحمن بجميع خلقه و الرحيم بالمؤمنين خاصة و مما ذكرناه من سورتي بني إسرائيل و الحج ينبغي ان تطرح ايضا الرواية التي تذكر ان الرحمن رحمان الدنيا و الآخرة و الرحيم رحيم الآخرة كما أمرنا بذلك في عرض الحديث على كتاب اللّه

سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 3

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد ثناء بالخير معروف يضعه المتكلم بحسب مرتكزاته في اللغة مواضعه و يعرف معناه بمزاياه و يفرق بينه و بين ما يقارنه في الاستعمال و الفهم. و لكن الاضطراب يجي ء من ناحية التفسير فمن قائل انه أخو المدح أي مرادفه. و منهم من فسره بالشكر مستشهدا بقولهم الحمد للّه شكرا جاعلا قولهم شكرا مفعولا مطلقا لا مفعولا لأجله. و منهم من قال ان الحمد و المدح و الشكر متقاربة. و منهم من جعله على صفات المحمود الذاتية و على عطائه. و منهم من خصه بالثناء على الفعل الجميل الاختياري. و الظاهر من التدبر في موارد الاستعمال و التبادر

ص: 54

ان الحمد هو الثناء باللفظ بالخير على فعل الجميل الاختياري إذا كان للجميل نحو مساس بالحامد و إلا فهو مدح. و أما الشكر فهو مقابلة الإحسان بنوع إحسان يتضمن الاعتراف سواء كان عملا أو قولا و لو بنحو من الاعتراف بذلك الإحسان و فضله لا مجرد الاعتراف بذات الفعل لا من حيث انه احسان و تفضل. و لا أظن قولهم الحمد للّه شكرا إلا ان شكرا مفعول لأجله نحو سبحته تعظيما. و إن فاعل الجميل من الناس إنما يستحق الحمد إذا فعله لحسنه أو لوجه اللّه و هو روح الإتيان بالفعل لحسنه «و قليل ما هم» بل لا يستحقه حتى في الظاهر إذا عرف انه لم يفعله للّه و لا لحسنه و ذلك القليل لا يستحق الحمد إلا من حيث مباشرته لفعل الجميل و اختياره له. فإن القوى التي فعل بها و الإدراك الذي عرف به حسنه و الإرشاد إلى فعل الجميل و الأعيان التي تكون محققة لاسداء الجميل هي كلها للّه و من اللّه جلت آلاؤه و لذا كان الحمد كله و بحقيقته للّه الغني المطلق جليل النعم التي لا تحصى نعماؤه و لا يخلو من عظائمها إنسان في حال من الأحوال. و جملة الحمد للّه خبرية ان كانت من كلام اللّه في تمجيده لذاته و تنويهه بجلاله جلّ شأنه و لكن

روى الصدوق في الفقيه من كتاب العلل للفضل بن شاذان عن الرضا (علیه السلام) ليس شي ء من القرآن و الكلام جمع فيه من جوامع الخير و الحكمة ما جمع في سورة الحمد و ذلك ان قوله عز و جل الْحَمْدُ لِلَّهِ إنما هو أداء لما أوجب اللّه عز و جل من الشكر و شكر لما وفق له عبده من الخير رَبِّ الْعالَمِينَ توحيد له و تحميد و اقرار بأنه هو الخالق المالك لا غيره الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ استعطاف و ذكر لآلائه و نعمائه على جميع خلقه مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ اقرار له بالبعث و الحساب و المجازاة الحديث.

إذن فجملة الحمد للّه إلى آخره إنما هي عن لسان العباد و تعليم لهم كيف يحمدون و يوحدون و يقرون فهي خبرية تتضمن إنشاء الحمد بانه كله و بحقيقته للّه رَبِّ الْعالَمِينَ الرب المالك المدبر أو المربي و العالمين جمع عالم الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقدم تفسيره

سورة الفاتحة (1): آية 4

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مالك يوم القيامة و بيده أمره يتصرف فيه بعدله أو برحمته كيف يشاء و في التبيان و الكشاف و مجمع البيان أن إضافة مالك إلى يوم الدين من اضافة اسم الفاعل إلى الظرف نحو قولهم «يا سارق الليلة أهل الدار». و لا أرى حاجة ماسة إلى ما ذكروه.

و روي في التبيان و مجمع البيان مرسلا عن الباقر (علیه السلام) و القمي مسندا عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) و اخرج ابن جرير و الحاكم و صححه مسندا عن ابن مسعود و ناس من الصحابة ان يوم الدين يوم الحساب

و أظن ذلك لبيان انه يوم القيامة. و في التبيان و البيان الدين الحساب و الجزاء و في

ص: 55

الكشاف الجزاء و استشهدوا لذلك بقولهم كما تدين تدان و بيت الحماسة المنسوب لشهل بن ربيعة

صفحنا عن بني ذهل و قلنا القوم اخوان

عسى الأيام ان ير جعن قوما كالذي كانوا

و لما صرح الشر و أمسى و هو عريان

و لم يبق سوى العدوا ن دناهم كما دانوا

على معنى كما تجازي غيرك إذا أساء فإنك تجازى أيضا إذا أسأت و إنا جازينا بني ذهل على عدوانهم كما جازوا غيرنا فإن ظاهر الشعر ان قوم شهل كانوا قد صفحوا عن بني ذهل و لم يسبق منهم ما يكون به اعتداء بني ذهل عليهم مجازاة و لعل من معنى الدين المذكور في قول الأعشى «هودان الرباب أذكر هو الدين دراكا بغزوة و صيال» و لعل من هذا الباب الديان من اسماء اللّه له الأسماء الحسنى و ديان يوم الدين و قول الأعشى مخاطبا لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) «يا سيد الناس و ديان العرب» و الحديث كما ذكره في النهاية كان على ديان هذه الأمة.

و الأمر في تفسير الدين في الآية سهل فإنه يتراوح بين هذه المعاني و ما يقرب منها.

و لا غرو إذا تشابهت علينا هاهنا حقيقة معنى الدين بحدودها بواسطة التوسع في الاستعمال.

و لا ينبغي أن يخفى أن قوله عزّ و جل رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. هو بمنزلة الحجة على ان الحمد له جلت آلاؤه و بمنزلة الحجة على انحصار العبادة و الاستعانة به في قوله جلت عظمته إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و هل يعبد أو يستعان به بما هو رب العالمين غير رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. و هل يصح في الشعور ان يرغب عن عبادته أولا تغتنم الاستعانة به.

سورة الفاتحة (1): آية 5

اشارة

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

و قد كررت كلمة (إياك) لوجهين الأول للتصريح و النص على انحصار كل من العبادة و الاستعانة به. و لو قيل إياك نعبد و نستعين لأوهمت صورة اللفظ ان المنحصر هو مجموع الأمرين من العبادة و الاستعانة لا كل واحد منهما و الثاني لأن الحصر فيهما مختلف فإنه بالنسبة للعبادة حصر لجميع أفرادها و بالنسبة للاستعانة حصر باعتبار بعض افرادها كما سيأتي إن شاء اللّه. و هذا الأسلوب في الآية الكريمة من قسم الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. و الالتفات في كلام العرب و شعرهم كثير و هم يعدونه من محاسن الكلام و مزاياه في البلاغة و هو متفاوت في الحسن و لكنه مهما بلغ فإنه لا يكاد ان يبلغ ما بلغه هذا الالتفات من الحسن الباهر و الجودة الفائقة و أعلى درجات البلاغة. فإنه يمثل العبد شاخص البصر إلى جلال مولاه و متوجها إلى حضرته بالاعتراف بأنه لا معبود سواه و لا مستعان إلا هو و متضرعا بخطاب العبودية و المسكنة و مناجاة الرهبة و الرغبة خاضعا لربوبيته مادّا الى رحمته يد الانقطاع في المسألة و الاستعانة

ص: 56

العبادة

لا يزال العوام و الخواص يستعملون لفظ العبادة على رسلهم و مجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر و يعرفون بذوقهم مجازه و وجه التجوز فيه. و إن المحور الذي يدور عليه استعمالهم و تبادرهم هو ان العبادة ما يرونه مشعرا بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلها ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالإلهية. او بعنوان انه رمز او مجسمة لمن يزعمونه إلها تعالى اللّه عما يشركون. و لكن الخطأ و الشرك. أو البهتان و الزور. أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة (الأول) الإتيان بما تتحقق به حقيقة العبادة لما ليس أهلا لذلك بل هو مخلوق للّه كعبادة الأوثان مثلا (الثاني) مقام البهتان و الافتراء و خدمة الأغراض الفاسدة لترويج التحزبات الأثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الإمام شيئا من الاحترام بعنوان انه عبد مخلوق للّه مقرّب عنده لأنه عبده و أطاعه و يرمونه بأنه عبد ذلك المحترم و أشرك باللّه في عبادته. ألا تدري لمن يبهتون بذلك يبهتون من يحترم النبي أو الإمام تقربا إلى اللّه لأنه اختاره و أكرمه بمقام الرسالة أو الإمامة التي هي بجعل اللّه و عهده كما وعد اللّه بذلك ابراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ و هذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه و لا يخرج من نوعه ما هو المعلوم و المشاهد من احترام هؤلاء المتحزبين لملوكهم و زعمائهم و حكامهم و خضوعهم لهم بالقول و العمل مهما بلغوا من النخوة الاعرابية. و لقد سرت هذه البادرة السوءى موروثة من ضلال الخوارج في تحزبهم إذ نسبوا الشرك و الكفر لأمير المؤمنين عليه السلام إذ ألجأوه عند رفع المصاحف إلى السكوت عن تحكيم رجلين يعملان بما يوجبه القرآن في شقاق معاوية في حربه. كما ألجأوه إلى كون الحكمين أبا موسى و ابن العاص. و كما نسبوا الشرك ثانيا الى ولده الحسن السبط عليه السلام لما نافق قومه و زعماء جنده و انحاز بعضهم الى معاوية و كاتبه آخرون و واعدوه تسليم الحسن له قبض اليد فخطب الحسن (علیه السلام) في معسكره المحشو بالنفاق مستشيرا و مقيما للحجة و مختبرا لهم لكي يعرف الناس نفاقهم فيكونوا على بصيرة من أمرهم في الحرب او الهدنة.

و هذه المباهتة الوخيمة و الدسيسة الوبيئة في التحزب الأثيم صارت في العصور المتأخرة وسيلة للتهاجم على ما حرم اللّه من دماء المسلمين و أموالهم و اعراضهم و على حرمات الرسول و الأئمة

ص: 57

عليهم السلام و جرى من جرّاء ذلك ما تقشعر منه الجلود. و لو لا أن ملكهم قمع طغيانهم لجرى من عدوانهم و الدفاع لهم حوادث في المسلمين مزعجة و اللّه المستعان اللهم إياك نعبد و إياك نستعين.

(المقام الثالث) كثيرا ما فسرت العبادة بأنها ضرب من الشكر مع ضرب من الخضوع.

او الطاعة. و هل يخفى عليك أن هذه التفاسير مبنية على التساهل بخصوصيات الاستعمال أو الارتباك في مقام التفسير و هل يخفى أن اغلب الافراد من كل واحد مما ذكروه لا يراه الناس عبادة و يغلطون من يسميها او بعضها عبادة الا على سبيل المجاز. و إن لفظ العبادة و ما يشتق منه كعبد و يعبد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلا فيما ذكرناه من معاملة الإنسان لمن يتخذه إلها معاملة الإله المستحق لذلك بمقامه في الإلهية. و لم أجدها في القرآن الكريم مستعملة في غير ذلك إلا في ثلاثة موارد و لكنها لم تخرج عن النظر إلى مناسبة المعنى الحقيقيّ المذكور و التجوز بلفظه. و هي قوله تعالى في سورة مريم 45 يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا و في سورة يس 60 أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ. فاستعير اسم العبادة للطاعة العمياء للشيطان على الدوام كما يلقي المؤمنون قياد طاعتهم للّه على بصيرة من أمرهم لأنه إلههم على نحو التجوز الواقع في قوله تعالى في سورة الفرقان 45 أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ. و الجاثية 22 أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ فإنهم لم يكونوا يعبدون الشيطان و لم يتخذوا هواهم إلها على سبيل الحقيقة. و ثالثها قوله تعالى في سورة المؤمنون 49 فَقالُوا (اي فرعون و ملائه) أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ اي دائبون على العمل في تسخيرنا كما يدأب المؤمن في طاعة اللّه و عبادته. او باعتبار ان فرعون كان يدعي الإلهية فجعلوا بالتشبيه و التمويه خضوع بني إسرائيل بالقهر و الغلبة عبادة لفرعون هذا و ان الشيخ محمد عبده خاض في هذا المقام في البحث على ما حكاه عنه تلميذه في تفسيره لسورة الفاتحة و قارب الغرض في كلامه و لما يقرطس. قال ما ملخصه مهما غالى العاشق في تعظيم معشوقه و الخضوع له و تفانى في هواه و ارادته. أو بالغ بعض الناس في تعظيم الملوك و الزعماء فترى من خضوعهم لهم ما لا تراه من خضوع القانتين للّه فإن العرب لم يكونوا يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة اذن. و قال: تدل الأساليب الصحيحة و الاستعمال العربي الصراح أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها و اعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها و ماهيتها و قصارى ما يعرفه منها انها محيطة به

ص: 58

و لكنها فوق إدراكه انتهى كلامه و لو انه صارح بجامع كلامه و ملاك صحته و استقامته «و هو ما قدمنا من تقيد العبادة بالتعلق بمن يراه العابد إلها» لما عادت جمله فلا متدافعة يشلها الانتقاد و ان اعتصم بعد ذلك بصائب قوله «للعبادة صور كثيرة في كل دين شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى» فإنه لا يتسق قوله هذا الا أن يعتبر في معنى العبادة كونها ناظرة الى توفية من يتخذه إلها حقه من التعظيم و الخضوع و اي شعور مذكر فيها لو لا ذلك الاعتبار. و ان لم يعتبر ما ذكرناه فلا مفرّ لجملة المتقدمة عن النقد. فإن صور كثير من العبادات لا تبلغ حد النهاية من الخضوع و لا تقاربه كما ذكر في عبادة المتحنثين القانتين بالنسبة لخضوع ذلك العاشق لمعشوقه و خضوع أولئك في تعظيم الملوك و الزعماء. و أيضا ان عابد اللّه يعرف أن منشأ العظمة و ملاكها هي السلطة الإلهية و لئن كانت فوق إدراكه فباعتبار عمومها لما لا يعدّ و لا يحدّ من الممكنات لا بما هي سلطة إلهية عظيمة يمكن عرفانها و نيلها بالإدراك من هذه الوجهة. و في مقام الفرق بين العبادة و العبودية قال و من هنا قال بعض العلماء أن العبادة لا تكون في اللغة الا للّه تعالى «أقول» يريد ان العبادة من حيث ان معناها الحقيقي في اللغة مأخوذ فيه التعلق بالإلهية و الإله لا يصح تعلقها إلا باللّه الذي لا إله الا هو و لا يريد أنها لم تنسب في اللغة الا للّه. و كيف يخفى عليه أنها جاءت في نفس محاورات القرآن منسوبة لغير اللّه في اكثر من سبعين موردا. فالظاهر أنه لا وقع لاعتراضه عليه بقوله و لكن استعمال القرآن يخالفه. نعم يرد على من قال ان لفظ العباد مأخوذ من العبادة انه غفل عن قوله تعالى في سورة النور 32 وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُم

حصر الاستعانة باللّه جلّ اسمه

قال اللّه تعالى في سورة المائدة 3 تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى و اما المعاونة في المباحات فهي إحسان أمر اللّه به أيضا في كتابه بقوله تعالى في سورة النحل 92 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ و في سورة البقرة 91 و آل عمران 128 و المائدة 15 إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

و المعلوم بالضرورة من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله) و أصحابه و الأئمة و المسلمين انهم يستعينون في غالب أمورهم المباحة بالآلات و الدابة و الخادم و الزوجة و الصاحب و الرسل و الأجراء و غيرهم و في سورة البقرة 42 و 128 اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ و في سورة النساء 67 وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً فقد لامهم اللّه على

ص: 59

عدم مجيئهم للاستعانة على المغفرة باستغفار الرسول. و هذا يكفي في الحجة و الدلالة على ان الإعانة ليست بجميع أقسامها منحصرة باللّه. و على انه لا يلزمنا أن نقصر استعانتنا بقول مطلق على اللّه. و تفصيل ذلك هو انا ننظر إلى استعانات البشر قولا و عملا فنراها تكون على نحوين (النحو الأول) هو الاستعانة بالوسائل المجعولة من اللّه لنيل المقصود التي هي و ما فيها من التسبيب من جعل اللّه و خلقه. (و النحو الثاني) هو الاستعانة بالإله بما هو إله معين بإلهيته و قدرته الذاتية المطلقة الفائقة. و لا ريب في ان النحو الثاني من الاستعانة هو المتيقن في قصره على اللّه. لأن الاستعانة بهذا النحو إذا كانت بغير اللّه كانت تأليها لذلك الغير و اشراكا باللّه.

و مما ذكرنا من الآية و السيرة و اقتران إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في سياق توحيد اللّه و تمجيده بالمجد الإلهي تقوم الحجة و تتضح الدلالة على ان هذا النحو من الاستعانة هو تمام المقصور على اللّه دون النحو الأول

الاستشفاع إلى اللّه

و لا ريب في أن الاستشفاع إلى اللّه في دعائه و التوسل إليه بالنبي (صلی الله علیه و آله) و الأئمة و الأولياء في الحوائج إنما هو من الاستعانة بالنحو الأول. و إنك إذا سألت حتى من الهمج عما يفعلون في توسلهم بالنبي (صلی الله علیه و آله) و الأئمة و الأولياء قالوا انا نستشفع بهم إلى اللّه و نقدمهم أمام تضرعاتنا اليه لكرامتهم عليه و وجاهتهم عنده لأنهم من عباده المكرمين. فإن قلت لهم انكم ربما تخاطبونهم بالتضرع و التمجيد و طلب الحاجة منهم فما هذا. قالوا لك تخاطبهم بالضراعة ليشفعوا و بالتمجيد بما هم أهل له احتراما لمقامهم عند اللّه و بطلب الحاجة منهم إلحاحا عليهم و تأكيدا في الاستشفاع.

و بيانا لأن شفاعتهم وسيلة ناجحة كما تقول لمقرّب الملك فيما يرجع أمره إلى الملك أريد هذا الأمر منك. فإن قلت لهم هلا تسألون طلباتكم منهم. قالوا لك كيف و إنهم بشر لا يقدرون على ما يختص اللّه بالقدرة عليه من حيث الإلهية و لا إله إلا اللّه: فإن قيل ان اللّه ارحم الراحمين فما هي الحاجة إلى الاستشفاع. قلنا شرع الاستشفاع لأجل الحكمة التي شرع لأجلها الدعاء كما قال اللّه و هو أرحم الراحمين عالم الغيب و الشهادة في سورة المؤمن 62 ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ- 67 فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ و في سورة الأعراف 28 وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ- 54 وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً فإن دعاء اللّه تمرين على عبادته و الالتجاء اليه و الفزع إلى إلهيته و قدرته ... فإن قيل أين شرع الاستشفاع. قلنا يكفي في الدلالة

ص: 60

على مشروعيته من الكتاب المجيد ما ذكرنا من الآية السابعة و الستين من سورة النساء في لومهم على عدم مجيئهم ليغتنموا شفاعة الرسول باستغفاره لهم. و إن العدول و الالتفات من خطاب اللّه لرسوله في الآية المشار إليها إلى قوله وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ إنما هو للإشارة إلى ان الحكمة في ذلك هو تمرينهم على الانقياد إلى الرسول و مقام الرسالة بالمجي ء إلى حضرته و الخضوع لكرامته بالاحتياج و طلب الاستغفار و شفاعته لهم. كل ذلك لكي ينقادوا مستوسقين إلى طاعته في أمور الدين و الإيمان. و هذه المشروعية يجري وجهها و حكمتها و علتها في شفاعة الأئمة و الأولياء و ليتنبه المستشفع من استشفاعه إلى كرامة المطيع للّه لطاعته فيحركه ذلك إلى الرغبة في الطاعة. و هذا أمر معروف المشروعية معمول عليه في الأديان الحقة كما حكى القرآن الكريم ان أولاد يعقوب نبي اللّه استشفعوا بأبيهم إلى اللّه و طلبوا استغفاره لهم فوعدهم يعقوب بذلك كما في سورة يوسف 98 يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا- 99 قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي

الاستشفاع بالمقربين من الأموات

و ما ذكرناه من الحكمة يجري أيضا على رسله في الاستشفاع بهم بعد وفاتهم لكي يحفظ انقياد الناس إليهم فيما علموه و أمروا به و ارشدوا اليه من امر الدين و صلاح الدارين. و للتنبه ايضا إلى كرامة الطاعة للّه. فإن قال قائل كيف يستشفع بالأموات و أين هم بعد موتهم من مقام الشفاعة

بقاء النفس بعد الموت

قلنا قد عرّفنا اللّه في كتابه المجيد ان النفوس تبقى بعد الموت على ما هي عليه من المقام النفساني اما متمتعة بمقام الكرامة و اما مبتلاة بالهوان و السخط. و قرّب لأفهامنا القاصرة حالة النفس بعد الموت و بقائها بمقارنة حالتيها في الموت و النوم. فقال جل اسمه في سورة الزمر 43 اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و في سورة البقرة 154 وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ و آل عمران 169 وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 170 فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ 171 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. و إن قوله تعالى أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ

ص: 61

الْمُؤْمِنِينَ دون ان يقول لا يضيع اجر المجاهدين في سبيله ليدل على ان ذلك من آثار الإيمان الجارية لكل مؤمن لا آثار خصوص القتل في سبيل اللّه و من خواصه. و قال جا اسمه في سورة المؤمن 48 فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ 49 النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ فانتظم البيان لبقاء النفوس بعد الموت هذه على كرامتها و هذه في هوانها

الشفاعة

فإن قال قائل إن اللّه قد نفى الشفاعة في القرآن الكريم ففي سورة البقرة 255 مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ و السجدة 4 ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ إلى غير ذلك من الآيات «قلنا» ان الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة و هي الشفاعة للمشركين أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع اللّه بزعم انهم آلهة قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعا و حتما. أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتما كما في سورة يس 23 و المؤمن 19 و الزمر 44 و المدّثر 48 و أثبتها من جهة أخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل احد فقال تعالى. إِلَّا بِإِذْنِهِ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً.

إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا. إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى كما في سورة البقرة 256 و يونس 3 و مريم 90 و طه 108 و الأنبياء 29 و سبا 22 و الزخرف 86 و النجم 27. و إن الشفاعة المستثناة و المستدركة في آيات البقرة. و يونس. و سبا. مطلقة غير مختصة بيوم القيامة و لا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا. و لكن لو اعطي القرآن حقه من التدبر و سلمت النفوس من وباء الأهواء و التحزب و بوادر التعصب و النصب لما ثار الهياج من بعض الناس على استشفاع المسلمين بالرسول و الأئمة و الأولياء لأنهم عباد مكرمون و أولى عباد اللّه بأن نعتقد اذنه جلت آلاؤه لهم بالشفاعة إكراما لهم لأجل الحكمة التي ذكرناها. و قد اكتفينا هاهنا بدلالة الكتاب المجيد عن الإشارة إلى ما تواتر معناه من أحاديث المسلمين في هذه الشؤون. و في كتبهم في الحديث من ذلك شي ء كثير و الأمر فيه جليّ و لكن «لأمر ما جدع قصير أنفه» و للشيخ محمد عبده على ما حكاه تلميذه في سورة الفاتحة صفحة 46 و 47 من الطبعة الثالثة كلام ألقاه على عواهنه في زوبعة الهياج المذكور و هو غريب من تحرّيه تهذيب كلامه و تدبر القرآن الكريم و تفسيره و التحرز

ص: 62

من عبودية الأهواء و لم يحضرني كتاب تفسيره لأرى ما فيه في هذا المقام

سورة الفاتحة (1): الآيات 6 الى 7

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الهداية تستعمل في الإرشاد إلى الطريق و الدلالة على الخير كقوله تعالى في سورتي فصلت 6 وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى و الشورى 52 وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و تستعمل في الإيصال بالتوفيق و التسديد كقوله تعالى في سورة القصص 50 إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 56 إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و النساء 70 وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً و الأنعام بعد ذكر عدة من الأنبياء 87 وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هذا المعنى هو الظاهر و المراد من الآية حتى إذا كانت سورة الفاتحة أول ما نزل من القرآن الكريم. و الهداية تتعدى إلى المهدي اليه بنفسها و بإلى. و الصراط هو الطريق و المستقيم ما لا انحراف فيه و لا اعوجاج و هو أقرب نهج موصل إلى المقصود. و يكون سالكه أبعد من الضلال و خوفه. و على بصيرة من أمره من أول سلوكه إذ يتضح منه منار الحق و بشائر الوصول من أول الإقبال اليه. و في حديث الجمهور كما في الدر المنثور انه في الآية كتاب اللّه. أو الإسلام او رسول اللّه و صاحباه بعده. و في تفسير البرهان عن تفسير وكيع بن الجراح مسندا عن ابن عباس في قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم قال قولوا يا معاشر العباد أرشدنا الى حب محمد و اهل بيته. و عن تفسير الثعلبي مسندا عن أبي بردة قال صراط محمد (صلی الله علیه و آله) و اهل بيته.

و في روايات الإمامية انه امير المؤمنين. او انه الأئمة. و كلما صح من ذلك فهو من باب النص على احد المصاديق او أظهرها صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بالتوفيق و السداد فنعموا بالوصول و فازوا بالزلفى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لأنهم عاندوا الحق بعد ما استنار صبح الإرشاد و وضحت الدلالة و قامت الحجة فاستوجبوا بذلك غضب اللّه. و كلمة غير مجرورة على انها صفة للذين.

و في الحديث و الروايات ان المغضوب عليهم هم اليهود أو النواصب.

و ما صح من ذلك فهو من باب النص على بعض المصاديق وَ لَا الضَّالِّينَ بجهلهم و تقصيرهم عن طلب الحق و معرفته مع وضوح الدلالة و قيام الحجة و جي ء بكلمة «لا» مع الضالين لأجل الاستقصاء في التعوذ من الفريقين المغضوب عليهم و الضالين

سورة البقرة

اشارة

مدنية و هي مائتان و ست و ثمانون آية

ص: 63

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّ تفسيرها في سورة الفاتحه

سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

1 الم علم معناها عند اللّه و رسوله و مستودعي علمه و أمنائه على وحيه. و لا غرو في ان يكون في القرآن ما هو محاورة بأسرار خاصة مع الرسول و أمناء الوحي ذلِكَ الْكِتابُ القرآن أشير اليه باشارة البعيد لرفعة مقامه و علو شأنه و ذلك متعارف عند العرب في الإشارة الى العظيم الرفيع الشأن لا رَيْبَ فِيهِ ليس فيه محل للريب و لا ينبغي الريب في أمره. او ليس فيه شي ء مريب بل هو هُدىً بالفعل و موصل الى حقيقة الدين و شريعة الحق و أركان الإيمان لِلْمُتَّقِينَ للّه الذين من تقواهم يقبلون على القرآن و يتبعونه حق الاتباع و يأتمرون بأوامره و ينتهون بنواهيه و يتأدبون بآدابه و يسترشدون بمعارفه. و الاتقاء مأخوذ من الوقاية يقال اتقى السيف بالدرقة أي اتقى ما يخاف منه و في الآية الثانية و العشرين فَاتَّقُوا النَّارَ و 46 وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي و تقوى اللّه عبارة عن اتقاء ما يخاف منه كغضبة و عذابه فيتقى ذلك بطلب رضاه و طاعته في أوامره و نواهيه. و اطلاق التقوى في وصفهم يدلّ على انها صفة عامة ثابتة لهم و ملكة راسخة كالعالم و الفقيه. و الَّذِينَ في الآية الآتية و كذا التي بعدها ليست مبتدأ و خبره جملة أُولئِكَ عَلى هُدىً كما احتمل في بعض التفاسير بل هي صفة للمتقين 2 الَّذِينَ من قوتهم في التقوى و الإيمان بالحق و اتباع الدليل و الهداية يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ مما لم يروه و لم يحسوا به بل يحصل لهم يقين الإيمان بالحجة من كتاب اللّه و قول من قامت الحجة على عصمته و ذلك كالبعث و النشور و الوعد و الوعيد و الجنة و النار و احوال القيامة و النعيم و العذاب. و من مصاديق المؤمنين بالغيب. المؤمنون بقيام المهدي المنتظر عجل اللّه فرجه كما في الرواية عن اهل البيت (علیه السلام) وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يواظبون عليها في أوقاتها قائمة على حدودها و شروطها و إخلاصها في العبادة و الرغبة إلى اللّه في مناجاته و المثول في طاعته بحضرته وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ من مال بل و علم كما في رواية أهل البيت يُنْفِقُونَ كما فرضه اللّه عليهم أو ندبهم اليه من البر و الإحسان بالتعليم و البيان. و ينفقونه على حين معرفة منهم و اعتراف بأنه رزق اللّه و نعمته عليهم فيكون إنفاقهم أدخل في الطاعة المقرونة بالشكر و أقرب الى المعرفة و الإحسان و الدوام 3 وَ الَّذِينَ صفة اخرى

ص: 64

للمتقين و جي ء بواو العطف استلفاتا الى فضيلة هذه الصفة فإن التعداد بالعطف يمثل للذهن كلا من الصفات مستقلة بمزاياها لا كما إذا طردت من غير عطف. ألا ترى ان الذهن يجد من الرونق للصفات في قولهم جاء الرجل العالم و الصالح و الكريم و الشجاع ما لا يجده في قولهم جاء الرجل العالم الصالح الكريم الشجاع يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الوحي من الكتاب و غيره و يذعنون بأنه منزل من اللّه على رسوله رحمة للعباد و لطفا منه فيظهر عليهم بذلك شعار الإيمان به وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على الرسل و الأنبياء حسب ما يحصل لهم من اسباب العلم بإنزاله.

و اظهر الأسباب في ذلك اخبار القرآن الكريم و الرسول المصطفى به. و ذلك من الإيمان بالغيب لأنهم لم يشاهدوا آية و معجزة من أولئك الأنبياء الماضين وَ بِالْآخِرَةِ التي ذكرها القرآن و ما فيها و عرّفتهم أنت بذلك في بشراك و إنذارك هُمْ يُوقِنُونَ و يرونها بإيمانهم بالغيب حق اليقين كان ذلك رأي العين. و صيغة المضارع في يوقنون تدل على ثبات اليقين و دوامه و هو الذي تظهر سيماؤه في دوام الطاعة و الرهبة من سخط اللّه و عقابه و الرغبة في رضا اللّه و ثوابه الذي اعدّه في الآخرة للصالحين. و هؤلاء المتصفون بهذه الصفات بالآخرة هم يوقنون لا من يكذبها باعتقاده و قوله. او يصورها بتكلف اعتقاده بها على خلاف ما جاءت به رسل اللّه و كتبه. او من كانت سيرته في أعماله السيئة و تفريطه في الطاعات تمثل ضعف إيمانه بالآخرة و إن غفلاته عنها في أعماله و تروكه تكاد أن تأتي على ما يتكلفه من الاعتقاد بها و العياذ باللّه.

و بعد التنويه بصفات المتقين المهتدين بالكتاب جاءت البشرى بكرامة مقامهم و ربح تجارتهم فقال اللّه في شأنهم

سورة البقرة (2): آية 5

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

5 أُولئِكَ مستقرون عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ و توفيق و تسديد إذ كانوا بإيمانهم و إقبالهم على الطاعة أهلا لذلك وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ دون غيرهم أما في الدنيا فبراحة ما استشعروه من القناعة و تقدير النعم و شكرها و فضيلة الرضا بأمر اللّه و التسليم لحكمته و راحة الهدوء و الصلاح و حسن الأخلاق. و أما في الآخرة فبفلاح النعيم المقيم. و بمناسبة حال الكتاب في هداه مع المتقين الموصوفين و ما لهم من الاهتداء و الفلاح ذكر اللّه لرسوله حال بعض الكافرين بأنهم في تماديهم بالغيّ على الكفر و التمرّد لا يجدي معهم إنذارك و لا يؤمنون

ص: 65

باللّه و رسوله و كتابه. هذا ما يقتضيه سياق القرآن الكريم خصوصا مع ابتداء الإخبار عن الذين كفروا بدون عطف بالواو

سورة البقرة (2): الآيات 6 الى 7

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

6 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني قسما خاصا ممن ينتحل الكفر و المعهودين عند الرسول أو هم مطلق الطواغيت الذين يعلم اللّه انهم من تمردهم يموتون على التمادي على ضلال الشرك و الكفر باللّه و رسوله و كتابه و ما جاءا به في دعوة الحق مع الحجج القيمة و الدلالة الواضحة. هؤلاء سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و لا يختارون الإيمان لأنهم بطغيانهم و انهماكهم بضلال الكفر قد ارتجوا قلوبهم و أسماعهم و أحكموا سدها عن ان يلجها شي ء من دعوة الإيمان و دلائل آياتها و لا شي ء من نور الحق و شافي البيان فاستحقوا بذلك حرمانهم من توفيق اللّه و تسديده لهم. و إن توفيقه و تسديده جلت آلاؤه من أقوى ما يعين العبد في اختياره للطاعة و الإيمان إذ يرفع عنه من طريقهما ما يعرقله و يزل اقدامه من نزغات الشيطان و هفوات الهوى و طموح النفس الأمارة إلى شهواتها و نزغاتها الردية و مألوفاتها. فكان حرمان المتمردين من التوفيق و التسديد بمنزلة الختم على ما سدوه بسوء اختيارهم و طغيانهم. و لأجل ان ذلك الحرمان من اللّه لخروجهم عن الأهلية نسب الختم الذي سمي به إلى اللّه عزّ و جل لأنّ اللّه هو الذي بيده أمر التوفيق منحة و حرمانا.

و على هذا قال جل اسمه 7 خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ. وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ من التمرد حيث استحبوا العمى على الهدى فلا يبصرون أنوار الحق و العرفان مع إشراقها كالشمس راد الضحى وَ لَهُمْ بما جنوه من التمرد في الكفر و الطغيان و محادة اللّه و رسوله عَذابٌ عَظِيمٌ و غير خفي ان مذهب العدلية من الإمامية و المعتزلة هو انه يمتنع على جلال اللّه القدوس الكامل الغني أن يمنع الإنسان بالإلجاء عن قبول الإيمان أو يلجئه إلى الكفر أو يكون هو الخالق للكفر فيه فضلا عن ان يلومه و يعاقبه مع ذلك عليه. فإنّ ذلك كله قبيح عقلا كما هو من البديهيات الفطرية. و من البديهي ان القبيح ممتنع الصدور من اللّه الغني القدوس. و قد ذكرنا في أخريات شواهد المقام الثاني من الفصل الرابع في المقدمة ان اللّه عزّ و جل قد مجد قدسه في القرآن الكريم بالنزاهة عما هو دون ذلك في القبح و وبخ الناس على أعمال السوء. و لكن ابن المنير

ص: 66

في تعليقته على الكشاف تحامل على الزمخشري في هذا المقام و أورد لمذهبه وجوها طالما لهج بها الأشاعرة «أولها» ان مذهب العدلية في المسألة مخالف لدليل العقل على وحدانية اللّه فإن مقتضاه ان لا حادث إلا بقدرة اللّه «و يدفعه» ان مسألة القدرة غير مسألة التوحيد و غاية ما يقال في قدرة اللّه انها لا تقصر و لا تضعف عن الممكن و إن صار لقبحه ممتنع الصدور منه لجلال شأنه و قدسه و كماله و غناه. و ليس مقتضى دليل العقل على الوحدانية ان يكون الزنا و اللواط و الكفر و منع الكافرين عن الإيمان و أمثالها من القبائح تقع بفعل اللّه و خلقه و قدرته.

و أما قولهم ان نسبة الفاعلية للناس و إيجادهم لأفعالهم و خلقهم لها يقضي بالشرك و الإشراك مع اللّه في صفته و هو خلاف الوحدانية و التوحيد. فهو مردود بأن التوحيد الواجب في الإيمان هو توحيد اللّه و نفي الشريك له في الإلهية و ما يعود إليها. و أما في غير ذلك فإن القرآن الكريم نفسه قد شرّك بين اللّه و عباده في نوع صفة الحياة و العلم و الرحمة و الرأفة و الخلق و غير ذلك و إن كانت صفات اللّه ممتازة عن نوعها بكماله و مميزاتها «ثانيها» دليل النقل كقوله تعالى خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ. و هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ. و يرده ان ابن المنير و من يحتج بهذا كأنهم لم يقرءوا و لم يسمعوا من سورة العنكبوت قول ابراهيم خليل اللّه لقومه 16 تَخْلُقُونَ إِفْكاً. و قول اللّه لعيسى كما في سورة المائدة 110 وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. و قول عيسى رسول اللّه كما في سورة آل عمران 43 أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. و قوله تعالى من هذا الباب في سورة المؤمنون 16 فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. و لماذا لم يلتفتوا من ذلك إلى أن الخلق المقصور على اللّه إنما هو خلق الإله و إيجاده مما هو من أعمال الإلهية. و على ذلك جاء قوله تعالى في سورة الرعد 17 أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ «ثالثها» انه و ان قبح صدور بعض الأفعال من الناس بحسب الشاهد لكن الحكم بقبح صدورها من اللّه قياس للغائب على الشاهد و هو باطل. و يردهم أولا انه ما اسمج التعبير عن اللّه و شؤونه بالغائب. و هو على كل شي ء شهيد. و هو أقرب إليكم من حبل الوريد «و ثانيا» ان الحكم على بعض افعال الناس بالقبح ليس من الحواس الخمس لكي يقال انّ الحواس لا تدرك اللّه. و ان الناس ليعلمون ان العدلية يعنونون هذه المسألة و محل نزاعها بالحسن و القبح العقليين و ينادون بأن الحاكم بالحسن أو القبح إنما هو العقل بنفسه و إدراكه من دون مداخلة للحس أو وجود الفعل في الخارج. و ليت شعري هل عند العقل شاهد و غائب «و ثالثا» ان حكم

ص: 67

العقل الفطري بقبح صدور القبيح من فاعله انما هو بالنظر الى عقل الفاعل وجهة كماله و علمه بالفعل و بجهة قبحه و لذا لا يحكم بالقبح الفاعلي على الفاعل من الأطفال و المجانين الذين لا يميزون و لا على الغافل عن الفعل او جهة قبحه. و ان اللّه هو الكامل العليم الخبير فهو جل قدسه أول من ينظر العقل إلى فعله و يحكم بامتناع صدور القبيح منه جل شأنه «رابعها» انه يقبح من الإنسان أن يمكن عبده من القبائح و الفواحش بمرأى منه و مسمع ثم يعاقبه على ذلك مع أن القدرة التي يفعل بها الناس الفواحش هي من اللّه على علم منه بمن سيفعل الفواحش منهم (و يردهم) ان التمكين القبيح هو ما كان مختصا بفعل الفواحش و لكن اللّه عز و جل أعطى القوى للإنسان ليتمتع بها في المباح و الراجح نعمة منه لإبقاء نوعه و انتظام اجتماعه. غاية الأمر ان الإنسان يتمكن من أن يعملها في المحرم الذي أرشده إلى تركه بالعقل و زجر الأنبياء و نواهيه في وحيه و إنذارهم لهم بالوعيد. فهذه القوى نعمة مسدودة لا مساس لها بما ذكروه من المثال.

و لم يخلق اللّه قوة مختصة بأعمال الشر لكي تكون نقضا على ما نقول به من مسألة القبح «خامسها» أن ما يكون ظلما قبيحا إنما هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه و اللّه مالك العباد و كل شي ء.

فكل ما يفعله بالعباد ليس بظلم. و يرده أولا ان العقل لا يتوقف في احكامه و موضوعاتها على ما يذكر في بعض المتون الفقهية أو معاجم اللغة في معنى الظلم تساهلا أو قصورا أو اقتصارا على محل الحاجة في البيان. فإن كل ذي شعور إذا رأى مالك العبد قد سدّ فمه و منعه بالقهر عن شرب الماء و استمرّ على المنع و هو يقول له اشرب الماء اشرب حتى إذا أضرّ به العطش و هو ممنوع عن الشرب استشاط مالكه غضبا عليه و صار يعنفه و ينكل به لأنه لم يشرب الماء. و كذا لو فعل مثل ذلك فيما يملكه من الحيوان. فإن الرائي لذلك الحال و كل من علم به يحكم بالبداهة ان العبد و الحيوان المذكورين مظلومان. و إن المالك المذكور ظالم قد فعل قبيحا. و ثانيا. ان مقتضى ما زعموه انّ الأنبياء و الرسل الذين أفنوا أعمارهم في طاعة اللّه و عبادته و الدعوة اليه و صبروا في ذلك على الشدائد هؤلاء الكرام يجوز أن يعذبهم اللّه يوم القيامة في جهنم خالدين فيها بعذاب إبليس و فرعون بزعمهم و إنه ليس بظلم و لا قبيح فإنهم عبيد اللّه و ملكه «سادسها» أنه يجوز ان تكون هناك حكمة تسوغ ان يلجئ اللّه عباده على الكفر و أعمال الشر ثم يعاقبهم على ذلك فلا سبيل للعقل مع هذا الجواز إلى حكمه بقبح هذا الإلجاء و هذا العقاب (و يردهم) ان العقل يحكم بالقبح و الامتناع في هذا و أمثاله لأنه يجد ان لا حكمة ترفع قبحه و امتناعه من اللّه و لا يصلح

ص: 68

لأن ترفع حكمة قبحه. و لو حاول أحد أن يد على العقل باب هذا الوجدان كان ذلك منه سفسطة سخيفة تسد على العقل باب احكامه و ذلك باطل بالضرورة. على ان هذا الاحتمال و التجويز للحكمة يرد عليهم بنحو لا مخلص لهم منه أبدا فإنهم بإنكارهم للقبح العقلي و امتناع صدور القبيح من اللّه قد سدّوا على أنفسهم باب العلم بصدق النبوات و بأن اللّه لا يظهر المعجز على يد الكاذب و بصدق الكتب الإلهية و ما فيها من تقديس اللّه و أمر القيامة و النعيم و العذاب و الجنة و النار فإن قالوا إنا نعرف من عادة اللّه انه لا يكذب جلّ و علا و لا يظهر المعجز على يد الكاذب. قلنا عليهم أولا لماذا لا تجوزون ان تكون هناك حكمة تسوغ مخالفة العادة و إذ قد عزلتم العقل في هذا المقام لم يكن لكم أن تقولوا ان العقل يجد أن لا حكمة تجوز مخالفة العادة. مع ان مخالفة العادة ليس فيها محذور لا تعارضه حكمة بخلاف القبيح كما قلناه «و ثانيا» ان دعوى العلم بعادة اللّه لا تليق إلا من قديم أزلي مطلع على جميع اعمال اللّه منذ الأزل نفيا و ثبوتا لكي يعرف ما صار عادة للّه و ما لم يصر. و من ذا الذي يزعم انه ذلك الأزلي المطلع على جميع أعمال اللّه منذ الأزل. و ما هو المانع من مخالفة العادة حتى مع عدم الحكمة.

سبحانك اللهم ما أجلى قدسك و كمالك للعقول التي وهبتها لعبادك و أقمت باحكامها عليهم الحجة

سورة البقرة (2): الآيات 8 الى 9

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)

8 وَ مِنَ النَّاسِ أي قوم منهم و هم المنافقون مَنْ يَقُولُ أفرد الضمير باعتبار لفظ «من» آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ و الظاهر كما حكي عليه الاتفاق ان المراد منهم الذين يظهرون الإيمان و يبطنون النفاق و من الشواهد لذلك قوله تعالى فيما بعد وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ. ذكروا إيمانهم باللّه و اليوم الاخر جمعا لأطراف الإيمان لأن ايمانهم باليوم الآخر متفرع على الإيمان بالرسول و القرآن. و لأجل أن يظهروا في مخادعتهم أنهم يخافون اللّه و عذاب الآخرة و يرجون نعيم الثواب فهم ملازمون للتقوى من أجل ذلك.

و مرادهم من قولهم آمنا انهم ثبتت لهم صفة الإيمان فهم من زمرة المؤمنين و لا يريدون الاخبار بمجرد صدور الإيمان منهم في الماضي و الذي يجتمع مع الثبات عليه و مع الارتداد و النفاق بعده و لذا قال اللّه جلّ شأنه وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بل منافقون 9 يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا و المخادعة هو ما يسبب الخديعة و يولدها من قول او فعل و الخديعة هو ما يسبب و يتولد من

ص: 69

ذلك إذا لم يمنع منه علم من طلبت خديعته او تسديده من اللّه او حذره. و المفاعلة قد تجي ء من طرف واحد كما في عافاه اللّه و عاقب المجرم و عاينت الشي ء و حاولت الأمر و زاولته. و لكن مخادعتهم هذه لا تسبب و لا يتولد منها خديعة إلا لهم وَ ما يَخْدَعُونَ بها إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لما يعود عليهم في الدنيا و الآخرة من وبال مخادعتهم هذه و نفاقهم وَ ما يَشْعُرُونَ فإن قيل ان هؤلاء المنافقين ان كانوا في الحقيقة دهريين ينكرون وجود الإله فكيف يتوجهون اليه بالمخادعة. و إن كانوا وثنيين يعترفون باللّه و إلهيته و علمه و لكنهم يشركون الأوثان معه في الإلهية فكيف يتصور اقدامهم على مخادعته فيحاولون منه الغرّة و الانخداع. قلنا إذا لم يتصور ذلك في تذبذبهم في النفاق و خبطهم في ضلالات الأهواء و الكفر فقد قال بعض المفسرين ان المخادعة جاءت هنا على نحو التجوز و الاستعارة باعتبار ان قولهم ذلك يشبه المخادعة و ان لم يريدوها. و لكن الذي يظهر من المقام انهم بقولهم ذلك يخادعون الرسول و الذين آمنوا على حقيقة المخادعة. و لا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي و المعنى المجازي معا. و لذا أبقى المخادعة بعضهم على حقيقتها و قال ان التجوز إنما هو بإضافتها الى اللّه دون إضافتها إلى الذين آمنوا و التجوز باعتبار ان الجرأة على مخادعة الرسول في مقدمة الذين آمنوا من حيث انه رسول اللّه بمنزلة الجرأة على مخادعة اللّه فأضيفت المخادعة الى اللّه على النهج الذي جاء عليه قوله تعالى في سورة الفتح إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ و هذا أظهر القولين

سورة البقرة (2): آية 10

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)

10 فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مرض النفاق و التلون و استعير اسم المرض هنا لأن فيه خروجا عن الصحة العادية و النفاق خروج عن الاستقامة الفطرية للبشر و جريهم على ما توضحه الدلائل النيرة.

و لأجل تمردهم في نفاقهم خرجوا عن أهلية التوفيق للاستقامة فأعرض اللّه بوجهه الكريم عنهم و حرمهم اللّه بركات لطفه فَزادَهُمُ اللَّهُ بحرمانهم التوفيق مَرَضاً على وتيرة من تمرد بالطغيان فوكله اللّه إلى نفسه المنهمكة بالقبح منذ اسلست قيادها للهوى و الشيطان. و قيل المرض هو غم الحسد و العداوة للمؤمنين و بحرمان اللّه لهم من توفيقه زاد مرضهم و بهذا الاعتبار نسبت الزيادة إلى اللّه و قيل ان فزادهم دعاء عليهم و لكن الفاء لا تناسبه. و قيل غير ذلك وَ لَهُمْ

ص: 70

عَذابٌ أَلِيمٌ شديد الألم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ في نفاقهم و مخادعتهم و قولهم آمنا و ما هم بمؤمنين.

سورة البقرة (2): الآيات 11 الى 15

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

و ما ظنك بعذابهم على كفرهم و سوء أعمالهم و فسادهم 11 وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بنفاقكم و سوء اعمالكم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ و ما أكذبه من قول يقوله مريض القلب و المتحكم بجهله او نفاقه على الحقائق و الدين و شؤون الناس. فيسميه اذنابه بالمصلح الكبير 12 أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ بنقصهم و بما يلحقهم من ذلك من وصمة الضلال و ظهور الحال و وخامة السمعة 13 وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ بالإيمان المعهود و ثبتوا على حقيقة الايمان و تعاليمه الصالحة و أخلاقه الفاضلة و الطاعة في نصرهم لدين الحق قالُوا من غيهم أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الذين آمنوا و خضعوا للإسلام و أحكام دينه و الجهاد في سبيل اللّه و إظهار الحق أَلا إِنَّهُمْ و هم المنافقون هُمُ السُّفَهاءُ الذين هم اختاروا سفاهة النفاق و رذيلته و أضاعوا رشدهم في المعارف و دين الحق و سعادة الدارين و العاقبة الحسنى وَ لكِنْ لأجل تماديهم في الغي لا يَعْلَمُونَ بما يكون العلم به فضيلة للإنسان و وسيلة لسلامته من خسة السفاهة الموبقة. و هؤلاء المنافقون زيادة على ما ذكر لهم من قبائح الكفر و الأقوال و الأفعال مذبذبين ذوي لسانين و وجهين 14 وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا بحقيقة الايمان الثابت عن بصيرة قالُوا بتزويرهم آمَنَّا و نحن الآن من زمرة المؤمنين وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ الذين يغرونهم بالكفر و محادة اللّه و رسوله قالُوا لهم في خلوتهم بهم إِنَّا مَعَكُمْ على ما أنتم عليه و من زمرتكم إِنَّما نَحْنُ في حالنا مع المؤمنين و إظهارنا لهم انا منهم مُسْتَهْزِؤُنَ بهم.

فتعسا لآراء المنافقين 15 اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ بأن يمهلهم و يخوّلهم من حطام الدنيا و حياتها شيئا و مصيرهم في عاقبة ذلك الى اخس الهوان و أشد العذاب فاستعير لذلك لفظ الاستهزاء لمشابهته له في ابتهاجهم بظاهر الامهال و التخويل مع انه مقرون بالاستهانة بهم و اعداد العذاب الأليم.

ص: 71

و يزداد حسن هذه الاستعارة في مقابلة قولهم انما نحن مستهزءون. و اين عنها قول عمر بن كلثوم في معلقته:

ألا لا يجهلن احد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يملي لهم و يمهلهم في تماديهم على طغيانهم مع حرمانهم التوفيق و هذا بمنزلة التفسير لما استعير له لفظ الاستهزاء يَعْمَهُونَ العمه هو العمى في الرأي و البصيرة و التردد في الضلال

سورة البقرة (2): الآيات 16 الى 17

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)

15 أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إذ كانوا ممن هيأ اللّه بألطافه لهم اسباب الاهتداء و جعل بلادهم محط بركة الهجرة و مشرق أنوار الوحي و منار الدلائل و الحجج قد أحاطت الألطاف بهم و توارد عليهم الإرشاد في مصبحهم و ممساهم و أجابوا دعوة الإسلام بلا إكراه حرب و لا إرهاب سيف. و لكن هذا الهدى الذي سعدوا بالقرب من موارده العذبة و ثماره الجنية قد اشتروا به الضلالة. و ان كل مشتر من العقلاء لا بد من ان يراعي منفعته بما اشتراه و غبطته بتجارته و هذا أول ما يطلب من الربح فيها. و الربح نقيض الخسران و من لم يربح في تجارته و لم يكن لما اشتراه منفعة فهو خاسر و يكفي هؤلاء من السفه إنهم اشتروا و تاجروا فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ و لا نفع لهم فيما اشتروه فضلا عن و باله في الدنيا و الآخرة وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ من أول الأمر لأنهم لم يظهروا الإسلام عن بصيرة و إيمان و إنما أظهروه لأغراض أخرى. و قيل و ما كانوا مهتدين في تجارتهم و الأول أظهر و أوفق بمقتضى الحال 17 مَثَلُهُمْ في حالهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً و طلب وقودها لحاجته إلى الضياء فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ من النواحي و حان انتفاعه بنورها فيما يعنيه من أموره ذهب ذلك النور و عاد هذا المستوقد في ظلام دامس لا يبصر فيه شيئا و خبط عشواء لا يهتدي فيه سبيلا. و هؤلاء المنافقون المذكورون كانوا يتشرفون بحضرة الرسول (صلی الله علیه و آله) و يستمعون إلى كلامه و حججه في بيانه و دلائله في إرشاده و تلاوته لكتاب اللّه فهم بذلك كمن استوقد نارا لهدى فلما أضاءت لهم بلطف اللّه مناهج الرشد و مغاني الحق تمرّدوا على اللّه بنفاقهم فخرجوا عن كونهم أهلا

ص: 72

للتوفيق و التسديد و وكلهم اللّه الى أنفسهم الأمّارة و أهوائهم الخبيثة. فأسدلا عليهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم. و لأجل ان ينوّه اللّه بما للتوفيق و التسديد من الأثر الشريف في تأييد العقل على مكافحته لوساوس الشيطان و نزغات النفس الأمارة و اهوائها عبر عن حالهم في غيهم على سبيل المجاز و استعارة التشبيه بأنهم حينئذ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ و أشار إلى معنى ذلك بقوله تعالى وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ أي خلى اللّه بينهم و بين أهوائهم و سوء اختيارهم و صاروا يخبطون في ظلمات الضلال لا يبصرون فيها طريق الهدى و الرشاد. و قد سلك القرآن الكريم أحسن منهاج البلاغة في بيان مثلهم و نتيجتهم السيئة فذكر مجرى المثل و مغزاه و اكتفى بذكر نتيجته بدلالة النتيجة السيئة لحال الذين ضرب المثل في شأنهم فناول السامع تتمة المثل و نتيجة حال المنافقين بأوجز بيان مفهم كما اكتفى بمقدمات المثل عن ذكر المنافقين في استيقادهم لنار الهدى و اضاءتها لما حولهم كما ذكرناه و ربما تصوره جودة الفهم أحسن مما ذكرناه. و لو بسط القرآن الكلام كما شرحناه للزم التطويل. و لو أهمل ما ذكره لحال المنافقين لما تمثلت من ضرب المثل فائدة لها قيمة بل لو ذكر قبلها نتيجة المستوقد المذكور لأنس الذهن بها و لم يرعه ما ذكر من نتيجة المنافقين السيئة المهولة و ذلك خلاف المقصود و حسن البيان.

(و مما ينبغي التنبيه عليه) هو ان بعض التفاسير المعروفة بالفضيلة ذكرت تفسير الآية على غير ما ذكرناه فنشأ من ذلك أمور «أحدها» جرأة غير المسلمين على الاعتراض على القرآن الكريم «ثانيها» التجاؤه إلى ان يجعل «الذي» بمعنى «الذين» و هذا مع وهنه مناف لإفراد الضمير في «استوقد» و «ما حوله» «ثالثها» استشهاده بقوله تعالى في سورة التوبة 70 وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا مع ان كلمة «الذي» في الآية للمفرد لا بمعنى الذين «رابعها» عدم ذكر النتيجة السيئة لحال المنافقين و في ذلك ما فيه. مع ان قوله تعالى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ إنما هي من صفات المنافقين لا من تتمة المثل و على ما ذكره يستلزم ربطها بالمنافقين طفرة كبيرة و فصلا بالأجنبي الطويل و هؤلاء المنافقون الذين ذهب اللّه بنورهم على ما ذكرناه هم في ضلالهم

سورة البقرة (2): آية 18

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)

18 صُمٌّ جمع أصم و هو الفاقد لحاسة السمع و قيل هو من ولد كذلك بُكْمٌ جمع ابكم قيل هو الأخرس و قيل من ولد كذلك و قيل هو الأخرس مع عيّ و بله عُمْيٌ

ص: 73

جمع أعمى شبهوا بذلك لأنهم بإصرارهم على الغي قد أخرجوا أنفسهم عن الانتفاع و الاهتداء بما يسمعون من الدلائل و الوعظ و الإنذار و التعليم و عن الاهتداء بسؤالهم عن الحق و مكالمتهم في ذلك و عن الانتفاع بما يشاهدونه مما يوضح لهم سبيل الرشد فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إلى حقيقة الإيمان إذ قد استحوذ عليهم الشيطان

سورة البقرة (2): آية 19

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)

19 أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ عطف بأو لأجل التنبيه بالترديد بين المثلين على اختلاف مجراهما و مغزاهما. فكأنه قيل ان شئت ضرب المثل لحال المنافقين مع الإسلام و هداه بالذي استوقد نارا إلى آخره. و ان شئت ضرب المثل لشأن الإسلام مع المنافقين فإن مثله كمثل صيب من السماء و حذف لفظ المثل لدلالة ما سبق و سياق الكلام عليه. و الصيب هو المنهمل النازل من العلو و السماء جهة العلو فوق الأرض فالمراد من الصيب هو المطر الغزير المنصبّ و الذي تحيى به الأرض و تزهر بنباتها و ينمو به الزرع و الضرع و هو قوام المعيشة للناس و خصوص العرب و أهل البوادي و الأنعام و لكنه مع ذلك لا يخلو من ان تقارنه ظلمات تتتابع كلما اكفهر السحاب الهاطل و ادلهمت به الآفاق خصوصا إذا كان بالليل. و لذا وصف المطر الصيب بالتوسع في الظرفية بأنه فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ إذ لا ينفك عن الرعد و البرق و الصواعق و هي الرعود القاصفة المخيفة بصوتها و هي المرادة في الآية و ان كانت الصاعقة ايضا اسما للنار النازلة مع ذلك الرعد المخيف.

فالإسلام للناس و نظام اجتماعهم كالمطر الصيب فيه حياتهم و سعادتهم في الدارين و زهرة الأرض بالعدل و الصلاح و الأمن و حسن الاجتماع و لكن معاندة المعاندين للحق و أهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد و حروب و معاداة من المشركين و رعود قتل و قتال و تهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر و الذين ارخصوا نفوسهم في سبيل اللّه و نيل السعادة. و فيه بروق من النصر و آمال الظفر و اغتنام الغنائم و عزّ الانتصار و المنعة و الهيبة.

فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع و الحذر من القتل و شبهت حالهم في ذلك بأنهم يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ اجل الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ و خوفا من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها. و سفها لعقولهم اين يفرون عن الموت و ماذا يجديهم حذرهم وَ اللَّهُ مُحِيطٌ

ص: 74

بِالْكافِرِينَ المنافقين لا مفر لهم من قضائه. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ. أو ان المراد ما هذا الخوف و الهلع و التحذر و الحال ان اللّه محيط بالكافرين المحاربين للإسلام و خاذلهم و مهلكهم و قد ظهرت آيات ذلك في غزوة بدر و ما قبلها

سورة البقرة (2): الآيات 20 الى 22

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

20 يَكادُ الْبَرْقُ اي ما ذكرناه من برق الإسلام و أنوار عزه و سعادته. يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ بشدة أنواره فهم كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ و ارتاحوا لبهجته و علقت آمالهم بسعادة الدنيا مَشَوْا فِيهِ و جاروا المسلمين و أظهروا موافقتهم وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بأن انقطع عنهم ضوء الآمال لما يرونه أحيانا من ظلمات الشدائد قامُوا و وقفوا في مكانهم في النفاق و ثبتوا على حيرة ضلالهم وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ فلا يسمعون بما حصل من المبشرات في الإسلام و لا بما يرد أحيانا على المسلمين من الشدائد و لا يبصرون ذلك فلا يترددون في ضلال النفاق إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 21 يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا اللّه رَبَّكُمُ و اخضعوا له حق الخضوع للآلة و أطيعوه فإنه هو ربكم و مالككم و مدبركم و مربيكم الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لم تجئ لعلّ للترجي بل لبيان انه لا يلزم من عبادتهم للّه انهم يتقونه حق تقاته بل يجوز أن تقع منهم التقوى المذكورة بحسن اختيارهم و يجوز ان لا تقع لسوء اختيارهم. و لأجل الاحتجاج بآلاء الربوبية و آثار القدرة ذكر من صفات الرب ايضا انه 22 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ممهدا يتيسر لكم الانتفاع بها في السكنى و نحوها و الزرع و الغرس وَ السَّماءَ بِناءً لا تخشون سقوط أجرامها عليكم. و ليس في ذلك صراحة بموافقة الهيئة القديمة و لا صراحة بمخالفة الهيئة الجديدة فإن حقيقة الأمر لا يعلمها إلا اللّه و ان الأوضاع المذكورة في الهيئتين لا مبنى لها إلا الحدس الذي تدافعه الشكوك و الردود. و المحسوس إنما هي حركات الكواكب وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهتها او ان المراد من السماء هنا جهة العلو ماءً و هو المطر الذي يحيي به

ص: 75

الأرض بعد موتها فَأَخْرَجَ بِهِ بما خلقه فيه و قدره من الخواص مِنَ الثَّمَراتِ يجوز ان يراد بها ما يعم الحبوب و الأطعمة رِزْقاً لَكُمْ و هل يكون ذلك من غير الإله القادر العليم الحكيم.

و انكم لتعترفون بالإله و ان هذا كله من خلقه و انعامه فما بالكم تجعلون معه آلهة و لو بزعم انها من تنزلات الإلهية. او انها منبثقة من الإله. او انها مظاهره. او بناء على مزاعم العقول العشرة و انه لا يمكن أن يصدر من اللّه إلا العقل الأول تعالى اللّه عما يصفون فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً جمع ندّ بكسر النون. قيل ان الندّ المثل و قيل الضدّ. و في النهاية هو مثل الشي ء الذي يضادّه في أموره و ينادّه أي يخالفه. و في المصباح لا يكون الندّ إلا مخالفا. و في التبيان و مجمع البيان في الآية المائة و الستين و أصل الندّ المثل المناوئ. و في الكشاف في هذه الآية و لا يقال إلا للمثل المخالف المناوي و مثله في جمع الجوامع. و في المصباح ناويته عاديته او فعلت مثل فعله مماثلة. و في القاموس فاخره و عاداه و نحوه في النهاية. و المشركون يجعلون لأوثانهم و ما يؤلهونه صفة الإلهية و اعمالها و بذلك يجعلون كلا مما يشركون به ندّا للّه و مثلا معارضا له في إلهيته و اعمالها وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ان الإله الخالق المعبود و المطاع هو اللّه فما هذه المزاعم و ما هذا الشرك المناقض لعلمكم و معرفتكم و لو تدبرتم الحجج الساطعة لعرفتم كيف لبست عليكم الأوهام و دلست على عقولكم الأهواء. فوحدوا اللّه ايها الناس كما هو حقه و آمنوا بعبد اللّه رسوله الذي جاء بالحجج الباهرة و أنزل عليه القرآن العظيم

سورة البقرة (2): آية 23

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)

23 وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا من القرآن عَلى عَبْدِنا و شككتم في انه كلام اللّه و وحيه المنزل من عنده و جوزتم أن يأتي به بشر من عند نفسه بلا وحي من اللّه فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي مثل القرآن فإنه نزل بلسانكم العربي و أنتم اهل الفصاحة و البلاغة. و قد بلغتم أوج الرقي في الأدب العربي بما تناله القدرة البشرية و لكم المهلة و الأناة وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الذين ينصرونكم و يشهدون لكم لكي تستظهروا بشهادتهم فإن اللّه لا يشهد لكم فإنه يعلم انكم لا تقدرون على ذلك. او و ادعوا رجال بلاغتكم الذين يشهدون المواسم و أسواق العرب

ص: 76

لأجل المفاخرة في البلاغة و المسابقة في ميادينها فاستعينوا بهم على ذلك من دون اللّه. فإن الاستعانة باللّه على ذلك و دعاءه يجعل الإتيان بالسورة و الأكثر ممكنا بواسطة اعانة اللّه و وحيه كإمكانه لرسول اللّه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم ان القرآن يمكن للإنسان بقدرته البشرية أن يأتي به او بمثله او بسورة من مثله. و هؤلاء و إن كان صدقهم في ذلك ممتنعا يناسب ان يقال فيه لو كنتم صادقين لكن قيل إِنْ كُنْتُمْ مجاراة لهم و ملاينة في الخطاب و اما قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مع ان ظاهرهم الجحود لكون القرآن منزلا من اللّه فيجوز أن يكون لأجل علمه جل شأنه بأن منهم من تأثر قليلا بكثرة الشواهد على الرسالة و إنزال القرآن من اللّه فيرجع أمره من الجحود الى الشك و الريب في ذلك فاحتج اللّه عليهم بالحجة القاطعة لوساوس الشك و عناد الجحود. او انه جل شأنه احتج على ادنى معارض للإيمان و هو الريب بالحجة الجارية فيه و في الجحود

سورة البقرة (2): الآيات 24 الى 25

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

24 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا و لم تأتوا بسورة من مثله لعجزكم و قصور القدرة البشرية عن ذلك وَ لَنْ تَفْعَلُوا اخبار لهم بأنهم لا يفعلون ذلك لخروجه عن القدرة البشرية مهما برعوا و تقدموا في الفصاحة و البلاغة و مهما تعاونوا و استعانوا بالبشر فَاتَّقُوا النَّارَ أي فإن عجزتم و لم تفعلوا لزمكم ان تعرفوا ان القرآن منزل من اللّه على رسوله و لزمكم الإيمان بالكتاب و بالرسول و ان لم يدعكم الى الإيمان شرف الانسانية و العقل و الرغبة في السعادة على نهج إيمان الأحرار فلا أقل من ان يدعوكم الخوف كما في طاعة العبيد فإن من ورائكم النار التي أنذركم بها القرآن الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ الوقود بفتح الواو ما توقد به النار فما ظنكم بنار يكون وقودها الناس بلحومهم و دمائهم و فضلاتهم و وقودها مطلق الحجارة فاتقوها بإيمانكم و طاعتكم للّه و رسوله أُعِدَّتْ و هيئت لِلْكافِرِينَ الذين يموتون على الكفر. ثم قرن جل شأنه وعيده للكافرين ببشراه للمؤمنين بقوله جل اسمه 25 وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ يتنعمون بها و من كمال بهجتها و روحها و جمال منظرها انها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ على عادة الجنان ذوات البهجة و الرونق من ان الماء لا ينقطع عنها و لا يعلوها فتكون كالمستنقعات

ص: 77

بل تكون مجاري مياهها اوطأ من ارضها يتنعمون بثمارها و كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً رأوا ذلك من جنس ثمار الدنيا و قالُوا عند ذلك هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا. و الحكمة في كون ثمار الجنة من جنس ثمار الدنيا هو ان ذلك ادعى للرغبة الى نعيم الجنة و احسن وقعا في البشرى فإن النفوس تهش الى مألوفاتها و لو ذكر للناس ما لم يروا له نموذجا في الدنيا لما رغبوا فيه رغبتهم فيما يعرفونه وَ أُتُوا بِهِ الظاهر انه رزق الجنة مُتَشابِهاً فيما بينه في الحسن و الجودة لم يختلط مع جيده ردي وَ لَهُمْ فِيها في الجنة أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ طهرهن اللّه في خلقه لهن و ناهيك بذلك وصفا ثابتا و مقتضى اطلاق التطهير انهن منزهات من كل ما يستقذر في خلقهن و أخلاقهن وَ هُمْ فِيها في الجنة خالِدُونَ مدى الأبد

سورة البقرة (2): آية 26

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)

26 إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما أي مثل يكون بحسب المناسبة في التمثل سواء كان بالحقير او بالخطير و الاية تشعر بأنها توبيخ لمن استنكر ضرب اللّه للأمثال و يجوز ان يكون لمنع الاعتراض على ضرب اللّه للمثلين المتقدمين و غيرهما و ان لم يسبق من احد اعتراض. و رويت في نزولها اسباب و لم تصح و لا تسلم من وجوه الشك و الخدشة. و لا يخفى ان في ضرب المثل فوائد كبيرة في التلقين و الفهم لا تحصل بدونه. فإنه بتمثيله بالمحسوسات و المعهودات و المألوفات يشتد تأثر النفس بها و يستلفت الذهن الى الإقبال على فهم الأمر الممثل له فيستحكم تأثر النفس به. و معنى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي هو ان ضرب المثل مع ما فيه من الحكمة و اللطف في البيان لا يتركه اللّه لأجل حقارة الممثل به او ان الممثل له أعظم منه بكثير. و قد اقتضت المناسبة و التشبيه ان يستعار للترك المذكور لفظ الاستحياء الذي هو انفعال في النفس و خجل يمنع عن إبداء الشي ء و ان تعلق به غرض بَعُوضَةً من هذا البعوض المستحقر لصغره فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ و الجاري على الحكمة في بيان الحقيقة وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ على سبيل الاستنكار و الاستخفاف ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا و الظاهر انهم يقولون أَرادَ اللَّهُ على

ص: 78

سبيل الاستهزاء بدعوى الرسول ان المثل وحي منزل من اللّه فإن الكافرين بل و المنافقين ينكرون الوحي المذكور و لو اعترفوا به لما قالوا قولهم هذا. و قد اعرض اللّه عن بيان ما أراد بالمثل فإن بيانه مقرون به و عن ذكر فائدته فإن حكمته و مغزاه و نتيجته واضحة لا يتجاهل فيها إلا السفيه المعاند و لكنه جل شأنه أجابهم بعاقبته السيئة بالنسبة إليهم فيما هم عليه من العناد و بأثره الحميد بالنسبة للمؤمنين فقال جل اسمه يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً من الناس المنكرين على المثل او المستهزئين أي تكون عاقبتهم في ذلك الضلال و ان أراد اللّه به تفهيمهم و هدايتهم. و ذلك كما قيل فلان قتل فلانا بحلمه فإنه لم يرد بحلمه إلا فضيلته و لكن صارت عاقبته ان فلان الآخر اغتر بجهله و اجترأ على آخر فقتله فنسب القتل الى فلان الأول باعتبار ان حلمه كانت عاقبته قتل ذلك المغتر بسوء اختياره وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً و هم المؤمنون إذ يتدبرونه و يهتدون بمفاده و يعرفون حكمته وَ ما يُضِلُّ بِهِ بالمعنى المذكور إِلَّا الْفاسِقِينَ و هم الكافرون و المنافقون الهاتكون للحجاب فإن الفسق في اللغة هو خروج الشي ء من حجابه يقال فسقت التمرة إذا خرجت من قشرها. و لا يضر بعمومه للكافرين و المنافقين كونه في الاصطلاح المتأخر مختصا بالمسلم العامل بالمعاصي

سورة البقرة (2): آية 27

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)

27 الَّذِينَ الأظهر ان ذلك بيان لصفات مطلق الفاسقين لا خصوص من يضلهم ضرب المثل يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ نقض البناء هدمه و نقض الحبل حل فتله فهو ضد ابرامه. و العهد يستعمل في الوصية نحو قوله تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم.

و في الوعد المقرون بإظهار الالتزام به. و الميثاق مصدر من الوثوق مثل الميعاد من الوعد و الميلاد من الولادة أي ينقضون وصية اللّه لهم أو ما أعطوه للّه من العهد مع توثيقه بالمؤكدات.

و شبه عهد اللّه في توثيقه و ربطه ما بين العبد و ربه بالحبل و ابرامه فاستعير لمخالفته لفظ النقض.

و الأظهر ان المراد ما عهده اللّه إلى الناس و وثقه سواء كان بدلالة العقل أم بتبليغ الرسل و الكتب المنزلة و سواء كان في التوحيد و المعرفة أم في النبوة أم في الإمامة ام في الدين و الشريعة وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ و من ذلك صلة الأرحام و صلة الرسول و الإمام بالطاعة كما أمر

ص: 79

اللّه. و صلة قربى الرسول بالمودة و نحوها وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في فسقهم و ما ذكر من سوء اعمالهم

سورة البقرة (2): آية 28

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

28 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ يجوز أن يكون الخطاب المتكرر في الآية للكافرين و تكون «كيف» لتوبيخهم على كفرهم مع ما يذكر من الحجة.

و يجوز أن يكون ذلك خطابا لجميع الناس و بيانا لأنه لا يليق ان يختار الكفر انسان له شعور مع قيام الحجج في نفس وجوده و أحواله على حقيقة العرفان للّه أ فيكفر باللّه وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ الواو حالية و لا حاجة إلى إضمار «قد» بل لا يصحّ لأنه يستلزم ان تكون الحال جملة وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً و ليس كذلك لأنها لا تفي بالحجة بل الجملة الحالية مجموع و كنتم أمواتا فأحياكم او هو و ما بعده و لا ينتظم ذلك بمعنى واحد يكون حالا إلا إذا جعل الجميع خبرا لأنتم محذوفة اي و أنتم تعتور عليكم هذه الأمور الكافية في الدلالة على وجود الإله الواحد القهار.

و المراد من كونهم أمواتا انهم كانوا أشياء فاقدة للحياة و من اقرب عهودهم بذلك انهم كانوا نطفا في الأصلاب أو كانوا في الأرحام علقة أو مضغة أو عظاما و لحما و لا حياة في شي ء من ذلك فجعل فيهم الحياة و لا يكون ذلك بلا مؤثر و لا من لا شي ء و لا من فاقد العلم و الحكمة و الإرادة. فليعتبر الإنسان بما في تركيب بدنه و أجزائه و أوضاعها و أسباب حياته من بواهر الحكم و عجائب الصنع ثم ليعتبر بما وهب له من الحياة و الحواس و الإدراك و قد أوضح وجه الاعتبار بذلك بالنحو العرفي و العقلي في رسالة البلاغ المبين ثُمَّ يُمِيتُكُمْ في آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ان كان هذا من تتمة الاحتجاج فلا بد من أن يحمل على أمر معلوم محسوس لجميع الناس و معناه حينئذ أنه يحيي نوعكم باحياء أمثالكم من الناس و في هذه القدرة التامة الدائمة عبرة و حجة لأولي الألباب. و إن لم يكن من تتمة الاحتجاج كما هو المناسب لقوله تعالى ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بل كان اخبارا بمواقع قدرته و آثار حكمته فإنه يكون المراد يحييكم في القبر. و يجوز ان يكون المراد يحيي بعضكم في الرجعة التي يقول بها الإمامية و نسبت الحياة إلى النوع تجوزا ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة و ليس رجوعهم بعد غيبوبتهم أو انفصالهم عنه جل و علا بل كما تقول للحاضر عندك إليّ مرجعك أي لا مهرب لك و لا بد من أن أنفذ فيك حكمي و عدلي و إن

ص: 80

أمهلتك زمانا.

سورة البقرة (2): آية 29

اشارة

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29)

و من تأكيد الاحتجاج المسوق بسياق الامتنان و للّه الشكر قوله تعالى 29 هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ لمنافعكم التي تعرفونها و التي لا تعرفونها و من منافعكم اعتباركم بخلقتها ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من نبات و مياه و حيوان و معادن فتبصروا و اعتبروا و التفتوا إلى ما في الأرض و البحار و النبات و الحيوان من مظاهر قدرة الإله و إرادته و حكمته و رحمته ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي جهة العلو. و التعبير بالاستواء مجاز باعتبار توجه إرادته و حكمته الى خلق السماوات في العلوّ بعد أن خلق الأرض و قدّر فيها أقواتها في أربعة أيام فَسَوَّاهُنَّ و فسر إبهام الضمير بقوله تعالى سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مما خلفه عَلِيمٌ كما يظهر على المخلوقات دلائل علمه و خلقه بالإرادة على مقتضى حكمته. و ذكر جل اسمه من السماوات سبعا باعتبار ما يرونه و يعرفونه في تلك العصور من السيارات السبع و كسف بعضها لبعض و إن كانت السماوات في الهيئة القديمة تسعا لأن فلك الثوابت و الأطلس كما يزعمون سماء ان أيضا. و في الهيئة الجديدة باعتبار المدارات للسيارات اكثر من ذلك وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ

تنبيه

لا يخفى ان الحذف لما يدل عليه المقام و يرشد وجه الكلام إلى حذفه باب من أبواب البلاغة عند العرب و هو في نثرهم و شعرهم كثير. و لنذكر له شيئا من شعرهم لمناسبة المقام و توطئة لما يأتي في بلاغة القرآن الكريم من نوع الحذف. قال لبيد بن ربعة العامري

قالت غداة انتجينا عند جارتها أنت الذي كنت لو لا الشيب و الكبر

فحذف خبر «كنت» اي جميلا و نحو ذلك و غيرك الشيب و الكبر. و قال مساور بن هند بن قيس

زعمتم أن إخوتكم قريش لهم الف و ليس لكم إلاف

أولئك أومنوا خوفا و جوعا و قد جاعت بنو اسد و خافوا

فحذف تكذيبهم لدلالة حجته على ذلك. و قال عبد مناف الهذلي في آخر قصيدته

حتى إذا سلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا

فحذف جواب إذا و عاملها لدلالة المقام و قوله «شلا» و قال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته

ص: 81

لا تخلنا على غراتك انا قبل ما قد وشى بنا الأعداء

فحذف المفعول الثاني و هو نهاب الملك أو نبالي به و نحو ذلك. أو حذف خبر «إنا» بهذا المعنى. أو كليهما فحذف المفعول الثاني بالمعنى المتقدم و خبر «إنا» بما يريد ان يتصوره السامع من التهويل بالتحمس. و قال آخر

إذا قيل سيروا ان ليلى لعلها جرى دون ليلى مائل القرن أغضب

فحذف خبر «لعل» لنكتة آثرها فيما يتمناه من ليلى. و قال عبيد بن الأبرص يخاطب

امرء القيس نحن الأولى فاجمع جمو عك ثم وجههم إلينا

فحذف الصلة ليحضر في ذهن السامع ما يريده الشاعر من وجوه الحماسة و التهويل.

و قد جمعنا في هذه المقدمة بعض الشواهد للحذف و أغراضه السامية لنحيل عليه في الاستشهاد لما يأتي من فرائد القرآن الكريم في وجوه البلاغة و براعة البيان: هذا و قد استفاضت الرواية عن أهل البيت عليهم السلام في

انه كان قبل آدم في الأرض نوع من الخلق قد أفسدوا و أهلكوا كما في رواية علي بن ابراهيم في تفسيره في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام و القوي عن الباقر (علیه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام و رواه الصدوق أيضا في العلل. و رواية تفسير البرهان عن العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) و العياشي عن علي بن الحسين و عن عيسى بن حمزة عن أبي عبد اللّه. و روى ذلك الحاكم في مستدركه من طريق الجمهور و صححه عن ابن عباس. و أخرجه الطبري في تفسيره أيضا

سورة البقرة (2): آية 30

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)

و لما ذكر اللّه خلقه للأرض و ما فيها لينتفع الإنسان بذلك و ذكر خلق السماوات ذكر ابتداء خلقه للإنسان و ما جرى في ذلك من الشؤون و ما في خلق الإنسان من الحكمة و الكرامة لبعض أفراده ذوي الفضل فقال عز و جل 30 وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «إذ» ظرف و عامله محذوف يفسره قوله تعالى «قالوا» إلى آخر القصص كما يأتي ان شاء اللّه. و جاعل خالق من أجعله خليفة. و الخليفة من يخلف غيره و يجوز أن يكون المراد من يخلف الخلق السابق المذكور في الروايات المشار إليها. و قيل ان «إذ» مفعول به أي اذكر في القرآن ذلك الحين للناس كقوله تعالى وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ

و لكن يلزم من هذا القول ان يكون

ص: 82

الذكر مختصا بقول اللّه تعالى للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و يكون ما بعده أجنبيا لأنه لم يفرّع عليه ليكون مرتبطا به كالارتباط الذي في قوله تعالى فأجاءها المخاض إلى آخره فالمناسب إذن هو أن تكون «إذ» ظرفا متعلقا بمحذوف يدل عليه سوق الكلام الذي يفسره و ذلك بأن يكون التقدير و حين قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة جرت في ذلك محاورات و شؤون يفسرها قوله تعالى قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ قالوا ذلك حيث قد رأوا الخلق السابق و افسادهم و سفكهم للدماء كما دلت عليه الروايات المشار إليها

و روى العياشي بسنده عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام ما علم الملائكة بقولهم أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء لو لا انهم قد رأوا فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء.

و لا يلزم أن يكون قولهم هذا اعتراضا و ذنبا منهم. بل قالوا ذلك لأن اللّه أخبرهم في هذا الخطاب بأن الخليفة هو بشر من طين كما في قوله تعالى في سورة ص المكية 71 إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فعرفوا من بشريته انه ذو شهوة و غضب و قد عهدوا من حال السابقين ان الشهوة و الغضب ينشأ منهما الفساد و سفك الدماء. و لأجل بغضهم للفساد و معصية اللّه سألوا عن الحكمة في خلق هذا الخليفة مع انه في الشهوة و الغضب مثل السابقين الذين طهرت الأرض من فسادهم وَ نَحْنُ من لطفك في خلقنا بلا شهوة و لا غضب إنا دائما نُسَبِّحُ و التسبيح بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ و التقديس لَكَ فإن شئت عمران الأرض بصلاح عبادتك فاجعلنا فيها. و لكن مع ذلك كان الأولى بهم أن لا يصدر منهم هذا السؤال في هذا المقام و إن كان سؤالهم للتعلم بل يفوّضوا الأمر إلى اللّه و حكمته و علمه بما هو الصالح قالَ اللّه لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فإن في ذلك حكمة شريفة و لطفا خفيا إذ يكون من البشر أنبياء و رسل و أئمة فيهم شهوة و غضب و هم مع ذلك في أعلى درجات الطهارة و العصمة الاختيارية و الطاعة و العبادة للّه و التفاني في هداية الناس و إصلاحهم. و فيما أشرنا اليه

في تفسير القمي و علل الصدوق عن امير المؤمنين عليه السلام جاعل في الأرض خليفة تكون حجة لي على خلقي. و فيه ايضا. اجعل من ذريته أنبياء و عبادا

ص: 83

صالحين و أئمة مهديين و أجعلهم خلفاء الحديث.

سورة البقرة (2): الآيات 31 الى 33

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

31 وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها اي اسماء هؤلاء الهداة.

روى الصدوق بسندين معتبرين عن الصادق (علیه السلام) ان اللّه تبارك و تعالى علم آدم اسماء حججه كلها ثمّ عرضهم و هم أرواح على الملائكة فقال انبؤوني بأسماء هؤلاء

ثُمَّ عَرَضَهُمْ و هم أرواح طاهرة و أنوار قدسية تضي ء بالهدى و الطهارة و العصمة الاختيارية عَلَى الْمَلائِكَةِ ليعرفوا فضلهم الفائق و يظهر لهم شي ء من وجه الحكمة في خلق اللّه للبشر و علمه بالذين تشرق الأرض بنورهم و تقوم بهم الحجة على الملائكة فَقالَ اللّه بعد ان عرضهم و عرف الملائكة حالهم من الفضل أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ الذين عرفتم فضلهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى العلم حتى قلتم قولكم ذلك 32 قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ في أعمالك 33 قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ اللّه للملائكة أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ فيما علمتكم من جلال الإلهية أو في معنى القول السابق إني أعلم ما لا تعلمون إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و فوق ذلك إني أعلم ما في الضمائر وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يدل قوله تعالى وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ان هناك شيئا كتمته الملائكة ... هذا و قيل في هذه الآيات ان اللّه علم آدم اسم الصفحة و القدر و كل شي ء حتى البعير و البقر و الشاة. و قيل اسماء الأدوية و النبات و الشجر و الجبال و نحو ذلك. و لكن هذا كله ليس فيه مناسبة لسؤال الملائكة و لا للاحتجاج عليهم بالعلم بمواقع الحكمة في خلق الخليفة.

بل ليس فيه جواب لسؤال أصلا. مع ان ذلك لا يناسب قوله تعالى. عَرَضَهُمْ. هؤُلاءِ.

بِأَسْمائِهِمْ فإن الإشارة و هذه الضمائر مختصة بمن يعقل. و دعوى ان اللّه غلب من يعقل على سائر الأشياء ما هي إلا مجازفة. مضافا إلى ان اللّه قال الْأَسْماءَ كُلَّها ليظهر فضل العلم بهذا العموم خصوصا على ما قيل فلا يناسب ان يؤتى بلفظ مختص في اللغة بالعاقلين على خلاف

ص: 84

العموم لما ذكروه و لا ينطبق على ما يدّعى من العموم لكل الأشياء إلا بعد التي و اللتيا من دعوى التغليب الذي لا قرينة عليه في اللفظ و لا في سياق الكلام و ليس هو كالتغليب في قوله تعالى خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ الآية

سورة البقرة (2): الآيات 34 الى 35

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

34 وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الظاهر ان «إذ» هنا كسابقتها في المعنى و العامل و ان قوله تعالى فَسَجَدُوا إلى قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ يكون تفريعا و تفسيرا لما حدث في ذلك الحين. و الأمر للملائكة بالسجود شامل لإبليس لاندماجه حينئذ في زمرتهم و ان كان في الأصل من الجن و قد علم إبليس بشمول الأمر له و لذا لم يعتذر بأن الأمر لم يكن شاملا له بل التجأ في استكباره إلى القياس .. و السجود يجوز ان يكون لآدم ابتداء بعنوان التكريم لا العبادة. فإن السجود الذي يختص باللّه و يمنع العقل و الشرع ان يؤتى به لغيره إنما هو ما كان بعنوان العبادة و الخضوع بعنوان الإلهية. و يجوز ان يكون للّه شكرا على خلقه لآدم و ما له و لبعض ذريته من الفضل و من ذلك يحصل لآدم نوع من التكريم و التعظيم و بهذا الاعتبار قال اللّه اسْجُدُوا لِآدَمَ و الوجه الأول أظهر من اللفظ. و إن ثبت في شرعنا تحريم مطلق السجود لغير اللّه فلم يثبت المنع منه حتى في ذلك الحين فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى عن السجود وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ 35 وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ يقال لامرأة الرجل زوج و زوجة و الأول هو اللغة العالية و بها جاء القرآن. و الجنة اسم للبستان

و روى الكليني و ابن بابويه مسندا و القمي مرفوعا عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) ان جنة آدم من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر و لو كانت من جنان الآخرة او الخلد لما أخرج منها انتهى. و هذا لا يستلزم كونها في الأرض

وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما الأمر بالأكل كالأمر بالسكنى في الجنة إنما هو للاباحة و الإنعام. و الرغد صفة للمصدر اي اكلا رغدا رافها ليس فيه عناء و كلا من أي مكان شئتما مما يؤكل منه بلا حجر و لا نهي ارشادي وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ لا يخفى من دلالة المقام و النظائر و رواية العياشي عن الباقر (علیه السلام) ان المراد هنا هو عدم الأكل منها لا مطلق القرب و لكن صدر النهي بصورة النهي عن

ص: 85

القرب لأجل بيان التحذر من الأكل منها كقوله تعالى وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ

. و لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى و لم يصح ما روي في حقيقة الشجرة. و النهي هاهنا للإرشاد. لا للتحريم بدليل قوله تعالى في بيان الحال في سورة طه المكية 115- 118 انه عدو لكما فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى اي تقع في شقاء العيش و مشقته و يؤكد دلالة السياق على ذلك انه نسب الشقاء إلى آدم دون زوجته نظرا إلى ما جرت به العادة في الأرض في ان الرجل هو الذي يتعب في تحصيل المعيشة و المرأة عيال عليه «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها» اي في الجنة «وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى و لا تحتاج لأن تتعب فكرك و بدنك في تحصيل المأكول و الملبوس و المشروب و الشي ء الذي يظلك من حرارة الشمس. فلم يرتب على إخراج إبليس لهما اثم معصية و فسق خروج عن الطاعة و لا حذّره من ذلك كما يقتضيه اللطف فالنهي لمحض الإرشاد إلى ان لا يقع في ورطة الأكل المستتبع بحسب الحكمة للخروج من نعيم الجنة إلى شقاء عيش الأرض و تعبه. و إن مخالفة النهي الإرشادي تسمى ايضا معصية و ما كلّ معصية تساوي الذنب و الإثم فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسكما بالخروج من النعيم إلى التعب. و مثل هذا الظلم لا يستوجب ذما و لا يعد ذنبا. و الظلم في اللغة يساوق وضع الشي ء في غير محله.

و ضدّ الإنصاف او العدول و منه الحديث لزموا الطريق فلم يظلموه اي لم يعدلوا عنه. و لقد اغرب من قال ان الظلم اسم ذم لا يجوز ان يطلق على غير المستحق للعن لقوله تعالى أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. أ فلا يدري ان الآية المذكورة وردت في سورة الأعراف 42 و سورة هود 21

سورة البقرة (2): آية 36

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)

عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ 36 فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها زلت قدمه و رجله لم تثبت في مكانها و تحولت عنه و كذا الإنسان و أزله حمله او ألجأه إلى الزلة و الزلل فأزلهما الشيطان بوسوسته و غوايته و مخادعته باليمين الكاذبة عن الوصية المدلول عليها بقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ. و فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى او ازلهما عن الجنة و لم يتركهما ثابتين فيها. و قد رويت في كيفية وصوله إليهما بالوسوسة و المخاطبة بالإغواء روايات لم تصح فَأَخْرَجَهُما صار بإغوائه لهما سببا لخروجهما من حيث تبدل المصلحة في إسكانهما الجنة فنسب الإخراج اليه على سبيل المجاز في الاسناد مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم

ص: 86

و اللباس و العيش الرغيد وَ قُلْنَا اهْبِطُوا الخطاب لآدم و حوا و إبليس. و إذا كان إبليس هابطا الى الأرض قبل ذلك جاز هذا الخطاب بمعنى تساووا في الهبوط منها بَعْضُكُمْ إبليس و آدم و حوّا او ذريتهما لِبَعْضٍ عَدُوٌّ و عداوة البشر لإبليس باعتبار النوع و ان أطاعه بعض الناس وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ اسم مكان أي موضع استقرار و مصدر و الاستقرار معروف وَ مَتاعٌ اسم لما ينتفع به إِلى حِينٍ محدود لكل بموته حتى إبليس عند الصعقة الأخيرة قريب القيامة و البعث

سورة البقرة (2): الآيات 37 الى 38

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

37 فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ التلقي هنا أخذ آدم للكلمات من اللّه باستقبال و قبول و تعلم و عمل. و مقتضى السياق هو ان آدم ندم على مخالفة اللّه في أمره الارشادي و أراد التوبة و الرجوع الى مقام الأولياء المتبعين لإرشاد اللّه في العمل و الترك و صار يحاول الوسائل التي يتوب اللّه بها عليه فيعلمه اللّه كلمات توقفه في مقام المنيبين و تعرفه فضيلة ذوي الفضل. و قد روي من طرق الفريقين انه نحو من الدعاء

و في الدر المنثور مما أخرجه الديلمي في الفردوس مسندا عن علي عليه السلام دعاء فيه اللهم إني اسألك بحق محمد و آل محمد مكررا.

و مما أخرجه ابن النجار و البيهقي مسندا عن ابن عباس عن رسول اللّه «ص» سألته عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه قال سئل بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام فتاب عليه و روي من طريق الإمامية نحو ذلك كما رواه الكليني و الصدوق عن ابن عباس و مرفوعا و العياشي نحوه عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق عليه السلام و عنه ايضا مرسلا.

و لا منافاة بين روايات الدعاء و روايات الاستشفاع بأهل البيت لجواز الجمع بينهما فَتابَ عَلَيْهِ فرجع عليه بالرحمة و لطف الإرشاد و قرب المنزلة و الزلفى إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ و لأجل الاختصار لم تذكر هنا توبة حوّا و لأنها معلومة مذكورة في سورة الأعراف المكية 22 38 قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً كرر ذكر الأمر بالهبوط لأجل ان يذكر ما كان مرتبطا به من الكلام كما تدل على ذلك سورة طه المكية 121 و 122 فقد جمع فيها ما بعد الأمرين بالهبوط هنا بعد امر واحد.

و جميعا يراد منه ايضا ذرية آدم باعتبار هبوط أبويهم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً اما شرطية

ص: 87

و الهدى الرسالة و الآيات و دلائل الحق فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة و هذه الجملة جواب للشرط في فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم

سورة البقرة (2): الآيات 39 الى 40

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

39 وَ الَّذِينَ لا يتبعون الهدى بل كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 40 يا بَنِي إِسْرائِيلَ خطاب للموجودين منهم عند النزول. و إسرائيل لقب يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل معرّب يسرئيل في العبرانية. و

روي ان معناه عبد اللّه او قوة اللّه

اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ فيما خص اللّه به آباءهم من التوفيق للتوحيد الموروث من ابراهيم و إرساله موسى و الأنبياء منهم و نجاتهم من فرعون و قومه و ظهور الآيات لهم و إنزال المن و السلوى عليهم و توريثهم الأرض المقدسة و إهلاك أعدائهم و غير ذلك. و هذا النهج متعارف في الخطاب بأن يخاطب الموجودين من القبيلة و الأمة بأمور أسلافهم لا سيما ما يعود أمره في الفخر و الوبال على الموجودين. و شواهده في النثر و النظم من العرب و غيرهم كثيرة جدا وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي قد قطع اللّه العهد مع بني إسرائيل على العمل بما في التوراة من توحيده و عبادته و اتباع دين الحق و العمل بالشريعة و اتباع النبي الذي يقيمه اللّه لهم من إخوتهم بني إسماعيل و يجعل كلامه في فمه و ان يسمعوا له و يطيعوا.

و مهما حرّفت التوراة فقد بقي هذا العهد فيها. و ان قراءة اليهود لها و الالتزام بها في جميع اجيالهم التزام بهذا العهد و كذا المخاطبين بالآية من اليهود المعاصرين لرسول اللّه «ص» أُوفِ بِعَهْدِكُمْ من اللطف و التوفيق و التسديد و ثواب الآخرة. و يؤخذ من الآية قاعدة كلية و هي ان من لم يف بعهد اللّه فيما أخذه من الدين و الشريعة فهو بنفسه قد نقض عهد اللّه معه و خرج عن كونه أهلا لما وعد به من اللطف و الرحمة و استجابة الدعاء و على ذلك جاءت صحيحة القمي عن جميل عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام في استجابة الدعاء. و من عهود اللّه و مصاديق هذه القاعدة كما

في الكافي في موثقة سماعة عن الصادق عليه السلام و رواية ابن بابويه عن ابن عباس هو ما عقد رسول اللّه «ص» لأمير المؤمنين «ع» في غدير خم

كما تواتر به الحديث بين المسلمين وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة الخوف و التقدير و إياي ارهبوا أي و لتكن رهبتكم منحصرة

ص: 88

بي و لا يحملكم على نقض عهدي رهبة من شي ء فارهبوني و لا تنقضوا عهدي و حذفت كلمة ارهبوا لدلالة «فارهبون))

سورة البقرة (2): الآيات 41 الى 43

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

41 وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ اي القرآن الذي أنزلته على رسولي محمد (صلی الله علیه و آله) و هو النبي الذي وعدكم به اللّه و موسى و أخذ اللّه عهدكم باتباعه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ و بقي عندكم حتى في توراتكم المحرقة و هو أن اللّه يجعل كلامه في فم ذلك النبي. و قد دلكم اعجاز القرآن على أنه كلام اللّه. أو مصدقا لما معكم من الإيمان باللّه و اسم توحيده و الاعتقاد بالنبوات و رسالة موسى و آياته. و لا يصح أن يقال أنه مصدّق لما معهم من التوراة محرّف (1) بأشد التحريف المشتمل على الكفر و الخرافات. و القرآن صريح في مخالفتها في ذلك و قد أشرنا إلى شي ء من ذلك في الفصل الأول من المقدمة في اعجاز القرآن في وجهة التاريخ وَ لا تكفروا به تَكُونُوا مع عهد توراتكم بالنبي و جعل اللّه كلامه في فمه و مع دلالة الوجوه المتعددة في اعجاز القرآن أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أول من يعدّ من الكافرين به. و ذلك لتفاحش كفركم بعد قيام الحجة عليكم من وجوه عديدة. يقال لكثير الكذب و شديد الفسق أول كاذب و أول فاسق اي أول من يعد من الكاذبين و من الفاسقين وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي مع وضوح الحجة عليكم ثَمَناً قَلِيلًا الثمن يشتريه الإنسان في معاملته كما أن الآخر يشتري السلعة و استعير لاستبدالهم آيات اللّه بأهوائهم لفظ الشراء لما فيه من استبدال شي ء بشي ء كما قال ابو ذؤيب الهذلي

و ان تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

و الثمن القليل الحقير هو خوفهم من أكابرهم او حرصهم على جامعتهم الاسرائيلية او حسدهم للرسول (صلی الله علیه و آله) و غير ذلك من أباطيل الأهواء وَ إِيَّايَ اتقوا او احذروا نكالي و عذابي للكافرين المعاندين للحق بأهوائهم فَاتَّقُونِ 42 وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ و لا تجعلوا على الحق المعروف لباس الباطل ترويجا لباطلكم وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ به. فأسلموا وفاء بعهد اللّه و عملا بالحق الذي تعلمون به 43 وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ من المسلمين

ص: 89


1- فان ما معهم من التوراة محرف

سورة البقرة (2): الآيات 44 الى 46

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44) وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

44 أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ من الصدق و اتباع الحق و طاعة اللّه وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فإن فيه بقية من وصايا التوراة الحقيقة في الإرشاد و التعليم باتباع الحق و العمل بالعلم أَ فَلا تَعْقِلُونَ كيف لا يقبح من الإنسان ان يترك عمل البر الذي يعلم به 45 وَ اسْتَعِينُوا على ما يراد منكم مما فيه سعادتكم في الدين و الدنيا و توصلوا اليه بالأسباب المروضة للنفس و الموجهة لكم الى اللّه في استعانته و طلب توفيقه و تسديده بِالصَّبْرِ على الوفاء بعهد اللّه و الإيمان برسوله محمد (صلی الله علیه و آله) و ما أنزل اليه و على طاعة اللّه في أوامره و نواهيه و على مخالفة النفس الأمّارة و على مكافحة الكفر و الضلال بنصر الدين و نشر الهدى و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و على نوائب الدنيا بالتسليم لأمر اللّه. فإن الصبر في الآية الكريمة مطلق و أثره في جميع ما ذكرناه جلي محمود كما يدل عليه ما جاء في الكتاب و السنة في فضل الصبر و في بعض رواياتنا المعتبرة تفسير الصبر بالصوم و ذلك باعتبار كونه احد المصاديق و له الأثر الكبير في ترويض النفس و تمرينها على الصبر و تصفيتها و توجيهها الى اللّه وَ الصَّلاةِ فإن أقوالها و أحوالها تعلّم بكل وجهة من تهذيب الأخلاق. و ان الإتيان بها بحقيقتها و التدبر لمضامين آياتها و أذكارها يهدي الى كل خير و هي باب اللّه في مناجاته و الاستعانة به وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ على نوع الناس يرونها حملا كبيرا يثقل عليهم فيقوم إليها من يقوم على كسل و تثاقل إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الخشوع فوق الخضوع لا يقبل التصنع فيه نوع من الانكسار يظهر على الإنسان و على القلب و على البصر و على الصوت كما جاء في القرآن الكريم أي إلا على الذين شعارهم الخشوع من خوف اللّه كأنهم أشرفوا على الموت و المعاد و الحساب فخشعوا لذلك و استعدوا للزاد و طلب المغفرة و مناجاة الحق رغبة و رهبة و دعاء و ثناء لم يغلبهم طول الأمل ليروا الموت بعيدا فيطمئنوا بالحياة و يسوفوا الأعمال الصالحة و الاستعداد للآخرة بل غلبوا الأمل و قرّبوا الموت الى ظنهم كما قال امير المؤمنين لهمام في صفة المتقي يراه قريبا أجله أي يرى آثار ذلك عليه. و حالهم كما قال الحسن (علیه السلام) في وصيته لجنادة و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا 46 الَّذِينَ نظروا الى الدنيا

ص: 90

و فنائها بعين البصيرة و اشتاقوا الى نعيم الآخرة فهم يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ و مستوفو آجالهم في ساعتهم و ما يقرب منها وَ أَنَّهُمْ عن قريب إِلَيْهِ راجِعُونَ رجوع جزاء و استسلام

سورة البقرة (2): الآيات 47 الى 49

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

47 يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ و قد مرّ شي ء من بيان ذلك في الآية الثامنة و الثلاثين و كرر هنا تأكيدا في استلفاتهم الى النعم و اقامة للحجة بها عليهم وَ اذكروا أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ بها عَلَى الْعالَمِينَ في زمان اسلافكم 48 وَ اتَّقُوا يوم القيامة يوم الحساب و النكال يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أي لا تقضي و لا تؤدي مما عليها شيئا من جزى الدين إذا قضاه وَ لا يُقْبَلُ مِنْها من النفس الأولى شَفاعَةٌ من حيث انها نفس لها نحو صلة بالمشفوع له. و قد تقدم في تفسير سورة الفاتحة ما يدل من القرآن الكريم على تحقق الشفاعة بإذن اللّه و رضاه و اجمع المسلمون على ان لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) شفاعة مقبولة و ان جازفت المعتزلة بدعوى اختصاصها بمنافع المؤمنين. و أجمعت الإمامية على ثبوت الشفاعة للنبي الكريم و أهل بيته الطاهرين و أصحابه المنتجبين و صالحي المؤمنين و بذلك جاءت أحاديث الفريقين وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها من النفس الثانية عَدْلٌ عدل الشي ء بالفتح ما يقوم مقامه من غير جنسه بمعنى و لا يقبل منها فداء معادل. و احتمل عود الضمير هنا الى النفس الأولى ايضا بمعنى لا تقبل شفاعتها و لا يؤخذ منها فداء للنفس الثانية و الأول اظهر و أنسب بالاستقصاء و أبعد عما يعود الى التكرار لمعنى لا تجزي وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ أي اهل ذلك اليوم المدلول عليه بتعدد النفوس ليس لهم ناصر على اللّه و حسابه و عذابه و ناهيك بالتهديد بذلك اليوم ما ذكر فيه فليتقه ذوو الشعور 49 وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حال كونهم يَسُومُونَكُمْ قريب من معنى يولونكم سُوءَ الْعَذابِ قال عمر بن كلثوم في معلقته

إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا ان يقر الخسف فينا

ص: 91

يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ أي يكثر و يعم ذبحهم لهم وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي البنات اللاتي يولدن لكم و لا يذبحونهن كالأبناء. فكأنهم يتركهنّ طلبوا حياتهنّ و سميت نساء باعتبار بقائهن نوعا إلى زمان الكبر وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ نسب البلاء إلى اللّه باعتبار قدره و قدرته على رفعه و إملائه لآل فرعون

سورة البقرة (2): الآيات 50 الى 51

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)

50 وَ اذكروا إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فصلنا البحر بعضه من بعض. و من قوله تعالى في سورة الشعراء «فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» يعرف ان إفراقه كانت متعدة و طرق بني إسرائيل فيما بينها متعددة. فرقنا بكم أي أنتم الفاصل و الفارق ما بين اجزائه في عبوركم فيه على اليابسة و هذا أوضح في المعجز و أوضح في خرق العادة فَأَنْجَيْناكُمْ من مضايقة فرعون و جنوده و من البحر وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ حين اتبعوكم في البحر وَ أَنْتُمْ خارج البحر تَنْظُرُونَ إلى غرقهم. و البحر هو خليج السويس من البحر الأحمر و عرضه بحسب اختلاف مواقعه من نحو عشرة أميال إلى نحو عشرين ميلا و اقتصر هنا في ذكر الغرق على آل فرعون باعتبار الامتنان بالنجاة من جيشهم بغرقه. و في ذكر فرعون و عتوه و الانتقام منه قال اللّه في سورة الاسراء 105 فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً 51 وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً باعتبار مجموع الوعدين الوعد الأول و هو ثلاثون ليلة و الثاني و هو إتمامها بعشر كما في سورة الأعراف 138 ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلها كما في سورة طه المكية 90 فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى و لم نجد صراحة يعوّل عليها في ان الذين عبدوا العجل هم كل بني إسرائيل الموجودين حينئذ ما عدا هارون أو بعضهم. لأن سوق الخطاب هنا و في سورة النساء إنما هو باعتبار البعض من بني إسرائيل فيجوز ان يكون باعتبار البعض من جيش موسى نعم في سورتي الأعراف و طه نسب اتخاذ العجل و إضلال السامري إلى قوم موسى و لكن يجوز ان يكون ذلك باعتبار البعض الكثير. نعم ربما يستظهر انهم البعض من قول هارون كما في سورة طه نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ

و لكن تزاحم الاحتمالات في مراده من التفريق يزاحم ذلك الاستظهار. و غرض القرآن الكريم من قصصه

ص: 92

إنما هو التذكير و الموعظة و لا يهمه تاريخيتها لكي ينص على الكل أو البعض مِنْ بَعْدِهِ من بعد ان غاب عنكم موسى في ميعاد ربه وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ لأنفسكم و لعقولكم و للحقايق

سورة البقرة (2): الآيات 52 الى 55

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)

52 ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما وقعت عبادة العجل. و السياق في خطاب بني إسرائيل بأحوال بعضهم لا يترك في الآية ظهورا في العفو عمن عبد العجل و يجوز ان يكون حينئذ من لم يعبد العجل و لكنهم تخاذلوا و لم ينصروا هارون بالنهي عن هذا المنكر العظيم فعفا عنهم بتوبتهم كما في الآية الآتية لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ جيئ بلعل عوضا عن لام الغاية للوجه الذي سنذكره ان شاء اللّه في الآية الحادية و الثمانين بعد المائة 53 وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ ترتيب القصة يقضي انها الألواح التي جاء فيها في سورة الأعراف 142 «وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ 153: أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ» فتكون بهداها فارقة بين الحق و الباطل فسميت فرقانا و يجوز ان يراد بالكتاب و الفرقان التوراة لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لغاية ان تهتدوا و جي ء بلعل لما أشرنا اليه 54 وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلها فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ اللّه الذي خلقكم و برأكم بعد عدمكم. و ما ذكرناه من سياق الآيات في خطاب القبيلة بفعل بعضها لا يترك في الآية ظهورا بأنهم كلهم عبدوا العجل. و إن أردتم التوبة الصادقة التي تمحو ما وقع فيكم من الشرك باللّه بعبادة العجل فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الجملة بدل من «فتوبوا» لبيان أن الذي تتحقق به توبتكم هو ان تقدموا على قتل بعضكم بعضا فكان ذلك نفس التوبة هنا و الظاهر انه ليس المراد ان ينتحروا و يقتل كل انسان نفسه بل قتل النفوس المضافة إليهم بالقرابة و الرحم الماسة فقد كانوا عبارة عن آباء و أبناء و اخوان و أعمام و بني أعمام و كلهم مرتبطون بولاء القبيلة و القومية و الجامعة الاسرائيلية ذلِكُمْ اي توبتكم بقتلكم نفوسكم و أقدامكم على ذلك طاعة للّه و تكفيرا لما وقع من الشرك و ردعا عن مثله خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ و في التعبير بقوله تعالى «بارئكم» في

ص: 93

الآية اشارة إلى أن اللّه هو بارئكم و المنعم بخلقكم فما أهون نفوس المشركين و قتلهم في جنب الحماية لتوحيده و قمع ضلال الإشراك به و في جنب رضاه و توبته عليكم. ففعلوا شيئا من ذلك كما يدل عليه السياق مع قوله تعالى فَتابَ عَلَيْكُمْ و هو خطاب لبني إسرائيل الموجودين في عصر الرسول بالنهج المتقدم من خطاب بعض القبيلة باعمال بعضها و باعتبار ان التوبة على قوم موسى في تلك الواقعة يعود نفعها على المخاطبين و على كل بني إسرائيل في جميع أجيالهم ببقاء جامعتهم القومية و صورة الدين و التوحيد إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 55 وَ إِذْ قُلْتُمْ خوطبوا بذلك باعتبار قول الأسلاف من قبيلتهم يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ الصوت الشديد و أخذها هو استيلاؤها عليهم و المراد اماتتها لهم وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ توهما منكم انكم ترون اللّه تعالى شأنه.

روى ابن بابويه في العيون عن الرضا عليه السلام ما ملخصه: ان بني إسرائيل قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن اللّه أرسلك و كلمك حتى نسمع كلام اللّه فاختار منهم سبعين رجلا فلما سمعوا كلام اللّه من الجهات الست قالوا لن نؤمن بأنه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا

سورة البقرة (2): الآيات 56 الى 57

ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

56 ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ كل الخطاب باعتبار أحوال السلف لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اي لغاية ان تشكروا اللّه على الاحياء بعد الموت 57 وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ الظاهر من الامتنان بالتظليل انه غير السحاب الذي للمطر وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ و يسمى بذلك أيضا في التوراة العبرانية الدارجة او يسمى مان بفتحة مشالة إلى الألف. و قال بعض المفسرين انه الترنجبين و ليس له مستند يعوّل عليه وَ السَّلْوى و تسمى في التوراة العبرانية ايضا سلو. او سلاو. و في السبعينية تقرأ سليو و في كتب اللغة انه طائر او نحو الحمامة كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ حكاية لخطاب القدماء في عصر موسى وَ ما ظَلَمُونا بما صدر منهم من المعاصي و كفران النعم و عبادة العجل و قولهم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فإن اللّه غني عن طاعتهم و لا تضره معصيتهم. بل هم الذين تنفعهم الطاعة و تضرهم

ص: 94

المعصية وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بمعاصيهم

سورة البقرة (2): الآيات 58 الى 59

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

58 وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ لا اعرف قرية في زمان موسى (علیه السلام) أمروا بدخولها و دخول بابها سجدا على ما هو مذكور في الآية في نسق هذه القصص و من البعيد جدا أن يراد بها الخيمة التي نصبها موسى في البر و قدسها للعبادة (1) إذ لا يناسبها اسم القرية و لا قوله تعالى فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً نعم يناسبها ان تكون قرية بيت المقدس الذي بناه سليمان و كان بنو إسرائيل يأتونها في مواسمهم للعبادة و يتمتعون فيها بالرغد و الأمن. و يمكن أن يكون هذا القول من اللّه قد جاء في الوحي إلى موسى (علیه السلام) فإن التوراة الرائجة تذكر ان موسى (علیه السلام) كان يذكر لهم من وحي اللّه احكام مجيئهم إلى المكان الذي يختاره اللّه بعد الخيمة كما في سفر التثنية متفرقا من الفصل الثاني عشر إلى الحادي و الثلاثين.

و لا بعد في ان يوجد في هذه التوراة المحرفة شي ء من انقاض التوراة الحقيقية و اللّه العالم بحقائق الأمور وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً جمع ساجد و لعل المراد باب بيت المقدس و المعنى ان دخولكم يكون للسجود و العبادة و الاستغفار كما هو شأن المساجد وَ قُولُوا حِطَّةٌ بالرفع خبر لمحذوف اي سجودنا و عبادتنا حطة لذنوبنا و الجملة خبرية يراد بها الدعاء أي اجعل سجودنا و عبادتنا سببا لحط ذنوبنا عنا يقال حط الحمل من الدابة أي ازاله و أنزله عنها نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بأعمالهم على المغفرة بالثواب 59 فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ و قالوا ما لا يرجع إلى الاستغفار و طلب الحط لأثقال ذنوبهم عنهم. و لعل من مصداق ذلك انهم حذفوا الأمر بالعبادة و الاستغفار و دوام السجود في بيت المقدس و بدلوه بأن اللّه أمرهم في التوراة بأنهم إذا لم يقدروا ان يحملوا زكواتهم ان يبيعوها بفضة و ينفقوها في بلد بيت المقدس

ص: 95


1- ذكرت في دعاء السمات بعنوان قبة الزمان بالزاي المعجمة و إن كان الناس يقرءونها قبة الرمان بالراء المهملة و هذا ترجمة حرفية لاسمها في التوراة العبرانية الرائجة «اهل موعد» اهل. قبة. و موعد. الزمان. و المترجمون للتوراة يترجمونها تحريفا بخيمة الاجتماع إلا طبعة قديمة بيروتية ترجمتها في بعض الموارد قبة الزمان

بما تشتهي نفوسهم في البقر و الغنم و الخمر و المسكر (1) كما في الفصل الرابع عشر من سفر التثنية و هل يقبل ذو شعور ان اللّه يأمر بإنفاق الزكاة بشرب الخمر و المسكر في بيت عبادته فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا كرر ذكر الظالمين اما لتخصيص الرجز بالظالمين أو تسجيلا لقبيح ظلمهم و بيانا لأن ظلمهم هو السبب في إنزال الرجز عليهم رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ بِما أي بسبب ما كانُوا يَفْسُقُونَ و لم يستغفروا و يطلبوا حط ذنوبهم عنهم بل بدلوا ما قيل لهم

سورة البقرة (2): الآيات 60 الى 61

وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)

60 وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى طلب من اللّه السقيا لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فضرب به و حذف ذلك لأن دلالة المقام عليه واضحة فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً يشربون من مائها قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ و إن عدد العيون و امتياز الأناس بعضهم من بعض بالمشرب ليستفاد منه ان كل عين كانت مشربا لسبط من أسباط بني إسرائيل الإثني عشر كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الذي رزقكم إياه على سبيل المعجز و خارق العادة بدون شائبة من سعي أو تسبيب منكم و ذلك هو المن و السلوى و هذا الماء المنفجر من الحجر فاشكروا اللّه و اطلبوا رحمته و أطيعوه و توكلوا عليه وَ لا تَعْثَوْا معناه قريب من لا تطغوا و نحوه فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال من الضمير في لا تعثوا 61 وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ لا نجد له بديلا في بعض الأيام و هو المن و السلوى فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها و هو النبات الذي تخضر به الأرض و منه النعنع و الكراث و الكرفس و نحوها مما يأكله الإنسان وَ قِثَّائِها و هو الخيار الطويل الأخضر وَ فُومِها

روى في مجمع البيان مرسلا عن الباقر «ع» ان الفوم الحنطة و رواه ابن جرير في تفسيره و السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس

مستشهدا بقول

ص: 96


1- ذكروا ذلك بنحو لا يقبل التأويل ففي الأصل العبراني «و بيايين» و هو اسم الخمر الصريح «و بسكار» و هو اسم صريح في المسكر

أبي محجن الثقفي أو احيحة بن الجلاح «ورد المدينة عن زراعة فوم» و روي في الدر المنثور عن ابن عباس ايضا انه الثوم و انه استشهد له بشعر امية بن الصلت و لا شهادة فيه و كلام اللغويين غير كاف في البيان وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ منه اهْبِطُوا مِصْراً بالتنوين يحتمل ان يراد بها مصر المعروفة و نوّنت لجواز صرفها بسبب سكون وسطها كهند و دعد و ان ذكرت في غير هذا الموضع اربع مرات غير منصرفة. أو اهبطوا مصرا من الأمصار كما هو انسب بالتنوين و الأمر بالهبوط على كلا الوجهين إنما هو للتعجيز لأن مصر هي بلاد عبوديتهم و ذلتهم و مجمع عدوهم المنكوب مضافا إلى انهم كتب عليهم التيه فكيف يستطيعون الهبوط إلى مصر فَإِنَّ لَكُمْ هناك إن قدرتم و انى ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ الظاهر ان الضمير لا يختص بالذين طلبوا البصل و ما ذكر. فإنهم لم يعهد منهم قل النبيين. بل يعود الضمير على نوع بني إسرائيل إذ ضربت عليهم الذلة وَ الْمَسْكَنَةُ كما يعرف ذلك جليا بعد انحلال مملكتهم في السامرة و تمم ذلك بسبي بابل وَ باؤُ يقارب معنى رجعوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ. ذلِكَ أي ضرب الذلة و المسكنة و لزوم غضب اللّه عليهم بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ و الصفة اللازمة لقتل النبيين كونه بِغَيْرِ الْحَقِّ كقوله تعالى لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ في قوله جل شأنه في سورة المؤمنون وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ذلِكَ يحتمل أن يكون تأكيدا للاشارة الأولى و يحتمل قريبا انه اشارة الى قتلهم النبيين بِما عَصَوْا أي بعصيانهم الذي اعتادوه وَ كانُوا يَعْتَدُونَ بحيث صار لهم الاعتداء عادة

سورة البقرة (2): آية 62

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

62 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي أظهروا الإيمان من المسلمين وَ الَّذِينَ هادُوا أي انتحلوا اليهودية. يقال في التاريخ ان بني إسرائيل من بعد سليمان ارتد اكثر اسباطهم الى الشرك و عبادة الأوثان و عجلي الذهب الذين عملهما ملكهم ثم بادوا من بعد ذلك بالقتل و الأسر و لم يبق لهم اسم و لا رسم قومي في الاسرائيلية. و الذين بقوا على صورة التوحيد و الشريعة على

ص: 97

تقلب في الوثنية و الإيمان بحسب الأزمنة و الملوك و بقي اسمهم و عنوان الموسوية و احترام بيت المقدس في اكثر الأزمنة فيهم الى اليوم إنما هم سبط يهودا و من تبعهم كسبط بنيامين. فصار العنوان لمن ينتمي الى الملة الموسوية هم الذين هادوا. و ذكر لهذه الصفة وجوه أخر و اللّه العالم وَ النَّصارى و هم المنتمون الى اتباع الرسول عيسى. قيل مفرده نصران و نصرانة و استشهدوا له بقول الشاعر (و هو نصران شامس) و قول الآخر (كما سجدت نصرانة لم تحنف) و قيل في وجه التسمية انه من النصرة لقول المسيح مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ كما في سورتي آل عمران و الصف. و قيل نسبة الى الناضرة قرية من بلاد الجليل في فلسطين نشأ فيها المسيح و كان يسمى الناصري فلحق المنتمين الى اتباعه هذا اللقب و اللّه العالم وَ الصَّابِئِينَ قيل فيهم اقوال كثيرة و الظاهر ان منهم الصابئة الموجودين فيما بين البصرة و بغداد و لعلهم شعبة من اليهود امتازوا بديانة سرّية و ربما عرف من بعضهم انهم ينتمون الى اتباع يحيى بن زكريا.

و لهم في ديانتهم ولع شديد بالماء و عناية بأمره مَنْ آمَنَ من هؤلاء بِاللَّهِ بحقيقة الإيمان به في الإخلاص بتوحيده في الإلهية و ما له جل شأنه من صفات الجلال و الجمال وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ على حقيقة الإيمان بالمعاد الجسماني و الجنة و النار و الحساب و الجزاء و ما ذكر في القرآن الكريم في شأن اليوم الآخر. و من كان كذلك لم يتمرّد على آيات اللّه و دلائله و لم تأخذه نخوة القومية بل يتفانى في طلب الحق و لا تأخذه فيه لومة لائم او نزعة أهواء وَ عَمِلَ صالِحاً على حقيقة الشريعة المقدسة و لا يخفى ان الإيمان برسول اللّه محمّد (صلی الله علیه و آله) و بما جاء به لازم لحقيقة الإيمان المذكور و العمل الصالح. ألا ترى اقلا ان حقيقة الإيمان بالمعاد و اليوم الآخر على ما جاء في القرآن الكريم لا توجد عند فرقة من الفرق فضلا عن الإيمان باللّه و ما له من الجلال و القدس و الوحدانية حق الإيمان فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ و جزاؤهم معدّ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و خبر «ان» اما جملة من آمن مع جزائها و اما جملة فلا خوف. و يكون من آمن بدلا من اسم ان و المعطوف عليه و دخلت الفاء على الخبر لأجل تضمن «من» معنى الشرط و لعل الأول اظهر. و قد روعي في «من» لفظها في آمن. و عمل. و معناها في «لهم»

ص: 98

و ما بعدها

سورة البقرة (2): الآيات 63 الى 66

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

63 وَ إِذْ و اذكروا يا بني إسرائيل إذ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ و هو العهد الموثق الذي أشير اليه في الآية الثامنة و الثلاثين وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ جبل سينا او قطعة منه و قد قيل في رفعه و تسميته ما لا يصلح حجة و اللّه العالم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ و هو التوراة بِقُوَّةٍ

و في موثقة البرقي سئل ابو عبد اللّه الصادق (علیه السلام) أ قوة الأبدان او قوة القلب قال فيهما جميعا و عن العياشي عن الصادق (علیه السلام) نحو ذلك

أي لا تهنوا في أبدانكم و قلوبكم عن أخذ ما في التوراة وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ أي في التوراة و لا تنسوه و من ذلك وصف النبي الذي يقيمه اللّه لهم من إخوتهم ولد إسماعيل لا منهم و يجعل كلامه و هو القرآن الكريم في فمه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لأجل أن تتقوا اللّه وجي ء بلعلّ في مقام الغاية لأن حصول التقوى منهم غير لازم بل هو راجع الى حسن اختيارهم 64 ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ التولي بمعنى الاستدبار و استعمل هنا كناية عن الاعراض عما أخذ عليهم من الميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الأخذ للميثاق فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بقبول التوبة لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين ذهب رأس ما لهم كني بالخسران عن هلكتهم بالضلال 65 وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ شأن الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ بعد ان نهاهم اللّه عن الصيد فيه و هم أهل القرية التي كانت حاضرة البحر كما ذكرت قصتها قبل هذا في سورة الأعراف المكية من الآية الثالثة و الستين بعد المائة الى السابعة و الستين فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ على نحو قوله تعالى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 66 فَجَعَلْناها أي حادثة المسخ و لعلّ الأقرب انها القرية المدلول عليها في سورة الأعراف نَكالًا النكال اسم للعقوبة الظاهرة أو الباقية الأثر او لنفس الأثر و المصدر هو التنكيل لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها أي ظاهر لما بين يديها من القرى و الأمكنة باعتبار أهلها كما يقال أثر للناظرين وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي و تزيد بالنسبة للمتقين ان تكون لهم موعظة تزيدهم بصيرة في الإيمان و المعرفة و تسددهم للثبات على التقوى و هناك احتمالات أخر و اللّه العالم

ص: 99

سورة البقرة (2): الآيات 67 الى 71

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

67 وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً و ملخص القصة مما

رواه القمي بسند معتبر عن الصادق عليه السلام و ابن بابويه في العيون في الصحيح عن الرضا عليه السلام ان رجلا من بني إسرائيل قتل ابن عمه غيلة و اتهم بقتله بني إسرائيل فصاروا يتدارءون و يدفعون عن أنفسهم هذه التهمة فرجعوا في أمرهم الى موسى فشاء اللّه ان يظهر حقيقة الأمر بنحو المعجز فقال لهم موسى ان اللّه يأمركم ان تذبحوا بقرة فاستغربوا الحال

و قالُوا بجهلهم أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ

و في الصحيح عن الرضا عليه السلام لو انهم عمدوا الى اي بقرة لأجزأتهم و لكن شدّدوا فشدد اللّه عليهم.

و روي ذلك في الدّر المنثور من طرق متعددة عن النبي (صلی الله علیه و آله) و ابن عباس.

و في رواية القمي ان اللّه أشار بأوصاف البقرة الى بقرة رجل بارّ بابيه جزاء لبره ليشتروها بالثمن الغالي

و لا تنافي بين الروايتين لجواز ان يكون ذلك نتيجة علم اللّه بتشديدهم على أنفسهم قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ لا مسنة وَ لا بِكْرٌ فتية في أوائل سنها بل هي عَوانٌ و متوسطة في منتصف عمرها بَيْنَ ذلِكَ اي ما ذكر من الوصفين فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ 68 قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها اي شديد الصفرة و خالصها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ 69 قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا بهذه الصفات وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ 70 قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ الذلول السهلة المنقادة بالتذليل و التعليم للأعمال التي تراد من نوعها و هذه لا تنقاد لكل اعمال البقر و بين ذلك بأنها تُثِيرُ الْأَرْضَ

ص: 100

و تنقاد لكرابها وَ لكنّها لا تَسْقِي الْحَرْثَ اي الأرض المزروعة او الزرع و لا تطاوع لأن يدلى عليها من الآبار و الأنهار مُسَلَّمَةٌ من العيوب لا شِيَةَ فِيها ليس فيها لون يخالف معظم لونها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ اي بحق الوصف المبين و المعين فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ إما لغلاء ثمنها كما يروى و اما لغير ذلك من الأسباب

سورة البقرة (2): الآيات 72 الى 74

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

71 وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها اي قتلها بعض منكم فسرت فيكم التهمة و الخصومة فصار كل منكم يريد ان يدفعها و يدرأها عنه وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ بقدرته من سرّ الخفاء الى العلم و الظهور ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ اي يكتمه القاتل منكم من القتل و سببه. و قد كان الأمر بذبح البقرة و تعنتهم في السؤال عنها و تثاقلهم عن ذبحها من متعلقات القتل و اتهام بعضهم بعضا و تدارئهم لها فيما بينهم و لكن أفرد اللّه تلك الأمور بالذكر تذكيرا لبني إسرائيل بتباطي أسلافهم عن امتثال امر اللّه. و نسبة موسى الى الاستهزاء لما بلغهم امر اللّه بما يزيح علتهم. و شقاقهم بكثرة السؤال حتى انهم ما كادوا يفعلون. و امتنانا عليهم بالمجاراة لهم في شقاقهم و تباطئهم عن أوامره لكي يرفع تخاصمهم و ينجي البري ء و يظهر البراءة بعلم اليقين.

ثم شرع في تذكيرهم بمننه عليهم و اظهار الحق و فصل الخصومة بالنحو المعجز الذي يوضح لهم قدرة اللّه و ربط أطراف القصة بقوله جلت آلاؤه 72 فَقُلْنا اضْرِبُوهُ

اي المقتول المذكور في الآية السابقة بِبَعْضِها

اي تلك البقرة التي أمروا بذبحها فذبحوها. فضربوه ببعضها و رجع حيا و اخبر بقاتله و ظهر امر القتل بالمعجز حق اليقين و ارتفعت الخصومة و قد دل على هذا كله سياق الكلام و التذكير بما فيه من المنة عليهم مع قوله جلت قدرته كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

بالتدبر و الاعتبار بآيات اللّه و قدرته و احيائه الميت و رحمته لكم لكي تعرفوا رشدكم و تهتدوا الى سواء السبيل و ان تعقلهم احد الغايات و ان كان أشرفها و أكثرها لهم نفعا. و جي ء بلعل لأن تعقلهم غير لازم بل هو راجع الى حسن اختيارهم في التفكر و حسن الاعتبار و التبصر و عدم التناسي و الانقياد الى وساوس الأهواء و ضلالها 73 ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ

ص: 101

فزاغت عن الاعتبار بآيات اللّه و التعقل لدلائل الرشد مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اي من بعد كل ما ذكر من الآيات و أفرد كاف الخطاب في «ذلك» باعتبار الجمع أو القوم لا الجماعة فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في قسوتها و ناهيك بها قسوة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً اي و ان شئت ان تصفها باعتبار الآثار فهي أشد قسوة من الحجارة وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ و من ذلك العيون الجارية من الجبال الصخرية وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ و من ذلك ما يحدث عند الزلازل من الانشقاق و الانفجار وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ و قد حدث هذا كله لبني إسرائيل و شاهدوه رأي العين في الحجر الذي انفجرت منه العيون و الجبل الذي تجلى له اللّه فجعله دكا. و اما أنتم يا بني إسرائيل فلا تتأثر قلوبكم بالآيات و دلائل الحق بل تعملون بما يغريكم به الهوى المردي و الشيطان المضل و يحملكم عليه العناد للحق و التمادي على الطغيان وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل يمهلكم و يملي لكم ثم اليه ترجعون

سورة البقرة (2): الآيات 75 الى 76

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76)

74 أَ فَتَطْمَعُونَ خطاب لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و المؤمنين أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ باللّه و رسوله و قرآنه و يجيبوا دعوتكم لهم الى حقيقة الايمان و هم اهل العناد و الإصرار على الضلال على عمد وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ عند خطابه لموسى.

او من موسى و الأنبياء مع اعترافهم بنبوتهم زيادة على دلالة المعجزات على ذلك ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ يغيرونه و يبدلونه لا عن جهل بل عن عمد و ضلال مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ و فهموه حق الفهم وَ هُمْ يَعْلَمُونَ انهم محرفون كاذبون على اللّه. هذا حال سلفهم في الغي. و اما هؤلاء الذين تطمعون ان يؤمنوا لكم بالحق فهم كما في هذه الآية 75 وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ من علم التوراة و تخبرونهم بما فيها من صفة محمد (صلی الله علیه و آله) و رسالته و الأمر باتباعه لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ فتكون الغاية من ذلك ان تقوم به

ص: 102

الحجة عليكم فيحاجوكم به عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ما يترتب على ذلك من الغايات.

و في تبيان الشيخ الطوسي (قده) و روي عن أبي جعفر عليه السلام انه قال كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلی الله علیه و آله) فنهاهم كبراؤهم عن ذلك و قالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد فيحاجوكم به عند ربكم انتهى

فتعسا لأوهامهم

سورة البقرة (2): الآيات 77 الى 81

أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77) وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)

76 أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ ربهم الذي يكتمون الحق حذرا من محاجة المؤمنين لهم عنده هو اللّه الذي يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ 77 وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ الامي كما في مجمع البيان من لا يحسن الكتابة و لا القراءة لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ استثناء منقطع بمعنى ليس لهم الا الأكاذيب و الاختلافات التي يسمعونها من المدلسين. او ليس الا اماني العلم وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ظنا بما يسمعونه فَوَيْلٌ مبتدأ لأنه نكرة مفيدة و للذين خبره و الويل الحزن و الهلاك و المشقة من العذاب لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا و الزعامة الكاذبة او ترويج الباطل

قال في مجمع البيان انهم عمدوا الى التوراة و حرّفوا صفة النبي (صلی الله علیه و آله) ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود و هذا هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام)

فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ إذ يحرفون ذلك او لا يعلمون بما يوجبه وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من الآثام و الكفر و اعمال الضلال او التحريف لأجل الإضلال و كتمان الحق 78 وَ قالُوا اي اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً اي قليلة قُلْ لهم يا رسول اللّه أَتَّخَذْتُمْ على سبيل الاستفهام الانكاري عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً منه على ذلك فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ افتراء او تحكما عَلَى اللَّهِ في هذا الزعم الباطل ما لا تَعْلَمُونَ 79 بَلى رد لقولهم

ص: 103

و بيان لحقيقة الأمر و هو ان مَنْ كَسَبَ بسوء اختياره سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ اي لزمته و استولت عليه استيلاء الشي ء المحيط به و لم يكفرها عنه الايمان و التوبة بعد الكفر فَأُولئِكَ أشير بالجمع باعتبار الجمع في معنى من كسب أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الى الأبد

سورة البقرة (2): الآيات 82 الى 84

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

(80) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ دون غيرهم فِيها خالِدُونَ 81 وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ اي و اذكروا إذ قلنا لهم أقوالا و اوصيناهم بها و أخذنا منهم العهد الموثق بالعمل بها لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وحده لا شريك له في العبادة و الإلهية و الجملة خبرية يراد بها النهي و الخبرية في مقام الطلب ابلغ من الانشائية و هي و الجمل المعطوفة عليها معمولة للقول المدلول عليه بأخذ الميثاق وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إحسانا مصدر نائب عن الفعل و هذا السبك أبلغ و آكد من ان يقال و أحسنوا وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ عطف على الوالدين في الأمر بالإحسان بهم وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً و هذه الوصايا غير مختصة ببني إسرائيل بل هي من أهم ما يقتضيه اللطف بكل امة أرسل إليها رسول.

روي في الكافي بسند معتبر عن الصادق (علیه السلام) في قوله تعالى وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً قال قولوا للناس حسنا و لا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو

و روى ابن بابويه بسند معتبر عن الباقر عليه السلام قولوا للناس احسن ما تحبون ان يقال فيكم الحديث

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ و ادبرتم في المخالفة لذلك الميثاق إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عن الميثاق متمردون على أوامر اللّه و نواهيه 82 وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ التفات الى خطاب اليهود اما باعتبار أخذ الميثاق على أسلافهم او باعتبار ان إيمانهم برسالة موسى و توراتهم التزام بالوصية الشاملة لهم و إعطاء للميثاق عليها كاسلافهم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ لا يسفك بعضكم دم بعض وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ لا يخرج بعضكم بعضا من بلادكم

ص: 104

و عبر بالأنفس تأكيدا في النهي فإنهم أمة واحدة و بنو أب واحد و الكلام في الجملة الخبرية في مقام الطلب و محلها من الاعراب كما تقدم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بأخذ الميثاق

سورة البقرة (2): الآيات 85 الى 87

ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)

83 ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ القوم الذين أخذ عليهم الميثاق و أقروا و شهدوا ذكر ذلك للتغليظ في التوبيخ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ يقتل بعضكم بعضا وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ بغير حق بل تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ و هم قومكم و منكم وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى مستعينين بكم على فدائهم تُفادُوهُمْ و تبذلون فداءهم عملا بكتابكم فلما ذا تخرجونهم من ديارهم ظلما وَ هُوَ و الشأن انه مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ في الكتاب إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ اي القتل و الإخراج. او التقلب الأهوائي في الايمان و الكفر إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ بيان لأن المراد من قوله و مَنْ يَفْعَلُ هو الجمع إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فانه لا تخفى عليه خافية و قد اعدّ لكل عمل جزاءه 84 أُولئِكَ اي المناقضون لميثاق اللّه هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ و ما أقبح خسرانهم بهذا الشراء اذن فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و من ذا الذي ينصرهم على اللّه 85 وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ اي التوراة وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ اي اتبعناه بعد موته بِالرُّسُلِ

في الكافي في باب الفرق بين الرسول و النبي أن الرسول هو من يعاين الملك و يأتيه جبرائيل فيراه و يكلمه بالوحي كما في صحيحتي زرارة و الأحول عن الباقر (علیه السلام) و روايتي إسماعيل عن الرضا (علیه السلام) و بريد عن الباقر (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام)

و الذين ذكرت أسماؤهم من الأنبياء بعد موسى هم داود و سليمان و الياس و اليسع و ذو الكفل و الظاهر انه حزقيال

ص: 105

و يونس و زكريا و يحيى و المسيح و رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و الذين نص القرآن على رسالتهم هم الياس و يونس و المسيح و رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ من المعجزات وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ جبرائيل. يا بني إسرائيل أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ على دعوته الى الحق و جهدتم في مضادته و معاندة الحق فَفَرِيقاً من الرسل

سورة البقرة (2): الآيات 88 الى 90

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ 86 وَ قالُوا اي بنو إسرائيل قُلُوبُنا غُلْفٌ اي في غلاف لا نفهم ما يقول الرسول في تبليغه و غرضهم العيب لما يقوله في التبليغ كما حكى اللّه عن المشركين في سورة حم السجدة وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ و ليسوا لا يفهمون ما يقول رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فإنه أتى في رسالته و تبليغه بما تقتضيه الفطرة و بداهة العقول و لا يخفى صلاحه على احد بَلْ تمردوا على اللّه و كفروا على عمد فحرمهم بركة التوفيق و لَعَنَهُمُ اللَّهُ و ابعدهم عن رحمته بِكُفْرِهِمْ و عنادهم فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ الفاء للتفريع على حرمانهم من التوفيق و طردهم عن رحمة اللّه بعتوهم في كفرهم و «قليلا» صفة للمصدر اي إيمانا قليلا و «ما» لتأكيد القلة بزيادة الإبهام في القليل. و الظاهر ان المراد بقلة ايمانهم قلة من يؤمن منهم 87 وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و هو القرآن الكريم بما فيه من دلائل الاعجاز و الحجج على انه من اللّه مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوحيد و إرسال الرسل و إنزال الكتب و الشريعة وَ كانُوا اي هؤلاء المردة المعاندون مِنْ قَبْلُ اي من قبل إنزال القرآن او مجي ء الرسول الى المدينة يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا

روى في الكافي في الموثق عن الصادق عليه السلام ما ملخصه ان اليهود كانت تجد في كتبها ان مهاجرة محمد (صلی الله علیه و آله) ما بين عير واحد فخرجوا يطلبون الموضع و نزله قوم منهم ثم صاروا يقولون للأوس و الخزرج اما لو قد بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا فلما بعث اللّه محمدا (صلی الله علیه و آله) آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قول اللّه وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ. و عن تفسير العياشي عن الصادق (علیه السلام) مثله. و في صحيحة اسحق بن عمار

ص: 106

عن الصادق (علیه السلام) ما يقرب من هذا.

و كذا الحديث الأول و السابع و الثامن الذي صححه الحاكم مما رواه في الدرّ المنثور. فيكون معنى يستفتحون يستنصرون بالتهديد او يطلبون في كلامهم ما يأملون من الفتح و النصر في المستقبل. و روى في الدرّ المنثور ايضا ان اليهود كانوا عند محاربتهم للعرب يستنصرون اللّه في الدعاء باسم النبي محمد (صلی الله علیه و آله) فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا من امر النبي (صلی الله علیه و آله) و رسالته و ان اللّه يجعل كلامه في فمه كَفَرُوا بِهِ مع معرفتهم به ككفر إبليس فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ 88 بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ في مجمع البيان اكثر الكلام اشتريت بمعنى ابتعت و ربما استعمل اشتريت بمعنى بعت انتهى و لكن فيه هنا كما في التبيان و الكشاف اشتروا بمعنى باعوا أقول و يجوز إبقاء الاشتراء على معناه المتعارف و تكون الآية توبيخا و تسفيها لليهود فإن حق النفس ان تشترى بالإيمان و الأخلاق الفاضلة و العمل الصالح في هذه الحياة الدنيا لتكون كاملة زكية فائزة بالسعادة الأبدية. اذن فما بال هؤلاء السفهاء قد حملهم الحسد الذميم على ان يحفظوا لأنفسهم خرافات القومية و الجامعة اليهودية و جعلوا الثمن لاشترائها لهذا الغرض الوخيم هو الكفر بآيات اللّه حسدا و بغيا فبئس ما فعلوا و بئس الذي اشتروا به أنفسهم او بئس شيئا اشتروا به أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اى كفرهم بما انزل اللّه و هو المخصوص بالذم مثل عمرو في قولهم بئس الرجل عمرو و تزداد شناعة كفرهم بما انزل اللّه مع معرفتهم بأنه كلام اللّه المنزل الذي و عدوا به بأن كفرهم هذا كان حسدا و بَغْياً على ان يبعث اللّه من غيرهم رسولا و أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ كلامه و آياته و وحي إرساله عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و يعلم أهليته للرسالة من ولد إسماعيل فَباؤُ نحو معنى رجعوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ غضب اللّه عليهم من أجل الكفر مع المعرفة و قيام الحجة و غضبه من أجل حسدهم و بغيهم و عنادهم للرسول لكونه من غيرهم وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يذلهم و يهينهم

سورة البقرة (2): آية 91

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

89 وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن بأنه كلام اللّه المنزل على رسوله الكريم

ص: 107

و انقادوا بإيمانكم الى اتباعه فقد عرفتم انه من اللّه و قامت به الحجج عليكم قالُوا من غيهم و بغيهم و ضلال عصبيتهم اليهودية نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا و مفهوم قولهم الكفر بغير ما في كتبهم وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي بما عداه مما أنزله اللّه على غيرهم كقوله تعالى وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ او ما بعده وَ الحال ان القرآن الذين يكفرون به إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من صفة الرسول و ان اللّه يجعل كلامه في فمه و انه من إخوتهم ولد إسماعيل لا منهم أي هو الحق الذي يكون به صدق تلك المواعيد ثم ردّ اللّه منطوق قولهم نؤمن بما أنزل إلينا مبينا كذبهم في هذه الدعوى و تمادي أسلافهم على معاندة الإيمان و القوم أبناء القوم و على وتيرتهم فقال جل اسمه لرسوله قُلْ لهم في ردهم فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بما أنزل إليكم فإن أنبياء اللّه لم يدعوكم إلا إلى الإيمان و العمل بما انزل إليكم

سورة البقرة (2): الآيات 92 الى 93

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

90 وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ و الآيات الباهرة التي لا مجال بعدها للشك و الانحراف عن الإيمان ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ و ارتددتم ذلك الارتداد القبيح و أشركتم وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ 91 وَ اذكروا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ على الإيمان و التوحيد و العمل بالتوراة وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا و هو معنى قوله تعالى في الآية الستين وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ أي انهم بسبب كفرهم و غيهم انهمكوا في حب العجل حتى كأن العجل دخل في اعماق قلوبهم كما يدخل المشروب الذي يقبل عليه الإنسان الى اعماق بدنه حتى صار العجل كالحبيب الحاضر في القلب بحبه. و الذي اشربهم إياه في قلوبهم هو الشيطان او غواية الأهواء. ثم عاد الكلام على توبيخهم وردهم في قولهم الكاذب (نؤمن بما أنزل إلينا) بما معناه ان الإيمان يأمر و يحمل على اتباع ما آمن الإنسان به و العمل به. و الذي انزل عليكم يأمركم بتوحيد اللّه و مجانبة

ص: 108

الأوثان و عبادته وحده و طاعة الأنبياء و احترامهم و الإيمان برسول اللّه و كتابه. أ فتقولون ان إيمانكم المزعوم الموهوم أمركم بما ذكر من أفعالكم القبيحة إذن قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ و اين منكم الإيمان و لكن قيل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للمجاراة في خطابهم و التنازل من النفي الى صورة التشكيك و هذا من بديع الأساليب في التقريع و التوبيخ. و من افحامهم بالحجة انهم يدعون انهم هم شعب اللّه و لهم الآخرة و النجاة و النعيم و انهم أبناء اللّه و أحباؤه كما في سورة المائدة

سورة البقرة (2): الآيات 94 الى 96

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

و يذكرون في توراتهم انهم ابن اللّه البكر فقال اللّه لرسوله 92 قُلْ لهم إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مختصة بكم مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ شوقا لما أعد في الآخرة من النعيم العظيم الدائم و السعادة الكبرى لأهلها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم عارفين بصدقكم 93 وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من موبقات الخطايا و الضلال و إن جحدوا ذلك فإنه لا يخفى على اللّه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 94 وَ زيادة على انهم لا يتمنون الموت لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ أي حياة ما و إن كانت قليلة وَ احرص على الحياة مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا الذين ينكرون المعاد و النعيم بعد الموت يَوَدُّ أَحَدُهُمْ من حرصهم على الحياة لَوْ يُعَمَّرُ الظاهر ان «لو» بعد «ودّ. و يودّ» مصدرية كما حكاه في المغني عن الفراء و أبي علي و أبي البقا و التبريزي و ابن مالك. يؤتى بها بدل «ان» فيما كان مدخولها بعيد الحصول او ممتنعا في نفسه او بحسب العادة. او يراد ابرازه بصورة البعيد او الممتنع. و ذلك كما في الآية و الآية 103 و سور آل عمران 28 و 62 و النساء 45 و 91 و 103 و الحجر 2 و الأحزاب 20 و القلم 9 و المعارج 11. و ما لا يكون كذلك تأتي فيه مكان «لو» أن المفتوحة المشددة المصدرية كما في سورتي الأنفال 7 و هود 82. أو «ان» الساكنة المصدرية كما في هذه السورة 99 و 268. أو «ما» المصدرية كما في سورة آل عمران 114 و ليس في «لو» هذه معنى التمني كما هو ظاهر و بدليل ان ما يقع بعد الفاء متفرعا على ما بعدها لم يجئ في القرآن إلا

ص: 109

مرفوعا كقوله تعالى في سورة النساء 91 وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً و 103 وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ و في سورة القلم 9 وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. و التي هي للتمني جاء ما بعد الفاء بعدها منصوبا كما في قوله تعالى 162 لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ و في سورة الزمر لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ بنصب أكون «فإن قيل» ان «لو» التي بعد يودّ و ودّ كيف تكون مصدرية مع انها تقع بعدها اداة مصدرية كما في قوله تعالى في سورة آل عمران 28 تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً. و في سورة الأحزاب 20 يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ «قلت» ان «لو» كيفما كانت لا تدخل على الجملة الاسمية بل لا بد فيها من تقدير فعل. فالتقدير إذن لو يمكن او لو يتيسر و نحوهما كما تقول تود أن يتيسر ان بينها و بينه أمدا و يودوا أن يمكن او يتيسر انهم بادون. و عبر بذلك التعبير لخصوصية «لو» و ظهور المقام و خصوص الجملة الاسمية في مزايا الكلام كما لا بد من هذا التقدير على قول القائل انها للتمني أَلْفَ سَنَةٍ و ماذا ينفعه ذلك التعمير. هل يحط عنه شيئا من ذنوبه او يدفع عنه العذاب ما لم يؤمن و يعمل صالحا. كلا وَ ما هُوَ أي أحدهم بِمُزَحْزِحِهِ مزحزحه خبر للضمير هو و الباء زائدة لتأكيد النفي مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ المصدر فاعل لمزحزحه أي و ما هو مزحزحه تعميره وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ من السيئات و ان طول أعمارهم في عمل السيئات هو الذي يركسهم في درك العذاب

سورة البقرة (2): الآيات 97 الى 98

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)

95 قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ أي القرآن عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدمه من كتب اللّه الحقيقية و معارف الحق وَ هُدىً حال ثان معطوف على مصدقا وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ اي ان الذي يهتدي و يصل به الى الحق و يكون القرآن له بشرى انما هم المؤمنون. و الآية تشعر بان لها شأن و سبب نزول و السياق يقتضي ارتباطه باليهود. و قد روي في ذلك شي ء ذكره في الدرّ المنثور و لكنه غير متصل الإسناد و لا سالم من الخلل. و روي في تفسير البرهان شي ء و في مستنده ما فيه و ذكر القمي شيئا و لم يذكر مأخذه و اللّه هو العالم بحقيقة الحال 96 مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ

ص: 110

وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ اي لا يكون كذلك الا كافر و اللّه عدو للكافرين و كفى بذلك خزيا لهم و وبالا

سورة البقرة (2): الآيات 99 الى 102

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)

97 وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ لا ريب فيها وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ الذين خرجوا من طاعة الحق و الرشاد و استحبوا الكفر 98 أَ وَ كُلَّما الاستفهام للتوبيخ و التقريع على عادتهم القبيحة من انهم كلما عاهَدُوا اللّه او رسله او أنبياء عَهْداً نَبَذَهُ و ألقاه كناية عن نقضه و مخالفته فَرِيقٌ مِنْهُمْ ليس الفريق القليل بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و لا يثبتون على عهدهم و منهم بنو قريضة و النضير و قينقاع و غيرهم ممن نقض عهده و ميثاقه لرسول اللّه و المسلمين أقبح نقض بأقبح غدر 99 وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و هو محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوحيد و إرسال الرسل و إنزال الكتب الإلهية و صفات الرسول الذي وعدوا به و تبين لهم انه هو المصداق المصدق و جاءهم بالكتاب كلام اللّه المذكور في توراتهم نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ و هم الأكثر الذين لا يؤمنون كِتابَ اللَّهِ القرآن الذي قامت به عليهم الحجة و علموا بأنه كتاب اللّه و رموه وَراءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن اعراضهم و كفرهم به كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ انه كتاب اللّه المبشر به في كتبهم و قامت به الحجج النيرة 100 وَ اتَّبَعُوا من الأباطيل و الكفر ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي على اهل مملكته وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ

روى ابن بابويه في العيون عن الرضا عليه السلام ان هاروت و ماروت علما الناس السحر ليحترزوا به عن سحر السحرة و يبطلوا كيدهم

و ذكر مضمون

ص: 111

قوله تعالى وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى ينذراه و يَقُولا إِنَّما نَحْنُ من جهة فِتْنَةٌ و ابتلاء و امتحان نعلم الناس لغاية صحيحة فَلا تَكْفُرْ و تستعمل ما نعلمه في غايات الضلال فَيَتَعَلَّمُونَ أي الناس مِنْهُما من هاروت و ماروت ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و المراد من الاذن عدم ابطال اللّه لأثر السحر أي ليس أثر السحر أمر لازم لا يقدر اللّه على رفعه و لكن لم يبطله بل خلى بينه و بين الناس في سوء اختيارهم كما خلى بينهم و بين سائر المعاصي و انواع الظلم لحكمة قدرها في العالم وَ يَتَعَلَّمُونَ من السحر ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ إذ لا يستعملونه في ابطال سحر السحرة و دفع كيدهم.

روى القمي في تفسيره ان الباقر (علیه السلام) سأله عطا بمكة عن هاروت و ماروت فذكر من أمرهما في المعصية

نحو ما يذكر الجمهور عن ابن عباس و ابن عمر و كعب الأحبار كما تراه مجموعا في الدر المنثور و فيما ذكرنا روايته عن الرضا (علیه السلام) نحو معارضة لما روي عن الباقر عليه السلام و روايه عن الباقر محمد بن قيس و هو مشترك بين الضعيف و غيره و يمكن أن يكون الباقر (علیه السلام) بحسب حال الوقت و عطا حكى له ما يروونه عن ابن عمر و ابن عباس و كعب من دون ما يشعر بتصديقه. و الشيخ في التبيان لم يشر الى هذه الرواية و يبعد أن يكون لم يطلع عليها. و القول بكونها منافية لعصمة الملائكة يمكن دفعه بأن يقال بأن المسلم من عصمتهم هو ما داموا مجردين عن الشهوة و الحرص لا ما إذا جعلا فيهم كما تقوله الرواية و اللّه العالم بحقيقة الحال وَ لَقَدْ عَلِمُوا اللام للقسم و الجملة التي بعدها جوابه لَمَنِ اشْتَراهُ اللام للابتداء و «من» مبتدأ و الضمير يعود الى السحر و ما تتلوه الشياطين. و عبر عن اتباعه و تعلمه بالشراء اشارة الى انهم بذلوا بإزائه و بدلا عنه دينهم و آخرتهم فمن اتبعه و اشتراه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي نصيب و ذلك هو الخسران المبين و جملة «ماله» خير «لمن» و الجملة من المبتدأ و الخبر معمولة «لعلموا» لأن الأصل في افعال القلوب أن تتعلق في العمل بالنسب الموجودة في الجمل وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا

ص: 112

أي باعوا. و يمكن أن يراد به معنى الاشتراء المتعارف على نحو ما ذكرناه في الآية الثامنة و الثمانين بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فانه أقبح الأثمان و أخسها

سورة البقرة (2): الآيات 103 الى 104

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

101 وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لهم مما يريدونه بعمل السحر و تعلمه فضلا عن كمال الإيمان و التقوى و خسة السحر و نقصه و اللام رابطة لجواب «لو» و مثوبة بمعنى ثواب مبتدأ و خير خبره و الجملة جواب لو. و نكرت «مثوبة» لبيان ان فردا و اقل مصداق مما عند اللّه من الثواب خير لهم مما اتبعوه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ و لو هنا بمعنى التمني جريا على ما يستعمله الناس في المحاورات في مثل المقام و اللّه يجل و يتقدس عن حقيقة التمني 102 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

اخرج احمد في مسنده عن ابن عباس و في الدر المنثور اخرج ابو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ما أنزلت آية فيها يا ايها الذين آمنوا إلا و عليّ رأسها و أميرها. و في الحلية ان الناس يروون هذا الحديث و في الينابيع أخرجه موفق بن احمد عن مجاهد و عكرمة عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و قال موفق رواه جماعة من الثقاة هم الأعمش و الليث و ابن أبي ليلى و غيرهم عن مجاهد و عكرمة و عطا عن ابن عباس عن رسول اللّه. و في الصواعق أخرجه الطيراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس و اللفظ إلا و علي عليه السلام أميرها و شريفها. و في كشف الغمة من نحو هذا كثير عن ابن مردويه بأسانيده عن ابن عباس و حذيفة.

و لا معنى للرواية إلا أن عليا (علیه السلام) رأس الذين آمنوا و أميرهم و شريفهم لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا جاء في الآية التاسعة و الأربعين من سورة النساء ان اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون راعنا ليا بألسنتهم و طعنا في الدين.

و في تبيان الشيخ قال ابو جعفر (علیه السلام) يعني الباقر هذه الكلمة «يعني راعنا» سبّ بالعبرانية اليه كانوا يذهبون

قال الحسين بن علي المغربي فبحثت عن ذلك أي عن السب الذي ذكره الباقر (علیه السلام) فوجدتهم يقولون راع على وزن قال بمعنى الفساد انتهى أقول و قد تتبعت العهد القديم العبراني فوجدت ان كلمة «راع» بفتحة مشالة الى الألف و تسمى عندهم «قامص» تكون بمعنى الشر او القبيح. و من ذلك ما في الفصل الثاني و الثالث من السفر الأول من توراتهم و بمعنى الشرير واحد الأشرار. و من ذلك ما في الفصل الأول

ص: 113

من السفر الخامس. و في الرابع و الستين و الثامن و السبعين من مزاميرهم. و في ترجمة الأناجيل بالعبرانية و «نا» ضمير المتكلم و في العبرانية تبدل الفها واوا او تمال الى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا و نحو ذلك. و راعنا في العربية فسرها في التبيان استمع منا و نسمع منك و في القاموس استمع لمقالي و في النهاية المراعاة الملاحظة و نهى المؤمنون عن قولهم لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) راعنا لئلا يتخذها اليهود في خطابهم لرسول اللّه وسيلة لسبه و الطعن في الدين وَ اسْمَعُوا ما يقول الرسول وَ لِلْكافِرِينَ الذين يسبون رسول اللّه او الذين لا يسمعون قوله

سورة البقرة (2): الآيات 105 الى 106

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)

عَذابٌ أَلِيمٌ 103 ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا من الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ من زائدة لوقوعها في حيز النفي و فائدتها بيان الاستغراق و تأكيده مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ و رسالته مَنْ يَشاءُ على مقتضى المصلحة و الأهلية فإنه اعلم حيث يجعل رسالته وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ لا يمنع فضله عمن هو اهل من أي قوم كان 104 ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قد سمى القرآن ما جاء في الكتب الإلهية السابقة بالآية و الآيات و مدح من يتلوها ففي سورة آل عمران بعد ذم اهل الكتاب 109 لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ و في سورة مريم بعد ذكر النبيين و الصالحين من السلف 59 إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ الآية و في سورة الزمر 71 أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ و النسخ و التبديل نظيران و الظاهر ان المراد تبديلها لا تبديل حكمها بالنسخ الاصطلاحي فإن في الثاني تجوز لا قرينة عليه بل قد يمنع منه السياق و الضماير أَوْ نُنْسِها بضم النون الأولى و سكون الثانية و كسر السين و حذف الياء حرف العلة للجزم بالعطف على ننسخ و هو من النسيان و أنسى بالألف اللينة حرف العلة ينسى بالياء في آخرها لا من النسي ء و انسأ ينسأ بالهمزة في الأواخر و لو كان من ذلك لكان جزمه بسكون الهمزة أو الياء إذا أبدلت ياء إذ لا يجوز حذفها لأنها ليست بحرف علة و ان مناسبة السياق في الآية التي قبلها لتشير الى ان المضمون هو انه و ان كبر على اهل

ص: 114

الكتاب نسخ كتب الأنبياء و آياتها بالقرآن و آياته في مقام التلاوة و الذكر و الصلاة و الشريعة و الهداية و غير ذلك فضلا عن ان تلك الكتب و آياتها قد حرفت و بدلت حتى صارت حقيقتها نسيا منسيا فإن القرآن منزل من اللّه بحسب المصلحة التي اقتضت انزاله و انه ما ننسخ من آية او ننسها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها في الأثر. أَوْ مِثْلِها و نسب الإنساء الى اللّه مجازا كما نسب الإضلال باعتبار تمرد المنتسبين الى كتابها حتى خرجوا عن أهلية اللطف و التوفيق فوكلهم اللّه الى أنفسهم الأمارة فحرفوها و بدلوها الى ان صارت نسيا منسيا. و لا مصداق لهذه الآية في آيات القرآن بعضها مع بعض. اما نسخ نفس الآية القرآنية بمعنى نسخ تلاوتها فلا تكاد أن تعرف له مصلحة تقتضيه فضلا عما يختلج من وجوه المفسدة مضافا إلى انه لا دليل على وقوعه و لئن روي في ذلك شي ء فقد مرّ في الأمر الثاني و الثالث من الفصل الثاني من المقدمة ما يبطله و يكذبه و قد حكي عن مقالات الشيخ المفيد ان عدم هذا النسخ مذهب الشيعة و جماعة من اهل الحديث و غيرهم. و اما ما حكي عن العلامة في نهاية الأصول. و الكركي في طهارة جامعه و الطبرسي. في اقسام النسخ من القول بوقوعه. فقد استندوا له بما يزعم من آية الرجم و قد أشرنا الى ما فيها مضافا الى ما ذكر. و الظاهر ان نسخه بهذا المعنى مناف لقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و اما انساؤها و نسيانها فهو مناف لآية الحفظ المذكورة و لقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى و لا تشبث بقوله تعالى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فإن حمل الكلام على الاستثناء بالمشيئة لا يبقي وجها للامتنان و الوعد بقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بل ان المقصود منه الاستدراك لبيان ان عدم النسيان إنما هو بقدرة اللّه و مشيئته لا لأمر طبيعي لازم بل لو اقتضت المصلحة و شاء اللّه ان يتركه و بشريته لنسي كما في قوله تعالى في سورة هود 110 وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ و قد أطلنا الكلام في المقام لأنه لم يعط حقه أَ لَمْ تَعْلَمْ خطاب و توبيخ للإنسان بدليل ما يأتي أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ينزل الخير و يرسل الرسل و يرحم و يلطف بهم و يأت بخير مما نسخ و لا يخص بلطفه قوما دون قوم و هم اهل له

سورة البقرة (2): آية 107

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107)

105 أَ لَمْ تَعْلَمْ ايها الإنسان أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و كل الناس عباده يفعل ما يشاء و ما يقتضيه لطفه و رحمته

ص: 115

بمن هو اهل و لا يفوته احد ممن تمرد عليه و عصاه

سورة البقرة (2): الآيات 108 الى 111

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111)

وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ 106 أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ الذي أرسل إليكم كافة كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من طلبهم رؤية اللّه و غير ذلك من اقتراحات العناد وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ يقال ضل الطريق و ضل عنه 107 وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً قد تقدم الكلام في «لو» بعد «ودّ» في الآية الرابعة و التسعين حَسَداً لكم مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ الأمارة الزائغة التي اختاروا غوايتها على هدى عقولهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا عن فلتات حسدهم و محاولتهم لاضلالكم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ من الأمر بعقابهم من الطرد و الجلاء او القتل حينما يتظاهرون بالغدر و العداوة لكم و للدين فتقوم عليهم الحجة و يمكنكم اللّه منهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 108 وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بحدودها و مواقيتها وَ آتُوا الزَّكاةَ فإن ذلك خير يعود لأنفسكم وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ في دار العمل و التكليف لدار الجزاء و النعيم مِنْ خَيْرٍ بالأعمال الصالحة تَجِدُوهُ أي تجدوا جزاءه و ثوابه عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ و إن أسررتم به 109 وَ قالُوا أي اهل الكتاب المذكورون فيما قبل لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أي يهوديا قالت اليهود ذلك و قالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا و أوجز الكلام بأحسن إيجاز بقوله تعالى أَوْ نَصارى و مغزى كلام كل منهم ان المسلمين لا يدخلون الجنة تِلْكَ أي دعوى كل فريق

ص: 116

منهم انهم يدخلون الجنة أَمانِيُّهُمْ الكاذبة التي يعللون بها أنفسهم انهم يدخلون الجنة قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ و حجتكم على هذه الدعاوي و تلك الأماني إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيها فإن الصادق لا بد له من حجة و برهان

سورة البقرة (2): الآيات 112 الى 113

بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

110 بَلى رد و ابطال للنفي الذي قالوه على نحو قوله تعالى في سورة التغابن زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ مَنْ أَسْلَمَ نحو اسلم أمره الى اللّه أي و كله و خلاه و لم يتداخل فيه بمعارضة المشيئة فالمراد هنا كما في سورة آل عمران 18 و النساء 124 و لقمان 21 أي و كل و خلا وَجْهَهُ الوجه معروف و المراد الكناية عن إقباله و توجهه في سبيل المعرفة و العبادة و الطاعة و طلب التوفيق و الهدى و أسلمه لِلَّهِ و لم يتداخل فيه بزيغ الأهواء و نزغات الضلال و نزعات النفس الأمارة. و الى هذا تنحو أقوالهم في التفسير.

أخلص نفسه للّه. او وجه وجهه لطاعة اللّه. او فوّض امره لطاعة اللّه وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أفرد الضماير باعتبار لفظ «من» وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من عقاب اللّه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ من اجل استحقاقهم للعقاب. قال في الدر المنثور في نزول الآية الآتية اخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس و ذكر قصة ذكرت في التبيان و مجمع البيان بقولهما قال ابن عباس و أوردها الواحدي كالمعلومات بلا رواية و في القصة ان واحدا من نصارى نجران قال لليهود ما أنتم على شي ء و جحد نبوة موسى و كفر بالتوراة. و يوهن القصة انه ليس في النصارى من يجحد نبوة موسى و يكفر بالتوراة بحيث ينسب اللّه كلامه الى النصارى بقوله وَ قالَتِ النَّصارى و ما آفة الأخبار إلا رواتها 111 وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ لأنهم ليسوا على نحلتهم وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ لأنهم ليسوا على نحلتهم و كل من الفريقين يوجه قوله المذكور الى كل من لم يكن على نحلته حتى الى المسلمين يقولون قولهم هذا وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ أي نوعه و هي الكتب التي بأيديهم و ينسبونها الى الوحي و النبوة مع ان في تلك الكتب كلمات حق و بقية من الوحي الحقيقي بحيث يدينون

ص: 117

به و في تلك الكلمات التي يتلونها ما حاصله ان الجنة و النجاة و دين الحق مقرونة بتوحيد اللّه حق التوحيد و عبادته و طاعته و التصديق بأنبيائه و كتبه و آياته و ان في اليهود قبل زمان عيسى و في النصارى من خواص المسيح و اتباعه من كان على الصراط المستقيم من ذلك فكيف يقول كل فريق قوله المذكور و هم يتلون كتبهم و يعلمون ما هو الأساس في دين الحق و كَذلِكَ قالَ المشركون الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ما هو الأساس في دين الحق مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و يحكم لمن كان على حقيقة الدين الصحيح

سورة البقرة (2): الآيات 114 الى 115

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)

112 وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ المسجد هو الذي تعتاد فيه عبادة اللّه و السجود له و إن كان من المشاهد التي لا تسمى في اصطلاح الفقهاء مسجدا أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ و يعبد فيها بالصلاة و تلاوة كتابه وَ سَعى فِي خَرابِها و في التبيان قيل المراد به مشركو العرب من قريش لأنهم صدوا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) عن المسجد الحرام و هو المروي عن أبي عبد اللّه الصادق (علیه السلام) قلت و في الدر المنثور اخرج ابن إسحاق و ابن أبي حاتم عن ابن عباس ما هو من هذا النحو و عليه فمعنى خرابه أن يبقى للعبادة الباطلة كالمكاء و التصدية و السجود للأصنام و طواف العراة من الرجال و النساء. و الظاهر ان ما روي بيان لمورد النزول الذي لا يجعل العام خاصا و في المقام تفاسير عجيبة غريبة منها ما ذكره الواحدي عن قتادة و ذكره غيره عن الحسن ايضا و هو ان بختنصر خرّب بيت المقدس و أعانته على ذلك النصارى. و ليت شعري اين بختنصر من النصارى و هو قبل المسيح بنحو ستمائة سنة و قريب منه في الغرابة ما ذكره الواحدي. و روي عن كعب الأحبار أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها أي مساجد اللّه إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ 113 وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ على سبيل المثال أي له جميع الجهات و كلها في سلطانه بدليل قوله تعالى فيما يأتي لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ في تحويل القبلة من بيت

ص: 118

المقدس وجهة الشمال الغربي الى الكعبة وجهة الجنوب أي و للّه كل الجهات ليس لجهة من الجهات دون الأخرى خصوصية ذاتية طبيعية تربطها بالتوجه الى عبادة اللّه و دعائه فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ و حاشا للّه أن تختص به جهة او مكان.

و في صحيحة الفقيه عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) و نزلت هذه الآية في المتحير اي في صلاة الفريضة وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما الآية.

و روى انه احتج الصادق (علیه السلام) بالآية لصحة سجود التلاوة لغير القبلة كما في رواية الصدوق في العلل عن الحلبي عنه (علیه السلام). و لعدم القضاء لصلاة الفريضة إذا صليت خطأ لغير القبلة كما في رواية التهذيب عن محمد بن الحصين الجعفي عنه (علیه السلام).

و روى الجمهور في صحة الصلاة في هذه الصورة انه اخبر رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بها او سئل عنها فنزلت الآية.

ذكر في الدر المنثور اسماء عشرة اخرجوا هذا عن عامر بن ربيعة. و اسماء ثلاثة أخرجوه عن جابر الانصاري.

و رواها الواحدي في اسباب النزول باسناده عن عامر و جابر. و في الدر المنثور ان ابن مردويه اخرج نحوه بسند ضعيف عن ابن عباس.

و في رواية الصدوق المتقدمة ان الصادق عليه السلام احتج بالآية لصحة صلاة النافلة على الدآبة أينما توجهت.

و في الدر المنثور ذكر اسماء عشرة منهم مسلم و الترمذي و النسائي اخرجوا ذلك عن ابن عمر. و اسماء اربعة منهم الحاكم و صححه عن ابن عمر ايضا. و في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد قال لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا الى اين فأنزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. هذا و ان النظر الى مجموع هذا المروي و دلالة الآية و حجتها يرشد بأن رواية نزولها في مورد خاص إنما هو باعتبار انطباقها عليه و ارادته في عموم تنزيلها. كما ان المروي و لسان الآية و سوقها تشهد بأن مفادها قاعدة عامة مبينة بالحجة التي يشهد بها العقل ايضا إلا ان اللّه خص بعض الأماكن تكريما لها بأن يستقبلها من يصلي الفريضة و قسما من النافلة و يوجه إليها الميت و الذبيحة حسبما يدل عليه الكتاب و السنة و ما عدا ذلك يبقى لحكم العموم في هذه الآية المحكمة و حجتها.

و يؤكد عمومها و يحكمه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ في الرحمة و اللطف عَلِيمٌ بمن يتوجه الى حضرته بالطاعة. و من العجيب قول الواحدي و مذهب ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله تعالى وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. أ فلا يعلم كل مسلم ان آية فَأَيْنَما تُوَلُّوا إن

ص: 119

كان نزولها قبل تحويل القبلة الى الكعبة فهي مخصصة من أول نزولها بالتوجه في الفريضة الى جهة خاصة و كانت إذ ذاك جهة بيت المقدس لأن صلاة الرسول إليها كان من أول وروده الى المدينة: و ما عشت أراك الدهر عجبا: فقد نشأ في بدع قوم في عصورنا يمنعون و يضربون من يتوجه في مسجد الرسول الأكرم عند دعائه و استشفاعه بالرسول الى جهة قبره الشريف في ناحية المشرق كأنّ اللّه لم ينزل الآية المتقدمة و لم يعرفوا من العادة ان المستشفع يقدم شفيعه بين يديه. و يحكم اللّه و هو خير الحاكمين

سورة البقرة (2): الآيات 116 الى 118

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

114 وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً و القائل بذلك النصارى بل و غيرهم ممن أخذوا عنه كاليونان و غيرهم و البراهمة و البوذيين إذ جعلوا زعماء ديانتهم آلهة مولودين من اللّه سُبْحانَهُ تنزيها و تعظيما له عن ذلك بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و الكل سواء في انهم مخلوقون للّه و للّه و ملكه كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ذكروا من معاني القنوت الخشوع و الطاعة أي خاشعون او مطيعون بالانقياد لخالقيته و قدرته و إلهيته فأين الولدية و الإلهية من المخلوق و جاء قانتون بالجمع المذكر السالم تغليبا 115 بَدِيعُ مبالغة في مبدع أي منشئ و مخترع السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا باحتذاء مثال قبلها وَ إِذا قَضى أَمْراً أي خلق و صنع كقوله تعالى في سورة فصلت فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ و قول أبي ذويب

«و عليهما مسرودتان قضاهما داود او صنع السوابغ تبع»

و الأمر الشي ء او الحادث فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ أي لا يحتاج الى تمهيد مقدمات و معدات يحتاج إليها وجوده و يمتنع بدونها. بل الأشياء طوع ارادته يريد فيكون و قوله تعالى يَقُولُ لَهُ كُنْ إنما هو كناية عن ارادته بما يظهر به الناس إرادتهم و هو أمرهم فَيَكُونُ تفريع على يَقُولُ و ليس جزاء لقوله تعالى كُنْ لأن الكون بعد الفاء هو نفس الكون المأمور به لأجزائه المترتب عليه و توهم انه جزاء لذات الطلب او للكون مع الطلب مدفوع بأنه لو صح لوجب أن ينصب قوله تعالى فَيَكُونُ 116 وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بمواقع حكمة اللّه و حجته و دلالة آياته لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ لو لا هنا بمعنى هلا للعرض و الطلب و المراد تكليمه لهم بخصوصهم

ص: 120

أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ خاصة بهم بحسب اقتراحهم عتوّا و استكبارا كما حكاه اللّه عنهم في سورة الاسراء المكية من قوله تعالى 92- 96 وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله تعالى حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ في الاقتراح الفاسد مع انهم شاهدوا ما تقتضيه الحكمة من الآيات و الدلائل حيث قال اليهود لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً و ذلك بعد ما رأوا الدلائل على رسالة موسى كآية العصا و شق البحر تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ في الضلال و الكفر بالآيات البينات. و لو جرت الآيات على حسب اقتراح المقترحين من المنهمكين بالضلال و المماراة لخرجت عن كونها آيات بل صارت بذلك أمورا عادية لا تقوم بها حجة فضلا عن ان كثيرا منهم يطلب المستحيل عقلا كقول بني إسرائيل لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً و هل الآيات إلا ما تقتضيه الحكمة بحسب حال المدعوين إلى الإيمان مما يفيد اليقين و تقوم بالحجة و قد جاء رسول اللّه «ص» بذلك على أحسن وجه قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بما يوجب اليقين بدلالته الكافية و لا يمارون فيها بعناد الضلال و تحكم الأهواء فقد نزل القرآن معجزا على ما تقتضيه الحكمة من وجوه عديدة فاستنار بيقينه الموقنون و قطع المعاذير على الجاحدين و المرتابين إذ تحداهم بالإتيان بعشر سور او سورة من مثله. قلت و قد أشير إلى شي ء من ذلك في الفصل الأول من المقدمة و لا تأس يا رسول اللّه من قول هؤلاء

سورة البقرة (2): الآيات 119 الى 120

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)

117 إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً للمؤمنين بما أعد لهم من النعيم وَ نَذِيراً بما أعد للكافرين و المعاندين من العذاب و الهوان وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ الذين استحقوها بسوء اختيارهم 118 وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ حتى تتبع ملتهم و حذف ذلك لدلالة قوله تعالى وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ اني اتبع الهدى و اين منه اهواؤكم و تقليدكم فيها و إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بدين الحق و ضلال هؤلاء فيما هم عليه اذن ما لَكَ و لا لكل احد قامت

ص: 121

عليه الحجة من عقله و تبليغك مِنَ اللَّهِ متعلق بالمطلوب من الولي و النصير و هو الانقاذ و التخليص مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ من زائدة و ولي مبتدأ. و مالك خبره

سورة البقرة (2): الآيات 121 الى 124

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

119 الَّذِينَ مبتدأ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ القرآن يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ الجملة حال «لآتيناهم» لا خبر فإن ما كل من اوتي القرآن تلاه حق تلاوته.

و في مجمع البيان و عن العياشي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) ان حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة و النار يسأل في الأولى و يستعيذ من الأخرى.

و هذا ملازم في المعنى لما

عن الديلمي عن أبي عبد اللّه ايضا قال يرتلون آياته و يتفقهون به و يعملون بأحكامه و يرجون وعده و يخافون وعيده و يعتبرون بقصصه و يأتمرون بأوامره و ينتهون بنواهيه ما هو و اللّه حفظ آياته و درس حروفه و تلاوة سوره و درس أعشاره و أخماسه حفظوا حروفه و أضاعوا احكامه و إنما هو تدبر آياته و العمل بأحكامه قال تعالى

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ جملة «أولئك» خبر للذين وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ و ذلك هو الخسران المبين 120 يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 121 وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ قد مرّ الكلام في الآيتين بعد الاية الثالثة و الأربعين و قد كررت الآيتان هاهنا تسجيلا لمعناهما على اليهود 122 وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ سياق الآيات الثلاث التي بعد هذه الآية و عطفهن عليها يقتضي ان تكون كلمة «إذ» مفعولا «لأذكر» القولية المقدرة فتكون الآية و ارتباط كلماتها و معانيها تستلزم ان يكون قوله تعالى إِنِّي جاعِلُكَ إلى آخره تفسيرا للكلمات و الفاعل في أتمهنّ هو اللّه. و يشهد لذلك رواية ابن بابويه في كتاب النبوة عن المفضل ابن عمر عن الصادق عليه السلام. و عليه جرى ما حكاه

ص: 122

في مجمع البيان عن قتادة و أبي القاسم البلخي و اختيار الحسين بن علي المغربي. و في الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال الكلمات إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً و الآيات التي بعدها و اخرج ابن جرير و ابن أبي شيبة عن مجاهد نحوه. و إن كانت كلمة «إذ» ظرفا معمولا «لقال اني جاعلك» كانت الكلمات شيئا آخر فيظن ان يكون الفاعل في أتمهنّ هو ابراهيم.

و في تفسير القميّ قال هو ما ابتلاه اللّه بما أراه في نومه من ذبح ولده فأتمها ابراهيم إلخ. و لم يعلم ان القائل هو القمي أو الإمام. و روى في الدر المنثور عن ابن عباس في هذا النحو خمس روايات متدافعة نحو ما ذكره في مجمع البيان و على ما ذكرناه أولا يكون المعنى ابتلى ابراهيم بكلمات إمامته و امامة الأئمة و تحمل اعبائها و أداء شكرها لِلنَّاسِ إِماماً و مرجعا و مقصدا و زعيما في امور الدين و الدنيا.

و قد استفاض الحديث عن الأئمة عليهم السلام ان امامة ابراهيم كانت بعد نبوته و رسالته كما في الكافي عن جابر عن الباقر (علیه السلام). و عن زيد الشحام و عن هشام و درست عن الصادق (علیه السلام). و في العيون عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (علیه السلام).

و يدل على ذلك ايضا ان نبوة ابراهيم كانت قبل ان يولد له ولد و قبل شيخوخته و مقتضى الآية ان قول اللّه له بجعله اماما كان بعد ان صار له أولاد يرجو ان يكون له منهم ذرية و أما قبل ذلك فلم يكن له رجاء فإن القرآن في سورة الحجر يخبر انه لما بشر باسحاق قال أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. و لا يكون جاعل هنا بمعنى جعلت في الماضي لأنه عامل بالمفعول و هو اماما و قوله تعالى «للناس» متعلق «بجاعل» و فيه اشارة إلى الامتنان على الناس و ان الإمامة لطف من اللّه و من اكبر المصالح لأمورهم و يجوز ان يكون متعلقا بقوله «إِماماً» و قدم للاهتمام بعموم الإمامة للناس و ارتباطها بمصالحهم العامة و الخاصة قالَ ابراهيم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي الظاهر ان هذا عطف على «جاعل» في جاعلك اي و جاعل من ذريتي و يكون بمنزلة الاستفهام التقريري لمزيد الاستبشار و الابتهاج و نحو من الشكر إذا علم من الكلمات و الأسماء ان الأئمة من ذريته. او للاستفهام ان لم يعرف انهم من ذريته. و قيل ان المعنى و اجعل من ذريتي.

و فيه تكلف في التقدير الزائد على دلالة السوق خصوصا مع النظر إلى رواية الفضل الدالة على معلومية اسماء الأئمة في ضمن الكلمات فإنه يبعد من مقام ابراهيم ان يطلب الزيادة على

ص: 123

ما أخبره اللّه بتقديره (قال) اللّه جل اسمه في بيان ما لهذه الإمامة من الفضل لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ بيانا لشرف الإمامة في فضيلتها العظمى و فضل الإمام فإن الإمامة بجعلي و عهدي في الدلالة على الإمام بحسب أهليته لهذه الكرامة في كماله و قيامه بمصلحة الناس على ما يقتضيه اللطف في صلاحهم و أهليته لانقيادهم اليه و هذا العهد الكريم من نحو الوصية و الدلالة على التعيين و نظير ذلك قولهم ولي العهد. و الظالم يعم من ظلم نفسه بمخالفته للحق و كيف يليق من لا رادع له من كماله عن الظلم لنفسه او لغيره لأن يعهد اللّه اليه بإمامة الناس و إصلاح أمورهم و إرشادهم أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى

و في رواية البرهان عن الكافي و المفيد عن هشام بن سالم و درست عن الصادق عليه السلام في تفسير الآية من عبد صنما أو وثنا أو مثالا لا يكون اماما.

و عن امالي الشيخ مسندا و ابن المغازلي في المناقب مرفوعا عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله) في الآية عن قول اللّه لإبراهيم من سجد لصنم دوني لا اجعله اماما.

و قال (صلی الله علیه و آله) فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي عليّ لم يسجد أحدنا لصنم قطّ.

و عن الكافي مسندا و الشيخ المفيد مرفوعا عن الصادق عليه السلام لا يكون السفيه امام التقي.

فيكون ذكر عبادة الصنم من باب النص على احد المصاديق من موانع الإمامة و هي ما تنافي العصمة التي يدل العقل على اعتبارها في هذه الإمامة. و من شواهد ذلك و رشحاته ان الفطرة و حكم العقل بعثت جميع الحكومات المتمدنة على ان تجعل من قوانينها الأساسية ان من حكم عليه بجريمة توجب العقوبة و لو بسجن مدة قليلة يكون ساقطا باصطلاحهم عن الحقوق المدنية اي لا تكون له وظيفة في الحكومة يتسلط فيها على غيره و لا تنفعه في ذلك توبة. أليس اللّه بأحكم الحاكمين

سورة البقرة (2): آية 125

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

123 وَ إِذْ عطف على إذ ابتلى في الآية السابقة جَعَلْنَا الْبَيْتَ الحرام و هو الكعبة مَثابَةً لِلنَّاسِ مرجعا لهم و التاء للمبالغة لأن مرجعيته للناس جعلت دائمة فإنك ترى من يتحمل المشاق في زيارته يشتاق إلى الرجوع اليه مرّة بعد أخرى و هذا سرّ غريب و آية من آيات اللّه وَ أَمْناً يأمن من حلّ في حماه من الناس مع وحشية الاعراب و تعاديهم و عداوتهم. و هذا ايضا من آيات البيت و يأتي له إنشاء اللّه مزيد بيان في تفسير الآية الثانية و التسعين من سورة آل عمران وَ اتَّخِذُوا عطف على اذكر مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ

ص: 124

مُصَلًّى مقام ابراهيم يسمى به الآن محل يصلى فيه باعتبار ان فيه الصخرة التي قام عليها ابراهيم (علیه السلام) فصار فيها اثر قدميه. و قال فيه ابو طالب

و موطئ ابراهيم في الصخر وطأة على قدميه حافيا غير ناعل

و في الكافي في الحسن كالصحيح عن أبي عبد اللّه مقام ابراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه.

و في مجمع البيان عن ابن عباس قصة فيها ان المقام صخرة وضعتها زوجة إسماعيل تحت رجلي ابراهيم لما غسلت رأسه فأثرت فيها قدماه. و فيه ايضا ان عليّ بن ابراهيم روى مسندا عن ابان عن الصادق عليه السلام هذه القصة بعينها.

و في الدرّ المنثور ان الازرقي اخرج عن المطلب بن أبي وداعه. و آخر ان سيل ام نهشل في ايام عمر احتمل المقام من محله فسأل عمر عن محله فزعم المطلب ان عنده مقياس محله فوضع في محله الآن. و فيه اخرج البيهقي في سننه عن عائشة ان المقام كان في زمن رسول اللّه «ص» و زمان أبي بكر ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب.

و في الكافي و الفقيه في الموثق كالصحيح عن الباقر «ع» كان موضع المقام الذي وضعه ابراهيم عند جدار البيت فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم فلما فتح النبي «ص» مكة رده إلى الموضع الذي وضعه ابراهيم «ع» إلى ان ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام فقال بعض انا قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان.

و ذكر نحوه في المسالك عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام و ذكر ان المقام هو العمود من الصخر الذي كان ابراهيم يقف عليه حين بنائه للبيت. و كان في زمن إبراهيم ملاصقا للبيت بحذاء الموضع الذي هو فيه اليوم.

و في تفسير القمي في سورة الحج ان المقام كان في زمن ابراهيم يلصق بالبيت و عليه نادى ابراهيم بالحج. و في مضمرة ابن مسلم و صحيحة ابراهيم بن أبي محمود عن الرضا (علیه السلام) المرويتين في الكافي ما يدل على ان محل المقام على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) غير محله في ايام الأئمة إلى الآن. أقول و الظاهر ان المراد من مقام ابراهيم في الآية هو جهة موقفه و محل قيامه لا خصوص موطئه في قيامه او نفس الصخرة فإنه لا يمكن ان يتخذ منه مصلى.

و قد روي في الوسائل عن أئمتنا عليهم السلام اكثر من

ص: 125

اثني عشر حديثا في ان صلاة الطواف خلف المقام بحسب موضعه في زمانهم عليهم السلام و الآن خمس منها استشهد فيها بقوله تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى و ست نصت على الخلف.

و على ذلك يحمل ما كان لفظه عند المقام و التعبير بعند فيه أيضا تقييد لإطلاق الخلف و كذا ما كان لفظه ارجع إلى المقام أو ائت المقام. و هذا مما يشهد لارادة الجهة و مقدار سعتها. و لعل وجوب تقديم المقام بحسب موضعه الثاني لأجل احترامه عن الاستدبار أو لأجل الستر على الشيعة و الحصر في رواية زرارة بالمقام المعروف ظاهر في انه بالاضافة إلى الصلاة لطواف المتطوع في انها حيث شاء المتطوع من المسجد و يمكن ان تنزل على ذلك مرسلة صفوان كما يمكن ان تنزل صحيحة ابراهيم بن أبي محمود و سائر الروايات على الستر على الشيعة فتجوز الصلاة ما بين موضعي المقام أولا و ثانيا. و لكن الاحتمال لاحترام ذات المقام يرجح ظاهر الروايات و يمنع عن اليقين بالفراغ الا بالصلاة خلفه وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ اي الطائفين به لعبادة اللّه. و العكوف اللبث حوله للعبادة و لو بذات اللبث بفنائه. و الركع جمع راكع. و السجود جمع ساجد و المراد المصلين حوله.

و عن الصدوق في العلل و الشيخ في التهذيب بسندين صحيحين عن عمران و عبد اللّه الأخوين الحلبيين سألت أبا عبد اللّه (علیه السلام) أ يغتسلن النساء إذا اتين البيت قال نعم ان اللّه عزّ و جل يقول أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ فينبغي للعبد ان لا يدخل إلا و هو طاهر قد غسل عنه العرق و الأذى و تطهر و المراد من إتيان البيت التوجه اليه للطواف و نحوه. و عن الكليني بسند معتبر عن محمد الحلبي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) نحوه بإسقاط السؤال و فيه فينبغي للعبد ان لا يدخل مكة إلا و هو طاهر «الرواية»

و هذا يفسر متعلق الدخول في روايتي أخويه. و من المعلوم ان طواف الناس و عكوفهم و ركوعهم و سجودهم العاديين انما هي خارج البيت و حوله. و هكذا يدل على أن المراد تطهير فناء البيت من حيث حرمة البيت المضاف إلى اللّه و الذي جعله يطاف حوله و يعكف و يركع و يسجد و يكون بالاعتبار الثانوي العرضي مراعاة لحال الناسكين حوله و به جرى التعليل بالآية الكريمة لأنه يدل على الاعتبار الاولي الذاتي دلالة واضحة. و المراد من التطهير هو ما يقتضيه إطلاقه بمعناه اللغوي و هو التنزيه

ص: 126

عن كل ما ينافي حرمة البيت من القذارات الصورية و المعنوية عرفية كانت او بكشف الشارع كما يشهد لها رواية الحلبيين و الأمر في طهرا بمنزلة الخبر لبيان الوظيفة و الغرض كقوله اغتسل للجنابة و الجمعة كما يشير إلى ذلك قوله تعالى وَ عَهِدْنا فلا يمتنع شموله للواجب و الندب و يسري التكليف المفهوم منه إلى غير ابراهيم و إسماعيل

سورة البقرة (2): الآيات 126 الى 128

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

124 وَ اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا اي فناء البيت و حرمه الذي هو مكة بَلَداً آمِناً اي يأمن أهله و من فيه من أذى الناس وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ سكانه مِنَ الثَّمَراتِ لا كل سكانه بل مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ و لم يقل بك محافظة على تخصيص الإيمان باللّه بالنص على اسمه العظيم وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ اللّه جلت آلاؤه ما حاصله اني استجبت دعاءك و لا أخص رزقي في هذه الدنيا الفانية بالمؤمنين بل أرزق فيها المؤمن و الكافر وَ مَنْ كَفَرَ و اصرّ على كفره فَأُمَتِّعُهُ في الدنيا قَلِيلًا اي مدة حياته القصيرة بالنسبة إلى ما وراءه و أمهله و أقيم عليه الحجة و املي له ثُمَّ أَضْطَرُّهُ اي آخذه قهرا بالموت و الحشر إِلى عَذابِ النَّارِ التي أعدت للكافرين وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ مصيره 125 وَ اذكر إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ قاعدة البيت أساسه و رفع القواعد هنا هو البناء عليها و جعله مرتفعا مِنَ الْبَيْتِ أي الكعبة وَ إِسْماعِيلُ حال كونهما متقربين قائلين رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا طاعتنا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ للدعاء الْعَلِيمُ بنياتنا في طاعتك 126 رَبَّنا وَ اجْعَلْنا بتوفيقك مُسْلِمَيْنِ لَكَ الظاهر أن الإسلام في الأصل هو الدخول في السلم بكسر السين و سكون اللام مثل الانجاد و الاتهام و الاقحاط و السلم هو عدم المحاربة و المحادة. و بالنسبة للّه يتحقق بالإذعان بإلهيته و توحيده و رسالة رسله و كتبه. و قد اختص في الاستعمال بهذا المعنى فصار هو الظاهر من لفظ إسلام و أسلم و اسلم و مسلم. و بعد رسالة خاتم النبيين محمد (صلی الله علیه و آله) صار المتداول في الاستعمال هو ما ذكرناه مع الإذعان برسالته و أن قرآنه و شريعته من اللّه و الإسلام الحقيقي هو الإذعان في النفس المساوق للإيمان و هو المراد هنا أي اجعلنا مسلمين لك مدة عمرنا بمعنى

ص: 127

ثبتنا بهدايتك و توفيقك على الإسلام كما هديتنا له وَ اجعل بتوفيقك و لطفك مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ لم يسألا ذلك لكل ذريتهما لما سبق من قول اللّه لإبراهيم لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لما قال ابراهيم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي او لما يعرفانه من حال البشر في اختيارهم للايمان و ان الكثير منهم من يستحب العمى على الهدى. فطلبا أن تكون من ذريتهما أمة مسلمة لا خصوص الإمام وَ أَرِنا يحتمل أن يراد بالضمير ما يعم الأمة المسلمة من ذريتهما مَناسِكَنا النسك العبادة و الناسك هو العابد. و للنسك هو الموضع المعد للعبادة الخاصة. فتكون الرؤية المطلوبة على حقيقتها وَ تُبْ عَلَيْنا طلب التوبة باعتبار دخول الامة المسلمة في الدعاء. و يحتمل أن يختص الضمير بإبراهيم و إسماعيل فيراد من التوبة عليهما الرجوع و العود عليهما بالرحمة و اللطف فإن المعنى الاصلي للتوبة هو الرجوع و العود. و يحتمل أن يريدا بالتوبة نحوا من معناها المعروف تصاغر اللّه و استصغارا لأعمالهما في جنب جلال اللّه كما هو شعار الأولياء المخلصين

سورة البقرة (2): الآيات 129 الى 130

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 127 رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ اي الأمة من ذريتهما رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ بإرشاده و جهاده في الدعوة إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ في تنفيذ ارادتك و نصر رسولك في تبليغه و اجراء أحكامك و تعليمه و تزكيته لعبادك الْحَكِيمُ فيما تفعل. و مصداق هذا الدعاء هو رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله برسالته العامة فهو رسول اللّه في ذرية ابراهيم و إسماعيل و بهم ابتدأت دعوته و هو (صلی الله علیه و آله) ايضا من ذريتهما.

و في تفسير القمي قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) انا دعوة أبي ابراهيم. و في البيان روى انه (صلی الله علیه و آله) قال ذلك. و رواه في الدر المنثور عن جماعة

128 وَ مَنْ استفهام يرجع الى الإنكار و النفي يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ في التوحيد و المعرفة و الأخلاق الفاضلة و الحنيفية إِلَّا مَنْ الذي سَفِهَ نَفْسَهُ السفه و السفاهة و السفيه معروفة. و سفه بالضم من افعال السجايا لا يتعدى. و سفه بالكسر متعد و المعنى إلا من أضر نفسه بسفاهته و نحو ذلك فإن ملة ابراهيم جارية في معارفها و أخلاقها على النهج الفطري الواضح المعقول فلا يرغب

ص: 128

عنه إلا السفيه وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ أي ابراهيم و اخترناه رسولا و إماما و هاديا فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي معدود من الذين كانوا في الدنيا صالحين هادين

سورة البقرة (2): الآيات 131 الى 134

إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)

129 إِذْ قالَ ظرف لاصطفيناه لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ و هذا القول لمثل ابراهيم يكون قبل زمان البلوغ و قد ذكرنا معنى الإسلام قريبا قالَ أَسْلَمْتُ و أشار الى معرفته و ان إسلامه عن حجة و بصيرة بقوله لِرَبِّ الْعالَمِينَ 130 وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أي وصاهم بالملة الحنيفية ملة ابراهيم وَ يَعْقُوبُ أي و وصى بها يعقوب بنيه و قال كل منهما لبنيه في مقام التوصية و التحريض على اتباع الملة حتى الممات و ان لا تلعب بهم الأهواء فيغتنم إبليس منهم الفرصة عند الموت فيردهم عن الحنيفية و الإسلام يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ المعهود دين الحنيفية و الإسلام و اختاره لكم صافيا مصفى فالزموه و اثبتوا على اتباعه حق الاتباع وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ على الدين الحنيف 131 أَمْ كُنْتُمْ اضراب و انكار و هو يناسب أن يكون خطابا لأهل الكتاب و إنكارا على دعوى ليس لهم بها علم و لا حضروا و لا شهدوا ما يسندون الدعوى اليه شُهَداءَ حضورا إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ و ذلك لم يجر فيه ما تزعمون بل إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قال ما تعبدون لأن معبودات اهل الضلال أكثرها مما لا يعقل كالحيوان و التماثيل قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ و أدرج إسماعيل في تفسير الآباء بنحو من التغليب عليه و لأنه عم ليعقوب و العم كالأب إِلهاً واحِداً لا شريك له وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 132 تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ و مضت و الظاهر ان المراد من الأمة بنو إسرائيل لَها ما كَسَبَتْ من خير وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ بل كل مسئول عن تكليفه و ما قامت

ص: 129

به الحجة عليه فانظروا لأنفسكم

سورة البقرة (2): الآيات 135 الى 136

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

133 وَ قالُوا أي اهل الكتاب اليهود و النصارى كل من الفريقين يدعو الى نحلته كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى او لتقسيم قولي الفريقين تَهْتَدُوا قُلْ يا محمد بَلْ نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً الحنيف هو الموحد التابع لدين الحق. و لا حاجة الى بيان المأخذ لاستعمال اللفظ في هذا المعنى وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و لعله تعريض باليهود و النصارى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ و في قوله ملة ابراهيم الى آخره احتجاج لوجوب اتباعها فإن قدّرنا نتبع يكون مفاد الاحتجاج و عليكم أن تتبعوا ذلك. و ان قدر اتبعوا يكون مفاد الاحتجاج كما اتبعنا نحن. يا اهل الكتاب لا تأخذنكم أهواء القومية و عصبية اليهودية او النصرانية فإن الحق أحق ان يتبع بل 134 قُولُوا عن إيمان حقيقي و اعتقاد و اتباع للحجة آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا باعتبار النزول على أنبيائهم و رسلهم كالتوراة و الإنجيل و الزبور وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ و هي صحف ابراهيم التي جرى عليها بنوه الى زمان موسى و بهذا الاعتبار قيل وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ إذ لم يعهد نزول كتاب الى خصوص المذكورين.

و عن الكافي باسناده عن سدير عن أبي جعفر ان أولاد يعقوب أي ما عدا يوسف لم يكونوا أنبياء و نحوه عن العياشي.

و الأسباط جمع سبط و هو ولد الولد. و منه سمي الحسنان عليهما السلام بالسبطين و سميت قبائل الاسرائيليين باعتبار انتسابهم الى أولاد يعقوب أسباطا. و القبيلة الواحدة منهم سبط. و عليه استعمال القرآن الكريم. و قد سموا بذلك ايضا فيما بأيديهم من التوراة و العبرانية و كتاب يوشع و غيرهما (1) و ان سموا فيها ايضا بغير ذلك وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى من المعجزات او كرامة النبوة وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من كرامة النبوة و الوحي مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ من أي قبيلة كان إذا دلت الدلائل على نبوته وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه مُسْلِمُونَ

ص: 130


1- سفر العدد 32: 33 و 36: 3 و سفر التثنية 10: 8 و 18: 1 و 29: 20 [.....]

سورة البقرة (2): الآيات 137 الى 140

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

135 فَإِنْ قالوا ذلك و آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ ايها المسلمون فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا بكفرهم فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ و معاندة لا في طلب الحق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يا رسول اللّه و يمنعك من كيد شقاقهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعائك او لما يقولون الْعَلِيمُ بما في الضمائر 136 صِبْغَةَ اللَّهِ منصوبة بدلا من ملة ابراهيم. و عن الكافي مسندا عن الصادق او أحدهما عليهما السلام بأسانيد ثلاثة اثنان منها من الموثق كالصحيح. و عن الصدوق في الصحيح عن أبي عبد اللّه (علیه السلام). و عن العياشي بسند آخر ان الصبغة هو الإسلام و هو ملة ابراهيم. و في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال دين اللّه. و سميت صبغة باعتبار الأثر الكريم الظاهر من التوحيد و مكارم الأخلاق و زينة الشريعة وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً بما يهدى اليه من الدين القيم. و يوفق لاتباعه وَ نَحْنُ لَهُ وحده عابِدُونَ لا نشرك في الإلهية و العبادة غيره 137 قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا و تجادلوننا فِي اللَّهِ زاعمين انكم الموحدون و فيكم النبوة. و كيف تحاجوننا بذلك مع ان اللّه لا يحابي بلطفه و رحمته الواسعة قبيلا دون قبيل.

بل يراعى بها الأهلية و هو اعلم حيث يجعل رسالته و لا يمنع لطفه و توفيقه الا عمن تمرد عليه بالشرك و العصيان. فكيف يحابيكم و يخص بكم ما تزعمون وَ الحال هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ و كلنا عباده و لطفه عام و رحمته واسعة لكل عباده وَ لَنا أَعْمالُنا فقد آمنا باللّه و وحدناه و عبدناه و ان اللّه لا يضيع اجر من احسن عملا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ ان عملتم خيرا من الايمان الخالص و العبادة وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في عبادته و إلهيته لا نشرك به شيئا. و في ذلك حسن التعريض بهم فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 138 أَمْ تَقُولُونَ يا اهل الكتاب و تزعمون إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى او للترديد بين قولي الفريقين اليهود يقولون كانوا يهودا و النصارى يقولون كانوا نصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ مع انكم ادعيتم المحال.

ص: 131

اين كانت اليهودية و النصرانية في زمان هؤلاء أَمِ اللَّهُ الذي اخبر بان ابراهيم كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين. و انه اسلم لرب العالمين و وصى بها يعقوب بنيه. فقالوا نعبد اللّه إلها واحدا و نحن له مسلمون كما تقدم قريبا وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ اما بالنسبة الى علمهم بأن هؤلاء الذين ذكروهم كانوا مسلمين على الدين الحنيف او الشهادة برسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله. فلا ينحصر الأمر باليهودية و لا النصرانية لو بقيتا على التوحيد و الشريعة. و قد أخبرهم اللّه في التوراة ان اللّه يقيم لهم نبيا من إخوتهم و يجعل كلامه في فيه.

و أخبرهم المسيح برسول يأتي من بعده اسمه احمد وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ و ما ينفعكم زعمكم و كذبكم على ابراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط مع قيام الحجة بإرسال اللّه رسله في زمانكم بالآيات الباهرات فعليكم بأنفسكم فلا تتعللوا زورا بمن مضى فان

سورة البقرة (2): الآيات 141 الى 142

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

139 تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ بل تسئلون عن اعمالكم و معاملتكم مع رسول اللّه و دين الحق 140 سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها و هي بيت المقدس فان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) صلى اليه عند مقدمه الى المدينة مدة.

و في رواية التهذيب عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه الى ما بعد رجوعه من بدر.

و عن رسالة الفضل بن شاذان كذلك و فيها و كان يصلي في المدينة الى بيت المقدس سبعة عشر شهرا.

و عن قرب الاسناد عن الباقر تسعة عشر شهرا. و هو الذي ذكره في الفقيه

و عن الشيخ المفيد في مسار الشيعة في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة حوّلت القبلة من بيت المقدس الى الكعبة.

و نحو هذا ما رواه في الدرّ المنثور من روايات الجمهور.

و في الكافي في الحسن كالصحيح عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) سألته هل كان رسول اللّه يصلي الى بيت المقدس قال نعم فقلت أ كان يجعل الكعبة خلف ظهره قال اما إذا كان بمكة فلا و اما إذ هاجر الى المدينة فنعم حتى حوّل الى الكعبة.

و ربما تشعر الرواية بانه (صلی الله علیه و آله) صلى في مكة الى بيت المقدس بدون ان

ص: 132

يستدبر الكعبة.

و عن النعماني باسناده عن امير المؤمنين عليه السلام ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كان يصلي في أول مبعثه الى بيت المقدس جميع ايام مقامه بمكة «الرواية»

و في الفقيه و صلى رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة و تسعة عشر شهرا بالمدينة

و في الدر المنثور اخرج الطبراني عن عثمان بن حنيف. و في الحديث كان رسول اللّه قبل ان يقدم من مكة و القبلة الى بيت المقدس

و يمكن الجمع بان رسول اللّه كان يجمع بين القبلتين في مكة كما يومي اليه الاشعار المتقدم في رواية الحلبي.

و في الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة و ابو داود في ناسخه و النحاس و البيهقي في سننه عن ابن عباس ان النبي (صلی الله علیه و آله) كان يصلي و هو بمكة نحو بيت المقدس و الكعبة بين يديه الحديث

و اللّه العالم قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ أي جميع الجهات فإن تحويل القبلة كان من ناحية الشمال الغربي الى نقطة الجنوب تقريبا. و ليس اعتراضهم هذا إلا من السفه فهل يزعمون ان اللّه تحويه جهة خاصة او ان الذي له و في ملكه جهة خاصة او ان لبعض الجهات استحقاق للاستقبال لازم لا يعقل التخلف عنه أ فلا يعقلون ان الاستقبال أمر تعبدي من اللّه يجريه بحسب الحكمة و المصلحة يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مما تقتضيه الحكمة و يوصل الى الهدى و الحق

سورة البقرة (2): آية 143

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

141 وَ كَذلِكَ أي و كما هديناكم الى صراط مستقيم جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الوسط خيار الشي ء لأنه محميّ عن الفساد.

و في تفسير القمي وسطا أي عدلا. و هو المروي في روايات الجمهور كما في الدر المنثور لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً و من المعلوم ان الأمة كلها لا تتصف بالخيار و العدل و كونهم شهداء على الناس فإن فيهم الكثير ممن لا يخفى حاله. فهذه الصفات إنما تكون باعتبار البعض و الموجه اليه الخطاب هو ذلك البعض.

و قد روي في أصول الكافي عن بريد عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) نحن الأمة الوسط و نحن شهداء اللّه على خلقه. و في الحسن كالصحيح عن أبي جعفر (علیه السلام) مثله. و عن الصفار بهذا السند نحوه. و روي نحوه ايضا بسند آخر صحيح.

و عن الحسكاني في شواهد التنزيل عن سليم الهلالي عن علي (علیه السلام) نحن الذين قال اللّه جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.

و عن العياشي عن ابن أبي عمير الزبيري عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) في هذه الآية افترى ان من

ص: 133

لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم

وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ظاهر قوله تعالى في الآية التي بعد هذه فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً انها نزلت قبل تحوله (صلی الله علیه و آله) الى الكعبة و ظاهر السوق ان هذه الآية نزلت قبل تلك مع ان ظاهر قوله تعالى فيها كُنْتَ عَلَيْها كنت تتوجه إليها فيما مضى و صرفت عنها.

فتشكل هذه الظواهر. و لأجل ذلك قال بعضهم أنّ كان تامة بمعنى أنت عليها. و قال في الكشاف ان التي كنت عليها مفعول ثاني لجعلنا و المقصود من الموصول مكة أي و ما جعلنا القبلة مكة و فيه تعقيد و مخالفة للاعتبار مع ان الاشكال المذكور على حاله و يرتفع من أصله بأن قوله كنت عليها لا يختص بما بعد الانصراف عنها و انقطاع الكون. بل قيل باعتبار الكون الماضي و توجهه (صلی الله علیه و آله) الى بيت المقدس أشهرا عديدة من دون نظر الى الانقطاع نحو وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي و ما جعلنا بيت المقدس قبلة لك هذه المدة إِلَّا لِنَعْلَمَ اللام للعاقبة و الحصر انما هو باعتبار العاقبة لا حكمة التشريع مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ متعلق بنعلم لما في العلم بأحد الفريقين من التمييز له عن الفريق الآخر يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ و مثل ذلك في القرآن كثير كما في قوله تعالى وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا. لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ. وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ. وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ. و الوجه في كل هذه الموارد و أمثالها واحد و هو ان علمه التابع جل شأنه و ان كان أزليا أبديا لكن لمقارنته لوجود المعلوم في الخارج أثر و وقع في الزجر و التوبيخ او البشرى عند الناس. و لأجل هذا الأثر و الوقع جرى مجرى التعبير بالفعل المستقبل في هذه الموارد باعتبار تلك المقارنة و العلم المقارن و على هذا النهج جرى التعبير في القرآن الكريم بقوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ كما ورد في اكثر من عشرين موردا و ان كانت ارادته ازلية و ايضا لو قيل ليقع ذلك لأوهم الجبر مع انه تفوت فائدة الاعلام بكون اللّه عالما به. و لو قيل ليقع ما هو معلوم للّه بالعلم الازلي لثارت شبهة الجبر و قالوا اذن ان العبد لا يقدر على الترك إذ يلزم منه ان ينقلب علم اللّه جهلا و لم يلتفتوا كما لم يلتفتوا الى ان هذا العلم تابع لا اثر له في قدرة العبد وَ إِنْ كانَتْ

ص: 134

لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ان هي المخففة و تلزمها اللام التي هي للتأكيد. و ظاهر السوق يقتضي ان الضمير في كانت يرجع الى القبلة التي كان عليها و هي بيت المقدس و هو الظاهر ايضا من

معتبرة التهذيب عن أبي بصير عن أحدهما عليها السلام قال قلت له امره ان يصلي الى بيت المقدس قال نعم الا ترى ان اللّه تعالى يقول وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ و تلا جميع الآية الى قوله «رَحِيمٌ»

و كبيرة ثقيلة. و من اللازم ان يكون استقبال بيت المقدس ثقيلا على قريش و العرب الا الذين هداهم اللّه الى الايمان برسول اللّه فيعلمون ان ذلك امر من اللّه الحكيم وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ

في الكافي عن ابن أبي عمير الزبيري عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) في الآية ان اللّه سمى الصلاة ايمانا.

و في الفقيه قال المسلمون صلاتنا الى بيت المقدس تضيع يا رسول اللّه فانزل ذلك. و ذكر انه اخرج حديثه في كتاب النبوة. و في رواية العياشي انه لما حولت القبلة قالوا ما حالنا اي في صلاتنا الماضية و ما حال من مضى في صلاتهم الى بيت المقدس فانزل اللّه وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. و في الدر المنثور عن ابن عباس نحوه و صححه الحاكم

سورة البقرة (2): آية 144

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

142 قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ قد هنا للتكثير

قد اترك القرن مصفرا أنامله كأن أنيابه مجت بفرصاد

و قول عمران الانصاري. او امرؤ القيس

قد اشهد الغارة الشعواء تحملني جرداء معروقة اللحيين سرحوب

قال القمي في تفسيره ان اليهود كانوا يعيرون رسول اللّه و يقولون انه تابع لنا يصلي الى قبلتنا فاغتمّ رسول اللّه و خرج في جوف الليل ينظر آفاق السماء ينتظر امر اللّه إلخ. و في مجمع البيان نسبه الى رواية القمي عن الصادق (علیه السلام)

مع كلام ذكره القمي بعد ذلك. نعم ذكر في الفقيه نحو ما ذكره القمي و أحال روايته على كتاب النبوة. فتدل الآية على انه (صلی الله علیه و آله) كان له شأن في امر القبلة. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها لأنها مرضية بفضلها و سابقتها و حكمة دعوة العرب و هي أول بيت وضع للناس فيه آيات بينات فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ

ص: 135

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه و القبلة هي الكعبة بالضرورة كما يلهج بذلك المسلمون في تلقين موتاهم و في تعقيباتهم و غير ذلك. و جاءت بذلك الأحاديث بنحو لا يقصر عن التواتر. ففي جامع البخاري و غيره عن ابن عمر ان النبي ركع ركعتين في قبل الكعبة و قال هذه القبلة.

و في جوامع البخاري و مسلم و أبي داود و النسائي و الموطأ عن البراء و انس و ابن عمر في حديث تحول القبلة ان تحول المصلين كان الى الكعبة

و روى الفريقان ان الأرض زويت لرسول اللّه و رأى الكعبة فجعل محرابه بإزاء الميزاب.

و من طريق الامامية أورد في الوسائل نحو اربعة عشر حديثا في ان الكعبة هي القبلة. و اكثر هذه الأحاديث تصرح بان الكعبة هي التي صرف إليها رسول اللّه في هذه الآية. و لا مانع من ان تسمى الكعبة مسجدا باعتبار انها يسجد إليها.

او يقال ان الآية نزلت في السنة الثانية من الهجرة فكان الخطاب بجعل الكعبة قبلة عامة و متوجها لرسول اللّه و من معه من المسلمين و اهل المدينة و ضواحيها فجرى التعبير بالمسجد الحرام باعتبار سعة استقبالهم للكعبة باستقبال المواجهة و الاحترام و التعظيم مما يتحقق به ذلك عند الناس كما هو الظاهر من الآية. و ان استقبالهم للمسجد بهذا النحو يلزمه استقبال الكعبة بهذا النحو ايضا وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ اي نحوه بالنحو المتقدم دون الاستقبال الهندسي لان تكليف النائين به حتى مثل اهل المدينة بل ما كان عن مكة بمرحلة مثلا يستلزم التكليف بما لا يطاق.

و لا شك في انه كلما بعد المستقبل اتسعت وجهة استقباله للكعبة بالمواجهة الاحترامية التعظيمية و قد استقصينا الكلام في ذلك في رسالتنا في القبلة وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اليهود و النصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التحويل الى الكعبة هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ إما لأنهم يعلمون ان أمر القبلة و الاستقبال منوط بتشريع اللّه و أمره و إما لأنهم يعلمون ان الكعبة هي بيت اللّه من زمان ابراهيم. و في مجمع البيان لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم انه يكون نبي صفاته كذا و كذا و انه يصلي الى القبلتين و نحوه في الكشاف وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ من أقوالهم و أفعالهم عنادا على خلاف ما يعلمون

سورة البقرة (2): آية 145

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

143 وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ و لم يوفقوا للإيمان بك

ص: 136

بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ أي الكعبة وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ اتباعا خصوصا بعد ما أمرت بالتوجه شطر المسجد الحرام وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فان النصارى تتوجه الى المشرق و اليهود الى بيت المقدس وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ هذا توبيخ لهم و تبكيت بأنهم اصحاب أهواء فاسدة لا يتبعها الا الظالمون. و خوطب بذلك رسول اللّه لقطع اطماعهم و لبيان فضله لأنه لا يتبع أهواءهم ابدا بدليل قوله تعالي

سورة البقرة (2): الآيات 146 الى 148

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148)

وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ 144 الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ

اي يعرفون رسول اللّه على الصفات التي وصف بها في كتبهم و الاسم الذي سمي به بنحو لا ينبغي الريب فيه كما في تفسير البرهان عن محمد بن يعقوب الكليني بسند فيه رفع عن امير المؤمنين عليه السلام. و عن علي بن ابراهيم في الحسن كالصحيح عن الصادق (علیه السلام).

و في الآية التفات من الخطاب الى الغيبة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ و ان غابوا عنهم مدة طويلة وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ به من كتبهم و هذا الفريق هم من عدى الأوباش الذين لا يعلمون شيئا من كتبهم و من عدى الذين اسلموا او شهدوا بالحقّ و أصروا على الغيّ 145 الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي هو الحق من ربك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين فيما تقوم عليه الحجة العلمية. و الخطاب في النهي يراد به غير النبي كما في قوله تعالى في سورة الاسراء 24 و 25 إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ- أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما- و قل- و اخفض- و قل 146 لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها

لم أجد عن النبي و اهل البيت شيئا في ذلك. و يمكن تفسير الآية بالنظر في سورة المائدة في قوله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ «الآية» فالمعنى و اللّه العالم و لكل من الأمم الذين شرع اللّه لهم احكاما شريعة ولاه اللّه إياها و امره باتباعها ما لم تنسخها الشريعة و الوجهة التي بعدها فيولى اللّه الناس إياهااسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

ص: 137

و جاء قوله تعالى اسْتَبِقُوا

متعدّيا الى المفعول بنفسه هاهنا و في آية الانعام و في سورة يوسف وَ اسْتَبَقَا الْبابَ و في سورة يس فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ و لو كانت بمعنى الاستباق و طلب السبق بكسر السين لوجب تعديتها بإلى. و النصب بنزع الخافض في مثل المقام بعيد من كرامة القرآن في عربيته و فصاحته. فالوجه انها في هذه الموارد من طلب السبق بفتح السين و الباء و هو ما يحصله السابق بسبقه و منه السبق المجعول في رهان المسابقة و في جعل الخيرات و الباب و الصراط في الآيات سبقا بفتح السين و الباء كناية لطيفة عن انه هو الغاية المطلوبة و الفائدة المقصودة في المسابقة و حاصل المعنى و اللّه العالم لكل أمة شريعة أمرت باتباعها و قد نسخ بعض الشرائع فسارعوا الى الحق و اطلبوا ان تكون خيرات الأحكام و هي التي لم تنسخ و جاء بها الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم هذه اطلبوها سبقا لكم و الغاية الشريفة من مسارعتكم و ما هي إلا شريعة رسول اللّه و القرآن الكريم. و من ذلك

و أهم مصاديق الخيرات هي الولاية كما عن الكافي عن الباقر «ع»

كما في آية إِنَّما وَلِيُّكُمُ. و حديثي الغدير. و الثقلين و غير ذلك.يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

و باعتبار السياق يكون المعنى ان يجمعكم يوم القيامة للحساب و الجزاء من عذاب او نعيم و لا يعجز اللّه حشركم و جمعكم فإنه يأتي بكم أينما تكونوا. و اما باعتبار عموم اللفظ و كثرة مصاديقه فقد روى في تفسير البرهان نحو اثنتي عشر رواية عن الأئمة «ع» انهم استشهدوا بالآية لجمع اللّه اصحاب الحجة المنتظر من أطراف الأرض الى النهوض مع الحجة عليه السلام.

سورة البقرة (2): الآيات 149 الى 150

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

و للتأكيد في امر استقبال الكعبة في الصلاة و عمومه في جميع الأحوال سفرا و حضرا قال اللّه تعالى 147 وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ سواء كان الخروج من مكة الى المدينة او من المدينة الى الشام بحيث يكون الوجه في المسير الى بيت المقدس على الانحراف اليسير او الاستقامة ام كان الى جهة مكة او المشرق او المغرب فَوَلِّ وَجْهَكَ في جميع هذه الأحوال و جميع الجهات شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه وَ إِنَّهُ اي التوجه الى المسجد الحرام في الصلاة على الإطلاق المنصوص عليه لَلْحَقُّ مِنْ امر رَبِّكَ و شريعته الجارية على الحكمة و كرامة البيت و ان اللّه لا يضيع اجركم في امتثال امره وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 148 وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ

ص: 138

الْحَرامِ و هذا الخطاب للرسول و ان كان كافيا في عموم الشرعية و التكليف للمسلمين لكن الحكمة تقتضي التأكيد بالنص و تأكيده فقيل كما سبق وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ خطاب للرسول و أمته فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و ان كنتم عند بيت المقدس و في بلده لِئَلَّا اي شرع لكم ذلك بالأوامر المذكورة لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ و ان كانت داحضة (1) هذا يقول اتبع قبلتنا و هذا يقول تركوا كعبتهم مع افتخارهم بسابقتها و فضلها و هذا يقول تركوا قبلة ابراهيم و إسماعيل.

او و هذا يقول مكتوب ان النبي يصلي الى القبلتين. و هذا يقول مكتوب انه يصلي الى الكعبة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم استثناء من الناس فان هؤلاء الظالمين لا يقطعون جدلهم و احتجاجهم بالأباطيل حسب ما تغريهم اهواؤهم و ظلمهم فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي اي و لتكن خشيتكم لي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بتشريع الاستقبال للقبلة المرضية قبلة ابراهيم و حصره بها وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اي و لأجل ان تهتدوا الى معرفة لطف اللّه بإتمام النعمة بذلك عليكم و قطع حجج المجادلين لكم. او و الى اقامة الصلاة بحدودها الى هذه القبلة و لكن لما كان الاهتداء من افعال الإنسان و ناشئا عن اختياره للتفكر و مجانبته لشكوك الأهواء و عنادها قيل في تعليله لعل و كذا كل غاية في القرآن هي من اعمال العباد و راجعة الى اختيارهم نحو لعلكم تشكرون. تتفكرون لم تخرج مخرج الجزم في التعليل.

سورة البقرة (2): الآيات 151 الى 152

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152)

و قد لطف اللّه في امر القبلة بعباده لهذه الغايات الشريفة 149 كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ و كونه منكم اقرب الى انقيادكم للإسلام يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ بدينه و شريعته و تعاليمه وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مما يهمكم و يزينكم و يهذبكم و ان تعدوا نعمة اللّه في ذلك لا تحصوها 150 فَاذْكُرُونِي بما فيه سعادتكم

ص: 139


1- في سورة الشورى 15 حجتهم داحضة. و في الجاثية 24 و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم الا ان قالوا ائتوا بآبائنا ان كنتم صادقين

و كما لكم من العبادة و الطاعة و الشكر لنعمي أعد عليكم بالجزاء و اللطف و النعمة و المزيد.

و لأجل المقابلة اللفظية جرى التعبير عن ذلك بقوله تعالى أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي نعمائي عارفين بها وَ لا تَكْفُرُونِ لا تكفروني نعمتي لا تجحدوني نعمتي كفره حقه جحده

سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 157

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

151 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا في امر دينكم و عبادتكم و طاعتكم للّه و اجتناب معاصيه و في مصائبكم بِالصَّبْرِ فانه نعم المطية و مفتاح الفرج و وسيلة البشرى بالصلوات من اللّه و الرحمة وَ الصَّلاةِ عطف على الصبر فانها باب اللّه في مناجاته و الاستعانة به و معراج السعادة و الناهية عن الفحشاء و المنكر إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ و كفى بذلك بشرى 152 وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هم أَمْواتٌ بَلْ هم أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ بحياتهم لأن عالمهم غير عالمكم. و قد اخبر اللّه جلت آلاؤه عما لحياتهم السعيدة من الكرامة و الحبور كما في الآية الثالثة و الستين بعد المائة و اللتين بعدها من سورة آل عمران 153 وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ يا ايها الذين آمنوا كما يقتضيه سياق الخطاب. او يا ايها الناس بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ على ذلك رضى بما قضى اللّه و تسليما لحكمته فلا يصدهم ما ذكر عن شكر ما هم فيه من نعمة و لا عن عبادته و طاعته و الجهاد في سبيله بل هم 154 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ و كل ما هو لنا من حياة و نعمة إنما هو من عنده بدون استحقاق لنا في أقل شي ء من ذلك يفعل بحكمته ما يشاء وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ في الآخرة فيعاملنا بصبرنا او جزعنا الذي هو كفران لنعمه 155 أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ثناء جميل وَ رَحْمَةٌ بالثواب و الجزاء وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ الى الحق بصبرهم و تسليمهم للّه

ص: 140

و علمهم و اعترافهم بأنهم للّه و انهم اليه راجعون

سورة البقرة (2): آية 158

إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

156 إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ موضعان معروفان بمكة يسعى بينهما في الحج و العمرة مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ من معالم اعمال الطاعة التي جعلها اللّه في الحج و العمرة و ان عرض ان المشركين جعلوا عليهما الأصنام كما جعلوها على البيت الحرام الى ان ألقاها عنه رسول اللّه في فتح مكة إذ أصعد امير المؤمنين على كتفيه و رمى بها الى الأرض فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما الحج و العمرة معروفان و التطوف الطواف. و سمي السعي تطوفا باعتبار تكرره فيكون كالطواف الذي يرجع الى مبتداه و طاف به أعم من الطواف حوله و جعله في وسط المطاف كالطواف بالبيت و من المرور به في الطواف كما تسمى الكثيرة الخروج من دارها طوّافة بالبيوت. و قد اتفقت الرواية من المسلمين على ان قريشا جعلوا من أصنامهم على الصفا و المروة فتوقف المسلمون من الطواف بهما لمكان الأصنام فرفع توهم التحريم بقوله لا جُناحَ لأنها من شعائر اللّه و ذلك لا ينافي الوجوب كما ثبت من السنة و عليه اجماع الإمامية و اكثر الجمهور.

ففي تفسير البرهان عنه أي عن محمد بن يعقوب في الكافي في الحسن كالصحيح عن أبي عبد اللّه «ع» في حديث حج النبي «ص» و ان المسلمين كانوا يظنون ان السعي بين الصفا و المروة شي ء صنعه المشركون فأنزل اللّه تعالى إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ الآية.

قلت و لم أجد هذا الكلام في مظانه في الكافي.

و عن العياشي قال ابو عبد اللّه في خبر حماد بن عثمان انه كان على الصفا و المروة أصنام فلما ان حج الناس لم يدروا كيف يصنعون فأنزل اللّه هذه الآية فلما حج النبي رمى بها.

و في الكافي في باب السعي في المرسل المعتبر عن أبي عبد اللّه «ع» ان رسول اللّه «ص» شرط على قريش في عمرة القضاء ان يرفعوا الأصنام من الصفا و المروة فجاؤا اليه و قالوا يا رسول اللّه ان فلانا لم يسع بين الصفا و المروة و قد أعيدت الأصنام فأنزل اللّه عزّ و جلّ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما و ذكر القمي في تفسيره نحوه.

و فيه ايضا ان عمرة القضاء كانت سنة سبع من الهجرة. و ذكر الآية من أولها و لم ينسب شيئا من ذلك الى رواية وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً تجي ء صيغة تفعل للاتخاذ و الجعل نحو توسد الحجر.

و قد يتجلى عليها معنى الطلب و الرغبة و التحصيل نحو تعرّفت و تعلمت و تبصرت من البصيرة في

ص: 141

غير المطاوعة. و من ذلك قول امرؤ القيس في معشوقته:

«تنورتها من أذرعات و دارها بيثرب أدنى دارها نظر عالي»

فالمعنى و من اتخذ الخير المشروع طاعة بطلب لها و رغبة. و لا دليل من اللغة و لا من هيئة التطوع او مادته على اختصاصه بالمستحبات. بل ان المقام يأبى ذلك فإن السعي حق في الحج و العمرة المندوبين يجب بالشروع فيهما. و حاصل الآية ان التطوف بالصفا و المروة خير لأنه تعظيم لشعائر اللّه و طاعة له في ذلك من تطوع خيرا فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ بالطاعة لا يخفى عليه شي ء منها و مجاز عليها. و إن كان الشكر مختصا بالنعمة و اليد فنسبته الى اللّه مجاز

سورة البقرة (2): الآيات 159 الى 163

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)

157 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ الواضحات في الإرشاد وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ و أوضحنا دلائله فِي الْكِتابِ و العموم في الكتاب للقرآن و غيره من كتب اللّه أنسب بعموم التوبيخ و قيام الحجة و استحقاق اللعنة. و لذلك مصاديق كثيرة. و منها ما رواه في البرهان عن العياشي أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ يطردهم عن رحمته وَ يَلْعَنُهُمُ أي يدعو عليهم بالطرد عن الرحمة اللَّاعِنُونَ 158 إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا اعمالهم وَ بَيَّنُوا ما كانوا يكتمونه و غيره مما ينبغي بيانه من الحق فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ على من تاب حق التوبة الرَّحِيمُ 160 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ و طردهم عن رحمته وَ لعنة الْمَلائِكَةِ اي دعائهم باللعنة وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ بلعنهم للظالمين و الجاحدين للحق. و من طرده اللّه عن رحمته فهو معذب 162 خالِدِينَ فِيها اي في اللعنة فهم خالدون في العذاب لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ من النظرة و الإمهال في العذاب و الإمهال للاعتذار و التوبة 161 وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ في الإلهية و صفاتها لا شريك له فيها لا إِلهَ إِلَّا هُوَ

ص: 142

و هذه العبارة في توحيد اللّه في الإلهية و نفي ما عداه فيها أوضح من ان تشوش بقواعد الإعراب الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ و قد مر تفسير الكلمتين في بسملة الفاتحة. و لعمر الحق ان مضمون هذه الآية الكريمة في وجود الإله و وحدانيته في الإلهية و إبداع العالم بحكمته و ارادته و رحمانيته و رحمته امر تجلوه الفطرة للعقول الحرة بأوضح المجالي. و لكن اللّه جلت آلاؤه شاء بلطفه ان يستلفت العقول الى ذلك بالحجة القيمة بنحو يكتفي منه العامي بنظرته البسيطة و يستنبط العالم لها بحسب استعداده في العلوم من كل شي ء يجلوه العلم برهانا كافيا.

سورة البقرة (2): آية 164

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

فذكر هنا جلت الطافه بعض الآيات المشاهدة من خليقته و قال 162 إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ و ما يرى فيها من الكواكب الثابتة و السيارات المرتفعة بعضها عن بعض على مدار مخصوص و المستمرة كل على سيره المنتظم على منطقة البروج فضلا عما يعرف بالعلم من فوائد سير السيار على تلك المنطقة وَ الْأَرْضِ و ما فيها من الجبال و حكمها الباهرة. و منها تفجر العيون من أعاليها و إخراج النار من براكينها.

و من انواع المعادن. و من البحار و تياراتها و ما في ذلك من الحكم وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ على نظام موزون مستمر متماثل في ايام السنين يزيد النهار في كل محل من نصف الأرض الشمالي بمقدار ما ينقص في ذلك اليوم من مثل ذلك المحل في العرض من النصف الجنوبي. و تجري نقيصة الليل و زيادته على عكس النهار في المحال المتماثلة في العرض من النصفين وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من تجارة البلدان النائية و الوصول الى البلاد البعيدة و كيف سخرت لها الرياح المسماة بالتجارية. فترى السفن تجري في زمان واحد و بحر واحد كل الى مقصدها شمالا او جنوبا او شرقا او غربا وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بالنبات و الشجر و النمو بَعْدَ مَوْتِها بكونها قاحلة ماحلة و أوجد فيها روح قوة الإنبات لا تحصل بالدوامل (1) العادية. و لا الماء الجاري نعم قد يحصل من القوة شي ء باطيان الفيضان المتشبعة بروح المطر وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ببركة إحيائها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ التي يسمونها استوائية

ص: 143


1- الدوامل ما يداوى بها ضعف الأرض في الإنبات من سماد و نحوه

و قطبية و موسمية و تجارية. و ما في استقامتها و هدوّها في البحر المسمى بالمحيط الهادئ أي الساكن و هو الواقع ما بين آسيا و امريكا مع ان مساحة قطره من المشرق الى المغرب تزيد على سبعة آلاف ميل و من الجنوب الى الشمال اكثر من ذلك. و استقامة أنواعها ايضا في البحر المسمى بالمحيط الأطلسي و هو الواقع بين أوروبا و امريكا و ربما يبلغ عرضه اربعة آلاف ميل فلا يكون في هذين المحيطين العظيمين و الطريقين الموصلين ما بين الدنيا القديمة و الدنيا الجديدة خطر العواصف و الأعاصير التي تكون في بحر الصين و الهند و بحر انتيلة المقابل لأمريكا الوسطى وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ يجري حيث توجهه القدرة و الحكمة تراه في محل واحد ينزل مطره قطرات و سحا و هكذا و تتخلل بين ذلك فترات و احوال مختلفة في نزوله و بينما هو واقف إذ اقلع مسرعا او على تأن. هذا و في كل أمر من هذه الأمور و كل حال من هذه الأحوال المنتظمة بأحسن نظام يجد العقل الحر دلالة واضحة على ان كلا من ذلك إنما هو من إيجاد إله قادر عليم حكيم و تدبيره بحسب ارادته و حكمته و رحمته. و دلالة جلية على انه وحده لا شريك له في الإلهية و هذا الخلق العجيب و التدبير المنتظم و لو كان معه إله لاختل هذا النظام و فسدت المخلوقات كما قال جل شأنه في سورة الأنبياء لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا و في سورة المؤمنون وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و قد جرى الكلام بأكثر من هذا الشرح في مضامين هذه الآيات في الجزء الثاني من المدرسة السيارة في صفحة 116- الى 125 و 155 الى 160 و في الجزء الثالث في صحيفة 17 و 18 و أنى يبلغ الشرح و البيان معشار ما في هذه الآيات من اسرار القدرة و الحكم الدالة على الإله و توحيده. و على الإجمال ان فيما ذكر في الآية الكريمة لَآياتٍ باهرات و دلالات نيرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و كلما تفكروا فيما ذكر ظهرت لعقولهم من الآيات و الدلالات اضعاف ما عرفوه

سورة البقرة (2): آية 165

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)

163 وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً قد مر الكلام في الند في الآية الثانية و العشرين. و اتخاذ الأنداد أعم من تأليههم و اتباعهم على ظلمهم و باعتبار القسم الثاني جاءت الرواية عن الباقر عليه السلام كما في التبيان و البيان. و عن العياشي مرفوعة عنه

ص: 144

(علیه السلام) و في البرهان عن الكافي و اختصاص الشيخ المفيد مسندة. و قيل في هذه الآية من دون اللّه باعتبار ان اتخاذ الأنداد حتى بالمعنى العام المذكور انما هو نكوص عن معرفة اللّه و حقيقة إلهيته و قدس توحيده و عبادته او نكوص عن طاعته و اتباع شريعته و من امر باتباعه يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لصدق عرفانهم له في إخلاصهم في توحيده و يقينهم بأن الخلق و الأمر بيده و هو الرحمن الرحيم وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا باتخاذهم الأنداد و تعديهم حدود اللّه في العدل إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ و يشاهدون أهواله و انه ليس من دونه نصير أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً جملة ان القوة أي مصدرها مفعول ليرى وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ عطف على مفعول يرى.

و في الآية توبيخ شديد و تسفيه لهؤلاء بالإشارة الى انهم لا يهتدون بعقولهم و دلالة العقل على وحدانية اللّه في الإلهية و انحصار القوة الإلهية به. و لزوم اتباع أوامره فيمن امر باتباعه.

و اتباع نواهيه فيمن نهى عن الضلال باتباعه. و لا يهتدون الى اليقين بما توعد اللّه به من انواع العذاب الأليم في يوم القيامة. و انه ليس من دونه وليّ و لا نصير. بل هؤلاء كالبهائم لا تلتفت إلا الى ما تراه و تحسه. فلو ان هؤلاء الظالمون حينما يرون بالحس عذاب القيامة و ما تذكره الآيتان بعد هذه الآية من أهوالها و يرون انحصار القوة الإلهية باللّه و شدة عذابه لأقلعوا عن غيهم و اتخاذهم الأنداد و أنابوا الى توحيد اللّه و طاعته. و حذف جواب «لو» لدلالة المقام عليه اختصارا. و ليقدر بكل نحو يناسب المقام. قال امرؤ القيس

«فلو أنها نفس تموت سوية و لكنها نفس تساقط أنفسا»

و قد مرّ بعد الآية السابعة و العشرين شي ء من شواهد الحذف لدلالة المقام

سورة البقرة (2): آية 166

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)

164 إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا في التبيان و البيان العامل في إذ قوله تعالى شَدِيدُ الْعِقابِ و الأظهر انها بدل من إذ يروا العذاب او عطف بيان فالعامل فيها «لو يرى» وَ رَأَوُا الْعَذابَ جميعا التابعون و المتبوعون وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ السبب هو الحبل الذي يتوصل به الى الصعود فإذا انقطع بالشخص المتعلق به آيس من نجاته من ورطته. كنى بذلك عن انقطاع

ص: 145

آمالهم بوسائلهم التي كانوا يتوهمونها

سورة البقرة (2): الآيات 167 الى 168

وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

165 وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً لو للتمني و التقدير لو يمكن ان لنا كرة كما تقدمت الإشارة اليه في الآية التسعين. و قيل انها لا تحتاج الى جواب كجواب الشرط. و قال بعضهم هي لو الشرطية أشربت معنى التمني و معناه انها تحتاج الى الجواب و لكن الغالب حذفه لدلالة سياق الكلام عليه. و احتجوا بقول مهلهل بن ربيعة

فلو نبش المقابر عن كليب فيخبر بالذنائب أي زير

بيوم الشعثمين لقرّ عينا و كيف لقاء من تحت القبور

فجاء بجوابها مقرونا باللام. و لا بأس بهذه الحجة و قولها. و ربما يكون بعض ما جي ء بجوابها مع اللام في القرآن الكريم هي «لو» التي للتمني فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ من المتبوعين بنصب نتبرأ لوقوعها في جواب التمني بعد الفاء كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا أي تبريا ينفعنا في العمل و الجزاء في دار لا فيها عمل و لا حساب كَذلِكَ أي كما تبرأ بعضهم من بعض. و تقطعت بهم الأسباب و خابت آمالهم يُرِيهِمُ اللَّهُ في الآخرة أَعْمالَهُمْ في الدنيا حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ أي اسباب حسراتهم على أنفسهم فيما فرّطوا فيها و أقيم المسبب مقام السبب مبالغة و من مصاديق ذلك ما

في التبيان و البيان. روي عن أبي جعفر «ع» قال الرجل يكسب المال و لا يعمل فيه خيرا فيرثه من يعمل منه عملا صالحا فيرى الأول ما كسبه حسنات في ميزان غيره. و رواه ايضا في تفسير البرهان عن أمالي الشيخ المفيد مسندا عن أحدهما عليه السلام. و عن الكافي نحوه مسندا ايضا عن أبي عبد اللّه «ع» كما رواه عن العياشي ايضا

وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ و ذلك معنى الخلود فيها و العياذ باللّه 166 يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا الأمر هنا للإباحة مِمَّا فِي الْأَرْضِ من بعضه مما أحله اللّه حَلالًا في نفسه طَيِّباً في مأخذه و في ذلك بلاغ لكم تعيشون به من نعمة اللّه و رحمته في هناء و سلامة في الآخرة وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ و تقتفوا أثره في غوايته و طريق ضلاله و وسوسته لكم فإنه لا يوسوس لكم إلا بما يضركم و لا يدعوكم إلا الى ما يوبقكم في الدنيا و الآخرة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ لعداوته و لو تبصرتم فيما يغوي به الكفار

ص: 146

و الفساق لعرفتم انه لا يتخفى بعداوته لكم و ارادته مضرتكم في الدارين.

و روى في الكافي و التهذيب عن الصادق و الباقر عليهما السلام ان الحلف على ذبح الولد و الحلف بالطلاق و العتاق و النذر و ان يقول عليّ الف بدنة و انا محرم بألف حجة او ان جميع مالي هدي و كل مملوكي حرّ ان كلمت فلانا إن هذا كله من خطوات الشيطان كما في البرهان مسندا عن العياشي مرفوعا.

و روى في الدر المنثور فيما أخرجه الرواة و صحح بعضه الحاكم شيئا من نحو هذا عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن و جابر بن زيد

سورة البقرة (2): الآيات 169 الى 173

إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

167 إِنَّما يَأْمُرُكُمْ الشيطان بغوايته و وسوسته بِالسُّوءِ بحيث تعرفون إذا نظرتم بعين البصيرة انه سوء يزجر عنه العقل و الشرع وَ الْفَحْشاءِ و هو ما يستعظم قبحه وَ أَنْ تَقُولُوا كاذبين عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ انه منه 168 وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للضالين عن الحق اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الدين و الشريعة قالُوا لا نتبع ذلك بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الاعتقاد و العمل و يقلدون بذلك آباءهم على عمى و ضلال فسفها لهم أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ و هم كذلك إذ كانوا على غير ما يهدي اليه العقل و الشرع 169 وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في أقوالهم هذه التي لا يتفكرون في فساد معانيها و لا يعرفون غلطها و ما يقولونه فيها كَمَثَلِ الأصم الَّذِي يَنْعِقُ كنعاق الراعي في غنمه بِما لا يَسْمَعُ و لا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولا إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً و صوتا بلا معنى و انهم في ذلك صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ كيف ينطقون 170 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ نعمه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ليس المراد منه حقيقة الشرط و تعليق الشكر على عبادته. بل لبيان ان الشكر لنعمه ملازم لعبادته عن معرفة بأنه إله العالم و خالقه و مدبره 171 إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ و هي الحيوان الذي عرض عليه

ص: 147

الموت و المراد منها غير الحيوان المذكى بما شرعه اللّه له من اسباب التذكية المحللة للأكل وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ نص على لحم الخنزير الشامل هنا لشحمه عناية ببيان تحريمه و ان كان من الميتة المحرمة وَ ما أُهِلَّ بِهِ و رفع الصوت عند ذبحه او نحره بالتسمية لِغَيْرِ اللَّهِ كالذي يذبح قربانا للصنم او الوثن و الشجر او الذي يذكر عليه اسم الصنم و الوثن و كلاهما مروي فإنه من الميتة.

و الحصر في الآية اضافي بالنسبة الى المأكول من الحيوان فَمَنِ اضْطُرَّ إلى أكل شي ء من ذلك بمقدار ما يحفظ به حياته حال كونه غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ و قد جاء في القرآن باغ و البغي و ما يشتق منه في اكثر من عشرين موردا على معنى واحد لا يتعدى بنفسه و إنما يعدى بعلى.

و اختلفت كلمات المفسرين و اللغويين في تفسيره بحسب ما يتراءى لهم من مناسبات الموارد لاستعماله لا لاختلاف فيه او اختلافه في تلك الموارد. فقالوا انه الحسد او الظلم او الاعتداء او الفساد من بغى الجرح إذا فسد او مجاوزة الحد عن الحق او عن القصد كما في تبيان الشيخ و النهاية و القاموس و المصباح و الكشاف و مجمع البيان و هذا غير معنى الباغي بمعنى الطالب.

و منه في القرآن وَ يَبْغُونَها عِوَجاً و ابتغى و يبتغي و تبتغي و نحوه مما يتعدى بنفسه.

و في الكافي و معاني الأخبار عن البزنطي عمن ذكره عن أبي عبد اللّه «ع» الباغي الذي يخرج على الإمام و العادي الذي يقطع الطريق.

و سندها صحيح باعتبار رواية الصدوق و كون البزنطي ممن اجمع على تصحيح ما يصح عنه و بذلك فسره في المبسوط و الشرائع و القواعد و الإرشاد و اللمعة.

و في الروضة انه الأشهر.

و في البرهان عن تفسير العياشي عن حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام الباغي الخارج على الإمام.

و عن محمد بن إسماعيل يرفعه الى أبي عبد اللّه «ع» الباغي الظالم و العادي الغاصب.

و في التبيان و قيل غير باغ على إمام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحقين. و في البيان هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام. و فيه نظر فإن روايته عن الباقر غير مذكورة و الرواية عن أبي عبد اللّه «ع» ليست منحصرة بذلك.

ففي الكافي و التهذيب عن حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه «ع» قال الباغي باغي الصيد و العادي السارق.

و في رواية الفقيه و التهذيب عن عبد العظيم الحسني عن أبي جعفر الجواد (علیه السلام) الذي يبغي الصيد لهوا و بطرا.

و تفسير الباغي في هذه الروايات باعتبار

ص: 148

ان ما ذكر فيها من مصاديق البغي و الباغي. اما الخارج على الإمام فظاهر و اما طالب الصيد لهوا و بطرا فباعتبار ان هذا النحو من التصيد مصداق من مصاديق البغي.

ففي الكافي و التهذيب عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) ان الخروج الى الصيد صيد اللهو ليس بمسير حق.

و في الكافي و التهذيب و عن المحاسن انه مسير باطل.

و عن الخصال عن الكاظم (علیه السلام) قال قال رسول اللّه اربعة يفسدن القلب و ينبتن النفاق وعد منها الصيد.

ثم ان كلا من الروايتين في تفسير الباغي تكون قرينة على ان لا ينحصر تفسير الباغي بما ذكرته. بل هو احد المصاديق و لكن خرج في نقل الرواية و السؤال و الجواب بهذا الأسلوب. اذن فكل من صدق عليه انه باغ او عاد لم يجز له ان يتناول من الميتة و ان اضطر إليها أخذا بإطلاق الكتاب المجيد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إذا أكل مما ذكر بمقدار ما يحفظ به نفسه و ما فوق هذا المقدار محرم لأنه غير مضطر اليه

سورة البقرة (2): الآيات 174 الى 177

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 172 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ اي يستبدلون به ثَمَناً و مها بلغ ذلك الثمن كان قَلِيلًا بالنسبة لكتمانهم لما انزل اللّه أُولئِكَ خبر ان ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ من هذا الثمن الخسيس إِلَّا النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ فلا يغتروا بأن الناس في الدنيا الفانية يكلمونهم و يزكونهم فإن لهم شديد العقاب وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 173 أُولئِكَ الَّذِينَ في عملهم هذا قد اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ ففعلوا بذلك فعل الصابر على النار بصبر عظيم فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ 174 ذلِكَ و هو ان اللّه لا يكلمهم و لا يزكيهم و لهم عذاب اليم بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ بينا هداه كافية دلائله وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ شقاقا و نفاقا لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ امده 175 لَيْسَ الْبِرَّ ايها الناس هو أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ فيما اعتدتم عليه من صور عباداتكم التي لا يسعكم

ص: 149

تركها بين الناس قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ اي نحوهما على سبيل المثال وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ حق الإيمان و لم يشرك به شيئا و لم يهدم ايمانه باتباع الهوى و الشيطان في مخالفة أوامر اللّه و نواهيه وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يوم القيامة و حقيقة الإيمان به ان يظهر اثره على أفعاله و أقواله و أخلاقه وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ القرآن و يلزمه الإيمان بما ذكر فيه من الكتب الإلهية وَ النَّبِيِّينَ و رأس ذلك و أساسه هو الإيمان بخاتمهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فإنه بالإيمان به ينفتح باب الايمان بمن سبقه من الأنبياء لأنه (صلی الله علیه و آله) اخبر بهم و ذكروا في القرآن المنزل عليه و لو لا ذلك لما وجد الطريق الى معرفتهم لأن نقل معجزاتهم و ادعاءهم النبوة منقطع مريب وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ اي حب اللّه خالصا لوجهه الكريم ذَوِي الْقُرْبى قال في التبيان و البيان أراد به قرابة المعطي. أقول و هو اقرب من حيث اللفظ و فيهما ايضا و يحتمل ان يكون أراد قرابة النبي.

أقول و هو اقرب في العادة الى إيتاء المال على حب اللّه خالصا لوجهه فإنه ابعد عن الدواعي النفسانية و حب الأقرباء و في البيان و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السلام. قلت و لم أجد الرواية بالنسبة لهذه الآية وَ الْيَتامى المحتاجين وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ المسافر المحتاج في سفره و ان كان له مال لا يصل اليه وَ السَّائِلِينَ منه مالا وَ فِي عتق الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ بحدودها وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ذكر الشرط لبيان هذا النحو من العهد و هو الذي يصدر منهم وجي ء بصيغة الجمع للاشارة الى العهود التي تقع بين الجماعات من الناس و للتعريض بغدر بني النضير و قريضة و أمثالهم ممن لم يرع في العهد إلا و لا ذمة وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ الفقر و نحوه وَ الضَّرَّاءِ المرض و نحوه وَ حِينَ الْبَأْسِ الحرب و شدتها و نصب الصابرين على المدح لما في صبر هؤلاء الصابرين من الفضيلة الكبرى إذ عليه يبتني الثبات على الدين و الطاعة للّه و شكر نعمه و الشدة و الاقدام في نصرة الحق و السلامة من

ص: 150

الضلال و الارتداد أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ و من المعلوم انه لم يجمع هذه الصفات من صحابة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الا امير المؤمنين علي عليه السلام و استقراء الأحوال. و منها يوم أحد و الأحزاب و خيبر و حنين يعرفك اختصاصه (علیه السلام) بهذه الفضيلة. فهو معني بهذه الآية يقينا و اما غيره فلا أقل من الشك في جامعيته لها. و في مجمع البيان عن الزجاج و الفراء انها اي هذه الصفات و جامعيتها مخصوصة بالأنبياء المعصومين و ليت شعري ما ذا نقموا من أبي الحسن.

و اما قوله (تعالى) وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فهو أسلوب فائق من البلاغة يخرج الكلام به من صورة الفرض الذي لا يهم في البيان الى صورة الوقوع و الحجة بالعيان. قال الحارث بن حلزة اليشكري

و العيش خير في ظلال النو ك ممن عاش كدا

و قال النابغة الجعدي

كأن غديرهم بجنوب سلى نعام قاق في بلد قفار

و قال الحطيئة

و شر المنايا ميت وسط اهله كهلك الفتى قد اسلم الحي حاضره

فالغرض من الآية هي الإشارة الى الذين اتصفوا بهذه الصفات و أشرقت الأرض بنورهم و الاحتجاج و المقابلة بهم لا مجرد المقابلة بين تولية الوجه قبل المشرق و المغرب و بين حقيقة البر. و لو قيل و لكن البار من آمن الى آخره لخرج الكلام الى الفرض لا الوقوع. و كذا لو قيل و لكن البر بر من آمن

سورة البقرة (2): آية 178

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)

176 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ في الشريعة رعاية لحق المقتول و أوليائه الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى القصاص أخذ الجاني بمثل جنايته و اتباع اثره فيها و هذا خاص بالعمد لقوله تعالى في سورة النساء وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ الآية. و على ذلك اجماع المسلمين و أحاديثهم و ما كل المسلمين تتكافأ دماؤهم و تتساوى. بل الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ و يقيد اطلاق جنسهما في شموله للذكر و الأنثى بقوله تعالى وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى كما يتقيد اطلاق هذا بقوله تعالى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ فإن الأمة المسلمة لا تكافئ المسلمة الحرة. و فيما يتعلق بهذه الآية مبحثان «الأول» فيما خرج من إطلاقها و فيه مسائل.

«الأولى» لا يقتل مسلم بكافر و ان كان ذميا. و عليه إجماع الإمامية و كثير من الجمهور.

و لم يعرف الخلاف فيه منهم الا عن الشعبي و النخعي و أبي حنيفة و صاحبيه. و يردهم قوله تعالى في

ص: 151

سورة النساء وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا نعم تثبت الدية للذمي بنص الآية الرابعة و التسعين من سورة النساء. فإن كان ذلك منافيا لظاهر نفي السبيل كان تخصيصا له و يبقى ما عداه لحكم العموم. و يحتج عليهم ايضا بما

أخرجه احمد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي بأسانيدهم عن أبي جحيفة عن علي عليه السلام في الصحيفة التي عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لا يقتل مسلم بكافر.

و اخرج احمد و النسائي و ابو داود بأسانيد صحيحة عندهم عن أبي حسان تارة و عن قيس بن سعد اخرى عن علي (علیه السلام) في الصحيفة التي عهد بها رسول اللّه. المؤمنون تكافأ دماؤهم- لا يقتل مؤمن بكافر الحديث»

و المراد من تكافأ دمائهم ان الصغير يكافئ الكبير و الوضيع الشريف. و عن احمد و ابن ماجة عن ابن عمر عن النبي (صلی الله علیه و آله) مثله. و في كنز العمال في ذلك عدة أحاديث. نعم المشهور عند الإمامية و لعله اجماع ان المسلم إذا اعتاد قتل اهل الذمة قتل تأديبا و لا كرامة له كما نطقت به أحاديثهم. و في الكنز عن عبد الرزاق في جامعه وق عن عمر نحو ذلك «الثانية» لا يقتل الأب بابنه بإجماع الإمامية و أحاديثهم الكثيرة و هو المعروف من فقهاء الجمهور و رواه في كنز العمال مما أخرجه ابن أبي شيبة و ابن ماجه و الطبراني في الأوسط و ابن عساكر و احمد في العلل و الدارقطني و عبد الرزاق في أحاديثهم عن عمر عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و أسنده الترمذي عن عمر و سراقة بن مالك عنه (صلی الله علیه و آله) و قال الترمذي ان العمل على هذا عند اهل العلم. و عن مالك ان ذبحه ذبحا او شق بطنه فعليه القود. و اما الأم فإنها تقتل بولدها على أصولنا إذ لم يثبت المخرج لها «الثالثة» لا يقتل حر بعبد و لا حرة بأمة سواء كان المقتول ملكا للقاتل او لغيره. و عليه اجماع الإمامية و أحاديثهم. قيل و هو مذهب الصحابة. بل لم يعرف الخلاف من الجمهور الا من النخعي حيث قال يقتل بعبده و عبد غيره. و قال ابو حنيفة يقتل بعبد غيره و يحتج عليها من حديثهم بما

أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي (صلی الله علیه و آله) لا يقتل حر بعبد.

و ما أخرجه ابن عبد الرزاق في جامعه عن عمر لا يقاد العبد من الحر. و ما أخرجه ابن أبي شيبة و القزويني ان أبا بكر و عمر يقولان لا يقتل المولى بعبده.

«المبحث الثاني» ان الآية مسوقة لبيان التساوي و التكافؤ فلا دلالة فيها على حصر القصاص و انحصاره بخصوصيات هذه المقارنات الثلاث بحيث لا يقتل كل الا بمن جعل في الآية مقارنا

ص: 152

له. و لا بما إذا كان القاتل واحدا. و يشهد لذلك اجماع المسلمين و أحاديثهم على عدم الالتزام بهذه المقارنات و في ذلك مسائل.

«الاولى» يعرف ما يحصل به التكافؤ و التساوي و الجبران في القصاص بالنظر الى السنة في التفرقة بين دية الرجل و المرأه «الثانية» إذا قتلت المرأة رجلا او قتل العبد حرا كفى قتل الجاني بإجماع الإمامية و حديثهم بانه لا يجني الجاني على اكثر من نفسه و لا يحضرني نقل خلاف فيه من الجمهور «الثالثة» إذا قتل جماعة واحدا بحيث لو انفرد كل منهم بجنايته كان بها التلف جاز أن يقتلوا به جميعا الا من كان لو انفرد لا يقتل به كالأب بالنسبة للولد و المسلم بالنسبة للذمي و الحر بالنسبة للعبد. و على كلي المسئلة اجماع الإمامية و أحاديثهم. و الجمهور و منهم في ملتقى الأنهر نقلوا عليه اجماع الصحابة و كأنهم لم يعتنوا بما يحكى من خلاف ابن الزبير و معاذ. بل لم يعرف الخلاف من فقهائهم الا من ابن سيرين و الزهري و ربيعة و داود و أصحابه اهل الظاهر. و الحجة ايضا على ما ذكرناه من القرآن الكريم اطلاق قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى و الذي بعد ذلك إنما ينظر الى المساواة و المقابلة لا الى التقييد. نعم كل واحد يردّ عليه من ديته بقدر ما على أصحابه من الجناية. و ظاهر بعض الأصحاب ان قتل الولي لكل واحد يتوقف على أداء ما يرد عليه من ديته. و في المسئلة فروع تتكفل بها كتب الفقه «الرابعة» إذا قتل الرجل امرأة جاز ان يقتل بها بعد أن يردّ أولياؤها ما يفضل به عليها و هو نصف ديته. و من ذلك و المسئلة السابقة يعرف الحكم فيما لو اشترك اكثر من واحد.

هذا و ان كتابة القصاص و شرعيته على المؤمنين بأن ينقادوا و يسلموا أنفسهم له إذا جنوا ليدل بالأولوية على كتابته على غيرهم من اهل الذمة و المستأمنين إذا قتلوا محترم النفس و لو بالعرض. و لا ينافي ذلك سقوطه بعفو الولي كل العفو. و جوار العفو و رجحانه بآيات العفو في القرآن الكريم او بعفو بعض العفو كأن يعفو عن خصوصية القتل و يصالحه على الدية كقوله تعالى فَمَنْ كان ممن عليهم القصاص عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ و في التعبير بالأخ ترغيب في العفو بالإشارة ان الجاني من المسلمين أخ اسلامي للولي و الولي اخوه و ينبغي للأخ ان يرعى

ص: 153

لأخيه اخوّته و يسامحه و يقيله عثرته شَيْ ءٌ صفة للمفعول المطلق النائب عن الفاعل اي بعض العفو و شي ء منه بأن رضي منه بالدية كما يدل عليه باقي الكلام فَاتِّباعٌ اي فالمعاملة المناسبة ان تكون بينهما بعد العفو و الشأن الذي ينبغي ان يكون بينهما في هذا المقام هو اتباع من الولي للجاني الذي استقرت عليه الدية بِالْمَعْرُوفِ كالنظرة إلى الميسرة وَ أَداءٌ من الجاني إِلَيْهِ اي الولي بِإِحْسانٍ كما احسن اليه بالعفو عن القصاص ذلِكَ اي شريعة العفو و الانتقال الى الدية بالاتباع بالمعروف تَخْفِيفٌ عليكم ايها الجانين مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ و عاد الى القتل فَلَهُ عَذابٌ في الآخرة

سورة البقرة (2): الآيات 179 الى 180

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

أَلِيمٌ 177 وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ المذكور حَياةٌ فانه احسن رادع للناس عن جرأتهم على قتل النفوس الذي ربما يجني حربا يفنى فيها كثير من الناس فإن القصاص قتل لا يقدم عليه لما فيه من ذلة الانقياد الى ما يعلمه من القتل صبرا حيث لا مانع و لا رادع. فهو فيه حياة للناس من حيث الأمن من القتل ظلما و مما تجنيه عواقبه و حياة لمن يرتدع عنه بخوف القصاص فهب انه مات اتفاقا بحق القصاص انسان واحد ظالم لكن تحفظ بذلك حياة كثيرين كما لا يخفى ذلك عليكم يا أُولِي الْأَلْبابِ و العقول الذين يعرفون الغلط في قول بعض الناس ان القصاص محض نقصان في حياة الإنسان. و قد كتب القصاص لغاية ان تتقوا قتل الناس خوفا منه او تتقوا اللّه في ذلك و لكن لأجل ان الاتقاء و التقوى امر اختياري للإنسان لا إلجاء فيه قيل فيه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 178 كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اي قرب منكم بان ظهرت أماراته بالمرض و نحوه إِنْ تَرَكَ خَيْراً اي مالا الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ بما هما والدان لا بقيد اجتماعهما في الحياة و الوصية نائب الفاعل لكتب وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ اقرب الأقرباء و قد يكونون اثنين او جماعة في مرتبة واحدة من القرابة و قد يكون الأقرب واحدا و جرى الجمع في الآية باعتبار الناس لا للتقييد بالجمع حَقًّا الظاهر انه حال من الوصية عَلَى الْمُتَّقِينَ للّه و في هذا تأكيد لكتابتها. و لا يخفى ان المسلمين مجمعون على ان هذه الوصية غير واجبة

ص: 154

بعد زمان من الهجرة الى آخر الأمر. و أجمعت الإمامية على ان شرعية الوصية للوارث غير منسوخة و على ذلك أحاديثهم. و يمكن ان يكون الوجوب المذكور في الآية كان في بدء التغيير بالشريعة لمواريث الجاهلية فإنهم كانوا لا يورّثون النساء و لا الأطفال و لا من يعجز عن حمل السلاح فاقتضت الحكمة ان يكون التغيير تدريجيا بنحو الوصية أولا ثم بأحكام المواريث فإن تغيير الميراث الجاهلي صعب على الناس. و لذا ترى كثيرا من القبائل حتى في هذه الأزمنة لا ينقادون للميراث الشرعي. بل يجرون على النحو الجاهلي

سورة البقرة (2): الآيات 181 الى 182

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

179 فَمَنْ بَدَّلَهُ اي الإيصاء مطلقا المدلول عليه بذكر الوصية لا خصوص الوصية المتقدمة كما يدل عليه التذكير المتكرر لضميره اربع مرات كما يشهد له ما استفاضت روايته عن الأئمة عليهم السلام بهذه الآية للوصية بالمال في سبيل اللّه و الحج بَعْدَ ما سَمِعَهُ و علم به و لو بالبينة فَإِنَّما إِثْمُهُ اي الذي يترتب على مخالفة الإيصاء عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فإن الموصي إذا لم يكن مقصرا بتأخير ما اوصى به خرج بالوصية عن عهدته و إثمه دينا كان او عينا و بقي الإثم كله على المبدّل إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لا يخفى عليه شي ء من ذلك 180 فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً ميلا عن الحق خطأ أَوْ إِثْماً كالوصية بما لا يخفى كونه معصية. و ظاهر الآية خوف ما وقع من الجنف أو الإثم لا خوف وقوعهما في المستقبل او الخوف في المستقبل كما لو قيل ان خاف او و من يخاف و مقتضى الخوف ان يكون ذلك في مقام الابتلاء و العمل و هو ما بعد موت الموصي و خوفهما هو الخوف من تبعات العمل بهما او ترك ردهما الى الحق و لو من باب الأمر بالمعروف للقادر عليه كما تقول خفت الأسد إذا خفت من تبعات عاديته فَأَصْلَحَ أصلح عمله و عمل الصالح برد الوصية الى الحق المشروع كقوله تعالى في سورة المائدة 43 فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ و نحوه في سورة المائدة 48 و 54 و غير ذلك بَيْنَهُمْ ظرف لأصلح و الضمير يعود الى الوارث و الموصى لهم كما يدل عليه المقام. و في مجمع البيان انشد الفراء في مثله

«أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر»

«و يصمّ عما كان بينهما سمعي و ما بي غيره وقر»

ص: 155

أي عما كان بينها و بين زوجها. و بما ذكرناه جاءت الرواية عن اهل البيت «ع» كما في الكافي في مرسل علي بن ابراهيم المضمر و صحيح محمد بن سوقه عن الباقر «ع». و في الفقيه في مرفوعة يونس عن الصادق «ع». و رواه ابن جرير من الجمهور في تفسيره عن ابن عباس و قتادة و الربيع و ابراهيم بل و السدي و لم يذكر خلافا صريحا إلا عن مجاهد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بيان للأمن من إثم التبديل المذكور في الآية و تخصيص عمومه و اكتفى برفع توهم الحظر لأن جهة الوجوب في هذا الإصلاح واضحة و لزيادة التأمين قال تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للمذنبين. فكيف يخاف من أصلح و ردّ جور الوصية الى حق الشريعة

سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 184

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

181 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ و فرض عَلَيْكُمُ الصِّيامُ و هو في اللغة الإمساك و الكف عن الشي ء قيل و منه قول النابغة الذبياني

«خيل صيام و خيل غير صائمة تحت العجاج و خيل تعلك اللجما»

و يراد به في الشرائع إمساك مخصوص على حسب ما تقتضيه المصلحة في تخصيصه و حدوده في الشريعة و لا يخرج بإرادة الخصوصية و لا بفهم الخاص بقرائن الشريعة عن كونه مصداقا للمعنى اللغوي كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي ككتابته عليهم و حظيتم بفضله و اللطف به كما حظوا. و قيل المراد تسلية المؤمنين بذلك و قد دلت الآثار على انه مختلف بحسب الشرائع في الحدود و الوقت.

ففي رواية العلل عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عن جده «ص» ان الصوم على الأمم كان اكثر مما هو على المسلمين في شهر رمضان.

و في رواية الفقيه عن حفص بن غياث عن الصادق عليه السلام ان صوم شهر رمضان لم يفرض على الأمم قبلنا و إنما فرض على الأنبياء.

و قد اختلفت روايات الجمهور في هذا المقام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بمعنى لتتقوا بلام الغاية و أبدلت بلعلّ لكون التقوى اختيارية و حصول التقوى بالصوم هي الغاية العامة للناس و ان اشتمل على غايات أخر لكسره للشهوات الباعثة على المعاصي 182 أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ لا تتجاوز مقدار الشهر الى الأشهر. و قوله تعالى بعد آية شهر رمضان. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً الآية. يبين فيه مقدار الأيام و محلها. و العامل في أياما هو الصيام و هو كاف في العمل في الظرف فلا حاجة الى فضول التقدير فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً

ص: 156

يزيد الصوم مرضه او يبطؤ بسببه برؤه أَوْ عَلى سَفَرٍ و بيان السفر و مقداره موكول الى السنة فَعِدَّةٌ بالرفع كما عليه مصاحف المسلمين و قراءتهم المتداولة حتى القراءات السبع. و التقدير فالذي كتب الصيام فيه في الحالين كما يدل عليه اللفظ و السياق و لا دلالة على تقدير غيره هو عدة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ في غير المرض و السفر و العدة هي بمقدار الفائت بالسفر و المرض كما يدل عليه قوله تعالى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ و سوق الشرط و الجزاء يدل على ان الصيام في المرض و السفر المذكورين غير مكتوب و لا مشروع كما انه في الأيام الأخر هو المكتوب و الواجب المشروع و على ذلك اجماع اهل البيت «ع» و أحاديثهم وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي يأتون به جهد طاقتهم. قال في النهاية الطوق اسم لمقدار ما يمكن ان يفعل بمشقة منه. و منه حديث عامر بن فهيرة «كل امرء مجاهد بطوقه» أي أقصى غايته. و اخرج ابن جرير عن ابن عباس الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يتكلفونه. و من طريق آخر عنه من لم يطق الصوم إلا على جهد. و فيما ورد من قراءته يطوّقونه. اخرج ابن جرير كما عن الأنباري عنه يتجشمونه و يتكلفونه. و قد كثرت الرواية في الكتب ان ابن عباس كان يقرأ يطوقونه لهذا المعنى. و رويت هذه القراءة عن عائشة و عكرمة و عطا و مجاهد و سعيد بن جبير.

و اخرج ابن جرير عن علي امير المؤمنين «ع» ان الآية نزلت في الشيخ الكبير

و كثرت الرواية بذلك عن ابن عباس و تصريحه بأنها غير منسوخة. و عن أنس بن مالك انه ضعف عن الصوم عاما قبل موته فأفطر فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم كما ذكر كل ذلك و نحوه في تفسير الطبري و الدر المنثور.

و في الصحيح عن الباقر «ع» قوله تعالى وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال الشيخ الكبير و الذي يأخذه العطاش. و نحوها مرسلة ابن بكير عن أبي عبد اللّه. و رواية العياشي عن أبي بصير و رفاعة عن الصادق «ع».

و الروايات في نفس الحكم مستفيضة و فيها العجوز الكبيرة و المرأة تخاف على ولدها و عليهم فِدْيَةٌ لكل يوم طَعامُ مِسْكِينٍ و قدر في الروايات بمد من حنطة فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً تقدم تفسير ذلك في الآية السادسة و الخمسين بعد المائة فَهُوَ أي التطوع خَيْرٌ حاصل لَهُ و لا دليل على اختصاصه بزيادة الإطعام بل هو عام و من موارده الصوم

ص: 157

المكتوب وَ أَنْ تَصُومُوا مصدره في مقام المبتدأ و عدل الى الفعل ليتجلى منه الصدور من الفاعل و الترغيب في اختياره في المستقبل خَيْرٌ لَكُمْ خبر المبتدأ تعرفون انه خير لكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ان التكليف لطف من اللّه بعبده و ان الطاعة و امتثال الفرائض معراج للسعادة و ان الصيام فيه فضل كبير و فوائد كثيرة و قد تكرر الترغيب و التأكيد في أمر الصيام بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً. و أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. و ذلك لأجل ما في الصيام من الفضل العظيم و الكلفة في إمساكه. و قال بعض ان قوله تعالى وَ أَنْ تَصُومُوا الآية راجع الى من رخص له بالفدية. و يدفعه «أولا» انه لا معين لرجوعه الى ما ذكر مع صلاحيته للرجوع الى غيره «و ثانيا» ان رجوعه الى ما زعموا لا يناسب التأكيد بقوله تعالى إن كنتم تعلمون «و ثالثا» سياق الخطاب في الآية يقضي بأنه خطاب لمن خوطبوا بأنهم كتب عليهم الصيام. و الذي عليه الفدية إنما جاء بلفظ الغيبة. و قال بعض انه راجع الى الصيام في السفر و يدفعه «أولا» انه لا معين لرجوعه الى ذلك مع صلاحيته للرجوع الى غيره «و ثانيا» انه لا يناسب سوق الآية بأنّ المكتوب في السفر هو عدة من أيام أخر. و ليس في حكم السفر ذكرا و إشارة الى البدلية لكي يفضل احد البدلين على الآخر. بل الذي ذكر هو ان صوم العدة من ايام آخر هو المكتوب و لو أراد اللّه الرجوع الى ما زعموا لما ساق كلامه المجيد بأسلوب يأباه «و ثالثا» منافاته لما

صح عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) من قوله ليس من البر الصيام في السفر. كما رواه احمد و البخاري و مسلم و ابو داود و النسائي و عن ابن حبان في صحيحه عن جابر عنه (صلی الله علیه و آله). و ابن ماجه عن ابن عمر عنه (صلی الله علیه و آله) و احمد و النسائي و عن عبد الرزاق في جامعه و الطبراني و البيهقي عن كعب بن عاصم الأشعري عنه (صلی الله علیه و آله). و ما رواه ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف عنه (صلی الله علیه و آله)

و النسائي عن عبد الرحمن موقوفا الصائم في السفر كالمفطر في الحضر.

و ما عن الديلمي في الفردوس و عبد الرزاق في جامعه عن ابن عمر عنه (صلی الله علیه و آله) ان اللّه تصدق بإفطار الصائم على مرضى امتي و مسافريهم أ فيحب أحدكم ان يتصدق على احد بصدقة ثم يظل يردها. و روى نحوه في الكافي و الفقيه و العلل و التهذيب في الصحيح عن الصادق عليه السلام عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله).

و ما أخرجه النسائي و الترمذي و نص على صحته

ص: 158

عن جابر ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في سفره إلى مكة عام الفتح دعا بقدح ماء فأفطر و أفطر بعض الناس و صام بعض فبلغه ان ناسا صاموا فقال أولئك العصاة.

و رواه في الكافي و الفقيه في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) قال ان رسول اللّه الحديث.

و ما أخرجه احمد و الأربعة و جماعة عن انس الكعبي عن النبي (صلی الله علیه و آله) انه دعاه إلى الطعام فاعتذر بالصيام فقال له (صلی الله علیه و آله) ان اللّه وضع عن المسافر شطر الصلاة و الصيام. و اخرج النسائي ايضا عن عمر بن امية الضمري عنه (صلی الله علیه و آله) نحوه.

و ما في كنز العمال عن الشافعي و البيهقي في المعرفة عن سعيد بن المسيب مرسلا عنه صلى اللّه عليه و آله خياركم الذين إذا سافروا قصروا الصلاة و أفطروا و رواه في الكافي و الفقيه في الصحيح عن الباقر (علیه السلام).

و ما عن عبد الرزاق في جامعه و ابن شاهين في السنة و جعفر الفريابي في سننه ان عمر أمر رجلا صام في شهر رمضان في سفره ان يقضيه. و ما قاله الترمذي رأي بعض اهل العلم من اصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) ان الفطر في السفر أفضل حتى رأى بعضهم ان عليه الإعادة إذا صام في السفر. و حكى غير واحد هذا القول عن عمر بن الخطاب و ابن عباس و عبد اللّه ابن عمر و عبد الرحمن بن عوف و أبي هريرة و عروة بن الزبير. هذا و اما ما يتشبثون به من الأحاديث فمنه ما هو وارد في الصوم المستحب لحديث حمزة الأسلمي فإنه فيه كنت اسرد الصيام او كان كثير الصيام. و منه ما هو مردد بين الواجب و المستحب فلا تشبث بذلك أصلا.

و اما ما كان التخيير فيه صريحا بالصيام في شهر رمضان فمع غضّ النظر عن سنده و مخالفته لأهل البيت و كثير من الصحابة و اجماع الإمامية و ابتلائه بما ذكرناه من المعارضات و عدم صلاحيته للتصرف بأسلوب الآية و التي بعدها لا يخفى انه يلزم في التشبث به ان يثبت ان مدلوله كان بعد نزول الآية الشريفة و التي بعدها و انى بإثبات ذلك.

و عن العياشي عن محمد بن مسلم عن الصادق (علیه السلام) ان الآية نزلت و رسول اللّه في كراع الغميم عند صلاة الفجر فأفطر و امر الناس أن يفطروا و سمى من أراد الصيام بالعصاة.

فإن قيل ان سورة البقرة كان نزول آية القبلة منها في السنة الثانية من الهجرة فكيف يتأخر النزول لبعض آياتها الى عام الفتح قلت أي بعد في ذلك و ان سورة البقرة لم يحدد ختامها. و قد روي من طرقنا ما ذكر من ان آية الصفا و المروة نزلت في عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة و اخرج احمد و البخاري و مسلم و الترمذي و غيرهم عن كعب بن عجرة انه نزل في شأنه في الحديبية قوله تعالى من السورة فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ الآية. و كانت عمرة الحديبية في ذي القعدة من السنة

ص: 159

السادسة. و من المعلوم ان التمتع بالعمرة الى الحج لم يكن معهودا في الشريعة قبل حجة الوداع.

بل يعرف من أحاديثه ان أمره شي ء نزل على رسول اللّه في ذلك الحين فكلما نزل في سورة البقرة في شأن حج التمتع و هديه نزل في حجة الوداع حتى قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ كما هو في روايتنا عن الصادق عليه السلام

سورة البقرة (2): آية 185

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

183 شَهْرُ رَمَضانَ تفسير للأيام المعدودات أي و هي شهر رمضان.

و في الكافي و الفقيه و غيرهما عن الباقر (علیه السلام) لا تقولوا جاء رمضان و ذهب رمضان فإن رمضان اسم من اسماء اللّه و لكن قولوا شهر رمضان. و عن امير المؤمنين (علیه السلام) ما يقرب من هذا.

و في كنز العمال مثل قول الباقر (علیه السلام) عن ابن عمر و أبي هريرة الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

الى البيت المعمور في السماء ثم صار ينزله جبرائيل نجوما على رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كما في الكافي عن الصادق عليه السلام. و في تفسير ابن جرير عن ابن عباس. و في الدر المنثور فيما أخرجه جماعة و صححه الحاكم عن ابن عباس و فيه الى بيت العزة

هُدىً حال من القرآن أي هاديا لِلنَّاسِ وَ دلائل بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ

في الكافي و عن العياشي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به.

ثم قسم اللّه حال الناس في وقت صومهم و مشروعيته و وجوبه تأكيدا لما سبق و رفعا للشكوك فقال جلّ شأنه فَمَنْ شَهِدَ أي حضر مِنْكُمُ الشَّهْرَ الشهر منصوب على الظرفية أي حضر فيه و هو غير مريض فَلْيَصُمْهُ فإنه الوقت الموقت لصيامه وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ فالمكتوب عليه و وقت صيامه المكلف به عدة أي عدة ما لم يصمه في شهر رمضان مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لا يكون فيها مريضا و لا مسافرا ففصل اللّه بين الحكمين و ميز بين الموضوعين فجعل لصوم الحاضر وقتا و لصوم المسافر وقتا. و لو كان صوم المسافر في شهر رمضان راجحا عند اللّه لما أكد هذا التقسيم و التمييز بين الموضوعين و الوقتين بهذا السياق البين و لكان ذكره في هذه الآية أولى من التي قبلها لما فيه من بيان الفضل لشهر رمضان و صومه بل ان اللّه جلت آلاؤه ذكر في هذه الآية ما يزيد في البيان و يعزز الإيضاح فقال جلت آلاؤه يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ

ص: 160

النوعي بإفطار المريض و المسافر وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ النوعي فالصوم في السفر غير مراد للّه لأن فيه عسرا نوعيا.

و في الكافي و الفقيه عن عبيد بن زرارة قال قلت لأبي عبد اللّه (علیه السلام) قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قال (علیه السلام) ما أبينها من شهد فليصمه و من سافر فلا يصمه.

و عن العياشي عن زرارة عن الباقر (علیه السلام) ما أبينها لمن عقلها.

و لأن قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ في مقام التعليل و بيان بعض الغايات في كتابة الصيام على النهج المذكور في الآيتين فباعتبار جعل الصوم في المرض و السفر في أيام أخر علل بالتيسير كأنه قيل ليتيسر عليكم وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عطفا على المقدر فتفوزوا بفضل صوم الأيام المعدودات كاملة العدد بخلاف ما لو لم يشرع ذلك و اضطر المريض و المسافر إلى الإفطار كما هما مظنة للاضطرار إلى ذلك نوعا.

و باعتبار الهداية إلى شريعة الحق قال جل اسمه وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ على هدايتكم إلى الدين و الشريعة و هذا التكبير مستحب عندنا بالإجماع و لا يضر الخلاف النادر. و بذلك قال الشافعي و أحمد و ابو حنيفة على ما نقل عنه و نسبه في الخلاف إلى الفقهاء. و وقته عندنا بعد صلاة المغرب من ليلة شوال و العشاء و الصبح. و العيد بإجماع الإمامية و رواية الكافي و الفقيه عن سعيد النقاش عن الصادق (علیه السلام) و رواية الإقبال بسنده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (علیه السلام). و يقرب من مذهب الإمامية ما أخرجه ابن جرير في تفسيره بسنديه عن زيد بن اسلم و ابن عباس. و صورة التكبير مذكورة في كتب الفقه وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اي و لتشكروا اللّه على نعمته عليكم بدين الحق و لطفه بتشريع الصيام و ما فيه من الفوائد و تيسيره عليكم و على نعمة الطعام و الشراب إذ تلتفتون إليها بجوعكم و عطشكم. و لا يخفى ان الشكر المطلوب ليس من الأفعال الموقتة المنقطعة التي يسوق إليها التكليف كإكمال العدّة و التكبير بل هو عمل نفسي دائم كالتقوى و الاهتداء يرجع إلى اختيار الإنسان ان يديم التفاته إلى نعم اللّه و معرفة قدرها و فقره إليها و عجزه عنها فيختار الشكر الثابت. و ذلك يحتاج إلى قوة في الاختيار و ثبات عليه و على مجاهدة الأوهام المعارضة. و لأجل هذه النكتة جرى التعبير عن التعليل و الغاية بقوله تعالى وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و كذا نظائره مما قيل في تعليله «لعلكم» و أما مقدار

ص: 161

السفر الذي لا يصام فيه و صفته و صفة المرض فبيانه موكول إلى معرفته من السنة و الإجماع في كتب الفقه

سورة البقرة (2): الآيات 186 الى 187

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

184 وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي اي فأخبرهم اني و نحو ذلك و هو العامل في إذا قَرِيبٌ باللطف و الرحمة و الاجابة. لأنه يجل عن المكان أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ذكر الشرط مع انه معلوم مما قبله لأجل التنبيه على انه ما كل من يدعو اللّه لحاجته هو داع للّه بحقيقة الدعاء للّه من حيث الانقطاع و صدق التوجه إلى اللّه و معرفته. و من معرفته الإذعان بحكمته وسعة رحمته لعباده فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي فيما دعوتهم اليه مما فيه صلاحهم و سعادتهم و رشدهم. و كأن هذه الجملة في مقام الشرط أي ان أرادوا أن أجيب دعوتهم فليستجيبوا لي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ اي ليرشدوا و قد سبق الكلام على مثله 185 أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ الرفث هنا هو الإفضاء إلى النساء بالجماع هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ كناية عن شدة ارتباط المرأة و الرجل في التمتع عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ و توقعونها في فعل الحرام فَتابَ عَلَيْكُمْ مما فعلتم وَ عَفا عَنْكُمْ أي عن تحريم الجماع في ليلة الصيام من شهر رمضان فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الأمر للاباحة و المباشرة إيصال بشرة إلى بشرة و هي ظاهر الجلد كنى بذلك عن الجماع لأن المباشرة من مقدماته اللازمة.

و المراد من الآن ما بعد نزول الآية. و الآية بنفسها تدل على ان الجماع كان محرما في ليلة الصيام مطلقا او في حال خاص. و ان بعض المسلمين فعلوا المحرم و جامعوا فنسخ ذلك التحريم عفوا من اللّه.

و في الكافي في الصحيح مسندا عن الصادق عليه السلام ما حاصله كان الجماع و الأكل و الشرب محرمة في شهر رمضان على من نام أي بعد العشاء فاتفق لرجل انه نام فلما عمل في النهار في الخندق صار يغشى عليه فنزلت الآية.

و في تفسير القمي عن أبيه مرفوعا عن الصادق (علیه السلام) نحوه و زاد و كان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا فأنزل اللّه الآية. و روى نحو ذلك في الدر المنثور من طرق متعددة. و زاد انه أخرج ابن جرير و ابن

ص: 162

المنذر في حديث عن ثابت و ابن جرير و ابن أبي حاتم فى آخر عن ابن عباس.

و اخرج ابن جرير في ثالث عن ثابت ان من المجامعين بعد العشاء في زمان التحريم عمر بن الخطاب. و نحوه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. و عن كعب بن مالك عن أبيه وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي لنوعكم من الذرية وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا الأمر فيهما للاباحة و يمتد أمدها حَتَّى غاية الجواز ينقطع بها يَتَبَيَّنَ لَكُمُ يوجد في الأفق و يلزمه عادة و نوعا ان يتبين لنوع الناس فالغاية ان يكون الصبح بحيث يراه الصائم لا استيلاؤه عليه كما يأتي في الليل. و هذه الغاية هي غاية الرفث ايضا بإجماع المسلمين لأن حله مقيد بالليل و هو ينقطع بالفجر الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ و هو الفجر الصادق المعترض و فيه قوة التبين لا الكاذب المستطيل كذنب السرحان المبتني على الخفاء و الاضمحلال و على ذلك اجماع المسلمين و أحاديث الفريقين و قد جمع شطر منها في الوسائل و الدر المنثور.

و سمي بالخيط اشارة إلى ان الغاية ما يتبين حينما هو كالخيط مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ و هو ما حول الفجر من الليل مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ثم اوجدوا الصوم قاما إلى الليل و عطف بثم لجريان العادة بالفصل و التراخي بين انقطاع الأكل و الشرب و بين الفجر محافظة على حدود جوازهما في الليل و حرمتهما بأول الفجر. و الليل هو السواد و الظلام المعاقب للنهار و لذا يقولون ليل أليل أي شديد الظلام او السواد. و الغاية للصيام ان يغشي الليل الصائم و يصل اليه لا وجوده. فإنه موجود في كل زمان بحسب التناوب على البلاد و لا رؤيته و الا لقيل حتى يتبين و نحو ذلك كما قيل في الفجر فالغاية إذن ان تذهب الحمرة المشرقية و يصل سواد الليل المعاقب لها إلى الصائم اي الى سمت رأسه فإن المشرق في جهة السماء مظل على المغرب فيكتسب من نور الشمس ما تظهر به الحمرة و يبقى به النهار إلى ان تحتجب الشمس شيئا فشيئا فيظهر الليل و يسري على وتيرة احتجابها حتى يصل إلى الرأس فلا يذهب النهار عن الصائم الا بذهاب الحمرة عن سمت رأسه. و على ذلك من روايات الإمامية رواية ابان عن الباقر (علیه السلام) و روايات ابان و عمار و ابن شريح. و مرسلتا ابن أشيم و ابن أبي عمير.

و مرفوعة المفيد عن الصادق (علیه السلام). و لا ينافيها ما عبر فيه بغيبوبة الشمس و غروبها لما أشرنا

ص: 163

اليه. و هذا هو الذي يفقه مما

أخرجه البخاري و مسلم و الترمذي و ابو داود و ابن جرير و عن ابن أبي شيبة و النسائي عن عمر قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إذا اقبل الليل من هاهنا و أدبر النهار من هاهنا و غربت الشمس فقد أفطر الصائم.

و اخرج البخاري و ابو داود و ابن جرير عن عبد اللّه بن أبي اوفى بعدة أسانيد في حديث قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إذا أقبل الليل من هاهنا و ضرب بيده نحو المشرق أفطر الصائم.

و في الدر المنثور اخرج أحمد و عبيد بن حميد و ابن أبي حاتم و الطبراني في حديث عن بشير بن الخصاصية قول رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا

و لا يخفى انه عند وجود الحمرة المشرقية لم يقبل الليل من ناحية المشرق و لم يكن على الصائم ليل وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ أي لا تمسّ بشرتكم بشرتهن باللمس و التقبيل بشهوة و بالجماع مطلقا. و هذا مذهب الإمامية و عليه إجماعهم لإطلاق المباشرة و دلالة المقام على ان المراد منها ما يرجع إلى التمتع و التلذذ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ العكوف الاقامة في المكان و الملازمة له و اعتكف قصد العكوف و جعل نفسه عاكفا. و امر هذا العكوف و صفاته و شروطه الشرعية موكول إلى السنة و يعرف مدلولها من كتب الفقه تِلْكَ اي ما عرف في هذه الآيات من حرمة ما يجب الإمساك عنه في الصوم و حرمته قبل الليل و حرمة تضييع العدة من الأيام الأخر و حرمة المباشرة للنساء على المعتكف حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها مبالغة في التحذير منها و امر بملازمة الواجبات المحدودة و عدم الميل عنها إلى جانب تلك الحدود كَذلِكَ البيان في هذه الأمور يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ و دلائله لِلنَّاسِ فيما فيه صلاحهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اي ليتقوا وجي ء بلعل لما ذكرناه قريبا

سورة البقرة (2): آية 188

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

186 وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ أي لا يأكل بعضكم اموال بعض بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ

و غير المشروع و منه القمار كما رواه في الكافي في الصحيح عن الصادق عليه السلام

و روى في الكافي ايضا عن الصادق (علیه السلام) ان من ذلك ان يكون عند المديون مال فينفقه على نفسه و لا يفي به دينه.

و منه ما في مجمع البيان مرفوعا عن الباقر (علیه السلام) أكل المال باليمين الكاذبة

وَ تُدْلُوا بِها أي ترسلوها رشوة إِلَى الْحُكَّامِ كمن يدلي دلوه ليستخرج الماء

ص: 164

لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بأن ذلك محرم عليكم

سورة البقرة (2): الآيات 189 الى 191

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191)

187 يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ الْأَهِلَّةِ قيل يسمى هلالا ايضا في ليلته الثانية و قيل في الثالثة و قيل حتى يستدير بخطة دقيقة و قيل إلى الليلة السابعة قُلْ لهم ما تدركه عقولهم من حكمتها هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ تميز لهم ما يحتاجون اليه في مهماتهم من مقادير الزمان و أوقاته بحسب الأشهر و السنين بتوقيت محسوس للعامة. بل ان الدور الذي تتكون به الأهلة يعرف الناس منه ساعات الليل بتدرج الهلال في الطلوع و الغروب الى أن يصير بدر اثم الى ان يعود هلالا وَ الْحَجِّ أي مواقيت للحج وَ لَيْسَ الْبِرُّ و عمل الخير بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها كناية عن تشريعاتهم الجهلية الأهوائية و زعمهم ان العمل بها بر وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى فانظر الى هؤلاء الذين اتقوا اللّه و أخلصوا له في طاعته و اتباع شريعته و اعرفوا البر من اعمالهم. و في الآية الخامسة و السبعين بعد المائة ذكرنا الوجه و الفائدة في جعل «من» الموصولة خبرا للبر وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و الأمور من وجوهها و اعمال البر من حيث أمر اللّه و شرع.

و عن محاسن البرقي مسندا و العياشي مرفوعا عن جابر عن الباقر (علیه السلام) في قوله عزّ و جل وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها قال (علیه السلام) أن يؤتى الأمر من وجهه أيّ الأمور كان.

و من هذا الباب ما اتفقت عليه رواية الفريقين من قول النبي (صلی الله علیه و آله) انا مدينة العلم و علي بابها وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه فيما شرعه من الدين القيم و هذا هو البر لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفلحوا 188 وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و نصر دين الحق الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ عنادا للدين وَ لا تَعْتَدُوا في القتال عن الحد المشروع إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ و ما أشد خسران الذي لا يحبه اللّه 189 وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي ظفرتم بهم وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ و هي مكة المعظمة. و لا يكبر في قلوب الضالين قتالهم و قد عدوا على المسلمين يقاتلونهم لأنهم اسلموا من قبل ذلك و أخرجوهم عن ديارهم في مكة و فوق ذلك انهم لا زالوا يجهدون في أن يفتنوا

ص: 165

المسلمين و يصرفوهم عن دينهم بالعذاب مرة و بالقتال أخرى وَ الْفِتْنَةُ و صرف المؤمنين عن دينهم و اضلالهم أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ضررا على نوع الإنسان فإن الضال المضل جرثومة فساد في الأرض كما قال جلّ اسمه في سورة البروج إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و يشمل التحريم مكة و ما هو حريم للمسجد حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ أي في حرمه بقرينة قوله تعالى عند المسجد فَإِنْ قاتَلُوكُمْ عند المسجد فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ في اعتدائهم و هتكهم لحرمة المسجد الحرام

سورة البقرة (2): الآيات 192 الى 194

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

190 فَإِنِ انْتَهَوْا قيل انتهوا عن كفرهم بالتوبة و الإسلام. و يحتمل أن يكون المراد فإن انتهوا عن قتالكم فاغفروا لهم نحو قوله تعالى في سورة الأنفال وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 191 وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ

في التبيان الفتنة الشرك و هو المروي عن أبي جعفر

أقول و لعله باعتبار انه يسبب الافتتان إذ يسبب الضلال و يصرف عن الحق كقوله تعالى في سورة المائدة وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي على الحقيقة المعقولة منه ليس فيه كفر و لا شرك و لا عبادات او ثانية و لا شرائع أهواء جاهلية فإن الدين في هذا المقام و أمثاله عبارة عن روابط الإنسان مع مقام الإلهية من حيث الاعتقاد بما يرجع للإله و رسله و كتبه و عبادته و الطاعة و الشريعة فَإِنِ انْتَهَوْا في التبيان و مجمع البيان أي امتنعوا عن الكفر و أذعنوا للإسلام و يحتمل الانتهاء عن قتال المسلمين فَلا عُدْوانَ عن حد السلم إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ المعتدين. و في التبيان و البيان ان هذه الآية مؤكدة لمضمون الآية الأولى لا ناسخة لقيودها في القتال. و هذا هو الظاهر من سياق الآيات مع قوله تعالى 192 الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ فمن قاتل المسلمين في شهر حرام قاتله المسلمون في شهر حرام كما ان من قاتلهم عند المسجد الحرام قاتلوه فيه وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فإذا كان المشركون في

ص: 166

عداوتهم للتوحيد و دين الحق و محادّتهم للّه و رسوله لا يمنعهم عن عداوتهم و قتالهم للمسلمين حرمة للشهر الحرام و لا حرمة البيت الحرام فليس لهم أن يلوذوا بالحرمات بل يحتج عليهم بقصاصهم بذلك و اما نفس الحرمات فلم تسقط و لا يقتص منها بجناية المشركين بل عارضتها حرمة اللّه في نصر توحيده و رسوله و دين الحق و احترام الحرمات. و الأشهر الحرم هي رجب الفرد و ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و لعل الأصل في حرمتها شريعة ابراهيم كحرمة البيت فاستمر العرب على ذلك و أمضاه الإسلام فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ حدود الحق فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ حدود السلم و المجاراة و أفرد الضمير في «عليه» باعتبار لفظ «من» بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ و ناصرهم

سورة البقرة (2): الآيات 195 الى 196

وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

193 وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا أنفسكم بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ و هذا النهي عام لكل اقتحام في اسباب التهلكة و مظانها و لا بد من أن يكون النهي مقيدا بما إذا لم يكن في ذلك الاقتحام حياة الدين و نصرته كما في نهضة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في أول دعوته و اقدام سيد الشهداء في امتناعه عن بيعة يزيد في مثل زمانه وَ أَحْسِنُوا اعملوا الحسن و اطلبوه في أفعالكم و تروككم على حد قوله تعالى في سورة الكهف إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا و غير ذلك إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لأعمالهم و تروكهم و ما أعظم هذا التعليم الجامع للخير فإن احسان العمل و الترك غير خفي و ان غالطت فيه الأهواء بما لا يخفى على العقل من التدليس. و من مصاديق احسان العمل ما جاءت فيه رواية الكافي.

و عن العياشي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) لو ان رجلا أنفق ما في يديه في سبيل اللّه ما كان احسن و لا وفق أ ليس يقول اللّه وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي المقتصدين.

فإن المقتصد هو الذي عمل الحسن و احسن عمله و ان معنى التهلكة. و مقام الإمام (علیه السلام) و

قوله ما كان احسن

و تفسيره المحسنين بالمقتصدين لا يدع مجالا للقول بأن مضمون الرواية قريب من تفسير التهلكة بالإسراف 194 وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ العمرة منصوبة بالعطف على الحج و الحج و العمرة عبادتان معروفتان قد ذكرت اجزاؤهما و شروطهما في السنة

ص: 167

و نظمتها كتب الفقه و إتمامهما للّه دليل على انهما عبادتان يعتبر فيهما الإتيان بهما للّه تقربا اليه و الظاهر من مراجعة الحديث و سبك اللفظ ان قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ أمر و إيجاب لإيجادهما تامين بأجزائهما و شروطهما المشروعة كقوله تعالى من احسن عملا أي أوجده حسنا و كقولهم. ضيق فم الركي. و اطل جلفة القلم. و افرج بين سطورك. و كثير من ذلك فمن مدلول الآية إيجاب العمرة كما

في صحيحة التهذيب عن زرارة عن الباقر (علیه السلام) في قوله العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج و ذكر الآية و نحو صحيحة الكافي عن معاوية بن عمار عن الصادق (علیه السلام) و صحيحة العلل عن معاوية عنه (علیه السلام) و صحيحة التهذيب عن الفضل أبي العباس عنه. و في الدر المنثور اخرج ابن عيينة و الشافعي في الأم و البيهقي عن ابن عباس و ذكر نحوه.

و اخرج الحاكم عن زيد بن ثابت عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان الحج و العمرة فريضتان.

و في الكافي في الصحيح عن ابن أذينة في حديث عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ قال يعني بتمامهما أداءهما و اتقاء ما يتقي المحرم فيهما و نحوه عن العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام

و قال في الكشاف في تفسير أتموا ائتوا بهما تامين ثم بعد ذلك حمله على محض الأمر بإتمامهما أي بعد الشروع فيهما و اختار كون العمرة غير واجبة و اغرب في تأوله لحديثي ابن عباس و عمر. ثم قال بأن الأمر بالإتمام للوجوب و الندب كما تقول صم شهر رمضان و ستة من شوال تأمر بفرض و تطوع و قال في سورة المائدة في آية الوضوء ما معناه انه لا يجوز ان يكون الأمر للوجوب و الندب لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز و التعمية أقول و في هذا الذي نقلناه عنه من التدافع و الغرابة ما يعجب منه الناظر. و قد نبه عليه في زبدة البيان فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ في المصباح قال ابن السكيت و ثعلب حصره العدو في منزله حبسه و احصره المرض بالألف منعه من السفر. و قال الفراء هذا هو كلام العرب و عليه اهل اللغة انتهى. و نقل نحو ذلك ايضا عن الكسائي و أبي عبيدة و عن الفراء أيضا انه يجوز ان يقوم أحدهما مقام الآخر ورده المبرد و الزجاج. و في الخلاف عن الفراء احصره المرض لا غير و حصره العدو و احصره معا. و قد تكرر في رواياتنا الصحاح و غيرها ان المحصور غير المصدود و انهما يختلفان في بعض الأحكام كما

في روايات زرارة عن الباقر (علیه السلام) و ابن أبي نصر عن الرضا

ص: 168

عليه السلام و معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام. و فيها المحصور هو المريض و المصدود هو الذي يردّه المشركون كما ردّوا رسول اللّه ليس من مرض.

و في الدر المنثور أخرج سعيد ابن منصور و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم من طريق ابراهيم عن علقمة عن ابن مسعود في الآية يقول إذا اهل الرجل بالحج فأحصر إلى ان قال فإذا برء الحديث و قال ابراهيم ذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ اي فإن أحصرتم و منعكم المرض عن الإتمام فأرسلوا لأجل ان يسوغ لكم التحلل ما استيسر لكل بحسب حاله و وقته من الهدي من الإبل او البقر او الشاة و المشهور عندنا ان من ساق الهدي ثم أحصر كفاه ذلك لأنه مما استيسر. و الهدي هو ما يهدى من النعم للذبح في مكة او منى وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ أي لا تحلوا فإن الحلق أول الإحلال حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ اي المحل المقرر له بالسنة في نوع ذلك النسك فإن كان حاجا فمحل الهدي منى و إن كان معتمرا بالعمرة المفردة فمحله مكة او بفناء الكعبة أو بالحزورة. و اما رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و أصحابه في عمرة الحديبية فقد كانوا مصدودين عن المسجد الحرام لا محصورين فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ في حال الإحرام مَرِيضاً يحتاج في مرضه إلى الحلق أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ

في التهذيب بسنده عن عمر بن يزيد عن الصادق (علیه السلام) فمن عرض له أذى او وجع فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحا فصيام ثلاثة ايام إلى ان قال و النسك شاة يذبحها الرواية.

و الأذى ما يؤذي و منه القمل الكثير. فقد روى في الكافي في المعتبر و التهذيبين في الصحيح على الظاهر.

و عن العياشي عن الصادق (علیه السلام) ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) مرّ على كعب بن عجرة الأنصاري و القمل تتناثر من رأسه فقال له رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أ تؤذيك هوامك قال نعم فأنزلت الآية فأمر رسول اللّه بحلق رأسه و جعل عليه الصيام ثلاثة ايام او الصدقة على ستة مساكين لكل مسكين مدّان او النسك شاة و ذكر في الفقيه و المقنع نحوه بقوله مر رسول اللّه الحديث.

و اخرج نحو ذلك من الجمهور أحمد و أصحاب الجوامع و غيرهم و زادوا ان ذلك كان في عام الحديبية فَإِذا أَمِنْتُمْ من الصدّ و نحوه فَمَنْ تَمَتَّعَ أي أحل و تمتع بما يحرم

ص: 169

التمتع به على المحرم كالطيب و المخيط و النساء و نحو ذلك بِالْعُمْرَةِ بسبب الإتيان بالعمرة و إكمالها إِلَى الْحَجِّ أي إلى إحرام الحج. و قد شرع هذا التمتع في حجة الوداع و هو اظهر من ان ينكر و لا بأس بالإشارة إلى شي ء من حديثه.

فعن التهذيب و العلل في الصحيح عن الصادق عليه السلام عن آبائه (علیه السلام) لما فرغ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) من سعيه بين الصفا و المروة أتاه جبرائيل عند فراغه من السعي فقال ان اللّه يأمرك ان تأمر الناس ان يحلوا إلا من ساق الهدي فأقبل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) على الناس بوجهه فقال أيها الناس هذا جبرائيل و أشار بيده إلى خلفه يأمرني عن اللّه عزّ و جل أن آمر الناس بأن يحلوا الّا من ساق الهدي فأمرهم بما أمر اللّه فقام اليه رجل فقال يا رسول اللّه نخرج من منى و رؤوسنا تقطر من النساء. و قال آخرون يأمرنا بشي ء و يصنع هو غيره فقال ايها الناس لو استقبلت من امري ما استدبرت لصنعت كما صنع الناس و لكني سقت الهدي فلا يحل من ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محله فقصر الناس و أحلوا و جعلوها عمرة و قام اليه سراقة بن مالك المدلجي فقال يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا ام للأبد فقال بل للأبد إلى يوم القيامة و شبك بين أصابعه و انزل اللّه بذلك قرآنا فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ هذا الحديث جزء مما جاء في الرواية الطويلة عن معاوية بن عمار عن الصادق عن الباقر عليهما السلام كما في الصحيح في الكافي و التهذيب. و رواها على طولها مسلم و ابو داود و النسائي و ابن ماجة في جوامعهم و احمد في مسنده و غيرهم عن الصادق (علیه السلام) عن الباقر (علیه السلام) عن جابر.

و اخرج اصحاب الجوامع الست و غيرهم ان الناس قد كانوا أهلوا بالحج لا يرون غيره كما عن جابر و انس و أبي سعيد و البراء بن عازب و ابن عباس و اسماء بنت أبي بكر.

بل و عائشة من طرق الأسود و عمره و محمد بن القسم. و قد كثرت الرواية في أمر الإحلال و التمتع

لقوله (صلی الله علیه و آله) لو استقبلت من امري ما استدبرت لما سقت الهدي و لفعلت كما فعلتم. او كما أمرتكم. او أحل كما أحلوا.

و في بعضها اني لأبرّكم و أصدقكم و أتقاكم و لولا اني سقت الهدي إلى آخره. أخرجه مسلم و النسائي و الحاكم في مستدركه و ابن حبان في صحيحه.

و في رواية الطبراني عن جابر أ تتهموني و انا أمين أهل السماوات و الأرض اما اني لو استقبلت الحديث.

و ممن روى ذلك من طريق الجمهور جابر و البراء و انس و عائشة و حفصة.

و روى جابر في

ص: 170

حديثه الطويل في الحج و ابن عباس و ابن عمر و سراقة بن مالك و ابن أخ لجبير بن مطعم قوله (صلی الله علیه و آله) دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة كما في جوامع مسلم و أبي داود و النسائي و الترمذي و مسند احمد و ابن عدي و الطبراني و البغوي.

و قد تكررت هذه المضامين مجتمعة و متفرقة في المسانيد و جوامع الحديث الستة و غيرها مروية عن عدة كثيرة من الصحابة. و لا يخفى ان شرعية هذا التمتع و الإحلال المطلق كما هو مدلول الأحاديث من الفريقين عليها اجماع الصحابة و عامة المسلمين في جميع الأعصار و لم يقل احد بنسخها نسخا شرعيا. و قد استمر العمل عليها بفتيا جميع العلماء في جميع الأعصار. نعم وقعت في بعض الأحاديث بعض الشواذ فينبغي التنبيه عليها في ضمن امور «الأول» ان هذه الآية التي شرع بها حج التمتع و الإحلال مقيدة بالأمن و ان المسلمين في حجة الوداع كانوا على أعز جانب من القوة و الأمن و كانت جزيرة العرب إذ ذاك خاضعة لسلطان الإسلام متمتعة بأمنه العام و سلطة عدله القاهرة.

و اخرج البخاري عن حارثة ابن وهب الخزاعي صلى بنا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و نحن اكثر ما كنا قط و أمنه بمنى ركعتين:

فمن الشواذ ما يروى

في جوامع الجمهور عن بعض الصحابة انه منع من متعة الحج فاحتج عليه امير المؤمنين (علیه السلام) بأنها سنّة رسول اللّه التي سنها في حجة الوداع فاعتذر و قال نعم و لكن كنا خائفين كما أخرجه مسلم و احمد و ابو عوانة و الصحاوي و البيهقي

«الثاني» روى في الجوامع الستة و غيرها ان اصحاب رسول اللّه كانوا في حجة الوداع جميعا حتى عائشة قد أهلوا بالحج لا يرون غيره كما عن جابر و ابن عباس و أبي سعيد و ابن عمر و أنس و اسما بنت أبي بكر بل و عائشة من طرق الأسود و عمره و محمد بن القسم. فمن الشاذ ما تفردت به الرواية عن عروة عن عائشة من ان الناس أهلّ بعضهم بالحج و بعضهم بالعمرة و هؤلاء هم الذين أمروا بالإحلال و التمتع. و ان عائشة كانت مهلة بالعمرة.

«الثالث»

روي من طريق الإمامية عن اهل البيت و جابر ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة. و رواه الجمهور في جوامعهم و مسانيدهم كما تقدم.

و روى الإمامية عن اهل البيت و جابر ايضا ان سراقة بن مالك قال يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به يعني الإحلال بعد العمرة الى الحج لعامنا هذا أم الى الأبد فقال بل للأبد الى يوم القيامة. و روى الجمهور في جوامعهم و مسند احمد و غيره نحوه عن جابر و سراقة

و على ذلك

ص: 171

عمل المسلمين و فقهائهم.

و اخرج مسلم و احمد عن ذكوان عن عائشة ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) دخل عليها و قد كان غضبان لأنه أمر الناس بالحل فتردد بعضهم. و اخرج احمد عن البرّا و رواه كنز العمال عن النسائي عن البراء نحوه.

و اخرج البخاري و احمد و النسائي و غيرهم عن علي امير المؤمنين ان المتعة سنّة رسول اللّه فلا يدعها لقول احد من الناس

و اخرج احمد و مسلم انه قيل لابن عباس في الإحلال بعد العمرة فقال سنّة نبيكم و ان رغمتم. و في حديث أخرجه احمد و البخاري و مسلم اللّه اكبر سنة أبي القاسم (صلی الله علیه و آله). و إذا أحطت بما ذكرنا عرفت انه من الشواذ ما أخرجه مسلم و غيره عن أبي ذرّ ان المتعة في الحج كانت لأصحاب محمد خاصة و نحو ذلك كما أخرجه مسلم او للركب الذي كان مع رسول اللّه كما أخرجه ابو داود و النسائي نعم ان كان المراد من ذلك إخراج حاضري المسجد الحرام من مشروعية المتعة جرت الرواية على مقتضى الكتاب و السنة و اجماع المسلمين. و من الشواذ ايضا ما

أخرجه مسلم انه كان ابن عباس يأمر بالمتعة و كان ابن الزبير ينهى عنها. فذكرت ذلك لجابر فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فلما قام عمر قال ان اللّه كان يحل لرسول اللّه ما شاء بما شاء و ان القرآن قد نزل منازله و أتموا الحج و العمرة للّه كما أمركم اللّه و ابنوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة الى أجل إلا رجمته بالحجارة.

و ليت شعري ما هو المراد بقول القائل ان اللّه كان يحل لرسول اللّه ما شاء بما شاء. و هل كان الأمر بالإحلال نقضا لأمر اللّه بإتمام الحج و العمرة و مخالفة له و لئن كان نقضا فلما ذا لا يكون نسخا بهذا النحو خصوصا مع

قوله (صلی الله علیه و آله) لو استقبلت من أمري ما استدبرت

و قوله دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة

و قوله (صلی الله علیه و آله) لسراقة الى الأبد.

و من الشواذ ايضا ما أخرجه احمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن ماجة و غيرهم عن سعيد بن المسيب ان عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج و قال فعلتها مع رسول اللّه و انا أنهى عنها و ذلك ان أحدكم يأتي الى آخر الرواية. و لم تذكر فيها إلا آراء لا تروج في الاستحسان فضلا عن مقاومة الشريعة. و مثل ذلك ما أخرجه احمد و مسلم و النسائي و ابن ماجة و غيرهم عن أبي موسى انه سئل عمر عن نهيه عن التمتع فقال قد علمت ان رسول اللّه فعله و أصحابه و لكن كرهت ان يظلوا بهن معرسين تحت الأراك ثم يروحون الى الحج تقطر رؤسهم. و ما أخرجه احمد و البخاري و مسلم و غيرهم عن أبي موسى ان عمر قال في ذلك ان نأخذ بكتاب اللّه فإن اللّه قال وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ و ان أخذنا بسنة رسول اللّه «و في

ص: 172

رواية من روايات البخاري و ان أخذنا بقول النبي (صلی الله علیه و آله)» فانه لم يحل حتى بلغ الهدي محله انتهى و قد سبق الكلام في قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ. و اما السنة فيا سبحان اللّه هل سن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لأمته إلا ما اتفق عليه حديث المسلمين و إجماعهم من التمتع و الحل و انه سنة الى الأبد. و ان العمرة دخلت في الحج الى يوم القيامة. و هذا الدخول مع الإحلال يبين ان كلا من العمرة و الحج يقع تاما في الشريعة بهذا الوجه و أما فعله (صلی الله علیه و آله) فقد كان موقتا مختصا بمن ساق الهدي في تلك السنة كما يحدده

قوله (صلی الله علیه و آله) لو استقبلت من أمري ما استدبرت. دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة

و قوله (صلی الله علیه و آله) لسراقة بل الى الأبد

فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ من البدنة أو البقرة او الشاة و هو نسك لا جبران كما قال الشافعي فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ متواليات فِي الْحَجِّ و هي يوم التروية و ما قبله و يوم عرفة و عليه اجماع الإمامية و رواية الفريقين و لو فاته ذلك لم يصمه ايام التشريق. و في الخلاف عليه اجماع الإمامية انتهى.

و على ذلك روايات كثيرة و

في صحيح ابن سنان ان الصادق (علیه السلام) استشهد لذلك بأن بديل ابن ورقاء أمره رسول اللّه بأن ينادي بمنى في الناس ان لا يصوموا و نحوه صحيح سليمان بن خالد و ابن مسكان عنه (علیه السلام). و نحوه في خبر عبد الرحمن بن الحجاج عن الكاظم عليه السلام كما في التهذيبين و معاني الأخبار.

و اخرج احمد و مسلم عن نبيشة الهذلي قال قال رسول اللّه ايام التشريق ايام أكل و شرب.

و عن كعب بن مالك ان رسول اللّه أرسله و أوس بن الحدثان ايام التشريق فنادى ايام منى ايام أكل و شرب.

و اخرج احمد و النسائي عن حمزة الأسلمي ان منادي رسول اللّه ينادي بمنى و رسول اللّه شاهد لا تصوموا هذه الأيام فإنها ايام أكل و شرب.

و اخرج احمد و الحاكم و صححه على شرط البخاري و مسلم عن بديل بن ورقاء ان النبي بعثه على جمل أورق و أمره أن يتخلل الفساطيط و ينادي في الناس ايام منى الا لا تصوموا فإنها ايام أكل و شرب و بعال.

و عن الطيالسي عن أنس و البيهقي عن أبي هريرة نهى رسول اللّه عن صوم ايام التشريق.

و هؤلاء المنادون أعرف بما أمروا به و ما نادوا به فلا يعارضهم ما أخرجه البخاري و ابن جرير عن عائشة و ابن عمر من الرخصة في صيامها لمن لم يجد الهدي مع انهما لم يسندا الرخصة الى النبي (صلی الله علیه و آله) بل هو أشبه بالاجتهاد كما اخرج البخاري ان

ص: 173

عائشة كانت تصومها و كان أبوه او أبوها يصومها وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ الى أهاليكم و السرّ في هذا التعبير دون قوله تعالى إذا رجع هو ان من أقام بمكة يقدر له رجوع أصحابه الى بلده كما عليه فتوى الإمامية و أحاديثهم. و منها صحيحة التهذيب عن معاوية بن عمار و فيها ان الصادق (علیه السلام) روى ذلك عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و يحتمل ايضا النظر الى اعتبار الرجوع بالنفر العام في الثالث عشر من ذي الحجة بمعنى ان من رجع الى اهله بالنفر الأول لم يصح منه صوم الثالث عشر عند اهله تِلْكَ أي الثلاثة في سفر الحج و السبعة عند الرجوع عَشَرَةٌ تعد عند اللّه نسكا واحدا لا يضر فيها الفاصل الطويل و لا الإتيان بالسبعة في غير مناسك الحج و غير اشهره و لا الصوم في السفر كامِلَةٌ في النسك ككمال الأضحية و الهدي ذلِكَ أي التمتع بالعمرة الى الحج لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ باعتبار وطنه و مسكنه حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من الحضر بفتحتين و الحضارة المخالفين للبدو و البداوة أي من لم يكن من أهل مكة و قراها و ما ينسب عرفا إليها بحيث لا يعد القاطن هناك من البادين عن المسجد الحرام بل من اهل حضره و حاضريه. و قد اجمع المسلمون على ان من كان في الحرم فهو من حاضري المسجد الحرام و ان بلغ من جهة المشرق اثنى عشر ميلا. و المظنون ان الميل منها ثلاثة آلاف و خمسمائة ذراع بذراع اليد لكن بعضا من الإمامية قدّر الحد لحاضر المسجد الحرام من كل جهة من جهاته بما لا يبلغ اثنى عشر ميلا و لا دليل عليه و الروايات الصحيحة صريحة في خلافه. و منها ما ذكر فيها ان اهل مرّ الظهران من حاضري المسجد فإنه عن مكة بمرحلة. و المروي الذي لا يقبل التأويل هو ما لا يبلغ ثمانية و أربعين ميلا للنص على ان اهل عسفان و ذات عرق من حاضري المسجد الحرام. و بعد المكانين عن مكة اكثر من ثلاثين او أربعين ميلا. و في بعض الروايات ان اقرب المواقيت خارج عن هذا الحد. و ذهب ابو حنيفة و أصحابه الى ان حاضر المسجد الحرام من كان داخلا في المواقيت و ينبغي ان يريدوا بها يلملم و قرن المنازل و ما ساواهما في البعد دون مسجد الشجرة او الجحفة. و قال الشافعي من لا يبلغ مسافة قصر الصلاة نظرا الى ان مسافة القصر تكون سفرا عن مكة لا حضرا قلت لو أخذنا الحضر في اللغة

ص: 174

مقابل السفر لكانت مسافة عشرة أميال و نحوها سفرا لغويا و عرفيا و ضربا في الأرض و ما التحديد في القصر إلا تحديدا لبعض اقسام السفر و قال بعضهم من كان في الحرم وَ اتَّقُوا اللَّهَ بطاعته فيما أمرتم به او نهيتم عنه في أمر الحج و احكامه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ على مخالفة الشريعة في ذلك فإنه شرع الحج بهذه الحدود لطفا بكم فإنه غني عن عبادتكم و من لطفه أن يشدد عليكم بالوعيد على المخالفة لما يعلمه من عبث الأهواء بكم

سورة البقرة (2): آية 197

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

195 الْحَجُّ أي وقت الحج و الذي يصح فيه أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ معينة و لئن كان المشركون ينسئونها الى أشهر أخر فإنما النسي ء زيادة في الكفر. و هي شوال و ذو القعدة و ذو الحجة لا غيرها. نعم كل ذي الحجة وقت ببعض الاعتبارات لبعض الاجزاء كشوال و ذي القعدة. قال في التذكرة و عليه اكثر علمائنا. و هو الظاهر مما

روي في الكافي و الفقيه و التهذيب عن سماعة و معاوية عن الصادق (علیه السلام) انها شوال و ذو القعدة و ذو الحجة. و نحوه ما رواه في الكافي و التهذيب عن زرارة عن الباقر (علیه السلام).

و في الدر المنثور و غيره كالبيهقي و البخاري في أحاديث مسندا عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) انها شوال و ذو القعدة و ذو الحجة كما في أحاديث أبي امامة و ابن عباس و ابن عمر.

و صريح قول الكاظم (علیه السلام) كان جعفر «يعني الصادق (علیه السلام)» يقول ذو الحجة كله من أشهر الحج. كما رواه في التهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج و روى نحوه في تفسير البرهان أخذا من تفسير العياشي

و كذا صريح

قول الصادق (علیه السلام) في شمولها لما بعد ايام التشريق في صوم الثلاثة في بدل الهدي حينئذ انا اهل بيت نقول ذلك لقوله تعالى فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ يقول في ذي الحجة. كما رواه في الكافي و التهذيب في الحسن كالصحيح او الصحيح عن رفاعة عنه (علیه السلام). و يؤيده ما رواه في الوسائل و البرهان أخذا من تفسير العياشي عن حفص بن البختري عن الصادق (علیه السلام). و ربعي عن الكاظم (علیه السلام).

و المراد في الآية ان مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من افعال الحج أي يصح بعض الاجزاء فيها كالاحرام الذي هو جزء من أحد النسكين الحج و العمرة و ان اختصت بعض الأفعال بيوم عرفة و ما بعده. فلا يجوز أن يقدم إحرام الحج على الأشهر المذكورة بإجماع الإمامية و حديث اهل البيت و بذلك قال عطا و مجاهد و طاووس و الشافعي. و في الدر المنثور

ص: 175

ذكر جماعة رووا ذلك منهم الشافعي و الحاكم و صححه عن ابن عباس و ابن مردويه عن جابر عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و الشافعي و غيره عن جابر موقوفا. و الإحرام جزء من الحج و الحج أشهر معلومات. و حكى في التذكرة عن مالك و الثوري و النخعي و أبي حنيفة و إسحاق و احمد ان الإحرام ينعقد قبل الأشهر المذكورة فإذا بقي على إحرامه الى أشهر الحج جاز للحج. تشبثا منهم بقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ و يرده ان كون الأهلة كلها مواقيت للناس و الحج إنما هو باعتبار مجموع الحوادث للناس و الحج فإنها إنما تكون مواقيت للحج و للناس في حوادثهم و أمورهم إذا امتازت بعض الأهلة عن بعض باعتبار الوقوع او البداية او النهاية و إذا لم يمتز بعض الأهلة عن بعض في التوقيت كان الزمان كله ظرفا ليس فيه وقت و لا ميقات فلا تكون الأهلة مواقيت. و لو تنزلنا لكان قوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ نصا على التعيين كنص السنة على تعيين التاسع و العاشر من ذي الحجة على بعض اعماله.

و عمرة التمتع كالحج لا يقع شي ء منها في غير الأشهر المذكورة بإجماع الإمامية و

حديث اهل البيت و ما رووه عن جدهم (صلی الله علیه و آله) من قوله (صلی الله علیه و آله) دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة كما أسنده الجمهور في جوامعهم و مسانيدهم عن خمسة من الصحابة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)

كما أشرنا اليه آنفا.

فإذا كانت داخلة فيه كانت موقتة بوقته. و ان الإحرام الذي جعله للعمرة المتمتع بها الى الحج كان في ذي القعدة و لم يرد ما يجوّز تقديمه على شوال. و قد اجمع المسلمون على انه لا يجوز أن تقدم عمرة التمتع على أشهر الحج بجميع اعمالها. لكن في التذكرة عن ثاني قولي الشافعي إذا أحرم بالعمرة في شهر رمضان و أتى بباقي اعمالها في شوال و حج من سنته كان متمتعا. و قال ابو حنيفة و يجوز ايضا ان يقدم من اعمالها على أشهر الحج الى ثلاثة أشواط من طوافها. و لعل أبا حنيفة يتشبث لتقديم إحرامها بما يتشبث به لتقديم إحرام الحج و قد عرفت ما فيه. و يبقى قول الشافعي هنا و تقديم الأشواط الثلاثة و نحوها ليس له ما يتشبث به فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ

اي جعل إتمامه فرضا واجبا عليه بسبب عقده للإحرام بالتلبية او اشعار الهدي او تقليده كما في صحيحة الكافي عن معاوية عن الصادق (علیه السلام)

و يدخل في ذلك الإحرام من المواقيت في حج التمتع لدخول العمرة في الحج فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ اي ان الحج بطبيعته

ص: 176

و مصلحة تشريعه يأبى هذه الأمور. و تقدير الكلام فمن فرض فيهن الحج فلا يأت في حجه برفث و لا فسوق و لا جدال لأنه لا رفث و لا فسوق إلى آخره فحذف جواب الشرط لدلالة هذه الجملة المذكورة عليه دلالة يكون ذكره معها من فصول الكلام. و جي ء بالجملة الخبرية.

و صرح باسم الحج في قوله جل شأنه «فِي الْحَجِّ» لإيضاح ان الحج بذاته ينافر هذه الأمور. و ليعرف ان عدمها ليس تكليفا محضا يختص بمن فرض الحج بل هو غرض يريد الشارع تحصيله من المكلفين حتى في مورد لا يكون فيه من غير هذه الجهة منكر يجب النهي عنه و اثم تحرم المساعدة عليه كما لو اكره المحل بحق الزوجية زوجته على وطئها في حجها الواجب أو المستحب بإذنه أو المولى أمته في حجها باذنه. او طاوعت المحلة زوجها غير البالغ على وطئها في حجه و ما أشبه ذلك. فإنه بمفاد الآية و الغرض يراد من كل مكلف عدم حصوله كمنعه ان كان لمنعه أثر و على ذلك جاءت صحيحة إسحاق بن عمار عن الكاظم (علیه السلام) في ان المولى المحل إذا كان عالما بأنه لا ينبغي له ان يطأ أمته في حجها باذنه كان عليه الكفارة كما افتى الأصحاب على إطلاقها سؤالا و جوابا بل الظاهر انه لا يخفى عليه ان وطأها مع رضاها لا ينبغي له لأنه اعانة على الإثم. و لو قيل و لا جدال فيه لاحتمل عود الضمير إلى ذلك الحج المفروض من حيث انه فرضه على نفسه و ما يرجع إلى تكليفه الخاص به لا من حيث منافرة ذات الحج لهذه الأمور و إن كان بعضها حلالا في غيره كجماع الزوجين و قول لا و اللّه و بلى و اللّه في مقام الصدق. هذا و في التبيان و غيره الرفث عند أصحابنا كناية عن الجماع قلت و هو احدى روايات الجمهور عن ابن عباس عن رسول اللّه و رووه ايضا عن ابن عباس و ابن عمرو ابن الزبير موقوفا. و الحجة لأصحابنا فيه إجماعهم و ما

في الكافي عن الصادق (علیه السلام) الرفث الجماع. و الفسوق الكذب و السباب. و الجدال قول الرجل لا و اللّه و بلى و اللّه و نحوه ما روى في الفقيه عن الصادق (علیه السلام) إلا انه لم يذكر السباب. و نحوه ايضا ما روي في التهذيب عن الكاظم (علیه السلام) الا انه ذكر المفاخرة بدل السباب.

و لعل ذكر السباب و المفاخرة كان رعاية لبعض الوجوه باعتبار الغالب من اشتمالها على الكذب و يشهد لذلك خلوّ رواية الفقيه منهما و خلوّ رواية الكافي من المفاخرة و خلوّ رواية التهذيب من السباب و كلها في مقام البيان. و ايضا ان الجماع هو المتيقن من الرفث في التفسير مع شهادة قوله تعالى فيما سبق أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ و لئن ذكر له في كتب اللغة معان أخر فهي على سبيل الاحتمال. و الأصل فيه البراءة وَ ما تَفْعَلُوا

ص: 177

مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ و يوفكم جزاءكم و هو العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين وَ تَزَوَّدُوا من تقوى اللّه و الأعمال الصالحة. و الزاد ما يعد من الطعام لحاجة السفر كني به هنا عن الاستعداد للآخرة فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مما يعتني الإنسان بتزوّده و بعدّه لضرورته و يراه واجبا لازما لحاجته إنما هو التَّقْوى للّه و العمل بأوامره و نواهيه. و لعمري ان التفريع بالفاء ليوضح الرد لما ذكر في تفسير الآية من ان قوما كانوا يرمون أزوادهم و يتسمون بالمتوكلين فقيل لهم تزودوا من الطعام و لا تلقوا كلكم على الناس. و لئن ذكرت بذلك رواية عن ابن عباس و غيره كما أحصاه في الدر المنثور فإن عرضها على كتاب اللّه في تفريع الآية بالفاء يعرّفك و هاهنا وَ اتَّقُونِ عطف تفسير على تزودوا فائدته البيان و التأكيد يا أُولِي الْأَلْبابِ الذين يعرفون بعقولهم حاجتهم إلى التزود بالأعمال الصالحة و وجوب تقوى اللّه و ما للتقوى من فضل الغاية العظمى

سورة البقرة (2): آية 198

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

196 لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ في أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ

في تفسير البرهان عن تفسير العياشي عن الصادق (علیه السلام) في تفسير الآية قوله (علیه السلام) يعني الرزق فإذا أحل الرجل من إحرامه و قضى نسكه فليشتر و ليبع انتهى.

و يكون وجه المناسبة في السياق في هذه الجملة هو الاستدراك و رفع ما يتوهم بسبب تحريم الرفث و الجدال و الأمر بالتقوى و الحث عليها فلا بأس في ان يكتسب ما هو زائد نوعا عما أعد من المال لسفر الحج. و روى في ذلك و نحوه في الدر المنثور عدة أحاديث.

و في التبيان روى عن أبي جعفر (علیه السلام) قال لا جناح عليكم ان تبتغوا فضلا من ربكم معناه ان تطلبوا المغفرة. و في مجمع البيان رواه جابر عن أبي جعفر (علیه السلام).

و لعل ذكر المغفرة باعتبار انها المصداق الأهم لنوع الإنسان مما يبتغي حينئذ من اللّه. و وجه المناسبة في السياق هو انه بعد الترغيب في التقوى و ملازمة الحدود في الواجبات و المحرمات اقتضى اللطف ان يرغب في الازدياد من الخير و منه طلب المغفرة بأسبابها فجرى الترغيب بنحو الاحتجاج بثبوت المقتضي و عدم المانع فإن المقتضي لابتغاء الفضل من اللّه بديهي عند العقل و العقلاء و ليس في ذلك مانع و لا على المبتغي جناح. و اي جناح عليه في ذلك فابتغوه و اغتنموا فيه الفرص فَإِذا

ص: 178

أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ الافاضة جعل الشي ء فائضا من فيض الماء اي فإذا أفضتم جمعكم تشبيها لاندفاع جمعهم الكثير في رحيلهم لساعتهم بعد العصر دفعة بفيض الماء المنبعث في ابتدائه من عرفات يقال أفاض الحديث اي أفاض كلامه فيه. و عرفات هو الموقف المعروف و فيه نسك اليوم التاسع. و في التعبير بالافاضة دلالة على ان الموقف في عرفات له مكث محدود الوقت يجتمع فيه الناس ثم يرحلون بأجمعهم كالماء الفائض و ان عرفات منشأ هذه الافاضة و فيض الجمع. و صرفت عرفات مع العلمية و التأنيث لأنها بصيغة الجمع فحملت عليه فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالصلاة و التقرب اليه بطاعته في النسك و الوقوف عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و هو المزدلفة و جمع و سمي مشعرا لأنه محل لنحو من شعائر اللّه. و إذا جعلت جملة فَاذْكُرُوا لبيان الوظيفة بمنزلة الجملة الخبرية جاز ان يراد بالذكر ما يعمّ المستحب. ثم أكد اللّه الترغيب بذكره و الإقبال عليه ببيان الاحتجاج و التذكير باستحقاقه شكرا لنعمته العظمى فقال جلت آلاؤه وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ و أنعم عليكم بالهدى تلك النعمة الجليلة وَ إِنْ كُنْتُمْ الواو للحال «و ان» مخففة من الثقيلة تفيد التأكيد بمعنى و قد كنتم مِنْ قَبْلِهِ اي من قبل الهدى المدلول عليه بقوله هداكم لَمِنَ الضَّالِّينَ و لا تجعلوا المشعر سبيل عابر من عرفات إلى منى كما كانت قريش تقترحه بتشريعهم و جبروتهم على سائر العرب بل قفوا فيه للنسك بحيث يكون اندفاع جمعكم منه بعد الوقوف فيه افاضة منه كالافاضة من عرفات و اذكروا اللّه فيه

سورة البقرة (2): آية 199

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

197 ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ العاملين على شريعة الحج بحقيقتها و هو ابراهيم الخليل (علیه السلام) الذي أتى بشريعة الحج و إسماعيل و إسحاق و من كان بعدهم من المتبعين لهذه الشريعة. جاء فيما أشرنا اليه آنفا من الكافي و التهذيب

في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) عن الباقر (علیه السلام) عن جابر في ذكره لحج رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). ثم غدا (صلی الله علیه و آله) أي من منى و الناس معه و كانت قريش تفيض من المزدلفة و هي جمع

«أي لا يقفون في عرفة فتكون لهم منها افاضة بل يقفون في المشعر و تكون منه إفاضتهم»

و يمنعون الناس من ان يفيضوا منها

«أي من المزدلفة يعني انهم لا يدعون الناس بعد إفاضتهم من عرفات ان يقفوا في المزدلفة لكي يكون لهم منها افاضة ايضا بل لا يكون لهم

ص: 179

إلا الاستطراق»

فأقبل رسول اللّه و قريش ترجو ان تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون

«اي لا يمضي الى عرفة بل يمكث في المزدلفة و تكون منها إفاضته (صلی الله علیه و آله)»

فأنزل اللّه عليه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و استغفروا اللّه يعني ابراهيم و إسماعيل و إسحاق في إفاضتهم و من كان بعدهم الحديث.

و لا ينبغي الريب في ان مرجع الضمير في منها هو المزدلفة إذ لم يسبق في الحديث ادنى ذكر او إشارة الى عرفات. و في تفسير البرهان آخذا من تفسير العياشي ذكر خمس روايات تذكر ان المراد أفيضوا من عرفات: نعم فيها ما يؤيد حديث جابر في ان قريشا منعوا الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة اي منعوهم من أن يمكثوا فيها عند رجوعهم من عرفة لكي تتحقق لهم الافاضة من المزدلفة. و لكن في تلك الروايات اختلاف فإن بعضها يذكر ان المأمور بالإفاضة من حيث أفاض الناس هم قريش و بعضها انه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و كذا ما أحصاه في الدر المنثور في رواياتهم و الكل لا يقوى على المقاومة لحديث جابر المنتصر برواية الصادق (علیه السلام) و الباقر (علیه السلام) له فإن ذلك تصديق منهما (علیه السلام) له. و ينافيها و يردها أيضا سياق الآية و العطف فيها بثم. و لا يجدي في ذلك ما ذكره في الكشاف و غيره بالقياس الواهي.

نعم في مجمع البيان انه قد روى أصحابنا ان هاهنا تقديما و تأخيرا تقديره فليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه.

الآية. و لم أجد الرواية عاجلا لنرى سندها و لو كانت عن إمام لذكره في المجمع على عادته فالحكم لبيان رواية الصادق (علیه السلام) و الباقر (علیه السلام) عن جابر المعتضدة بترتيب القرآن المتسالم عليه. و في التبيان ذكر القول بأن الآية خطاب لجميع الحاج ان يفيضوا من حيث أفاض ابراهيم (علیه السلام) من مزدلفة و قال انه شاذ و علل شذوذه بكلام مضطرب عهدة اضطرابه على النساخ و حاصله الاعتراض على كون المراد بالناس ابراهيم (علیه السلام) وحده و قد عرفت ان رواية جابر ترفع هذا الاعتراض و اما دعوى الإجماع على خلاف هذا القول فلعلها ناظرة إلى المروي عن ابن عباس و عائشة و عطا و مجاهد و الحسن و قتادة و بعض المفسرين و لا حجة فيه و كيف كان فلا اجماع و بالنظر الى مجمع البيان يظهر ان نساخ التبيان خلطوا بين قولي الضحاك و الجبائي. و ظني ان في عبارة التبيان سقطا

سورة البقرة (2): آية 200

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)

وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 198 فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أتيتم بها و فرغتم

ص: 180

منها و المناسك هنا أفعال الحج لأنها ينسك بها للّه فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ان من عادة الناس و خصوص العرب ان لا يغيب آباؤهم عن ذكرهم بالافتخار بهم و الإطراء بمحاسنهم و إحسانهم أو القسم بهم و نحو ذلك. فالمعنى العام في الآية ان لا تغفلوا عن ذكر اللّه بعد أداء المناسك. و اولى ما يحتج عليهم في ذلك هو انهم لا يغفلون عن ذكر آبائهم إذن فكيف يغفلون عن ذكر اللّه بما هو اهله و هو الإله العظيم و له المجد و الجلال و هو خالقهم و كل نعمة عليهم حتى التي من آبائهم هي منه جلت آلاؤه. بل ينبغي ان يكون ذكرهم للّه أشد من ذكر الآباء بنحو يناسب جلال اللّه و نعمائه. و جاء في التفسير في الروايات ببيان بعض المصاديق العادية في ذكرهم لآبائهم.

ففي صحيحة الكافي عن منصور بن حازم عن الصادق (علیه السلام) كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم كان أبي كذا و كذا فقال اللّه فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ. و نحوها ما رواه العياشي عن الباقر (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام) و جملة مما رواه في الدر المنثور.

هذا و ان ذكر اللّه حق الذكر يساوق ملازمة التقوى و لكن احوال الناس مختلفة يكونون فيها على اصناف ذكر في الآيات بعضها فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا و قد اعرض عن الآخرة و نسيها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي من نصيب لأنه أعرض عنها و لم يعمل لها و لم يسأل شيئا من خيرها

سورة البقرة (2): الآيات 201 الى 203

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

199 وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا نعمة حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ نعمة حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ

و في الكافي في صحيحة جميل عن الصادق (علیه السلام) رضوان اللّه و الجنة في الآخرة و المعاش و حسن الخلق في الدنيا

200 أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا «من» في «مما» بيانية فإن ما سألوه لا ينال بمحض الدعاء وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لعباده من الصنفين المذكورين 201 وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ

و هي ايام التشريق كما في صحيحتي الكافي عن محمد بن مسلم و منصور بن حازم و صحيحة التهذيب عن حماد بن عيسى عن الصادق (علیه السلام)

ص: 181

كصحيحتي الوسائل عن قرب الاسناد عن حماد عنه (علیه السلام) و نحوهما روايات العياشي و رواية الدر المنثور عن ابن عباس و ابن عمر و ابن الزبير.

و ذكر اللّه هو التكبير كما في صحيحتي محمد و منصور المشار إليهما. و صورته المتفق عليها بين المسلمين كما ذكره في التبيان. اللّه اكبر.

اللّه اكبر لا اله الا اللّه و اللّه اكبر اللّه اكبر و للّه الحمد. و زاد أصحابنا تبعا للروايات عن أئمتهم اهل البيت و جمعا بينها. اللّه اكبر على ما هدانا و الحمد للّه على ما أولانا و رزقنا من بهيمة الانعام.

و هو مستحب على المشهور

لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه الكاظم قال سألته عن التكبير في ايام التشريق أ واجب او لا قال (علیه السلام) مستحب و ان نسي فلا شيئ عليه

فالأمر في الآية للاستحباب.

و وقته بعد كل فريضة من صلاة الظهر يوم النحر الى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر. فيكون خمسة عشر تكبيرا و لمن ينفر بالنفر الاول بعد الزوال فيكون عشر مرات. و اختلف كلام الفقهاء من الجمهور في عدده و لكن مالكا و الشافعي في احد أقواله وافقا أصحابنا فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي ضمن يَوْمَيْنِ من تعجل الدين اي تعجل مقامه بمنى في ضمن يومين بتعجل غايته فنفر النفر الاول. و لو كان بمعنى استعجل و عجل او للمطاوعة كما في الكشاف لدلت الآية على جواز النفر في اليوم الاول منها ايضا و هو باطل بإجماع المسلمين. و لأجل جعل التعجل في ضمن يومين اشترط أصحابنا و فقهاء اهل السنة الا أبا حنيفة و أصحابه كونه قبل الغروب من اليوم الثاني فلو امسى حرم عليه النفر الاول فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لهذه الجملة ظاهر لا حاجة الى بيانه لأن في رواية الكافي عن إسماعيل بن نجيح رد عليه و لأن الأحاديث عن الفريقين جاءت على خلافه و هو ان المراد غفرت ذنوبه. منها صحيحة الحلبي في قوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ و صحيحة عبد الأعلى و رواية ابن عيينة و رواية ابن نجيح و رواية العياشي عن معاوية ابن عمار و عن أبي بصير عن الصادق (علیه السلام) و رواه في الدر المنثور عن علي امير المؤمنين (علیه السلام) و ابن مسعود و ابن عمر و ابن عباس في احدى الروايتين فيكون حاصل المراد من الآية الكريمة فمن أتمّ حجه بالتعجل او التأخر غفرت ذنوبه فإنه لا أثر لخصوص عنواني التعجل و التأخر في غفران الذنوب. و من هذا الوجه و كون التعجل إتماما للحج يعرف جوازه و انه لِمَنِ اتَّقى النساء و الصيد كما هو المشهور بين الإمامية باعتبار الاختصاص بالأمرين المذكورين و المجمع عليه

ص: 182

باعتبار الدخول في كل ما يحرم على المحرم كما عن ابن سعيد او ما يوجب عليه الكفارة كما عن ابن إدريس و أبي المجد كما ورد في خصوص النساء و الصيد صحيحة حماد بن عثمان و روايته الأخرى كما في التهذيب و صحيحة جميل و معتبرة ابن المستنير عن الصادق (علیه السلام) و به جاءت احدى روايات الدر المنثور عن ابن عباس و المراد اتقاء المحرم و ما يحرم عليه في حجة مما يكون بين النساء و الرجال سواء كان رجلا او امرأة. و هناك روايات أخرى من الفريقين لم يأخذ بمضمونها الإمامية و على ذلك إجماعهم مضافا إلى ان قوله تعالى ذلك لِمَنِ اتَّقى لا يستقيم تفسيره بالتقوى المطلقة بعمومها لأن حصولها إلى حين النفر لا يتفق إلا للمعصوم فلا يبقى موقعا للامتنان بغفران الذنوب إذا كان ذلك قيدا له و كذا لا يبقى مورد للتخفيف على سائر الناس كما يعرف من روايات الفريقين بأجمعها إذا كان قيدا لجواز النفر كما لا يستقيم تفسيره بمطلق حصول التقوى و مصداقها في الماضي إذ لا فائدة على ذلك في هذا القيد فإن كل من له حج قد حصل منه مصداق للتقوى فلا بد من ان يراد بذلك تقوى خاصة و هو ما بينته الروايات المتقدمة و بالنظر إلى هذا الذي ذكرناه يسقط كثير من الأحاديث وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ مقتضى سوق الآية هو انه لا تتكلوا على غفران ما مضى من ذنوبكم بسبب الحج بل اتقوا اللّه فيما بقي من أعماركم و تحققوا و ليكن على علمكم و ذكركم دائما انكم الى اللّه لا محالة تحشرون فيحاسبكم على اعمالكم و يجازيكم فاستعدوا لذلك بالتقوى و تزودوا منها فإنها خير الزاد

سورة البقرة (2): الآيات 204 الى 205

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205)

202 وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ و تستحسنه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بيعجبك أي يظهر الإيمان و الصفاء و حسن الصحبة و يقول ان ذلك في قلبي وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ بضم الياء من اشهد أي يقول اشهد اللّه على ذلك و لازمه دعوى ان اللّه عالم بذلك وَ الحال هُوَ خصم لك و للايمان و أَلَدُّ الْخِصامِ في ذلك. و اللدد هو الشدة في الخصومة و الألد صفة مشبهة نحو أعمى العين و اعورها أي شديد الخصومة. يقال خصم ألد و خصوم لدّ كقوله تعالى في سورة مريم وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا 203 وَ إِذا تَوَلَّى من الولاية بأن تصير له ولاية

ص: 183

و تسلط سَعى فِي الْأَرْضِ السعي الاسراع في المشي قيل و العمل و منه قوله تعالى في سورة النجم أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى و في سورة الدهر وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً. و ظني ان ذلك من المعنى الأول و كني به عن العمل لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ المراد بالحرث هنا الزرع لأنه تحرث له الأرض. و النسل ما يتولد بالتناسل. و الناس نسل آدم

و عن تفسير العياشي عن الحسين بن بشار عن الرضا (علیه السلام) قوله النسل هم الذرية و الحرث الزرع

و عن زرارة عن الصادق و الباقر النسل الولد و الحرث الأرض

و هذا يرجع إلى تفسيره بالزرع

و في مجمع البيان و روي عن الصادق ان الحرث في هذا الموضع الدين و النسل الناس.

و أظن انه اخذه من تفسير القمي ففيه قال الحرث في هذا الموضع الدين. و هذا الكلام لا دلالة فيه على انه رواية عن الصادق (علیه السلام) وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ و لا يعين عليه و لكن يمهل ذلك الساعي و يملي له

سورة البقرة (2): الآيات 206 الى 207

وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)

204 وَ إِذا قِيلَ لَهُ اي لذلك المفسد اتَّقِ اللَّهَ و لا تفسد أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ التي يراها لنفسه بِالْإِثْمِ و اجتماع اتباعه معه على الضلال اي استولى عليه اعتزازه بالإثم اي بالتعاضد الباطل على الباطل و الآثام فيأنف من قول القائل له اتق اللّه و في التبيان أخذته العزة من اجل الإثم الذي في قلبه من الكفر. و قيل أخذته العزة أي دعته العزة إلى الإثم كما تقول أخذت فلانا بأن يفعل أي دعوته إلى ان يفعل و نحوه قال في الكشاف فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ اي فليكن محسوبة في عاقبة جهنم وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ الذي مهده لنفسه بسوء اعماله هي 205 وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ في التبيان شرى باع. و في الكشاف يبيعها أي يبذلها في الجهاد أقول و يمكن ان يراد به معنى الاشتراء المتعارف على نحو ما ذكرناه في الآية الرابعة و الثمانين أي يشتري نفسه بالأعمال الصالحة ابتغاء لمرضات اللّه عليها و هي سعادتها التي تشترى لها.

و في التبيان و روي عن أبي جعفر يعني الباقر (علیه السلام) انه قال نزلت في علي (علیه السلام) حين بات على فراش رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لما أرادت قريش قتله (صلی الله علیه و آله). و رواه في البرهان و غاية المرام عن تفسير العياشي باسناده عن ابن عباس و عن جابر عن الباقر (علیه السلام) و رواه الشيخ الطوسي

ص: 184

في اماليه بأسانيده من رجال اهل السنة و غيرهم عن زين العابدين و ابن عباس و انس و أبي عمرو بن العلا و عن أبي اليقظان عمار عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)

و في مجالسه عن أبي ذر ان امير المؤمنين احتج في الشورى بأن الاية نزلت في شأنه.

و في غاية المرام رواه ابن بابويه و ابن شاذان و الكليني و الطوسي و ابن عقده و البرقي و ابن فياض و العبدكي و الصفواني و الثقفي بأسانيدهم عن ابن عباس و أبي رافع و هند بن أبي هاله. و رواه من أهل السنة الحافظ ابو نعيم عن ابن عباس. و الثعلبي في الجزء الأول من تفسيره. و رواه ايضا في تفسيره و ابن عقبة في ملحمته و ابو السعادات في فضائل العشرة بأسانيدهم عن أبي اليقظان عمار. و رواه الغزالي في باب الإيثار من الاحياء بالنحو المفصل في مباهاة اللّه لجبرائيل و ميكائيل بعلي و نزول الآية في شأنه و كذا أورده الرازي و النيسابوري و الشيرازي في تفاسيرهم و عن ابن الأثير في الإنصاف في جمعه بين الكشاف و الكشاف و رواه في الفصول المهمة عن الاحياء و رواه الثعلبي ايضا باسناده عن السدي.

و روى الحاكم في مستدركه و الذهبي في تلخيص المستدرك و اخطب خوارزم موفق في مناقبه و الحمويني في فرائده و فضائل الصحابة بأسانيدهم عن زين العابدين (علیه السلام) قال أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة اللّه علي بن أبي طالب عند مبيته على فراش رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و روى احمد في مسنده بطريق صحيح و الحاكم في مستدركه و صححه على شرط البخاري و مسلم و ذكر روايته عن أبي داود و الطيالسي و غيره

و رواه النسائي في خصائصه صحيحا و اخطب خوارزم في مناقبه و الذهبي في تلخيصه و صححه و الحمويني في كفاية الطالب و السمط الاول من فرائده عن ابن عباس في حديث و شرى علي نفسه و لبس ثوب النبي (صلی الله علیه و آله) و نام مكانه و قد كان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) البسه برده و كانت قريش تريد ان تقتل النبي (صلی الله علیه و آله) الحديث.

هذا و في الكشاف لم يذكر هذه الرواية و فسر يشري نفسه بقوله يبيعها و يبذلها في الجهاد ثم ذكر الرواية في صهيب و انه اشترى نفسه و افتداها من مشركي قريش بماله. و هذا لا يناسب تفسيره بيبيعها و يبذلها و إنما يناسب ذلك ما روي في شأن امير المؤمنين (علیه السلام) في بذل نفسه و مبيته على فراش الرسول ليفديه بها. و العجب من السيوطي فإنه مع طول باعه في الحديث و استقصائه في الدر المنثور للأحاديث المتعلقة بالتفسير حتى الشواذ و المناكير و مع ذلك لم يذكر ما استفاض من طرقهم في نزول هذه الآية في شأن امير المؤمنين و مبيته على الفراش و روى نزولها في شأن صهيب او مع أبي ذر أو مع غيرهما. و ان ما

يرويه صهيب من قول النبي (صلی الله علیه و آله) له ربح

ص: 185

البيع

لا يناسب بذل ماله و لا تناسب الآية إفلات أبي ذر من أهله. فإن قيل ان الآية مدنية فكيف يكون نزولها في مبيت علي (علیه السلام) على الفراش في مكة قلت ان حادثة المبيت كانت حين خرج رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) من مكة مهاجرا فنزلت الآية بعد ذلك في تمجيد علي (علیه السلام). و ايضا لم يكن بين ما يروونه من شأن صهيب مع قريش و بذل ماله و بين مبيت علي (علیه السلام) على الفراش إلا يوم و نحوه فكيف ناسبت الآية المدنية شأن صهيب و لم تناسب شأن امير المؤمنين في مبيته على الفراش وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ و هذه التتمة و امتنانها انما تناسب شأن امير المؤمنين (علیه السلام) و رأفة اللّه به في حفظه بجبرائيل و ميكائيل من قتل قريش كما فيما أشرنا اليه من روايات أبي نعيم و الثعلبي و ابن عقبة و أبي السعادات و الغزالي و الرازي و غيرهم

سورة البقرة (2): آية 208

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

206 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فيما حضرنا من كتب اللغة السلم بكسر السين و سكون اللام الصلح و المراد منه الملائمة و عدم الحرب لا عقد المصالحة الذي يؤثر السلم. و تؤنث حملا على نقيضها الحرب كقوله تعالى في سورة الأنفال وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها. و قال العباس بن مرداس

السلم تأخذ منها ما رضيت به و الحرب يكفيك من أنفاسها جرع

و من الغريب ما رواه في الدر المنثور من ان المراد بالسلم شرائع الإسلام و ما ذكره من سبب النزول. و ان المخاطبين هم اهل الكتاب. أو ان المراد بالسلم الإسلام. كما اغرب من نقل عنه في الكشاف ان المخاطبين هم المنافقون كما اغربوا بتفسير السلم بالطاعة كيف و الآية و التي بعدها يناديان بأنهم نوع المؤمنين باللّه و رسوله محمد (صلی الله علیه و آله) و قد كانوا حين الخطاب بالآية و مدة حياة الرسول مستوسقين بأجمعهم للسلم فيما بينهم اذن فما ذا الذي أمروا بأن يدخلوا فيه ما هو الا عنوان يضمن لهم دوام السلم بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) و يحكم انتظامه و لم نجد لهذا العنوان بيانا و تفسيرا معقولا إلا ما ورد عن اهل البيت (علیه السلام)

ففي الكافي بسنده عن عبد اللّه بن عجلان عن الباقر (علیه السلام) في تفسير السلم في الآية قال (علیه السلام) في ولايتنا. و كذا رواية سعد بن عبد اللّه القمي بسنده عن الفضيل عنه (علیه السلام) و رواية ابن شهرآشوب عنه (علیه السلام) و رواية العياشي عن الكلبي عن الصادق عنه (علیه السلام).

و في امالي الشيخ بسنده عن محمد بن ابراهيم عن الصادق (علیه السلام) قال في ولاية علي بن أبي طالب و كذا رواية ابن شهرآشوب عن زين العابدين عليه السلام

ص: 186

و الصادق (علیه السلام) و رواية العياشي عن أبي نصير عن الصادق (علیه السلام). و في معناها روايات أخر عن العياشي عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام). و روايته عن جابر عن الباقر (علیه السلام) و روايته عن مسعدة عن الصادق عن أبيه عن جده عليهم السلام.

و لعمر الحق ان ولاية علي (علیه السلام) و الأئمة من آل الرسول لهي اشرف انواع السلم و أعظمها بركة.

بها يستوسق السلم العام بين المسلمين بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) و بها يستحكم نظامه و يقر قراره و لو تمسك كافة المسلمين بها لما حدثت الحروب الطاحنة كحروب البصرة و صفين و النهروان و كربلا و الحرة و غيرها. و لما ذهب خيار المسلمين اضاحي لقساوة زياد و ابنه و الحجاج و أشباههم فإنا للّه و انا اليه راجعون. و «كافة» بمعنى جميعا حال من ضمير الجماعة في ادخلوا و لا محصل لكونه حالا من السلم خصوصا مع ما ذكرناه من حال المسلمين في عهد رسول اللّه وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ الخطوات جمع خطوة أي لا تتبعوا اثره و تخطوا على خطاه في الضلال و لا تنقادوا على أثره بغوايته إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ لعداوته. و هل تخفى عداوته. و ها أنتم بأقل التفات تعلمون انه يغريكم بكل قبيح و يوقعكم بغوايته في كل شر و مكروه

سورة البقرة (2): الآيات 209 الى 210

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

207 فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ و منها قوله تعالى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. و تأكد بيانه بتواتر الأحاديث من الفريقين في ان المراد من اهل البيت هم علي و الزهراء و ذريتهما صلوات اللّه عليهم. و قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و غير ذلك من الآيات المأثورة تفسيرها في فضل علي (علیه السلام) و زعامته و ولائه كما مضى و يأتي ان شاء اللّه و ما تواتر لفظا او معنى من أحاديث الفريقين في فضل علي (علیه السلام) و ولايته و امرته على المؤمنين. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ في إنفاذ امره و اظهار الحق بلا إلجاء 208 هَلْ يَنْظُرُونَ أي نوع الناس ان كان المقصود من الآية أحوال القيامة و أهوالها. و ان كان المقصود أهوال أواخر الزمان فالمراد بعض الناس و اهل ذلك الحين إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ نسبة الإتيان إلى اللّه مجاز أي يأتيهم آثار قدرته و عظمته و سلطانه القاهر كما

ص: 187

يقال لمن جاءه جيش الملك بسطوة سلطانه جاءك الملك. و ظلل جمع ظلة و هو ما اظلك. و الغمام معروف. و ظلل الغمام يحتمل ان تكون مجازا في الشدائد التي تدهمهم و ظلمات الأهوال كما يظلم الجو بالغمام وَ الْمَلائِكَةُ فاعل بالعطف ليأتي و اسناد الآيتان إليهم لا مانع من حقيقته.

و في روايات الدر المنثور في الآية ما يعسر تأويله و يستحيل مؤداه لأنه تجسيم و فيه نسبة التحين في المكان إلى اللّه جل شأنه وَ قُضِيَ الْأَمْرُ فإنه لا راد لقضاء اللّه وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ و هو وليها يرجعها اليه سلطان إلهيته القاهر و وجوبه و إمكان ما سواه و حاجته في جميع أحواله اليه جل سلطانه

سورة البقرة (2): الآيات 211 الى 212

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)

209 سَلْ يا رسول بَنِي إِسْرائِيلَ على وجه التقرير و التوبيخ على تمردهم و كفران النعم كَمْ آتَيْناهُمْ أي أظهرنا لهم مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ واضحة تهديهم إلى الحق و توضح لهم سبل الرشاد في التوحيد و وحي التوراة من اللّه و نبوة رسول اللّه و وحي قرآنه و حظوا من تلك الآيات و بينات دلائلها و إرشادها بالنعمة العظمى و لكن بدلوها و كم قابلوها بالارتداد و الجحود و العباد و كفران النعمة وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ كمجي ء تلك الآيات البينات فبشره بالعقاب الشديد فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 210 زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا زينها الشيطان و أهواء النفس الأمارة كما في قوله في سورة الأنفال و النحل و النمل و العنكبوت.

و قيل ان اللّه زينها لهم بأن خلق فيها الأشياء المرغوبة المعجبة. و ليس بشي ء لأن خلق هذه الأشياء إنما هو للناس عامة لا لخصوص الذين كفروا. و في الكشاف يجوز ان يكون اللّه زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها أو لأنه أمهلهم قلت و على ذلك جاء قوله تعالى في سورة الانعام كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ و في سورة النمل زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ و لكن هذا مجاز لا يصار اليه إلا بحسب اقتضاء الدليل وَ يَسْخَرُونَ أي الذين كفروا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اما لأجل فقرهم او لأجل ايمانهم بالآخرة و رجائها أو لأجل اقدامهم على تحمل الشدائد بسبب الإيمان وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ فوق الكافرين الساخرين يَوْمَ الْقِيامَةِ في نعيم الجنان و رفعة

ص: 188

الرضوان. و هل المراد بالذين اتقوا هم الذين آمنوا او الاشارة إلى أن ما كل الذين آمنوا ينالون الدرجات الرفيعة يوم القيامة كما

ورد في الحديث المستفيض المروي في صحاح اهل السنة و غيرها عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) انه يؤخذ ببعض أصحابه يوم القيامة ذات اليمين و ذات الشمال فيقول أصحابي أصحابي فيقال له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

اللّه هو العالم بالمراد وَ اللَّهُ يَرْزُقُ بالكرامة و رفعة الدرجات مَنْ يَشاءُ من عباده بحسب الأهلية و استحقاق الكرامة بِغَيْرِ حِسابٍ و لا حد محدود و اللّه ذو الفضل العظيم

سورة البقرة (2): آية 213

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

211 كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لا تفرق بينهم فيما يرجع إلى نحلة او شريعة.

و في التبيان روى عن أبي جعفر «الباقر (علیه السلام)» انه قال كانوا قبل نوح امة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلالا فبعث اللّه النبيين انتهى

و المراد لا مهتدين كل الاهتداء في المعارف لأن الفطرة إنما تهدي إلى أصل الإلهية و التوحيد و شي ء من صفاته جل شأنه. و لا توصل إلى المعاد الجسماني بالخصوصيات التي جاء بها القرآن الكريم و لا إلى الشريعة. و لا ضلالا بكل الضلال. إذن فهم ضلال في مطلق القول لضلالهم عن كثير مما تراد منهم معرفته و الاهتداء اليه.

و في رواية العياشي عن مسعدة عن الصادق (علیه السلام) قلت أ فضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى قال (علیه السلام) لم يكونوا على هدى بل على فطرة اللّه التي فطرهم عليها.

و هذا كله ينطبق على ما

أسنده الكافي عن يعقوب بن شعيب عن الصادق (علیه السلام) في الآية قال كان قبل نوح أمة ضلال فبعث اللّه النبيين. و كذا في رواية العياشي عن يعقوب عنه (علیه السلام)

و في روايته عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) كان هذا قبل نوح كانوا ضلالا.

و روايته عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام) كانوا ضلالا.

و لم يرو عن أهل البيت انهم كانوا كفارا. نعم اضطربت الروايات كما في الدر المنثور عن ابن عباس ففي بعضها قوله على الإسلام كلهم و قريب منه ما رواه عن أبي بن كعب و في بعضها من طريق العوفي قال كانوا كفارا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ برضوان اللّه و جزائه و نعيم الآخرة لمن آمن باللّه و اتقاه و عمل صالحا وَ مُنْذِرِينَ لمن خالف كل ذلك او بعضه بغضب اللّه و نكاله و يوم القيامة و عذابه الأليم المهين وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ أي نوع الكتاب الإلهي الذي

ص: 189

يجي ء به الرسل من الأنبياء من عند اللّه فيحتمل ان يراد بالنبيين خصوص الرسل الذين ينزل عليهم كتاب و يحتمل ان يراد بهم مطلق الأنبياء و عبر بانزال الكتاب معهم باعتبار انزاله على الرسل منهم فكان منزلا مع نوبة بعثتهم عليهم السلام أنزله اللّه بِالْحَقِّ أي ليبين الحق و يوضح للناس نهج الهدى في دينهم و شرائعهم. و من غايات ذلك و فوائده ان يكون مرجعا و حكما فاصلا في الاختلاف و باعتبار هذه الغاية الشريفة قال جلت آلاؤه لِيَحْكُمَ ببيانه بَيْنَ النَّاسِ أي مطلق الناس لا خصوص أولئك المذكورون و لو كانوا هم المراد لقيل ليحكم بينهم فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ و دعاهم إلى الاختلاف فيه جهلهم و اهواؤهم وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الكتاب إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ و اختلفوا فيه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ من محكماته المعتضدة بدلالة العقل و في هذه الجملة دفع لما يتوهم من ان الكتاب كيف يحكم بين الناس مع ان كل فرقة من الأمة الواحدة في خصامها الديني و المذهبي مع الفرقة الأخرى تحتج بالكتاب الجامع بين الأمة و تدعي دلالته على ما تقول به فقال اللّه تعالى ما معناه ان الكتاب المنزل للأمة بحسب الحكمة بلسان البشر و لسان تلك الأمة و محاورتها و ان كان فيه صريح محكم و ظاهر بالوضع و مجاز ظاهر المعنى بالقرائن اللفظية او العقلية البديهية لكن صريحه و محكمه و بيناته لا تبقي مجالا للتوهم.

بل هي واقفة بالمرصاد لتلاعب الأهواء بظاهره و مجازاته فلم يختلفوا لخفاء دلالته و اشكالها بل وقع الاختلاف بَغْياً حاصلا بَيْنَهُمْ و انحرافا من بعضهم عن الحق و زيغا إلى البغي ليموه الباغون أمرهم بالتشبث بالمتشابهات فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بحقيقة الإيمان و أوصلهم بتوفيقه لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ و تأييده باللطف لأنهم اهل لذلك بإيمانهم و تدبرهم في الكتاب وَ اللَّهُ يَهْدِي و يوصل إلى الحق مَنْ يَشاءُ ممن هو اهل للطفه و توفيقه جلت نعماؤه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و يجوز ان تحمل الآية على الاختلاف في نفس الكتاب و كونه منزلا من اللّه و يكون المراد من البينات هي المعجزات و الدلائل على صدق الرسول و نزول الكتاب من اللّه

سورة البقرة (2): آية 214

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

212 أَمْ حَسِبْتُمْ أيها المسلمون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ و تنالوا درجاتها الرفيعة جزاء و مكافاة

ص: 190

للأعمال الصالحة بدون إخلاص ثابت و صبر و ثبات على نصر الدين و شدائده و بدون تمحيص للصادق من الكاذب يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الحجرات 17 أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ آل عمران 136 أي و لما يجاهد المجاهدون منكم و يصبر الصابرون فيكون اللّه قد علم بعلمه التابع في الأزل انهم سيجاهدون و يصبرون باختيارهم رغبة فيما عند اللّه و نصرا لدين الحق وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ من أنصار الحق من الأمم و المثل بمعنى مثل بكسر الميم اي تمتحنون و تبتلون و تصبرون كما امتحنوا و صبروا. و الذي أتاهم و صبروا عليه هو ان مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ من البؤس ضد النعماء وَ الضَّرَّاءُ من الضر ضد السراء أصابهم ذلك و مسهم بألمه لا مجرد عروض ذلك وَ زُلْزِلُوا بهيجان الابتلاء و المحن و اضطراب الأحوال و لكن الصابرين منهم ثبتوا على شدّتهم في أمر الدين و لم يهنوا بل دام بهم ذلك الحال و هم على صبرهم و ثباتهم حَتَّى يفزع الرسول و المؤمنون إلى نصر اللّه و يستنزلون نصره و رحمته و يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ دعاء و استنصارا لرغبتهم في ظهور دين الحق. فكونوا مثلهم و اصبروا و اثبتوا أيها المسلمون و لكم البشرى بالنصر أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب

سورة البقرة (2): آية 215

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

213 يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ في جوابهم ما يعرفهم ما ينفقونه و هو ما كان خيرا نافعا يراد به الإحسان و وجه اللّه. و ما يبين مواضعه لئلا يكون إنفاقهم تضييعا للأموال و مستلزما للمفاسد ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ الناحيتين من الوالدين الأب و الجد و الأم و الجدة وَ الْأَقْرَبِينَ للمنفق و قدموا على مطلق الأقارب ممن في اعطائهم صلة الرحم بيانا لأهميتهم و تقديمهم عند مساواتهم للغير في سائر المزيات و دوران الأمر وَ الْيَتامى اليتيم هو الصغير الذي لا أب له وَ الْمَساكِينِ الفقراء وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المحتاج في سفره و ان كان له مال لا يصل اليه وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ و ان أسررتم به فإنه لا تخفى عليه خافية و لا يضيع

ص: 191

أجر المحسنين

سورة البقرة (2): الآيات 216 الى 217

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)

214 كُتِبَ و فرض عَلَيْكُمُ الْقِتالُ فرض كفاية لتنالوا فضيلة الجهاد و نصر الدين و يحظى بعضكم بكرامة الشهادة و حياتها الحسنى وَ الحال هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ الكره بالضم مصدر بمعنى المكروه كراهة طباع و إن رغب فيه المخلصون في نصر الإسلام وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و أحسن أثرا و عاقبة في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير لكم و ما هو شر وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بذلك فيختار لكم بلطفه و توفيقه ما هو خير 215 يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ذكر القمي في تفسيره في سبب نزولها ما حاصله ان سرية لرسول اللّه يرأسها عبد اللّه بن جحش وافوا ببطن نخلة عيرا لقريش فقتلوا عبد اللّه بن الحضرمي و غنموها و أسروا أسيرين و كان ذلك في أول يوم من رجب من الأشهر الحرم. و ذكر في الدر المنثور رواية عن جندب بن عبد اللّه و فيها ان اصحاب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) شكوا أن ذلك اليوم من رجب او من جمادى و فيما ذكره عن ابن عباس انهم كانوا يظنون ان تلك الليلة من جمادى و كانت أول رجب و لم يشعروا. و نحوه ما رواه عن أبي مالك الغفاري. و عن الزهري و أبي مقسم. و اضطرب ما ذكر روايته عن عروة في ذلك و تدافع. و

في الكافي في الصحيح عن عمر بن يزيد عن الصادق (علیه السلام) في ان اليوم يتبع الليلة الماضية لا الآتية قال (علیه السلام) لأن اهل بطن نخلة حيث رأوا الهلال قالوا قد دخل الشهر الحرام انتهى

و الرواية تشير إلى القصة. و المعنى يسألك المشركون على سبيل الإنكار او المسلمون على سبيل الاستفهام عن الشهر الحرام قتال فيه. قتال بدل اشتمال من الشهر الحرام قُلْ ما معناه ان ترك القتال في الشهر الحرام إنما هو وسيلة لنوع من احترام الناس و تسكين للشر و اما إذا كان الناس هم الهاتكون للحرمات فأولئك لا حرمة لهم و لا كرامة فكيف يستنكر قتال المشركين في الشهر الحرام و هم الطواغيت المحادون للّه و رسوله و المؤمنين دائما و في الشهر الحرام و لهم قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ للناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و لا يزالون على هذا

ص: 192

الصد منذ ظهرت دعوة الإسلام و التوحيد محادة للّه وَ كُفْرٌ بِهِ وَ صد عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فلا يخلون سبيل المسلمين اليه وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ و هم رسول اللّه و من آمن به من اهل مكة بذلك الإخراج المزعج عداوة للّه و توحيده و رسوله و دعوته إلى الصلاح أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مما تحسبونه كبيرا من قتال المشركين في الشهر الحرام. بل انهم لا يزالون يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن التوحيد و دين الحق بالمخادعة أو ما تيسر لهم من انواع الإيذاء وَ الْفِتْنَةُ عن الدين أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ مع ان غزوهم و قتالهم إنما كانا لأجل تهديدهم و إرهابهم و ردعهم عن أذى المؤمنين فإنهم لا يزالون مصرين على عداوة دين الحق وَ لا يَزالُونَ في ضلالهم و غيهم يُقاتِلُونَكُمْ هذا التفات إلى خطاب المسلمين و فيه مناسبة لأن يكونوا هم السائلين عن قتال المشركين في لشهر الحرام حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ و هذا غرضهم من قتالهم لكم إِنِ اسْتَطاعُوا ان يدوموا على قتالكم و فيه بشرى بأنهم لا يستطيعون و لا يدومون وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ جمع باعتبار معنى «من» حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و سقطت كأنها لم تكن فلا اثر لها و لا كرامة و لا استحقاق مع الكفر و الارتداد فِي الدُّنْيا باعتبار افتخارهم بأعمالهم في الإسلام او ترتيب آثار لها وَ الْآخِرَةِ فإن المرتد الذي يموت على الكفر قد أسقط نفسه بكفره عن أهليته للجزاء و ان عمل العمل في حينه على وجهه وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ في التبيان و المبسوط روى أصحابنا انه «اي قتال المشركين في الأشهر الحرم» باق على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة و افتى بذلك في النهاية و لم يحضرني كتاب الجهاد من خلافه و الرواية هي مضمرة تهذيبيه و تفسير العياشي عن العلاء بن فضيل و في طريقها محمد بن سنان. و في المنتهى انه قول أصحابنا و في الجواهر لا خلاف فيه عندنا و جعل المضمرة مجبورة بذلك. و لا يعارضه قتال الرسول (علیه السلام) عام الفتح لهوازن في شوال و الطائف في ذي القعدة لأن الذين قاتلهم ممن هتكوا حرمة الشهر و بدأوا بالقتال بل يدل عليه قوله تعالى في سورة براءة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ

ص: 193

و التعليق على ذلك ليس من حيث مهلة العهد فانها خاصة و هذه الآية عامة و تلك اربعة أشهر و هذه نحو خمسين يوما

سورة البقرة (2): الآيات 218 الى 219

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

216 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا حق الايمان و يحتمل ان يراد بهم المؤمنون الذين لم يستطيعوا الهجرة حينئذ و بالمعطوف المهاجرون المجاهدون و يحتمل ان يراد المهاجرون و كرر لفظ الذين للعناية بهجرتهم و جهادهم وَ الَّذِينَ هاجَرُوا من بلادهم لأجل الإسلام و نصرته. و الهجرة مأخوذ من الهجر و اختصت شرعا بمن هجر بلاد الشرك في سبيل الإسلام و اتباع الرسول (صلی الله علیه و آله) قبل الفتح وَ جاهَدُوا بذلك جهدهم و طاقتهم و اختص ذلك بالحرب الشرعية فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ جملة أولئك خبر للذين و كفى برجائهم لرحمة اللّه معرفة باللّه و ازديادا للخير من فضله و رحمته وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فكأنه قيل ان اللّه يرحمهم لأنه رحيم فكيف بمن يرجو رحمته بنيته و عمله بل و يغفر لهم ما سلف و يقبل توبتهم 217 يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ في التبيان قال جمهور أهل المدينة كل ما أسكر كثيره فهو خمر انتهى و اشتقاقها اما من الاختمار و هو لازم لنوع المسكرات المائعة و اما من مخامرتها للعقل. و استفاض من رواياتنا عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و الأئمة من اهل البيت

انها اسم لكل مسكر كما في صحيح ابن الحجاج عن الصادق (علیه السلام) و رواية القمي في تفسيره عن الباقر (علیه السلام) و المرسل من طريق و المسند المعتبر عن عامر بن السمط عن زين العابدين (علیه السلام) و رواية الهاشمي عن الصادق (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و رواية الامالي للطوسي بسنده عن النعمان بن بشير عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)

كما أحصاه في الوسائل في الباب الأول من الأشربة و في الباب الخامس عشر ايضا

عن الباقر (علیه السلام) قال قال رسول اللّه كل مسكر حرام و كل مسكر خمر

و استفاضت الرواية

عن الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السلام في ان الفقاع خمر

وَ الْمَيْسِرِ هو القمار و اخطأ في المصباح في قوله الميسر قمار العرب بالأزلام و لم يلتفت إلى قوله تعالى في سورة المائدة 90 إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ. و لو كانت الأزلام و المقامرة بها عين الميسر لما صح عطفها على الميسر مع الفاصل لكنها عطفت عليه من باب عطف الخاص على العام لما فيه من الأهمية.

و في الكافي مسندا عن الكاظم الميسر هو القمار.

و بإسناده عن الباقر عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قيل يا رسول اللّه ما الميسر

ص: 194

قال كل ما تقامر به حتى الكعاب و الجوز قيل فما الأزلام قال (صلی الله علیه و آله) قداحهم التي يستقسمون بها

و في رواية العياشي عن الكاظم (علیه السلام) عن الصادق (علیه السلام) النرد و الشطرنج من الميسر

و في الكشاف عن النبي (صلی الله علیه و آله) إياكم و هاتين اللعبتين المشومتين فإنهما من ميسر العجم

و عن علي (علیه السلام) ان النرد و الشطرنج من الميسر

و في الدر المنثور بسنديه عن ابن عباس و ابن عمر الميسر القمار و قد خبط الكشاف هاهنا بقوله أولا الميسر القمار و قوله بعد هذا فإن قلت ما صفة الميسر قلت كانت لهم عشرة أقداح و هي الأزلام إلى آخره و قوله بعد هذا و في حكم الميسر انواع القمار من النرد و الشطرنج انتهى هذا و ان أسلوب الجواب في هذه الآية و النظر إلى قوله تعالى في سورة المائدة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ و الآية التي بعدها ليشعر بأنهم سألوه (صلی الله علیه و آله) و هم يذكرون منافعهما للناس في شرب الخمر و ربح القمار و نحو ذلك مما يسوله الهوى فجاء الجواب على سبيل التساهل و التأكيد في الحجة على تحريمهما قُلْ يا رسول اللّه فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ بالتنكير اشارة إلى مجهوليتها و هوانها لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما في الدنيا في الصحة و الشرف و المعيشة و السلام مع الناس و في الآخرة أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما و حقيق في لطف اللّه و رحمته و نظره إلى مصالح عباده و تكميلهم و تهذيبهم في شريعة الحق ان يحرمهما لأجل إثمهما الكبير وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ عند فقرهم و غناهم قُلِ الْعَفْوَ كل بحسب حاله

ففي الكافي مسندا عن الصادق (علیه السلام) العفو الوسط

اي المقدار المتوسط بين ما يكون إسرافا و ما يكون من البخل بحسب حال الشخص. و نحوه رواية العياشي عن جميل عنه (علیه السلام) و في روايته

عن عبد الرحمن عنه (علیه السلام) قال

الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما.

و عن يوسف عن الصادق و الباقر عليهما السلام قال الكفاف

و في رواية أبي بصير القصد

و لا يخفى انه لم يقيد الإنفاق بكونه في سبيل اللّه بل هو مطلق الإنفاق و قال اسماء بن خارجه الفزاري لزوجته

خذي العفو مني تستديمي مودتي و لا تنطقي في سورتي حين اغضب

كَذلِكَ خطاب لرسول اللّه يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ جمع الضمير باعتبار ان البيان يشمل الامة الْآياتِ في امر الخمر و الميسر و النفقة و غيرها لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ لغاية ان تتفكروا باختياركم فتأخذوا

ص: 195

بحظكم من الرشد

سورة البقرة (2): الآيات 220 الى 221

فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

218 فِي امور الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لتتبعوا رشدكم و تعملوا بما فيه صلاح الدارين وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ امر الْيَتامى في مخالطتهم في أموالهم

ففي تفسير القمي في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) انه لما نزل قوله تعالى في سورة النساء إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً اخرج كل من كان عنده يتيم و سألوا رسول اللّه عن إخراجهم فأنزل اللّه و يسألونك عن اليتامى. و في معناها رواية الدر المنثور المصححة عن ابن عباس

قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ بتولي أمرهم و حفظ أموالهم و الإنفاق عليهم منها و حسن تربيتهم و تأديبهم و تعليمهم خَيْرٌ من إخراجهم و ضياع أموالهم و أدبهم وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ في المأكل و المال فَإِخْوانُكُمْ في الدين أو في القبيلة او في النسب القريب و لا بأس بمخالطتهم إذا صافيتموهم مصافاة الاخوان و اصلحتم وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ الذي يأكل اموال اليتامى ظلما او يضيعها مِنَ الْمُصْلِحِ الذي يخالطهم بالإحسان و الإصلاح فاطلبوا الجزاء و احذروا العقاب ممن لا تخفى عليه خافية. و قد روي في الكافي و التهذيب و غيرهما شي ء من وجوه مخالطتهم فليراجع وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي حملكم على ما فيه مشقة عليكم و كلفكم به من إصلاح امر اليتامى و عدم مخالطتهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ في ارادته حَكِيمٌ في شريعته يجريها على حكمة العدل و التيسير 219 وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ في الدر المنثور مما أخرجه البخاري و غيره عن ابن عمر انه كان إذا سئل عن نكاح النصرانية و اليهودية استشهد لتحريمه بهذه الآية. و في التبيان و هذه الآية على عمومها في تحريم مناكحة جميع الكفار و ليست منسوخة و لا مخصوصة.

و تبعه في مجمع البيان على هذه العبارة إلى آخرها و زاد بقوله و هي عامة عندنا و أكد ذلك في آخر كلامه بقوله و هو مذهبنا. و في هذا شك فإن الإجماع الذي ادعاه في الانتصار على حظر نكاح الكتابيات يمكن تأويله ككثير من إجماعاته لأن القمي قال في تفسيره إن الآية منسوخة بقوله تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. و نص على الحل و النسخ في تفسير هذه الآية و هي السابعة من سورة المائدة و في المبسوط نسب التحريم إلى المحصلين من أصحابنا

ص: 196

او إلى بعضهم و قال و قد أجاز أصحابنا كلهم التمتع بالكتابيات و وطأهن بملك اليمين. و تبعه على ذلك في المجمع في تفسير قوله تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. و قد حكى جواز الدوام ايضا عن الحسن و الصدوقين من القدماء. و وجه للكلام هنا ان هذه الآية و كذا قوله تعالى في سورة الممتحنة 10 وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. هل هما منسوختان بقوله تعالى في سورة المائدة 7 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ- وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. أم هذه هي المنسوخة. و قد اختلفت الروايات في هذا الشأن و تحرير الكلام في ذلك موكول إلى مباحث الفقه. و يمكن أن يقال ان آية المائدة مختصة بتحليل الكتابيات بنكاح المتعة و ذلك لاشتراطه بقوله تعالى إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فإن هذا الشرط مختص بنكاح المتعة. لا يقال ان هذا منقوض بورود هذا الشرط في الآية العاشرة من سورة الممتحنة في نكاح المؤمنات المهاجرات. لأنا نقول ان ذلك في آية الممتحنة يمكن كما هو الراجح ان يكون بيانا لأن لا يسقط المسلمون مهورهن بالمرة اكتفاء بما أمروا به من إعطاء أزواجهن الأول من المشركين ما أنفقوا عليهن من المهر و حاصل ذلك ان تزوجهم للمهاجرات يكون على عادة الزواج النوعية بدون مقاصة لهن بما اعطي لأزواجهن الأول من أجلهن و لا إسقاط لمهورهن وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ لكم في الزواج مِنْ حرة مُشْرِكَةٍ مهما كانت وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ و رغبتم فيها وَ لا تَنْكِحُوا نساءكم الْمُشْرِكِينَ قيل ذلك نظرا إلى العادة من ان المرأة يزوجها الولي فيحرم ايضا على المؤمنة ان تزوج نفسها من المشركين حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ حر مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يعني المشركين نساء و رجالا يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ و ان وسوسة الخليط من نحو الزوج او الزوجة من المشركين لها أثر سيّ ء مخوف يجب التحذر منه وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ و من ذلك ان يأمركم بأن تتباعدوا عن وسوسة الخليط المشرك وَ يدعوكم إلى نيل الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ في ذلك بسبب هدايته و إرشاده لكم و توفيقكم للأعمال الصالحة وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ بما فيه هداهم و الإشارة إلى الحكمة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اي لغاية أن يتذكروا

ص: 197

باختيارهم فتنفعهم الذكرى

سورة البقرة (2): آية 222

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

220 وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ المحيض مصدر لحاضت المرأة إذا أخذها الدم المعروف المعتاد للنساء و يجي ء المحيض اسما لزمان الحيض و مكانه قُلْ هُوَ أَذىً اي قذر كما تقدم في قوله تعالى أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ان الأذى القمل. و لا بد في قوله قُلْ هُوَ أَذىً من نحو من الاستخدام فإن الحيض بمعناه المصدري ليس قذرا يجتنبه الرجال و إنما القذر و الأذى هو الدم. و يحسن هذا الاستخدام بشدة الملابسة و الاستغناء به عن التصريح باسم دم الحيض المستقذر فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ اي لا تأتوهن في محل الحيض و القذارة و هو الفرج و يمكن حمل المحيض على اسم الزمان فيجب حمل الاعتزال على اعتزال مخصوص يسبق اليه الذهن من المقام و هو الجماع في الفرج و يوضحه التنفير بكون دم الحيض أذى و قذارة. فرع عليه الأمر بالاعتزال. و اما مطلق اعتزال النساء في زمان الحيض فهو مخالف لإجماع المسلمين و دعوى الأخذ بالإطلاق بعد التخصيص بما دل عليه الإجماع يلزمها تخصيص الأكثر و هو مستهجن. و اما اعتزال ما تحت المئزر كما يقول ابو حنيفة و ابو يوسف فلا يساعده وجه من وجوه الآية الكريمة و حديثهم عن عائشة متعارض وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ بالجماع و هو تأكيد للأمر بالاعتزال حَتَّى يَطْهُرْنَ بتخفيف الطاء كما هو الموسوم في المصاحف المتداولة بين المسلمين يدا عن يد و عليه قراءتهم و لا عبرة بما خرج عن ذلك من بعض القراءات كما ذكرنا في الفصل الثاني من المقدمة. و المعنى حتى ينظفن من ذلك الأذى و القذارة بانقطاع الحيض و نقاء المحل الذي هو الغاية لوجوب الاعتزال و عدم القرب. و هذا هو المناسب لتفريع الأمر بالاعتزال على كون دم الحيض أذى و قذارة و تعليله به و على ذلك اجماع الإمامية و أحاديثهم.

و وافقهم ابو حنيفة و أصحابه إذا انقطع الدم على العشرة دون ما قبلها و في هذا التفصيل اضطراب ظاهر فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ لا يلزم أن يكون هذا التفريع تكرارا في بيان الغاية المذكورة في حتى يطهرن بل اللازم في قانون المحاورة بحسب النظر إلى يطهرن بالتخفيف و تطهرن بالتشديد ان يكون تفريعا لأمر آخر وراء تلك الغاية و هو ان الإباحة بالمعنى الأعم المضاد للحرمة تحصل عند غاية التحريم و وجوب الاعتزال و هو النقاء من الحيض. و ان الوطء الذي يؤمر به و يطلب

ص: 198

لبقاء النوع و حسن الإلفة بين الزوجين أو يكون مباحا بالمعنى الأخص فهو إذا تطهرن من الأقذار بأن غسلن فروجهن من آثار الدم و لو بغسل الحيض و علق هذا على تطهرهن جريا على الغالب و الا فالغرض يحصل و ان سقطن في الماء مثلا بدون اختيارهن مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ في الآية بالاعتزال عنه و عليه رواية الدر المنثور عن ابن عباس و هو المناسب لتعريف ما يؤتى منه. و لا يضر في ذلك التعبير بلفظ من كما حكاه في التبيان عن الفراء.

و حكى في التبيان التفسير بقولهم من حيث ما أمر اللّه به من النكاح دون الفجور كما عن أبي حنيفة.

او من حيث أباحه اللّه دون إتيان الزوجة الصائمة او المحرمة مثلا كما عن الزجاج. و القولان بعيدان من وجوه. و لقد اغرب من قال ان الأمر في أمركم اللّه هو الأمر التكويني. هذا و ان إباحة الإتيان من الفرج بعد الأمر باعتزاله لا تدل على انحصار الإباحة بالوطء فيه بوجه من الوجوه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ في الفقيه و العلل و الخصال و الكافي و تفسير العياشي في رواياتهم ذكر المتطهرين من الغائط بالماء و ان الآية نزلت في ذلك و لعله باعتبار بعض المصاديق

سورة البقرة (2): آية 223

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

221 نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الحرث في الأصل الكراب مصدر حرث الأرض اي كربها ثم استعمل في الأرض التي تحرث كما في هذه الآية ثم استعمل في نبات الأرض المسبب عن الحرث كما في قوله تعالى يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ. و في الآية شبه تمتع الرجل بزوجته بحرث الأرض و الزوجة بالأرض التي تحرث فسميت حرثا اي محل تمتع لكم كما ان الأرض محل حفر و حرث و ليس المراد ان إتيان المرأة لا يحل الا حيث يكون إتيانها زرعا للنسل حتى لو قلنا ان معنى انى شئتم هو اي وقت شئتم. او في القبل سواء كان من أمام او من خلف فإن الآية على هذين التقديرين ساكتة عن تحريم ما عداها حتى لو قلنا ان الأمر في قوله تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ للوجوب (1) كيف و لا خلاف بين المسلمين في جواز إتيان اليائسة و معلومة العقم و إتيان المرأة مطلقا في أعكانها

ص: 199


1- في الدر المنثور اخرج الحاكم عن ابن عبد الحكم ان الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك اي في حرمة إتيان الزوجة في دبرها فاحتج عليه ابن الحسن بان الحرث إنما يكون في الفرج فقال له فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه فقال أ رأيت لو وطأها بين ساقيها او في أعكانها أ في ذلك حرث قال لا قال أ فيحرم قال لا قال فكيف تحتج بما لا تقول به

و بين فخذيها و ساقيها حتى ما بين أليتيها مثلا فَأْتُوا الأمر للاباحة حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ اين شئتم و قد أنكر بعضهم مجي ء انى في اللغة بمعنى كيف او بمعنى اي وقت و الأول متيقن في اللغة و الأخيران شكك فيهما. و الظاهر ان انى الاستفهامية مساوية في المعنى للشرطية و كلما جاء في القرآن من الاستفهامية صالح لأن يراد منه المكان و الجهة مع ان منها ما لا يصلح ان يكون بمعنى كيف كما في قوله تعالى في سورة آل عمران 159 قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ و 32 يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و أما بمعنى أي وقت فليس في القرآن ما يصلح له. و في الدر المنثور في ذكر القول الثاني من المسألة ذكر من اخرج عن أبي سعيد الخدري ان رجلا أصاب امرأة في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزلت نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ و ذكر من اخرج اثنتي عشرة رواية عن عبد اللّه بن عمر ان الآية نزلت رخصة في وطء النساء في أدبارهن. و روي عن ابن عبد البر ان الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة مشهورة. و أورد عن مالك ما يكذب رواية الخلاف عن ابن عمر و صححه الدارقطني عن مالك. و في تهذيب الشيخ في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) انه استشهد للحل بهذه الآية و لم يذكر انها نزلت في ذلك. و كذا رواية العياشي عن زرارة عن الباقر (علیه السلام) و الظاهر ان استشهادهما عليهما السلام انما هو بعمومها لا بنزولها في هذا الشأن. و ملخص الكلام في المسألة ان قول نافع بالجواز معروف و حكاه الطحاوي و حجاج بن ارطاة و عن مالك روايتان. و في الخلاف عن المزني قال بعض أصحابنا حرام و قال بعضهم حلال ثم قال و آخر ما قال الشافعي لا أرخص فيه. و ذكرت في الدر المنثور و غيره رواية الجواز عن أبي مليكة.

و عن عبد اللّه بن القاسم قال ما أدركت أحدا اقتدي به في ديني يشك انه حلال يعني وطء المرأة من دبرها ثم قرأ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ثم قال و أي شي ء أبين من هذا. و فيه اخرج الطحاوي و الحاكم في مناقب الشافعي و الخطيب عن محمد بن عبد اللّه بن الحكم ان الشافعي سئل عنه فقال ما صح عن النبي (صلی الله علیه و آله) في تحليله و لا تحريمه شي ء و القياس انه حلال. و فيه أيضا بعد ان ذكر روايات القول في التحريم قال الحفاظ في جميع الأحاديث المرفوعة «يعني المسندة عن النبي (صلی الله علیه و آله)» و عدتها نحو عشرين حديثا كلها ضعيفة لا يصح منها شي ء و الموقوفة يعني ما وقف سنده

ص: 200

على الصحابي او التابعي هو الصحيح و قال الحافظ بن حجر في المرفوع منكر لا يصح من وجه كما صرح بذلك البخاري و البزار و النسائي انتهى. أقول و ذهب أصحابنا الى جوازه على كراهية شديدة و هي المحصل من أحاديثنا و وجه الجمع بينها و بذلك يستنكر ان يكون نزول الآية في إباحته نعم لا بأس في نزولها للعموم وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ اى هذه احكام ما يعود الى دنياكم و قدموا لآخرتكم من الخيرات و الأعمال الصالحة ما ينفعكم فيها وَ اتَّقُوا اللَّهَ فان خير الزاد التقوى وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ اي و ليكن عملكم عمل العالم المتيقن بأنه يموت و يحشر و يلاقي ربه يوم الحساب و الجزاء لا عمل الغافل مع إقراره بالمعاد في إسلامه وَ بَشِّرِ يا رسول اللّه الْمُؤْمِنِينَ حق الايمان و الثابتين عليه بحيث استحقوا الوصف بذلك

سورة البقرة (2): آية 224

وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

222 وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ العرضة ما تكثر ملاقاته و مصادفته كما يقال الإنسان عرضة للبلاء فلا تكثروا أيمانكم باللّه بحسب كل ما يسنح لكم و تميلون له في الرضا و الغضب فتقولون في ذلك و اللّه لا اعطي فلانا. و اللّه لا أنفق على الفقراء و اللّه لا أكلم اخي. و اللّه لا ازور امي و اللّه لا أصلح بين الناس.

و في رواية العياشي عن منصور بن حازم عن الصادق (علیه السلام) و عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) في الآية يعني الرجل يحلف ان لا يكلم أخاه و ما أشبه ذلك او لا يكلم امه

أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ اي لأن تبروا و تتقوا و تصلحوا تعليلا و بيانا لبعض ما يكون وجها و غاية للنهي في لا تجعلوا و ان كان هناك وجه آخر لتعظيم اللّه و إجلاله

ففي الكافي في صحيح الخزاز عن الصادق (علیه السلام) لا تحلفوا باللّه صادقين و لا كاذبين فان اللّه عز و جل يقول

و لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم.

و ربما كان هذا الوجه يدخل في البر و التقوى. فيكون النهي عن الحلف المعارض للبر و التقوى و الإصلاح كناية عن عدم انعقاده في هذه الموارد

ففي الكافي عن اسحق بن عمار عن الصادق (علیه السلام) في الآية قال إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل علي يمين ان لا افعل. و يشبه ذلك ما أورد روايته في الدر المنثور عن ابن عباس.

و قيل المعنى لا تجعلوا اللّه بواسطة الحلف به مانعا و حاجزا عما حلفتم على تركه بتسمية المحلوف على تركه يمينا. و هذا مرجع ما ذكره في التبيان أولا و صريح ما اقتصر عليه في الكشاف و الأول أظهر و انسب بالمروي و اجمع وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم عَلِيمٌ

ص: 201

بأحوالكم و ما يصلحكم

سورة البقرة (2): الآيات 225 الى 227

لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

223 لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اي بسبب اللغو في ايمانكم إذا خالفتم اليمين او لم يطابق الواقع. و اللغو ما لم يقصد به عقد اليمين بل يجري على اللسان توكؤا في الكلام كما ترى الرجل تقول له ماذا فعلت اليوم فيقول و اللّه جلست من النوم و اللّه خرجت الى المحل الفلاني بلا قصد لليمين و في مجمع البيان و هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام) و أبي عبد اللّه.

و قد تنجرّ العادة في الكلام الى لا و اللّه بلى و اللّه.

ففي الكافي عن مسعدة عن الصادق (علیه السلام) في الآية اللغو قول الرجل لا و اللّه بلى و اللّه و لا يعقد على شي ء

وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ من الآثام فيما عقدتم عليه الايمان و كذبتم او حنثتم فيه وَ اللَّهُ غَفُورٌ ان تبتم حَلِيمٌ لا يعاجلكم بالعقوبة لعلكم تتوبون 224 لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ الإيلاء الحلف من الالية اي الحلفة و يعرف من تتمة الآية و باقي القرائن انه الحلف على ترك وطء الزوجة مطلقا او مدة معينة و الموضوع لأحكام الآية هو ما يزيد على اربعة أشهر. و الجار و المجرور خبر مقدم متعلق في التقدير بحاصل و كائن و نحو ذلك مِنْ نِسائِهِمْ اي من جانب نسائهم و حقوقهن في المعاشرة بالمعروف. و الجار و المجرور متعلقان بحاصل و نحوه تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ تربص مبتدأ مؤخر فلا حق للزوجات فيها في المطالبة بالجماع و لهن المطالبة بعدها فإن سكتن او رضين فلا حرج على الزوج لأن الأمر في جماعهن من الحقوق لا التكاليف فإن انقضت الأربعة أشهر و طالبن او طالبن بعد ذلك فَإِنْ فاؤُ اي رجعوا عن يمينهم الى جماعهن فَإِنَّ اللَّهَ يغفر لهم الحنث و مخالفة اليمين رحمة بالزوجين في حسن اجتماعهم و نظام امر الأولاد فإنه غَفُورٌ رَحِيمٌ 225 وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ او أوقعوه فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقولون عَلِيمٌ بنياتهم. و الآيتان تدلان على ان المؤلي إذا طالبته المرأة بحقها بعد الأربعة أشهر ينحصر امره و يدور بين ان يفي ء او يطلق فإن فاء و وطأ لزمته كفارة حنث اليمين المذكورة في سورة المائدة في الآية الحادية و التسعين. و ليست اليمين بالنسبة الى ما بعد الاربعة أشهر يمينا على ظلم لكي تنحل حينئذ و تسقط كفارتها و ذلك لأنه يمكن للمؤلي أن يخرجها عن الظلم بأن يطلق. و علي هذا كله جاءت

ص: 202

أحاديث الفريقين

سورة البقرة (2): آية 228

وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

226 وَ الْمُطَلَّقاتُ بالطلاق المشروع يَتَرَبَّصْنَ جملة خبرية يراد بها الأمر و ذلك ابلغ من الإنشاء في الطلب و الإيجاب لصوغه بقالب ان المطلوب منه يقع منه ذلك و لا يكذبك بِأَنْفُسِهِنَّ و يمسكنها عما يقتضيه الحال و طبايعهن من الطموح الى الزواج و مقدماته و لا يخرجن من رعاية الزوج و حيطته ثَلاثَةَ قُرُوءٍ القرء يأتي للطهر و الحيض و هو هنا الطهر و عليه اجماع الإمامية و حديثهم و قول المالكية و الشافعية و المروي عن عائشة و زيد بن ثابت و ابن عمر كما في الدر المنثور. و فيه قال ابن شهاب سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدا من فقهائنا الا و هو يقول هذا انتهى (1) و لقوله تعالى في أول سورة الطلاق الموسومة بأنها مكية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ اي في عدتهن التي تراد لاستبراء الرحم و عندها كما يقال ولد لست خلون من الشهر او لسبع بقين منه و قد انعقد الإجماع من المسلمين على ان طلاق السنة هو ما كان في الطهر و به جاء

قول الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) لابن عمر حين طلق امرأته و هي حائض ما هكذا أمرك اللّه انما السنة ان تستقبل الطهر استقبالا

و قوله (صلی الله علیه و آله) فإن بدا له ان يطلقها طاهرا قبل ان يمسها فذاك الطلاق للعدة كما انزل اللّه عز و جل.

او فتلك العدة التي امر اللّه ان تطلق لها النساء كما في جوامع الجمهور و جوامعنا في الحديث و اطلاق حكم المطلقات هنا مقيد بحكم الآية الثامنة و الأربعين من سورة الأحزاب و الرابعة من سورة الطلاق مع تأكيدها برواياتنا في اليائس بغير ريبة وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يعني ان من كانت تؤمن باللّه و اليوم الآخر

ص: 203


1- قال الأعشى في خطابه لكثير الغزو «لما ضاع فيها من قروء نسائكا» يريد ان أطهار نسائه ضاعت لما فات فيها من الجماع و الحبل. و من الغريب تأويل الكشاف للقروء في شعر الأعشى بالعدة: و في المصباح عن ابن فارس و يقال انه اي «القرء» للطهر «اي بحسب الوضع» و ذلك ان المرأة الطاهر كان الدم اجتمع في بدنها و امتسك: و في لسان العرب قال ابو اسحق ان الذي عندي في حقيقة هذا ان القرء في اللغة الجمع- فإن القرء اجتماع الدم في الرحم و ذلك انما يكون الطهر. و أقول ان المحصل من معناه بحسب موارد الاستعمال هو ما يناسب الجمع و الاحتواء و الضم. ففي معلقة عمر بن كلثوم «ذراعي عيطل ادماء بكر هجان اللون لم تقرء جنينا» اي لم تضم جنينا و لم تحتو عليه. و في لسان العرب «و لم تقرء جنينا و لا دما» و منه قولهم أ قرأت النجوم إذا غابت اي دخلت فيما يضمها عن الظهور. و يكون استعمال القرء بالحيض مجازا بعلاقة ان الدم الخارج فيه كان مقروءا في الجسم او الرحم. و اما ان معنى القرء الوقت فلم يعرف له شاهد. و حمل الآية عليه تعسف و شذوذ

لا تجترئ على كتمان ما خلق اللّه في رحمها. و هذا الزجر الشديد يناسب ان يكون على كتمان الحمل اما لأن تخرج من العدة في ظاهر الحال عاجلا او لأن تكتمه لكراهية انتسابه لأبيه او لغير ذلك من اسباب الكتمان و اما كتمان الحيض في ايام العدة و بعد آخرها لأجل الازدياد من مدة العدة لتأكل النفقة و تأمل الرجعة بعد انقضاء العدة الواقعية فهو بعيد لاستلزامه ان تكون صلة الموصول و هي خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ واردة باعتبار ما مضى عن زمان الكتمان كما سيأتي في الجمع بين المعنيين. إذا فالمناسب لأسلوب اللفظ و ظاهره و ذلك الزجر الشديد هو كتمان الحمل. و يؤيده

رواية البرهان و الوسائل عن العياشي عن أبي بصير عن الصادق (علیه السلام) في الآية لا يحل لها ان تكتم الحمل إذا طلقت و هي حبلى و الزوج لا يعلم:

و لا يمكن الجمع بين المعنيين من هذا اللفظ كما ذكر في الدر المنثور روايته عن ابن عمر و مجاهد و ذلك لأن كتمان ما خلق اللّه في أرحامهن من الحيض إنما هو باعتبار خروجه من الرحم و يكون المراد من خلقه في أرحامهن إنما هو باعتبار ما مضى فالكلام على هذا بمعنى ان يقال و لا يكتمن ما خرج من أرحامهن مما خلق فيها قبل ذلك. و كتمان الحمل إنما هو باعتبار استقراره في الرحم. و اللفظ الواحد لا يصلح للجمع بين هذين اللحاظين و الاعتبارين. و في تفسير القمي في الآية قال لا يحل للمرأة ان تكتم حملها أو حيضها او طهرها و قد فوض اللّه تعالى إلى النساء ثلاثة أشياء الطهر و الحيض و الحمل انتهى و لا يظهر من المقام كونها رواية واردة عن امام في بيان المراد بما خلق اللّه في أرحامهن ان لم يظهر خلاف ذلك فضلا عما بيناه من انه لا يمكن الجمع بين الأمرين في اللفظ الواحد.

و في مجمع البيان نسب ما ذكرناه من تفسير القمي إلى الرواية عن الصادق (علیه السلام) و لم نجد لها أثرا و لعله اعتمد على تفسير القمي وَ بُعُولَتُهُنَّ جمع بعل و التاء لتأنيث الجمع و معنى البعل الزوج مع معنى التمتع بزوجته و ملاعبتها و مباشرتها و البعال و المباعلة مباشرة النساء و ملاعبتهن و لعل العدول عن التعبير بالأزواج إلى التعبير بالبعولة لإخراج غير المدخول بها و للإيماء إلى الوجه في انهم أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ نظرا إلى الحالة التي قبل الطلاق من الزوجية و لا حق للمرأة في معارضة البعل في ردها فِي ذلِكَ التربص إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً لا مضارة. او جي ء بلفظ «ان» لذكر الحالة التي يتحقق بها الرد و ارادته كما في قوله تعالى و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان أردن

ص: 204

تحصنا. و هذا الحكم في الرد مقيد بحكم المختلعة كما في الآية الآتية و حكم المطلقة ثلاثا كما في التي بعدها وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من حسن المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ في الفضل و التفوق. و جي ء بلفظ الرجال دون الأزواج اشارة إلى وجه التفوق و كمال الرجولية و فضل قيام الرجل بأمورها. و إنفاقه عليها وَ اللَّهُ عَزِيزٌ في حكمه حَكِيمٌ في احكامه

سورة البقرة (2): آية 229

الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

227 الطَّلاقُ للزوجة الواحدة الذي شرع فيه الرد المذكور و لم يجعل اللّه زاجرا عنه بتعليق المراجعة بعده على نكاح المرأة زوجا غيره مَرَّتانِ

و لأن الطلاق هو ان يقطع الزوج علقة الزوجية بينه و بين امرأته و يطلق سراحها من قيد زوجيته يكون من البديهي انه لا يتحقق بدون الزوجية و علقتها العادية التي يتوقف عليها تحقق موضوعه كما روى هذا المعنى في الكافي و غيره عن الباقر و الصادق عليهما السلام

و عليه مذهب اهل البيت و اجماع الإمامية و مذهب ابن عباس.

و في الدر المنثور أخرج البيهقي عن ابن عباس ان ركانة قال لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) طلقتها ثلاثا في مجلس واحد قال (صلی الله علیه و آله) نعم انما تلك واحدة.

و اخرج عبد الرزاق و مسلم و ابو داود و النسائي و الشافعي و الحاكم و البيهقي عن ابن عباس كان على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة «أي الثلاثة في مجلس واحد و نحوه» فقال عمر ان الناس قد استعجلوا في امر لهم فيه اناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم. و نحوه من طريق طاوس. فإذا طلق الرجل طلاقا صحيحا فقد انقطعت من زوجيتها تلك العلقة التي يقطعها الطلاق فلا يقع منه طلاق لتلك المطلقة الا بأن تكون تلك العلقة قد رجعت اما برجعة و اما بتزويج بعقد جديد. و ان كان ما وقع لفظه أولا ليس صحيحا و لا طلاقا لم يكن ما يقع بعده طلاقا ثانيا بل هو أول و كذا الكلام في الثالث فإذا وقع الطلاق المذكور فَإِمْساكٌ اي فحكم اللّه في ذلك اما ان تردوهن بالرجعة إلى الزوجية و تمسكوهن على ذلك بِمَعْرُوفٍ في المعاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بأن تتركوا الطلاق على رسله إلى ان تنقضي العدة بِإِحْسانٍ

في أداء النفقة و الإسكان و المعاملة. قال في التبيان و هو المروي عن أئمتنا و قال في مجمع البيان و هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام) و أبي عبد اللّه (علیه السلام)

أقول و لم أجد ذلك مرويا بعنوان التفسير للتسريح

ص: 205

بالإحسان و لعلهما أخذاه مما روي في شرح طلاق السنة او

يكون المراد بالتسريح بالإحسان هي التطليقة الثالثة كما رواه في الكافي و التهذيب عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) و في الفقيه عن الرضا (علیه السلام) و عن تفسير العياشي عن الباقر (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام) و في الدر المنثور عن النبي (صلی الله علیه و آله)

وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ في مطلق الطلاق أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ و لا من غيره شَيْئاً و خص الأخذ مما اوتين نظرا إلى الغالب من أن الزوج عند تفرقه من زوجته او نفرة الزوجة منه ينظر في امر طلاقها إلى استرداد ما أتاها من المهر إِلَّا أَنْ يَخافا أي الزوجان بسبب كراهية الزوجة له و تهديدها له بالإثم ان لم يطلقها فيكون كل من الزوجين معرضا لمخالفة اللّه في أوامره و نواهيه و محرماته فيخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فيما بين الأزواج لدواع خصوصية. و عدل من الخطاب إلى الغيبة تكريما و تبعيدا من الخطاب بما يراد هنا من عدم الاقامة لحدود اللّه فَإِنْ خِفْتُمْ بحسب ما عرفتم من حالهما و مقالهما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ و لا اثم عَلَيْهِما بحسب البذل و الأخذ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نفسها من زوجها. و يفهم من الآية أمور «الاول» يجوز ان تكون الفدية في مورد الآية تمام ما آتاها أو اكثر منه كما لا خلاف فيه عندنا نصا و فتوى لأن عدم الجناح انيط بما افتدت به مطلقا و لو أريد البعض مما أوتيت او الكل لا غير لقيل فلا جناح عليهما في أخذه «الثاني» ان تكون من الزوجة نفرة بحيث يخاف لأجل نفرتها ان لا تقيم حدود اللّه كما يدل ايضا قوله تعالى افْتَدَتْ بِهِ «الثالث» يعرف من لفظ الافتداء انه لا رجعة للزوج في العدة و إلا لم يتحقق الافتداء «الرابع» ان مورد هذه يغاير مورد الثالثة و العشرين من سورة النساء لأن تلك اقتصرت على استثناء موردها من الذهاب ببعض ما اوتين حينما تأتي بالفاحشة البينة بل يجوز للزوج عندنا ان يعضلها حينئذ «الخامس» ان صورة ما ذكر من الفراق بافتداء الزوجة هو بحكم سياق الآية من الطلاق الذي جرى البيان في احكامه فلا يفترق عنه من حيث وقوع الثلاث كما عليه نصوص أحاديثنا و هو المشهور بل عليه الإجماع و كذا وقوع التحليل به و ان وقع بلفظ خلعتك بدون لفظ الطلاق كما هو المنصوص عليه في أحاديثنا تِلْكَ اشارة إلى ما ذكر من الأحكام. للطلاق و الأخذ

ص: 206

حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها اعتدى الحد و تعداه بمعنى واحد وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لغيرهم. بل و لأنفسهم بإيقاعها في وبال المعصية

سورة البقرة (2): الآيات 230 الى 231

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231)

228 فَإِنْ طَلَّقَها ثالثة و لا تنس ان الطلاق لا يتحقق إلا إذا ورد على زوجية فَلا تَحِلُّ لَهُ لا بالرجوع و لا بالنكاح مِنْ بَعْدُ أي بعد الطلاق الثالث مهما طال الأمد حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ و تكون له زوجة شرعية بخصوص العقد الدائم فَإِنْ طَلَّقَها ذلك الغير طلاقا صحيحا. و المراد من ذلك المثال لانقطاع علقة النكاح الدائم فإن الموت مثل الطلاق في التحليل بإجماع الأمة فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في أَنْ يَتَراجَعا بأن يستأنفا عقدة النكاح برغبة منهما و ثبات على حسن العشرة و تأدب بما تخلل من نكاح الثاني عن المسارعة إلى الشغب و خزازة الطلاق إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ و قد ثبت في السنة من طريق الفريقين ان اطلاق الآية في نكاح الثاني مقيد بوطئه لها و عليه اجماع الأمة و لا يعتبر في الوطء الانزال لإطلاق السنة و اما ذوق عسيلته في أحاديث الفريقين فالمراد منه لذة الجماع لا التذاذها بماء الرجل و يوضح ذلك ان فيها ذوق عسيلتها و من المعلوم انه لا معتبر لنزول ماء المرأة كما انه لا لذة للرجل بماء المرأة ليكون له كذوق العسيلة بل المراد حتى تذوق لذة جماعه و يذوق لذة جماعها في القبل لأنه مجمع العسيلتين غالبا دون غيره.

نعم يقتضي ذلك عدم الاكتفاء بمقدار الحشفة فما دون و لا بأس بالأخذ بما هو أحوط وَ تِلْكَ عطف على قوله تعالى في الآية السابقة «تلك» حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيعرفوا وجوهها على حقيقتها و يعلموها على التفصيل للجاهلين بها 229 وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ اي أشرفن على الوصول إلى آخر عدتهن كما يقال بلغت البلد أي أشرفت على الوصول اليه فَأَمْسِكُوهُنَّ بسبب الرجعة بِمَعْرُوفٍ في معاملتها كقوله تعالى في سورة النساء 23 و عاشروهن بالمعروف او المعنى فراجعوهن بمعروف أَوْ سَرِّحُوهُنَّ و اتركوهن على حالهن إلى أن تنقضي عدتهن

ص: 207

بِمَعْرُوفٍ في المعاملة و النفقة و الإسكان بدون إضرار في شي ء من ذلك وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ بالرجعة أو و لا ترجعوهن ضِراراً هو مصدر ضره يضره نائب عن المفعول المطلق اي إمساكا ضرارا لِتَعْتَدُوا عليهن وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بظلمه للمرأة الضعيفة و أوقع نفسه في وبال معصية اللّه و غضبه و مخاصمة الضعيف الذي ضره و اعتدى عليه وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ بما بين فيها من احكامكم في صلاحكم و نظام اجتماعكم هُزُواً بل خذوا حظكم و رشدكم من العمل بها فإن من لم يسعد بالعمل بها كان كالمستهزئ او مستهزءا بها وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بعظائم النعم في الحياة و المعيشة و الإسلام وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ باعتبار النزول على رسول اللّه لتبليغكم مِنَ الْكِتابِ و هو القرآن الكريم لهداكم في الدين و الشريعة و الدعوة إلى اللّه وَ الْحِكْمَةِ التي اشتمل عليها حال كون الكتاب يَعِظُكُمْ اللّه بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما شرعه مما أمركم به أو نهاكم عنه فانه المطلع عليكم وَ اعْلَمُوا اي و اعملوا عملكم حال كونكم تعلمون

سورة البقرة (2): آية 232

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)

أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ 230 وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ و أشرفن على انقضاء الأجل فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أيها المطلقون. و العضل المنع أو الحبس من أَنْ يَنْكِحْنَ من يكونون في المستقبل أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ و ذلك بأن يراجعها المطلق قريب انقضاء العدة لا لرغبة فيها بل لأجل ان يمنعها عن الأزواج و قيل ان المراد ان لا يمنعها الولي العرفي من ان تنكح من كان زوجها بعد انقضاء عدته كما روي في الدر المنثور نزولها في شأن معقل و أخته او جابر و ابنة عمه و يلزمه التجوز في طلقتم النساء بحمله على تطليق نوع الإنسان فان الولي غير مطلق و في هذا المجاز بعد و إذا صرنا اليه فالأولى جعل الخطاب لمطلق العاضل و إن كان المطلق. او ان المطلق يعضل زوجته و يمنعها بعد العدة من ان تتزوج و هو فرض نادر إذ قل من يكون من المطلقين من له هذه السلطة و الأقرب الأول و لفظ أزواجهن مجاز اما من حيث كون الزوجية

ص: 208

في الماضي كما في الثاني او من حيث كونها في المستقبل كما في الأول و الثالث ذلِكَ خطاب للنبي (صلی الله علیه و آله) يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ أي من المسلمين يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنه هو الأهل لأن يوعظ فتنفعه الموعظة و يقف عند نواهي الشريعة ذلِكُمْ خطاب للمسلمين و المشار اليه ترك العضل المذكور أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه صلاحكم

سورة البقرة (2): آية 233

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 231 وَ الْوالِداتُ مطلقا مطلقات و غير مطلقات يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ اخبار عن الوظيفة المقررة لهن في الشريعة جمعا لانحاء المصلحة على ما يأتي حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لا تنقص عن اربعة و عشرين شهرا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ و يعطي ما بإزائها من اجرة و هو الأب و من بيده أمر الطفل بعده و من أراد ارضاعه دون الحولين فله ذلك وحده احد و عشرون شهرا كما نقل عليه اتفاقنا و عليه روايتا سماعة و عبد الوهاب عن الصادق (علیه السلام) وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ الظاهر عدم الخلاف في ان الرزق و الكسوة كناية عن الأجرة المذكورة في الآية السادسة من سورة الطلاق. و الملحوظ في تقريرها حالتا السعة و الضيق كما في السابعة منها ايضا. و لعل اجرة المثل تقارب مالية الرزق و الكسوة و لكن عنوانهما اقرب إلى الحشمة من عنوان الأجرة و التماكس فيها. و جرى التعبير هنا عن الأب بالمولود له بيانا لوجه الحكمة في كون الأجرة للرضاع عليه لأن الولد بعضه و نماء مائه و ان الأم تربي برضاعها من ولد له بِالْمَعْرُوفِ و من دون إجحاف بأحد الأبوين و لا يضيق بذلك على الأب فوق وسعه بحسب حاله و ما يراد منه في أمر معيشته و من تجب نفقته عليه لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ في جهة إِلَّا وُسْعَها في تلك الجهة لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ القراءة المعمول عليها بين الناس و عليها رسم المصاحف هي فتح الراء من «تضار» على انه مجزوم بلا الناهية و حركت لالتقاء الساكنين بالفتحة لمشاكلتها للألف التي قبلها. و الكلمة صالحة لأن تكون مبنية للفاعل و مبنية للمفعول باعتبار ان

ص: 209

الراء المدغمة مكسورة في التقدير او مفتوحة. و لكن الظاهر من الصحيح المروي في الكافي عن الصادق (علیه السلام) انها مبنية للفاعل

لقوله (علیه السلام) نهى اللّه ان تضار المرأة الرجل و ان يضار الرجل المرأة و ان الوارث نهى ان يضارّ الصبي أو يضارّ امه بالرضاعة.

هذا و النهي عن المضارة بسبب الولد مطلق سواء كانت المضارة من جهة الأجرة و ما أشبه ذلك في امر الرضاع ام من جهة منع الوالدة لزوجها الوالد عن جماعها لخوفها من الحبل و ضرره للرضيع او من حيث امتناع الوالد عما يجب للوالدة من الجماع لخوفه من حبلها و ضرره للرضيع كما استشهد عليه السلام بالآية للأمرين و جاء بكل من المعنيين روايات أخر. و في التبيان ذكر رواية الجهة الثانية عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام و كذا في مجمع البيان. و كان عليهما ان يذكرا رواية الجهة الأولى كالصحيح. و لم أجد ما أشار اليه من الرواية عن أبي جعفر (علیه السلام) وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ

في صحيحة الحلبي و روايتي الكناني و أبي بصير عن الصادق (علیه السلام) انه نهى ان يضارّ بالصبي او يضار امه في رضاعها.

و في الدر المنثور عن ابن عباس ان لا يضار فمن الغريب مع ذلك ما في كنز العرفان في تفسير الوارث بالصبي. و في التبيان و قد روي في اخبارنا ان على الوارث كائنا ما كان النفقة. و أشار في الخلاف و المبسوط ايضا إلى الرواية. و الظاهر كونها

رواية غياث عن الصادق (علیه السلام) أتي امير المؤمنين (علیه السلام) بيتيم فقال خذوا بنفقته اقرب الناس منه من العشيرة كما يأكل ميراثه.

و الرواية ان لم يكن الوارث في واقعتها الخاصة هو الجد أمكن تنزيلها في واقعتها على الإلزام لشيوع الفتوى بذلك حينئذ فإن مذهب الإمامية حتى الشيخ في كتبه ان النفقة انما تجب على العمودين فهو اجماع منا فالوارث في الآية اما وارث الطفل بمعنى كون الطفل ارثا اي بقية له في القيام بأمره فهو وارثه بهذا المعنى كالجد و الوصي و الحاكم و ليس في ذلك مجاز بحسب اللغة و ان كان الدائر في المحاورات هو وارث المال. و اما انه جار مجرى الغالب في كون من له الولاية بنفسه او بالوصاية وارثا كالجد و الأخ و الوصي مثلا او المولى من قبل الحاكم و لا دلالة من القرآن الكريم على اكثر مما في الروايات المتقدمة من ان الذي على الوارث هو ان لا يضار فَإِنْ أَرادا المرضعة و الوالد و ان كان جدا فِصالًا للطفل عن الرضاع قبل الحولين عَنْ تَراضٍ منهما وَ تَشاوُرٍ بالنظر إلى صلاح الطفل

ص: 210

لا مجرد تراضيهما مراعاة لأهوائهما فَلا جُناحَ عَلَيْهِما و يحتمل ان يشمل ذلك ما بعد الحولين حينما يكون تعجيل الفطام مضرا بالطفل كما إذا كان مريضا مثلا في المدة التي يجوز التأخير فيها وَ إِنْ أَرَدْتُمْ عند عدم الإضرار أَنْ تَسْتَرْضِعُوا المراضع أَوْلادَكُمْ مفعول ثان لتسترضعوا فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا راعيتم مصلحة الطفل بعدم مماطلة المرضعة باجرتها و سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ و قررتموه في الاسترضاع بِالْمَعْرُوفِ بلا مدافعة و لا معاسرة وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به و نهاكم عنه وَ اعْلَمُوا أي و اعملوا على مقتضى علمكم أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فخافوه

سورة البقرة (2): آية 234

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

232 وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي يؤخذون وافين و يراد بذلك الأخذ بالموت كما مر مشروحا في المقام الاول من الفصل الرابع من المقدمة وَ يَذَرُونَ يتركون أَزْواجاً الذين مبتدأ و جملة يُتَوَفَّوْنَ صلته و جملة «يذرون» معطوفة عليها و جملة يَتَرَبَّصْنَ و هي خبر يراد به الأمر المؤكد تكون خبرا للمبتدأ و الرابط بينهما هو الضمير الذي يجلوه المقام و السياق بمثل جلوة المذكور لوضوح ان فاعل التربص تلك الأزواج اللائي يتركها المتوفون. فقدر لذلك ما يناسب تقديره بِأَنْفُسِهِنَّ و يمسكنها عن الزواج و الزينة و نحوها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً أي و عشر ليال فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بإتمام ذلك فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من الخروج من البيوت و طلب الأزواج و ترك الحداد مما يكون بِالْمَعْرُوفِ المشروع الموافق للاستقامة و العفة و في تفسير القمي و التبيان و مجمع البيان و غيرها ان هذه الآية ناسخة لحكم الآية السابعة بعدها و على ذلك روايات الدر المنثور في هذه الآية عن ابن عباس و ابن عمر أقول و ربما كان تقديمها في ترتيب القراءة على تلك لكي تنتظم في نسق واحد مع الآيات المحكمة في الطلاق و العدد و ربما يشير إلى النسخ في قوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ بأن يكون المراد لا جناح عليكم من خروجهن و تعرضهن للأزواج قبل الحول مما كان يجب عليكم النهي عنه وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ

ص: 211

خَبِيرٌ فلا تخالفوه

سورة البقرة (2): آية 235

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

233 وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ نظم الآيات و سياق الآية و قوله تعالى فيها حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ تدل على ان المراد من النساء المعتدات للوفاة و عليه الاتفاق و الآية صالحة للعموم لبعض المعتدات ايضا و تفصيل ذلك موكول إلى كتب الفقه.

و التعريض هو خلاف التصريحات بما يسعه مجال الخطبة من وجوه الكلام و هو تضمين الكلام دلالة على شي ء ليس فيه ذكر له و الخطبة هو الكلام الدال على طلب المرأة للتزويج و لعل الأصل فيه ان الطلب كان يصاغ كثيرا بكلام ينشئه خطيب القوم ثم استعمل في مطلق الطلب فتعدى و يقال خطبها و هو خاطب أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ بأن خطر في أنفسكم الرغبة في نكاحها و العزم عليه و اسررتموه عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لسانا بابداء الرغبة في نكاحهن و لا يدل ذلك على التوبيخ لجواز ان يقصدوا في ذكرها وجها راجحا خصوصا في عصر الرسول (صلی الله علیه و آله) كتطييب قلوب المؤمنات المهاجرات المنقطعات ذوات الأيتام لكي تطمئن قلوبهن بوجود الكافل وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا

في صحيحة الحلبي عن الصادق (علیه السلام) ان يقول لها أواعدك بيت آل فلان و نحوها رواية عبد اللّه بن سنان عنه (علیه السلام)

و في رواية علي بن حمزة عنه (علیه السلام) أواعدك بيت آل فلان يعرض لها بالرفث و يرفث الرواية

اي يرفث قولا بأن يذكر لها الجماع و ما يرجع اليه صريحا على خلاف الكناية و الاحتشام. فإن الجماع يعبر عنه بالسر كقول امرء القيس

الا زعمت بسباسة اليوم انني كبرت و ان لا يشهد السر أمثالي

و قول الأعشى

و لا تقربن جارة إن سرها عليك حرام فانكحن او تأبدا

و قول الفرزدق

موانع للأسرار الا من أهلها و يخلف ما ظن الغيور التعفف

إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً الاستثناء منقطع لرفع ما يتوهم من المنع عن كل ما يدل على التزويج لأن التزويج يئول إلى الجماع. بل يجوز القول بالمعروف الموافق للحياء و الحشمة و كريم الخطاب كقوله لا تسبقيني بنفسك إذا انقضت العدة او اني مكرم للنساء او لو انقضت عدتك لا تفوتيني و نحو هذا من معاريض الكلام و به جاءت روايات الدر المنثور عن ابن عباس 234 وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ و لا توقعوها و توجبوها و بذلك جاءت رواية الدر المنثور

ص: 212

عن ابن عباس و اما العزم على العقد بعد العدة فهو مرخص فيه في الآية خصوصا في قوله او أكننتم في أنفسكم حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ في التبيان معناه انقضاء العدة بلا خلاف. و مقتضى اللفظ حتى يبلغ القرآن باعتبار فرض العدة اجله في انقضائها او حتى يبلغ الفرض من كتب بمعنى فرض و كلاهما في وجه التجوز ببلوغها الأجل سواء وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ مما يبعث على الأعمال الخارجية و منها ما هو محرم عليكم و المقصود تنبيههم على ما يعرفونه من علم اللّه زيادة في التحذير فَاحْذَرُوهُ من ان تخالفوه و تعملوا بالمعاصي وَ اعْلَمُوا مع ذلك أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ان تبتم فبادروا إلى التوبة و لا تقنطوا من رحمة اللّه و احذروه من ترك التوبة كما تحذرونه من المعصية حَلِيمٌ لا يعاجلكم بالعقوبة بل يمهلكم لأن تتوبوا اليه فيقبل عليكم بحلمه كأن لم تذنبوا

سورة البقرة (2): آية 236

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

235 لا جُناحَ عَلَيْكُمْ اي لا اثم و هذا دفع لما يتوهم من الإثم في الصورتين المذكورتين لأنهما فراق قبل النتيجة المحبوبة المطلوبة شرعا من النكاح و قطع لما كان يؤمل من الفة الزواج و افراحه دون ان يصدر سوء صحبة خصوصا مع مجاملة المرأة و أهلها بعدم المعاسرة في تقديم الصداق و فرضه في العقد. و في الكشاف فسر لا جناح بقوله لا تبعة عليكم من إيجاب مهر و يدفعه انه لم يعرف من اللغة و القرآن مجي ء الجناح بغير معنى الإثم فلما ذا يفسره هنا بتبعة المال إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما اي في مدة و حال انكم لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بالوطء و كان ذلك على جاري العادة في فرض الصداق لهن في العقد أَوْ تَفْرِضُوا توجبوا و هو مجزوم بالعطف على تمسوهن لَهُنَّ فَرِيضَةً و هو الصداق و المراد رفع الجناح في كل من الحالين حال عدم الوطء مع فرض الصداق و حال عدمه مع عدم الفرض. و عطف بكلمة «أو» كما في قوله تعالى في سورة الدهر وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً لئلا يتوهم اشتراط اجتماعهما. و لعله إلى هذا ينظر ما في التبيان و مجمع البيان ان التقدير ممن فرضتم لهن او لم تفرضوا. و ان النظر إلى نظم هذه الآية مع التي بعدها لزعيم بما ذكرناه وَ مَتِّعُوهُنَّ وجوبا لظاهر الأمر. و ان الآية الاخرى بحسب سوقها و نظمها مع هذه كالصريحة في ان نصف المهر هو تمام ما تستحقه التي فرض

ص: 213

لها الصداق فتختص المتعة الواجبة بمن لم تمس بالوطء و لم يفرض لها مهر و على ذلك إجماعنا و صحيحة الكافي عن الحلبي و صحيحته عن أبي بصير و روايته عنه ايضا و رواية الفقيه عن الكناني عن الصادق (علیه السلام) و رواية الدر المنثور عن ابن عباس و في الخلاف عليه اجماع الصحابة. و يكون مفاد الآيتين في نظمهما تشريك القسمين من غير المدخول بهن في عدم الجناح بطلاقهن ثم التقسيم باختصاص نصف المهر بمن فرض لها و اختصاص المتعة بمن لم تفرض لها فريضة. و على هذا التقسيم و التقييد يحمل اطلاق الآية الثانية و الأربعين بعد المائتين من السورة و الثانية و الأربعين من سورة الأحزاب و ليس المقام من النسخ لكي يتوقف على معرفة المتقدم و المتأخر بل هو من حمل المطلق على المقيد سواء كان الكلام تفصيلا بعد إجمال أو اجمالا مبنيا على التفصيل. و المتعة عَلَى الْمُوسِعِ اي ذي السعة في المال مثل المثري قَدَرُهُ أي المقدار الذي يليق بسعته من المال وَ عَلَى الْمُقْتِرِ أي المقل من المال قَدَرُهُ و ما يناسب اقلاله و كأنه بذكر الأمرين قيل على كل ما يناسب حاله. و في الفقيه روى ان الغني يمتع بدار او خادم و الوسط بثوب و الفقير بدرهم أو خاتم

و في رواية أبي بصير عن الباقر (علیه السلام) ان ادنى المتعة على المعسر خمار و شبهه

و في رواية الحلبي و عبد اللّه بن سنان و سماعة عن الصادق (علیه السلام) ان الموسع يمتع بالعبد و الامة و يمتع الفقير بالحنطة و الزبيب و الثوب و الدراهم

و لعل الكل على سبيل المثال و مناسبة الحال مَتاعاً المتاع ما يتمتع به فيكون مفعولا لمتعوهن و قد يجي ء بمعنى التمتيع. و في التبيان انه حال من «قدره» و العامل فيه الظرف و كأنه لما في كلمة «على» من معنى الإيجاب. و في الكشاف انه تأكيد لمتعوهن و المآل واحد بِالْمَعْرُوفِ صفة للمتاع على الاولى و متعلق به على الأخيرين و المآل في الكل واحد حَقًّا صفة للمتاع عَلَى الْمُحْسِنِينَ بيان لكون المتعة بالمعروف احسان يرغب فيه المحسنون و يرونها حقا عليهم في شريعة الإحسان

سورة البقرة (2): آية 237

وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

236 وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً بيان لحكم القسم الأول في الآية السابقة و حقه فيعرف منه اختصاص القسم الثاني بالمتعة فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ و هو حق لهن يجب إعطاؤه إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ عنه كلا او بعضا إذا كن بالغات جائزات التصرف في أموالهن سواء كان العفو منهن مباشرة ام من

ص: 214

وكيلهنّ على العفو ام الوكيل المأذون له في كل تصرف في أموالهن أم في خصوص هذا الطلاق مثلا أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ و هو ولي الصغيرة الذي جعل اللّه بيده ان يعقد عقدة نكاحها و ليس ذلك عندنا إلا الأب و الجد اعني أبا الأب او أباه

ففي صحيحة التهذيب عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (علیه السلام) هو ولي أمرها

و عن رفاعة عنه (علیه السلام) الولي الذي يأخذ بعضا و يترك بعضا

و في بعض أحاديثنا ما جمع فيه من يعفو بحسب الولاية او بحسب الوكالة العامة

ففي معتبرة التهذيب بإرسال ابن أبي عمير عن الصادق (علیه السلام) الأب و الذي توكله المرأة و توليه أمرها من أخ أو قرابة او غيرهما

و في الصحيحة المروية في الكافي و الفقيه و التهذيب عن الحلبي و أبي بصير و سماعه عنه (علیه السلام) هو الأب و الأخ و الرجل يوصى اليه و الذي يجوز امره في مال المرأة فيبتاع لها و يتجر و نحوها صحيحة التهذيب عن أبي بصير و محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام)

فأما الموصى اليه في الصحيحتين فهو من اوصى اليه الأب و الجد بالقيام بأمر الصغيرة إذا رأى المصلحة في العفو كما في عفو الأب و الجد و اما الأخ فيعرف امره من مرسلة ابن أبي عمير و الظاهر ان عدم ذكر الجد هنا لدخوله في عنوان الأب وَ أَنْ تَعْفُوا و عفوكم ايها الناس أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ربما تجد المرأة الضعيفة النفس في نفسها شيئا إذا رجح اللّه لها العفو بخطاب خاص فلطف اللّه بها بما معناه انه لا يرجح العفو لها من حيث انها امرأة و لا من حيث انه مهر بل ان كل عفو هو حسن راجح من جميع الناس و هذا المقام منه و ان الزوج لم ينتفع بلذة او خدمة بإزاء ما له فيكون طلب العفو بهذا النحو أطيب لقلب المرأة المطلقة و ادعى لها لأن تعفو فإن لمطلق عفو الإنسان عن حقه فضلا و فضيلة و هو بفضيلته اقرب الى فضيلة التقوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ايها الناس و اسمعي أيتها المطلقة و لا تحملكم حزازات النفوس على ترك ما فيه الفضل إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على إحسانكم

سورة البقرة (2): آية 238

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238)

237 حافِظُوا ايها الناس عَلَى الصَّلَواتِ في إقامتها في أوقاتها بحدودها و شرائطها و إخلاصها و إقبالها عموما وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى و هي صلاة الظهر و عن الخلاف ان عليه اجماع الفرقة

و المروي في أحاديثنا انها صلاة الظهر كصحيحة معاني الأخبار عن أبي بصير و روايتي العياشي عن عبد اللّه بن سنان

ص: 215

و محمد بن مسلم عن الصادق (علیه السلام) و صحيحة زرارة عن الباقر (علیه السلام)

و ان ورد فيها بعد ذلك كما في الكافي و الفقيه ما صورته و قال في بعض القراءات حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى صلاة العصر. و بناء على هذه الرواية فلا يخفى ان الإمام لا يتعلل ببعض القراءات إلا محاذرة من الوقت و اهله فذكر الرواية الرائجة عن مصحف عائشة و روايتها و احدى الروايات عن مصحف حفصة و روايتها عن قراءة ابن عباس و أبي بن كعب و السائب بن يزيد إسكاتا عن بيانه الأول للحكم الواقعي. و إذا نظرت إلى ما أحصاه الدر المنثور من روايات المقام ترى فيها من الاضطراب و التعارض شيئا مهولا ففي بعضها الفجر و في بعضها الظهر و في بعضها العصر و في بعضها المغرب و كثيرا ما تتعارض الرواية عن الشخص الواحد «و ما آفة الأخبار إلا رواتها» وَ قُومُوا في الصلاة لِلَّهِ قانِتِينَ

عن العياشي عن الصادق (علیه السلام) طائعين

و في رواية سماعة هو الدعاء و منه قوله تعالى في سورة الزمر أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً

و في التبيان قيل أصله الدعاء في حال القيام أي في الصلاة و في مجمع البيان و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه أقول

و لم أجده عنهما (علیه السلام) في تفسير الآية نعم في صحيحة زرارة عن الباقر (علیه السلام) و نزلت هذه الآية في يوم الجمعة و رسول اللّه في سفره فقنت فيها. نعم كثر استعمالهم عليهم السلام للفظ القنوت بالدعاء في الصلاة في حال القيام و هو القنوت المعروف كما في رواياتنا و هو معروف في لسان الصحابة و غيرهم كما في روايات الدر المنثور و غيره في الآية

سورة البقرة (2): آية 239

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

238 فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا جمع راجل و هو الماشي على رجله مثل قيام جمع قائم كما في سورتي الفرقان 65 و الزمر 68 اي فإذا خفتم فحكمكم في صلاتكم ان تتركوا ما ينافي التحذر من الوقوف و الركوع و السجود بحسب ما يقتضيه الخوف و الحذر و على رسلكم حال كونكم رجالا أَوْ رُكْباناً جمع راكب و يبقى ما لا ينافي الحذر على حاله كالقراءة و التسبيح و التشهد و التسليم نعم قد تخفى دلالة الآية على الإيماء للركوع و السجود إلا بالنظر إلى انه ميسور من خضوعهما و اتضاح قاعدة الميسور في هذا المورد للعقل و العقلاء كغيره من الموارد.

و في الكافي في صحيح عبد الرحمن قال سألت أبا عبد اللّه في الآية ما تقول إذا خاف من سبع أو لص كيف يصلي قال يكبر و يومي إيماء برأسه

اي للركوع و السجود فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ

ص: 216

بلطفه في الصلاة و غيرها ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من اذكار الصلاة و احكامها و غير ذلك

سورة البقرة (2): الآيات 240 الى 242

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

239 وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي يشرفون على الوفاة وَ يَذَرُونَ بعدهم أَزْواجاً كتب اللّه عليهم وَصِيَّةً تأتي الوصية بمعنى الموصى به لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً بدل من «وصية» بمعنى الموصى به و إذا جعلنا الوصية هنا بمعنى الإيصاء كان التقدير جعل اللّه لهن ما يوصى به في الإيصاء متاعا و نحو ذلك و الأول أظهر إِلَى الْحَوْلِ من حين وفاته في مؤنتها غَيْرَ إِخْراجٍ صفة المتاع ليعم السكنى. و ربما لم يكن هذا أجلا لعدة الوفاة على كل حال بل ان شاءت انّ تبقى في بيت زوجها فلها الإنفاق و الإسكان بحسب الوصية حولا فَإِنْ خَرَجْنَ من قبل انفسهن مطلقا أو من بعد أن تقضي اربعة أشهر و عشرا او ابعد الأجلين إذا كانت حاملا فقد أسقطت حقها. و قيل ان الحول كان عدتها فنسخ و المراد من الآية خرجن بعد الحول فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ من حيث الزواج الشرعي أو اختيار ما يوافق حالها و صلاحها في الخروج. اما وجوب الوصية ان كان فهو منسوخ بالاتفاق و أما جوازها فعن مجمع البيان انه باق عندنا لم ينسخ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ في احكامه حَكِيمٌ في شريعته 240 وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ بحق حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ان كان المراد من الآية تأكيد ما تقدم من متعة من لم تمس و لم يفرض لها فريضة كان إطلاقها جاريا على ذلك التقييد و هذا هو المناسب لقربها من تينك الآيتين و لظاهر قوله تعالى حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ و لما أشرنا اليه آنفا من الإجماع و الروايات. و يمكن ان تحمل هذه الآية على الاستحباب في مطلق المطلقات بالنظر إلى صحيحة الحلبي و روايته و صحيحة عبد اللّه بن سنان و سماعة كما في الكافي و رواية أبي بصير كما عن العياشي و فيه شك 241 كَذلِكَ خطاب لرسول اللّه يُبَيِّنُ اللَّهُ بلطفه لَكُمْ آياتِهِ خطاب للناس لاحتياجهم في نظام أمرهم إلى بيان هذه الأحكام لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لغاية

ص: 217

ان تعقلوا إذا أقبلتم باختياركم على التدبر لهذه الآيات و العمل بها

سورة البقرة (2): الآيات 243 الى 245

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أي ألم تعلم بأمرهم و نزل علمه (صلی الله علیه و آله) بما فيه من الإيمان و اليقين بمنزلة الرؤية بالبصر خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ أي خرجوا حذرا من الموت و فرارا فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا و إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون فعبر عن ارادته التكوينية بالأمر بالموت و بالكون اشارة إلى ان قدرته لا تحتاج إلى عمل و ممارسة مقدمات ثُمَّ أَحْياهُمْ بعد موتهم.

روى في روضة الكافي عن الباقر و الصادق عليهما السلام قصة هؤلاء و هربهم من الطاعون و موتهم و بقاءهم بلا دفن حتى صاروا عظاما فجمعها المارة و نحوها عن الطريق فمر عليها حزقيل النبي من بني إسرائيل فدعا اللّه في احيائهم فأحياهم. و عن العياشي و سعد بن عبد اللّه عن حمران عن باقر عليه السلام مختصر في هذه القصة. و روى في ذلك في الدر المنثور عدة روايات عن ابن عباس و بعض التابعين (1)

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعرفهم قدرته و يبصرهم بمواعظه و يحوطهم بألطافه و يجللهم برحمته وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ 243 وَ قاتِلُوا ايها الناس فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لا تخافوا من الموت فإن الأمور بيد اللّه و لكم الموعظة بفرار هؤلاء من الموت و موتهم و احيائهم وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لدعائكم و استنصاركم و ما تقولونه في امر الجهاد و الدعوة إلى اللّه و دين الحق عَلِيمٌ بنياتكم في جهادكم 244 مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً

ص: 218


1- و لهذه القصة شؤون. فقد ذكر نظيرها في العهد القديم في كتاب حزقيال من العدد الاول إلى الحادي عشر من الفصل السابع و الثلاثين. فجاءت جمعية المرسلين الامريكان في الجزء الثاني من كتابهم الذي سموه «الهداية» و اعترضوا على القرآن المجيد و أنكروا مضمونها و الاحياء و جعلوا ما ذكر في كتاب حزقيال رؤيا منامية غايتها البشرى بانتعاش بني إسرائيل بعد السبي و رجوعهم إلى قوميتهم و حالتهم السياسية. دع جمعية الأمير كان و هلم الخطب في بعض مفسري المسلمين المعاصرين من المصريين إذ كتبوا و طبعوا انكار الأمر الذي ذكره القرآن الكريم بالمحاورة الصريحة الدائرة بين العقلاء في بيان الحقائق و فسروا الآية بأن موت أولئك القوم هو ان العدو نكل بهم فأفنى قوتهم و أزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعد أمة. و معنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم. إلى آخره. و يا ليت النزعة العصرية و اللهجة السياسية لم يمدا أيديهما إلى القرآن الكريم.

حَسَناً قد اقتضت حكمة اللّه و رحمته في شأن الإنسان و نظام مدنيته و تشابكه في الاجتماع ان يجعل بعضهم محتاجا إلى بعض في شؤون التعيش و الأموال. كما اقتضت حكمته و رحمته في كمال الإنسان و نيله كرامة الفضيلة و حسن الجزاء بأن يجعله مختارا في أفعاله و أحواله في الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية. و اقتضت حكمته و رحمته و لطفه أن يأمر بالتعاون على البر و الإحسان و ان يعود الغني على الفقير بشي ء مما هو من رزق اللّه و خلقه و ينفق شيئا من مال اللّه في نصر الحق و اهله و دفاع الباطل و اهله. و اقتضت رحمته و لطفه ان يرغّب الإنسان في الإنفاق في سبيل اللّه و الخير في الفقراء و الجهاد و ينصره بهذا الترغيب على شح نفسه و نزعات حرصه و ما يسوله له فقر إمكانه. فجاء القرآن الكريم على أحسن وجه في الترغيب و حاصل ما يشير اليه و ينوه به هو انكم ايها الناس لا بدلكم من انكم تعرفون أن كل نعمة عندكم إنما هي من اللّه و خلقه للعالم و ما فيه. و مع ذلك فإن اللّه بحسب حكمته و لطفه يندبكم إلى أن تنفقوا شيئا مما أنعم به عليكم في طريق صلاحكم و سعادتكم و ان الذي ينفق في ذلك شيئا من ماله و هو يريد به وجه اللّه يجعله اللّه قرضا عليه إذا كان قرضا و إنفاقا حسنا من المال الحلال فاقدا لما يشينه من الرياء و المن و نحو ذلك فَيُضاعِفَهُ لَهُ بنصب «يضاعفه» جوابا للاستفهام بعد الفاء و في الحقيقة هو جواب لطلب القرض المؤكد بأسلوب قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً.

روى الصدوق في معاني الاخبار في الصحيح عن الخزاز و العياشي عن علي بن عمار عن الصادق (علیه السلام) لما نزل من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول اللّه اللهم زدني فأنزل اللّه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فقال رب زدني فأنزل اللّه مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فعلم رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان الكثير منه لا يحصى و ليس له منتهى

وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ

في تفسير البرهان عن الصدوق مسندا عن الصادق يمنع و يعطي

و المراد استلفاتهم إلى ان امر الرزق بيد اللّه جل شأنه فليغتنم ذو السعة فرصة الإنفاق و قرض اللّه قبل ان يضيق عليه رزقه و تبقى له الحسرة. و لا يخف في إنفاقه فقرا فإن بيده بسط الرزق وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيوفيكم جزاء ما أنفقتم و تشتد حسرات الحريص الشحيح على ما فرط

سورة البقرة (2): آية 246

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

245 أَ لَمْ

ص: 219

تَرَ الرؤية كما تقدم قريبا كناية عن العلم إِلَى الْمَلَإِ أي الأشراف و الأعيان مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ موت مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ

في تفسير القمي في الصحيح عن الباقر (علیه السلام) ان بني إسرائيل عملوا المعاصي و غيروا دين اللّه و عتوا عن أمر ربهم و كان فيهم نبي يأمرهم و ينهاهم فلم يطيعوه و روى ان اسمه ارميا النبي

أقول هذا و ما بعده ليس من الصحيح بل هو إرسال من القمي و فيه ما هو خلاف الصحيح فإن نفس القمي سيروي في تفسير الآية الحادية و الستين بعد المائتين في الصحيح عن الصادق ان ارميا النبي معاصر لبخت نصر و سبي بابل كما هو مقتضى التاريخ و بين ذلك العصر و عصر طالوت نحو اربعمائة سنة و تسعة اجيال.

و في التبيان و مجمع البيان و قيل هو اشموئيل و هو المروي عن أبي جعفر يعني الباقر (علیه السلام)

و في مجمع البيان و هو بالعربية إسماعيل و فيه منع فإن إسماعيل في العبرانية «يشمع ايل» ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ معه فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ لهم نبيهم هَلْ عَسَيْتُمْ عسى معناها الترجي في المحبوب و الإشفاق في المكروه إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا المطرد فيما بعد عسى ان يأتي مقرونا بكلمة «ان» الناصبة و لكن لأجل ان المؤكدين بعد اختلاط اللسان ضاعت عليهم مزايا اللغة العربية بعد ان كانت معروفة لأهلها فقال بعض النحويين او جمهورهم ان عسى من الأفعال الناقصة و المنصوب بأن خبرها على حذف المضاف منه او من اسمها قالُوا ما مؤداه ماذا يمنعنا من القتال وَ ما لَنا من الفائدة في أَلَّا الا هي ان المصدرية و لا النافية نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا بالحرب و الطرد عن الأوطان و هل بعد هذا مانع نفساني عن القتال أو فائدة تدعو إلى تركه. مضافا إلى انه قتال في سبيل اللّه و دفاع عن الدين و التوحيد. و مع هذا البيان منهم فَلَمَّا بعث لهم طالوت ملكا و كُتِبَ و فرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ معه تَوَلَّوْا و تخاذلوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يعلم حالهم من قبل ذلك

سورة البقرة (2): آية 247

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)

246 وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قيل سمي طالوت لطوله و في

ص: 220

كتب اليهود انه كان أطول من كل بني إسرائيل من كتفه فما فوق قالُوا أَنَّى من أين يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ و في تفسير القمي أو روايته أنه كان من سبط بنيامين (1) قلت و تاريخ اليهود يذكر في أواخر سفر القضاة ان سبط بنيامين قد صدرت من بعضهم بادرة قبيحة فأراد بنو إسرائيل ان يؤدبوا هؤلاء فحماهم سبطهم فحاربهم باقي الأسباط حتى نكلوا بهم فصار سبط بنيامين بعد ذلك سبطا قليلا مستحقرا فيما بين بني إسرائيل وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ ليؤسس به ملوكيته و ادارتها قالَ لهم نبيهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً أي سعة فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ يدبر بعلمه المملكة و شؤون القتال و يملأ ببسطة جسمه الأبصار هيبة تناسب الملوك و مخائل القوة و الشجاعة وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ فلا اعتراض لكم في ذلك وَ اللَّهُ واسِعٌ في فضله و رحمته أي واسع الفضل و الرحمة عَلِيمٌ بما تقتضيه الحكمة في كل مقام 247

سورة البقرة (2): آية 248

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ في مقام الاحتجاج و الدلالة على ان طالوت يكون ملكا عليهم و ذلك باصطفاء اللّه له إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ و الحجة التي تعرفون بها ذلك أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الصندوق

في مجمع البيان انه كان في ايدي اعداء بني إسرائيل غلبوهم عليه لما مرج امر بني إسرائيل و حدث فيهم الأحداث ثم انتزعه اللّه من أيديهم و رده على بني إسرائيل تحمله الملائكة و روى ذلك عن أبي عبد اللّه

فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

في تفسير القمي عن الرضا (علیه السلام) انها ريح

ص: 221


1- قال الطنطاوي في الجزء الأول من تفسيره صفحة 190 في كلام بني إسرائيل مع نبيهم في هذا المقام «قالوا ان طالوت ليس من بيت لاوي بيت النبوة و منه موسى و هارون و لا من بيت يهوذا بيت الملك و منه داود و سليمان»- إلى ان قال فأجابهم و أقول يا للعجب متى كان من قبل ان يملك طالوت لبيت يهودا ملك و مملكة و متى كان قبل طالوت داود و سليمان ملكين لكي يذكر بنو إسرائيل ملوكيتهما لنبيهم و كيف و الذي يعرف من القرآن هو ان داود لما قتل جالوت كان رعية في جند طالوت و انظر إلى كلام المفسر في صفحة 191 و يقول اللّه في سورة النمل و ورث سليمان داود و لم يذكر ان الاشراف من بني إسرائيل احتجوا بسبطين من اسباطهم بل قالوا نحن أحق بالملك منه. و هل كان ذكرهم لملك يهوذا و داود و سليمان تنبئا عن المستقبل؟! إذن اي مؤرخ ذكر هذا التنبؤ منهم و ما هي قيمته التاريخية؟!

من الجنة لها وجه كوجه الإنسان و نحوه في مجمع البيان و الدر المنثور عن امير المؤمنين

و في رواية معاني الأخبار عن يونس عن الرضا (علیه السلام) روح اللّه

لكن في اصول الكافي في صحيح محمد ابن مسلم عن الباقر (علیه السلام) السكينة الإيمان. و نحوه في صحيح حفص و هشام عن الصادق و نحوه في صحيح أبي حمزة عن الباقر و زاد في قوله تعالى وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قال هو الإيمان و نحوه في صحيح جميل عن الصادق (علیه السلام)

و الظاهر ان هذه التعبيرات تشبيهات و إشارات بحسب حال المورد و الخطاب و المخاطب فلعل السكينة أمرا يوجب الامنة و الطمأنينة جعله اللّه في التابوت ليسكن اليه بنو إسرائيل فقد كان لهم بمنزلة اللواء الأعظم في الحروب و في التبيان انه الأولى و استظهر نحو ذلك في مجمع البيان و هو احدى روايات الدر المنثور عن ابن عباس وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ من آثار النبوة تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ الجملة حال من يأتيكم و

في روضة الكافي في معتبرة عبد اللّه بن سليمان (1) عن الباقر (علیه السلام) في التابوت ما لفظه «و الملائكة كانت تحمله على صورة البقرة»

أقول و على تقدير صدور هذا المروي عن الإمام (علیه السلام) يكون ما في كتب اليهود صورة لما ذكره (علیه السلام) من الحقيقة. ففي الفصل السادس من كتاب صموئيل الاول في الآية و خرق العادة في رجوع التابوت و هو ان المشركين لما انتهبوا التابوت من بني إسرائيل أصابهم بلاء من الموت و الأمراض فأرادوا أن يردوا التابوت و يستعلموا من حاله و كرامته انه هل هو الذي سبب عليهم ذلك البلاء من اللّه فتبانوا على ان يجعلوه في عجلة و يربطونها ببقرتين مرضعتين صعبتين لم يعلهما نير و بعد ذلك يرجعون عنهما و لديهما إلى البيت فإن سارت البقرتان بالعجلة على الهدو و الاستقامة عرفوا ان هذا الأمر الخارق للعادة من حال البقرتين إنما هو من آيات اللّه لبيان كرامة التابوت فسارت البقرتان بالتابوت و العجلة على أحسن استقامة و معرفة للطريق إلى أن اوصلتا التابوت إلى بلاد بني إسرائيل و بمقتضى الآية الكريمة و الرواية الشريفة ان الملائكة كانت تتولى حمل التابوت بهذا الحمل الخارق للعادة في تلك الصورة الظاهرية من تسخير البقرتين و في مجمع البيان ذكر شيئا فيه شبه لهذا و لم ينسبه إلى ء

ص: 222


1- فإن الكافي يرويها بالسند الصحيح عن يحيى الحلبي عن عبد اللّه بن سليمان و قد شهد النجاشي و ابن أبي داود و العلامة بأن يحيى ثقة صحيح الحديث و قد ذكره عبد اللّه من اصحاب الباقر و لم يخدش فيه بشي ء

إمام. و ذكر في شرح روضة الكافي شيئا من تاريخ ابن الأثير و غيره من المفسرين و أقول ان تفاسير هذه الأمور اما ان تؤخذ عن النبي (صلی الله علیه و آله) او الإمام و إلا فلا لأن المؤرخين بل و المفسرين كما ذكرناه في المقام الثالث من الفصل الرابع من المقدمة ان منهم من يأخذ من النقل الافواهي المتقلب بالتحريف من اهل الكتاب الراجع إلى كتبهم من العهد القديم و هي التي كانت في ازمنة المفسرين و المؤرخين باللسان العبراني و البابلي و اليوناني و هي ممنوعة عن غير اليهود و النصارى و يحرم في مذهب الفريقين ان يمكنوا منها حتى العوام منهم لكن بعد ان ظهرت في النصارى فرقة الانجيليين ترجموها بكل لسان و نشروها في البلاد فهذه الكتب على ما فيها من التحريف أقل تحريفا من الأنقال المأخوذة عنها بالنقل الا فواهي الذي لم يبن على الحفظ و الأمانة إِنَّ فِي ذلِكَ أي في اخباري بإتيان التابوت حال كونه تحمله الملائكة لَآيَةً لَكُمْ تعرفكم نعمة اللّه و قدرته لتطيعوه و تعرفكم صدقي و إن طالوت جعله اللّه ملكا عليكم كل ذلك إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و آياته و دلالتها حق الإيمان

في تفسير القمي بسند صحيح عن الرضا (علیه السلام) كان إذا وضع التابوت بين المسلمين و الكافرين فإن تقدم التابوت رجل لا يرجع حتى يقتل أو يغلب فأوحى اللّه إلى نبيهم ان جالوت «و هو رئيس المشركين و شجاعهم» يقتله من يستوي عليه درع موسى اسمه داود بن اسى «و في كتب اليهود في العبرانية «يسي» و كان اسي راعيا و كان له عشر بنين أصغرهم داود فلما جمع طالوت بني إسرائيل للحرب بعث إلى اسي ان احضر ولدك فلما حضروا دعا واحدا واحدا منهم فألبسه درع موسى فمنهم من طالت عليه و منهم من قصرت عنه فقال لأسي هل خلفت من ولدك أحدا قال نعم أصغرهم تركته في الغنم فبعث اليه فلما دعي أقبل و معه مقلاع فناداه ثلاث صخرات في طريقه يا داود خذنا فأخذها في مخلاته فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه ففصل طالوت بالجنود

سورة البقرة (2): آية 249

فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

248 فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ اي فلما ملك و جند جنوده في معسكره و فصل بمعنى انفصل بجنوده عن المعسكر و محل التجمع و سار إلى محل الحرب قالَ لجنوده إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ في طريقكم ليتبين مطيعكم من عاصيكم فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي اي من اصحابي

ص: 223

المطيعين و لا من حزب اللّه وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي يذوقه فَإِنَّهُ مِنِّي اي من اصحابي و من حزب اللّه إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً واحدة بِيَدِهِ فإنه مسامح في ذلك فَشَرِبُوا مِنْهُ و عصوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ

و في تفسير القمي عن الصادق (علیه السلام) ان الذين لم يشربوا و لم يغترفوا كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و نحوه عن تفسير العياشي عنه (علیه السلام) و ذكر في الدر المنثور رواية ذلك عن البراء و ابن عباس

فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و هم جنده الذين شربوا و الّذين لم يشربوا لأنهم كلهم كانوا مؤمنين غير مشركين و ان عصى بعضهم قالُوا أي قال نوعهم لا كلهم لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ

و في روضة الكافي في الصحيح عن الباقر (علیه السلام) كما روى في تفسير القمي عن الصادق (علیه السلام) ان الذين اغترفوا قالوا هذا القول و الذين لم يغترفوا هم الذين قال اللّه فيهم

قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ اي الذين لم يلههم الأمل بل قربوا الموت في كل حين إلى ظنهم شوقا إلى لقاء اللّه برفع الحجاب الشهواني كما قدمناه في الآية الثالثة و الأربعين قالوا من قوة إيمانهم و ثبات عزمهم و حسن ظنهم باللّه. و المؤمن ينظر بعين اللّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي جماعة و فرقة قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ و نصره

سورة البقرة (2): الآيات 250 الى 251

وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)

وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 249 وَ لَمَّا تهيأوا للقتال و بَرَزُوا في موقف الحرب لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ لم يعتمدوا على أنفسهم مهما بلغوا من الطاعة و التفاني في سبيل اللّه بل قالُوا في التجائهم إلى اللّه و دعائه بالتوفيق و التسديد و النصر لإظهار دين الحق رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً الا فراغ الصب شبهوا الصبر بالماء الذي يعمهم يصبه عليهم فطلبوا من اللّه التوفيق للصبر الكثير المجدي بحيث يكون كما يصب عليهم الصبر صبا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا على الحق و الجهاد في سبيلك وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إعلاء لدين الحق 250 فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ المأثور ان هزيمة الكفار كانت بعد ان قتل داود جالوت

ص: 224

و لكن أخر ذكر القتل ليجري ما ذكر لداود من الفضائل على نسق واحد فإن ذلك ابلغ في تمجيده و اظهر بيانا لعظمة النعمة عليه وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ المهيب وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كفصل القضاء و النبوة و الزبور و عمل السابغات وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ عن الطغيان و الإفساد العام بَعْضَهُمْ بدل من الناس بِبَعْضٍ آخر لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ فإن اللّه جلت حكمته خلق الناس مختارين في أفعالهم و من الغايات ان يتمتعوا في الأرض و يحصل منهم النسل و يلد الكافر المؤمن و الفاجر الصالح و قد علم اللّه انه يكون في الناس أمثال يزيد و مسلم بن عقبة و الحجاج و إذا خلّى السبيل لامثال هؤلاء ملأوا الأرض فسادا و أفسدوها و ان إهلاك المفسد و الانتقام منه في الدنيا لا يرتدع به من يريد الفساد العام بل يعدون كل ذلك من سنن الكون و مقتضيات الأسباب العادية كالموت الذي لم يردع الناس عن غيهم و ان قاربوه بالشيخوخة و المرض فكان من الرادع لهم امر اللّه للمؤمنين بدفاع المفسدين و وجود المنازعين من الناس للمفسدين في أغراضهم فكان ذلك و ما وقع من مغلوبية المفسدين و مقهوريتهم عند النزاع دافعا من اللّه لشمول الفساد و كان حذر المفسدين من صولة القوة و ثورة النزاع و فوز الخصوم رادعا نوعيا في الغالب يوقف الفساد عن طغيانه العام وَ لكِنَّ اللَّهَ تفضل على العالمين بأن منع عموم الفساد في الأرض بدفع الناس بعضهم ببعض مع بقاء الحكم على مواقعها فاللّه جلت آلاؤه

سورة البقرة (2): الآيات 252 الى 253

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 251 تِلْكَ اي قصص الأمور المذكورة آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِّ و على حقيقتها بالوحي الإلهي وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ من اللّه الى الناس لتخرجهم من الظلمات الى النور 252 تِلْكَ الرُّسُلُ انثت الاشارة باعتبار الجماعة فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ إياه و فضله بتكليمه له كموسى و رسول اللّه

فقد ورد مستفيضا عن الصادق (علیه السلام) ان التغير الذي يعتريه (صلی الله علیه و آله) عند الوحي انما هو عند تكليم اللّه له بدون توسط جبرائيل كما روى

ص: 225

مسندا في محاسن البرقي و علل الشرائع و توحيد الصدوق و إكمال الدين و امالي الشيخ

بل ان أحاديث المعراج عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ناطقة بأن اللّه كلمه و ناجاه و ناداه كما في تفسير القمي و بصائر الدرجات و علل الشرائع و امالي الصدوق و امالي الشيخ بأسانيدهم عن الكاظم و الصادق و الباقر و امير المؤمنين و ابن عباس كما روى اهل السنة ذلك في حديث المعراج وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ المعجزات الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ جبرئيل وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ان يلجئ عباده على عدم الكفر و العصيان له و وافق ذلك حكمته لفعل فانه هو القادر القاهر و مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من أممهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ و لم يكن ذلك لأجل خفاء الحق على احد الفريقين وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا بسبب اتباع الهوى من بعضهم فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ باللّه و بما جاءه من البينات وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ و اتبع هواه فاقتتلوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا و لكن ليجزي المؤمنين جزاء المجاهدين في نصر الحق وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ مما يقتضيه اللطف و الحكمة

سورة البقرة (2): آية 254

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

253 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ان أريد الإنفاق الواجب كما هو ظاهر الطلب فهو الزكاة إذ لا يعهد انفاق عام واجب غيرها و لا تخافوا الفقر في انفاقكم فإن ما عندكم انما هو من رزق اللّه و هو رازقكم فاغتنموا الفرصة في أموالكم في دار الدنيا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ و هو يوم القيامة لا بَيْعٌ فِيهِ فتبتاعون ما ينفعكم فيه وَ لا خُلَّةٌ تجديكم فيه ان لم تكونوا من الذين اتقوا اللّه فيما أمرهم به و نهاهم عنه و قدموا لأنفسهم الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ كما في سورة الزخرف وَ لا شَفاعَةٌ الا لمن اتخذ عند اللّه عهدا و الا بإذن اللّه و لمن ارتضى كما أشرنا اليه في سورة الفاتحة في الشفاعة وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم إذ لم يتركوا لأنفسهم لذلك اليوم وسيلة تؤهلهم لرحمة اللّه لهم و نجاتهم

ص: 226

سورة البقرة (2): آية 255

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

254 اللَّهُ اسم و علم لواجب الوجود آله العالمين جل و علا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الإله هو الذات المقدسة المتصفة بصفات الإلهية كوجوب الوجود و العلم و القدرة و الخالقية و غيرها فلا شي ء متصفا بصفات الإلهية و يستحق ان يسمى إلها و له تحقق الا اللّه الْحَيُّ الثابتة له صفة الحياة و الدائمة بدوام ذاته و وجوب وجوده لذاته و معنى الحي واضح ظاهر الْقَيُّومُ مبالغة في من قام بالأمر فإنه جلت آلاؤه هو القائم بإيجاد العالم و تدبيره و المبالغة باعتبار العموم و الدوام لا تَأْخُذُهُ لا تغلبه و تستولي عليه سِنَةٌ بل وَ لا نَوْمٌ السنة من الوسن و هو النعاس الذي لا يبلغ النوم و لكنه يغلب و يوجب الذهول و الغفلة عن القيام بما يقام به من الأمور. و النوم معروف و يجوز ان لا تغلب السنة و لا تستولي بل يطرء النوم فيغلب و لكن اللّه جل شأنه زيادة على انه لا تأخذه و لا تغلبه سنة لا يأخذه و لا يغلبه على قيوميته نوم و ان كان أقوى من السنة بكثير لَهُ ما فِي السَّماواتِ من الموجودات وَ ما فِي الْأَرْضِ جميعا حتى السموات و الأرض كما تقول الملك له و تحت نفوذ ملوكيته ما في العراق اي حتى ارض العراق و حدودها كما اكتفى القرآن في هذا المعنى المتعارف في المحاورة العرفية بقوله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كما في نحو ثمانية عشر موردا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فإن كل ما في السموات و الأرض له و من خلقه فليس هناك من يتوهم كما يقول المشركون ان له استحقاقا طبيعيا للشفاعة و التأثير لتوهم تأليهه مع اللّه بأحد الوجوه التي يتوهمونها و منها الولادة و المظهرية تعالى اللّه عما يقولون لا إله الا هو و انما تكون الشفاعة لعبد مقرب بإذن اللّه له بها تشريفا له و إعلاء لقدر عباده الصالحين المطيعين له و ترغيبا للناس في الطاعة و ما لها من علو الدرجات يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ اي الملائكة و الجن و الإنس من العقلاء الذين يصح نفي الشفاعة عنهم و إثباتها لهم بوجه و المراد مما بين أيديهم و ما خلفهم ما مضى و ما هو آت وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ اي مما يعلمه إِلَّا بِما شاءَ و علّمه لعباده و فتح لهم باب إدراكه وَسِعَ

ص: 227

كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ

روى الصدوق في توحيده بسنده عن المفضل عن الصادق (علیه السلام) ان العرش هو العلم الذي اطلع اللّه عليه أنبياءه و حججه و الكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا

و بسنده عن حفص بن غياث عنه (علیه السلام) عن الكرسي في الآية قال (علیه السلام) علمه

و بسنده عن عبد اللّه بن سنان عنه (علیه السلام) في الكرسي او العرش هو العلم الذي لا يقدر احد قدره و في مجمع البيان ان هذا مروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (علیه السلام) و في التبيان و هو مروي عنهما

و في الدر المنثور ذكر جماعة أخرجوه عن ابن عباس و ذكر جماعة أخرجوه عن أبي الاشعري قال الكرسي موضع القدمين و له اطيط كاطيط الرحل.

و جماعة اخرجوا عن ابن مسعود عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في المقام المحمود قال ذلك يوم ينزل اللّه على كرسيه يأط منه كما يأط الرحل الجديد من تضايقه.

و جماعة اخرجوا عن عمر عن رسول اللّه انه قال ان كرسيه وسع السموات و الأرض و ان له أطيطا كاطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله ما يفضل منه اربع أصابع.

هذا و لما بين اللّه جل شأنه ان له ما في السموات و الأرض شاء ان يبين احاطة علمه و سلطة تدبيره بجميع ما هو له و ملكه فناسب التقريب لادراكنا القاصر بالتمثيل بالجسمانيات المألوفة لنا فشبه الإحاطة و السلطة بما لو كانت بحسب التخييل في كرسي الملك. و على ذلك جرى تعبير الأئمة عليهم السلام في السموات و الأرض انها في الكرسي وَ لا يَؤُدُهُ يثقله و يشق عليه حِفْظُهُما اي النوعين من السموات و الأرض و كيف وَ هُوَ الْعَلِيُّ في شأنه و قدرته و علمه الْعَظِيمُ في سلطانه و جلاله

سورة البقرة (2): آية 256

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

255 لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قد مر تفسير الدين في الآية التاسعة و الثمانين بعد المائة و ليس الدين بشي ء يخفى على الناس مجد حقيقته و كرامة كماله لكي يراد منهم بالإكراه كيف و هو دين الفطرة مستقيم صراطه واضح منهجه مشرقة ارجاؤه منيرة اعلامه بينة آياته هادية دلائله قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ بدلالة العقل و الفطرة و تتابع المعجزات و توارد الحجج و ان تعامى عنها المعاند له حتى أعمى عناده قلبه و عين بصيرته فَمَنْ يخالف هواه و يتبع عقله و بينات فطرته و يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ الطاغوت مأخوذ من الطغيان. و قد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم ثمان مرات ففي بعضها يكون مسماه خبرا للجمع و يعود عليه ضمير الجمع كما في أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ

ص: 228

في الآية. و في بعضها الضمير المؤنث الظاهر في الجماعة كما في يَعْبُدُوها في التاسعة عشرة من سورة الزمر. و في بعضها ضمير المفرد كما في الثالثة و الستين من سورة النساء. و في بعضها أشير اليه بهؤلاء كما في الرابعة و الخمسين من سورة النساء. و في النهاية و القاموس تكون للواحد و الجمع و ذكر اللغويون انه يقال طاغوت للصنم و الشيطان و رأس كل ضلال. و الطاغوت مأخوذ من الطغيان اما باعتبار كونه سببا كبيرا لطغيان الضلال كالأصنام. و في النهاية و منه

الحديث هذه طاغية دوس و خثعم اي صنمهم و معبودهم

و أما باعتبار طغيانه في اغوائه و تمرده و دعوته الى الضلال كالشيطان و رؤساء الضلال. ففي كل مقام من القرآن الكريم يراد من الطاغوت ما يناسب سوقه. و المناسب للمقام هو الأصنام او دعاة الشرك او الشياطين و معنى يكفر بالنسبة لكل من الأخيرين يخالفه في اغوائه بالشرك و يتبرأ منه و من اتباعه وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ اي احكم تمسكه بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي أوثق العرى فإنها لَا انْفِصامَ لَها ابدا و ليس في الإيمان باللّه منشأ تردد او ريب او وهن في الحجة وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم في الإيمان به عَلِيمٌ بنياتكم

سورة البقرة (2): آية 257

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

256 اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا اي هو المدبر الأولى و الاحق بتدبيرهم فيما هو الأصلح لهم بلطفه و ان كان لطفه جلت آلاؤه بالدلالة و الإرشاد عام لكل البشر و لكن خص الذين آمنوا بالذكر لأنهم لم يعاندوا الحق و لم يخرجوا أنفسهم عن الأهلية لتوفيق اللّه لهم الى الحق و الإيصال الى المقام السامي فهو يُخْرِجُهُمْ بتوفيقه مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الضلال و المعاصي إِلَى النُّورِ نور الهدى و الطاعة 257 وَ الَّذِينَ كَفَرُوا و عاندوا الحق و اخرجوا أنفسهم عن الأهلية للطف اللّه و ولايته في تدبير شؤنهم بالتوفيق و التسديد و قد تولوا الطاغوت فهم اذن أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ الظاهر من الضمير ارادة المغوين على الكفر و المغرين بالضلال كالشياطين و رؤوس الضلال فإنهم يخرجونهم مِنَ النُّورِ نور التوفيق و الوصول الى الحق إِلَى الظُّلُماتِ ظلمات الخذلان و الكفر و الضلال أُولئِكَ الكافرون أَصْحابُ النَّارِ هُمْ

ص: 229

سورة البقرة (2): آية 258

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

فِيها خالِدُونَ 258 أَ لَمْ تَرَ المراد الم تعلم كما ذكرنا قريبا إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ المحاجة تشمل الجدل و إن كان داحضا. و الظاهر ان المحاج هو النمرود الملك. و

في مجمع البيان ان هذه المحاجة. كانت قبل إلقاء ابراهيم في النار عن الصادق

قلت و لم أجد روايتها.

و في تفسير القمي لا بعنوان الرواية و الدر المنثور عن السدي انها بعد ذلك. و قد جرّأه على محاجة ابراهيم بالباطل طغيانه و عتوه و بطره أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ اي لأن اللّه أتاه الملك في الدنيا و املى له فحاجّ ابراهيم إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ و الهي هو الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ نمرود أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قيل انه صرف الكلام عن وجهه حيث قال له إبراهيم كيف تحيي و تميت قال اعمد الى رجلين قد وجب عليهما القتل فأخلي عن واحد و اقتل الآخر فأكون قد أحييت و أمت قال القمي في تفسيره لا بعنوان الرواية و أورد نحوه في الدر المنثور رواية عن ابن عباس أقول مقتضى الآية و محاجة نمرود لإبراهيم في ربه هو انه لم يدع كونه شريكا للّه ليقول انا ايضا احيي و أميت مثل اللّه و يغالط في ذلك بان يقتل احد الشخصين و يستحيي الآخر بل انه ينكر رب ابراهيم و يدعي الإلهية لنفسه فيكون قوله أنا احيي و أميت مصادرة جزافية يريد بها الاحياء و الموت اللذين قالهما ابراهيم فأراد ابراهيم ان يسد باب المصادرات بالدعاوي السخيفة الباطلة و لذا قالَ إِبْراهِيمُ ان كنت قادرا على الاحياء و الإماتة كما تزعم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ و القادر على الاحياء و الإماتة قادر على التصرف بالشمس فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي نمرود الكافر باللّه أو نوع الذي كفر من الحاضرين نمرود و اذنابه و بهت بالبناء للمفعول فهو مبهوت وَ اللَّهُ لا يَهْدِي اي لا يوفق و لا يوصل بلطفه الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بل يتركهم و أهواءهم. و من المعلوم ان القرآن الكريم لا تتعلق أغراضه الكريمة في نهجه المجيد بالقصص من حيث تاريخيتها و إنما يذكرها للموعظة و ضرب المثل و غير ذلك من الأغراض الحميدة فكأنه قيل أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ إلى آخر الآية فإن من

ص: 230

الناس من يكون في عناده و ضلاله و مكابرته للحق الواضح كهذا

سورة البقرة (2): آية 259

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259)

259 أَوْ يكون في غفلة عما يعتقده بإيمانه كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ

روى القمي في تفسيره و الطبرسي في احتجاجه عن الصادق (علیه السلام) انه ارميا النبي

و في تفسير البرهان عن امير المؤمنين (علیه السلام) انه عزير

و في الدر المنثور عن امير المؤمنين و صححه الحاكم و عن ابن عباس بعدة طرق انه عزير

فلا مساغ لصاحب الكشاف في اختياره ان صاحب القصة كافر و قد كفانا ابن المنير في حاشيته مؤنة الرد لما استند اليه الكشاف في دعواه وَ هِيَ خاوِيَةٌ أي ساقطة أعاليها كقوله في سورة الحاقة فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ عَلى عُرُوشِها أي سقوفها و يقال العرش للسرير و ارادته هنا ممكنة. و قيل معنى خاوية خالية و في المصباح و القاموس خوت الدار خلت من أهلها لكن يكون على هذا في اعراب على عروشها تكلف بعيد عن كرامة القرآن قالَ أَنَّى كيف يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها

في رواية القمي في تفسيره عن الصادق فنظر إلى السباع تأكل الجيف فقال

أنى يحيي اللّه هذه بعد موتها. و في رواية الدر المنثور عن ابن عباس في ذكر القرية قد باد أهلها و رأى عظاما فقال أَنَّى يُحْيِي الآية و لا يخفى ان الظاهر من لفظ يحيي و موتها و قصة موت القائل و احيائه و الاحتجاج عليه بذلك هذه كلها تشير و تومي إلى المشار اليه بكلمة «هذه» و هي الأجساد او العظام و استغنى عن ذكرها بدلالة المقام و إشارات الآية كما في قوله تعالى قبل آيات فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ و كثير من نحو ذلك فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ لا يخفى ان الظاهر من الآية هو المعنى الحقيقي للموت مع ان رواية القمي عن الصادق (علیه السلام) و رواية الدر المنثور التي صححها الحاكم عن امير المؤمنين و رواياته الأخر عن ابن عباس و الحسن و وهب هذه كلها صريحة في ان هذا الشخص قد مات و تلاشت اجزاؤه و تفرقت فأحياه اللّه بأن جمعها و كسا عظامه. و لكن المفسر المصري المعاصر قال ما حاصله ان الإماتة و الموت هنا عبارة عن فقد الحس و الإدراك و هو المسمى بالسبات لا مفارقة الروح للبدن و لم يحضرني الجزء الأول من تفسيره لكي أراه ماذا يقول فيما مر من قوله تعالى 53 ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ في موتك هذا قالَ

ص: 231

لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ و قد أظهرت المشيئة الإلهية لك شيئا من خارق العادة و دلائل القدرة على احياء الموتى و ان تفرقت أوصالهم فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لم يتأثر بالسنين المتطاولة فإن مقتضى العادة ان تتابع عليه تغييرات السنين الى ان تلاشيه في أثناء المائة عام فبهذه القدرة يحيي اللّه الموتى وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ تكرار الأمر بالنظر يشير إلى انتقال الكلام الى وجهة اخرى تدل على طول لبثه في الموت و هي ان حماره قد أفنته السنين و بادت اجزاؤه و تفرقت عظامه كما صرحت به الروايات المشار إليها وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ اي امتناك و بعثناك بعد البلا لترى بالعيان كيف يحيي اللّه الموتى و لنجعلنك آية و موعظة للناس في احياء الموتى و قدرة اللّه. و هذا ظاهر من وجود واو العطف و سياق الكلام وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها بالزاي المعجمة و ضم النون الاولى اي نجعلها بعد تفرقها بالبلا يرتفع و ينشز بعضها الى بعض بالتركيب. و قد نصت الروايتان المشار إليهما على عظامه و عظام حماره. و اما عظام اهل القرية فلم يعرف احياؤها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ما ذكر قالَ أَعْلَمُ يعرف من انه لم يقل الآن علمت انه عالم بذلك و انه يعلم بالعلم المستمر و بهذه المشاهدات تأكد علمه

سورة البقرة (2): آية 260

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 363 وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى جرت في ذلك شؤون و يدل على تلك الشؤون و يفسرها ما في الآية و هو قالَ اللّه له بالاستفهام التقريري أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ بقدرتي على احياء الموتى و اني أحييها و قالَ ابراهيم بَلى اني مؤمن بذلك وَ لكِنْ للعيان اثر كبير في الاطمئنان و رسوخ العلم في القلب فطلبت الرؤية لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

و يزداد يقيني بسبب المشاهدة بما آمنت به كما في رواية الكافي في أول باب الشك من أصوله و الصحيحة عن المحاسن

قالَ اللّه له و إذا كنت تطلب الرؤية فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بضم الصاد و سكون الراء بمعنى املهن و اجمعهن إليك. و قيل معناه فقطعهن و لكن لا معنى لتعليق إليك به و اما

ص: 232

تعليقها بقوله تعالى فَخُذْ مع وجود الفاصل الكثير و التفريع بالفاء فلا مساغ له في فصيح الكلام.

و الأخذ ليس مساوقا للإمالة و الضم اليه بل هو أعم ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً و هذا كاف في الدلالة على سبق الأمر بالتقطيع. و قد تعددت الروايات الصحاح

و المعتبرة عن الباقر و الصادق و الرضا عليهم السلام في ان الجبال كانت عشرة كما احصى غالبها في الوسائل في باب الوصية بالجزء

ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً و قد اكتفى بذكر هذا الوعد عن ذكر الوقوع لما هو معلوم من قدرة اللّه و انه لا خلف لوعده وَ اعْلَمْ اي و ليتأكد علمك أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ بقدرته حَكِيمٌ في اعماله

سورة البقرة (2): الآيات 261 الى 262

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

360 مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اي ان المثل الذي يضرب لهؤلاء في جزائهم المضاعف من اللّه و نتيجة إنفاقهم المباركة هو كَمَثَلِ حَبَّةٍ اي كالمثل الذي يضرب بحبة أَنْبَتَتْ من اسناد الفعل الى بعض أسبابه سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ و ليس ذلك فرضا موهوما كأنياب الأغوال بل هو كثير مشاهد مرئي و إن كان قليلا بالنسبة إلى نوع الزرع الكثير و كثيرا ما يشاهد ان الحبة يخرج منها اكثر من سبع سنابل بل و عشر و عشرين و كثيرا ما شوهد في قطرنا في السنبل القوي الجيد من الحنطة و الشعير تبلغ الثمانين حبة وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ بحسب نيته و إخلاصه و إقباله على الخير وَ اللَّهُ واسِعٌ في رحمته و قدرته و جزائه عَلِيمٌ بأعمال عباده و نياتهم فيها و وجوهها و لا يخفى ان سبيل اللّه غير مختص بالجهاد.

و في مجمع البيان ان الآية عامة في النفقة في أبواب البر و هو المروي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)

قلت و إن قوله تعالى وَ اللَّهُ واسِعٌ مع سوق الآية يعطي

ان الجزاء المضاعف غير مختص بالإنفاق بل يعم اعمال الخير كلها كما روي في محاسن البرقي في صحيحة عمر بن يزيد و عن امالي الشيخ و تفسير العياشي في معتبرة الوابشي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)

261 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا بعد إيصاله لمن أعطوه إياه مَنًّا المن معروف

ص: 233

و هو ان يتطاول المعطي على من أعطاه بأنه أعطاه و منه قوله ألم أعطك ألم أحسن استطالة عليه لا في مقام ما يرجح من التنصل من القطيعة و البخل وَ لا أَذىً بسبب الإعطاء لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بيان لأن الجزاء المضاعف المذكور في الآية السابقة هو اجر للمنفقين على إنفاقهم و ذلك اهنأ في نفوس العامة و فيه ترغيب لهم و ان كان تفضل اللّه اهنأ عند الخواص و أقرب الى الكرامة

سورة البقرة (2): الآيات 263 الى 264

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)

وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ 262 قَوْلٌ مَعْرُوفٌ في الاعتذار غير منكر و لا مستوحش كأن يتلطف بالكلام في رد السائل و الاعتذار منه و الدعاء له وَ مَغْفِرَةٌ لما يصدر منه من الحاف أو إزعاج في المسئلة خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ يغني السائل من سعته و لكنه لأجل مصالحكم في الدنيا و الآخرة استقرضكم في الصدقة و إعطاء السائل حَلِيمٌ فعليكم يا عباده بالحلم و الغفران لما يبدر من السائل. و قد أكد اللّه إرشاده في امر الإنفاق و الصدقة فقال جلت آلاؤه 263 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى و تكونوا قد أنفقتم أموالكم و لم تبقوا لكم عند اللّه شيئا من الأجر و الثواب فإن مفسدة المن و الأذى و رذيلتها تذهب بفضيلة صدقاتكم و إن قصدتم بها القربة في حينها فأنتم في ذلك كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ الرئاء و الرياء و المراءاة مأخوذة من الرؤية و هو ان يعمل الإنسان العمل لا لحسنه و لا لوجه اللّه بل لأن يراه الناس تباهيا به وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ لكي يطلب ما عند اللّه فَمَثَلُهُ اي مثل المرائي المنافق الذي لا يؤمن باللّه في انه لا خير فيه و لا في إنفاقه كَمَثَلِ صَفْوانٍ الصفوان كالصفا هو الصخر الأملس عَلَيْهِ تُرابٌ يخيل انه ارض نافعة صالحة للنبات فَأَصابَهُ وابِلٌ اي مطر عظيم القطر شديد الوقع فجرف ذلك التراب عن ذلك الصفوان فَتَرَكَهُ صفوانا مجردا صَلْداً أي صلبا أملس لا يصلح لنتيجة لا يَقْدِرُونَ أي المراؤون بانفاقهم الذي أشير اليه بالآية عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا على فائدة

ص: 234

مما أنفقوه و كان مما كسبوه و تعبوا في كسبه و جمعه فلا يقدرون لا على شي ء من عينه و لا من ثوابه فذهب عليهم بريائهم و نفاقهم هدرا و ذلك أشد لحسراتهم وَ اللَّهُ لا يَهْدِي و لا يوصل إلى الهدى بتوفيقه الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فإنهم أخرجوا أنفسهم بنفاقهم عن اهليتهم للتوفيق

سورة البقرة (2): الآيات 265 الى 266

وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

264 وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي و لأن يثبتوا أنفسهم على طاعة اللّه و طلب رضاه. فإن بذل المال عند نوع الناس صعب و ان سهلت عليهم العبادات البدنية و يقال ان نوع الأعراب كانوا يستصعبون الزكاة و يعدونها كالاتاوة فالذين يسمحون بأموالهم و ينفقونها ابتغاء مرضاة اللّه يكون لهم من الغايات الحميدة تثبيت أنفسهم على الطاعة و عمل الخير. و دخول «من» الجارة على أنفسهم مع انها مفعول للتثبيت مثله شايع في اللغة كقولهم روض من عريكته و هزمن عطفه و لعل السر في ذلك ان هذا المنفق ينفق من نفس قد روضها و ثبتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت للّه بالمال العزيز عندها فهو يجعل من مقاصده في الإنفاق تثبيتها على طاعة اللّه و ابتغاء مرضاته بالنسبة للمستقبل من الأزمان و الحالات و بهذا الاعتبار يكون هؤلاء المنفقون الكرام كأنهم يثبتون من أنفسهم بعضها فمثلهم كَمَثَلِ جَنَّةٍ بستان بِرَبْوَةٍ ارض مرتفعة لأنها تكون ازكى شجرا و احسن ثمرا و أنقى هواء لسلامتها من و خامة المستنقعات و نز الأرض و إضرار ذلك بالشجر و الثمر أَصابَها وابِلٌ تقدم تفسيره و من المعلوم ان سقي المطر للبستان بل كل زرع احسن لتنميتها وجودة تربتها من كل سقي فَآتَتْ أُكُلَها اي ثمرها المأكول ضِعْفَيْنِ لما تؤتيه إذا سقيت بغيم المطر فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ يكفيها في ذلك لجودة منبتها و ان كان مطرا صغير القطر وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ و منه انفاقكم بحسب نياتكم بَصِيرٌ ثم كرر المثل في الزجر عن ابطال الصدقة بالمن و الأذى بقوله تعالى 265 أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ و كيف يود و من ذا الذي يود أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ و من حيث بهجة منظرها و دوام سقيها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

ص: 235

حال كونه لَهُ فِيها زيادة على النخيل و الأعناب الذين تكون ثمراتهما فاكهة و غلة و قوتا مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ التي يستغل و يتفكه بها وَ هو في زمان و حال يكون فيهما احرص ما يكون على هذه الجنة حيث انه أَصابَهُ الْكِبَرُ و الشيخوخة و انقطع عن الكسب و شب فيه الحرص وَ لَهُ زيادة على ذلك ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ يحرص على الإنفاق عليهم و على توريثهم فَأَصابَها أي تلك الجنة العزيزة إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ الاعصار ريح ترتفع بتراب فتلتف و تستدير و تقلع الشجر و النخل بقوتها فَاحْتَرَقَتْ تلك الجنة العزيزة بالنار و تلاشت بالاعصار. و إذا كان أحدكم لا يود ذلك بل هو عليه من أعظم المصائب فلما ذا يسلط نار المن و الأذى في اعصار جهله و يحرق بها إنفاقه و يبطله مع ان الحاجة إلى ثمراته أشد من الحاجة إلى تلك الجنة من ذلك المحتاج كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي لغاية ان تتفكروا فتعرفوا رشدكم

سورة البقرة (2): آية 267

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

266 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ بالتجارة و نحوها وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ

من المعادن و بالزراعة و الظاهر ان المراد مطلق الإنفاق في سبيل اللّه سواء كان في الزكاة أم في غيرها و المراد بالطيب هو غير الردي في ذاته او بحرمته كما فسر بالأمرين المذكورين في روايات الكافي عن أبي بصير عن الصادق (علیه السلام) و روايات العياشي عن عبد اللّه بن سنان و أبي بصير و رفاعة عن الصادق (علیه السلام) و عن زرارة و أبي الصباح عن الباقر (علیه السلام) و نحوها روايات الدر المنثور

و من ذلك يتأكد ظهور الآية في المعنى الأعم من الطيب بالحل و الجودة او بالجودة المقابل للرداءة و الخبث وَ لا تَيَمَّمُوا و لا تقصدوا الْخَبِيثَ و تعدلوا اليه عن الطيب مع خبثه بالرداءة أو بالحرمة بالمعنى المقابل للطيب بالمعنى العام المتقدم مِنْهُ تُنْفِقُونَ و تجعلون انفاقكم منه مع وجود الطيب و اما من لم يعدل عن الطيب إلى الخبيث بل كان كل ماله رديا قبل منه في الزكاة و شكر على الإنفاق منه وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ الواو للحال و الجملة لرفع المغالطة في مصداق الخبيث أي انكم لا تأخذونه في حقوقكم و هداياكم و صلاتكم إِلَّا ان تتنازلوا و تتساهلوا في

ص: 236

رداءته و خبثه و أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ كناية عن التنازل المذكور كمن يغمض عينيه لئلا يرى خبثه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن انفاقكم على عباده و هو الذي يرزقكم و إياهم و ما بكم من نعمة فمن اللّه حَمِيدٌ أي محمود على نعمائه و آلائه العامة و لكنه شرع لكم الإنفاق و طلبه منكم لأجل مصالحكم في الدنيا و الآخرة فلا يجرمنكم الشيطان بإغوائه عظيم فضل الإنفاق

سورة البقرة (2): الآيات 268 الى 269

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)

(267 الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ و يخوفكم به لئلا تنفقوا وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ التي لا يخفى عليكم كونها فحشاء فاعرفوا بهذا عداوته لكم و خبثه و خداعه فيما يعدكم و يخوفكم به وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ لكم فيما فرطتم به وَ فَضْلًا أي زيادة في نعمته و رحمته وَ اللَّهُ واسِعٌ في فضله و رحمته أي واسع الفضل و الرحمة عَلِيمٌ بانفاقكم و نياتكم فيه (268 يُؤْتِي الْحِكْمَةَ في التبيان و مجمع البيان في معنى الحكمة. و

قيل و هي القرآن و الفقه و هو المروي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) انتهى

و الذي وجدته

عن تفسير العياشي عن الصادق (علیه السلام) ان الحكمة المعرفة و التفقه في الدين.

و في تفسير البرهان عن الصادق (علیه السلام) الحكمة ضياء المعرفة و ميزان التقوى و ثمرة الصدق.

و في الكافي في باب معرفة الإمام في الصحيح عن الصادق طاعة اللّه و معرفة الإمام و عن المحاسن نحوه

و عن الكافي ايضا عن الصادق (علیه السلام) معرفة الإمام و اجتناب الكبائر

و في روايات الدر المنثور عن ابن عباس ان الحكمة النبوة او فقه القرآن أو المعرفة به ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه و مقدمه و مؤخره و حلاله و حرامه و أمثاله. أقول و لعل ذلك باعتبار ما هو أعم نفعا و أعظم من مصاديق الحكمة فانها ما ينفع من العلم بالحقائق. و من المؤلم و المؤسف ان اسم الحكمة شاع استعماله «مثلما سمي اللديغ سليما» بالفلسفة اليونانية و منها مزاعم العقول العشرة تلك المزاعم التي جحدت مقام اللّه الجليل في الإلهية بنحو لم تجرأ عليه الوثنية بل هي عبارة مموهة عن الطبيعة إذ لم تسمح للّه إلا بأنه علل العقل الأول بالتعليل الطبيعي بلا ارادة منه و لا اختيار فلا ارادة و لا خلق و لا مشيئة له ايضا في غير العقل الأول من الموجودات و لا سنخية و لا ربط خلافا لدلالة العقل و القرآن الكريم على ان اللّه خالق الخلق بمشيئته و ان العالم صادر عن خلق و ارادة ان التشبثات

ص: 237

لهذه المزاعم مردودة بالحل و النقض و لزوم التناقض و سخافة ابتنائها في عدد العقول على موهومات الهيئة القديمة في الأفلاك و حصر عددها بالتسع و قد أشير إلى شي ء من ذلك في فصول العقائد لنصير الدين الطوسي قدس سره و آخر الجزء الثاني من المدرسة السيارة و مع هذا كله يسمى القائلون بمزاعم العقول بالعرفاء و اهل الوصول و المكاشفات «مثلما سمي اللديغ سليما» تعالى اللّه عما يقولون مَنْ يَشاءُ من عباده بحسب جده و ما حصله باختياره من كونه أهلا لهذه الرحمة و النعمة و التوفيق لها وَ مَنْ يُؤْتَ بالبناء للمفعول و الجزم باداة الشرط الْحِكْمَةَ مفعول ثاني فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ بما ذكر به من آيات القرآن الكريم في الإنفاق و غيره من الأخلاق و الأحكام و يكون له نصيب من الحكمة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الظاهر في اللب القلب و القرآن ينسب التعقل و التفهم إلى القلب و المراد هنا من لم يعم قلبه بالتمادي على الضلال و غفلة الجهل البسيط و ضلال المركب و هو اقبحه فإنه كأنه لا قلب له و لا لب و ربما فسر اللب هنا بالعقل و كأنه تفسير بما يئول اليه المعنى المكنى عنه

سورة البقرة (2): الآيات 270 الى 271

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

269 وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ «ما» موصولة متضمنة معنى الشرط صلتها أنفقتم و عائدها ضمير محذوف يفسره و يبينه «من نفقة» سواء كان الإنفاق في الطاعة ام في المعصية مقرونا بالإخلاص ام بالرياء أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ عطف على أنفقتم. و النذر المشروع ان يقول للّه عليّ ان افعل أو أترك كذا. أو للّه عليّ ان كان كذا ان افعل أو أترك كذا و يشترط ان يكون المنذور طاعة للّه. و قد يكون النذر للطاغوت او في معصية فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ على ما هو عليه و يجازي عليه بجزائه. و الجملة خبر للموصول و الرابط هو الضمير في «يعلمه» و الخبر ساد مسد الجزاء للشرط و لذا دخلت عليه الفاء وَ ما لِلظَّالِمِينَ في إنفاقهم او نذرهم للطاغوت أو في المعصية او في مخالفتهم للنذر الصحيح للّه مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم على اللّه و يعارضونه و يمنعونهم بالقوة من عقابه 270 إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ التي يراد بها وجه اللّه من الواجبة و المندوبة فَنِعِمَّا هِيَ اي فإن الصدقة نعم شيئا هي في ذاتها و لا يذهب إلا بداء لها بفضلها إذا لم يعرض عليها بسببه شي ء من الرياء أو إذلال المتصدق عليه. و اماما ذكره

ص: 238

في مجمع البيان و الكشاف من ان المعنى فنعم شيئا ابداءها و حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه و اعطي اعرابه فهو تكلف لا يناسب جلالة القرآن الكريم وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ أي و تمكنتم مع اخفائها من إيصالها إلى مستحقيها من الفقراء بحسب الحاجة و الأولوية فَهُوَ أي الإخفاء خَيْرٌ لَكُمْ لأنه ابعد عن الرياء و أقرب إلى الإخلاص و حفظ عزة الفقير و حرمة المتعفف وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ اي و يكون الإخفاء سببا لأن يكفر اللّه عنكم بعض سيئاتكم وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ مما تبدونه او تخفونه تراؤون فيه او تخلصون به له خَبِيرٌ لا يخفى عليه شي ء

سورة البقرة (2): الآيات 272 الى 273

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

271 لَيْسَ عَلَيْكَ يا رسول اللّه هُداهُمْ اي إيصالهم إلى الحق و لا أنت مسئول عن ذلك فإنما عليك البلاغ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي أي يوصل بتوفيقه إلى الحق و العمل الصالح مَنْ يَشاءُ ممن هو أهل للتوفيق وَ ما تُنْفِقُوا يا أيها الناس مِنْ خَيْرٍ من المال او طيبه و خيره أو سمي خيرا لأنه يقصد به وجه اللّه و سبيل الخير فَلِأَنْفُسِكُمْ يعود النفع من إنفاقه وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي الوجه الذي يتوجه به إلى اللّه و في التبيان ابتغاء مرضاة اللّه و في الكشاف و طلب ما عنده انتهى و ما ذكره إنما هو غاية يقصدها الغالب في عملهم لوجه اللّه و قد تكون الغاية للأولياء هو

ان اللّه اهل للعبادة كما يروى عن زين العابدين (علیه السلام)

تصريحه بذلك و إذا لم يثبت ما ذكر في الدر المنثور و غيره من ان السبب في نزول هذه الجملة هو الرخصة لمن امتنع عن الإنفاق على أرحامه المشركين فالظاهر انها خبرية يراد بها تأكيد النهي عن ان ينفقوا إلا ابتغاء وجه اللّه خالصا من الرياء وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوصل إليكم جزاءه تاما وافيا وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بنقصه و لا تأخير إيصاله عن محل الحاجة فإنه يصل إليكم في حال أنتم فيه في أشد الحاجة إلى ذلك الجزاء 272 لِلْفُقَراءِ قال في التبيان و مجمع البيان و الكشاف تقديره «النفقة للفقراء» و يدل على ذلك تعدد ذكر الإنفاق في الآيات و كونها مسوقة له و أما تعليق الجار و المجرور بكلمة «و ما تنفقوا» في أول الآية فلا يصح لأن

ص: 239

الإنفاق إنما يعدى بعلى لا باللام مضافا إلى بعده من حيث الفصل الطويل و عدم الانسجام الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

في مجمع البيان قال ابو جعفر يعني الباقر (علیه السلام) نزلت في اصحاب الصفة و رواه الكلبي عن ابن عباس انتهى

و في الدر المنثور ذكر انه أخرجه ابن المنذر من طريق الكلبي و أخرجه ابن سعد عن محمد بن كعب القرضي عن ابن عباس. و لفظ الآية عام و إن كان اصحاب الصفة بمقتضى الرواية مورد النزول. و الإحصار هو المنع او الحبس الذي يكون من ناحية المحصر. أي منعوا أنفسهم و حبسوها في سبيل اللّه بسبب معاداتهم للمشركين او لأنهم وقفوا أنفسهم على التجند في سرايا رسول اللّه و حروبه فحبسوا أنفسهم على انتظار ذلك او على خدمة الدين او طلب العلوم الدينية فهم من اجل ذلك لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ للتكسب و الاحتراف للرزق بالتجارة و نحوها يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بحالهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ و ترويض أنفسهم على العفة مع شدة الحاجة فإن ملكة العفة قد يغلبها الفقر و دوام الحاجة و لكنها إذا كانت لا تزال مؤيدة بالتعفف و ترويض النفس كانت هي الغالبة تَعْرِفُهُمْ بما هم فيه من الفقر و الحاجة بِسِيماهُمْ و مخائلهم و دلائل أحوالهم على الحاجة اي ان سيماهم كافية في تعريف حالهم لا ان معرفتهم بالفقر منحصرة بدلالة السيماء فإن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و كثير من الناس كانوا يعرفون حال الكثير من المذكورين بالخبرة و الاطلاع و الظاهر ان الخطاب في تعرفهم ليس لحصر المعرفة بالرسول بل المعنى يعرف حالهم بسيماهم فهم و ان تمادى بهم الفقر لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً في نهاية ابن الأثير من سأل و له أربعون درهما فقد سأل الناس إلحافا و قال الزجاج الحف شمل بالمسألة و هو مستغن عنها. و نحوه في أساس الزمخشري. و فسروا الالحاف ايضا بالالحاح في المسئلة و معنى الآية لا يسألون نوع الناس مهما احتاجوا و لا يشمل سؤالهم كل من يحتملون اسعافه لهم فيكونوا بذلك ملحفين و ملحين بنوع السؤال و إن لم يلحوا في افراده و لا يلزم في فضل المذكورين ان لا يسألوا أحدا أبدا فلا يخدش في تعففهم ان تلجأهم الضرورة إلى ان يذكروا حالهم اتفاقا لمن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم أو من ينوب عنه. و لا يبعد انه لا ينفك أحد من ان يسأل حاجة و لو من خواصه بل قد يجب ذلك أو يندب و لكن في

ص: 240

مجمع البيان قيل معناه انهم لا يسألون الناس أصلا عن ابن عباس و هو قول الفراء و الزجاج و اكثر ارباب المعاني و استشهد له بقول الأعشى «لا يغمز الساق من اين و من وصب» اي ليس بها اين و لا وصب ليغمز ساقها و استشهد في التبيان لذلك بقولهم ما رأيت مثله يريدون بذلك انه ليس له مثل كما استشهدوا لذلك بقول امرئ القيس «على لا حب لا يهتدى بمناره» اي ليس فيه منار يهتدى به أقول و هذه الشواهد لا تشبه الآية و لو كان المراد انهم لا يسألون أصلا لما صح من مثل كرامة القرآن ان يبين فضلهم بلفظ يظهر منه خلاف المراد و لا يقارب المراد الا بما ذكروه من التأويل البعيد وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يوفيكم جزاءه

سورة البقرة (2): آية 274

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

275 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ و بيده مضاعفته وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ فيما

رواه الصدوق في العيون مسندا عن الرضا عن آبائه عليهم السلام انها نزلت في علي (علیه السلام)

و روى المفيد في الاختصاص مسندا عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) انها نزلت في علي و ذلك لأنه كان عنده اربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا و بدرهم نهارا و بدرهم سرا و بدرهم علانية. و روي في التبيان مثله عن ابن عباس. و قال و هو المروي عنهما و في مجمع البيان و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (علیه السلام). و رواه في الكشاف و أسنده الواحدي في اسباب النزول عن ابن عباس. و حكى العياشي و الواحدي روايته عن الكلبي و نحوه ايضا في مناقب الخوارزمي و عن الحافظ أبي نعيم و الثعلبي في تفسيره و الحمويني في فرائده و ابن المغازلي

و ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ان شيخه الاسكافي احتج في رد الجاحظ بنزول الآية في علي (علیه السلام). و في الدر المنثور اخرج عبد الرزاق و عبد ابن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن عساكر من طريق عبد اللّه بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس و ذكر نحوه و في مناقب ابن شهرآشوب روى ذلك عن ابن عباس و السدي و مجاهد و الكلبي و أبي صالح و الثعلبي و الطوسي و الواحدي و الطبرسي و الماوردي و القشيري و الثمالي و النقاش و الفتال و علي بن حرب الطائي و عبد اللّه بن الحسين في تفاسيرهم قلت و كذا في تنوير المقياس

ص: 241

و هو التفسير المنسوب لابن عباس: و ايضا عن الثعلبي روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس انها نزلت في شأن عبد الرحمن بن عوف و علي بن أبي طالب (علیه السلام) و كانت صدقة علي أحب الصدقتين الى اللّه. و روى الواحدي و صاحب الدر المنثور ان الآية نزلت في اصحاب الخيل الذين يعلفونها في سبيل اللّه و لكنك لا تكاد تجد بين هذا و بين الآية مناسبة تليق بكرامة القرآن:

هذا و لا يخفى ما في الصدقة و الإنفاق من الفوائد العظيمة في المصالح الدينية و الاجتماعية و للمنفق في تهذيب نفسه من رذيلة الشح و في قربه من اللّه و استحقاقه الجزاء المضاعف. كما لا يخفى ان الربا في مضاره على عكس ذلك و يقابله بالضدية في كل ما ذكرناه تمام المقابلة و هل يخفى ضرره بايقافه سوق التجارة و تبادل المنافع و المساعدات بالمعروف بين الناس. الا ترى ان الرجل بينما هو مثر إذا به قد استهلك الربا ثروته و تركه يعجز عن مؤنة عياله. فناسب ذلك في لطف اللّه و إرشاده لعباده ان يتبع امره و ترغيبه في الإنفاق و الصدقة بزجره و توبيخه على الربا فقال جلت آلاؤه

سورة البقرة (2): آية 275

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)

274 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا اصل الربا الزيادة و اشتهر استعماله في خصوص الزيادة التي تؤخذ في معاوضة بعض النوع بمثله من المكيل و الموزون سواء كان ذلك في معاملة او قرض. و حرمته في الجملة معلومة من الكتاب و السنة و اجماع المسلمين بل لا يبعد كونها من ضروريات الشريعة و ان خفي بعض مصاديقه عن بعض الناس كما في بعض المعاملات الربوية. و المراد من الربا اخذه و انتزاعه من مالكه كما في قوله تعالى في السورة وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ و في سورة النساء لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ الخبط هو الضرب على غير استواء و ضرب الشجر ليتناثر منه الورق. و خبطت الشجر أسقطت منه الورق. و اسم الورق المتساقط من الشجر خبط بفتح الخاء و الباء. و الظاهر ان تخبطه مثل تزوجها و تبناه اتخذه خبطا اي جعله كالخبط في تتابع سقوطه بسبب مسه له

في مجمع البيان من رواية الجمهور و في تفسير القمي من رواياتنا ان رسول اللّه اري حال هؤلاء ليلة أسري به الى السماء

و في روايات

ص: 242

الدر المنثور عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و ابن عباس و ابن مسعود و انس و ابن سلام لا يقوم يوم القيامة الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان

و بذلك فسره مجمع البيان و هو ظاهر المقام و في التبيان كأنه نسبه الى القيل ذلِكَ اي حالهم في القيام المذكور بِأَنَّهُمْ اي عقوبة بسبب انهم قالُوا في باطل قياسهم و غلط اعتراضهم على الشريعة و حكمتها إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا في انه يكون في تعاطيه ربح و تكون المالية في احد العوضين اكثر منها في الآخر مع ان البيع متداول بين الناس و قد غلطوا في قياسهم فإن اللّه جل شأنه قد اجرى احكام شريعته على الحكم و كثيرا ما يظهر وجهها وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ لقيامه بنظام الاجتماع و مصلحة المدنية في تبادل المنفعة بأعيان الأموال و وجوه الحاجة الى خصوصياتها مع ابتنائه على العدل في تساوي العوضين في المالية بحسب الاعتبار عند المبايعة و انما تحصل الزيادة اتفاقا بحسب اختلاف الرغبة او الزمان او المكان وَ حَرَّمَ الرِّبا لابتنائه من أول الأمر على الزيادة في العين و ماليتها و على الإجحاف و الإخلال بحسن الاجتماع بالمعروف لما أشرنا اليه من المفاسد و سد باب الإحسان و المعاونة فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ الموعظة التذكير و التخويف من عقاب اللّه على معصيته و مخالفة نهيه عن الربا سواء كان ذلك بالتخويف الذي ذكره اللّه و خوفهم به من آي القرآن كما في التبيان او بالتخويف الذي ينتهي الى وحي اللّه مما يخوف به الرسول (صلی الله علیه و آله) ثم الأئمة (علیه السلام) ثم الوعاظ نحو ما

روي في الكافي و الفقيه و التهذيب في الصحيح عن أبي عبد اللّه الصادق (علیه السلام) درهم ربا عند اللّه يعدل سبعين زنية كلها بذات محرم

و في حديث آخر في بيت اللّه الحرام

و فيه ايضا مثل ان ينكح الرجل امه في بيت اللّه الحرام

و مثل ما ورد من لعن النبي (صلی الله علیه و آله) لآكل الربا و في روايات الدر المنثور و غيره نحو من ذلك فَانْتَهى عن الربا بسبب الموعظة و تاب فَلَهُ ما سَلَفَ الظاهر منه الفعل السالف و هو أخذ الربا و تعاطي معاملته اي ان اللّه يتوب عليه و يغفره له و اما ارادة انه يحل له ما اخذه فيما سلف إذا تاب فتحتاج الى تصرف في اللفظ و قرينة دالة على ذلك و

في التبيان قال ابو جعفر «يعني الباقر (علیه السلام)» من أدرك الإسلام و تاب مما عمله في الجاهلية وضع اللّه عنه ما سلف و نحوه في مجمع البيان.

و الرواية مع إرسالها لا يعلم كونها تفسيرا لهذه الآية و لو كان موردها الربا و عرف

ص: 243

منها ان الذي وضعه اللّه هو المال الذي أخذ ربا فيما سلف لكانت من قبيل ان الإسلام يجبّ ما قبله وَ أَمْرُهُ في توبة اللّه عليه و توفيقه للثبات عليها إِلَى اللَّهِ بحسب علمه بصدق توبته و أهليته للتوفيق للدوام عليها فان المغفرة ليست بلازم طبيعي لمحض اظهار التوبة. هذا من حيث الإثم و اما من حيث المال الزائد الذي هو ربا في الدين او أحد العوضين في المعاملة الربوية الفاسدة فالأمر موكول الى ما تقتضيه الأحكام الشرعية في اموال الناس و ان أخذت في حال الجهل بحرمة الربا لا كما يظهر من كلامي الصدوق في الهداية و الشيخ في النهاية من ان المأخوذ في حال الجهل بحرمة الربا لا يجب رده هو حلال لآخذه و اعتمده في الدروس و مال اليه بعض متأخري المتأخرين استنادا الى روايات لا دلالة فيها على ذلك فإن ما روي في الكافي عن أبي المغرا و في التهذيب عن الحلبي و في الفقيه ما عدا صدره مرسلا جميعا عن الصادق (علیه السلام) فانما يدل صدره المروي في الكافي و التهذيب على قبول التوبة من الربا و ان كانت حرمته شديدة مغلظة و لفظ الجهالة في الرواية مثل ما في القرآن في الوعد بالتوبة لمن يعمل السوء بجهالة كما في سورة النساء 21 و الانعام 54 و النحل 120 لا الجهل بالحرمة ثم على حل المال الموروث المختلط بالربا و يحمل على الذي يطهره الخمس جمعا. و اما عجزه الذي انفرد به الكافي و الفقيه و

عن التهذيب فبالنظر الى قوله (علیه السلام) فأراد ان ينزعه

و قوله (علیه السلام) فما مضى فله و يدعه فيما يستأنف

لا يدل الا على انه يغفر له ما مضى من عمله بسبب توبته و نزع المال الربوي من ماله. و اما ما أسنده الكافي و التهذيب عن الحلبي و أرسله الفقيه عن الصادق (علیه السلام) فيمن أتى الباقر (علیه السلام) فانما يدل صدره على حل المختلط و يحمل على الذي يطهره الخمس جمعا او على ما يحتمل وجود الحرام فيه و ذلك

لقوله (علیه السلام) فإن المال مالك

و اما عجزه من

قوله (علیه السلام) فان رسول اللّه قد وضع

الى آخره فلا دلالة فيه على انه تعليل

لقوله (علیه السلام) فكله هنيئا فإن المال مالك.

و لم يجر في السؤال ان مورثه كان جاهلا حرمة الربا فغاية ما يظهر منه هو ان للجاهل بحرمة الربا إذا عمل به فهو معذور من حيث الإثم.

فالظاهر ان المراد منه تطييب قلب السائل بان العامل بالربا معذور إذا كان جاهلا بحرمته فأنت اولى بالاطمئنان من الإثم. و اما ما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) فيمن عمل الربا حتى كثر ماله فهو شامل لصورة معرفته للربا و علمه بتحريمه ان لم يكن ظاهر الحال

ص: 244

و السؤال ذلك كما ان الظاهر من قول القائلين له ليس يقبل منك شي ء الا ان ترده على أصحابه هو انهم سدوا عليه باب المغفرة و قبول التوبة الا ان يرد الربا على أصحابه و ان جهلهم او تعذر عليه فيكون

قول الباقر (علیه السلام) مخرجك من كتاب اللّه

فمن جاءه موعظة الآية ردا على تشديد هؤلاء و ان التوبة الصادقة و الانتهاء مخرج من اثم الربا الى المغفرة و اما مال الربا فقد يكفي فيه في بعض الموارد رده الى الإمام او نائبه او الى الفقراء فلا ينحصر قبول التوبة بخصوص رده على أصحابه على كل تقدير و

قوله (علیه السلام) و الموعظة التوبة

يريد به ان الذي يتعلق به الغرض في قوله تعالى فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ الى قوله فَانْتَهى و يغفر به الذنب انما هو التوبة و اما المال فله احكامه وَ مَنْ عادَ الى تعاطي الربا مستحلا له بعد ما نزل القرآن بتحريمه و بلغه ذلك او الى الاعتراض على الشريعة بقوله انما البيع مثل الربا او الى كل من ذينك كفرا و ارتدادا و أصروا على عودهم هذا حتى ماتوا كما هو ظاهر الآية فَأُولئِكَ أشير بالجمع باعتبار المعنى في الموصول

سورة البقرة (2): الآيات 276 الى 278

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 275 يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا المحق الانقاص للشي ء حالا بعد حال حتى يتلف فاللّه يتلف الربا و ان املى لآخذه زمانا حتى يذهبه منه او ممن جمعه لاجلهم كوراثه وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ اي يزيدها باعتبار الجزاء و الثواب المضاعف وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ صيغة مبالغة في الكفر و الأظهر ان المراد هنا هو كفر النعمة و عدم الاكتفاء بما أنعم اللّه به عليه من الحلال حتى يتقحم ما حرم اللّه عليه من الربا لا الكفر الشرعي و تحقق المبالغة بتكرار اخذه الربا و كفران النعم و في التبيان و مجمع البيان حملا الكفر على الشرعي فيمن يستحل أكل الربا و الاول أعم في الزجر و اظهر في المقام أَثِيمٍ متماد على عمل الإثم 276 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و كتابه و شريعته وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و منها كف النفس عما حرّم اللّه وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ نص عليهما بالذكر تعظيما لشأنهما و ان كانا من نوع الأعمال الصالحة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ 277

ص: 245

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و اسلموا اتَّقُوا اللَّهَ و خافوه و لا تخالفوا امره و نهيه وَ ذَرُوا ما بَقِيَ لكم عند الناس مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ على حقيقة الايمان فذروه

سورة البقرة (2): الآيات 279 الى 281

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279) وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

278 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا و لم تذروه بل أصررتم على اخذه فَأْذَنُوا اي فاعلموا و كأنه مأخوذ من العلم بواسطة السمع بالاذن بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ عن الإصرار على اخذه او أخذتموه و تبتم بعد ذلك فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ دون الزيادة الربوية لا تَظْلِمُونَ بأخذ الربا وَ لا تُظْلَمُونَ بالنقص من رؤوس أموالكم 279 وَ إِنْ كانَ حصل ذُو عُسْرَةٍ او و ان كان ذو عسرة غريما لكم و هو من لا يجد ما يفي به من غير ما استثني له في الشريعة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ اي فعليكم في امره او فالذي يحكم اللّه به في امره هو نظرة منكم له الى حصول ميسرة له

و من الميسرة ان يصل خبره الى الإمام فيفي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفق الدين بالمعروف كما أسنده في الكافي عن الرضا (علیه السلام) و أرسله في مجمع البيان عن الباقر (علیه السلام)

وَ أَنْ تَصَدَّقُوا عليه بالدين كلا او بعضا خَيْرٌ لَكُمْ اي و صدقتكم عليه بذلك خير لما فيها من ثواب الصدقة و تفريج هم المديون و تسكين قلبه في عسرته إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في هذا التصدق من الفوائد التي لا غنى لكم عنها. و جاءت الجملة شرطية لمزيد الترغيب اي ان كنتم تعلمون ما في التصدق المذكور من الخير فانكم ترغبون فيه بما انكم عقلاء فتصدقوا. و عبر عن المصدر بالفعل ليكون اظهر في اقدامهم على فعل الصدقة و اختيارها و في تعلق التصدق بالدين على المعسر. و لا دلالة في الآية على اختصاص حكمها بمن ذكر في الآية السابقة من المديونين بالمعاملة الربويه فإن لفظها مطلق و حكمتها عامة بل لو كانت مرتبطة لذكرت بالتفريع بالفاء فالظاهر هو

عمومها لكل دين و في التبيان و هو قولهما و في مجمع البيان و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (علیه السلام).

و ما روي في الدر المنثور عن ابن عباس مما يوهم اختصاصها بدين الربا لا اعتبار لسنده فضلا عن خلل متنه و اضطرابه و جعل المقابل لدين الربا هو الأمانة 280 وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ رجوع معاد و استسلام اتقوا ذلك اليوم و أهواله

ص: 246

العظمى بطاعة اللّه و الانزجار عن معاصيه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير و شر و توفيته باعتبار توفية جزائه من ثواب او عقاب وَ هُمْ اي الناس المدلول عليهم بكل نفس لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب عن قياس العمل او عدمه و زيادة العقاب عن قياس الجرم أو ابتدائه بلا جرم

سورة البقرة (2): آية 282

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)

281 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ اي تعاملتم بمعاملة فيها دين إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى و هذا بيان لأن الأجل لا بد من ان يكون معينا لا جهالة فيه فَاكْتُبُوهُ اي فاجعلوه مكتوبا أعم من مباشرة الكتابة او تسبيبها و هذا الدين غير القرض المحض فإنه لا اجل فيه و لا عبرة بتأجيله. و لعل السر في تخصيص ذي الأجل بالذكر هو كون المؤجل في الغالب معرضا للوهم و النزاع في الأجل و الشروط. و ان كانت حكمة عدم الارتياب جارية في القرض ايضا باعتبار نفس المال و مقداره كما يشير الى ذلك قوله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها إلخ كما ان قوله تعالى ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا يشير إلى ان حكم الكتابة و الاشهاد للإرشاد لا للوجوب مضافا إلى المعروف من عمل المتشرعة من عدم الكتابة في موارد الاطمئنان كما في قوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ و في التبيان لإجماع عصرنا على ذلك اي على عدم الوجوب وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ أي على حقيقة المعاملة و الأجل و الشروط. و الأمر هنا للمتعاملين كقولك يا صاحب الضيعة ليبت في ضيعتك حارس أي أبت حارسا و قد ذكرنا انه للإرشاد. و هذا أعم من ان يكون الكاتب بينهما هو أحدهما لحصول الغرض به او هو ناظر إلى الحال في عصر النزول من كون الغالب من العرب لا يكتبون وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أي من يحسن الكتابة في مثل المقام أَنْ يَكْتُبَ و النهي هنا للكراهة إذ لا يجب تسبيب الكتابة على المتعاملين فكيف تجب على غيرهما. و لئن وجبت صنعة الكتابة كفائيا أداء للوجوب في نظام العالم لم يقتض ذلك ان يجب على كل كاتب ان يكتب في كل مورد كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ و أنعم عليه بالكتابة فَلْيَكْتُبْ للناس في محل حاجتهم شكرا لنعمة اللّه. و هذا هو المعنى التأسيسي و الظاهر لهذه الجملة و أسلوبه

ص: 247

ايضا يدل على ان الكتابة مستحبة وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ و الدين. يملل و يملي على الكاتب بمعنى واحد اي يذكر له الحال عند الكتابة ليكتب ما يذكره له المديون وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في إملائه فإن اللّه ربه و العليم بالأمور و القادر عليه و من اليه مرجعه و بيده عقابه وَ لا يَبْخَسْ في إملائه مِنْهُ أي من الحق الذي عليه شَيْئاً و لو من شؤونه. و قد طلب الاملاء منه بهذا النحو استحبابا لأنه عارف بالحق و وجوهه فيكون املاؤه على الحقيقة اقرب إلى توطين نفسه على الوفاء و إلى اطمئنان الدائن بذلك و إلى المجاراة بينهما على المعروف، و يجوز بلا خلاف ان يملل غيره او يكتب الكاتب بحسب اطلاعه ثم يعترف المديون به و يشهد على اعترافه فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً في تصرفاته بماله بحيث الغى الشارع معاملاته و اعترافاته فيها و ارجع الأمر في ذلك الى وليه أَوْ ضَعِيفاً في عقله كالصغير و المجنون و الأبله و الخرف أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ كالأخرس و نحوه او من لا يحسن ان يبين الخصوصيات التي جرت عليها المعاملة فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ الذي جعلت ولايته في الشريعة بِالْعَدْلِ على حقيقة المعاملة و خصوصياتها المطلوبة. و الولي على الصغير أبوه وجده لأبيه و ان لم يوجدا فولي سائر المذكورين و هو النبي (صلی الله علیه و آله) او الإمام او النائب عن أحدهما و لو بعموم الجعل كالحاكم الشرعي او نائبه و لو في خصوص تلك المعاملة وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ المسلمين فَإِنْ لَمْ يَكُونا اي الشهيدان الحاضران اللذان هما من المسلمين رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ أي كالذي يكتفي بشهادته رجل و امرأتان لكن لا مطلق الشاهد بل مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أي ممن يرضاهم النوع في الشهادة و يركن إلى شهادتهم لأجل اتصافهم بالصلاح و العدالة الرادعة لهم عن الكذب و التساهل في الشهادة. و جعل بدل الرجل امرأتان حذرا من أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما و تتيه في أداء الشهادة لأن نوع النساء ابعد عن ضبط هذه الأمور من نوع الرجال فَتُذَكِّرَ اي فحين الضلال تذكر إِحْداهُمَا الْأُخْرى فيتحاوران في الأمر و كل منهما تذكر الأخرى بخصوصية

ص: 248

أمر فتذكر الضالة حقيقة الأمر بخصوصياته هذا في مقام الاشهاد الكافي في ثبوت الحق به فلا ينافي ما دل على ثبوته بالشاهد و اليمين وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لتحمّل الشهادة

و لا ينبغي ان يأب إذا دعي لذلك كما في صحيحة التهذيب و روايته عن أبي الصباح و سماعة عن الصادق (علیه السلام) و روايته ايضا عن الكاظم و رواية الكافي عن أبي الصباح و صحيحته عن الحلبي عن الصادق (علیه السلام) و نحوها روايات العياشي

و النهي للكراهة و يشهد لذلك سياق الآية في اوامرها و نواهيها و

قول الإمامين (علیه السلام) لا ينبغي

وَ لا تَسْئَمُوا اي لا تملوا و لا تضجروا من أَنْ تَكْتُبُوهُ اي الدين في شؤونه صَغِيراً أَوْ كَبِيراً فإن التساهل في كل من ذلك قد يوجب النزاع و ضياع شي ء من الحقوق إِلى أَجَلِهِ اي الدين ذلِكُمْ اي ما تقدم من احكام الكتابة و اشهاد المرضيين و عدم السأم من الاستقصاء في الكتابة أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ اي اعدل و اولى بأن تكونوا مقسطين عادلين وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى و اقرب الى أَلَّا تَرْتابُوا بعد ذلك في مبلغ الدين و خصوصياته و اجله. و هذه الأمور مطلوبة لحصول غاياتها الحميدة التي ربما تحتاجون إليها إِلَّا أَنْ تَكُونَ المعاملة بينكم تِجارَةً حاضِرَةً ليس فيها دين بل تُدِيرُونَها اي تتناقلون العوض و المعوض بَيْنَكُمْ بأن يأخذ كل منكم عوض ما دفعه في التجارة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اي ضيق و حزازة مما ارشدتم الى التخلص منه في امر الدين فلا ضير في أَلَّا تَكْتُبُوها اي تلك التجارة وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ و على استحباب ذلك إجماعنا في الحاضرة بل الاتفاق مما عدا اهل الظاهر و هو الصحيح في غيرها وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ الظاهر بسبب رجحان التأسيس و ما يناسب المقام من الاستقصاء في الأحكام الاجتماعية العادلة و حكمة النظر من علام الغيوب الى حوادث المستقبل هو أن يكون «يضارّ» مبنيا للمفعول أصله يضار بفتح الراء الأولى فسكنت و حركت الثانية بالفتحة حذرا من التقاء الساكنين بسبب الجزم بالنهي اي و لا يدخل على الكاتب بسبب كتابته و لا على الشاهد بسبب شهادته صرر ما في ذات الكتابة

ص: 249

و عواقبها و في ذات الشهادة و أدائها و ليس عليه الا أداؤها بلا ضرر. و على البناء للمفعول تفسير ابن عباس على ما في تنوير المقياس و رواية الدر المنثور و روايته ايضا لقراءة عمر عند فكه لادغام الراءين وَ إِنْ تَفْعَلُوا و تضروهم فَإِنَّهُ فُسُوقٌ اي خروج عن الطاعة و الاستقامة كائن بِكُمْ كما يقال به داء كذا. و انه لما به. و به جنون. و به جنة كما جاء في سور الأعراف و المؤمنون و سبأ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فاشكروا فضله و اعملوا بما علمكم مما فيه صلاحكم و طريقكم الى تقوى اللّه فإنكم جاهلون وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ

سورة البقرة (2): آية 283

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

282 وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً و أردتم الاستيثاق من دينكم فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ اي فوثائقكم رهان مقبوضة. و الرهن مصدر رهنت الشي ء أرهنه. و يستعمل في المرهون كاستعمال الوقف في الموقوف. و هو في النظم و النثر كثير و منه

ان يقتلوني فرهن ذمتي لهم بذات و دقين لا يعفو لها اثر

و جمعه رهان كثمر و ثمار. و ربما يقال ان قيد القبض هنا انما هو لأجل توقف الاستيثاق في السفر الذي ليس فيه كاتب و حصول هذه الفائدة فيه على القبض. و اما الرهن في الحضر الذي هو مشروع بالسنة و الإجماع فلا يشترط فيه القبض كما هو مذهب مالك من الجمهور بل يكفي في فوائده ان لا يتعلق الحجر لباقي الغرماء بالمرهون لكن في التبيان و من شروط صحة الرهن ان يكون مقبوضا لقوله تعالى فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ و عن خلافه خلاف ذلك و في مجمع البيان فإن لم يقبض لم ينعقد الرهن اجماعا و

في رواية التهذيب عن الباقر (علیه السلام) لا رهن إلا ما كان مقبوضا و نحوه عن تفسير العياشي

لكن يكفي في منع الإجماع ما في السرائر و الغنية من نقل عدم الخلاف في صحته إذا استجمع شروطا ذكراها و ليس منها القبض و في كنز العرفان ان المحققين على عدم الاشتراط بل في السرائر ان الأكثر من المحصلين على ان القبض ليس شرطا في اللزوم و الرواية ضعفت بالاشتراك و تمام الكلام في الفقه فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و لم يطلب منه وثيقة بل ائتمنه على دينه فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ و هو الدين و يمكن ان تعم جميع الأمانات حتى الوديعة نظرا الى اشعارها بالتعليل و بكون هذا المورد من احد المصاديق للعام وَ لْيَتَّقِ بذلك اللَّهَ رَبَّهُ

ص: 250

و مالك امره في الدنيا و الآخرة وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ آثم خبر إن و قلبه فاعل او خبر مقدم و قلبه مبتدأ و الجملة خبر ان و نسب الإثم الى القلب باعتبار انه آلة الكتمان و لتغليظ الإثم ببيان فساد المبدء للأعمال فإن فساد القلب اصل الشر و البعث على الفساد. و قيل آثم و لم يعبر بالفعل ليدل على دوام الإثم بدوام الكتمان

سورة البقرة (2): الآيات 284 الى 285

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ 283 لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و هو الخالق للكل و المدبر له و بيده امره و أنتم من جملة ذلك فهل يخفى عليه شي ء من أموركم وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ في التبيان و مجمع البيان ان المراد بالآية ما يتناوله الأمر و النهي من الاعتقادات و الإرادات مما هو مستور عنا و على ذلك رواية العياشي عن رجل و عن أبي عمر الزبيري عن الصادق (علیه السلام).

و قد أورد في الدر المنثور في هذه روايات كثيرة مختلفة متعارضة و مضطربة. منها عن ابن عباس انها نزلت في الشهادة و إقامتها و كتمانها و يرد على الرواية انه ما معنى الحساب على ابدائها و إقامتها. و منها عن ابن عباس و عائشة انها غير منسوخة و فسر ابن عباس ما يخفونه بالأعمال التي لم يطلع عليها الحفظة. و منها عن أبي هريرة و ابن عباس انها نسخت بقوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. و في الرواية عن ابن عباس تفسيرها بوسوسة النفس و عنه تفسيرها تارة بحديث النفس و تارة بالتكذيب. و منها عن ابن مسعود و عائشة ان الناسخ لها هو قوله تعالى لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ: و لكن هذا غير مستقيم فإن ما لا يدخل في وسع الإنسان لا يكلف اللّه به لأن التكليف به قبيح فلا يمكن ان يثبت لكي ينسخ بقوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها و لا تكون هذه الآية نسخا لما هو داخل في الوسع و اما قوله تعالى لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ فإنه لو اختص إثباته بالافعال الخارجية لما كان فيه دلالة على النفي عن غيرها ليكون ناسخا فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ممن يستغفر و يتوب ان كان أهلا لأن يتاب عليه وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 284 آمَنَ الرَّسُولُ محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ

ص: 251

مِنْ رَبِّهِ

في تفسير القمي في الصحيح عن الصادق و في تفسير البرهان عن علي امير المؤمنين (علیه السلام) و عن مقتضب الأثر مسندا عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) انه لما أسري به الى السماء ناداه اللّه عز و جل آمن الرسول بما انزل اليه من ربه فأجاب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) عنه و عن أمته

وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ و لعله اشارة الى من حملته العصبية القومية او الأغراض الفاسدة على جحد الرسول بعد قيام الحجة على رسالته جحده لأنه ليس من قومه او لأنه يعارض أغراضه الفاسدة. و الى الذين قال لهم آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ الآية كما في الآية الخامسة و الثمانين وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا اخبار من اللّه بفضلهم في الطاعة و الايمان غُفْرانَكَ منصوب بفعل من لفظه و هو اغفر و معناه نسألك غفرانك يا رَبَّنا و فيه تلطف في المسألة بنحو من الاحتجاج على رحمته و معنى أنت ربنا و ولي أمرنا و الى اين يذهب العبد إلا الى مولاه. و لم يذكر متعلق الغفران لأن طلبه عام لكل من يحتاج الى الغفران و لم يخرج بسوء اختياره عن أهليته له وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ اي مصيرنا في أمورنا في الدنيا و الآخرة

سورة البقرة (2): آية 286

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

285 لا يُكَلِّفُ اللَّهُ بأمره او نهيه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الوسع ما تسعه قدرة الإنسان و يدخل في وسعها و نسب الوسع الى النفس بهذا الاعتبار و المعنى الا ما تسعه قدرتها. و قد تمجد اللّه بذلك دلالة على تقدسه في كماله عن العبث و القبيح في التكليف بغير المقدور و يجوز أن يكون من كلام الرسول و المؤمنين تمجيدا للّه بعدله لَها اي للنفس ما كَسَبَتْ من الخير يوفيها اللّه إياه و لا يفوتها من فضيلته و جزائه شي ء وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الشر اي عليها وزره و نقصه لا على غيرها. و عبر في الشر بالاكتساب لأجل التوبيخ لفاعله و الاحتجاج عليه فإن الاكتساب يدل على الاعتمال و المعالجة في طلب الكسب يشير بذلك الى ان عمل الشر كان باختبار و معالجة من النفس في طلبه مع انه شر قد زجرها العقل و الشرع عنه يا رَبَّنا و مالك أمرنا و مفزعنا في أمورنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا من الخطأ ضد العمد و ان كثيرا

ص: 252

من النسيان و الخطأ ما يقع بسبب التساهل و التقصير في التحفظ لتحصيل ما كلف به و هذا مما لا تقبح فيه المؤاخذة على مخالفة الواقع فطلبوا من اللّه ان لا يؤاخذهم في ذلك رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً اي عبئا ثقيلا من التكاليف الشاقة و لو لحكمة التأديب كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا لتمردهم رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من الابتلاء و الامتحان او العذاب في دار الدنيا بل و الآخرة وَ اعْفُ عَنَّا العفو هو إسقاط الحق و المراد إسقاط حق العقوبة وَ اغْفِرْ لَنا الغفران هو الصفح عن الذنب وَ ارْحَمْنا و هو دعاء جامع أَنْتَ مَوْلانا و ولي أمرنا و ملجؤنا لا غيرك فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لنوفق لإظهار دينك و طاعتك في دين الحق

سورة آل عمران

اشارة

مائتا آية و هي مدنية

سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1 الم علمها عند اللّه و أمناء وحيه اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ تقدم شي ء من تفسيرها في آية الكرسي 2 نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ و هو القرآن الكريم بِالْحَقِّ حال كونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اي ما تقدم عليه من الكتب الإلهية. يشهد بصدق نسبتها الى الوحي الإلهي و صدق ما فيها من الحقائق. او انه بانطباقه في مجده بعينه على اخبار الكتب الإلهية السابقة به و وصفها و تمجيدها له يكون المصداق المصدق لها في ذلك الاخبار و التمجيد وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ و هي الحقيقة المنزلة على رسوله موسى وَ الْإِنْجِيلَ و هو الكتاب الواحد الحقيقي المنزل على رسوله عيسى مِنْ قَبْلُ حال كون التوراة و الإنجيل هُدىً لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ

في تفسير القمي في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (علیه السلام) في الآية الفرقان كل امر محكم. و الكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء. و نحوه عن تفسير

ص: 253

العياشي.

و في الكافي عنه (علیه السلام) القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به.

و نحوه عن تفسير العياشي

3 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ و جحدوا كونها منزلة من اللّه و ماتوا على كفرهم لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بما كفروا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ في جلال شأنه ذُو انْتِقامٍ بعزته و قدرته من الكافرين

سورة آل عمران (3): الآيات 5 الى 7

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)

4 إِنَّ اللَّهَ عليم بكل شي ء لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ الرحم هو العضو الذي يتكون فيه الجنين من الأمّ الى حين الولادة كَيْفَ يَشاءُ بحكمته الباهرة و من آيات ذلك ان أعضاء الإنسان الظاهرة مع انها معدودة يصورها بقدرته و حكمته بحيث يمتاز كل من البشر عن الآخر. و اما حكمة هذا التصوير و ما في كل واحد من الأعضاء الظاهرة و الباطنة من الحكم الباهرة و الفوائد الكبيرة و الأسرار العجيبة فهو أعظم من ان يوصف. و اما الذي وصلت اليه معرفة البشر فهو مما لا يسع هذا المقام بعضه. و في التشريح الجديد ما يبهر العقول ببواهر حكمه و عجائبه. و ان الذي يظهر من أعضاء الإنسان و آلات حسه ليكفي في بيان الحكم العجيبة لكل ذي رشد و ادراك. و كل ذلك جار في حكمه و خلقه و تصويره على قوانين منتظمة. و في هذا كفاية في الحجة على ان ذلك من صنع إله عليم يخلق بإرادته و حكمته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ بقدرته و سلطانه الْحَكِيمُ في خلقه و اعماله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا و لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ 5 هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ على ما اقتضته الحكمة الإلهية من كونه على احسن نهج في المحاورات. و ابرع أسلوب في كلام العرب فيما يتسابقون به فخرا في ميدان البلاغة و يتساجلون به في مقام التفنن بمحاسن الكلام و مزاياه الفائقة. ليكون بإعجازه ذلك حجة بينة عليهم في انه تنزيل من رب العالمين. كما أشرنا الى شي ء من وجه ذلك في الفصل الاول من المقدمة. و على ذلك فلا بد من ان يشتمل أسلوبه الكريم على انواع الدلالات. و ملح الكنايات و لطائف الإشارات و النكت في انواع المجاز كما هو الشأن في الكلام البليغ. و قد تقتضي الحكمة

ص: 254

ان تجي ء الآية بلفظ عام او مطلق و المراد منها منحصر في نوع او فرد هو مورد النزول و تدل عليه قرائن الأحوال و دلائلها كقولك هذا و هؤلاء حينما توجه الاشارة بالقرينة الى معين مخصوص. و لا ريب في ان ما ذكرناه مما يقتحم التشابه بادئ بدء في امره و ما يؤول اليه تفسيره. و ذلك اما من جهة خفاء القرينة و لو بواسطة القصور في بعض الافهام. و اما من جهة المكابرة في أمرها بحسب الأغراض و إن كانت عقلية بديهية. او يدل عليها نفس القرآن الكريم او الحديث الصحيح او المستفيض او المتواتر. و لأجل ما ذكرناه من الحكمة صار الكتاب المجيد من حيث وجوه الدلالة في ألفاظه على المراد مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قد أحكمت باقتضاء الحكمة عباراتها في دلالتها على المراد بجريانها على النص و الصراحة مع التأييد لذلك بحكم العقل البديهي و اقتضاء السياق. فحفظت دلالتها بحسب اللغة و الاستعمال من خيال الاحتمال.

و خلجان التشابه عند المستقيمين في الشعور و المعرفة لموازين الكلام، و المبرئين من فلتات الجهل و غواية الأهواء و عبثها بالحقائق. و هذه الآيات المحكمات كل واحدة منهن بالنظر الى ذاتها هي ام واصل و مرجع لما توضحه باحكامها من بيان حقيقة او تأسيس أساس، او تشريع حكم، او إيضاح لمتشابه و تأييد لدلالته و لكن بالنظر الى مجموعها في القرآن المجيد، و كونها باعتبار احكامها مرجعا واحدا مبينا للمراد من حقائق الكتاب المجيد هُنَّ بمجموعهن و النظر اليه أُمُّ الْكِتابِ و مرجعه الذي يتضح به المقصود من حقائق التنزيل و تتأيد به قرائن المتشابهات و يوضح دلالتها و يزيل عنها غبار الأوهام وَ منه أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ على ما أشرنا اليه من أساليب الكلام البليغ و وجوه محاسنه في المحاورة و ما تقتضيه الحكمة فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ اي استحبوا العمى على الهدى و اختاروا الضلال بأهوائهم و حرفوا قلوبهم و أمالوها عن نهج الحق و الإذعان به و اشعروها الزيغ و الانحراف التعيس فَيَتَّبِعُونَ بأهوائهم و نزعات ضلالهم، و نزعات اضلالهم ما تَشابَهَ بالنحو الذي أشرنا اليه مِنْهُ اي من الكتاب المجيد فيبدلون مراده و يغالطون في دلالة قرائنه، و يصرفونه عن موارد تنزيله تغاضيا عن واضحات قرائنه و بينات دلائلها و يتشبثون بالمتشابه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ اي طلبا لأن يجدوا سبيلا الى التلاعب

ص: 255

في تأويلهم له بحسب أهوائهم. و صرفه عن مؤدى تنزيله و طلبا لأن يفتنوا الناس بذلك وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ اي تأويل القرآن كله إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لا هؤلاء الذين لم تثبت لهم في العلم قدم بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فلم يسلكوا إلا دحض الجهل بزيغ الأهواء و للناس في هذا المتشابه الذي عنته الآية خلاف كبير و إن خلط بعضهم في محل النزاع فمن الناس من يقف في الآية على لفظ الجلالة و يستأنف قوله تعالى وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بأن يكون الراسخون مبتدأ و خبره يَقُولُونَ آمَنَّا فيخرج الراسخين في العلم عن فضيلة العلم بالتأويل و يحطهم عن رتبة استحقوها و نوّه بها القرآن الكريم في هذا السياق المشرق إذ وصفهم في طرده بالرسوخ في العلم. و من الناس من قال بعطف «الراسخون» على لفظ الجلالة. و أن اللّه جلت آلاؤه فتح للراسخين في العلم باب العلم بالتأويل بلطفه، و كرّمهم بهذه الرتبة بتعليمه.

و هذا الخلاف مما لا يكتفى فيه بالمصادرات، و لا لعل و ليت. بل لا بد فيه من إيراد الدلائل الرافعة لتشابه موارد الواو في عطف المفرد او الجملة او الاستئناف. و غاية ما يحتج به للقول الأول هو ما جمع رواياته في الدر المنثور. منها عن ابن عباس قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه الا اللّه. و عنه ايضا في بيان وجوه القرآن و تفسير يعلمه العلماء، و تفسير تعرفه العرب بلغتها، و تفسير لا يعلم تأويله الا اللّه و من ادعى علمه فهو كاذب. و في رواية اخرى و تفسير تفسره العلماء و متشابه لا يعلم تأويله الا اللّه و من ادعى علمه سوى اللّه فهو كاذب و من طريق طاوس عن ابن عباس ايضا كان يقرأها و ما يعلم تأويله الا اللّه و يقول الراسخون في العلم آمنا. و عن الأعمش قال في قراءة عبد اللّه و ان حقيقة تأويله الا عند اللّه و الراسخون في العلم يقولون آمنا. و ذكر في الدر المنثور رواية هذا القول ايضا عن رأي عائشة و أبي الشعثاء و عروة و عمرو بن عبد العزيز و مالك و ذكر ايضا أحاديث تحذر من المجادلة في كتاب اللّه و اتباع المتشابه منها ما

أخرجه عبد الرزاق و سعيد و عبد بن حميد و الجوامع الستة و غيرهم عن عائشة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) انه قرأ الآيات و قال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عناهم اللّه فاحذروهم. و في لفظ البخاري فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذرهم.

و جمع ابن جرير بين العبارتين- و يردّ هذا الاحتجاج بعد غض النظر عن الأسانيد و ما فيها هو ان يوم القيامة الذي في حديث ابن عباس

ص: 256

خارج عن محل الخلاف و سوق الآية و موضوعها من التأويل. بل ان محل الخلاف هو ما عناه بقوله و تفسير تعلمه العلماء، او تفسره. و

قوله في حديث آخر ظهره التلاوة و بطنه التأويل فجالسوا به العلماء و جانبوا به السفهاء.

و أما ما روي من القراءة فيرده تواتر غيرها و اجماع المسلمين على عدم الاعتناء بها. و أما الآراء التي ذكرنا روايتها فهو اجتهاد في محل النزاع بلا دليل و اما التحذير ممن يجادل و يتبع المتشابه فإنما هو تحذير من الضالين المضلين الذين وصفتهم الآية الكريمة لا الراسخين في العلم. هذا و اما القول الثاني فحجته دلالة العقل و النقل الصحيح من الفريقين و سياق القرآن الكريم، أما دلالة العقل فإن المتشابه الذي أشرنا اليه و الى وجوه تشابهه و الذي يتبعه و يطلبه الزائغون عن الحق ابتغاء الفتنة في امر الدين و نظام الملة و احكام الشريعة هو في القرآن كثير جدا. و مما لا يصح في العقل انه مع هذه الكثرة يحرم اللّه من تأويله و العلم به رسوله الهادي الكريم و أمناءه على الوحي، و علماء الأمة. فيكون القسم الكبير من القرآن الكريم لا فائدة في تنزيله للبشر مطلقا حتى الرسول الأكرم و لا اثر له إلا صدى ألفاظه و سواد حروفه. و اما الحديث من طريقنا

ففي تفسير القمي في الصحيح عن الباقر (علیه السلام) قال: ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما انزل في القرآن من التنزيل و التأويل و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله و أوصياءه من بعده يعلمونه كله و عن العياشي مثله. و في الكافي عن أحدهما عليهم السلام مثله.

و في الكافي في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) نحن الراسخون في العلم و نحن نعلم تأويله. و نحوه عن تفسير العياشي.

و في نهج البلاغة و غيره قول امير المؤمنين علي (علیه السلام) و لقد جئتهم بالكتاب مشتملا على التنزيل و التأويل:

و من طرق اهل السنة ما في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن الانباري من طريق مجاهد عن ابن عباس قوله انا ممن يعرف تأويله. و

اخرج احمد و الطبراني و ابو نعيم في الحلية عن ابن عباس ان رسول اللّه قال: اللهم أعط ابن عباس الحكمة و علمه التأويل

و اخرج الحاكم في مستدركه و ابن أبي شيبة اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل. و اخرج الحاكم ايضا اللهم علمه تأويل القرآن. و أخرج ابن ماجه و ابن سعد و الطبراني اللهم علمه الحكمة و تأويل الكتاب. فانظر اقلا الى كنز العمال و مختصره في كتاب الفضائل. و لو كان علم التأويل منحصرا باللّه و لم يعلمه رسوله و الراسخين في العلم لما دعا به رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لابن عباس. و ما هو معنى الدعاء بما لا يرجى وقوعه.

و

اخرج الحاكم في الصحيح على شرط البخاري و مسلم كما هي عادته في المستدرك عن معقل بن

ص: 257

يسار عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) اعملوا بكتاب اللّه فما اشتبه عليكم فاسألوا عنه اهل العلم يخبروكم.

الحديث.

و الذي يشتبه عليهم هو المتشابه. و

اخرج احمد و ابو يعلى في مسنديهما و البيهقي في شعبه و الحاكم في مستدركه و ابو نعيم في الحلية و سعيد بن منصور في سننه و ابن السكن عن الأخضر الانصاري. و الديلمي عن أبي ذر جميعا عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان عليا (علیه السلام) يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو (صلی الله علیه و آله) على تنزيله.

و مفاد الحديث ان امير المؤمنين (علیه السلام) كان عالما بتأويل القرآن على حقيقته فهو يقاتل دفاعا عنه و تثبيتا لحقائقه في الدين و اساسياته كما قاتل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) دفاعا عن تنزيله: و اما دلالة سياق القرآن فإن تمجيد الراسخين في العلم بهذا التمجيد السامي و الصفة الفائقة انما يناسب عطفهم في مقام العلم بالتأويل و رسوخهم فيه و مجدهم في الايمان بمؤداه على بصيرة من أمرهم و اما قولهم آمنا فلو أريد به الإيمان بنزول لفظه من دون علم بمعناه و لا عمل به لكان المناسب له وصفهم بتصلبهم في الايمان و التسليم لرسول اللّه في التنزيل اذن فقوله تعالى يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حال اي يعلمون تأويله حال كونهم يقولون آمنا اي بما عرفوه من مؤداه فإن الكثير منه هو اساسيات دينية قد اقتضت الحكمة إبهامها حال التنزيل بالإطلاق او العموم او الكناية او غير ذلك مع بيان تأويلها و خصوصية المراد بقرائن الحال او السنة كما وقع مثله في آية الزكاة إذ أهمل مقدارها و وقت أخذها و مورد وجوبها الى سنة ترويضا للناس في أمرها و صعوبتها عليهم. و سيمر ان شاء اللّه لذلك موارد كُلٌّ من المحكم و المتشابه و التنزيل و التأويل مِنْ عِنْدِ رَبِّنا و ولي أمرنا الحكيم في بيانه لنا و هدانا إلى الحق وَ ما يَذَّكَّرُ من ارشاد القرآن الكريم و هذه الآية الشريفة

سورة آل عمران (3): آية 8

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 6 رَبَّنا اي يا ربنا و مالك أمرنا و من بيده توفيقنا و خذلاننا. و مناسبة السياق تقتضي ان يكون ذلك دعاء من الراسخين في العلم في التوفيق للثبات على الهدى بما علمهم اللّه من التأويل لا تُزِغْ قُلُوبَنا اي لا تخذلنا و تسلب عنا بسوء اعمالنا لطفك و توفيقك فتزيغ قلوبنا و تنحرف عن الحق و الاستقامة فنبتغي الفتنة بالتلاعب بتأويل القرآن بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا بلطفك الى معرفة الحق، و النكتة في نسبة الإزاغة إلى اللّه هي النكتة في نسبة الإضلال اليه جل شأنه. و هي التنويه بما لتوفيقه من الأثر المحيي

ص: 258

و ما لخذلانه من الوبال المهلك كما ذكرنا فيما قبل الأخير من شواهد المقام الثاني من المقدمة في نسبة الإضلال و أوضحنا امره في تفسير الآية السادسة من سورة البقرة وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً باللطف و التوفيق

سورة آل عمران (3): الآيات 9 الى 10

رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ 7 رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ و هو يوم القيامة و الحشر من القبور للجزاء. كيف يكون فيه ريب و أنت أخبرت به في كتابك الكريم بالصراحة المتكررة المؤكدة و الحجة القاطعة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ و عدل من الضمير الى الظاهر لأنّ لفظ الجلالة فيه اشارة الى الإلهية و كمالها و قدسها فكأنه احتجاج على عدم الخلف للميعاد بمعنى أن الإله يجلّ عن ذلك فلنا اليقين و الثقة التامة بما وعد من المعاد و الجزاء.

8 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و ماتوا على كفرهم لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ كما في التبيان، و مجمع البيان في تفسير الآية الثانية عشرة بعد المائة و في الجلالين في تفسير الآيتين او بلائه او انتقامه او غضبه او مطلق ما يخاف منه فتكون «من» للابتداء كقولك أغنيت عنك في الحرب أهوالها من الميمنة شَيْئاً من الغناء فيكون في مقام المفعول المطلق لتغني و يحتمل أن يكون مفعولا به لتغني اي لن تغني شيئا من عذاب اللّه و لن تجزيه فتكون «من» للتبعيض: ذكرت الأموال و الأولاد لأنها من أهم ما يعتمد عليه الإنسان الجاهل لما يخافه من النوائب و هي التي يبيع لها آخرته و دينه. و الغنى بالقصر و بالمد ككلام عدم الحاجة و اغنى فلان قام بالحاجة و كفى عن غيره و اليه يرجع قول التبيان. الاختصاص بما ينفي الحاجة. و كثر استعماله فيما كان الكافي او المكفي مما لا يعقل كاستعماله في دفع ما لا يراد و التخليص منه كقوله:

إذا قال قدني قال باللّه حلفة لتغني عني ذا إنائك اجمعا

اي ما في إنائك و قول عثمان للرسول بصحيفة امير المؤمنين علي (علیه السلام) اغنها عني. و لأجل ما ذكرناه صار اللغويون يجولون حول هذا المعنى ففسروا الإغناء بالنفع او كفاية المؤنة، او الاجزاء، او الصرف، او الكف. و كثيرا ما يترك المفعول للإغناء و المتعلقات به لعدم الحاجة الى ذلك في مهم المقام كقول طرفة في معلقته

ص: 259

و لا تجعليني كامرئ ليس همه كهمي و لا يغني غنائي و مشهدي

و قد يترك المفعول و تذكر المتعلقات المقصودة كما تقول ذبحت بالسكين و دفعت عنك بنفسي و أغنيت في الحرب من هجماتها او من أبطالها أو من ميمنتها مثلا فتكون «من» في هذا المثال كالآية للابتداء كما عن المبرّد و بعض. و ذلك لتضمن إغناء المحذور معنى التخليص منه. و قال في الكشاف و المغني ان «من» في الآية بمعنى «بدل» اي ان أموالهم و أولادهم لا تغني عنهم بدل رحمة اللّه أقول و هذا التفسير لا يستقيم مع إبقاء الإغناء على معناه و كيف تكون رحمة اللّه مغنية عن الكافرين بمعنى اغتناء المحاذير و اكتفائها و اجتزائها بالرحمة بخلاف الأموال و الأولاد فإنهم لا يكونون كذلك بدل الرحمة. اللهم الا ان يدعى استعمال لفظ الإغناء هنا بمعنى النفع لكنه مجاز لو صح لكان محتاجا الى القرينة المفقودة هاهنا فإنّ معنى النفع غير معنى الإغناء.

تقول في مثل هذا المقام أغنيت عنه و لا تقول نفعت عنه مضافا الى ان قوله تعالى لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ مانع عن استعمال لفظ الإغناء بمعنى النفع لأن المتعلقات و الحروف الجارة انما هي باعتبار المعاني لا باعتبار الألفاظ. إذا عرفت هذا فقل ما شئت في تفسير صاحب المنار حيث قال و انما معنى «من» هنا البدلية اي ان أموالهم و أولادهم لن تكون لهم بدلا من اللّه تغنيهم عنه. و أقول لماذا نسي هذا المفسر ان تنزيل الآية الكريمة انما هو لن تغني عنهم لا لن تغنيهم. و اين «من» من البدلية و مثل ذلك ما حكي عن أبي عبيدة من انّ معنى «من» في الآية معنى «عند» وَ أُولئِكَ اي الذين كفروا هُمْ وَقُودُ النَّارِ و سوأة لهم و سحقا

سورة آل عمران (3): الآيات 11 الى 12

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12)

9 كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدأب مصدر دأب يدأب إذا اعتاد الشي ء و تمادى عليه اي حال هؤلاء المذكورين و دأبهم كدأب آل فرعون اي قومه وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كَذَّبُوا بِآياتِنا هذا تفسير لدأبهم اي كدأب المذكورين في التكذيب فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ استولى عليهم بالعقاب بِذُنُوبِهِمْ اي بسببها وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ 10 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ المهاد ما يمهده الإنسان لاستراحته و عبر عن جهنم بالمهاد تهكما بهم و بسوء اختيارهم و عاقبتهم، في تفسير

ص: 260

القمي ان هؤلاء بنو القينقاع من اليهود لما نقضوا بعد وقعة بدر عهدهم مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فغزاهم و خوفهم بما فعل اللّه بالمشركين فافتخروا برجالهم فانزل اللّه الآية و غلبوا و اخرجوا من ديارهم و أموالهم الى الجلاء صاغرين خاسئين، و في الدر المنثور أخرجه ابن إسحاق و ابن جرير و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس. و ذكر في التبيان قولا بانه اخبار لليهود بان عبدة الأوثان و منهم قريش سيغلبون و هو على هذه القراءة و هي خلاف المتواتر المتعارف و نقل في الكشاف غير ذلك و الأول اقرب الى الصواب

سورة آل عمران (3): آية 13

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

11 قَدْ كانَ لَكُمْ هذه الآية ايضا مما امر اللّه به رسوله ان يقوله لهم آيَةٌ و دلالة و موعظة فِي فِئَتَيْنِ فرقتين من الناس الْتَقَتا في الحرب فِئَةٌ منهما تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ فئة أُخْرى منهما كافِرَةٌ يظهر من القمي انهما فئتا المسلمين و المشركين في وقعة بدر. و هي رواية الدر المنثور و ابن جرير عن ابن عباس و ذلك هو المناسب لخطاب بني القينقاع يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ المعروف أن المسلمين في بدر كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا.

و المشهور في الرواية انّ المشركين كانوا نحو التسعمائة و خمسين. فيكون المعنى ان المسلمين كانوا يرون جمع قريش مثليهم بحسب رؤية العين للجمع و صورة التجند لا بحسب الاحراز للعدد و معرفة الكمية. أراهم اللّه إياهم مثليهم لئلا يستقلوهم و يتساهلوا في حربهم استقلالا و استضعافا لهم و أراهم إياهم بدون عددهم في المقدار لئلا تهولهم كثرتهم فيحجموا عن مناجزتهم و يتخاذلوا في لقائهم كما قال اللّه تعالى في سورة الأنفال وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا و قيل في معناها ان المشركين بعد أن اشتبكت الحرب خذلهم اللّه فصاروا يرون المسلمين مثليهم و ان كانوا نحو ثلثهم. و الأول بلحاظ الآيتين اظهر و أقرب وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ الأيد القوة و التأييد التقوية و قد أيد اللّه المسلمين بذلك النصر الباهر إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً و موعظة لِأُولِي الْأَبْصارِ يجوز أن يكون البصر هنا بمعنى البصيرة كما ذكره اللغويون، و يجوز أن يراد به حسن العين فإن اراءة الشي ء بالإرادة الإلهية على غير العادة آية و عبرة لأولي الأبصار العارفين بعادة البصر. أو أن ذلك النصر بما عليه المسلمون

ص: 261

من القلة و ضعف العدة و ما عليه المشركون من قوة العدة و كثرة العديد عبرة لمن رأى ذلك

سورة آل عمران (3): آية 14

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

12 زُيِّنَ لِلنَّاسِ بحسب النوع بالنسبة لجميع المذكورات حُبُّ الشَّهَواتِ اي المشتهيات كما يقال فلان طلبتي و هذا سؤلي و حاجتي و «من» بيانية و لو كان لفظ الشهوات على حقيقته لعدي و ربط بما بعده باللام مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ في التبيان في القنطار و

قيل هو مل ء مسك ثور ذهبا و هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام) يعني الباقر (علیه السلام) و في مجمع البيان و أبي عبد اللّه يعني الصادق (علیه السلام). و في الدر المنثور أخرجه عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و البيهقي عن أبي سعيد الخدري.

قلت و ذلك احد الاحتمالات التي ذكرت في كتب اللغة. و أورد في الدر المنثور عن رسول اللّه روايات متعددة متعارضة انه الف و مائتان اوقية و في رواية انه الف اوقية. و في اخرى الف دينار و في اخرى الف و مائتا دينار، و ينبغي ان تكون الرواية عن الباقر و الصادق و أبي سعيد في مورد السؤال عن قنطار الذهب او سقط منها قولهم او فضة. و المقنطرة المجموعة قناطير كقولهم ألوف مؤلفة وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ اي المرسلة لأن ترعى سائمة لكثرتها وَ الْأَنْعامِ و هي الإبل و البقر و الغنم بأصنافها وَ الْحَرْثِ و هو المغروس و المزروع. و لم يذكر في هذه ما هو محرّم العنوان ليكون تزيين اللّه له أشد في المنافاة لقدس اللّه من الأمر بالفحشاء و المنكر الذي تمجد اللّه و له المجد بتقديس جلاله و تنزهه عنه. فلا مانع من أن يكون اللّه تبارك اسمه هو المزين لحب المشتهيات المذكورة من طريق حلها كما تكفلت ببيانه الشريعة المقدسة و حددته بحدوده، زين حبها لنوع البشر تمهيدا لحسن اجتماعهم و بقاء نوعهم و انتظام اقتصادهم، و تشابكهم في عموم المنافع، و انتظام التبادل فيها، زين حب النساء و البنين لكي يسهل على الأزواج تحملهم لعشرة النساء و نفقاتهن و نقصهن نوعا في الأخلاق و الاستقامة فينتظم بذلك التحمل امر التوالد و التناسل. و زين حب البنين لكي يطلب البشر التناسل و يقوموا بالمشقات المعروفة في نفقتهم و تربيتهم و حسن المداراة لهم في تربيتهم و النظر الى إصلاح أمورهم و عواقبهم. و زين حب الأموال المذكورة لينهض الناس الى العمل و العمران فتتوفر نعم اللّه على عباده و ينالوا به اللذة و التنعم على حسب حبهم لمشتهياتهم و يعرفوا منها أنموذجا لنعيم

ص: 262

الآخرة الدائم فيدفعهم الشوق اليه الى الأعمال الصالحة فلا يستولي على الناس او يغالطهم العجز بالتصوف البارد، و قد تكاثرت الأحاديث في ان الزهد في الدنيا هو الورع عن محارم اللّه و قد صرح امير المؤمنين علي (علیه السلام) بانه يتعاطى التقشف في معيشته لأنه رئيس المسلمين و المنظور اليه في الاقتداء فيتسلى بحاله (علیه السلام) من الحّ الفقر عليه و مسته البأساء. و في سورة الأعراف 29 يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 30 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يتنعمون بها بحسب ايمانهم الصادق على الحدود المشروعة و الجارية على المصالح و الصلاح «خالِصَةً» من تبعات العقاب و النكال «يَوْمَ الْقِيامَةِ» كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و ما هذا التزيين الا للحكمة التي خلق اللّه بها للإنسان شهوة و قوى يتنعم بها في الحياة الدنيا بما أحله اللّه و جعل في الحلال كفاية في الحاجة و بلغة في التنعم و حدد حدوده بنهي العقل و الشريعة عن الفحشاء و المنكر و البغي و ما فيه المفسدة للشخص و النوع و نظامه و وعظ في ذلك و انذر و توعد و حذر و أرسل في ذلك الرسل و انزل الكتب و شرع الشرايع و استحفظ على إقامتها الأئمة، و استخدم لها علماء الامة. نعم ان الذي يزينه الشيطان ليس هو القسم الذي يبقى به نوع الإنسان، و شرف العمران، و يقوم به نظام الاجتماع. بل هو خصوص المحرمات و ما فيه فساد النظام ذلِكَ اي ما ذكر من المشتهيات مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الفانية وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ و المرجع و هو المآب الذي لا فناء فيه و لا عناء و لا تكدير في نعيمه فهو الحسن المطلق

سورة آل عمران (3): آية 15

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)

13 قُلْ يا رسول اللّه للناس أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ مما هو لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اللّه و رغبوا في رضاه و طلبوا ما عنده و ما أعد لهم عِنْدَ رَبِّهِمْ هي جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اي مساقي أشجارها لا بنحو تكون به كلها من قسم المستنقعات و لا يخفى ما في وصف القرآن من البهجة الفائقة الممتازة خالِدِينَ فِيها اي في الجنات لا فناء لهم و لا لنعيمها كما يفنى متاع الحياة الدنيا و أهلها و لا إخراج لهم منها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ بما يرغب العقلاء فيه من طهارة الأزواج في الخلق و الأخلاق

ص: 263

و في ذلك النعيم الهنيّ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ و هو الغاية القصوى لأولي الألباب في النعيم وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ و ما يعملون و ما يستحقونه من الجزاء

سورة آل عمران (3): الآيات 16 الى 18

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

14 الَّذِينَ في هذا بيان لصفات الذين اتقوا. و ما أكرمها و أحسنها من صفات يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا اي يؤمنون و يعترفون للّه بايمانهم و يجعلونه وسيلة الى اللّه في الدعاء لنجاتهم و غفران ذنوبهم فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ 15 الصَّابِرِينَ عن المعاصي و على الطاعات و على نوائب الدهر تسليما لأمر اللّه و رضى بقضائه وَ الصَّادِقِينَ و أكرم بها صفة و احسن وَ الْقانِتِينَ الدائبين في العبادة وَ الْمُنْفِقِينَ كما أمرهم اللّه و ندبهم اليه وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ السحر هو الوقت الذي قبيل طلوع الفجر و هو احسن الأوقات نوعا لحضور القلب في العبادة و الإقبال على المناجاة و الدعاء، و أبعدها عن مداخلة الرياء شَهِدَ اللَّهُ اصل الشهادة من الشهود و الحضور و المعاينة ثم شاعت فيما ينشأ عن ذلك و نحوه من الاعلام بالأمر و الشي ء لإثباته و منه المقام فيقال شهد بكذا أَنَّهُ اي بانه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و شهادة اللّه اعلامه بإلهيته و وحدانيته بالدلالات الجلية و الحجج القاطعة و من ذلك خلقه للعالم و دلائل الحكمة، و قوانين النظام الباهر فيه و دوام انتظامه على ذلك وَ شهد بذلك ايضا الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ و هم الذين لم يعمهم الجهل عن النظر اقلا الى نظام العالم و دوام انتظامه فشهدوا بذلك عن علم و بصيرة و حجة قيمة يرشدون بها الجاهل و يقاومون بها المعاند قائِماً بِالْقِسْطِ في التبيان و روي في تفسيرنا ان في الآية تقديما و تأخيرا تقديره شهد اللّه انه لا إله الا هو قائما بالقسط و الملائكة الآية اي على انه حال من الضمير «هو» انتهى و فيه ان مثل هذا الإرسال لا ينهض بإثبات شي ء فضلا عن مصادمته بالمتواتر من القراءة و المصاحف، و في الكشاف جوّز كونه حالا من الضمير ايضا على القراءة المتعارفة، أقول و الأنسب بكرامة القرآن الكريم في سياقه و أسلوبه المجيد ان يكون حالا من لفظ الجلالة فإنه هو الذي له عنوان الكلام و وجهه الذي يقرب له البعيد من جملته و يوصل به المنفصل دون ضمائره فكل ما صلح ان يرتبط به من حال او غيره جره عنوان

ص: 264

الكلام و وجهه اليه و لا يرتبط بغيره الا بالقرينة كما هو الشأن في كل كلام له حظ من البلاغة و الاستقامة. و فسروا القسط بالعدل. و الظاهر ارادة التقارب في المعنى لا الترادف و الاتحاد في المفهوم. فان الاستعمال و ما ورد في القرآن الكريم ينافيان ذلك لأنه يقال عادل و لا يقال قاسط الا للجائر و نحوه. بل يقال لما يجعلونه بمعنى العادل مقسط و ان اقسط يعدى بإلى كما في قوله تعالى في سورة الممتحنة 8 أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ و العدل لا يعدى بإلى و أظن ذلك منهم كتفسير الظلم بالجور مع ان الجور لا يتعدى الا بعلى. و الظلم يتعدى بنفسه فإنهم يفسرون اللفظ بما يقاربه في المعنى حيث لا يجدون له مرادفا. و من الظاهر في التبادر ان الجور ابلغ في العدوان من الظلم. و قد استفاض

في حديث الفريقين في المهدي (علیه السلام) يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا،

و في سورة الحجرات 9 فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا و الظاهر من ذلك هو التأسيس لا التأكيد. و قال اللّه تعالى في سورة المائدة 11 شُهَداءَ بِالْقِسْطِ فالقسط انسب بالشهادة من العدل و القائم بالشي ء هو محققه و مجريه و مديمه اي شهد اللّه و هو المجري للقسط و الحق و مديمه في الشهادة و غيرها. فما أعظمها و ما اكبر شانها من شهادة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و هذا تأكيد للمشهود به بعد الاخبار به كما تقول اشهد بكذا و هو كذلك الْعَزِيزُ في إلهيته و وحدانيته الْحَكِيمُ في اعماله

سورة آل عمران (3): آية 19

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)

17 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قد مر تفسير الإسلام في الآية الثانية و العشرين بعد المائة، و تفسير الدين في التاسعة و الثمانين بعد المائة من سورة البقرة. و ان دين الإسلام هو دين الفطرة الذي تجلت فيه ادلة العقل و النظر في ملكوت العالم و دعوة الأنبياء و الرسل و صراحة الكتب الإلهية المشهود لها بدلالة المعجزات. و قد بقي ما يكفي في ذلك فيما حرف من التوراة و الإنجيل وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في هذا الدين و هم بنو إسرائيل و خصوص اليهود و النصارى فتقلب الغالب من بني إسرائيل في الشرك من يوم مروا على عبدة الأوثان و ذلك بعد ما اسلموا لموسى و رأوا الآيات النيرات في مصر و انشقاق البحر لهم و عبورهم فيه على الأرض اليابسة فقالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (1) و يوم عبدوا العجل و استمروا على التقلب في الشرك في اجيالهم كما هو

ص: 265


1- كما في سورة الأعراف 134- 137

معروف في تاريخهم و كتبهم و ذهب الكثير من النصارى الى تثليث الآلهة و تأليه المسيح و ابطال الشريعة بالرأي حتى استوعبهم ذلك أخيرا (1) إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بالتوحيد و الدين الصحيح من دلالة العقل و الفطرة و المعجزات الباهرات، و الآيات البينات و صراحة كتبهم. كما بقي شي ء من ذلك فيما حرفوه. و لكن حدث الاختلاف فيهم بَغْياً بَيْنَهُمْ من الكافرين على الموحدين. او بغيا حاصلا بينهم على الحق و تمردا على ما يعلمون، و استمر ذلك البغي فيهم حتى جحدوا رسالة رسول اللّه و قرآنه و ما فيه من معارف الحق و شريعته بعد ما دل على ذلك المعجز و كتبهم في البشرى برسول اللّه و قرآنه وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ و يجحد دلالتها البينة فَإِنَّ اللَّهَ محاسبهم و معاقبهم و مجازيهم على كفرهم يوم القيامة و هو سَرِيعُ الْحِسابِ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً (1) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (1)

سورة آل عمران (3): آية 20

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

18 فَإِنْ حَاجُّوكَ و جادلوك يا رسول اللّه في التوحيد و ما جئت به.

فَقُلْ لهم في الحجة الدامغة لهم انكم قد و افقتمونا في بعض أقوالكم و ما عندكم من الكتب في توحيد اللّه في الإلهية و القدس و الكمال. كما هو الحق و الحقيقة و هل عن ذلك من محيد فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (1) إني أَسْلَمْتُ و وكلت و خليت وَجْهِيَ لِلَّهِ لا اصده بضلال الأهواء عن اللّه و توحيده، و طاعته و دين الحق وَ مَنِ اتَّبَعَنِ على الحق الواضح ايضا أسلم وجهه للّه. و جاز عطف الموصول على الضمير المرفوع المتصل في «أسلمت» لوجود للفاصل وَ قُلْ يا رسول اللّه بعد هذا النحو من الاحتجاج لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى وَ الْأُمِّيِّينَ أهل أم القرى و هي مكة. أو العرب لأنهم بحسب النوع و الغالب لا يقرءون و لا يكتبون بل هم على ما ولدتهم أمهاتهم من الجهل بذلك. فإن هؤلاء الأميين معترفون ايضا باللّه و إلهيته و قدسه و كماله أَ أَسْلَمْتُمْ و دخلتم

ص: 266


1- و قد أشرنا إلى شي ء من ذلك من صراحة كتبهم في المقدمة الخامسة من كتاب الهدى في الجزء الأول صفحة 19- 34

في سلم اللّه فلا تحاربونه و لا تحادونه بالشرك و التمرد على آياته و رسوله و قرآنه فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا و ذلك هو الفوز العظيم وَ إِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام و حادوا اللّه و رسوله فليس عليك من حسابهم من شي ء و ليس عليك أن لا يتولوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ و الدعوة الى اللّه و دين الحق وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعلم ما يكون منك و منهم و يوفق من هو اهل للتوفيق

سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 23

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

19 إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ بيان لأن قتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ و هو الحق و المعروف و قيل العدل مِنَ النَّاسِ من العباد الصالحين من غير النبيين فَبَشِّرْهُمْ يعني القاتلين الكافرين بِعَذابٍ في الآخرة أَلِيمٍ و عبر بالتبشير للسخرية بهم و التوبيخ لهم. و دخلت الفاء على بشرهم لأن الخبر هنا بمنزلة الجزاء المتفرع على الكفر و قتل النبيين كما في قوله تعالى السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما 20 أُولئِكَ الَّذِينَ لأجل ما ذكر من كفرهم و قتلهم للأنبياء و الصالحين حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي فيها حسن كالإحسان الى الفقير و العاني و نحو ذلك فلا أثر لها في استحقاق الجزاء و التخفيف عنهم بل سقطت فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم على اللّه و ينجونهم من عذابه 21 أَ لَمْ تَرَ أي ألم يصل علمك إِلَى حال الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً أي حظا و بعض الشي ء مِنَ الْكِتابِ لا يبعد أن يكون المراد هنا التوراة و الإنجيل أي من جنس الكتاب و ان روي ان مورد النزول هم بعض اليهود. و عبر بالنصيب من الكتاب باعتبار ان التوراة و الإنجيل قد حرّفا و بدلا في أكثرهما و لم يبق منهما على ما أنزل إلا البعض و هو النصيب الذي بقي من التوراة لليهود و النصارى المعاصرين لرسول اللّه و من الإنجيل الذي بقي للنصارى منهم. فقد بقي من التوراة إيمان ابراهيم و توحيده و تاريخه المبين انه كان قبل اليهودية و النصرانية و اقاويلها في الدين و التوحيد. و بقي فيها البشرى لبني إسرائيل

ص: 267

بأن اللّه يرسل نبيا من إخوتهم أي من ولد إسماعيل لا منهم و يجعل كلامه في فمه كما في الفقرة الخامسة عشرة الى العشرين من الفصل الثامن عشر من سفر التثنية. و بقي فيها حكم القصاص في النفس و العين و السن و الجروح كما في العدد الحادي و العشرين من الفصل التاسع عشر منه.

و بقي في الإنجيل شي ء من الدعوة الى الاعتراف بأن اللّه هو الإله الحقيقي وحده و ان عيسى رسوله كما في العدد الثالث من الفصل السابع عشر من إنجيل يوحنا. و بقيت البشرى برسول اللّه احمد «بيركلوطوس» و ان حرّفوه الى «بيراكليطوس» و عبروا عنه «فارقليط» و «المعزي» كما في الفصل السادس عشر و السابع عشر من إنجيل يوحنا. و حال هؤلاء انهم يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ و هو القرآن الذي قامت عليهم الحجة بأنه كتاب اللّه بدلائل اعجازه و بشرى كتبهم لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ و هم الأكثر وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن القرآن و دلائل حجته. و منهم من وفق للإسلام و الخضوع لأحكام اللّه في قرآنه المجيد. و مقتضى روايتي الدر المنثور و مجمع البيان عن ابن عباس هو ان المراد من كتاب اللّه الذي يدعون اليه هو التوراة. و كفى بذلك موهنا للروايتين فإن التوراة كانت حينئذ محرفة بأشد التحريف كما تراها الآن فكيف يسميها القرآن «كتاب اللّه»

روي في الدر المنثور عن ابن عباس ان رسول اللّه «ص» دعا اليهود الى حكم التوراة بأن ابراهيم لم يكن يهوديا،

و يوهن هذه الرواية بعد غض النظر عن سندها ان التوراة ليس فيها ان ابراهيم لم يكن يهوديا و غاية ما فيها ذكر التاريخ المضطرب و منه ان اللّه أوحى اليه أن نسله أي بني إسرائيل يستعبدون و يذلون في ارض غريبة أي ارض مصر اربعمائة سنة (1) و قالت التوراة ايضا في الفصل الثاني عشر من سفر الخروج ان المدة كانت اربعمائة و ثلاثين سنة هذا مع ان النسخة السامرية و النسخة السبعينية قد زادتا في الاضطراب و جعلتا المدة المذكورة مدة لإقامة بني إسرائيل و آبائهم في ارض مصر و كنعان و قد تكلمنا على هذا الاضطراب في الجزء الثاني من كتاب الهدى (1) فهل يدعوهم رسول اللّه الى لا شي ء في مثل هذا الكتاب المضطرب. و

في مجمع البيان عن ابن عباس دعاهم رسول اللّه.]

ص: 268


1- كما في الفصل الخامس عشر من سفر التكوين عدد 13- 15

الى حكم التوراة برجم الزاني.

و هذه الرواية موهونة ايضا بمضمونها فضلا عن وهنها بإرسالها و بما ذكرناه في موهن الروايتين. فإن الموجود في توراتهم ان الرجم على الفتاة التي لم يجد لها زوجها بكارة و على العذراء المخطوبة إذا زنت و على الزاني بها كما في الفصل الثاني و العشرين من سفر التثنية. و اما من يكون عليه الرجم في شريعة رسول اللّه فلم تذكر فيه التوراة الموجودة الا القتل كما في الفصل المذكور و الفصل العشرين من سفر اللاويين. إذن فلا يحكم رسول اللّه «ص» بالرجم على خلاف شريعته و يحتج بالتوراة المحرفة و يسميها كتاب اللّه

سورة آل عمران (3): الآيات 24 الى 26

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26)

22 ذلِكَ أي توليهم و عنادهم لما يعرفونه من الحق اغترارا منهم بِأَنَّهُمْ قالُوا أي بسبب انهم زعموا في اعتقادهم الفاسد بأن عذابهم على مخالفة الحق هين قصيرة مدته لا ينبغي أن يصدهم عن المحافظة على جامعة أهوائهم و عصبيتهم القومية لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ و لا نعذب بها إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قليلة وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ الذي يجب أن يدينوا به فخالفوه الى أهواء العصبية و ضلالها ما كانُوا يَفْتَرُونَ بقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودات فكفروا بدين الحق و رسول اللّه و كتابه و ضلوا و أضلوا 23 فَكَيْفَ حالهم إِذا جَمَعْناهُمْ في الحشر بعد موتهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ و هو يوم القيامة وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي جوزيت بجزائه وافيا أي تاما وَ هُمْ أي اهل المحشر لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب او بالعقاب. يا رسول اللّه لا تأس من تمرد اهل الكتاب على دين الحق و مظاهرتهم للمشركين على الكفر فإن اللّه يظهرك عليهم و يعزك و يذلهم و يجعل لك السلطة على اظهار دينه 24 قُلِ اللَّهُمَّ معناه يا اللّه و كأن الميم المشددة المفتوحة في آخر الكلمة عوض عن حرف النداء فإنهما لا يجتمعان. و شذ قول الراجز «أقول يا اللهم يا اللهما» مالِكَ الْمُلْكِ الملك بضم الميم و سكون اللام هو التسلط و السلطنة. و اللّه مالكه و بيده أمره و هو الخالق لما تكون عليه السلطنة و لمن يكون سلطانا. له ملك السموات و الأرض تُؤْتِي الْمُلْكَ و السلطنة الموقتة مَنْ تَشاءُ من الناس أن تؤتيه. و إيتاء اللّه للملك يكون على

ص: 269

وجهين «أولهما» هو الإيتاء الخاص للممتاز من عباده بالصلاح و الأهلية لتكميل البشر و إصلاحهم في المعارف الدينية، و الأخلاق الفاضلة، و حسن الاجتماع، و الحصول على المستقبل الصالح السعيد. و هذا هو ملك الرسل و الأنبياء و أئمة الحق «و ثانيها» إيتائه لا بهذا النحو بل بحسب سير التقدير في العالم و اقتضاء الأسباب التي قدرها اللّه في هذا الكون نعمة في الحياة الدنيا محددا لذلك بحدود الأخلاق الكريمة و الواجبات العقلية و الشرعية و النهي عن محرماتها كما أنعم على الإنسان بالقوى ليتمتع بها في الواجب و الندب و المباح. فيستقيم على الجادة من يستقيم و يحظى من ذلك بالكمال، و حسن الجزاء. و يضل بسوء اختياره من يضل فيخسر حظه و يستوجب ما يستوجب. و لكل من إيتاء الملك و القدرة و القوى اثر و غاية تحصل عن حسن اختيار الإنسان او سوئه. ففي سورة النمل في شأن سليمان النبي في تواضعه للّه الناشئ من عصمته الاختيارية قوله في مسألة عرش بلقيس 40 فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ و في سورة يونس 88 وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ الآية اي و كانت عاقبتهم ان يضلوا عن سبيلك بسوء اختيارهم. و فصل الكلام بقوله «ربنا» لإيضاح ان المراد من اللام هي العاقبة لا التعليل و في سورة البقرة 258 أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ و مما ينبغي التنبيه عليه ان الشيخ في التبيان قال ان الهاء في آتاه اللّه الملك كناية عن المحاج لإبراهيم و نسب عودها الى ابراهيم الى القيل. ثم قال في تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ما ملخصه لا يجوز ان يعطي اللّه الملك الفاسق لقوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فكأنه نظر في هذه الآية الى الوجه الاول من وجهي إيتاء الملك و في آية البقرة الى الوجه الثاني و لعل صورة هذا التدافع نشأت من اختصار التبيان و لذا لم يقع مثله في مجمع البيان و في تفسير البرهان عن الكافي باسناده عن عبد الأعلى و عن تفسير العياشي عن داود بن فرقد جميعا عن الصادق (علیه السلام).

رواية تنزل على نظر السائل الى الوجه الاول من إيتاء الملك الذي ينبغي ان يسير من رسول اللّه الى الائمة من اهل بيته و عترته احد الثقلين وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ان تنزعه منه بموته

ص: 270

او بتحويله الى آخر وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ ان تجعله عزيزا وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ان تجعله ذليلا بان تجعل كلا من الفريقين بحسب سير التقدير الجاري بحكمتك في نظام العالم بتسبيبك للأسباب و تصيره في حالة تعد عزا او اخرى تعد ذلا و قد تجعل كلا منهما كذلك بارادة خاصة من النصر و المعونة او الخذلان و الاهانة بِيَدِكَ الْخَيْرُ اقتصر على ذكر الخير لان المقام مقام تعليم بالدعاء بالخير و النصر و تعريض بالبشرى بهما إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و لك من مظاهر القدرة و عجائب التصرف بالكون ما يبهر العقول. فإنك

سورة آل عمران (3): آية 27

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

25 تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الإيلاج إدخال شي ء في شي ء يحتوي عليه و يستره و معنى إيلاج الليل في النهار هو ان ما يكون في الدورة اليومية ليلا او جزء من الليل في بعض الفصول من السنة و الامكنة التي تبعد عن خط الاستواء يجعله نهارا في فصل آخر او مكان آخر. و قد قدر اللّه نظام العالم بحكمته الباهرة في سير الأرض او الشمس على منطقة البروج و في هذا النظام العجيب من الحكم العظيمة و آثار القدرة و عموم الرحمة و العمران ما يبهر العقول و ان الليل و النهار على مدار خط الاستواء (1) متساويان و يتساويان ايضا تقريبا في جميع الأرض و يوم دخولها او دخول الشمس في برج الحمل او الميزان و يتفاوتان بالزيادة و النقصان بحسب الأزمان و المواقع من الأرض في المدارات الشمالية و الجنوبية بتفاوت منظم موزون لا محل لذكره هاهنا ففي المدارات الشمالية يأخذ الليل بعدا كمال طوله في النقيصة المتفاوتة على الانتظام من دخول الأرض او الشمس في برج الجدي و يولج في النهار. فيأخذ النهار بالطول بعد كمال نقصه او بوجوده متزايدا بعد عدمه و يستمر على ذلك الى الدخول في برج السرطان فيشرع حينئذ بالزيادة. و في المدارات الجنوبية يأخذ الليل بعد نهاية طوله في النقيصة و يستمر عليها و يولج ما ينقص منه في النهار على ما أشرنا اليه من الميزان و الانتظام و ذلك من حين الدخول في برج السرطان الى الدخول في برج الجدي فيشرع حينئذ بالزيادة وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي تدخل النهار في الليل فيأخذ النهار بالنقص في المدارات الشمالية على نهج ما ذكرناه من حين الدخول في برج السرطان الى الدخول في برج الجدي. و في المدارات

ص: 271


1- و هو الدائرة المنصفة للكرة الارضية على السواء فيما بين قطبي الجنوب و الشمال

الجنوبية من حين الدخول في برج الجدي الى الدخول في برج السرطان حتى يبلغ كل من الليل و النهار تحت القطبين في وقت واحد تقريبا على التبادل نحو ستة أشهر. فسبحان الحكيم القدير وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قيل مثل إخراج البيضة من الطير و إخراج الفرخ من البيضة. او إخراج الحيوان من النطفة و النطفة من الحيوان. و

قيل يخرج المؤمن من الكافر و يخرج الكافر من المؤمن و في مجمع البيان روى ذلك عن الباقر و الصادق عليهما السلام. و في تفسير البرهان قال ابن بابويه في حديث عن الإمام العسكري قال حدثني أبي عن أبيه عن جده الصادق «ع» و ذكر ذلك. و في الدر المنثور اخرج سعيد بن منصور و ابن جرير (1) و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الأسماء و الصفات و ابو الشيخ في العظمة عن سلمان في حديث نحو ذلك. و اخرج ابن مردويه عن سلمان ايضا نحو ذلك. و اخرج ابن مردويه ايضا عن ابن مسعود او عن سلمان عن النبي «ص» نحو ذلك.

و اخرج عبد الرزاق و ابن سعد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه من طريق الزهري عن عبد اللّه ان رسول اللّه «ص» في شأن خالدة المؤمنة بنت الأسود ابن عبد يغوث المشرك قال سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت. و اخرج ابن مسعود من طريق أبي سلمة عن عائشة عن رسول اللّه «ص» نحوه

وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ أن ترزقه بِغَيْرِ حِسابٍ و مراعاة لمقدار الرزق و مداقة في العطاء كما يفعله من يخاف النقص في ملكه

سورة آل عمران (3): آية 28

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

26 لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ في النصرة و المودة لقرابة او محبة او صداقة او ولاء قبل الإسلام و الآية نهي للمؤمنين عن أن يتخذوا الكافرين اولياء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ و «من» لابتداء الغاية و «دون» للمكان الذي هو قبل المكان الذي تضاف اليه ثم شاع استعمالها في الكناية عن عدم الوصول بالشي ء الى ما تضاف اليه و جعله في غيره. فالمراد لا يعدل المؤمن بولايته عن المؤمنين الى الكافرين وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ من رضى من اللّه او لطف او توفيق او ولاية او جزاء او فضيلة إيمان و غير ذلك مما يحظى به العبد الضعيف المحتاج

ص: 272


1- عن عثمان النهدي عن سلمان او عن ابن مسعود و اكبر ظني انه عن سلمان

من اللّه ربه و مالك أموره. يقال هو من فلان في مقام و مكانة و حظوة او ليس منه في شي ء من ذلك. و يفهم من مناسبات المقام ان هذا النهي و هذا التهديد جاريان في الموالاة الصورية و يتوهم جريان النهي و التهديد فيها حتى لو كانت للدفاع عن النفس و اتقاء الشر في بعض الأحيان، فاستدرك ذلك بقوله تعالى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا ايها المؤمنون مِنْهُمْ أي من الكافرين تُقاةً مصدر مفعول مطلق لتتقوا الاتقاء و التقوى و التقية و التاء فيها للوحدة و مأخذها الوقاية بأن تقي نفسك من محذور شي ء بشي ء آخر. كما يقال ضربه بسيفه فاتقاه بالدرقة و وقى نفسه بها من محذوره. و تاء الوحدة تفيد تحديد الاتقاء أي إلا ان تدفعوا شرهم عنكم و عن دينكم عند انتظار الفرصة في نصره و إظهاره و تتقوا منهم تقاة موقتة محدودة بأن تظهروا لهم ما يدفع شرهم من صورة الموالاة الموقتة حيث لا مندوحة لكم إلى غير ذلك و لا فائدة في نصر الدين بقتل الرجل بل ينقص بقتله رجل من رجال الإسلام و أنصاره. و لا تسترسلوا في ذلك و تجاوزوا به مقدار الضرورة بحيث يرجع إلى الضعف في الدين و التساهل في امره و استظهار الكافرين فإن أمر الدين عظيم فاحذروا إذن من غضب اللّه و عقابه وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ليس المراد بالنفس ما يرادف الروح المرتبطة بالبدن. بل ذاته العظيمة فإنه العزيز الجبار الذي لا نصير عليه و هو استعمال شائع في اللغة و القرآن الكريم و منه قوله تعالى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ و منه ما جاء من تعليق الظلم بالنفس كقوله كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ و نحوه في اكثر من عشرين موردا و منه ذكر الجهاد بالأموال و الأنفس نحو عشر مرات.

فاحذروا اللّه فإنه شديد النكال اليم العذاب و لا تتساهلوا في أمر دينكم فإن الدنيا فانية و ظل زائل وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيوفي كل نفس ما عملت

سورة آل عمران (3): آية 29

قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29)

27 قُلْ يا رسول اللّه محذرا إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من نياتكم و وجوه اعمالكم أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فاحذروا نيات النفاق و موادة من حاد اللّه و رسوله و كيف يخفى على اللّه شي ء من ذلك و هو خالق نفوسكم و أجسادكم و القائم عليها بالتدبير و الإبقاء و الشهيد عليها يعلم ذلك منكم وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ

ص: 273

اي جميع العالم لأنه خالقه و مدبره وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من العقاب و الجزاء و الأخذ للمصير اليه

سورة آل عمران (3): آية 30

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)

28 يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ قيل «يوم» معمول لقوله تعالى: يُحَذِّرُكُمُ و أقول لا يكون «يوم» مفعولا ليحذركم لأن يحذر لا تتعدى إلا إلى مفعولين و قد استوفاهما و لا بدلا من أحدهما كما لا يخفى و لا ظرفا للتحذير لأن التحذير و فائدته إنما هما في الدنيا.

و لا ظرفا للحذر لو صح في نظائره اعرابا لأن الحذر في ذلك اليوم لا فائدة فيه و لا غاية و قيل ان «يوم» معمول لا ذكر مقدرة. و يرد عليه انه ليس من شي ء يدل على ذلك.

و لا يقاس على تقدير ذلك عند قوله تعالى وَ إِذْ أي و اذكر إذ. لأن السياق هناك يشير إلى ذلك. و تكرر في القرآن الكريم ذكره صريحا في السور المكية سور مريم 16 وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ

و ص 40 وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى و الأحقاف 20 وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ هذا مع ان المقام في أكمل الصلاحية و المناسبة لكون يَوْمَ ظرفا للمصير. و الفاصل ليس باجنبي ما عَمِلَتْ أي جزاء ما عملت و «ما» موصولة و العائد مقدر مِنْ خَيْرٍ «من» بيانية و لو كانت «ما» مصدرية لقيل من الخير مُحْضَراً بلا تسويف و لا بعد منال بل هو حاضر أعده اللّه تكريما و تبجيلا للمحسنين وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أي و تجد جزاء ما عملته من سوء محضرا اهانة لها و انتقاما حال كون ذلك الجزاء من شدة هوله و آلامه و خزيه تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً و الأمد بمعنى الغاية و المراد هنا البعد المكاني لئلا تروعها أهواله و تقاسي آلامه و مكارهه. فإن البعد الزماني لا يجدي مع اليقين فإن كل آت قريب. و قيل ان الموصول في «ما عملت» مبتدأ و جملة تود خبره و جملة المبتدأ معطوفة على جملة تجد. و الأول اظهر في افادة المعنى المذكور الذي لا معدل عنه. و اقل حاجة إلى التقدير و التأويل. و اما ما في الكشاف، و جمع الجوامع من ان «يوم» في أول الآية معمول لتود و الضمير في «بينه» يعود إلى ذلك اليوم يوم القيامة. ففيه ان الآية اخبار عن حال كل نفس و هل يخفى ان كثيرا من النفوس الزكية إذا وجدت ما عملت من خير محضرا تود لو ان

ص: 274

يوم القيامة عجل لها من حين موتها لكي تفوز بسعادتها وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ و من رأفته تكراره للتحذير و الإنذار و الإرشاد إلى سبيل النجاة و السعادة و هداه إلى الصراط المستقيم

سورة آل عمران (3): الآيات 31 الى 32

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

29 قُلْ للناس يا رسول اللّه إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ كما تزعمون فأول المصادق لهذا الحب ان تسارعوا إلى طلب رضاه، و الاهتداء بهداه، و امتثال امره و نهيه. و قد أوضحت لكم الدلائل البينة و الحجج القاطعة على اني رسول اللّه، و باب رضاه و نور هداه، و ترجمان امره و نهيه، و مدرس تعاليمه، و وسيلة تكميلكم و تطهيركم للقرب منه. إذن فَاتَّبِعُونِي في ارشادي لكم، و وجوده تقريبكم من اللّه و نيل السعادة الأبدية. فإني الكتاب الناطق وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى صلى اللّه عليه و آله و سلم و قد أمر اللّه بطاعته و نوه بفضلها في القرآن الكريم في اكثر من عشرين موردا. و

اخرج ابو داود و الترمذي و ابن ماجه و الحاكم في مستدركه على شرط البخاري و مسلم و عن ابن حبان في أبواب السنة و العلم و نحو ذلك بأسانيدهم عن أبي رافع عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من امري مما أمرت به او نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب اللّه اتبعناه.

و في رواية الحاكم من طريق الليث و الا فلا. و أخرجه أحمد في مسنده بعبارة أخرى. و اخرج احمد في مسنده و ابو داود و الترمذي في الأبواب المذكورة بأسانيدهم عن أبي المقدام عن النبي (صلی الله علیه و آله) نحو هذا المضمون. كما اخرج احمد و ابن ماجه و الحاكم عن أبي المقدام ايضا عنه (صلی الله علیه و آله) نحوه. و كذا ابو داود في تعشير اهل الذمة عن العرباض عنه (صلی الله علیه و آله). و كذا ابن ماجه عن أبي هريرة عنه (صلی الله علیه و آله).

و هذه الأحاديث الموصوفة بالصحة و المستفيضة عن اربعة من الصحابة متفقة المضمون في اتباع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في امره و نهيه. و انه ليس لأحد أن يرد ذلك و يقول في ذلك حسبنا كتاب اللّه يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي ان اتبعتموني يحببكم اللّه. و كفى بذلك فضلا و فوزا و سعادة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 30 قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ و هذا تأكيد لما سبق فَإِنْ تَوَلَّوْا عن ذلك فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ و ذلك هو الخسران المبين

ص: 275

سورة آل عمران (3): آية 33

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)

31 إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ الطاء في اصطفى بدل من تاء الافتعال في مثل اختار اي اختاره صافيا من الخليط و الاختلاط. فقد يكون الصفاء من حيث الاندماج و الاختلاط بالغير و المساواة له فيصطفي بالرسالة كقوله تعالى في شأن موسى في سورة الأعراف 141 إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي او للملك و نصرة الدين كما في سورة البقرة في شأن طالوت 248 إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ او على سائر الأمم الوثنية باعتبار الانتساب إلى التوحيد و نبذ الأوثان كما في سورة فاطر 29 ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ او من الاختلاط بصنف آخر كما في سورة الصافات 153 أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ او من حيث التخليص عن الشركاء و تمييزه عن المشترك من جنسه كاصطفاء الرسول من الغنائم ما يختار أو من حيث التخليص من الشرك و سفاهة الأهواء كما في سورة البقرة 126 إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ او باعتبار التقدم في اختيار الإيمان و الدعوة اليه كما في سورة البقرة في شأن ابراهيم 124 وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا و كما في سورة ص في شأنه و شأن اسحق و يعقوب 47 وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ فجهة الاصطفاء و الصفاء تعرف من مقام الكلام و قرائنه و لأن اللّه لم يذكر بين آدم و نوح في هذه الآية «شيئا» هبة اللّه و «إدريس» الصديق النبي عرف ان هذا الاصطفاء فوق مقام الصلاح و النبوة بل هو في أمر الدعوة العامة، و الإمامة للناس و زعامتها الكبرى. و لم يذكر ابراهيم في هذه الآية لأنه ذكر جعله الناس إماما و أن اللّه اصطفاه في الدنيا أي لذلك كما في سورة البقرة 118 و 124 و في مجمع البيان في قوله تعالى وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ قيل أراد نفس ابراهيم و نفس عمران انتهى و فيه مع غرابته في اللفظ و مخالفته للمأثور ان عمران سواء كان أبا موسى او أبا مريم ام المسيح ليس ممن له هذا المقام الخاص من الاصطفاء على العالمين. و في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال هم المؤمنون من آل ابراهيم و آل عمران و آل يس و آل محمد (صلی الله علیه و آله) و

أخرج ابن سعد و ابن أبي حاتم عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام ان امير المؤمنين عليا (علیه السلام) أمر الحسن (علیه السلام) ان يخطب فخطب و نزل فقال (علیه السلام) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ

ص: 276

بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

.و عن تفسير الثعلبي مسندا عن الأعمش عن أبي وائل قال قرأت في مصحف ابن مسعود ان اللّه اصطفى آدم و نوحا و آل ابراهيم و آل محمد على العالمين. و

في التبيان و في قراءة اهل البيت و آل محمد على العالمين. و قالوا ايضا ان آل ابراهيم هم آل محمد الذين هم اهله و كذا في مجمع البيان.

و تفصيل الكلام ان الشيخ الطوسي روى

في اماليه عن محمد بن ابراهيم قال سمعت جعفر بن محمد (علیه السلام) يقرأ و آل ابراهيم و آل عمران و آل محمد على العالمين.

و في تفسير القمي قال العالم نزل آل ابراهيم و آل عمران و آل محمد على العالمين.

و نحوه عن تفسير العياشي عن أيوب عن الصادق (علیه السلام). و عن أبي عمر الزبيري عنه (علیه السلام) نحوه

و ايضا

عن هشام بن سالم سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً فقال هو آل ابراهيم و آل محمد على العالمين فوضعوا اسما مكان اسم.

أقول و هذه الرواية معارضة بما يرجح عليها مما دل على ثبوت آل عمران في القرآن فلا بد من صرفها عن ظاهرها و يعارض ما تقدم

رواية العياشي عن سدير عن الباقر (علیه السلام) قال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ قال نحن منهم و نحن بقية تلك العترة.

و عن أبي حمزة عن الباقر (علیه السلام) انه استشهد بالآية و قرأها على ما هو المرسوم في المصاحف

و في العيون بسنده عن الريان بن الصلت ان الرضا (علیه السلام) قرأها كذلك محتجا.

و في غيبة النعماني بسنده عن جابر الجعفي عن الباقر (علیه السلام) ان صاحب الأمر عجل اللّه فرجه يحتج عند ظهوره بالآية على ما هو مرسوم على انه أولى الناس بنوح و ابراهيم،

و عن الشيخ الطوسي بسنده عن يونس ابن حباب عن الباقر (علیه السلام) عن آبائه (علیه السلام) ان رسول اللّه في خطابه لأمير المؤمنين تلا الآية على النحو المذكور.

و هذه الروايات أوضح سندا من الأولى و اسلم من التعارض و التدافع فيما بينها و أولى بالترجيح. و يمكن الجمع بأن آل محمد (صلی الله علیه و آله) كانوا مقصودين في التنزيل من آل ابراهيم بنص الوحي على الرسول في ذلك. و ربما أثبت في مصحف علي امير المؤمنين (علیه السلام) و مصحف ابن مسعود بعنوان التأويل المقصود عند التنزيل كما ذكرناه في المقدمة في أواخر الكلام على روايات فصل الخطاب. و الظاهر ان موسى (علیه السلام) و رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و الأئمة الذين لهم الإمامة و الزعامة العامة الكبرى هم القدر المتيقن في المراد من آل ابراهيم. و اما إسماعيل و إسحاق و يعقوب فلم يعلم ان مقامهم في النبوة و الزعامة فوق مقام شيث (علیه السلام) و إدريس اللذين أهملا من اصطفاه هذه الآية كما ان الظاهر من عمران انه عمران ابو مريم أم المسيح و انه ذكر

ص: 277

لخفاء الاشارة الى المسيح بعموم آل ابراهيم مع اقتضاء المقام للاشارة اليه بنحو جلي و يشهد له ايضا قوله تعالى بعد هذه الآية إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ إلى آخر قصة المسيح

سورة آل عمران (3): الآيات 34 الى 35

ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

32 ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لدعاء الداعين و رجاء الراجين مستجيب لهم كدعاء ابراهيم بقوله وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عَلِيمٌ بما تقتضيه المصلحة و مواقع اللطف 33 إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ جد المسيح. و دعوى زيادة «إذ» هنا من الغلط. و جعلها ظرفا لسميع عليم لا يناسب مجيئها بعنوان الصفة الدالة على الثبوت الدائم المطلق. و جعلها مفعولا لأذكر مقدرة بعيدة في السوق و السياق كما ذكرت هذه الأقوال في التبيان و مجمع البيان و ذكر الأخير في الكشاف و جعلها ظرفا لاصطفى المذكورة لا يصح إذ لا تكون ظرفا لاصطفاء آدم و نوح. فالوجه جعلها ظرفا لفعل مقدر يدل عليه الكلام. و هو سميع الدعاء أي استجابه إذ قالت. او اصطفى آل عمران إذ قالت بمعنى انه لاحت مظاهر الاصطفاء إذ قالت. و الأول اقرب. و

في تفسير القمي في الحسن كالصحيح عن الصادق (علیه السلام) ان امرأة عمران اسمها حنة. و كذا في الدر المنثور مما أخرجه إسحاق بن بشير و ابن عساكر عن ابن عباس. و أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة.

و في تفسير القمي في سورة مريم و طرد الرواية عن أبي الجارود عن الباقر (علیه السلام) ان زكريا كان رئيس الأحبار و امرأته اخت مريم بنت عمران بن ماثان و بنو ماثان من ولد سليمان بن داود.

و في الدر المنثور مما أخرجه البيهقي في سننه عن ابن مسعود و ابن عباس و ناس من الصحابة ان زكريا كان أفضل الذين يكتبون التوراة و كانت اخت مريم تحته. و في ضمن ما أخرجه ابن بشير و ابن عساكر عن ابن عباس ان مريم كانت بنت امام القراء و كان إمام القراء من ولد هارون و كان زكريا رأس الأحبار و كانت خالة مريم عنده انتهى و اللّه العالم.

و ابو الجارود ضعيف، و في الفصل الأول من إنجيل لوقا ان زكريا من الكهنة أي من ولد هارون سدنة بيت المقدس و ان زوجته أم يحيى هي نسيبة مريم أي قرابتها و مشاركتها في النسب و ان حملها بيحيى قبل حمل مريم بالمسيح بستة أشهر. و الأناجيل الرائجة لم تذكر نسب مريم و لا نسب عيسى من جهتها. بل ذكرت نسب يوسف النجار الذي يزعمون ان مريم كانت مخطوبة له. فإنجيل متى قال و يعقوب ولد يوسف. و إنجيل لوقا قال ان يوسف بن هالي.

ص: 278

و النصارى من أجل هذا الاختلاف في كتبهم التي ينسبونها الى الوحي تكلفوا و تعسفوا بدعواهم ان «هالي» هو ابو مريم. و قد تعرضنا لهذا المقام في الجزء الأول من كتاب الهدى (1) رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أي للمسجد بيت المقدس. و

في تفسير القمي في الحسن كالصحيح عن الصادق (علیه السلام) ان اللّه أوحى الى عمران اني واهب لك ذكرا مباركا يبرئ الأكمه و الأبرص و يحيى الموتى بإذني و جاعله رسولا الى بني إسرائيل فحدث بذلك امرأته حنة فلما حملت كان حملها عند نفسها غلاما، الرواية و نحوه عن العياشي عن جابر عن الباقر (علیه السلام)

فحسبت ان المبشر به ولدها الأدنى فَتَقَبَّلْ مِنِّي نذري أي اجعله و اتخذه مقبولا عندك إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ للدعاء أي نذري و ما يئول اليه من الدعاء بسلامة الحمل و جعله ذكرا يقوم بما نذر له الْعَلِيمُ بنيتي

سورة آل عمران (3): الآيات 36 الى 37

فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

34 فَلَمَّا وَضَعَتْها أنت الضمير باعتبار كون المولود أنثى قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فإنه هو الذي خلقها و صورها. و في رواية القمي المتقدم ذكرها يقول اللّه و اللّه اعلم بما وضعت وَ لَيْسَ الذَّكَرُ الذي كان في نيتي و بشرى عمران و مقصد نذري كَالْأُنْثى فإنها لا تكون رسولا و لا تقوم بما يراد من المنذور المحرر وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المرجوم بالشهب او باللعن. و كأنها تشير بذلك الى ما معناه انك رب تدفع بلطفك شر الشيطان و غوايته كما جعلته رجيما فأعذها و ذريتها بلطفك من شره 35 فَتَقَبَّلَها رَبُّها و مولاها و جعلها و اتخذها مقبولة عنده بِقَبُولٍ حَسَنٍ كما سألته أمها و فوقه وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً النبات يكون اسم مصدر لنبت و يكون مفعولا مطلقا لأنبتها بدلا عن مصدره و يستعمل ايضا فيما ينبت كقوله تعالى في سورة الأعراف. و طه. و عمّ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً فيكون المعنى أنبتها حال كونها

ص: 279


1- صفحة 205- 210

نباتا حسنا. و المراد من كلا الوجهين حسن نشأتها و تربيتها في صلاحها و كمالها وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا أي جعل زكريا كفيلها و القائم بأمرها بحسب التقدير او بجعل القرعة، بالأقلام له و أكرم به من كفيل صالح أمين رؤف كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ المسجد وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً في رواية القمي المتقدمة يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، و فاكهة الشتاء في الصيف. و نحوه ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. و

في الدر المنثور أخرج ابو يعلى عن جابر حديث الزهرا (علیه السلام) و الجفنة التي ملئت خبزا و لحما ببركة اللّه و عطائه ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) سألها عن ذلك فقالت هو من عند اللّه فقال (صلی الله علیه و آله) الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل و روى الشيخ في أماليه عن حذيفة بن اليمان ما يشبه ذلك

قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا و من أين جاءك قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ لا في الجريان على العادة و لا على مقدار الضرورة

سورة آل عمران (3): الآيات 38 الى 39

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

36 هُنالِكَ أي حين ما رأى زكريا المعجز بوجود فاكهة الشتاء في الصيف و فاكهة الصيف في الشتاء رجا ان يرزقه اللّه ولدا و إن صار شيخا كبيرا و كانت امرأته عاقرا. و دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً الذرية النسل و الولد. و الطيبة الصالحة. و هذا إجمال لما سبق نزوله في سورة مريم المكية من قوله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ القادر على اجابته فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أي نوعهم تمييزا عن نداء نوع البشر و إن كان المنادي واحدا كما يقال قتله الجن وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ 37 أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى فكان ذلك بشرى بالولد الذكر مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ و هو المسيح رسول اللّه كما سيأتي إن شاء اللّه في الآية الثالثة و الأربعين و قوله تعالى في سورة النساء 169 وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ باعتبار أنه مخلوق بكلمة «كن» لا بالتناسل العادي. و ان التصديق برسالة المسيح من الكهنة الذين بيدهم الرئاسة الشرعية على بني إسرائيل

ص: 280

قد كان من أصعب الأمور على النفوس الأمارة بالسوء. فالإخبار بتصديق يحيي لرسالة المسيح مدح كبير له، و تمجيد له بطيبه و صلاحه و انه لا تأخذه في الحق لومة لائم، و لا نزعة نفس أمارة وَ سَيِّداً السيادة الزعامة و ولاية الأمر و السيد من يسود غيره وَ حَصُوراً في رواية القمي المتقدمة الحصور الذي لا يأتي النساء. و نحوه ما في الدر المنثور مما أخرجه عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن ابن عباس. و ابن جرير و البيهقي في سننه عن ابن مسعود. و شرعيته و رجحانه و مدحه مختص به إذ لم تعهد شرعيته و رجحانه بنحو نوعي في شريعة إلهية، و اما في شريعة الإسلام فقد تحقق

عن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) قوله النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني

وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ذكر ذلك تنويها بفضل النبوة فإن كل الأنبياء من الصالحين

سورة آل عمران (3): الآيات 40 الى 41

قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (41)

38 قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ في السن. يقال بلغه الكبر و الهرم و أدركه الموت تنزيلا لهما منزلة الطالب الذي لا مفرّ منه وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ لأنها لم تلد مدة عمرها. و قال زكريا ذلك مع انه دعا اللّه أن يرزقه الذرية و الولي الوارث إما طلبا للاطمئنان بالبشرى لأن ذلك على خلاف العادة في التناسل من مثلهما. و إما شكرا و اعترافا بنعمته في اجابة دعائه على خلاف العادة الجارية في التناسل بمعنى اني و امرأتي في مثل هذا الحال فمن اين يكون لي غلام لو لا قدرتك و رحمتك و عنايتك الخاصة الخارقة للعادة في إجابة دعائي.

ذكر ذلك السيد الرضي «رضي اللّه عنه» في حقائق التأويل قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ 39 قالَ زكريا طلبا لزيادة الاطمئنان بحصول ذلك في العاجل و معرفة وقت الحمل و إن كان مؤمنا بصدق البشرى و قدرة اللّه رَبِّ اجْعَلْ لِي في الدلالة على حصول الحمل و اجابة دعائي علامة و آيَةً من آياتك الخارقة للعادة قالَ اللّه له آيَتُكَ التي تطلبها هي أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ و لا تقدر على تكليمهم و إن كان لسانك مطلقا في ذكر اللّه و تسبيحه و الصلاة له ثَلاثَةَ أَيَّامٍ بلياليها و لذا جاء في سورة مريم ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا. و من الشائع في العربية و غيرها في أمثال هذا المقام دخول الليل في الأيام و النهار في الليالي يقال أقمت في البلد ثلاثة ايام كما يقال أقمت

ص: 281

فيه ثلاث ليال و شواهد ذلك حتى في اللغة العبرانية و كتب العهدين كثيرة لا يسعها المقام إِلَّا رَمْزاً الرمز هو افهام المعنى بنحو من الإشارة. و الاستثناء هنا منقطع وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ تسبيح اللّه تنزيهه و تقديسه. أو وصلّ له النوافل فقد ورد في الحديث كثيرا من طرق الفريقين عن الرسول (صلی الله علیه و آله) و الصحابة و الأئمة (علیه السلام) تسمية صلاة النوافل بالسبحة بِالْعَشِيِّ و هو من زوال الشمس الى الغروب أواخر النهار وَ الْإِبْكارِ بكسر الهمزة من حين طلوع الفجر الى وقت الضحى كما في التبيان و الكشاف و غيرهما

سورة آل عمران (3): الآيات 42 الى 43

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

40 وَ اذكر إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي هذا النوع و ان كان القائل واحد يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ قد ذكرنا معنى الاصطفاء و ان جهة الاصطفاء تعرف و تؤخذ من قرائن المقام. فالمعنى إذن اصطفاك بأن تقبلك و قبلك من نذر أمك في تحريرك للّه وَ طَهَّرَكِ زيادة على ذلك من الأدناس التي تلحق النساء وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ و قدمك عليهن بالولادة من غير فحل. هذا غاية ما يدل عليه المقام و القرائن من وجهتي الاصطفاءين و قد كرر ذكر الاصطفاء لأجل اختلاف الوجهة فيه. و ليس في اللفظ و قرائن المقام دلالة على سيادتها على نساء العالمين. نعم ثبتت لها السيادة على نساء عالمها من السنة. و استفاض بل تواتر من حديث الفريقين عن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ان فاطمة بنته (علیه السلام) سيدة نساء العالمين، و سيدة نساء أهل الجنة. و من ذلك ما رواه احمد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و ابن حبان في صحيحه و ابن أبي شيبة و الحاكم و ابو يعلى و الروباني و العقيلي و الطبراني و ابن عساكر و صاحب الاستيعاب و غيرهم عن حذيفة، و أبي سعيد الخدري، و ابن عباس، و عائشة، و فاطمة (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و الأحاديث بذلك من طريق الشيعة كثيرة جدا 41 يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ قد ذكر معنى القنوت في الآية العاشرة بعد المائة.

و التاسعة و الثلاثين بعد المائتين من سورة البقرة. و السجود معروف و الركوع يطلق على الانحناء المعروف. و قد يستعمل ركع و اركع و اركعي في الإتيان بركعات الصلاة فيقال لمن صلى ركع ركعات خفيفة او ركع ركعات مطوّلة أي و كوني في زمرة المصلين الكثيري الصلاة و لا

ص: 282

ينحصر المعنى بصلاة الجماعة

سورة آل عمران (3): الآيات 44 الى 45

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

42 ذلِكَ أي قصة امرأة عمران و مريم و زكريا و بشرى الملائكة لهما مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ و من ذلك اختصامهم في كفالة مريم و إلقاء أقلامهم للقرعة على كفالتها وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ للقرعة لأخذ النتيجة منها و هي انه أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في ذلك حتى تراضوا على القرعة بالأقلام فلست تذكر للناس ما حضرته و رأيته. و لا هو مدوّن في الكتب المتداولة عند اهل الكتاب فضلا عن انك لا تقرأ كتابا و لم تمارس درسا و لا تعلما و لم يكن في قومك و بلادك شي ء من العلم و في هذا حجة على انه وحي من انباء الغيب من اللّه. و قد روى في الدر المنثور و غيره في إلقاء الأقلام و كيفيته روايات لا تنهض حجة 43 إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ الظاهر ان «إذ» هنا بدل او عطف بيان لإذ المتقدمة في الآية الأربعين. فإن الظاهر هو ان قولي الملائكة في الآيتين كانا عند كبر مريم في زمان واحد او زمانين متقاربين يليق اعتبارهما حينا واحدا كالسنة و نحوها. و اما إبدالها من إذ يختصمون فبعيد جدا لأن الاختصام كان بحسب الظاهر في صغر مريم و البشرى في كبرها عند حملها بالمسيح و اعتبار الزمانين في مثل ذلك حينا واحدا بعيد يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ سمي عيسى بالكلمة لأنه تكون في رحم أمه من غير فحل بل بكلمة اللّه و هو قوله «كن» و ذلك كناية عن إرادته التكوينية بدون اسباب و معدات فالمسيح بمنشئه كلمة من عند اللّه. و لأنى المراد بالكلمة هو الذكر جي ء بالضمير في «اسمه» مذكرا باعتبار المعنى. و المسيح لقب لعيسى و ابن مريم نسبة له و لكن يصح في التوسع أن يقال اسمه المسيح عيسى بن مريم. و لعل تسميته بالمسيح مأخوذة من العادة الاسرائيلية في الزعيم الروحاني يمسحه للزعامة الروحانية من هو قبله من الزعماء فصار ذلك لقبا للزعيم الروحاني فكان المسح و سام الروحانية كالتتويج للملك. و نص على نسبته لأمه لبيان ان نسبته في الولادة منحصرة بأمه ردا على من يسميه ابن اللّه. و لعل من ذلك ما اتفقت عليه الأناجيل في حكايتها عن كلام المسيح انه يعبر عن نفسه بابن الإنسان ليكون

ص: 283

ذلك ردا على من يزعم انه ابن اللّه بحسب الولادة وَجِيهاً أي ذا جاه فِي الدُّنْيا مستجاب الدعوة مختارا للرسالة قدوة للمؤمنين متبوعا للصالحين مظهرا للمعجزات و الكرامات

سورة آل عمران (3): الآيات 46 الى 49

وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ 44 وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بالأمور الإلهية و ما ينفعهم حال كونه فِي الْمَهْدِ و جملة يكلم حالية معطوفة على «وجيها» كجملة و من المقربين، و من كلامه في المهد ما ذكر من أول الآية الحادية و الثلاثين الى آخر الرابعة و الثلاثين من سورة مريم المكية وَ يكلم الناس بالأمور الإلهية و تبليغ الرسالة حال كونه كَهْلًا و في ذلك بشرى لمريم بأنه (علیه السلام) يبلغ زمان الكهولة و اشارة الى انه لا يبقى بين الناس الى زمان الشيخوخة. و المعروف انه (علیه السلام) أرسل الى الناس و هو ابن ثلاثين و رفع الى السماء بعد ثلاث سنين وَ مِنَ الصَّالِحِينَ 45 قالَتْ رَبِّ أَنَّى و من أين يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ الحال اني لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ لعلّ مرجع سؤالها الى ان ولادتها هل تكون على جاري العادة بالتزويج. و من هو زوجها الذي تلد منه لأن الولادة على غير العادة أمر غريب عجيب قالَ كَذلِكِ اللَّهُ أي اللّه كذلك يرزقك على خلاف العادة المقدرة و إن لم يمسسك بشر فإنه يَخْلُقُ ما يَشاءُ كيف شاء انه إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قد مضى الكلام في هذا في الآية الحادية عشرة بعد المائة من سورة البقرة 46 وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ الواو عاطفة و جملة يعلمه للحال معطوفة في نسق الأحوال على وجيها. و المراد بالكتاب اما مصدر كتب أي الكتابة بيده و اما كتاب غير التوراة و الإنجيل او نوع الكتب و ذكرت التوراة و الإنجيل لأهميتهما من باب عطف الخاص على العام وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ و هي في الأصل اسم للكتاب الذي أنزل على موسى (علیه السلام) و هو في العبرانية اسم للشريعة. نعم جرى الاصطلاح أخيرا على ان كتب اليهود التي تسمى بالعهد القديم تسمى بالتوراة. و الظاهر انه اصطلاح لا اعتداد به في هذا المقام وَ الْإِنْجِيلَ و هو الكتاب الواحد الذي أنزل عليه (علیه السلام). و يقال ان معناه في اليونانية القديمة «التعليم» وَ حال كونه رَسُولًا من اللّه إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ باعتبار ابتدائه بهم في

ص: 284

الدعوة أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ لما كانت دعوى الرسالة تؤيد بالحجة عليها كان ذكر المعجز يجعل الكلام كالصريح بما معناه حال كونه يقول لهم حجتي اني جئتكم. و قد ذكرنا (1) ان الحذف لما يدل عليه الكلام بسياقه باب من أبواب البلاغة عند العرب بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ المراد نوع الآية و ما يكون حجة على الرسالة و إن كان ما جاء به آيات متعددة أَنِّي المصدر المنسبك من «ان» و جملتها بدل من آية او خبر لضمير محذوف يعود على آية و التقدير هي اني أَخْلُقُ و أصور لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ و ليس في ذلك آية فإن تصوير الطين مقدور للبشر فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً حقيقيا بِإِذْنِ اللَّهِ و خلقه له طبرا و الحجة بإظهار اللّه لهذا المعجز على يد المسيح و في التبيان و مجمع البيان في التفسير انه صنع من الطين كهيئة الخفاش و نفخ فيه فصار طائرا.

و رواه في الدر المنثور مما أخرجه ابن جرير عن ابن جريح و ابو الشيخ عن ابن عباس و لا ينهض شي ء من ذلك حجة وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ و هو الذي يولد أعمى او مطلق الأعمى وَ الْأَبْرَصَ و هو معروف وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ و فعله و إنما نسب الإبراء و الاحياء اليه لأنه السبب ببركته و دعائه في ظهور هذا المعجز من اللّه على يده. و في جمع الموتى دلالة على تعدد صدور الاحياء من اللّه بسببه. و

في الصافي في الكافي و العياشي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) و ذكر احياء عيسى لصديقه.

و رواه ايضا في الدر المنثور و القصة تشبه أن تكون قصة «اليعازر» المذكورة في إنجيل يوحنا وَ أُنَبِّئُكُمْ من الغيب بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ مما لا يدري به غيركم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ كافية في إرشادكم بدلالتها القاطعة الى الإيمان بأني رسول اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و انه بلطفه يرسل رسله لهداية عباده الى الصلاح و دعوتهم الى السعادة. و انه جل شأنه يمتنع على قدسه اظهار المعجز على يد الكاذب. او ان كانت لكم ملكة الإيمان بما تقوم به الحجة و تشهد له الآيات. لا ممن استحوذ عليهم الشيطان و أضلهمين

ص: 285


1- في تفسير سورة البقرة قبل الآية الثامنة و العشرين

الهوى كما قال اللّه في سورة الأنعام 111

سورة آل عمران (3): الآيات 50 الى 53

وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا- 124 وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ 47 وَ مُصَدِّقاً أي و جئتكم حال كوني مصدقا لِما بَيْنَ يَدَيَّ أي لما تقدمني مِنَ التَّوْراةِ «من» بيانية وَ لِأُحِلَّ عطف على مصدقا لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في التوراة مما زال عنه مقتضى التحريم. و لعل منه ما في قوله تعالى في سورة النساء 158 فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كرر ذكر الآية تأكيدا في الحجة و تمهيدا لقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ و تحذروا من غضبه و عقابه بما يقيكم من ذلك كطاعته و الإيمان بآياته و شهادتها لرسله وَ أَطِيعُونِ فإني أدعوكم الى اللّه و الى سبيل سعادتكم في الدنيا الآخرة إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ و إلهنا جميعا و خالقنا و مدبر أمورنا و اليه مرجعنا و إني و إياكم عباده لا إله إلا هو فَاعْبُدُوهُ و اخضعوا له خضوع العبد لإلهه. و من عبادته أن لا تشركوا به شيئا هذا أي تقوى اللّه و عبادته و طاعة الرسول في دعوته الى اللّه و توحيده و دين الحق صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يهتدي من ضل عنه 48 فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ بآيات اللّه و رسالته قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي في الدعوة اليه بالإيمان به و بآياته و ما أرسل به رسوله قالَ الْحَوارِيُّونَ

في العيون مسندا عن الرضا (علیه السلام) انهم سموا حواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم و مخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ و التذكير

نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ في الدعوة الى دينه و الجهاد في سبيل الحق آمَنَّا بِاللَّهِ و لا نكفر ككفرهم وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ داخلون في سلم اللّه لا نحاده و لا نخالف أوامره و نواهيه و لا نعانده فيما أمر به من الدعوة الى سبيله و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. ثم التفتوا الى التشرف بخطاب اللّه و الاعتراف له بنعمة الإيمان و الدعاء بدوام توفيقهم لذلك فقالوا 49 رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى فيما جاء به من عندك فَاكْتُبْنا بتوفيقك و تثبيتك مَعَ الشَّاهِدِينَ

ص: 286

بالحقّ الدائبين على ذلك. ثم التفت القرآن الى حال الذين أحسّ عيسى منهم الكفر بقوله تعالى

سورة آل عمران (3): آية 54

وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)

50 وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ بعض اللغويين فسر المكر بالخديعة. و في التبيان «و المكر و ان كان قبيحا فإنما اضافه اللّه الى نفسه لمزاوجة الكلام كما قال فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. و الثاني ليس باعتداء و إنما هو جزاء» و نحوه في مجمع البيان. و كأنهم نظروا في ذلك الى ان الكثير من استعمال الناس للفظ المكر هو فيما يساوق استعمالهم للفظ الخديعة من الإنسان لإيصال الضرر المحرم الى غيره و بذلك يكون قبيحا. و لكن استعمال القرآن الكريم و بعض الموارد يرشد الى ان المكر هو اعمال خفية على الغير في معاملته على غفلة منه عنها. و قد جاء في القرآن الكريم منسوبا الى اللّه بدون مزاوجة كقوله تعالى في سورة الأعراف 197 أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ و قال اللّه هنا و في سورة الأنفال 30 وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فأطلق لفظ الماكر عليه جل شأنه و على غيره يعني الظالمين بلفظ واحد و لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في المعنى الحقيقي و المعنى المجازي معا. و عموم المجاز يأباه المقام. و قد

ورد في الدعاء في خطاب اللّه «و لا تمكر بي في حيلتك»

بدون مزاوجة. و

في نهاية اللغة «و في حديث الدعاء اللهم امكر لي و لا تمكر بي».

و اما ما أسنده ابن بابويه عن الرضا (علیه السلام) من قوله ان اللّه لا يمكر و لكنه يجازي على المكر

فإن في سنده جهالة و إهمال و يمكن أن يريد نفي المكر بالمعنى الذي يساوق الخديعة لإيصال الضرر القبيح كما ذكرناه. و الا فإن عرض الرواية على ما ذكرناه من القرآن كما أمرنا به اهل البيت يوجب الوثوق بعدم صدورها عنهم عليهم السلام. هذا و لعل المراد من مكرهم ما يذكر من انهم قالوا لملكهم ان عيسى يطلب الملك لنفسه فوافقهم على صلبه و قتله. و المراد من مكر اللّه هو إلقاء شبه المسيح على غيره و رفعه الى السماء.

و في تفسير القمي مسندا عن الباقر (علیه السلام) ان المسيح قال لأصحابه أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب و يكون معي في درجتي فقال شاب أنا يا روح اللّه فقال فأنت هوذا. و نحوه في رواية الدر المنثور مما أخرجه عبد بن حميد و النسائي و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس.

و روى عن وهب بن منبه مما أخرجه عنه عبد بن حميد و ابن جرير ان الذي القى عليه شبه المسيح

ص: 287

و صلب هو الذي كان من أصحابه و أخذ من اليهود ثلاثين درهما فدلهم على المسيح ليقتلوه.

و نحوه في التفسير الذي أبطلنا نسبته للإمام العسكري (علیه السلام). كما حكى نحو ذلك في إنجيل برنابا و انه يهوذا الاسخريوطي. و اللّه العالم. و لعل السر في هذا التشبيه هو انه لو غيب عنهم المسيح و رفع إلى السماء في الخفاء لا تهموا اهله و المؤمنون به بإخفائه فعمهم البلاء و كثر فيهم القتل و التنكيل و فضيحة النساء طلبا لإظهاره. و لو رفع الى السماء ظاهرا بمرأى من الناس لاستحكمت شبهة ألوهيته و سرت حتى إلى بعض المؤمنين و اللّه خير الماكرين فإن مكره و تدبيره الخفي لا يكون إلا جاريا على الحكمة لا يفوته اللطف بالعباد

سورة آل عمران (3): الآيات 55 الى 56

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)

51 إِذْ ظرف لمكر اللّه قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي آخذك من بين الناس و من عالم الأرض و قد مضى الكلام على ذلك في الفصل الرابع من المقدّمة وَ رافِعُكَ إِلَيَّ قال جل شأنه (الي) و هو لا يحويه مكان و لا يخلو منه مكان تكريما للمسيح و تفخيما لغاية الرفع من الأرض التي فيها الكافرون و الفساق الى السماء الممحضة لتسبيح اللّه و تقديسه فكنى عن ذلك برفعه إلى اللّه وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اي من رجس قربهم و الابتلاء بمجاورتهم وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا اما النصارى فليسوا ممن اتبع المسيح كيف و قد أشركوا باللّه و ألهوا المسيح، و ثلثوا الآلهة و لم يبقوا لهم شريعة و أن أناجيلهم و كتبهم لتقول ان المسيح لم يبطل شريعة التوراة بل هم من بعده أبطلوها. و أن الذين اتبعوه على دين الحق ملة ابراهيم انما هم المؤمنون الموحدون حق التوحيد من قومه و من بعدهم المسلمون بدعوة رسول اللّه. و عبر بالماضي باعتبار المؤمنين من قومه فإن جنس الذين اتبعوه قد مضى له التحقق باعتبار بعضه فهم فوق الذين كفروا مستمرين على ذلك إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ بالحشر جميعا فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من التوحيد و الإيمان و شريعة الحق 52 فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ كما ابتلوا بذلك البلاء العظيم من القتل العام و الذلة الشاملة في

ص: 288

حادثة طيطوس و بقوا بعد ذلك للقتل و الجزية و ذلة المحكومية

سورة آل عمران (3): الآيات 57 الى 61

وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)

53 وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ اللّه و فيه التفات من التكلم في مقام الإرهاب بسطوته الى الغيبة في مقام ثقة المؤمنين بالجزاء أُجُورَهُمْ و ذلك اشرف الغايات وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 54 ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ بالوحي يا رسول اللّه مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ أي القرآن الْحَكِيمِ. و لما ذكر اللّه ولادة المسيح من مريم من غير فحل على خلاف العادة. و قد أثار الضلال من ذلك شبهتين بين الناس إحداهما تهمة اليهود لمريم و الثانية زعم النصارى انه ابن اللّه. فلذلك احتج على الفريقين بما يعرفونه و يعترفون به من خلقة آدم فما ذا يقول اليهود في آدم. و ماذا يقول النصارى فيه فقال جل و علا 55 إِنَّ مَثَلَ عِيسى في تصرف القدرة الإلهية بولادته بما هو بشر على خلاف العادة عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ و صوره مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ بشرا حيا فَيَكُونُ لم يقل جل شأنه «فكان» لأن الماضي لا يدل على لزوم ترتب الكون على ان يقال «كن» بل هو يعم الترتب اتفاقا بل هذا هو الظاهر و القدر المتيقن منه فجي ء بالمضارع ليدل على الملازمة و انه جلت قدرته إذا قال لشي ء كن فإنه يكون لا محالة 56 الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الاخبار بأحوال المسيح هو الحق من ربك فَلا تَكُنْ ايها السامع مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين. او يكون الخطاب لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) على النحو الذي ذكرناه في الآية الثانية و الأربعين بعد المائة من سورة البقرة 57 فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي في عيسى زاعما انه إله و ابن اللّه متشبثا بولادته من غير فحل.

و المحاجة تبادل الاحتجاج. و الحجة أعم من البرهان الصحيح و الجدل الفاسد كما أشرنا اليه في سورة البقرة 144 مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ المعقول و المحسوس و الموحى به من ان اللّه جل شأنه واحد لا يكون ثلاثة و لا شريك له في الإلهية و لا يلد. و ان البشر الجسماني المتحيز المتغير الذي يجوع و يتألم و يبكي و يحزن و يحتاج لا يعقل ان يكون إلها. و ان خلق اللّه للحيوان

ص: 289

و الإنسان لا يتوقف على التولد من ذكر و أنثى كما هو المعروف في الفار و الدجاج و تتم العبرة بخلق آدم فَقُلْ لهم قطعا للمعاذير و حسما لإصرارهم على الغي و الضلال بعد ما جئت به من الحق و الحجة القاطعة مما جاءك من العلم هلم الى المباهلة و الدعاء بأن يلعن اللّه الكاذبين في دعاويهم و يبطش بهم و يهلكهم و يخزيهم تَعالَوْا نَدْعُ أنا و أنتم لهذه المباهلة و عاقبتها المخوفة أهم من يحافظ الإنسان على سلامته و حفظ شرفه و صونه و مقامه في الحياة أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ و المقصود أهم من ينسب الى الشخص من النساء في مقام الاهلية و الرابطة العرضية اللازمة كالأم و الأخت و البنت دون الزوجة التي تدنو بكلمة التزويج و تبعد بكلمة الطلاق وَ أَنْفُسَنا أي و ندع أنفسنا و لا بد من أن يكون الداعي غير المدعو و المراد هو الشخص الذي يرى داعيه ان وجوده في الأثر و المزايا و الفضيلة و الغاية بمنزلة وجوده في ذلك أو اقرب الناس إلى مقام وجوده و ما يطلبه من غاية وجوده و بذلك يقول هذا نفسي بتنزيل صحيح و مجاز مقبول وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ نحن أو نحن و هم أي ندعو باللعن فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ و المراد نكاله و عقابه الدنيوي عَلَى الْكاذِبِينَ و قد اتفقت الرواية في شأن النزول ان نصارى نجران (1) وفد بعض من زعمائهم الروحانيين على رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في المدينة فاحتج (صلی الله علیه و آله) عليهم في أمر عيسى و انه بشر رسول من اللّه و ليس بإله كما يزعمون فلم ينيبوا الى الحق بدلالة الحجة النيرة فأمر اللّه رسوله أن يدعوهم الى المباهلة فدعاهم بمقتضى الآية الكريمة فقال بعضهم لبعض ان جاءنا بأهله و خاصته فهو على يقين من أمره فلا تباهلوه. فغدا (صلی الله علیه و آله) عليهم للميعاد و معه عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات اللّه و سلامه عليهم. و

في حديث مسلم و الترمذي و الحاكم و ابن المنذرم

ص: 290


1- نجران من مخاليف اليمن من ناحية مكة. و المخلاف في لغة اليمن كالكورة و الصقع في غيرها و كالرستاق في العراق. و ذكرت لتنصر أهلها اسباب لا يعول على نقلها و لا تلائم الحقيقة بصحتها. وفد اساقفتهم على رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فدعاهم الى المباهلة فلما صار الغد أبوا و صالحوه سنة عشرة من الهجرة و كتب لهم بذلك كتابا و يروى انه لما ولي ابو بكر أمضاه و لما ولي عمر اجلاهم و اشترى منهم أموالهم

و البيهقي عن سعد ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال اللهم ان هؤلاء أهل بيتي

فأبى أولئك أن يباهلوه و عاهدوه على الجزية. و في رواية ابن اسحق و الثعلبي و الكشاف و الرازي و أبي السعود و غيرهم في تفاسيرهم و المالكي في الفصول المهمة ان اسقف نجران قال اني لأرى وجوها لو سألوا اللّه ان يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا. و

في حديث جابر كما في مستدرك الحاكم و اسباب النزول للواحدي و غيرهما «أبناؤنا الحسن و الحسين. و نساؤنا فاطمة. و أنفسنا علي بن أبي طالب»

و في صواعق ابن حجر اخرج الدارقطني ان عليا (علیه السلام) يوم الشورى احتج على أهلها فقال أنشدكم باللّه هل فيكم أحد اقرب إلى رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في الرحم مني و من جعله نفسه و أبناءه أبناءه و نساءه نساءه غيري قالوا اللهم لا. الحديث

أقول و القدر المشترك في الأحاديث هو ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) دعا عليا و فاطمة و الحسن و الحسين (علیه السلام) ليباهل بهم نصارى نجران رواه الفريقان بأسانيدهم عن جماعة من الصحابة و التابعين و أئمة أهل البيت. ففي كتب اهل السنة أخرجه مسلم و الترمذي في جامعيهما و ابو نعيم في الدلائل و البيهقي في سننه و ابن أبي شيبة و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم في مستدركه و ابن مردويه و الثعلبي في تفسيره و الواحدي في اسباب النزول و ابن اسحق في المغازي و موفق بن احمد و ابن المغازلي و الحمويني و المالكي في فصوله و السيوطي في الدر المنثور و غيرهم بأسانيدهم عن سعد بن أبي وقاص و جابر و ابن عباس و عليا اليشكري وجد سلمة. و عن الشعبي و الحسن و السدي و مقاتل و الكلبي. بل ذكره جل المفسرين و قل ما يخلو من روايته كتاب تفسير.

و في كتب الشيعة

أخرجه القمي في تفسيره و المفيد في اختصاصه و الصدوق في العيون و الشيخ في اماليه عن علي امير المؤمنين (علیه السلام) و عن أبي ذر (رض) ان عليا (علیه السلام) احتج بذلك يوم الشورى. و سعد بن أبي وقاص و الحسن السبط (علیه السلام) وجد محمد بن المنكدر و الصادق و الكاظم و الرضا و الهادي عليهم السلام.

فهذا الحديث مروي بالأسانيد المتعددة عن تسعة من الصحابة و خمسة من التابعين و ستة من أئمة اهل البيت (علیه السلام): و نتيجة الآية الكريمة و الحديث القطعي هي ان اللّه عز و جل امر رسوله بأن يسمي علي نفسه ليبين للناس انه ثانيه من أمته في الفضيلة و الغاية الكريمة و الولاية العامة و الزعامة الكبرى و القيام بأمر الأمة و الدين و سياسته و الإمامة التي هي دعوة ابراهيم في قوله «و من ذريتي». و هل ترى غير الواجد لهذه المزايا يأمر اللّه رسوله بأن يسميه نفسه. ألا ترى انه لا يصح لأحد يعرف كيف يتكلم ان يقول

ص: 291

عن شخص آخر انه نفسي إلا إذا كان ذلك الشخص في نظر القائل ثانيه في مزاياه و الوجه المطلوب منه و ثقته في ذلك. و لعمر الحق ان هذا أمر جلي. و لقد تكرر من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بيان هذا المعنى المتجلي من قوله «و أنفسنا» كما امره اللّه و شرحه بعبارات متناسبة في الإيضاح و اقامة الحجة فهي «نور على نور»

كقوله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي

و قوله (صلی الله علیه و آله) في ذلك المشهد العظيم في غدير خم مخاطبا للمسلمين «ايها الناس أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» فلما قالوا اللهم بلى قال على النسق آخذا بضبع علي (علیه السلام) «من كنت مولاه فهذا علي مولاه»

و غير ذلك مما يضيق عنه هذا المقام. و هو مدون في كتب الفريقين كالشمس رأد الضحى. هذا و ان ابن تيمية في كتاب منهاج السنة قد اعترف بصحة الحديث الدال على ان نفس رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في الآية هو علي (علیه السلام) و لكن حاول ان يمنع ما أشرنا الى وجهه الوضاح من الدلالة على امتياز امير المؤمنين بالفضيلة و مقام الإمامة في الأمة و الزعامة الكبرى فقال ما ملخصه ان المراد بالأنفس في الآية هو من يتصل بالقرابة و القومية و استشهد لذلك بقوله تعالى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ. فقل له ان اضافة النفس قد تقع باعتبار نوع من الرابطة كالقرابة و الجامعة القومية. فيقال أنفسكم و أنفسهم كما يقال رجالكم و رجالهم و انفس البلدة و المملكة. و لكن هل يخفى ان النفس إذا جعلت مقابلة للأقرباء بل اقرب الأقرباء كما في الآية و في قوله تعالى في سورة التحريم 6 قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً و في سورتي الزمر 17 و الشورى 43 الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ فلا تكون النفس مستعملة إلا على وجه الحقيقة في نفس الإنسان الذي أضيفت اليه كما في آيات التحريم و الزمر و الشورى. او على وجه المجاز و الاستعارة لمن ينزل بما أشرنا اليه من وجوه الشبه بحسب كل انسان بمنزلة نفس الإنسان الخاصة به كما في هذه الآية لما ذكرناه من الدعوة و الرواية الصحيحة المستفيضة المتفق عليها. و من الظرائف ان ابن تيمية فطن إلى انه لو كان التعبير بالنفس ناظرا إلى القرابة لدعي العباس عم الرسول و أولاده و أمثالهم من بني هاشم فإنهم كانوا مسلمين مهاجرين في المدينة لأن وفد نجران جاء في السنة العاشرة أو التاسعة من الهجرة و لأجل ما فطن له قال في التخلص منه لأن العباس لم يكن من السابقين و لا كان له اختصاص بالرسول كعلي و اما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي انتهى فانظر إلى اضطراب هذا الرجل فإنه

ص: 292

بعد الاطناب في المغالطة و الغفلة عن مقابلة النفس بأقرب الأقرباء رجع إلى الاعتراف بأن المقام مقام امتياز في الفضل الديني و كرامة المقام الأرفع بحيث يناسب ان يأمر اللّه رسوله بأن يعبر عن علي لأجل ذلك بأنه نفسه. و لا يخفى ان هذا ليدل على أقصى ما تسعه الاستعارة و وجه المجاز في التفوق بالكمال و الولاية العامة بعد ما يختص بالرسالة تفوقا تلزمه الإمامة بعد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و ما عشت أراك الدهر عجبا فإن الشيخ محمد عبده مع تظاهره و رغبته بأن يعرف بحرية الضمير و النزعة. و نزاهة البحث كأنه التفت الى حقيقة النتيجة من الآية الكريمة و الحديث و فطن الى ما يرد على شيخه ابن تيمية فيما قاله فأراد ان يسد بابا فتحه اللّه و رسوله على مصراعيه فقال في درسه على ما ذكره صاحب المنار في تفسيره. ان الروايات متفقة على ان النبي (صلی الله علیه و آله) اختار للمباهلة عليا و فاطمة و ولديها و يحملون كلمة نسائنا على فاطمة و كلمة أنفسنا على علي فقط و مصادر هذه الروايات الشيعة و مقصدهم منها معروف و قد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من اهل السنة و لكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة «نسائنا» لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له ازواج و ابعد من ذلك ان يراد بكلمة «و أنفسنا» علي (علیه السلام) أقول لماذا لا يقول العربي نساءنا نظرا إلى الجنس و مجانسة الجمع بالجمع في اللفظ و هو يريد بها بنته لأن ذلك أقرب إلى الحشمة من التصريح بابنته أو لغير ذلك من وجوه الكلام و هل يقول ان النساء لا تطلق إلا على الأزواج. إذن فما ذا يقول بقول القرآن الكريم فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ. وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ. أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ.

وَ لا نِسائِهِنَّ. و كثير من مثل ذلك و لا حاجة إلى الاستشهاد بشعر العرب. و مما أشرنا اليه من وجوه الكلام هو بيان ان فاطمة (علیه السلام) هي الممتازة الوحيدة من ناحية الرسول من عنوان نساء الأهلين في فضيلتها و اهميتها و لياقتها لهذا المقام و قد صح و استفاض عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان فاطمة سيدة نساء العالمين كما أشرنا اليه في تفسير الآية الأربعين. و كذا الكلام في التعبير بأنفسنا و ارادة علي (علیه السلام) وحده

و قد صح و استفاض عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قوله لعلي (علیه السلام) أنت مني و انا منك كما رواه البخاري و مسلم عن البراء و الحاكم عن علي (علیه السلام) و الترمذي و الحاكم عن عمران بن حصين. و احمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجه عن حبشي بن جنادة.

و احمد و الحاكم عن بريده و أبي رافع و ابن أبي شيبة و ابن جرير عن بريدة.

و انه (صلی الله علیه و آله) جعل

ص: 293

عليا كنفسه كما رواه احمد عن عبد اللّه بن حنطب من قوله (صلی الله علیه و آله) لوفد ثقيف.

و ما أخرجه ابن النجار من ان ابن العاص سأل النبي (صلی الله علیه و آله) عن حبه لعلي (علیه السلام) فقال ان هذا يسألني عن النفس.

و في اللئالئ المصنوعة عن ابن النجار ايضا عنه بسند آخر قال (صلی الله علیه و آله) علي نفسي فمن رأيته يقول في نفسه شيئا.

و عن أبي عمر الزاهد في كتاب اليواقيت عنه ايضا بسند آخر فقال (صلی الله علیه و آله) ما ظننت أحدا يسأل عن نفسه.

لكن إذا ذكرنا هذه الروايات و أمثالها قيل ان مصادرها الشيعة و مقصدهم منها معروف إلى آخر الكلام المتقدم و يحكم اللّه و هو خير الحاكمين ..

و قد جاء الجمع و ارادة الواحد منه في القرآن الكريم. أ فلا يكفي من ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ و نحوه كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ. الى آخره. كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ. إلى آخره. كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ.

إلى آخره. كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ. إلى آخره. و المراد من المرسلين في كل من الآيات هو واحد.

و من أين لنا أن يروى أحاديث المباهلة و أمثالها في فضل علي و أهل البيت مسندة الى عصرنا عن أمثال عمران بن حطان، و لمازة بن زياد، و عبد اللّه بن شقيق، و نعيم بن هند و جرير بن عثمان، و أزهر بن عبد اللّه، و ابراهيم السعدي، و أمثالهم ممن شهد علماء رجالهم بنصبهم العداوة لأهل البيت (علیه السلام) و إن تساهل في امر أحدهم بعض كابن حجر في التقريب قال فيه «يرمى بالنصب»- و ليت شعري ماذا أبقى هذا الشيخ من الشأن لحديثهم و جوامعهم و محدثيهم و تفاسيرهم و مفسريهم إذا كان يروج على عامتهم مثل ما زعمه من الوضع

سورة آل عمران (3): آية 62

إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)

57 إِنَّ هذا و هو ما ذكر من ولادة عيسى و خلق اللّه له و اعترافه بأن معجزاته إنما هي بإذن اللّه و ان اللّه ربه و رب الناس. و أمره بعبادة اللّه. و غير ذلك مما يدل على ان عيسى بشر مخلوق للّه و أمره بيده و طوع قدرته لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ و الذي يعترف النصارى به و تذكره كتبهم التي ينسبونها الى الوحي وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ و اين المسيح عيسى من الإلهية و قد جرى عليه من الاضطهاد ما جرى. و لم يزل يفزع بالدعاء و الخضوع و التضرع الى اللّه وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ

ص: 294

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ في إلهيته و تقديره و تدبيره. و كل من عداه ذليل في مخلوقيته و حاجته فكيف يكون غير اللّه إلها معه

سورة آل عمران (3): الآيات 63 الى 64

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

58 فَإِنْ تَوَلَّوْا عن تصديقك و اتباع الحق فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي فإنهم مفسدون يريدون إغواء الناس و اضلالهم إفسادا في الأرض و اللّه عليم بهم يجزيهم جزاءهم 59 قُلْ يا رسول اللّه يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أي مستوية بيننا و بينكم في تلاوتنا جميعا لها فيما هو من كتب الوحي او ينسب الى الوحي كما يوجد في توراتكم و أناجيلكم و سائر كتبكم التي تنسبونها الى الوحي من توحيد اللّه و انه هو الإله و الرب المدبر لخلقه وحده لا شريك له. و من جملة ذلك في توراتكم عن قول اللّه «لتعلم ان يهوه (1) هو الإله ليس آخر سواه- ان يهوه هو الإله في السماء من فوق و على الأرض من أسفل ليس سواه (1)» «انا أنا هو و ليس إله معي (1)» و نحوه في التوحيد و نفي الشريك في المزمور الثامن عشر 31 و في كتاب اشعيا 44: 6 و 8. و في سفر التثنية من التوراة 6: 4 و في إنجيل مرقس 12: 29 يهوه إلهنا يهوه واحد. و في إنجيل يوحنا 17: 3 و هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك انك أنت الإله الحقيقي وحدك و يسوع المسيح الذي أرسلته- و هذه الكلمة هي أن لا نخضع خضوع العبد لإلهه من حيث انه إله كما هو معنى العبادة و أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وحده وَ لا نُشْرِكَ بِهِ في العبادة و نسبة الإلهية شَيْئاً و لا نقول لشي ء غير اللّه انه إله وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا معاشر البشر بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فان اللّه إذا قال أنا هو الرب و الرب واحد. فإن قولكم ان البشر رب كما قلتم في عيسى يرجع الى جحد ربوبية اللّه و يكون جعلا للبشر الحادث و الخاضع للآلام و حاجة البشرية و كوارثها ربا من دون اللّه. او يكون المعنى أربابا في المرتبة النازلة عن مرتبة اللّه كما هو رأي الوثنيين في شركائهم بأي عنوان كان من التنزلات الموهومة. و لا مانع من ان يخاطب اليهود، و النصارى بأمر مشترك بينهم و في

ص: 295


1- يهوه في العبرانية اسم علم للّه جل اسمه كما تصرح به التوراة في سفر الخروج 3: 15 و 6: 3

الأثناء يذكر ما يخص النصارى. أو ان ذلك شامل لليهود باعتبار قولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. كما في سورة التوبة. و الظاهر ان المراد يضاهون قول البراهمة و البوذيين و غيرهم في نسبة الابن الى اللّه باعتبار التنزل في الإلهية.

و ربما يكون اتخاذ الأرباب هنا على حد قوله تعالى في سورة التوبة 31 اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ

ففي الكافي و المحاسن عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه الصادق (علیه السلام) انهم أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون. و عن المحاسن ايضا عن الصادق (علیه السلام) نحوه. و نحوه ما أخرجه الترمذي و جماعة ذكرهم في الدر المنثور في سورة التوبة عن عدي بن حاتم عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و عن جماعة ايضا عن حذيفة

و عن المحاسن و ايضا بسند فيه إرسال عن الباقر (علیه السلام) ما صلوا لهم و لا صاموا و لكن أطاعوهم في معصية اللّه. و في الدر المنثور ايضا اخرج ابو الشيخ و البيهقي عن حذيفة و ذكر نحوه. و عن العياشي برواياته عن الصادق و الباقر (علیه السلام) نحو ما ذكرناه عنهما (علیه السلام).

و في مجمع البيان عن تفسير الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم في آية التوبة قلت أي لرسول اللّه انا لسنا نعبدهم فقال (صلی الله علیه و آله) أليس يحرمون ما أحله اللّه فتحرمونه و يحلون ما حرمه اللّه فتستحلونه قلت بلى قال (صلی الله علیه و آله) فتلك عبادتهم.

و قيل «كَلِمَةٍ سَواءٍ» أي عادلة و ما ذكرناه ابلغ في الدعوة و اظهر في الحجة. لاستظهارها بالالزام بما في كتبهم و اشارتها الى ان الاستواء في هذه الكلمة يشير الى انها من أساسيات كتبهم و أوليات العقل و لباب المعقول، و بينات البداهة فَإِنْ تَوَلَّوْا بسوء اختيارهم و غيهم و لم يقبلوا على هذه الدعوة الوحيدة في الكرامة فَقُولُوا لهم أنت يا رسول اللّه و المسلمون اشْهَدُوا و اعلموا مما تشاهدونه من حالنا في التوحيد و اشهدوا علينا تثبيتا لاعترافنا بالحق و انا على بصيرة من أمرنا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ للّه لا نحادّه بالشرك و لا نتخذ غيره ربا

سورة آل عمران (3): آية 65

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65)

60 يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ و يزعم اليهود انه يهودي و يزعم النصارى انه نصراني، و تتشبثون في حجتكم الداحضة بمجرد الدعاوي المستحيلة. و الحال ان غاية التشبثات لليهودية ترجعونها الى رسالة موسى و نزول التوراة عليه. و غاية التشبثات للنصرانية ترجعونها الى رسالة المسيح و نزول الإنجيل فضلا عن ان الرائج من اليهودية و النصرانية إنما هو من البدع التي حدثت بعد موسى

ص: 296

و التوراة و المسيح و الإنجيل. و أين ذلك من ابراهيم وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ بقرون عديدة أَ فَلا تَعْقِلُونَ كيف تتكلمون و كيف تدعون

سورة آل عمران (3): الآيات 66 الى 69

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69)

61 ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ بعينكم أي لا أوجه الخطاب و التوبيخ إليكم باعتبار ما فعله اسلافكم بل أنتم بأنفسكم حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي أخذتم في محاجتكم أمورا معلومة فصرتم تغالطون فيها و تتشبثون بها و ذلك كرسالة موسى و التوراة فصرتم تلصقون بها مزاعمكم الفاسدة. و كولادة عيسى من غير فحل و بعض معجزاته فصارت النصارى تزعم من ذلك ان عيسى المولود من مريم إله مع اللّه فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ بل هو من المستحيلات بلا مغالطة فيه بالتشبث الواهي بأمر معلوم وَ اللَّهُ يَعْلَمُ حالكم و الحقيقة واضحة وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 62 ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا يقول في الإله (الوهيم) بصيغة الجمع كما ملأوا منه توراتهم الرائجة. و كما كتبوا في كتاب ارميا 23:

36 الوهيم حييتم يهوه صيباؤت الوهينو» أي الآلهة الاحياء رب الجنود آلهتنا. و لا يقول بفلتات توراتهم في الجرأة على جلال اللّه. كما في نهي آدم عن الشجرة و حكاية برج بابل و مصارعة يعقوب و غير ذلك مما ذكر بعضه في الجزء الأول من «المدرسة السيارة» وَ لا نَصْرانِيًّا يثلث الآلهة و يأله البشر و ينسخ الشريعة بالكلية بمجرد الاستحسان وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً موحدا بحقيقة التوحيد مُسْلِماً أي داخلا في سلم اللّه في توحيده و حقيقة عرفانه و طاعته وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 63 إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ على حنيفيته و إسلامه و ملته في الدين من الأنبياء و الموحدين الصالحين من الناس وَ على الخصوص هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا معه فإن هذا النبي من اكبر الداعين الى الإسلام ملة ابراهيم على حقيقتها وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ 64 وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ودت بمعنى تمنت. و لو يضلونكم تفسير لها. و الاستقبال

ص: 297

إنما هو بالنسبة للتمني لا للخطاب وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ يزيد على ضلالها بضلالها في محاولة إضلال المؤمن الموحد على بصيرة من أمره

سورة آل عمران (3): الآيات 70 الى 73

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)

وَ ما يَشْعُرُونَ 67 يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بأنها من اللّه بحسب ما تتلونه من كتب وحيكم من التوراة و الإنجيل و غيرهما في البشرى بها و بالرسول الذي يأتي بها بحيث يتعين مما تتلونه ارادة هذه الآيات بخصوصها أو المراد و أنتم تشهدون و تعاينون ما يدل على انها من اللّه 68 يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تجعلون الباطل لباسا على الحق تغطونه به محاولة لحجبه و مخادعة في أمره لتموهوا أمركم وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ به 69 وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الظاهر انهم من اليهود قالوا لبعض قومهم تعليما لهم بمخادعة المؤمنين في محاولة اضلالهم عن الحق آمِنُوا أي تظاهروا بالإيمان الصوري بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ أي في أوائله وَ اكْفُرُوا أي و صارحوهم بالكفر و الارتداد آخِرَهُ فلعل المسلمين من هذه المخادعة يحسبون ان كفركم به و ارتدادكم في يومكم كان عن بصيرة و علم منكم بانكشاف خطأكم في إيمانكم به وجه النهار و لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بهذه الخديعة عن إيمانهم و يرتدون عن دينهم، روى القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن الباقر (علیه السلام) في هذا المقام رواية ضعيفة بأبي الجارود بعيدة الانطباق على الآية و قالت تلك الطائفة ايضا لقومهم في اغوائهم و اغرائهم بالدوام على الضلال و كتمان الحق 70 وَ لا تُؤْمِنُوا أي و لا تبدوا إيمانكم بما في كتب وحيكم من ان اللّه يؤتي النبوة و الوحي نبيا مثل موسى بنحو يتعين منه نبي المسلمين و لا تعترفوا بذلك إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ و كان منكم فإنه يخفيه كما نخفيه قُلْ لهم يا رسول اللّه أ تحسبون ان الهدى الى الحق منوط في حصوله و عدمه باعترافكم بما في توراتكم و كتبكم و اظهاركم الايمان كلا بل إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ يهدي من يشاء بلطفه ممن لم يتعصب على الحق الى سواء السبيل

ص: 298

و جملة «قل ان الهدى»، معترضة في أثناء كلامهم في الإغواء جيئ بها للتعجيل في تقريعهم و تسفيه رأيهم في غوايتهم أَنْ يُؤْتى اي و لا تؤمنوا لغير من اتبع دينكم بان يؤتى أَحَدٌ من غيركم مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ باعتبار انبيائكم و كتبكم من النبوة و الرسالة و الكتاب و الشريعة و يكون على وفق ما طلبتموه من موسى فأخبركم بان يقيم نبيا من إخوتكم بني إسماعيل كموسى و يجعل كلامه في فيه أَوْ تؤمنوا لهم بأنهم يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ بما أخبركم به في شأن رسول اللّه و قرآنه كلام اللّه و ان لهم عليكم الحجة عند اللّه بما تعرفونه من الحق (1) او ان المعنى قل ان الهدى هدى اللّه بان يؤتي احد الى آخره فتكون جملة ان يؤتى متعلقة بما امر اللّه رسوله ان يقوله لهم و على هذا يكون قوله تعالى قل ان الفضل تكرر للأمر بالقول بدون توسط كلام اجنبي يقتضيه و الأظهر هو الوجه الأول. و قد نقل في التبيان و مجمع البيان و جهان آخران لا اعتداد بهما قُلْ يا رسول اللّه في تسفيه رأيهم فيما قالوه و تواصوا إِنَّ الْفَضْلَ و منه الرسالة و الشريعة و التوفيق لاجابة الدعوة إليهما و نصرة الدعوة و إعلاء كلمتها و ظهور الهدى و فلج الحجة و شوكة دين الحق و انتظام جامعته بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ في فضله و لطفه و رحمته و قدرته عَلِيمٌ بمن هو اهل للرسالة و إيتاء الفضل

سورة آل عمران (3): الآيات 74 الى 75

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)

71 يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ بالفضل و الهدى مَنْ يَشاءُ اختصاصه بذلك من عباده لاهليته لذلك وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 72 وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ مر تفسير القنطار في الآية الثانية عشرة يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ تمسكا بحكم العقل و الفطرة بقبح الخيانة في الأمانة فإن قبولها عهد بحفظها و ردّها و قد نهت شريعة الحق عن الخيانة فيها وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ و هو مثقال شرعي من الذهب يساوي نحو نصف ليرة عثمانية لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً في المطالبة و الحجة و القوة ذلِكَ اي خيانتهم للأمانة بِأَنَّهُمْ في مزاعم ضلالهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ في الإثم و حرمة أموالهم

ص: 299


1- و قد مضى فى شأنهم مثل هذا المعنى في سورة البقرة 71

قيل ان المراد من الأميين نوع العرب باعتبار ان الغالب منهم لا يقرءون و لا يكتبون.

و يحتمل ان يراد منهم من عدى بني إسرائيل فإنهم ينسبونهم الى الأمة و الأمم. و يحتمل ان يريدوا اتباع رسول اللّه الامي. و لعلهم يغالطون لنفي السبيل بما في توراتهم من انها نهتهم عن الانتقام و الحقد على أبناء شعبهم. و عن السعي و الوشاية بين أبناء شعبهم. و عن شهادة الزور على قريبهم. فيزعمون من ذلك ان غير الاسرائيلي مهدور الحرمة في الأحكام الاجتماعية العقلية و من ذلك أداء الأمانة وَ يَقُولُونَ في نفي السبيل و خيانة الأمانة عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ انه كذب منهم. فإنهم مع حكم العقل يقرءون مما بقي في شريعة الحق في توراتهم ان الأمانة يجب ردها مطلقا. و ان جحد الأمانة و الوديعة خطيئة و ذنب. و انهم منهيون عن السرقة و الكذب و الغدر من دون حصر لهذه الأحكام بالإسرائيلي. كما في الفصل السادس و التاسع عشر من سفر اللاويين

سورة آل عمران (3): الآيات 76 الى 77

بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)

72 بَلى عليهم في الأميين سبيل و هم مسؤلون عن الأمانة و الوفاء بعهدها. و ما أحسن الوفاء بالعهد مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ في كتب اللغة أوفى بمعنى وفى.

أقول و المستعمل في القرآن الكريم هو أوفى. و أوفى. و أوف. و أوفوا و الموفون، و كلها من أوفى و الظاهر ان الضمير في عهده يعود الى الموصول «من» و قيل يرجع الى لفظ الجلالة من قوله تعالى وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. و هو بعيد مع ان قبول الأمانة لا يتضمن عهدا مع اللّه و إنما يتضمن عهدا مع صاحبها. و ان نفس الوفاء بالعهد محبوب للّه و لكن ما كل من أوفى بعهده محبوب للّه، بل من أوفى وَ اتَّقى اللّه أي اتقى غضبه و عقابه بالأعمال الصالحة و طاعته في أوامره و نواهيه و كانت له التقوى ملكة و مذهبا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين ديدنهم المحاذرة من ان يعرض اللّه بوجهه الكريم عنهم و العياذ باللّه 73 إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي بعهدهم مع اللّه وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً يتعلق الاشتراء بالثمن كما يتعلق بالمبيع. و الثمن في الحقيقة احد المبيعين و العوضين قَلِيلًا مهما كان مما تحملهم اهواؤهم لأجله على الحنث و نقض العهد أُولئِكَ لا خَلاقَ أي لا نصيب و لا حظ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ لعله كناية عن مقته لهم

ص: 300

و سخطه عليهم وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يعطف عليهم برحمته وَ لا يُزَكِّيهِمْ بالعفو و المغفرة

سورة آل عمران (3): الآيات 78 الى 79

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 74 وَ إِنَّ مِنْهُمْ أي من اهل الكتاب لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ زيادة على ما نابه من التحريف أي يفتلون ألسنتهم و يحرفونها في قراءتهم الى ما ليس فيه لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ نوع الْكِتابِ مطلقا بل هو زيادة و تحريف جديد منهم وَ يَقُولُونَ في غلوائهم في الضلال و الكذب على اللّه فيما لووا اليه ألسنتهم بالكذب منهم هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ انه كذب منهم و افتراء على اللّه 75 ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يرسله اللّه هاديا لعباده الى الحق و يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ في مجمع البيان أي العلم و في الكشاف الحكمة. و لكن كل منهما بعيد عن اللفظ. فالظاهر انه سيطرة الرسالة و الدعوة و الإرشاد وَ النُّبُوَّةَ في بيان الحقائق ثُمَّ بعد هذا كله يَقُولَ ذلك المبشر الرسول لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي و مما يدل عليه هذه الآية أمور ثلاثة- الأول- ان البشر المتكون في الرحم تدريجا جمادا بلا روح. ثم تتعلق به الروح. ثم يولد ضعيفا فقيرا في جميع أحواله لا علم له. ثم يتدرج في المعرفة و الخروج من الجهل و مشابهة البهائم شيئا فشيئا. و يعيش على فقره و ضعفه في جميع أموره يتألم و يجوع، و يعطش و يحزن و يخاف و يضطهد. هذا كيف يعقل و كيف يتوهم المتوهم أن يكون إلها واجب الوجود خالقا- الثاني- انه و إن اتفق لبعض البشر الناقصين أن يطغى بفساده و نقصه و يدعي الإلهية و يدعو الناس الى عبادته. و لكن ليس من السائغ و الممكن في المعقول أن يكون البشر الموصوف في الآية يدعو الناس الى عبادته و يدعي الربوبية و الإلهية.

فإن اللّه هو الحكيم العليم بما يكون من عباده. فكيف و هو القدوس يخالف حكمته و علمه و يؤتي الكتاب و الحكم و النبوة لمن يعلم انه يدعو الى الشرك تعالى عن ذلك- الثالث- الإخبار بأن ذلك لم يقع و لا يقع لأنه من المستحيل على جلال اللّه. فتكون الآية

ص: 301

الكريمة دالة ببرهانها الواضح على بطلان دعوى من ادعى الإلهية و الربوبية للبشر. و بطلان الدعوة إلى عبادة البشر وردا و توبيخا على ذلك. و هذا كله بعمومه شامل للنصارى و يكون ردا و تكذيبا لهم فيما ينسبونه إلى المسيح في إنجيل يوحنا 10: 33- 36 من انه ادعى الإلهية و استشهد بالعدد السادس من المزمور الثاني و الثمانين. و ما ينسبونه أيضا في اناجيل متى 22:

41- 46 و مرقس 13 (35- 38 و لوقا 20: 41- 45 من انه ادعى الربوبية محتجا بقول داود في أول المزمور العاشر بعد المائة «قال الرب لربي» مع ان في الاستشهاد تحريفا معنويا ظاهرا و في الاحتجاج الثاني تحريف لفظي لما في المزامير العبرانية فإن ترجمته الصحيحة «قال اللّه لسيدي» و ماذا تنفع المزامير إذا ذكرت مستحيلا في المعقول لا ينطلي على العارف باللّه و قد ذكرنا من ذلك شيئا في الجزء الأول من كتاب «الهدى» صفحة 115 و 116 و 198 و الجزء الأول من «المدرسة السيارة» صفحة 73 من الطبعة الثانية. و تكون الآية ايضا توبيخا لهم على تناقضهم في قولهم ان المسيح بشر آتاه اللّه الكتاب و الحكمة و النبوة و تعمد أي اغتسل على يد يحيى بن زكريا غسل التوبة و نزل عليه الروح بشكل حمامة كما تصرح بهذا كله أناجيلهم.

و قولهم انه «و حاشاه» ادعى الإلهية و الربوبية. و معنى ذلك دعوة الناس لأن يكونوا عبادا له مِنْ دُونِ اللَّهِ فإن دعوة البشر إلى عبادته جحد في الحقيقة لمقام الإلهية و تحويل لواجب اللّه من العبادة له إلى غيره من البشر وَ لكِنْ البشر المنوه بفضيلته في الآية يقول للناس كُونُوا رَبَّانِيِّينَ في النهاية الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف و النون للمبالغة. و في التبيان و القاموس و النهاية كما يقال دم بحراني منسوب إلى البحر و هو قعر الرحم أو البحر المعروف لسعته. و كما يقال رقباني لعظيم الرقبة كما في التبيان و القاموس و لحياني لعظيم اللحية و لعله إلى هذا يرجع تفسير الربانيين بالعلماء الفقهاء او الحكماء الأتقياء او الحكماء العلماء و فسرت هذه الكلمة ايضا بمدبري امر الناس في الولاية بالإصلاح كربان السفينة أخذا من الربان الذي يرب امر الناس بتدبيره له و إصلاحه إياه. و يدفع هذا الأخير أولا ان مقتضاه ان يقال ربانين بلا نسبة «و ثانيا» ان الرسول لا يقول لكل الناس كونوا مدبرين لأمر الناس في الولاية بالإصلاح بل ان مقام الولاية بالإصلاح و التدبير انما يكون لآحاد مخصوصين من الناس و سوق الآية

ص: 302

لا يناسب التخصيص. و التفاسير المتقدمة لم ينظر فيها الى اللفظ و انما أخذت من مخايل معناه فالرباني هو المتعلق في أحواله و معارفه و اعماله بالانتساب الى اللّه مولاه رب العالمين فيما يحبه و يرضاه و هذا هو الجامع لدعوة الرسول للناس و إصلاحها بِما كُنْتُمْ اي بمقتضي ما كنتم تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ في الدين و تعاليم الوحي

سورة آل عمران (3): الآيات 80 الى 81

وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

76 وَ لا يَأْمُرَكُمْ عطف على يقول للناس المنفي بمفاد «ما كان» أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً من دون الله فإنه كفر باللّه أَ يَأْمُرُكُمْ و كيف يأمركم بِالْكُفْرِ و يدعوكم اليه بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ داخلون في سلم اللّه بالإيمان به و توحيده. و هو رسول اللّه العليم الحكيم و الداعي إلى اللّه فكيف يصدر منه ما يحيله العقل على رسل اللّه و أنبيائه 77 وَ إِذْ و اذكر في الكتاب. او تكون «إذ» ظرفا لقوله تعالى فيما بعد «قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ» أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ في الآية وجهان و روايتان- أحدهما- ان يكون الميثاق للنبيين على قومهم كما تقول إذا عاهدت اللّه اني قد جعلت علي عهد اللّه و ميثاقه. و يكون الميثاق للنبيين باعتبار تبليغه لأممهم و توثيقه عليهم و ان كان اللّه آخذه بوحيه و امره للنبيين بأخذه على قومهم.

ففي التبيان روى عن أبي عبد اللّه يعني الصادق (علیه السلام) انه قال (علیه السلام) تقديره و إذا أخذ اللّه ميثاق امم النبيين بتصديق نبيها و العمل بما جاء به و انهم خالفوهم فيما بعد و ما وفوا به و تركوا كثيرا من شريعته و حرفوا كثيرا منها و كذا في مجمع البيان.

و في تفسير صاحب المنار عن الصادق (علیه السلام) هو على حد قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فالخطاب للنبي و المراد أمته عامة. ثم ذكر عن شيخه محمد عبده نسبة ذلك إلى الصادق. أقول و لم أجد الرواية في العاجل مسندة. نعم في تفسير البرهان عن العياشي عن حبيب السجستاني عن الباقر (علیه السلام) ما يرجع إلى نحو ما ذكر في التبيان روايته.

و في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس ان اصحاب عبد اللّه (يعني ابن مسعود) يقرءون و إذا أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب و نحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس انما أخذ اللّه ميثاق النبيين على قومهم. و

اخرج ابن

ص: 303

جرير عن علي امير المؤمنين (علیه السلام) في قوله تعالى قالَ فَاشْهَدُوا يقول فاشهدوا على أممكم بذلك و أنا معكم من الشاهدين.

و على هذا يكون الخطاب فيما بعد للأمم «و ثانيهما» أخذ الميثاق من النبيين و يكون الخطاب فيما بعد لهم كما هو مؤدى تفسير القمي و روايته عن الصادق (علیه السلام). و نحوها رواية البرهان عن سعد بن عبد اللّه عن الصادق «ع» و عن صاحب كتاب الواحدة عن الباقر «ع». و رواية ابن جرير عن علي «ع» ايضا. و رواية ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس ايضا. و عليه يكون الخطاب فيما بعد للنبيين و الترجيح بعد تدافع الروايات و النظر الى سوق الآية الكريمة انما هو للوجه الأول. و الميثاق هو العهد الموثق. و هو كالنذر و القسم في دخول اللام على جوابه تقول عاهدت اللّه لئن كان كذا لأفعلن كذا. و نذرت أو للّه علي او حلفت أو أقسمت أو و اللّه لئن كان كذا لأفعلن كذا. و اللام الأولى كالثانية في كونها لتلقي القسم و نحوه بالجواب يؤتى بها مع الشرط تثبيتا لدخول الشرط في حيز القسم و العهد و تقوية لتلقيهما بالجواب لأن الشرط قيد الجواب و من متعلقاته كقوله تعالى في سورة التوبة 76 وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ. كما جرى ذلك في القرآن الكريم في العهد و القسم الظاهرين و المقدرين و من ذلك أَقْسَمُوا بِاللَّهِ في نحو خمسين موردا. و يشبه دخول هذه الأولى على الشرط لتقوية الربط دخول همزة الاستفهام الافكاري على الشرط مع ان المستنكر عند الكفار بالبعث إنما هو جواب الشرط كما في سورة الاسراء 52 أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً و نحوه الآية المائة و غير ذلك. و قد يكتفى باللام الأولى عن الثانية كقوله تعالى في سورة الحشر 12 لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ فإنها لام القسم و مما يدل على ذلك قوله تعالى وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ كما يكتفى بدخول همزة الاستفهام على الشرط مع ان المستنكر هو جوابه كقوله تعالى في سورة مريم 67 وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا. و قد يكتفى باللام الثانية كقوله تعالى في سورة المائدة 77 وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هذا و ان الذي أخذ به الميثاق هو قوله تعالى لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ و الصحيح ان اللام الأولى هي التي تدخل على اداة

ص: 304

الشرط لتلقي الميثاق و «ما» شرطية نحو قوله تعالى في سورة الأعراف 17 لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي كلما اتيتكم يا امم النبيين من كتاب يبشر بالنبوة اللاحقة و حكمة تعرفون بها حكمة إرسال الرسول و دلائل صدقه و صرتم بذلك على بصيرة من الرسالة اللاحقة ثم جاءكم بعد هذا رسول دلت الدلائل على صدقه في دعواه الرسالة من اللّه و هو مصدق لما معكم من البشرى اي يكون مصداقها الذي تصدق به باعتبار انطباقها التام عليه و وضوح الدلالة على رسالته. او مصدقا لما معكم من معارف الإلهية و التوحيد و نبوة الأنبياء الكرام. فلا تمتنع رسالته كما هو الغالب في دعاة الضلال إذ يخالفون دين الحق فيما يرجع إلى الإلهية و التوحيد و المعاد. و الميثاق في الآية هو قوله تعالى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ أي ذلك الرسول. هذا:

و قيل ان اللام في «لما» للابتداء و «ما» موصولة لا اداة شرط و هو مبتدأ و خبره لتؤمنن به و يدفعه- أولا- ان الميثاق كالقسم مما يعتنى بربطه بالجواب و تلقيه بروابط القسم فلا ينقض هذا الغرض بلام الابتداء التي لها الصدر في الكلام و لا يجمع بين المتنافرين و هما ربط العهد و تلقيه مع قطعه بلام الابتداء- و ثانيا- ان الإيمان بما أوتوه من كتاب و حكمة يجب من أول ما يجيئهم به نبيهم إذن فلا معنى لترتبه بثم على مجي ء رسول آخر. و كذا الكلام في «لتنصرنه» ان أعيد ضميره على ما أوتوا من كتاب و حكمة- و ثالثا- لا يصح افراد الضمير في الخبر إلا إذا كان المراد بالكتاب و الحكمة شي ء واحد و هو بعيد و إلا فاللازم تثنية الضمير- و رابعا- إذا جعلنا «لتؤمنن» خبرا لقوله تعالى لَما آتَيْتُكُمْ و كذا «لتنصرنه» فما هي اللام فيهما فإنها حينئذ لا تصلح ان تكون رابطة لجواب العهد و الميثاق و لا مزحلقة لأن المزحلقة مختصة بخبر «ان» و- خامسا- لو قيل ان مساق الآية هو للذي آتيتكم من كتاب و حكمة لتؤمنن به ثم ان جاءكم رسول لتنصرنه فتكون جملة جاءكم و ما بعدها فرد آخر من جنس الميثاق المأخوذ لقلنا- أولا- من أين لنا بالشرط في «ثم ان جاءكم» و ليس هناك على قولكم شرط معطوف عليه- و ثانيا- ان القرآن الكريم يجل عن مثل ما تفرضون من الكلام المعقد و المتداخل الأجزاء تداخلا يهون دونه قول الشاعر:

و ما مثله في الناس إلا مملكا ابو امه حي أبوه يقاربه

ص: 305

فلا مناص عما ذكرناه من التفسير و يكون عموم الخطاب باعتبار من يدرك دعوة الرسول الثاني من الأمم و هكذا. و ان رسول اللّه محمد خاتم النبيين (صلی الله علیه و آله) هو اظهر افراد الرسل في هذا الميثاق لتكرر البشرى به في كتبهم بشرى تشرف على الصراحة في تعيينه بأقرب ما يفهمه البشر الجاهل بالغيب في تعيين من يأتي في المستقبل. و لظهور الدليل على رسالته و كتابه و بقائه في جميع الأزمان و هو القرآن الكريم و دلائل الرسالة فيه كما أشرنا اليه في الفصل الأول من المقدمة. و من نصره (صلی الله علیه و آله) نصر من هو نفسه و وصيه في أمته و من هو منه بمنزلة هارون من موسى و صاحب عهد الغدير و وصية الثقلين و غير ذلك عليّ عليه السلام، و على هذا الوجه ينزل بعض ما جاء في ذلك من الروايات قالَ أي اللّه جل اسمه للنبيين أَ أَقْرَرْتُمْ بذلك بين الأمم في تبليغكم إياه لهم وَ أَخَذْتُمْ على أممكم عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي اي عهدي و ميثاقي قالُوا أي النبيون أَقْرَرْنا بذلك بين اممنا و باعتبار ان قولهم هذا جواب للاستفهام التقريري ينحل إلى قولهم أيضا و أخذنا عليهم على ذلك عهدك و اصرك قالَ اللّه للنبيين فَاشْهَدُوا على أممكم بهذا الميثاق

سورة آل عمران (3): الآيات 82 الى 83

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ 78 فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ من الأمم عن هذا الميثاق و اعرض عنه و كفر بمن يأتي من الرسل و خصوص خاتمهم البينة حججه و الساطع برهانه و العام الباقي معجزه فَأُولئِكَ المتولون هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حجاب الايمان و الطاعة 79 أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ بتوليهم عن عهد اللّه و دين الحق الإيمان باللّه و رسوله و كتابه و بمحادتهم للّه بهذا التولي و خروجهم عن طاعته و هذا الاستفهام انكار عليهم و تسفيه لهم و الحجة قوله تعالى وَ لَهُ أَسْلَمَ اي و الحال انه جل شأنه دخل في سلمه و انقاد اليه مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الملائكة و الانس و الجن طَوْعاً وَ كَرْهاً بفتح الكاف قيل انه من الكراهية أي طائعين و كارهين. و قيل من الإكراه اي طائعين و مكرهين. كظاهر قوله تعالى في سورة النساء 23 لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً أي اكراها. و الثاني هو المناسب في الآية للمقابلة بالطوع و هو مقتضى الروايات المذكورة في تفسيري البرهان و الدر المنثور عن

ص: 306

الصادق (علیه السلام) و الكاظم و ابن عباس و ما ذكر في مجمع البيان انه المروي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) و المراد من الكره ما كان في الابتداء فإن غالب الذين اسلموا كرها داموا على الإسلام على طوع و رغبة. و عطف الكره بالواو التي هي للجمع إنما هو باعتبار المجموع و إن اختص قسم بالطوع و قسم بالكره و الأمر فيه ظاهر. لكن مع تفسير الإسلام بالاعتراف بالإلهية و التوحيد و التدين بدين الحق يكون ذكر من في الأرض انما هو باعتبار البعض و هو من دان بالإسلام فإن الكثير ممن في الأرض في كل زمان لم يسلم. و حينئذ قد يخفى وجه الحجة على الإنكار بقوله تعالى وَ لَهُ أَسْلَمَ فالظاهر ان الإسلام في الآية بمعنى يعم الانقياد للّه في معرفته و دينه و تكوينه و قضائه. و حينئذ لا ينفك عن مصداق ذلك من في السماوات و الأرض بل جميع المخلوقات من وجه او وجوه. و المراد من الإسلام كرها هو ما لا تكون ارادة المسلم و رغبته علة كالانقياد للتكوين و القضاء و المعرفة التي تبعث إليها الفطرة على حين غفلة من ضلال الهوى فإنك ترى الإنسان حتى المادي المعطل إذا اصابته نائبة تنقطع فيها وسائله ان نفسه تفزع في الخلاص من تلك النائبة إلى من يراه قادرا على دفعها عنه بقدرته القاهرة رغما على الأسباب العادية. و هذا هو الإله القادر، و هو اللّه جل شأنه. و كالدخول في دين الإسلام بالإكراه في أول الأمر. و يكون الحاصل ان اللّه الإله الذي انقاد له كل شي ء و من ذلك الملائكة و الانس و الجن وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ في يوم القيامة بعد ان لا يبقى إلا هو. هذا الإله هل يصح لهم ان يبتغوا غير دينه. و على هذا يكون ما أشرنا اليه من الروايات الواردة في تفسير الآية واردة باعتبار بعض المصاديق من الإسلام

سورة آل عمران (3): آية 84

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

80 قُلْ يا رسول اللّه أنت و من يجب عليه اتباعك لا نبغي غير دين اللّه بل آمَنَّا بِاللَّهِ الذي لا إله الا هو و بدينه دين الحق كما انزل في كتبه المقدسة على رسله وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا ببركة الوحي إليك و بركة رسالتك وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ و هم قبائل بني إسرائيل المنتسبين الى أولاد يعقوب فيمكن ان يكون المراد بالانزال عليهم باعتبار الانزال على أنبيائهم نحو قوله تعالى في الآية أُنْزِلَ عَلَيْنا و 65 بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا و في سورة البقرة 85 بِما

ص: 307

أُنْزِلَ عَلَيْنا» و معنى «على» في على ابراهيم و على الأسباط واحد و انما الاختلاف بالاعتبار.

و يمكن ان يراد بالأسباط أنبيائهم كموسى و من بعده وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ من كتاب و حكمة و كرامة و معجزة لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الايمان و لا تصرفنا الأهواء و العصبية القومية عن الإيمان ببعضهم وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه مُسْلِمُونَ في جميع ذلك

سورة آل عمران (3): الآيات 85 الى 89

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

81 وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ للّه دِيناً و من اظهر مصاديقه الانقياد لما جاء به رسول اللّه خاتم النبيين فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ غير الإسلام و كيف يقبل منه الضلال وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ 82 كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ و يوصل الى الحق بلطفه و توفيقه قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا معطوف على معنى الفعل في «إيمانهم» أي بعد أن آمنوا و شهدوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحات الدلالة على رسالته و حقيقة الإيمان فإن هؤلاء قد أخرجوا أنفسهم بتمردهم على اللّه عن أهليتهم للطفه و إيصالهم الى الهدى بتوفيقه وَ اللَّهُ جلت حكمته لا يَهْدِي و لا يوصل بتوفيقة الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المتمردين بظلمهم بل 83 أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ أي طردهم عن رحمته وَ الْمَلائِكَةِ بالدعاء عليهم باللعنة وَ كذا لعنة النَّاسِ أَجْمَعِينَ و في هذا إذن للناس بلعنهم و طلب لذلك 84 خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة و طرد اللّه لهم عن رحمته لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ كناية عن انهم لا تنالهم الرحمة أو لا يمهلون يوم القيامة عن العذاب 85 إِلَّا الَّذِينَ تابُوا في الدنيا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا اعمالهم أي عملوا الصالحات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فإن اللّه يغفر لهم ذنوبهم و يرحمهم بالرضا و الثواب لأنه غفور رحيم و أقيمت العلة في التفريع مقام المعلول للتأكيد و لبيان ان هذه المغفرة ليست مما يرجى اتفاقه بل

ص: 308

هي لازمة في رحمة اللّه و لطفه لأنه غفور رحيم لكل من هو أهل المغفرة و الرحمة.

قيل ان الآيات نزلت في الحارث بن سويد رجل من الأنصار ارتد و تاب و تاب اللّه عليه. و في مجمع البيان و هو المروي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام).

أقول و لم أجد الرواية مسندة. و الروايات في الدر المنثور في هذا المقام متدافعة

سورة آل عمران (3): الآيات 90 الى 91

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

86 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ و قال جل شأنه في سورة النساء 21 إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي بمقتضى حكمته و لطفه في الدعوة الى الصلاح و قطع مادة الفساد و رحمته بعباده لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من عمرهم لا في آخره عند الموت الذي كان يرونه بعيدا فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بأن توبتهم عن اهتداء و ندم حقيقي. لا لانقطاع آمالهم من الحياة و شهواتها و اهوائها عند معاينة الموت و انكشاف الحقائق «حكيما» في قبول التوبة 22 وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ و عاين ما عاين فانقطعت عنه لذلك دواعي الهوى و نزعات النفس الأمارة الى الضلال «قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ» و قال جل اسمه في سورة يونس في شأن فرعون 90 حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ 91 «الآن» يا فرعون حينما انقطعت عنك آمال الطغيان التي سولت لك ادعاءك للربوبية فعصيت و أفسدت و كفرت بآيات اللّه «وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ»: و الظاهر اجماع المسلمين على قبول التوبة الصادقة قبل حضور الموت و حينما تكون دواعي الهوى و نزعات النفس الأمارة تبعثه على القبيح و يصدها عقله و توبته و خوفه من اللّه و تقواه. فتكون واردة في توبة الذين كفروا بعد إيمانهم عند معاينة الموت أو ماتوا و هم كفار، و في يوم القيامة يحاولون التوبة. و ربما يرشد الى ذلك العدول عن قوله تعالى لا تقبل توبتهم الى قوله لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ الذي هو نص على النفي في المستقبل مع ان قبول التوبة مقارن لها. فيكون في ذلك اشارة الى ان توبتهم المستقبلة المتأخرة عن حياتهم العادية و آمالهم فيها لن تقبل منهم وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ مدة حياتهم قبل معاينة الموت بل و عندها 87 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً

ص: 309

دخلت الفاء في الخبر لخروج المبتدإ باعتبار صلته مخرج الشرط. و ذكر ملأ الأرض ذهبا لأنه غاية ما يعظم في عين الإنسان نوعا من المال و البدل و الوسيلة للخلاص فلا ينفعه ذلك لو تصدق به و نحو ذلك لأن اعمال الكافر حابطة لا يستحق بها الجزاء ممن كفر به وَ لَوِ افْتَدى بِهِ و قدمه بعنوان الفداء و هذا غاية ما يدخل في تصور نوع الإنسان من التهويل و التخويف «وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ» أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ على اللّه. يا ايها المؤمنون

سورة آل عمران (3): الآيات 92 الى 93

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)

88 لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ و يكون انفاقكم برا يرضاه اللّه بأن تنفقوا الشي ء الزهيد الذي لا ترضونه بل حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ و ترغبون بماليته فإن قصدكم التقرب الى اللّه إنما يظهر ببذلكم لوجهه الكريم ما لا تستحقرونه وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ لا يخفى عليه شي ء منه و لا من نياتكم في إنفاقه و هو مجازيكم عليه و يضاعف لكم الجزاء كما وعدكم بذلك في القرآن الكريم فلا تخشوا أن يفوتكم من انفاقكم و إخلاصكم في النية شي ء 89 كُلُّ الطَّعامِ أي أصول المطعومات كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أي يعقوب عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ متعلق بحرّم و قيل بتعلقه بقوله تعالى «حِلًّا» و يدفعه لزوم الفصل باجنبي و هو جملة «إلا ما حرّم» المشعرة بتمام ما قبلها فيلزم التعقيد و الإيهام. نعم يفهم من قوله تعالى «كانَ حِلًّا» انه من قبل أن تحرمه التوراة بتنزيلها أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ على موسى. و للتنبيه على تفسير الآية ثلاث مقدمات- الأولى- قال علي بن ابراهيم القمي في تفسيره هذا الكلام حكاية عن اليهود و لفظه لفظ الخبر. أي انه كلام اليهود و من دعاويهم الكاذبة. و هو في الآية في مقام الاستفهام الانكاري و حذفت منه اداة الإنكار لدلالة قوله تعالى فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ. فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ

. كما حذفت اداة الاستفهام لدلالة المقام عليها في قوله تعالى في سورة البقرة 74 قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ و قوله تعالى في سورة الشعراء 21 وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ على الصحيح من تفسير ذلك بإنكار موسى على فرعون و لو كان هذا

ص: 310

الكلام اخبارا من اللّه لما ناسبه تكذيب اللّه لهم- الثانية- قيل في تفسير ذلك ان يعقوب حرم على نفسه العروق و لحم الجمل فقالت اليهود ان لحم الجمل محرم في التوراة أي انها تذكر ان إسرائيل حرمه على نفسه- الثالثة- ان تحريف التوراة الحقيقية كان قبل رسول اللّه بقرون متطاولة منذ انقطع أثرها بارتدادات بني إسرائيل و تتابع البلايا عليهم فادعى وجودها «حلقيا» الكاهن في زمان «يوشيا» الملك و ذكروا تجديد كتابتها من عزرا بعد سبي بابل. كما أشرنا الى ذلك في المقدمة الخامسة من كتاب الهدى (1) فراجعه. كما ذكرنا بعض الشهادات بتحريفها من كتابي «اشعيا» و «ارميا» و هما من كتب وحيهم (1) فالتوراة في عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) هي نفس التوراة الموجودة في عصورنا فإنها كانت إذ ذاك منتشرة بين الاسرائيليين و السامريين و النصارى في الشرق و الغرب و الحبشة و غيرهم بلغات متعددة و منها اليونانية السبعينية و الحبشية و لا يوجد بينها إلا اختلاف طفيف فالتوراة الرائجة في عصورنا هي المحرفة التي جادلهم القرآن بها و قال فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إذن فمعنى الآية ان بعض اهل الكتاب قالوا كل أصول المطعومات كانت جلا لبني إسرائيل قبل أن تحرم التوراة ما حرمته منها ثم استثنوا من ذلك ما زعموا ان إسرائيل حرّمه على نفسه من قبل أن تنزل التوراة فنزلت التوراة بتحريمه. و هذا كله كذب و افتراء حتى ان توراتهم تكذبهم فيه و تذكر ان المحرمات من الحيوانات البرية و المائية و الطيور إنما هي رجس فانها نهتهم عن أن يأكلوا كل رجس كما في العدد الثالث من الفصل الرابع عشر من سفر التثنية ثم نصّت في الفصل المذكور على المحرمات كما نصت عليها في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين. إذن فكيف يكون الرجس حلالا شرعيا قبل التوراة و ايضا لم تذكر التوراة ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا. بل إنما نذكر ان إسرائيل ضرب على حق فخذه على عرق النساء لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء الى هذا اليوم. فتوراتهم تقول ان ذلك تشريع منهم لا من إسرائيل كما في الفصل الثاني و الثلاثين من سفر التكوين. يا رسول اللّه ان هؤلاء لا ينتهون عن الكذب إذن فجادلهم بتوراتهم و قُلْ لهم في اظهار كذبهم فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها في هذه الموارد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فإنرة

ص: 311


1- في الجزء الأول من صفحة 19 إلى 30

قيل ان اليهود يقولون بامتناع النسخ فكيف يدّعون الحل الشرعي قبل التوراة «قلنا» المعروف ان اليهود يزعمون ان الشرع في التوراة منع من نسخ احكامها لأنها أبدية و هذا لا ينافي ادعاءهم هذا فيما قبل. و قد ذكرنا زعمهم و بطلانه في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 288- 291 و لو كان اليهود كبعض النصارى يزعمون امتناع النسخ عقلا و انه لا شريعة قبل التوراة لكانت دعواهم هذه باعتبار الحل العادي و عدم الحرمة الشرعية. و قد ذكرنا هذا الزعم و بطلانه في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 235- 239 و 241- 243 و قيل في تفسير هذه الآية وجوها أخر مرجعها الى أن الآية اخبار من اللّه بأن المطعومات كانت حلا لبني إسرائيل و ذكروا لذلك وجوها «منها» ما في الكشاف من ان الآية رد عليهم في دعواهم ان كل الذي حرم عليهم قد كان محرما على نوح و ابراهيم ليتخلصوا بهذه الدعوة الكاذبة مما ذكره القرآن انه بظلم من الذين هادوا حرمت عليهم طيبات أحلت لهم. كما في سورة النساء 158 و ببغيهم كما في سورة الأنعام 147: و يرد على هذا الوجه انه ليس في الآية ما يشير اليه. و ليس في التوراة ما يدل على ان الذي حرم عليهم كان حلالا قبل ذلك و من الطيبات بل العدد الثالث من الفصل الرابع عشر من سفر التثنية يبين ان المحرمات عليهم رجس ففيه لا تأكلوا كل رجس ثم شرع في ذكر المحرمات التي ذكرت في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين.

و اما الإلية و الشحم و زيادة الكبد و الكليتين فقد ذكرت التوراة انها توقد على المذبح طعام وقود للرب و ان كل الشحم للرب. و في كل مساكنهم لا يأكلون شيئا من الشحم و الدم كما في الثالث من سفر اللاويين فليس في توراتهم ما يكذبهم فيما ذكر لهم من الدعوى و لا ما يدل على انهم حرمت عليهم بظلمهم طيبات أحلت لهم «و منها» ما في تفسير الرازي و غيره ان اليهود ينكرون وقوع النسخ في الشريعة و يزعمون ان الذي هو الآن حرام كان حراما ابدا و ان الذي حرمه إسرائيل كان حراما من لدن زمان آدم (علیه السلام) فطلب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان يحضروا التوراة لأنها ناطقة بأن بعض انواع الطعام انما حرم بسبب ان إسرائيل حرمه على نفسه انتهى ملخصا:

و يرد على هذا الوجه أيضا انه ليس في الآية ما يشير إلى ورودها في مسألة النسخ و لا يلتفت من مخائلها إلى النسخ أصلا فتنزيلها على ذلك يلحق بالمعميات مع انه ليس في التوراة ان الذي حرم عليهم كان حلالا أو ان ما حرمه إسرائيل على نفسه هو محرم عليهم كما ذكرنا فلا يظهر كذبهم في زعمهم من التوراة. فالوجهان مشتركان في انه ليس لما ذكر فيهما عن

ص: 312

بني إسرائيل قول او كلام صريح او مدلول عليه بإحدى الدلالات لكي يمتحنوا فيه بالإتيان بالتوراة و تلاوتها ليظهر كذبهم فيه او صدقهم

سورة آل عمران (3): الآيات 94 الى 96

فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96)

90 فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 91 قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 92 إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ

شعارا لدين الحق و مشعرا لعبادة اللّه و توحيده هو الكعبة. كما يحتج لذلك من بعد الطوفان بالتاريخ المتسلسل بين الأجيال و ان بيت المقدس مما هو معروف التأخر.

و في الدر المنثور اخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي (علیه السلام) قال كانت البيوت قبله و لكنه أول بيت وضع لعبادة اللّه. و في المستدرك للحاكم بسنده عن خالد بن عرعرة عن علي (علیه السلام) نحو هذا المضمون. و روى ابن شهرآشوب ايضا نحوه.

و اخرج ابن أبي شيبة و احمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و ابن جرير و البيهقي عن أبي ذرّ قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع أول قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال (صلی الله علیه و آله) المسجد الأقصى.

و روى في الكافي مسندا عن الباقر و عن الصادق عليهما السلام ان الأرض دحيت من تحت موضع البيت و نحوه عن العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام).

و في الدر المنثور اخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت. و اخرج ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي في الشعب و اخرج ابن المنذر عن أبي هريرة و ذكر نحوه

لَلَّذِي بِبَكَّةَ

في البرهان عن ابن بابويه في العلل في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) قال موضع البيت «بكة» و القرية مكة. و نحوه عن العياشي عن الصادق (علیه السلام)

و لعل موضع البيت يشمل المسجد.

و عن العياشي عن الباقر (علیه السلام) بكة موضع البيت و مكة الحرم.

و في الدر المنثور ذكر جماعة أخرجوا عن أبي مالك الغفاري بكة موضع البيت و مكة ما سوى ذلك. و عن ابن عباس مكة من الفج الى التنعيم و بكة من البيت الى البطحاء. و

«بكة» مأخوذة من البك و هو الزحم و المدافعة.

و روى ان هذا وجه تسميتها كما في الكافي عن الصادق (علیه السلام) و عن علل الصدوق بأسانيد صحيحة عن الباقر (علیه السلام) و الصادق (علیه السلام) نحوه

مُبارَكاً حال. و مظاهر البركة في البيت من الوجهة

ص: 313

الدنيوية و الوجهة الدينية اظهر من أن تخفى او تجحد. فإنه في ارض ليس فيها مادة ثروة و لا تجارة و لا زراعة و لا صناعة و ترى مجاوريه فيها يبلغون عشرات الألوف و هم منذ القرون المتطاولة في الجاهلية و الإسلام في سعة من العيش و تمتع في النعم و العز و الأمن فيما بين العرب الوحشيين الأشداء العتاة و يفد إليها الألوف العديدة من الحجيج فلا يضيق عليهم العيش. و يذبح في الموسم من كل سنة من أغنام ضواحيها ما يزيد على مائة الف فلا يظهر فيها النقص. و اما من الوجهة الدينية فإنه المبارك وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ هدى حال بمعنى هاد و لمزيد هداه قيل هدى كما يقال زيد عدل. و من بركة هداه ان العرب التفت بإسماعيل و تلقت منه دين ابراهيم و شريعة الختان و عبادة اللّه بالحج و الطواف و ان مازج ذلك فيما بعد شي ء من ضلال الوثنية بل بقي في حرمه شي ء من الحقوق الاجتماعية و المدنية مدة الجاهلية على رغم ما في محيطه من وحشية الاعراب و ضلالهم. و كفى ببركة هداه ان صارت مكة مولدا و مظهرا لخاتم الأنبياء و صفوة الرسل و مهبطا للوحي و مبدءا للدعوة الصالحة الى دين الحق دين الفطرة و الشريعة المقدسة و نظام الاجتماع و الصلاح و مشرقا لأنوار القرآن الكريم

سورة آل عمران (3): آية 97

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ بدلالتها الجلية على منزلته السامية في الشرف و كرامته عند اللّه مَقامُ إِبْراهِيمَ و هو و ما يذكر بعده بدل تفصيلي من الآيات المذكورة. فإن مقام ابراهيم من آيات البيت الباهرة الخالدة و هو الصخرة التي قام عليها ابراهيم الخليل فأثرت فيها قدماه الشريفتان تأثيرا بينا كما تؤثر في الطين الرطب و هذه الصخرة و ذلك الأثر محفوظان الى الآن على رغم القرون المتطاولة و تتابع الحوادث و تقلب الأحوال و في ذلك ايضا آية كبيرة. و قد تقدم شي ء من الكلام على المقام في الآية التاسعة عشر بعد المائة من سورة البقرة (1) وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أي من دخل بلده

ص: 314


1- هذا و لصاحب المنار في الجزء الرابع من تفسيره صفحة 13 كلام لم يسمح فيه بأن يكون الأثر في الصخرة أثر لقدمي ابراهيم في الصخر على خلاف العادة بل نسب ذلك الى اعتقاد العرب و شعر أبي طالب في لاميته المعروفة و موطأ ابراهيم في الصخر وطئة على قدميه حافيا غير ناعل و المعروف سماعا و وجادة هو «وطئة» بالواو كما في النسخ المعتمدة و منها المكتوبة على نسخة كتبها عفيف بن أسعد في المحرم سنة ثمانين و ثلاثمائة من نسخة كتبها الشيخ ابو الفتح عثمان بن جني-

و حرمه المعروف. و الجملة من اقسام البدل التفصيلي من الآيات معطوفة على مقام ابراهيم أي و أمن من دخل فيه. و لعل «من» جي ء بها لتغليب من يعقل على ما لا يعقل. و في الأمن آيات ظاهرة. فإن العرب على فوضويتهم و وحشيتهم و تهوّرهم في العدوان و النخوة الجاهلية و غلظتهم في ذلك بحيث لا يمنعهم من ذلك و لا يردعهم شريعة و لا وازع روحي و لا سيطرة و لا استقامة أخلاق قد كانوا خاضعين لاحترام من دخل الحرم منقادة نفوسهم لذلك في القرون العديدة في تلاطم أمواج الجاهلية. فضلا عن الإسلام. و ليس ذلك من طبع التربة و الهواء و لا بنحو الجبر السالب للاختيار. بل لأن العناية الإلهية ألهمت الناس إكراما للبيت الحرام أن يحترموا الحرم و من فيه. نعم وقع التمرد من جيش يزيد و الحجاج و لعل الحكمة في ذلك ان يعرف الناس ان هذا الاحترام ليس من قسر الطبيعة و الإلجاء و إنما هو توفيق من اللّه شمل المشركين و لم يشمل من تمرد على اللّه و حاده و عاداه. و في الصحيح او الحسن كالصحيح

عن الحلبي عن الصادق (علیه السلام) قال سألته عن قول اللّه و من دخله كان آمنا قال (علیه السلام) إذا أحدث العبد جناية في غير الحرم ثم فر الى الحرم لم ينبغ لأحد أن يأخذه من الحرم و لكن يمنع من السوق و لا يبايع و لا يطعم و لا يسقى و لا يكلم فإذا فعل ذلك يوشك أن يخرج فيأخذ و إذا جنى في الحرم جناية أقيم

****-**

- و عارضه بها و قرأها عليه كما هو مكتوب فيها برواية أبي هفان المهزمي للقصيدة عن عمه خالد بن حرب عن عبد اللّه بن العباس بن الحسين بن عبيد اللّه بن العباس بن امير المؤمنين عليه السلام و بدّل «وطئة» بقوله «رطبة» ليستنتج من ذلك ان الصخرة كانت عند ما وطأ عليها طينة رطبة لم تتحجر ثم تحجرت. مع ان الشعر المذكور لو كان على ما ذكره لما دلّ على انها كانت رطبة لم تتحجر بل الظاهر منه انه وطأ الصخرة حال كونها رطبة عند الوطء و هي صخرة إذ صارت كذلك كرامة لإبراهيم و تخليدا لذكره بالمعجز كما ينحوه ابو طالب في شعره. فإن «رطبة» بمقتضى تبديله لو صحت و صح التأنيث فيها إنما هي حال من الصخر و وصف له لا حال من طين قبل استحجاره المحتاج إلى ألوف من السنين. و يا للعجب كيف لم يلتفت إلى ان الحال من «الصخر» لا يصح تأنيثه و الطنطاوي مع وضعه المشاهد في تفسيره لم يزد هاهنا على قوله «أي الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت» فلما ذا لم يبين محل «مقام ابراهيم» في الآية من الاعراب و بأي وجه صار بدلا مبينا لقوله تعالى «فيه آيات بينات» أ فلم يسمع من التاريخ و الحديث و شعر أبي طالب المشهور بآية الأثر لقدمي ابراهيم في الصخرة التي هي مقام ابراهيم. أم صرنا كتاركة بيضها بالعراء و ملحفة بيض أخرى جناحا

ص: 315

عليه الحد لأنه لم يرع للحرم حرمة: و نحوها معتبرة حفص. و رواية علي بن أبي حمزة عنه (علیه السلام) في السارق و الجاني و نحوها صحيحة معاوية بن عمار عنه (علیه السلام) في القاتل. و فيها و لا يأوي: و في الدر المنثور ان جماعة اخرجوا من طرق سعيد و طاوس و مجاهد و عكرمة و عطا عن ابن عباس في الآية مثل ذلك.

و لا ينافي ذلك ما روي من طرق الفريقين من انه أمن من سخط اللّه. أو في الآخرة. أو من النار. فإن ذلك يكون بيانا لبعض المصاديق المندرجة في عموم الأمن.

و بمقتضى الروايات المتقدمة قال علماء الإمامية من دون خلاف يعرف. و ابو حنيفة و صاحباه و زفر و اللؤلئي وافقوا الإمامية في قصاص النفس و احتجوا بالآية و يرد عليهم ان الأمن فيها مطلق فإذا قدم على دليل القصاص قدم على سائر أدلة القصاص و الحدود لذلك الوجه حتى لو حملنا الخبر في الآية على الأمر مع ان الآية لا تحمل على ذلك و لا يتوقف عليه. بل الآية تدل على جعل الأمن بنحو وضعي عام. و جعله من اللّه من حيث الشريعة هو اظهر الافراد و أولاها فإن الذهن لا يذعن بأن اللّه تبارك اسمه يمجد البيت بأن من آياته ان الناس يحترمونه بإلهام و توفيق منه و هو جل شأنه لا يشرع احترامه في حقوقهم و حقوقه نعم ان الجاني في الحرم قد هتك حرمته فيؤخذ بجنايته في ذلك لقوله تعالى في سورة البقرة 187 وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ 190 وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ .. و ايضا ان طعام العرب نوعا مما يصطادونه من احناش الأرض و حيواناتها و لهم في الصيد ولع و عادة و مع ذلك يحترمون صيد الحرم و مكة. و من المستفيض نقله ان الحيوانات لا يقتل بعضها بعضا فيه. و لا تصطاد الكلاب و السباع فيه: و من آيات البيت ما استفاض نقله من ان الطير لا يعلو عليه في طيرانه بل يحيد عنه يمينا او شمالا وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قوله تعالى «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ» الآية جملة مستأنفة فلا يندرج في جملة الآيات البينات للبيت. و الحج بالكسر و عن سيبويه انه مصدر و قيل اسم مصدر و معناه في اللغة القصد بالسفر و غلب على القصد بالسفر الى مكة لنسك الحج المعروف او نقل الى نفس المناسك المخصوصة. و من استطاع بدل من الناس.

و التقييد هنا بالاستطاعة يعرف منه انها غير الاستطاعة العقلية التي هي شرط في كل تكليف.

إذن فهي الاستطاعة العرفية. و ذكر

في الدر المنثور عن جماعة كثيرين منهم الشافعي و الترمذي

ص: 316

و ابن ماجة و الحاكم قد اخرجوا بأسانيد متعددة عن علي (علیه السلام) و ابن مسعود و جابر و عائشة و أنس و ابن عمر و عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان النبي (صلی الله علیه و آله) سئل عن السبيل في الآية فقال الزاد و الراحلة. و مثله عن عمر و ابن عباس.

و في رواية عن ابن عباس ان يصح بدن العبد و يكون له ثمن زاد و راحلة من غير ان يجحف به و قد خالف في ذلك مالك فيمن يقدر على المشي و يمكنه الاكتساب في مسيره و لو بالسؤال. و المروي من طرق الإمامية عن الباقر و الصادق و الرضا عليهم السلام كما أحصاه في الوسائل في تفسير الاستطاعة في الآية بحسب السؤال و ما يقتضيه المقام من البيان. بأن يكون له ما يحج به و من عرض عليه فاستحيى فهو ممن يستطيع و بأن من كان صحيحا في بدنه مخلى في سربه له زاد و راحلة فهو ممن يستطيع. و بالزاد و الراحلة مع الصحة و بالصحة في بدنه و القدرة في ماله. و بالقوة في البدن و اليسار في المال. هذا و الظاهر عدم الخلاف عندنا في ان من الاستطاعة أن يكون له ما يمون به عياله في طعامهم و كسوتهم و إسكانهم و ما يحتاجون اليه في معيشتهم الى رجوعه. و في التبيان و هو «أي السبيل» عندنا وجود الزاد و الراحلة و نفقة من تلزمه نفقته و الرجوع الى كفاية عند العود اما من مال او ضياع او عقار أو حرفة مع الصحة و السلامة انتهى و الظاهر دخول ذلك في الاستطاعة العرفية. و

روى المفيد في المقنعة عن أبي الربيع الشامي عن الصادق (علیه السلام) في الآية فقال ما يقول الناس فقيل الزاد و الراحلة فقال سئل ابو جعفر (علیه السلام) عن هذا فقال هلك الناس إذن لئن كان من له زاد و راحلة لا يملك غيرهما او مقدار ذلك مما يقوت به عياله و يستغني به عن الناس فقد وجب عليه أن يحج بذلك ثم يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذن فقيل له فما السبيل عندك قال (علیه السلام) السعة في المال و هو ان يكون معه ما يحج ببعضه و يبقى بعض يقوت به نفسه و عياله. و رواه في الكافي و التهذيب و الفقيه و العلل بنحو من ذلك

و الرواية معتبرة في نفسها خصوصا إذا كان ابن محبوب من اصحاب الإجماع و معتضدة بعمل الشيخين و جماعة من القدماء بها.

و روى الصدوق في الخصال بإسناد عن الأعمش عن الصادق (علیه السلام) قال: و حج البيت واجب على من استطاع اليه سبيلا و هو الزاد و الراحلة مع صحة البدن و ان يكون للإنسان ما يخلفه على عياله و ما يرجع اليه بعد حجه:

فما ذكر في التبيان هو الأقوى و الظاهر من الاستطاعة. و تمام الكلام في الحج موكول الى كتب الفقه كما أو كل القرآن امره الى السنة وَ مَنْ كَفَرَ لا يخفى ان مفاد الآية هو

ص: 317

التوبيخ لمن يترك الحج مع استطاعته و المسلمون من الموبخين بل هم اظهر الافراد في هذا التوبيخ فيكون الكفر كناية عن شدة العصيان بترك الحج و تغليظا على تاركيه في تضييعهم لهذه الفريضة العظيمة الأثر في الدين و الإسلام و ان المسلم المضيع للحج ليس بكافر حقيقة و لا تجري عليه احكام الكافر حتى بعد موته بل تجري عليه احكام المسلم بإجماع المسلمين. و

في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق (علیه السلام) في حديث و من كفر يعني من ترك.

و في الفقيه عن الصادق عن آبائه عليهم السلام في وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) كفر باللّه العظيم من هذه الأمة عشرة و عدّ تسعة من اصحاب الكبائر كالنمام و الزاني و العاشر من وجد سعة فمات و لم يحج.

و روى ذريح المحاربي في الصحيح كما في الكافي و المقنعة و التهذيب و المحاسن و الفقيه و عقاب الأعمال و المعتبر عن الصادق (علیه السلام) ان من استطاع و لم يحج حتى مات فليمت يهوديا او نصرانيا. و في رواية الشيخ إن شاء يهوديا و إن شاء نصرانيا.

و مثلها رواية الدر المنثور مما أخرجه سعيد بن منصور و احمد في كتاب الإيمان و ابو يعلى و البيهقي عن أبي امامة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و مما أخرجه الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في الشعب و ابن مردويه عن علي امير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و مما أخرجه سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة من قول عمر بن الخطاب. و ان عبارة

الرواية «فليمت إن شاء يهوديا و إن شاء نصرانيا»

لتدل بسوقها على انها للتغليظ في سوء العاقبة و خسران التارك إذ فاته ما للحج من الفضل و اللطف على العباد بتعريضهم لثواب هذه الطاعة و اقامة هذه الشعائر الدينية التي يعود نفعها الى الناس لفقرهم و حاجتهم الى ذلك و من عصى و ترك عاد الضرر و الخسران عليه فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ بأجمعهم لا تزيد في ملكه طاعة المطيعين و لا تنقص منه معصية العاصين

سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

94 قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ و من جملتها ما جاء به رسول اللّه و قرآنه المجيد و ما في البيت الحرام من الآيات البينات وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ لا يغيب عنه شي ء و لا تخفى عليه خافية 95 قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ روى الواحدي في اسباب النزول

ص: 318

و السيوطي في الدر المنثور عن زيد بن اسلم ان الآية نزلت في شاس بن قيس اليهودي لما أمر يهوديا أن يجلس مع الأوس و الخزرج و يهيج الأضغان فيما بينهم و يذكرهم الحروب التي دارت فنما بينهم من يوم بغاث و ما قبله: و يدفع ذلك مع و هن السند ان ذلك ليس صدا عن سبيل اللّه و إنما يناسبه التوبيخ على القاح الفتنة و تهييج الشر بين الناس. فالآية الكريمة على رسلها في توبيخ اهل الكتاب على دأبهم في التصدي لإضلال الناس و صدهم عن الإسلام بأنواع الوسائل.

و السبيل كالطريق يذكر و يؤنث و الأكثر في القرآن تذكيره. و جاء مؤنثا في سورة يوسف 108 قُلْ هذِهِ سَبِيلِي و في هذه الآية تَبْغُونَها أي السبيل قال في التبيان و معناه تطلبون لها عوجا. و نحوه في الكشاف. و حكاه الرازي في تفسيره عن ابن الأنباري و انه مثل وهبتك درهما أي وهبت لك. و صدتك ظبيا أي صدت لك و أنشد:

فتولى غلامهم ثم نادى أ ظليما اصيدكم أم حمارا

و في النهاية في الحديث ابغني أحجارا استطيب بها يقال ابغني كذا بهمزة الوصل أي اطلب لي و ابغوني حديدة استطيب بها. و في لسان العرب قال واقد بن الغطريف كما في ديوان الحماسة و غيره:

لئن لبن المعزى بماء مويسل بغاني داء إنني لسقيم

و قال الأعشى:

حتى إذا ذرّ قرن الشمس صبّحها ذؤال نبغان يبغي قومه المتعا

أي يبغي لصحبه الزاد. و في الصحاح «ليبغيه خيرا و ليس بفاعل» أي ليبغي له عِوَجاً مفعول لتبغونها و مثله في سور الأعراف 43 و 84 و هود 22 و ابراهيم 3 و في مجمع البيان في سورة الأعراف و يجوز ان يكون منصوبا على المصدر نحو رجع القهقرى و اشتمل الصمّاء و يدفعه ان العوج ليس من معنى يبغون و لا يدانيه فلا يكون مثل هذين المثالين. و المصدر لا ينصب على المصدرية إلا بعامل من لفظه او معناه. و ذكر الرازي وجها آخر و هو ان يكون عوجا في موضع الحال و المعنى تبغونها ضالين يعني حال كونكم معوجين. و يدفعه ان لا قرينة و لا حاجة الى تأويل عوجا بمعوجين مضافا الى ان الآية معناها الإنكار على اضلالهم لاضلالهم و قد

ص: 319

فسرها بأنهم كانوا يحتالون لإلقاء الشبه بأنواع الحيل فلا موقع للتفسير بكونهم يطلبون سبيل اللّه حال كونهم ضالين و الآية تقول يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فانظر فيها الى آخرها و تدبرها:

و في النهاية العوج بالكسر فيما ليس بمرئي كالرأي و القول. و في المصباح العوج بالكسر في المعاني و استشهد بكلام أبي زيد. و في مجمع البيان في سورة الأعراف 84 العوج بالكسر في الدين و كل ما لا يرى. أقول و كأن القائل بذلك لم يقرء قوله تعالى في سورة طه 105 وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً 106 فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً و المعنى تطلبون يا أهل الكتاب بصدكم عن سبيل اللّه بتزويركم و مخادعتكم و تحريفكم و كتمانكم لما في كتبكم أن تجعلوا سبيل اللّه عوجاء تطلبون لها العوج و هي الصراط المستقيم بينة الحجج نيرة الأعلام واضحة الدلالة ساطعة البرهان وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ على بشرى كتبكم برسول اللّه و قرآنه و دينه. أو أنتم شاهدون لدلالة المعجز و الآيات البينات على رسول اللّه و وحي قرآنه و حقيقة دينه القيم وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الصد عن سبيل اللّه و محاولة الإضلال و اللّه لا يفوته شي ء و هو شديد الانتقام

سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 101

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

96 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ باعتبار إيتاء الكتاب الحقيقي لأسلافهم قبل تحريفه. و الفريق هم المتصدون للإضلال و الإغواء و الصد عن سبيل اللّه و تنقادوا لضلالهم بالاتباع الأعمى يَرُدُّوكُمْ باغوائهم و اضلالهم بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ 97 وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ و قد غمرتكم الألطاف و وضحت لكم الحجج وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ و فيها الهدى و الرشاد وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ و هو نور الهدى و الصلاح و منار الحجة و إمام الإصلاح. و باب اللّه و وسيلته لخلقه وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ العصمة هو المنع و الحفظ مما يحذر. و العاصم هو الحافظ المانع بتسبيبه أو فعله. و المعتصم هو الملتجي الى العاصم و اللائذ به ليمنعه و يحفظه مما لاذ و التجأ حذرا منه. و تختلف وجوه الحذر و محققاته باعتبار شأن المعتصم به و وجهة الحذر. فالاعتصام باللّه في هذا المقام هو التجاء العبد

ص: 320

و انقطاعه اليه ليمنعه و يحفظه بهداه و توفيقه من محاذير الضلال و اتباع الهوى و النفس الأمارة و موبقات المعاصي و الأخلاق الذميمة، و مهالك غضب اللّه، و حرمان لطفه و توفيقه و رضاه و المحقق لهذا الاعتصام بعد مخالفة الهوى و النفس الأمارة هو اتباع دلالة العقل و الفطرة و ما جاءت به رسل اللّه في معرفته مع النظر في آياته و اتباع مدلولها و الإيمان برسله و كتبه. و في حال الخطاب هو الإيمان بخاتم النبيين و قرآنه و اتباعهما فيما جاءا به و بلغه رسول اللّه حق الاتباع و من جرى على هذا الاعتصام فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و ان هذا الاعتصام لصراط مستقيم يؤهل العبد الى توفيق اللّه له لسلوك الصراط المستقيم

سورة آل عمران (3): آية 102

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

98 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي اتقوا غضبه و ما يخاف منه بطاعتكم له حَقَّ تُقاتِهِ جاء في سورة البقرة 115 يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ. و الأنعام 91 و الحج 73 و الزمر 67 ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. و الحج 77 جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ. و الحديد 27 فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها. فالمعنى ما يحق و يليق بجلاله من تقاته و يكون نصب «حق» على النيابة عن المفعول المطلق المضاف اليه لأنه من صفاته. و

في تفسير البرهان عن معاني الاخبار و محاسن البرقي في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) يطاع فلا يعصى، و يذكر فلا ينسى، و يشكر فلا يكفر، و نحوه عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع عن علي (علیه السلام)

و في الدر المنثور ذكر جماعة أخرجوه منهم الحاكم و صححه عن ابن مسعود. و أخرجه الحاكم ايضا و صححه عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى،

و من المعلوم ان اللّه لا يكلف العبد في مفردات التكاليف بما لا يقدر عليه و لا يجمع عليه منها ما هو فوق ما يقدر عليه و لا يستطيع الإتيان بجميعه. إذن فحق تقاة العبد للّه أن يتقيه في جميع ما الزمه به أو كما ذكرت الروايات المتقدمة. و ان التكليف الذي هو لطف بالعباد لتكميلهم لا يتنازل عن هذا المقدار و الإلزام لا يتساهل فيه. نعم قد يقتضي اللطف و التيسير أو عدم القدرة و الاستطاعة من أول الأمر أن لا يكلف ببعض الأفعال او التروك و إن كانت من سنخ الواجبات. و عليه لا يكون الارتكاب لها مما ينبغي أن يتقى اللّه و يخاف من أجله.

و عن قتادة و السدي و الربيع ان قوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ منسوخ بقوله تعالى في سورة التغابن 16 فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ كما ذكر روايته في الدر المنثور عن قتادة و الربيع. و ذكر

ص: 321

ايضا من اخرج رواية ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود. كما ذكر من اخرج عن ابن عباس انها لم تنسخ. و في التبيان في النسخ قوله و هو المروي عنهما. و في مجمع البيان و هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام) و عن أبي عبد اللّه (علیه السلام). أقول و لم أجد الرواية عن الباقر (علیه السلام) نعم

عن العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) انها منسوخة بقوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.

و العياشي لم يذكر الواسطة بينه و بين أبي بصير. و المعروف عن العياشي انه يعتمد على الضعفاء و على كل حال لا بد من طرح الرواية او تأويل النسخ فيها بنزول المفسر الذي يرفع ما يتوهمه البعض بالنظر السطحي من ان حق التقاة المكلف به ما فوق الاستطاعة. و العجب من الشيخ حيث أشار في تبيانه الى الرواية في مقام سنخ و هو العارف بحقيقة النسخ و اشتراط القدرة و الاستطاعة في التكليف و تنزيل الاستطاعة في آية التغابن على الاستطاعة العرفية مع انه مخالف لسوق الآية يوجب التهاون بأمر التقوى وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يمكن أن يراد بالإسلام هنا حقّ التقاة و هو الدخول في سلم اللّه بالطاعة و عدم المحادة له بالمعصية دائما. و هو أمر يمكن أن لا يتصف به المؤمن باللّه و الرسول و يوم القيامة فالمراد من الآية دوام الاتصاف بهذه الصفة الكريمة حتى الموت و ان لا يموتوا إلا و هذه صفتهم الدائمة و سجيتهم المستمرة و من ذلك طاعة الرسول و من أمر الرسول بطاعته و موالاته و التمسك به كما اشارت اليه رواية البرهان عن العياشي عن الحسين ابن خالد عن الكاظم (علیه السلام). و يمكن أن يكون المراد من الإسلام ما يخالف الكفر و يساوق الإيمان في المعنى فيكون المراد هو الاتصاف بهذه الصفة حتى الموت. و الأول اظهر بحسب السوق و الأمر بالتقوى حق التقاة. و الثاني أنسب بالمعنى المتداول للإسلام و يمكن توجيه التناسب فيه بكون المعنى لازموا التقوى حق التقاة ليندحر عنكم الشيطان و لا تعصوا اللّه فيطمع فيكم الشيطان و يصرفكم عن الإيمان و لو عند الموت. و في هذا التخريج نوع تكلف

سورة آل عمران (3): آية 103

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

99 وَ اعْتَصِمُوا من السقوط بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أي حال كونكم مجتمعين على الاعتصام بحبل اللّه و ما جعله اللّه سببا عاصما من سقوط الضلال و وباله. و قد دلنا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) على ما هو من مصاديق هذا السبب و الحبل الذي لا يضل من تمسك به

بقوله (صلی الله علیه و آله) في حديث الثقلين «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا- كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي»

و استعير لفظ الحبل في

ص: 322

الآية للإشارة الى ان عدم الاعتصام به يوجب السقوط في مهواة الضلال و الهلكة وَ لا تَفَرَّقُوا عن حبل اللّه و الاعتصام به وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي و لتكن نعمة اللّه المذكورة على ذكركم دائما فإن لكم فيها موعظة و عبرة تدعوكم الى الاجتماع على الاعتصام بحبل اللّه و تزجركم عن التفرق عنه. و ذلكم إِذْ كُنْتُمْ في جاهليتكم أَعْداءً بحسب قبائلكم بل و الكثير من آحادكم فَأَلَّفَ اللّه ببركة الإسلام و الرسول بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ عليكم بهذا التأليف إِخْواناً كعادة الاخوان الاشقاء في كونكم يدا واحدة بقلوب مؤتلفة وَ كُنْتُمْ في شرككم و عدوانكم و اعمالكم الجاهلية عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي طرف الحفرة و حافتها مشرفين على السقوط فيها ما بينكم و بينه إلا الموت و هو قريب منكم فَأَنْقَذَكُمْ و أنجاكم مِنْها

في الكافي عن الصادق (علیه السلام) فأنقذكم منها بمحمد (صلی الله علیه و آله) و نحوه عن العياشي عن الصادق (علیه السلام) ايضا و نحوه ما في الدر المنثور عن الطستي عن ابن عباس

و هو تفسير جلي كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ و منها التأليف بين قلوبكم بعد تلك العداوات الشديدة و الأحقاد المتوغلة في قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا و منها انقاذكم من تلك الضلالات المشرفة بكم على الخلود في درك الجحيم يبينها لكم لَعَلَّكُمْ تنتبهون

سورة آل عمران (3): آية 104

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)

تَهْتَدُونَ 100 وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ اللام للأمر و «منكم» للتبعيض فالوجوب كفائي منوط بحصول الغرض كما في التبيان. و الحكم في الآية كسائر التكاليف لطف عام لجميع الناس و إن كان الخطاب متوجها الى المسلمين لأنهم حينئذ هم المصغون الى خطاب الوحي و المتلقون لشرائعه بترحيب الإيمان. و في التبيان و قيل «من» لتخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس مثلها في قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ. أقول يعني ان «من» تفيد هنا ما يسمى في الاصطلاح بالتجريد نحو رأيت منك أسدا و ليكن لي منك صديق، و كقول الزعيم لأصحابه لينهض منكم جيش و لينتظم منكم صفوف إذا أراد نهوضهم و انتظامهم بأجمعهم أي كونوا جميعا

ص: 323

أمة يدعون الآية (و يدفعه أولا) ان هذا خلاف الظاهر و المتداول من لفظ «من» و ليس في المقام قرينة تصرفها من التبعيض اليه و مما يشهد للتبعيض او يدل عليه معتبرة مسعدة بن صدقة المروية في الكافي و الخصال و التهذيب و فيها ان الصادق (علیه السلام) استشهد للتبعيض بالآية- و ثانيا- ان هذا المعنى يصرف وجه الكلام عن الأمر لبعض المسلمين بالمعروف و نهيهم عن المنكر مع حاجتهم الى اللطف بهذا الإصلاح. بل يكون وجهه هو أمرهم و نهيهم لغيرهم. و هذا مما يأباه عموم لطف الآية و مجد إصلاحها و كرامة شريعتها. فالظاهر إذن من لفظ «من» و سوق الآية هو التبعيض. و لذكر الأمة جهتان- الأولى- بيان ان هذا المقام توصلي يراد منه حصول الغرض بمن يحصله و ليس بتعبدي واجب على كل احد على كل حال بل قد يسقط الوجوب عن كثير من الناس لعدم تأثيرهم او غير ذلك مما ذكر في شروطه- الثانية- الاشارة الى ان هذا المقام يحتاج غالبا في تأثيره الى التعاضد و التعاون و إذا ترك المتصدي وحده او شك أن تحول وحدته دون نهوضه و دون التأثير فيجب تحصيل الأثر بالمعاونة و الاجتماع «و الخير» معروف و هو ما هدى اليه العقل السليم أو دلّ على فضيلته الشرع. و قد تكفل الدين الحنيف و الشرع الشريف، و القرآن الكريم بالدلالة على كل خير كالإسلام و الإيمان و المعارف الدينية.

و كرامة الطاعة و اتباع الحق و العدل و التزين بالأخلاق الفاضلة، و اسباب التكميل و التهذيب و ترويض النفس و السعادة، و فضيلة العلم، و نظام الاجتماع، و المدنية، و الصلاح و الإصلاح، و انك إذا تتبعت القرآن الكريم و السنة الشريفة تجد الدعوة الى ذلك و الأمر بها جارية على أحسن نهج و أعمه و أنفعه، و أوضحه و أوفقه بالحكمة. و «المعروف» هو ما يعرف العقلاء و المتشرعة رجحانه في حسنه من دلالة العقل او الشرع، و «المنكر» ما أنكره و استبشعه العقلاء و المتشرعة لدلالة العقل أو الشرع على رداءته. و

في الكافي و التهذيب مسندا عن الباقر (علیه السلام) في حديث ان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء فريضته عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب و تحل المكاسب و ترد المظالم و تعمر الأرض و ينتصف من الأعداء و يستقيم الأمر الحديث.

و قد شدد الإنذار في السنة و النكير على ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و هدد بعقاب الدنيا و وباله قبل الآخرة. فمن ذلك ما

روي في الكافي و عقاب الأعمال و التهذيب مسندا عن الرضا (علیه السلام) كان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف

ص: 324

و النهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من اللّه (1) و ذكر في كنز العمال من اخرج نحو معناه عن حذيفة و أبي بكره و جرير عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)

و عن الرضا (علیه السلام) ايضا لتأمرنّ بالمعروف و لتنهن عن المنكر او ليستعملن اللّه عليكم شراركم (1) فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم (1) و ذكر في كنز العمال من اخرج هذا المعنى و نحوه عن ابن مسعود و حذيفة. و أبي هريرة و عائشة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله).

و قد جمع في الوسائل و كنز العمال في باب الأمر بالمعروف جملة من الأحاديث فلتراجع. و في المقام مسائل- الأولى- انه و ان كان الظاهر بحسب اللغة كون الدعوة و الأمر و النهي ما كان باللسان. و لكن المعلوم من مغزى الآية و فحواها و وجهة إصلاحها و قرائنها من الشريعة هو ان المراد ما يكون باعثا على الانقياد لفعل المعروف و رادعا عن المنكر من القول و الفعل و الوسائل المحصلة لذلك حتى الإلجاء لكن بعض الوسائل الفعلية تحتاج إلى الاذن من ولي الأمر سلطان الوقت او من ينوب منابه- الثانية- ذهب الشيخ في التبيان و الحلي في السرائر و حكي عن المرتضى و الحلبي و القاضي و الطوسي في التجريد و العلامة و كثير من غيرهم و نقلت حكاية الشيخ له عن جماعة انهما يجبان على الكفاية بمعنى انهما يجبان على كل مكلف لم يفقد شرط الوجوب لكنهما يسقطان بقيام من به الكفاية او نهوضه لهما مع المراعاة بحصول الغرض. و هذا هو المفهوم من المقام و أمثاله مما يكون التكليف فيه لغرض يتعلق بغير المكلف. و هو الظاهر من الآية و رواية مسعدة المشار إليها. و في نهاية الشيخ و الوسيلة و حكى عن بعض المتأخرين انهما من فروض الأعيان و ذكر في المختلف احتجاج الشيخ له بالآية و بعض الروايات الواردة في الباب «و يدفعه» ان الآية ظاهرة في فرض الكفاية و الروايات لا تنافي ذلك. هذا و إذا احتاج الواجب الى تعاون جماعة وجب على كل مكلف به أن يهيأ نفسه للانضمام الى من يعاونه بل و يدعو الى ذلك- الثالث- يشترط في وجوبهما جواز التأثير.

***-***

(3) سموا خيارا بظاهر الحال فإنهم عصاة بتضييعهم لفريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و لذا لا يستجاب دعاؤهم

ص: 325


1- وقاع كوقائع جمع واقعة و هي النازلة الشديدة. و يحتمل أن تكون مصدر واقع بمعنى حارب كحراب بمعنى المحاربة. [.....]

و حكي على ذلك الإجماع بل يدل عليه العلم بأن وجوبهما إنما هو لتحصيل الائتمار و الانتهاء.

و على ذلك لا يجبان إلا أن يحرز إصرار المأمور على ترك المعروف و المنهي على فعل المنكر. بل ربما يصادف ذلك اهانة التائب و هي مفسدة. و مع الشك فالأصل عدم الوجوب خصوصا مع احتمال المفسدة المذكورة و لزوم الاحتراز عن الإهانة للغير إلا بحق و من أجل ذلك يتوقف الأمر و النهي على معرفة المعروف او المنكر فإن كان الجهل من حيث الشرع وجب التعلم بوجوب تعلم الأحكام الشرعية و إن كان من حيث الاشتباه الخارجي فالأصل البراءة مع لزوم الاحتراز عن اهانة الغير إلا بحق- الرابعة- أن لا تكون فيهما مفسدة من نحو ما تقدم أو ضرر يرجح الحذر منه على مصلحتها بحسب المورد الخاص. و التفصيل موكول الى كتب الفقه وَ أُولئِكَ الواو للاستئناف و المشار إليهم هم الذين يدعون الى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر على النحو المطلوب

سورة آل عمران (3): الآيات 105 الى 106

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)

هُمُ الْمُفْلِحُونَ 101 وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا عما يجب فيه الاجتماع مما فيه الصلاح و الفلاح وَ اخْتَلَفُوا بحسب أهوائهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحات من أدلة الحق فتولوا عنها بضلال أهوائهم وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ و الواو يحتمل أن تكون للاستئناف و يحتمل أن تكون عاطفة على أولئك هم المفلحون. و في العطف مناسبة المقابلة و التقسيم في النظم 102 يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ في التبيان ما ملخصه ان العامل في «يوم» عظيم- و يجوز أن نعمل فيه الجملة في معنى يعذبون يوم. و تبعه على كلامه بحروفه في مجمع البيان. و في الكشاف نصب «أي يوم على الظرفية» بالظرف و هو «لهم» او بإضمار «اذكر» أي على انه مفعول لا ظرف و تبعه على ذلك الرازي في تفسيره.

و لكن ارتباط الآيات في النظم و ذكر ابيضاض الوجوه و اسودادهما على ترتيب الفلاح و العذاب في الآيتين المتقدمتين يناسبهما ان يكون «يوم» ظرفا لفلاح المفلحين و عاقبة المتفرقين.

و قيل ان ابيضاض الوجوه كناية عن رونق بشرها و اسودادها كناية عن حالة خزيها نحو قوله تعالى في سورة النحل 60 وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ و هذا

ص: 326

القول كما في مجمع البيان عدول عن حقيقة اللفظ بلا ضرورة. بل يكون البياض بحقيقته و سنا نوره سيماء تكريم و بشرى للصالحين المقربين و يكون السواد باظلامه و تشويهه و سم خزي و نكال لأولئك البعداء فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ في التبيان و مجمع البيان و الكشاف و تفسير الرازي ان جواب «اما» محذوف تقديره فيقال لهم أ كفرتم. أقول و يقرب عندي أن يكون الجواب من نحو فهم في عذاب أليم و نقمة من غضب اللّه كما يدل عليه قوله تعالى فَذُوقُوا الْعَذابَ و يناسبه قوله تعالى في الآية الاخرى «فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» و من نحو هذا الحذف في القرآن الكريم كثير و فائدته التهويل بالجواب ليقدره السامع بكل نحو يشعر به المقام من الهول. و هو باب واسع في البلاغة قد ذكرنا شيئا من شواهده في الآية الثامنة و العشرين من سورة البقرة. ثم خوطبوا بنحو الالتفات في التوبيخ و التقريع بقوله تعالى أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بسبب ما كنتم تكفرون

سورة آل عمران (3): الآيات 107 الى 110

وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)

103 وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و كفى بذلك في رفعة النعيم و سعادته 104 تِلْكَ أي ما قدمناه من آيات المواعظ و الحجج و الإرشاد و النعيم و العقاب آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الثابت من مضامينها و منه الوعيد و العقاب فإنه على الحق و العدل و استحقاق المجرم لارتكابه ما أرشده اللّه الى تركه أو تركه لما أرشده اللّه الى فعله بأنواع الإرشاد و الترغيب و التنفير. فإن اللّه يريد للإنسان صلاحه و سعادته بالاستقامة و الطهارة الاختيارية وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ 105 وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لأنه إله العالم و مدبره و خالقه و كل ما عداه محتاج اليه في ذاته و أموره فكل أمر من شؤون العالم يرجع اليه. و كرر اسم الجلالة للإيماء الى وجه رجوع الأمور اليه لما في اسمه المقدس من معنى الإلهية و السلطان العام 106 كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ الأمة الجماعة و يقال

ص: 327

للمسلمين أمة محمد (صلی الله علیه و آله) باعتبار انهم جماعته الذين آمنوا به أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ و للكلام في الآية مقامان- الأول- ان المترائي من الآية ان «كان» ناقصة تدل على ان مضمون خبرها قد كان في الزمان الماضي و انقضى و انقطع. و من أجل ذلك ذكر في الدر المنثور عشرة أكثرهم من اهل الصحة عندهم منهم الحاكم في مستدركه اخرجوا عن ابن عباس في ذلك انه قال: هم الذين هاجروا مع رسول اللّه الى المدينة. و اخرج بعضهم عن عمر قال تكون لأولنا و لا تكون لآخرنا. و عن عمر ايضا لو شاء اللّه لقال أنتم فكنا كلنا و لكن قال كنتم في خاصة اصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) و من صنع مثل صنيعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس. و في حقائق التنزيل و روي عن الحسن «أي البصري» ان ذلك اشارة الى الصحابة دون من بعدهم ممن تغيرت حاله، و اختلفت أوصافه. و فيه ايضا روي عن الحسن انه كان يقول هكذا و اللّه كانوا مرة و بعض المسلمين كان يقول أعوذ باللّه ان أكون كنتيا (1) أقول و هذا كله ينظر الى مفاد كان الناقصة و لكن لم يعط معناها حقه فإنها لو كانت في الآية ناقصة لكانت دالة على انقطاع الصفة التي في خبرها و تبدلها و باعتبار كون الخطاب فيها للمسلمين تكون من أشد التوبيخ و التقريع بسوء العاقبة لمن كان موجودا من المسلمين حين نزول الآية و خطابها و قد كان البارز منهم حينئذ جل الكبار من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار. فكيف يخاطب القرآن هؤلاء الأكابر و غيرهم من الأمة في وقت النزول بما يؤدي الى انهم منسلخون حينئذ من صفات الآية قد انقطعت عنهم بعد ما كانوا حائزين لكرامتها. و لاا»

ص: 328


1- يضرب المثل لمن تبدلت حاله و صار يفتخر بما مضى و فقده من صفاته و يسمونه كنتيا و كذا من أعجزه الهرم فصار يفتخر بأحواله في شبابه و يقول كنت كذا و كنت كذا. و قد مرّ عليك قول لبيد بن ربيعة: «قالت غداة انتجينا عند جارتها أنت الذي كنت لو لا الشيب و الكبر» و انشدوا: «فأصبحت كنتيا و أصبحت طالما و شر خصال المرء كنت و طالم» أي أقول عند الهرم و العجز كنت كذا و كذا و طالما كان كذا و طالما فعلت كذا و كذا. و قد نصب طالما و رفع على اشتقاقه على سبيل الحكاية اسما من «طالما»

يقاس المقام بقوله تعالى وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً و أشباهه فإن «كان» في هذه الموارد للاشارة الى انه كذلك منذ الأزل و من المعلوم ان صفاته الأزلية أبدية ايضا لا يعتريها انقطاع و انقضاء و هذا المعلوم البديهي يصرف «كان» عن مفادها بخلاف هذه الآية و لا أقل من انه لا يساق للمدح و التمجيد ما يعطي بظاهره الذم و التقريع (1) فالوجه أن تكون «كان» في الآية تامة كقوله تعالى وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ. مأخوذة من الكون المطاوع للتكوين مثل قوله تعالى «كُنْ فَيَكُونُ». و خير أمة حال من الضمير و جملة أخرجت صفة للأمة بمعنى أظهرت للناس و أخرجت من العدم او الخفاء «المقام الثاني» ان كثيرا من الموجودين حال نزول الآية لم يثبتوا على واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و ان الأحوال المذكورة في مقتل عثمان و شؤونه و حربي البصرة و صفين تجعل شطرا وافيا من كبار المهاجرين و الأنصار على غير صفات الآية و ان اعتذر عنهم بالخطإ في الاجتهاد. و قد استفاض عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله او تواتر ان أقواما من أصحابه في يوم القيامة يحال بينهم و بين رسول اللّه و ورود الحوض و ينادى بهم الى النار فيقول رسول اللّه اصحابي فيقال انهم ارتدوا على اعقابهم القهقرى و في حديث أبي هريرة فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم كما رواه بالأسانيد المتعددة و المعاني المتقاربة احمد في مسنده و البخاري و مسلم و ابن ماجه في جوامعهم و الحاكم في مستدركهده

ص: 329


1- و حكى السيد في حقائق التأويل عن الذين أرادوا التخلص مما ذكرنا لزومه لمفاد كان الناقصة أقوالا متفرقة. فعن بعض ان كان زائدة و استشهد بقول الشاعر «على كان المسومة الجياد» و قول الاخر «و جيران لنا كانوا كرام»: و عن بعض ان «كان» بمعنى صار. و استشهد بقوله: «قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها» أي صارت و قال السيد و الصحيح في رواية هذا البيت «قد صارت فراخا بيوضها» أقول و ما أغرب حمل الآية الكريمة و كرامة القرآن على هذين الوجهين الشاذين الواهيين: و عن بعض ان المعنى و كنتم إذ كنتم خير أمة نحو ما كنت مذ كنت إلا نبيها رئيسا. أقول و مع هذا التحذلق البارد رجع هذا القائل إلى كان التامة: و عن بعض ان المعنى كنتم في اللوح المحفوظ أو في كتب الأنبياء المتقدمة. أقول و مع هذا التحكم و التخرص في تقدير الظرف لا ينفك عن محذور كان الناقصة فهل خرجوا عن هذه الصفة من اللوح المحفوظ و كتب الأنبياء: و عن بعض انه يقال لهم ذلك يوم القيامة و لا يضر انقطاع الصفة حينئذ أي و أما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة اللّه هم خالدون، و يقال لهم حينئذ كنتم خير أمة. الآية. و قال السيد في هذا الوجه فضل تعسف و استكراه أقول و من ذا الذي يرضاه لكرامة القرآن و مجده

و الطبراني و غيرهم رووه مسندا عن اثني عشر من الصحابة و رواه البخاري في باب الحوض بأسانيده عن سبعة منهم. هذا و اما إذا قلنا ان المراد من الأمة في الآية أمة رسول اللّه الى يوم القيامة و جرى الخطاب لهم باعتبار الموجودين منهم فما أوسع الخرق في الأمة خصوصا إذا نظرنا الى ايام زياد و يزيد و الحجاج و آل مروان و أمثالهم. و الى هذا المقام الثاني ينظر ما روي عن ابن عباس و عمر و الحسن البصري و إن لم يصادف بعضه محزه. و

في تفسير القمي في الحسن كالصحيح او الصحيح عن الصادق (علیه السلام) في مقام الإنكار خير أمة تقتلون امير المؤمنين (علیه السلام) و الحسن و الحسين. الحديث.

إذن فلا مناص من أن يكون الخطاب لجماعة مخصوصين ملازمين لواجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإيمان باللّه حق الإيمان. و

في الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر يعني الباقر (علیه السلام) انهم اهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله).

و عن تفسير العياشي عن أبي عمر الزبيري عن الصادق (علیه السلام) في الآية يعني الأمة التي وجبت لها دعوة ابراهيم «أي قوله تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» فهم الأمة التي بعث اللّه فيها و منها و إليها و هم الأمة الوسطى و هم خير أمة أخرجت للناس.

و في رواية العياشي عن الصادق (علیه السلام) هم آل محمد (صلی الله علیه و آله).

و عن أبي بصير عن الصادق (علیه السلام) إنما أنزلت هذه الآية على محمد فيه و في الأوصياء من بعده.

و في بعض الروايات انها نزلت خير أئمة: و المراد ان هذا المعنى مراد في التنزيل و إن كان اللفظ أمة كما تقدم مثله في المقدمة في الكلام على روايات فصل الخطاب و يشهد له هنا رواية الزبيري وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ باللّه و بآياته و رسوله و قرآنه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يفوزون بسعادته نعم مِنْهُمُ الأناس الْمُؤْمِنُونَ وَ لكن أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ و الخارجون بكفرهم من الحجاب و هؤلاء

سورة آل عمران (3): آية 111

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)

107 لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً باللسان و التهييج عليكم و التجمع لحربكم فلا يضرونكم في ظهور دينكم و جامعتكم و شوكتكم الإسلامية و انتصاركم و في هذا بشرى عظيمة غيبية قد تحقق مصداقها على أعزّ الوجوه وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ كما وقع ذلك كله مدة وجود المخاطبين

ص: 330

من المسلمين الى الاستيلاء على الشام و ما بعد

سورة آل عمران (3): الآيات 112 الى 113

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113)

108 ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ في قرون عديدة (1) لما يذكر في آخر الآية من سوء اعمالهم أَيْنَما ثُقِفُوا و أدركوا و ظفر بهم فلا منعة لهم من الذلة إِلَّا أن يعتصموا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ بأن ينقطعوا و يلتجؤا اليه بإخلاص فيغيثهم وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ بأن يدخلوا في عهدهم و ذمتهم او رعايتهم و حمايتهم. و سمي ذلك بالحبل لمنعته لهم من السقوط في هاوية الذل وَ باؤُ بمعنى رجعوا و نحوه بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ لسوء اعمالهم وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ في القاموس من معاني المسكين الضعيف الذليل. و في المصباح عن ابن الاعرابي الذليل المقهور و في النهاية مما يدور على المسكين و المسكنة من المعاني الخضوع و الذلة. أقول و الظاهر هنا ان معنى المسكنة ما تدور حوله هذه المعاني و هو لازم لليهود لانكسار شوكتهم القومية و السياسية و انحلال جامعتهم في ذلك مهما بلغ بعض الأفراد منهم في الثروة و النخوة الجزئية الصورية الموقتة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بتتابع ارتدادهم. و كفرهم بما أوتي المسيح منها وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ القيد للتوضيح و التسجيل لقبيح أفعالهم فإن قتل الأنبياء كله بغير حق ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ حدود اللّه. و كررت الاشارة تأكيدا لبيان الجهات التي يستحقون بها النكال العاجل و الانتقام. هذا شأن النوع من أهل الكتاب في اجيالهم و ما كلهم كذلك فإنهم 109 لَيْسُوا سَواءً و على وتيرة واحدة في الضلال

ص: 331


1- كما يذكر التاريخ من كتب العهد القديم و تاريخ يوسيفوس و غيره ما تمادوا عليه من تتابع الارتداد و الكفر من بعد سليمان و قتل الأنبياء و سوء الأعمال في الشرك و ما جرى عليهم من آثار الحروب من ملوك آشور و مصر و بابل و طيطوس. و بقيت الآثار على ذلك. و القوم أبناء القوم فقد خلفوهم بالكفر بآيات اللّه للمسيح فقالوا الأقاويل و فعلوا الأفاعيل حتى اتبعوا ذلك بالكفر بآيات اللّه لرسوله خاتم النبيين و منها بشرى كتبهم به و بقرآنه فجهدوا في الكفر و الغيّ جهدهم حتى ذاقوا وبال أمرهم

و الغيّ بأجمعهم بل مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ و جماعة قائِمَةٌ للعبادة او كناية عن الاستقامة في الإيمان و الطاعة و العناية بوظائف العبادة يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ آناء جمع قيل ان مفرده «أني» بفتح الهمزة او كسرها و سكون النون او «أنو» بالواو أي في ساعات الليل و أوقاته وَ هُمْ يَسْجُدُونَ في التبيان ان الواو ليست للحال بل لعطف جملة «هم يسجدون» على جملة «يتلون» أقول أظن الداعي لهذا التفسير حمله للآية على من اسلم من اهل الكتاب و ان الذي يتلونه هو آيات القرآن و ليس في سجود المسلمين تلاوة. لكن فيه أولا عدم ظهور الفائدة و المنشأ في العدول الى الجملة الاسمية و الإتيان بالضمير فإن الحصر لا محل له. و افادة الدوام تحصل من الفعل المضارع و ثانيا لم يصح ان الآية نزلت في ابن سلام و أمثاله ممن اسلم من اهل الكتاب بل لم يعهد من هؤلاء اتصافهم بالصفات المذكورة في الآية و التي بعدها. بحيث يستحقون التنويه بها مع ان الآية السابقة و خصوص قوله تعالى وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ تدل على ان السياق هو في احوال اهل الكتاب من الأوائل فالمناسب أن يراد المؤمنون منهم لبيان فضلهم و إخراجهم من تلك المذمة العامة. فالمتلو لهم هي آيات كتبهم الحقيقية و لم يعلم انه يمتنع في شريعتهم ان يتلوها في سجودهم. بل يمكن على الوجهين ان يتجه كون الواو حالية بأن يكون المراد يتلون فيما بين سجودهم المتتابع في القيام للعبادة كما يقال يتكلمون و هم يشربون و يحدثون بنعمة اللّه عليهم و يخاطبون بالموعظة و الحث على العبادة و هم يصلون أي فيما بين صلواتهم المتتابعة

سورة آل عمران (3): الآيات 114 الى 115

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

110 يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ صفة ثانية لأمة وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يوم المعاد و يعملون على حقيقة الإيمان به وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ بتقواهم و حبهم للخير و طلبهم لرضا اللّه بلا توان و لا حاجة الى البعث و الإلجاء. و ما أوضح كلمة «يسارعون» في الدلالة على اختيار الإنسان في أفعاله. و سوق الآية و تمجيدها يدل على ان هذه الصفات صفات ثابتة لهم ناشئة عن ملكات راسخة وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ 111 وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ بل ينوه بفضلهم فيه و يوفيهم اللّه جزاءه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مهما

ص: 332

أسروا اعمالهم الصالحة و تقواهم. و قد اقتضت مناسبة المقام و المقابلة توبيخ الكافرين على كفرهم و سوء اعمالهم و بيان خسرانهم و خيبتهم و سوء عاقبتهم فقال عزّ و جل

سورة آل عمران (3): الآيات 116 الى 117

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

112 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و قد مرّ تفسير الآية في الآية الثامنة و زيد عليها هاهنا ببيان الخلود في النار و ان دلت عليه بالاشارة في قوله تعالى وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. و ان قيل ان هؤلاء الكافرين ربما ينفقون من أموالهم شيئا في صلة الرحم و نفع المحتاجين من الفقراء و المساكين و غير ذلك فلما ذا لا تغني عنهم أموالهم فلقد أزاح اللّه علة هذه الشبهة بقوله 113ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا

و تضييعهم له فيها بكفرهم و ان قصدوا وجها يزعمون انه وجه اللّه و لكنه ليس بوجه اللّه الذي كفروا بآياته و أشركوا به و وصفوه بما يجل عنه من الصفات مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ

هذا من التشبيه المركب ليتبين منه حال كفرهم مع إنفاقهم في احباطه بما جنوه على أنفسهم و لذا صدّر المثل ببيان المتلف للحرث ليروع الكافرين بعنوانه في صدر المثل. و الصر بكسر الصاد هو البرد الشديد او شدة البرد كما نص عليه جل اللغويين و المفسرين و ذكر في الدر المنثور جماعة أخرجوه عن ابن عباس من طرق متعددة. و روى الطستي ان ابن عباس استشهد له بقول النابغة الذبياني:

لا يبردون إذا ما الأرض جللها صرّ الشتاء من الإمحال كالأدم

و أنشد في الكشاف قول الشاعر:

لا تعدلنّ اتاويين تضربهم نكباء صرّ بأصحاب المحلات

و الحرث هو المزروع في الأرض. و الأنسب في فهم قوله تعالى ظلموا أنفسهم انهم ظلموها بزرعه في غير أوان زرعه بحسب الفصول او في غير بلاد زرعه من الأرض ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ

باحباط عملهم بكفرهم لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

باختيارهم الكفر الملقى لهم في هلكة

ص: 333

العذاب و خسة الوبال و إحباط العمل.

سورة آل عمران (3): آية 118

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

114 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً البطانة خاصة الإنسان و الذي يستبطن أمره و يطلع على سره مِنْ دُونِكُمْ أي من دون أمتكم و قومكم المؤمنين. و ما احسن التعبير عنهم في هذا المقام بهذا الضمير لبيان ان إخوانكم المؤمنين في اتحاد كلمتكم في الإيمان و اتحادكم في نصره بمنزلة أنفسكم فكيف تعدلون الى غيرهم بالاختصاص الذي تطلعونهم به على بواطن أموركم و حريم اسراركم في دفاع الكافرين. و كفى بهذا التعبير بيانا لكون المنهي عن اتخاذهم بطانة هم من غير المؤمنين و الاية الآتية تدل على انهم المنافقون الذين إذا لقوهم يقولون آمنا و «من» للابتداء متعلقة بقوله تعالى «لا تَتَّخِذُوا» او بصفة البطانة و الأول اظهر. لا للتبعيض أو التبيين كما في التبيان و مجمع البيان و محكي تفسير الرازي و كذا قول تفسيري الجلالين و المنار «من غيركم» فإن يلزم على ذلك ان يقال ممن دونكم. و قد أوضح جلت آلاؤه للمؤمنين وجه النهي عن اتخاذ هؤلاء بطانة بأنهم لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا خبالا مفعول ثان و الجملة صفة توضيحية لازمة لهذه البطانة لا تقييدية. و فسروا «لا يألونكم» بيقصرون و هذا لا يناسب تعديها الى مفعول واحد فضلا عن المفعولين كما هو الكثير المسموع من استعمالها فيلزم جعلها بمعنى لا ينقصونكم كقوله في سورة براءة «ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً». و الخبال فساد الرأي او مطلق الفساد أي يوفونكم الفساد او فساد الرأي بدسائسهم وَدُّوا ما عَنِتُّمْ عنت أصابه العنت مثل مات و مرض. و مما ذكره اللغويون في العنت فيما يناسب المقام هو الضرر و الهلاك. و المشقة و لقاء الشدة. و الهلاك و لعل معناه واحد ينطبق بنحو واحد على هذه المعاني أي ودوا ما أصابكم من العنت و الظاهر ان جملة ودوا صفة أخرى للبطانة و لو كانت مستأنفة لقيل قد ودوا مثل قوله تعالى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ بغضاؤهم لكم مِنْ أَفْواهِهِمْ و فلتات كلماتهم وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ مما يسرونه من البغضاء لكم أَكْبَرُ مما يبدر من ألسنتهم فهل يصح بعد ذلك للمؤمن المدافع عن دين الإسلام و الناهض لإعلاء دعوة الحق ان يتخذ هؤلاء بطانة من دون المؤمنين قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ و الدلالات على شأنهم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ

ص: 334

البيان و مرمى الإشارة و واجب العمل على البيان و الحذر من أن لا تتخذوا منهم و لا من أمثالهم بطانة

سورة آل عمران (3): آية 119

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)

115 ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ «أنتم» مبتدا و الظاهر ان «أولاء» نداء يفيد هنا فائدة الاختصاص تأكيدا للومهم في مقام التحريض على التباعد عن أولئك و أمثالهم وَ لا يُحِبُّونَكُمْ الظاهر ان الجملة حالية و العامل فيها «تحبونهم» و يجوز ان تكون خبرا ثانيا بالعطف وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ القرآن و لبعض المفسرين في تفسير الكتاب تكلفات كُلِّهِ و قد نهيتم فيه قبل هذا عن الركون الى الذين ظلموا كما في سورة هود المكية و فيه إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كما في سورتي البقرة و الأعراف المكية. و الظَّالِمِينَ كما في سورة الشورى المكية. و بِالْمُفْسِدِينَ كما في سورة القصص المكية. و الْخائِنِينَ كما في سورة الأنفال. و بِالْكافِرِينَ كما في سورة الروم. فهل يسوغ و يحسن منكم ايها المؤمنون بالكتاب كله ان تحبوا من لا يحبه اللّه لأجل شره (1) و الظاهر ان الجملة معطوفة على الخبر أي ها أنتم تحبونهم و تؤمنون بالكتاب كله و كيف تجمعون بين الأمرين و قد سمعتم من الكتاب انه ينهاكم عن الركون الى الذين ظلموا و يوعز لكم ان لا تحبوا هؤلاء و أمثالهم فإن اللّه لا يحبهم. و في الكشاف ان الجملة حالية. و يرد عليه وجود الواو و هي لا تدخل على الحالية من المضارع المثبت. و تقدير الضمير لتكون اسمية لا داعي له وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا بنفاقهم و مخادعتهم آمَنَّا بما آمنتم به و نحن معكم و منكم وَ إِذا خَلَوْا و لم يكن معهم احد منكم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ من أجل إيمانكم و علو كلمتكم بظهور الإسلام. و عضّ الأنامل يكون عند شدة الغيظ بحيث لا يتمالك المغتاظ عن ان يعض أنامله و يؤلمها كما قال ابو طالب «يعضون غيظا خلفنا بالأنامل» و الحرث بن ظالم المري «يعضون من غيظ رؤوس الأباهم» و الأنامل أطراف الأصابع. و الأباهم جمع إبهام قُلْ لهم يا رسول اللّه مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فإن اللّه معل كلمة الحق و سلطان الإسلام و خاذلكم إِنَّ

ص: 335


1- و ان الجهل بترتيب النزول ضيع علينا كثيرا مما نزل قبل هذه الآية في التحذير من موالاة أمثال هؤلاء فضلا عن اتخاذهم بطانة. و لعل من ذلك ما في سورة الممتحنة و المجادلة و النساء و غيرها

اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ لا يخفى عليه نفاقكم. و ذات الصدور كناية عن الخصلة او السريرة او الحالة او العلة المتعلقة بالصدور من نفاق او إيمان و نحو ذلك. على حد قولهم ذات الصدر و ذات الرئة و ذات الجنب. و على ذلك جاء قوله تعالى 148 وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فالآيتان مثل قوله تعالى في سورة النمل 76 وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ و نحوه الآية التاسعة و الستين من سورة القصص. و التعبير بذات الصدور و ما تكنّ صدورهم إنما هو باعتبار ان الصدر وعاء للقلب الذي هو مرجع لهذه الأمور كما يدل عليه قوله تعالى وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ. كما تقول علم بخبايا الدار أي بما في صناديقها و نحو ذلك. و بما ذكرناه تعرف ما في المصباح المنير من قوله «المعنى عليم بنفس الصدور» و على ما ذكرناه من معنى ذات الصدور فسروا قول الشاعر «لتغني عني ذا إنائك اجمعا» بإضافة «ذا» إلى الإناء أي ما يتعلق بإنائك مما فيه من لبن او غيره.

و عليه ايضا ما في المصباح المنير انه أنشده ابن فارس في متخير الألفاظ

و نعم ابن عم القوم في ذات ماله إذا كان بعض القوم في ماله كلبا

اي فيما يرتبط و يتعلق بماله و قال النابغة

مجلتهم ذات الإله و دينهم قويم فما يرجون غير العواقب

المجلة الكتاب اي كتابهم هو ما يرتبط و يتعلق بالإله و وحيه

سورة آل عمران (3): آية 120

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

116 إِنْ تَمْسَسْكُمْ حادثة حَسَنَةٌ من حوادث الدنيا تنالون منها خيرا و لو بمسيسها كناية عن قلة نفعها لكم تَسُؤْهُمْ لحسدهم و بغضهم لكم و لدين الحق وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ بمعنى تصيبكم فادحة اصابة لا بمجرد المسيس يَفْرَحُوا بِها و لا تأخذهم لذلك رقة الجوار او القرابة و الاتصال بالقبيلة.

وَ إِنْ تَصْبِرُوا على ما يحمد الصبر عليه من طاعة اللّه و نصر دينه و جهاد عدوه و عداوة هؤلاء و اذاهم وَ تَتَّقُوا اللّه في أوامره و نواهيه لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً بضم الراء و تشديدها لأن مثل هذا المدغم لا يظهر عليه الجزم بالسكون إلا بفك ادغامه نحو «إِنْ يَمْسَسْكُمْ» و في هذا وعد للمؤمنين بحماية اللّه لجامعتهم من ضرر المنافقين إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيحميكم من اعمالهم

ص: 336

التي يكيدونكم بها. و القراءة المتداولة في المصاحف و بين المسلمين حتى القراء السبعة «يعملون» بالياء المثناة من تحت و لم تذكر بالتاء المثناة من فوق إلا عن الحسن و أبي حاتم و مع ذلك قال في الكشاف «بما تعملون من الصبر و التقوى محيط

سورة آل عمران (3): الآيات 121 الى 122

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

117 وَ إِذْ في التبيان و المجمع و الكشاف ان العامل في «إذ، اذكر» غَدَوْتَ في النهاية الغدوّ هو أول النهار غدا يغدو غدوا. و في المصباح غدا بمعنى انطلق. و المراد مجموع السير الواقع في أول النهار و صدره مِنْ أَهْلِكَ و محل إقامتك. و

في المجمع انه الخروج الى احد (1) عن ابن عباس و هو المروي عن أبي جعفر يعني الباقر (علیه السلام). و في الدر المنثور ذكر من اخرج ذلك عن ابن عباس و من أخرجه عن عبد الرحمن بن عوف.

و هذه الآية و التي بعدها بمزاياهما و خصوصياتهما تعينان ذلك تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ تبوّء المكان بمعنى استقرّ فيه. و بوّأه المقعد أقره فيه. و جملة «تبوء» حال من «غدوت» لأن مجموع السير و البعد عن الأهل في أول النهار و صدره كان من مقارناته و أحواله التبوء للقتال بأن جعل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) مقاعد للقتال في سفح أحد و جعله في ظهورهم. و جعل في الشعب عبد اللّه بن جبير مع خمسين من الرماة لئلا يدهمهم المشركون من ناحيته. و أمر الرماة أن لا يبرحوا من مكانهم مهما تطورت الحرب و عواقبها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لما قيل في ذلك الغدوّ في أمر الحرب من كلام المنافقين و كلام الرسول و المؤمنين عَلِيمٌ بالنيات و ما جرى من الأعمال في تلك الحرب و مقدّماتها 118 إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا الفشل هو الجبن و ضعف القلب. و

في الدر المنثور ذكر جماعة منهم مسلم و البخاري اخرجوا عن جابر ان الطائفتين هم بنو سلمة و بنو حارثة من الأنصار و أخرجه ابن جرير عن ابن عباس و أرسله في مجمع البيان عن الباقر و الصادق (علیه السلام).

و في تفسير القمي نزلت في عبد اللّه بن أبيّ و قوم من أصحابه اتبعوا رأيه في القعود عن نصرة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و يدفعه ان الآية تقول همت ان تفشلا و من المعلوم ان عبد اللّه و أصحابه قد فشلوا و قعدوا و نافقوا كما يأتي حالهم من الآية

ص: 337


1- احد بضم الألف و الحاء جبل على نحو ميل من المدينة في شماليها على طريق العراق

الستين بعد المائة حتى الثانية و الستين من السورة (1) و قد قال اللّه تعالى في الطائفتين وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما و في ذلك دلالة على ان اللّه عصمهما عما همتا به. و قد ذكر في الآيات المشار إليها من ذم اللّه لعبد اللّه و أصحابه و مقته لهم شيئا كثيرا و انهم للكفر يومئذ اقرب منهم للإيمان و قوله تعالى «إِذْ هَمَّتْ» بدل من «إِذْ غَدَوْتَ» وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه وليهم و ناصرهم و لا يهنوا عن نصر الدين بنفاق البعض و خذلانه. كيف

سورة آل عمران (3): آية 123

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)

119 وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ذلك النصر الباهر على أعدائكم ذوي العدد المناهز للألف و العدة الكاملة من الخيل و النعم و السيوف و الدروع وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ بقلة عددكم إذ كان جميع جيشكم ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و بوهن عدّتكم «و المأثور ان معظم سلاحهم جريد النخل و ليس معهم من الخيل إلا فرسان.

و إبلهم أباعر معدودة يتعاقب عليها بعضهم و بعضهم مشاة و لم يخرجوا باهبة حرب و لا عزة محارب فَاتَّقُوا اللَّهَ في نصر دينه و التوكل عليه و عدم التخاذل بنفاق المنافق لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لغاية ان تشكروا اللّه على ما يمنحكم من عظائم النعم و النصر الباهر «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ»

ص: 338


1- قال الطنطاوي في تفسيره 2 ج ص 143 س 20 (عليم) بنياتكم و ما يصيبكم بترككم مراكز القتال لما انهزم عبد اللّه بن أبي سلول فهمت بنو سلمة من الخزرج و بنو حارثة من الأوس و هما كانا جناحي العسكر انتهى و من معلوم التاريخ ان المسلمين ما تركوا مراكز القتال لانهزام عبد اللّه بن أبي سلول بل لم يكن عبد اللّه و أصحابه معهم فجاهدوا و غلبوا المشركين و هزموهم فتركوا مراكزهم لانكبابهم على الغنائم من رحال المشركين او كما يزعم هو في الصفحة المذكورة لاتباعهم مدبرّي المشركين و انظر صفحة 153- و من المعلوم ايضا ان ابن سلول لم ينهزم هو و أصحابه بل رجعوا من بعض الطريق قبل ان يصل النبي (صلی الله علیه و آله) و أصحابه إلى احد و قبل ان ينظم عسكره و معسكره و يبوء المؤمنين مقاعد للقتال او يكون لعسكره ترتيب و جناحان. فابن أبي سلول و أصحابه من القاعدين عن الجهاد و التوجه إلى ميدان الحرب لا من المنهزمين .. و من المعلوم من سياق القرآن الكريم و اتفاق التفسير كما ذكره هذا المفسر ايضا صفحة 156 ان ابن أبي سلول و أصحابه هم الذين حكى اللّه قولهم بقوله تعالى في الآية ال 160 لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ- 162 الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا: فهم القاعدون الذين لم يتبعوا الجيش للقتال لا من المنهزمين

سورة آل عمران (3): الآيات 124 الى 126

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

120 إِذْ تَقُولُ قال في التبيان التقدير اذكر إذ، و في الكشاف ظرف لنصركم أقول و هو اولى و اظهر لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ في الثبات و الاطمئنان بالنصر أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ و ولي أمركم القادر و يبعث لكم مددا لنصركم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ 121 بَلى رد لمضمون النفي في جملة «أ لن يكفيكم» إِنْ تَصْبِرُوا و تثبتوا وَ تَتَّقُوا اللّه فيما تلزم فيه التقوي و منه الثبات لنصر دين الحق وَ يَأْتُوكُمْ أي الأعداء المشركون من قريش العادون بعد ما نجت قافلتهم بإتيانهم لحربكم مِنْ فَوْرِهِمْ هذا قال في التبيان و مجمع البيان من وجههم هذا و رواه في الدر المنثور عن الحسن و عكرمة و الربيع و قتادة و السدي و لم أجد لهذا المعنى أثرا في النهاية و المصباح و لم أعهده في اللغة نعم في القاموس أتوا من فورهم أي من وجههم و قبل أن يسكنوا.

و روى في الدر المنثور عن عكرمة و مجاهد و أبي صالح و الضحاك «من غضبهم» مأخوذ من الفوران و فورة الغضب و هو غريب و اغرب منه ما عن الضحاك من قوله من وجههم و غضبهم و عن ابن عباس من سفرهم هذا. و هو غريب. و من فسره بالغضب قال ان الآية نزلت في غزوة أحد و المراد غضبهم من يوم بدر أقول و المناسب لو صح في اللغة ان يقال من فورهم ذلك مع ان ظاهر الآية و مناسبة اللتين قبلها و بعدها و روايات الكافي و العياشي بأسانيدهما عن الباقر و الصادق عليهما السلام انها نزلت في شأن غزوة بدر. و في الكشاف جعله من الفور ضد التراخي أي من وقتهم هذا القريب. و هذا هو المعروف و المناسب و المتبادر من هذا اللفظ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ من السيما و هي العلامة. و لعل المراد انهم اتخذوا سيماء البشر و لم يبقوا على صورتهم الأصلية لكن

في صحيحة الكافي عن أبي الحسن (علیه السلام) و روايته عن الباقر (علیه السلام) في تفسير المسومين قال «العمائم» و نحو ما في الدر المنثور مما أخرجه ابن إسحاق و الطبراني عن ابن عباس

122 وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الأمداد بالملائكة لأن نصره للمسلمين متوقف على الملائكة. كلا. بل لأن أولئك المسلمين ما عدا الخواص بشر ضعفاء ببشريتهم لا يستحكم استبشارهم و اطمئنانهم إلا بالمحسوسات الجارية على العادات ككثرة العدد

ص: 339

و شوكة المدد فشاء اللّه برحمته أن يجاري بشريتهم بما تتحقق لهم به البشرى و الاطمئنان في حربهم بل و الاطمئنان بأنهم على الحق اليقين و ان اللّه معهم فما جعله إِلَّا بُشْرى لَكُمْ ايها المسلمون المجاهدون وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي بسبب الأمداد المذكور وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ في أمره الْحَكِيمِ في اعماله و نصره و تطييب قلوب المؤمنين و ليس النصر من الملائكة و لا من غيرهم

سورة آل عمران (3): الآيات 127 الى 128

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)

123 لِيَقْطَعَ تعليل للنصر لا لقوله تعالى فيما سبق «نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ» كما ذكر في التبيان و مجمع البيان قوله و ذكره في الكشاف أول التفسيرين فإنه لا يلايم الترديد و التقسيم في قوله تعالى (ليقطع او يكبت) بل الذي يناسبه هو النصر المطلق الذي يقطع به طَرَفاً أي بعضا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا و يهلكهم كما في يوم بدر و خيبر و نحوهما أَوْ يَكْبِتَهُمْ كما في يوم الأحزاب و أمثاله. في المصباح كبته اهانه و أذله و كبته لوجهه صرعه. و في النهاية أذله و صرفه و صرعه و خيبه. و في القاموس صرعه و أخزاه و صرفه و كسره و ردّ العدوّ بغيظه و أذله.

و عن الخليل الكبت صرع الشي ء على وجهه و حقيقة الكبت شدّة الوهى الذي يقع في القلب و ربما صرع الإنسان لوجهه للخور الذي يدخله. و في التبيان الكبت الخزي و نسب ما عن الخليل الى القيل. و في الكشاف يخزيهم و يغيظهم بالهزيمة أقول و المراد من الكبت في الآية معنى تحوم حوله هذه المعاني التي يأخذونها مما تسنح لهم من مناسبة المقام او موارد الاستعمال و لعله نحو مجاز مما ذكر عن الخليل فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ الخيبة معروفة و فسرت بالانقطاع عما امل و هو انسب مما ذكر لها من التفسير، 124 لَيْسَ لَكَ يا رسول اللّه مِنَ الْأَمْرِ في شؤون الخلق من حيث الإيصال إلى الهدى و التوبة و التعذيب و نحو ذلك شَيْ ءٌ مما يرجع إلى قدرة اللّه و لا داخل تحت قدرتك فإنك بشر مخلوق و انما الأمر في ذلك للّه أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بنصب يتوب أي إذا تابوا و أصلحوا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بالنصب أيضا إذا لم يتوبوا فيتوب عليهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ اختار في الكشاف ان نصب يتوب و يعذبهم بالعطف على «ليقطع» و جملة ليس لك من الأمر معترضة و نسب غيره إلى القيل. و ذكره قبله في التبيان أول الوجهين

ص: 340

و في مجمع البيان احد الوجهين. و يدفعه زيادة على وهن اعتراض الجملة ان التوبة و العذاب لا مناسبة لكونهما غاية للنصر لكي يقال بعطفها على «ليقطع او يكبت» و نقل في الكشاف قولا حاصله ان يتوب و يعذبهم منصوبان بان مضمرة بعد او. و المصدر في محل الجر بالعطف بأو على الأمر أي ليس لك من الأمر و التوبة عليهم او عذابهم شي ء. او في محل الرفع بالعطف على شي ء أي ليس لك من الأمر شي ء او التوبة عليهم او تعذيبهم. و في التبيان و مجمع البيان ذكرا وجها آخر نسبه الكشاف الى القيل و هو ان او بمعنى إلا. و ذلك كقول زياد الأعجم

«و كنت إذا غمزت قناة قوم كسرت كعوبها او تستقيما»

بمعنى ليس لك من الأمر شي ء إلا توبة اللّه عليهم او عذابهم فيكون أمرك تابعا لأمر اللّه لرضاك بتدبيره كما في التبيان و مجمع البيان و أقول ان الأمر في توبة اللّه عليهم او تعذيبه لهم إنما هو للّه وحده فلا يصح استثناؤه و إثباته للرسول بالاستثناء المتصل و لا يجدي في ذلك التفريع بقولهما فيكون أمرك تابعا لأمر اللّه مع انه لا دلالة على هذا التفريع. فالوجه ان تكون «او» الأولى بمعنى «الا» التي هي للاستدراك مثل «لكن» المخففة كما في الاستثناء المنقطع الرافعة لما يتوهم من الكلام السابق عليها فإن سياق قوله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ بعد ذكر الذين كفروا في الآية السابقة قد يتوهم منه انه لا يقع شي ء مما يرجوه الرسول من صلاحهم و إسلامهم فجرى الاستدراك بما يؤدي إلا ان رجاء الرسول لا ينقطع بالنفي المتقدم بل يتوب اللّه على من يتوب و ينيب الى الإسلام و يعذب الذين لا يتوبون لأنهم ظالمون بكفرهم و سوء اعمالهم.

و روي في الدر المنثور في نزول الآية روايات لا تكاد أن تنطبق. منها عن احمد و البخاري و الترمذي و النسائي و غيرهم عن ابن عمر ان رسول اللّه قال يوم أحد اللهم العن أبا سفيان و ذكر ثلاثة معه فنزلت الآية. و يدفعه ان الدعاء باللعن ليس من الأمر المنفي عن رسول اللّه بل دعاء جعله اللّه لرسوله و لسائر المؤمنين بقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. و قد لعن اللّه الظالمين و الكافرين. و كذا الكلام فيما أخرجه البخاري و مسلم و جماعة عن أبي هريرة ان النبي قنت بعد الركوع و دعا بنجاة اشخاص و لعن بعضا فنزلت الآية. مضافا الى ان الآية لا تناسب الدعوة بالنجاة مع ان هاتين الروايتين و أمثالهما متنافية بالتعارض في سبب النزول

سورة آل عمران (3): آية 129

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

125 وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و الأمر بيده يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ كقوله تعالى في سورة ط

ص: 341

المكية 84 وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ من لم يحسن توبته وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و أناب

سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 134

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

126 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً هذا بيان لنحو من جهات المفسدة فيه و ذلك انه بحسب طبعه و جوره يستهلك اموال المديون و يكون ما يأخذه منه أضعافا مضاعفة بالنسبة لما استدانه فإياكم و باب هذا الجور وَ اتَّقُوا اللَّهَ فإن التقوى هي التي يقوم بها النظام و يستقيم الاجتماع لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لغاية ان تفلحوا 127 وَ اتَّقُوا النَّارَ جهنم الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ و ما أخس مقامها و أعظم عذابها بهذا الاعداد المشوم و ما اخس المسلم الذي يلقي نفسه بسوء اعماله و اكله الربا في هذه النار 128 وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لغاية ان ترحموا إذا ثبتم على الطاعة الكاملة 129 وَ سارِعُوا بصالح اعمالكم و حسن توبتكم و لا تسوفوا فيفوتكم حظكم إِلى مَغْفِرَةٍ لكم مِنْ رَبِّكُمْ و ولي أموركم وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اي مقدار عرضها السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ و لا بد من ان يكون طولها اكثر من ذلك بحسب ما شاء اللّه. و ان أوهام الهيئة القديمة في أفلاكها و محدد الجهات لتثير هاهنا سؤالا و لكن من يعرف قدرة اللّه وسعة ملكوته لا تعترض هذه الأوهام ايمانه. و ذكرت سعة الجنة ليطمئن الإنسان بأن له ما تشتهيه نفسه من المحل الواسع و لعل هذا التقدير للعرض جار على ما يناله تصور نوع الناس من التمثيل بالموجود في الخارج و هذه الجنة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ للّه و كانت التقوى لهم ملكة ثابتة. و إليك شيئا من صفاتهم الكريمة 130 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ لوجه اللّه فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ في الدر المنثور عن ابن عباس في حالتي اليسر و العسر. و في التبيان و قيل في حال السرور و الاغتمام أي لا يقطعهم شي ء من ذلك عن الإنفاق فيدخل فيه اليسر و العسر انتهى و ينبغي ان يراد اسباب الاغتمام نوعا من انواع الضراء و هذا اقرب و ادخل بعمومه في المدح وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ كظم غيظه حبسه

ص: 342

و رده بالصبر عن هيجان آثاره من الكلام او الانتقام. و كظم البعير امسك عن الجرة. قيل واصله كظم القربة أي شد رأسها عند ملئها أقول كان المراد كظم مائها عن أن يطفح و كظم البعير ما في كرشه عن ان يخرجه للاجترار وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ و العفو اقرب للتقوى. و ان كظم الغيظ و العفو عن الناس من محاسن الأخلاق و آثار الفضيلة التي تعين على السلم و الهدو و حسن الاجتماع و راحة البشر في الجملة. و صفات هذه الآية من أهم موارد الإحسان وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و كفى بذلك فخرا و فوزا

سورة آل عمران (3): آية 135

وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135)

131 وَ الَّذِينَ قيل انها مجرورة بالعطف على المتقين و «أولئك» في الآية الآتية اشارة إلى الجميع و ذكرت المغفرة لأن كل من عدا المعصوم محتاج إليها. و قيل الذين مبتدأ و جملة أولئك خبره و القول الاول انسب ببيان الجزاء للمتقين و بقوله تعالى فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فان الاستغفار و ان كان عملا صالحا لكنه يبعد ان يترك التنويه باعمال المتقين و يقتصر في التنويه على استغفار أولئك المستغفرين هذا و إذا قيل ان خصوص ما ذكر من اتفاق فعل الفاحشة و ظلم النفس مع ذكر اللّه و استغفاره و عدم الإصرار لا ينافي كونهم من المتقين قبل ذلك و بعد ذكر اللّه و الاستغفار و إن تضعضعت فيهم ملكة التقوى عند الذنب فعليه تكون كلمة «الذين» معطوفة على «العافين» في طرد صفات المتقين و فيه نوع اشكال و اللّه العالم إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً في النهاية الفاحشة كل ما اشتد قبحه من الذنوب و المعاصي و كثيرا ما ترد بمعنى الزنا. و في المصباح فحش مثل قبح و كل شي ء تجاوز الحد فهو فاحش و منه غبن فاحش. و في القاموس الفاحشة الزنا و كل ما يشتد قبحه من الذنوب أقول و أظن ان ارادة الزنا من الفاحشة في بعض الموارد إنما هو باعتبار كونه من الافراد الظاهرة في الفحشاء فالأظهر في الآية استعمال الفاحشة في مطلق المعصية الفاحشة في قبحها أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بما دون ذلك من الذنوب ذَكَرُوا اللَّهَ قيل ذكروا و عبدوا اللّه. و الأقرب ان يكون المراد انهم بعد ان اغفلهم الشيطان و النفس الأمارة حين الذنب و أنساهم ما يجب له من الطاعة و عدم المخالفة ذكروا اللّه و ماله من الجلال و انه ربهم العظيم و مالك أمرهم و مرجع خوفهم و رجائهم و تنبهوا الى زللهم فَاسْتَغْفَرُوا اللّه لِذُنُوبِهِمْ فيكون السر في ذلك تمييزهم عمن

ص: 343

كان اللّه على ذكرهم حين المعصية ففعلوها محادة له و عنادا فإن هؤلاء بعيدون- و العياذ للّه- عن التوبة و الاستغفار وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ و هل يلتجأ العارف باللّه لغفران ذنبه إلا الى اللّه و لئن استشفع الى اللّه بمن جعلت له الشفاعة فإن ذلك مما يؤكد الفزع و الالتجاء الى اللّه.

و لعل في هذا الإنكار اشارة الى من يطلب المغفرة من الأوثان او من القسوس و يعتمد على غفرانهم كما هو المتعارف عند فرقة «الكاثوليك» من النصارى حتى في هذه الأزمنة. و من يغفر الذنوب إلا اللّه وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا من ذنوبهم و لم يقيموا عليها تماديا على المعصية وَ هُمْ يَعْلَمُونَ الجملة حالية أي لم يصروا حال كونهم عالمين بأن فعلهم معصية فإن هذا هو الإصرار الموبق و اما من أصر على ما يجهل كونه معصية فليس بمصر على معصية

سورة آل عمران (3): الآيات 136 الى 137

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

132 أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ و المخصوص بالمدح في «نعم» هي المغفرة و الجنات المذكورة باعتبار ان ذكر اللّه و استغفاره عمل صالح جلت آلاء اللّه و ألطافه 133 قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِكُمْ يا ايها الناس أو يا ايها الذين آمنوا سُنَنٌ منها سنن المؤمنين المصدقين للأنبياء و المجاهدين في سبيل اللّه و الجارين على ما ارشدوا اليه من العمل الصالح و الاستعداد لسعادة الآخرة و طلب ما عند اللّه فجعلوا الدنيا دار رحلة و تزود، و مع ذلك قد تنعموا فيها بالرضا بما قسم اللّه بأحسن من نعيم غيرهم المكدّر المنغص بالحرص و طموح الشهوات و جماح الأنفس في الطمع. و منها سنن الكافرين المكذبين مع قيام الحجة عليهم و وضوح البينات لهم كل ذلك لانهماكهم بالضلال و الشهوات و قصر نظرهم على الدنيا فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ لزيادة الاعتبار و التبصر فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ للرسل و آيات اللّه إذ قطعت الدنيا آمالهم و كدرت عيشهم و تركت ديارهم للخراب او لسكنى الأعداء و نعيمهم للبوار و جمعهم للشتات. فانظروا الى آثار عاد و ثمود و قوم لوط. بل و انظروا الى الملوك المكذبين للأنبياء من بني إسرائيل و اتباعهم من

ص: 344

تلكم الأمم الطاغية كيف قد صارت عاقبتهم للفناء و الشتات و الجلاء من الديار و ذلة الأسر و القتل و لم يبق في ديارهم إلا الاسم

سورة آل عمران (3): الآيات 138 الى 139

هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

134 هذا الظاهر ان الآيات من قوله تعالى «وَ إِذْ غَدَوْتَ» الى هنا سابقة على هذه الآية في نسق التنزيل فتكون الإشارة راجعة إلى مضامين تلك الآيات الكريمة و ما احتوت عليه من المطالب العالية. او إلى مضمون الآية السابقة.

و لأجل الشك من بعضهم في ترتيب النزول قال ان الاشارة إلى القرآن أقول و هو بعيد.

إذ لو كانت الإشارة إلى القرآن لقيل هذا القرآن و نحو ذلك كما قيل في أمثال ذلك بَيانٌ لِلنَّاسِ حتى من لا يهتدي و لا يتعظ وَ هُدىً موصلا الى الحق وَ مَوْعِظَةٌ تدعو الى الاتعاظ لِلْمُتَّقِينَ للّه فان البيان يؤثر فيهم الاهتداء و الاتعاظ 135 وَ لا تَهِنُوا ايها المسلمون بسبب ما أصابكم في يوم احد. و في كتب اللغة الوهن الضعف. لكن المترائى من موارد الاستعمال انه نحو خاص من الضعف. و في القاموس و تبعه صاحب المنار انه ضعف في العمل. فإن أراد ضعف العامل في عمله بأن يكون الوهن صفة للعامل فقد نسيا قوله تعالى إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ و ان أراد ضعف العمل او ضعف المعمول بأن يكون الوهن صفة للعمل او للمعمول من حيث انه معمول فقد غفلا عن هذه الآية و عن قوله تعالى فَما وَهَنُوا كما سيأتي قريبا ان شاء اللّه. و المراد لا يظهر عليكم اثر الضعف و الخور وَ لا تَحْزَنُوا مما أصابكم وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ و في هذه الجملة وجوه «أولها» في التبيان و مجمع البيان و الكشاف انها حالية فتكون كالاحتجاج عليهم في النهي عن الوهن و الحزن بمعنى انكم رأيتم نصر اللّه لكم و علوكم على عدوكم فقد كنتم نحو ربع المشركين فهزمتموهم و أثخنتم فيهم القتل في أول الحرب. و مع انكم طمعتم في الغنيمة و اخليتم مراكزكم في الحرب و شعبكم الذي يحمي ظهوركم و انهزمتم تلك الهزيمة من اللّه و أنعم عليكم برسوله و ثبات الصادقين في جهادهم فتراجعتم و انخذل المشركون و أحجموا عن قتالكم فإنكم الأعلون في هذا الحرب و خاتمتها مهما أصابكم بما كسبت أيديكم «ثانيها» احتمل في التبيان و المجمع ان تكون جملة «و أنتم الأعلون» ابتدائية أي لا تهنوا و لا تحزنوا ان كنتم مؤمنين و أنتم الأعلون فتكون

ص: 345

متضمنة للبشرى بالعلو المطلق حتى في المستقبل «ثالثها» ان يراد أنتم الأعلون مطلقا بحسب ما ذكر في الوجه الأول و بحسب علمكم بما وعد اللّه رسوله و بشراه لكم بعلو أمر الدين و بوار المشركين فيصح عليه كون الجملة حالية. و يكون قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيدا للتصديق بالبشرى أو للبشرى و على الوجهين الأولين تكون مبينة ان انتهاءهم عن الوهن و الحزن تابع لإيمانهم باللّه. و يجوز ايضا على الوجه الأول ان تكون قيدا لإذعانهم و ايمانهم بأن ما ذكر فيه من علوهم في أول الحرب و خاتمتها كان من نصر اللّه لهم. و الأظهر هو الوجه الثالث

سورة آل عمران (3): آية 140

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

136 إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ لعل التعبير بالمس لتهوين ما أصابهم ببيان انه مس لا نكاية و القرح بفتح القاف فسره في التبيان و مجمع البيان و الكشاف بالجرح و عن مجاهد جراح و قتل.

و يجوز ان يكون واحد القروح كناية عما أصابهم و هو الأظهر فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ المشركين قَرْحٌ مِثْلُهُ قيل ان ذلك اشارة الى ما أصاب المشركين يوم بدر و هو المروي عن الحسن البصري. و لكن الأظهر و المناسب للمقام و أسلوبه و تسليته و تشجيعه ان يراد ما أصاب المشركين يوم احد فقد قتل منهم يومئذ خلق كثير من شجعانهم و اهل نجدتهم فقد عدّ في التاريخ عشرة و عشرة و فلانا و فلانا بحيث لا يقل عن شهداء المسلمين بكثير. و أما قوله تعالى في الآية التاسعة و الخمسين بعد المائة «قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» فيمكن ان يراد به القتلى و الأسرى من المشركين في يوم بدر و يمكن ان يراد به قتلى المشركين في بدر واحد و لكن هون على المشركين يوم احد انهم أدركوا فيه شيئا من ثار بدر و لم يصدموا بصدمته. و شدد على المسلمين ما لقوه انه على خلاف ما يرجونه من نصر اللّه لهم و لدين الحق و انهم أذنبوا بفرارهم فنالهم بعض الخذلان و لذلك صارت حربهم بانثيالهم على اطماع الغنائم و فرارهم حربا عادية لم تستمر معها روح النصر الأول فجرت على سنة الحروب المبتنية غلبتها على الاقدام و الفرار و الكثرة و القلة و ما يعرض من الأحوال الحربية و التقدير الإلهي المنوط بالأسباب العادية في عالم التكوين من مداولة الأيام بحسب التقدير لأسبابها. و على هذا الوجه قال اللّه جل اسمه وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ بمقتضى التقدير على الأسباب. و الأيام عطف بيان «لتلك» اي ايام الحرب او ايام الدنيا.

ص: 346

و نداولها خبر. و جرى ما جرى على مقتضى أحوال الناس من نفاق عبد اللّه بن أبي و أصحابه و رجوعهم من الجيش و من مخالفة من خالف كالكثير من اصحاب عبد اللّه بن جبير و من فرار من فر و كان ما كان من جري الأمور على أسبابها لإجراء الأمور على مقاديرها وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي و لتكون العاقبة ان يتحقق في الخارج ايمان الذين آمنوا و اتبعوا الرسول إلى الحرب و جاهدوا و يعلمهم اللّه في الأزل بعلمه التابع و يقارن ذلك في استمراره عملهم في الإيمان و الجهاد وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ اي و لتكن العاقبة ان يفوز بعضكم بالشهادة. و في التعبير بقوله تعالى «وَ يَتَّخِذَ» تكريم عظيم للشهداء إذا كان استشهادهم باتخاذه لهم و اختياره لهم الحسنى وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ و لكنكم فررتم و خالفتم فتسلط عليكم الظالمون بحسب مجرى الأسباب و المقادير و احوال الحرب

سورة آل عمران (3): الآيات 141 الى 142

وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)

137 وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي و لتكن العاقبة ايضا تمحيص المؤمنين من غيرهم. و التمحيص التخليص اما من شين الخليط بتمييز المؤمن بإيمانه من غيره. و اما بتخليص المؤمن من الذنوب و الأظهر الأول وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ بنقصهم شيئا فشيئا حتى يضمحلوا 138 أَمْ حَسِبْتُمْ أم منقطعة في مقام الاستفهام الانكاري أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ جملة «و لما يعلم» حال من «تدخلوا» و كلمة «لما» تفيد النفي المستمر إلى زمان الخطاب او متعلق الحال لما هو في مقام الوقوع.

اي حسبتم ان تدخلوا الجنة حال عدم علم اللّه التابع من الأزل إلى أوان دخول الجنة بجهاد المجاهدين. و حاصل المعنى أم حسبتم ان تدخلوا الجنة و لما يجاهد المجاهدين منكم فذكر علم اللّه لأنه لازم للوقوع و في ذلك اشارة الى وقوع الجهاد و حصول المجاهدين و الصابرين وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ بنصب يعلم بان مضمرة و الواو بمعنى مع أي يعلم الذين جاهدوا مع علمه بالصابرين. كما يقال لا تأكل السمك و تشرب اللبن بنصب تشرب أي لا تأكله مع شريك اللبن و يكون العلم بالصابرين قيدا لاثر العلم بالمجاهدين و حاصله ان دخولكم الجنة منوط بجهاد المجاهدين مع صبر الصابرين الثابتين مدة الجهاد في مركز الحرب و احتدام لظاها. فلا تظنوا انكم تدخلون الجنة

ص: 347

لو لا هذين العمادين الذين قام بهما الدين و انتظمت جامعة الإسلام و الهدى و بصبر الصابرين في ذلك و صادق جهادهم و ثباتهم حفظت في ذلك اليوم شوكة الإسلام فتيسر رجوعكم إلى الرسول الأكرم بالكرة و توبتكم من الفرار من الزحف فتأهلتم لدخول الجنة ببركة الإسلام و صالح الأعمال. هذا و المحصل من واقعة أحد بحسب التاريخ و الحديث ان عليا (علیه السلام) قتل طلحة من بني عبد الدار صاحب لواء المشركين و اكثر الحديث و التاريخ و أصحه انه عليه السلام قتل تسعة تعاقبوا على حمل لواء المشركين من بني عبد الدار و عاشرهم صواب مولاهم و اشتدت الحرب فانهزم المشركون فانثال المسلمون على الغنيمة و طمع فيها اكثر اصحاب عبد اللّه ابن جبير و لم يصغوا إلى نهي عبد اللّه عن مبارحة الشعب و لم يحفظوا وصية رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و امره بذلك فلم يبق مع عبد اللّه إلا عشرة فما دون فاغتنم ذلك خالد بن الوليد و هجم عليهم بخيل المشركين فقتلهم ودهم المسلمين من ورائهم و هم غارون بالغنائم ففر المسلمون بهزيمة مهولة و الذي اتفق التاريخ على انه ثبت في ذلك في حومة الحرب و الدفاع عن رسول اللّه هو امير المؤمنين علي و اختلف في غيره و ربما تذكر لبعضهم اعمال بغد ان فاء المسلمون إلى رسول اللّه من فرارهم فيحسب انه كان من الثابتين الذين لم يفروا.

روى الطبراني في الكبير كما في كنز العمال و منتخبه مسندا عن أبي رافع لما أقبلت على علي يوم احد اصحاب الألوية قال جبرائيل يا رسول اللّه ان هذه لهي المواساة فقال النبي (صلی الله علیه و آله) انه مني و انا منه فقال جبرائيل و انا منكما يا رسول اللّه،

و روى ابن جرير في تاريخه مسندا برجال الصحة عندهم عن محمد ابن عبيد اللّه بن أبي رافع عن أبيه عن جده لما قتل علي اصحاب الألوية ابصر رسول اللّه جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جمعهم و قتل عمرو الجمحي ثم ابصر رسول اللّه جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جماعتهم و قتل شيبة بن مالك فقال جبرائيل يا رسول اللّه ان هذه لمواساة فقال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) «انه مني و انا منه» فقال جبرائيل و انا منكما قال فسمعوا صوتا «لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي».

و ذكر نحوه ابن الأثير في تاريخه

إلا انه لم يذكر المقتولين في الحملتين. و في اللئالئ المصنوعة

عن ابن عدي مسندا برجال الصحة عندهم عن محمد المذكور عن أبيه عن جده قال كانت راية رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يوم احد مع علي (علیه السلام) و راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة فذكر خبرا طويلا و فيه و حمل راية المشركين سبعة و يقتلهم علي (علیه السلام) فقال جبرائيل يا محمد هذه المواساة

ص: 348

فقال النبي (صلی الله علیه و آله) انا منه و هو مني ثم سمعنا صائحا في السماء يقول «لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي» (1).

و عن ابن المغازلي الشافعي في المناقب مسندا عن أبي رافع نادى ملك من السماء يوم احد لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي.

و روى ابن عدي مسندا عن ابن عباس قال صاح صائح يوم احد لا سيف الا ذو الفقار و لا فتى إلا علي.

لكن قالع.

ص: 349


1- ثم ذكر عن ابن عدي قوله عبيد رافضي يحدث بالموضوعات. أقول و لعل ذلك و هم من الناسخ او الطابع و ان الذي ذكره ابن عدي و رماه بالرفض هو محمد بن عبيد اللّه فإن عبيد اللّه من رجال الجوامع الست و الظاهر اتفاقهم على انه ثقة. و محمد روى عنه الترمذي و ابن ماجه في جامعيهما و ذكره ابن حبان في الثقاة. لكن عن البخاري و أبي حاتم انه منكر الحديث. أقول و ذنبه الذي لا يغفره بعض هو تشيعه و روايته للفضائل و يكشف عن ذلك قول ابن عدي هو في عداد شيعة اهل الكوفة و يروي من الفضائل أشياء لا يتابع عليها أقول و هذا هو السبب في عده منكر الحديث و ذاهبا. و من ذلك ان الذهبي غمز عليه بأنه روى عن أبيه عن جده قول رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام) أول من يدخل الجنة أنا و أنت و الحسن و الحسين و ذرياتنا خلفنا و شيعتنا عن ايماننا و شمائلنا. و قد ذكرنا في صفحة 45 عن ابن عدي انه يعد ما عليه اهل الكوفة من التشيع ميلا عن الحق. و لا يخفى ان التشيع في الاصطلاح و استعمال اصحاب الرجال من اهل السنة هو غير ما يسمونه رفضا بل هو عبارة عن مجانبة معاوية و اتباعه و ولاء علي و اهل البيت عليهم السلام و مودتهم أخذا بقوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى لكن هذا التشيع عند بعض ذنب لا يغفر. ففي ميزان الذهبي في ترجمة عبد اللّه بن ابراهيم الأنصاري عن أبي بكر القطيعي قوله فيه انه متماسك لكنه من شيوخ الشيعة لارعوا. و في ترجمة يحيى بن عبد الحميد الحماني انه وثقه ابن معين و غيره و ان ابن عدي ارتضاه و لكنه شيعي بغيض: و قد سرى هذا الداء للذهبي من العصور السابقة ففي اللئالي عن ابن معين انه قال في أبي الصلت الهروي انه ثقة صدوق إلا انه يتشيع. و ان العباس بن محمد الدوري و صالح بن محمد بن حبيب و عبد الخالق بن منصور و غيرهم اعترضوا على يحيى بن معين في توثيقه لأبي الصلت بأن أبا الصلت يروي حديث «انا مدينة العلم و علي بابها» فقال لهم يحيى قد رواه الفيدي ايضا. فانظر إلى ما تغلغل في الصدور من ان رواية هذا الحديث تفتح باب الطعن على راوية و يكون بسببه منكر الحديث. و في تهذيب التهذيب في ترجمة على بن غراب عن ابن معين لم يكن به بأس و لكنه كان يتشيع. و عن الخطيب أظنه طعن عليه لأجل مذهبه لأنه كان يتشيع.

ابن عدي ان في سنده يحيى بن سلمة بن كهيل و هو متروك (1). و

قال ابن أبي الحديد في أواخر الجزء الثالث من شرحه للنهج روى ابو عمر الزاهد و محمد بن حبيب في اماليه قال لما فرّ معظم اصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين و ذكر نحو ما ذكره ابن جرير و زاد ان عليا (علیه السلام) قتل من الكتيبة الأولى عشرة و زاد في قول جبرائيل لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى. و ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) سئل عن المنادى فقال (صلی الله علیه و آله) هذا جبرائيل.

ثم قال ابن أبي الحديد و قد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين و هو من الأخبار المشهورة و وقفت عليه في بعض نسخ مغازي ابن اسحق و رأيت بعضها خاليا عنه و سئلت شيخي عبد الوهاب بن سكينه عن هذا الخبر فقال خبر صحيح فقلت فما بال الصحاح لم تشتمل عليه فقال او كلما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح فلكم أهمل جامعوا الصحاح من الاخبار الصحيحة و عن السمعاني في كتاب فضائل الصحابة بسنده عن الباقر (علیه السلام) و ذكر نحو هذا النداء. و

عن ابن المغازلي انه روى بسنده عن الباقر (علیه السلام) انه نودي بهذا النداء يوم بدر

و روى ابن عدي بسنده عن الباقر (علیه السلام) نادى مناد من السماء يوم بدر يقال له رضوان «لا سيف الا ذو الفقار و لا فتى إلا علي» (1).

و عن سبط الجوزي انه نودي في يوم خيبر و صححه لا سيف إلا ذوة.

ص: 350


1- في التقريب متروك و كان شيعيا أقول هو من رجال الترمذي و روى عنه احمد في مسنده حبة العرني و قواه الحاكم و اخرج عنه في المستدرك و أخذ عنه جماعة و ذكره ابن حبان في الثقاة و قال ان في حديث ابنه عنه مناكير انتهى و ما ادعى كونه متروكا إلا من يأخذ على ظنه التشيع و يثقل عليه حديثه في الفضائل. و قد غمز عليه الذهبي بذلك في ميزانه بأنه روى بسنده عن ثوبان عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قوله: «النظر إلى عليّ (علیه السلام) عبادة» و قال العجلي كان يغلو في التشيع. أقول و لك العبرة بأن عمران بن حطان و أمثاله من الخوارج المبغضين لأمير المؤمنين (علیه السلام) يحتج بحديثهم في الجوامع. و الذين يصفونهم بالنصب يصفونهم بأنهم ثقات و يسمون بعضهم أئمة. و ان عمر بن سعد قاتل الحسين (علیه السلام) و تاركه بالعراء بلا دفن و ناهب رحله و سابي عياله يقول الذهبي في ميزانه فيه انه في نفسه غير متهم و عن العجلي روى عنه الناس تابعي ثقة و هو الذي قتل الحسين. و في التقريب صدوق لكنه مقته الناس لكونه كان أميرا على الجيش الذي قتلوا الحسين. فانظر إلى نسبة القتل إلى الجيش مع ان عمر هو الآمر و المثابر و فاعل الأفاعيل.

الفقار و لا فتى إلا علي و انه رواه احمد في الفضائل

و ذكر ايضا انه مما روي به النداء ايضا يوم بدر أقول و لا تنافي بين هذه الروايات إذ يمكن صدور هذا النداء في بدر واحد و خيبر فإن امير المؤمنين (علیه السلام) قد امتاز في تلك الأيام بالمواقف العظيمة. فإن قلت الحديث عن أبي رافع مختلف في لفظه أ فلا يعد هذا من الاضطراب الموهن للرواية قلت ان الاختلاف انما هو بالنقيصة و هذا ليس من الاضطراب بل تحمل النقيصة على النسيان أو دواع أخر و قد ابتلي الحديث بالاختلاف الذي هو أشد من هذا فإن جل ما تكرر من الحديث في مسند احمد و الجوامع الست و غيرها او كله لا ينفك عن مثل هذا الاختلاف و ما هو اكثر منه و اكثر فانظر إلى كتب الحديث و اعتبر، «ظريفة» قال الطنطاوي في صفحة 143 من الجزء الثاني من تفسيره «فانهزم المسلمون و بقي رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في جماعة من أصحابه كأبي بكر و علي و العباس و طلحة و سعد» قلت ربما روى ما يترائى منه ان أبا بكر من الثابتين و لكن المعروف في الحديث و التاريخ انه ليس ممن دام ثباته في أول الحرب إلى آخرها و في صحيح ابن حبان مسندا عن عائشة قالت قال ابو بكر لما كان يوم احد انصرف الناس كلهم عن رسول اللّه فكنت أول من فاء اليه دع هذا و لكن قل الطنطاوي اين كان العباس يوم احد و العباس لم يدخل في جامعة المسلمين و يأتي المدينة إلا بعد فتح مكة و أي عباس هذا و لقد تخيلت ان كلمة «و العباس» من غلط المطبعة فنظرت إلى جدول التصحيح فرأيته صحح من الصفحة المذكورة غلطتين لفظيتين دون هذا المعنوي الكبير نعم ذكر في صفحة 154 ان الذين ثبتوا يومئذ مع النبي (صلی الله علیه و آله) من المهاجرين سبعة لم يذكر منهم العباس «فظن خيرا» و ان كان له في تاريخ الشرق غرائب و أحوالا.

سورة آل عمران (3): آية 143

وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

139 وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ تتمنون فحذفت احدى التائين و مثله شايع كثير في العربية و التمني معروف الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ

في تفسير القمي و في رواية أبي الجارود عن الباقر (علیه السلام) ان المؤمنين لما أخبرهم بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر و منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك و قالوا اللهم أرنا قتالا نستشهد فيه فأراهم اللّه إياه يوم احد فلم يثبتوا إلا من شاء اللّه منهم. و في الدر المنثور اخرج

***-***

و في اللئالي كلا بل هو ثبت ثقة من الأبدال. و في التقريب صدوق يخطي أقول و لعل نسبته إلى الخطأ جاءته من روايته لهذا الحديث و أمثاله

ص: 351

ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس و ذكر نحوا من ذلك.

و لئن لم تنهض الروايات حجة في ذلك فالآية ناطقة بما هو نحوه. و مقامها يقتضي ان يكون المراد من الموت المتمنى هي الشهادة فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ قيل رأيتم أسبابه من الحرب و القتال أقول و ان الشهادة و القتل و بقاء الأبدان بلا أرواح امر مرئي و لا مانع من ان يراد ذلك مع انه اظهر و اولى. و الرؤية هي الاحساس بالباصرة وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ و النظر غير الرؤية المتعدية إلى مفعولها بل هو اعمال الباصرة لأجل الرؤية و يكفي في بيان المغايرة انه لا يتعدى إلا بكلمة «إلى» كما عليه اللغة و استعمال القرآن الكريم اي رأيتموه لا صدقة و أنتم تعملون باصرتكم لأجل رؤية الحال و القتال و الشهادة و موت الشهداء. و لا ضير في تمني الشهادة بعد العلم العادي بأن الدفاع في نصرة الدين لا بد فيه من ان ينال بعض المسلمين سعادة الشهادة و حياتها الأبدية خصوصا بعد ما يروى من ان النبي (صلی الله علیه و آله) أخبرهم بأنهم يستشهد بعدد اسرى بدر و اين هذا من تمني تسلط الشرك و نقص عدد المسلمين كما يذكر في الاشكال الواهي

سورة آل عمران (3): الآيات 144 الى 145

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

140 وَ ما مُحَمَّدٌ صلى اللّه عليه و آله و سلم إِلَّا رَسُولٌ من البشر المقدر عليه الموت ببلوغ اجله قَدْ خَلَتْ و مضت و سلفت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ دعاهم اللّه فأجابوا و هو مثلهم امره بيد اللّه يدعوه إلى دار السعادة و الزلفى فيجيب أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ناكصين عن الطاعة او الدين. و الاستفهام للإنكار عليهم. و قد روى البخاري في باب الحوض و غيره في غيره و لعله من الحديث المعلوم بين الفريقين ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) اخبر بانقلاب ناس من أصحابه وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عن الطاعة او الدين عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً و إنما يهلك نفسه فإن اللّه غني عن العالمين وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ لنعمته عليهم بالإيمان و الشريعة إذ عرفوا ما لهذه النعمة من القدر العظيم فثبتوا عليها 141 وَ لا تحسبوا ان الموت يأتيكم مصادفة و اتفاقا من عروض العوارض بلا تقدير من اللّه فتتوهموا انه ينجيكم منه الحذر و الفرار و القعود عن الجهاد بل ما كانَ و لم يثبت بل و لا يثبت لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و مشيئته و تقديره كِتاباً في التبيان و المجمع

ص: 352

و الكشاف انه مصدر منصوب بفعل من لفظه أي كتب ذلك كتابا أقول و يجوز ان لم يكن الظاهر ان يكون بمعنى المكتوب و هو حال مفسرة من الاذن مُؤَجَّلًا اي كتبت فيه الآجال بحدودها وَ مَنْ يُرِدْ من اللّه بعمله ثَوابَ الدُّنْيا و الجزاء فيها نُؤْتِهِ مِنْها أي من الدنيا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ و ما أعده اللّه لطالبيها نُؤْتِهِ مِنْها بحسب عمله و إخلاصه وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ للّه على نعمه و أعظمها توفيقهم لطاعته و طلب ما عنده. هذا هو الظاهر من الآية و ذكر في التبيان و مجمع البيان أقوالا لا حجة عليها و لا بها

سورة آل عمران (3): آية 146

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

142 وَ كَأَيِّنْ الظاهر من المغني و شرح الكافية للشيخ الرضي اتفاق النحويين و أمثالهم على انها مركبة من كاف التشبيه و «أي» الموصولة و رسمت النون للمحافظة على التنوين في الأصل و انها صارت بعد التركيب اسما يفيد معنى «كم» الخيرية و التكثير و ان خالفتها من وجوه و ان محلها الابتداء و ما بعد تمييزها خبرها و على ذلك جرى مجمع البيان بل و ظاهر التبيان و أما الكشاف فلم يتعرض في تفسيره لشي ء من ذلك أقول ان لم يجدوا منها في موارد استعمالها معنى كاف التشبيه و معنى «اي» فمن أين جاؤوا بحديث تركيبها و أصلها و صيرورتها بالتركيب اسما فإن العرب لا يتحدثون و لا يحدثون بمثل ذلك و إنما يستعملون ما في لغتهم بمقتضى غريزتهم العربية و على رسلهم بدون تحليل.

و إذا كانوا يجدون منها معنى جزءيها فلما ذا يقولون انها صارت اسما و لماذا لا يجرون على مقتضى جزءيها. و قد جاءت في القرآن الكريم سبع مرات كما في الآية و سور يوسف 105 و الحج 44 و 47 و العنكبوت 60 و محمد (صلی الله علیه و آله) 14 و الطلاق 8 قال حسان

كأين قد أصيب غداة ذاكم من ابيض ماجد من سر عمرو

و قد تسهل همزتها و تكون على وزن فاعل كقول زهير في معلقته:

و كائن ترى من صامت لك معجب زيادته او نقصه في التكلم

مِنْ نَبِيٍّ تمييز و بيان قاتَلَ خبر مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ «ربيون» فاعل لقاتل و في الكشاف و مجمع البيان جواز ان يكون الفاعل ضمير يعود للنبي و «معه ربيون» جملة حالية

ص: 353

لقاتل و يدفع ذلك ان الجملة الاسمية تحتاج في كونها حالا إلى ربطها بالواو او بها مع الضمير.

و اما الاكتفاء بالضمير وحده فهو من الضعيف الذي يجل عنه قدر القرآن الكريم. و الزمخشري يصرح بالضعف في نحوه. اما الربيون ففي الكشاف ان الربي كالرباني هو المنسوب إلى الرب و كسرت الراء من تغيير النسب. يعني ان النسبة تكون معها تغييرات كثيرة في بناء الكلمة حتى في أولها كما يقال في المنسوب إلى الدهر دهري بضم الدال. و بصريّ بكسر الباء و توافقه احدى الروايتين عن ابن عباس. و قد اختلفت الرواية في تفسير الربي ففي الدر المنثور عن ابن عباس علماء كثير و عنه ايضا جموع. و الجموع الكثيرة. و عن ابن مسعود ألوف. و

في التبيان الربي عشرة آلاف و هو المروي عن أبي جعفر يعني الباقر (علیه السلام)

و لم أجد الرواية و كأنها من رواية أبي الجارود في تفسيره و هو ضعيف. و

عن العياشي عن منصور بن الصيقل عن الصادق (علیه السلام) ألوف الألوف.

و منصور مجهول الحال و رواية العياشي عنه مرسلة. و في تفسير القمي الربيون الجموع الكثيرة و الربوة الواحدة عشرة آلاف. و في القاموس الربوة بالكسر عشرة آلاف و الربي واحد الربيين و هم ألوف من الناس. و عليه فنسبة الربي الى الربوة يحتاج إلى تصرف زائد بقلب الواو ياء ثم حذف الياء مع ان ظاهر الآية توبيخ اصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) في احد لأجل وهنهم بفرارهم و عدم صبرهم في الجهاد في سبيل ربهم و حماية الدين مع ان اصحاب النبيين قاتلوا معهم فما عراهم ذلك فإذا كان اصحاب كل نبي ينسبون إلى الربوة و الجموع الكثيرة و عشرات الألوف لم يأخذ التوبيخ موقعه من الحجة لأن الجموع الكثيرة و العشرات من الألوف فما زاد إلى ألوف الألوف يعتزون بحسب العادة بكثرة جموعهم و عدد ألوفهم مضافا إلى كون وصفهم بالكثيرين لا فائدة فيه و بهذا تزداد الرواية ضعفا و استيجابا للاطراح اللهم إلا ان يقال انهم ينسبون إلى الربوة و عشرات الألوف فما زاد باعتبار تكرر المعارك الكثيرة مع ذلك النبي و تناوب المجاهدين و في جميعها يثبتون. و فيه بعد. و عليه يكون المعنى و كم من نبي قاتل معه في جهاده كثيرون فثبتوا و صبروا على ما أصابهم فما لكم لم تصبروا و لم يثبت منكم إلا اثنان و نحو ذلك. و على قول الكشاف ايها المنتسبون إلى الرب و الجهاد في سبيل ربهم لماذا فررتم و لم تصبروا كما صبر الكثيرون من المنتسبين بالإيمان و الطاعة إلى ربهم الذين جاهدوا في سبيل ربهم مع الأنبياء فَما وَهَنُوا لِما اي لأجل ما أَصابَهُمْ من شدائد

ص: 354

الحرب و الجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا و هذا يدل على ان معنى الوهن اما ما هو قريب في المعنى من الضعف او هو قسم خاص منه فإن محض التأكيد بالمترادفين بعيد فيمكن ان يراد فما اختل نظام اجتماعهم و لم يعرض لهم الهلع و خمود العزائم و ما ضعفت أبدانهم لكونهم استسلموا للرعب و الخوف و روعة الحرب وَ مَا اسْتَكانُوا الاستكانة الذل و الخضوع. و يحتمل ان يكون ذلك تعريضا بما يروى من ان بعضا هموا بأن يوسطوا عبد اللّه بن سلول ليطلب لهم الأمان من قريش. بل ان الربيون صبروا صبر الكرام في حروبهم وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ و كفاهم بذلك فضلا و فخرا

سورة آل عمران (3): الآيات 147 الى 149

وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149)

143 وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ في شدائد الحروب و أمثالها إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا قول المستصغر لعمله الخائف من هفوات الزلل و الطالب من اللّه التسديد و المغفرة لما سلف وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا في الجهاد في سبيلك و طاعتك قول الصابر الموطن نفسه على الثبات و الطالب من اللّه التوفيق و التسديد وَ انْصُرْنا في جهادنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ 144 فَآتاهُمُ اللَّهُ جزاء بما عملوا ثَوابَ الدُّنْيا من النصر و الفتح و سائر النعم وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ و في ذكر الحسن بيان لعظمة ثوابهم في الآخرة و ان كان كله حسن و اي حسن جزاء لإحسانهم وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 145 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا بالطاعة العامة أو في أمر الجهاد و الدين. و قيل ان الآية نزلت في عبد اللّه بن أبي سلول الذي رجع من جيش النبي (صلی الله علیه و آله) عن حرب احد بثلاثمائة من أصحابه و صار يخذل المسلمين عن رسول اللّه. و

في الكشاف و مجمع البيان و تفسير البرهان مرسلا عن علي (علیه السلام) نزلت في قول المنافقين أي للمسلمين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم و ادخلوا في دينهم

و عليه يكون مورد النزول من احد المصاديق و الآية على عمومها يَرُدُّوكُمْ عن دين الحق و الإيمان و الجهاد إلى الوراء و الضلال عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا بردهم إلى الضلال خاسِرِينَ و كفى بذلك هلكة

ص: 355

فلا تطيعوهم

سورة آل عمران (3): الآيات 150 الى 152

بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

146 بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ و ولي أمركم و هو لكم و ناصركم وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ 147 سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ قد استفاض الحديث بأن المشركين رجعوا من حرب أحد إلى مكة مرعوبين و الآية عامة فقد كان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) منصورا برعب أعدائه منه كما يشهد به الحديث و التاريخ و احوال المشركين و حروبهم للمسلمين بِما أَشْرَكُوا أي بسبب اشراكهم بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ في إلهيته و استحقاقه للاشراك مع اللّه في الإلهية سُلْطاناً و حجة من عنده فإن كل هؤلاء المشركين قد أسسوا شركهم على الاعتراف باللّه و إلهيته و ما له من كمال الإلهية. و لكنهم يزعمون في الشركاء انهم آلهة صغار بحسب ما صوره لهم ضلالهم من الولادة من اللّه او تنزلات الإلهية و نحو ذلك فتقوم الحجة على المشركين بأن اللّه جل شأنه كيف يهمل شأن الإله المتولد منه أو الذي هو من تنزلاته و لا ينزل سلطانا على إلهيته و مقامه فيها و استحقاقه للعبادة كما يزعمون فإنه جلت آلاؤه لم يترك نبيا يبعثه بدون اقامة الحجة على نبوته لئلا يضيع مقامه و تضيع الفائدة من نبوته فكيف يضيع الفائدة و يبطل الحكمة فلا يقيم حجة و لا ينزل سلطانا بإلهية من تولد منه أو صار من تنزلاته. دع عنك هذا التقرير و لكن من اين لهم الحجة على إلهية شركائهم و هل نزل اللّه بذلك سلطانا يحتجون به فإن مرجع ذلك إلى اللّه لا إلى أوهام الضلال. و هذه حجة الزامية على المشركين زيادة على الحجج العقلية على وحدة الإله و بطلان الشرك و ان كل ما يشركونه مع اللّه ملزوم بلوازم المخلوقية و الحدوث و امتناع إلهيته وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ المأوى هو المحل الذي يعد و يؤتى ليستراح و يحتمي به. و المثوى هو المحل الذي يطول المكث فيه. و جرى التعبير بالمأوى تبكيتا بسوء عاقبتهم. و ان النار مثواهم و محل مكثهم و بئس المثوى المعد للظالمين 148 وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ لكم بالنصر و ظهر لكم مصداقه إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ اي تقتلونهم بنصر اللّه و مشيئته. و في التبيان الحس هو القتل على وجه الاستئصال. و في النهاية حسوهم بالسيف حسا استأصلوهم قتلا. و في الكشاف تقتلونهم قتلا ذريعا. و على هذا يدور كلاء

ص: 356

اللغويين في كتبهم. قال عتبة الليثي:-

نحسهم بالبيض حسا كأننا نفلق منهم بالجماجم حنظلا

و الحسيس القتيل. قال صلاءة بن عمرو كما في لسان العرب و غيره

نفسي لهم عند انكسار القنا و قد تردوا كل قرن حسيس

و قد كان في قتل المسلمين للمشركين في أول الحرب يوم احد قتل استئصال فقد استأصلوا حملة اللواء بني عبد الدار و سرى القتل الذريع في المشركين حتى انهزموا و أكب المسلمون على رحالهم للغنائم و كان ذلك القتل و الانهزام بإذن اللّه و نصره على خلاف الموازنة الحربية و مصادمة القوة بالقوة و كثرة عدد المشركين و عدتهم فقد كانوا نحو اربعة أمثال المسلمين المجاهدين. و في التبيان إذ تحسونهم يوم بدر حتى إذا فشلتم يوم احد. و في مجمع البيان اكثر المفسرين على ان المراد بالجميع يوم احد و نقل ما ذكره التبيان عن أبي علي الجبائي.

و ما ذكرناه مقتضى سوق القرآن فهو الظاهر و عليه روايتا ابن عباس في الدر المنثور و ان كان فيما صححوه منها ظهوره في حضور ابن عباس يوم احد و هو خلاف المعروف من التاريخ من ان ابن عباس لم يكن حينئذ مهاجرا بل لم تعرف هجرته إلا بعد فتح مكة حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي ظهر مصداق وعد اللّه لكم بالنصر و صرتم تقتلونهم قتلا ذريعا و دام ذلك حتى إذا فشلتم انقطع ذلك بسبب فشلكم و ما جرى منكم. و فسر الفشل بالجبن اي جبنهم حينما كر عليهم المشركون بعد فرارهم. و على هذا يكون العطف بعد ذكر الفشل على خلاف الترتيب و هو سائغ مع الواو وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ و من ذلك ما وقع من الرماة اصحاب ابن جبير في الشعب حيث رغب أكثرهم في الغنيمة و خالفوا امر الرسول و فارقوا الثابتين الآمرين لهم بالثبات في مركزهم وَ عَصَيْتُمْ بالذهاب من الشعب الى الغنيمة و فراركم عن رسول اللّه مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ اللّه ما تُحِبُّونَ من النصر و قتلكم لهم و هزيمتهم 149 مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا فآثر الغنيمة على طاعة الرسول أو آثر الحياة الدنيا بالفرار على الجهاد في سبيل اللّه وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت و جاهد جهاد الصابرين ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ عطف على صدقكم اللّه اي صرفكم

ص: 357

بما اقتضاه التقدير في احوال الحرب و التخاذل فيها فوكلكم إلى أنفسكم لِيَبْتَلِيَكُمْ اللام للغاية أي و من غايات ما جرى ان يمتحنكم و تظهر اعمالكم فيرفع اللّه درجات الصابرين وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أي عمن خالف و لم يصبر و هذا العفو من فضل اللّه ببركة ايمانكم

سورة آل عمران (3): آية 153

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)

وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ 150 إِذْ تُصْعِدُونَ «إذ» ظرف لصرفكم و المراد فرارهم و «تصعدون» بضم التاء من «اصعد» بمعنى دخل و أخذ في الصعود إلى الجبال مثل «انجد و اتهم» او دخل في الصعود في الأرض اي السير فيها قال حسان: «يبارين الأعنة مصعدات» و قال الآخر «هواي مع الركب اليمانين مصعد» و لا تلتفتون في فراركم و اصعادكم وَ لا تَلْوُونَ أبدانكم عَلى أَحَدٍ سواء كان داعيا منكم للثبات أو مستجيرا بأحدكم او عدوا محاربا وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إلى نصره و جهاد المشركين.

قيل و كان دعاءه صلى اللّه عليه و آله إليّ عباد اللّه ارجعوا انا رسول اللّه

فِي أُخْراكُمْ أخرى القوم الجماعة التي هي آخرهم و الظاهر ان الجار و المجرور متعلق بيدعوكم كما يقال نادى في الناس. و هذا يقتضي بأن أوائلهم قد أمعنت بالفرار و بعدت فيكون الدعاء و النداء في أخراهم. و يجوز ان يكون حالا من الفاعل في «يدعوكم» أي حال كونه في الجماعة التي هي اخراكم من ناحية العدو و القتال و المراد منها الثابتين فَأَثابَكُمْ اللّه و هو عطف على صرفكم أي جزاكم. و الثواب الجزاء على الطاعة و المعصية و ان كثر استعماله في الطاعة غَمًّا بِغَمٍّ في التبيان غما على غم و قيل مع غم. و في تفسير القمي و الدر المنثور في تفسير غما بغم ببيان السبب للغم روايات لا تنهض حجة للتعويل عليها خصوصا مع التعارض في روايات الدر المنثور. و في الكشاف غما بسبب غم أذقتموه رسول اللّه بعصيانكم انتهى و لا حجة على ما قال و قال بعد ذلك ما حاصله يجوز ان يكون فاعل اثابكم هو رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أي كما اغتممتم لما اصابه غمه ما نزل بكم و آساكم بغمه لتسليتكم لِكَيْلا تَحْزَنُوا الآية انتهى و هو اجنبي عن سوق الآيات و حال الواقعة. و الغم معروف و ان فسر بالحزن لكن الاستعمال و التبادر يشهدان بأنه عبارة عن حالة معروفة تعرض على الإنسان عند المصائب و الحزن بضيق بها صدره و هي اقرب إلى معنى الكرب من الحزن لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من

ص: 358

الظفر بعدوكم و انتصاركم عليه وَ ما أَصابَكُمْ من اثم المعصية للّه و المخالفة لرسوله و الهزيمة و وبالهما الدنيوي من الانكسار و الوهن و الخوف و الرعب من كرة العدو عليكم و على بلادكم و أهليكم هذا هو الظاهر من السياق أي و اثابكم غما بغم و الغاية من تراكم الغموم عليكم ان تذهلوا عن الحزن المذكور وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لا تخفى عليه من اعمالكم و وجوهها خافية

سورة آل عمران (3): آية 154

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)

151 ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أي يشغلهم و يغفلهم عن الخوف فتساوي حالتهم حالة الآمن كقوله تعالى في سورة الأنفال في ذكر وقعة بدر 11 إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ و هذا نحو من اللطف بهذه الطائفة الذي عراهم في جملة غمومهم غم المعصية بالفرار خوفا من اللّه و ندما على الذنب وَ طائِفَةٌ أخرى منكم و هم الذين لم يكونوا أهلا لهذا اللطف بل هم مرتكسون في همومهم و غمومهم قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ في امر الحياة الدنيا و قد يئسوا من النصر «طائفة» مبتدأ و جملة قد أهمتهم خبر يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ في وعده لرسوله بالنصر و ان يظهره على الدين كله ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ و الجملة خبر ثان يَقُولُونَ حال من ضمير «يظنون» او خبر ثالث هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ أي من النصر و ان لم يكن خطابا لرسول اللّه بل فيما بينهم فيحتمل ان يريدوا من الأمر الحق و يكون استفهامهم إنكاريا كما يومي اليه ما يأتي قُلْ لهم يا رسول اللّه في جواب سؤالهم منك أو محاورتهم فيما بينهم إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ و بيده ازمة الأمور يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ عليك ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ في أنفسهم او فيما بينهم في محاورتهم لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ يا رسول اللّه للناس في بيان الحقيقة ما يكون جوابا لما أخبرتك به مما يخفيه عليك هؤلاء ان امر القتل تابع للتقدير و القضاء ليفوز الشهداء بسعادة الشهادة و يهلك المنافق و المشرك. لَوْ كُنْتُمْ يا ايها الناس فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ في الشهادة او الهلاك على حكم قضاء

ص: 359

اللّه. و من غايات ذلك ان يفوز السعيد بسعادته و يشقى الشقي بهوانه وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ و يظهر مكنونها من الطاعة و النفاق. و التعليل بلام الغاية معطوف على غاية مقدرة كما ذكرناه و نحوه مما يدل عليه السياق وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ و يخلص ما في قلب المؤمن المجاهد الصابر من النيات الصالحة و الإيمان الثابت و يميز ذلك عما في قلوب غير الصابرين و قلوب المنافقين و الكافرين وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ و ما فيها و لكن الابتلاء و التمحيص لظهور ذلك في الخارج بعروض المحركات

سورة آل عمران (3): الآيات 155 الى 156

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

152 إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ منهزمين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ في احد إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ و أوقعهم بالزلة بِبَعْضِ ما كَسَبُوا اي بسبب انقيادهم اليه بما كسبوه من الذنوب التي سهلت له استزلالهم بمثل هذا الذنب الكبير وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بسبب توبتهم و بركة الرسول الأكرم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن يحسن التوبة حَلِيمٌ فلم يعاجلهم بالعقوبة 153 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا باللّه فينسبون حوادث الكون الى صدفة أسبابها العادية دون تصرف اللّه في العالم و جريان الأمور بمشيئته و تقديره و قضائه وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ الذين من قبيلهم و قومهم أي في شأن إخوانهم إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ سفرا عاديا أَوْ كانُوا غُزًّى و مات بعضهم أو قتل. و الغزى جمع غاز كشهد و عود جمع شاهد و عائد. و جي ء بكلمة «إذا» لأن هذا القول منهم كلي و ظرفه كلي بالنسبة للسفر و للغزو و ليس الظرف وقتا شخصيا لكي يقال «إذ» لَوْ كانُوا عِنْدَنا و لم يسافروا و لم يغزوا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا يعتقدون ذلك بكفرهم و سوء رأيهم و يقولونه لِيَجْعَلَ اللَّهُ اي و من غايات ذلك ان يجعل بتقديره ذلِكَ الاعتقاد و ذلك القول حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ اي سبب حسرة إذ يأسفون و يقولون في اسفهم و حسراتهم لماذا تركناهم يسافرون. لماذا تركناهم يغزون وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ

ص: 360

بيده أمر الحياة و الموت لا كما يزعمون بكفرهم. فكم من حاضر و هو في صحة و دعة قد أماته اللّه و كم من مسافر و غاز يقاسي الشدائد و الأهوال و يرده اللّه سالما وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ يا ايها الذين آمنوا أو يا ايها الناس بَصِيرٌ لا يخفى عليه شي ء منها و لا من وجوهها فاتقوا اللّه في اعمالكم و منها أقوالكم

سورة آل عمران (3): الآيات 157 الى 159

وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

154 وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لكان لكم الجزاء العظيم و وقع اجركم على اللّه و من اجركم المغفرة و الرحمة و من ذا الذي لا يحتاج إليهما و لَمَغْفِرَةٌ من مصاديق المغفرة مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ من مصاديق الرحمة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا 155 وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ يا ايها الناس لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ وعدا مؤكدا بلامي القسم و لا تفوتونه بل يجازيكم بأعمالكم ان خيرا فخير و ان شرا فشر. او و لئن متم أو قتلتم في سبيل اللّه لإلى اللّه تحشرون و عليه تقدمون فيوفيكم أجوركم 156 فَبِما رَحْمَةٍ قال في التبيان ان «ما» زائدة جاءت مؤكدة للكلام و زاد في مجمع البيان بإجماع المفسرين. و دعواه الإجماع في غير محلها فقد حكى في التبيان عن الحسين بن علي المغربي ان «ما» بمعنى «أي» أي بأي رحمة. و حكاه ابن هشام عن جماعة و ان أورد عليه ما لا يرد و في حواشي المغني للشمني عن أبي البقا عن الأخفش و غيره و حكى نقله ايضا عن ابن كيسان. و قال السيد الرضي في حقائق التأويل و لأبي العباس المبرد مذهب انا اذهب اليه و هو انه ليس شي ء من الحروف جاء في القرآن الا لمعنى مفيد و قال الرضي ايضا ان «ما» معناها تفخيم قدر الرحمة التي لان بها لهم. و مرجعه إلى ما قاله الحسين و اليه يرجع اختيار الرازي ان المعنى فبأي رحمة. و المقصود أيّ المفيدة للتفخيم كما تقول أيّ رجل هذا. و كثير ممن ذكرنا متقدمون على مجمع البيان و هم أساطين الفن و صيارفة اللغة و المرجع في أمثال ذلك. و قال الرازي في تفسيره قال المحققون دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام احكم الحاكمين غير جائز: و قال عنتر في معلقته

يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت علي وليتها لم تحرم

فإن معنى «ما» معنى «اي» التعجبية لغرض التفخيم و كرامة قنصها بكرامتها ظاهر من

ص: 361

الشعر و قال الفند الزماني:

أيا طعنة ما شيخ كبير يفن بال

إلى ان قال: تفتيت بها إذ ك ره الشكة أمثالي

فإن قوله تفتيت بها يدل على ان «ما» للتعجب بتعظيم أمر الشيخ في طعنه و قال الفرزدق:

ناديت انك ان نجوت فبعد ما يأس و قد نظرت إليك شعوب

أي بعد أيّ يأس شديد. هذا و الذين رأيناهم يقولون بزيادة «ما» في الآية يقولون انها زيدت للتأكيد. أ فلا قائل يقول لهم على أي وجه يكون التأكيد و لماذا يؤكد. نعم يجدون لها معنى لا تنطبق عليه قواعدهم القاصرة المستحدثة فيلتجئون إلى تسميته بالتأكيد مِنَ اللَّهِ عليهم بل على سائر البشر لِنْتَ لَهُمْ و صرت تحتملهم و تعطف عليهم في اختلاف آرائهم و أحوالهم و مما يصدر منهم مما لا يرتضى لكي ينضموا إليك و يهتدوا بهداك فيقام عمود الدين و تنتظم جماعة الإسلام و تنقمع شوكة الكفر و الضلال وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ فسره في التبيان و الكشاف بالجافي قاسي القلب و هو نحو من أنحاء ما ذكره اللغويون لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ و تفرقوا عنك و لكنك على خلق عظيم و بالمؤمنين رؤوف رحيم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ الذي يعرض أي و استصلحهم و استمل قلوبهم بالمشاورة. لا لأنهم يفيدونه سدادا او علما بالصالح. كيف و ان اللّه مسدده وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فَإِذا عَزَمْتَ على ما أراك اللّه بنور النبوة و سددك فيه فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عليه

سورة آل عمران (3): الآيات 160 الى 161

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)

157 إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ و يكلكم إلى أنفسكم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ شبه جل شأنه في خذلانه لهم باستحقاقهم الخذلان بمن اعرض عنهم و جاوزهم وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و اليه يكون التجائهم 158 وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ بفتح الياء و الغلول هو الخيانة في الغنيمة. و المعنى لا يقع الغلول من الأنبياء و ما وقع هذا من أحدهم

ص: 362

لأنهم معصومون و أمناء اللّه. و أورد

في الدر المنثور روايات عن ابن عباس و في تفسير البرهان عن الصدوق بسند فيه جهالة عن الصادق (علیه السلام) ان الآية نزلت في شأن قطيفة حمراء فقدت من الغنيمة يوم بدر فقال بعض الناس أخذها رسول اللّه «ص».

و في الرواية عن الصادق «ع» فأظهر اللّه رسوله على القطيفة و نزلت هذه الآية.

و في الروايات عن ابن عباس تعارض وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ و يفضحه اللّه به من أول حشره ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي توفى جزاء ما كسبت عند ما يكون الحساب و الجزاء فيوفى جزاء ما كسب من الغلول و غيره كما توفى كل نفس جزاء ما كسبت ان خيرا فخير و ان شرا فشر تجزاه وافيا أي تاما ما لم يتب المذنب في الدنيا و يتوب اللّه عليه فيكون كمن لا ذنب له وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بجزاء المسي ء بغير ما كسب و لا ينقص جزاء المحس

سورة آل عمران (3): آية 162

أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

159 أَ فَمَنِ اتَّبَعَ في اعماله و أقواله و تروكه و دينه و انقياده بالطاعة و الاقتداء و الاهتداء و الاتباع لمن جعل اللّه ولي امره و في معاملته مع الناس و مداخلته في أمورهم الخاصة و ما يعود إلى الهيئة الاجتماعية رِضْوانَ اللَّهِ بأن نظر في كل أمر من هذه إلى رضا اللّه فيه بحسب ما يدل عليه دين الحق و شريعة اللّه. و نور الحق المبرأ من الأهواء. و رشاد الفطرة و حاسب نفسه فيه و جعل رضوان اللّه مقصوده الأصلي و متبوعه الوحيد الذي يسير به في نهج الحق و الصراط المستقيم و السعادة العظمى. قال من رأينا كلامه من اللغويين و المفسرين الرضوان كالرضا مصدر رضي: لكن الظاهر من موارد الاستعمال كونه اسم مصدر و ان معناه أوفر من معنى الرضا. و هل يكون المتبع لرضوان اللّه على ما ذكر كَمَنْ باءَ أي رجع بسوء اعماله و معاصيه و نكوصه عن النهج القويم بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ و صار بذلك عضوا فاسدا و بيئا في المجتمع البشري وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ و لعمر الحق ان هذا التعليم الفائق على إيجازه ليضمن اتباعه و سلوك نهجه فضيلة الصلاح و فوز السعادة الفردية و الاجتماعية و ان كل تخلق بالأخلاق الحسنة لا تقوم حياته بروح الاتباع لرضوان اللّه انما هو كصورة المرآة و ظل زائل، و سراب خادع، و لئن راقت صورته المموهة فإنما هو للهيئة الاجتماعية كالسم في

ص: 363

الدسم: و حكى في التبيان و مجمع البيان و الدر المنثور حمل الآية على موارد خاصة و لا مستند لذلك في مخالفة ظاهر الآية في العموم الا أقوال سعيد بن جبير، و الضحاك و ابن جريح و مجاهد و

في تفسير البرهان عن الكافي بسند فيه ضعف و عن العياشي مرسلا عن عمار عن الصادق «ع» ان الذين اتبعوا رضوان اللّه هم الأئمة عليهم السلام.

و الرواية لا تنهض حجة على الحصر.

نعم هم صلوات اللّه عليهم في هذه الأمة اظهر الأفراد و أعلاهم درجة

سورة آل عمران (3): الآيات 163 الى 164

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

160 هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ في التبيان و المجمع تقدير الآية هم ذووا درجات. المؤمنون ذووا درجات رفيعة و الكفار ذووا درجات خسيسة و في الكشاف نسب هذا إلى القيل «و قال قبله و لم يبين مرجع الضمير أي هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات»: يعني انهم شبهوا في تفاوتهم بالدرجات فأخبر عنهم بها على نحو الاستعارة كما يقال زيد اسد بالنظر إلى الشجاعة و هو باب من أبواب البلاغة و اولى من التقدير و أظهر و الرازي في تفسيره جعل عود الضمير على خصوص من اتبع رضوان اللّه اولى و استدل لذلك بوجوه اربعة لا تنهض حجة نعم في رواية عمار المشار إليها ما يقتضي ذلك بوجه آخر لو كانت حجة وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ 161 لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ و أنعم عليهم بالنعمة العظيمة إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ ليبتدئ بهم بحسب الحكمة في الدعوة العامة لجميع البشر رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ اضافة الأنفس إليهم باعتبار العربية و القومية و النشأة معهم بحيث يكونون مطلعين على أحواله و وجوه كماله و ملكاته الفائقة في الصدق و الأمانة و نحو ذلك مما يقتضي ركون النفس اليه و يدعو إلى تصديقه و الإقبال على الإيمان به. و يعرفون بكونه منهم لسانه و محاوراته و ينقادون اليه و لا تمنعهم نخوة العربية و عصبية القومية من ان ينقادوا اليه لو كان من غير العرب. فكان من عظيم اللطف بالعرب و المنة عليهم ان سهل عليهم طريق الإيمان برسول اللّه بجعله منهم فرفع بذلك ما يقتضيه جهلهم و نخوة القومية و العربية من المعاثر.

و من منه جلت آلاؤه ان جعل الدليل على الرسالة و معجزها بلغتهم كما ذكرنا ذلك في المقدمة في حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن الكريم. فصار الرسول «ص» يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ آيات اللّه من القرآن فيفهمون معانيها و اشاراتها بدون ترجمة تعسر عليهم وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ بتلاوته

ص: 364

و تبليغه و خطبه و مواعظه و بيانه الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا الواو للحال و «ان» المكسورة مخففة من المثقلة تفيد التأكيد و التحقيق لأنهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل ان يبعث فيهم و يؤمنوا به لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ من حيث المعارف و الشريعة و الأخلاق و الصلاح و العدل و المدنية: يا ايها المسلمون من اصحاب احد بحسب نوعكم

سورة آل عمران (3): الآيات 165 الى 167

أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165) وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)

162 أَ وَ لَمَّا خالفتم امر الرسول و اخليتم مراكزكم للجهاد و انهمكتم بالغنيمة و فررتم ذلك الفرار و أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ لم تكن اصابتكم في أول جهادكم و ثباتكم مع عافية المشركين المحاربين لكم بل قَدْ أَصَبْتُمْ من المشركين مِثْلَيْها فقد قتل منهم في بدر واحد مثلي ما قتل منكم في يوم أحد. او ان مصيبة المشركين في يوم بدر بقتلاهم و اسراهم مثلا مصيبتكم في يوم أحد قُلْتُمْ جواب لما أَنَّى هذا الذي أصابنا و من اين جاءنا تقولون ذلك استيحاشا و استعظاما قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إذ خالفتم الرسول و أسرعتم إلى الغنيمة. او إذ خالفتم الرسول كما رواه في الدر المنثور عن ابن عباس. او

إذ طمعتم في وقعة بدر بفداء الأسرى و أنذركم رسول اللّه بأنه يقتل منكم بعددهم فرضيتم كما في الدر المنثور انه أخرجه ابن أبي شيبة و الترمذي و حسنه و ابن جرير و ابن مردويه عن علي امير المؤمنين عليه السلام و في مجمع البيان و هو المروي عن الباقر «ع».

ان اللّه قادر على ان ينصركم كنصر بدر و أعز منه كما رأيتم مظهر النصر في أول الحرب يوم احد إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 163 وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ من قتل و جراح فَبِإِذْنِ اللَّهِ و تقديره للحرب و الجهاد في سبيله لينال الشهادة من فاز بها وَ فيه غاية اخرى و هي تمييز الطيب بجهاده من الخبيث بنفاقه و رجوعه من الجيش لِيَعْلَمَ ليثبت علمه الأزلي التابع و يقارن في استمراره وجود المعلوم الْمُؤْمِنِينَ الذين اتبعوا رسول اللّه للجهاد 164 وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا و هم عبد اللّه بن أبي سلول و اتباعه وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا عن قومكم و بلادكم و حفائظكم ان لم تكن لكم رغبة في

ص: 365

الجهاد في سبيل اللّه قالُوا في التعلل و النفاق مع ان العدو نزل بعدته و عديده بساحتهم و هو يتغيظ حنقا. و القتال معلوم بمجاري العادة و احوال العرب لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ و كذبوا هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ بنفاقهم أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق و التحيز للكفر

سورة آل عمران (3): الآيات 168 الى 170

الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ 165 الَّذِينَ صفة للذين نافقوا قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي في شأن إخوانهم بحسب القبيلة و القومية وَ قَعَدُوا الجملة اما حالية بإضمار «قد» على رأي البصريين و الفراء او بعدم الإضمار على رأي الكوفيين و الأخفش. و اما معطوفة بالواو التي هي لمطلق الجمع أي قعدوا عن القتال و رجعوا من الجيش إلى المدينة لَوْ أَطاعُونا بالقعود و عدم الذهاب إلى الحرب ما قُتِلُوا و قولهم هذا يرجع إلى جحودهم لكون أمر الموت او القتل بيذ اللّه و بتقديره و قضائه بل ينسبونهما إلى اسباب يمكن دفعها و التحرز عنها. فكأنهم لا ينظرون إلى انه كم شجاع يقذف نفسه في وطيس الحرب و لهوات الموت ثم يرجع إلى اهله بإذن اللّه سالما. و كم من صحيح وادع في اهله قد طرقه الموت بإذن اللّه في مأمنه قُلْ يا رسول اللّه لهم في رد زعمهم ان كان الموت مما يستدفع و يتحرز منه فَادْرَؤُا و ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم و مغزى قولكم لو أطاعونا ما قتلوا 166 وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً على ما يتوهم المتوهمون من بطلان ادراكهم و صيرورتهم كالجمادات. و الخطاب صورته للرسول الأكرم و منحاه تعليم الناس بَلْ هم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ القادر الرحيم يُرْزَقُونَ ما يتنعمون به في تلك الحياة السعيدة و العالم الحميد حال كونهم 167 فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من النعيم و يعرفون احوال اهل الدنيا و يسرون بصلاحهم و نجاتهم به من استحقاق العقاب وَ يَسْتَبْشِرُونَ عطف على فرحين بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ

ص: 366

خَلْفِهِمْ بالموت او الشهادة اي يستبشرون بسعادتهم بصلاحهم أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الآخرة اي بأن لا خوف عليهم وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في يوم الجزاء

سورة آل عمران (3): الآيات 171 الى 172

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

168 يَسْتَبْشِرُونَ حال آخر كفرحين بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عليهم في نعيمهم وَ فَضْلٍ وَ ب أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ بل يوفيهم جزاءهم 169 الَّذِينَ مبتدأ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ إذ دعاهم الرسول إلى اتباع جيش المشركين في رجوعهم من حرب احد ارهابا لهم فلبوا دعوته مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ بتلك النكبة و كثرة الجراح فتبعوهم مع رسول اللّه إلى حمراء الأسد و هو سوق للعرب على ثمانية أميال من المدينة و رجعوا و لم يلاقوا حربا (1) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اعمالهم في الحياة

ص: 367


1- و على هذا اكثر ما وجدناه من حديث الفريقين كما هو المحكي عن اكثر المفسرين. و المأثور ان وقعة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة في يوم الأحد السادس عشر من شوال و خرجوا باستجابتهم إلى حمراء الأسد يوم الاثنين و مكثوا فيها إلى الأربعاء ثم انقلبوا على وجههم هذا إلى المدينة و قد تكرر في الأحاديث انهم خرجوا و هم جرحى من حرب احد «و الوجه الثاني» ما في الدر المنثور عن ابن شهاب و مجاهد و عكرمة في احدى روايتيه ان الآية نزلت في خروج رسول اللّه بمن معه لموعد أبي سفيان في غزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة. و في التبيان روى ذلك عن أبي جعفر (علیه السلام) و في مجمع البيان رواه ابو الجارود عن الباقر (علیه السلام). و ابو الجارود ضعيف. و الذي اعتمد عليه القمي في تفسيره هو الأول و كذا الشيخ في التبيان و نسب الثاني إلى القيل. و كانت غزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة في شعبان في رواية الدر المنثور عن مغازي ابن عقبة و دلائل البيهقي و في تاريخ ابن جرير عن ابن إسحاق. و في ذي القعدة رأس الحول من وقعة احد عن الواقدي. و قد كان ابو سفيان جعل الموعد مع رسول اللّه يوم احد لاعادة الحرب هو بدر في العام المقبل كما عن ابن إسحاق. و عن مجاهد قال ابو سفيان موعدكم بدر حيث قتلتم إخواننا. و سميت غزوة بدر الصغرى غزوة السويق لأن أبا سفيان و جيشه خرجوا من مكة للحرب فلما سمعوا باستعداد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) للقائهم في الموعد فشلوا و رجعوا من «مجنة» من ناحية مر الظهران أو مما فوق-

الدنيا و دار العمل أي جعلوا أعمالهم حسنة نحو قوله تعالى مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الجملة خبر «الذين» و كم و كم ينبغي للإنسان ان يتحذر و يلازم التقوى، و يراقب عاقبته، و يحاسب نفسه في ايام عمره و يتحرى الإخلاص للّه في اعماله فإن هؤلاء الذين استجابوا للّه و الرسول في تلك الشدة و ذلك القرح لم يجر شكر الاستجابة و الوعد بالأجر لجميعهم على رسله بل قسمهم مفاد الآية في تبعيضها إلى اللذين أحسنوا منهم و اتقوا و إلى عيرهم و خص الوعد بالأجر بالقسم الأول. فيكون الثناء و الأجر في حقيقة الأمر في هذه الآية و اللتين بعدها إنما هو للبعض و ان كانت صورته جارية على نوعهم. كما جرى مثل ذلك في الآية الأخيرة من سورة الفتح في قوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ و ذكر الثناء الجميل إلى أن قال جل و علا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً فقسمهم بكلمة «منهم» ايضا ذلك التقسيم المرعب و كشف بتقسيم هاتين الآيتين عن حال الإطلاق او العموم في غيرهما و ابان ان جريانه في نفس الأمر إنما هو على البعض لا الكل و يا للأسف و في الكشاف ان «من» في «منهم» للتبيين مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً لأن الذين استجابوا للّه و الرسول قد أحسنوا كلهم و اتقوا. و حكى ابن هشام في المغني نحوه عن ابن الانباري. و من الغريب ممن يعد من النوابغ في النحو و العربية و الخبرة بكرامة القرآن الكريم في فصاحته و بلاغته و كيف يخفى عليه انه يلزم في «من» التي لبيان الجنس ان يكون ما تبينه فيه إبهام في جنسه و يكون في مجرورها بيان يرفع ذلك الإبهام و يتكفل بإيضاح المراد و يصح ان يحمل على ما يبينه حملا مفيدا ببيانه. إذن فما ذا في قوله تعالى «منهم» من الإيضاح الجديد الرافع للإبهام و ما هي الفائدة في البيان في قول القائل الذين أحسنوا منهم و اتقوا: و حكى في تفسير المنار عن استاذه اختياره لكون «من» في الآية للتبعيض لأن من المؤمنين الصادقين من لم يخرج إلى حمراء الأسد يعني ان الضمير في «منهم» يعود إلى المؤمنين في آخر الآية السابقة أقول و هذا

***-***

- «عسفان» على نحو مرحلتين من مكة فسماهم اهل مكة جيش السويق و يقولون لهم انما خرجتم تشربون السويق. [.....]

ص: 368

لا يصح إذا كان الموصول و هو «الذين» في أول الآية مبتدأ لأن خبره و هو جملة «للذين» يبقى بلا رابط و لذا بنى التلميذ صحة ما قاله استاذه على نصب «الذين» على المدح و أقول ان النصب على المدح مبني على ان يكون الموصول و هو «الذين» صفة للمؤمنين نحو قول الخرنق بنت عفان من بني قيس:

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة و آفة الجزر

النازلين بكل معترك و الطيبون معاقد الأزر

و ليس في هذا النصب على المدح عطف يدل على المغايرة. بل لو كان هناك عطف لما اقتضى المغايرة بل جرى على نهج قوله تعالى في سورة البقرة 172 وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ و في سورة النساء 160 وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ إذن فيعود التبعيض و التقسيم إلى الذين استجابوا و من أين يعرف؟ ان «الذين» هنا منصوب على المدح فيتأمل في كلام صاحب المنار و استاذه في هذا المقام. و ليت شعري ما هذا التكلف في تفسير الآية مع اجماع الأمة على انه ليس كل الصحابة معصومين

سورة آل عمران (3): آية 173

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

170 الَّذِينَ بدل من «الذين» التي هي مبتدأ باعتبار البعض او من المجرورة باللام باعتبار الكل و هو الأظهر قالَ لَهُمُ النَّاسُ أي بعضهم. قيل ركب من التجار و

قيل نعيم بن مسعود الأشجعي (1) و في التبيان و المجمع و هو قول أبي جعفر و أبي عبد اللّه اي الباقر و الصادق عليهما السلام

إِنَّ النَّاسَ اي المشركين قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جندا لحربكم فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ ذلك القول إِيماناً باللّه و دين الحق و وجوب نصره و الجهاد في سبيله او بوعده بالنصر وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ناصرا على جموعهم وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ عليهم و في التبيان و المجمع و الكشاف الذي يوكل اليه الأمر. و

في الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أبي رافع ان النبي (صلی الله علیه و آله) وجه عليا (علیه السلام) في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم اعرابي من خزاعة

ص: 369


1- قبل إسلامه و هو الذي القى التخاذل بين بني قريضة و بين جيش الأحزاب من قريش و غطفان و اتباعهم في السنة الخامسة في شوال و بعد ذلك اظهر إسلامه كما هو مأثور في تاريخ غزوة الأحزاب و الخندق.

فقال ان القوم قد جمعوا لكم فقالوا حسبنا اللّه و نعم الوكيل فنزلت فيهم هذه الآية

أقول و يمكن ان يكون امير المؤمنين (علیه السلام) مع النفر كانوا في مقدمة الطلب أو طلبوهم من حمراء الأسد

سورة آل عمران (3): الآيات 174 الى 175

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

171 فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ و لا تخفى دلالة التفريع بالفاء على ان هذا الانقلاب بالنعمة و الفضل كان من المسير الذي استجابوا به للّه و الرسول كما ذكر في الآيتين السابقتين فلا وجه و لا صحة لجعل المراد بالاستجابة هو المسير إلى حمراء الأسد و المراد من الانقلاب بالنعمة و الفضل هو الرجوع من غزوة بدر الصغرى في العام الثاني كما في الرواية التي ذكر في الدر المنثور انها أخرجها النسائي و ابن أبي حاتم و الطبراني بسند صحيح من طريق عكرمة عن ابن عباس و جرى تفسير الكشاف على نهجها في التفريق على خلاف التفريع في الآية الكريمة لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ من حرب او نكبة وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في استجابتهم هذه. و هنيئا لمن دام على الإحسان و التقوى كما شرطه اللّه ففاز بسعادة الأجر العظيم وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ و من فضله وفقوا لهذه الاستجابة و انقلبوا بنعمة منه و فضل 172 إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ هذا تشجيع للمؤمنين على الاقدام على الجهاد و حاصله ان الذين أرادوا ان تخافوا المشركين بقولهم ان الناس قد جمعوا لكم انما نشأ من تسويل الشيطان و دسائسه في ترويج الضلال فإنه يخوف المؤمنين أولياءه الضالين حماية منه للكفر و الضلال يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ تتعدى خاف إلى مفعول واحد تقول خفت الكلب و تتعدى بالتشديد إلى مفعول ثان كما تقول خوفني عمرو الكلب و قد يحذف المفعول الثاني كما تقول خوفني عمرو و قد يحذف المفعول الأول كما تقول خوف عمرو الكلب و كما في الآية فهي كما إذا قيل يخوفكم أولياءه كما يروى من قراءتي ابن عباس و ابن مسعود و لكن لفظ «يخوف» في القراءة العامة أعم و أتم من الفائدة في مقام الذم لإبليس و عموم تخويفه للناس أولياءه و عموم أوليائه في النهي عن خوفهم بنحو يفيد البشرى بالأمن من شرهم لا خصوص قريش فَلا تَخافُوهُمْ أي اولياء الشيطان فإن اللّه ناصركم كما وعدكم ليقطع طرفا من الذين كفروا او يكتبهم فينقلبوا خائفين وَ خافُونِ فإن السعادة في خوف العبد ربه

ص: 370

و تقواه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و وعده بالنصر و انه يجب ان يطاع في امره و نهيه و انه مالك أمر النفع و الضر، شديد العقاب و اليه يرجعون: يا رسول اللّه

سورة آل عمران (3): الآيات 176 الى 178

وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)

173 وَ لا يَحْزُنْكَ بفتح الياء و ضم الزاي يجي ء «يحزن» بفتح الياء و الزاي للقاصر و بضم الزاي للمتعدي و في المصباح و هي لغة قريش أقول و عليها استعمال القرآن الكريم كما في هذه الآية و ثمانية موارد من سائر السور و على هذه اللغة جاء محزون في اسم المفعول في اللغة العامة. و الحزن معروف الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ و يقتحمون جامحين في وجوه ضلاله و نزغات غيه من دون تريث في اتباع الهوى و محادة اللّه و التمرد عليه و لا ترو للنظر في حجج الإيمان و دلائل الحق، و لا إصغاء إلى داعي الهدى. و من المعلوم ان هؤلاء و أمثالهم قد خرجوا بتمردهم عن اهليتهم للطف اللّه و رحمة الرسول فلا يحزن الرسول رحمة لهم بل يحزن لمحادتهم للّه و تمردهم على الإيمان به و لذا كانت تسلية اللّه لرسوله بقوله جل اسمه إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فإن اللّه غني عن العالمين و «شيئا» واقع موقع المصدر أي شيئا من الضرر و لوقوعه في حيز النفي يفيد العموم. و لأجل ما ذكر من تمردهم و مسارعتهم في الكفر خرجوا عن اهلية اللطف و حرموا أنفسهم خيره فلأجل ذلك يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا أي نصيبا من الخير فِي الْآخِرَةِ أي يريد حرمانهم و عبر بالارادة تأكيدا لبيان وقوع الحرمان بأنه تعلقت به ارادة اللّه و ما ربك بظلام للعبيد وَ لَهُمْ فوق ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ جزاء بما كانوا يكفرون 174 إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ بعد ما اتضحت حجج الحق و براهين الإيمان من الفطرة و الآيات و دعوة الرسول و نور الدلالة فكان الإيمان بعد ذلك كأنه في حوزتهم فرغبوا فيه و تركوه و اختاروا الكفر كما يرغب المشتري عن الثمن و يستبدل به المبيع الذي يرغب فيه. و يحتمل ان يراد منهم في هذه الآية أولئك المسارعون في الكفر فتكون الآية تأكيدا للتي قبلها في الأمر الذي يناسب الحال تأكيده. و يحتمل ان يكون المراد من يعم أولئك المسارعين و من هو دونهم في التمرد فتفيد الآية عموما و تأكيدا في ضمنه و لعله اظهر لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 175 وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ

ص: 371

في أعمارهم و ترخي لهم في آجالهم لا نعاجلهم بالعقوبة و الإهلاك خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ اي لكل واحد بحسب نفسه التي هي أعز الأنفس عليه و أولاها بطلبه الخير لها. و ليجري الكلام على هذا النص فلا يوهم ان الخير و ازدياد الإثم يرجعان إلى المجموع كما لو قيل «لهم» إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً اللام في «ليزدادوا» للعاقبة مثلها في قوله تعالى في سورة القصص 7 فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» و الحصر في «إنما» إنما هو باعتبار العاقبة و ان الاملاء لهم ليس في عاقبته ما داموا على الكفر خير وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يرون به هوانهم بما كفروا

سورة آل عمران (3): آية 179

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

176 ما كانَ اللَّهُ في الآية بحسب الأقوال وجوه «الاول» في الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ان الخطاب في هذه الآية للكفار و ذكر احتمال ذلك في التبيان و كذا في مجمع البيان بنحو تشويش. و لم يذكره في الكشاف و تفسيري الرازي و المنار من اسناده فكأنهم لم يعتنوا به. و مقتضى تفسير أبي السعود ان مختار المحققين غيره. و عليه يكون المعنى يا ايها الكافرون ما كان اللّه بحسب لطفه بعباده ان يتركهم بلا إرسال رسول و لا دعوة حق و يذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر بل يقيم الحجة و ينير البرهان فيؤمن الطيبون و ان عاند أشقياء الضلال و طواغيت الكفر فيميز بذلك الخبيث بضلاله من الطيب الذي يختار هدى الإيمان و ربما يستشهد لهذا الاحتمال بقوله تعالى في الآية الثانية في طرد الخطاب فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ و لكن لا شهادة في ذلك إذ قد جرى أمثاله في خطاب المؤمنين كما في سورة النساء 58 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ 135 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ و محمد (صلی الله علیه و آله) بعد خطاب الذين آمنوا في الآية الثانية و ثلاثين 35 وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ و الأنفال في خطاب المؤمنين بخمس الغنائم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا و غير ذلك. مضافا إلى ان الظاهر في خطاب القرآن كونه خطابا للمؤمنين و حمله على غيرهم يحتاج إلى قرينة و هي مفقودة فضلا عن كون السياق في الآيات المتقدمة لخطاب المؤمنين «الوجه الثاني» ان يكون الخطاب للمؤمنين و المراد بالخبيث هم المنافقون كما حكاه في التبيان و المجمع و قال به في الكشاف و بعض

ص: 372

كتب التفسير «و عليه» فإن أريد من المنافق هو من يظهر الإسلام و يبطن الكفر من حينه لم يوافق ذلك اصطلاح القرآن الكريم فإنه يجعل المنافقين قسما مقابلا للمؤمنين لا قسما منهم كما في قوله تعالى في هذه السورة 166 وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا و سورة العنكبوت 10 وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ و الأحزاب 72 لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ و الحديد 13 يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا. «الثالث» و هو الأظهر الأقرب ان يراد بالخبيث هو من تشرف حينئذ بالإيمان ثم يتمرد بكبائر المعاصي و العظائم لأنه كان سلس القياد للهوى و الشيطان فيسرع إلى موبقات الآثام و الارتداد و الانقلاب على الأعقاب و البغي و الفساد في الأرض و المروق من الدين فينشأ خبثه عن الامتحان فيكون معنى الآية. ما كان اللّه و ليس من شأنه الكريم و حكمته و لطفه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ مطلقا و هم المتشرفون بصفة الإيمان عَلى ما أَنْتُمْ ايها الموجودون حين الخطاب من المؤمنين عَلَيْهِ من اشتباه الحال في الظاهر حَتَّى تصدر أوامره و نواهيه بلطفه و حكمته بالشريعة و أساسياتها في سعادة البشر و إكمال الدين و إتمام النعمة و النظام الصالح و يجري مقاديره بحسب الحكمة فيما يكون عاقبته الابتلاء و الامتحان فتسرع النفوس الأمارة التي لم تروض الى اختيارها خبث التمرد و الجماح في الغي. و من آثار ذلك ان يَمِيزَ الْخَبِيثَ باسراعه في اختياره لما أشرنا اليه من موبقات الآثام: يميز بفتح الياء و كسر الميم و سكون الياء مضارع ماز بمعنى فرق و بين مِنَ الطَّيِّبِ الدائب على طاعة اللّه و اتباع الحق و مخالفة الهوى. و يؤيد هذا الوجه ما في تفسير البرهان عن العياشي عن عجلان بن صالح عن الصادق (علیه السلام) وَ ما كانَ اللَّهُ و لا يليق بحكمته و لطفه و جلال شأنه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ في شؤون الشريعة و ما أشرنا اليه من أساسياتها و موارد الامتحان لأن ذلك مقام كبير لستم أهلا له بل يخل ذلك بجامعتكم و شؤون الإسلام و ان الاعلام بهذا الغيب إنما يليق بحسب الحكمة بمقام الرسول و اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ممن هو أهل بكماله الاختياري لها وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ بحسب اهلية الرسول و اقتضاء المصلحة و حكمته جلت آلاؤه

ص: 373

لا بالجبر على اجتباء من لم يكن أهلا و لا تقتضي الحكمة اجتباءه. قال في التبيان و «من» هنا لتبيين الصفة لا للتبعيض لأن الأنبياء كلهم مجتبون انتهى يريد بذلك انها لتبيين جهة الاجتباء بتبيين جنس المجتبى كما في قوله تعالى ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ. ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ و كما في قولك عندي عشرون من الدراهم إذا قصدت بالدراهم جنسها المعروض للجمع و العدد

دون ما إذا قصدت بها دراهم معينة هي اكثر من عشرين كما أوضحه الشيخ الرضي في شرح الكافية. و لم أجد عاجلا من صرّح بالتبيين هنا في غير التبيان و إن لاح من كلام بعضهم.

و ان كانت «من» للتبعيض يكون الاجتباء إنما هو بما يفضل به بعض الرسل على بعض لا بأصل الرسالة و يكون المعنى و اللّه يجتبي من بين رسله من يشاء منهم و يفضله بمقام ممتاز من علم الغيب و الكرامة و لكن هذا المعنى لا يناسب السياق و لا التفريع بقوله تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فيما جاؤا به عند اللّه لأن اللّه اجتباهم لذلك

سورة آل عمران (3): آية 180

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ 177 وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فيما أوجبه اللّه من الإنفاق بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و في ذلك احتجاج على الباخلين فيما فرضه اللّه بأن ما يبخلون به إنما هو من عطاء اللّه و الفاضل الزائد على حاجتهم الفعلية هُوَ خَيْراً لَهُمْ «خيرا» مفعول ثان ليحسبن و المفعول هو البخل المدلول عليه بقوله تعالى «يَبْخَلُونَ» أو الذي بخلوا به مما آتاهم اللّه و على كل تقدير يجلوه لمقام مفعوليته و تقديره ضمير الفصل «هو» فلا يقولوا انا حفظنا أموالنا لخيرنا و منافعنا بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ لما في ذلك من خسة المعصية و رذيلة الشح و سوء الظن باللّه و وبال العقاب و حرمان الثواب و خسران فضيلة الطاعة و حسن السماحة و الرحمة و الاعانة في المجتمع. و

فسر ذلك بمنع الزكاة كما رواه في تفسير البرهان عن الكافي في صحيحة محمد بن مسلم و عن الكافي و مجالس الشيخ في معتبرة أيوب ابن راشد عن الصادق (علیه السلام). و عن تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) و عن ابن سنان عن الصادق عن آبائه عن رسول اللّه عليهم السلام و عن يوسف الطاهري عن الصادق (علیه السلام). و رواه في الدر المنثور مما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و أخرجه احمد و عبد بن حميد و الترمذي، و صححه. و ابن ماجه و النسائي و ابن جرير و ابن خزيمة و ابن

ص: 374

المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن ابن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله) و ما أخرجه جماعة و صححه الحاكم ايضا من الحديث الآخر عن ابن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله).

و روى في الدر المنثور ايضا روايات أخر تفسير الآية بغير هذا المعنى و لا اعتداد بها خصوصا ما كانت في البخل على ذي الرحم فإنها لا تناسب التشديد و الإنذار بقوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ و فيما أشرنا اليه من أحاديث الفريقين ما معناه ان اللّه يجعل عقاب ذلك ثعبانا في عنقه مطوقا به ينهش به. و ما هو من نحو هذا المعنى. فلما ذا يبخلون و لماذا يدخرون و هم عن قريب فانون و تاركون لما بخلوا به

سورة آل عمران (3): آية 181

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)

وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 178 لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ في الدر المنثور عن ابن عباس من طريق عكرمة ان القائل لذلك «فنحاص» قال ذلك لأبي بكر لما دخل بيت المدارس على اليهود.

و عن ابن عباس ايضا من طريق سعيد بن جبير ان اليهود أتوا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لما أنزل اللّه «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» فقالوا أ فقير ربنا يسأل عباده القرض. فأنزل اللّه الآية. و بين الروايتين تعارض و فيهما جهات أخر. و في تفسير القمي قال «رأوا اولياء اللّه فقراء فقالوا لو كان اللّه غنيا لأغنى أولياءه» و لا تعرف نسبة هذا النقل الى إمام و اللّه العالم نعم يعرف مما بعد الآية ان القائلين من اليهود سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي سنحفظ في الثبوت ما قالوا ليلاقوا نكال جزائه. و هذا أبلغ في الوعيد من أن يقال «كتبنا ما قالوا» لأن الكتابة في الماضي ربما تحتمل العفو و التفكير وَ نكتب قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ نسبة قتل الأنبياء إليهم اما باعتبار القبيلة أي و نحفظ على قومهم الذين هم مثلهم في التمرد قتلهم الأنبياء و القوم أبناء القوم. او باعتبار رضا هؤلاء بقتل أسلافهم للأنبياء فيحفظ عليهم إثمهم و نسب إليهم القتل باعتبار القبيلة و الأسلاف.

ففي الكافي بسند عن مروك عن رجل عن الصادق (علیه السلام) ان بين القائلين ان اللّه عهد إلينا و هم الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ و بين القائلين للأنبياء خمسمائة عام

«و أظن ان هذا التقدير على سبيل المثال في الكثرة أو ان الأصل الف و خمسمائة عام»

ص: 375

فألزمهم اللّه القتل برضاهم بما فعلوا و نحوه روايات العياشي عن سماعة و عن معمر و عن محمد بن هاشم عمن حدثه عن الصادق (علیه السلام). و في الدر المنثور ذكر من اخرج عن الشعبي مثل ذلك و عن العلا بن بدر انه سأل عن نسبة قتل الأنبياء إليهم و هم لم يدركوا ذلك فقال بموالاتهم من قتل أنبياء اللّه وَ نَقُولُ لهؤلاء

سورة آل عمران (3): الآيات 182 الى 183

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)

ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ 179 ذلِكَ بِما اي بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ بفتح الهمزة و تشديد النون لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي و بأن اللّه لا يظلم عباده بعد ان اقتضت حكمته و رحمته ان يخلقهم مختارين في أفعالهم بأن لا يجعل لهم رادعا نوعيا عن الشر من النهي و الوعيد و الجزاء. او بأن اللّه لا يظلم من له الحق بل لا بد من ان يجعل له ما يتشفى به من عقاب الجاني او يعوضه عنه لكن الجاني هنا ليس أهلا للتعويض عنه. او بأن اللّه ليس بظلام يساوي بين الأنبياء و قتلتهم في السلامة يوم القيامة و النجاة 180 الَّذِينَ بدل من «الذين» في الآية المتقدمة قالُوا كذبا و افتراء إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ الظاهر ان مرادهم من يدعي الرسالة لا من يعترفون برسالته و يعلقون الإيمان به على ما قالوه.

بل قالوا «برسول» مداهنة و مغالطة في الكلام حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ليدل ذلك باعجازه على صدقه في دعواه الرسالة. في تفسير القمي كان عند بني إسرائيل طست كانوا يقربون القربان فيضعونه في الطست فيجي ء نار فتقع فيه فتحرقه. و في الدر المنثور عن ابن عباس في حديث فإذا تقبل منه أنزلت عليه نار من السماء فأكلته. و هذا و ان كان قاصرا عن الحجية لكن ظاهر الآية يقارب الصراحة بأن أكل النار للقربان إنما هو من نحو المعجز الخارق للعادة لا من إحراق البشر له بالنار. و

في صحيح الكافي بسنده عن الباقر (علیه السلام) في قصة ابني آدم المذكورة في الآية الثلاثين من سورة المائدة كما عن العياشي في تفسيره قوله عليه السلام كان القربان تأكله النار.

و في الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابن مسعود عن ناس من الصحابة في حديث فنزلت النار فأكلت قربان هابيل. و اخرج ابن جرير ايضا عن ابن عباس في حديث فجاءت النار فنزلت فأكلت الشاة: أقول و هذا غير مستحيل عقلا و ان كان

ص: 376

خارقا للعادة (1) 181 قُلْ يا رسول اللّه في بيان كذبهم في كلامهم من انهم يؤمنون بالرسولها

ص: 377


1- لكن صاحب المنار عدل عما ذكرناه من ظهور الآية المقارب للصراحة و فسرها بما حكاه عن استاذه من قوله يجوز و هو الأظهر ان يكون المعنى ان يفرض «أي في شريعته» علينا تقريب قربان يحرق فقد كان في احكام الشريعة عندهم أن يحرقوا بعض القربان بالنار انتهى و التلميذ قبل ذلك في استشهاده ذكر التسعة اعداد الأول من الفصل الأول من سفر اللاويين الى ان قال فمن هنا تعلم انهم كانوا يوقدون النار بأيديهم و يحرقون بها القرابين و لكن اليهود كانوا يلقون إلى المسلمين اخبارا من خرافاتهم او مخترعاتهم ليودعوها «يعني المسلمين» في كتبهم و يمزجوها بدينهم و لذا تجد في كتب قومنا من الإسرائيليات ما لا أصل له في العهد القديم و لا يزال يوجد فينا من يقدس كل ما روي عن اوائلنا في التفسير و غيره و يرفعه عن النقد و التمحيص و لا يتم تمحيص ذلك إلا لمن اطلع على كتب بني إسرائيل انتهى فلينظر من الجزء الرابع من تفسيره في الصفحة ال 267 و 268 و ليت شعري إذا كانت التوراة الرائجة تعلم منها الأمور و يستشهد بها كما استشهد و أن تمام التمحيص يكون لمن اطلع على كتب بني إسرائيل فلما ذا لم يمحص آراء التجدد و يرفعها إلى النقد بما صرحت به هذه التوراة و كتب العهد القديم من نزول النار من السماء او خروجها من الصخرة بالنحو المعجز الخارق للعادة فتحرق القربان و تأكله كما تذكر انه جرى هذا الخارق للعادة لموسى و هارون كما في العدد الرابع و العشرين من الفصل التاسع من سفر اللاويين. و لجدعون كما في العدد الحادي و العشرين من الفصل السادس من سفر القضاة. و لداود كما في العدد السادس و العشرين من الفصل الحادي و العشرين من سفر الأيام الاول. و لسليمان كما في العدد الأول من الفصل السابع من سفر الأيام الثاني. و لا يليا كما في العدد الثامن و الثلاثين من الفصل الثامن عشر من سفر الملوك الأول. و مما يلزم الالتفات اليه هو ان الآية و التي بعدها لا يخفى من سوقهما كما يقتضيه حال هؤلاء الكاذبين المكذبين المتمردين القائلين «ان اللّه عهد إلينا ان لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار» انهم يريدون بقولهم هذا ان يتعللوا و يستريحوا من دعوة الرسول بأن يعلقوا إيمانهم على أمر يعتقدون بعنادهم انه بعيد إذن فكيف يعلقونه على تشريع إحراق القرابين. فإنهم ان كانوا يعرفون انه رسول اللّه و يعاندون دعوته تعصبا لم يأمنوا ان يأتي في شريعته بإحراق القرابين و ان كانوا يكذبونه لم يأمنوا ان يشرع بزعمهم كذبا و مصانعة لهم. و ايضا ان الذي جاءهم و فرض عليهم تقريب قربان يحرق إنما هو موسى على ما تقول التوراة الرائجة و لم يقتل. و القرآن يقول ان الذين جاؤوا بقربان تأكله النار و قتلوهم هم رسل متعددون فلا مساغ لصرف الآية عن ظهورها

الذي يأتيهم بما قالوه ودع كذبهم بأن اللّه عهد إليهم ما زعموه قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بالمعجزات بِالْبَيِّناتِ الدالة على صدقهم في ادعائهم الرسالة و دعوتهم الصالحة وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان الذي تأكله النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أي قتلهم اسلافكم و القوم أبناء القوم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم ان اللّه عهد إليكم و انكم تجرون على عهد اللّه و تتبعون البينات و عهد اللّه في الإيمان. هذا و لم اعرف من الحديث من هم الرسل الذين جاؤوا بقربان تأكله النار و قتلهم بنو إسرائيل

سورة آل عمران (3): الآيات 184 الى 186

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

182 فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا رسول اللّه مع ما جئت به من الحجج الباهرة و الكتاب المنير فهذا دأب الضالين فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ في حججهم و المعجزات وَ الزُّبُرِ قيل انها الكتب المشتملة على الحكم و المواعظ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ بشرائعه و معارفه و حكمه 183 كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ و في ذلك تسلية لرسول اللّه و المؤمنين فإن دنيا هؤلاء الضالين فانية و ليس عليكم من أوزارهم من شي ء وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الخطاب للمؤمنين كما يتضح من الآية الآتية و فيه بشرى للمؤمنين بأن التوفية بالجزاء التام انما هي في الأجر و اما جزاء ما يتفق من السيئات فهو معرض للمسامحة و التكفير و الغفران لمن يشاء اللّه فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ أي نخي عنها وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ و ليس الإدخال في الجنة قيدا زائدا إذ لا واسطة بين الجنة و النار بل المراد انه من يزحزح عن النار يكون من اهل الجنة فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا التي هي قبل الموت إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي متاع زائل يغتر به المغترون 184 لَتُبْلَوُنَّ بلاه و ابتلاه بمعنى واحد و يجي ء في الخير و الشر كما في سور الأعراف 167 و الأنبياء 34 و النمل 39 و الفجر 14 و 16 و معناه ان يورد عليهم في هذه الحياة الدنيا تكاليف

**-****

الواضح. رقد الجاني الحال إلى ذكر هذا و أمثاله فإني رأيت بعض الناس يمشون في خوارق العادة وراء النزعة العصرية فتنبث من كلماتهم بذور سيئة في منابت السوء

ص: 378

على مقتضى المصالح و تعريضهم للسعادة و مقادير على حسب ما اقتضت الحكمة ان يقدر في هذه الدنيا الفانية من الأسباب. و يكون من غايات ذلك ان تظهر في الوجود اعمالهم في الطاعة و الكمال أو في المعصية و الشقاء فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي مشركي العرب أَذىً كَثِيراً من شر كلامهم كما يؤثر من كلام بعض اليهود و بعض المشركين و تحريضهم على حرب المسلمين وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا و تمسكتم بالطاعة للّه و لم تجزعوا جزعا يبلغ الإثم و الأظهر ان يراد مطلق التقوى اللازمة كمطلق الصبر فيما يرد عليهم من التكاليف و المقادير و ما يسمعونه من الأذى فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يقال عزم الأمر بنصب الأمر على المفعولية كقوله تعالى في سورة البقرة 227 عَزَمُوا الطَّلاقَ و 235 و لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ، و العزم يرجع إلى عقد الضمير و الجزم في العمل و الظاهر انه في الآية من اضافة المصدر إلى مفعوله و ان المراد ان الصبر و التقوى يحتاجان إلى حزم و بصيرة و قوة في الإرادة و رسوخ في الفضيلة و ثبات في الكمال تؤدي إلى العزم و الجزم و العمل

سورة آل عمران (3): الآيات 187 الى 188

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)

185 وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ و من ذلك بشراه برسول اللّه و قرآنه كما أشرنا اليه مرارا فَنَبَذُوهُ القوه و طرحوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن انهم اعرضوا عنه و تركوه و لم يعملوا به و لم يبينوه و عملوا به ما هو أشد من الكتمان وَ اشْتَرَوْا بِهِ و استبدلوا به ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا أو نزعات الأهواء فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ إياه ذلك الثمن الخسيس 186 لا تَحْسَبَنَّ الضلال المضلين الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا به وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا و هذه الصفة منهم تدل على انهم كانوا يفرحون بما أتوا به مما هو رياء أو تشريع فيزيدون على فساده برذيلة العجب. و روى في الدر المنثور في اسباب النزول و معنى الآية ما اللّه أعلم به. و المفعول الثاني ل «تحسين» محذوف للتهويل و لأن يقدره

ص: 379

السامع بما يليق بهؤلاء من ذمهم. و هذا باب من أبواب البلاغة ذكرنا شواهده صفحة 81 و 82 ثم فرع على ما أشير اليه من خستهم في الدنيا بعاقبتهم السيئة في الآخرة بقوله تعالى فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ فسر المفازة في التبيان و مجمع البيان و الكشاف بالمنجاة و ذكر اللغويون في معاني الفوز النجاة وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تأكيد في الأخبار بعذابهم و الوعيد لهم

سورة آل عمران (3): الآيات 189 الى 191

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)

187 وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي و ما فيها من الموجودات و ذلك يعم جميع العالم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ 188 إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الذين يلتفتون بقلوبهم و عقولهم إلى ما في ذلك من وجوه الحكم الدالة على انها من صنع الإله الحكيم الواحد القادر و قد تقدم شي ء من الإشارة إلى ذلك في الصفحة 143 و 144 و في تفسير الآية السادسة و العشرين من هذه السورة 189 الَّذِينَ صفة لأولي الألباب يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً جمع قائم و هو حال وَ قُعُوداً جمع قاعد و هو حال ايضا وَ مضطجعين عَلى جُنُوبِهِمْ إلى الدائبين في ذكر اللّه في جميع أحوالهم فعن امالي المفيد و أمالي الشيخ عنه بسند جيد

عن الباقر (علیه السلام) لا يزال العبد في صلاة ما كان في ذكر اللّه قائما او جالسا او مضطجعا ان اللّه يقول و تلا الآية.

و في الكافي عن الباقر ايضا قال في الآية الصحيح يصلي قائما و قعودا «أي بالقيام و القعود كالقعود بين السجدتين و للتشهد و التسليم» و المريض يصلي جالسا و على جنوبهم المريض الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلي جالسا انتهى

و المراد من ذلك بيان بعض المصاديق لكن في الدر المنثور مما أخرجه الفريابي و ابن أبي حاتم و الطبراني عن ابن مسعود في الآية إنما هذا في الصلاة إذا لم يستطع قائما فقاعدا و إن لم يستطع قاعدا فعلى جنبيه وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ما في ذلك من عجائب الصنع و آثار القدرة و الحكم الباهرة معتبرين بذلك و موقنين انه من صنع الإله القادر الحكيم شاهدين و معترفين للّه

ص: 380

و عابدين له بشهادتهم و اعترافهم قائلين رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا المخلوق باطِلًا و أنت العليم الحكيم سُبْحانَكَ تقديسا و تنزيها لك فَقِنا عَذابَ النَّارِ و لعل ذلك من أجل ما يشاهدونه من الحكمة و آثار العظمة و عظيم النعمة على الإنسان فيأخذهم الخوف من التقصير في طاعة الإله و عبادته و شكر نعمه فيسألون منه التوفيق الذي يقيهم عذاب النار معترفين بأن في دخول النار خزيا و فصيحة تكشف عن خبث و سوء اعمال

سورة آل عمران (3): الآيات 192 الى 194

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)

190 رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ في الكشاف أي أبلغت في اخزائه و نحوه في كلامهم من أدرك مرعى الضمان فقد أدرك. و من سبق فلانا فقد سبق. و هو حسن. و عليه يخرج ما أخرجه ابن جرير و الحاكم عن جابر قوله «و ما أخزاه اللّه حين أحرقه بالنار و إن دون ذلك خزيا» بأن يكون المراد ما أحدث اخزاءه حين أحرقه بالنار بل الاخزاء بدخولها أشد أقسام الاخزاء و أفظعها وَ ما لِلظَّالِمِينَ اي هؤلاء الذين يدخلون و يخزون و أشير إليهم بهذه الصفة بيانا لأنهم ظلموا أنفسهم إذ أوقعوها بكفرهم و عصيانهم في استحقاق النار مِنْ أَنْصارٍ و من ذا الذي ينصرهم على اللّه 191 رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أي سمعنا ما نادى به و هو معنى قوله أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ خالقكم و مربيكم و مدبر أموركم فَآمَنَّا في مجمع البيان عن ابن عباس و ابن مسعود المنادي هو رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و بذلك فسره القمي. و في الدر المنثور عن محمد بن كعب القرطي «هو القرآن ليس كل الناس يسمع النبي «ص» و كأنه رأي منه فهو مردود عليه بأن المسموع ما نادى به و هو ما يعم حكاية دعوته كقوله في سورة التوبة 6 حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ و لو أبقى المنادي على إطلاقه لينطبق على جميع الرسل و تشمل الآيات كل ما تنطبق عليه من مؤمني الأمم لكان انسب بسياق الآيات و ربما يشهد له قوله تعالى في الآية الآتية «عَلى رُسُلِكَ» رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا اي و لنكن عند أخذك لنا مَعَ الْأَبْرارِ و في زمرتهم 192 رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا اي وفقنا للايمان و التقوى و العمل الصالح لنكون أهلا لما وعدتنا

ص: 381

به ان آمنا و اتقينا فإن وعد اللّه كما في القرآن مشروط بالموافاة على الإيمان و التقوى عَلى رُسُلِكَ جي ء بكلمة «على» للاشارة إلى ان الوعد هو وحي منزل من اللّه على رسله في بشرى المؤمنين المتقين أي و آتنا ما أنزلته على رسلك من وعدك لنا في جملة من آمن و اتقى و عمل صالحا وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ قالوا ذلك تمجيدا للّه و اعترافا بقدسه

سورة آل عمران (3): الآيات 195 الى 198

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

193 فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي بفتح الهمزة أي بقوله اني محذوف القول لظهور الكلام و ناب معنى المقول في دخول الباء عليه لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ أي أجيب دعاءكم و أعطيكم ما وعدتكم على شرطه فإن تقواكم و عملكم للصالحات يؤهلكم للثواب و غفران الذنوب و تكفير السيئات مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى «من» لبيان جنس العامل بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي من جنس بعض في صفة الايمان و الطاعة و العمل فكيف يضيع عمل بعضكم فليعمل كل منكم للجزاء. و في هذا حث على العمل و زاده بيانا بقوله تعالى فَالَّذِينَ هاجَرُوا من ديارهم لما نالهم من الأذى في سبيل الإيمان و النصرة لدعوة الحق وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا جرى التنصيص على ذلك لأنه من أفضل الأعمال و للدلالة على انه كله بعين اللّه لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صرح باسم الثواب و الجزاء على العمل لأنه أكمل في اللذة و صرح باسم الجلالة تنويها بشرف الثواب و كرامته و عظمه وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ برحمته الواسعة و قدرته التامة 194 لا يَغُرَّنَّكَ خطاب للرسول و المعنى به غيره او لغيره تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ممتعين بالصحة و الامهال فإنه 195 مَتاعٌ قَلِيلٌ في مدته القصيرة ايام حياتهم ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ الممهد لهم بكفرهم و سوء اعمالهم 196 لكِنِ استدراك من سوء حال الكافرين و وعيدهم بذكر سعادة

ص: 382

المتقين و بشراهم الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال كونها نُزُلًا و النزل بضمتين ما أعد للضيف و إكرامه من قرى و منزل و في ذلك الكرامة العظيمة و البهجة الكبيرة إذ كانت نزلا لهم لكرامتهم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و يا لها من حظوة

سورة آل عمران (3): الآيات 199 الى 200

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ 197 وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ بنزوله على رسول اللّه و لازمه الإيمان برسوله و قيل إليكم باعتبار ابتداء الدعوة بهم و إلا فهو منزل لكل البشر في دعوتهم إلى السعادة و دين الحق و شريعته وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بنزوله على أنبيائهم يؤمنون حال كونهم خاشِعِينَ لِلَّهِ مر ذكر الخشوع في صفحة 90 لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فلا تأخير في توفيتهم أجورهم يوم الجزاء 198 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على ما يحمد الصبر عليه و فيما يحمد فيه و ان فسر فيما جمعه تفسير البرهان و الدر المنثور من الأحاديث ببعض المصاديق لما أمر بالصبر عليه أو فيه وَ صابِرُوا من باب المفاعلة و مقابلة الصبر بالصبر و يفهم من المقام زيادة الصبر في مقام المقابلة وَ رابِطُوا الذي يتحصل من الأحاديث التي أشرنا إليها في تفسيري البرهان و الدر المنثور ان المرابطة هنا ليس على المعنى المترائى من المفاعلة بل هي مثل عاين و سافر و ضاعف فتكون هنا بمعنى اثبتوا و واظبوا و لازموا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لغاية ان تفلحوا. و قيل «لعلكم» لأن الفلاح غير لازم لمجرد ان تحصل هذه الأمور بل شرطه الاستمرار عليها مع الإيمان الصحيح إلى الموت ... وفقنا اللّه و جميع المؤمنين لذلك و ثبتنا عليه انه ارحم الراحمين و خير المسؤولين تم الجزء الأول من التفسير «آلاء الرحمن» و الحمد للّه و الشكر كما هو اهله و يتلوه الجزء الثاني إن شاء اللّه أوله سورة النساء

ص: 383

المجلد 2

اشارة

سرشناسه : بلاغي محمدجواد، 1933 - 1864

عنوان و نام پديدآور : آلاء الرحمن في تفسير القرآن المولف محمدجواد البلاغي تحقيق قسم الدراسات الاسلاميه - موسسه البعثه مشخصات نشر : قم موسسه البعثه مركز الطباعه و النشر، 1419ق = 1378.

مشخصات ظاهري : ج 2

شابك:964-309-269-0(دوره ؛ 964-309-269-0(دوره ؛ 964-309-269-0(دوره ؛ 964-309-269-0(دوره ؛ 964-309-270-4(ج 1) ؛ 964-309-271-2(ج 2)

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي يادداشت : كتابنامه موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14

شناسه افزوده : بنياد بعثت واحد تحقيقات اسلامي شناسه افزوده : بنياد بعثت مركز چاپ و نشر

رده بندي كنگره : BP98/ب 8آ7 1378

رده بندي ديويي: 297/179

ص: 1

اشارة

آلاء الرحمن في تفسير القرآن

اوله سورة النساء

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

و له الحمد و هو المستعان و أفضل الصلاة و السلام على خيرته من خلقه محمد صلى اللّه عليه و آله سيد المرسلين و آله الطاهرين المعصومين صلواته عليهم أجمعين و بعد فهذا هو الجزء الثاني من كتاب آلاء الرحمن في تفسير القرآن. و قد تحريت فيه الاختصار مهما أمكن. مقتصرا على المهم في البيان سائلا من اللّه التوفيق و التسديد و الإعانة انه ارحم الراحمين و خير معين

سورة النساء

اشارة

مائة و ست و سبعون آية عند الكوفيين و عند المكيين و المدنيين مائة و خمس و سبعون، و الخلاف في الفواصل. و هي مدنية. و لما كانت هذه الصورة متضمنة لتأسيس الأحكام الاجتماعية الجارية على حقيقة العدل و رعاية الحقوق على خلاف ما كان معتادا قد استحكمت به صراوة النفوس الوحشية بحيث جعله الجور و تشريعات الباطل سنة متبعة و خيله الهوى بمغالطاته عملا سائغا. فكان الناس منهم من لا يرى حرمة لمال اليتيم الذي يربونه و من لا يرى للطفل و المرأة حقا في الميراث. و منهم من لا يتحرج من أكل مهر المرأة. و قد بقي من ذلك الداء الردي و العدوان الوخيم اثر في كثير من المسلمين إلى هذا العصر. و قد اقتضت الحكمة ترويض

ص: 2

النفوس على ما يشرع في ذلك من الأحكام و على إجرائها على حقيقتها و حقوقها و عدلها. و ان تقام بالموعظة و التذكير و الإشارة إلى جلال اللّه و قدرته العامة سيطرة روحية تقاوم الأهواء و تراقب النفوس و تحاسبها و تردعها في ظواهر أمورها و خفياتها. و ما هذه السيطرة الا لملكة تقوى اللّه مالك امر الإنسان في مبدئه و معاده و المطلع عليه في جميع أحواله. فإن استقامة الإنسان في الظاهر و الخفاء إنما يكون لها وجود و ثبات إذا كانت منبعثة بتقوى اللّه. و اما السيطرة السياسية مهما كانت فإنها لا تردع الإنسان عن خفياته و اختلاساته. و إن الأخلاق مهما كانت لا تسير مع شريعة الحق إلا إذا كانت بتأديب تقوى اللّه و ترويضها

سورة النساء (4): آية 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ جمع انسان و هو شامل لكل بشر على الأرض كما لا يخفى و لام التعريف هنا تفيد العموم لغة. و من المعلوم في دين الإسلام ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) رسول إلى كافة نوع الإنسان بلا استثناء. و في سورة الأعراف 159 قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً و ان الشريعة عامة لجميع البشر لا تخص قسما من الإنسان و لا يخرج من نعمتها و عدلها قسم منه و من المعلوم من الدين و العقل ان تقوى اللّه مطلوبة من جميع الناس لأجل سعادتهم في الدارين و نظام جماعتهم في الدنيا. فلا يختص بها قسم من الإنسان و لا يمنع اللّه نعمة الأمر بها عن قسم من نوع الإنسان البالغ العاقل. و من النظر إلى هذه الوجوه يكون لفظ الناس هنا نصا على العموم اتَّقُوا قد مر بيان معنى التقوى في الصفحة الرابعة و الستين من الجزء الاول و غيرها رَبَّكُمُ خالقكم و مربيكم و مالك أموركم جميعا. و هل من المعقول ان لا يتقى الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم ابو البشر و في هذا بعد الامتنان و التذكير بالقدرة نوع استعطاف للناس بعضهم على بعض بما بينهم من الاتصال في النسب و الاشتباك في الرحم. فإن الاتصال بالنسب مرعي عندهم فإن الاسرائيلي يرعى للاسرائيلي إسرائيليته و كذا القحطاني للقحطاني و ان كان الاتصال بينهما مضى منذ ألوف من السنين و نوع الإنسان مهما تباعدت افراده و شك في اتصالها في نحو خاص من صحيح النسب فإنه لا يشك في اتصالهم في الولادة من آدم. و قد سمى اللّه البشر في القرآن بني آدم في سبع مواضع لا يحتمل ذو الرشد من

ص: 3

المسلمين ان يراد منهم بعضهم. و قد تكرر في القرآن ان أول هذا البشر الموجود و المسمى بالإنسان هو آدم. ففي سورة السجدة المكية 6 وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ 7 ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ و كذا في سورة البقرة 30 إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- 33 و الحجر المكية 28 خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ- 31 و سورة ص 71 إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ- 78 و ما في هذه السور و آياتها من امر الملائكة بالسجود لآدم و استكبار إبليس و قد ربط اللّه في القرآن خلق الإنسان بخلقة آدم من الطين. ففي سورة الانعام 2 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ و الصافات 11 خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ و الرحمن 13 خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ و على ما ذكرناه اتفاق المسلمين و حديثهم المتواتر في المعنى و لم يشذ منهم إلا الجاحظ على ظاهر ما حكاه السيد الرضي في حقائق التأويل حيث قال ما ملخصه و من غريب كلامه قوله معنى من نفس واحدة على هيئة واحدة و معنى و خلق منها زوجها جعل زوجها من جنسها ليكن إليها و لا يستوحش منها انتهى و ليت شعري إذا كان معنى النفس الهيئة فعلى م يعود الضمير في قوله «زَوْجَها» و الضمائر في قول هذا القائل «زوجها. جنسها. يسكن إليها. لا يستوحش منها». و في تفسير المنار نقل عن استاذه عدة جمل- الاولى منها (ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص و لا بالظاهر) و يردها أن ذلك معلوم مما تقدم من الآيات و غيرها و متواتر الحديث و اجماع المسلمين- الثانية- «و القرينة على انه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً بالتنكير و كان المناسب على هذا الوجه ان يقول و بث منها جميع الرجال و النساء» و يردها مع ما ذكرناه من اسباب العلم ان المناسبة لا تنحصر بما اقترحه فإن هذا المعنى اي بث جميع الناس من آدم قد تقدم بقوله تعالى في خطاب الناس خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و ما أشرنا اليه من السور السبع و لم يتعلق الغرض هنا بتأكيد ما تقدم بما اقترحه بل الغرض بيان معنى تأسيسي و هو حال الخلق للناس في التدرج من خلق النفس الواحدة الى خلق زوجها الى بث الكثير من نسلهما الذي خلق الناس منه بالتناسل التدريجي- الثالثة- في مراعاته لما يزعمه اهل الصين في نسبة البشر الى أب آخر و يذهبون بتأريخه الى زمن بعيد. و ان من الناس من لا يعرفون آدم و لا حواء و لم يسمعوا بهما. و في حذره من ان يثبت ما يقوله الباحثون من الافرنج من ان لكل صنف من اصناف البشر أبا. أقول و من العجيب ان تنبذ المعلومات الإسلامية من

ص: 4

القرآن الكريم و الحديث المتواتر و الإجماع ظهريا لأجل زعم اهل الصين او حذرا من الآراء الجديدة كتسلسل

الأنواع و التولد الذاتي كما أحدثه داروين. و قال التلميذ ج 4 ص 327 ان المتبادر من لفظ النفس انها هي الماهية و الحقيقة التي كان بها هذا الكائن الممتاز اي خلقكم من جنس واحد و حقيقة واحدة. أقول ان النفس و ان كانت كسائر الموجودات الخارجية ينتزع العقل منها بتحليله جنسا و ماهية كلية لكن الآثار الخارجية كالخلق منها لا تتعلق إلا بالفرد الخارجي و إذا قيد بالوحدة امتنع احتمال التعدد فيه فالذي يفهم من النفس الواحدة هنا ليس الا الفرد الخارجي الواحد بالشخص كما هو المفهوم من جميع استعمالات القرآن الكريم للنفس. ثم نسأل هذا القائل ما هو معنى قوله تعالى وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها و ما هو زوج الماهية المخلوق منها و هو مقابل لها بالزوجية. و ما معنى قوله تعالى وَ بَثَّ مِنْهُما. و لهما في المقام كلمات (1) طويلة يفضي التعرض لها إلى طول ممل. و لو لا ان العصر الحاضر مما تنمو به هذه البذور و أمثالها لما تعرضنا لما ذكرناه وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها و هي حوا وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ كما تعرفون انه الإله القادر القاهر المجازي على الأعمال بحيث تَسائَلُونَ بِهِ اي تتساءلون و حذف احدى التائين في مثل هذا مطرد في العربية. و كرر الأمر بتقوى اللّه مبالغة في التأكيد. و في الكلام احتجاج على الناس حتى الوثنيين بما معناه انكم في مهماتكم يسأل أحدكم الآخر باللّه لما تعرفونه من عظمته و مقام إلهيته اذن فاتقوه وَ اتقوا الْأَرْحامَ اي اتقوا شر قطيعتها و اثرها في ظلم ذوي الأرحام فانكم ترعون نوعا لاولي الأرحام حرمة الرحم و تحذرون نوعا من وبال قطيعتها و نكال اللّه في ذلك. و

في صحيحة الكافي عن جميل عن الصادق (علیه السلام) ان اللّه امر بصلتها و عظمها الا ترى انه جعلها معه انتهى

اي قرن الأمراه

ص: 5


1- منها التشبث لرأيهما ص 325 بما رواه الشيعة من انه خلق قبل آدم خلق كثير ثم بادوا ثم بعد ذلك خلق آدم ابو هذا النسل خليفة لمن باد قبله كما أشرنا اليه في معنى الخليفة في الصفحة ال 82 من الجزء الاول و قد أشرنا هناك ايضا الى رواية الحاكم لذلك عن ابن عباس و رواية الطبري ايضا في تفسيره و هذه الروايات من الفريقين دالة على ان جميع البشر الموجودين في زمان الرسول هم متسلسلون من أب واحد و نفس واحدة شخصية و في هذا ايضا رد لما زعماه

باتقائها بالأمر بتقواه. و نحوه عن العياشي عن عمر بن حنظلة عنه (علیه السلام) إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً لا يخفى عليه شي ء و لا يفوته شي ء بل يحاسبكم و يجازيكم في أمر الأرحام

سورة النساء (4): الآيات 2 الى 3

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)

2 وَ آتُوا الْيَتامى إذا بلغوا الرشد أَمْوالَهُمْ و يلزم من ذلك وجوب حفظها لهم و النهي عن أكلهم لها وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ اي لا تجعلوا الخبيث بدلا تأخذونه بالطيب مثل قوله تعالى في سورتي البقرة 106 وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ و الأحزاب 52 وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ و التبدل كالاستبدال يتعدى إلى المأخوذ أو المنتحل بنفسه و يتعدى الى المرغوب عنه بالباء.

و في تفسير البرهان عن نهج البيان للشيباني «قال ابن عباس لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم لأجل الجودة و الزيادة فيه و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه»

و الظاهر ان الوصف بالخبث من اجل الحرمة و بالطيب من اجل الحل و استفادة الجودة و الزيادة من دواعي التبدل الذي يكون به المأخوذ حراما خبيثا. و إلى ما ذكرناه يرجع ما جعله في التبيان أقوى الوجوه و تبعه في المجمع وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ليس المراد هو النهي عن خصوص الأكل بمعناه الحقيقي بل الأكل هنا مجاز بمعنى الأخذ و الغصب و ضم الغاصب لها الى أمواله و أشير الى ذلك بقوله تعالى إِلى أَمْوالِكُمْ ليفهم من الأكل ما يناسب كلمة «الى» جريا على الغالب من كون المتسلطين على اموال اليتامى ذوي اموال و إن كانت عند بعضهم قليلة إِنَّهُ اي غضب مال اليتامى المكنى عنه بالأكل المنهي عنه كانَ حُوباً كَبِيراً فسروا الحوب بالإثم. و في المصباح المنير باكتساب الإثم 3 وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا قد قدمنا في الآية السادسة عشرة من سورة آل عمران ان القسط و الاقساط انما هما مقاربان في المعنى للعدل لا مراد فان له على معنى واحد و الظاهر بحسب التتبع لموارد الاستعمال ان الاقساط هو معاملة الطرف الواحد بالحق و الإنصاف و ان العدل هو الجري على الحق في المعاملة مع الاثنين او الأكثر او في الحكم بينهم او هو ما يعم هذا المعنى و معنى الاقساط فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ و قد اضطربت الأوهام في هذه الآية

ص: 6

و تعسفت في الاعتراض و التفسير توهما لكون المراد من اليتامى في هذه الآية هو المراد منهم في الآية السابقة و هم الذكور و الإناث الصغار الذين لم يخرجوا من الصغر الى البلوغ بحسب حال الذكر و الأنثى و توهما لكون المراد من «تقسطوا» هو الاقساط في أموالهم كما هو مضمون الآية السابقة فشذت الافهام عن الوصول الى حقيقة الربط بين قوله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى و بين قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فلما ذا يغيب عن الافهام ان لفظ اليتيم و اليتامى قد تقتضي المناسبات و محاسن الكلام ان يستعمل فيمن انقضى عنه اليتم فيقال يتيم و يتامى لغرض يدعو إلى ذلك. انشد السيد الرضي في حقائق التأويل:-

ان القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى

و حكي عن الاصمعي عن بعض العرب:-

أحب اليتامى البيض من آل سامة و اكره منهن اليتامى الفواركا

اذن فما ظنك بحسن الاستعمال فيمن هن قريبات العهد بزمان اليتم و قد بقيت عليهن آثاره. و لماذا لا يلتفت إلى ان الحكم بحسب مناسبته كثيرا ما يكون هو المبين لموضوعه و المعين له. و كثيرا ما يدل طرف الكلام على تعيين المراد من طرفه الآخر كما تقول لمن يريد التزويج في وقته المرتضعات من أمهاتهن تزوج منهم. و قد يؤتى بالحكم في بليغ الكلام على وجه يعم موضوع الكلام و غيره كما إذا سألت الطبيب عن أكل التفاح فقال يجوز لك ان تأكل ما اشتهيت من فواكه الصيف الى المقدار الفلاني. و لئن اخفت الغفلات وجه الدلالة فإنه يتضح بالنظر إلى قوله تعالى في هذه السورة 126 يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ الظاهر من الإطلاق كون الاستفتاء عن الأمر المختص بالنساء و هو التزوج بهن لا من حيث اصل التزوج فإنه لا يشك فيه احد لكي يستفتي عنه بل عن التعدد «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ» بما شرعه في أمرهن «وَ» يفتيكم ايضا بذلك كلما قرأ القرآن وحيه المنزل و هو «ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي» شأن «يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي» توليتم امورهن بعد موت آبائهن و بلغن مبلغ النساء و استحققن ان تؤتوهن ما كتب لهن من ميراثهن و نمائه مثلا و أنتم من حرصكم و اثر العادة الجاهلية «لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ» مما ذكر «وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» اي ترغبون في ان تنكحوهن فإنه الظاهر في التقدير دون كلمة «عن» و يكون هذا الظاهر محكما بالنظر الى انه ليس في القرآن فتوى في اللاتي يرغب عن نكاحهن بل الفتوى في الكتاب انما تنطبق على اللاتي يرغب في

ص: 7

نكاحهن و هي قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (1) فيكون محصل الكلام في الآية هو انه بعد ان جرى التعرض لاموال اليتامى جرى التعرض ليتامى النساء في المعاملة معهن في ذواتهن بالقسط بمعنى انكم إذا أحس أحدكم من نفسه انه لا يسمح لمن عنده من يتامى النساء ان يؤتيها ما كتب اللّه لها من الأموال لئلا تذهب به الى من يتزوجها و ترغبون في ان تتزوجوهن إما رغبة في أموالهن و بقائها في حوزتكم او رغبة فيهن و لكنكم تتحرجون من التزوج بهن اما لتوهم الحرج في تعدد

الزوجات او في نكاح من ربيت يتيمة عندكم قياسا على الربائب كما أشار اليه القمي في تفسيره فتخافون من اجل ذلك ان تمنعوهن من الزواج فلا تقسطوا فيهن بل تظلمونهن بذلك فإن اللّه جلت آلاؤه يرشدكم الى رفع هذا الخوف بان تتزوجوهن و ان كنتم ذوي زوجات فانه أحل لكم و لغيركم في الشريعة ان تنكحوا ما طالب لكم بالحل من النساء اللاتي لم يذكر تحريمهن في الشريعة الى اربع. و «ما» في ما طاب الاشارة الى عنوان الجنس المتصف بالحل بجميع اصنافه من حيث الثيبوبة و البكارة و المال و الجمال و الفقر و عدم الجمال و كونها يتيمة مرباة او غير ذلك و لو قيل «من طبن» لتوجه الذهن الى اعيان المحللات و فاتت فائدة الإشارة المذكورة. و اما الأمر في قوله تعالى «فَانْكِحُوا» فانه بحسب وجه الكلام في الجملة الشرطية و عنوان الأسلوب و السياق ما هو الا للإرشاد الى نحو من أنحاء التخلص مما يخافونه من عدم الاقساط مع إمكان التخلص ايضا بجهاد النفس و كفها عن الحرص في اموال اليتامى. فالآية الكريمة اذن جارية في خصوصياتها و اشاراتها و قرائنها على النحو السامي من البراعة و المنهج الواضح في البلاغة. و لنا الفخر إذا اهتدينا بالتدبر في خصوصياتها و قرائنها و مزاياها الى ما هي عليه من اتساق النظام، و سداد الانتظام و براعة الأسلوب مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ اي اثنتين اثنتين و ثلاثا ثلاثا و أربعا أربعا بحسب ما تريدون.

و المعدودات بدل تفصيلي من «ما طاب» و منعت هذه الكلمات من الصرف لكونها معدولة عمابه

ص: 8


1- و في كتابي التفسير من جامعي البخاري و مسلم من طريق الزهري عن قول عائشة في آخر الحديث «رغبة أحدكم عن يتيمته. من اجل رغبتكم عنهن» لكن الحديث مضطرب الأطراف، متدافع الكلمات فإن في آخره ايضا «ما رغبوا في مالها و جمالها من يتامى النساء» و في اوله «يعجبه مالها و جمالها و يريد ان يتزوجها» و في الحديث ايضا ان الذي يتلى في يتامى النساء هو قوله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا الآية. و زد على ذلك ما تجده من التدافع و الاضطراب بين هذه الرواية في تفسير الآيتين و بين ما رواه هشام عن أبيه عروة عنها كما في جامع مسلم. فدع هذا الحديث لما به

فسرناها به و لتضمنها الوصفية فإنك تصف المعدود و تقول جاءني رجال اربعة و نساء اربع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين المتعددات في حقوقهن و التسوية بينهن فإن اكثر حقوقهن متساوية متكافئة ان زيدت إحداهن كان ذلك جورا على غيرها منهن فَواحِدَةً بالنصب على المفعولية بكلمة «انكحوا» مقدرة يدل عليها «فانكحوا» المتقدمة و لا بد من ان تكونا بمعنى واحد في المادة و الهيئة كما هو شأن المقدر و ما يدل عليه. فكما كان الدال للإرشاد بكون المقدر ايضا للإرشاد إلى احدى الطرق المؤمنة من عدم العدل و ان كان من الطرق ايضا ان يروض نفسه فيتبع العدل بحسب تكليفه في الحقوق الشرعية فإن هذا العدل مستطاع مقدور بالبداهة. و كيف يكون غير مستطاع مع قوله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ و مع الإرشاد السابق و لازمه من إباحة ما زاد على الواحدة إلى الأربع. و أما قوله تعالى 128 وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فإن المراد فيه هو العدل في المودة القلبية لأن أسبابها خارجة عن الاختيار فإن منها جمال هذه او حسن أخلاقها، و قبح تلك او سوء أخلاقها. و

في الكافي بسنده ان ابن أبي العوجاء اعترض على هشام بن الحكم بزعمه تناقض الآيتين فسأل هشام الصادق (علیه السلام) فأجابه ان الاولى في النفقة و الثانية في المودة.

و قد اقتصر عليه السلام على ذكر النفقة من حقوق الزوجات اكتفاء بها في التفرقة بين الآيتين. و أظن أن هشاما لا يخفى عليه الجواب و لكنه سأل الإمام ليأخذ الحقيقة من معدنها أمناء الوحي احد الثقلين اللذين لن يتفرقا. فإنه لو تكلم واحد من البشر بمثل الآيتين لوجب في الاستقامة و الفهم ان يحمل كلامه على اختلاف متعلق العدل كما في الآيتين (1) و المفهوم من قوله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْما

ص: 9


1- و لكن بعض المعاصرين قد اثرت بهم ضجة الغربيين في منع تعدد الزوجات فكتب بعض في كتابه تحرير المرأة المطبوع في مصر سنة 1316 ص 138: و الذي يطيل البحث في النصوص القرآنية يجد أنها تحتوي إباحة و حظرا في آن واحد. و ذكر الآيتين. و كتب آخر ما معناه: إن تعدد الزوجات كان جائزا للصدر الاول إذ كانوا يستطيعون العدل و لم تكن آية وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا جارية في شأنهم و اما اهل العصور المتأخرة فالعدل غير مستطاع لهم انتهى وليته عرف ان المخاطبين بأنهم لن يستطيعوا ان يعدلوا بين النساء انما هم الصدر الأول فعليه ان يفهم العدل الذي لا يستطاع في اي شي ء هو لكي يعرف كيف يتكلم و في الجزء الرابع من تفسير المنار ص 349- 351 بل الى 358 بل الى 370 كلام ليته لم يكتب في تفسير القرآن الكريم في التشريع الإلهي. نعم ذكر في أثناء هذا الكلام كلمات عن الكاتبات الغربيات كما في ص 360- 362 ما يصلح ان يكون ردا عليه. و من المعلوم ان جل ما ينقم في ذلك الكلام على تعدد الزوجات انما

أَلَّا تَعْدِلُوا هو انه إذا أوجس أحدكم من نفسه او غيره امرا يخاف ان يغريه من حيث التعدد و هذا قليل الوقوع و ليس المفهوم هو مجرد التجويز لأن يضعف في المستقبل التزامه بالشرع فيحيد عن العدل في حقوق الزوجات. فإن هذا التجويز المجرد لا يسمى خوفا مع انه حاصل لكل من لم يكن معصوما حتى في القسط و العمل بالشريعة مع الزوجة الواحدة فكيف يمنع اللّه معه التعدد و يأذن بالواحدة و كل من الواحدة و الأكثر إماء اللّه و الجور مبغوض في كل مقام. لكن امر المستقبل مع سلامة النفس في الحال لا يوقف الأمور عن سيرها في الحال ما لم تكن في الحال نزعة او حال تنذر بالورطة في المعصية و يتحقق معها عنوان الخوف فيحسن التحذر منها عند الخوف فإن رأى ما ينذر بذلك في التعدد حسن منها الحذر كما أرشده اللّه بقوله تعالى فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قيل ما ملكت اشارة إلى عنوان الجنس المتصف بالمملوكية كما تقدم نظيره اي ما يملكه الناكح من النساء فإن اللاتي يتسرى بهن المالك ليس لهن شي ء من حقوق الزوجية فلا يكون في أمرهن ما يخالف العدل بينهن من حيث المساواة المطلوبة في الزوجات. و اما من كانت ملك الغير و تزوجها الحر على ما يأتي فإنها زوجة لها حقوق الزوجية. هذا و قد اتفق المسلمون على أن كل أنثى تكون من المحارم و يحرم نكاحها إذا كانت حرة هي كذلك إذا كانت امة. و ذهب الإمامية و الحنفية إلى انه لا يملك من هي من محارمه و قال الشافعي لا يملك الأمهات و إن علون و البنات و إن نزلن لا غير و يزيد مذهب مالك عليه بأنه لا يملك الأخوات للأبوين او لأحدهما. و قال أهل الظاهر يملك الجميع و ان حرم وطأهن و الحجة للإمامية في مذهبهم إجماعهم و أحاديثهم و احتج الحنفية بما

أخرجه احمد و الترمذي و ابو داود و ابن ماجه و الحاكم في مستدركه عن سمرة عن النبي (صلی الله علیه و آله) من ملك ذا رحم محرم فهو حر.

و هاهنا مسائل «الاولى» يجوز للعبد أن يتزوج اربع إماء لإطلاق الآية و عليه اجماع الإمامية و نص ما نشير اليه من رواياتهم في المسئلة الثانية. و عن أبي حنيفة و الشافعي لا يجوز له إلا نكاح أمتين و لم يحك في الاحتجاج لهما إلا القياس على أن عليه نصف حد الحر. و في هذا الاحتجاج ما فيه «الثانية» ذهب الإمامية إلى انه لا يجوز له التزوج من الحرائر إلا

**-****

ينشأ من سوء أخلاق النساء و حسدهن و نقصان عقولهن و ضعف تدينهن و وهن التزامهن بالشريعة و الحقوق.

و هذا لا يرجع الى عدل الزوج في حقوقهن و سقوطها بنشوزهن بسوء أخلاقهن و مخالفتهن للواجب عليهن.

ص: 10

اثنتين. و الحجة لهم إجماعهم و رواية زرارة عن الباقر (علیه السلام). و رواية الصيقل عن الصادق (علیه السلام) و صحيح ابن مسلم عن أحدهما (علیه السلام) و رواية زرارة ايضا عن أحدهما بل و غيرها من الروايات «الثالثة» لا يزيد على حرة و أمتين بإجماع الإمامية و هل له ان يتزوج الحرة و الأمتين

فيه رواية في الفقيه عن امير المؤمنين فإن كانت مجبورة بالشهرة فذاك:

هذا و يشهد ايضا على أن قوله تعالى «فَواحِدَةً» إنما هو للإرشاد قوله تعالى ذلِكَ اي نكاح الواحدة او ملك اليمين حينما تريدون النكاح ابعد عن الأمور المقتضية لمخالفة العدل بين ذوات الحقوق إذ ليس في هذين الصورتين ذوات حقوق و أَدْنى و اقرب إلى أَلَّا تَعُولُوا و تميلوا بمخالفة العدل قال ابو طالب في لاميته المعروفة المشهورة في مدح النبي (صلی الله علیه و آله) و التصديق برسالته:-

بميزان عدل لا يخيس شعيرة و وزان صدق وزنه غير عائل

و حكي عن بعض انه فسر تعولوا بقوله بكثرة عيالكم و رده المتضلعون من علم اللغة بأن الذي يجي ء للمعنى الذي يقوله هو أعال يعيل بضم الياء لا عال يعول و رد ايضا بأن المشار اليه بقوله «ذلك» هو نكاح ما شاء الرجل من ملك يمينه و لو عشرا و ذلك يوجب كثرة العيال فكيف يكون اقرب إلى قلة العيال من الزوجتين او الثلاث او الأربع. و ايضا لو كان كما يقول و ليس بمعنى عدم العدل لكان علة ثانية للاقتصار على الواحدة فيلزم أن يؤتى بالواو قبله و يقال «و ذلك ادنى» عطفا على العلة التي سيقت لها الجملة الشرطية و هي الأمن من عدم العدل

سورة النساء (4): آية 4

وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)

4 وَ آتُوا النِّساءَ الخطاب هنا بالنظر إلى الحكمة يكون للأزواج بالنسبة إلى صداق زوجاتهم صَدُقاتِهِنَّ جمع صدقة بفتح الصاد و ضم الدال اسم لصداق الزوجة و مهرها نِحْلَةً النحلة العطية المقصود منها انتفاع من أعطيت له. و في ذلك تأكيد لوجوب إيتاء النساء صدقاتهن ببيان ان الوجه في إعطاء الصداق هو انتفاع الزوجة به و ليس هو مجرد وسيلة لاستخلاصها ممن يلي أمرها كثمن الشاة مثلا. و في هذا البيان ردع عن العادة الجاهلية التي بقيت موروثة في كثير من الأوباش الى هذا الزمان و هي ان الزوج يدفع الصداق لمن يلي امر الامرأة لمجرد أن يستخلصها منه مع علمه بأنه يأكله ظلما فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ «من» للتبيين او للتبعيض جريا على الغالب نَفْساً تمييز للضمير في «طبن» فَكُلُوهُ الأمر للإباحة حال كون المأكول

ص: 11

هَنِيئاً المراد كونه نعمة بلا نكد و لا تبعة مَرِيئاً و المراد منه السائغ كالطعام السائغ في المري بسهولة و بلا غصة

سورة النساء (4): آية 5

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)

5 وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ جمع سفيه. و السفه هو الخفة في العقل و الطيش و وضع الأمور في غير موضعها و منه التبذير في صرف المال و صرفه في المحرمات و الملاهي و شرب الخمر بل لا يخفى ان شرب الخمر بذاته من السفه كما اتفق عليه حديث الفريقين أَمْوالَكُمُ و قد أكد النهي جلت حكمته و أشار الى حكمته الرادعة للعقلاء بوصف الأموال بأنها الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ اي جعلها اللّه و الضمير هو المفعول الأول لكلمة «جعل» قِياماً و هو المفعول الثاني. و في التبيان و المصباح انه مأخوذ من القوام بكسر القاف. و في المصباح قوام الأمر عماده الذي يقوم به و ينتظم. و في القاموس نظام الأمر و عماده أقول او ما يعتمد عليه كقول لبيد في معلقته:-

أ فتلك ام وحشية مسبوعة خذلت و هادية الصوار قوامها

اي و البقرة التي تهدي القطيع من بقر الوحش هي قوامها. و في النهاية في الحديث الا ان يكون له قوام من معيشته. و محصل بيان الآية الكريمة انه كيف يحسن لذي الرشد ان يعمد إلى المال الذي جعله اللّه قواما و قياما لأمر المعيشة فيعرضه للتلف هدرا بايتائه للسفيه و في الكشاف تقومون بها و تنتعشون فكأنها في أنفسها قيامكم و انتعاشكم: و لا يخفى ما فيه من تعسف وَ ارْزُقُوهُمْ فيما يحتاجون اليه فِيها بما هو أعم من كون الرزق لهم بالشراء بالبعض من نمائها أو من أعيانها أو ببعضها إن كانت مما يحتاجون اليه من المأكول. و لذا لم يجر التعبير بقوله تعالى «منها» لئلا يظهر منه إيتاء البعض منها فيعود إلى إيتاء الأموال للسفهاء وَ اكْسُوهُمْ اي فيها وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً تألفا لهم و استصلاحا و رفعا لحزازة حبس الأموال عن إيتائها لهم. و قد اختلف المأثور في تفسير الآية في السفهاء. ففي الدر المنثور عن أبي هريرة هم الخدم و هم شياطين الإنس. و عن ابن مسعود النساء و الصبيان.

و عن ابن عباس من طريق العوفي النساء و الأولاد و في رواية اخرى السفيه من ولدك.

و هذه الكلمات زيادة على إطلاقها ظاهرة بسوق ألفاظها و قرائن اسلوبها في ارادة المطلق من

ص: 12

الخدم و النساء و الأولاد. و في ذلك ما فيه مضافا إلى ان تخصيصها للسفيه بمن ذكرته كأنه اجتهاد لا رواية موقوفة على انها ساقطة بصحاح الروايات

ففي تفسير القمي في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في حديث شارب الخمر لا تأتمنوه لأن اللّه يقول وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ و اي سفيه أسفه من شارب الخمر. و نحوه رواية السكوني عن الصادق (علیه السلام) عن آبائه امير المؤمنين (علیه السلام) و رواية الكافي من قول الباقر (علیه السلام) للصادق (علیه السلام). و صحيحته من قول الصادق (علیه السلام) لولده إسماعيل

و رواية العياشي عن ابراهيم بن عبد الحميد عن أبي جعفر (علیه السلام) كل من يشرب المسكر فهو سفيه.

و في مستدرك الحاكم و صححه و عن البيهقي في الشعب عن أبي موسى عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في حديث و رجلا آتى السفيه ماله و قد قال اللّه وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الحديث.

هذا و بعض هذه الروايات نص في كون السفيه في موردها من غير النساء و الولد و الخدم و بعض كالصريح في ارادة العموم. و لترجع الى مفردات الآية و ما يستنتج منها في مسائل- الأولى- ان الأمر في قوله تعالى وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ هل هو للوجوب فيختص بواجب النفقة. او هو للاباحة في كل من يباح رزقه من السفهاء و ان لم يكن من الأقارب لأن الأمر وارد في مقام توهم المنع بالنهي عن ايتائهم الأموال. و الثاني هو الأظهر- الثانية- ان النهي في الآية عام كعموم لفظ السفهاء فلا يختص بمن يحتاج الى الرزق و الكسوة. و ذلك لأن تعقب ضمير الخاص للعام لا يجعله خاصا الا بدلالة القرائن المقامية. و القرائن في الآية و الحديث إنما هي على العموم و منها ما أشرنا اليه من التعليل المستفاد من وصف الأموال بأنها جعلها اللّه قياما للتعيش فلا يصح ان يسلط عليها السفيه المتلف لها- الثالثة- ان النهي لا يختص بمال المنهي بل يعم ما كان بيده بحسب الولاية او الوصاية او الوكالة او غير ذلك من اموال الناس. و ذلك لأن المخاطبين هم الناس كما في أول السورة فتكون الأموال مضافة الى الضمير العائد لهم و لنوعهم و كأنه قيل لكل مكلف لا تؤت اموال الناس الذين أنت منهم للسفهاء. و لا يلزم من ذلك حمل الاضافة الواحدة على الحقيقة و المجازية كما حكاه الرازي في تفسيره عن القاضي و لا حاجة الى ما أجاب به الرازي من دعوى عموم المجاز في الاضافة و قد جاء ما ذكرناه من الإضافة الى النوع في قوله تعالى في سورة النور 32 وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ فيكون منطوق الآية و عموم تعليلها محتويا لمقتضى الحكمة و مصلحة احترام المال و حفظه لمالكه مطلقا لأنه جعله اللّه قياما للمعيشة

ص: 13

سورة النساء (4): آية 6

وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)

6 وَ ابْتَلُوا الْيَتامى الذين لهم اموال محجوبة عن تصرفهم لصغرهم و امتحنوهم و جربوهم، بممارسة أمرهم لاستكشاف رشدهم و لياقتهم لصون أموالهم على النهج العقلائي النوعي بما يحصل به الامتحان و يتوقف عليه و لو بأن يدفع إلى اليتيم شي ء من المال مع الاذن بالتصرف فيه و المراقبة له في تصرفاته المأذون له فيها. و لا دلالة في الابتلاء بوجه من الوجوه على ان يخلي بين اليتيم و بين المال ليتصرف فيه بلا اذن و لا مراقبة في التصرفات بل ان تعليق الدفع على البلوغ و انس الرشد يدل على ما قلناه. و ليكن هذا الابتلاء قبل البلوغ ليعطي الرشيد ماله أول بلوغه كما هو حقه فإن حصول الرشد لا يتوقف على البلوغ بل يمكن حصوله متدرجا من حين التمييز و يعرف بالامتحان و الابتلاء حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ اي الحالة و الصفة التي قدرها اللّه لنوع الإنسان في تطورات نشأته و نموه و هي ان تحدث فيه مادة التناسل و هو المني بحسب نوعه و دم الحيض في رحم الأنثى فيكون بذلك صالحا للزاوج مائلا اليه بحركة مادة التناسل إلى الرغبة النوعية فيه. و لحدوث تلك الحالة و تلك الصفة أمارات تدل عليها تكون العبرة بأولها حصولا. منها هيجان تلك المادة و خروج المني ماء الشهوة المعروف بأحد المحركات كالجماع و نحوه او بتخيله في النوم و هو الاحتلام. و لأن الغالب تقدم الاحتلام على الجماع و نحوه جعل القرآن الكريم بلوغه هو العنوان في قوله تعالى في سورة النور 57 الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ 58 وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ. و ربما يتأخر المحرك لخروج المني فتكون العبرة في الأنثى بخروج دم الحيض منها و إذا تأخر ذلك كان حملها كاشفا عن بلوغها. و إذا تأخر ظهور هذه الإمارات أخذ بالسن و هو في الذكر إكمال خمسة عشر سنة هلالية على المشهور عندنا بل هو اجماع إذ لم يعهد البقاء على الخلاف الا من ابن الجنيد. و لو لم يكن اجماعا فهو شهرة تعضد ما توافقه من الحديث و توهن ما تخالفه. و على المشهور معتبرة العبدي بالحسن ابن محبوب و روايات الكناسي عن الباقر (علیه السلام) و صحيحا ابن وهب عن الصادق (علیه السلام) و نحوهما و روايات الخصال في مرسلة ابن عامر عن الصادق. و الروايات المعارضة ان لم تقبل التأويل بإمكان ان تظهر الإمارات المذكورة قبل الخمسة عشر سنة فهي مطرحة لمخالفتها المشهور و اعراض القدماء عنها. و في الأنثى إكمال تسع سنين بإجماعنا و ما أشرنا اليه من رواية العبدي: و من

ص: 14

علامات البلوغ نبات الشعر الخشن على العانة دون الزغب و عليه علماؤنا و هو المحكي عن مالك و احمد و الشافعي في احد قوليه و في القول الآخر خصه بالكفار و عن أبي حنيفة انه لا يعتد بذلك. و الحجة عليه ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) امر بالاعتبار به في امر بني قريضة كما هو مروي من طرق الجمهور في الصحيح عندهم كما في مسند احمد و صحيح ابن حبان و جامع عبد الرزاق عن عطية القرضي. و من طرقنا رواية أبي البختري عن الصادق (علیه السلام) عن الباقر (علیه السلام) كما تدل عليه روايتا العبدي و الكناسي عن الباقر (علیه السلام) و ذكرت فيهما اللحية للغلام ايضا. و هناك أمارات أخر كتغير الصوت و تورم الثديين و انفراج ارنبة الأنف و لكن التدرج في حدوثها قد يسبق البلوغ فلذا لم تعد من الإمارات المعول عليها فَإِنْ آنَسْتُمْ في التبيان آنستم وجدتم يقال آنست من فلان خيرا. و لعله يشير بالمثال إلى وجه الاستعمال و هو ان انس ليس معناه ابصر و علم كما قال بعض اللغويين بل هو مأخوذ من الانس و استعمل في وجدان ما يؤنس به ضد ما يستوحش منه و لم يسمع في مستقيم الكلام استعماله فيما يحذر منه مِنْهُمْ رُشْداً في حفظ المال و عدم تبذيره و لعل في التنكير اشارة إلى ذلك. و لا يعتبر في ذلك الرشد في التقوى بمعنى العدالة و لم يحك القول باعتبار العدالة الا عن الشيخ الطوسي و الشافعي لكن قال في التبيان و الأولى حمله اي

الرشد على العقل و إصلاح المال و هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام)

ايضا أقول و

في الفقيه عن الصادق (علیه السلام) في الآية إيناس الرشد حفظ المال

و عن العياشي عن يونس بن يعقوب عن الصادق (علیه السلام) في الآية اي شي ء الرشد الذي يؤنس منه قال (علیه السلام) حفظ ماله

و صحيحة العيص المروية في الكافي و الفقيه و التهذيب عن الصادق (علیه السلام) في اليتيمة متى يدفع إليها مالها قال (علیه السلام) إذا علمت انها لا تفسد و لا تضيع.

و في صحيحة الكافي عن هشام عن الصادق (علیه السلام) و ان احتلم و لم يؤنس منه رشده و كان سفيها و ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله. و نحوه رواية الفقيه و التهذيب

و الظاهر ان السفه و الضعف بمنزلة عطف التفسير لعدم الرشد. و

موثقة التهذيب عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (علیه السلام) في الغلام جاز امره إلا أن يكون سفيها او ضعيفا و فسر السفيه بالذي يشتري الدرهم بأضعافه و الضعيف بالابله:

و في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية رشدا في حالهم

ص: 15

و الإصلاح في أموالهم: و من السفه و عدم الرشد تعاطي صرف المال في الملاهي و القمار و شرب الخمر و للزنا و نحو ذلك و قد سمعت من الحديث ان شارب الخمر سفيه فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ و خلوا بينهم و بينها كسائر ذوي الأموال. و مدلول الآية ان الولي على أموالهم لا يدفعها إليهم حتى يأنس منهم رشدا مهما طعنوا في السن فمن الغريب حتى في القياس و الاستحسان ما عن أبي حنيفة من انها تدفع إليهم بعد الخمس و عشرين سنة من عمرهم و ان كانوا سفهاء- هذا و لما نهى اللّه تعالى في الآية الثانية عن بعض الأنحاء من أكل اموال اليتامى اقتضت الحكمة و الرحمة ان ينهى عن سائر الأنحاء مما يغوي به الشيطان و تغري به دناءة النفس الأمارة من أكلها بالإسراف او في سورة الحذر من ان يكبر اليتيم فيأخذ ما يجده من أمواله فيسرع المتولي عليها إلى صرفها و اتلافها فقال جلت رحمته وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً و الإسراف معروف و مقتضى الظاهر ان «إسرافا» نائب عن المفعول المطلق وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا البدار مصدر بادرته الشي ء اي سابقته و مفعوله مصدر ان يكبروا و يكون بدارا مفعولا لأجله اي تأكلونها مسابقة منكم لكبرهم. و لا حاجة إلى تأويل الإسراف و البدار باسم الفاعل لجعلهما حالين كما في مجمع البيان و الكشاف وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا بماله لا يضايقه العمل في اموال اليتامى و إصلاحها و النظر في شؤونها و لا يزاحمه في امر معاشه و ما يحتاج اليه فَلْيَسْتَعْفِفْ اي يطلب صفة العفة و يتخلق بها او فليصر عفيفا مثل استحجر الطين و من العفة تركه بكرم الأخلاق و الشهامة و الرحمة و ان لم يكن حراما كما ذكره اللغويون و يعرف من موارد الاستعمال و سيأتي ان الأمر فيه للاستحباب او للإرشاد إلى الخلق الحميد وَ مَنْ كانَ فَقِيراً بحيث يكون عمله في اموال اليتامى و نظره في أمرها مخلا بنظام تعيشه و كسبه لما يحتاج اليه فَلْيَأْكُلْ الأمر للاباحة بِالْمَعْرُوفِ و لا يعهد هنا معروف يحال عليه و يجعل ميزانا الا اجرة المثل لعمله.

و تحرير الكلام في الآية الكريمة هو انه بحسب النظر إلى القواعد الشرعية العامة او الدليل الخاص و هل يجوز لمتولي مال اليتيم ان يأخذ الاجرة على عمله فيه ام لا. و لا يخفى انه عمل محترم و ليس في امر الولاية ما يهده حرمته. اما الوصية و قبولها فليس فيهما التباني على العمل مجانا

ص: 16

و لا ما يوجب الالتزام بهذا التباني لو كان. و اما وجوب العمل فإنما هو توصلي لا يمنع من استحقاق الاجرة. و لو منع منها لمنعه من أن يستأجر غيره مع انه لا كلام و لا خلاف في جواز ذلك حتى الاستئجار على النظر في امور العاملين. و دعوى ان مباشرته مهدورة و ان جاز له ان يستأجر محتاجة إلى بيان المبني و الدليل و الفارق. و أما النهي عن أكل اموال اليتامى فإنه ناظر إلى غصبها و هو القدر المتيقن من ذلك. و من ذلك يعرف الكلام في سائر اقسام المتولين. و في التبيان و الظاهر في أخبارنا ان له اجرة المثل سواء كان قدر كفايته او لم يكن و نحوه في مجمع البيان و قد افتى الشيخ بذلك في نهايته في آخر باب التصرف في اموال اليتامى من كتاب المكاسب و عليه الفتوى في وصايا الشرايع و للقواعد و الإرشاد و التذكرة و الإيضاح و الدروس و الجواهر و غيرها. و على ما ذكرناه من احترام عمل الولي و استحقاقه به اجرة المثل يبتني قول اللمعة و المسالك بها مع الحاجة و الفقر و قول المبسوط و كنز العرفان و جامع المقاصد و الروضة بأقل الأمرين منها و من الكفاية. لأن ما ذكروه من التقييد مستند إلى ما فهموه من الآية الكريمة. و كذا ما ذكره الرازي من قول البعض من علمائهم ان له ان يأخذ من مال اليتيم ما يحتاج اليه و بقدر اجرة عمله و ذكر الاحتجاج له بوجوه ستة سادسها القياس على الساعي في أخذ الصدقات. و ما حكاه في الكشاف و تفسير أبي السعود عن محمد بن كعب من قوله ينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بد منه. و عن الشعبي يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه و في تفسير المنار «و عن عطا يضع يده مع أيديهم و يأكل معهم كقدر خدمته في عمله و من هنا قال الفقهاء ان له اجرة مثله من مال اليتيم» و على نحو ما ذكرناه يجري ما في الدر المنثور من انه اخرج البخاري و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عائشة قالت أنزلت هذه الآية في والي اليتيم فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه انتهى و الموجود فيما عندي من نسخة البخاري في التفسير يأكل منه مقام قيامه عليه بمعروف. و المآل واحد. و ايضا اخرج ابن المنذر و الطبراني عن ابن عباس في الآية قال يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله و منفعته له: و

في التهذيب في الصحيح عن هشام ابن الحكم قال سألت أبا عبد اللّه يعني الصادق (علیه السلام) عمن تولى مال لليتيم ماله ان يأكل منه فقال ينظر إلى ما كان غيره يقوم به فليأكل بقدر ذلك.

و لا يخفى ان مناسبات المقام و تشديد القرآن الكريم في المحافظة على اموال اليتامى و للنهي عن أكلها لا تسوغ للذهن ان يحتمل ان اللّه

ص: 17

جعل أموال اليتامى طعمة لوليها الفقير يأكل منها بدون جهة استحقاق يعود نفعها لليتيم من عمل له اجرة. و هذه الجهة مشتركة بين الغني و الفقير. و في الدر المنثور ذكر جماعة اخرجوا عن القاسم بن محمد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن في حجري أيتاما و إن لهم إبلا فما ذا يحل لي من ألبانها فقال إن تبع ضالتها و تهنأ جرباها و تلوط حوضها و تسعى إليها فاشرب غير مضر بنسل و لا ناهك في حلب. و في الكافي و التهذيب بسندهما عن حنان عن الصادق (علیه السلام) نحوه و مما ذكرناه في معنى العفة و احترام عمل الولي و وجه استحقاقه للأكل يعرف أن الأمر في قوله تعالى «فَلْيَسْتَعْفِفْ» إنما هو للندب لما في الاستعفاف من الخلق الكريم في الرحمة بالأيتام و اعانة الضعفاء، و صيانة النفس من تعديها و مغالطتها للغني بأن عمله من حيث جلالته بالثروة ثمين جدا. مع ان الاجرة يرعى فيها ذات العمل لا شؤون العامل. و على هذا النحو من الأحكام الأخلاقية و الآداب الاجتماعية جاءت الأحاديث المختلفة لسانها بحسب النظر إلى مراتب الاستحباب و المروءة و الحاجة كما في الدر المنثور و الباب المائة و البابين اللذين بعده من كتاب المكاسب من الوسائل فَإِذا دَفَعْتُمْ ايها المتولون على أموال اليتامى إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ عند بلوغهم و رشدهم فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ من يكتفى بشهادته و تقوم به الحجة.

و هذا الأمر للإرشاد و الاستحباب لبعض الجهات عند الإمامية و لم اعرف عاجلا قائلا بالوجوب. و في تفسير الرازي أجمعت الامة على الاشهاد هو الأولى و الأحوط. و في تفسير المنار عن استاذه أنه ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإشهاد امر ارشاد و حكى عن الشافعية و المالكية وجوب الإشهاد وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً محاسبا لكم فيما أوصاكم به في هذه الآيات و لليتامى إن جحدوكم. و قيل شاهدا. هذه شريعة الحق و زواجر العدل في امور اليتامى و من شريعة العدل، و قوانين الحق في المواريث قوله تعالى

سورة النساء (4): آية 7

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)

7 لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً و هو حال مؤكدة جي ء بها توطئة للوصف بكون النصيب مَفْرُوضاً في شريعة العدل لا يختص الرجال

ص: 18

بذلك و لا تنعزل عنه النساء مما قل منه او كثر فلا يستكثر عليهن الكثير و هذا هو النكتة في ذكر النساء اي كما ان الرجال يكونون وراثا من القليل و الكثير فكذلك النساء لأن المال الموروث مال الميت و إنما ينتقل إلى غيره بسبب الولدية للوالدين و الأقربية للأقربين و هذا السبب كما يحصل للرجال يحصل بعينه للنساء ايضا فلما ذا نحرم النساء إرثها و إن كانت أقرب القربى و المراد بالمفروض هو الواجب المدلول عليه بالخصوص او العموم لا خصوص فرض النصف و الثلثين فإن اكثر النساء كالبنات و الأخوات مع إخوتهن و غيرهن ليس لهن فرض خصوصي- و لا يخفى- انه كثيرا ما يكون للرجل جميع التركة بإجماع الامة كما إذا انفرد بالإرث لا نصيب و بعض منها. فيعرف من ذلك ان التعبير بالنصيب هنا و بالنصف و الثلثين في الآيات الأخر إنما هو ناظر إلى صورة وجود الشريك في الإرث فيقال ذلك توسعة لمجال الشركة و مقدمة لحساب القسمة و توطئة للموازنة بنحو غير حاصر بل تكون تصفية الحساب و جمعه و إكمال الحصص و تحديدها و أخذ النتيجة العملية من قاعدة الأقربية المؤسس تشريعها فيما كرر هاهنا من قوله تعالى وَ الْأَقْرَبُونَ فإنه جلت حكمته أوضح أن المبني في الإرث و قاعدته الأساسية هي الأقربية في الرحم فإنه إذا كان الموروث للوارث هو الأقرب اليه فالوارث هو الأقرب اليه. و قد جرى التأكيد لهذه القاعدة بقوله تعالى في سورة الأنفال 74 وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ لكن مقام العلقة النسبية و الأقربية في الرحم محفوظ لا يتقدم عليها في آثار الارتباط شي ء وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و قوله تعالى في سورة الأحزاب النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ منهم «مَعْرُوفاً» في حبوتكم بالعطاء المنجز او الوصية كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً و نظر الآيتين إلي الميراث اظهر من ان يجحد. و من المعلوم أن جل الصحابة و منهم ابو بكر و عمر و علي و ابن مسعود و الزبير كانوا يورثون الأرحام بهاتين الآيتين و على ذلك فقهاء العراق بل و الشافعي إذا لم ينتظم بيت المال. و هو اجماع أهل البيت و الإمامية. و حديثهم في ذلك كثير جدا. و تناصرت فيه أحاديث اهل السنة من طرقهم مع صحتها عندهم في ان الآية نزلت في تقديم اولي الأرحام في الإرث على غيرهم كما أسنده الطبري في تفسيره و عبد بن حميد عن أبي بكر و أسنده الحاكم عن الزبير كما أسنده عن ابن عباس بسندين و ذكر

ص: 19

ثانيهما ابو داود ايضا في جامعه. و الآيات الثلاث متعاضدة الدلالة واضحة العناية بتأكيد عمومها و تثبيته بالتكرار و بيان وجهه الواضح و علته المأنوسة في الأذهان و هو الأقربية في الرحم. و زاد تشديد التأكيد بتكرار البيان لكون أولية الأقرب في الرحم ثابتة في كتاب اللّه و ما سطره في كتابه من شريعة الحق الثابتة و بأن اللّه الذي هو بكل شي ء عليم و العالم بما يحدث من الأمور نص في كتابه على أولية الأقرب في الرحم من غيره

سورة النساء (4): الآيات 8 الى 9

وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)

8 وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ للميراث أُولُوا الْقُرْبى الظاهر انهم أولو قربى الميت من غير الوراث الأقربين وَ الْيَتامى المحتاجين وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ من غير تعيين للمقدار بل ما يؤدي هذا العنوان و لا يجحف بالمال مِنْهُ اي من المال المدلول عليه بمقام الميراث و القسمة كما ذكرنا مثله في الشعر العربي في الصفحة 155 من الجزء الأول وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً من القول الطيب و الظاهر اتفاق الإمامية و إجماعهم على أن مؤدى الآية غير واجب. و اختلف الحديث من الفريقين في نسخها و عدمه كما في الدر المنثور في الروايات عن ابن عباس و في تفسير البرهان من رواياتنا.

و اما الاستحباب فإن لم يثبت بعنوانه الخاص فلا بأس في ثبوته بعنوان الإحسان نعم لا يجوز ذلك قبل القسمة فيما إذا كان في الوراث قاصر او معتوه او غائب و لا بعدها فيما يرجع إلى هؤلاء 9 وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً لهم ضِعافاً جمع ضعيف خافُوا عَلَيْهِمْ و هذه الجملة جواب «لو» و قد ورد فيما يرجع إلى مضمون الآية و ينطبق عليه أحاديث. منها: صحيحة عقاب الأعمال و

عن العياشي عن الصادق (علیه السلام) قال ان في كتاب علي (علیه السلام) ان آكل مال اليتيم سيدركه ذلك في عقبه من بعده في الدنيا و يلحقه وبال ذلك في الآخرة اما في الدنيا فإن اللّه يقول و ذكر الآية. و في معناه موثقة سماعة المروية في الكافي و الفقيه و التهذيب و عن العياشي عن الصادق (علیه السلام).

و ما في الفقيه من قوله قال الصادق (علیه السلام) أن آكل مال اليتيم يخلفه وبال ذلك في الدنيا و تلا الآية. و كذا ما أسنده عن الرضا (علیه السلام) و روايتا الصفار و العياشي عن الصادق:

و مرجع ذلك إلى أن اللّه لا يوفق آكل مال اليتامى لأن يجعل على يتاماه و ذريته الضعاف قيما أمينا و لا يدفع عن أموالهم من يريد أكلها و لا يدفع

ص: 20

عنها عوارض التلف مع أن فيها الأعيان المأكولة من اليتامى السابقين أو عهدة ضمانها. فيتلفها اللّه بمقاديره و له ما في السماوات و الأرض. و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية ما حاصله أن الذي يخاف على أيتامه الضيعة و أن يسي ء إليهم من يلي أمرهم فليحسن إذن إلى أيتام الناس إذا وليهم و لا يأكل أموالهم- و من الأحاديث- ما في الدر المنثور مما أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن ابن عباس ان الآية في الرجل يسمع المريض يوصي بوصية تضر بورثته فأمره اللّه ان يرشد المريض و يسدده بالنظر إلى ورثته و ما أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي عن ابن عباس ما حاصله ان من حضر مريضا فلا يأمره بإنفاق ماله في العتق و الصدقة بل ينظر لأيتام المريض كما ينظر لأيتام نفسه. و نحوه ما أخرجه ابن أبي حاتم ايضا عن ابن عباس- أقول- و ان مفاد الآية الكريمة بالنظر إلى مفرداتها و جملتها و كرامة حجتها في تمثيلها المجيد لهو أعم مما ذكر. و ملخص الكلام هو ان الغالب من نوع الإنسان من لا يزن الأمور الضارة بميزانها من القبح و المرجوحية و لا يرى وجوب تركها او رجحانه إلا إذا مسته بضررها او تمثل له في مفكرته انه يبتلي بها و تمسه بضررها المزعج. فشاء اللّه بلطفه إصلاحه لشؤون عباده و تنبيههم و إرشادهم للخير و تحذيرهم من التعدي على اموال اليتامى. او إهمال أمرهم. او الإجحاف بهم. او الحمل على الإجحاف بهم. او السكوت عن ارشاد المجحف و نهيه. فاستلفت اللّه بحكمته الإنسان إلى انه ماذا يقول و ما هو حاله و ماذا يقدر من انتقام اللّه و غضبه إذا فرض في مفكرته انه ترك من بعده ذرية له ضعافا و أيتاما صغارا و هو يرى حالهم و من يأكل أموالهم. او يرى من يعين هذا الآكل على ظلمه. او يرى من يقدر على منع الظالم و لا يمنعه. او يرى من يقدر على ارشاد أيتامه و إصلاحهم فلا يفعل. او يرى ضياع ذريته و تلف أموالهم حيث أهمل الوصية كما ينبغي او حابى بالوصية من لا يثق به من اصدقائه او أقربائه او زوجته. او يرى العاقبة حيث ان بعض الناس ورّطه في انفاق ماله في العتق و الصدقة و ترك أيتامه عالة يتكففون. او يرى من سمع المنفق المعتق و لم يرشده إلى أن رسول اللّه نهى عن ذلك. اذن فالذين تستلفتهم الآية إلى تقدير ابتلائهم في أيتامهم بهذه الحوادث الكونية فيتألمون منها و يقدرون لها ما يقدرونه من الانتقام و سائر المحاذير. هؤلاء ليخشوا في أمثال هذه الأمور و مواردها و ليخافوا من يجب ان يخشى و هو اللّه شديد الانتقام و ليخشوا ما ينبغي ان يخشى من الانتقام

ص: 21

و محاذير المخالفة للحرمة و الوجوب و الآداب الشرعية في الوجوه المذكورة. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاهم عنه او أوجبه عليهم وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً جاريا على الصلاح و آداب الشريعة فيما يحتاج إلى القول في اقامة الوصي الثقة العارف على أيتامهم. و في مقام الإرشاد إلى المشروع و ما هو الصالح و في مقام ما يجدي من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في جميع هذه الشؤون.

و ان هذا البيان على طوله ليقصر عما تضمنته الآية الكريمة في تعليمها العام مما يفرضه الإنسان في مفكرته مما لا يرضاه من شؤون أيتامه و من إهمال متعلق الخشية و ايكاله إلى ما تقتضيه وجوه ما تفرضه المفكرة كما أشرنا إلى بعضها و اللّه الهادي. و إنما جرى التعبير بكلمة «لو تركوا» لأن المقام مقام فرض و تقدير في المفكرة ليكون التعليم عاما لان الكثير من المأمورين بالخشية بتقدير هذا الفرض و التنبه به من لا يكون لهم ذرية ضعاف يتركونهم. و الظاهر من كرامة تعليم الآية و عموم إرشادها ان المراد بالضعاف ما يعم المعتوهين الكبار و النساء الضعيفات و «الذين» في الآية فاعل «فليخش» و «خافوا» جواب «لو» و جملة «لو» صلة للذين

سورة النساء (4): آية 10

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

10 إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً لا بلحاظ اجرة عملهم و تقديرها او باستقراض سائغ في مورده إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً اي إنما يأكلون في بطونهم شيئا يجرهم إلى النار. فالمأكول باعتبار هذه الغاية المهولة و استحقار سائر الغايات من الأكل بالنسبة إليها كأنه نار محضة. و بهذا الاعتبار جاء الحصر بكلمة «إنما» كما في قول حطان بن المعلى

و إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض

فإنه لأجل شدة العلقة بين الآباء و الأولاد و قوة المحبة حصر شؤون الأولاد في وجودهم بأنهم أكباد الآباء لأن الأكباد من أعز الأعضاء كما يقال الولد قطعة من الكبد و كما قالت الخنساء في وصف البقرة الفاقدة لعجلها

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي اقبال و ادبار

و

في مرسلة الكافي عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) في الآية ان آكل مال اليتيم يجي ء يوم القيامة و النار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهبها من فيه يعرفه اهل الجمع بأنه آكل مال اليتيم

ص: 22

و نحوه ما في الدر المنثور مما أخرجه ابن أبي شيبه و ابو يعلي و الطبراني و ابن حبان في صحيحه و ابن أبي حاتم عن أبي برزة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله).

و في تفسير القمي عن الصادق (علیه السلام) قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يقذف في أفواههم النار و تخرج من ادبارهم فقلت من هؤلاء يا جبرائيل فقال هؤلاء الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما.

و نحوه ما في الدر المنثور مما أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)

وَ سَيَصْلَوْنَ يوم القيامة في جهنم سَعِيراً صلى النار لزمها و قاسى حرها و إحراقها. و سعر النار و اسعرها او قدها و شعلها. و السعير بمعنى المسعور و يقال في المؤنث ايضا ككف خضيب

سورة النساء (4): آية 11

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)

11 يُوصِيكُمُ اللَّهُ يعهد إليكم و مرجع ذلك إلى معنى يشرع و يفرض فِي ارث أَوْلادِكُمْ منكم و الولد يشمل من تولد من الإنسان و لو بواسطة او وسائط. و على ذلك جاءت

رواية حذيفة عن النبي (صلی الله علیه و آله) سيد ولد آدم يوم القيامة محمد (صلی الله علیه و آله).

و رواية بريدة ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) رأى الحسنين يمشيان و يعثران فنزل عن المنبر و أخذهما و وضعهما بين يديه و قال صدق اللّه و رسوله إنما أموالكم و أولادكم فتنة رأيت هذين فلم اصبر كما أخرجه ابن أبي شيبة و احمد و ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و ابو يعلي و ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم في مستدركه و البيهقي في السنن و الضياء في المختارة.

و رواية الترمذي عن واثلة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و اصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة.

و رواية ام سلمة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) المهدي من عترتي من ولد فاطمة (علیه السلام) كما أخرجه احمد و مسلم و ابو داود و النسائي و ابن ماجه و البيهقي و غيرهم.

و رواية حذيفة عنه (صلی الله علیه و آله) المهدي من ولدي أخرجه الروباني و الطبراني و ابو نعيم السيوطي و صححه و غيرهم.

و رواية انس نحن ولد عبد المطلب سادات اهل الجنة انا و حمزة و علي و جعفر و الحسن و الحسين كما أخرجه ابن ماجه و ابو نعيم و الحاكم و الطبراني و الديلمي و الثعلبي و غيرهم.

نعم قد تقتضي قرائن الحال و المقال و مناسبة الحكم ان يفهم منه الولد بلا واسطة و قد يقتضي بيان الطبقة في الولدية ان يقال هذا ولد ولدي لا ولدي فإن النفي إنما هو لرتبة من رتب الولدية لا لماهية الولدية و قد يراد النص على العموم فيقال اولادي و أولاد اولادي.

و قد اجمع المسلمون في هذا المقام و أمثاله على مقتضى الوضع اللغوي في ثبوت الحكم لمطلق الولد

ص: 23

الولد و ان نزل بل لعله اجماع على استعمال اللفظ في ذلك في القرآن على مقتضى وضعه كما صرح به جماعة من الإمامية و يكون الميزان في ارث الطبقات منهم ما تكرر في الآية السادسة من قوله تعالى وَ الْأَقْرَبُونَ و قوله تعالى في سورة الأنفال و الأحزاب أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ لِلذَّكَرِ من الأولاد في حال الاجتماع مع نوع الإناث في الطبقة مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ من الميراث. و قد سئل عن الحكمة في تفضيل الذكر بالحظ من الميراث على الأنثى فأجاب أئمة الهدى من اهل البيت عن ذلك بأن الرجال يعولون و يعطون مهرا و عليهم جهاد و نفقات و معقلة في الديات و المرأة تكون عالة و تأخذ مهرا كما ذكر رواياته في تفسير البرهان عن الصادق و الرضا عليهما السلام. و لعل هذا هو النكتة في ذكر القرآن لزيادة حظ الذكر لا نقص حظا لانثى فإن الإشارة الى جهة فضل الفاضل احسن في التعليل و أطيب إلى قلب المفصول من الإشارة إلى جهة نقصه فَإِنْ كُنَّ الوارثات من النساء بجهة الولدية و الأقربية نِساءً ليس معهن من الأولاد في طبقتهن ذكر واحد او متعدد فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ الميت الموروث المدلول عليه بمجرى الكلام. و قد اجمع المسلمون عدا ما يحكى عن ابن عباس على ان حكم الاثنتين حكم الأكثر. و ذكر الثلثان ليبقى المجال لهم من يتفق معهن في الميراث كالأبوين او أحدهما او الزوج او الزوجة و ليكون الثلثان ميزانا للرد مع الأب او الام وَ إِنْ كانَتْ الوارثة من الأولاد بحسب الأقربية واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ و ذكر النصف ليبقى مجال لسهم من يتفق معها كالأبوين او أحدهما او الزوج او الزوجة و ليكون ميزانا للرد إذا كان معها الأبوان او أحدهما وَ لِأَبَوَيْهِ اي ابوي الموروث. و لا يتعدى الحكم إلى الأجداد و الجدات و ان جاء في سورة الأعراف 26 كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لأن المعنى الحقيقي للأب لا يعلم شموله للجد و لو فرض العلم لكانت التثنية قرينة على ان المراد هو ما لا يتعدى مصداقه الاثنين و هما الأبوان القريبان و اما الأجداد و الجدات فيكونون في الطبقة الاولى اربعة و كلما علت الطبقة تضاعفوا هذا مع الإجماع على عدم تعدي الحكم إلى الأجداد و الجدات لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ أي للموروث

ص: 24

وَلَدٌ و ان نزل فإن الأمة مجمعة على ان ولد الولد و ان نزل يرث مع الأبوين و يرد كلا منهما إلى السدس و شد خلاف الصدوق في الفقيه و المقنعة في ذلك فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ و ان نزل وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ ممن يرث بالقرابة لأن سوق الكلام في الإرث من هذه الجهة فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ من أصل المال الموروث كما في سائر الفرائض المذكورة في القرآن فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ لأبويه او لأبيه فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ من أصل المال بإجماع المسلمين و على نهج سائر الفرائض و الباقي للأب ما لم يزاحمه أحد الزوجين فيه. و قد اجمع المسلمون على كفاية الأخوين في الحجب للأم عن ثلثها عدا ما يروى عن ابن عباس من اشتراط الثلاثة. و مذهب الإمامية انه يكفي في هذا الحجب اربع أخوات أو أخ مع أختين و على ذلك حديثهم. و اشترطوا ان لا يكون في العدد المعتبر في الحجب كافر و لا رق لإجماعهم على ذلك و اطلاق أحاديثهم في ان الكافر و المملوك لا يحجبان. و ان لا يكون فيهم قاتل للموروث لإجماعهم الذي لا يضر فيه ما يحكى من خلاف العماني و الصدوق. و هؤلاء الاخوة لا يرثون و انما يوفرون على الأب نصيبه و حكي عن ابن عباس توريثهم. و لا يخفى ان مذهب الامامية ان للأم مع الأب عند عدم الحاجبين المذكورين ثلث اصل المال من بعد الوصية و الدين سواء ورث احد الزوجين مع الأبوين أم لم يرث. و حجتهم على ذلك ظاهر القرآن في الثلث بظهور يقارب الصراحة بالنظر إلى نظائره من الفرائض و حياطة الظاهر بقوله تعالى في آخر الآية مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ و صحاح أحاديثهم المتعاضدة المتناصرة عن رسول اللّه و امير المؤمنين و الباقر و الصادق (علیه السلام) و وافقهم على ذلك ابن عباس. و هو احدى روايتي الجمهور عن علي (علیه السلام) في رواية سعيد بن منصور و البيهقي في سننهما من طريق يحيى الجزار و حكاه ابن رشد في البداية عن شريح و ابن سيرين و داود و جماعة. و ذهب

الأكثر من الجمهور الى ان لها مع الزوج او الزوجة ثلث ما يبقى بعد فرض أحدهما. و لهم في ذلك تشبثات مضطربة مدفوعة حلا و نقضا- التشبث الأول- ما في تفاسير الكشاف و الرازي و أبي السعود و غيرهم من انهم حصروا فرض الآية بصورة انحصار الإرث بالأبوين فحسب من غير مشاركة احد الزوجين لقوله تعالى وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ. و هذا

ص: 25

التشبث مدفوع أولا بما قدمناه من ان النظر في الآية إلى الإرث بالقرابة و لبيان ان المورد لحجب الاخوة عن ثلثها وردها إلى السدس انما هو في صورة اجتماع الأبوين في الوارثية دون ما يكون الأب فيه ممنوعا عن الإرث بأحد الموانع و للإشارة إلى كون الوارث يسبب حجب الاخوة هو الأب دونهم. و ثانيا: بالنقض عليهم باتفاقهم معنا على ان سدس الأم مع حجب الأخوة هو فريضة لها من أصل المال حتى مع وجود أحد الزوجين فمن أين جاؤوا بذلك و بالحجب إذا كانت الآية ناظرة إلى صورة عدم الزوجين- التشبث الثاني- قياس الأم مع الأب على البنت مع الولد و الأخت مع الأخ في أن للذكر مثل حظ الأنثيين. و يدفعه أولا بطلان أصل القياس و ثانيا ان العامل به لا يجعله حاكما على ظاهر القرآن الكريم و لا السنة على ان القياس منتقض بأن اللّه قد ساوى بين الأب و الأم في الفريضة مع الولد على انه قياس مع الفارق فإن تفضيل الذكر على الأنثى انما هو في الأولاد و الاخوة و الأخوات للأب او للأبوين و قد صرح القرآن بعدمه في الاخوة للأم- الثالث- ما يروونه عن ابن مسعود من قوله في المقام لا أفضل اما على أب. و ليت شعري ماذا يقال إذا اجتمع زوج او زوجة مع عشرة اخوة ذكور من الأبوين مع اخت واحدة من الأم عند عدم الولد إلى غير ذلك من الأمثلة فهل يقال لا أفضل الأخت من الأم على الأخ من الأبوين- الرابع- تخصيص عموم الثلث في الآية بعموم قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كما ذكره الرازي و يدفعه أولا ما ذكرناه من ان المورد لتفضيل الذكر على الأنثى انما هم الأولاد في قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ و الاخوة للأب أو للأبوين كما في آية الكلالة في آخر السورة و ذلك في الإرث بالقرابة لا بالفرض فأين العموم للأب و الأم. و لو سلمنا لكانت فريضة الثلث للام أخص كفريضة الاخوة من الام وحدها فكيف يقدم العام على الخاص و ماذا الذي أخرج فريضة الام عن سائر الفرائض و جعلها بخصوصها هدفا لهذا العموم المزعوم. و هذه الفرائض و المواريث المذكورة تجري من أصل المال الموروث و لكنها مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها الميت الموروث أَوْ دَيْنٍ عليه و قدم ذكر الوصية على الدين لأنها أكثر وقوعا من الدين و لبيان أهميتها بكونها حقا ثابتا في المال. فاحفظوا هذه الوصايا في الفرائض و المواريث و لا يثقل عليكم بحسب اهوائكم رجحان جانب أو نقصان جانب فإنكم بحسب طباعكم و مرتكزات نفوسكم انما ترجحون من

ص: 26

هو أقرب إليكم نفعا من جهات نفعكم و تنفرون ممن لا ينالكم منه نفع. و كم من شخص تحرصون على توريثه و توفير فرضه و لو انكشف لكم الأمر لحرصتم على منعه فمهلا مهلا لا تستخفنكم النظرة الحمقاه فتثقل عليكم قسمة اللّه للمواريث و احكامه فيها فها هم آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً مما هو نفع يرغب فيه العقلاء فعليكم بوصية اللّه و فرضه و أحكامه في المواريث على حسب حكمته فَرِيضَةً الظاهر كما في التبيان انها حال من المواريث الموصى بها و المفروضة عموما و خصوصا في ضمن الآيات المتقدمة فتكون مؤكدة لتشريع المواريث مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالأمور و منها ما هو الأصلح و الأوفق بالحكمة في قسمة المواريث حَكِيماً في كل شي ء

سورة النساء (4): آية 12

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

و من ذلك أحكام المواريث 12 وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ و ان نزل ذكرا كان أو أنثى فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ اي جنس الولد منكم او من غيركم فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ و ان كن أربعا الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ مطلقا فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ أي جنس الولد منهن او من غيرهن فَلَهُنَّ و ان كن أربعا الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ عليكم وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ «كان» تامة و رجل فاعل و جملة يورث صفة له اي يورث من حيث القرابة. عن الفرا الكلالة ما خلا الوالد و الولد سموا كلالة لاستدارتهم بنسب الميت الأقرب فالأقرب من تكلله الشي ء إذا استدار به فكل وارث ليس بوالد للميت و لا ولد فهو كلالة مورثة. و في التبيان واصل الكلالة الاحاطة و منه الإكليل لاحاطته بالرأس و الكلالة لاحاطتها بأصل النسب الذي هو الولد و الوالد. و في الصحاح الكل أي بفتح الكاف من لا ولد له

ص: 27

و لا والد يقال منه كل يكل الرجل كلالة و العرب تقول لم يرثه كلالة عن عرض بل قرب و استحقاق و قال بعضهم يسمى الوارث و الموروث كلالة و أنشد له قول زياد بن زيد العذري:-

و لم ارث المجد التليد كلالة و لم يأن مني فترة لعقيب

و في الكشاف و تطلق على القرابة من غير جهة الوالد و الولد و الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال و هو ذهاب القوة انتهى و كلهم قالوا انها تطلق على من ليس بولد و لا والد و على هذا جاء الحديث

ففي الكافي و التهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن عن الصادق (علیه السلام) الكلالة ما لم يكن والد و لا ولد. و نحوهما روايتهما عن حمزة بن حمران عنه (علیه السلام) و رواية معاني الأخبار في الصحيح من مراسيل ابن أبي عمير عنه (علیه السلام):

و أخرج الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في حديث و الكلالة من لم يترك والدا و لا ولدا

و في الدر المنثور اخرج ابو الشيخ في الفرائض عن البراء قال سئل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) عن الكلالة فقال (صلی الله علیه و آله) ما خلا الولد و الوالد و ذكر ايضا من اخرجوا نحو ذلك عن ابن عباس و عمر و علي و ابن مسعود و زيد بن ثابت.

و قال بعضهم يسمى الوارث و الموروث كلالة أقول و لا يأباه ما تقدم بل هو مقتضى إطلاقه. وهب ان الكلالة في الأصل مصدر لكنها صارت اسما منقولا لمن ذكر في الحديث و ذكره اللغويون فكلمة «كلالة» حال من الضمير النائب عن الفاعل أي يورث حال كونه ليس بوالد و لا ولد لوارثه. و في جعلها خبرا لكان الناقصة تعقيد في الكلام و في جعلها حالا من الوارث المشار اليه في الكلام تكلف زائد في التقدير. نعم لو أبقينا لفظ الكلالة على معناه المصدري جاز أن يكون مفعولا لأجله و وجها للإرث و يجوز في هذا المعنى أن تكون تمييزا رافعا لإبهام الإرث في وجهه و في المصدرية و احتماليها في الاعراب ضعف. و الآية على كل تقدير تدل على اختصاص حكمها بما لم يكن للموروث وارث بالقرابة القوية الأصيلة من والد او ولد لأنها مقيدة لحكمها بصورة كون الإرث عن كلالة لا يوجد معها والد و لا ولد و هو اجماع و قال مالك في الموطأ في ميراث الأخوة من الأم المجتمع عليه عندنا ان الأخوة للأم لا يرثون مع الولد و لا مع ولد الأبناء ذكرانا و إناثا و لا يرثون مع الأب و لا مع الجد أبي الأب شيئا. و ذكر ابن رشد في بدايته عن أهل السنة نحو اجماع مالك. و قال مالك ايضا ما ملخصه ان الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ان الكلالة في هذه الآية هي التي لا ترث فيها الأخوة للأم حتى لا يكون والد و لا ولد. و هذا كله لقوله تعالى وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ

ص: 28

كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ

أقول و التقييد و حصر الإرث في الآية بجهة الكلالة من الأقارب في الآية جلي مضافا الى انها لو كانت مطلقة على خلاف ظاهرها للزم فيها تخصيص الأكثر بإخراج من ذكر الإجماع على انهم لا يرثون مع الاربعة المذكورين و تخصيص الأكثر قبيح في الاستعمال فمن الغريب إذن حكم الجمهور بإرث الأخوة من الأم معها بفرض هذه الآية أَوِ امْرَأَةٌ عطف على رجل و لها مثل حكمه الآتي وَ لَهُ أي الرجل فإن عنوان الجملة مسوق له أَخٌ أَوْ أُخْتٌ و قد اجمع المسلمون على ان المراد و مورد النزول هو الاخوة من الأم وحدها كما يشير اليه الجمع بين هذه الآية و الآية الأخرى في الكلالة في آخر السورة فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا مع اجتماعهما او انفرادهما و اجتماع الأخوين او الأختين السُّدُسُ من التركة فَإِنْ كانُوا أي الاخوة المدلول عليهم بقوله تعالى أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ أي من الاثنين فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ على السواء لا يفضل حظ الذكر على حظ الأنثى. و ذلك مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها ذلك الرجل او الامرأة المعطوفة عليه أَوْ دَيْنٍ حال كون الرجل و مثله المرأة المعطوفة عليه غَيْرَ مُضَارٍّ للورثة بوصيته بأن تكون اكثر من الثلث. و جرى التعرض للإضرار بالوصية هنا لأن المقام مظنة له لأن ارث الكلالة و خصوص كلالة الأم يكثر ان يكون ثقيلا على الموروث. و الحكم عام وَصِيَّةٍ مصدر مؤكد منصوب بيوصيكم مقدرة و صرح بأنها مِنَ اللَّهِ تأكيدا لعظيم شأنها و التحذير من مخالفتها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بمن يطيع و من يعصي و يتعدى حدوده حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة و بمناسبة هذه الآيات الكريمة ينبغي هاهنا تفسير الآية المذكورة في آخر السورة و هي قوله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ يا رسول اللّه أي في الكلالة لدلالة ما يأتي قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ في كتابه فِي ميراث الْكَلالَةِ و قد مر معناها و قد أجمع المسلمون على ان المراد منها غير ما تقدم ذكره من كلالة الأم وحدها إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ أي جنس الولد و قد مرّ انه أعم من الذكر و الأنثى و إن نزل. و جملة ليس له ولد صفة وَ لَهُ أُخْتٌ الجملة تصلح لأن تكون صفة

ص: 29

معطوفة و حالية فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ذكر النصف ليبقى مجال لفريضة جنسي الزوجة و الاخوة من الأم وحدها و قد أجمع المسلمون على عدم توريث الأخت مع الأبوين إن لم يكن للميت ولد و كان ابن عباس يتضجر من حكم بعض بأن الأخت تأخذ مع البنت ما بقي بنحو التعصيب و يقول أ أنتم اعلم أم اللّه و عن ابن طاوس ان ابن عباس قال قال اللّه تعالى إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ فقلتم أنتم لها النصف و إن كان له ولد كما رواه الحاكم على شرط البخاري و مسلم و رواه عبد الرزاق في جامعه وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ في صورة

تكون هي الميتة و هو باق بعدها. و اجمع المسلمون ايضا على عدم توريثه مع الأبوين. و المراد من قوله تعالى يَرِثُها يرث منها و ذلك لكثرة ما يتفق معه من وجود الزوج و الأخوة من الأم فقد علق إرثه منها على عدم الولد و إن كان أنثى و إن نزلت كما سبق فَإِنْ كانَتَا أي الأخوات اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ و ذكر الثلثان ليبقى مجال لفريضة الزوجة و الأخوة من الأم وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و قد اجمع المسلمون ايضا على عدم توريثهم مع الأبوين ففي الآية إطلاقات متعددة أجمع المسلمون على عدم العمل بالكثير من مواردها مضافا إلى أن الآية لم تبين من احكام الكلالة حكم ما فوق الاثنتين من الأخوات و لا حكم الأخوين فما زاد من الذكور و لا حكم الاثنين من الأخت و الأخ مع أن قوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ حفظا لكم من أَنْ تَضِلُّوا يدل على ان اللّه جلت حكمته و لطفه قد بين أمر الكلالة في كتابه المجيد بالبيان الحافظ من الضلال و ذلك بنظم هذه الآية في القرآن مع آيات المواريث فينكشف بالنظر إلى الجميع و تدبره ان وجوه مطلقاتها مبينة و موضحة ببيان تلك المواضيع التي ذكرت أحكامها في الآيات الأخر و مبتنية على أساسياتها من كون الإرث للأقربين و ان اولي الأرحام بعضهم أولى ببعض و من ان الذي ليس له ولد إنما يكون ارثه بسبب الرحم لأبويه و ليس لغير الأبوين من الأرحام مقام في الإرث مع مقام الوالدية. و هذا هو السبب في الاقتصار بحسب حاجة البيان إلى اشتراط عدم وجود الولد في ارث الاخوة لأن الولد لم تذكر له فريضة و مقام إرث الغي فيه الاخوة.

و قد تقدم الكلام في الآية العاشرة على مقام فريضة الأبوين مع الغاء الاخوة فيه. و غاية ما هنا انه روعيت عيلولة الأب بهم فوفر نصيبه مع الأم بهم- لا يقال ان تلك الآية لا تدل على الغاء الاخوة مع وجود الأبوين معا و لا على الغائهم مع الام وحدها- لأنا نقول ان

ص: 30

القاعدة المستفادة من سير المواريث و المعقولة من إرث الأقارب هو انه إذا كان لقريب مقام ارث مع قريب آخر لا يحجبه عن هذا المقام وجود وارث ثالث بل غاية ما في وارثيته انه يزاحمهم فلا يكون وجود الأب مانعا عن مشاركة الاخوة للام لو كان لهم معها مقام ميراث كما توضح ذلك آيات الأقربين و أولي الأرحام- لا يقال ان عموم تلك الآيات معارض بإطلاق هذه الآية في ارث الاخوة مع عدم الولد- لأنا نقول ان عموم تلك كالمعلل بجهة الاقربية و أولوية الرحم بل هو معلل في الحقيقة و مآل سوقه فيقوى قوة لا يعارضه فيها الا النص و أما الذي في هذه الآية فهو اطلاق موهون بخروج الكثير من افراده في صور وجود الأب منفردا و مع الام مع ان الأخذ بالإطلاق لا يتجه إلا مع عدم البيان و تلك العمومات مع قوتها وجهة تعليلها كافية في البيان الذي يقف امام الإطلاق. إذن فموضوع الإطلاق مختص بالصورة التي لا يوجد فيها من هو أقرب من الاخوة و يكشف عن ذلك انهم لا يرثون مع الأب المنفرد و هو في هذه الصورة ليس بذي فرض و إنما قدم على الاخوة بكونه أقرب و أولى منهم فكذا الام لعين العلة. و اما مسألة الإرث معها بالتعصيب فسيأتي ان شاء اللّه بطلانه- لا يقال ان الإجماعات المتقدم ذكرها كافية في بيان الآية فيؤخذ بمطلقاتها في غير موارد الإجماع- لأنا نقول لا مناص في تدبر القرآن من استيضاح دلالة بعضه ببعض و النظر في وجوه الدلالة. مضافا إلى ان قوله تعالى في نفس الآية «يبين اللّه لكم ان تضلوا» يدل على ان الآية حين وحيها كانت محفوفة ببيان اللّه في كتابه الكريم بالدلالة على تقيد موضوعاتها على ما ذكرناه لا موكولة إلى صدفة اجماع المسلمين بعد حين. و هذا جلي بفضل اللّه و له الحمد و ان بعثنا بعض ما يقال في الشبهات إلى هذا التطويل تمحيضا للحقيقة التي عليها اجماع الإمامية و حديثهم و اللّه الموفق.

بقي الكلام فيما يرجع إلى ما في الآيات من عمومات المواريث و إطلاقاتها و في ذلك أمور «الاول» ان الكافر لا يرث المسلم و لا يحجب وارثه و على ذلك اجماع المسلمين و حديثهم «الثاني» ان المسلم يرث الكافر و عليه اجماع اهل البيت و الإمامية و حديثهم. و هو المحكي عن معاذ بن جبل و معاوية و عبد اللّه بن دغفل من الصحابة و سعيد بن المسيب و مسروق و يحيى بن يعمر من التابعين و

أخرج احمد في مسنده بطريق صحيح عندهم و الحاكم و صححه على شرط البخاري و مسلم و لم يتعقب في ذلك ان معاذ بن جبل أتي بميراث يهودي و له وارث

ص: 31

مسلم فقال سمعت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول الإسلام يزيد و لا ينقص فورثه. و اخرج ابو داود في سننه نحو ذلك.

و هو حديث معلل معتضد بالمعقول من ان الإسلام لا ينقص حظ المسلم في الدنيا و الآخرة و بما أخرجه الروباني و الدارقطني و البيهقي في سننه و الضياء عن عائذ بن عمرو و

صحح عن النبي (صلی الله علیه و آله) الإسلام يعلو و لا يعلى عليه.

و ان حجب المسلم عن ميراثه بالكافرين علو على الإسلام. و بمثل

قول الباقر (علیه السلام) في المقام ان اللّه لم يزد بالإسلام إلا عزا فنحن نرثهم و لا يرثوننا كما رواه المشايخ الثلاثة في كتبهم و نحوه عن الصادق (علیه السلام).

و عن الصادق (علیه السلام) انه قال في مثل المقام ان الإسلام لم يزده الا عزا في حقه.

و في حديث آخر لم يزده في ميراثه إلا شدة.

و يؤخذ هذا المعنى أيضا من قوله تعالى في السورة 40 وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فإن حجب الكافر للمؤمن عن ميراثه سبيل عليه. و قد ذكر ابن رشد في البداية و غيره احتجاج الجمهور بهذه الآية لعدم ارث الكافر من المسلم. و ليت شعري لماذا غفلوا عن دلالتها على عدم حجب الكافر للمسلم فإنها في الدلالة على ذلك أوضح و أظهر.

و عن البيهقي في سننه عن ابراهيم قال قال علي (علیه السلام) المشرك لا يحجب و لا يرث.

و عن ابراهيم ايضا كان علي (علیه السلام) لا يحجب باليهودي و لا النصراني و لا المملوك و لا يورثهم

- و لو اسلم الكافر قبل قسمة الميراث شارك فيه ان كان مساويا و انفرد فيه ان كان اولى و عليه اجماع الإمامية و حديثهم و وافقهم على ذلك جملة من الجمهور منهم الحسن و قتادة. و في بداية ابن رشد روي من حديث عطا ان رجلا اسلم على ميراث على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قبل ان يقسم فأعطاه رسول اللّه نصيبه. و احتج الجمهور على مدعاهم بما

أخرجه أحمد و أصحاب الجوامع الستة عن اسامة و الحاكم عن جابر عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لا يرث الكافر المسلم و لا المسلم الكافر.

و يدفع هذا الاحتجاج أولا بكون الرواية مخالفة لنفي السبيل في الآية و لكون الإسلام يزيد و لا ينقص و انه يعلو و لا يعلى عليه. و ثانيا بأن روايات الجوامع و إن وصفت بالصحة في اصطلاحهم لا تجدي شيئا في قبال الإجماع من اهل البيت و اتباعهم الامامية و حديثهم. و احتجوا أيضا بما

أخرجه أحمد و ابو داود و ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي (صلی الله علیه و آله) لا يتوارث اهل ملتين شيئا.

و يدفعه إن مدلوله هو ان اهل الملتين لا يتبادلون الميراث بحيث يرث كل من اهل الملتين من اهل الملة الأخرى. و لا يدل على ان احدى الملتين كالإسلام لا يرث أهلها من الكافرين كما

قال الباقر و الصادق (علیه السلام) نرثهم و لا يرثوننا

و احتجوا أيضا بما

أخرجه احمد و اصحاب

ص: 32

الجوامع ما عدا الترمذي عن اسامة من قول النبي (صلی الله علیه و آله) و هل ترك لنا عقيل من رباع.

زاعمين ان المقصود ان عقيلا ورث أبا طالب دون علي و جعفر. و يرده انه لا دلالة بوجه من الوجوه على ان عقيلا أخذ ذلك بحق الإرث المختص به في شريعة الإسلام فضلا

عن ان النبي (صلی الله علیه و آله) لما سئل عن منزله بمكة عام الفتح قال و هل ترك لنا عقيل رباعا

و هذا يدل على ان بيع عقيل لرباعهم حتى رباع النبي (صلی الله علیه و آله) و خديجة بل و حمزة و عبيدة إنما كان من جلافة الشرك و عدوانه و خلو الجوله- الأمر الثالث- ان العبد لا يرث مع الحر و ان بعد الحر نعم إذا انعتق قبل القسمة شارك أو انفرد كما ذكرناه في الكافر و على ذلك اجماع الإمامية و حديثهم. و لا يحضرني عاجلا قول الجمهور فيما إذا انعتق قبل القسمة- الرابع- ان ولد الزنا لا يرث ممن تولد منه بالزنا أبا كان أو أما و لا ممن يتقرب اليه بهما و هؤلاء لا يرثون منه و عليه اجماع الإمامية و ذلك لأن الشارع قد قطع فوائد العلقة النسبية من الزنا

بقوله (صلی الله علیه و آله): الولد للفراش و للعاهر الحجر.

و في جامع الترمذي مسندا عن عمرو بن العاص عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أيما رجل عاهر بحرة أو امة فالولد ولد زنا لا يرث و لا يورث.

و لا وجه للتفريع

بقوله (صلی الله علیه و آله) فالولد ولد زنا

الا التمهيد لبيان ان التولد من الزنا مانع من الإرث مطلقا. و يشهد له ما

رواه الترمذي و الحاكم عن واثلة قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) المرأة تحوز ثلاثة مواريث عتيقها و لقيطها و ولدها الذي لاعنت عنه:

حيث جعل لها ميراثه باعتبار ان ملاعنتها نفت جهة الزنا من جانبها كما عليه اجماع الإمامية و حديثهم. و حكى مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير و سليمان بن يسار قولهما بأن ولد الزنا كولد الملاعنة في التوارث مع امه و من يمت بها ثم قال مالك و على ذلك أدركت اهل العلم ببلدنا: أقول و هو غريب لا يلتئم مع ما ذكرناه من الأحاديث- الأمر الخامس- ان القاتل عمدا ظلما لا يرث من مقتوله و عليه اجماع الإمامية و حديثهم عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و عن الباقر و الصادق (علیه السلام) و ذهب إلى ذلك أيضا جل الجمهور لما رواه الترمذي و ابو داود عن ابن عمر و البيهقي عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله): فإن قتله بحق لم يمنع من ارثه و عليه اجماع الإمامية و روايتهم عن الباقر (علیه السلام) في قتال اهل البغي. و المشهور عند الإمامية رواية و فتوى انه يرث في قتل الخطأ لكن المشهور انه لا يرث من الدية و وافقهم في الأمرين مالك و أصحابه- الأمر السادس- ان آيات الأقربين و اولي الأرحام و عمومها القوي المؤكد تقتضي ان يرد الفاضل من الفرائض على الأقرب من الأرحام و يكون الرد على نسبة سهامهم فإذا اجتمع

ص: 33

الأب و البنت رد ربع الفاضل على الأب و ثلاثة أرباعه على البنت. و على هذا القياس و عليه أهل البيت و حديثهم و اجماع الإمامية اتباعهم. و ذهب الجمهور إلى التعصيب و رووه عن امير المؤمنين في بعض الموارد لكن روايتهم مع ضعفها و تعارضها مردودة بما صح في رواياتنا عن الأئمة من خلاف ذلك. و الرواية عن ابن مسعود متعارضة و يكثر فيما يروى عنه من مسائل التعصيب العمل على خلافه. احتج الجمهور للتعصيب بوجوه منها المفهوم من تحديد الفرائض بالنصف و الثلث و نحو ذلك و هو يقتضي بأن نصيب ذي الفرض ينحصر بمقدار فرضه فلا يرث اكثر من ذلك- و يدفعه أولا انه لا مفهوم مع احتمال فائدة غير فضلا عن تحققها و يكفي من الفائدة إبقاء مجال للفرائض الأخر التي تجمع مع الفريضة الخاصة و لان يكون عنوان الفريضة في الأرحام ميزانا للرد عليهم- و ثانيا- اجماع المسلمين على عدم المفهوم كما إذا كان الوارث أبا مع بنت أو بنتين و اكثر فإن الشيعة يزيدون على سدس الأب بالرد، و الجمهور يزيدون عليه بالتعصيب. او كان الوارث زوج هو ابن عم فإن الشيعة يزيدون نصفه بالقرابة و الجمهور يزيدونه بالتعصيب أو كان أخا من الأم و ابن عم فإن الشيعة يزيدون سدسه بالقرابة و الجمهور يزيدونه بالتعصيب، أو كان الاخوة من الأم أكثر من اثنين و هم أبناء عم فإن الشيعة يزيدون ثلثهم بالقرابة و الجمهور بالتعصيب و ان فقهاء العراق من الجمهور و منهم ابو حنيفة و احمد بل و الشافعي إذا لم ينتظم بيت المال وافقونا على الرد على ذوي الفرائض من الأرحام إذا لم يكن معهم عاصب و حكاه الترمذي في جامعه عن اكثر أهل العلم و هو المروي عن الصحابة عدا زيد بن ثابت. فينتفي المفهوم بالمرة لأنه ليس بلفظ له عنوان مدلول عليه لكي يقبل التخصيص و التقييد في بعض مصاديقه. بل هو لازم يتبع كون الفريضة حاصرة بمضمونها فإن ثبت و لو في مورد واحد انها في استعمالها غير حاصرة سقط المفهوم بالمرة و قد ثبت انها غير حاصرة- و ثالثا- قد ثبت بإجماع المسلمين و اهل المحاورات على العمل بالدليل اللفظي و ان كان عموما او إطلاقا دون المفهوم. و من ذلك ان الشيعة يعملون بآيات الأقربين و اولي الأرحام في الرد مطلقا و كذا جمهور الصحابة و فقهاء العراق بل و الشافعي كما ذكرنا في الرداذا لم يوجد عاصب. و الجمهور بأجمعهم يعملون بعموم ما يرويه ابن طاوس في التعصيب فيزيدون على الفرض كما ذكرناه في مثالي الأب و الزوج الذي هو ابن عم- و من الوجوه- حديثهم في ان معاذ بن جبل قضى في اليمن بأن نصف التركة للبنت و نصفها الآخر للأخت.

ص: 34

و يدفعه أولا انه اجتهاد من معاذ في اليمن لا حجة فيه و ثانيا انه مردود بمخالفته للقرآن الكريم لأن آية الكلالة المذكورة في آخر السورة قد اشترطت في ارث الأخت ان لا يكون لأخيها ولد و البنت ولد بالإجماع و قد سمعت تضجر ابن عباس من هذه الفتيا. و بمخالفة القرآن يعرف الكلام فيما يروى عن ابن مسعود في ابنة و ابنة ابن و اخت من ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قضى بأن للبنت النصف و لبنت الابن السدس و ما بقي للأخت كما أخرجه عبد الرزاق في جامعه و

الحاكم في مستدركه. و في بداية ابن رشد ذهب داود الظاهري و طائفة إلى ان الأخت لا ترث مع البنت شيئا- و منها- ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قضى بأن لزوجة سعد بن الربيع الثمن و لبنتيه الثلثين و الباقي لأخيه. و مما يرد به هذا الاحتجاج ان الرواية قد انفرد بها عن جابر عبد اللّه بن محمد بن عقيل و ان جماعة من اهل العلم لا يقبلون روايته كما ذكره ابن رشد في بدايته. و الذي تساهل في امره قال في حديثه لين و قد تغير في آخر عمره كما في التقريب مضافا إلى اضطراب الرواية ففي سنن ابن داود من رواية بشير بن المفضل عن عبد اللّه المذكور روايتها في بني ثابت بن قيس و انه قتل يوم احد و قال ابو داود ان ثابتا قتل يوم اليمامة- و منها- ما تفرد به

عبد اللّه بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت فلأول رجل ذكر. هكذا رواية الجوامع.

و يرد هذا الاحتجاج- أولا- و هن متنه فانه لا يليق التعبير برجل ذكر و لا يصدر الا في كلام عي لا يحسن كيف يتكلم فكيف تجوز على رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) مضافا إلى عدم عملهم على ظاهره فإنهم يورثون الأولى و ان كان طفلا في يوم ولادته فإن قالوا أريد بهذا الحديث من لفظ الرجل ما يشمل الطفل المذكور فقد زادوا متنه بهذه الدعوى المجردة و هنا على وهن و رده إلى الكلام الساقط. و ان قالوا ان من لم يبلغ مبلغ الرجال غير مراد من هذا الحديث و لكن مساواتهم للرجل هو حكم اللّه. قيل لهم أولا من اين علمتم هذه المساواة. و ثانيا انكم رددتم الحديث إلى القصور و المعاياة الواهنة فإن المقام مقام بيان و تحديد. و قد خالفوا أيضا مضمونه في حكمهم بأن الإناث يعصبن مع إخوتهن و بذلك يزيدون الحديث في المعاياة و القصور في البيان- و ثالثا- و هن سنده فقد روى الشيخ الطوسي في تهذيبه (1) عن أبي طالب الأنباري عن محمد بن احمد الترمذي عن بشير بنئة

ص: 35


1- سماعا و اجازة من أحمد بن عبد الواحد المعروف بابن عبدون و ابن الحاشر سنة ثلاث و عشرين و اربعمائة و كانت وفاة الأنباري سنة ست و خمسين و ثلاثمائة

هارون عن الحميري عن سفيان عن أبي اسحق عن قارية بن مضرب قال جلست إلى ابن عباس و هو بمكة فقلت له حديث يرويه اهل العراق عنك و طاوس مولاك ان ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر. قال أمن اهل العراق أنت قلت نعم قال ابلغ من وراءك- ما قلت هذا و لا طاوس يرويه عليّ قال قارية فلقيت طاوسا فقال لا و اللّه ما رويت هذا على ابن عباس و انما الشيطان ألقاه على ألسنتهم. قال سفيان أراه من قبل ابنه عبد اللّه بن طاوس فإنه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك و كان يحمل على هؤلاء حملا شديدا يعني بني هاشم- و رابعا- يكفي في سقوط هذا الحديث و قيام الحجة على بطلان التعصيب ما رواه

في التهذيب في المعتبر عن الصادق (علیه السلام) ان رجلا مات على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و كان يبيع التمر فأخذ عمه التمر و كان له بنات فأتت امرأته النبي (صلی الله علیه و آله) فأعلمته بذلك فأخذ النبي (صلی الله علیه و آله) التمر من العم و دفعه إلى البنات.

و في الكافي و التهذيب في المعتبر عن الكاظم (علیه السلام) في رجل ترك امه و أخاه قال يا شيخ تريد على الكتاب قال نعم قال (علیه السلام) كان علي يعطي المال الأقرب فالأقرب قلت فالأخ لا يرث شيئا قال (علیه السلام) قد أخبرتك ان عليا (علیه السلام) كان يعطي المال الأقرب فالأقرب.

يعني ان عليا كان يجري على مقتضى الكتاب في آيات الأقربين و اولي الأرحام و لا يقيم لمسألة التعصيب و زنا.

و فيهما في الصحيح عن الصادق المال للأقرب و العصبة في فيه التراب.

و في العيون بسنده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (علیه السلام) في حديث و لا يرث مع الولد و الوالدين إلا الزوج و المرأة و ذو السهم أحق ممن لا سهم له و ليست العصبة من دين اللّه.

و في الفقيه في الصحيح عن الباقر (علیه السلام) لا و اللّه ما ورث رسول اللّه العباس و لا علي و لا ورثه إلا فاطمة ثم قال (علیه السلام) وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.

و في الكافي و الفقيه و بضائر الدرجات و التهذيب في الصحيح عن الباقر (علیه السلام) ورث علي علم رسول اللّه و ورثت فاطمة تركته. و في بصائر الدرجات في الصحيح عن الصادق مثله.

إلى غير ذلك مما هو صحيح الرواية عن الأئمة العترة أهل البيت (علیه السلام)- و لو تنزلنا و فرضنا التعارض و التكافؤ بين هذه الروايات و بين روايات التعصيب لكان المرجع كتاب اللّه في آيات الأقربين و اولي الأرحام و دعوى ان آيتي أولي الأرحام لا دخل لهما في الميراث ساقطة و ذلك لعمومها و ما دل من الحديث و عمل الصحابة و اهل العلم و اهل البيت في نزولهما في شأن الميراث و عملهم عليهما في ذلك كما تقدم. على انه يكفينا في الانتصار آية الأقربين المؤكدة بالتكرار.

ص: 36

- الأمر السابع- و عز عليّ ان أذكره. لكن اصحاب الجوامع و المسند و ابن جرير و غيرهم من الجمهور تعرضوا له بما لا يخلو من النقد التاريخي و تعرض له الرازي و الألوسي و صاحب المنار في تفاسيرهم بما لا يخلو من النقد العلمي و التاريخي و قد ذكروه بنحو يوجه اللوم على الزهراء (علیه السلام) و علي (علیه السلام) و انهما لم يقتنعا بالرواية عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بل أصرا بحنق و شدة على المطالبة به على خلاف المأمول بمقامهما العظيم في الكرامة و الدين و المحافظة على الشريعة.

و لو لا ذلك لكان ترك التعرض منا له أولى و اهدأ للخواطر. و لكن لا بأس بالنقد التاريخي النزيه و تمحيص الروايات و الأقوال في هذا المقام. و أمر الحقيقة موكول الى اللّه و علمه. و حاصله ان آيات الْأَقْرَبِينَ و أُولُوا الْأَرْحامِ و يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ تقتضي ان تركة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يرثها وارثه و هي ابنته و بضعته فاطمة (علیه السلام). و لكن ذكر التاريخ المؤلم في ذلك نزاعا احتدمت ناره مدة من السنين بين أهل البيت و العباس من جانب و بين المعاريف من مشايخ الصحابة من جانب آخر. و كثر من ذلك في المروي ما لا يهون وقوعه إذ يروى انه استمرت شكاية أهل البيت (علیه السلام) و منازعتهم في ذلك الى زمن عثمان و رأوا بعد ذلك ان السكوت أولى.

و قد جاء في تأريخ ذلك من كتب الجمهور عن الصحابة أحاديث- الاول-

في كتاب الجهاد من جامعي البخاري و مسلم من طريق عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة ان فاطمة (علیه السلام) بنت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أرسلت الى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم مما أفاء اللّه عليه بالمدينة (1) وفدك و ما بقي من خمس خيبر فقال ابو بكر قال رسول اللّه لا نورّث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال و اني و اللّه لا أغير شيئا من صدقة رسول اللّه و لأعملن به بما عمل به رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فأبى ابو بكر أن يدفع الى فاطمة شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك. فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت و عاشت بعد رسول اللّه ستة أشهر:

و روى نحوه مسلم ايضا في جامعه و ابن جرير في تاريخه من طريق عبد الرزاق عن الزهري عن عروة عن عائشة. لكن ذكرا في أوله ان فاطمة و العباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و هما يطلبان ارضه من فدك و سهمه من خيبر. و نحوه في كتاب الفرائض من جامع البخاري من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة الى قولها فهجرته حتى ماتت:

و روى مسلم ايضا من طريق صالح عن الزهري عن عائشة ان فاطمة سألت أبا بكر ان يقسمه)

ص: 37


1- من أموال بني النضير حيث انجلوا عنها و بقيت فيئا لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله)

لها ميراثها مما ترك رسول اللّه مما أفاء اللّه عليه فقال ابو بكر ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال: لا نورّث ما تركناه صدقة و عاشت بعد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ستة أشهر و كانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول اللّه فأبى ابو بكر-

و في الحديث و اما صدقته بالمدينة فدفعها عمر الى علي و العباس- و اما خيبر و فدك فأمسكهما عمر و قال هما صدقة رسول اللّه كانت لحقوقه التي تعروه و نوائبه و أمرهما الى من ولي الأمر- الحديث الثاني-

روى مسلم في كتاب الجهاد من طريق مالك عن الزهري عن مالك بن أوس ما ملخصه ان عليا و العباس جاءا الى عمر يختصمان فقال عمر لعبد الرحمن و عثمان و الزبير و سعد أنشدكم اللّه أ تعلمون ان رسول اللّه قال لا نورّث ما تركنا صدقة فقالوا نعم ثم ناشد عليا و العباس مثل ذلك فقالا نعم- إلى أن قال عمر فبقي هذا المال فكان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يأخذ منه نفقة سنة ثم يجعل ما بقي أسوة المال فلما توفي رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال ابو بكر أنا ولي رسول اللّه فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك و يطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال ابو بكر قال رسول اللّه ما نورث ما تركناه صدقة فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ثم توفي ابو بكر و أنا ولي رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و ولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا.

الحديث و رواه البخاري ايضا في كتاب الفرائض من طريق عقيل عن الزهري عن مالك بن أوس من دون قول عمر فرأيتماه- فرأيتماني كاذبا آثما الى آخره. و رواه ابو داود في سننه بنحو رواية البخاري

- الحديث الثالث- اخرج

ابو داود في سننه عن أبي الطفيل قال جاءت فاطمة الى أبي بكر تطلب ميراثها من النبي (صلی الله علیه و آله) فقال ابو بكر سمعت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول ان اللّه إذا أطعم نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده. و روى نحوه احمد في مسند أبي بكر عن أبي الطفيل. و نقله في كنز العمال عن ابن جرير و البيهقي.

و هلم العجب في هذه المشكلة و ما جرى في تاريخها من وجوه- الاول- لا يخفى ان فاطمة (علیه السلام) قد صح بين المسلمين بل تواتر انها سيدة نساء العالمين. كما أشرنا اليه في الجزء الاول ص 282 و انها و عليا من العترة أهل البيت الذين هم ككتاب اللّه في انهما لا يضل من تمسك بهما و لن يفترقا ص 43- 45 و من الكلمات التي تاب اللّه بها على آدم ص 87 و من أمر اللّه رسوله أن يباهل بهم و يستعين بدعائهم ص 290 و من اهل البيت الذين اذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه و ان عليا امير المؤمنين ص 112 و سيأتي إن شاء اللّه تأكيده و نفس رسول اللّه في وحي اللّه و حديث الرسول ص 290- 294 و انه

ص: 38

يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل رسول اللّه على تنزيله كما مر ذلك في هذه المعدودات من صفحات الجزء الأول و باب مدينة العلم. و مع الحق. و أقضى الأمة. و ولي المسلمين. و غير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء اللّه، إذن فكيف تصر فاطمة مدة حياتها و يصر امير المؤمنين الى ايام عمر على المطالبة بإرث رسول اللّه. ألا تقول كيف يصران على ذلك مع ان أبا بكر يروي حديثا في ذلك عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و هل يكون ذلك إلا لأنهما يعلمان ان احتجاج أبي بكر لا يجدي شيئا. هب انهما يعلمان ذلك و يريان ان احتجاجه غير جار على الأصول الشرعية من حيث انه هو المدعي في هذه الخصومة و هو الذي استولى على الأموال و لم يتركها على مجراها الشرعي في الخصومات بل كان عليه أن يقف مع الزهراء للمحاكمة عند من سمع من رسول اللّه ما يسقط دعوى الزهراء فتجري الأمور على ميزان الدعاوي و الحقوق في الشريعة.

لكن هذا كله لا يوجب أن تهجر فاطمة أبا بكر حتى توفيت. و لا أن يقول عمر لعلي انه رأى أبا بكر آثما كاذبا خائنا غادرا و رأى عمر كذلك. بل كان على علي و فاطمة ان يريا ان من الجائز ان يكون ابو بكر سمع من رسول اللّه ما رواه و إن لم تجر الخصومة على وجهها فلا تهجره فاطمة مدة حياتها و لا يختلج في اعتقاد علي ما ذكره عمر في شأن أبي بكر و شأنه. إذن فمقام علي و فاطمة و التزامهما بالشريعة يقضي بأنهما كانا بحسب ما يعلمانه من القرآن و رسول اللّه لا يجدان الى تجويز الصحة في منع أبي بكر و روايته سبيلا. و قد

روى في كتاب بلاغات النساء (1) من طريقين ان فاطمة احتجت على رد حديث لا نورث ما تركناه صدقة بآيتي وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ و دعاء زكريا لولد الوارث

كما سنذكره إن شاء اللّه مع ان الاعتبار يساعد على ان أهل البيت أولى بسماع هذا الحديث من رسول اللّه على وجه يذعنون بأن رسول اللّه لا يرث ماله وارثه بنحو يلتئم مع آيتي وراثة سليمان و يحيى من أبويهما النبيين. بل هم أولى بأن يخبرهم رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بذلك جريا على قوله تعالى و أنذر عشيرتك الأقربين. لئلا تقع منهم بعدهة.

ص: 39


1- صفحة 21 و 22 من المطبوع بمصر سنة 1326 و مؤلفه ابو الفضل احمد بن أبي طاهر المولود ببغداد سنة 204 و المتوفى سنة 280 و يوجد في صفحة 16 «قال ابو الفضل ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام)» و هذا غلط من النساخ او الطبع لأن الذي عاصره و يروي عنه هو زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي المذكور كما يشهد لذلك ما في صفحة 167 من الكتاب و في تقريب ابن حجر انه مقبول من الحادية عشرة.

هذه الدعوى بغير الحق و التي تثير الخلاف بين خواص الأمة. بل الحديث يدل على ان نساء النبي (صلی الله علیه و آله) لا علم لهن بذلك و أردن ان يبعثن عثمان رسولا الى أبي بكر للمطالبة بإرثهن من النبي (صلی الله علیه و آله) فمنعتهن عائشة برواية أبيها لا نورّث كما أخرجه البخاري في كتاب الفرائض و مسلم في كتاب الجهاد عن عائشة. بل اخرج البخاري في كتاب المغازي بعد حديث مالك ابن أوس عن عائشة أرسل ازواج النبي (صلی الله علیه و آله) عثمان الى أبي بكر يسألنه ثمنهن الحديث و هذا يدل على ان عثمان ايضا لا يدري بحديث لا نورث و إلا لذكره لهن و لم يقبل رسالتهن.

و

روى أبو داود في كتاب الخراج حديث نساء النبي أيضا و فيه من رواية عائشة عن قول النبي لا نورث ما تركناه صدقة و إنما هذا المال لآل محمد لنائبتهم و لضيفهم فإذا مت فهو إلى من ولي الأمر من بعدي

- الوجه الثاني- ان الذي يروى من الجواب لفاطمة و علي في منع الإرث إنما هي كلمات متدافعة متنافرة. و كل منها لا يصلح جوابا و لنذكر في ذلك أمور- الأول- ان أبا بكر بحسب ما ذكرناه من المروي هو الخصم في هذه المنازعة و مدعي الصدقة و الولاية عليها بالانحاء التي تقدمت في الأحاديث. و ليس من شريعة القضاء ان يكون الخصم هو القاضي و الحاكم لنفسه و ولايته و منفعته لرواية ينفرد بها مع التدافع و الاضطراب المروي فيها. مع ان القرآن الكريم على خلافها- الثاني- ان انفراده بالرواية هو المعروف و جرى عليه علماء الأصول من اهل السنة حيث استدلوا بالعمل بتخصيص الكتاب المجيد بهذه الرواية مع انفراد أبي بكر بها. و اخرج

أحمد في مسند أبي بكر في حديث ان عمر قال لعلي و العباس حدثني ابو بكر و حلف انه لصادق انه سمع النبي يقول ان النبي لا يورث و انما ميراثه في فقراء المسلمين و المساكين.

و لو كان عمر و غيره يعلم بذلك من النبي (صلی الله علیه و آله) لما احتاج ابو بكر الى ان يحلف لعمر انه لصادق .. و قد روى عن عائشة انفراد أبي بكر بذلك. و عدته من فضائله. ففي صواعق ابن حجر و كنز العمال و مختصره في فضائل أبي بكر انه اخرج ابو القاسم البغوي و ابو بكر في الغيلانيات و ابن عساكر عن عائشة في حديث ان الناس اختلفوا في ميراث رسول اللّه فما وجدوا عند احد من ذلك علما

فقال ابو بكر سمعت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول «انا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة

«لا يقال» ان رواية مالك بن أوس المتقدمة ناطقة بأن عمر ناشد عليا و العباس باللّه انهما هل يعلمان

ان رسول اللّه قال لا نورث ما تركناه صدقة

فقالا اللهم نعم «لأنا نقول» ان لم يعرف ما لأمير المؤمنين من المقام السامي في العصمة فإنه لا يجهل

ص: 40

أحد من المسلمين ما له من المقام الأرفع في التقوى و الزهد و الورع. اذن فكيف يتصور في حقه انه يعلم بأن رسول اللّه أخبر بأن أمواله لا تكون ارثا بل تكون للمسلمين و هو يريد ان يستلبها منهم غصبا بدعوى الإرث و مخالفة لحكم اللّه و بيان الرسول و يستمر مع ذلك على المطالبة سنين عديدة. و لو تنزلنا عن هذا لقلنا لا يخفى ان عليا و العباس لهما شرف و مروءة و سداد في الرأي و القول فكيف يطالبان بالإرث من رسول اللّه مدة سنين و يعتر فان مع ذلك بالعلم

بقول الرسول لا نورث ما تركناه صدقة.

و كيف يسجلان على أنفسهما بهذا الاعتراف انهما يستمران على الدعوى الباطلة و محاولة غصب المسلمين حقهم و أكل مالهم بالباطل. و أي صاحب شعور حتى من السفلة يقدم على ذلك فيشوه سمعته و يدنس مستقبله و إن لم يكن له رادع من تقوى اللّه. دع هذا و لكن كيف يجعله عمر مع ذلك من رجال الشورى المرشحين للخلافة و الائتمان على امور المسلمين. فما رواية الاعتراف من علي (علیه السلام) مع إصراره على المطالبة بالإرث الا فلتة ممن لا يعرف كيف يتكلم فيما يرويه «و لا يقال» ان عمر ناشد عثمان و عبد الرحمن و الزبير و سعدا بمثل ما ناشد عليا و العباس فقالوا اللهم نعم «لأنا نقول» ان الراوي لهذه المناشدة و جوابها هو الراوي لمناشدته عليا و العباس و جوابهما و قد عرفت قيمة الرواية. و ثانيا ان الرواية تذكر ان عمر سألهم عن علمهم بذلك لا عن سماعهم له من رسول اللّه فأجابوا بالعلم اعتمادا على رواية أبي بكر و عمله «و لا يقال» ان عائشة قد روت حديث لا نورث لنساء النبي (صلی الله علیه و آله) «لأنا نقول» انها استندت على علمهن من رواية أبيها كما يدل عليه ما تقدم في انفراد أبي بكر في روايتها فلم يسعهن الا السكوت في الموقف الحرج «و لا يقال» ان

أبا هريرة روى عن رسول اللّه كما في جوامع مسلم و الترمذي و أبي داود لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي و مؤنة عاملي فهو صدقة.

و في حديث آخر لا نورث ما تركناه صدقة

«لأنا نقول» لا يخفى ان الرواية الأولى واردة في النقود و انه (صلی الله علیه و آله) لا يدخر مما يملكه منها ما يبقى بعده بل ينفقها بسماحة النبوة و رأفتها و أبوته للأمة في سبيل اللّه و المحاويج. و لا يزاحم ذلك إلا بالواجب الوقتي من نفقة نسائه و مؤنة عامله فهو (صلی الله علیه و آله) على هذا المنوال وقتا بعد وقت فلا يبقى في خزائنه ما يكون معرضا لأن يتركه بعده إلا ما كان من بيت المال و الصدقات ان وسع المال ان يتربص به حاجة المسلمين في المستقبل. فالحديث اجنبي عن مثل الأراضي و العقار. و اما الرواية الثانية فتكون بقرينة اتحاد الراوي جارية هذا المجرى و لا دلالة لها على اكثر من ذلك

ص: 41

- الأمر الثالث- ان رواية عائشة في تفرد أبي بكر بالرواية. و تداول نقلها بين العلماء و المصنفين و ذكرها في الكتب كلها تشهد بأن الأصل في الرواية «انا معاشر الأنبياء لا نورث» و على ذلك جرى سطرها في الكتب. و عليه قال الرازي في تفسيره مذهب اكثر المجتهدين ان الأنبياء لا يورثون ثم ذكر انهم احتجوا

بقول النبي (صلی الله علیه و آله) نحن معاشر الأنبياء لا نورث.

و يشهد لذلك ما في شمائل الترمذي من رواية أبي البختري ان عمر قال لطلحة و الزبير و عبد الرحمن و سعد نشدتكم اللّه أسمعتم

رسول اللّه يقول كل مال نبي صدقة إلا ما أطعمه اهله الا لا نورث و نحوه في كتاب الخراج من سنن أبي داود.

و ما

رواه أحمد في مسند أبي بكر من قوله لفاطمة سمعت رسول اللّه يقول ان النبي لا يورث.

إذن فالرواية مخالفة لكتاب اللّه في قوله تعالى في سورة النمل 16 وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ و ليس ارث العلم و النبوة لأن القرآن يدل على ان سليمان اوتي العلم و الحكمة كداود في زمان داود كما في سورة الأنبياء 77 و 78 و في قوله تعالى في سورة مريم في قول زكريا و دعائه 4 إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ أي الأقارب الوارثين «مِنْ وَرائِي» أي بعد موتي اي خاف من أن يكونوا هم الوارثين لماله.

و مقتضى مقام النبوة انه خاف ذلك لأمر شرعي «وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً» لم تلد لي ولدا يكون هو الوارث من بعدي دونهم «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ» من رحمتك و قدرتك ولدا «وَلِيًّا يَرِثُنِي» و يكون له ما ابقيه من المال الذي خفت ان يرثه الموالي من ورائي. و لا يخفى ان مقام زكريا في النبوة يمنع من ان يقال انه خاف ان يرثه مواليه و أقاربه العلم و النبوة. و ذلك لأن النبوة و علمها امر بيد اللّه في مقامها الخاص يجعلها لمن هو اهل لها و يمنعها عمن ليس بأهل و لا يخفى ذلك عمن هو دون زكريا إذن فلا يصح في المعقول ان يقال ان زكريا النبي خاف من ان يجعل اللّه النبوة و علمها فيمن ليس بأهل لذلك. و لا انه خاف من ان يجعل اللّه النبوة و علمها بحسب حكمته فيمن هو اهل لها. فلا بد من ان يكون الذي خافه هو إرث المال الذي يرثه البر و الفاجر بحسب الشريعة. و مثل ذلك قوله تعالى عن زكريا في سورة الأنبياء 88 رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً بلا ولد وارث كما يدل عليه قوله وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ 89 فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى و ان استجابة دعائه بالوارث تبطل ان يكون يحيى قتلوه في حياة أبيه زكريا حتى لو قلنا ان مراد زكريا ارث العلم و النبوة فان معنى ارث يحيى لهما من زكريا لا يستقيم في الكلام الا إذا وصلا ليحيى بعد موت زكريا. و دعوى الإجماع على قتل يحيى في حياة

ص: 42

أبيه مجازفة تشهد دلالة القرآن ببطلانها- الأمر الرابع- في تدافع الحجة المروية في أحاديث المسألة فإن الحديث الأول يذكر الاحتجاج أولا

برواية انا لا نورث ما تركناه صدقة.

و هذا كالصريح في دعوى ان اموال النبي (صلی الله علیه و آله) التي هي ملكه في حياته يتصرف بها كيف يشاء تكون بعد وفاته صدقة مضافا إلى ان الاعتبار لا يساعد على ان يكون النبي محجورا عليه في أمواله و ما أفاء اللّه عليه و اضافه اليه و جعله له في نص القرآن فلا يكون كسائر المالكين يهب و يبيع و يعطي من اعيان أمواله على ما تقتضيه الحالة و المصلحة بل تكون صدقة لا يقدر ان يتصرف فيها إلا على شي ء من نمائها لنسائه فلا يساوي في أمواله التي جعلها اللّه له واحدا من المسلمين- لكن

قول الحديث «إنما يأكل آل محمد من هذا المال

يتضمن ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كان محجورا عليه في املاكه بالنحو الذي ذكرناه و بمجرد ان يعطيه اللّه شيئا تكون أعيانه صدقة محجورا عليها. فالعبارتان في الحديث متدافعتان متنافيتان. ودع ما في العبارة الثانية و مؤدى حجرها على الرسول (صلی الله علیه و آله). و على ذلك جرى

قول الحديث «لا أغير شيئا من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كانت عليها»

إذ لو كان المدعى ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) جعلها صدقة بجعله لكان أمرا ثالثا تجب اقامة البينة الكافية عليه و لا يكفي في ذلك كون الرسول يتناول من نماء أمواله نفقة نسائه و يصرف الباقي في سبيل اللّه فإنه رسول اللّه و ابو الأمة و الإسلام معدن الرحمة و الجود. «لا يقال» ان معنى المروي هو ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) جعل هذه الأموال صدقة في حياته و جرى في سيرته- لأنه يقال- لو كانت صدقة بجعل الرسول قبل وفاته بمدة سنين كما يروى من سيرته لكان ذلك من الأمور المشهورة و لما خفي على خواص أصحابه و على نسائه و اهل بيته. و لما احتاج ابو بكر في رد فاطمة إلى رواية لا نورث و لا احتاجت عائشة في رد نساء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى هذه الرواية و لا احتاج لمناشدة عثمان و الزبير و طلحة و سعد عن علمهم بها. مع ان الرواية اجنبية عن موضوع النزاع على هذا التقدير بل الذي يلزم هو اقامة الحجة على وقوع التصدق منذ سنين و الاستشهاد عليه. و في رواية مسلم و البخاري في باب فرض الخمس «و اما خيبر و فدك فأمسكهما عمر و قال هما صدقتا رسول اللّه كانتا لحقوقه التي تعروه و نوائبه و أمرهما إلى من ولي الأمر» و الكلام في هذه الفقرة كالكلام في سابقتها. و ان كل مالك تكون أمواله لحقوقه التي تعروه و نوائبه.

و تزيد هذه الفقرة بدعوى ان امر فدك و خيبر إلى من ولي الأمر. فإن المقام مقام مطالبة بالحقوق على الموازين الشرعية و الحجج لا مقام استفتاء يكتفي فيه بالفتيا المجردة و الدعوى

ص: 43

المحضة- و مما ذكرناه- يعرف التدافع في حديث مالك بن أوس في الجمع فيها بين الاحتجاج

برواية لا نورث ما تركناه صدقة

و بين الاحتجاج بأن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كان ينفق من مال بني النظير على اهله نفقة سنتهم ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال اللّه كما في روايات البخاري و في رواية مسلم ثم يجعل ما بقي أسوة المال. و لا يخفى ان للناس في أموالهم شؤونا و هل يجب شرعا او عقلا أو عادة ان تجرى اموال الشخص بعد موته على ما كانت تجرى عليه في حياته و ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في تفانيه في ذات اللّه و الإسلام و رحمته بالمسلمين لو ملك اضعاف ما ملك لاقتصر على واجب النفقة و أنفق الباقي في سبيل اللّه و أما بعد وفاته فيرجع الأمر إلى شأن وارثه و ليس لأحد ان يتحكم بفعل الموروث في النماء ما لم يثبت انه تصدق بالعين في حياته. و مما يزيد في الاضطراب و التدافع في ما يروى من الحجة ما ذكرناه مما

رواه احمد في مسند أبي بكر عن عمر عن أبي بكر انه سمع رسول اللّه يقول النبي لا يورث و إنما ميراثه في فقراء المسلمين و المساكين.

و يزيد ذلك بما ذكرناه في الحديث الثالث من قول أبي بكر

سمعت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان اللّه إذا اطعم نبيه طعمة فهي للذي يقوم من بعده.

و يزيد في الاضطراب ما ذكرناه من شمائل الترمذي- الوجه الثالث- قد سمعت مما تقدم من جامعي البخاري و مسلم و تاريخ الطبري ان فاطمة طالبت أبا بكر بإرثها مما أفاء اللّه على رسوله بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر فردها ابو بكر

برواية لا نورث ما تركناه صدقة

و في رواية مالك بن أوس ان عمر قال في فدك و خمس خيبر انهما صدقة رسول اللّه و أمسكهما. إذن فكيف بلغ الحال إلى ما رواه ابو داود في كتاب الخراج من سننه في فدك انه لما مضى ابو بكر و عمر اقطعها «بالبناء للمجهول» مروان بن الحكم و بقيت في ولده حتى ردها عمر بن عبد العزيز. و قد صرح جماعة كثيرون بما يفهم من الحديث من ان الذي أقطعها مروان هو عثمان في أيامه كما في السيرة الحلبية و المرقاة و غيرها. و ما اكثر وجوه الاشكال في هذه المسألة و رواياتها و ذلك في ذمة تاريخها- هذا و من المعلوم عند اهل البيت و الإمامية و عليه حديثهم ان فدكا كانت نحلة من رسول اللّه لفاطمة و كانت تحت يدها و عمل عاملها في حياة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و لما طرد عاملها ادعت النحلة و قدمت لأبي بكر شهودها فلم ينفعها ذلك أصلا. و نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج عن قاضي القضاة قوله انا لسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدكا و أما انها كانت في يدها فغير مسلم و نقل أيضا عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري أحاديث جمة في ادعائها

ص: 44

(علیه السلام) نحلة فدك و ذكر في المواقف و شرحها في المقصد الرابع من مقاصد الإمامة انها ادعت النحلة و شهد لها علي و الحسنان و أضاف في المواقف ام كلثوم و قال في شرحها الصحيح انها ام ايمن: و قال ابن حجر في الشبهة السابعة من الباب الخامس من الفصل الأول في صواعقه و دعواها ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) نحلها فدكا لم تأت عليها بشاهد إلا بعلي و ام أيمن و نحوه في معجم البلدان و فتوح البلدان للبلاذري. و قال الشهرستاني في الملل و النحل الخلاف السادس في أمر فدك و التوارث عن النبي (صلی الله علیه و آله) و دعوى فاطمة تملكا تارة و وراثة اخرى حتى دفعت عن ذلك

بالرواية المشهورة عن النبي (صلی الله علیه و آله) نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.

و في كتاب امير المؤمنين علي إلى عامله عثمان بن حنيف «بلى كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم و سخت بها نفوس قوم آخرين و نعم الحكم اللّه»

و في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من سورة بني إسرائيل اخرج البزاز و ابو يعلى و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت هذه الآية وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول اللّه فاطمة فأعطاها فدكا.

و أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ اقطع رسول اللّه فاطمة فدكا. و نقل السيوطي أيضا هذين الحديثين في لباب النقول و ذكر ان الطبراني اخرج الحديث الأول عن أبي سعيد

و في كنز العمال و مختصره في صلة الرحم من كتاب الأخلاق عن تاريخ الحاكم عن أبي سعيد قال لما نزلت وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قال النبي (صلی الله علیه و آله) يا فاطمة لك فدك

- هذا و لكن لما وردت دعوى الزهراء في نحلة فدك و لم تنفعها فيها شهادة علي و الحسنين و أم أيمن و يا للعجب عدلت إلى المطالبة بها بوجه الإرث اقلا كسائر المتروكات هذا و ان صاحب المنار ذكر عن الالوسي في تفسيره روح المعاني احتجاجه على الشيعة في ان الأنبياء لا يورثون بأمرين- أحدهما- ما

رواه في اصول الكافي بسنده عن أبي البختري وهب عن الصادق (علیه السلام) قوله: ان العلماء ورثة الأنبياء و ذلك ان الأنبياء لا يورثوا دينارا و لا درهما و انما أورثوا أحاديث من أحاديثهم. الحديث.

فاحتج بان «إنما» تفيد الحصر «و يدفعه» ان الحصر لم يكن إضافيا بالنسبة إلى الدينار و الدرهم فهو حصر بالنسبة لحملة الحديث من سائر الناس و عامتهم لا وارث المال من الأقرباء و من المعلوم ان سائر الناس لا يرثون من الأنبياء إلا الحديث في العلم و لا ارث للعلماء من الأنبياء إلا ذلك- و ثانيهما- بأن تركة النبي (صلی الله علیه و آله) وقعت في أيدي جماعة من المعصومين عند الشيعة و المحفوظين عند أهل

ص: 45

السنة كعلي و الحسنين و علي بن الحسين فلم يعطوا منها العباس و لا بنيه و لا أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) و لو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم قطعا «و يدفعه» ان ما يشير اليه من نحو العمامة المقدسة و السلاح و الرواية قد كان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أعطاه في مرضه لعلي على انها من مختصات الإمامة و لذا صارت تنتقل من إمام إلى إمام و على ذلك يجري ما رواه احمد في مسند أبي بكر عن ابن عباس بسند لو لم يكن صحيحا عندهم لكان حسنا مقبولا قال لما قبض رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و استخلف ابو بكر خاصم العباس عليا في أشياء تركها رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فقال ابو بكر شي ء تركه رسول اللّه فلم يحركه فلا أحركه. فلما استخلف عمر اختصما اليه فقال شي ء لم يحركه ابو بكر فلا أحركه. فلما استخلف عثمان اختصما اليه فسكت و نكس رأسه فخشيت ان يأخذه فضربت بين كتفي العباس فقلت يا أبت أقسمت عليك ألا سلمته لعلي فسلمه اليه. و رواه في كنز العمال و منتخبه في أول كتاب الخلافة عن البزاز أيضا. و لو تنزلنا عن ذلك و فرضنا كونها تركة موروثة لقلنا ان عدم اعطائهم للعباس لأنه لا يرث مع فاطمة عند اهل البيت لآيات الأقربين و اولي الأرحام كما مر في مسألة التعصيب. و أما أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) فيجوز ان يكون قد طبن نفسا بذلك لفاطمة (علیه السلام) لسماحتها لهن ببقائهن في بيوتهن و تصرفهن بما فيها من ادارة البيت احتراما لمقامهن من رسول اللّه او لغير ذلك من الوجوه.

و يجوز ايضا ان تكون تلك الأشياء تستخلص في سائر الطبقات من بقية الوراث بطيب النفس أو بالمعاوضة فلا تشبث بذلك للالوسي و صاحب المنار.

- الأمر الثامن- في العول و محل النزاع فيه بين النافين له و المثبتين هو ان يجتمع من الفرائض المذكورة في القرآن الكريم بحسب صورة إطلاقها ما يتزاحم و لا يمكن اجتماعه مع الإطلاق و بقائه على معناه. فالقائل بالعول يخرج اسماء الفرائض في مسائل عوله عن معانيها الحقيقية لكي يقسم المال على نسبة تلك المعاني بعضها من بعض. و النافون للعول يستدلون على تقييد بعض المطلقات في تلك المسائل فيرتفع التزاحم. و تحرير الكلام هو ان الصور التي يفرض تزاحم الفرائض فيها في الظاهر هي على ما يخطر في ذهني في الحال اثنتان و عشرون صورة ثلاثة عشر منها متفق على إمكان تصويرها و وقوعها بين المسلمين و تسعة منها يختص تصويرها بأهل السنة لأنهم يورثون الاخوة و الأخوات مع الأم فلنذكر هذه الصور و ما تصير اليه فرائضها على تقدير العول ليتضح وجه الحجة و الكلام في المسألة ان شاء اللّه و ان استلزم التطويل-

ص: 46

فالصور المتفق عليها الأولى منها- زوج و بنت و أم و أب. يصير فيها على العول ربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر و نصف البنت ستة من ثلاثة عشر و كل من سدسي الأب و الأم اثنين من ثلاثة عشر- الثانية- زوج و بنتان فما فوق و أم و أب. يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من خمسة عشر و هو الخمس و ثلثا البنات ثمانية من خمسة عشر و كل من سدسي الأب و الأم اثنين من خمسة عشر- الثالثة- زوج و بنتان فما فوق و واحد من الأبوين. يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر. و ثلثا البنات ثمانية من ثلاثة عشر. و سدس احد الأبوين اثنين من ثلاثة عشر- الرابعة- زوج و أخت من الأبوين أو الأب و اثنان من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من ثمانية و كذا نصف الأخت. و كل واحد من سدسي الكلالة واحد من ثمانية و هو الثمن- الخامسة- الصورة السابقة مع كون الكلالة من الأم فيها اكثر من اثنين يصير النصفان فيها كما في التي قبلها و ثلث الكلالة ربعا- السادسة- الصورة السابقة و كلالة الأم واحد. يصير فيها كل من النصفين ثلاثة من سبعة و سدس الكلالة واحد من سبعة- السابعة- زوج و اختان فما فوق من الأب أو الأبوين. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من سبعة و ثلثا الأخوات اربعة من سبعة- الثامنة- الصورة السابقة و واحد من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من ثمانية و ثلثا الأخوات أربعة من ثمانية و هو النصف و سدس الكلالة ثمنا- التاسعة- الصورة السابقة و كلالة الأم فيها اثنان. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من تسعة و هو الثلث و ثلثا الأخوات اربعة من تسعة و كل من سدسي الكلالة واحدا من تسعة- العاشرة- الصورة السابقة و كلالة الأم أكثر من اثنين و قسمتها كسابقتها و يكون ثلث الكلالة اثنين من تسعة- الحادية عشر- زوجة و بنتان فما فوق و أم و أب. يصير فيها ثلثا البنات ستة عشر من سبعة و عشرين (1) و ثمن الزوجة ثلاثة من سبعة و عشرين و هي التسع- الثانية عشر- زوجة و اختان فما فوق من الأب أو الأبوين مع اثنين من كلالة الأم. تصير فيها القسمة كسابقها- الثالثة عشر- هذه الصورة و كلالة الأم فيها اكثر من اثنين و تصير كسابقتها و ثلث الكلالة ثمانية من سبعة و عشرين «و أما المختصة» بمواريث اهل السنة فهي- الرابعة عشر- زوج و ام و اخت من الأب و الأبوين يصير فيها كل من نصفي الزوج و الأخت ثلاثة من ثمانية و ثلث الأم اثنين من ثمانية و هو الربع- الخامسة عشر- زوج و أم و اختان فما فوق من الأب أو الأبوين يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من تسعة و هو الثلث و ثلثا الأخواتين

ص: 47


1- و كل من السدسين اربعة من سبعة و عشرين

اربعة من تسعة و ثلث الأم اثنين من تسعة- السادسة عشر- الصورة السابقة مع واحد من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من عشرة و ثلث الأم اثنين من عشرة و هو الخمس و ثلثا الأخوات اربعة من عشرة و سدس الكلالة واحد من عشرة- السابعة عشر- الصورة السابقة مع ثان من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من احد عشر و ثلث الأم اثنين من احد عشر و ثلثا الأختين اربعة من احد عشر و كل من سدسي الكلالة واحد من احد عشر- الثامنة عشر- الصورة السابقة و يكون فيها كلالة الأم اكثر من اثنين. يصير فيها ثلث الكلالة اثنين من احد عشر- التاسعة عشر- زوجة و ام و أختان فما فوق من الأب او الأبوين. يصير فيها ربع الزوجة ثلاثة من خمسة عشر و هو الخمس و ثلث الأم اربعة من خمسة عشر و ثلثا الأخوات ثمانية من خمسة عشر- العشرون- الصورة السابقة مع واحد من كلالة الأم. يصير ربع الزوج فيها ثلاثة من سبعة عشر و ثلث الأم اربعة من سبعة عشر و ثلثا الأخوات ثمانية من سبعة عشر و سدس الكلالة اثنين من سبعة عشر- الحادية و العشرون- الصورة السابقة مع ثان من كلالة الأم يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من تسعة عشر و ثلث الأم اربعة من تسعة عشر و ثلثا الأخوات ثمانية من تسعة عشر و كل من سدسي الكلالة اثنين من تسعة عشر- الثانية و العشرون- الصورة السابقة و يكون فيها كلالة الأم أكثر من اثنين. يصير ثلثهم فيها أربعة من تسعة عشر.

إذن فعلى القول بالعول و ما تقدم من الحساب في الصور المذكورة يصير معنى الثمن المذكور في القرآن للزوجة او الزوجات واحدا من ثمانية كما في غير مسائل العول و واحدا من تسعة أي تسعا في الصور الحادية عشر و الثانية عشر و الثالثة عشر: و يكون ربع الزوجة واحدا من أربعة في غير العول و واحد من خمسة كما في الصورة التاسعة عشر و ثلاثة من سبعة عشر كما في الصورة العشرين و ثلاثة من تسعة عشر كما في الحادية و العشرين و الثانية و العشرين. و ربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى و الثالثة و ثلاثة من خمسة عشر كما في الثانية و يكون نصف الزوج واحدا من اثنين في غير العول و ثلاثة من سبعة كما في الصورة السادسة و السابعة. و ثلاثة من ثمانية كما في الرابعة و الخامسة و الثامنة و الرابعة عشر. و ثلاثة من تسعة اي ثلثا كما في التاسعة و العاشرة و الخامسة عشر. و ثلاثة من عشرة كما في السادسة عشر. و ثلاثة من احد عشر كما في السابعة عشر و الثامنة عشر. و تزيد معاني النصف بالنظر إلى نصفي البنت و الأخ

ص: 48

فيكون ايضا ستة من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى. و ثلاثة من ثمانية كما في الرابعة و الخامسة و الرابعة عشر. و ثلاثة من سبعة كما في السادسة فيكون للنصف سبعة معان: و يكون سدس الأب أو الأم أو الواحد من كلالة في غير العول واحدا من ستة. و اثنين من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى و الثالثة. و اثنين من خمسة عشر كما في الثانية. و أربعة من سبعة و عشرين كما في الحادية عشر. و واحدا من سبعة كما في السادسة. و واحدا من ثمانية كما في الرابعة و الثامنة.

و واحدا من تسعة كما في التاسعة. و اربعة من سبعة و عشرين كما في الثانية عشر. و واحدا من عشرة كما في السادسة عشر. و واحدا من احد عشر كما في السابعة عشر. و اثنين من سبعة عشر كما في الصورة العشرين. و اثنين من تسعة عشر كما في الحادية و العشرين. فيكون للسدس اثنا عشر معنى: و يكون الثلث لكلالة الأم واحدا من ثلاثة في غير العول. و اثنين من ثمانية كما في الخامسة. و اثنين من تسعة كما في العاشرة. و ثمانية من سبعة و عشرين كما في الثالثة عشر.

و اثنين من أحد عشر كما في الثامنة عشر. و اربعة من تسعة عشر كما في الثانية و العشرين:

و يكون الثلث للأم اثنين من ثمانية كما في الرابعة. و اثنين من تسعة كما في الخامسة عشر.

و اثنين من عشرة كما في السادسة عشر. و اثنين من احد عشر كما في السابعة عشر و الثامنة عشر. و اربعة من خمسة عشر كما في التاسعة عشر. و اربعة من سبعة عشر كما في الصورة العشرين: و اربعة من تسعة عشر كما في الحادية و العشرين و الثانية و العشرين. و يكون ايضا باعتبار ثلثي البنات و الأخوات له معان أخر فإن الثلثين يكونان ثمانية من خمسة عشر في الصورة الثانية و ثمانية من ثلاثة عشر في الثالثة. و اربعة من سبعة في السابعة. و اربعة من ثمانية في الثامنة.

و اربعة من تسعة في التاسعة و العاشرة و الخامسة عشر. و ستة عشر من سبعة و عشرين في الحادية عشر و الثانية عشر و الثالثة عشر. و اربعة من عشرة في السادسة عشر و الثامنة عشر. و ثمانية من خمسة عشر في التاسعة عشر. و ثمانية من سبعة عشر في الصورة العشرين. و ثمانية من تسعة عشر في الحادية و العشرين و الثانية و العشرين. فيكون للثلث باعتبار ثلث الأم و ثلث كلالتها و ثلثي البنات و الأخوات أحد و عشرون معنى.

إذا تحرر هذا فنقول ان اللّه العليم الخبير و الذي أحصى كل شي ء علما و عددا لا شك في انه يمتنع على جلاله ان يكون قد جعل الفرائض و هو لا يعلم بما يؤدي اليه تزاحمها كما في فروض مسائل العول. إذن فلم يبق في المسألة إلا و جهان- أحدهما- ان يكون استعمل

ص: 49

ألفاظ الفرائض في معانيها الحقيقة في غير مسائل العول و في المعاني الكثيرة المتنافرة التي يؤول إليها تقسيم العول كما شرحناه- و ثانيهما- ان يكون الشارع في الموارد يتراءى فيها تزاحم الفرائض بحسب الظاهر البدوي من إطلاقها قد قيد بعض مطلقاتها و أخرج بعض مصاديقها منها بحيث لا يحصل التزاحم و أوكل أمر هذه المصاديق إلى عمومات الإرث بالقرابة و آيات الأقربين و اولي الأرحام- لكن- الوجه الاول باطل ممتنع في اللغة لأنه يستلزم استعمال اللفظ الواحد في الاستعمال الواحد في معناه الحقيقي و معان أخر متنافية متشتتة لا جامع بينها كما شرحناه و ليس فيما بين كل واحد منها و بين المعنى الحقيقي علاقة تصحح التجوز فانها كلها في مقام التقسيم و اناطة الحكم بخصوصيات الكسور فتكون بذلك معاندة و منافرة للمعنى الحقيقي و متعاندة و متنافرة فيما بينها. على انه لا يجوز الجمع في الاستعمال بين الحقيقة و المجاز حتى مع وجود العلاقة و وضوحها كما تحرر في الأصول. و مما يشهد لذلك ان الأوائل القائلين بالعول من الصحابة لم يدعوا أن تزاحم الفرائض صار قرينة على ان اللّه أراد من ألفاظها ما ذكرناه من تلك المعاني الكثيرة بل جعلوا العول من قبيل الصلح القهري عند اشتباه الحكم الشرعي لأنه لم يتضح لهم من قدم اللّه و من أخره كما يعرف من رواية عبيد اللّه عن ابن عباس. كما يشهد لذلك ان ابن عباس اكتفى في ابطال العول بعلم اللّه و إحصائه لرمل عالج عددا و لم يخطر في خياله ان اللّه أراد من اسماء الفرائض تلك المعاني الكثيرة و على ذلك يجري تصويب الزهري لقوله و احتجاجه و ما ذاك الا لأن ما ذكرناه من الامتناع خصوصا في هذا المقام مرتكز في الغريزة مستحكم في الفطرة. هذا و لو تنزلنا و جوزنا الجمع بين كل من المعنى الحقيقي و المعنى المجازي في استعمال واحد لما كان هذا المقام من واديه و لا يدانيه لما ذكرناه من المعاندة في مقام التقسيم- فان قيل- يمكن ان يكون ألفاظ الفرائض مستعملة في الجامع بين تلك المعاني المتشتتة و هو عنوان الجزء المطلق من التركة و ما يشبهه- قلنا- إذا كان المسمى و المعنى هو الجزء المطلق و كانت اسماء الفرائض كالمترادفة فما هي الفائدة فيها و المحصل منها. و لماذا يعطى في كل مورد من موارد العول و غيره جزء مخصوص و مقدار معين- فان قيل- انا نعطي تلك المقادير المخصوصة من باب تزاحم الحقوق المجعولة- قلنا- أولا لماذا تعطون في غير العول مقادير مخصوصة على مقتضى المعاني الحقيقية لألفاظ الفرائض كالنصف و الثلث مثلا. و ثانيا.

إذا كانت اسماء الفرائض اسماء للجزء المطلق لم يكن هناك تزاحم حقوق بل يعطون

ص: 50

على التساوي. فلا مناص إذن عما ذكرناه قبلا من ثاني الوجهين و هو التقييد لإطلاق بعض الفرائض التي لا تخرج أسماؤها عن معانيها الحقيقية و الرجوع في موردها إلى الإرث بالقرابة.

فعلينا البحث في تعيين ما هو خارج عن الإطلاق و يرجع امر مورده إلى آيات الأقربين و اولي الأرحام. فإن أصبناه انحل اشكال التزاحم و إلا وجب التوقف و الرجوع إلى الصلح ما بين الورثة في هذه الموارد المشكلة بظاهر التزاحم. بل لو تمحلنا و جوزنا استعمال القرآن الكريم لألفاظ الفرائض على الوجه الأول المخالف للمعنى الحقيقي و الراجع إلى الألغاز و المعميات بل الطلاسم لكان الحمل على التقييد هنا هو المتعين لأنه لا تجوز فيه و هو شايع جدا في المحاورات و القرآن الكريم. و معرفة الخارج عن الإطلاق قريبة من التناول و وجه التقييد واضح كما قاله ابن عباس كما ذكره في كنز العمال و مختصره عن أبي الشيخ في فرائضه و البيهقي في سننه عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة و رواه ابن حزم الاندلسي في كتابه المحلى عن إسماعيل القاضي كما رواه المشايخ في الكافي و الفقيه و العلل و التهذيب بأسانيدهم عن الفضل بن شاذان عن محمد بن يحيى جميعا عن علي بن عبد اللّه المدائني (1) و رواه أيضا في التهذيب سماعا و اجازة عن ابن عبدون عن أبي طالب الانباري عن أبي بكر الحافظ احمد بن هوده عن علي بن محمد الحصيني جميعا عن يعقوب بن ابراهيم عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود قال خرجت انا و زفر بن أوس إلى ابن عباس فتحدثنا عنده حتى عرض ذكر فرائض المواريث فقال ابن عباس سبحان اللّه العظيم أ ترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا و نصفا و ثلثا. النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث. فقال له زفر يا أبا العباس من أول من أعال الفرائض فقال عمر بن الخطاب لما التقت عنده الفرائض و دافع بعضها بعضا قال ما ادري كيف اصنع. ما أدري أيكم قدم اللّه و أيكم أخر و ما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال ابن عباس و ايم اللّه لو قدم من قدم اللّه و أخر من أخر اللّه ما عالت فريضة. فقال له زفر و أيهم قدم اللّه و أيهم أخر. فقال كل فريضة لم يهبطها اللّه إلا إلى فريضة فهذا ما قدم و أما ما أخر فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فذلك الذي أخر. فأما التي قدم اللّه فالزوج له النصف فإذا دخلله

ص: 51


1- في التقريب ثقة ثبت امام اعلم اهل عصره بالحديث و علله. الى غير ذلك من تفخيم ابن عيينة و البخاري و النسائي له

عليه ما يزيله رجع إلى الربع لا يزيله عنه شي ء. و الزوجة لها الربع فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شي ء. و الأم لها الثلث فإن زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شي ء. و الذي أخر فريضة الأخوات و البنات النصف و الثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلا ما بقي. فإذا اجتمع ما قدم اللّه و ما أخر بدء بمن قدم فأعطي حقه كاملا فإن بقي شي ء كان لمن أخر. فقال زفر فما منعك يا ابن عباس من ان تشير عليه بهذا الرأي قال ابن عباس هبته. قال ابن شهاب و اللّه لو لا انه تقدمه امام عدل أمره إلى الورع لما اختلف على ابن عباس اثنان من اهل العلم انتهى و رواه الحاكم في الصحيح على شرط البخاري و مسلم بسنده عن علي بن عبد اللّه المدائني إلى آخر السند المتقدم من قول ابن عباس أول من أعال الفرائض عمر إلى قوله فإن بقي شي ء كان له. و في ذلك محل الغرض من احتجاج ابن عباس فيمن قدم اللّه و من أخر و بيان الوجه الذي يعرف منه التقييد لبعض المطلقات. فانه لو دخل ولد ذكر مع البنت أو البنات أو أخ مع الأخت أو الأخوات زلن عن فرضهن و لم يكن لهن مع أخيهن إلا ما بقي. بل لو كان في مقامهن ولد أو أولاد او أخ او اخوة لم يكن لهم إلا ما بقي.

فيكشف ذلك عن ان هذا هو الشأن المشروع في مقام هذه الوراثة. و على ذلك جرى ما

رواه المشايخ الثلاثة في الكافي و الفقيه و التهذيب في الصحيح عن الباقر (علیه السلام) قال كان علي (علیه السلام) يقول ان الذي احصى رمل عالج يعلم ان السهام لا تعول على ستة. لو يبصرون وجهها لم تجز ستة انتهى

يعني (علیه السلام) ان كل فريضة تعطى مثل مخرجها و هو ما بنسبتها من الستة فصاحبة الثمن تعطى ثلاثة أرباع الواحد من الستة. و صاحب الربع يعطى واحدا و نصفا من الستة (1) و مراده (علیه السلام) من وجهها هو ما ذكرناه من التقييد للإطلاق في فرائض البنت و البنات و الاخت و الأخوات في صور التزاحم: و

روى الشيخ في التهذيب عن ابن عبدون عن أبي طالب الانباري عن الحسن بن محمد بن أيوب عن عثمان بن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكر عن شعبة عن سماك عن ابى عبيدة السلماني قال كان علي (علیه السلام) على المنبر فقام اليه رجل فقال يا امير المؤمنين رجل مات و ترك ابنتيه و أبوين و زوجة فقال (علیه السلام) صار ثمنها تسعا قال سماك فقلت لعبيدة و كيف ذلكسر

ص: 52


1- لكنا في صور التقسيم السابق حذرا من الكسور جعلنا المخرج لما فيه الثمن اربعة و عشرين ليكون الثمن ثلاثة بلا كسر. و لما فيه الربع اثني عشرة ليكون الربع ثلاثة بلا كسر

قال ان عمر بن الخطاب وقعت في إمارته هذه الفريضة فلم يدر ما يصنع فقال له اصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) أعط هؤلاء فريضتهم للأبوين السدسان و للزوجة الثمن و للبنتين ما يبقى فقال و اين فريضتهما الثلثان فقال علي (علیه السلام) لهما ما يبقى فأبي ذلك عليه عمر و ابن مسعود قال ابو عبيدة و اخبرني جماعة من اصحاب علي (علیه السلام) بعد ذلك في مثلها انه اعطى الزوج الربع مع البنتين و للأبوين السدس و الباقي رد على البنتين و ذلك هو الحق و ان أباه قومنا انتهى

و من الواضح ان

قوله (علیه السلام) صار ثمنها تسعا

خارج مخرج الإنكار و التألم من قسمة العول و هو ان الذي سماه اللّه ثمنا كيف يكون تسعا و كيف يطلق لفظ الثمن في استعمال واحد على جزء من ثمانية و على جزء من تسعة: هذا و اما الأحاديث الواردة في بطلان العول و دخول النقص على البنات و الأخوات عن الأئمة من اهل البيت علي و الباقر و الصادق و الرضا عليهم السلام فهي كثيرة تناهز التواتر أكثرها من الصحيح و على مقتضاها اجماع الإمامية و مذهب ابن عباس و محمد بن الحنفية و حكاه المرتضى في الإنتصار عن عطا بن رياح و داود بن علي الاصفهاني. و في المحلى لابن حزم قال به ابو سليمان و جميع أصحابه يعني داود انتهى و ذهب اليه الناصر جد المرتضى في الناصريات و اختاره ابن حزم في المحلى.

احتجوا للقول بالعول بوجوه- الأول- انه لا بد من النقص عند تزاحم الفرائض.

و دخوله على بعض دون بعض ترجيح من دون مرجح و مقتضى العدل هو إدخاله على الجميع- و يدفعه- ان المقام مقام جعل و تشريع و اتباع الشرع في القسمة و قد أوضحنا انه يمتنع ان يكون في أدلة التشريع و لفظه ما يراد منه دخول النقص على الجميع. اذن فإدخال النقص على الجميع تحكم باطل على الشرع لأعدل. خصوصا إذا علمنا انه لا بد فيه من التقييد لبعض المطلقات. و اما إدخال النقص على البعض فانما هو لترجيح الدليل و تعيينه كما قدمناه عن ابن عباس و ما جاء عن اهل البيت (علیه السلام) و إجماع الإمامية- الثاني- القياس على الحكم بالتقسيط فيما اوصى الإنسان بوصية نافذة بنصف الألف لزيد و نصفها لعمرو و ثلثها لبكر مثلا- و يدفعه- أولا بطلان القياس من أصله. و ثانيا. انه قياس مع الفارق فانا إذا لم نجد في هذه الوصية قرينة على العدول أو التقييد كان قرينة ارادة الموصي بلفظي النصف و الثلث مجازا بنحو اللغز هو الجزء الناتج من التقسيط على نسبة المعاني الحقيقية. و ليس في هذا ما يستلزم الممتنع من الجمع

ص: 53

في الاستعمال الواحد بين المعنى الحقيقي و المعاني المتعددة المتنافية المتباينة و هذا إذا جاز من الناس لا نجوز مثله من القرآن الكريم فضلا عن ان محل الكلام في العول يستلزم امرا ممتنعا في اللغة و هو الجمع بين المعنى الحقيقي و المعاني المتباينة المتنافرة كما شرحناه و لو تمحلنا و جوزناه على الناس في هذل الاحاجي و الالغاز لما جاز على مجد القرآن الكريم في البيان لتمييز السهام- من وجوه القياس- ان المال إذا قصر عن ديون الغرماء يوزع عليهم على نسبة ديونهم- و يدفعه- مع انه قياس ان الفارق جلي. فإن قصور المال لا ينافي ثبوت الدين في الذمة بمقاديره الحقيقية و لم يكن ثبوته مبتنيا على استعمال ممتنع في اللفظ الواحد. و ان توزيع المال على الدين لم يكن في حال يئول الى العلم الإجمالي فضلا عن التفصيلي بالتقييد و خروج البعض من افراد الدين عن الإطلاق الذي في دليل ثبوته و استحقاقه. فما هذا القياس الا من نحو قياس الضد على ضده في جهة المضادة- الثالث- رواية القول بالعول عن علي (علیه السلام)

في رواية عبيدة السلماني بقوله (علیه السلام) صار ثمنها تسعا

- و يدفعه- ما ذكرناه من ظهوره في نفسه في خروجه مخرج الإنكار فضلا عما ذكرناه من تتمة الرواية عن عبيدة و فضلا عن المعلوم المنقول عن أئمة اهل البيت و غيرهم من انه (علیه السلام) كان ينكر على القول بالعول- الرابع- النقض على الحل لمسئلة التزاحم بتقييد بعض المطلقات و تقديم من قدمه اللّه و تأخير من اخره و إدخال النقص على البنات او الأخوات من الأب او الأبوين و ذلك بما إذا كان التزاحم في فرائض من قدمه اللّه كما إذا كان الوراث زوجا و اما و اثنين من كلالة الأم او اكثر فإن المال لا ينقسم على نصف و ثلث و سدسين. و كذا إذا كان مع هؤلاء اخت أو اختان من كلالة الأب أو الأبوين فإن المال يضيق و ان أخرجنا هذه الكلالة من الميراث بالمرة- و يدفعه- ان هاتين الصورتين ممتنعتين في المواريث بحسب ما تقيمه الشيعة من الأدلة على ان الكلالة بقسميها لا ترث مع الأم كما مر بعضه. فلا نقض بما ذكروه و لا تشبث (الأمر التاسع) ارث الزوج و الزوجة في عقد المتعة فإنه خارج عن اطلاق ارث الزوجين على المشهور عند الإمامية و عليه حديثهم الدال على تقييد الإطلاق (الأمر العاشر) خروج الرباع مطلقا و الشجر و البناء عينا لا قيمة عن ارث الزوجة غير ذات الولد بإجماع الإمامية و حديثهم و في ذات الولد خلاف (الأمر الحادي عشر)- الحبوة- و هي لباس الميت و خاتمه و مصحفه و سيفه فان

ص: 54

المشهور عند الامامية انها حبوة يختص بها الأكبر من أولاده الذكور الصلبيين او المنفرد و على ذلك حديثهم. و قيل انها على الاستحباب لتشكيك القائلين به في استفادة الوجوب و الاستحقاق من الأحاديث- هذا و أما الكلام في مواريث الأجداد و الجدات و أبناء الاخوان و الأخوات. و الأعمام و الأخوال و أبنائهم من اولي الأرحام و الأقربين و كذا ميراث الولاء فهو موكول الى علم الفقه و كتبه

سورة النساء (4): الآيات 13 الى 15

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وَ اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)

13 تِلْكَ اي ما ذكر من احكام المواريث حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في العمل بهذه الأحكام على حدودها و ما جاء في السنة في بيانها تفسيرا او تخصيصا او تقييدا يُدْخِلْهُ اللّه جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حال كون المطيعين خالِدِينَ و جرى الجمع على معنى «من» الموصولة فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 14 وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ المذكورة يُدْخِلْهُ اللّه ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ فوق ذلك عَذابٌ مُهِينٌ و جرى افراد الضمائر على لفظ الموصول 15 وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ اي يفعلنها فجاءت الكناية عن الفعل بالإتيان كما جاءت الكناية عن الفعل بالقرب في قوله تعالى الانعام 151 وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ و في سورة الاسراء 32 وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى و الإتيان و القرب على معانيها الحقيقية و الغرض منها الفعل و نحوه بالمعنى الكنائي فهي مثل قوله تعالى في سورتي الأعراف 79 و النمل 45 أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ و في سورة العنكبوت 28 إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ 29 وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ و قد التفت الرازي في تفسيره الى دلالة هذه الكنايات على ان فاعل الفاحشة هو الذي فعلها بإرادته و ذهب إليها من عند نفسه و أتاها بقصده. و اختارها بمجرد طبعه. اي غير مجبور على ذلك بوجه من الوجوه التي يلتجأ فيها الى فرض الكسب. و لكنه قال لا يتم ذلك إلا على قول المعتزلة. و يا ليته أصاب المرمى فقال و هذا مما يدل على قول المعتزلة في عدم الجبر.

و الفاحشة اسم للفعل القبيح و المراد منه في الآية بحسب المعهود و مناسبة المقام هو الزنا. و حكي

ص: 55

عن أبي مسلم الاصفهاني من الجمهور و حكاه الرازي ايضا عن مجاهد ان الفاحشة هنا هي مساحقة النساء و في قوله تعالى وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ هو اللواط. و ذكر الرازي وجوه رده و الدفع عنه بلا تصريح منه بترجيحه و رجحه صاحب المنار و حكى الترجيح عن استاذه بما لا يخرج عما ذكره الرازي و أيده الاردبيلي في زبدة البيان بنحو ذلك. و الكل تخرص سقيم لا يجدي. فقد روي من عدا البخاري من اصحاب الجوامع الست و ذكر في الدر المنثور من غيرهم اثنى عشر ممن أخرجه من كبار المحدثين

عن عبادة ابن الصامت في حديث ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) اوحي اليه و لما سوى عنه الوحي قال (صلی الله علیه و آله) خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا الثيب جلد مائة و رجم بالحجارة و البكر جلد مائة ثم نفي سنة. و اخرج احمد عن سلمة ابن المحيق عن رسول اللّه نحو ذلك.

و روى في الكافي بسنده عن الباقر (علیه السلام) ما ملخصه ان كل سورة النور نزلت بعد سورة النساء قال اللّه تعالى: وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ إلى قوله تعالى سَبِيلًا فالسبيل الذي قال اللّه الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.

و في تفسير البرهان عن العياشي عن جابر عن الباقر جعل السبيل الرجم أو الجلد. و رواه الجزائري في القلائد عن العياشي عن أبي بصير عن الصادق (علیه السلام)

و في مجمع البيان ان النسخ اي بآية النور و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه.

و في الوسائل في رسالة المحكم و المتشابه للمرتضى نقلا من تفسير النعماني باسناده عن إسماعيل بن جابر عن الصادق (علیه السلام) عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السلام في حديث ذكر فيه احكام هذه الآية إلى ان قال فلما قوي الإسلام انزل اللّه الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فنسخت هذه الآية الحبس و الأذى الحديث.

و أما القول بأن السبيل هو التزويج و الاستغناء بالحلال فقد قال في التبيان انه باطل بالإجماع مِنْ نِسائِكُمْ أي من نساء المؤمنين و إن كان الحكم عاما و ذلك لأن المؤمنين حينئذ هم الذين يتلقون احكام الشريعة بالإجراء فحسن لذلك خطابهم بالحكم العام. و دعوى ان المراد نساء الأزواج يبطلها ما ذكرنا روايته من الفريقين من حكم غير المحصنة في الجلد فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً من الرجال مِنْكُمْ أي من المسلمين و ذلك لأجل اجراء الحكم عليهن اي اطلبوا شهادتهم و الظاهر انها على نمط الدعاوي في إقامتها عند الحاكم فَإِنْ شَهِدُوا و ثبت الأمر

ص: 56

فَأَمْسِكُوهُنَّ حبسا فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ أي يأخذهن و يستوفيهن الْمَوْتُ و قد تكلف في الكشاف و تبعه الرازي إذ قدرا حتى يميتهن ملائكة الموت. و قد قدمنا الكلام في معنى التوفي في الجزء الأول ص 33- 37 أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ و يشرع لَهُنَّ سَبِيلًا من غير شريعة الحبس مما هو مؤدب و مقاوم لمادة فساد الزنا. و قد جرى الأمر في كلتا الشريعتين على حكمة التشريع من حيث المسايرة في أول الأمر مع الناس فيما يألفونه في مقام المحافظة على ناموس العفة و ان كان غير واف بالمصلحة المطلوبة في هذا المقام حتى إذا استحكم أمر الدين و ساد الخضوع للشريعة شرع الحكم الموافق للمصلحة العامة و نظام الاجتماع كما نطقت به رواية النعماني و اشارت اليه الغاية في الآية الكريمة. هذا في مقام صون المرأة عن معاودة الزنا و أما ما يعود إلى مقام الردع و التأديب في أول التشريع فهو ما قاله جل شأنه

سورة النساء (4): الآيات 16 الى 17

وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)

16 وَ الَّذانِ أي الزاني و الزانية يَأْتِيانِها أي فاحشة الزنا مِنْكُمْ باعتبار تلقي المسلمين لأحكام الشريعة حينئذ و ان كان عاما أو لعلم اللّه بأن هذه الشريعة قبل نسخها لا يتيسر للمسلمين إجراؤها على غيرهم فَآذُوهُما بما يعتاد بينكم نوعا من الإيذاء في مقام الردع عن الزنا من التوبيخ و الضرب و نحو ذلك فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا أعمالهما ليكون ذلك إمارة على التوبة الحقيقية فَأَعْرِضُوا عَنْهُما من حيث الإيذاء. و لا يتقيد الاعراض بتوبتهما معا. بل يعرض عن الإيذاء لمن عرفت توبته منهما بإصلاح عمله. كما تقتضيه حكمة التوبة إِنَّ اللَّهَ كانَ من الأزل و إلى الأبد تَوَّاباً على التائبين رَحِيماً بعباده لا يريد إلا صلاحهم. و لكن لا يغتر المغترون باسم التوبة الجارية على حكمة الرحمة و الإصلاح و الاستصلاح بل التوبة حقيقة هي التي تجري عليها رحمة اللّه و حكمته. فما كل من قال تبت تاب اللّه عليه كما كتب بلطفه و غناه على نفسه الرحمة بل 17 إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ بمقتضى رحمته و لطفه و حكمته لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ منهم. و ذكرت الجهالة للتوضيح و التوبيخ فان كل عمل للسوء إنما يكون بجهالة و عمى و لو أبصر الإنسان وجه رشده و عرف ببصيرته ما فيه صلاحه لما عمل السوء و لما استولت عليه النفس الأمارة و غواية

ص: 57

إبليس بفلتات الشهوة و الغضب و التعصيب الذميم و سوء الأخلاق و حب العاجل و التغاضي عن وباله أعاذنا اللّه من ذلك و أعاننا على أنفسنا بلطفه و توفيقه ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ عهد قَرِيبٍ بالنسبة إلى ما كانوا يرونه بعيدا من حضور آجالهم و انقطاع آمالهم من زهرة الحياة الدنيا و حينما تموت شهواتهم و تسقط دواعي المعصية كما قال بعضهم لما سئل عن الزنا عند ضعفه بالهرم «تركني و ما تركته» بل التوبة إنما هي في الحال التي يراغمون بها نزعات النفس الأمارة و غواية إبليس و ينيبون إلى اللّه إقلاعا عن المعصية و ندما على ما فرطوا فيه و رغبة في الأعمال الصالحة في حالهم و مستقبلهم و طلبا لكمالهم و اندماجهم في زمرة عباد اللّه الصالحين بنزوعهم إلى حقيقة التوبة و شوقهم إلى رضاء اللّه عنهم، و عفوه عما سلف منهم مما عرفوا قبحه و ندموا على ارتكابه. فما كل مظهر للتوبة تائب و لا كل تارك للقبيح نادم. بل كما قيل:-

إذا انبجست دموع من عيون تبين من بكى ممن تباكى

أو ليس من حقيقة التوبة ان يخرج التائب جهد مقدوره مما لزمه في معاصيه السابقة من حقوق الناس و حقوق اللّه و يستشعر قلبه التوبة و الندم فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لأنهم تابوا على حقيقة التوبة وَ كانَ اللَّهُ منذ الأزل، و لا يزال عَلِيماً بمن تاب حق التوبة و من تظاهر بصورتها المموّهة حَكِيماً في دعوته إلى التوبة و وعده بأن يتوب على من أناب اليه و هو ارحم الراحمين

سورة النساء (4): الآيات 18 الى 19

وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)

18 وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ التي قد أعدتها الحكمة في الإصلاح و الرحمة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ مصرين عليها بجرأتهم على اللّه و متمادين في غيهم حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ و انقطعت عنه دواعي الهوى و الضلال قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ بما عصوا عَذاباً أَلِيماً 19 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و دانوا باتباع شريعة اللّه لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ و تعدوهن ارثا لكم كما ترثون الأموال و تتسلطون عليهن بدعوى انتقال حق الزوجية إليكم بالوراثة كَرْهاً بفتح الكاف اكراها لهن بدون

ص: 58

تزوج جديد برضاهن. «و كرها» نائب عن المفعول المطلق المستفاد من «ترثوا» بمعنى التسلط عليهم بزعم الإرث كرها.

في تفسير القمي من رواية أبي الجارود عن الباقر (علیه السلام) كان في قبائل العرب إذا مات حميم الرجل و له امرأة القى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله

و أن الآية نزلت في هذا الشأن. و في الدر المنثور مما أخرجه البخاري و غيره من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه و زاد ان شاء بعضهم تزوجها و ان شاؤوا زوجوها و ان شاؤا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها انتهى و هذه الزيادة لا تنطبق على الآية فان هذا المعنى لم يكن للزوج و لا يورث منه و ان كان ذلك للأهل في بدع الجاهلية و مما أخرجه ابو داود من طريق عكرمة ايضا عن ابن عباس كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت او تؤدي اليه صداقها انتهى و في اقتصار الرواية على العضل مخالفة لجميع الروايات و خروج مغزى الآية. و مما أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس ايضا كان الرجل إذا مات و ترك جارية القى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فان كانت جميلة تزوجها و ان كانت ذميمة حبسها حتى تموت فيرثها و هي قوله و لا تعضلوهن الآية و قال يعني الرجل تكون له المرأة و هو كاره لصحبتها و لها عليه مهر فيضربها لتفتدي انتهى و في هذه الرواية من التدافع ما لا يخفى. فالروايات عن ابن عباس مع كونها متعارضة بعيدة المجرى على سياق الآية الكريمة خصوصا إذا ضممناها الى سائر ما رواه في الدر المنثور هنا وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ اي لا تعضلوا نسائكم لا الموروثات كرها و ذلك لعدم المناسبة فيما يأتي من احكام الآية للموروثات و كذا قوله تعالى لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من الصداق فإن وارث النكاح بتشريع الجاهلية لم يؤتها شيئا. و القرآن الكريم في مقام نهيه و كرامة حكمته لا يسمي إيتاء اقربائهم للصداق إيتاء منهم فيثير منهم غبار المغالطات في بدعتهم. و لو تنزلنا فما ذا يقال في قوله تعالى وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فهل يأمر اللّه بمعاشرة موروثة النكاح ببدعة الجاهلية. و عضل المرأة هنا حبس الزوج لها على نكاحه، و التضييق عليها عند كراهته لها لتفتدي منه ببعض ما أتاها من الصداق، ليطلقها. و قد بقي عند الأوباش بقية من هذه العادة الوخيمة فنهى اللّه تعالى عن هذا الظلم. نعم إذا كانت الكراهة منها لا من الزوج جاز

ص: 59

ان يقبل الزوج منها الفداء من دون عضل كما مر في الخلع في الجزء الاول ص 206، و اما هنا فقد استثنى من حرمة العضل و أخذ شي ء منهن بقوله تعالى إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بكسر الياء المثناة اي موضحة لفحشائها و

في تفسير البرهان عن الشيباني ان الفاحشة هي الزنا و هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام)

و في مختصر التبيان و الاولى حملها على كل معصية و في مجمع البيان و هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام)

أقول و لم اعثر على شي ء من الروايتين لكن صدق الفاحشة على الزنا هو المتيقن في المقام و من المعاصي ما لا يسمى فاحشة و الإطلاق انما يجري مع صدق اسمها و شمولها لمحض النشوز بعيد او للمساحقة و التهتك في التبرج و قول الفحش قريب في المقام. و المرجع في موارد الشك هو عموم هذا النهي عن العضل و هذا الأخذ لان الشبهة في الخاص مفهومية وَ عاشِرُوهُنَّ اي غير من استثني عضلها من الزوجات بِالْمَعْرُوفِ و هو معروف فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لبعض الأمور من خلقتهن و غير ذلك فحاسبوا أنفسكم في هذه الكراهة فربما تزول إذا جوزتم ان يكون في هذه المرأة خير يهون عنده ما كرهتموها لأجله بأن يجعل اللّه فيها الخير و يبارك في نسلها و يبارك لكم بسببها فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً يرغب فيه و يرغب في ذلك الشي ء لأجل رجائه فيه.

فأمسكوا من جماح نفوسكم في الكراهة و روضوها على الأخلاق الفاضلة و حسن المعاشرة مع المؤمنات و تفكروا في عواقب الأمور فكم شوهد من مبغوضات النساء من صار منهن النسل الطيب النافع و من كانت هي المواسية و النافعة عند الشدائد و المرض و الشيخوخة نفعا لا يوازيه شي ء من احسان الرجل في الرفاهية و كم و كم ينعكس الأمر في المحبوبات- و هناك ايضا مورد يدعو الإنسان لأن يحمل زوجته بأنواع الوسائل على ان ترد عليه شيئا مما أعطاها من المهر. و ذلك إذا أراد ان يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى فقال جل شأنه في الزجر عن ذلك و التوبيخ عليه

سورة النساء (4): آية 20

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20)

20 وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً مبالغة في كثرة ما يعطى على خلاف العادة لأجل التأكيد في الزجر لئلا يقال بقي عندها الشي ء

ص: 60

الكثير مما أعطيتها من مالي صداقا. و قد مر تفسير القنطار في الجزء الأول ص 262 فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ انكار على أخذهم لذلك الشي ء من المهر او بدله بُهْتاناً الذي رأيته في التفاسير هو تفسير البهتان بالكذب الذي يواجه به على سبيل المكابرة. و تكلفوا في تفسير الآية حتى ان الرازي قال و روي ان الرجل منهم إذا مال الى التزوج بامرأة أخرى رمى امرأته بالفاحشة بهتانا حتى يلجئها الى الافتداء منه فجعل من ذلك تفسير الآية و تبعه على ذلك ابو السعود و صاحب المنار في تفسيره لكني لم أجد أثرا لما اعتمدوا عليه من الحكاية. و أيسر المتكلفين تكلفا من قال اي ظلما كالظلم بالبهتان او بطلانا كبطلان البهتان و قال بعضهم مباهتين و آثمين و لكنهم غفلوا مع التكلف عن ان وصف الإثم بالمبين يأبى ما ذكروه من قولهم آثمين لكن في التبيان و مجمع البيان و الكشاف و لسان العرب و عن أبي إسحاق و في النهاية و المصباح ان البهتان مأخوذ من البهت و هو التحير و أن أصله ذلك و قال بعض من ذكرناهم ان الألف و النون زائدتان و عليه تكون تسمية الكذب بالمواجهة و المكابرة بهتانا لأجل تحييره اذن فالأولى في التفسير ان يكون المعنى أ تأخذونه تحييرا للمرأة لأنها لا تسمح في هذا المقام الا لحيرتها في أمرها مع هذا الزوج وَ إِثْماً مُبِيناً و موضحا لكونه آثما فيكون من نحو قتله ظلما و عدوانا مبينا لعدوانيته. و بذلك تعرف الخطأ ممن فسر بقوله مباهتين و آثمين

سورة النساء (4): الآيات 21 الى 22

وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22)

21 وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ و هو مهر بإزاء الزوجية و الدخول وَ الحال قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ يقال افضى اليه بسره و في القاموس افضى الى الأرض بيده إذا مسها في سجوده. و المحصل من موارد الاستعمال ان الإفضاء هو الاتصال بركون و نحو ملابسته و هو كناية عن الحالات التي تكون بين الزوجين من حيث ارتباط الزوجية و تمتعها و رفع الحشمة. و الآية جارية على الغالب من الدخول فلا تنافي ثبوت المهر كله بمجرد الخلوة لو ثبت من السنة ذلك.

و هذه الآية لا دخل لها بآية الخلع التي مرت في سورة البقرة لأن الكراهة في الخلع من المرأة و مورد هذه الآية ارادة الزوج للاستبدال و تحييره للمرأة فدعوى نسخ أحدهما للأخرى من الوهم وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً بعقد الزواج على السنة و احكام الشريعة في استحقاق المهر و المعاشرة بالمعروف و غير ذلك 22 وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ و ان علوا من ناحية الأب

ص: 61

او الأم لصدق اسم الأب و منه قوله تعالى في سورة الأعراف 26 كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ و في سورتي الصافات 16 و الواقعة 47 أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ و شواهده في الشعر و النثر كثيرة. و إنما خص في المواريث بالأب الأدنى لمقام التثنية مع الأم في قوله تعالى «وَ لِأَبَوَيْهِ» و لو أريد ما يشمل الجد لقيل «و لآبائه» إذ يمكن ان يجتمع له بهذا المعنى آباء و أمهات متعددون في طبقة واحدة كجديه و جدتيه من ناحيتي أبيه و أمه و يزيد عددهم في الطبقة الأخرى و على ذلك يبتني الإجماع في المواريث على الاختصاص بالأب الأدنى. و النكاح على المشهور المعروف و هو علقة الزواج و يقال ايضا على سببها و هو العقد المبيح للوطء دخل العاقد او لم يدخل و على ذلك اتفاق المسلمين في المسألة كما

ورد عليه من الحديث صحيحة الكافي عن الباقر (علیه السلام) في شأن الكندية و العامرية اللتين تزوجهما رسول اللّه و طلقهما قبل الدخول.

و في الدر المنثور مما أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية يقول كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها او لم يدخل فهي عليك حرام. و يكون التحريم لموطوءة الأب بملك اليمين مستفادا مما يدل عليه من السنة و الإجماع. و الظاهر ان «ما» موصولة كناية عن القسم او النوع ان لا تنكحوا مصاديق هذا القسم مِنَ النِّساءِ مثل قوله تعالى أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ. وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ و قد ذكر لهذا الاستثناء وجوه أوجهها و أظهرها انه لما كان النهي لا يتناول الا العلقة المتجددة في المستقبل فيقضي بفسادها و فساد سببها و لا يتناول العلقة الموجودة بسببها الكائن قبل النهي أراد اللّه ان يبين ان هذه العلقة في الفساد و المبغوضية كالعلقة المنهي عنها في المستقبل فلا ينبغي ان يكون لها وجود الا ما قد سلف من موضوعه من النساء في الجاهلية أو علقة النكاح و مضى بموت او طلاق. و ذلك بان تكون «الا» صفة للموصول او لعلقة النكاح المدلول عليها بالنهي او استثنائية محصل مفادها هو انه لا اعتبار لهذه العلقة في النسب و آثار الزوجية الا فيما مضى و سلف بالاعتبار الجاهلي لأن لكل قوم نكاحا يجعلونه فيما عندهم قسيما للزنا و يرتب الشارع آثاره على تناسله لكن هذا النكاح إِنَّهُ كانَ من حينه و فيما سلف عند اللّه فاحِشَةً وَ مَقْتاً مبالغة في كونه ممقوتا مثل قوله تعالى في سورة البقرة 214 كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ ساءَ

ص: 62

فيما مضى سَبِيلًا اي سبيل الذين اتخذوه به نكاحا في تشريعهم. و ربما كان هذا الذي ذكرناه هو المراد للسيد الرضي فيما اختاره في حقائق التأويل (1)

سورة النساء (4): آية 23

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

23 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ من المعلوم من سياق القرآن الكريم ان التحريم إنما هو من حيث النكاح و التمتع بالنساء من وطء و نحوه مضافا الى ان تعلق التحريم بكل موضوع ينظر الى الأثر المطلوب منه و هو في النساء ما ذكرناه و هذا ظاهر. و الأم كل أنثى ولدتك و لو بوسائط و على ذلك اجماع المسلمين و قد ذكرنا وجه اختصاص الأب و الأم في المواريث بالقريبين وَ بَناتُكُمْ و ان نزلن لشمول البنت لذلك. و قد كثر في الحديث في شأن النساء (بنات آدم و بنات حواء) و الإجماع على ذلك ايضا. و لو علم ان البنت المولودة من الزنا هي بنت الرجل الخاص حرمت عليه لصدق البنت و عموم الآية. و ينسب الى الشافعي و أصحابه انها لا تحرم تشبثا

بقول النبي (صلی الله علیه و آله) «الولد للفراش و للعاهر الحجر»

و ان ولد الزنا لا يرث كما ذكره ابن الروزبهان الشافعي في رده لنهج الحق للعلامة الحلي. و لكنه تشبث في غير محله لأنه ان كان

بقوله (صلی الله علیه و آله) الولد للفراش

فهو ظاهر المنع لان هذه الجملة مسوقة لمورد الشك جعل الحكم للفراش الذي هو امارة على التولد من صاحب الفراش و محل الكلام فيما هو معلوم الولادة من الزاني فلا يدخل في حكم هذه الامارة كما لا يدخل فيه ما يمتنع بحسب العادة ان يكون للفراش و ان كان

بقوله (صلی الله علیه و آله) و للعاهر الحجر

يعنى ان العاهر لا يلحق به ولد العهر قلنا ان غاية ما يفهم منه انما هو النفي لما يعود للمنتسبين من فوائد النسب الشرعية لا نفي الحقيقة المعلومة و لا جميع الآثار فان الام عاهر و يحرم عليها ولدها من الزنا بإجماع المسلمين. و في التذكرة في تحريم البنت المذكورة قال عند علمائنا اجمع كما يحكى نقل الإجماع عن الإيضاح و غيره وَ أَخَواتُكُمْ من الأبوين او من أحدهما وَ عَمَّاتُكُمْ و ان علون بان كن عمات الأب أو الأم او احد الأجداد او احدى الجدات. و العمة كل

ص: 63


1- روي في الدر المنثور و غيره ان الآية نزلت في كبشة زوجة أبي قيس بن الاسلت لما مات زوجها و أراد ابنه قيس و في رواية محصن أن يتزوجها بإرث الجاهلية فنزلت هذه الاية. و عن عكرمة انه ذكر جماعة خلفوا آبائهم على نسائهم. و ذكر في حقائق التأويل ان منهم عمرو بن امية خلف أباه امية على زوجته آمنة بنت ابان من هوازن فأولدها أبا معيط جد الوليد بن عقبه. و ذكرهم الواحدي ايضا في اسباب النزول. و ذكروا ان الذي يولد من هذا النكاح يسمى مقتيا [.....]

اخت لرجل تنتسب اليه بالولادة منه وَ خالاتُكُمْ و ان علون. و الخالة كل أخت لأنثى تنتسب إليها بالولادة منها وَ بَناتُ الْأَخِ و ان نزلن سواء كان أخا من الأبوين او من أحدهما وَ بَناتُ الْأُخْتِ كذلك وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ اي من تسمونهن بالأمهات من حيث انهن أرضعنكم كما كان متداولا عند العرب. فالآية اناطت التحريم بعنوان الأم و التسمية بذلك من جهة الرضاعة فقوله تعالى اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ صفة تابعة مبينة لجهة التسمية بالأم. و فائدتها في الكلام موقوفة على صدق عنوان الام و يدور الإطلاق و شمول الحكم مدار التسمية و تحقق عنوان الأم اذن فلا وقع للتشبث للإطلاق و عموم التسمية بكفاية الرضعة و الرضعتين و على هذا جرى رد الفخر الرازي في تفسيره لأبي بكر الرازي في تشبثه بإطلاق الرضاع في «أرضعنكم» للتحريم بمسمى الرضاع:

ففي جامع أبي داود بسنده عن ابن مسعود عن النبي «ص» لا رضاع الا ما شد العظم و أنبت اللحم و في سند آخر أنشز العظم

اي أعلاه بالنمو و استفاضت رواية ذلك من طرق الشيعة و أكثرها عن الباقر «ع» و الصادق و الكاظم «ع» كما أحصاه في الوسائل في أوائل أبواب الرضاع. و من هذا الباب ما

رواه احمد و البخاري و مسلم و ابو داود و النسائي عن عائشة ان رسول اللّه رأى عندها رجلا فغضب فقالت له انه اخي من الرضاعة فقال (صلی الله علیه و آله) انظرن من إخوانكن فانما الرضاعة من المجاعة.

و في رواية مسلم انظرن من اخوتكن من الرضاعة فانما الرضاعة من المجاعة. انتهى

و هو ظاهر في انه ينبغي ان ينظرن من تحقق له بكثرة الرضاع عنوان الاخوة بحسب متعارف الناس لا بمجرد الرضاع الذي يكون من مجاعة الطفل و اسعاف المرضعة باشباعه اتفاقا. و نحوه ما

رواه الترمذي و صححه عن ام سلمة عنه «ص» لا يحرم من الرضاع الا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام. و كذا ما رواه ابن حبان عن ابن الزبير عنه «ص»

و اخرج احمد و مسلم و الاربعة عن عائشة. و النسائي و ابن ماجه عن الزبير عنه «ص» لا تحرم المصة و لا المصتان.

و اخرج احمد و مسلم و النسائي و ابن ماجه عن ام الفضل عنه «ص» لا تحرم ألاملاجة و لا الأملاجتان

و في كنز العمال و مختصره عن الطبراني بسنده عن المغيرة عنه «ص» لا تحرم الفيقة.

و عن ابن أبي شيبة و جامع عبد الرزاق عن المغيرة عنه (صلی الله علیه و آله) قال لا تحرم الفيقة قيل و ما الفيقة قال المرأة تلد فيحصر لبنها فترضعه طفل جارتها المرة و المرتين

- نعم قد تخفى أول مرتبة يتحقق بها صدق اسم الام و الاخت

ص: 64

مثلا بانبات اللحم و شدة العظم فجعل لذلك في الشريعة امارة تحدده و المعروف عند الإمامية انه رضاع يوم و ليلة من امرأة واحدة او خمسة عشر تامة لا يفصل بينها برضاع من امرأة اخرى و يشترط ان يكون هذا الرضاع في الحولين كما تقدم من رواية الترمذي عن ام سلمة عنه (صلی الله علیه و آله)

و عن ابن عدي و الدارقطني و البيهقي بأسانيدهم عن ابن عباس عنه (صلی الله علیه و آله) لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين

و عن ابن عساكر عن علي (علیه السلام) عنه (صلی الله علیه و آله) لا رضاع بعد فطام و رواه في الكافي و الفقيه و الأمالي في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)

و ذكر في الوسائل في الباب الخامس من الرضاع بقية الأحاديث في ذلك. و الظاهر انه لم يعرف الخلاف في ذلك إلا من عائشة. و اشترط الإمامية ان يكون اللبن لفحل واحد و عليه إجماعهم و حديثهم وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ و الاعتماد على إطلاقه يتوقف ايضا على تحقق عنوان الاخوة عند العرف و الرجوع إلى الإمارات المجعولة بالشروط المذكورة. و مما تحصل به الاخوة ما إذا ارتضع كل من الرضيعين بالمقدار المؤثر في التحريم من امرأة و كلتا المرأتين لرجل واحد كما عليه اجماع الإمامية و حديثهم و عليه رواية ابن عباس كما

في كنز العمال و مختصره عن جامع عبد الرزاق سئل عن الرجل تزوج امرأتين فأرضعت الواحدة جارية و الاخرى غلاما هل يتزوج الغلام الجارية قال لا تحل له اللقاح واحد.

و يشترط عند الامامية ان يكون اللبن عن ولادة من نكاح صحيح و عليه إجماعهم و حديثهم و عليه ينزل اطلاق الآية و لعلها منصرفة عن غيره هذا و قد تكفلت السنة الشريفة بتكملة بيان القرآن او التصريح بما لوح اليه في الآية بالإشارة بعنواني الام و الأخوات في زمرة العناوين المحرمة في النسب كما في

قوله (صلی الله علیه و آله) يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. كما رواه الفقيه في الصحيح عن الباقر عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و في التهذيب في الصحيح عن الصادق عنه (صلی الله علیه و آله). و أخرجه الترمذي عن علي عنه (صلی الله علیه و آله).

و اخرج نحوه احمد و اصحاب الجوامع الست عن عائشة عنه (صلی الله علیه و آله). و احمد و مسلم و النسائي و ابن ماجة عن ابن عباس عنه (صلی الله علیه و آله)

- فكل عنوان يحصل بسبب الرضاع و هو محرم في النسب يكون محرما سواء كان بسيطا كعنواني الأم و الاخت او مركبا بالإضافة كعنوان بنات الأخ و نحوه من العناوين المذكورة في المحرمات في الآية. و لا فرق بين ان يكون كلا عنواني

ص: 65

المضاف و المضاف اليه من الرضاعة كالبنت الرضاعية للأخ الرضاعي او كان احد العنوانين كما رواه الفريقان في امتناع النبي (صلی الله علیه و آله) من تزوج ابنة حمزة النسبية لأن حمزة كان أخاه من الرضاعة. و بسط الكلام في هذا المقام موكول إلى كتب الفقه وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ سواء دخل بها ام لم يدخل لإطلاق النساء. و على ذلك اجماع الإمامية و لا يضر فيه ما يحكى من خلاف ابن أبي عقيل. و قد استفاض من موثقة غياث بن ابراهيم و معتبرة اسحق ابن عمار عن الصادق عن الباقر عليهما السلام و رواية العياشي عن أبي حمزة عن الباقر و صحيحة منصور بن حازم ان عليا امير المؤمنين (علیه السلام) منع التزوج بأم الزوجة و ان لم يدخل بها ورد على بن مسعود في فتياه في الجوار و احتج عليه بالإطلاق

بقوله عليه السلام «إن هذه مستثناة»

يعني مسألة الربائب «و هذه مرسلة» يعني مسألة أمهات النساء و

قال (علیه السلام) في معتبرة اسحق «و هذه مبهمة فحرموا و أبهموا ما أبهم اللّه» و نحوه في رواية أبي حمزة.

و بذلك يسقط ما رواه في كنز العمال و مختصره عن علي (علیه السلام) مما يوهم ظاهره خلاف ذلك و كذا ما ذكر ابن رشد في بدايته انه مروي عن علي و ابن عباس من طرق ضعيفة. هذا و الذي قال بمساواة ام الزوجة للربيبة يذكر عنه في تشبثه و جهان- الاول- ان قوله تعالى مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ إلى آخره راجع إلى قوله تعالى وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ و قوله تعالى وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ انتهى. و هذا الوجه باطل لأن رجوعه إلى أمهات نسائكم يقتضي أن تكون «من» فيه للتبين. و رجوعه إلى الربائب يقتضي ان تكون فيه للابتداء و لا يصح ان يستعمل اللفظ الواحد في كل واحد من المعنيين المختلفين كما اعترف به في الكشاف و تبعه عليه الفخر الرازي في تفسيره. و اما التصحيح لذلك بجعل «من» للاتصال كما في قوله تعالى الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. و قولهم لست منك و لست مني. و ما انا من دد و لا دد مني. فإنما هو خيال فاسد ينتج بعمومه امرا فاسدا. لأنه لا بد من أن يراد من الاتصال المزعوم معناه العام الذي يشمل بعمومه اتصال الأم و اتصال الربيبة فيصدق التحريم حينئذ على أم الزوجة التي لم يدخل بها إذا كانت متصلة بأي زوجة مدخول بها و ان كانت أختها المطلقة او بنت عمها مثلا و هم لا يرضون بذلك و يصدق التحريم ايضا على الربيبة التي لم يدخل بأمها إذا كانت متصلة

ص: 66

باي زوجة مدخول بها و ان كانت أختها المطلقة او بنت عمها مثلا و هو مخالف لإجماع المسلمين.

اذن فإيراد هذا القيد العام الذي لا يراد عمومه لا يكون في مقام التحديد و التقييد الا من المعاياة و القصور في التعبير و حاشا شأن القرآن الكريم من ذلك فلا مناص في مستقيم الكلام عن كونه قيدا للربائب- الوجه الثاني- ان يكون قوله تعالى اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ صفة واحدة لموصوفين و هما «نسائكم» من قوله تعالى أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ و «نسائكم» من قوله تعالى مِنْ نِسائِكُمْ- و يرده ما في مجمع البيان عن الزجاج من ان الجرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا لا يجوّز النحويون مررت بنسائك و هربت من نساء زيد الظريفات على ان تكون لهؤلاء النساء و هؤلاء النساء. أقول و نحوه ما عن سيبويه من اعتباره اتحاد وجه الجر في الموصوفين. و يعرف هذا كله مما نبه عليه الشيخ الرضي في شرح الكافية في بحث الصفة من ان سيبويه و الخليل و جمهور النحويين يشترطون في جمع الموصوفين بصفة واحدة كونهما يشتركان في اسم واحد خاص كالفاعل و المفعول و المبتدأ و الخبر و المضاف اليه فلا تقول مثلا هذا رجل و في الدار آخر كريمان لأن الاول مبتدأ و الثاني خبر و لم ينقل الخلاف إلا عن الأخفش و الجرمي. بل زاد الزجاج و المبرد و كثير من المتأخرين على الجمهور فاعتبروا كون العاملين بالموصوفين بمعنى واحد نحو جلس أخوك و قعد أبوك الكريمان. فلا يكفي مجرد كون الموصوفين يشتركان في تسميتهما بالفاعل. اذن فلا يجوز بحكم جمهور النحويين و الذوق المستقيم و مجد القرآن الكريم في أسلوبه ان تكون «اللائي» في الآية صفة لنسائكم في كلا قوليه تعالى أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ. و مِنْ نِسائِكُمْ. فإن الأولى مضاف اليه و الثانية مجرورة بكلمة «من» فلم يشتركا في اسم واحد و لم يتحد وجه الجر. ودع عنك ما زاده المبرد و الزجاج و الكثير من المتأخرين. و لعل الكشاف لم ينعرض لهذا الوجه لوضوح ما ذكرناه في علم النحو (تكملة) الظاهر اجماع المسلمين على ان الموطوءة بالملك يحرم وطء أمها و بنتها على الواطئ حتى بالملك نعم لا يمنع ذلك من مجرد تملكها. و على ذلك من طريق الإمامية أحاديث كثيرة أحصاها في الوسائل في الحادي و العشرين من أبواب ما يحرم بالمصاهرة وَ رَبائِبُكُمُ جمع ربيبة من التربية و هي بنت الزوجة من غير الزوج و سميت بذلك لأنها في الغالب معرض

ص: 67

لتربية الزوج لها في كفالته. كما

يروى في الحديث لا صدقة في الإبل القتوبة

اي المعدة لشد القتب عليها و هي الإبل العوامل. و أبغني ناقة حلبانة ركبانة اي معدة للحلب و الركوب صالحة فيهما و معرضا لهما (1) اللَّاتِي صفة للربائب فِي حُجُورِكُمْ الظاهر ان الجار و المجرور صلة للموصول اي متعلقان بكون عام. و الحجور جمع حجر بفتح الحاء و كسرها و هو في الأصل حضن الإنسان. و قولهم اي في تربيته او كنفه او حمايته تفسير بالمعنى المجازي او المكني عنه مِنْ نِسائِكُمُ سواء كن منهن ابتداء او بواسطة الولادة منهن. و ما إدخال المزني بها في قوله تعالى مِنْ نِسائِكُمُ الا من الخبط اللَّاتِي صفة للنساء اللاتي منهن الربائب كما قدمناه دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الجملة صلة للموصول. و الدخول بهن يتحقق بالوطء بعد العقد. و في مختصر التبيان و قيل. الجماع و كذا ما يجري مجراه من المسيس و التجريد و هو مذهبنا و الظاهر ارادة ما كان بشهوة كما صرح به في المبسوط و قال و هو الصحيح و عليه اكثر اهل العلم. و عن الخلاف استدل عليه بإجماع الامامية و بالاخبار و ما روي من طريق الجمهور من

قول الرسول صلى اللّه عليه و آله من كشف قناع امرأة حرم عليه أمها و بنتها.

و ربما يقال ان ذلك هو المعنى المكني عنه بالدخول بهن فإن الغالب على من يريد التلذذ بزوجته ان يدخل بها مخدعا او بيتا كما يقال بنى بها و بنى عليها. نعم الوطء هو القدر المتيقن من المعنى المكني عنه و يشهد للعموم و يدل عليه

صحيحة الكافي و التهذيبين عن محمد بن مسلم عن أحدهما (علیه السلام) في رجل تزوج امرأة فنظر الى رأسها و الى بعض جسدها أ يتزوج ابنتها قال (علیه السلام) لا إذا رأى منها ما يحرم على غيره فليس له ان يتزوج ابنتها و صحيحة التهذيبين عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) كما رواها في الكافي و التهذيبين في معتبرة أبي الربيع عن الصادق (علیه السلام)

و لا تعارضهما صحيحة العيص عن الصادق (علیه السلام) لأن السؤال فيها عن رجل باشر امرأة و قبل و لم يفض إليها ثم تزوج ابنتها

فقال (علیه السلام) إذا لم يكن افضى الى الأم فلا باس انتهى

و ذلك لجواز ورودها سؤالا و جوابا في الاجنبيةب.

ص: 68


1- و شاة حلوب اي معدة لأن تحلب و معرض للحلب. كما يقال ركوب لما هو معرض للركب من الحيوانات و مطية للدابة التي هي معرض للجد في السير او لأن يركب مطاها اي ظهرها. و هذا و نحوه استعمال شائع عند العرب.

و المباشرة و التقبيل المحرّمين لا الزوجة كما أوردها العلامة في التذكرة في هذا المعنى- و هناك فروع أخر مأخذها من السنة فهي موكولة الى كتب الفقه- و لا يخفى ان القسم الغالب من بنات الزوجات من يكون اختلاطهن مع ازواج الأمهات كاختلاط البنات مع آبائهن مع ان محرميتهن لم يتقرر احترامها في النفوس كمحرمية البنات فالحكمة التي اقتضت تشريع محرّميتهن اقتضت ايضا ان يقرن ذلك بما ينبه النفوس على جهة المحرمية و يثبتها على احترامها و الاشمئزاز من طموح النظر إليهن ببوادر الشهوة و الميل الى النكاح فلأجل ذلك ذكرت الصفة الغالبة التي تمثل بنت الزوجة بمثال البنت و هي التربية في الحجر كتربية البنات و ان كانت الحكمة في تثبيت ذلك تقتضي طرد الحكم في مطلق المدخول بأمها لتثبيت علقة المحرمية على حكمتها من أول الدخول و علقة الاختلاط. و لذا بعد ذكر المنفر و مثبت علقة المحرمية جعل القرآن هذا الحكم دائرا مدار الدخول و يكفي في ذلك قوله تعالى اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فضلا عما قد يستفاد من قيد الحيثية كتقييد التربية في الحجر من حيث انها بنت الزوجة فيظهر الغرض من قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ و لا اثم في التزوج بهن و لا ضيق بالنهي عن نكاحهن و تنحصر الفائدة بالتحقيق و التأكيد لدوران التحريم و عدمه مدار الدخول بالأم و عدمه: و لم يعرف تقييد التحريم بالتربية في الحجر الا من داود الظاهري و اتباعه.

و روي من طريق عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن مالك بن أوس بن الحدثان ان عليا (علیه السلام) أباح له ان يتزوج بابنة امرأته التي دخل بها و ولدت له ثم ماتت لأن البنت لم يربها في حجره و هذه الرواية خطأ فإن المعروف من مذهب اهل البيت عدم اعتبار التربية في الحجر و قد

روي مسندا من طريقي اسحق بن عمار كما في التهذيبين و تفسير العياشي عن الصادق عن الباقر (علیه السلام) ان عليا كان يقول ان الربائب عليكم حرام من الأم اللاتي دخلتم بهن هن في الحجور و غير الحجور سواء. و في التهذيبين ايضا عن غياث بن ابراهيم عن الصادق عن الباقر نحوه.

و في الفقيه قال علي (علیه السلام) و ذكر نحوه

و سندكما في آخر الكتاب من الحسن كالصحيح. و هل ما روي عن مالك عن علي (علیه السلام) الا كما ذكرنا قبلا من ان عليا (علیه السلام) أجاز التزويج بأم الزوجة إذا لم يدخل ببنتها و قد ذكرنا استفاضة الرواية من اهل البيت عنه (علیه السلام) ان ام الزوجة مطلقا

ص: 69

حرام. و في النفس شي ء كفانا ان نبوح به ما صرح به مسلم في أوائل جامعه في باب النهي عن الرواية عن الضعفاء و الكذابين فأسند عن ابى مليكة عن ابن عباس قال دعا بقضاء علي (علیه السلام) فجعل يكتب منه أشياء و يمر به الشي ء فيقول و اللّه ما قضى بهذا علي. و أسند عن طاوس ان ابن عباس أتي بكتاب فيه قضاء علي (علیه السلام) فمحاه الا قدر و أشار سفيان بن عيينة بذراعه. و أسند ايضا عن المغيرة قوله لم يكن يصدق على علي في الحديث عنه الا من اصحاب عبد اللّه بن مسعود وَ حرمت عليكم ايضا حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ و ان نزلوا و في التبيان و مجمع البيان و ما رأيته من كتب اللغة ان الحليلة هي الزوجة. و الزوج حليل و هو المتبادر من موارد الاستعمال من الحديث و الشعر و النثر. نعم اتفق المسلمون ان مملوكة الابن إذا وطأها حرمت على أبيه و ان علا و اما إذا جردها او مسها او قبلها فالمشهور عند الامامية انها تحرم على أبيه و ان علا و لعله اجماع قبل ابن إدريس و عليه صحيحتا ابن سنان عن الصادق (علیه السلام) و ابن بزيع عن الرضا (علیه السلام) و مرسلة يونس عن الصادق (علیه السلام) و هو المحكي عن ابن عمر و مسروق و القاسم و الحسن و مكحول و النخعي و الشعبي و أبي ثور و الاوزاعي و مالك و أبي حنيفة واحد قولي الشافعي و احدى الروايتين عن احمد، و اما مجرد ملك الابن فلا يحرمها. نعم يظهر من الفخر الرازي في تفسيره من ذكر الخلاف بين أبي حنيفة و الشافعي ان الشافعي يحرمها. و قد تحذلق الرازي لادخالها في مسمى الحليلة و جعل النفي لتسميتها بالحليلة من باب ما لا يقبل من الشهادة على النفي لا من باب الشهادة على ان المسمى غيرها و أنى يجديه ذلك مع ان المتبادر من الحليلة هو خصوص عنوان الزوجة بنحو يعرف بقانون اللغة ان غير الزوجة خارج عن المعنى الحقيقي للحليلة و على ذلك جرت شهادة اللغويين الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لا ما يسميه العرب ابنا باعتبار التبني على وجه شائع كأنه يدخل في المعنى الحقيقي للابن. و قد كان في الإسلام عناية في ابطال هذه التسمية الباطلة التي يترتب عليها مفاسد كثيرة. منها: ان هذا الدعي الذي قد لا تعرف نجابة عنصره و سلامة ذاته يتركونه يعامل نساءهم و بناتهم و أخواتهم معاملة ولدهم الحقيقي في ترتيب آثار المحرمية النسبية من الخلطة و الخلوة و عدم الحجاب مع انه ليس فيه من الرحمية ما يردعه عن الاقدام على فعل الفحشاء و السوء معهن و لا يخشى من ان يرجع عارهن عليه و لا يخفى ان

ص: 70

هذا التقييد الذي يخرج به المتبني لا يمنع من ثبوت التحريم لحليلة الابن الرضاعي على أبيه من الرضاعة كما يقتضيه

قوله صلى اللّه عليه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

فإن مواده ان تحرم حليلة الابن الرضاعي كما يحرم بنص القرآن حليلة الابن النسبي و عليه فتوى الامامية و الفقهاء الاربعة و اكثر اهل العلم (1) وَ حرم عليكم أَنْ تَجْمَعُوا فيما يراد من النساء من الزوجية و ما هو مثلها من التمتع بالوطء في المملوكة بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فإن الآية مسوقة لذلك كما في قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الى آخرها إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ و زال موضوعه فإنه مسامح فيه و مغفور و ان كان من تشريعات الجاهلية إِنَّ اللَّهَ كانَ و لا يزال غَفُوراً للذنوب رَحِيماً بعباده و من رحمته ان أمضى ما سلف من نكاح كل قوم و ان كان تشريعا جاهليا فلم يجعل النسب الحاصل منه نسب زنا (2) و على تحريم الجمع بين المملوكتين فيما ذكرنا لا مجرد الملك اجماعان

ص: 71


1- لكن في تفسير صاحب المنار عن ابن القيم تقرير الحجة للمخالفين في تحريمهما بما ملخصه ان تحريم حلائل الأبناء إنما هو بالصهر لا بالنسب و النبي (صلی الله علیه و آله) «اي في قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» قد قصر تحريم الرضاع على نظيره من النسب لا على شقيقه و هو الصهر- فأقول ان المحرم ليس هو الرضاع و لا النسب و لا الصهر و لا بعض منها و انما المحرم هو ما كان من الإنسان للعناوين المذكورة في الكتاب المجيد الناشئة من النسب و لو باعتبار الواحد من طرفي اضافتها كالبنوة في عنوان حليلة الابن و الابوة في عنوان أبي الحليل فإن كلا من هاتين الابوة و البنوة من ناحية النسب منشأ لتحريم الحليلة على أبي زوجها او تحريمه عليها فكذا حليلة الابن و ابو زوجها من ناحية الرضاع. و يا ليته قال في تقرير الحجة كما يجب في الفهم المستقيم «ان النبي (صلی الله علیه و آله) قد قصر تحريم العناوين الناشئة من جهة الرضا (علیه السلام) على نظيرها من العناوين الناشئة من جهة النسب» ليعرف ان الحجة في الحديث الشريف تكون لمن
2- و مقتضى الغفران في الآية انه لم يقصد فيها من قوله تعالى «ما قد سلف» ما تذكره التوراة الرائجة من جمع يعقوب بين الأختين (ليئة و أختها راحيل) ابنتي (لابان) كما في الفصل التاسع و العشرين إلى الخامس و الثلاثين من سفر التكوين. لأنه ان كان لذلك اصل فإن يعقوب لا يجمعهما و يبقيهما مجتمعتين في حباله اكثر من عشر سنين إلى ان ماتت راحيل ما لم يكن ذلك على شريعته حق في ذلك الزمان لا تشريعا يكون ذنبا يتعقبه الغفران

الامامية و حديثهم و عليه ايضا مالك و الاوزاعي و ابو حنيفة و الشافعي و احمد في احدى الروايتين و في تذكرة العلامة حكى الخلاف عن داود الظاهري و نسبه ابن رشد في بدايته الى طائفة.

روى مالك في الموطأ و في الدر المنثور اخرج مالك و الشافعي و عبد بن حميد و عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه من طريق ابن شهاب «الزهري» عن قبيصة بن ذويب ان رجلا سأل عثمان عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما فقال أحلتهما آية و حرمتهما آية و ما كنت لأصنع ذلك فخرج من عنده و لقي رجلا من اصحاب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أراه علي بن أبي طالب فسأله عن ذلك فقال لو كان لي من الأمر شي ء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. و

اخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و البيهقي في سننه عن علي (علیه السلام) انه سأل عن رجل له أمتان اختان فوطأ أحدهما ثم أراد ان يطأ الأخرى قال (علیه السلام) لا حتى يخرجها من ملكه

و اخرج ابن جرير و ابن عبد البرفي الاستذكار عن إياس بن عامر قال سألت علي ابن أبي طالب و ذكر في جوابه تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الاخرى.

و قد جاء مثل ذلك عن الصادق (علیه السلام) في أحاديث كثيرة من الصحاح و الموثقات كما في الوسائل في الباب التاسع و العشرين فيما يحرم بالمصاهرة و نحوها. نعم في الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة و البيهقي من طريق أبي صالح عن علي بن أبي طالب قال في الأختين المملوكتين أحلتهما آية و حرمتهما آية و لا آمر و لا أنهى و لا أحل و لا احرم و لا افعله انا و لا اهل بيتي. و روى نحوه في الاستبصار عن البزوفري بسنده عن الصادق عن الباقر عن علي (علیه السلام). و لا يخفى ان التحليل انما هو باقتضاء الإطلاق الأحوالي في قوله تعالى في الآية الآتية ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و قوله تعالى إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ و التحريم بالإطلاق الأفرادي في لفظ الأختين فبين الآيتين عموم و خصوص من وجه و لا بد من تخصيص احد الطرفين بالآخر الذي هو أقوى و اظهر دلالة و لا شك في ان الإطلاق الأفرادي اللفظي أقوى و اظهر دلالة من الإطلاق الأحوالي الذي يستفاد من السوق فيجب ان يخصص الأحوالي بالأفرادي و لكن عليا (علیه السلام) ربما أجاب بما أجاب به عثمان (رض) حفظا للوئام و خروجا عن حزازات الخلاف التي حدثت في تلك السنين و عند الفرصة يجاهر بما يعلمه من التحريم كما اتفقت عليه الأحاديث الأول بل و الرابع في

قوله لا افعله انا و لا اهل بيتي

و يشهد لذلك ما في الاستبصار في

صحيح معمر من قول الباقر (علیه السلام) قد بين لهم إذ نهى نفسه و ولده

و قوله ايضا في عدم التصريح من علي بالحرمة

ص: 72

خشي ان لا يطاع و لو ان امير المؤمنين ثبتت قدماه اقام كتاب اللّه كله و الحق كله. و في المسألة فروع موكولة الى كتب الفقه

سورة النساء (4): آية 24

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

24 وَ حرمت عليكم الْمُحْصَناتُ مِنَ سائر النِّساءِ و هن ذوات الأزواج مطلقا إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ

في الكافي في صحيح محمد بن مسلم سألت أبا جعفر «الباقر» (علیه السلام) عن قوله تعالى و المحصنات من النساء إلا ما ملكت ايمانكم قال (علیه السلام) هو أن يأمر الرجل عبده و تحته أمته فيقول له اعتزل امرأتك و لا تقربها ثم يحبسها عنه حتى تحيض ثم يمسها الرواية.

و في الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر عن ابن عباس إلا ما ملكت ايمانكم قال ينزع الرجل وليدته امرأة عبده. و اخرج ابن أبي حاتم عنه ايضا ما هو بمعناه. و روى مسلم في جامعه و احمد و ذكر في الدر المنثور سبعة عشر من اصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري أن السبب في نزول الآية هو أن الصحابة تحرجوا من الاستمتاع بسبايا «أوطاس» اي لأنه ذوات ازواج. و الاستثناء إنما هو من هذه الجهة فلا ينافي اشتراط الإسلام و وضع الحمل و استبراء غير الحامل بحيضة كما صرح بها في هذا الحديث و بالحيض في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة. فإن حل النساء المذكور في قوله تعالى وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ إنما هو الحل المعلق على العقد و سائر الشروط كحل بهيمة الانعام المعلق على التذكية بما يعتبر فيها من الشروط لا الحل الفعلي بدون شرط. فيجوز إذن أن يكون من مصاديق الآية ما إذا اشترى المزوجة حيث ان المشتري عند الإمامية مخير فورا بين إمضاء الزواج فيبقي على ما هو عليه و بين فسخه و حكى في مجمع البيان هذا الوجه عن أبيّ و جابر و انس و ابن المسيب و الحسن و عن ابن عباس و في تفسير صاحب المنار عن ابن مسعود.

و في الدر المنثور اخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن جرير عن ابن مسعود في الآية كل ذات زوج عليك حرام إلا ما اشتريت بمالك و اخرج ابن جرير ايضا عنه ما هو بهذا المعنى كما اخرج عن ابن عباس نحوه و كذا كل متجدد بعد إحصان المملوكة كالملك بالإرث و الوصية و الهبة و نحوها. و لا تمانع بين هذه الوجوه الثلاثة في صدق الحل المعلق و كل وجه تعتبر فيه شروطه كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بنصب كتاب على انه مصدر اجري على ما هو قريب من معنى فعله تأكيدا للتحريم ببيان ان التحريم المتقدم هو كتابة اللّه و تسجيله الثابت

ص: 73

عليكم وَ أُحِلَّ بضم الهمزة و كسر الحاء لَكُمْ من النساء حلا شأنيا معلق الفعلية على حصول اسباب الحل الفعلي و شروط ما وَراءَ اي ما عدى ذلِكُمْ من المحرمات المذكورة صريحا او اشارة و اشعارا بالعموم الذي تضمنه

قوله (صلی الله علیه و آله) «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»

و اما الروايات المتفرقة في جوامع البخاري و مسلم و النسائي و أبي داود عن أبي هريرة بما حاصل مجموعها انه لا تنكح العمة على بنت الأخ و لا الخالة على بنت الاخت و لا العكس فهي غير صالحة لتخصيص عموم الكتاب في حل ما وراء المحرمات المذكورة لمعارضتها بأحاديث الإمامية الصحاح بأسانيدهم

عن محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام لا تزوج ابنة الأخ و لا ابنة الاخت على العمة و لا على الخالة إلا بإذنهما و تزوج العمة و الخالة على ابنة الأخ و ابنة الاخت بغير إذنهما.

و في العلل بإسناد عن الباقر (علیه السلام) نهى رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) عن تزويج المرأة على عمتها او خالتها إجلالا للعمة و الخالة فإذا أذنت في ذلك فلا بأس.

و لا يخفى انه ليس في اشتراط الأذن من العمة او الخالة تخصيص لعموم الحل لما وراء ذلكم لأن الحل فيها شأني معلق الفعلية على شروطها فالشروط لا تنافي الشأني المعلق و لا تخصصه و لا تقيده و على هذا تخرج رواية المختلف و غيره

عن علي بن جعفر عن أخيه الكاظم (علیه السلام) في رجل يتزوج المرأة على عمتها او خالتها قال (علیه السلام) لا بأس لأن اللّه عز و جل قال وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (1)

أَنْ تَبْتَغُوا قيل ان المصدر بدل من «ما وَراءَ ذلِكُمْ» و قيل انه مجرور باللام المطرد حذفها من «ان» المصدرية و اللام للتعليل و هو الأصح اي لتبتغوا النساء و ما يطلب منهن من حيث هن نساء بِأَمْوالِكُمْ مهرا و شراء حال كونكم بالنسبة لما ابتغيتم مُحْصِنِينَ لأنفسكم او للمرأة عن الزنا بالحلال غَيْرَ مُسافِحِينَ اي مقاربين للنساء زنا و سفاحا فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ الفاء للتفريع على حل مالك

ص: 74


1- و اما ما ادعاه ابن رشد في بدايته من تواتر النهي عن ذلك عن النبي (صلی الله علیه و آله) فلا اصل له إذ لم تعرف هذه الرواية عن غير أبي هريرة. و اما رواية البخاري لها عن الشعبي عن جابر فقد قال في آخرها قال داود بن عون عن الشعبي عن أبي هريرة و أما دعوى الإجماع على ذلك فهي ممنوعة بمخالفة اهل البيت و الإمامية في ذلك

وراء المحرمات و ابتغاء النساء و ما يطلب منهن محصنين و «ما» كناية عن القسم لا عن ذات النساء و الا لقيل و «من» و لكن القسم بمفهومه معنى عام يقال في مقام التقسيم على من يعقل و ما لا يعقل مثل بعض كما تقدم في قوله تعالى ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و نحوها فلا يصح التعبير عنه بلفظ «من» فالتفريع و معنى «ما» يدلان على التنبيه في مقام التشريع على حكم قسم خاص من المنكوحات حال قصد الإحصان. «استمعتم» طلبتم المتعة و احصانها و توصلتم الى التمتع و هو الانتفاع الموقت المحدود المبني على الانقطاع كما يدل عليه ألفاظ المتاع و التمتيع و ما يشتق من ذلك في القرآن بحسب موارده و يوضحه قوله تعالى في سورة الرعد 25 وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ. و معنى الآية طلبتم هذا التمتع من هذا القسم بالتزويج بِهِ الضمير راجع إلى القسم باعتبار مصاديقه مِنْهُنَّ اي من النساء فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اي مهورهن حال كونها فَرِيضَةً فرضتموها في العقد و هذا مما يوضح ان المراد منه غير العقد الدائم الذي يصح فيه التزويج بدون فرض مهر في العقد فإن دخل بها استحقت عليه مهر المثل و ان طلقها قبل الدخول استحقت عليه المتعة على قدر الموسع و المقتر كما في الآية الخامسة و الثلاثين بعد المائتين من سورة البقرة.

و في هذه المسألة خلاف لا ارغب بذكر كل ما فيه لو لا تعرض المسألة بتفسير الآية و تحقيق حكمها و تعرض المفسرين لها و ما قيل فيها. فللكلام في هذه الآية و مسألة المتعة مقامات- الاول- قد اتفق جميع المسلمين و رواياتهم على تسمية هذا القسم المبحوث عنه بالمتعة جريا على ما هو مدلول الآية و مقتضى ألفاظها في تشريعها مضافا إلى استفاضة الرواية عن الصحابة بل و التابعين في نزول الآية في متعة النساء التي هي محل الكلام فقد اخرج ابن جرير و الحاكم و صححه و في الدر المنثور اخرج عبد بن حميد و ابن الانباري عن أبي نظرة عن ابن عباس ان الآية فما استمتعتم به منهن إلى اجل مسمى ثم قال و اللّه لأنزلها اللّه كذلك و نحوه فيما أخرجه ابن أبي حاتم و الطبراني و البيهقي عن ابن عباس. و اخرج ابن جرير و في الدر المنثور و عبد بن حميد عن قتادة عن قراءة أبي نحوه. و اخرج ابن أبي داود في المصاحف عن سعيد بن جبير في قراءة أبي نحوه. و اخرج عبد الرزاق عن عطا عن ابن عباس انه يقرأها

ص: 75

كذلك و قال ايضا في حرف أبيّ إلى اجل مسمى و عن تفسير الثعلبي بسنده عن حبيب بن ثابت عن ابن عباس نحوه .. و اخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن مجاهد. و ابن جرير عن السدي ان المعنى في الآية هو نكاح المتعة .. و كذا فيما أخرجه عن علي من طريقين و عن ابن عباس من ثلاثة طرق و عن ابن مسعود من انها نسخت. و

في الكافي في الصحيح عن أبي بصير سألت أبا جعفر عن المتعة قال نزلت في القرآن فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ و نحوه ايضا في الصحيح عن الصادق (علیه السلام). و عن قرب الاسناد عن الصادق (علیه السلام) نحوه.

و في الكافي ايضا في مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق (علیه السلام) إنما أنزلت فما استمتعتم به منهن إلى اجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة

و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) عن جابر كان ابن عباس يقرؤها و ذكر إلى اجل مسمى مثل ذلك: و في الفقيه عن الرضا (علیه السلام) في حديث و قرأ ابن عباس

و ذكر مثل ذلك ايضا: هذا و ان ما روي عن ابن عباس و أبيّ و الصادق من زيادة إلى اجل مسمى ينبغي تنزيله على ما علموه من شأن النزول و ان المراد من نزول الآية هذه المتعة التي هي إلى اجل مسمى. فإن جماعة من الصحابة كانوا يرسمون في مصاحفهم ما يعلمونه انه التأويل المراد في النزول و يقولون هكذا انزل اي بالوحي بغير القرآن على رسول اللّه و يدرجونه مع القرآن في قراءتهم دفعا للشكوك او الجحود كما روى في الدر المنثور و غيره ان ابن مردويه في تفسيره اخرج (1) عن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك ان عليا مولى المؤمنين فأدرج ابن مسعود في الآية ما كان يعلمه حين النزول من تأويلها المقصود بالنزول كما اخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري أن الآية نزلت في غدير خم في علي بن أبي طالب و رواه الواحدي في اسباب النزول بسنده المتصل من غير هؤلاء عن أبي سعيد الخدري (2). و مما يشهد لما ذكرناه ان الباقر و الصادق ذكر الآية و احتجابها للمتعة على29

ص: 76


1- و الظاهر ان من مآخذه لهذا الحديث كتاب أبي بكر بن عياش عن عاصم عن ذر عن عبد اللّه بن مسعود. و في التقريب كتاب أبي بكر صحيح: و رجال الحديث من الثقات عندهم و منه رجال الجوامع الستة و ستأتي إن شاء اللّه تتمة الكلام في تفسير الآية عند ذكرها في سورة المائدة
2- و قد مر بيان شي ء من هذا النحو في الجزء الأول ص 27 س 3- 6 و يعرف ايضا من ص 28 و 29

ما هو المرسوم في المصاحف و نسبها الرضا عليه السلام و الباقر (علیه السلام) في رواية العياشي عن جابر إلى قراءة ابن عباس- المقام الثاني- اتفق جميع المسلمين و جميع رواياتهم في المتعة على انها نكاح شرع في دين الإسلام و استفاضت الرواية في عمل المسلمين على ذلك كما ستسمع من بعضها الذي نتعرض له- الثالث- استفاضت الرواية في دوام مشروعيتها و العمل عليها من زمان الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) إلى ايام أبي بكر في إمارته إلى شطر من ايام عمر. فقد اخرج مسلم في نكاح المتعة عن جابر الانصاري كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و أبي بكر حتى نهى عنه عمر «اي نكاح المتعة» في شأن عمرو بن حريث. و اخرج ايضا عن أبي نظرة قال كنت عند جابر فأتاه آت فقال إن ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين «يعني متعة الحج و متعة النساء» فقال جابر فعلناهما مع رسول اللّه ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. و رواه في كنز العمال و مختصره مما أخرجه عبد الرزاق عن جابر و اخرج احمد في مسند عمر عن أبي نظرة قال قلت لجابر بن عبد اللّه ان ابن الزبير ينهى عن المتعة و ان ابن عباس يأمر بها قال فقال لي على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و مع أبي بكر فلما ولي عمر خطب الناس فقال ان القرآن هو القرآن و ان رسول اللّه «ص» هو الرسول و انهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إحداهما متعة الحج و الاخرى متعة النساء. أقول و الحديث باعتبار سنده من الصحيح عندهم: و اخرج مسلم في باب متعة النساء عن جابر سأله القوم عن أشياء و منها المتعة فقال نعم استمتعنا على عهد رسول اللّه و أبي بكر و عمر: و أخرجه احمد في الجزء الثالث من مسنده ص 380 برجال مسلم و فيه حتى إذا كان في آخر خلافة عمر: و اخرج احمد في الجزء الثالث من مسنده ص 325 في الصحيح عندهم عن جابر قال متعتان كانتا على عهد النبي (صلی الله علیه و آله) فنهانا عنهما عمر فانتهينا. و في صفحتي 356 و 363 في الصحيح ايضا عندهم عن جابر تمتعنا متعتين على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الحج و النساء فنهانا عمر عنهما فانتهينا. و في الثالثة فلما كان عمر نهانا عنهما فانتهينا و اخرج البخاري في تفسير سورة المائدة و في أوائل أبواب النكاح. و مسلم في نكاح المتعة. و في الدر المنثور أخرجه عبد الرزاق و ابن أبي شيبة ايضا عن ابن مسعود قال كنا نغزو مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ليس معنا نساء فقلنا الا نستخصي «و في بعض النسخ الا نستمني» فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا ان ننكح المرأة بالثوب الى اجل ثم قرأ عبد اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا

ص: 77

إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

انتهى و هذا كالصريح بل ابلغ من التصريح بأن تحريم المتعة ليس من اللّه و رسوله بل هو تشريع بتحريم الطيبات مما أحله اللّه و رسوله للمؤمنين: و اخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال استمتع عمرو بن حريث و ابن فلان و كلاهما ولد له من المتعة زمان أبي بكر و عمر. و

اخرج ابن جرير في الصحيح عندهم عن شعبة عن الحكم بن عيينة انه سئل عن آية المتعة منسوخة هي قال لا و قال قال علي لو لا ان عمر نهى عن المتعة ما زنى الا شقي: و ذكره في الدر المنثور مما أخرجه عبد الرزاق و ابن جرير و ابو داود في ناسخه.

و في الكافي بسند معتبر عن عبد اللّه بن سليمان عن الباقر عليه السلام كان علي يقول لو لا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي. و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) مثله.

و روى المفيد في رسالة المتعة بأسانيد كثيرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال سألت الصادق (علیه السلام) هل نسخ آية المتعة شي ء قال لا و لو لا ما نهى عنه عمر ما زنى إلا شقي:

و باسناده عن علي (علیه السلام) لو لا ما سبقني به عمر بن الخطاب ما زنى مؤمن:

و ذكر في كنز العمال و مختصره عن عبد الرزاق و ابن جرير «اي في تهذيب الآثار» و أبي داود في ناسخه عن علي (علیه السلام) لو لا ما سبقني من رأى عمر بن الخطاب لأمرت بالمتعة ثم ما زنى إلا شقي:

و في كنز العمال و مختصره مما أخرجه عبد الرزاق و ابن المنذر من طريق عطا عن ابن عباس قال يرحم اللّه عمر ما كانت المتعة إلا رحمة رحم اللّه بها امة محمد و لو لا نهيه «اي عمر» ما احتاج إلى الزنا إلا شقي او شفي كما ذكره ابن الأثير في نهايته في مادة شفي:

و قال المفيد في رسالته قال ابن بابويه ان عليا عليه السلام نكح في الكوفة امرأة من بني نهشل متعة:

و اخرج مسلم عن عروة ابن الزبير ان عبد اللّه ابن الزبير قام بمكة فقال إن أناسا أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى ابصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل «يعني ابن عباس» فناداه و قال انك لجلف جاف فعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد امام المتقين يريد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فقال له ابن الزبير فجرب بنفسك فواللّه لئن فعلتها لأرجمنك باحجارك انتهى: و

في الكافي في الصحيح عن زرارة قال جاء عبد اللّه بن عمير الليثي الى الباقر عليه السلام فقال له ما تقول في متعة النساء فقال أحلها اللّه في كتابه و سنة نبيه إلى يوم القيامة فقال يا أبا جعفر مثلك من يقول هذا و قد حرمها عمر و نهى عنها فقال (علیه السلام) و ان كان فعل فقال و اني أعيذك باللّه ان تحل شيئا حرمه عمر فقال الباقر (علیه السلام) فأنت على قول صاحبك و انا على قول رسول اللّه فهلم ألا عنك. الحديث:

و في كنز العمال و مختصره

ص: 78

عن ابن جرير «اي في تهذيب الآثار» عن ام عبد اللّه بن خيثمة ما ملخصه ان رجلا من الصحابة الذين في الشام جاء إلى المدينة فتمتع بامرأة و اشهد على ذلك عدولا فأخبر عمر بذلك فقال للرجل ما حملك على الذي فعلته فقال فعلته مع رسول اللّه ثم لم ينهنا حتى قبضه اللّه ثم مع أبي بكر فلم ينهنا حتى قبضه اللّه ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا فقال عمر اما و الذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك (1) الحديث: و

اخرج مسلم في المتعة بالحج عن جابر قال تمتعنا مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فلما قام عمر قال ان اللّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء؟! و ان القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج و العمرة للّه كما أمركم و ابنوا نكاح هذه النساء فلن اوتى برجل نكح امرأة إلى اجل إلا رجمته بالحجارة (2):

و اخرج مالك في الموطأ عن عروة ابن الزبير ان خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت ان ربيعة بن امية استمتع بامرأة فحملت منه فخرج عمر فزعا يجر رداءه فقال هذه المتعة و لو كنت تقدمت فيها لرجمت:

و ذكر في كنز العمال و مختصره ان الحديث أخرجه الشافعي و البيهقي: أقول و هو من الصحيح عندهم و أنت ترى انه و الحديثين اللذين قبله كالصريحة في انه ليس هناك نهي من رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يكون حجه على المستمتع في استحقاقه الرجم و ان الحجة عليه منحصرة بأن يتقدم عمر بالنهي. فهذه الأحاديث كالصريحة في ان النهي من رأي عمر لا من رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) او أبي بكر. و لا تقدر ان تقول ان معنى الأحاديث انه لا عبرة بنهي رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و لا حجة فيه على استحقاق الرجم و إنما الحجة هو نهي عمر. إذن فمعنى الروايتين هو ما قدمناه: و في الدر المنثور و كنز العمال و مختصره اخرج ابن أبي شيبة عن نافع ان ابن عمر سئل عن المتعة فقال حرام فقيل له ان ابن عباس يفتي بها قال فهلا تزمزم (3) بها في زمان عمر: و في الدر المنثور قال اخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال نهى عمر عن متعتين متعة النساءوي

ص: 79


1- و في هذه الرواية اعجوبة: صحابي تخطب له الصحابية امرأة بالمتعة و يشهد على نكاحها عدولا من الصحابة و يقول فعلته مع رسول اللّه فلم ينهنا عنه حتى قبضه اللّه اليه و كذا مع أبي بكر فكيف يستحق الرجم و ان تقدم له عمر بألف نهي و لو تنازل امره بهذا النهي إلى الشبهة فالحدود تدرء بالشبهات بنص رسول اللّه المجمع على حكمه
2- و انظر إلى هذا الحديث و الذي بعده و ما فيهما من اعجوبة الرجم. و يا ضيعة دماء المسلمين و شرفهم من هذه الأحاديث
3- في النهاية الزمزمة الصوت الخفي أو البعيد و له دوي

و متعة الحج: و في كنز العمال و مختصره مما أخرجه ابو صالح كاتب الليث (1) و الطحاوي عن عمر انه قال متعتان كانتا على عهد رسول اللّه انهى عنهما و أعاقب عليهما متعة النساء و متعة الحج:

و مما أخرجه ابن جرير و ابن عساكر عن أبي قلابة ان عمر قال متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و انا انهى عنهما و أضرب فيهما و قد تقدم في المقام الثاني في رواية جابر ان عمر قال في خطبة انهما كانتا على عهد رسول اللّه: و رواية هذا الكلام عن عمر مشهورة. فعن مختصر المحلى لابن حزم الاندلسي ما لفظه كما روينا عن أبي قلابة قال قال عمر بن الخطاب متعتان كانتا على عهد رسول اللّه و انا انهى عنهما و اضرب عليهما متعة النساء و متعة الحج و سيأتي ان الفخر الرازي في تفسيره ذكر احتجاج اهل السنة على تحريم المتعة بهذا الحديث: و اما تأويله بأن عمر يستند في التحريم إلى رسول اللّه فسيأتي بطلانه ان شاء اللّه عند ما نتعرض لما أشرنا اليه من الاحتجاج الذي يذكره الرازي- المقام الرابع- في دعوى نسخها و هي باطلة بما ذكرناه في المقام الثالث و ذلك لوجهين (أحدهما) دلالة هذا المقام بالنص و اليقين على انها كانت مشروعة في ايام رسول اللّه و آخر عهده بالدنيا و هذا كاف في كونها سنة متبعة حتى لو سبق نسخها قبل ذلك مرة أو اكثر لو ثبت ذلك و ما يجدي نسخها السابق في خيبر او عام الفتح إذا كانت مشروعة بعد ذلك إلى آخر عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). فليورد المورد ما شاء من رواياتهم للنسخ الشرعي في ايام رسول اللّه فإنما العبرة بما كان في آخر عهده بالدنيا و انقطاع الوحي نعم فيما

رواه مسلم و احمد عن سبرة من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز الأموي عن الربيع عن أبيه سبرة ان النبي (صلی الله علیه و آله) حرمها إلى يوم القيامة روى ذلك مسلم مجردا عن قصة و تأريخ و لكن احمد رواها في قصة تمتع سبرة في حجة الوداع

و سيأتي ان رواية سبرة هذه كالحرباء تبرز من كل راو بشكل يضاد الآخر فهي كلا شي ء و على كل حال هي معارضة بكل ما ذكر في المقام الثالث و خصوص رواية الحكم و الرواية عن الصادق في ان آية المتعة لم تنسخ بل و

رواية زرارة عن الباقر (علیه السلام) في قوله أحلها اللّه في كتابه إلى يوم القيامة

و لك العبرة في الولع برواية تحريمها بما

في كنز العمال مما أخرجه الدارقطني في الافراد و ابن عساكر مما تفرد به احمد بن محمد بن عمر بن يونس عن علي (علیه السلام) انه سمع النبي (صلی الله علیه و آله) نهى عن متعة النساء و يقول هي حرام إلى يوم القيامة مع ان احمد المذكور قال ابن صاعد فيه كذاب

(ثانيهما) ان رواياتهم في النسخ مبتلاة بالموهناته

ص: 80


1- هو عبد اللّه بن صالح الجهني المصري تخ د ت ق صدق ثبت في كتابه من العاشرة مات سنة 22 أي بعد المائتين [الرموز اشارة الى البخارى و ابى داود و الترمذى و ابن ماجه

اما رواية سبرة بن معبد للنهي عن المتعة بعد حكاية تمتعه فإنها مضطربة في رواية مسلم لها في جامعه و احمد في مسند سبرة ما شاء الاضطراب متدافعة ما شاء التدافع الممقوت. ففي الأولى من روايات مسلم ان الذي كان مع سبرة في القصة هو صاحب له. و في الثانية من قومه و ابن عمه. و في الثالثة من بني سليم. و في الثلاثة ان برد سبرة اردا من برد الآخر و في الأولى ان سبرة أشب من الآخر و لذا اختارته المرأة و تمتع بها. و في الثانية لأن لسبرة على الآخر فضل جمال و الآخر قريب من الدمامة و ان القصة في فتح مكة. رواها أولا عن فضيل عن بشر عن عمارة بن غزية عن الربيع بن سبرة. و رواها ثانيا

عن احمد بن سعيد عن أبي النعمان عن وهيب عن عمارة عن الربيع عن أبيه سبرة قال خرجنا مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في فتح مكة فذكر مثل حديث بشر و زاد «قالت و هل يصلح ذاك» و فيه قال «ان بردح هذا خلق مح»

و رواها احمد في مسند سبرة عن عفان عن وهيب إلى آخر السند و لكن فيها ان برد سبرة هو الجديد و سبرة هو القريب من الدمامة و ان الذي اختارته المرأة و تمتع بها على رداءة برده هو ابن عمه على الضد من رواية مسلم. و روى مسلم الرابعة عن يحيى عن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده و ان القصة كانت في فتح مكة. و رواها احمد عن عبد الرزاق عن معمر عن عبد العزيز بن عمر عن الربيع بن سبرة عن أبيه و ان واقعتها كانت في حجة الوداع و رواها بعد ذلك عن وكيع إلى آخر السند. و فيها فلما قضينا عمرتنا: و قد تركنا عدة من الاضطراب بالألفاظ و من نظر إلى الروايات في جامع مسلم و مسند احمد علم يقينا انها رواية لقصة واحدة. هذا و ان مذهب ابن عباس في حل المتعة و مثابرته مع ابن الزبير على ذلك معلوم معروف من صحيح الحديث و مستفيضه و مأثور التأريخ. و مع ذلك رووا عنه في نسخها الشرعي روايات هي بنفسها تظهر كذبها و جهل جاعلها ففي جامع الترمذي عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى انه يقيم فتحفظ له متاعه و تصلح له شيأه حتى إذا نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ قال ابن عباس فكل فرج سواها فهو حرام و رواها في الدر المنثور مما أخرجه الطبراني و البيهقي في سننه و زاد فيها حتى نزلت هذه الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى آخر الآية فنسخ الأولى و حرمت المتعة و تصديقها من القرآن إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ الحديث: و هلم العجب اي كلمة من آية حرمت عليكم أمهاتكم نسخت آية المتعة

ص: 81

فحرمت المتعة. و ايضا ان المستمتع بها هي زوجة كما صرحت رواية الترمذي و هذه الرواية و التي بعدها في قوله (فيتزوج المرأة) فكيف يكون قوله تعالى إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ تصديقا لآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ في تحريم المتعة. نعم إذا كانت آية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ. وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ناسخة فلا بأس ان تكون من نواسخ آية المتعة آيات. أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ. نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. و هلم جرا و قد أجاد صاحب المنار في تفسيره إذ ذكر غير ما ذكرناه من موهنات الرواية و قال:- و عبارة هذه الرواية تنم عليها و تشهد انها لفقت في عهد حضار المسلمين بعد الصحابة: و في الدر المنثور ايضا مما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثل رواية الترمذي إلى قوله و تصلح له متيعته فقال و كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى اجل مسمى نسختها مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ و كان الإحصان بيد الرجل يمسك متى شاء و يطلق متى شاء انتهى و ليت شعري ان الكلمة القرآنية التي شرعت المتعة و جرى عليها عمل المسلمين في قدومهم إلى البلدان كيف تنسخها الكلمة التي قبلها بلا فاصل و معها في الآية الواحدة. و إذا كانت بمعناها و لم تنسخها حينئذ لم تنسخها إذا وردت بعد ذلك في سورة المائدة مضافا إلى أن المتعة إحصان لا زنا و سفاح لأنها (1) (تكملة) أسند الحاكم في تفسير سورة النساء من مستدركه عن أبي مليكة سئلت عائشة عن متعة النساء فقالت بيني و بينكم كتاب اللّه و قرأت وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ. فمن ابتغى وراء ما زوجه اللّه او ملكه فقد عدا و في الدر المنثور فيما رواه عمار مولى الشريد عن ابن عباس ان المتعة ليست بسفاح و قد ذكرنا في الجزء الاول ص 197 في قوله تعالى في سورة المائدة وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ان التدبر للقرآن يقتضي وروده في نكاح الكتابيات بالمتعة: و اماما في الدر المنثور مما أخرجه ابو داود في ناسخه و ابن المنذر و النحاس من طريق عطا عن ابن عباس في آية المتعة نسختها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ انتهى فقل لراويها ان تشريع الطلاق لم يحصر إباحة الوطء و شرعيته بما كان موردا للطلاق و إلا فما تقول فيها

ص: 82


1- زواج شرعي كما تصرح به هذه الرواية و اللتان قبلها

التسري و الوطء بملك اليمين فإن مورد الطلاق هو العقد المبني على الدوام لأن الطلاق هو الحل لعقدة الزواج الدائم و قطع لدوامه و إن قلت ان النسخ بالعدة قلنا ان المستمتع بها عليها عدة و لكنها تنقص عن عدة الدائم بحسب الدليل كما نقصت عدة الأمة كما عليه جميع الإمامية و جمهور اهل السنة ما عدا داود و أصحابه الظاهريين. و قد روى في الدر المنثور من طريق عمار مولى الشريد عن ابن عباس ان المستمتع بها تعتدّ بحيضة و في كنز العمال مما أخرجه عبد الرزاق عن جابر في المتعة و كنا نعتد من المستمتع بها منهن بحيضة و روى ايضا عن السدي انها تستبرئ رحمها: و من الطريف ما في الدر المنثور مما أخرجه ابن المنذر و الطبراني و البيهقي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في ضمن قصة فيها شعر قوله ما أحللتها «يعني المتعة» إلا للمضطر و لا أحللت منها إلا ما أحل اللّه من الميتة و الدم و لحم الخنزير انتهى و هل يكون ابن عباس يقول ان الآية نزلت في المتعة ثم يقيد إطلاقها و يخصها من تلقاء نفسه بالمضطر كأكل الميتة و في تفسير الرازي و تبعه ابو السعود و روى (انه يعني ابن عباس) قال عند موته اللهم اني أتوب إليك من قولي في المتعة و الصرف انتهى و هل رؤي في المنام مخبرا عن قبول توبته او تشديد السؤال عليه من اجل المتعة و في الدر المنثور مما أخرجه عبد الرزاق و ابن المنذر و البيهقي عن ابن مسعود قال المتعة نسخها الطلاق و الصدقة و العدة و الميراث انتهى ودع عنك سقوط الرواية بما ذكرناه في المقام الثالث و خصوص ما روي فيه عن ابن مسعود و لكنك مما ذكرناه في هذه الروايات المنسوبة إلى ابن عباس تعرف الخطأ ايضا في نسبة النسخ بالطلاق و العدة إلى ابن مسعود. و اما الصدقة فإن كان المراد منها الصداق فإن المتعة فيها صداق و لئن سمي اجرا فإن القرآن قد سمى الصداق في العقد الدائم اجرا كما في هذه السورة 24 و الممتحنة 9 و الأحزاب 49 فمن اين يجي ء النسخ. و إن أراد الراوي غير الصداق فعليه حسابه- و أما الميراث فإن آية ميراث الزوجين تقتضي بنفسها ان يتوارث المستمتع و المستمتع بها لأنهما زوجان. نعم دل الدليل على عدم توارثهما فخصص به الكتاب و لعل ذلك لضعف علقتهما بكونها موقتة و قد اتفق جمهور اهل السنة على جواز نكاح الكتابية بالعقد الدائم و اتفقوا على عدم التوارث بينها و بين زوجها المسلم تخصيصا منهم لعموم الإرث بما رووه من

قول النبي (صلی الله علیه و آله) لا يتوارث اهل الملتين

و نحوه و اجمع المسلمون على أن القاتل من أحد الزوجين للآخر لا يرث منه. و من هذا يعرف الحال ايضا فيما

أخرجه البيهقي عن علي (علیه السلام) نهى رسول اللّه عن المتعة و إنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح و الطلاق و العدة

ص: 83

و الميراث بين الزوج و الزوجة نسخت انتهى

و تزيد هذه الرواية بالوهن أن آية المتعة ليست مقيدة بمن لم يجد كما في نكاح الإماء. و ان التزويج كان نزول آياته بمكة قبل الهجرة و منه قوله تعالى في سورة المؤمنون المكية وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ و هم يروون

عن علي (علیه السلام) أن المتعة حرمت يوم خيبر

فكيف يتقدم الناسخ على المنسوخ بعده سنين و أيضا أن الرواية نفسها تدل على أن المتعة نكاح مشروع إذن فالمستمتع بها زوجة فكيف يكون الزواج ناسخا لها- و قد كفانا هذا المقام عن التعرض لما تشبث به المتألبون لتحريم المتعة بعدم ارث المستمتع بها و بعدم كونها زوجة (تتمة) لهذا المقام. قال ابن رشد في بدايته و أما نكاح المتعة فقد تواترت الاخبار عن رسول اللّه بتحريمه إلا انها اختلفت في الوقت الذي حرمت فيه ففي بعض الروايات أنه يوم خيبر و في بعضها يوم الفتح و في بعضها عام أو طاس «و هو عام الفتح» و في بعضها في غزوة تبوك و في بعضها في حجة الوداع و في بعضها في عمرة القضاء انتهى و قد ذكرنا في الوجه الأول من المقام الرابع أن الروايات التي يروونها في تحريم المتعة لا تجديهم في مدعاهم و لو كانت ألفا لأنهم يروون نسخ تحريمها بعد ذلك كما أخرجه مسلم و احمد عن سلمة بن الأكوع رخص لنا رسول اللّه في المتعة عام أوطاس ثلاثا ثم نهى عنها فلم يبق عندهم في النهي بعد ذلك إلا هذه الرواية و رواية سبرة التي ذكرنا اضطرابها المزري بها. و لم تذكر رواية تحريمها إلى يوم القيامة الا رواية سبرة هذه و ما هي قيمتها بعد ذلك الاضطراب فضلا عن سقوطها بما ذكرناه في المقام الثالث من تظاهر الأحاديث و تعاضدها و الاستفاضة عن عدة من الصحابة و التابعين على شرعيتها بعد ما فارق رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الدنيا و انقطع الوحي. حتى لو فرضنا انهم رووا انها أبيحت قبل وفاته (صلی الله علیه و آله) بشهر مثلا.

و قال ابن رشد ايضا و اشتهر عن ابن عباس تحليلها و تبعه على القول بها أصحابه من اهل مكة و اهل اليمن (أقول) و قد تحقق من الأحاديث المتقدمة عن ابن عباس و ابن مسعود و علي امير المؤمنين بالرواية عنه من طرق الفريقين انها باقية على الحل بعد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و كما صح ذلك من طرقهم عن الحكم بن عيينة من التابعين و من طرق الإمامية عن الباقر و الصادق (علیه السلام) و حكاه (1) العلامة القول بحلها عن ابن جريح و سعيد بن جبير و مجاهد و عطا و غيرهم من التابعين و تقدم في الروايات العمل بذلك في زمان عمر من عمر و بن حريث و ابن فلان و ربيعةظ)

ص: 84


1- حكى (ظ)

ابن امية و الشامي الصحابي بل و من شهد على نكاحه من الصحابة و ام عبد اللّه بن خيثمة فهل لأحد بعد ذلك ان يدعي الإجماع على تحريمها- المقام الخامس- في الأمور التي يتشبثون بها لتحريم المتعة. منها دعوى الإجماع و قد عرفت و هنها. و منها ما أخرجه الحاكم في تفسير سورة النساء من مستدركه عن أبي ملكية سئلت عائشة عن متعة النساء فقالت بيني و بينكم كتاب اللّه و قرأت و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم او ما ملكت ايمانهم فمن ابتغى وراء ما زوجه اللّه أو ملكه فقد عدا انتهى بدعوى ان مراد عائشة ان المستمتع بها ليست زوجة و قد حصر اللّه الحل بالزوجة و المملوكة (أقول) و هذا التشبث مردود لو لا بالمنع مما نسبتموه لعائشة و لعلها تريد ان المستمتع بها زوجة لما جاء من شرعية المتعة. و ثانيا لو أرادت ما ذكرتم لكان اجتهادا يرده ان آيتي إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ جاءتا في سورتي المؤمنون و المعارج المكيتين باتفاق المفسرين فيكون ما ثبت من تحليل المتعة ناسخا لحصرهما لو سلمنا ان المستمتع بها ليست بزوجة. و ثالثا ان الزوجة هي المنكوحة بعقد مشروع و المستمتع بها زوجة بحكم تشريع المتعة. و منها ما ذكره ابن الروزبهان في معارضته لنهج الحق من دعوى الإجماع على ان المستمتع بها ليست بزوجة لأنها لا ترث و يرده ان دعوى الإجماع هنا لا قيمة لها في سوق العلم و شرف المعرفة و إن النظر إلى عدم الإرث غفلة عن الزوجة الكتابية و المسلمة القاتلة لزوجها.

و هل بين الزوجية و الإرث اتحاد في المفهوم أو ملازمة عقلية و هل الوارثية إلا حكم شرعي يثبت للزوجة بدليله و يرتفع بدليله كما في الكتابية و القاتلة. و منها دعوى نسخ المتعة بآيات الطلاق و العدة و الميراث. و قد تقدم رد ذلك. و منها قوله تعالى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. و قد تقدم رد التشبث بذلك و ان التزوج بالمتعة إحصان شرعه اللّه و كيف للنفس و الزوجة عن الطموح إلى الزنا و إن قصرت مدته. و اما ما ذكره صاحب المنار في تفسيره من ان الشيعة لا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا فكأنه اخذه من تساهل السماع دون النظر في كلمات الشيعة في مصنفاتهم و عناوين دروسهم ليرى و يسمع منهم ان النكاح الدائم جعلوه شرطا بمقتضى أحاديثهم في الإحصان الذي يجب معه الرجم لا في مطلق الإحصان المراد في الآية الشريفة كما اشترط ابو حنيفة الإسلام و حرية الزاني و الزانية و زاد مالك ان يكون في حالة لا يكون الوطء فيها محرما كأيام الحيض و الصيام. فهل يقول انهم جعلوه هذه الشروط شروطا في إحصان الآية و ان من فقد هذه الصفات و الشروط يكون في ذلك الحال

ص: 85

مع زوجته من المسافحين لا من المحصنين (1)- و منها- ما جعله الرازي في تفسيره الحجة الثانية لمن يقول بتحريم المتعة و تبعه على الاحتجاج صاحب المنار في تفسيره و هو ما روي عن عمر انه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) انا انهى عنهما و أعاقب عليهما و ملخص وجه الاحتجاج هو ان عمر ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة و ما أنكر عليه احد فلا بد من ان يكون سكوتهم لعلمهم بالتحريم من رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و إلا لكان مداهنة منهم و هو يوجب تكفير عمر و تكفير الصحابة و هو باطل و لا يجوز ان يكونوا غير عالمين بكون المتعة مباحة و محظورة لأن المتعة مما يحتاج اليه فيمتنع ان يكون أمرها مخفيا عليهم بل يجب ان يشتهر العلم به- قلنا- أولا لا يلزم من علمهم بحلها ان يكون سكوتهم مداهنة يلزم منها تكفيرهم و تكفير عمر- معاذ اللّه- بل يجوز ان يكونوا جوزوا عليه الاجتهاد خطأ و قد رأوا منه الجد الشديد في منعهما و الإصرار القاطع على اجتهاده فسكتوا حفظا لاجتماع الكلمة و حذرا من عواقب الخلاف في الجامعة الإسلامية فلا يلزم من ذلك تكفير لأحد و يجوز ان يكون هناك وجه آخر و آخر لا يلزم منهما التكفير- و ثانيا- لماذا غفل الرازي و من احتج بحجته أو تغافلوا من ان تحريم عمر للمتعة في هذه الرواية و في روايات جابر و سعيد بن المسيب كما تقدم قد كان مقرونا بتحريم متعة الحج ايضا فلما ذا سكتوا حينئذ عن تحريمها. هل يستطيع الرازي او غيره ان يقول انهم سكتوا لعلمهم بتحريمها من رسول اللّه. اذن فلما ذا اتفق المسلمونثر

ص: 86


1- و قال صاحب المنار في تفسيره في المتعة ايضا (و ان كان هناك نوع ما من إحصان فإنه لا يكون فيه شي ء من إحصان المرأة التي تؤجر كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل: كرة حذفت بصوالجة، يتلقفها رجل رجل) و أقول كما يمكن ان يتفق وقوع هذا في نكاح المتعة فإنه يمكن ان يتفق وقوعه في النكاح الدائم ايضا كالمرأة التي تتزوج ثم تطلق بعد سنة و بعد عدتها ييسر اللّه لها خاطبا فيستحب لها او يجب عند خوف الفتنة ان تتزوجه ثم يطلقها او يموت و بعد العدة ييسر اللّه لها ثالثا فتتزوجه على كتاب اللّه و سنة رسوله ثم يطلقها او يموت فييسر اللّه لها رابعا و هكذا إلى ما شاء اللّه كرة حذفت بصوالجة، يتلقفها رجل رجل. على ما سوغته الشريعة من الزواج بحدود العدة فهل يمكن ان يقال إن هذا لا يكون فيه شي ء من إحصان المرأة. و لو كان هذا الحال قبيحا فاسدا عند اللّه لا يصح ان يشرع ما يؤدي اليه للزم ان يقيد شرع النكاح و الطلاق و العدة و وطء الإماء و التسري بهن و بيعهن بما لا يؤدي اليه و لا يقع فيه ذلك فيقيد به نكاح المتعة ايضا و لئن جاز ان ينقطع الإحصان بالطلاق بعد يوم او اكثر فما هو المانع من انقطاعه بأجل المتعة الذي قد يبلغ خمسين سنة او اكثر

على مشروعيتها من ذلك العصر إلى الآن و لم يؤثر فيهم ما يروى من تشديد عمر و عثمان و ابن الزبير. نعم لم يكن في متعة الحج ما يروى من التهديد بالرجم فلذا أمكن الناس ان يحافظوا على سنتها تدريجا بالملاينة. اخرج احمد في الجزء الأول ص 39 و مسلم و النسائي في حج التمتع من طريق طارق بن شهاب عن أبي موسى في حديث انه كان يفتي بالمتعة على ما علمه من رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و عمل به حتى في ايام أبي بكر و عمر إذ قال له قائل في مكة انك لا تدري ما أحدث امير المؤمنين في النسك فقال يا ايها الناس من كنا افتيناه بفتيا فليتئد فإن امير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتموا (1) فلما قدم قال له يا امير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في النسك و في رواية احمد في الجزء الرابع ص 393 فقلت يا امير المؤمنين هل أحدثت في المناسك قال نعم. (أقول) و لم يكن جواب عمر لابي موسى إلا بيان اجتهاده و رأيه كما ذكرناه في الجزء الاول ص 172 و 173 و اخرج الترمذي ان شاميا سأل عبد اللّه بن عمر عن متعة الحج فقال هي حلال فقال الشامي ان أباك قد نهى عنها فقال عبد اللّه أ رأيت ان كان أبي نهى عنها و صنعها رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أ فرأي أبي يتبع ام امر رسول اللّه الحديث. و

اخرج البخاري في كتاب التفسير في باب من تمتع بالعمرة إلى الحج عن عمران بن حصين قال أنزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و لم ينزل قرآن يحرمها و لم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء:

و هذه الرواية سواء كانت حقيقتها في متعة الحج او متعة النساء تكون ردا لهذه الحجة من المحتجين حلا و نقضا: و أخرجها مسلم ايضا و فيها «يعني متعة الحج»- و منها- ما ذكره ابن الروزبهان في معارضته لنهج الحق و هو ان النكاح يحتاج إلى ولي و شهود فتبطل المتعة فنقول انا نشترط فيها كل شرط ثبت في الكتاب او السنة انه شرط في المتعة بل قد نلتزم بالاحتياط عند الشك في الشرط فما ذا عنده بعد ذلك وَ لا جُناحَ و لا اثم او و لا منع عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ من إسقاط الأجر كلا او بعضا برضاء المرأة أو التراضي على.]

ص: 87


1- و هذه الرواية مما تشير الى وجه من جواب المحتجين إذ تقول أن أبا موسى يعلم بحكم التمتع من رسول اللّه و كان يفتي به ايام أبي بكر و عمر و يقول القائل أحدث امير المؤمنين في النسك و هو يقول لعمر ما هذا الذي أحدثت و مع ذلك يأمر الناس بان يتندوا فإذا قدم عمر ائتموا به [.....]

ذلك بعد ان تفرضوه فلا تتوهموا المنع و الجناح عليكم في ذلك من اشتراط هذا النكاح بإيتاء الأجر و كونه فريضة في العقد. فالآية في عقد المتعة التي لا بد فيها من فرض الأجر مثلها في قوله تعالى في الآية الثالثة فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً و يجوز ان يكون المعنى ما تراضيتم به من الشروط السائغة بعد الفريضة في العقد و عليه تجري موثقتا ابن بكير بحمل قوله (علیه السلام) بعد النكاح على انها في العقد بعد قوله أنكحت إلى كذا بكذا. و اما التراضي على زيادة الأجل بمهر آخر فالمشهور عند الإمامية و الموافق للقاعدة و مقطوعة أبي بصير و رواية ابان عن الصادق (علیه السلام) المرويتين في الكافي و روايتي العياشي عن أبي بصير عن الباقر (علیه السلام) و عن أبي بصير عن الصادق (علیه السلام) انه لا يجوز الا بعقد جديد بعد ان ينقضي الأجل او يهبها المدة الباقية ثم يعقد عليها جديدا على ما تراضيا عليه و في مجمع البيان ان هذا قول الإمامية و تظاهرت به الروايات عن أئمتهم. و نسبه ايضا إلى السدي كما رواه عنه في الدر المنثور. نعم إن الحكم المذكور هو مذهب الإمامية و تظاهرت الروايات على الحكم لكن حمل الآية على هذا يحتاج إلى تكلف في تأويل قوله تعالى «مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ». و اما رواية بصائر الدرجات في تمديد الأجل في أثناء المدة فموهونة بجهالة حال المدائني و مخالفتها لقاعدة النكاح المشهور فضلا عن معارضتها بما يستوجب التقديم عليها إِنَّ اللَّهَ كانَ منذ الأزل و لا يزال عَلِيماً بما يحتاج العباد اليه من اللطف بالشريعة و تيسير أمورهم في مختلفات أحوالهم بما يقوم بحاجتهم في العصمة عن الزنا و مكافحة النفس الأمارة و يساعد على تكثير النسل. فكم من مسافر يطول سفره و لا يسمح له بالتزويج بالعقد الدائم. و كم من حاضر لا يتيسر له ذلك على ما يريد او يناسبه. و كم من ايم مؤمنة لا يقدم الناس على تزوجها بالعقد الدائم فشرع اللّه المتعة بحدودها الصالحة لكي تقوم بهذا الحوائج الماسة و هذا الإصلاح الكبير. و من ذلك يعلم جل اسمه انه يأتي زمان يمنع فيه من استرقاق الجواري الذي قد يقوم بشطر مهم مما أشرنا اليه من حاجة الرجال. و لو لا ما تفاحش من كثرة الزنا السري و العلني و فحشاء اللواط لسمعت ضجة الناس من العسر و الحرج و شدة الضيق عليهم من حصر الأمر بالزواج الدائم و لو بقيت شرعية المتعة بحدودها الصالحة على رسلها بلا نكير تحريم و لا ملام غالب يوجب

ص: 88

سوء سمعتها لما كان للزنا و اللواط هذا الدويّ المدهش و الشيوع الفاحش الذي يستنزف الأموال الكثيرة و يهتك الشرف و يذيع الفساد و يشيع الأمراض الردية الموبقة المعروفة، و يقلل التناسل و يدنس الأخلاق و يكثر فيه المنبوذون المعرضون للهلاك. و من وباء هذه المفاسد صار التعقيم عملا لكثير من النساء و صار الكثير من الرجال تنقضي أيام شبابهم و لا يولد لهم.

و لو وجد نوع مشروعا على رسل مشروعيته يغنيهم عن خسة الزنا في حاجتهم إلى النساء لما استرسل أكثرهم في رذيلة الزنا و مفاسده و اتباع الهوى و بوائقه حتى استدرجهم ذلك فاجترءوا على الزنا بالمحصنات الموجب لاختلاط الأنساب، و سورة العشرة، و مفاسد أولاد الزنا. و لكان الأمر كما

قال امير المؤمنين (علیه السلام) و ابن عباس «لما زنى إلا شقي» أو إلا شقي

اي قليل.

و لما حدثت هذه المفاسد المعضلة العظيمة الإخلال بالنظام الشرعي و العمراني: و قد دون في كتب الفقه للإمامية من احكام المتعة و آدابها حسبما تلقوه من مصدر الوحي و أمنائه ما يوقف المتعة في صف العقد الدائم في راحة الإنسانية و حفظ الشرف و العفة و النزاهة و كرامة النسل و حفظه من الاختلاط بميزان العدة و النواميس الشرعية و قد جمع من أحاديثها في الوسائل عن أئمة أهل البيت في آدابها و أحكامها ما دونه في كتاب النكاح في سبعة و أربعين بابا. فالزوجان المتمتعان إذا كانا ملتزمين بالشريعة و أجريا المتعة على احكامها الشرعية و آدابها لم يعرض في أمرهما و لا امر نسلها ادنى خلل من حيث النظام العمراني و لا الاجتماعي و لم يضع نسلهما من جهتيهما و لم يعروه اختلاط و لم يقصر في جميع أموره حتى النفقة و التربية عن نسل العقد الدائم بوجه من الوجوه سواء كان التمتع في وطن الزوجين أو في دار الغربة لهما أو لأحدهما مهما كانت نائية. و أما غير المتشرعين فنجعلهما في صف غير المتشرعين في لوازم العقد الدائم و احكامه. كالرجل يتزوج ثم يهاجر إلى البلاد النائية كما نعرفه في كثير من المهاجرين إلى أمريكا و اقاصي افريقا حيث تركوا أطفالهم و أزواجهم ضياعا بلا كفيل حتى صاروا في حالة يرثى لها و يا ليتهم طلقوا نساءهم ليتزوجن و يكفين أنفسهن امر المعيشة و يصرن في حماية الأزواج- او كمن يتزوج في بلاد غربته فيولد له حتى إذا وجد فرصة الرجوع إلى بلاده أو التنقل في سياحة تركهم نسيا منسيا لا يعرفون لهم أبا و لا كفيلا. أو كالذي يطأ أمته أو يتسراها ثم يبيعها في بلاد الغربة و هي حامل منه فيكون ولده منها ابن الغربة و ربيبها و مكفولها او منسوبا لغير أبيه أو أسيرا للرق. و إذا كانت هذه الأمور من غير المتشرعين لا تخد

ص: 89

في شرعية العقد الدائم و لا جواز الوطء للمملوكات فبالحري ان لا تخدش في شرعية المتعة كما يزعمه بعض الناس من بعث عاطفتهم الطائفية في تهويلهم باخلال المتعة بالنظام الشرعي و العمراني على ما يفرضون وقوعه في متعة غير المتشرعين. و من طبع هذه العاطفة ان لا تسمح لهؤلاء المهولين بأن يلتفتوا إلى ما ذكرنا وقوعه من غير المتشرعين من المتزوجين بالعقد الدائم و الواطئين لإمائهم. او يلتفتوا إلى ما ذكر من شرعية المتعة في الكتاب و السنة فيما تقدم من المقام الاول و الثاني و الثالث بل و الرابع و الخامس لكي يلتفتوا إلى ان تهويلاتهم تكون منهم كتلة اعتراضات على اللّه و رسوله و كتابه في تشريع المتعة. و كان اللّه عليما حَكِيماً في شريعته

سورة النساء (4): آية 25

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

25 وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الطول من حيث اللفظ مصدر كما نص عليه أهل اللغة و أما من حيث ما يرجع إلى المعنى ففي التبيان و مجمع البيان الطول الغنى. و في الكشاف المعنى زيادة في المال وسعة يبلغ به نكاح الحرة. و في كنز العرفان من لم يكن له زيادة في المال و في القاموس الفضل و القدرة و الغنى و السعة. و في الدر المنثور مما أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي عن ابن عباس من لم يكن له سعة ان ينكح الحرائر. و لم أجد من خرج عن هذه المعاني. و المعنى الذي يتردد بينها غير داخل في قدرة الإنسان و استطاعته بل هو امر بيد اللّه. اذن فلا يصح ان تكون كلمة «طولا» مفعولا به لكلمة «يستطيع» كما يلوح من بعض المفسرين و صرح به الفخر الرازي أولا في تفسيره و لكنه تفطن لعدم الجواز و قال انه على المفعولية يكون معنى الآية فمن لم يقدر منكم على القدرة انتهى. فالأظهر ان «طولا» مفعول لأجله لبيان جهة الاستطاعة المذكورة. و ليس في الآية ما يشير إلى نظر الطول إلى خصوص المهر بل هو متعلق بالتزويج و ما يحتاج اليه في امره من المؤنة و منها نفقة الحرائر. و المرجع في استطاعة الطول إلى العرف بحسب حال الشخص و نظام تعيشه أَنْ يَنْكِحَ المصدر مفعول لكلمة «يستطع» و الأظهر ان النكاح هو التزويج دواما و متعة و لكل إنسان رغبة في أحدهما بحسب حاله من سفر أو حضر أو غير ذلك. فمن لم يستطع طولا ان يجري أحدهما مع الحرائر انتقل به إلى الإماء على ما تقتضيه الآية بإطلاقها و عليه مضمرة محمد بن صدقة البصري المروية عن تفسير العياشي و هذا هو وجه المناسبة بين الآية و ما قبلها فإنها تعرضت للصورة النازلة من نكاحي الدوام و المتعة

ص: 90

تتميما لأحكام النكاح و آدابه الْمُحْصَناتِ بفتح الصاد. و المراد منهن الحرائر العفائف المحصنات بالصون بالنسبة إلى حالة الإماء نوعا في الابتذال الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما اي فلينكح مما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ايها المسلمون المخاطبون فلا يدخل الشخص المعبر عنه بالغيبة بالنسبة لبيان الحكم في نكاحه. و جواب الشرط للإباحة بالمعنى الذي يعم رجحان الترك و الصبر عليه مِنْ فَتَياتِكُمُ يقال للأمة فتاة و ان كانت مسنة الْمُؤْمِناتِ فعسى ان تمنعهن ملكات الإيمان الحميدة و اتباعهن للشريعة المقدسة عما يخشى من الأمة في تبذلها نوعا من بوادر منافيات العفة و سوء المعاملة فإن الإيمان الصحيح الثابت رادع نوعا عن السوء. و لكن لا سبيل لكم إلى العلم بما لأفرادكم من الإيمان الثابت و ملكاته الحميدة و ما دون ذلك من مراتب الإيمان المختلفة، و الأخلاق المتفاوتة في البعد عن عادات الجاهلية و رذائلها و القرب منها وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ و ما لكل منكم من مراتبه و أخلاقه و ملكاته. و انكم لتعلمون انكم بشر بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ في الاختيار في الأعمال. فمنكم من يقبل على اللّه فيجيب داعيه إلى الإيمان و الطاعة و الصلاح فيوفقه لمراتب الكمال السامية. و منكم من يتبع الهوى بسوء اختياره و ينقاد للشهوات و غواية الشيطان. و منكم من يكون بين ذلك على احدى المراتب المتفاوتة فعليكم بظاهر الحال و ما يقتضي لكم الوثوق باستقامة الأمة من مظاهر إيمانها: و في مختصر التبيان أي كلكم من ولد آدم و قيل كلكم على الإيمان و يمكن ان تكون الأمة أفضل من الحرة و اكثر ثوابا عند اللّه و في ذلك تسلية لمن يعقد على الأمة إذا جوز ان تكون اكثر ثوابا عند اللّه انتهى و على هذا النهج جرى في مجمع البيان و الكشاف و تفاسير الرازي و أبي السعود و صاحب المنار و لكن الظاهر لنا من مجموع الآية و شروطها و قوله تعالى في آخرها وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ هو ما ذكرناه. و عليه يكون المحصل من مجموع الاية و إذا خشيتم العنت و لم تصبروا كما هو الاشارة الأخيرة في الاية فَانْكِحُوهُنَّ فيه التفات إلى خطاب المحتاج إلى نكاح الأمة بعد ذكره بالغيبة. و الأمر هنا للاباحة التي تعم المرجوح. و النكاح التزوج بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اي مالكهن و في ذلك اشارة إلى كفاية الاذن من مالك الأمة في تزويجها اي لا يكون بغير اذنه وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ كما يستحق

ص: 91

بشريعة الزواج فانه أجرها و مقابل بعضها و ان رجع إلى المالك بِالْمَعْرُوفِ من عادة الزواج الشرعي و مهره حال كونهن بهذا الزواج مُحْصَناتٍ قد أقدمن على الزواج للإحصان على الشريعة و سنة الرسول (صلی الله علیه و آله) غَيْرَ مُسافِحاتٍ و قاصدات للزنا و اتباع الشهوات وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ الخدن

الخليل و الصاحب و المراد هنا الاختصاص بخلته و صحبته للزنا. و قيل ان المراد تزوجوهن حال كونهن عفائف غير زانيات في العلن و السر. و الأول أظهر فَإِذا أُحْصِنَّ بضم الهمزة و كسر الصاد كما هو القراءة المتداولة المعهودة بين المسلمين و عليها اكثر السبعة حتى عاصم في غير رواية أبي بكر عنه. فلا يناسبها تفسير الإحصان بالإسلام لأن الإسلام من فعلهن الصادر منهن لا واقع من غيرهن عليهن. بل

المراد الإحصان لهن بالتزويج كما في صحيح الكافي و التهذيب و عن محمد بن مسلم عن أحدهما يعني الباقر أو الصادق عليهما السلام و صحيح التهذيب عن يونس عن الصادق (علیه السلام). و في الدر المنثور مما أخرجه ابن المنذر و ابن مردويه و الضياء في المختارة و ما أخرجه ايضا ابن أبي شيبة و ابن جرير عن ابن عباس

و اما ما في الدر المنثور مما أخرجه ابن أبي حاتم عن علي (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال احصانها إسلامها.

و قال انه حديث منكر. و ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن مسعود من قوله احصانها إسلامها فيكفي في سقوطه معارضته بما

أخرجه سعيد بن منصور و ابن خزيمة و البيهقي عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في حديث قوله (صلی الله علیه و آله) حتى تحصن بزوج. فإذا أحصنت بزوج:

هذا فضلا عن ان مؤدى الحديثين عن الرسول (صلی الله علیه و آله) و ابن مسعود لا يناسب القراءة المتبعة كما ذكرناه و ايضا إذا نظرنا إلى قوله تعالى فَإِذا أُحْصِنَّ إلى آخر جواب الشرط قد وقع تفريعا في ضمن ما لنكاح الإماء المؤمنات من الأحكام وجدنا انه لا يحسن ان يكون الموضوع لحكمه غير الإماء المتزوجات فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ توجب الحد الشرعي فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ و الذي ينصف من حد الزنا و له عدد مخصوص هو المائة جلدة. و اما الرجم فهو مقدمة مخصوصة لازهاق النفس بلا تقدير ينصف بل حده الموت فليس له نصف موزون بميزان يعول عليه. و لعل قوله تعالى مِنَ الْعَذابِ يراد به نصف ما هو عذاب مع بقاء الحياة الذي قال فيه تعالى وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ

ص: 92

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و ليس لشرط الإحصان بالتزويج مفهوم و لا دليل خطاب. لقيام القرينة على ذلك من أحاديث المسلمين. فمن ذلك ما

أخرجه عبد الرزاق و البخاري و مسلم عن زيد بن خالد الجهني ان النبي (صلی الله علیه و آله) سئل عن الأمة إذا زنت و لم تحصن قال (صلی الله علیه و آله) اجلدوها.

و اخرج احمد في مسند علي (علیه السلام) و الترمذي عن عبد الرحمن السلمي قال خطب علي (علیه السلام) فقال ايها الناس أقيموا الحدود على ارقائكم من أحصن منهم و من لم يحصن و ان أمة لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) زنت فأمرني ان اجلدها.

و أخرج احمد ايضا عن أبي جميلة عن علي (علیه السلام) نحوه مع تقديم و تأخير و فيه أقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم.

و في الدر المنثور اخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر عن انس بن مالك انه كان يضرب امائه الحد إذا زنين تزوجن او لم يتزوجن انتهى و على هذا عمل علماء الأمصار من اهل السنة و لا يعرف فيه خلاف بين الإمامية بل الظاهر إجماعهم عليه. و عليه صحيح الفقيه و الكافي و التهذيب عن بريد عن الصادق (علیه السلام) و صحيح الكافي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام و صحيح التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (علیه السلام). بل لا مفهوم و لا دليل خطاب في الآية حتى لو قلنا بأن المراد من إحصانهن اسلامهن. لما رواه مالك و البخاري و مسلم و ابو داود عن ابن عمر في قصته امر رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) برجم اليهودي و اليهودية. و رواه ابو داود ايضا عن جابر و البراء بن عازب و أبي هريرة. و رواه الترمذي بدون القصة. فيجب الحد على غير المسلم ايضا و هو مذهب الشافعي. و لا خلاف فيه بين الإمامية. و هو مفاد العموم في لفظ العبيد

في الصحيح المروي في الكافي و التهذيب عن الباقر (علیه السلام) قضى امير المؤمنين في العبيد إذا زنى أحدهم ان يجلد خمسين جلدة و ان كان مسلما او كافرا او نصرانيا. و على ذلك ايضا رواية قرب الاسناد عن الكاظم (علیه السلام)

فالفائدة في الجملة الشرطية هو بيان وجه من وجوه الإرشاد الى ان الصبر عن تزوج الإماء خير. و ذلك انهن في حال الإحصان بالتزويج قد اقتضت الحكمة و الرحمة ان لا يشرع في حدهن الا جلد خمسين سوطا مع ان دواعي الزنا مع ابتذالهن في الرق و الخدمة اقرب إليهن بالنسبة الى الحرائر المصونات نوعا و حد الحرائر الجلد و الرجم فرادع الإماء في حال الإحصان أضعف من رادع الحرائر و دواعيهن الى الخنا نوعا اقرب من دواعي الحرائر ذلِكَ اي نكاح المؤمنات بحسب الظاهر من إماء المسلمين لمن لم يجد طولا ان ينكح الحرائر من المؤمنات انما

ص: 93

هو لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ في التبيان العنت معناه هنا الزنا و قيل الضرر الشديد في الدين او الدنيا مأخوذا من قوله تعالى وَدُّوا ما عَنِتُّمْ و الأول أقوى. و جعله في مجمع البيان الأصح و في الكشاف فسره بالإثم مع قوله بأنه مستعار للمشقة و الضرر. و قد ذكرنا في الجزء الأول ص 196 في قوله تعالى وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ و في ص 334 في قوله تعالى وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ان معنى العنت دائر بين الشدة و المشقة و نحو ذلك و لا دليل على ان المراد هنا الزنا او الإثم فالصحيح تفسيره بمن خشي الشدة و المشقة بسبب العزوبة او من جهة من الجهات. إذا لم يصح ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس من ان العنت الزنا. و لا ما أخرجه الطستي عنه من انه الإثم وَ أَنْ تَصْبِرُوا بفتح الهمزة اي و صبركم عن نكاح الإماء حتى مع عدم الطول و خوف العنت خَيْرٌ لَكُمْ لأن في نكاحهن نوعا حزازات و عواقب يرغب عنها كما ذكرنا بعضها في الأثناء و تزيد على ذلك بأن امر الأمة في غير ما يعارض تمتع الزوج انما هو بيد المولى. و ان نكاحها معرض للفسخ فيذهب ما بذله من المهر هدرا و ذلك إذا بيعت او انتقل ملكها إلى آخر او اعتقت و هذه حزازات كبيرة. نعم ليس منها عند الامامية صيرورة الولد رقا فإن الولد عندهم بحسب اصل الشرع يتبع الحر من أبويه في الحرية كما عليه المعول من حديثهم و إجماعهم الذي لا يقدح فيه خلاف الإسكافي- هذا و قوله تعالى خَيْرٌ لَكُمْ مع ما ذكرنا في قوله جل اسمه الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يرشد الى ان المقام مقام ارشاد الى اجتناب نكاح الإماء لما فيه من الحزازات و المحاذير نوعا لا مقام تحريم كما هو الأشهر بين الامامية و يشهد له ما

في الكافي و التهذيب من قول الصادق (علیه السلام) «لا ينبغي» كما رواه ابو بصير و أرسله ابن بكير عن بعض أصحابنا.

و اما صحيح زرارة عن الباقر (علیه السلام) سألته عن الرجل يتزوج الأمة فقال (علیه السلام) لا الا ان يضطر الى ذلك.

فلا دلالة فيه على التحريم بل هو على الكراهة و ما يرجع الى الإرشاد ادل فان الظاهر من الاضطرار كونه امرا فوق عدم الطول و خوف العنت فعدم الاضطرار يجتمع معهما فلا يمكن ان يكون النفي الشامل له للتحريم على خلاف تجويز الآية بل للكراهة و الإرشاد الذي يرتفع بالاضطرار و لا يكون مصداقا لقوله تعالى وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ. و من ذلك يعرف الكلام

في موثقة أبي بصير عن الصادق (علیه السلام) في الحر يتزوج الأمة قال (علیه السلام) لا بأس إذا اضطر إليها. و نحوها رواية التهذيب عن محمد بن

ص: 94

مسلم عن الباقر (علیه السلام).

و دعوى ان السؤال في الروايات عن الحل المقابل للتحريم مجازفة فان غاية ما في السؤال هو كونه عن الشأن الشرعي في تزويج الأمة مضافا الى ما ذكرناه من خلل الحمل على التحريم في غير الاضطرار كحال خوف العنت وَ اللَّهُ غَفُورٌ لمن يخالف هذا الإرشاد و الكراهة رَحِيمٌ بعباده في إرشادهم الى ما يصلحهم و غفرانه لمخالفة ارشاد مولاهم و آلههم

سورة النساء (4): آية 26

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)

26 يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ قال في الكشاف اللام زائدة و الأصل ان يبين. قال ذلك ليجعل المصدر مفعولا فتكون اللام لغوا. و ما أهون دعوى الزيادة عليه. و لم يقل شيئا في نظائرها من القرآن الكريم مثل قوله تعالى في سورة المائدة ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ. يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ. و التوبة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ. و الأحزاب إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ. و القيامة يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ: و مثله قول كثير على ما في مجمع البيان:-

أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل

و نحوه ايضا ما سنذكره من البيتين. و قد ذكرنا بعض ما في دعاويهم للزيادة في الجزء الأول ص 38 حتى 41 و 361 و 362، و في مختصر التبيان مرسلا و مجمع البيان عن الزجاج عن سيبويه ان اللام دخلت هنا على تقدير المصدر اي ارادة اللّه للبيان لكم نحو قوله تعالى إن كنتم للرؤيا تعبرون انتهى و مرجع التمثيل إلى انهما لام التقوية و هو غريب من مثل سيبويه إذ يأول القوي بالضعيف ليحتاج الى لام التقوية و مع ذلك يبقى المبتدأ بلا خبر و هل يكون مثل هذا التكلف في القرآن الكريم لكن في المغني قال الخليل و سيبويه و من تابعهما ان الفعل مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء و اللام و ما بعدها خبر اي ارادة اللّه للتبيين على ان تكون اللام للتعليل. أقول و مع التكليف الذي لا يناسب كرامة القرآن يبقى الكلام ناظرا إلى متعلق الارادة و مفعولها فما هي فائدة الفرار الى التأويل. و قيل ان اللام بمعنى «ان» المصدرية ليكون المصدر مفعولا ليريد. و نقل في مختصر التبيان و مجمع البيان و شرح الكافية للشيخ الرضي و تفسير الرازي انها بمعنى «ان» مثلها في التي تقع بعد «امر» كقوله تعالى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ و يرد ما ذكروه أولا ان مجي ء اللام بعد ان المصدرية لم تقم عليه حجة- و ثانيا- انها لو كانت كما يقولون لما وقعت بعدها «كي» و «ان» المصدريتان كما أنشده الزجاج:-

أردت لكيما يعلم الناس انها سراويل قيس و الوقوف شهود

ص: 95

و قول الآخر:-

أرادت لكيما لا ترى لي عثرة و من ذا الذي يعطي الكمال فيكمل

و قوله تعالى في سورة الزمر 11 وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ فالصحيح هو ان اللام للتعليل و مفعول «يريد» في الموارد التي ذكرناها من القرآن الكريم محذوف. يقدر في كل مقام بحسب ما يناسبه و يقتضيه و قد ذكرنا في الجزء الأول ص 81 و 82 ان مثل هذا الحذف باب من أبواب البلاغة. و مما يناسب الآية ان يكون التقدير فيها. يريد اللّه ان يفصل لكم شرايع النكاح او الشرايع المذكورة في السورة او ما قبلها لكي يبين لَكُمْ ما هو الصالح في نظامكم و أخلاقكم و سعادتكم وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ التي شرعها اللّه و سنها لهم لصلاحهم فاتخذوها بإيمانهم و طاعتهم للّه سننا متبعة مما اقتضت المصلحة ان يسن لكم ايضا في شريعة الإسلام وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ مما سلف من عملكم بعادات الجاهلية الفاسدة و تشريعاتها الوحشية الخسيسة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ بسبب وسيلتكم إلى رحمته من طاعتكم و اتباعه لما بيّنه لكم من شريعته فإن ذلك توبة منكم عما سلف (1) وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يصلحكم و يصلح نظامكم حَكِيمٌ في شريعته و بيانها

سورة النساء (4): آية 27

وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)

27 وَ اللَّهُ بلطفه و رحمته يُرِيدُ و يحب أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ بأن تصلحوا اعمالكم و تتبعوا شريعة الحق و صلاحها و يكون ذلك توبة منكم عما سلف فتكونوا أهلا لأن يتوب اللّه عليكم. و الارادة هنا نظيرة للارادة التكليفية لا التكوينية وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ المردية المورطة في قبائح الأعمال و رذائل الأخلاق و موبقات المعاصي كما تعرفونه أَنْ تسترسلوا مثلهم في اتباع الشهوات و خسة الغواية و تكونوا مثلهم في جماحهم رغبة منهم في الغي و تكثير أمثالهم و تقليل النكير عليهم و عنادا للحق و تَمِيلُوا عن الرشد إلى مثل غيهم و ضلالهم مَيْلًا عَظِيماً كميلهم. و لا تحسبوا أن شريعة الحق و الإصلاح ذات عب ء ثقيل و قيود باهظة. بل جمعت

ص: 96


1- و للرازي في أواخر كلامه في الآية اشكال و جواب خلط فيهما بين المعنى في توبة العبد إلى اللّه و في توبة اللّه عليه. و استقصاء الكلام في النقد لكلمات الاشكال و الجواب يفضي إلى تطويل فلندع كلامه لما به و يكفينا استلفات الناقدين لما فيه

بين فضيلة الإصلاح و التهذيب و حسن النظم و النظام الحميد على الحكمة و بين فضيلة الرأفة، و التيسير في احكامها بل و كون العمل عليها و اتباعها سببا لتخفيف الأوزار السابقة

سورة النساء (4): الآيات 28 الى 29

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)

28 يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً بفقر إمكانه و اقتضاء الحكمة في تعريضه للسعادة لأن يخلقه اللّه مختارا في اعماله ذا شهوة يتنعم بها في لذة المباح الصالح في المجتمع. و قد أعانه اللّه بلطفه بالعقل و الرسل و الأئمة و شرايع الحق و دعاة الصلاح بالحكمة و الموعظة الحسنة. و الأنسب بكرامة القرآن و سمو مقاصده و شرف بيانه ان تكون هذه الآية و اللتان قبلها جاريات على ما يليق بها من العموم 29 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يخفى ان احكام الآية عامة في إصلاحها لا تختص بالمؤمنين و لكن جرى الخطاب لهم باعتبار انهم هم المنصتون حينئذ لخطاب الوحي و المنقادون لأوامر اللّه و نواهيه، و المذعنون بأنه يخاطبهم بشريعة الحق و الحكمة لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ و الأكل كناية عما يعم الاستيلاء على الأموال بالحيازة. و المراد كما هو الظاهر لا يأكل بعضكم اموال بعض فيما تتعاملون فيه بينكم على غير جهة العطية و الرضا و طيب النفس بما تعرفون من فطرتكم و شريعة الحق انه باطل و على غير الحق. و قد ذكرنا في الجزء الأول ص 164 ما ورد في بعض المصاديق من أكل المال بالباطل. و

روى في التهذيب عن الصادق (علیه السلام) في هذه الآية ما حاصله إن من أكل المال بالباطل أن يكون على الإنسان دين و عنده مال ينفقه في حاجته بل عليه ان يفي به دينه و ان احتاج إلى الصدقة

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً بنصب تجارة قال في مختصر التبيان حتى تكون الأموال تجارة او اموال تجارة فحذف المضاف و نصب المضاف اليه في مقامه و يجوز ان يكون التقدير إلا ان تكون التجارة تجارة.

و تبعه على ذلك في مجمع البيان و استشهد بقول الشاعر «إذا كان يوما ذا كواكب اسفعا» و الاستثناء على التقديرين منقطع لأنه ليس من أكل المال بالباطل. أقول الأموال ليست بتجارة بل هي ما يتاجر به. و في قوله (او اموال تجارة) إلى آخره زيادة حذف و تقدير. و يجوز ان يكون المعنى إلا ان تكون المعاملة التي تأكلون بها الأموال تجارة عن تراض و منها الإجارات و الجعالات. و بما ان التجارة المشروعة هي ما كانت عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ تكون الصفة

ص: 97

توضيحية فيكون معنى تقديرهم إلا ان تكون التجارة تجارة عن تراض بمعنى إلا ان تكون التجارة تجارة مشروعة لا من نحو تجارات الجاهلية التي أبطلها الشرع وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ

عن العياشي عن أسباط بن سالم سأل الصادق عليه السلام رجل عن ذلك فقال عنى بذلك الرجل من المسلمين يشد على المشركين وحده يجي ء في منازلهم فيقتل فنهاهم اللّه عن ذلك. و عنه ايضا عن الصادق (علیه السلام) نحوه.

و في التبيان قيل لا تخاطروا بأنفسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه و هو المروي عن أبي عبد اللّه يعني الصادق (علیه السلام).

و عن العياشي بسنده عن زيد عن امير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في حديث سأله فيه عمن كان في برد يخاف على نفسه إذا افرغ الماء على جسده فقرأ صلى اللّه عليه و آله وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً.

و في الدر المنثور مما أخرجه احمد و ابو داود و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عمرو بن العاص في حديث انه اجنب في غزاة في ليلة شديدة البرد فخاف الهلاك من الاغتسال بالماء فتيمم فسأله رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) عن ذلك فذكر الحال و احتج بقوله تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فضحك رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و لم يقل شيئا. و نحوه ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس في قصة ابن العاص:

و في الفقيه قال الصادق (علیه السلام) من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها قال اللّه تعالى

وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. أقول و يمكن الجمع بين روايات العياشي و روايتي الدر المنثور و الطبراني و بين رواية الفقيه بأن المنهي عنه في الآية هي المقدمات و الأفعال التي ينشأ عنها زهوق النفس. و لا مانع ايضا من شمول الآية لقتل المسلم مسلما آخر بغير حق فإن المنهي عنه هو قتل النفوس المضافة الى جماعة المؤمنين الشاملة لنفس القاتل و نفوس غيره من المؤمنين و لا حاجة فيما ذكرناه الى الجمع بين الحقيقة و المجاز لا في الاضافة و لا في المضاف اليه إِنَّ اللَّهَ كانَ منذ الأزل و لا يزال بِكُمْ رَحِيماً يأمركم و يشرع لكم ما يصلحكم و ينهاكم عما يضركم فرديا و اجتماعيا

سورة النساء (4): آية 30

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

30 وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اي أكل الأموال بالباطل و قتل النفس عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ في الآخرة ناراً وَ كانَ ذلِكَ و لا يزال عَلَى اللَّهِ يَسِيراً و التفت من ضمير المتكلم الى لفظ الجلالة للتنبيه على الحجة

ص: 98

على كون ذلك يسيرا. و كيف لا يكون يسيرا على اللّه الإله الخالق القادر على احياء العظام و هي رميم و هو الذي انشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم

سورة النساء (4): آية 31

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)

31 إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ اي تتركونها جانبا معرضين عنها نُكَفِّرْ عَنْكُمْ ما عداها من سَيِّئاتِكُمْ التي تعملونها.

و قد ذكر التكفير في القرآن الكريم في نحو ثلاثة عشر موردا معدى بكلمة «عن» و من ذكر الكفارة في سورة المائدة 44 و 88 و 92 يتضح ان التكفير هو الرحمة بحط الوزر عن الوازر ببركة طاعة اخرى. و في هذه الآية اشارة الى أن تكفير السيئات هو ببركة الطاعة باجتناب الكبائر.

و الآية تدل على ان المنهي في الدين و الشريعة فيه ما هو كبير بالنسبة الى بعض آخر و ربما يعرف ذلك بحسب شدة قبحه و شناعته و مضاره و مفاسده. و ربما تكشف النصوص عن كبره و يكون بعض الافراد من غيره صغيرا بالنسبة اليه و ان كان ايضا بفساده الذي اقتضى نهي اللّه عنه بلطفه كبيرا في الفساد و المضرة في ذاته و شؤونه هذا كله بحسب ذات الفعل. و قد يقارن فعل الصغير جرأة و تمردا على اللّه و محادّة له تلحق الفعل بالكبائر في السوء فيكون بهذه الجهة داخلا بمقتضى الحكمة في الكبائر المذكورة. و من رحمة اللّه بعباده و لطفه و حكمته في الرادع عن الصغائر و الإصرار عليها و عد عباده و بشرهم بأن من تجنب الكبائر يكفر عنه ما عداها من السيئات. و هذا لا ينافي كون المعصية و المخالفة لعزائم اللّه في أوامره و نواهيه هي امر كبير في نفسه شديد قبحه. و ما أقبح مخالفة العبد الضعيف الفقير الجاهل بمصالحه و مفاسده، و المحاط بغواية الأهواء و الشهوات و النفس الأمارة. و الشيطان الغوي العدو، و ما اشنع معصيته لعزائم إلهه و ولي هدايته و إرشاده، و مولاه الغني العظيم غامره باللطف و الرحمة و النعم و الإحسان. و من نعمه العظيمة و لطفه جلت آلاؤه امره الوجوبي و نهيه التحريمي لأجل صلاح العباد و تكميلهم و إصلاحهم و نظم جامعتهم و سعادتهم في الدنيا و الآخرة.

روى في اصول الكافي في باب الكبائر عن الصّادق (علیه السلام) في رواية الحلبي و صحيحي ابن مسلم و أبي بصير ان الكبائر ما أوجب اللّه عليها النار اي أوجبها بوعيده و استحقاق الفاعل لها. و نحو صحيحة ابن محبوب عن الكاظم (علیه السلام). و في الدر المنثور مما أخرجه ابن أبي حاتم و ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس نحوه.

و ذكر ايضا جماعة اخرجوا بطرق عن ابن عباس انه سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين اقرب.

و ذكر جماعة اخرجوا من طريق سعيد

ص: 99

ابن جبير عن ابن عباس انه سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى سبعمائة اقرب منها إلى سبع غير انه لا كبيرة مع استغفار و لا صغيرة مع إصرار.

و من حكمة اللّه جلت حكمته في تكميل عباده و تهذيبهم و إصلاحهم، و نظم جامعتهم و لطفه في منعهم عن سائر المعاصي و تدنيسها لهم و من رحمته في ذلك ان أبهم الكبائر هنا لأن ذكرها يجترئ به الإنسان بسفاهته و مغالطة هواه على ارتكاب غيرها اتكالا على التكفير المذكور غفلة منه عن المأثور الذي يدل عليه العقل و هو انه لا صغيرة مع الإصرار. بل تكون من الكبائر. و قد أشار إلى ذلك الشيخ في التبيان.

و من حكمة هذا الإبهام و الإجمال ان يكون داعيا و مشجعا للعبد على اجتناب المعاصي لأجل إحرازه لاجتناب الكبائر توسلا إلى تكفير ما عداها. و هذا نحو من الطاف اللّه بعباده في وعده و تعليمه- هذا و قد ذكر في الكافي و الدر المنثور كثيرا من أحاديث الكبائر. و في جملة منها عدها سبعا و كثيرا ما تختلف الروايات في المعدود و ابدال كبيرة بأخرى في الذكر. و في جملة منها عدها تسعا. و في بعضها اكبر الكبائر وعد منها ثمانيا و في بعضها عد منها ثلاثا. و أنهاها في الدر المنثور عن ابن عباس إلى ثمان عشرة ذاكرا للوعيد على آحادها من الكتاب و السنة.

و في صحيح الكافي عن عبد العظيم عن الجواد عن الرضا عن الصادق عليهم السلام عدّ منها تسع عشرة ذاكرا للوعيد عليها من الكتاب و السنة. و من هذا كله يعرف ان ما ذكر من آحادها و عنوان بعضها إنما ذكره كان باعتبار اقتضاء المقام او بيان اكبر الكبائر. و لا يخفى ان الذي توعد اللّه عليه في الكتاب اكثر مما ذكر في الأحاديث. وهب انه احيط بما توعد اللّه عليه في القرآن الكريم لكنه لا يحاط بما ذكر الوعيد عليه بالنار و العذاب في كلام الرسول الأكرم فإن الكثير من كلامه صلى اللّه عليه و آله في مثل ذلك لم يصل إلينا لما جناه تداول الأيام و اختلاف الأحوال وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا بضم الميم و هو المحل الذي يدخل فيه كَرِيماً و أعظم بكرامته تمجيد اللّه له بالكرامة

سورة النساء (4): آية 32

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32)

32 وَ لا تَتَمَنَّوْا عين ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من نعيم الحياة الدنيا فإن تمني ذلك من الحسد الذميم الباعث على الشرور.

عن تفسير العياشي عن عبد الرحمن عن الصادق (علیه السلام) في الآية لا يتمنى الرجل امرأة الرجل و لكن يسأل اللّه مثلها

أقول و لا يخفى ان ذكر امرأة الرجل من باب المثال الذي يتعين فيه ان المنهي عنه هو التمني لعين ما فضل اللّه به الغير من النعم. و في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم

ص: 100

من طريق على عن ابن عباس في الآية لا يتمنى الرجل فيقول ليت لي مال فلان و اهله: و في نهي الآية و سوقها توبيخ كبير على غفلة الإنسان عما يتمتع به من النعم العظيمة و عن اللّه المنعم بها عليه و عن عظيم ملك اللّه و قدرته، وجوده، و حكمته، فتطمح نفسه الخسيسة إلى خصوص ما عند غيره مما اقتضت حكمة اللّه و رحمته أن ينعم بها عليه فيتمناه لنفسه مع ان اللّه قادر على إعطائه مثله و خيرا منه. أ فلا يجب على العبد أن يرغب إلى ربه و خالقه مالك الملك القادر المنعم الوهاب. و ماذا ينال من التمني الا حسراته و خسة الحسد و آلامه لِلرِّجالِ نَصِيبٌ من عطاء اللّه و نعمته و فضله مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ و حصل لهم بالملك و الجدة و الاختصاص و لو بالإرث مثلا. و

في النهاية في الحديث أطيب ما يأكل الرجل من كسبه و ولده من كسبه.

او ان المراد اشارة إلى الغالب من ان الناس يسعون و يسترزقون اللّه فينعم اللّه عليهم بكسبهم. و «من» الجارة في «مما» في كلتا الجملتين و على كلا الوجهين هي بيانية لبيان النصيب فإن نصيبهم من عطاء اللّه هو كل ما اكتسبوه لا بعضه. فما بال الذين يركنون الى أوهام الأماني و هي التي تجر الى الشر و اختلال النظام. يا ايها الذين آمنوا ألا تعلمون ان اللّه هو خالقكم و رازقكم ارحم الراحمين واسع الرحمة، و الخزائن و الفضل بيده الأمور فارغبوا اليه وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ و لا يزال بِكُلِّ شَيْ ءٍ حتى تمنيكم الفاسد و حكمة اعطائكم و تفضيل بعضكم على بعض و مصالحكم و دعائكم و رغبتكم فيما عنده و توكلكم عليه و تسليمكم لحكمته و مشيئته عَلِيماً- و لا زال القرآن الكريم من أول السورة يستقصي ببيانه الشافي مهمات نظام العدل و تهذيب الأخلاق و حقائق الإصلاح الفردي و الاجتماعي من الأمر بالتقوى و هي روح الإصلاح و قوامه الى التذكير بالاخوة البشرية و الخلق من نفس واحدة الى رعاية الأرحام الى رعاية اليتامى و أحكامهم و حفظ الوصاة بحفظ أموالهم و حسن معاملتهم و الولاية عليهم الى حقوق المواريث و الوصايا و احكام النساء و العدل في معاملتهن الى احكام النكاح و ما فيها من الإرشاد الى الأصلح. الى رعاية العدل و الحقوق الى النهي عن سوء التمني لشخص ما أنعم اللّه به على الغير مع ما يقتضيه اللطف في كل مقام من الترغيب و الترهيب و التوبيخ

ص: 101

و الإنذار بالحكمة و الموعظة الحسنة. و من هذا الاستقصاء الكريم إشارته جل اسمه الى رعاية الأطراف من الأقارب في الميراث كالأجداد و الأعمام و الأخوال و ان علوا و أولادهم و أولاد الاخوة و الأخوات و ان نزلوا فقال جل اسمه

سورة النساء (4): آية 33

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33)

33 وَ لِكُلٍّ من صنفي الرجال و النساء جَعَلْنا بحسب الخلقة و سنة الموت و البقاء و شريعة المواريث على العدل و الحكمة مَوالِيَ يرثونهم لأنهم الأولى بهم بحسب القرابة و بميراثهم بقاعدة الأقربين و ان اولي الأرحام بعضهم اولى ببعض. او بسبب الولاء ان لم يكن هناك أولو الأرحام مِمَّا اي من الصنف الذي تَرَكَ أباهم من الأقرباء الْوالِدانِ إذا ماتوا قبل ولدهم و تركوا ممن يمت بهم وارثا للميت كالأجداد من ناحية الأب أو الأم. و الأعمام أولادهم من ناحية الأب و الأخوال أولادهم من ناحية الأم وَ مما تركه الْأَقْرَبُونَ كأولاد الاخوة و الأخوات و نحو ذلك.

في التهذيب في الصحيح عن زرارة عن الصادق (علیه السلام) في الآية عنى بذلك اولي الأرحام في المواريث فأولاهم بالميت أقربهم اليه من الرحم التي تجره اليه. انتهى

و في الآية غير ما ذكرنا من التفسير و الإعراب و لكن الظاهر منها هو ما ذكرناه وَ من الَّذِينَ عَقَدَتْ مولويتهم لكم أَيْمانُكُمْ جمع يمين بمعنى القسم او كما قيل بمعنى اليد اليمنى التي تعطى عادة عند العهد و الاول اظهر.

و اخرج البخاري و ابو داود و ابن جرير و الحاكم و في الدر المنثور عن غيرهم ايضا من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجر الانصاري دون ذي رحمه للأخوة التي آخى رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بينهم فلما نزلت هذه الآية و لكل جعلنا موالي نسختها ثم قال و الذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصرة و النصيحة و الرفادة و الوصية يوصى له و قد ذهب الميراث أقول و ما ذكر في الرواية من النسخ و وجهه لا يكاد ان يستقيم فإنه ما كل انسان جعل له موالي مما ترك الوالدان و الأقربون لكي ينحصر الإرث بهم فينسخ بذلك ارث غيرهم و يكون الإرث بالاخوة من المنسوخ و اما جعل الموالي للصنفين من الرجال و النساء فلا يدل على نسخ التوارث بين المهاجرين و الأنصار بسبب الاخوة لو كان لذلك حقيقة مضافا الى ان الظاهر من النصيب هو الميراث لا ما ذكر في الرواية. و اخرج ابو داود و ابن جرير و عن ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك في الأنفال فقال وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ

ص: 102

أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ

. و في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النخاس في ناسخه و ابن مردويه عن ابن عباس و ذكر نحوه. و يعارض الروايات عن ابن عباس ما أخرجه ابو داود و عن ابن أبي حاتم عن ام سعد بنت الربيع و كانت يتيمة في حجر أبي بكر ان قوله تعالى وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ نزلت في أبي بكر و أبيه عبد الرحمن حين ابى الإسلام فحلف ابو بكر ان لا يورثه فلما اسلم امره رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان يعطيه سهمه و الحديث صحيح في اصطلاحهم. و مع ذلك فالروايتان المذكورتان عن ابن عباس في معنى الذين عقدت ايمانكم و في الناسخ متعارضة في نفسها. على ان الميراث بالمؤاخاة لو كان له اصل لم يتوقف نسخه على هذه الآية لأنه منسوخ بأولى آيات المواريث و أساس قانون و هو قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ. و ان نظم هذه الآية و سوقها ليشهدان بأن حكم الذين عقدت الأيمان ولاءهم متأخر في الرتبة عن حكم اولي الأرحام و الأقربين كما ذهب اليه ابو حنيفة و أصحابه محتجين بالآية و بقوله تعالى فيها وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ. و

في اصول الكافي و عن العياشي في الصحيح عن ابن محبوب عن الرضا انه سأله عن الآية فقال (علیه السلام) انما عنى بذلك الأئمة (علیه السلام) بهم عقد اللّه عز و جل ايمانكم انتهى

و لا يخفى ان اليمين تعقد عقدة مؤداها و عليه الآية و يعقدها الحالف و عليه قوله تعالى في سورة المائدة 88 بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ و يعقدها المستحلف آخذ الميثاق و الآمر بالحلف و إعطاء العهد و عليه جاءت الرواية نظرا الى ان يمين الولاء و ميثاقه قد أخذها اللّه على العباد و امر بإعطاء عهدها و الرواية ناظرة الى المصداق العام لجميع المسلمين و غير نافية للمصداق الاتفاقي و هو الإرث بولاء النصرة و ضمان الجريرة و منه ولاء السائبة من المعتقين. و معنى الرواية جار على مبدأ الأئمة من العترة اهل البيت في كونهم كرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله اولى بالمؤمنين من أنفسهم على نهج حديث الغدير المتواتر و انهم داخلون في الميثاق المذكور في قوله تعالى في سورة آل عمران وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ إلى قوله تعالى وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ كما تقدم في الجزء الأول ص 303 حتى 306 فإن قيل ان نزول هذه الآية كان قبل واقعة الغدير و ما هو على نهجها و لفظ عقدتم فيها للماضي فلا يدخل فيها عهد الغدير و ميثاقه- قيل- لا يلزم ان يكون المضي في القرآن الكريم باعتبار زمان النزول بل يأتي باعتبار امر آخر مثل قوله تعالى في الآية الآتية وَ بِما أَنْفَقُوا و في سورة المزّمل 20 فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ إذ ليس المراد ما تيسر قبل نزول السورة فإن سورة المزّمل

ص: 103

من أوائل ما نزل من القرآن حال كون الجل من المخاطبين لم يكونوا حينئذ من المسلمين و لم يعرفوا شيئا من القرآن بل المراد ما تيسر عند واجب القراءة. و قوله تعالى في سورة المائدة بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ: و على هذا المبدأ يكون الأئمة كرسول اللّه ورّاث من لا وارث له من أرحامه و مولى العتاقة.

أخرج احمد في مسنده و ابو داود في جامعه و الحاكم في مستدركه بأسانيد متعددة عن المقدام عن النبي (صلی الله علیه و آله) انا وارث من لا وارث له ارثه و اعقل عنه: او افك عانية و أرث ماله كما في جامع أبي داود.

و في رواية انا ولي من لاولي له افك عنه و أرث ماله.

و في رواية أنا مولى من لا مولى له أرث ماله و أفك عنه. او افك عانية كما في المستدرك

و على ما ذكرناه اجماع اهل البيت و الإمامية و حديثهم. و اما ما جاء في الحديث من ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) امر فيمن لا وارث له بإعطاء ماله لأهل بلده. او لواحد من قبيلته او لرجل من قبيلته كما في روايات أبي داود في جامعه فهو تنازل منه (صلی الله علیه و آله) عن حقه كما

روى الترمذي عن عائشة انه (صلی الله علیه و آله) أمر بميراث مولاه لأهل القرية (1)

كما روى في الوسائل عن الكافي و التهذيب عن علي (علیه السلام) في ميراث من لا وارث له انه كان يعطيه او يأمر بإعطائه لأهل بلده.

و قد استفاضت

الأحاديث الصحيحة عن الباقر و الصادق و الكاظم (علیه السلام) ان ميراث من لا وارث له من الأنفال المختصة بالرسول (صلی الله علیه و آله) و الإمام (علیه السلام)

كما احصى روايته في الوسائل و عليه اجماع الإمامية و لئن روي عن بعض الأئمة (علیه السلام) انه لبيت المال فهو تنازل منهم عن حقهم لمصلحة الوقت فَآتُوهُمْ تفريع على جعل الموالي المتقدم ذكرهم نَصِيبَهُمْ من تركته إذ قد يكون معهم زوج او زوجة او وصية او دين إِنَّ اللَّهَ كانَ و لا يزال عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً لا يغيب عنه شي ء فلا تخونوهم في نصيبهم الذي كتب اللّه و احذزوا من اللّه الشهيد ثم استثنى التعليم و الإرشاد جلت الطافه في النظام العائلي و امر الأزواج في التأديب و الإصلاح فقال جلت الطافة

سورة النساء (4): آية 34

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَ اللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

34 الرِّجالُ قَوَّامُونَ القوام كثير القيام. و قام على الشي ء اي في تدبيره و إصلاح شؤونه و منه القيم على اليتيم و المراد من المبالغة هنا دوام قيام الرجل على المرأة في شؤون إرشادها. و تأديبها و تثقيفها ما دامت معاشرة له. فهم قوامون بحسب ناموس الخلقة و الفطرة و الشريعة عَلَى

ص: 104


1- و في كنز العمال و مختصرة في رواية الديلمي عن ابن عباس ان مولى لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) توفى فقال (صلی الله علیه و آله) انظروا همشهريا له فأعطوه ميراثه يعني من هو من اهل بلده

النِّساءِ بالاستحقاق و الفضيلة لا تحكما بل بما اقتضته الحكمة في الخلق و حسن النظام و ذلك بِما فَضَّلَ اللَّهُ آلههم و خالقهم على الحكمة به بَعْضَهُمْ اي بعض الرجال و النساء و هم الرجال بحسب النوع و الغالب عَلى بَعْضٍ اي النساء بحسب النوع و الغالب من قوة المدارك و كمال الخلقة و الأخلاق كما لا يخفى ذلك كله حتى ان المشرحين متفقون بحسب ما وجدوه بالتتبع على ان دماغ الرجل و قلبه اكبر من دماغ المرأة و قلبها في جميع الأدوار للقلب و الدماغ و قد اقتضت حكمة الاجتماع و الاشتباك في العشرة المدنية و التناسل و التربية ان يخلق اللّه هذين الصنفين من الإنسان على هذا الناموس لكي ينضوي الصنفين في كنف الآخر فتستحكم الروابط و يستوسق الارتباط. مع ان صفات كل من الصنفين هي النعمة بحسب ذلك الصنف فيما يراد منه في حياته الفردية و الاجتماعية. و هي النعمة على مجموع النوع في بقائه و انتظام امره.

فرب فضل لفاضل يعود بالنعمة على المفضول. و رب مفضولية هي نعمة على المفضول. فشرع للرجال أن يكونوا قوامين على من يرتبط معهم في العشرة من النساء بسبب فضل الرجال وَ بِما أَنْفَقُوا في شأنهن و عليهن مِنْ أَمْوالِهِمْ و ليس المراد ما مضى من الإنفاق قبل زمان النزول فإن الآية عامة لكل زمان بل المراد الاستلفات إلى ما يتمثل في الوجود من الإنفاق قبل ترتيب الآثار الثابتة للقيمومة من الإرشاد و التعليم و التأديب فإن الإحالة على واجب المستقبل امر لا يمثل للأذهان فضيلة الإنفاق فَالصَّالِحاتُ من النساء صلاحهن على الاستقامة فيما يراد منهن فهن قانِتاتٌ اي مطيعات و في تفسير القمي عن رواية أبي الجارود قانتات اي مطيعات. و اطلاق الصفة فضلا عن معنى القنوت يفيد الدوام و ملكة الطاعة. و إن كان القنوت مختصا بطاعة اللّه فإن و صفهن بذلك يتكفل بكونهن مطيعات لأزواجهن على ما امر اللّه به حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ الغيب كالغياب و الغيبة مصدر غاب خلاف الشهود اي حافظات لغيبة الناس من ان يقع فيها ما لا يرضى الناس ان يقع فيها و لا ينبغي وقوعه فيها مما فيه توهين و غدر لحقوقهن اغتناما لفرصة غيابهم. و الظاهر في تمجيدهن بالصفة كونها عن ملكة تعم غيب الناس و أزواجهن فإن ذلك هو المناسب لوصف الصالحات و اثبت في حفظهن لغيب أزواجهن

ص: 105

في انفسهن و أموالهم و مالهم و غير ذلك من الحقوق. و في الآية تنبيه على ان الغيب له حرمة ينبغي ان يحفظ فيها عن وقوع المنافي فيه بِما حَفِظَ اللَّهُ اي بالنحو الذي حفظه اللّه في شريعته بأوامره و نواهيه و زواجره و ما شرعه من الحقوق كما هو مفصل في القرآن الكريم و في أبوابه من السنة من آداب الشريعة بل حتى الحقوق العرفية التي يريد الأزواج رعايتهم و حفظ شرفهم في حفظها دون ما جوزه الشارع مما يلزم من أداء الشهادة و لوازم نصح المستشير و أمثال ذلك فإنه ليس مما حفظ اللّه الغيب فيه. و قد ذكر في الآية تفاسير أخر و هذا هو الظاهر و الأنسب وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ اصل الارتفاع و كنى به هنا عن ارتفاع الزوجة بطغيانها عن طاعة زوجها و حقوقه و تباعدها بتمردها عن ذلك. و يكون ذلك بعد التدرج منها بالخروج عن الطاعة و حفظ حقوق الزوج و واجباته فتكون أوائل التدرج في ذلك منها باعمالها و أخلاقها منذرة ببلوغها مقام النشوز الوخيم، و الطغيان في الخروج عن الموافقة و الاستقامة. و هذه الأوائل هي مقام الخوف الذي شرع اللّه فيه التدرج بالاستصلاح و اذن فيه بقوله تعالى فَعِظُوهُنَّ بما يرجى تأثيره من أنحاء المواعظ من نحو الترغيب بثواب المطيعات لأزواجهن و الإنذار بسوء عواقب المعصية و وبال النشوز و عقابه بما جاء في الكتاب و السنة بل حتى من التجارب عواقب النواشز و حسن حال المطيعات وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ

في التبيان و قيل هو هجر المضاجعة و هو قول أبي جعفر (علیه السلام) و قال «يعني أبي جعفر الباقر «ع») يحول ظهره إليها:

و نسبه في المبسوط إلى رواية أصحابنا أقول و هو الظاهر من الآية فإن المضاجع فيها ظرف للهجران لظهور كلمة «في» في الظرفية و ان تحويل ظهره إليها مع ما يلزمه من عدم تكليمه لها هو الذي تتجلى منه ظواهر الهجران المؤلم للمرأة دون ترك الكلام معها مع إقباله عليها بمقاديم بدنه إذ يحتمل ان يكون ترك الكلام لفكر او كسل او نعاس و نحو ذلك. و اما ذكره في الدر المنثور عما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس «لا تضاجعها في فراشك» فإنه غير الهجران في المضاجع و لا يكون المضجع على هذا ظرفا للهجران نعم يمكن التكلف لتأويله بأن كلمة «في» للسببية داخلة على محذوف يئول اليه تأويل الكلام و لكن فيه من التكلف و مخالفة الظاهر ما لا يخفى. و لا يصح في الآية ما قيل من حملها على المعنيين المذكورين و ذلك لما ذكرنا مرارا من ان اللفظ لا يجوز ان يجمع فيه بين المعنيين او المعاني المتعددة. و في

ص: 106

الدر المنثور ذكر عمن اخرج عن ابن عباس في معنى الهجران في المضاجع روايات متعددة متعارضة وَ اضْرِبُوهُنَّ في التبيان و أما الضرب فإنه غير مبرح بلا خلاف انتهى و المبرح هو ما يوجب المشقة و الشدة و الظاهر اتفاق المسلمين على هذا القيد و أخرجه الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن عمرو بن الأحوص عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في خطبته في حجة الوداع. و أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و رواه في الدر المنثور عما أخرجه ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن ابن عباس أقول و يلزم ذلك ان لا يكون الضرب مدميا و لا كاسرا بل و لا في المواضع التي هي معرض للخطر و سوء الأثر. و

في التبيان قال ابو جعفر يعني الباقر (علیه السلام) بالسواك و اخرج ابن جرير عن عطا عن ابن عباس بالسواك و نحوه

و لعل المراد بعود مثل عود السواك. و كيف كان فلا تصلح الروايتان من حيث سندهما لتقييد الضرب في الآية نعم يكفي في تقييدها الإجماع على ان لا يكون مبرحا. و المعلوم من الآية كون الضرب للتوصل إلى إصلاح المرأة و انابتها إلى الطاعة فيلزم الاقتصار على اقل ما يرجى به حصول الغرض كما و كيفا و يتدرج فيه ما لم يحصل اليأس من تأثيره. و كذا الكلام بالنسبة إلى التدرج في الوعظ إلى الهجران إلى الضرب و الجمع بين بعضها و بينها. و الآية الكريمة زعيمة ببيان هذه التفاصيل ببيان ان ذلك لأجل التوصل إلى التأديب و الاستصلاح و الطاعة بقوله تعالى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فيما تجب فيه طاعة الزوجات فَلا تَبْغُوا و لا تتطلبوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بتشبثات التهم و سوء الظن و تكليف القلوب فوق ما تقتضيه الأحوال فإنكم مأمورون بمعاشرتهن بالمعروف و بعض الظن اثم و امر القلوب بيد اللّه إِنَّ اللَّهَ كانَ و لا يزال عَلِيًّا في عدله و احكامه و حكمته كَبِيراً في جلاله لا يكلف فوق الطاقة و لا يهمل ارشاد عباده في نظام اجتماعهم و تعليمهم. و سيأتي إن شاء اللّه في أواخر السورة ما يعود إلى خوف المرأة من نشوز الزوج و اعراضه و حكمة إصلاحه

سورة النساء (4): آية 35

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)

35 وَ إِنْ خِفْتُمْ يا ايها الذين تعنيهم شؤون الزوجين بسبب الروابط و الأمر بالمعروف و الإصلاح بين الناس عند ظهور المنافرة بين الزوجين و خشيتهم من عاقبة ذلك شِقاقَ بَيْنِهِما باستمرار الخلاف بحيث ينشق ائتلافهما إلى شقين متباينين في

ص: 107

العداوة و البغضاء فَابْعَثُوا الخطاب في الآية بصيغة الجمع و ليس في عصر الخطاب من له ولاية الحكم الشرعي إلا واحد و هو رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فمقتضى ظاهرها ان بعث الحكمين عند خوف الشقاق لا يختص بمن له الولاية العامة. و

عن تفسير العياشي و في الدر المنثور عن عبيدة السلماني أن امير المؤمنين علي «ع» امر الفئامين الذين جاءا مع الرجل و المرأة أن يبعثوا حكما من اهله و حكما من أهلها

و لم يكن «ع» هو المتصدي للبعث. نعم من يكون له الولاية بسيطرته منفذا لأحكام التحكيم كما في سائر الأحكام الشرعية. لكن في التبيان أن المأمور ببعث الحكمين هو السلطان الذي يترافعان اليه. و جعله أصح الأقوال. و في المسالك انه قول الأكثر. و في مجمع البيان و هو الظاهر في الاخبار عن الصادقين «ع» و في كنز العرفان و هو المروي عن الباقر و الصادق «ع» و هو الأصح لأن أول الكلام في «خفتم» يدل عليه أقول اما الرواية عن الباقر و الصادق «ع» فلم اعثر على اثر لها بل لعل المستفاد مما سنشير اليه من الروايات خلافه.

و اما الخطاب في «خفتم» فيدل على خلاف ما ذكره كما ذكرناه حَكَماً الحكم هو من ينصب للتحكيم مِنْ أَهْلِهِ اي من اهل الزوج وَ حَكَماً آخر مِنْ أَهْلِها و ذكر الأهل لأنهم اقرب إلى الاطلاع على الخفايا و مناهج الإصلاح. و الظاهر عدم الانحصار بهم خصوصا مع عدمهم او عدم صلاحيتهم لذلك و لا بد من كون الحكم بحسب حكمة الآية صالحا للكفاية في المقام بحسب ذاته و اهتدائه لما يراد فيه مكلفا عاقلا مسلما إذا كان الزوجان مسلمين او كان أحدهما مسلما. و في اعتبار العدالة شك نعم يعتبر الاطمئنان بامانتهما في المقام و اما الذكورة و الحرية فالإطلاق ينفي اشتراطهما في المقام. و قد استفاض الحديث في ان حكمهما بالفراق موقوف على اذن الزوجين او اشتراط الحكمين عليهما و اتفاق الحكمين كما في موثقة سماعة عن الصادق «ع» و موثقة ابن مسلم عن أحدهما «ع» و صحيحة الحلبي و روايتي أبي بصير عن الصادق «ع» و البطائني عن الكاظم «ع» و على ذلك ما أشرنا اليه من رواية عبيدة السلماني عن امير المؤمنين (علیه السلام). و ان اشتراط الاذن من المرأة و اجتماع الحكمين في الفراق جار على الغالب في المقام من كونه بالخلع و المباراة و من هنا يؤخذ انه لا يمضي إسقاط الحكمين لحقوق احد الزوجين او كليهما إلا باذنه أو إذنهما. نعم يحكمان بما يقتضيه نشوز أحدهما او كليهما من الأحكام الشرعية فينفذ الحاكم ذلك بسيطرته ان لم يتيسر لهما إصلاح الزوجين إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً الظاهر من السياق كون

ص: 108

الضمير عائدا إلى الحكمين فإن أرادا إصلاح شأن الزوجين و كان ذلك من نيتهما لا ميل كل واحد لجانب يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما و يجمع رأيهما على الصواب إِنَّ اللَّهَ كانَ و لا يزال عَلِيماً بحقائق الأمور و حكمتها خَبِيراً بالسرائر و النيات. ثم شاء اللّه ان يواصل لطفه على الإنسان بهدايته إلى اسباب السعادة و صالح الأعمال و مكارم الأخلاق و حسن السلوك في الحياة الدنيا و القيام بحقوق النوع. و صدّر ذلك بأفضل الأوامر و أساس النجاة و روح الصلاح و جامع الهدى فقال جلت آلاؤه

سورة النساء (4): آية 36

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)

36 وَ اعْبُدُوا اللَّهَ إلهكم يا أيها الناس وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ في العبادة شَيْئاً و هذا النهي بمنزلة التفسير للأمر المعطوف عليه فإن عبادة اللّه لا تستقيم لها حقيقة مع الإشراك به في العبادة و قد تقدم بعض البيان لمعنى العبادة في الجزء الأول ص 57 حتى 59 و حاصل الأمر هنا استشعروا مظاهر الخضوع للّه إلهكم بالخضوع الذي يوفى به حق امتياز اللّه إله العالمين بالإلهية. و يقرب ان ينظر في معنى العبادة إلى طاعة اللّه إله العالمين في أوامره و نواهيه باعتبار الخضوع لمقام إلهيته بالطاعة و الإذعان لان الطاعة هي باب السعادة في الدارين و ينظر بالشرك هنا الى ما يعم مخالفة اللّه بالاتباع للهوى و الانقياد للشيطان فإن ذلك و إن لم يوجب منه محض المعاصي في الأعمال كفرا و خروجا عن الدين لكنه خلل في حق الخضوع للّه و مقام إلهيته على حد قوله في سورة يس أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أحسنوا إحسانا نائب عن فعله في الدلالة على الأمر و التأكيد في الإغراء بالإحسان يقال احسن اليه و أحسن به كما يقال أساء اليه و أساء به كما في قول كثير:-

اسيئي بنا او احسني لا ملومة لدينا و لا مقلية ان تقلت

و قد تكرر قوله تعالى في الوصية بالوالدين وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كما في سورة البقرة 81 و الأنعام 150 و الاسراء 22. و إن قول القائل احسن به و بالوالدين إحسانا يدل على دوام الإحسان و عدم الإساءة. و ذلك لأن معناه جعل فعله به حسنا و إحسانا و معنى الآية و أحسنوا بالوالدين فعلكم معهم. و هذا الوجه ظاهر من شعر كثير و ان كان في استعمال

ص: 109

القرآن الكريم اظهر. بخلاف احسن اليه فإن معناه او صل اليه إحسانا و هو يجتمع مع انقطاع الإحسان. و هذا هو السر في دوام تعبير القرآن الكريم في الوصية بالوالدين بهذه العبارة المذكورة في الآية وَ بِذِي الْقُرْبى و الرحم وَ الْيَتامى فإنهم مورد الرحمة و الرأفة و الإحسان وَ الْمَساكِينِ و هم الفقراء مع ضعف يرثى فيه لحالهم. و لا يخفى ما في الإحسان بهؤلاء المذكورين من الأهمية في كرم الأخلاق و الرحمة و الاسعاف و القيام بالواجب وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ بضم الجيم و النون. و في الدر المنثور ذكر جماعة اخرجوا من طرق عن ابن عباس في قوله تعالى وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى يعني الذي بينك و بينه قرابة. وَ الْجارِ الْجُنُبِ يعني الذي ليس بينك و بينه قرابة. و عن تفسير العياشي عن ابن عباس نحوه. فيكون التكرار لذي القربى باعتبار امتيازه بحق الجوار ايضا. قال في الكشاف و انشدوا لبلعان او بلعاء بن قيس:-

لا يجتوينا (1) مجاور ابدا ذو رحم او مجاور جنب

و في المصباح عن بعض اللغويين أن الجنب بمعنى الأجنبي و هو ظاهر القاموس. و مقتضى القاموس و المصباح أن القربى كالقرابة مختصة بالقرب في الرحم لا في المكان لكن في الكشاف اختار تفسير الآية بالذي قرب جواره و الذي جواره بعيد. و في مختصر التبيان نوع اضطراب و أظنه من الاختصار أو الناسخ و اقتصر في مجمع البيان على نقل الأقوال وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ بفتح الجيم و سكون النون في القاموس هو شق الإنسان و غيره. و في الدر المنثور ذكر من اخرج عن ابن عباس انه الصاحب في السفر. و من اخرج عن علي (علیه السلام) انه امرأة الرجل و من اخرج عن ابن مسعود و ابن عباس مثله أقول و لا مانع من شموله للأمرين و يشهد لذلك روايتهما معا عن ابن عباس و كذا من يصاحبه في الحضر بجنبه ماشيا او جالسا. و في التبيان نسب الأمرين إلى القيل و قال و قيل هو المنقطع إليك رجاء رفدك و قيل انه جميع هؤلاء و هو أعم فائدة و تبعه على ذلك في مجمع البيان و زاد فيه الخادم الذي يخدمك كما اختار العموم أقول إن إدخال المنقطع رجاء الرفد إذا لم يكن له صحبة إلى الجنب في الخارج يستلزم الجمع بين الحقيقة و المجاز في الاستعمال وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المنقطع به في سفره عن مدد قومهها

ص: 110


1- من اجتوى البلاد إذا كرهها و استوخمها او لم يوافقه ماؤها و هواؤها

و وطنه و موارد نفعه و رفع احتياجه و في تفسير القمي أبناء الطريق الذين يستعينون بك في طريقهم و في التبيان المسافر و قيل هو الضيف و قال أصحابنا يدخل فيه الفريقان قلت كما يعرف ذلك من مباحث الزكاة وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني العبيد و الإماء كما في التبيان. و ان وجوه الرجحان للإحسان بالذين ذكروا لهي راجحة في سنن الأخلاق الفاضلة و النفوس المهذبة و لا يدخل فيها ما هو معصية للّه او يستلزم إساءة إلى شخص آخر. و قد كبر شأن الإحسان بهؤلاء المذكورين إذ قرن وصيته به بالوصية بعبادته و عدم الإشراك به. و لعمر الحق ان هذه الأمور الموصى بها لمما تنادي به الفطرة و تهتف به الحجة و يشهد بها الوجدان و تحث عليه الفضيلة، و تبعث عليه الأخلاق الفاضلة و العاطفة الصالحة و لا يحيد عنها الا من أعجبته نفسه الساقطة بخيلائها الممقوت و استكباره التعيس، فيكون مختالا بغروره استكبارا، فخورا من عجبه بنفسه بما ليس فيه قد اغفله ذلك عن انه عبد مخلوق مربوب لإله واحد قهار، و اغفله ايضا عما يراد منه مما فيه سعادته و ارتفاعه من حضيض النقص إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا باستكباره و عجبه بنفسه و ما زينه له جهله المركب، فَخُوراً بالموهومات و هو غريق في ضعة الجهل و النقصان و ويل لمن كان اللّه لا يحبه و كفى بذلك مقتا و شقاء

سورة النساء (4): الآيات 37 الى 38

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)

37 الَّذِينَ من لؤمهم و شقائهم الذي جره إليهم ضلال استكبارهم و عجبهم بأنفسهم يَبْخَلُونَ بما آتاهم اللّه من فضله في موارد السماحة و مكاسب الفضيلة بطاعة اللّه و محاسن الإنفاق من مال اللّه وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من مال او علم و منه العلم بنبوة رسول اللّه و صفاته وَ أَعْتَدْنا بما أحضرنا مصداقا للوعيد بما يستحق من العذاب لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً 38 وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ إذ سنح لهم ان ينفقوا شيئا أنفقوه لا طاعة للّه و لا لحسن الإنفاق في مورده بل رِئاءَ النَّاسِ و لأجل ذلك و قد ذكر معنى الرئاء في الجزء الأول ص 234 وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يوم المعاد و قد اسلسوا قيادهم

ص: 111

للشيطان باتباعه حتى طمع فيهم فلا ينفك في الغواية و صار بسوء اختيارهم قرينا لهم لدوام اغوائه لهم أعاذنا اللّه منه وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ هذا القرين المشوم المهلك بقبائح غوايته و خسة اقترانه قَرِيناً فهل ترى الشيطان يقف في غوايته للإنسان على حد. الا تراه يرديه في أقبح الكفر و النفاق و قبايح الأعمال أ فلا ترى انقياد بعض الناس لغوايته الى اخس الأحوال و أقبحها و اشنعها. و كلمة «الذين» في الآية السابقة بدل من «من» في قوله تعالى من كان مختالا. و دعوى انها مرفوعة او منصوبة على الذم تحتاج الى شاهد من تغير صورة الإعراب و لا شاهد. و دعوى انها مبتدأ و خبره محذوف كما في الكشاف و تفسير الرازي تحتاج الى قرينة وداع لما قدّراه فضلا عن كونه تكلفا بعيدا عن كرامة القرآن. و دعوى ان الخبر قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ الآية كما ذكره في التبيان و مجمع البيان تحتاج الى رابط مع أن الآية التي جعلوها خبرا تخرج عن تمجدها؟؟؟ العام الى محل لا تصلح له و اين الذين لا يؤمنون باللّه و اليوم الآخر من قوله تعالى وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها الآية

سورة النساء (4): آية 39

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)

39 وَ ما ذا عَلَيْهِمْ من الوبال او الخسران او النقص او سوء العاقبة او غير ذلك من المحاذير لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أليس الايمان باللّه دين الفطرة و نور المعلومة و سناء الحجة القيمة. و ان الإيمان باليوم الآخر لمن اسمى المعارف الموصولة الى الحقائق و حق الايمان بذلك زعيم بنوع من تهذيب الإنسان و تكميله و حسن اجتماعه مع نوعه بما يشعر به من الرغبة و الرهبة. ذلك اليوم الذي بشر و انذر به الأنبياء الذين قامت الحجج على نبوتهم و عصمتهم و الكتاب الكريم الذي حفته الأدلة على انه منزل من اللّه بل انه بنفسه من وجوه متعددة هو الحجة على ذلك وَ ماذا عليهم لو أَنْفَقُوا كما أمرهم اللّه و حكمت العقول مع ذلك بحسنه و منه الإنفاق في الموارد المذكورة مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أ فلا يعتبرون بأن الإنسان يولد طفلا لا يملك لنفسه شيئا فيتقلب في جميع أدوار حياته في نعم اللّه و رزقه و قد يصير ذا مال و ثروة طائلة فهل من قدرته إنزال اللبن لرضاعه و نمو الزرع و الغرس و نتائجهما و سلامة ذلك من الآفات. أم من قدرته انتاج الحيوان الذي ينتفع به أم بيده أرباح المكاسب أ فلا يعتبر بأنه كم من كادح في كسبه لم يربح الا الخسران و الإملاق و كم من ذي ثروة عاد

ص: 112

بالرغم عليه فقيرا. أ فلا يشعرون بان ما في أيديهم هو رزق اللّه من خزائن رحمته التي لا تنقص فلما لا ينفقون كما أمرهم اللّه و يطلبون منه الثواب المضاعف و الخلف وَ كانَ اللَّهُ و لا يزال بِهِمْ في أمر ايمانهم و إنفاقهم و نياتهم و جميع شؤونهم عَلِيماً يجزيهم جزاءهم

سورة النساء (4): آية 40

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)

40 إِنَّ اللَّهَ الغني القدوس المتعال لا يَظْلِمُ الظلم معروف و يتعدى إلى مفعولين يقال ظلمه حقه و ماله مِثْقالَ اي ثقل و وزن ذَرَّةٍ ذكروا أن الذرة هي أصغر النمل و في مجمع البيان و الكشاف و قيل هي جزء من اجزاء الهباء في الكوة من اثر الشمس. و هذا أقصى ما يعرفه بالحسّ نوع الناس من الصغر لضرب المثل وَ إِنْ تَكُ اي تكن و يطرد في مثل هذا حذف النون حَسَنَةً بالنصب لأنها خبر. و الحكم المذكور و فائدة الكلام إنما هي باعتبار الخبر و عنوانه فلذا اعتبر الاسم المقدر مؤنثا لأن الحكم إنما هو لما يتحد مع الخبر كما في قوله تعالى «فَإِنْ كُنَّ نِساءً.

وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ» اي و إن تكن التي بمقدار الذرة حسنة. و في مجمع البيان و ان تك زنة الذرة حسنة. و يدفعه ان الزنة و المقدار ليس هي الحسنة بل هي المقدر وزنه بزنة الذرة. و كذا قول الكشاف و ان يك مثقال ذرة حسنة و إنما انّث ضمير المثقال لأنه مضاف إلى مؤنث انتهى و يدفعه مضافا الى ما ذكرناه ان تأنيث المضاف باعتبار المضاف اليه شاذ لا يناسب كرامة القرآن على ان الاعتبار لا يساعد على تأثير المضاف اليه المحذوف هذا الأثر. و في التبيان «و ان تك فعلته حسنة» و هو جيد يرجع الى ما ذكرناه و العجب من مجمع البيان إذ لم يذكر هذا الوجه الوجيه مع انه لا يغادر شيئا من التبيان لا يذكره يُضاعِفْها بما يشاء من المضاعفة. و المضاعفة هي ان يزاد على الشي ء مثله في المقدار او أمثاله. و مضاعفة الحسنة هي ان يعتبرها اللّه برحمته للواسعة في مقام الجزاء بمقدار ضعفها او أضعافها اي يضاعف جزاءها. و في سورة البقرة 244 أضعافا كثيرة وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ من فضله العظيم و رحمته الواسعة على الحسنة بمقدار الذرة أَجْراً عَظِيماً بحسب ما يشاء من المضاعفة و يجعل الكل بعنوان الأجر تكريما للمطيع، و إكمالا لابتهاجه. فويل للذين لم يعبدوا اللّه و أشركوا به. و لم يتبعوا سبيل الرشاد في امتثال أوامره و نواهيه بعد ما قامت عليهم الحجج في الدنيا و انقطعت المعاذير.

ص: 113

و ما أعظم حسرتهم و أسوأ حالهم يوم الحساب

سورة النساء (4): الآيات 41 الى 42

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

41 فَكَيْفَ حالهم إِذا جِئْنا يوم القيامة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أرسل إليهم رسول او قام فيهم نبي او امام هدى بِشَهِيدٍ يشهد عليهم في ذلك المحشر العظيم بأنه قد بلغهم و بشر و انذرهم و أقام لهم الحجج و قطع المعاذير و أظهر دين الحق و نصر دلالة العقل عليه و حفظ لهم احكام الشريعة. و لا حاجة في ذلك اليوم إلى الشهيد و لكن يؤتى به عليهم زيادة في خزيهم ببيان ما كانوا عليه من البغي و العناد للحق لحسرة ندامتهم جزاء بما كانوا يكسبون وَ جِئْنا بِكَ يا رسول اللّه عَلى هؤُلاءِ الذين كانوا موجودين حين النزول شَهِيداً تعلن ما جئتهم به في دار الدنيا من الحجج على دعوتك الصالحة و ما قمت به احسن قيام في التبليغ و الإنذار و الدعوة إلى سبيل اللّه بالحكمة و الموعظة الحسنة و ما قاسيته منهم من عناد الضلال و شدة الأذى و تألبهم عليك مجاهرة و نفاقا. و في رواية الكافي و سعيد بن عبد اللّه ما يعطي ان المراد من «هؤلاء» في الآية هم الشهداء على الأمم و رسول اللّه شهيد عليهم. لكن في الروايات ضعف. و في تفسيرها للآية إشكال و فيما ذكر في تفسير البرهان من روايات العياشي نوع معارضة لها 42 يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ فيما جاءهم به من اللّه و من الدين و الشريعة لَوْ (1) تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ اي تكونون ترابا و جزءا منها فتسوى بهم و تكون سواء لا يمتازون عنها بوجه وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يقال كتمت زيدا الحديث و الخبر. و قد اختلفت كلمات المفسرين كما ذكره في التبيان و مجمع البيان فمنها ما يؤدي إلى أن الجملة و عدم كتمانهم للحديث داخلة فيما يودونه يومئذ و معطوف على جملة لو تسوى. و هو مؤدى ما في الدر المنثور في ذكر ما اخرج عن ابن عباس في السؤال عن هذه الآية. و منها أن الجملة معطوفة على جملة «يود» و عليه ما صححه الحاكم في المستدرك عن حذيفة ثم عقبة بن عامر الجهني و أبي مسعود الأنصاري بسماعهم من فم رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و منها لا يكتمون اللّه في جوارحهم كما في الدر المنثور عن ابن عباس بل و ما صححه الحاكم

ص: 114


1- قد ذكرنا الكلام في «لو» بعد «يود» في الجزء الأول ص 109 و 110

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: و

عن العياشي عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عن أبيه عن جده قال قال امير المؤمنين في خطته يصف هول القيامة ختم اللّه على الأفواه فلا تكلم و تكلمت الأيدي و شهدت الأرجل و نطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون اللّه حديثا.

فالراجح كما هو الصواب كون الجملة معطوفة على جملة «يود» او مستأنفة

سورة النساء (4): آية 43

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)

43 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ

أخرج الترمذي في تفسير جامعه عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي امير المؤمنين (علیه السلام) قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا و سقانا من الخمر فأخذت الخمر منا و حضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون و نحن نعبد ما تعبدون فأنزل اللّه و ذكر الآية.

و أخرج ابو داود في كتاب الأشربة بسنده عن سفيان عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي (علیه السلام) أن رجلا من الأنصار دعاه و عبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فأمّهم علي في المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلّط فيها فنزلت الآية.

و أخرج الحاكم في تفسير المستدرك بسنده عن سفيان عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي (علیه السلام) دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدم رجل فقرأ قل يا أيها الكافرون فالتبس عليه فنزلت الآية.

و قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه. و فيه فائدة كبيرة و هي أن الخوارج تنسب هذا السكر و هذه القراءة إلى امير المؤمنين علي دون غيره و قد برأه اللّه منها فإنه روى هذا الحديث. و

في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و ابو داود و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس و الحاكم و صححه عن علي قال صنع لنا عبد الرحمن طعاما

إلى آخر المتن الذي رواه الترمذي. و قد سمعت روايتي أبي داود و الحاكم و لم أطلع على رواية الباقين ممن ذكرهم السيوطي لكي أعرف خطأه في النقل عنهم كما أخطأ في النقل عن أبي داود و الحاكم (1) و

أخرج ابن جرير و في الدر المنثور عن ابن المنذر عن علي (علیه السلام) أنه كان هو و عبد الرحمن و رجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ قل يا أيها الكافرون

ص: 115


1- و صاحب المنار تبع السيوطي في هذا الخطأ او ... فقال في تفسيره (روى ابو داود و الترمذي و النسائي و الحاكم و صححه صنع لنا عبد الرحمن إلى آخر ما ذكره الترمذي. و لم أجد أثرا لهذه الرواية في مجتبى النسائي

فخلط فيها.

و فيه ايضا أخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال نزلت في أبي بكر و عمر و علي و عبد الرحمن بن عوف و سعد صنع لهم علي طعاما و شرابا فأكلوا و شربوا ثم صلى علي بهم المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون حتى خاتمتها فقال ليس لي دين و ليس لكم دين فنزلت الآية.

و أخرج احمد و الترمذي و ابو داود و النسائي و في كنز العمال و مختصره ذكروا ايضا جماعة ممن أخرجوه أيضا عن عمر لما نزل تحريم الخمر قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا فنزلت الآية التي في البقرة فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى الآية و

في الدر المنثور في آية المائدة أخرج ابن المنذر عن محمد ابن كعب القرضي و ذكر حديثا فيه ثم أنزلت التي في النساء بينا رسول اللّه «ص» يصلي إذ غنى سكران خلفه فانزل اللّه لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى الآية.

و إنك لتعرف سقوط الرواية و انها من جنايات الأهواء إذا نظرت إلى الروايات الست المتقدمة و اختلافها و اضطرابها (1) و إلى نسبة السيوطي و صاحب المنار متن الترمذي إلى رواية أبي داود و النسائي و الحاكم و تزيد بصيرة إذا عرفت ما في تهذيب التهذيب عن الواقدي من أن أبا عبد الرحمن السلمي عبد اللّه ابن حبيب شهد مع علي صفين ثم صار عثمانيا أي معاديا لعلي و مواليا لمعاوية و جرى اصطلاحهم على ان مثل هذا في عداوة علي و موالاة معاوية يسمى عثمانيا. و مما يدل على معاداته لعلي ما أخرجه احمد في مسند علي برجال الصحة عندهم عن سعد بن عبيدة قال تنازع ابو عبد الرحمن السلمى و حبان بن عطية فقال ابو عبد الرحمن قد علمت ما الذي جرّأ صاحبك «يعني عليا عليه السلام» قال حبان فما هولا أبا لك قال و ذكر عن علي «ع» حديث طلبه للمرأة التي كتب معها حاطب بن بلتعة إلى قريش يخبرهم بان رسول اللّه يريد ان يغزوهم فأراد عمران يضرب عنقب!

ص: 116


1- ففي حديث الترمذي أن صاحب الدعوة و الطعام و الشراب هو عبد الرحمن بن عرف و إمام الجماعة هو علي (علیه السلام) و التخليط هو نعبد ما تعبدون. و في حديث أبي داود أن صاحب الدعوة رجل من الأنصار و عبد الرحمن مدعو و إمام الجماعة علي. و في حديث أن صاحب الدعوة رجل من الأنصار و لم يذكر اسما. و في حديث ابن جرير لم يذكر دعوة و ذكر أن إمام الجماعة هو عبد الرحمن و لم يذكر تخليطه. و في رواية عكرمة أن صاحب الدعوة هو علي (علیه السلام) و هو إمام الجماعة و أن التخليط لم يكن في قراءة السورة بل بعدها و هو ليس لي دين و ليس لكم دين. و مقتضى حديث عمران هذه الاية نزلت بعد تحريم الخمر و في روايتي أبي داود و الحاكم أن الخمر عند نزوله لم تكن محرمة. فانظر و تعجب!

حاطب

فقال له رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة الحديث

فإنه لا يفد على هذه الجرأة على امير المؤمنين (علیه السلام) إلا من كان معاديا له يقول في شأنه المقدس انه يجترئ على الكبائر اغترارا بكونه بدريا ثم نقول

في امالي الصدوق بسند معتبر عن الصادق (علیه السلام) قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أول ما نهاني عنه ربي جل جلاله عبادة الأوثان و شرب الخمر الحديث

و في الدر المنثور اخرج البيهقي في الشعب عن علي (علیه السلام) سمعت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول لم يزل جبرائيل ينهاني عن عبادة الأوثان و شرب الخمر الحديث

و أخرج البيهقي عن ام سلمة ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال كان من أول ما نهاني عنه ربي و عهد إلي بعد عبادة الأوثان و شرب الخمر ملاحاة الرجال. و في كنز العمال و مختصره عن الطبراني عن أبي الدرداء و عن معاذ عن النبي (صلی الله علیه و آله) نحوه

و عن أبي نعيم في الدلائل عن علي (علیه السلام) قيل للنبي هل عبدت و ثنا قط قال (صلی الله علیه و آله) لا، قالوا هل شربت خمرا قط قال لا،

و في الكافي و التهذيب و عيون الصدوق و علله عن علي بن ابراهيم عن الريان و في التفسير عن ياسر الخادم عن الرضا (علیه السلام) ما بعث اللّه نبيا قط إلا بتحريم الخمر.

و في الكافي و التهذيب في الصحيح عن زرارة عن الصادق (علیه السلام) ما بعث اللّه نبيا قط إلا و في علم اللّه انه إذا أكمل دينه كان فيه ترحيم الخمر و لم تزل الخمر حراما و إنما ينقلون من خصلة إلى خصلة و لو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين. و نحوه ما في الكافي و التهذيب عن ابراهيم اليماني عن الصادق (علیه السلام). و ما في الكافي عن زرارة عن الباقر (علیه السلام)

و المعنى أن الخمر لم تزل حراما عند اللّه و في كل دين و لكن قد يستفحل الضلال و حكم الجاهلية في الأمم الى أن يروها حلالا فإذا بعث اللّه نبيا آخر قد لا يفاجئهم في أول نبوته و تبليغه بتحريمها لأن الحكمة تقتضي أن يتدرج معهم في بيان المحرمات ببيان خصلة خصلة و لو حملهم دفعة على ترك جميع المحرمات لما انقادوا الى الدين و لقطع بهم دونه. و يشهد تدرج القرآن الكريم ببيان أن فيها إثما كبيرا و إثمها اكبر مما يزعمه الناس كما مضى في سورة البقرة و انها رجس من عمل الشيطان ليوقع بها العداوة و البغضاء بينهم. كما في سورة المائدة. و ما كان كما ذكرناه لا بد من ان يكون النبي عالما بتحريمه من أول الأمر و لا بد في كماله و عصمته و أهليته للنبوة و دعوتها من أن لا يكون مدة عمره الشريف قد لوث قدسه بشربها قبل النبوة و بعدها. اذن فمن تربى بتربية رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و نهج من صغر سنه نهجه و تأدب من طفوليته بآدابه و آمن برسالته من أولها و كان أطوع له (صلی الله علیه و آله)

ص: 117

من ظله كيف يقال في شأنه انه كان يشرب الخمر امّ الخبائث و الموقعة في الفواحش و السالبة للعقل و شرف الإنسانية و الملحقة للإنسان بمجنون الوحوش.

و ايضا ان الإنسان إذا سكر و عربد ظهر عليه في هذيانه ما كان مطويا في نفسه من عادياته و مألوفاته و مرتكزات مخيلته، و مكتومات خواطره في الحب و البغضاء. و أن مثل امير المؤمنين (علیه السلام) إذا عربد ظهر مرتكزات ذهنه و آثار عاداته و مألوفاته و ما نشأ عليه من أوائل شعوره من بغض الأوثان و تسفيه عبادة الجاهلية و الشرك فيقول و ينادي لا اعبد رجس الأوثان. سفها لكم ايها المشركون لا اعبد الحجر و الخشب المنحوت و كيف اجعل من ذلك آلهة مع اللّه و كيف أكون من المشركين و ينشد ما قاله أبوه ابو طالب

و لقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا

و لكن قصاص الرواة قد نسبوا لقدس رسول اللّه في مناكير رواياتهم ما هو اشنع من ذلك رووا أنه (صلی الله علیه و آله)- و حاشا قدسه- قرأ في مكة بمحضر قريش سورة النجم و لما تلا أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى قال على الأثر تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى و نسبوا لقدس جميع الأنبياء و الرسل إذا قرءوا القى الشيطان في قراءتهم مثل خرافة الغرانيق و فسروا بذلك قوله تعالى في سورة الحج المدنية و ما من نبي و لا رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته. و تتابعت على ذلك جملة من التفاسير كما أشرنا اليه في الجزء الأول من كتاب الهدى ص 123- 128 و لينظر على الأقل إلى ما ذكره في الدر المنثور في الآية المذكورة من سورة الحج. و لم تترك بعض الروايات قدس رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بدون ان تلوثه بالخمر

ففي الدر المنثور عن تميم الداري انه كان يهدى لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كل عام راوية من خمر فلما كان عام حرمة الخمر جاء برواية فلما رآها رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ضحك الحديث (1)يث

ص: 118


1- و زيد على ذلك بالنسبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) فقد ذكر السيد الرضي في حقائق التأويل عن كتاب أبي الحسن الكرخي في كتاب الاشربة من مختصره حيث قرأه على القاضي عبد اللّه بن محمد الاكفاني و أجاز له روايته عن مصنفه بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى «صاحب امير المؤمنين و خاصته من اهل الكوفة» قال شربت عند علي بن أبي طالب نبيذا فخرجت من عنده عند المغرب فأرسل معي قنبر مولاه يهديني إلى بيتي انتهى فذكرت الرواية الظالمة الضالة بذلك ان امير المؤمنين (علیه السلام) بعد تحريم الخمر و في ايام خلافته يسقي بعض خواصه في بيته نبيذا يسكره بحيث

و مقتضى روايات الدر المنثور عن ابن عباس ان آية وَ أَنْتُمْ سُكارى نسختها آية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ و في رواية آية الوضوء و في اخرى انها قبل أن تحرم الخمر و أن المراد سكر الخمر. و لكن ذكر ان عبد بن حميد اخرج عن ابن عباس أنه قال النعاس و يشبه أن يكون من ذلك ما

أخرجه البخاري عن انس عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إذا نعس أحدكم و هو يصلي فلينصرف و لينم حتى يعلم ما يقول

و في الكافي في الموثق عن الصادق (علیه السلام) سئل عن الآية فقال سكر النوم.

و في الصحيح عن الباقر (علیه السلام) يعني سكر النوم و روى العياشي عن الباقر (علیه السلام) نحوه.

و السكر ضد الصحو و هو حالة تعتري الإنسان تعبث بشعوره و تخرجه عن استقامته الطبيعية. و من ذلك ان يذهل عما يقول او يفعل كلا او بعضا فيفعل أو يقول ما لا يعلمه و لا يريده. و للسكر مراتب مختلفة و منه الحالة التي تعتري الإنسان بهذه الصفة من شدة النعاس و هي المرادة من سكر النوم اي السكر الذي يكون من مقدمات النوم او بقاياه في الاستيلاء على الحواس و الشعور و منه قول الطرماح

مخافة ان يرين النوم فيهم بسكر سنانة كل الريون

و انشد الرضي في حقائق التأويل شاهدا على ذلك

و ركب سروا حتى كأن رقابهم من السكر في الظلماء خيطان خروع

نعم قد كثر استعماله في سكر الخمر لكن هذه الكثرة لا تمنع ارادة المعنى العام في الآية خصوصا مع اقتضاء الغاية لإرادته فإن قوله تعالى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ يدل على أن المراد حفظ صورة الصلاة و الالتفات إليها. و صونها عن الذهول عنها و التخليط في افعالها و أقوالها.

فإن إحرازهم لكونهم يعلمون ما يقولون فيها يلزمه الصحو العادي. و لو قيل ان السكر حقيقة في سكر الخمر مجاز في سكر النوم لكانت الغاية على ما قررنا قرينة على إرادة معنى يعم ما زعموه من الحقيقة و المجاز. و انما خص بالذكر سكر النوم في روايات ابن عباس و الباقر و الصادق (علیه السلام) نظرا الى حال السائلين و اكثر المسلمين في ان محل ابتلائهم الذي يقتضي بيان الحكم لهم هو سكر النوم لا لحصر مدلول الآية به. و اما قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا فالخطاب فيه للمؤمنين الموجودين في حال الخطاب نهيا لهم عن ان يقربوا الصلاة على تلك الحالة في المستقبل فإن خطاب المعدومين و دخولهم فيه قبيح كما هو المذهب الصحيح نعم يعم الحكم غير الموجودين

***-***

يحتاج من سكره الى من يهديه الى بيته مع انه كثير التردد الى امير المؤمنين ليس غريبا يضل الطريق فأرسل معه قنبر مولاه ليهديه و نعم الحكم اللّه و الموعد القيامة

ص: 119

من المؤمنين للإجماع على الاشتراك في احكام الإسلام. و دعوى ان الخطاب للمؤمنين السكارى في حال الخطاب مجازفة باردة و من اين علم بوجود السكارى حال الخطاب.

فلا وقع لوقوع البعض في الحيص و البيص في صحة خطاب السكران و تكليفه. و لا يدل هذا النهي بإحدى الدلالات على ان شرب الخمر و المسكر حلال لكي يقال ان الآية باعتبار دلالتها على حل شرب الخمر و المسكر قد نسختها آية انما الخمر و الميسر كما ذكر في الدر المنثور من أخرجه عن ابن عباس و منهم ابو داود و النسائي. و من الغريب ما ذكر من انه اخرج عن ابن عباس ان آية السكارى نسختها آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية و من المعلوم ان كون الإنسان يعلم ما يقول يلزمه صحوه من السكر و لكن ذكر العلم بما يقولون لكي يشعر بوجه النهي و الجهة التي تصان عنها الصلاة و للاشارة الى رذيلة السكر و الخروج به عن حالة العقلاء و شرف الشعور و الإنسانيه. و الآية بنهيها و حكمة غايتها تدل على فساد الصلاة في حالة السكر. و قوله تعالى لا تَقْرَبُوا هو على معنى القرب تأكيدا لاحترام الصلاة و اجتنابها حال السكر حتى باجتناب القرب منها. و من أنحاء القرب منها دخول المسجد. و حكى عن بعضهم ان المراد لا تقربوا موضع الصلاة و هو المسجد فحذف المضاف و هو «موضع» و ذكر له بعض وجها آخر و هو ان المسجد سمي في الآية بالصلاة باعتبار كثرة وقوعها فيه او سمي بذلك تعريبا لتسمية اليهود موضع عبادتهم «صلاتا» أقول و مع ان هذا كله خلاف الظاهر في نفسه يلزم منه أن تكون الأحكام الآتية في الآية احكاما للمسجد و اللازم باطل لأن المساجد خصوصا في زمان الخطاب ليست معرضا لأن تكون في الاسفار حيث لا يوجد الماء كما في البراري فيتيمم لدخولها كما في قوله تعالى أَوْ عَلى سَفَرٍ و فَلَمْ تَجِدُوا ماءً. و لأن الإجماع قائم على انه ليس من احكام المساجد ان الذي يجي ء من الغائط منهي عن دخولها حتى يتيمم ان لم يجد ماء بل ما الحكمان الا من احكام الصلاة على حقيقتها: و جملة «وَ أَنْتُمْ سُكارى حالية و الواو فيها لبيان الحال. و لا يخفى ان التتبع في صحيح الكلام و التدبر له يقضي بأن الجملة الاسمية يؤتى بها في ضمن النهي حالا في مقام يكون مضمونها ظاهر المنافاة للفعل المنهي عنه فيؤتى بها استلفاتا إلى تلك المنافاة و احتجاجا لحكمة النهي. فكأنه قيل ان الصلاة المطلوب بها الطاعة في الإتيان بها بحدودها و الإقبال بها في الخضوع للّه و عبادته و التدبر في قراءتها و أذكارها و التوسل بدعائها كيف يؤتى بها في حال السكر مع ما يعرف من منافاة ما هو المطلوب لطيش السكر

ص: 120

و ذهوله و غفلاته. و مثل ذلك قوله تعالى في سورة البقرة 22 فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ كما أشرنا إلى وجه المنافاة في الجزء الأول ص 76 و قوله تعالى 185 وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فإن المطلوب من الاعتكاف هو الانقطاع إلى اللّه في المسجد للعبادة و التخلي عن التلذذ فأين هو من التلذذ بمباشرة النساء و قوله تعالى في سورة المائدة 99 لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ فإن الإحرام هو حبس النفس على الطاعة و ترويضها بالاجتناب عن كثير من المباحات فأين هو من تطلب الصيد و قتله. و أما الجنابة فليست ظاهرة المنافاة للصلاة و إنما كشف الشارع عن ذلك إجمالا بفرض الطهارة تعبدا فلذا جاء الحال الثاني مفردا (1) و قوله تعالى وَ لا جُنُباً الواو فيه عاطفة و «جنبا» منصوب على الحالية معطوف على الجملة و «لا» نافية تدل على دخول الحال الثاني في حيز النهي و تفيد أن المنهي عنه كل واحد من الحالين لا مجموعهما. و الجنب بضم الجيم و النون من اصابتهم جنابة و هي معروفة تنشأ من خروج المني أو الوطء مع غيبوبة الحشفة او قدرها و يستوي في هذه الصيغة المفرد و المثنى و الجمع و المذكر و المؤنث إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قيل معناه إلا حال كونكم مسافرين و نسبه في التبيان إلى علي (علیه السلام) و غيره و في مجمع البيان نسبه إلى علي و ابن عباس. و لم أجد في أحاديث الإمامية رواية ذلك عن علي (علیه السلام) نعم

في الدر المنثور ذكر من اخرج عنه (علیه السلام) في قوله تعالى و لا جنبا إلا عابري سبيل قال نزلت هذه الآية في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم و يصلي

و في لفظ لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيتيمم و يصلي حتى يجد الماء انتهى و هذه الرواية على ما بها لا تدل على ما نسب اليه (علیه السلام) لأن

قوله وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ رة

ص: 121


1- و صاحب المنار في تفسيره حاول ان يبين وجه التفرقة بين الحالين في مجي ء الأول جملة اسمية دون الثاني فقال إن التعبير بجملة و أنتم سكارى يتضمن النهي عن السكر إلى ان قال و أما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يدل على النهي عن الجنابة. و قد اكثر التبجح بهذا في أوائل كلامه. و ليت شعري من اين جاء بتضمنه النهي عن السكر من حيث الدلالة اللفظية في الجملة الاسمية. و ما ذا يقول في الآيات الثلاث التي ذكرناها فهل يقول ان التعبير عن الحال فيها بالجملة الاسمية يتضمن النهي عن العلم بوحدانية الله و انه لا ند له. و عن الاعتكاف في المساجد و عن الإحرام للحج و العمرة

من كلام الراوي و الظاهر ايضا ان قوله نزلت هذه الآية في المسافر إنما هو بالنظر إلى قوله تعالى أَوْ عَلى سَفَرٍ. و أما النسبة إلى ابن عباس فمنشأها بحسب الظاهر ما ذكر روايته عنه في الدر المنثور بنحو روايته عن علي (علیه السلام). و الكلام فيها كما تقدم. و قد ذكر في الدر المنثور من اخرج عن ابن عباس في قوله تعالى إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قال لا تدخلوا المسجد إلا عابري سبيل تمر به مرا و لا تجلس. و عن البيهقي عن انس نحوه. و عن ابن جرير و عبد الرزاق و البيهقي عن ابن مسعود نحوه. و عن ابن جرير عن ابن مسعود ايضا هو الممر في المسجد و

في علل الصدوق في الصحيح عن زرارة و محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) قالا قلنا له الحائض و الجنب يدخلان المسجد ام لا قال الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين إن اللّه تبارك و تعالى يقول وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا. و عن العياشي عن زرارة عن الباقر نحوه. و في تفسير القمي سئل الصادق (علیه السلام) عن الحائض و الجنب و ذكر نحوه.

هذا كله مع ان تفسير عابري سبيل بالمسافرين يوجب التكرار المخل في الآية بقوله تعالى أَوْ عَلى سَفَرٍ و ينحط بذلك أسلوب الآية عن كرامة القرآن الكريم. و مدلول هذه الروايات عليه اجماع الإمامية. و لا يضر فيه كلام سلار في مراسمه و كذا الصدوق في المقنع لموافقته في الفقيه و الهداية للأصحاب بل و في المقنع لما ذكره في الأخذ من المسجد و الوضع فيه. و مذهب الشافعي مثل مذهب الأصحاب. و نسب اليه بناءه على جواز استعمال اللفظ في معناه الحقيقي و المعنى المجازي بأن تكون الصلاة في الآية قد استعملت في معناها الحقيقي و في موضعها و هو المسجد. و لا أظنه بناه على ذلك إذ يلزم منه منع من جاء من الغائط عن الدخول في المسجد حتى يغتسل او يتيمم و هو لا يقول بذلك فإن التفرقة في الأحكام بين المعنيين لو صح استعمال اللفظ فيهما معا إنما هي مجازفة. و لكن الوجه في دلالة الآية على ما ذكرناه هو ان نهي الجنب عن قربه للصلاة يختلج منه في الذهن نهيه عن دخوله للمسجد لأجل حرمته و شدة ارتباطه بالصلاة خصوصا في عصر النزول فكأنه من مناحي قرب الصلاة المنهي عنه فجاء قوله تعالى إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ بمنزلة الاستثناء المفرغ في دلالته على مضمونه بالمطابقة و على المستثنى منه بدلالة الالتزام و اقتضاء الأسلوب. فكأنه قيل و لا ندخل المسجد و نحن جنب فقيل نعم إلا عابري سبيل. و لمثل هذا الأسلوب البارع و هذه الدلالة بالإشارة الجميلة نظائر في بليغ الكلام منها ما ذكرناه في الجزء الأول ص 155 من قوله تعالى فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ. و ما استشهد

ص: 122

به الفرّا من قولهم:-

أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر

و يصم عما كان بينهما سمعي و ما بي غيره وقر

و «منها» ما جاء في هذه الآية و في آية الوضوء في سورة المائدة من قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ فإنه بدلالة المقام و الأسلوب و قوله فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ قد اكتفى عن قوله تعالى (فاضربوا بأيديكم على الصعيد او مسوه و امسحوا أيديكم بوجوهكم و أيديكم منه) و ادخل فاء التفريع على المسح مع أن حقه أن يعطف بالواو لو لا الاكتفاء بحسب براعة البلاغة بالدلالة الظاهرة لأهل اللسان و الذوق العربي على ما ذكرناه و «منها» ما جاء في القرآن الكريم من العطف على المحذوف الذي يدل عليه العطف و مناسبة المعطوف و ما يمثله المقام للذهن كما ستسمع بعض أمثلته في آية الوضوء من سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى و في المقام مسائل ثلاث- الأولى- لا يجوز مرور الجنب و كذا الحائض في المسجد الحرام و مسجد رسول اللّه في المدينة المنورة. و الظاهر انه لا خلاف فيه بين الإمامية و حكى غير واحد عليه إجماعهم. و عليه صحيح جميل و روايته عن الصادق (علیه السلام) في الجنب و

مرفوعة محمد بن يحيى عن أبي حمزة عن الباقر (علیه السلام) في المحتلم فيهما انه لا يمر إلا متيمما و كذا الحائض و لا بأس ان يمرا في سائر المساجد.

و ما أخرجه ابو داود عن عائشة عن النبي (صلی الله علیه و آله) و وجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض و لا جنب انتهى

فلم يستثن المرور بل لعل الحديث و نهيه ناظران إلى المرور كما يدل عليه ما يأتي في المسألة الأخرى- الثانية- لا يدخل في هذا النهي و التحريم رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) او اهل بيته.

اخرج الترمذي في فضائل علي عن أبي سعيد قال قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لعلي يا علي لا يحل لأحد ان يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك. و في اللآلئ المصنوعة ذكر ممن أخرجه البيهقي في سننه و البزار عن سعد عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله).

و أوله ضرار بن صرد و كذا في اللمعات و المفاتيح بأنه لا يحل لأحد أن يستطرقه و يمر فيه جنبا غيري و غيرك

و أخرج أحمد و عن النسائي في الكبرى عن ابن عباس في حديث قول رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) سدوا الأبواب إلا باب علي و كان يدخل المسجد و هو جنب ليس له طريق غيره.

و عن القول المسدد لابن حجر أخرج الطبراني في الكبير بسنده عن جابر بن سمرة في حديث سد الأبواب

ص: 123

فسدها غير باب علي و ربما مر و هو جنب. و أيضا

عن القاضي إسماعيل المالكي في كتاب احكام القرآن عن المطلب مرفوعا أن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يكن يأذن لأحد أن يمر في المسجد و لا يدخل فيه و هو جنب إلا علي بن أبي طالب لأن بيته كان في المسجد.

و ذكر السيوطي في اللآلئ و الحمويني في فرائد السمطين عن أبي نعيم بسنده عن بريدة الأسلمي في حديث سد الأبواب إلا باب علي تركه النبي (صلی الله علیه و آله) مفتوحا فكان يدخل و يخرج منه و هو جنب.

و أخرج موفق بن احمد بإسناده عن أبي ذر في حديث الشورى قال لهم علي (علیه السلام) في مناشدته أ تعلمون أن أحدكم كان يدخل المسجد جنبا غيري.

عن ابن أبي شيبة في مسنده و البيهقي في سننه عن ام سلمة قالت خرج رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إلى صرحة المسجد و نادى ألا ان هذا المسجد لا يحل لجنب و لا حائض إلا النبي و أزواجه و عليا و فاطمة. و ذكره البيهقي

من وجه آخر و ضعّفه و ليس في محله و فيه

إلا محمد و أهل بيته علي و فاطمة و الحسن و الحسين.

و يدل على المسألتين في مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) كلما جاء في سد النبي للأبواب الشارعة إلى مسجده إلا باب علي.

و قد تعنت ابن الجوزي فذكر الرواية لذلك بأسانيد متعددة عن ستة من الصحابة و رماها بالضعف و عمدة ما عنده زعمه انها من وضع الرافضة قابلوا به حديث أبي بكر في الصحيح. و قد كفانا اللّه مؤنة الرد لتعنته بما ذكر في اللآلئ المصنوعة و حكاه فيها عن ابن حجر في القول المسدد في الذب عن مسند احمد: و قد وجدت روايته عن اكثر من عشرين صحابيا و الكثير من أسانيدها من الحسان و فيها ما صححه الحاكم على أصولهم فالحديث لا شك في انه مشهور ان لم يكن من المتواتر أو يقرب منه و هو مقام مشهوريته او تواتره لا يدخل في فن بعض المحدثين الذين همهم من الحديث سنده الآحادي الشخصي و إن كان مضطرب المتن واهيه أو كان له معارض حتى مما يروونه بل يدخل في فن طلاب الحقيقة من العلماء و الفقهاء الذين ينظرون إلى نتيجة العلم و أخذ المحصل مما جاء في الحديث و مستفيضه و مشهوره و متواتره- المسألة الثالثة- المحصل من حديث سدّ الأبواب و ما في الدر المنثور من رواية جابر و زيد بن حبيب أن تحريم المرور للجنب في مسجد النبي (صلی الله علیه و آله) من باب النسخ لا التخصيص. و في الجزء الأول ص 126 في قوله تعالى طَهِّرا بَيْتِيَ ذكرنا روايات الحلبيين عن الصادق (علیه السلام) و مقتضاهما أن نهي الحائض و الجنب عن مطلق الدخول في المسجد الحرام ثابت من عهد ابراهيم و ليس بناسخ

ص: 124

حَتَّى تَغْتَسِلُوا الغسل الرافع لحدث الجنابة المانع من الصلاة و من الكون مطلقا في المسجدين غير المرور و الاجتياز في سائر المساجد. و الآية واضحة الدلالة على كفاية غسل الجنابة في الدخول في الصلاة و دخول المساجد إذ جعل الاغتسال وحده غاية للنهي- ثم شرع اللّه التيمم في الحدث الأكبر و الأصغر لإباحة الصلاة بدلا عن الطهارة لها بالماء فقال جل اسمه وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى و جوابه «فَتَيَمَّمُوا» و ذكر المرض يشعر بأن المراد منه ما يضره التطهر بالماء و في بداية ابن رشد نسب جواز تيمم المريض و إن وجد الماء إلى الجمهور و لم يذكر الخلاف إلا عن عطا. و في معتبر المحقق و يجوز التيمم لو منعه من استعمال الماء مرض و هو قول اهل العلم الا طاووس و مالكا. و في تذكرة العلامة في المريض الذي يخاف التلف او سقوط عضو او بطلان منفعة عضو انه يجب عليه التيمم بإجماع العلماء. و مراده علماء المسلمين من الفريقين انتهى و

في الفقيه قيل لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ان فلانا اصابته جنابة و هو مجدور فغسلوه فمات فقال (صلی الله علیه و آله) قتلوه الا سألوا ألا ييمموه ان شفاء العي السؤال. و رواه في الكافي مسندا عن الصادق (علیه السلام).

و روي أيضا عن الصادق (علیه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) عن مجروح اجنب فأمر بالغسل فاغتسل فمات فقال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قتلوه إنما كان دواء العي السؤال.

و اخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا إذا كان بالرجل جراحة في سبيل اللّه او القروح او الجدري فيجنب فيخاف ان اغتسل أن يموت فليتيمم. و ان ظهور الآية بكون المبيح للتيمم في المرض خوف الضرر ليمنع ان يقيد في هذا الحال بقوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً بل يدل على أن مقام خوف الضرر سبب مستقل للانتقال الى التيمم. نعم لا ينتقل مع عدم خوف الضرر الا إذا لم يجد الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ أي على حال سفر كما تقول أتيته على شوق اليه او على رغبة او كره. و المراد من السفر معناه اللغوي و ان كان دون المسافة الشرعية لقصر الصلاة بل و ان كان سفر معصية أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الغائط الموضع المنخفض و المطمئن من الأرض و أهل البادية و القرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة في التخلي للتستر. و هو كناية متعارفة في قضاء الحاجة بما يخرج من السبيلين من العذرة و البول. و من بابه قول اهل البادية في هذه الازمنة «خرجت الى الوهدة أتيت من الوهدة» و من بابه ما يقال في الاستعمال الفارسي «كنار آب» و المراد جاء من الغائط بعد قضاء حاجته من الخروج اليه. و لأجل المبالغة في حشمة

ص: 125

الخطاب و نزاهته كما هو المعهود من كرامة القرآن في أسلوبه لم يقل على نهج سائر الجمل «أو جئتم من الغائط» بل قال «احد منكم» على صورة التنكير و الإبهام حفظا للحشمة أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ و المراد منه الجماع كقوله تعالى بَاشِرُوهُنَّ. وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ. تَمَسُّوهُنَّ. يَتَمَاسَّا. و قول مريم يَمْسَسْنِي مع ان الملامسة اقرب في الكناية إلى الجماع من المس لأنها مفاعلة من اللمس الذي هو مس بقصد الإحساس فالملامسة تمثل الحالة الجماعية بين الرجل و المرأة في قصدهما التلذذ بالإحساس في مباشرتهما. و

في الدر المنثور ذكر من اخرج عن علي (علیه السلام) اللمس هو الجماع.

و عن ابن عباس في قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قال هو الجماع.

و في التهذيبين في الموثق عن الباقر (علیه السلام) قوله و ما يعني بهذا أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ إلا المواقعة في الفرج.

و في تفسير البرهان عن الشيخ الطوسي و لم أجده عاجلا في الصحيح عن الصادق (علیه السلام) قال لمس النساء الإيقاع بهن. و روى نحوه العياشي عن منصور و الحلبي و قيس بن رمانة عن الصادق (علیه السلام).

و قد صح و استفاض عن الباقر و الصادق ان لمس المرأة بغير الجماع لا ينقض الوضوء

و على ما ذكرنا اجماع الإمامية و اليه ذهب ابو حنيفة و أصحابه. و ذكرت ملامسة النساء و جماعهن بعد ذكر الجنب من باب النص على الخاص بعد العموم لئلا يتوهم أن الجنابة الاختيارية بمقاربة النساء لا تدخل في رخصة التيمم فيلزم الإنسان ان يمتنع في مظان عدم وجدان الماء اذن فليس هذا من باب التكرار كما توهمه بعض فَلَمْ تَجِدُوا ماءً تصلون إلى التطهر به بالغسل أو الوضوء فليس من ذلك وجوده في البئر مثلا مع عدم الوصلة اليه. هذا ما يقتضيه سوق الكلام لا حمل عدم الوجدان على ما يشمل عدم التمكن من استعماله لمرض و نحوه فإنه تقييد لا دليل عليه او تجوز بعيد جدا فَتَيَمَّمُوا اي اقصدوا و التيمم في اللغة القصد. قال امرؤ القيس:-

تيممت العين التي دون ضارج (1) يفي ء عليها الظل عرمضها (2) طامي (3)

و قال الأعشى:-

تيممت قيسا و كم دونه من الأرض من مهمه (4) ذي شزن (5)

و من هذه الآية و أختها في سورة المائدة و استعمال المتشرعة لفظ التيمم في مقام الطهارة.]

ص: 126


1- اسم موضع
2- العرمض هنا الطحلب
3- طمى طال و ارتفع
4- الأرض المقفرة
5- الشزن غلظ الأرض [.....]

الترابية صار التيمم عند المتشرعة اسما لها صَعِيداً في التبيان الصعيد وجه الأرض غير نبات و لا شجر قال الزجاج لا اعلم خلافا بين اهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض سواء كان عليه تراب او لم يكن انتهى و تبعه في النقل عن الزجاج في مجمع البيان و قال و بهذا يوافق مذهب أصحابنا في ان التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب او لم يكن و قال في التذكرة في ذلك عند علمائنا أقول و بحسب التتبع في التذكرة في مثل هذه العبارة يشك في نقله بها لإجماعنا. و نقل المنع عن التيمم بالحجر عن المرتضى في شرح الناصريات و لكن كلامه على الجواز ادل. و عن الغنية و الظاهر ان كلامه و إجماعه ناظران إلى مثل الكحل و الزرنيخ. و في الروضة ان المنع من التيمم بالحجر مطلقا حتى مع فقد التراب لا قائل به انتهى نعم ذهب جماعة منا إلى جواز التيمم بالحجر عند فقد التراب و لعل هذا القيد منهم للاحتياط و إلا فلا دليل عليه إن لم يكن الحجر مصداقا للصعيد و الاستناد إلى الإجماع له موهون بأن اكثر القائلين بجواز التيمم به او جلهم يقولون بذلك لكونه مصداقا للصعيد فلا يلتئم من المجموع اجماع كاشف. و أما

قوله (صلی الله علیه و آله) في بعض الروايات جعلت لي الأرض مسجدا و ترابها طهورا

فلم يصح و لو صح لما قيد اطلاق الصعيد في الآية و الأرض في الروايات لأن شرط التقييد التنافي و جعل التراب طهورا لا ينافي جعل الصعيد و مطلق الأرض طهورا. و في معتبر المحقق الصعيد هو وجه الأرض بالنقل عن فضلاء اللغة ذكر ذلك الخليل و ثعلب عن ابن الأعرابي و يدل عليه قوله تعالى فتصبح صعيدا زلقا اي أرضا ملساء مزلقة انتهى و أما الزرنيخ و الكحل فهما كالملح و سائر المعادن ليسا من مصاديق الصعيد و الأرض و ان تولدا منها و «او» في الآية لبيان الأقسام التي شرع التيمم في كل واحد منها فإن الواو توهم اشتراط الاجتماع لهذه الأمور مع عدم وجدان الماء في صحة التيمم. و قد قدمنا أن قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى واضح الدلالة في نفسه فضلا عن دلالة الحديث على أن المنشأ فيه للانتقال إلى التيمم هو خوف الضرر من الماء فيكون ذلك قرينة على أن عنوان المرضى في الآية غير مقيد في أسلوب لفظها بعدم وجدان الماء و إن كان من لا يخشى الضرر من استعماله يشترط في جواز تيممه عدم وجدان الماء بفحوى الآية و دلالتها على ان التيمم بدل عذري يدور مدار ما جعل عذرا. و أما باقي الخصال فهي بما جمعها مقيدة بعدم وجدان الماء بمقتضى

ص: 127

دلالة الآية بحسب الوضع اللغوي لأن الصحيح في المسألة الأصولية و المتبادر هو رجوع هذا القيد و أمثاله الى الجميع عملا باطلاقه الوضعي ما لم تقم قرينة في بعضها على عدم تعلقه به في أسلوب اللفظ كما في المرضى (1) و يعضد الإطلاق المذكور في الآية و يشهد له اجماع المسلمين و حديثهمرق

ص: 128


1- و زعم صاحب المنار في تفسيره و استاده على ما حكاه عنه أن التقييد في الآية بعدم وجدان الماء يختص بمن جاء من الغائط و ملامس النساء دون المريض و دون المسافر. و غاية ما ذكره عن اسناده مستندا لزعمه هو ان هذا هو ما يفهمه القارئ من الآية نفسها و أطال الكلام في التعريض بالمفسرين و من يفسر الآية بغير ما زعمه. و غاية ما عند التلميذ هو انه ان قيل في المسألة أن القيد المتعقب لأمور تصلح لأن تقيد به انما يرجع للأخيرة لم يرجع التقييد بعدم الوجدان الى المسافر. و ان قيل برجوعه الى الجميع فهو مشروط بعدم المانع و المانع من رجوعه الى المسافر موجود و هو انه لا يظهر لاشتراط فقد الماء لتيمم المسافر دون المقيم. ثم عقب هذا في الصفحة الثانية باستحسان التوسعة على المسافر بالتيمم و ان وجد الماء قياسا على قصر الصلاة و الإفطار في السفر. و قال بذلك في آية الوضوء و التيمم في سورة المائدة و انه يجوز للمسافر ان يتيمم بدل الوضوء و ان وجد الماء. فنقول ان المسافر في هذه الآية يشمل من اجنب باحتلام او بملامسة النساء و ان من لامس النساء الذي يعترف باشتراط تيممه بفقدان الماء يشمل الحاضر و المسافر فإن جعلنا كلا من المسافر و ملامس النساء مخالفا للآخر في التقييد و الإطلاق و الحكم تعارضا في ملامس النساء في السفر فهل في الآية دليل على تقديم احد العامين من وجه على آخر اذن فما هو. او هي مجملة معماة المراد و ان كانت في مقام البيان و التعليم. و مع ذلك يخرج من مضمونها المحتلم في الحضر. و تزيد آية المائدة بأن المسافر على زعمه يعم من جاء من الغائط و من كان محدثا بالنوم و ان الجائي من الغائط يعم المسافر و الحاضر فيتعارضان بحسب الإطلاق و التقييد في المسافر الجائي من الغائط فيسأل ايضا بمثل السؤال المتقدم. و هذا يوجب الإعضال و الاشكال الشديدين في الآية التي هي للبيان و التعليم. و يلزم من ذلك ايضا بقاء المحتلم في الحضر و كذا المحدث بالنوم لا حكم لهما في الآية في التيمم مع انهما قسمان لا يستهان بهما في هذا المقام لكنا نقول أن العنوان لمن كان على سفر في الآيتين لم يذكر لامتياز المسافر عن الحاضر في حكم الآيتين بل لأجل ان قوله تعالى في الآية قبل ذلك وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يشير بمورده عند النزول إلى الحضر لان المساجد لم تكن حينئذ في طرق

كما جمع بعضه في الوسائل في أبواب التيمم. و منه ما

في الكافي و التهذيب في الصحيح عن زرارة عن أحدهما «يعني الباقر و الصادق (علیه السلام)» قال إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا

**-****

المسافرين بل لأجل ان هو الغالب من احوال المكلفين فربما يتوهم من ذلك اختصاص حكم التيمم بالحاضرين فذكر من كان على سفر لأجل النص على عموم الحكم للحاضر و المسافر. و كذا الكلام في آية المائدة بالنظر الى ان الحالة الغالبة هي الحضر. و ان السفر مظنة لفقدان الماء اكثر من الحضر فيظهر فيه مقام الامتنان و الفائدة بتشريع التيمم و لئلا يتوهم المنع من اختيار السفر عند العلم و الظن بفقدان الماء و لو لبعض الفرائض. و عنوان ملامسة النساء هو لبيان عموم الامتنان بالتيمم حتى مع كون الجنابة اختيارية تسوق إليها الشهوة و هذا هو الذي يفهمه السلف و الخلف ممن انعقد منهم الإجماع على خلاف ما يقوله مفسر المنار و استاذه و خلاف مما ذكرناه مما يلزم تفسير المنار. اذن فلا اشكال و لا إعضال في الآيتين و لا تعارض و لا إبهام في مقام البيان و لا إهمال لما أشرنا اليه من اقسام المسألة.

و اما بناء صاحب المنار للمسألة على رجوع القيد الى الجملة الأخيرة فهو مع فساد المبنى فاسد البناء لأنه ملتزم برجوع بفقدان الى ما قبل الأخيرة و هو قوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ و ان خصه بزعمه في الحضر فما ذا الذي دل على رجوع القيد هنا الى ما قبل الأخيرة فإن قال الإجماع من علماء الإسلام قلنا ان هؤلاء مجمعون ايضا على رجوع القيد الى المسافر فكيف تحتج في مقام بإجماعهم و في مقام تسميهم ادعياء العلم و تقول في شأنهم «المقلد لا يحاج لأنه لا علم له» و ان قال الحديث قلنا له أنت و صفتهم بالمفتونين بالروايات فلما ذا صرت مثلهم ام تحل لنفسك ما تحرمه على غيرك. تلك اذن قسمة ضيزى. و اما بناؤه على وجود المانع من رجع القيد «و هو عدم وجدان الماء» الى من كان على سفر. فقد احتج فيه على ان المانع هنا هو انه لا يظهر وجه لاشتراط فقد الماء للمسافر دون المقيم: و يرد عليه ان عنوان المسافر في الآية انما جاء كما ذكرناه للنص على عموم حكم التيمم له و لبيان الامتنان و لرفع توهم الخطر بالسفر مع العلم بفقدان الماء فيه او الظن به فمن اين يجئ ما تحكم به من المانع و لو كان العنوان في الآية يلزم منه اشتراط فقدان الماء دون العنوان المخالف له لعاد عليه الكلام فيمن جاء من الغائط فإنه لا يظهر وجه لاشتراط فقدان الماء به دون المحدث بالنوم و كذا ملامس النساء دون المحتلم. و هل يسعه الّا ان هذه العناوين ذكرت لنكت اقتضت النص عليها لا لاشتراط فقدان الماء بها دون المحدث بالنوم و الجنب بالاحتلام في الحضر. اذن فلما ذا يغفل عن ذلك فيمن كان على سفر. و اما استحسانه للتوسعة على المسافر على قصر الصلاة و الإفطار فقد شذ فيهما فإن القائل بالقياس و الاستحسان لا يقول بهما مع مصادمة

ص: 129

خاف ان يفوته الوقت فليتيمم و يصلي.

و في التهذيب في المعتبر المعمول عليه عن السكوني عن الصادق عن أبيه عن علي امير المؤمنين (علیه السلام) قال يطلب الماء في السفر ان كانت حزونة فغلوة و ان كانت سهولة فغلوتين الحديث. و ذكره في كنز العمال و مختصره مما أخرجه ابو خلف العسكري عن علي (علیه السلام)

و فيهما مما

أخرجه ابن سعد و عبد ابن حميد و ابن جرير و القاضي إسماعيل في الأحكام و الطحاوي و الدارقطني و البيهقي عن الاسلع ابن شريك ما ملخصه ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال له قم يا اسلع فارحلن قال اصابتني جنابة فنزلت آية التيمم و علمه إياه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ثم ساروا حتى مروا بماء فقال (صلی الله علیه و آله) له يا اسلع امسّ هذا جلدك.

و أخرج احمد و الترمذي و عن ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الصعيد الطيب وضوء المسلم و ان لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته و في رواية الترمذي طهور المسلم.

و اخرج احمد عن أبي ذر فيما وقع في نفسه من تيممه أياما حينما اجنب و قد كان غرب عن الماء ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال له ان الصعيد الطيب طهور ما لم تجد الماء إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمس بشرتك. و اخرج نحوه الحاكم في مستدركه و ذكر في كنز العمال و مختصره إخراجه عن عبد الرزاق و ابن أبي منصور.

طَيِّباً جاء في القرآن الكريم بلد طيب. و البلد الطيب. و كلمة طيبة. و الكلم الطيب. و ريح طيبة.

و مساكن طيبة. و حياة طيبة. و وصف المال الحلال بالطيب و الحرام بالخبيث كما في قوله تعالى في الآية الثانية من السورة وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. و

في النهاية في الحديث في شأن عمار قوله (صلی الله علیه و آله) مرحبا بالطيب. و نهى ان يستطيب الرجل بيمينه

اي يستنجي أقول و المستفاد من تتبع موارد الاستعمال ان الطيب هو الخالص المنزه عما يستخبث او يكره بحسب حاله او ما يراد منه و يرغب به فيه. و لم أجد عاجلا مما يؤثر عن الرسول الأكرم و الصحابة الكرام و الأئمة الهداة شيئا يتعلق بتفسير الطيب في الآية. و الظاهر ان استعمال الطيب فيما ذكرناه من الموارد إنما هو من استعمال المشترك المعنوي في معناه الواحد الذي له اصناف من المصاديق فتستفاد إرادة المصداق في صنفه من مناسبات مقام الاستعمال على ما استظهرناه في معنى الطيب.

**-****

الإجماع و الدليل لهما. و لم اقصد بكلامي هذا محاجة صاحب المنار ...

بل ذكرته خدمة للعلم و الحقيقة. اللهم وفقنا لتدبر القرآن و اتباع سبيل المؤمنين

ص: 130

و انسب ما يكون في هذا المقام هو استفادة الطهارة و الحل. اما الطهارة فيشهد لها ما صح و استفاض بين المسلمين من

قوله (صلی الله علیه و آله) خلقت لي الأرض مسجدا و طهورا.

لا لما يقال من ان طهورا مبالغة في الطاهر و معنى المبالغة ان يكون مطهرا. فإنه ممنوع لأن المبالغة في الصفة القاصرة كالطاهر لا تقلبها إلى المتعدية كالمطهر. نعم لفظ الحديث يشير إلى معنى المطهر باعتبار ان الطهور اسم لما يتطهر به كالوقود و السحور و السعوط و نحوها بفتح أولها فتستفاد الطهارة من ذلك. لأن مما لا يذعن به الذهن و لا يستقيم في الفهم ان يكون ما يتطهر به غير طاهر و ان كان تطهيره معنويا. و لا بد من جريان الحديث على ما يقتضيه الذهن و الفهم من طهارة المطهر كما هو اللازم في حكمة الخطاب. فتكون الطهارة من وجوه الطيب في الآية. و الظاهر اجماع الإمامية على اعتبار الطهارة في الصعيد. و الظاهر اجماع المسلمين على اشتراط إباحته و عدم جواز التيمم بالمغصوب. و يعضده الإجماع على ان التيمم بجميع أفعاله عبادة و منها الضرب على الصعيد او وضع اليد عليه و ان كان على الحجر للتيمم. و هذا الضرب او وضع اليد على غير المباح تصرف غصب و الغصب منهي عنه و لا يكون عبادة. و هذا أيضا يبين وجها من وجوه الطيب في الآية و هو الإباحة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و لا ينبغي الشك في ان يكون اللازم في دلالة الآية ان يكون هناك شي ء يمس به الصعيد فيمسح بالوجه و اليدين.

و بالنظر إلى المتعارف في الأعمال و دلالة المقام ان ذلك هما اليدان. و

في الجوامع الستة و عن ابن أبي شيبة عن عمار في حديث تيممه ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال له إنما يكفيك ان تقول هكذا ثم ضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه و كفيه. و استفاضت رواية ذلك من طرق الإمامية عن الباقر و الصادق (علیه السلام)

لكن

في صحيحة الفقيه عن زرارة عن الباقر (علیه السلام) عن تيمم رسول اللّه فوضعهما على الصعيد ثم مسح بهما جبينيه.

و في آخر السرائر من كتاب ابن بكير عن زرارة عن الباقر (علیه السلام) ثم مسح بجبينيه ثم مسح كفيه كل واحدة على ظهر الأخرى.

و اخرج الحاكم و عن الطبراني عن ابن عمر عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال التيمم ضربتان الحديث.

و اخرج الحاكم عنه أيضا تيممنا مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فضربنا ضربة بأيدينا على الصعيد- ثم ضربنا ضربة أخرى الحديث.

و استفاض عن الأئمة (علیه السلام) ذكر الضرب على الأرض أو الوضع عليها في

ص: 131

افعال التيمم بل في الروايات جعل ذلك هو العنوان للتيمم كما احصى بعضه في الوسائل في الحادي عشر و الثاني عشر من أبواب التيمم. و لأجل التفنن ببراعة التعبير و حسن الاكتفاء اكتفى القرآن الكريم بدلالة الأسلوب و المقام بذكر تيمم الصعيد الطيب و ذكر الممسوح به و مجرى العادة في مزاولة الأعمال باليد و استغنى ذكر الضرب على الصعيد او مسه بباطن الكفين و مسحهما ببعض الوجه و بالبعض الآخر من اليدين و اقتصر على قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ. و من المعلوم ان المعاني تختلف باختلاف التعبير و جهات التعلق فقول القائل امسح وجهك بيدك يقضي بمسح جميع الوجه تحصيلا لمسمى الاسم (1) بما يحصل به المسح من بعض اليد. و ذلك لمكان الباء التي هي للآلة كما يقال امسح وجهك بالمنديل. و في قول القائل امسح يدك بوجهك يقضي باستيعاب ما ينبغي مسحه من اليد و هو ما يلاقي الصعيد بالضرب و بأن مسحها ببعض الوجه لمكان الباء التي هي للآلة. فإن قلت.

ان المقصود هو مسح بعض الوجه لا كون الوجه آلة لمسح اليدين. قلنا. لو سلمنا ذلك لم يناف دلالة اللفظ و قوانين اللغة و صوغ التركيب ان يكنى بذلك عن التبعيض في الوجه.

و يبين به ان الممسوح من اليدين هو ما مس الصعيد و الممسوح به منهما هو ما لم يمسسه فكشف اللّه جل اسمه عن المراد المحتاج الى العبارة الطويلة بالإتيان بباء الآلة. و هذا هو المحصل من

صحيحة زرارة لما سأل الباقر (علیه السلام) عن الحجة على كون المسح في الوضوء لبعض الرأس فقال (علیه السلام) ما حاصله ان اللّه تعالى قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعرفنا ان الوجه كله ينبغي أن يغسل ثم قال وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فوصلهما «اي بالعطف و النسق و التسمية» بالوجه فعرفنا انه ينبغي لهما أن يغسلا ثم فصل بين الكلامين «اي بأسلوب التعبير» فقال وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فعرفنا أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء.

اي لكون الباء بحسب السوق هي التي تدخل على الآلة كما حفظ (علیه السلام) صورة ذلك

بقوله (علیه السلام) ان المسح ببعض الرأس.

ثم طرد الكلام (علیه السلام) الى التيمم و أشار الى مكان الباء و وصل اليدين في الأسلوب و النسق بالعطف بمدخول الباء و هي الوجوه.

هذا و قال الجمهور من اهل السنة بمسح الرأس كله. و هذا مناف لما ذكرناه من وجه الدلالة الذي هو ابلغ من التصريح. و أما ما ورد في حديثهم مما يوهم الإطلاق في الوجه فإنه يجبجه

ص: 132


1- ما لم تقم قرينة على الاكتفاء بمسح بعضه كما إذا كان ما تطلب إزالته بالمسح المطلوب كالعرق او الوسخ متعلقا ببعض الوجه

تقييده بدلالة الآية و حكى في التذكرة عن أبي حنيفة انه يجوز ان يترك من ظاهر الوجه دون الربع و في رواية عنه لو مسح اكثر الوجه اجزأه. فكأنه أخذ في ذلك بالمتيقن من مفاد الآية و حكى ابن رشد في بدايته ان مشهور المذهب و به قال فقهاء الأمصار منهم ان مسح اليدين هو الى المرافق كالوضوء. و هذا مخالف لدلالة الآية على البعض و على ان الممسوح ما مس الصعيد و الممسوح به ما لم يمسسه. مضافا الى انه لو اريدت الأيدي بأجمعها الى المرافق لعبر بعبارة الوضوء و لكن لكل عبارة في القرآن مدلول و لكل مراد عبارة. و مخالف ايضا للمتفق على صحته عندهم و عند الإمامية و هو ما ذكرنا من

حديث عمار هو أن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في تعليمه التيمم مسح كفيه

و أما حديث المرافق فقد ضعفه احمد و ماذا له من الأثر في نفسه فضلا عن مصادمته بالآية و الحديث الصحيح. و حكى ابن رشد انهم عضدوا حديثهم الضعيف بالقياس على الوضوء أقول و يا له من قياس مخالف للآية و الحديث المتفق على صحته فضلا عما صح من طرق الامامية في مسح الجبهة و ظاهر الكفين و للكلام في التيمم تتمة تأتي ان شاء اللّه في آية المائدة إِنَّ اللَّهَ كانَ منذ الأزل و لا يزال برحمته و غناه عَفُوًّا غَفُوراً فهو الرحيم الموسع الميسر على عباده

سورة النساء (4): آية 44

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)

44 أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه. قد يقال ذلك كما في الآية في مقام الإنكار على ما يذكر من الفعل و التسفيه لفاعله إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يريد المعاصرين لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله). و أشار جلّ اسمه الى ان هؤلاء لم يصل إليهم من الكتاب الإلهي المنزل على أسلافهم الا بعضا و نصيبا من انقاضه التي بقيت بعد تلف الباقي و تحريفه فإنه قد بقيت منه بعض الكلمات في التوحيد و النبوة و نبوة موسى و عيسى و ان عيسى رسول اللّه و عبده و بعض احكام القصاص في التوراة. و البشرى برسول اللّه و قرآنه و انه كلام اللّه يجعله في فم رسوله. و اما الباقي و هو الجل فقد عبث به التلف و التحريف ما شاءت الأهواء و الشرك كما أشرنا الى بعض ذلك في كتاب «الهدى» و «الرحلة المدرسية» و في المقدمة من هذا التفسير يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ و في مقدمتها الشرك و يطلبونها على عمد و غي و يبذلون بإزاء خسيسها المهلك أعلى الأمور و أغلاها من التوحيد و صلاحه و الهدى و اسباب السعادة و الكمال و حسن الاجتماع بالعدل و الإصلاح

ص: 133

الحقيقي وَ فوق ذلك يُرِيدُونَ من غيهم و انهماكهم بالضلال أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ المستقيم الذي هداكم اللّه بلطفه اليه و أوضح منهجه و أنار اعلامه فحظيتم بالتوفيق لحقيقة الإيمان و دين الهدى و شريعة الحق فلا يغووكم بضلالهم و ان أظهروا لكم بنفاقهم مخادعات النصيحة و المودة و الولاء و النصرة فإنهم عدو لكم

سورة النساء (4): الآيات 45 الى 46

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)

45 وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللَّهِ إله الناس و خالقهم القاهر القادر وَلِيًّا للمؤمنين وَ كَفى بِاللَّهِ كرر ذلك للتأكيد و ملأ القلب بكفايته و كرر اسم الجلالة اشارة الى عظمة الإلهية و قدرة اللّه في كفايته و نصره جل اسمه نَصِيراً 46 مِنَ الَّذِينَ من لتبين «الذين أوتوا» و لا يضر الفصل بالآية المتوسطة و الاعتراض بجملها كما يعترض كثيرا بالدعاء و نحوه مع اتساق الكلام و تناسب أطرافه. و قيل ان «من الذين» خبر مقدم و المبتدأ محذوف و جملة «يحرفون» صفة و التقدير قوم يحرفون. و في مجمع البيان كما قال ذو الرمة: «فظلوا و منهم دمعه سابق له» اي من دمعه سابق له. و انشد سيبويه

فما الدهر الا تارتان فمنهما أموت و أخرى أبتغي العيش أكدح

أي فتارة منهما. لكن في هذا الحذف تكلفا لا يناسب كرامة القرآن هادُوا و هم اليهود لأنهم انتسبوا الى مملكة يهودا بعد ان اضمحلت سائر الأسباط من بني إسرائيل و باد ملكهم الوثني و جامعتهم بسبي الآشوريين و قتلهم لهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ من تمردهم في الضلال سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ بفتح الميم الثانية و هو دعاء على من يخاطبونه كقوله اسمع لا سمعت وَ راعِنا قد مر تفسير هذه الكلمة فيما يريدونه منها في الجزء الأول ص 113 و 114 و أظنهم يقولون «و عصينا. و غير مسمع. و راعنا» بنحو من لحن التحريف و مناحي الالغاز و اللهجة لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا اختيارا للهدى على الضلال سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ منا ما نقول في مقام الإيمان و الاهتداء وَ انْظُرْنا باللطف و العناية بهمزة الوصل و ضم الظاء المعجمة و هو المعنى الذي كانوا يغالطون فيه في قولهم راعنا

ص: 134

من المراعاة و الملاحظة و هي من النظر الذي فيه عناية و لطف. و كذا قوله تعالى في سورة البقرة لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا اي بدلوا كلمة «راعنا» بما هو بمعناها و هو قولكم انظرنا لئلا يتخذها اليهود وسيلة لسب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كما تقدم. و قال بعض «أنظرنا» بمعنى انتظرنا و أمهلنا و لكنه شذوذ عن مجرى الكلام و وجهه ان ساعدت اللغة لَكانَ ذلك خَيْراً لَهُمْ إذ يلقون بسعادتهم قياد السمع و الطاعة الى رسول اللّه هادي البشر و مبلغهم عن اللّه ما فيه الصلاح و السعادة و الوصول الى الحقيقة و حقيقة الإيمان و معارف الحق و شريعته وَ أَقْوَمَ و اعدل وَ لكِنْ لا يزالون متمردين على الحق معرضين عنه بعصبيتهم و أهوائهم و عنادهم قد حرموا أنفسهم بتمردهم لطف التوفيق و رحمة الهداية و الإيصال فطردهم اللّه لذلك عن رحمته التي عاندوها و اعرضوا عنها و لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ اي بسبب كفرهم عن عناد و محادة للّه و رسوله بعد ما تجلت لهم الآيات و قامت عليهم الحجة فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم من لم يتوغل في التمرد على الحق و لم يتهود في عناده للحجة و لا في المحادة للّه و رسوله

سورة النساء (4): آية 47

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)

46 يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ نسب إيتاء جنس الكتاب الإلهي إليهم باعتبار إيتائه لأسلافهم حينما كان الكتاب في أول أمره مصونا عن النقصان المخل و التبديل و التحريف و الضياع و الزيادة. و أما المعاصرون لرسول اللّه فالذي أوتوه انما هو نصيب من الكتاب كما تقدم في الآية السابقة آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على رسول اللّه محمد (صلی الله علیه و آله) من القرآن الكريم الذي سبقت لكم البشرى به في التوراة و قد حفظ اللّه بعنايته هذه البشرى الى يومكم هذا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ في توراتكم من البشرى به و برسوله بكونه المصداق الذي تنطبق عليه و على رسول اللّه تلك البشرى الكريمة السامية او مصدقا لما معكم من اسم التوحيد و رسالة الأنبياء و بعض الحقائق التي لم يشوهها التحريف فاغتنموا سعادتكم بهذا الإيمان مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ بكسر الميم و ماضيه طمس بفتحها يستعمل قاصرا كما في كثير من الشعر و الكلام و متعديا كما في الآية و قوله تعالى في سورة القمر.

فطمسنا أعينهم. و يعدى بعلى كما في قوله تعالى في سورة يس لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ. و في سورة يونس أطمس على أموالهم. في التبيان و الطمس هو الدثر و هو عفو الأثر و الطامس و الداثر و الدارس

ص: 135

بمعنى واحد و تبعه على ذلك في مجمع البيان. قلت و الظاهر ان الألفاظ الثلاثة متقاربة المعنى لا مترادفة و فسره في القاموس و المصباح بالمحو و الدروس و في التبيان اي نمحو آثارها حتى تصير كالقفا و نجعل عيونها في قفاها فتمشي القهقرى. و نسبه في مجمع البيان الى ابن عباس و عطية العوفي و في الدر المنثور أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس و

في التبيان ايضا قيل نطمسها عن الهدى فنردها على ادبارها في ضلالها ذمّا لها بأنها لا تفلح ابدا.

و في مجمع البيان رواه ابو الجارود عن أبي جعفر يعني الباقر (علیه السلام)

و قيل المراد جلاء الكثير منهم من الحجاز وردهم الى اريحات و أذرعات و بلاد أسلافهم من الشام كما وقع ذلك ببني النضير و من لم يصالح في حرب خيبر إذ محيت آثار وجوههم من الرؤية و الوجود في الحجاز بجلائهم وردهم على ادبارهم الى بلاد الشام و في التبيان و هو أضعف الوجوه و في مجمع البيان لأنه ترك للظاهر (أقول) و ترك الظاهر فيه اقل من القول الثاني إذ ليس فيه الا التجوز في الطمس بالاستعارة التي يقرب وجه الشبه فيها بخلاف الثاني و ترجيح الثاني بالرواية عن الباقر (علیه السلام) جيد لو سلمت الرواية عن ضعف الإرسال و غيره و عن المعارضة بالرواية الأخرى الراجحة عليها عن الباقر (علیه السلام) ايضا لدلالتها على ان ألفاظ الآية مستعملة في معانيها الحقيقية

ففي تفسير البرهان عن النعماني و عن اختصاص المفيد عن عمر ابن أبي المقدام عن جابر الجعفي عن الباقر (علیه السلام) في حديث الخسف في البيداء بجيش السفياني و لا يفلت منهم الا ثلاثة نفر تحول وجوههم الى أقفيتهم و فيهم نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ الى قوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها الرواية.

و لعل

قوله (علیه السلام) و فيهم نزلت

انما هو باعتبار انطباق مضمونها عليهم و قال في الكشاف و قيل أن الطمس منتظر و لا بد من طمس و مسخ لليهود قبل يوم القيامة و قال الرازي في الرابع من أجوبته و عندنا انه لا بد من طمس في اليهود او مسخ قبل يوم القيامة (1)

سورة النساء (4): آية 48

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)

47 إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شيئا غيره في الإلهية و ما للّه تعالى شأنه من مقام الإلهية و شؤونها. فمن الشرك الشائع في العصور الماضية و الحاضرة ما يزعمونه في بعض البشر من انه منبثق و متولد من اللّه و انه ابن اللّه المتولد من عذراء من النساء و يجعلون اللّه الواحد ذا أقانيم ثلاثة الأب و الابن

ص: 136


1- لم يتم قدس سره تفسير بقية هذه الآية و مكانها بياض في المسودة

و الروح القدس. و يجعلون لكل من الثلاثة آثارا خاصة فالابن كالأب اله له خواص الإلهية لذاته و من القائلين بهذا فرق البراهمة و البوذيين و النصارى و يحكى عن البابليين و الآشوريين و غيرهم و من الشرك ما يحكى عن الوثنيين انهم جعلوا لكل نوع من المخلوقات إلها و ربا يدبر امره فجعلوا للماء إلها و للنار إلها و للهواء إلها و غير ذلك. أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.

و من ذلك التأليه لبعض القوى و السيارات بحيث جعلوا المجسمات الاصنامية تمثالا و رمزا لعبادتها و هذا هو الأصل لعبادة المجسمات الاصنامية و ان خفي على بعض المتوحشين من الوثنيين.

و كم جنى اتباع الفلسفة اليونانية بشطحات المتفلسفين و المتصوفين بمزاعم العرفان و جر على الحقائق ويلات عبثت بتوحيد بعض الناس للّه في الإلهية و شؤونها وردتهم على اعقابهم من حيث لا يشعرون. أو ليس من نحو ذلك خرافات المظاهر و ان اللّه سبحانه و تعالى لا يدرك من نحو ذاته بكل اعتبار الى غير ذلك من الكلمات و هلم الخطب في مسألة العقول العشرة و العقل الفعال فإنها لم تبق للّه الواجب بالذات شيئا مما تمجد به في القرآن الكريم من خلقه لكل مخلوق و علمه و ارادته و مشيئته و حكمته و اعماله بل جعلته لغيره من مخلوقاته. و راجع ما ذكره نصير الدين في التجريد من الخلل في مباني زعمهم و ما ذكره قدس سره في فصول العقائد فى بطلان قولهم و استلزامه للمحال و قد كنا ذكرنا ما ذكره قدس سره في آخر الجزء الثاني من الرحلة المدرسية في الطبعة الأولى و لما اطعنا بعد ذلك على ما افاده في فصول العقائد ذكرناه و شرحناه و أوضحناه في الطبعة الثانية و جرى التعبير بقوله تعالى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ لدلالة المضارع على الدوام اي لا يغفر للإنسان اشراكه الذي يدوم عليه الى الموت فإن مما اجمع عليه المسلمون بل عليه ضرورة دينهم ان من اسلم بعد شركه غفر له شركه السابق و لك الشاهد الكريم الحميد من شأن الكبار من الصحابة الكرام و اتل قوله تعالى في آخر سورة الفتح مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ الى قوله تعالى مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً و قال جل اسمه في سورة طه و اني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى. و غير ذلك من الآيات وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ممن يراه بحكمته و رحمته أهلا للغفران جزاء لما سعد به من اختياره للأعمال الصالحات العظيمة التي

ص: 137

تؤهله بكثرتها و كبير شأنها و عظيم اثرها في الصلاح أن يغفر اللّه برحمته و حكمته له بعض سيئاته و ان لم يبادرها بالتوبة وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في إلهيته و شؤونها فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً الافتراء اختلاق الكذب اي الكذب المختلق اي كذب اختلاقا و لأن الافتراء إثم و ذنب جرى ذكر المصدر الذي هو الافتراء بصفته اللازمة و هو الإثم و ذلك لزيادة البيان لقبحه و وباله و «عظيما» صفة للمصدر و هو الافتراء و الإثم. و ذلك لأن كل من أشرنا اليه من اقسام المشركين يعترفون بالإلهية و انه هو الإله الواجب الوجود و ان كل ما يجعلونه من الشركاء هم مخلوقون للّه و يشاهدون فيهم لوازم الحدوث و نقص الإمكان و احتياجه و مع ذلك يختلقون له صفة الإلهية بسفسطات مستحيلة و مقدمات فاسدة و تأويلات لا تروج الا في سوق الأهواء و الأغراض الفاسدة و قد أشرنا الى شي ء من ذلك في الجزء الأول ص 356 و في الصدر نفثات

سورة النساء (4): آية 49

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)

49 أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه اي ألم يصل الى علمك و لذا عديت بكلمة «الى» كما تقدم و هذه كلمة تقال كثيرا في مقام الإنكار على الغير و التنبيه على رداءة فعله إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ اي يزعمون ان أنفسهم زكية بارة اي يزكونها بالزعم و الدعوى.

في مختصر التبيان هم اليهود و النصارى في قولهم نحن أبناء اللّه و احباؤه و نسب غير ذلك الى القيل. و في مجمع البيان قيل نزلت في اليهود و النصارى حيث قالوا نحن أبناء اللّه و احباؤه

و قالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى و هو المروي عن أبي جعفر يعني الباقر (علیه السلام)

أقول و لم أجد للرواية أثرا و عليها فالتفسير بذلك لعله من باب الانطباق و بعض المصاديق.

و في الدر المنثور ذكر من اخرج عن ابن عباس ما لا ينطبق على تزكية النفس بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ و في هذا الإضراب اشارة واضحة الدلالة و البيان باكتفاء بارع و أسلوب جميل و حاصل ذلك انهم كيف يزكون أنفسهم و يدعون ذلك لهم و لقومهم مع ان ما يعلم و يشاهد و يعرفونه فيما بينهم من ظواهر الأحوال و الأخلاق و الأهواء و الأعمال تعارضهم في ذلك و كيف لهم بإثبات دعواهم في أمورهم الخفية و اعتقاداتهم السرية و الزكي النفس إنما هو من زكت اعماله و أخلاقه و اعتقاداته في السر و العلانية فأين أنتم من التزكية و ادعائها لو أردتم

ص: 138

الصدق بل اللّه العالم بالحقائق و الخفيات هو الذي يزكي من يشاء ان يخبر بتزكيته من عباده الصالحين كما اخبر في قرآنه المجيد بتزكية أنبيائه و رسله و بعض أوليائه و وصفهم بالصلاح و الإحسان وَ لا يُظْلَمُونَ اي هؤلاء الذين يزكون أنفسهم فَتِيلًا اي مقدار فتيل و هو مفعول ثاني ليظلمون كما تقول ظلمني زيد مقدار فلس و الفتيل في تفسير القمي القشر الذي على النواة و في التبيان الذي في شق النواة و كذا في المصباح و كذا في النهاية و فيها و قيل ما يفتل بين إصبعيك من الوسخ و فسره بهما و في القاموس و ذكر في الدر المنثور من أخرجه عن ابن عباس انه الذي في شق النواة و انه استشهد له بقول النابغة الذبياني

يجمع الجيش ذا الألوف و يغزو ثم لا يرزأ الأعادي فتيلا

و قول الآخر

أعاذل بعض لومك لا تلحّي فإن اللوم لا يغني فتيلا

و في الدر المنثور عن ابن عباس ايضا من طرق ان الفتيل ما خرج من بين الإصبعين اي من الوسخ عند ما تدلك ما بينهما. و الغرض من ذكر الفتيل هو قلته و حقارته و المراد ان اللّه لا يظلم هؤلاء بهذا المقدار لو أحسنوا و لكن اين هذا من التزكية

سورة النساء (4): الآيات 50 الى 51

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)

50 انْظُرْ يا رسول اللّه كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في شركهم و ما ينسبونه الى قدس اللّه جل و علا و ما شرعوه بأهوائهم و ما يزعمونه من انهم أبناء اللّه و احباؤه الى غير ذلك وَ كَفى بِهِ اي بالكذب على اللّه إِثْماً مُبِيناً و موضحا لجرأتهم على اللّه و محادته و اقدامهم على المعاصي و الفعل القبيح 51 أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ باعتبار ما بقي من انقاض الكتب الإلهية التي ضيعها أسلافهم و بدلوها و حرفوها يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ اما الجبت ففي مختلف روايات في الدر المنثور انه الساحر او الأصنام او الشيطان او حي بني اخطب و اقتصر في مختصر التبيان على نقل الأقوال بنحو ما ذكر و على هذا الترديد جرى في القاموس و في مجمع البيان فسر الجبت و الطاغوت بالصنمين اللذين كانا لقريش و في الكشاف الجبت الأصنام و كل ما عبد من دون اللّه. هذا و اما الطاغوت فقد أشرنا في الجزء الأول ص 228 و 229 الى معناه في

ص: 139

موارد استعماله. و لا يخفى من القرآن الكريم ان معنى الجبت شبيه بمعنى الطاغوت في رجوعه الى الضلال و قد يسمى به الضال المضل و قد روي ان جماعة من اليهود مضوا الى مكة ليتألبوا مع مشركيها على حرب رسول اللّه فسجدوا لأصنامهم و قالوا ما حاصله أن مشركي مكة اهدى سبيلا من رسول اللّه و المؤمنين معه و الآية الشريفة تدل على نحو هذا المعنى من دون تعيين للأشخاص فالتعيين على عهدة الرواية وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ اشارة الى قومهم الكافرين أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اي رسول اللّه و أصحابه

سورة النساء (4): الآيات 52 الى 53

أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)

سَبِيلًا 52 أُولئِكَ اي الذين أوتوا نصيبا من الكتاب المذكورين في الآية هم الَّذِينَ لأجل تمردهم و محادتهم للّه و رسوله و طغيانهم لَعَنَهُمُ اللَّهُ و طردهم عن رحمته و توفيقه و عذبهم بدل القتل و الجلاء و سلب الأموال مهما تألبوا و استنصروا و اعدوا العدة و العديد وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ اي يلعنه اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً و من ذا ينصر على اللّه من لعنه 53 أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً النقير كما في التبيان و الكشاف و القاموس و المصباح و غيرها هو النقطة التي في ظهر النواة و «ام» هنا هي المنقطعة و هي التي لا تقع في اللفظ معادلة لهمزة استفهام قبلها و ان تضمنت في الأكثر استفهاما إنكاريا مع ترق و اضراب عن جملة قبلها تتضمن ابطال ما يشارك ما بعدها في الإنكار به عليهم كقوله تعالى الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ و «اذن» هنا ملغاة عن العمل نحو قوله في سورة الاسراء 75 وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا و قال بعض النحويين ان ذلك على سبيل الجواز فيما إذا وقعت اذن بعد الواو و الفاء و الظاهر اتفاقهم على ان نصبها المضارع مشروط بتصديرها كما في المغني و غيره و عبر ابن الحاجب عن هذا الشرط بأن لا يعتمد ما بعدها على ما قبلها و ذكر الرضي من امثلة ذلك ان يكون ما بعدها جزاء للشرط الذي قبلها. أقول مراده الشرط الموجود في الكلام و ينبغي ان يكون ما كان محذوفا كما في الآية و دل عليه اجزاء الكلام من نحو فاء الجزاء او واو العطف على جزاء مقدر مع شرطه يدل عليهما سوق الكلام كما في آية الاسراء. هذا و ان اذن في الأكثر تكون

ص: 140

جوابا و جزاء كما قال الشيخ الرضي و هو المعني بقول سيبويه اذن جزاء و حكاه في المغني عن سيبويه بدون تقييد بالأكثر و قال الشيخ الرضي كما اطلق النحاة و لكن قيده بذلك الفراء محتجا بقولهم أحبك فتقول اذن أظنك صادقا و اختاره الشيخ الرضي و حجته قوله تعالى حكاية عن قول موسى لفرعون فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ- هذا و قد سبق في الآيتين حال اليهود مع المشركين و ضلالهم و تألبهم و اماني غيهم و لعن اللّه لهم و ذلك يتضمن الإنكار عليهم في حالهم النبي و محادتهم لرسول اللّه و المؤمنين و في أمانيهم الخاسئة في الانتصار عليهم فترقى القرآن عما سبق في توبيخهم و انتقل بالإضراب الى الإنكار عليهم و توبيخهم بوجه آخر و هو ان غرورهم و غلواءهم في الغي و المحادة هل لأن لهم نصيبا ذاتيا و حقا طبيعيا في ملك اللّه من حيث الدنيا و الزعامة الدينية فيحتكرون ذلك عمن يشاءون فسفها لهم من اين يكون هذا الحق و يكفي في بطلان ادعائهم لذلك ما يعرف من حالهم الخسيس في الشبح و سنة اللّه في عباده و هو انهم ان كان لهم هذا النصيب و الحق فاذن لا يؤتون الناس من هذا الملك مقدار نقير في الزنة و القيمة و لكن غيرهم من الناس قد نالوا اكثر منهم من مال الدنيا و رياساتها و زعاماتها الروحانية و ما ذاك الا لأن امر الملك بيد اللّه يؤتيه من يشاء.

فيكون حاصل الآية الكريمة هو الاضراب بالترقي في توبيخ اليهود على ما ذكر قبلها من تألبهم مع الطواغيت من المشركين على عداوة رسول اللّه و المؤمنين و تزلفهم للمشركين بتفضيلهم على المؤمنين و الإنكار عليهم فيما تضمنه ضلالهم المذكور من أوهامهم تمنيهم أن ينتصروا بالمشركين على رسول اللّه و المؤمنين

سورة النساء (4): آية 54

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)

54 أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ أي رسول اللّه باعتبار ما أوتي من الرسالة و الوحي و سيطرتها و واجب الطاعة و كذا أمناء اللّه و رسوله على وحيه و دينه باعتبار مقامهم الرفيع في ذلك و واجب الطاعة و بهذا الاعتبار ما جاء

في الصحيح المستفيض عن الباقر و الصادق (علیه السلام) في الآية نحن المحسودون

كما احصى بعضه في تفسير البرهان و

قال ابن حجر في صواعقه أخرج ابن المغازلي عن الباقر (علیه السلام) نحن الناس

أي المحسودون و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر و الطبراني من طريق عطا عن ابن عباس في الآية قال نحن الناس دون الناس عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ كما أشرنا اليه فإن اليهود يحاولون بطغيانهم في الضلال و توغلهم

ص: 141

في دناءة الحسد أن يخصوا كل نبوة و كل زعامة دينية بقومهم لأنهم كما يزعمون أنهم شعب اللّه و ابنه البكر و أبناؤه و أحباؤه كل ذلك إعجابا بكونهم من بني إسرائيل لأجل مكان يعقوب عند اللّه. إذن فأين هم عن ابراهيم خليل اللّه رجل التوحيد و بطله و داعيته و شيخ النبوة و دعوتها و ها هم العرب أولاد إسماعيل آل ابراهيم و كفى بذلك كرامة في الحسب الكريم. إذن فلترغم آنافهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ أي القرآن باعتبار انزاله على رسول اللّه سيد ولد ابراهيم و باعتبار استيداعه أمناء الوحي و كونهم عدل الكتاب في هدي الأمة واحد الثقلين الذين لا يضل من تمسك بهما و هما كتاب اللّه و عترة الرسول أهل بيته اللذين لن يفترقا حتى يردا على رسول اللّه الحوض كما تقدم ذكر الحديث في ذلك و تواتره في الجزء الأول ص 43 وَ الْحِكْمَةَ حكمة الرسالة و حكمة الإمامة وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً و هو سلطان الرسالة و سيطرة الدين و الشريعة و الطاعة المفروضة على العباد و يتبع ذلك زعامة الإمامة التي هي عهد اللّه لإبراهيم في ذريته و

في الصحيح المستفيض عن الباقر و الصادق (علیه السلام) كما في الكافي و بصائر الدرجات و تفسير العياشي و أحصى بعضه في تفسير البرهان ان الملك العظيم هي الطاعة المفروضة

و هو تفسير بالأثر الظاهر الجامع مما ذكرناه و في الكافي و بصائر الدرجات عن الباقر (علیه السلام) رواية في تفسير الآية و اللتين قبلها ما يفضي بخلاف ما قلناه و يمكن تنزيل الرواية على ما ذكرناه و اللّه العالم

سورة النساء (4): الآيات 55 الى 56

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)

55 فَمِنْهُمْ أي من آل ابراهيم و قيل من اليهود و الأول أقرب و أنسب مَنْ آمَنَ بِهِ أي بالملك العظيم بدخولهم في الإسلام وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ تستعمل صد قاصرة بمعنى أعرض أي صرف نظره و وجهه عن الشي ء المرئي له فيكون المعنى انهم أعرضوا عن الإيمان بهذا الملك العظيم بعد ما قامت به الحجة الواضحة و كان لهم كالمرأي بالعيان فويل للذين لعنهم اللّه و يحسدون الناس على ما ءاتاهم و الذين يصدون عن سلطان الإسلام و ملكه العظيم وَ كَفى بِجَهَنَّمَ في عذابهم سَعِيراً بمعنى مسعور يستوي فيه المذكر و المؤنث يقال سعر النار و أسعرها إذا أوقدها بل الذي يفهم من موارد الاستعمال هو إيقادها بشدة و شدة اتقادها 56 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 142

بِآياتِنا فكفروا بالرسول الأكرم و الكتاب الكريم سَوْفَ نُصْلِيهِمْ يوم القيامة ناراً مسعرة يصلونها كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بسعيرها بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها في الصورة بأن تعود بقدرة اللّه تلك الجلود الناضجة كالتي لم تنضج ليبقى فيها حسها فيدوم بذلك عذابهم

فعن أمالي الشيخ مسندا و في كتاب الاحتجاج عن الصادق (علیه السلام) انه سئل عن ذلك فقال هي هي و هي غيرها

و ضرب لهم المثل باللبنة إذا كسرتها حتى صارت ترابا ثم صببت عليها الماء و جبلتها لبنة على هيأتها فهي هي في المادة و إنما حدث التغيير و المغايرة في الصورة. أقول و هذا هو المنطبق على حكمة المعاد الجسماني (1) و ان اللّه يحيي العظام و هي رميم و من ذلك قوله تعالى في سورة الأسراء انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (2) و هو الوجه للرازي و جزم به ابو السعود لِيَذُوقُوا الْعَذابَ الدائم إِنَّ اللَّهَ كانَ و لا يزال عَزِيزاً في حكمه حَكِيماً في أعماله

سورة النساء (4): آية 57

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

57 وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا

ص: 143


1- و قد أشرنا الى شي ء من ذلك في الجزء الثالث من المدرسة السيارة ص 121 حتى 123 في الطبعة الأولى و الثانية
2- و لكن صاحب المنار نسب هذا المروي للمتكلمين و قال انه سفسطة ظاهرة. وليته ابان الوجه في كونها سفسطة ظاهرة و قد اختار هو ان يكون ذلك من مقتضى العادة في الدنيا في ان الجلد إذا لفحته النار و فسد نبت تحته جلد آخر يخلفه كما جرى ديدنه في تفسيره من إبائه لخوارق العادة بقدرة و تنزيل ما جاء من ذلك في القرآن على السنة الكونية و النظام الطبيعي كما أشرنا الى بعضه في بعض تعليقاتنا في هذا التفسير على كلامه و لكنه لماذا لا يلتفت ان امر القيامة و بقاء الأجسام في تلك النار العظيمة المهولة دهورا و أحقابا انما هو خرق لما هو العادة و السنة الكونية في الحياة الدنيا و اما ما يراه من نبات الجلد في الدنيا تحت الجلد المحترق فإنما هو من تقدير اللّه للنمو بالتغذي إذا لم يمنع ما قدر اللّه منعه كدوام النار عليه و من اين يكون لأهل جهنم و السعير ذلك النمو المقدر في الدنيا و الحال انهم في جهنم «ليس لهم طعام الا من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع» بل جعل الجوع زيادة في العقاب لا لأجل التغذي و النمو فأين قياسه و كيف يقيس

الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قد مر في متفرقات الجزء الأول تفسير ذلك في جمله و مفرداته لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ

في الفقيه عن الصادق (علیه السلام) اللاتي لا يحصن و لا يحدثن

و الظاهر انه (علیه السلام) ذكر اكبر القذارات الملازمة لنوع النساء و مقتضى إطلاق التطهير لهن انهن مبرات من كل نجاسة و خبث و قذارة في الخلقة و الأخلاق إلى هنا وقف براعه الشريف و لم يمهله الأجل «قده» لإتمام هذا السفر الجليل و قد أحب تعجيلا للخير ذكر الآية السادسة من سورة المائدة لمناسبة ذكر آية التيمم المار ذكرها قريبا في سورة النساء فقال طاب ثراه و حيث ان الآية السادسة من سورة المائدة لها مشاركة مع آية التيمم في كثير من الأحكام آثرنا أن نتعرض لتفسيرها في هذا المقام قياما بحق المناسبة و ما نحاوله من الاختصار و تعجيلا للخير و من اللّه التوفيق و التسديد.

فلا يخفى انه يعرف من الآية ان الجنب لا يقرب الصلاة حتى يغتسل و ان ذلك الاغتسال هو طهارة الجنب لاستباحة الصلاة كما يؤكده قوله تعالى في آية المائدة وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا كما يعرف من الآية ان المجي ء من الغائط له قسم من الطهارة المائية مقابل لطهارة الجنب و عند فقد الماء يتيمم و قد أشرنا ان المجي ء من الغائط كناية عما يعرض للذاهب إلى الغائط من خروج البول أو العذرة أو الريح ذات الصوت أو غيرها و لا يبعد ان ذلك معلوم عند المسلمين من السنة الشريفة من أول تشريع الصلاة و جاءت الآية مؤكدة لتشريعه على وجه الإشارة لحفظ تلك المشروعية و حجتها بما وعد اللّه به من حفظ القرآن الكريم نعم لا يفهم من الآية وجوب الطهارة للقيام من النوم فقال جل اسمه في سورة المائدة تأكيدا لحفظ شرعية الوضوء و صورته الواجبة في سورة المائدة التي دل الحديث المتفق عليه بين المسلمين انها آخر ما نزل من القرآن و ان أحكامها محكمة لم يعترها نسخ و تغيير يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ متوصلين بقيامكم إلى الصلاة في التهيؤ لها. و ليس المراد منه القيام الذي هو من أفعال الصلاة فإنه قيام للصلاة كالسجود للصلاة لا قيام إلى الصلاة و للرازي في المقام في المسألة الأولى كلام غير

ص: 144

منتظم. و

روى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد اللّه بن بكير (1)

قلت لابي عبد اللّه يعني الصادق (علیه السلام) قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ما يعني بذلك قال (علیه السلام) إذا قمتم من النوم قلت ينقض النوم الوضوء قال نعم الحديث.

و في قلائد الدرر للجزائري و تفسير البرهان و في تفسير العياشي عن بكير بن أعين عن أبي جعفر يعني الباقر (علیه السلام) في قول اللّه جل و علا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قال قلت ما عنى بها قال من النوم

و روى مالك في الموطأ عن زيد بن اسلم (2) ان تفسير هذه الآية إذا قمتم من المضاجع يعني النوم و في الدر المنثور اخرج مالك و الشافعي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن زيد بن اسلم و النحاس و ذكر مثله. و اخرج ابن جرير عن السدي مثله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ اطلاق الغسل يقضي بجريانه على العادة في الغسل بالماء و يوضحه قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ماء و على النحو الذي لا يؤتى به لازالة وسخ تحتاج الى ذلك و كثرة إفاضته للماء لأجل كثرته و استيلائه على الوجه بل يكفي فيه ما يحصل به غسل النقي عن الوسخ و الحاجب للماء عن البشرة و العادة في مثله تقتضي انه باليد الواحدة و هي اليمنى و هي المعدة للأعمال مضافا الى انها المطلوبة في الشرع للأعمال المحترمة و لا يكون الغسل للوجه بكلتا اليدين في العادة الا في مقام الحاجة الى افاضة الكثير لأمر هو فوق مسمى الغسل كإزالة الخضاب مثلا او التراب الكثير او الطين و نجو ذلك مضافا الى ان العادة في الوضوء هو استعمال اليد اليسرى بإفراغ الماء من الإناء في اليمنى إذا فلا حاجة و لا مداخلة لليسرى في الغسل. كما ان المعتاد عليه في غسل الوجه ان يكون من أعلاه الى أسفله فالإطلاق بحسب دليل الحكمة في الطبيعة المهملة انما يجري في الافراد العادية التي تتسابق بصدق الطبيعة الى الذهن فيقال حينئذ لو أراد المتكلم افرادا خاصة من هذه لحصرها بالتقييد و أما الافراد الخارجة عن الغالب و المعتاد فلا تسبق الى الذهن مع الغالب و المعتاد فلا يسري دليل الحكمة بالإطلاق إليها بل يقال حينئذ لو أرادها المتكلم لنص على ارادتهاب)

ص: 145


1- الظاهر الاتفاق على انه ثقة و ان كان فطحيا و عن الكشي انه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه و أقروا له بالفقه
2- زيد ابن اسلم تابعي من الخامسة ثقة و النحاس ثقة فاضل من صغار العاشرة. و السدي إسماعيل بن عبد الرحمن صدوق بهم و رمي بالتشيع من الرابعة و إسماعيل بن محمد الفزاري نسيب السدي الأول او ابن بنته او أخته صدوق يخطى و رمي بالرفض من العاشرة. و محمد بن مروان بن عبد اللّه بن إسماعيل السدي كوفي متهم بالكذب من الثامنة (قب)

بما يمثلها للذهن بالاستقلال او مع الافراد الغالبة المعتادة. هذا و ان تعلق الغسل باسم الوجه يقضي بأن يغسل جميع ما يسمى وجها كما تقدم في صحيحة زرارة عن الباقر (علیه السلام) و المرجع في بيان مسمى العرف العام و من لم يغسله كله لم يتحقق منه غسل الوجه فلا يتحقق منه امتثال الأمر به و من المعلوم الوجه من جانب الطول هو من قصاص شعر الناصية في مستوى الخلقة دون الأنزع و الأغم الى آخر الذقن و

في صحيح الكافي و الفقيه و التهذيب عن زرارة قلت لابي جعفر الباقر (علیه السلام) اخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي ان يوضأ الذي قال اللّه عز و جل فقال (علیه السلام) الوجه الذي قال اللّه عز و جل و أمر اللّه عز و جل بغسله الذي لا ينبغي لأحد ان يزيد عليه و لا ينقص منه الذي ان زاد عليه لم يؤجر (1) و ان نقص منه اثم ما دارت عليه الوسطى و الإبهام من قصاص شعر الرأس الى الذقن و ما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه فقال له الصدغ (2) من الوجه فقال لا (انتهى)

و المراد من الوجه ما يواجه بالرؤية و ان كان شعر اللحية و الشارب وَ أَيْدِيَكُمْ و هي اسم للعضو المعروف و تشملها الى الكتف و لا يدخل في مسماها الشعر فلا يكفي غسله عن غسل البشرة إِلَى الْمَرافِقِ المرفق هو مجمع عظمي الذراع و العضد و جرت الآية على المعتاد و المتعارف من ان الذي يغسل من اليد ما كان من ناحية الأصابع و الكف و الذراع فإنه المعرض لما يحتاج الى الغسل دون ما كان من ناحية الكتف الى المرفق فلا اطلاق في الآية و لا إجمال و لا إبهام كما ان العادة في غسل الذراع خصوصا من الغبار و الأوساخ بل و للتبريد ان يغسل من الأعلى متدرجا الى الأنامل فيجري الإطلاق عليه كما تقدم في تعيين المغسول في اليد الى المرافق مع ان النكس في تمام غسل اليد مما يحتاج الى صعوبة كما نرى ان العمل عليه لا يقع غالبا الا مبعضا و ربما يجري على هذا ما

في الدر المنثور مما أخرجه الدارقطني و البيهقي في سننهما عن جابر بن عبد اللّه قال كان رسول اللّه إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه.

و ما أخرجه احمد و مسلم عن عمرو بن عتبة عن النبي صلى اللّه عليه و آله في حديثه و إذا غسل وجهه كما امره اللّه إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم غسل يديه الى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء (الحديث)

و هو يوضح ان منتهى مجرى الغسل و مجرى الماء هي أطراف اللحية و الأنامل أقول و حاصل المقام ان كلمة الىكر

ص: 146


1- هذا في صورة عدم التشريع و اما مع التشريع يأثم
2- الصدغ بضم الصاد و هو منبت الشعر ما بين مؤخر العين و اصل الاذن في الانثي و الذكر

ليس لتحديد الغسل و بيان انتهائه الى المرفق بعد ابتدائه من أول اليد بل إنما هي لتحديد المغسول كما تقول اغسل ثوبك الى جيبه و اخضب كفك الى مفصل الزند و اصقل السيف الى ضبته و نحو ذلك و على هذا اجماع الإمامية و حديثهم نعم يحكى عن بعضهم جواز النكس تشبثا بإطلاق الغسل كما في الامثلة المذكورة و لكن ما ذكرنا من العادة و الغالب في غسل هذا المقدار من اليد يمنع الإطلاق عن النظر الى غير الغالب المعتاد مضافا الى

صحيحة بكير و أخيه زرارة المروية في الكافي و التهذيبين في حكاية الباقر (علیه السلام) لوضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و فيها فغسل يده اليمنى من الموفق الى الأصابع لا يرد الماء الى المرفق ثم غمس كفه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق الى الكف لا يرد الماء الى المرفق كما صنع في اليمنى ثم مسح رأسه و قدميه الى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء

و في رواية الكافي فغسل بها ذراعه من المرفق الى الكف لا يردها الى المرفق و المراد الى ناحية الكف و نحوهما في الصراحة رواية الكافي في الحسن كالصحيح عن زرارة عن الباقر (علیه السلام)

و جاء لفظ المرافق باعتبار صورة الخطاب بالجمع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كما يقال اغسلوا أيديكم الى مرافقكم و ان كان لكل مكلف مرفقان و يصح ان يقال الى المرفقين باعتبار النظر الى ان خطاب الجماعة بالتكليف ينحل في الحقيقة الى خطابات متعددة بتعدد المخاطبين المكلفين فيذكر المرفقان باعتبار كل مكلف و لم يسمع في فصيح الكلام و صحيحه حل جمع الايدي الى افرادها فيقال و أيديكم الى المرفق باعتبار اليد الواحدة الا ان يقال فاغسلوا وجوهكم و أيديكم كل يد الى المرفق و امسحوا أرجلكم كل واحدة الى العقب و السر في ذلك ان غير الجموع الخطابية لا علاقة لها يحلها الى المفردات الا ان يشار الى المفرد بقولك كل واحدة او كل يد او كل رجل ثم تحكم على المفرد بحكمه فلا تقول و لم تسمع قسمت الدراهم الى نصفين مثلا و ان تريد قسمة كل درهم الى نصفين بل لا بد لك ان تقول قسمت الدراهم كل درهم الى نصفين لأن الحكم يجره سوق الكلام الى الجمع وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ قد بينا سابقا من مكان الباء التي هي للآلة ان المسح بالرأس يكون ببعضه كما كان المسح في التيمم بالوجه ببعضه و قد سبقت الحجة من الباقر (علیه السلام) على ان المسح يكون ببعض الرأس

ص: 147

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.