الأسماء الثلاثة الإله

اشارة

نام كتاب: الأسماء الثلاثة الإله

نويسنده: آيت الله سبحانى

موضوع: الهيات

تاريخ وفات مؤلف: معاصر

زبان: عربى

تعداد جلد: 1

ناشر: موسسه امام صادق (ع )

الأسماء الثلاثة الإله، الرب، والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الرب، والعبادة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه الأوّل فلا شي ء قبله، و الآخر فلا شي ء بعده، الظاهر فلا شي ء فوقه، والباطن فلا شي ء دونه، و هو القائل عزّاسمه و علا سلطانه «هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن و هو بكلّ شي ء عليم».

والصّلاة و السّلام على أشرف خليقته، و خاتم رسله و أنبيائه محمّد أمين وحيه ورسالاته، وعلى آله الّذين هم موضع سرّه، و عيبة علمه، و موئل حِكَمه صلاة طيّبة، لا يحصيها العادّون.

أمّا بعد: فانّ اللَّه سبحانه بعث رسوله الخاتم لإنجاز عدته، و إتمام نبوّته، مأخوذاً على النبيّين ميثاقه، مشهورةً سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ مِلل متفرّقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتّتة، بين مشبِّهٍ للَّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشيرٍ إلى غيره، فهداهم من الضلالة، وأنقذهم من الجهالة. «1»

بعثه سبحانه بمعجزته الخالدة، فيها هدىً و نور، وشفاء لما في الصدور، ولمتزل تشع نوراً و رحمة، و سيباً و عطاءً لمن أنس بها و درسها، و خالطت جسمه و روحه و قلبه و دمه.

إنّ القرآن المجيد هو المعجزة الباقية عبر القرون إلى يوم القيامة، مشتملة على معارف و حقائق لم تكن في زبر الأوّلين، و لم تتجاوز عنها عباقرة المتأخرين،

الاسماء الثلاث، ص: 6

يقف و بناءً على ذلك فمن قرأالقرآن و تدبّر، وتلا آياته و فكّر، أحسّ- عند ذاك- أنّه أمام بحر ليس له ساحل.

و إنّ من أبرز تعاليمه العالية ما

أتى به حول التوحيد و الشرك، و التنزيه و التشبيه، و ربما يدور معظمها حول كلمات ثلاث، أعني: الإله، و الربّ، و العبادة.

و لمّا كان لها هذا الشأن العظيم، فجدير بالمسلم الواعي أن يقف على معانيها، و يحلّلها حسب ما ورد في القرآن الكريم، ويزيل عنها الأغشية التي أحاطت بها عبر تمادي القرون.

فلأجل ذلك قمنا في هذه الرسالة، بدراسة هذه الكلمات الثلاث، في فصول أربعة مستنطقين الذكر الحكيم، والسنّة النبوية الكريمة، و كلمات علمائنا الأبرار من السلف الصالح، و الخلف السائر على ضوء نهجهم، راجين أن تكون نبراساً للمحقّقين و ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون إلّامن أتى اللَّه بقلبسليم.

جعفر السبحاني

6/ صفر/ 1417 ه. ق

الاسماء الثلاث، ص: 7

الفصل الأوّل

الإله في اللغة و القرآن الكريم

الإله في اللغة و القرآن الكريم

قد ورد لفظ «إله» في القرآن الكريم بصوره المختلفة مفرداً و تثنية و جمعاً، مضافاً و غير مضاف 147 مرّة، كما أنّ لفظ الجلالة «اللَّه» ورد فيه 980 مرة، و بما أنّ الثاني عَلَم، فهو لايثنّى و لايجمع و لايضاف، بل يستعمل مفرداً مطلقا.

وكثرة ورودهما في الكتاب العزيز تُعرِب عن دورهما في مجال المعارف الإلهيّة ولعلّ الوقوف على مفهومهما مضافاً إلى لفظي الربّ و العبادة مفتاح لفهم جلّ المعارف القرآنيّة.

هل الإله بمعنى المعبود؟

هل الإله بمعنى المعبود؟

قد اشتهر في الألسن أن الإله من «الَه» بمعنى عَبَدَ، وأنّ الإله بمعنى المعبود، و هذا و إن كان مشهوراً لكن لا تصدقه وحدة المادّة ولا القرآن الكريم و إليك الكلام في المقامين.

الإله في اللغة

الإله في اللغة

أمّا الأُول: فلأنّ اللفظين (اللَّه و إله) مأخوذان من مادة واحدة فلابدّ أن يكونا بمعنى واحد غير أنّ الأوّل عَلَم دون الآخر، و لايتجاوز التفاوت بينهما هذا الحدّ، فلفظ الجلالة مأخوذ من «إله»، فحذفت منه الهمزة وحلّ مكانها اللام فصار «اللَّه».

الاسماء الثلاث، ص: 8

يقول الزمخشري: اللَّه، أصله «الاه»، قال الشاعر:

معاذ الإله أن تكون كظبية ولا دمية ولا عقيلة ربرب «1»

ونظيره، الناس، أصله أُناس، فحذفت الهمزة وعوضت عنها حرف التعريف.

و لذلك قيل في النداء يا اللَّه بالقطع، كما يقال يا إله، و الإله من أسماء الأجناس كرجل. «2»

و قال سيبويه في تفسير لفظ الجلالة: انّ أصله «إلاه» على وزن فعال فحذفت الفاء التي هي الهمزة و جعلت الألف و اللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة «3» الداخلة على لام التعريف في النداء في نحو قوله: يا اللَّه اغفر لي، و لو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا «4» الاسم.

وقال الراغب في مفراداته: اللَّه أصله إله فحذفت همزته و أُدخل عليه الألف واللام فخص بالباري و لتخصصه به قال تعالى: «هل تعلم

له سمياً». «5»

و على هذا فلا نحتاج إلى تفسير «إله» إلى شي ء وراء تصور أنّ هذا اللفظ كليّ و ما وضع عليه لفظ الجلالة، و بما أنّ هذا اللفظ (اللَّه) من أوضح المفاهيم فلانحتاج في فهم اللفظ الموضوع للكلي من هذا الفرد إلى شي ء آخر.

وعلى ذلك، فلا فرق بينَ لفظ الجلالة و لفظ «إله» سوى أنّ أحدَهما علم والآخر موضوع لمعنى كليّ، ومصداق لفظ الجلالة فرد منه، و إن لم يوجد لهذا

الاسماء الثلاث، ص: 9

الكلي فرد حقيقي سوى اللَّه سبحانه.

نعم اخترعت الأوهام لهذاالكليّ مصاديقَ خاطئة تصوروا أنّها من مصاديقه ولكنّها آلهة كاذبة ليست لها من الأُلوهية سوى الاسم الذي أطلقوه عليها، يقول سبحانه: «إِنْ هِيَ إِلّا أَسْماءٌ سمَّيتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطان» (النجم/ 23).

فإذا كان المتبادرُ من لفظ الجلالة شي ء غير المعبود، كواجب الوجود، أو الذات الجامعة لصفات الجمال والكمال او خالق السماوات والأرض و مافيهنّ و مابينهنّ مدبّرها أو ما يقرب ممّا ذكر، فليكن المتبادر من «الإله» هو ذلك غير أنّ أحدهما علم والآخر كلي.

و يؤيد وحدة مفهومها بالذات مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة المادة، أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله بمعنى أنّه يستعمل في المعنى الكلي و الوصفي دون العلمي فيصح وضعه مكان الإله كما في قوله سبحانه:

«وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمواتِ وَ فِي الأَرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» (الأنعام/ 3)، فالآية تهدف إلى أنّ إله السماء هو إله الأرض و ليس هناك آلهة بحسب الأنواع و الأقوام، فالضمير (هو)

مبتدء و لفظ الجلالة خبر والمعنى هو المتفرد بالإلهيّة في السماوات فوزانها وزان قوله سبحانه:

«وَ هُوَ الّذي فِي السَّماءِ إلهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكيم العَليم» (الزخرف/ 84).

فانّ اللفظين في الآيتين بمعنى و احد، بمعنى أنّ لفظ الجلالة في الآية الأُولى خرجَ عن العلمية و عاد إلى الكلّية والوصفية، ولذلك صح جعله مكانَ الإله في الآية الأُولى، و جي ء بنفس لفظ الإله في الآية الثانية.

و قريب من هاتين الآيتين الآية التالية إذ يقول سبحانه:

الاسماء الثلاث، ص: 10

«وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنّما اللَّهُ إِلهٌ واحِد سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَد» (النساء/ 171).

ومن المعلوم أنّ لفظ الجلالة في الآية منسلخ عن معنى العلمية لوضوح أنّ مصداق العلم واحد لا كثير فلا وجه للتركيز على انّه واحد، فإذاً لايصحّ التركيز إلّا بانسلاخ لفظ الجلالة عن معنى العلمية حتى يصحّ التأكيد على أنّ اللَّه إله واحد.

نعم لقائل أن يقول: إنّ الإله في الآية بمعنى المعبود، والهدف من التأكيد بالوحدانيّة، أنّه لا معبود سواه، فتكون النتيجة حصر المعبود الواحد فيه سبحانه.

و لكن التمعن في صدرها و ذيلها، لا يدعم ذلك الرأي و ذلك لانّها بصدد إثبات توحيد الذات و إبطال التثليث كما عليه النصرانية في عصر الرسول و ما بعده إلى يومنا هذا. فالمسيح عندهم جزء من العناصر الثلاثة التي تشكل إلهاً واحداً ويُشار إلى ذلك الواحد بلفظ الجلالة، ففي ذلك الموقف الخطير الذي يريد فيه النصراني نفي توحيد الذات وإثبات كثرتها يُناسب التركيز على وحدة الذات، وتوحيدها، لا وحدة

المعبود التي لا تصل النوبة إليها إلّا بعد الفراغ عن مسألة وحدة الذات وكثرتها قال سبحانه:

«يا أهْلَ الْكِتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلّا الحَقَّ إِنَّما الْمَسيحُ عيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتهُ أَلْقيها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّما اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الأَرْض وَكَفى بِاللَّهِ وَكيلًا» (النساء/ 171).

قد صيغت الآية و كأنّها سبيكة واحدة، لدحض مزعمة التثليث التي لاتتفق مع وحدانية الذات و لأجل ذلك يقول بعد قوله: «إِنّما اللَّه إله واحد» «سبحانه أن يكون له ولد» أي فهو موجود بسيط، «لم يلد و لم يولد»، فكيف يكون له ولد، و هو في غنى عن الولد، وهو مالك لما في السماوات و الأرض.

الاسماء الثلاث، ص: 11

وكلّ عربي صميم إذا تجرد عن كلّ رأي مسبق و دعمِ أي مذهب، لا يتلقى من الآية، إلّا ما ذكرنا و انّ المقصود أنّه لا مصداق للإله الذي يعتقده الإنسان بقضاء الفطرة إلّا هو.

وهناك مجموعة من الآيات يمكن أن نستظهر منها ما قويناه و هو وحدة مفهوم اللفظين (اللَّه- الإله) و الاختلاف بينهما في الجزئية والكلية. قال سبحانه:

«هُوَ اللَّهُ الّذي لا إلهَ إِلّا هُو عالِمُ الغَيبِ و الشَهادَةِ هوَ الرَحْمنُ الرَحيم* هُوَ اللَّهُ الّذي لا إلهَ إِلّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ البارئ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْماءُالْحُسنى يُسَبِحُ

لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَ الأَرض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم» (الحشر/ 23- 24).

وأمّا كيفية الدلالة، فبيانها: انّ مرجعَ الضمير في صدر الآيات هو الموجود الذي يعتقده الإنسان بقضاء الفطرة و يتوجه إليه في الشدائد و المصائب و تعبِّر عنه كلّ أُمة بلغتها- فعندئذٍ، يكون مفاد الآية أنّ ذاك المعتقد العام (هو) ليس إلّامن له هذه الأوصاف.

«اللَّهُ الّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...».

«اللَّهُ الّذي لا إلهَ إِلّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ...».

«اللَّهُ الْخالِقُ البارئ المُصَوِّر ...» (الحشر/ 22- 24).

إلى غير ذلك من خصائص الإله.

فلا مناص في تفسير الآيات عن القول بانسلاح لفظ الجلالة عن معنى العلمية، وترادفه مع لفظ الإله حتى يقع وصفاً كسائر الأوصاف.

الاسماء الثلاث، ص: 12

مفهوم الإله في القرآن

مفهوم الإله في القرآن

قد تعرفت على معنى الإله في اللغة، و حان حينُ البحث في المقام الثاني و هو مفهومه في القرآن الكريم نقول:

إنّ هنا آيات تدل بوضوح على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود، بل بمعنى المتصرف المدبر أو من بيده أزمّة الأمور، أو ما يقرب من ذلك على وجه يميّزه عن الموجودات الإمكانيّة. و إليك بعض هذه الآيات:

1- «لَو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللَّهُ لَفَسدَتا» (الأنبياء/ 22).

فانّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلّاإذا جعلنا «الإله» في الآية بمعنى المتصرف، المدبر أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدد المعبود في هذا العالم، مع عدم الفساد في النظام الكوني، و قد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية

مزدحمة بالآلهة، و مركزاً لها و كان العالم منتظماً، غير فاسد.

و عندئذٍ يجب على من يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات- بالحق- لفسدتا، و لما كان المعبود بالحقّ مدبِّراً و متصرفاً لزم من تعدده فساد النظام و هذا كلّه تكلّف لامبرّر له.

2- «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» (المؤمنون/ 91).

ويتم هذا البرهان أيضاً إذا فسرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلي ما يطلق عليه لفظ الجلالة. و إن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق، أو المدبّر، المتصرف، أو من يقوم بأفعاله و شؤونه. والمناسب في هذا المقام هو الخالق. و يلزم من تعدده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق و اعتلاء بعضهم على بعض.

و لو جعلناه بمعنى المعبود لا نتقض البرهان، لأنّه لايلزم من تعدده أى

الاسماء الثلاث، ص: 13

اختلال في الكون. وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّ في العالم آلهة متعددة، و قد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة و ستون إلهاً و لم يقع أيّ فساد و اختلال في الكون.

فيلزم على من يفسر (الإله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

3- «قُل لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لا بتغَوْا إلى ذِي الْعَرْش سَبِيلًا» (الإسراء/ 42).

فانّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبّر المتصرف أو من بيده أزمّة أمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في

ذهننا معنى الأُلوهية، و أمّا تعدد المعبود فلا يلزم ذلك إلّا بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

4- «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حصبُ جهَنّمَ أنتُمْ لها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤلاءِ آلهةً ما وَردُوها» (الأنبياء/ 98- 99).

والآية تستدل بورود الأصنام و الأوثان في النار على أنّها ليست آلهة إذ لو كانوا آلهة ما وردوا النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره و المتصرف فيه أو من فوض إليه أفعال اللَّه أجلّ من أن يُحكَم عليه بالنار و أن يكون حصبَ جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان، إذ لا ملازمة بين كونها معبودات و عدم كونها حصبُ جهنم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله و الآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه. وإليك مورداً منها في قولهتعالى:

5- «فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وبَشّرِ المُخْبِتينَ» (الحج/ 34).

الاسماء الثلاث، ص: 14

فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب، إذ المفروض تعدد المعبود في المجتمع البشري، و لأجل دفع هذا ربما يقيد الإله هنا بلفظ «الحقّ» أي المعبود الحقّ إله واحد. ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف، و إيصال النفع، و دفع الضرّ على نحو الاستقلال لصحّ حصر الإله- بهذا المعنى- في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لاإله في الحياة الإنسانية و المجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها إلّا اللَّه سبحانه.

ولا نريد أن نقول: إنّ لفظ «الإله»

بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر، إذ لا يتبادر من لفظ «الإله» إلّاالمعنى البسيط. بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الذي وضع له لفظ الإله. و معلوم أنّ كونَ هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط، غيرُ كونها معنى موضوعاً له الّلفظ المذكور كما انّ كونه تعالى ذو سلطة على العالم كله أو سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف نشير به إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ «اللَّه»، لا أنّه نفس معناه.

إلى هنا- أيّها القارئ الكريم- قد وقفت على معنى الإله، و الأُلوهية، وانّه ليس الإله بمعنى المعبود بل المراد منه نفس المراد من لفظة «اللَّه» لا غير، إلّا أنّ أحدهما علم، والآخر كلّي.

نعم ربما يفسّر الإله بمعنى المعبود و لكنّه تفسير باللازم فانّ من اتخذ أحداً إلهاً لنفسه فانّه يعبده قهراً و يفزع إليه عند الشدائد، و تسكن نفسه عند ذكره إلى غير ذلك من اللوازم والآثار للإله و هذا لا يسوِّغ لنا أن نفسر الملزوم بكلّ لازم له.

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية:

إنّ اللفظين واحد مبدءاً و معنًى، و إنّ المفهوم من لفظ «إله» هو المفهوم من لفظ الجلالة ولا فرق بينهما سوى في الجزئية و الكلّية.

الاسماء الثلاث، ص: 15

الفصل الثاني

الربّ في اللغة و الذكر الحكيم

الربّ في اللغة و الذكر الحكيم

قد ورد لفظ «الربّ» في الذكر الحكيم بصيغه المختلفة، مفرداً و جمعاً، مضافاً و غير مضاف 987 مرّة، و لايقال الرّب لغير اللَّه الّا بالإضافة.

ذكر أصحاب المعاجم للربّ معاني مختلفة قائلين بأنّ:

ربُّ كلّ شي ء: مالكُه و مستحقّه و صاحبه.

ربَّ الأمر:

أصلحه.

الربُّ: المالك، المصلح، السيد. «1»

وما يشابه هذه المعاني و يماثلها.

إنّ المفروض على كتب اللغة هو ضبط موارد استعمال الكلمة، سواء أكان المستعمل فيه هو الّذي وضعت له اللفظة أم لا، و لذلك جاءت المعاني المجازيّة في جنب المعاني اللغوية بحجة أنّ الجميع مستعمل فيه، و هذا نقص واضح و مشهود في كتب اللغة و معاجمها.

وهناك نقص آخر و هو، أنّ اللغوي ربما يعدّللكلمة معاني كثيرة على وجه يظنُّ القارئ أنّها مشتركة وضعاً بين هذه المعاني، و لكنّه سرعان ما يرجع بعد التمعّن بأنّها صور مختلفة لمعنى واحد و ليس اللفظ موضوعاً إلّا لمعنى جامع، و

الاسماء الثلاث، ص: 16

من الصدف أنّ لفظة الرب تعاني من واجهت هذا المصير حتى أنّ كاتباً كالمودوديّ تصور أنّ لها خمسة معان في الأصل و ذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم ولكنّه خفي عليه أنّها ليست معاني مختلفة و إنّما هي صور موسعة لمعنى واحد و إليك هذه الموارد والمصاديق:

1- التربية، مثل ربّ الولد، ربّاه.

2- الإصلاح والرعاية مثل ربَّ الضيعة.

3- الحكومة والسياسة مثل فلان قد ربَّ قومَه أي ساسهم وجعلهم ينقادونله.

4- المالك كما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أربُّ غنمٍ أم ربّ إبل.

5- الصاحب مثل قوله: ربّ الدار أو كما يقول القرآن الكريم: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْت» (قريش/ 3).

لاريب أنّ هذه المعاني قد أريدت من اللفظة في هذه الموارد و ما يشابهها و لكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل، وما هذه المعاني إلّامصاديق و صور

مختلفة لذلك المعنى الأصيل وماهي سوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي و هو، من فوض إليه أمر الشي ء المربّى من حيث الاصلاح و التدبير و التربية.

فإذا قيل لصاحب المزرعة أنّه ربّها، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبطة به و في قبضته.

وإذا أطلقنا على سائس القوم، صفة الربّ، فلأنّ أُمور قومه مفوّضة إليه، فهو قائدهم، ومالك تدبيرهم و منظم شؤونهم.

وإذا أطلقنا على صاحبِ الدار و مالِكه اسمَ الربّ، فلأنّه فوض إليه أمر تلك الدار و إدارتها و التصرّف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي و المصلح و الرئيس و المالك و الصاحب و ما

الاسماء الثلاث، ص: 17

يشابهها مصاديق و صور لمعنى واحد أصيل يوجد في كلّ هذه المعاني المذكورة، و ينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة و مختلفة للفظة الربّ بل المعنى الحقيقي و الأصيل للفظ هو: من بيده أمر التدبير و الإدارة و التصرّف، وهو مفهوم كلّي و متحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة (أعني: التربية، و الإصلاح، و الحاكمية و المالكية، و الصاحبية).

فإذا أطلق يوسف الصديق عليه السلام لفظ الربّ على عزيز مصر، و قال:

«إنّه رَبّي أحسنَ مَثْوايَ» (يوسف/ 23).

فلأجل أنّ يوسف تربّى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفلًا لتربيته الظاهرية وقائماً بشؤونه.

و إذا وصف يوسف عزيزَ مصر بكونه ربّاً لصاحبه في السجن، و قال:

«أمّا أحَدُكُما فَيَسقي ربَّهُ خَمراً» (يوسف/ 41).

فلأنّ عزيز مصر كان سيّدَمصر و زعيمها و مدبّر أُمورها و متصرّفاً في شؤونها و مالكاً لزمامها.

وإذا وصف القرآن اليهود و النصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً

إذ يقول:

«اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (التوبة/ 31).

فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة و قدرة فيما يختص باللَّه.

وإذا وصف اللَّه نفسه بأنّه «ربّ البيت» فلأنّ إليه أُمور هذا البيت مادّيها و معنويها، ولا حقّ لأحد في التصرّف فيه سواه.

وإذا وصف القرآن «اللَّه» بأنّه:

«رَبُّ السَّمواتِ وَ الأَرْضِ» (الصافات/ 5).

الاسماء الثلاث، ص: 18

وانّه:

«ربُّ الشِّعْرى» (النجم/ 49).

وما شابه ذلك، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها و المتصرف فيها و مصلح شؤونها والقائم عليها.

وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية

التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية

إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى:

1- التوحيد في الربوبية.

2- التوحيد في الأُلوهية.

قائلين بأنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

وأمّا التوحيد في الأُلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يُعنى منه أن لا يعبد سوى اللَّه، و قد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الأمر. «1»

والحقّ أنّ اتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك، و لكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ و اشتباه.

وذلك لانّ معنى «الربوبية» ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق، بل هو- كما أوضحنا و بينا سلفاً- ما يفيد التدبير و إدارة العالم، و تصريف شؤونه و لميكن هذا- كما نبيّن- موضع اتّفاق بين جميع المشركين و الوثنيين في عهد الرسالة

الاسماء الثلاث، ص: 19

كما ادعى هذا الفريق. «1»

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبّر سوى اللَّه و لكن كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممن يعتقدون بتعدد المدبر والتدبير، و هي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر التاريخيّة.

و هنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية، بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية حتى يتضح لهم أنّ الدعوة إلى التوحيد في الربوبية لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة إلى «التوحيد في المدبّرية» والتصرف، و قد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً من التوحيد الربوبي، و يعتقد بتعدد المدبِّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

و لايمكن- أبداً- أن نفسر الربّ في هذه الآيات بالخالق والموجد. و إليك بعض هذه الآيات.

أ: «بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرض الّذي فَطرهنّ» (الأنبياء/ 56).

فلو كان المقصود من الربّ هنا هو الخالق و الموجد، لكانت جملة «الّذي فطرهن» زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الربّ في الآية للمسنا عدم الاحتياج- حينئذٍ- إلى الجملة المذكورة (أعني: «الذي فطرهن»).

بخلاف ما إذا فسّر الربّ بالمدبّر و المتصرّف، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة، لأنّها تكون- حينئذٍ- علّة للجملة الأُولى، فتعني هكذا: إنّ خالق الكون، هو المتصرف فيه و هو المالك لتدبيره و القائم بإدارته، لاشخص آخر فلماذا فرقتم بين الخالق والربّ و لماذا حصرتم الخالقية في اللَّه سبحانه، و أعطيتم الربوبية لغيره.

ب: «يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذي خَلَقَكُمْ» (البقرة/ 21).

الاسماء الثلاث، ص: 20

فانّ لفظة الربّ في هذه الآية ليست بمعنى «الخالق» و ذلك على غرار ما قلناه في الآية المتقدمة المشابهة لما نحن فيه، إذ لو كان الربّ بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة «الّذي خلقكم» وجه، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الربّ يعني المدبّر فتكون جملة: «الّذي خلقكم» علّة للتوحيد في الربوبية إذ يكون المعنى حينئذٍ هو: انّ الّذي خلقكم، هو مدبّركم.

ج: «قُلْ أَغَيْرَاللَّهِ أَبْغي رَبّاً وَ هُوَ رَبُّ كُلّ شَيْ ءٍ» (الأنعام/ 164).

وهذه الآية حاكية عن أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء وانّ النبي الأعظم كان مكلّفاً بأن يُفنّد رأيهم و يبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير اللَّه ربّاً على خلاف ما كانوا عليه. و من المحتّم أنّ خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة «التوحيد في الخالقية» بدليل أنّ الآيات السابقة تشهد من غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللَّه تعالى، و لذلك فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية، و ليس هو إلّامسألة تدبير الكون، بعضه أو كلّه.

د: «أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلينَ» (الأعراف/ 172).

فقد أخذ اللَّه في هذه الآية- من جميع البشر- الإقرار بالتوحيد الربوبي و كانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول:

«أوْ تَقُولُوا إنَّما أشركَ آباؤنا مِنْ قبلُ وَ كُنّا ذُريّةً من بعدِهمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ» (الأعراف/ 173).

إذا تبيّن هذا فنقول: إنّ نزولَ هذه الآية في بيئة مشركة، دليل- و

لا شكّ- على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق، فإذا كانت

الاسماء الثلاث، ص: 21

الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبيّ في الخالقية، و لكن الفرض هو عدم وجود أيّ اختلاف في مسألة «توحيد الخالقية» في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليُعتبروا مخالفين للميثاق المذكور، فلا محيص- حينئذٍ- من أنّ الخلاف كان- آنذاك- في مسألة تدبير العالم و إدارة الكون.

و بهذا التقرير يكون معنى الربّ في الآية المبحوثة هنا هو المدبّر.

ه: «أتقتلُونَ رجُلًا أنْ يقوَل ربِّي اللَّهُ و قد جاءكُمْ بالبيِّنات منْ ربِّكُمْ» (غافر/ 28).

تتعلق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الّذي كان يدافع عن النبيّ موسى عليه السلام وراء قناع النصيحة و الصداقة لآل فرعون ويسعى تحتَ ستار الموافقة لهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبيّ العظيم. وأمّا دلالتها على كون الربّ بمعنى المدبّر فواضحة، لأنّ فرعون ما كان يدّعي انّه خالق الأرض و السماء ولا الشركة مع اللَّه سبحانه في خلق العالم و إيجاده، و هذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً. و في هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبيّ موسى بقوله: ربّي اللَّه، هو حصر «التدبير» في اللَّه سبحانه لا مسألة الخلق. ولو كانت تتعلق بمسألة الخلق والإيجاد لما كان بينه و بين فرعون أيّ خلاف و نزاع، إذ المفروض أنّ فرعون كان يعترف بخالقية اللَّه- كما أسلفنا- هذا مضافاً إلى أنّ اللَّه تعالى يقول في الآية السابقة لهذه

الآية.

و: «ذَرُوني أقتلْ مُوسى و لْيَدعُ ربَّهُ إنّي أخافُ أنْ يبدِّلَ دينَكُمْ» (غافر/ 26).

فانّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لأيّ تبدّل و تبديل.

الاسماء الثلاث، ص: 22

و من هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون:

«أنَا ربُّكُمُ الأعلى» (النازعات/ 24).

ز: «فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دونهِ إلهاً» (الكهف/ 14).

إنّ الفتية الّذين فرّوا من ذلك الجوّ الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان، كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بأُلوهية غير اللَّه، و لكن أُلوهية غير اللَّه- في ذلك المجتمع- لم تكن بصورة تعدد الخالق، خاصة أنّ واقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية و أفكارها قد تقدمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظت من الرقى بمقدار معتد به، و لم يكن يعقل- في ظلّ هذا الرقي الفكري- وجودُمجتمعٍ منكرٍ لخالقية اللَّه، أو مشرك فيها فلابدّ أن يقال إنّ شركهم يرجع إلى أمر آخر و هو الاعتقاد بتعدد المدبر.

ح: إنّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبرية و ليس الخالقيّة كما يتوهم، هو الآية المتكررة في سورة «الرحمن».

«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان».

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة 31 مرة و جاءت لفظة «ربّ» جنباً إلى جنب مع لفظة «آلاء» التي تعني النعَم و غير خفي أنّ التذكير باسباغ النعم مرّة بعد أُخرى يناسب مقام التربية و التدبير فإرداف ذكرها، بذكر الربشاهد على أنّ اللفظ بمعنى المدبّر والمدير والمربّي والمصلح. لا الخالق والموجد.

و إن شئت قلت:

إنّ ذكر النعم (التي هي من شعب التربية الإلهية التي يُوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم و إدامة الإفاضة.

الاسماء الثلاث، ص: 23

ط: لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الربّ في خمسة موارد في القرآن الكريم، و الشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية و دوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد، و ليست حقيقة تدبير الإنسان إلّاإدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.

و إليك هذه الموارد:

«وَ إِذْتَأَذَّن رَبّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَديد» (إبراهيم/ 7).

«وَ قالَ رَبّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» (النمل/ 19).

«قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَني ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُوَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» (النمل/ 40).

«قالَ رَبّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» (الأحقاف/ 15).

«كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبةٌ وربٌّ غَفور» (سبأ/ 15).

ي: و ممّا يدل على ما قلناه قوله سبحانه:

«فَقُلْتُ استغفِرُوا رَبَّكُمْ إنّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السّماءَعَلَيْكُمْ مِدراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» (نوح/ 10- 12).

و مثله قوله سبحانه في سورة هود الآية 52.

يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون و تدبير شؤونه تفسيراً للرب: فهو الذي يرسل المطر، و هو الذي يُمْدد بالأموال والبنين، و هو الّذي

الاسماء الثلاث،

ص: 24

يجعل الجنات، و هو الّذي يجعل الأنهار، وكلّ هذه الأُمور جوانب و صور من التدبير.

إنّ الحوار الدائر بين النبي إبراهيم و طاغوت عصره نمرود يكشف القناع عن معنى الربّ و الربوبية فالآية التالية تتضمن مضمون الحوار و إليك نصّها قال سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذي حاجَّ إِبْراهيمَ فِي رَبِّهِ أَنْآتاه اللَّهُ الملك إِذْقالَ إِبْراهيم رَبّي الّذي يحي و يُميت قالَ أَنَ أُحْيى و أُميت قالَ إِبْراهيم فانّ اللَّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرق فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذي كَفَرَوَ اللَّهُ لا يَهْدِي القوم الظّالمين» (البقرة/ 258).

فكأنّ نمرود كان يدعى أنّه ربّ من يسوسهم بدليل انّ إبراهيم إبتدأ كلامه بقوله: «ربّي الّذي يحيى و يميت» ومعناه لو كنت صادقاً في ادعاء الربوبية فعليك القيام بشؤون الربوبية كالاحياء و الاماتة و لما فوجئ بهذا البرهان الدامغ المبطل لإدعائه السخيف حاول أن يفسر كلام إبراهيم بشكل خاطئ قال أنا أيضاً أملك الموت والحياة فأقتل من أشاء و أحقن دم من أُريد، فعندئذٍ عدل إبراهيم إلى حجّة أُخرى ليقطع الطريق عليه و لايكون في وسع نمرود أن يعارضها فقال: أنّ ربّي له سلطان على الشّمس في طلوعها و غروبها فلو صحّ انّك ربّ فقم بهذا العمل» فأنّ اللَّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب» فلما سمع نمرود هذا الدليل القاطع و أيقن انّه ليس في وسعه المعارضة سكت و لم ينبس ببنت شفه يقول سبحانه «فَبُهِتَ الّذي كَفَرَ».

لم يكن النزاع بين النبي إبراهيم و نمرود في خالقيته إذ لا يدعيها إلّا المصاب بعقله بل في ربوبيته لمن كان يسوسهم فكان إبراهيم يدعي انّه لا ربّ إلّا ربّ واحد و أنّ الكون بأجمعه مربوب للَّه و لم

يكن هناك أي تقسيم للربوبية و لكن نمرود كان يعتقد بربوبية نفسه و كانت حجّته أنّه ذا سلطة و ملك كمايحكى عنه قوله سبحانه: «إن آتاه اللَّه الملك» فجعل ذلك دليلًا على ربوبيّته لمن كانوا

الاسماء الثلاث، ص: 25

يعيشون في ملكه و زعم انّ أمرهم وحياتهم و مماتهم و كلّ تشريع يرجع إليه وبيده.

فالحوار بمضمونه يفسر لنا معنى الربّ والربوبية و هو المتصرف المالك لشؤون المربوب في آجله فإذا كان الاحياء والاماتة وا لسلطة على طلوع الشمس من آثار الربوبية فهي غير الخالقية. و بالتالي يرجع معناها إلى كون الرب مالكاً لحياته و موته، و لاصلاحه و افساده.

نتيجة هذا البحث:

نتيجة هذا البحث:

من هذا البحث الموسع يمكن أن نستنتج أمرين:

1- إنّ ربوبية اللَّه عبارة عن مدبريته تعالى للعالم و ليس معناها خالقيته.

2- دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة «التوحيد في التدبير» لم تكن موضع اتّفاق بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» و أنّه كان ثمة فريق يعتقد بمدبرية غير اللَّه للكون كلّه أو بعضه، و كانوا يخضعون أمامه باعتقاد أنّهربّ.

و بما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن يكون بعض الفرق موحِّداً في الثاني ومشركاً في القسم الأوّل، فاليهود و النصارى تورطوا في «الشرك الربوبي» التشريعي لأنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار و الرهبان و جعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فكأنّه فُوِّض أمر التشريع إليهم!!!، و من المعلوم أنّ التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه خاصة.

فها هو القرآن يقول عنهم:

«اتَّخَذوا أحبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (التوبة/

31).

«وَ لا يَتَّخِذْبَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (آل عمران/ 64).

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة

الاسماء الثلاث، ص: 26

بل يتمثل في إسناد تدبير بعض جوانب الكون، و شؤون العالم إلى الملائكة و الجنّ والأرواح المقدسة، أو الأجرام السماوية، وإن لم نعثر- إلى الآن- على من يعزي تدبير «كل» جوانب الكون إلى غير اللَّه، و لكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في الأغلبشبه تدبير «بعض» الأُمور الكونية إلى بعض خيار العباد وبعض المخلوقات.

خاتمة المطاف

اشارة

خاتمة المطاف

إذا تعرّفت على مفهوم «الإله» و «الرب» فاعلم إنّ للتوحيد مراتب قد بيّنها علماء الإسلام في كتبهم العقائدية و برهنوا عليها من الكتاب والسنة والعقل الصريح، و بما أنّ بحثنا في الأمر الثالث مركّز على التوحيد في العبادة والشرك فيها، نذكر مراتب التوحيد بايجاز، ثمّ نتكلم عن القسم الأخير بالتفصيل، و في فصل خاص. فنقول: للتوحيد مراتبَ عديدة وهي:

الأُولى: التوحيد في الذات

الأُولى: التوحيد في الذات

والمراد منه أنّه سبحانه واحد لا نظير له، فرد لا مثيل له، و يدلّ عليه مضافاً إلى البراهين العقلية قوله سبحانه: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصير» (الشورى/ 11).

وقوله سبحانه: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ* وَلَمْ يُولَد* وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد» (الاخلاص/ 1- 4).

وقوله سبحانه: «هُوَ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ» (الزمر/ 4).

وقوله سبحانه: «وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ» (الرعد/ 16).

إلى غيرها من الآيات الدالة على أنّه واحد لا نظير له، و لا مثيل ولا ثانٍ له و لا عديل.

الاسماء الثلاث، ص: 27

وأمّا البراهين العقلية في هذا المجال و إبطال (الثنوية) و (التثليث) فموكول إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.

إنّ هناك معنى آخر للتوحيد في الذات وهو انّه سبحانه بسيط لا جزء له، فرد ليس بمركب من أجزاء، و لعلّ قوله سبحانه: «في سورة الإخلاص» «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد» يعني هذا القسم من التوحيد كما أنّ الآية الأخيرة أعني قوله: «وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد» تهدف إلى معنى التوحيد في الذات بالمعنى الأوّل، وبهذا يندفع إشكال التكرار فيها.

الثانية: التوحيد في الخالقية

الثانية: التوحيد في الخالقية

والمراد منه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق غير اللَّه، ولا فاعل سواه، و أنّ كلّ ما يوجد في صفحة الوجود من فواعل و أسباب فإنّما هي غير مستقلات في التأثيرات و إنّما تؤثر بإذنه سبحانه وأمره، فجميع الأسباب والمسببات مخلوقة للَّه بمعنى أنّها تنتهي إليه.

و يدل على التوحيد بهذا المعنى «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ القَهّار» (الرعد/ 16).

و قوله سبحانه:

«اللَّهُ خالِقُ كُلّ شَيٍ ءٍ وَهُوَ عَلى كلّ شيّ ءٍ وَكيل» (الزمر/ 62).

وقوله سبحانه: «ذلِكُمُ اللَّهُ ربّكُمْ خالِقُ كُلّ شَيْ ءٍ لا إلهَ إِلّا هُوَ» (المؤمن/ 62). «1»

الاسماء الثلاث، ص: 28

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير

والمراد منه أنّ للكون مدبّراً و متصرفاً واحداً لا يشاركه في التدبير شي ء فهو سبحانه المدبّر للعالم، و أنّ تدبير الملائكة وسائر الأسباب إنّما هو بأمره سبحانه، و هذا على خلاف ما ذهب إليه أكثر المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ ما يرتبط باللَّه سبحانه و تعالى هو الخلق والإيجاد و الإبداع و أمّا تدبير الأنواع و الكائنات الأرضية فقد فوّض إلى الأجرام السماوية والملائكة والجنّ و سائر الموجودات الروحية وغير ذلك ممّا تحكي عنه الأصنام المعبودة، و ليس للَّه سبحانه أيّ مدخلية في أمر تدبير الكون و إرادته و تصريف شؤونه.

إنّ القرآن الكريم ينص- بمنتهى الصراحة- على أنّ اللَّه هو المدبر للعالم و ينفي أيّ تدبير لغيره و إذا كان هناك مدبر سواه فإنّما هو جندي من جنوده، مأمور بالعمل بأمر منه سبحانه:

«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الّذي خَلَق السَّمواتِ وَالأَرض في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى علَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُالأَمْر ما مِنْ شَفِيعٍ إِلّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرون» (يونس/ 3).

وقال سبحانه: «اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِعَمَدٍ تَرَونَها ثُمَّ استوى علَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَكُلٌّ يَجْري لأجلٍ مُسمًّى يُدبّرُ الأمرَ يُفَصّلُ الآياتِ لَعلّكُمْ بِلِقاءِ ربّكُمْ تُوقِنونَ» (الرعد/ 2).

فإذا كان هو المدبّر وحده فيكون معنى قوله سبحانه: «فالمدبّرات أمْراً» (النازعات/ 5) و قوله سبحانه: «وَ هُوَ القاهِرُفَوقَ

عِبادِهِ وَ يُرسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظةً» (الأنعام/ 61)، إنّ هؤلاء مدبرات بأمره، و حفظة للإنسان و إرادته فلا ينافي ذلك انحصار التدبير باللَّه.

الاسماء الثلاث، ص: 29

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين

لا شكّ أنّ حياة الإنسان الإجتماعية رهن قانون ينظم أحوال المجتمع البشري و يقوده إلى الكمال و هو لا يتحقّق إلّافي ظلّ قانون يحقّق السعادة الإنسانية، فبما أنّ خالق الإنسان أعرف بخصوصيات المخلوق و ما يصلحه و يفسده فهو أولى بالتشريع و التقنين بل هو المتعين له، قال سبحانه: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطيفُ الْخَبير» (الملك/ 14).

إنّ القرآن الكريم لم يعترف بتشريع سوى تشريعه سبحانه، ولا بقانون سوى قانونه فهو، يرى اللَّه سبحانه هو المشرع المحيط الذي يحقّ له التقنين خاصة، وأمّا وظيفة غيره فهو تنفيذ القانون الإلهي.

قال سبحانه: «إنِ الْحُكْمُ إِلّاللَّهِ أَمَرَ أَلّا تَعْبُدُوا إلّاإيّاه» (يوسف/ 40)

والمراد من الحكم في قوله: «إنِ الْحُكْم» هو الحكم التشريعي بقرينة قوله «أمَرَ ألّا تَعْبُدُوا إلّاإيّاه ذلك الدِّينُ القيّمُ».

وقال سبحانه: «أَفَحُكْم الْجاهِلِيةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنونَ» (المائدة/ 50).

إنّ هذه الآية تقسم القوانين الحاكمة على البشر إلى قسمين: إلهي، وجاهليّ، وبما أنّ ما كان من صقع الفكر البشرى ليس إلهياً فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقال سبحانه: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (المائدة/ 44).

وقال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» (المائدة/ 45).

و قال: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللَّهُ فَأُولئكَ هُمُ الْفاسِقُونَ»

الاسماء الثلاث، ص: 30

(المائدة/ 47)

فهذه المقاطع الثلاثة توضح أنّ التقنين أوّلًا و الحكم ثانياً حقّ مخصوص للَّه لم يفوضه إلى أحد من خلقه و لأجل ذلك يصف من يعدل عنه بالكفر تارة و الظلم أُخرى و بالفسق ثالثة.

فهم كافرون لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالردّ و الإنكار والجحود.

وهم ظالمون لأنّهم يسلِّمون حقّ التقنين الّذي هو خاصّ باللَّه إلى غيره.

وهم فاسقون لأنّهم خرجوا بهذا العمل عن طاعة اللَّه.

وأمّا عمل الفقهاء و المجتهدين فهو إمّا استخراج الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة و الاستخراج غير التشريع، وإمّا تخطيط لكلّ مايحتاج إليه المجتمع في إطار القوانين الإلهية، و التخطيط غير التشريع.

الخامسة: التوحيد في الطاعة

الخامسة: التوحيد في الطاعة

والمراد أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلّااللَّه تعالى فهو وحده الّذي يجب أن يطاع و أمّا طاعة غيره فإنّما تجب بإذنه و أمره.

قال سبحانه: «وما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ» (البيّنة/ 5) و الدين في الآية بمعنى الطاعة أي مخلصين الطاعة له لا لسواه.

وعلى ذلك فكلّ من افترض اللَّه طاعته و الانقياد لأوامره و الانتهاء عن مناهيه فبإذنه سبحانه و أمره، قال سبحانه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّالِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (النساء/ 64).

وبالجملة فهنا مطاع بالذات وهو اللَّهسبحانه وغيره مطاع بالعرض و بأمره.

السادسة: التوحيد في الحاكمية

السادسة: التوحيد في الحاكمية

إنّ الحكومة حاجة طبيعية يتوقف عليها حفظ النظام بعد التشريع و

الاسماء الثلاث، ص: 31

التقنين. و وظيفة الحكومة تعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ووظائفهم و مالهم و ما عليهم من حقوق، ثمّ تحقيقها و تجسيدها.

إنّ أعمال الحكومة والحاكمية في المجتمع لاتنفك عن التصرف في النفوس و الأموال و تنظيم الحريّات و تحديدها أحياناً والتسلّط عليها ولا يقوم بذلك إلّا من كانت له الولاية على الناس و لولا ذلك لعُدّ التصرف عدواناً، وبما أنّ جميع الناس سواسيه أمام اللَّه و الكلّ مخلوق له بلا تمييز فلا ولاية لأحد على أحد بالذات بل الولاية للَّه المالك الحقيقي للإنسان والكون، والواهب له الوجود والحياة، فلا يصحّ لأحد الإمرة على العبادة إلّابإذنه.

فالأنبياء والعلماء والمؤمنون مأذونون من قبله سبحانه في أن يتولوا الأمر من قبله و يمارسوا الحكومة على الناس من ناحيته، فالحكومة حقّ مختصّ باللَّه سبحانه و الأمارة ممنوحة من قبله.

قال سبحانه: «إِنِ الْحُكْمُ

إِلّا للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَخَيْرُ الْفاصِلينَ» (الأنعام/ 57).

وقال سبحانه: «أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَأَسْرَعُ الْحاسِبينَ» (الأنعام/ 62).

نعم إنّ اختصاص حقّ الحاكمية باللَّه سبحانه ليس بمعنى قيامه شخصياً بممارسة الإمرة، بل المراد أنّ من قام بالإمرة في المجتمع البشري، يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأُمور، والتصرّف في النفوس و الأموال.

ولذلك نرى أنّه سبحانه: يمنح لبعض حقّ الحكومة بين الناس، إذ يقول:

«يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (ص/ 26) و على ضوء ذلك فلا محيص عن كون الحكومة في المجتمع الإسلامي مأذوناً بها من قبل اللَّه سبحانه: ممضاة من جانبه، و إلّا كانت حكم الطاغوت، الذي شجبه القرآن في أكثر من آية.

الاسماء الثلاث، ص: 32

السابعة: التوحيد في العبادة

السابعة: التوحيد في العبادة

والمراد منه حصر العبادة في اللَّه سبحانه، و هذا هو الأصل المتّفق عليه بين جميع المسلمين بلا أيّ اختلاف فيهم قديماً أو حديثاً فلا يكون الرجل مسلماً ولا داخلًا في زمرة المسلمين إلّا إذا اعترف بحصر العبادة في اللَّه، أخذاً بقوله سبحانه: «إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعين» (الفاتحة/ 5) و ليس أصل بين المسلمين أبين و أظهر من هذا الأصل، فقد اتّفقوا على العنوان العام جميعهم و من تفوّه بجواز عبادة غيره فقد خرج عن حظيرة الإسلام.

نعم وقع الاختلاف في المصاديق والجزئيات لهذا العنوان، فهل هي عبادة غير اللَّه أو أنّها تكريم و احترام و إكبار وتبجيل.

والهدف في الفصل الآتي هو تمييز الجزئيات بعضها عن بعض، بوضع تعريف

منطقي للعبادة حتى يقف القارئ على مصاديق العبادة ومصاديق التكريم عن كثب و لا يختلط بعضها بالبعض الآخر.

إنّ الوهابيين جعلوا الشرك في العبادة ذريعة لتكفير المسلمين و جعلهم في عداد المشركين في العبادة و هم ربما يتلون قوله سبحانه: «وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثرُهُمْ باللَّهِ إلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» (يوسف/ 106) و يفسرونه بإيمان المسلمين، و لكن ما هو الدليل على هذا التطبيق. و لماذا لا ينطبق هذا عليهم.

إنّ المسلم الواعي لا ينسب شيئاً إلى إنسان إلّاإذا كان مقروناً بالبرهان والدليل، معتمداً على قوله سبحانه: «قُلْ هاتُوا بُرهانكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ» (البقرة/ 111)، فلا يتهم المسلم بالشرك إلّابالدليل، ولا يضفي عليه عنوان التوحيد إلّاكذلك.

الاسماء الثلاث، ص: 33

الفصل الثالث في تحديد مفهوم العبادة

اشارة

الفصل الثالث في تحديد مفهوم العبادة

العبادة من الموضوعات التي تطرّق إليها الذكر الحكيم كثيراً. وقد حثَّ عليها في أكثر من سورةٍ وآية وخصَّها باللَّه سبحانه و قال: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلّاتَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (الإسراء/ 23) و نهى عن عبادة غيره من الأنداد المزعومة و الطواغيت والشياطين، وجعل اختصاص العبادة به الأصلَ الأصيل بين الشرائع السماوية و قال: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلّااللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (آل عمران/ 64) كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» (النحل/ 36).

فإذا كانت لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة

فجدير بالباحث المسلم أن يتناوله بالبحث و التحقيق العلمي، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميزاً منطقياً.

والذي يُضفي على الدراسة، أهمية أكثر، هو أنّ التوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه، ثمّ عقد القلب عليه، و التحرر من أيّ لون من ألوان الشرك. فلا تُنال تلك الأُمنيةُ في مجالي العقيدة و العمل إلّا

الاسماء الثلاث، ص: 34

بمعرفة الموضوع معرفة صحيحة، مدعمة بالدليل حتى لا يقع المسلم في مغبَّة الشرك، و عبادة غيره سبحانه.

و رغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها، وحدّها الذي يُفصلها عن التكريم و التعظيم أو الخضوع والتذلل، و كأنّ السلف- رضوان اللَّه عليهم- تلقّوها مفهوماً واضحاً، و اكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم.

ولو صحّ ذلك فإنّما يصحّ في الأزمنة السالفة، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناس أمر إدّعاء الشرك في العبادة، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين والصحابة فأصبح- بادعائهم- كلّ تعظيم و تكريم للنبيّ، عبادة له، وكلّ خضوع أمام الرسول شرك، فلا يلتفت الزائر يميناً و شمالًا في المسجد الحرام و المسجد النبوي إلّاو توقر سمعه كلمةُ «هذا شرك يا حاج»، وكأنّه ليس لديهم إلّا تلك اللفظة، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلّابذلك.

فاللازم على هؤلاء- الذي يعدون مظاهر الحبّ والودّ، و التكريم و التعظيم شركاً و عبادة- وضعُ حدٍّ منطقيّ للعبادة، تُميَّز به، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاصي العالم وأدانيه، ضابطة كلّية في المشاهد

و المواقف،، و لكن- و للأسف- لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة و تبيينها في كتبهم و نشرياتهم و دورياتهم.

فلأجل ذلك قمنا في هذا الفصل، بمعالجة هذا الموضوع، بشرح مفهوم العبادة لغة و قرآناً، حيث بيّنا أنّ حقيقة العبادة في تعاليم الأنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم و كتب اللّغة.

الاسماء الثلاث، ص: 35

العبادة في المعاجم و التفاسير

العبادة في المعاجم و التفاسير

بالرغم من عناية اللغويين و المفسّرين بتفسير لفظ العبادة و تبيينها، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل، و ذلك لأنّهم فسّروه بأعمّ المعاني وأوسعها و ليس مرادفاً للعبادة طرداً و عكساً.

1- قال الراغب في المفردات: «العبودية: إظهار التذلّل، و العبادة أبلغ منها، لأنّها غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلّامن له غاية الإفضال و هو اللَّه تعالى و لهذا قال: «وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ ...» (الإسراء/ 23)».

2- قال ابن منظور في لسان العرب: «أصل العبودية: الخضوع والتذلل».

3- قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: «العبادة: الطاعة».

4- قال ابن فارس في المقاييس: «العبد، الذي هو أصل العبادة، له أصلان متضادّان، والأوّل من ذينك الأصلين، يدلّ على لين و ذُلّ، و الآخر على شدّة وغلظه».

هذه أقوال أصحاب المعاجم و لا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّره به أهل اللغة، غير مكترثين بأنّ تفسيرهم، تفسير لها بالمعنى الأعم.

1- قال الطبري في تفسير قوله: «إِيّاكَ نَعْبُدُ»: اللّهمّ لك نخشع و نذلّ و نستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّ العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة و أنّها تسمّى الطريق المذلّل الذي

قد وطئته الأقدام و ذلّلته السابلة معبَّداً، و من ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج: معبَّد، و منه سمّي العبد عبداً، لذلّته لمولاه. «1»

الاسماء الثلاث، ص: 36

2- قال الزجاج: معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع، يقال: هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلًا لكثرة الوطء، و بعير معبّد إذا كان مطلياً بالقطران، فمعنى «إِيّاكَ نَعْبُدُ»: إيّاك نطيع، الطاعة التي نخضع منها. «1»

3- و قال الزمخشري: العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلّل، و منه ثوب ذو عبدة أي في غاية الصفافة، وقوة النسج، و لذلك لم تستعمل إلّا في الخضوع للَّه تعالى لأنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع. «2»

4- قال البغوي: العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع و سمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال: طريق معبّد، أي مذلّل. «3»

5- قال ابن الجوزي: المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال:

أ: بمعنى التوحيد «إِيّاكَ نَعْبُدُ» عن علي و ابن عباس.

ب: بمعنى الطاعة كقوله تعالى: «لا تَعْبُدِالشَّيْطانَ» (مريم/ 44).

ج: بمعنى الدعاء. «4»

6- قال البيضاوي: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، و منه الطريق المعبّد أي المذلّل، و ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفافة، و لذلك لاتستعمل إلّا في الخضوع للَّه تعالى. «5»

و سيأتي أنّ تفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالأخص، إذ لاتشترط في صدقها غاية الخضوع، و لذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به

الاسماء الثلاث، ص: 37

أبناء الدنيا أمام اللَّه

سبحانه عبادة، و إن لم يكن بصورة غاية التعظيم، و ربّما يكون تفسيراً بالأعمّ، فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته و لا يكون عبادة.

7- و قال القرطبي: نعبُد، معناه نطيع، و العبادة: الطاعة والتذلّل، وطريق معبّد إذا كان مذلّلًا للسالكين. «1»

8- و قال الرازي: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم: طريق مُعبَّد. «2»

و إذا قصرنا النظر في تفسير العبادة، على هذه التعاريف و قلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للأفراد و مانعة للأغيار، لزم رَمي الأنبياء و المرسلين، و الشهداء والصديقين بالشرك وأنّهم- نستعيذ باللَّه- لم يتخلّصوا من مصائد الشرك، و لزم ألّايصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. و ذلك لأنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها:

1- إظهار التذلّل.

2- إظهار الخضوع.

3- الطاعة و الخشوع و الخضوع.

4- أقصى غاية الخضوع.

و ليس على أديم الأرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير اللَّه سبحانه و إليك بيان ذلك:

الاسماء الثلاث، ص: 38

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

إنّ الخضوع و التذلّل حتى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حدّاًمنطقياً لها، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده، و التلميذ أمام أُستاذه، و الجنديُّ أمام قائده، ليس عبادة لهم و إن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتى و لو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين، لايعد عمله عبادة، لأنّ اللَّه سبحانه يقول: «وَاخْفِضْ لَهُما جناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» (الإسراء/ 24).

و أوضح دليل على أنّ الخضوع المطلق و إن بلغ النهاية لا يعدّعبادة هو أنّه سبحانه أمر

الملائكة بالسجود لآدم وقال: «وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ» (البقرة/ 34) و آدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له، مع أنّ الأوّل لميكن عبادة و إلّا لم يأمر به سبحانه، إذ كيف يأمر بعبادة غيره و في الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدم عليه السلام إلى الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم و لكن الثاني أي الخضوع للَّه، عبادة.

و اللَّه سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّ الدعوة إلى عبادة اللَّه سبحانه و النهي عن عبادة غيره، كانت أصلًامشتركاً بين جميع الأنبياء، قال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ» (النحل/ 36) و قال سبحانه: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلّانُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّاأَنَا فَاعْبُدُون» (الأنبياء/ 25) و في موضع آخر من الكتاب يعد سبحانه التوحيد في العبادة: الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية، إذ يقول: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» (آل عمران/ 64)، و معه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ وهذا الإشكال لايندفع إلّا بنفي كون مطلق الخضوع عبادة، ببيان أنّللعبادة مقوّماً آخر- كما سيوافيك- لميكن موجوداً في سجودالملائكة لآدم.

الاسماء الثلاث، ص: 39

و لم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه، بل يوسف الصديق كان نظيره، فقد سجد له أبواه و إخوته، وتحقّق تأويل رؤياه بنفس ذلك العمل، قال سبحانه حاكياً

عن لسان يوسف: «إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَكَوكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدينَ» (يوسف/ 4).

كما يحكي تحقّقه بقوله سبحانه: «وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقّاً» (يوسف/ 100) و معه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته.

إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت، الذي ليس هو إلّاحجراً و طيناً، كما أمر بالسعي بين الصفا والمروة، قال سبحانه: «وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (الحج/ 29) و قال سبحانه: «إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَفَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» (البقرة/ 158).

فهل ترى أنّ الطواف حول التراب والجبال والحجر عبادة لهذه الأشياء بحجّة أنّه خضوع لها؟!

إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن و التعزّز على الكافر، قال سبحانه: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرينَ» (المائدة/ 54).

فمجموع هذه الآيات و جميع مناسك الحجّ، يدلّان بوضوح على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل ليس عبادة. و إذا فسّرها أئمة اللغة بالخضوع و التذلّل، فقد فسّروها بالمعنى الأوسع، فلا محيص حينئذٍ عن القول بأنّ العبادة ليست إلّانوعاً خاصاً من الخضوع. و إن سُميت في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة، فإنّما سُميت من باب المبالغة و المجاز، يقول سبحانه: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكيلًا» (الفرقان/ 43) فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة له، ضرب من المجاز.

الاسماء الثلاث، ص: 40

و من ذلك

يعلم مفاد قوله سبحانه: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَنْ لاتَعْبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ* وَأَنِ اعْبُدُوني هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ» (يس/ 60- 61).

فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة والصيام، و يترك الفرائض أو يشرب الخمر و يرتكب الزنا، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي لا أنّه يعبده كعبادة اللَّه، أو كعبادة المشركين للأصنام و لأجل ذلك، لايكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك، و خارجاً عن عداد المسلمين، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع للعبادة الأعمّ من الحقيقي و المجازيّ.

و ربما يتوسع في إطلاق العبادة فتستعمل في مطلق الإصغاء لكلام الغير، وفي الحديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن اللَّه عزّوجلّ فقدعبد اللَّه، و إن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان». «1»

توجيه غير سديد

اشارة

توجيه غير سديد

إنّ بعض من يفسّر العبادة بالخضوع و التذلّل عند مايقف أمام هذه الدلائل الوافرة، يحاول أن يجيب و يقول:

إنّ سجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب و أبنائه ليوسف، لم يكن عبادة له و لا ليوسف، لأنّ ذلك كان بأمر اللَّه سبحانه و لولا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما.

و هذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق، لأنّ معنى ذلك أنّ أمر اللَّه يُغيّر الموضوع، و يبدل واقعه إلى غير ما كان عليه، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.

فإذا افترضنا أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك و المنافق، فأمره سبحانه لا يخرج السبَّ عن كونه سباً، إذن لو كان مطلقُ الخضوع المتجلّي في صورة السجود لآدم، أو ليوسف، عبادة لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره، مع أنّها فحشاء

الاسماء الثلاث، ص: 41

بتصريح الذكر الحكيم ولا يأمر بها سبحانه، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (الأعراف/ 28).

وهناك تعاريف للعبادة لجملة من المحقّقين نأتي بها واحداً بعد الآخر:

1- نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة

اشارة

1- نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة

إنّ صاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل لايرد عليه الإشكال، ولذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة:

أ: العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدّ النهاية.

ب: ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأها.

ج: واعتقادٍ بسلطة لا يُدرَك كنهُها و ماهيتها.

ويلاحظ على هذا التعريف:

ويلاحظ على هذا التعريف:

أوّلًا: أنّ التعريف غير جامع، و ذلك لأنّه إذا كان مقوُّم العبادة، الخضوعَ البالغَ حدّالنهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يؤديها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة، و ربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من خضوع هؤلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبأً و جهداً.

و ثانياً: ماذا يريد بقوله «عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها»؟ فهل يعتقد أنّ الأنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها. مع أنّ غيرهم يستشعر عظمة المعبود و يعرف منشأها، وهو أنّه سبحانه: الخالق البارئ، المصوّر، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس، السّلام، المؤمن، المهيمن العزيز الجبّار المتكبر.

و ثالثاً: ماذا يريد بقوله: «و اعتقادٍ بسلطة لا يدرك كنهها و ماهيتها»؟.

فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقّق العبادة، فلازم ذلك عدم صدقها على

الاسماء الثلاث، ص: 42

عبادة الأصنام والأوثان، فإنّ عُبّاد الأوثان يعبدونها و كانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند اللَّه سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيتُها.

2- نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الأزهر

2- نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الأزهر

وقد عرّف شيخ الأزهر الأسبق العبادة بنفس ما عرّفها به صاحب المنار، و لكنّه يختلف عنه لفظاًو يتّحد معه معنًى، فقال: العبادة خضوع لا يحدُّ، لعظمة لا تحد. «1»

وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً و إشكالًا، و ذلك أنّ العبادة ليست منحصرة في «خضوع لا يحدّ» بل الخضوع المحدود أيضاً ربّما يعد عبادة، كما إذا كان الخضوع بأقلّ مراتبه. و كذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ، إذ ربما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد

كما هو الحال في عبادة الأصنام، و مع ذلك يعبدها و كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند اللَّه.

3- تعريف ابن تيمية

3- تعريف ابن تيمية

و أكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:

«العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه اللَّه و يرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام، والحجّ، و صدق الحديث و أداء الأمانة، و برّالوالدين و صلة الأرحام». «2»

وهذا الكاتب لم يفرّق- في الحقيقة- بين العبادة و التقرّب، و تصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى اللَّه، فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا اللَّه، و تستوجب ثوابَه لكنّها قد تكون عبادة

الاسماء الثلاث، ص: 43

كالصوم و الصلاة والحجّ، و قد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة، كالإحسان إلى الوالدين، و إعطاء الزكاة، و الخمس، فكلّ هذه الأُمور (الأخيرة) توجب القربى إلى اللَّه في حين لا تكون عبادة. و إن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها او شرطيّة قصد القربة في صحّتها.

و بعبارة أُخرى: إنّ الإتيان بهذه الأعمال يعدّطاعة للَّه و لكن ليس كلُّ طاعة عبادة.

وإن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً عباديّة و أُموراً قربية، و كلّ عبادة مقرِّبة، و ليس كلّ مقرِّب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام، و العطف على اليتيم- مثلًا- توجب القرب و لكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداًبعمله للَّهتعالى.

و إذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين، كلّ يلازم

الآخر.

التعريف الصحيح:

التعريف الصحيح:

العبادة هي الخضوع للشي بما هو إله

أو: العبادة هي الخضوع للشي ء بما هو ربّ

إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة، و ربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الإمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين و المشركين، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه: «وَلكِنْ أَعبدُ اللَّهَ الّذي يَتَوفّاكُمْ» (يونس/ 104) وقال سبحانه: «قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ

الاسماء الثلاث، ص: 44

الدِّينَ» (الزمر/ 11).

وقال في النهي عن عبادة غيره: «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً» (العنكبوت/ 17) وقال:

«أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ» (الصافّات/ 95): فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقة من أفعال العباد، و عقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين و عبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.

إنّ الإمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّ العبادة عندهم عبارة عن الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران:

1- الفعل او القول المنبئ عن الخضوع و التذلّل.

1- الفعل او القول المنبئ عن الخضوع و التذلّل.

2- العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الفعل، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبه، كالتكلّم بكلام يؤدي إلى الخضوع له أوبعمل خارجي كالركوع و السجود بل الانحناء بالرأس، أو غير ذلك ممّا يدلّ على ذلّته و خضوعه أمام موجود.

وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع و التذلّل فهي عبارة عن:

1- الاعتقاد بأُلوهيته.

2- الاعتقاد بربوبيته. «1»

او مايعادلهما

و تعلّم صحة التعريفين من دراسة عقيدة المشركين في أصنامهم و أوثانهم.

الاسماء الثلاث، ص: 45

عقيدة المشركين في آلهتهم

عقيدة المشركين في آلهتهم

إنّ الذي يسبر حياةَ المشركين يقف بوضوح على انّهم معتقدين بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها بشكل واضح و على القارئ الكريم أن يستشفه عن كثب وما هو إلّا حكم التاريخ أوّلًا، و حكم القرآن ثانياً، و نحن نذكر شيئاًيسيراً منهما:

حكم التاريخ في عقيدة المشركين

حكم التاريخ في عقيدة المشركين

إنّ المشركين العرب و إن كانوا لا يعاونون من أيّ انحراف و إشكال في مسألة التوحيد في الخالقية و كانوا يعتقدون أنّه سبحانه هو الخالق وحده و أنّه لاخالق سواه و قد نقله سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات:

قال تعالى : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزيز الْحَليمُ» (الزخرف/ 9) إلّا أنّهم كانوا في مسألة التدبير الّتي نعبر عنها بالربوبيّة على طرف النقيض من الحق و على خلاف الصواب، فكانوا يعتقدون بأرباب مكان الربّ الواحد، و لكلّ ربٍّ شأن في عالم الكون. و ما اشتهر بين الناس من أنّ المشركين يعتبرون الأصنام مجرّد شفعاء عند اللَّه لا أكثر تصوّر خاطئ، بل كانوا يعتقدون أنّ لها وراء هذا، شأناً أوشؤونا. ولأجل هذه المكانة لها كانوا يعبدونها و يستشفعون بها، وإليك شواهد على ذلك:

لقد دخلت الوثنية في مكة و ضواحيها أوّل ما دخلت في صورة «الشرك في الربوبية» فقصة «عمرو بن لُحيّ» الخُزاعي دليل على أنّ أهل الشام كانوا يعتبرون الأوثان و الأصنام مدبرة لجوانب من الكون.

يكتب ابن هشام في هذا الصدد فيقول:

كان «عمرو بن لُحيّ» أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة و ضواحيها فقد رأى في

الاسماء الثلاث، ص: 46

سفره إلى البلقاء من بقاع

الشام أُناساً يعبدون الأوثانَ و عند ما سألهم عمّا يفعلون قائلًا: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا، و نستنصرها فَتَنصُرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.

وهكذا استحسن طريقتَهم و استصحب معه إلى مكّة صنماً كبيراًاسمه هُبل و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته. «1»

فاستمطار المطر من هذه الأصنام و الاستنصار بها يكشف عن عقيدتهم فيها و أنّ لها مدخلية في تدبير شؤون الكون و حياة الإنسان.

يقول هشام بن محمد بن السائب الكلبي: مرض لُحيّ بن حارث بن عامر الأزدي و هو أبو خزاعة فقيل له:

إنّ بالبلقاء من الشام حَمَّة «2» إن أتيتَها بُرِئتَ فأتاها فاستحمّ بها فبَرئ بها فوجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟

فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا فقدم بها إلى مكة و نصبها حول الكعبة. «3»

وقال السيّد الآلوسي: وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة و كانت أعظمها هبل عندهم و كان- فيما بلغني- من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداًمن الذهب وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة و كان يقال له هبل خزيمة ... إلى أن قال: فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية ... الخ.

و يقول أيضاً: وكان لمالك و مِلْكان ابني كنانة، بساحل جدّة صنم يقال له

الاسماء الثلاث، ص: 47

سعد، وكان صخرة طويلة فأقبل رجل من بني مِلْكان بإبلٍ له مؤبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته، فلما أدناها

منه و رأته و كان يُهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كلّ وجه فغضب ربّها فتناول حجراً فرماه به فقال: لا بارك اللَّه فيك إلهاً أنفرْتَ إبلي ثمّ خرج في طلب الإبل حتى جمعها ثمّ انصرف يقول:

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فما نحن من سعد

و هل سعدُ إلّاصخرة بتنوفة «1» من الأرض لايدعى لغيّ ولا رشد «2»

هذا شأن عبدة الأصنام وأمّا شأن عبّاد الأجرام العلوية فحدّث عنهم ولا حرج، فقد كانوا يعتقدون فيها ربوبية وتدبيراً للعوالم السفلية، و لم تكن مناظرة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء إلّا لأنّهم كانوا يعتقدون بربوبية الكواكب والقمر والشمس، و لأجل ذلك يصف إبراهيم آلهتهم بالربوبية مجاراة لهم حتى يقضي على تلك الفكرة ببرهان قاطع، يقول:

«فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللّيلُ رَأى كَوكباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَ» (الأنعام/ 76) وقد كرر لفظ الربّ أيضاً عند مواجهته للقمر والشمس.

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس:

زعموا أنّها ملك من الملائكة لها نفس وعقل و هي أصل نور القمر و الكواكب وتكوّن الموجودات السفلية كلّها عندهم منها و هي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عبادتها انّهم اتّخذوا لها، صنماً بيده جوهر على لون النار، و له بيت خاص قد بنوه باسمه و جعلوا له الوقوف الكثيرة في القرى والضياع، وله سدنة و قوّام و حَجبة

يأتون البيت و

الاسماء الثلاث، ص: 48

يصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم، و يأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم و يصلون و يدعونه و يستشفعون به. «1»

نعم إنّ الشؤون التي كانوا يعتقدونها لآلهتهم كانت متنوعة و أقلّها شأناً انّها تملك الشفاعة، و قد فوض إليها أمرها لتشفع لمن شاءت و تقبل شفاعتها عند اللَّه بلا قيد و لا شرط.

قد وقفت على قضاء التاريخ في عقيدة المشركين و أنّهم ما انفكّوا في حياتهم عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها، و إليك دراسة حكم القرآن في عقيدة المشركين من غير فرق بين عبّاد الأجرام السماوية أو الأرضية وحتى المشركين من أهل الكتاب الذين يعدّهم القرآن مشركين أيضاً.

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين

1- إنّ الذكر الحكيم يصف المشركين بأنّهم قاطبة جعلوا للَّه أنداداً فلذلك عبدوا غير اللَّه، والمراد من جعلهم أنداداً للَّه هو إشراكهم مع اللَّه في شأن ممّا يرجع إلى اللَّه سبحانه: و يختص به سواء أكان تدبيراًللكون و الحياة أم مغفرة للذنوب، أو مالكيتهم للشفاعة.

يقول سبحانه: «فَلا تَجْعَلُوا للَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (البقرة/ 22).

وقال سبحانه: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُ كَحُبِّ اللَّهِ» (البقرة/ 165).

وقال سبحانه: «وَجَعَلُوا للَّه أنداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصيرَكُمْ إِلَى النّارِ» (إبراهيم/ 30).

وقال سبحانه: «إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنداداً» (سبأ/ 33).

الاسماء الثلاث، ص: 49

وقال

سبحانه: «وَ إِذا مَسَّ الإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبّهُ مُنيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ للَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْهُ سَبيلِهِ» (الزمر/ 8).

وقال سبحانه: «قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرونَ بِالّذي خَلَقَ الأَرْضَ في يَومَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمينَ». (فصلت/ 9).

*** 2- يحكي سبحانه عن المشركين انّهم يعترفون في يوم القيامة بانّهم كانوا يسوُّون بين اللَّه وآلهتهم.

قال سبحانه: حاكياً عن لسان المشركين يوم القيامة: «تَاللَّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِذْنُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ» (الشعراء/ 97- 98).

فهذه الآيات- التي تحكي عقيدة المشركين و هي أنّهم جعلوا للَّه سبحانه تعالى ندّاً بل أنداداً و أنّهم كانون يسوّون آلهتهم بربّ العالمين- تكشف الغطاء عن وجه الحقيقة، وهو انّ الأصنام بزعمهم كانت مؤثرة في الكون و لو في قسم منه، مؤثرة في مصير عبادها، و لذلك سميت الآلهة أرباباً، أي مالكين لأزمّة الأُمور و مصير حياة العابد و إن كان فوق هذه الأرباب ربّ العالمين.

*** 3- و هناك مجموعة من الآيات تحكي عن مناظرة إبراهيم لمشركي عصره من عبدة الأجرام السماوية يقول سبحانه: «وَ إِذْقالَ إِبْراهيمُ لأَبيهِ آزَرَأَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلهة إِنّي أَراكَ وَقَومكَ في ضَلالٍ مُبينٍ». ثم إنّه سبحانه يسرد مناظرته معهم بشكل بديع و يذكر أنّ بطل التوحيد حاجّهم بالنحو التالي:

«فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُ

الاسماء الثلاث، ص: 50

الآفِلينَ* فَلَمّا رَءَا الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَومِ الضّالّينَ*

فَلَمّا رَءَا الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَري ءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الأَرْضَ حَنيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ» (الأنعام/ 74- 79).

نرى أنّ إبراهيم يركز على كلمة «ربّي» و يعترف مجاراة للقوم بربوبية الأجرام السماويّة، و لم يزل يُظهر لهم أنّه على هذا الاعتقاد قبل أُفولها، ثمّ يعود و يبطل ربوبيتها بأُفولها.

فماذا كان المشركون يقصدون من الاعتقاد بربوبية الأجرام السماوية؟! وماذا أراد بطل التوحيد حسب الظاهر من الاقرار بربوبيتها؟! أليس الربّ بمعنى الصاحب، أليس سياسة المربوب و تدبير حياته بيد الربّ فهل يمكن أن يعبد هؤلاء هذه الأجرام من دون اعتقاد بتأثيرهم على حياتهم و مسيرتهم.

كلّ ذلك يعرب عن كيفية عقيدة المشركين بالنسبة إلى آلهتهم و أربابهم، وإنّما جرّتهم إلى عبادتها لاعتقادهم الخاص بها.

*** 4- إنّه سبحانه: «يصف اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم و رُهبانهم أرباباً. قال سبحانه: «اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسيحَ ابْنَ مَرْيمَ وَ ما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» (التوبة/ 31).

و ليس المراد أنّهم اعتقدوا بأنّ علماء دينهم و رهبانهم خالقون أو مدبرون للكون بل كانوا يعتقدون أنّ لهم شأناً من شؤونه سبحانه: وهو أنّ لهم تحليل الحرام و تحريمه و انّه فوض إليهم زمام التشريع و بالتالي مصيرهم بأيديهم و يكفي ذلك في صدق الربوبية.

الاسماء الثلاث، ص: 51

روى المفسرون عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللَّه و في عنقي صليب من ذهب

فقال لي: يا عدي إطرح هذا الوثنَ في عنقك قال: فطرحته ثم انتهيتُ إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية «اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً» حتّى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرِّمون ما أحل اللَّه فتحرّمونه، ويُحلّون ما حرّم اللَّه فتستحلونه؟

قال: فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم. «1»

هذا قليل من كثير ممّا يعرب عن عقيدة المشركين القدامى والجدد في حقّ معبوداتهم.

ونختم المقال بشي ء من شعر زيد بن عمر بن نوفل الذي أسلم قبل أن يبعث النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إذ يقول بعد استبصاره معرباً عن عقيدته في الجاهلية:

أرب واحد أم ألف رب أدين إذا تقسّمت الأُمور

عزلتُ اللاة والعُزى جميعاً كذلك يفصل الجلد الصبور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها ولا صنَمَي بني عمرو أزور

و يقول في شعر آخر:

إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه إله و لا ربّ يكون مداينا «2»

هذه الأشعار و سائر الكلمات المروية عن الأمّة الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم تثبت أمراً واحداً وهو أنّ

آلهتهم كانت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبة مالكة لها مؤثرة في الكون و مصير الإنسان و انّ هؤلاء آلهة و أرباب واللَّه سبحانه إله الآلهة و ربّ الأرباب.

الاسماء الثلاث، ص: 52

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة

اشارة

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة

المقصود من التعريف المنطقي، هو التعريف الجامع الشامل لجميع أفراد العبادة سواء كانت حقّة أو باطلة، صحيحة أو فاسدة، و- التعريف- المانع عن دخول غيرها، ممّا ليس من مصاديقها و جزئياتها، و إن كانت شبيهة بها في الظاهر، ولكنّها في الواقع تكريم و تبجيل ويتوهمها الجاهل عبادة.

و بما أنّا لم نقف على تعريف للعبادة، في الكتاب و السنّة، لا محيص لنا عن اصطياده عن طريق تحليلها في ضوء المصدرين الكريمين فانّ دراستها كذلك يُشرِف الباحثَ على تمييز العبادة عن غيرها و بالتالي على صبّ ما استفاده منهما في قالب تعريف جامع و مانع.

أقول: العبادة تتقوم بعنصرين ولا يُغني أحدهما عن الآخر:

الأوّل: الاعتقادُ الخاص في حقّ المعبود، أعني الاعتقادَ بأنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير العابد آجلًا وعاجلًا في تمام شؤون الحياة أو بعضها، وقد تعرّفتَ على معنى «الإله» و «الرب» في الفصلين السابقين فلا نعود إلى ما ذكرنا سابقاً، فإذا كان الخضوع و التذلل، مجرّداً عن هذا النوع من الاعتقاد لايعدّ العمل عبادة سواء أكان باللسان، أم بسائر الجوارح، نعم يمكن أن يكون حراماً موجباً للعقاب لا لأنّه عبادة بل لكونه عملًا محرماً كسائر المحرّمات الّتي ليست بعبادة قطعاً كالكذب و الغيبة.

الثاني: العمل الحاكي عن الخضوع، و يكفي في ذلك أبسط الخضوع إلى أعلاه سواء أكان

باللفظ والبيان، أم بسائر الجوارح، فإذا كان الخضوع نابعاً عن الاعتقاد الخاص في مورد المخضوع له، يتصف بالعبادة.

إنّ الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له، أو ربوبيته، أو كون مصير العباد بيده،

الاسماء الثلاث، ص: 53

مجرّداً عن الخضوع العملي أو اللفظي، يستلزم كونَ صاحبه مشركاً في العقيدة لا مشركاً في العبادة، و إنّما يكون مشركاً فيها إذا انضمّ إلى العقيدة، خضوع عملي كما أنّ مجرّدَ الخضوع النابع عن الحب و العطف، يكون تكريماً و تبجيلًا، و خضوعاً و تذلّلًا لا عبادة، و ربما يكون حلالًا و مباحاً و يعدّ مَظْهَراً للتكريم و سبباً لإظهار الحبّ و الودّ، و ربما يكون حراماً كالسجود للمحبوب بما أنّه جميل، لا لأنّه إله و ربّ أو بيده مصيره، و مع ذلك فالسجود لمثله حرام حسب ما ورد في السنّة و إن لميكن عبادة و كونه مثلها في الصورة لا يُدخله في عنوانها لأنّ العبرة بالنيّات و البواطن، لا بالصور و الظواهر.

أمّا العنصر الثاني: فلم يختلف في لزوم وجوده اثنان إنّما الكلام في مدخلية العنصر الأوّل في صدق العبادة و دخوله في واقعها و نحن نستدل على مدخليته بطريقين:

الأوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين

الأوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين

إنّ الإمعان في أعمالهم، يدلُّ بوضوح على أنّ خضوعهم جميعاً لم يكن منفكاً عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها و كانت تلك العقيدة هي التي تَجرُّهم إلى الخضوع و التذلل أمامها ولولاها لم يكن لخضوعهم وجه ولا سبب فالموحِّد يخضع أمام اللَّه لاعتقاده بأنّه خالق، بارئ، مبدع، و مصور، مدبّر، و متصرّف، و بكلمة جامعة:

إنّه إله العالمين إلى غير ذلك من الشؤون، فمن هذا الاعتقاد، ينشأ الخضوع و التذلل.

والمشرك يخضع أمام الأصنام والأوثان، أو الأجرام السماوية، لاعتقاده بأنّها آلهة و أرباب بيدها مصيره في الدنيا و الآخرة و لذلك كانوا يستمطرون بها، ويطلبون منها الشفاعة والمغفرة و بذلك صاروا آلهة و أرباباً.

إنّ الموحّد يرى أنّ العزّة بيد اللَّه سبحانه و هو القائل عزّ من قائل: «فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَميعاً» (فاطر/ 10) «وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ» (آل عمران/ 26)

الاسماء الثلاث، ص: 54

ولكن المشرك يرى أنّ العزة بيد الأصنام والأوثان يقول سبحانه حاكياً عن عقيدته: «وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً» (مريم/ 81).

إنّ الموحّد لا يُثبت شيئاًمن صفاته سبحانه، و أفعاله، لغيره ولا يرى له مثيلًا و لا نظيراًفي الصفات والأفعال فهو المتفرِّد في جماله و كماله، وفي أسمائه و صفاته، وفي أعماله و أفعاله، و لكن المشرك يسوي الأصنام بربّ العالمين إذ يقول سبحانه حاكياً عنهم: «تَاللَّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبين* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين» (الشعراء/ 97- 98) و إذا لم تكن التسوية متحقّقة في تمام الشؤون فقد كانت متحقّقة في بعضها فقد كانوا عندهم مالكين للشفاعة النافذة التي لا تردّ، و لغفران الذنوب، فلأجل ذلك تُركّز الآيات على أنّ الشفاعة للَّه و المغفرة بيده، يقول سبحانه: «قُلْ للَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر/ 44) و يقول: «وَ مَنْ يَغْفِرُالذُّنُوبَ إِلّا اللَّه» (آل عمران/ 135)

إنّ النبيّ إبراهيم يصف ربّه بقوله: «الّذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالّذي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقينِ* وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ*

وَالّذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيينِ* وَالّذي أَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتي يَومَ الدّينِ» (الشعراء/ 78- 82) و هو في هذا المقام يحاول ردّ عقيدة المشركين حيث كانوا يثبتون بعضَ هذه الأفعال لمايعبدون من الأجرام السماوية والأرضية.

وحصيلة الكلام أنّ التاريخ القطعي وآيات الذكر الحكيم متّفقان على أنّ خضوع المشركين لم يكن مجرّدَ عمل دون أن يكون نابعاً من الاعتقاد الخاصّ في حقّ معبوداتهم و لم تكن عقيدتهم سوى إثبات ما لربّ العالمين من الشؤون، كلّها أو بعضها لهم، و لأجل ذلك كانوا يتذلّلون أمامهم.

هذه هي الطريقة الأُولى لاستكشاف مدخلية العنصر الأوّل في صدق العبادة و قد وقفنا عليها من طريق الامعان في عبادة الموحدين و المشركين و إليك الكلام في الطريقة الثانية.

الاسماء الثلاث، ص: 55

الثانية: الإمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللَّه، الناهية عن عبادة الغير

الثانية: الإمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللَّه، الناهية عن عبادة الغير

إنّ الآيات الحاثة على عبادة اللَّه و المحذرة عن عبادة غيره، تعلل لزوم عبادته سبحانه بالأُلوهية تارة و الربوبية أُخرى، و هذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدلّ على أنّ العبادة من شؤون الإله و الربّ، و انّها كانت ضابطة مسلّمة بين المخاطبين، و لم يكن فيها أيّ اختلاف و إنّما كان الاختلاف في الموصوف بهما، فالذكر الحكيم لا يرى في صحيفة الوجود، إلهاً ولا ربّاً غيره، و يُحصر العنوانين في اللَّه سبحانه بينما يرى المشركين أصنامَهم آلهة و أرباباً و لذلك ذهبوا إلى عبادتها و الخضوع أمامها لأنّها أرباب و آلهة عندهم و لها نصيب من العنوانين.

وعلى الجملة: انّ الدعوة إلى عبادة اللَّه أو حصرها فيه

معللًابأنّه سبحانه إله و ربّ و لا إله ولا ربّ غيره، يعطي اتفاق الموحد والمشرك على تلك الضابطة و أنّها من شؤون من كان ربّاً و إلهاً و إنّما كان الاختلاف و الجدال في المصاديق، و إنّه هل هناك إله أو ربّ غيره سبحانه، أو لا؟ فالأنبياء يؤكدون على الثاني، و المشركون على الأوّل، وعلى هذا لو كان هناك خضوع أمام شي ء، من دون هذه العقيدة فلا يكون عبادة باتّفاق الموحد و المشرك. و إليك ما استظهرناه من الآيات:

1- قال سبحانه: «يا قَومِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (الأعراف/ 59).

وقد وردت هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن. «1»

إنّ قوله سبحانه: «ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» بمنزلة التعليل للأمر بحصر

الاسماء الثلاث، ص: 56

العبادة في اللَّه تعالى و معناه: اعبدوا اللَّه و لا تعبدوا سواه، و ذلك لأنّ العبادة من شؤون الأُلوهية ولا إله غيره.

2- قال سبحانه: «وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّه رَبّي وَ ربَّكُمْ» (المائدة/ 72).

«إنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمّةً واحِدة وأَنَا ربُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء/ 92).

«إِنَّ اللَّهَ ربّي وَربُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقيم» (آل عمران/ 51).

«يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (البقرة/ 21).

و كيفية البرهنة في هذا الصنف من الآيات مثلها في الآية السابقة.

وقد ورد مضمون هذه الآيات أعني: جعل العبادة دائرة مدار الربوبية في آيات أُخرى. «1»

إنّ تعليق الأمر بالعبادة على لفظ الربّ في قوله «اعبدوا ربّكم» دليل على أنّ وجه تخصيص العبادة باللَّه سبحانه هو كونه ربّاً

و لا ربّ غيره، فهذا يعرب عن كون العبادة من شؤون من يكون ربّاً، وليس الربّ إلّااللَّه سبحانه، وأمّا ربوبية غيره فباطلة.

3- قال سبحانه: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلّا هُوَ خالِقُ كُلّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ» (الأنعام 102).

فقد علل الأمر بعبادة اللَّه سبحانه في هذه الآية بشيئين:

أ: إنّه «ربّكم».

ب: إنّه «خالق كلّ شي ء».

الاسماء الثلاث، ص: 57

فيدل بوضوح على أنّ العبادة من شؤون الربوبية و الخالقية، فمن كان خالقاً، أو ربّاً، مدبّراً للكون والإنسان، تجب عبادته، وأمّا من كان مجرداًعن هذه الشؤون فكان مخلوقاً بل خالقاً و لا ربّاًو مدبّراً متصرفاً فيه مكان كونه مدبِّراً و متصرِّفاً، فلا يصلح أن يكون معبوداً.

*** إنّه سبحانه يشرح في مجموعة من الآيات بأنّه الخالق الرازق المميت المحيي، و إنّ الشفاعة له جميعاً، وهو الغافر للذنوب لا غيره، ولا يهدف من ذكر هذه الأوصاف لنفسه إلّا توجيه نظر الإنسان نحو صلاحيته للعبادة لا غيره و هو يعرب عن أنّ العبادة من شؤون من يكون خالقاً، و رازقاً، مميتاً، محيياً، غافراً للذنوب، ماحياً للسيئات و ليس إلّا هو، و إنّ المشركين يعبدون أصناماً، يزعمون أنّها تملك شيئاً من هذه الأُمور أو بعضها و لكنّها عقيدة خاطئة، إذ هو الرازق المحيي المميت الغافر، للذنوب لا غيره.

5- يقول سبحانه:

«اللَّهُ الّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» (الروم/ 40).

وقال تعالى: «هَلْ لَكُمْ مِن ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ شُرَكاء فِي ما رَزَقْناكُمْ» (الروم/ 28).

وقال تعالى: «هُوَ يُحْيي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرجَعُونَ» (يونس/ 56).

وقال سبحانه: «قُلْ للَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر/ 44).

وقال تعالى: «وَ

مَنْ يَغْفِرُالذُّنُوبَ إِلّااللَّه» (آل عمران/ 135).

فهذا الصنف من الآيات التي تلونا عليك قسماً قليلًا منها يدل على أنّه لايستحقّ العبادة إلّامن يتمتع بهذه الشؤون وماضاهاها فلو كان متمتعاً بها واقعاً

الاسماء الثلاث، ص: 58

فهو المعبود حقّاً و إلّافلا يكون مستحقّاً للعبادة.

والعجب، أنّ كلّ من ارتأى تعريف العبادة فإنّما نظر إلى العنصر الثاني (الخضوع) الذي لم يختلف فيه اثنان، و لم يركز الكلام على العنصر الأوّل (الإعتقاد الخاصّ)، مع أنّه الفيصل بين العبادة، والتكريم.

وحاصل هذا البيان أنّه لا يصحّ أن ينظر إلى ظاهر الأعمال بل يجب النظر في مبادئها و مناشئها فالعبادة لا تتحقق و لا يصدق عنوانها على شي ء إلّاإذا اتّحد العمل مع عمل الموحدين أو المشركين فقد كان عمل الموحدين نابعاً عن الاعتقاد الخاص بأُلوهيته سبحانه وربوبيته كما كان عمل المشركين أيضاً نابعاًمن هذا المبدأ لكن في حقّ أصنامهم و أوثانهم.

نعم المشركون لم يكونوا معتقدين بخالقية معبوداتهم و لكنّهم كانوا معتقدين بأُلوهيتهم و ربوبيتهم و تصرّفاتهم في الكون و بكونهم مالكين للمغفرة والشفاعة.

و على ضوء هذا فكلّ خضوع يتمتع بنفس هذا العنصر يُضفى عليه عنوانُ العبادة فإن أتى به للَّه سبحانه يكون موحّداً و إن أتى به لغيره يكون مشركاً. فلايصحّ لنا القضاء على ظاهر الأعمال من دون التفتيش عن بواطنها.

التعاريف الثلاثة للعبادة

التعاريف الثلاثة للعبادة

و قد خرجنا- بالإمعان في عقائد الموحّدين و المشركين و بالإمعان في الآيات الحاثة على عبادة اللَّه والنهي عن عبادة غيره بالنتيجة التالية:

إنّ العبادة ليست خضوعاً فارغاًمهما بلغ أعلاه بل خضوعاً نابعاًعن عقيدة خاصة وهي الاعتقاد بكون المخضوع

له ربّاً، أو إلهاً، أو مصدراً للأفعال الإلهية فلذلك يصحّ تعريفها على أحد الوجوه التالية و يكون جامعاً لعامة أفرادها، و دافعاً عن دخول غيرها في تعريفها:

الاسماء الثلاث، ص: 59

1- خضوع لفظي أو عملي ناشئ من العقيدة بأُلوهية المخضوع له.

2- العبادة هي الخضوع بين يدي من يعتبره «ربّاً» و بعبارة أُخرى. هي الخضوع العملي أو القولي لمن يعتقد بربوبيته، فالعبودية كلازم الاعتقاد بالربوبية.

3- العبادة خضوع أمام من يُعْتبر إلهاً حقّاً أو مصدراً للأعمال الإلهية كتدبير شؤون العالم و الإحياء والإمامة و بسط الرزق بين الموجودات و غفران الذنوب.

ولك صبّ هذا المعنى في قالب رابع و خامس.

ثمرات البحث

اشارة

ثمرات البحث

لقد وقفت- أخي العزيز- على معنى «العبادة» و مفهومها و حقيقتها في ضوء الكتاب والسنّة، و لم يبق لك أيّ إبهام في معناها و لا أيّ غموض في حقيقتها، و الآن يجب عليك- بعد التعرّف على الضابطة الصحيحة في العبادة- أن تقيس الكثير من الأعمال الرائجة بين المسلمين من عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى زماننا هذا لترى هل تزاحم التوحيد، وتضاهي الشرك، أو أنّها عكس ذلك توافق التوحيد، و ليست من الشرك في شي ء أبداً؟

ولهذا نجري معك في هذا السبيل (أي عرض هذه الأعمال على الضابطة التي حققناها في مسألة العبادة) جنباً إلى جنب فنقول:

إنّ الأعمال التي ينكرها الوهابيون على المسلمين هي عبارة عن:

1- التوسل بالأنبياء والأولياء في قضاء الحوائج

1- التوسل بالأنبياء والأولياء في قضاء الحوائج

فهل هذا شرك أو لا؟

يجب عليك أخي القارئ أن تجيب على هذا السؤال بعد عرضه على الضابطة التي مرّت في تحديد معنى العبادة و مفهومها، فهل المسلِم المتوسِّل بالأنبياء والأولياء يعتقد فيهم «أُلوهية» أو «ربوبية» و لو بأدنى مراتبهما و قد

الاسماء الثلاث، ص: 60

عرفت معنى الأُلوهية والربوبية بجميع مراتبهما و درجاتهما، أو إنّه يعتقد بأنّهم عباد مكرمون عند اللَّه تعالى تستجاب دعوتُهم، و يجاب طلبهم بنص القرآن الكريم.

فإذا توسّل المتوسّل بالأنبياء والأولياء بالصورة الأُولى كان عمله شركاً، يخرجه عن ربقة الإسلام.

و إذا توسّل بالعنوان الثاني لميفعل مايزاحم التوحيد ويضاهي الشرك أبداً.

و أمّا أنّ توسّله بهم مفيد أو لا، محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير الشرك؟ فالبحث فيهما خارج عن نطاق البحث الحاضر الذي

يتركز الكلام فيه على تمييز التوحيد عن الشرك، و بيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك.

2- طلب الشفاعة من الصالحين

2- طلب الشفاعة من الصالحين

هناك من ثبت قبول شفاعتهم بنصّ القرآن الكريم و السنّة الصحيحة.

ثمّ إنّ طلب الشفاعة منهم إن كان بما أنّهم مالكون للشفاعة و أنّها حقّ مختصّ بهم، و أنّ أمر الشفاعة بيدهم، أو إنّه قد فُوِّض إليهم ذلك المقام، فلا شكّ أنّ ذلك شرك و انحراف عن جادة التوحيد، و اعتراف بأُلوهية الشفيع (المستَشْفع به) و ربوبيته، ودعوة الصالحين للشفاعة بهذا المعنى والقيد شرك لا محالة.

وأمّا إذا طلب الشفاعة من الصالحين بما أنّهم عباد مأمورون من جانب اللَّه سبحانه للشفاعة في من يأذن لهم اللَّه بالشفاعة له، ولا يشفعون لمن لم يأذن اللَّه بالشفاعة له، و إنّ الشفاعة بالتالي حقّ مختص باللَّه بيد أنّه تعالى، يجري فيضه على عباده عن طريق أوليائه الصالحين المكرمين.

فالطلب بهذا المعنى و بهذه الصورة لا يزاحم التوحيد، ولا يضاهي الشرك،

الاسماء الثلاث، ص: 61

فهو طلب شي ء من شخص مع الاعتراف بعبوديته المحضة و مأموريته الخاصة.

وأمّا أنّه طلب مفيد أو لا، أو أنّه محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد؟ فهو أمر خارج عن إطار هذا البحث الذي يتركز- كما أسلفنا- على بيان التوحيد والشرك في العبادة.

3- التعظيم لأولياء اللَّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم.

3- التعظيم لأولياء اللَّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم.

فهل هذا العمل يوافق ملاك التوحيد أو يوافق ملاك الشرك؟

الجواب هو أنّ هذا العمل قد يكون توحيداًمن وجه، و قد يكون شركاً من وجه آخر.

فإن كان التعظيم و التكريم- بأيّ صورة كان- قد صدر عن الأشخاص تجاه أُولئك الأولياء بما أنّ هؤلاء الأولياء عِباد أبرار، وقفوا

حياتهم على الدعوة إلى اللَّه، و ضحّوا بأنفسهم و أهليهم و أموالهم في سبيل اللَّه، و بذلوا في هداية البشرية كلّ غالٍ و رخيص، فانّ مثل هذا التعظيم يوافق مواصفات التوحيد، لأنّه تكريم عبدٍ من عباد اللَّه لما أسداه من خدمة في سبيل اللَّه، مع الاعتراف بأنّه عبد لا يملك شيئاً إلّا ما ملّكه اللَّه، و لا يقدر على عمل إلّابما أقدره اللَّه عليه.

انّ مثل هذا التعظيم يوافق أصل التوحيد بمراتبه المختلفة دون أيّ شكّ.

وأمّا أنّه مفيد أو لا، أو أنّه حلال أو حرام من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد فخارج عن نطاق هذا البحث المهتم ببيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك.

وأمّا إذا وقع التعظيم والتكريم للولي معتقداً بأنّه- حيّاً كان أو ميّتاً- مالك لواقعية الأُلوهية أو درجة منها، أو أنّه واجد لمعنى الربوبيّة أو مرتبة منها، فانّه- و لا شكّ- شرك و خروج عن جادة التوحيد.

الاسماء الثلاث، ص: 62

4- الاستعانة بالأولياء

4- الاستعانة بالأولياء:

فهل الإستعانة بالأولياء توافق التوحيد أم توافق الشرك؟ إنّ الإجابة على ذلك تتضح بعد عرض الاستعانة هذه على الميزان الذي أعطاه القرآن لنا، فلو استعان أحد بولي- حياً كان أو ميتاً- على شي ء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً، و الميت حياً، باعتقاد أنّ المستعان إله، أو ربّ، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.

وأمّا إذا طلب منه كلّ ذلك أوبعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شي ء إلّا بما أقدره اللَّه عليه، وأعطاه و

أنّه لا يفعل ما يفعل إلّابإذن اللَّه تعالى، و إرادته، فالاستعانة به و طلب العون منه حينئذٍ من صلب التوحيد، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميّتاً، و أن يكون العمل المطلوب منه عملًا عادياً أو خارقاً للعادة.

وأمّا أنّ المستعان قادر على الإعانة أو لا، أو أنّ هذه الإستعانة مجدية أو لا، و أنّ هذه الاستغاثة محلّلة أو محرمة، من جهات أُخرى أو لا؟ فكلّ ذلك خارج عن إطار هذا البحث.

وقس عليه سائر ما يرد عليك من الموضوعات التي يتشدد فيها الوهابيون من غير سند سوى التقليد لابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، و هم يعتمدون على أقوال الرجال مكان الاعتماد على النصوص في الكتاب و السنّة فترى انّ استدلالاتهم تدور حول أقوالهم

*** لقد حصحص الحقّ و بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها ولعلّه لم تبق لمجادل شبهة، ولمرتاب، شك، غير أنّ هنا أُموراًربما تطرح بصورة السؤال أو تدور في خلد القارئ الكريم فلنأت بها، مع أجوبتها على وجه الايجاز.

الاسماء الثلاث، ص: 63

أسئلة و أجوبة

السؤال الأوّل

السؤال الأوّل

هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟

الجواب

اشارة

الجواب

إنّ هناك جماعة من المحقّقين من يفسر العبادة بنحو ما تقدم، منهم الأقطاب الأربعة للعلم و الفضيلة من علماء النجف الأشرف و الأزهر الشريف، و نذكرهم حسب تقدم تاريخ وفاتهم.

1- الشيخ جعفر كاشف الغطا (1156- 1228)

1- الشيخ جعفر كاشف الغطا (1156- 1228)

قال في كتابه الذي ألّفه رداً على رسالة عبد العزيز بن سعود:

لا ريب انّه لا يُراد بالعبادة (التي لا تكون إلّا للَّه، و من أتى بها لغير اللَّه، فقد كفر) مطلقُ الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، و إلّا لزم كفر العبيد والأُجراء و جميعُ الخدّام للأُمراء، بل كفر الأنبياء في خضوعهم للآباء، و جميع من تواضع للاخوان، أو لأحد من أصحاب الإحسان.

وإنّما الباعث على الكفر، إنقياد البعض لبعض العباد مع اعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجه الأمر من الكريم المتعال، و أنّ لهم تدبيراً و اختياراً.

إين حال المسلمين مِنْ حال مَنْ جعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، و اتخذ الملائكة أرباباً دون اللَّه، وبعض المخلوقين أنداداً و شركاء، يعبدونها من دون اللَّه أو

الاسماء الثلاث، ص: 64

مع اللَّه، إمّا لأهليتهم، أو لترتب التقرب إلى اللَّه زلفى، من دون أمر اللَّه لهم بذلك، قال تعالى: «وَ ما أنْزَلَ اللَّه بِها مِنْ سُلْطانٍ». (يوسف/ 40)

إعلم انّ الألفاظ اللغوية والعرفية العامة، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة، فتلك لا تحتاج إلى بيان، سواء وردت في السنة و القرآن أم لا.

وأمّا إذا انقلبت عن المعاني الأوّلية إلى غيرها، أو استعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية، فهي من المجمل المحتاج إلى البيان، كلفظ الصلاة، و

الصيام، و الحجّ، فانّه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والإمساك والقصد، بل معنى جديد تتوقف معرفته على بيان و تحديد.

و من هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما، فانّه لايراد بهما في لحوق الشرك بهما، المعنى القديم، و إلّا لزم كفر الناس من يوم أدم إلى يومنا هذا، لأنّ العبادة بمعنى الطاعة، و الدعاء بمعنى النداء والاستعانة بالمخلوق لايخلو منها أحد.

ومن أطوع من العبد لسيّده، و الزوجة لزوجها، و الرعية لملوكهم، ولا زالو ينادونهم و يطلبونهم إعانتهم و مساعدتهم، بل الرؤسا، لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم و يندبونهم.

فعلم انّه لا يراد بهذه المذكورات المعاني السابقات، و تعينت إرادة المعاني الجديدة.

وقال في تحقيق الدعاء الذي هو مخّ العبادة: إن أُريد بدعوة غير اللَّه والاستغاثة، اسناد الأمر إلى المخلوق على انّه الفاعل المختار، الذي تنتهي إليه المنافع والمضار، فذلك من أقوال الكفار، و المسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة، و من قائلها، و ما أظن أنّ أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي، ولاسمعناه من أحد إلى يومنا هذا.

الاسماء الثلاث، ص: 65

وإن أريد انّ المدعوّ و المستغاث به، له اختيار وتصرّف في أمر اللَّه، فيحكم على اللَّه، فهذا أشدّ كفراً من الأوّل.

وإن أُريد دعاؤه و الاستغاثة به، للدعاء والشفاعة (أي ليدعوَ له أو يشفع له عند اللَّه)، فهذا من أعظم الطاعات، و فيه محافظة على الآداب من كلّ الجهات.

وكون الدعاء عبادة إنّما يجري في قسم منه، و هو الطلب من الخالق

المدبّر الذي جلّ شأنه عن الأشياء والنظائر، ولو جعلت كلّ دعاء عبادة، للزم أن يكون دعاء زيد لاصلاح بعض الأُمور، أو دفع بعض المحذور، من قبيل الكفر. «1»

2- البلاغي النجفي (1284- 1352 ه)

2- البلاغي النجفي (1284- 1352 ه)

إنّ العلّامة الحجّة المحقّق، الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي قد قام بتفسير العبادة في تفسيره الشريف المسمى ب «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» بنفس التعريف الذي ذكرناه فقد أدى حقّ المقال و نقتبس منه ما يلي:

لا يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رِسْلِهم و مجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر، و يعرفون بذوقهم مجازه و وجه التجوز فيه. و إنّ المحور الذي يدور عليه استعمالهم و تبادرهم هو أنّ العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالالهيّة. أو بعنوان أنّه رمز أو مجسمة لمن يزعمه إلهاً، تعالى اللَّه عمّا يشركون. و لكن الخطأ و الشرك أو البهتان و الزور أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة:

الأوّل: الإتيان بما تتحقّق به حقيقة العبادة لما ليس أهلًا لذلك بل هو مخلوق للَّه كعبادة الأوثان مثلًا.

الاسماء الثلاث، ص: 66

الثاني: مقام البهتان والافتراء و خدمة الأغراض الفاسدة لترويج التحزبات الأثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الإمام شيئاًمن الاحترام بعنوان أنّه عبد مخلوق للَّه، مقرّب عنده لأنّه عبده و أطاعه، أنّه عَبد ذلك المحترم وأشرك باللَّه في عبادته. ألا تدري لمن يبهتون بذلك، يبهتون من يحترم النبي أو الإمام تقرباًإلى اللَّه، لأنّه اختاره و أكرمه بمقام

الرسالة أو الإمامة التي هي بجعل اللَّه و عهده كما وعد اللَّه بذلك إبراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة: «وَ إِذِابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمينَ» (البقرة/ 124) و هذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه و لا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هؤلاء المتحزبين، لملوكهم، وزعمائهم، وحكّامهم، وخضوعهم لهم بالقول والعمل.

المقام الثالث: كثيراً ما فُسِّرت العبادة بأنّها ضرب من الشكر، مع ضرب من الخضوع، أو الطاعة وهل يخفى عليك أنّ هذه التفاسير مبنيّة على التساهل بخصوصيات الاستعمال، أو الارتباك في مقام التفسير، وهل يخفى أنّ أغلب الأفراد من كلّ واحد ممّا ذكروه لا يراه الناس عبادة و يغلطون من يسمّيها أو بعضها عبادة إلّا على سبيل المجاز. و إنّ لفظ العبادة و ما يشتق منه كَعَبَدَو يَعْبُد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلّافيما ذكرناه من معاملة الإنسان لمن يتخذه إلهاًمعاملة الإله، المستحق لذلك بمقامه في الآلهية. «1»

3- القضاعي العزامي الشافعي (1284- 1358 ه)

3- القضاعي العزامي الشافعي (1284- 1358 ه)

قد ألف العلّامة المدقق الشيخ سلامة القضاعي العزامي المصري كتاباً أسماه «فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان»، و طُبع في مقدمة

الاسماء الثلاث، ص: 67

الأسماء و الصفات للبيهقي وهو من أنفس ما كتب في هذا الموضوع، و قداشتمل بإيجازه على عقائد ابن تيمية و نقده بالعرض على الكتاب والسنّة غير أنّ أنصار الحشوية، عمدوا في الآونة الأخيرة إلى إبعاد الكتاب عن متناول الطالبين فطبعوا كتاب البيهقي مجرّداًعن هذا

التقديم. مع أنّه لايقلّ عن ذيه لولم نقل إنّه يزيد عليه وزناًو قيمة. فقد أفاض الكلام في معنى العبادة على وجه دقيق نقتبس منه مايلي:

إنّ الغلط في تفسير العبادة، المزلقةُ الكبرى والمزلَّة العظمى، التي أُستحِلت بها دماءُ لا تحصى، وانتهكت بها أعراض لا تعد، وتقاطعت فيها أرحام أمر اللَّه بها أن توصل، عياذاً باللَّه من المزالق والفتن. ولاسيما فتن الشبهات. فاعلم أنّهم فسروا العبادة بالإتيان بأقصى غاية الخضوع، و أرادوا بذلك المعنى اللغوي، أمّا معناها الشرعي فهو أخصّ من هذا كما يظهر للمحقّق الصبّار على البحث من استقراء مواردها في الشرع، فانّه الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً، باعتقاد ربوبية المخضوع له، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعاً، في كثير ولا قليل مهما كان المأتي به و لو سجوداً.

ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع و الضرّ، و كنفوذ المشيئة لا محالة و لو بطريق الشفاعة لعابده عند الربّ الّذي هو أكبر من هذا المعبود. و إنّما كفر المشركون بسجودهم لأوثانهم و دعائهم إيّاهم، وغيرهما من أنواع الخضوع لتحقّق هذا القيد فيهم، و هو اعتقادهم ربوبية ما خضعوا له، أو خاصة من خواصها كما سيأتيك تفصيله. و لا يصحّ أن يكون السجود لغير اللَّه فضلًا عمّا دونه من أنواع الخضوع بدون هذا الاعتقاد، عبادة شرعاً (كسجود الملائكة لآدم)، فانّه حينئذٍ يكون كفراً و ما هو كفر فلا يختلف باختلاف الشرائع، ولا يأمر اللَّه عزّ وجلّ به «قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» (الأعراف/ 28) «وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْر» (الزمر/ 7) و ذلك ظاهر إن شاء اللَّه.

و ها أنت ذا تسمع اللَّه تعالى قد قال

للملائكة: «اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا

الاسماء الثلاث، ص: 68

إِلّا ابلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ» (البقرة/ 34) و قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» (الأعراف/ 12) وقال: «ءَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلْقْتَ طِيناً» (الإسراء/ 61) والقول بأنّ آدم كان قبلة قول لا يرضاه التحقيق و يرفضه التدقيق في فهم الآيات كما ينبغي أن تفهم.

فإن تعسّر عليك فهم هذا و هوليس بعسير إن شاء اللَّه تعالى، فانظر إلى نفسك فانّه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك و احترامك له أن لا تسمح لنفسك بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها، و لا يكون ذلك منك عبادة له، لماذا لأنّه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شي ء من خصائص الربوبية فيه. و تقف في الصلاة قدر الفاتحة و تجلس فيها قدر التشهد و هو قدر دقيقة أو دقيقتين فيكون ذلك منك عبادة لمن صلّيتَ له، و سرّ ذلك هو أنّ هذا الخضوع الممثّل في قيامك و قعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعتَ له عزّوجل.

وتدعو رئيسك في عمل من الأعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك أو يغنيك من أزمة نزلت بك و أنت معتقد فيه انّه لا يستقل بجلب نفع أو دفع ضر، و لكن اللَّه جعله سبباً في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء فضلًا منه سبحانه، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعوّ، و أنت على ما وصفنا، فإن دعوتَه و أنت تعتقد فيه أنّه مستقل بالنفع، أو الضرّ، أو نافذ المشيئة مع اللَّه لا محالة، كنت له بذلك الدعاء

عابداً، و بهذه العبادة أشركته مع اللَّه عزّوجلّ، لأنّك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية، فانّ الاستقلال بالجلب أو الدفع و نفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية، والمشركون إنّما كفروا بسجودهم لأصنامهم و نحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع، أو الضرّ ونفوذ مشيئتهم لامحالة مع اللَّه تعالى، و لو على سبيل الشفاعة عنده، فانّهم يعتبرونه الربّ الأكبر و لمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيته، و بمقتضى ما لهم من الربوبية وجب لهم نفوذ

الاسماء الثلاث، ص: 69

المشيئة معه لا محالة.

ويدل لما قلنا آيات كثيرة كقوله تعالى: «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُركُمْ مِنْ دُونِ الرَّحمنِ إِنِ الْكافِرونَ إِلّا في غُرُورٍ» (الملك/ 20) و قوله: «أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنْها يَصْحَبُونَ» (الأنبياء/ 43) و الاستفهام في الآيتين إنكاري على سبيل التوبيخ لهم على ما اعتقدوه. وحكى اللَّه عن قوم هود قولهم له عليه السلام: «إِنْ نَقُولُ إِلّااعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» (هود/ 54) وقوله لهم: «فَكِيدُوني جَميعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ* إِنّي تَوَكَلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ...» (هود/ 55- 56) و كقوله تعالى موبخاً لهم يوم القيامة على ما اعتقدوه لها من الاستقلال بالنفع ووجوب نفوذ مشيئتها: «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ» (الشعراء/ 92- 93) و قولهم و هم في النار يختصمون يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية و خصائصها: «تَاللَّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِذْنُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ» (الشعراء/ 97- 98) فانظر إلى هذه التسوية التي اعترفوا

بها حيث يصدق الكذوب، ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم. فانّ التسوية المذكورة إن كانت في إثبات شي ء من صفات الربوبية فهو المطلوب، و من هذه الحيثية شركهم و كفرهم، لأنّ صفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها في سواه عزّ وجلّ. و إن كانت التسوية في استحقاقها للعبادة فهو يستلزم اعتقاد الاشتراك فيما به الاستحقاق، و هو صفات الأُلوهية أو بعضها، و إن كانت في العبادة نفسها فهي لا تكون من العاقل إلّالمن يعتقد استحقاقه لها كربّ العالمين، تعالى اللَّه عمّا يشركون.

وكيف يُنفى عنهم اعتقاد الربوبية بآلهتهم وقد اتّخذوها أنداداً و أحبوها كحبّ اللَّه كما قال تعالى فيهم: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» (البقرة/ 165) و الأنداد جمع «ند» و هو على ما قاله أهل التفسير واللغة: المثل المساوى، فهذا ينادي عليهم انّهم اعتقدوا فيها ضرباً من المساواة

الاسماء الثلاث، ص: 70

للحقّ تعالى عمّا يقولون. (؟؟)

4- فقيه العصر السيد الخوئي (1317- 1412 ه)

4- فقيه العصر السيد الخوئي (1317- 1412 ه)

إنّ للسيد الفقيه المحقّق السيد أبي القاسم الخوئي قدس سره كلاماً في العبادة في تفسير قوله سبحانه: «إيّاك نعبد و إيّاك نستعين» نأتي به: قال: إنّ حقيقة العبادة خضوع العبد لربّه بما أنّه ربّه و القائم بأمره، و الربوبية تقتضي حضورَ الربّ لتربية مربوبه، و تدبير شؤونه. وكذلك الحال في الاستعانة فانّ حاجة الإنسان إلى إعانة ربّه و عدم استغنائه عنه في عبادته، تقتضي حضورَ المعبود لتتحقّق منه الإعانة، فلهذين الأمرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد

حاضر بين يدي ربّه غير غائب عنه.

مما لا يرتاب فيه مسلم أنّ العبادة بمعنى التألّه، تختص باللَّه سبحانه وحده، وقد قلنا: إنّ هذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ العبادة عند الإطلاق، و هذا هو التوحيد الذي أُرسلت به الرسل، و أُنزلت لأجله الكتب:

«قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً وَلايَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (آل عمران/ 64).

فالإيمان باللَّه تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره، سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق، و إنكار التوحيد في الذات، أم نشأت عن الاعتقاد بأنّ الخلق معزولون عن اللَّه فلا يصل إليه دعاؤهم، وهم محتاجون إلى إله أو آلهة أُخرى تكون وسائط بينهم و بين اللَّه يقربونهم إليه، و شأنه في ذلك شأن الملوك و حفدتهم، فانّ الملك لما كان بعيداً عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم، و يجيبون دعواتهم.

الاسماء الثلاث، ص: 71

وقد أبطل اللَّه سبحانه كلا الاعتقادين في كتابه العزيز، فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الآلهة:

«لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللَّهُ لَفَسَدتا» (الأنبياء/ 22) «وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ» (المؤمنون/ 91).

وأمّا الاعتقاد الثاني- و هو إنّما ينشأ عن مقايسته بالملوك و الزعماء من البشر- فقد أبطله اللَّه بوجوه من البيان:

فتارة يطلب البرهان على هذه الدعوى، و انّها ممّا لم يدل عليه دليل، فقال:

«ءَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ

هاتُوا بُرهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ» (النمل/ 64) «قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظِلُّ لَها عاكِفينَ* قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعونَ* او يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُّون* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ» (الشعراء 71- 74).

و أُخرى بإرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أنّ ما يعبدونه لا يملك لهم ضرّاًو لا نفعاً، والّذي لا يملك شيئاًمن النفع والضرّ، والقبض والبسط، و الإماتة و الإحياء، لا يكون إلّامخلوقاً ضعيفاً، ولا ينبغي أن يتخذ إلهاً معبوداً.

«قالَ أَفَتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيئاً وَ لايَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفٍلا تَعْقِلُونَ» (الأنبياء/ 66- 67). «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَ لا نَفْعاً» (المائدة/ 76) «أَلَمْ يَرَوا أَنّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيِهِمْ سَبيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمينَ» (الأعراف/ 148) «1».

الاسماء الثلاث، ص: 72

السؤال الثاني

ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟

ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟

إذا كانت العبادةُ هي الخضوع أمام موجود بما أنّه إله أو ربّ أو من بيده مصير الإنسان أو بيده أفعاله من شفاعة و مغفرة، فما هو المراد منها في الآيات التالية التي لايصحُّ تفسير العبادة فيها بالمعنى المذكور؟

قال سبحانه حاكياً عن الخليل عليه السلام:

«يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيطانَ كانَ للرَّحْمنِ عَصِيّاً» (مريم/ 44).

ومن المعلوم أنّ مخاطَبَ الخليل، لم يكن يعبد الشيطان بالمعنى المذكور إذ لميتخذه إلهاً و رباً، و إنّما كان يعبد التماثيل والأصنام بما أنّها آلهة و أرباب و هذا إن دلّ على شي ء، فإنّما يدل على أنّه يصحّ استعمالها في مورد لم يكن المخضوع

له إلهاً ولا ربّاً لدى الخاضع.

وقال سبحانه:

«أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ» (يس/ 60) و ليس الشيطان عند الكفّار والعصاة إلهاً ولا ربّاً، مع أنّه وصف الانقياد له بالعبادة.

وقال سبحانه:

«فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرينِ مِثْلِنا وَقَومُهُما لَنا عابِدُونَ» (المؤمنون/ 47) و لميكن بنو إسرائيل عبدةً لفرعونَ و قومه بالمعنى المطلوب وإنّما كانوا أذلّاء بأيديهم.

الجواب

الجواب

أمّا الآية الأُولى، فقد استعيرت العبادة فيها، للطاعة العمياء، للشيطان

الاسماء الثلاث، ص: 73

على الدوام، فكان اتباعهم الشيطان في كل ما يأمر و ينهى يمثِّل أنّهم اتّخذوه إلهاً و ربّاً فأطاعوه كإطاعة المؤمنين للَّه على بصيرة من أمرهم بما انّه إلههم و ربّهم. فكأنّ الخليل يخاطب آزر و يقول له: يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الأصنام لأنّ الشيطان عصِيّ مقيم على معصية اللَّه الّذي هو مصدر كلّ رحمة و نعمة، فهو لا يأمر إلّا بما فيه معصيته و الحرمان من رحمته.

ومثلها الآية الثانية، فالمراد هوالطاعة فاستعيرت لها العبادة تبييناً لأمرها والمراد منها التبعيّة المطلقة العشوائية التي نهيت عنها في عدّة آيات بهذه اللفظة قال سبحانه: «كُلُوا مِمّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» (البقرة/ 168) و قال تعالى: «ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافَّةً وَ لا تَبَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» (البقرة/ 208) و قال عزّمن قائل: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِعِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَريدٍ» (الحجّ/ 3).

و بالجملة: تبعيتهم للشيطان أو إطاعتهم للهوى و الميول النفسانية، يمثّل اتّخاذهم لها إلهاً، أو ربّاً قال

سبحانه: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» (الفرقان/ 43).

وقال عزّ من قائل: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» (الجاثية/ 23) أي «انقاد لهواه كانقياده لإلهه، فيرتكب ما يدعوه إليه، نعم انّهم لم يتخذوا هواهم إلهاً حقيقة لكنّهم لمّا إنقادوا حيثما قادهم الهوى، فكأنّه صار إلهاً لهم.

ومثله قوله سبحانه: «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ وَ قَوْمَهُما لَنا عابدون» و المراد هو المعنى اللغوى المحض أي خاضعون، متذللون، و منه أيضاً إطلاق المعبّد على الطريق الذي يكثر المرور عليه. والآية نظير قوله: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ» (الشعراء/ 22) أي جعلتهم أذلّاء تَذْبَح أبناءهم و تستحيي

الاسماء الثلاث، ص: 74

نساءهم.

وحصيلة البحث: أنّ استعمال العبادة في مورد الشيطان، أو الإله في مورد الهوى من باب مجاز الاستعارة، والغاية هو بيان فرط خضوعهم للشيطان أو الميول النفسانية، وأمّا استعمالها في قوم موسى فالمقصود هو المعنى اللغوي.

و ممّا ذكرنا تقف على مفاد العبادة في الحديث المعروف:

من أصغى إلى ناطق فقدعبده، فإن نطق عن اللَّه فقد عبد اللَّه، و إن نطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان. «1»

فقد استعيرت العبادة في الحديث للطاعة المطلقة التي نعبر عنها بالاستسلام المطلق فيتقبل السامع كلّما يلقيه فيكون مطيعاً في أوامره و نواهيه، وفي مثل هذا الموقف بما أنّ الناطق مبلِّغ عن غيره فكأنّه مطيع للغير محقّاً كان أو مبطلًا.

السؤال الثالث

ما هو حكم إطاعة غير اللَّه و الخضوع له؟

ما هو حكم إطاعة غير اللَّه و الخضوع له؟

قد

تعرفت- فيما مضى- أنّ التوحيد في الطاعة من مراتب التوحيد وانّه لا مطاع إلّااللَّه سبحانه فيقع الكلام في إطاعة غيره فنقول هي على أقسام:

الأوّل: أن تكون طاعتُه بأمر من اللَّه سبحانه كما هو الحال في إطاعة الرسول و خلفائه الطاهرين و هي في الحقيقة اطاعة للَّه، قال سبحانه: «وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (النساء/ 80) و قال عزّمن قائل: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّالِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (النساء/ 64).

الثاني: أن تكون طاعته منهيّاً عنها كإطاعة الشيطان و من يأمر بالعصيان

الاسماء الثلاث، ص: 75

قال سبحانه: «يا أَيهَا النَبِيُّ اتَّقِ اللَّهِ وَلا تُطِعِ الْكافِرينَ وَالْمُنافِقينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَليماً حَكيماً» (الأحزاب/ 1) وقال عزّ من قائل: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاتُطِعْهُما» (لقمان/ 15)

الثالث: أن لا يتعلّق بها أمر و لا نهي في الشرع فتكون حينئذٍ جائزة غير واجبة ولا محرّمة كإطاعة الجندي لآمره، و العامل لربّ عمل، وهكذا إطاعة كلّ مرؤوس لرئيسه في أيّ تجمع كان، إذا لم يأمر بالحرام.

إنّ كلّ تجمع سواء كان عسكرياً أو مدنياً، يتشكّل من أعضاء ذوي مراتب مختلفة و لايصل إلى الغاية المنشودة إلّاإذا كانت بين الأعضاء درجات في مستويات الإمرة، ففي مثل هذا التجمع تلزم الطاعة من العناصر المقومة للوصول إلى الغاية، و لاتعد تلك الطاعة شركاً منافياً لحصر الطاعة في اللَّه و ذلك لأنّ الشارع أعطى حرية التعامل بين هذه المستويات بشرط أن لا يكون فيه تجاوز عن الحدود، و الطاعة بين المرؤوس و رئيسه من لوازم انجاز الأعمال

وتحقيق الغاية ضمن عقد اجتماعي، وأين هي من طاعة اللَّه سبحانه بما أنّه إله، خالق، ربّ.

وأمّا الخضوع للغير فهو على أقسام

وأمّا الخضوع للغير فهو على أقسام:

أحدها: الخضوع لمخلوق من دون أن يكون بينه و بين خالقه، إضافة خاصة كخضوع الولد لوالده، و الخادم لسيده و المتعلم لمعلّمه و غير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس، و هذا الفرع من الخضوع جائز مالم يرد فيه نهي كالسجود لغير اللَّه قال سبحانه: «وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغيراً» (الإسراء/ 24).

ثانيها: الخضوع للمخلوق باعتقاد أنّ له إضافة خاصة إلى اللَّه يستحقّ من أجلها، الخضوع له، مع كون العقيدة خاطئة، باطلة كخضوع أهل المذاهب

الاسماء الثلاث، ص: 76

الفاسدة لرؤسائهم، فلا شكّ في أنّها حرام لكونها تشريعاً و إدخالًا في الدين لما ليس منه قال سبحانه: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» (الكهف/ 15).

ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللَّه و إرشاده، كما في الخضوع للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و لأوصيائه الطاهرين عليهم السلام بل الخضوع لكلّ مؤمن، أو كلّ ما له إضافة إلى اللَّه توجب له المنزلة و الحرمة، كالمسجد الحرام، و القرآن والحجر الأسود وما سواها من الشعائر الإلهية. و هذا القسم من الخضوع محبوب للَّه فقد قال تعالى: «فَسَوفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ» (المائدة/ 54).

بل هو لدى الحقيقة خضوع للَّه، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للَّه، و اعتقد أنّ الإحياء والإماتة والخلق والرزق

والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده، ثمّ اعتقد بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أوصياءه الكرام عليهم السلام «عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (الأنبياء/ 26- 27) فعظّمهم و خضع لهم، تجليلًا لشأنهم و تعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّالإيمان، ولم يعبد غير اللَّه.

ولقد علم كلّ مسلم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يقبّل الحجر الأسود، و يستلمه بيده إجلالًا لشأنه و تعظيماًلأمره. «1»

الاسماء الثلاث، ص: 77

السؤال الرابع

دواعي العبادة للَّه سبحانه

اشارة

دواعي العبادة للَّه سبحانه

العبادة فعل اختياري للإنسان لابدّ لصدوره من الإنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟

الجواب: العبادة فعل اختياري للإنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الأُمور الثلاثة التالية:

1 و 2- الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه

1 و 2- الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه

وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة منالآيات:

قال سبحانه: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً» (السجدة/ 16) وقال عزّمن قائل:

«وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ» (الأعراف/ 56).

وقال عزّمن قائل: «أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» (الإسراء/ 57).

ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللَّه بهذين الداعيين، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.

لا شكّ أنّ العبادة لأجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات، و لكنّها

الاسماء الثلاث، ص: 78

غاية لا يصل إليها إلّا من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلّامعبوده، و أين تلك الأُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير، و إن أطاعوه فلأجل الخوف.

وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ قوماً عبدوا اللَّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا اللَّه رهبة فتلك

عبادة العبيد، و إنّ قوماً عبدوا اللَّه شكراً فتلك عبادة الأحرار. «1»

وقال الإمام الصادق عليه السلام: العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللَّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللَّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأُجراء، و قوم عبدوا اللَّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة. «2»

3- كونه سبحانه أهلًا للعبادة

3- كونه سبحانه أهلًا للعبادة

أن يعبد اللَّه بما أنّه أهل لأن يُعبد، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لأنفسهم إنّية، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية، إندكت أنفسهم في ذات اللَّه فلا ينظرون إلى شي ء إلّا و يرون اللَّه قبله و معه و بعده، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس: «وَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (الحجر/ 19- 40) قال سيد الموحدين علي عليه السلام:

«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتُك. «3»

الاسماء الثلاث، ص: 79

خاتمة المطاف

الفوضى في التطبيق بين الإمام و المأموم

الفوضى في التطبيق بين الإمام و المأموم

لقد ترك الإهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الإمام و المأموم فنرى أنّ إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (164- 241 ه) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والتبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللَّه بن أحمد، و قال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و يتبرّك بمسِّه، و يُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللَّه عزّ وجلّ؟ فقال: «لا بأس بذلك». «1»

هذه هي فتوى الإمام- الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمّد بن عبد الوهاب- و لم ير بأساً بذلك، لما عرفت من أنّ العبادة ليست

مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الأجسام و الجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشي ء، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد، فلايوصف بالعبادة و لايتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الأشياء.

الاسماء الثلاث، ص: 80

و لمّا كانت فتوى الإمام ثقيلة على محقّق الكتاب، أو من علق عليه لأنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية، و من لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الإمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: «أمّا مسّ منبر النبيّ فقد أثبت الإمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص 41) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، روى أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف (4/ 121) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: و رأيت يزيد يفعل ذلك.

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لايقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية

من تخصيص المسّ بمنبر النبيّ بابن عمر، و ما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلًا: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الإمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّ المنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الأكرم، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم و التصنيف.

وثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، وذلك لأنّ معناه أنّ لجسمه الشريف تأثيراً على المنبر و من تبرّك به، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا مؤثّر في الكون إلّااللَّه سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجمسه

الاسماء الثلاث، ص: 81

الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون.

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسح قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والتبرك به، ومنعهما و قال في وجهه:

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جدّاً لم أر أحداً نقله عن الإمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص 31): اتّفق الأئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ و لا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللَّه اتّخاذ القبور مساجد». «1»

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً

نقله عن الإمام، أو ليس ولده أبو عبد اللَّه راويةَ أبيه و وعاء علمه و هو يروي هذه الفتوى و ثقة عند الحنابلة.

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الأوّل نفس التوحيد، و الثاني أساس الشرك، فمن غرائب الأُمور، لأنّ الأمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللَّه سبحانه، فلو كان هذا محور الشرك، فالموضوعان سيّان، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالأوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الأوّل نافعاً والثاني أمراً باطلًا دون أن يكون شركاً على أنّ تجويز الأوّل يرجع إلى القول بأنّ لبدنه تأثيراً فيما يقصد لأجله التبرّك و هو عين الشرك عند القوم فما هذا التناقض في المنهج يا ترى .

و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين، و لأجل إيقاف القارئ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

1- إنّ فاطمة الزهراء عليها السلام- سيدة نساء العالمين بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم- حضرت عند قبر أبيها و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول:

ما ذا على من شمّ تربة أحمد ألّايشمّ مدى الزمان غوالياً

الاسماء الثلاث، ص: 82

صُبَّتْ عليَّ مصائب لو أنّها

صُبَّتْ على الأيّام صِرنَ ليالياً «1»

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومة عليها السلام يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللَّه و تربته الطاهرة.

2- إنّ بلالًا- مؤّذّن رسول اللَّه- أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو يقول:

«ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟».

فانتبه حزيناًوَجِلًا خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسين عليمها السَّلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما ... إلى آخر الخبر. «2»

والحقّ انّ الإختلاف بين السلف الصالح، و الخلف!! غير مختص بهذا المورد بل هناك موارد كان السلف يراها نفس التوحيد، و يراها الوهابيون عين الشرك و إن كنت في شكّ فلاحظ ما يلي:

1- قال ابن حبّان: «في شأن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليمها السَّلام: «قد زرته مراراً، و ماحلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللَّه على جدّه و عليه، و دعوت اللَّه ازالتها عني إلّا استجيب و زالت عني تلك الشدة، و هذا شي ء جرّبته مراراً فوجدته كذلك. «3»

2- نقل ابن حجر العسقلاني عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: «سمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك

الاسماء الثلاث، ص: 83

متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا عليمها السَّلام بطوس قال: فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة تواضعه لها و تضرعه عندها ما تحيرنا». «1»

3- وقال أحمد بن يحيى ألونشريسى المتوفى بفاس عام 914 في كتابه القيم: «المعيار المعرب» سئل سيدي قاسم العقباني عمّن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين فيدعو هناك و يتوسل بالنبيّ عليه السلام وبغيره من الأنبياء صلوات اللَّه على جميعهم، و يتوسل بالأولياء والصالحين و يتوسل بفضل ذلك الولي الّذي يكون عند قبره على التعيين، فهل يسوغ له هذا و يتوسل إلى اللَّه في حوائجه بالولي على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعمّ نبيّنا أم لا؟

فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين و الصديقين والشهداء والصالحين. وقد توسل عمر بالعباس رضي اللَّه عنهما، و كان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين، و قَبِلَ مولانا وسيلتهم و قضى حاجتهم و سقاهم. ومازال هذا يتكرر في الّذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه، وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهؤلاء السادات نفعنا اللَّه بهم و أفاض علينا من بركاتهم. و ورد في بعض الأخبار انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم علّم بعض الناس الدعاء فقال في أوّله قل: اللّهمّ انّي أُقسم عليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. فقال الإمام الأوحد عزّ الدين بن عبد السّلام: هذا الخبر إن صحّ يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لانّه سيّد ولد آدم، ولا يُقسم على اللَّه تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء، لانّهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا إنّما خصّ به نبيّنا على

علوّ درجته و مرتبته انتهى. «2»

ترى انّ السلف الصالح يتلقى هذه الأُمور، بفطرتهم السليمة أُموراً مشروعة، غيرمخالفة للتوحيد، بينما الوهابيين يدّعون انّ هذه الأُمور، تنافي التوحيد و تقارن

الاسماء الثلاث، ص: 84

الشرك، من دون أن يقيموا دليلًا على مخالفتها للتوحيد، إلّا الاعتماد على أقوال ابن تيمية و آرائه مكان الاعتماد على الكتاب والسنّة و سيرة السلف الصالح، فهم مقلده أقوال الرجال، و قدسيطرت على عقولهم، مكان استنطاق الذكر الحكيم والسنة النبوية.

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

أنّ موقف الكاتب أبي الأعلى المودودي من الوهابية موقف الدعم والتأييد و قد صب نزعاته في كتابه «المصطلحات الأربعة» فقد ألف ذلك الكتاب لغاية دعم المبادئ الوهابية تحت غطاء تفسير المصطلحات الأربعة و مع ذلك كلّه فقد صدرت منه عن «لاوعى» كلمة حق لو كان سائراً على ضوئها لاصاب الحقيقة قال: «و صفوة القول أنّ التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله و يستغيثه و يتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعية و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

هذا كلامه و هو تعبير عن عقائد الوثنيين الذين لايصدرون في توسلاتهم و استغاثاتهم إلّا عن هذا المبدء و أين ذلك من توسل المسلمين الذي يتوسلون بالنبي و آله، لأجل أنّهم عباد صالحون «لا يعصون اللَّه في ما أمرهم و هم بأمره يعملون» فالحافز على التوسل والاستغاثة ليس إلّاذلك لا انّهم أصحاب السلطة على قوانين الطبيعة مع الاعتراف بانّهم عباد لا يملكون لأنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

تصور خاطئ

اشارة

تصور خاطئ:

انّ الكاتب مع أنّه نطق بالحقّ و الحقّ ينطق به المنصف والعنود، أراد اضفاء الشرك على التوسلات الدارجة بين المسلمين فذكر انّ السبب لها ليس إلّااعتقاد المتوسل أنّ للنبي مثلًا نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم

الاسماء الثلاث، ص: 85

وكذلك من يخاف أحداً يرى انّ سخطه يجرّ عليه الضرر و مرضاته تجلب له المنفعة فلا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلّاما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على

هذا الكون فلا يبعثه عليه إلّااعتقاده فيه انّ له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الأُلوهية. «1»

أنّ ما ذكره من مبدأ التوسل و انّه الاعتقاد بأنّ للمتوسل به نوعاً من السلطة على هذا الكون، إنّما ينطبق على توسل المشركين بأصنامهم و أوثانهم فقد كانو معتقدين بمالكيتها لبعض الشؤون الإلهية و لا أقلّ سلطنتها على الغفران والشفاعة النافذة و أين ذلك من توسل المسلمين بأحباء اللَّه بما انّهم عباده الصالحون لو دَعوا لاجيبوا بتفضل منه سبحانه لا الزاماً و ايجابا- والدليل على ذلك انّه سبحانه دعى في غير واحدة من الآيات إلى التوسل بالنّبي فقال سبحانه: «وَ لَو انّهم إذْ ظَلَموا أنفُسَهم جاؤُكَ فَاسْتغفَروا اللَّهَ وَ اسْتَغفَرَ لَهُمُ الرّسُول لَوَجَدوا اللَّهَ تَواباً رَحِيماً» (النساء/ 64) حتى انّه سبحانه ذمّ المنافقين لأجل اعراضهم عن النبي و عدم طلبهم استغفاره قال سبحانه: «وإذا قِيل لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّه لَووا رُؤسهم وَ رأيتَهُمْ يَسُدّونَ و هُم مُسْتكبِرون» (المنافقون/ 5).

و من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الأكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم، و اختصاص الآية- على زعمهم- بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال، لانّ الهدف هو انّ الداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر و احد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.

انّ الكاتب المودودي أخذ البرى ء بجرم المعتدى فنسب عقيدة الوثنيّين إلى المسلمين و جعل الدعوتين من باب واحد و صادرتين من منشأ فارد و ليس هذا إلّا قضاءً بالباطل و لا تزر وازرة وزر أُخرى.

الاسماء الثلاث، ص: 86

حصيلة البحث

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:

الاسماء الثلاث، ص: 89

الصنف الأوّل: يحصر الاستعانة في اللَّه فقط و يعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعيّنة (غير اللَّه) و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللَّه.

أقول: اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلّا أنّ فريقاًنجدهم يتمسّكون بالصنف الأوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللَّه، ثم يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الإنسانية و الأسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللَّه بنحو التخصيص، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلّاباللَّه في الموارد التي أذن اللَّه بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية- مع أنّها استعانة بغير اللَّه- جائزة و مشروعة على وجه التخصيص. و لكن هذا ممّا لايرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد و هو: عدم جواز الاستعانة بغير اللَّه مطلقاً، وأنّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللَّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللَّه لا استعانة بغيره.

وبتعبير آخر: إنّ الآيات تريد أن تقول بأنّ المعين و الناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّ معين و ناصر، قدرته و تأثيره، ليس إلّااللَّه سبحانه، و لكنّه- مع ذلك- أقام هذا الكون على سلسلة من الأسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمر باستمداد الفرع

من الأصل، و لذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللَّه، ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

الاسماء الثلاث، ص: 90

«وَ مَا النَّصْرُ إِلّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ» (آل عمران/ 126).

«إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ» (الحمد/ 5).

«وَ مَا النَّصْرُ إِلّامِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ» (الأنفال/ 10).

هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل و إليك فيما يأتي نماذج من النصف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللَّه من العوامل والأسباب.

«وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» (البقرة/ 45).

«وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى » (المائدة/ 2).

«ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُونِي بِقُوَّةٍ» (الكهف/ 95).

«وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» (الأنفال/ 72).

و مفتاح حلّ التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:

إنّ في الكون مؤثراً تاماً، و مستقلًا واحداً، غير معتمد على غيره لا في وجوده و لا في فعله و هو اللَّه سبحانه:

وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة- في وجودها وفعلها- إليه و هي تؤدي ما تؤدي بإذنه و مشيئته و قدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستعانة بها لما، كانت لها أيّة قدرة على شي ء.

فالمعين الحقيقي في كلّ المراحل- على هذا النحو تماماً- هو اللَّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناًمستقلًا.

و لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللَّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللَّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية) و معلوم أنّ

استعانة- كهذه- لا تنافي حصر الاستعانة في اللَّه سبحانه لسببين:

الاسماء الثلاث، ص: 91

أوّلًا: لأنّ الاستعانة المخصوصة باللَّه هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللَّه هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيره، في حين أنّ الاستعانة بغير اللَّه سبحانه على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة- على النحو الأوّل- خاصّة باللَّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّ استعانة- كهذه- غير منفكّة عن الاستعانة باللَّه بل هي عين الاستعانة به تعالى، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه مستند إليه و الكلّ قائم به) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالأرواح إلّاصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«ومن هنا تعلمون: إنّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم ونماء حرثهم و زرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللَّه معرضون». «1»

يلاحظ عليه: بأنّ الاستعانة بغير اللَّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على صورتين:

إحداهما عين التوحيد، و الأُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة باللَّه، و الأُخرى مبعدة عن اللَّه.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية و إنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، و بعبارة أُخرى المقياس، هو الغنى

الاسماء الثلاث، ص: 92

والفقر، و الأصالة وعدم الأصالة.

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللَّه، التي لا تعمل و لاتؤثر إلّابإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللَّه، بل هي خير موجّه إلى اللَّه، ومذكّربه، إذ معناها: انقطاع كلّ الأسباب وانتهاء كلّ العلل إليه.

و مع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللَّه معرضون» و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللَّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّ الأعجب من ذلك رأي شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل- في هذا المجال- نصّ كلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، وأخذ بالحصر في «إِيّاكَ نَسْتَعين» غافلًا عن حقيقة الآية و عن الآيات الأُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة. «1»

إجابة على سؤال

إجابة على سؤال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بيّناه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللَّه و الاستغاثة بهم في الشدائد و المكاره، وهي غير جائزة و ذلك لأنّ نداء غير اللَّه في المصائب و الحوائج تشريك الغير مع اللَّه، يقول سبحانه: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ للَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» (الجن/ 18) و يقول تعالى: «وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» (الأعراف/ 197) و يقول عزّمن قائل: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» (فاطر/ 13).

إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء باللَّه و لاتسيغ دعوة غيره.

الاسماء الثلاث، ص: 93

و قد طرح هذا السؤال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى اللَّه الدعاء عبادة بقوله: «أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي» (غافر/ 60) فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشي ء فقد دعا النبي و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخّها فقد عبد غير اللَّه و صار مشركاً. «1»

الجواب

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل أنّ كلّ دعاء عبادة و النسبة بينهما هي التساوي؟

حتى يصح لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، وكلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة و أنّ قسماً من الدعاء عبادة و قسماًمنه ليس كذلك؟ و الكتاب العزيز يوافق الثاني لا الأوّل، وإليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح: «رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً» (نوح/ 5) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة: «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلّاأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (إبراهيم/ 22) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّ نوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّ ذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والإمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي و المستعين بالغير معتقداً بأُلوهية المستعان ولو أُلوهية صغيرة كان دعاؤه عبادة و لأجل ذلك كان دعاء عبدة الأصنام عبادة لاعتقادهم بأُلوهيتها، قال سبحانه: «فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ»

الاسماء الثلاث، ص: 94

(هود/ 101).

و ما ورد من الآيات في السؤال كلّها من هذا القبيل فانّها وردت في حقّ المشركين القائلين بأُلوهية أصنامهم و أوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة و تفويض الأُمور إليهم و لو في بعض الشؤون. ففي هذا المجال يعود كلّ دعاء عبادة، و يفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:

«إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» (الأعراف/ 194). «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلًا* أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» (الإسراء/ 56- 57). «وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لايَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ» (يونس/ 106). «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» (فاطر/ 14). و ما ورد في الأثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللَّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء و إن كان المدعوّ غير إله لا حقيقة أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الإمام زين العابدين في ضمن دعائه: «... فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين» «1» و هو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ» (غافر 60)

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة و هناك قسم آخر منه لا صلة بينه و بين العبادة و هو فيما إذا دعا شخصاًبما أنّه إنسان وعبد من عباد اللَّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى و إذن منه، فليس مثل

هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الإلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن

الاسماء الثلاث، ص: 95

يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله: «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً» (الكهف/ 95) وها هو الذي كان من شيعة موسى يستغيث به، يقول سبحانه: «فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» (القصص/ 15) و هذا هو النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يدعو قومه للذبّ عن الإسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه: «إِذْتُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ» (آل عمران/ 153) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة و إنّما هو توسل بالأسباب، فإن كان السبب قادراً على إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياًو إلّا يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات و ما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّ طحلب حتى ينجيهم من الغرق و يقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الأحياء و لا صلة لها بدعاء الأموات، فكون القسم الأوّل جائزاً و أنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني و كونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هؤلاء إنّ الحياة و الموت ليسا حدين للتوحيد و الشرك و لا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداًأو لا، و بتعبير آخر ملاكان للجدوائية و عدمها.

فلو كان

الصالح المدعو غير قادر لأجل موته مثلًا تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، و من الغريب أن يكون طلب شي ء من الحيّ نفس التوحيد و من الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد و الشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا

الاسماء الثلاث، ص: 96

الأَلْباب» (ص 29).

ثمّ إنّ الكلام في أنّ دعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللَّه مفيد أو لا، يتطلب مجالًا آخراً و سوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بين الحياتين: المادّية و البرزخيّة بإذن منه سبحانه.

جعفر السبحاني

تحريراً في 27 صفر المظفر 1416 ه

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.