آیات الغدیر: بحث فی خطب حجه الوداع و تفسیر آیات الغدیر

اشارة

عنوان و نام پدیدآور : آیات الغدیر: بحث فی خطب حجه الوداع و تفسیر آیات الغدیر/ قام باعداده مرکز المصطفی للدراسات الاسلامیه ، برعایه السیستانی

مشخصات نشر : قم : مرکز المصطفی للدراسات الاسلامیه ، 1419ق . = 1377.

مشخصات ظاهری : ص 358

شابک : 964-319-151-6 7000ریال ؛ 964-319-151-6 7000ریال

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

یادداشت : کتابنامه : ص . [365] - 374

یادداشت : عربی

موضوع : غدیر خم ، خطبه -- نقد و تفسیر

موضوع : غدیر خم -- جنبه های قرآنی

موضوع : احادیث خاص (غدیر)

شناسه افزوده : حسینی سیستانی ، علی ، 1309 - ، ناظر

شناسه افزوده : مرکز المصطفی للدراسات الاسلامیه

رده بندی کنگره : BP223/5 /آ9

رده بندی دیویی : 297/452

شماره کتابشناسی ملی : م 78-15943

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

توجد ثلاث مسائل في عمل الأنبياء والرسل (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) لم يعطها الباحثون حقها في تدوين سيرتهم ، ودراسة أعمالهم :

المسألة الأولى : أن أصل مهمتهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هو تبليغ الناس رسالة ربهم فقط .. فالمحور الذي تدور عليه أعمالهم هو التبليغ والأداء ، من أجل إقامة الحجة لربهم عز وجل على عباده ..

فالرسول مبلغُ رسالة ومؤديها .. وهو يتقي ربه سبحانه ويخاف من غضبه وعذابه إن هو قصر في الأداء ، أو خالف حرفاً مما كلف بأن يؤديه !

ولذا تراه يُشْهِدُ الناس على أنه أدى اليهم ، ليشهدوا له عند ربه.

والرسول مبلغٌ ، وليس له إجبار الناس على قبول الهدى ، ولا على الإلتزام به .. ولا يمكنه ذلك.

ص: 3

فلا إكراه في الدين الالهي .. وحرية الناس يجب أن تبقى محفوظة ، ليؤمنوا إن شاؤوا أو يكفروا .. ويلتزموا بالدين أو ينحرفوا عنه .. لأن ذلك معنى فتح مدرسة الحياة في هذه الدار ، وامتحان الناس بالهدى والضلال ، وإعطائهم القدرة على فعل الخير أو الشر .. ثم محاسبتهم في مرحلة لاحقةٍ في دارٍ أخرى.

وإجبارهم يتنافى مع أصول الإمتحان ، وما يلزمه من حرية اختيار.

* *

والمسألة الثانية : أن هدف الأنبياء والرسل (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) يتركز على القضايا ( الكبرى ) في حياة الناس ومسار المجتمعات .. فالرسول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مهندسٌ رباني ، ولكنه مهندسُ مدنٍ ومجتمع ، ومسيرة تاريخ.

وأعماله يجب أن ينظر اليها بهذا المنظار ، وأن تقاس بهذا المقياس ، وأن يسأل الباحث نفسه : ماذا كان سيحدث في ثقافة الناس ومسار التاريخ ، لو لم يبعث هذا الرسول ، وماذا حدث بسبب بعثته وأدائه لرسالته ؟

أو يسأل نفسه : كيف كانت حالة العالم الوثنية اليوم ، لو لم يبعث إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويرسي أساس التوحيد ، ويزرع كلياته في مسيرة المجتمع الإنساني ؟!

أو كيف كانت حالة الجزيرة العربية ، والبلاد العربية ، والعالم في عصرنا ، لو لم يبعث نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ولم يحدث هذا المد الأخير من التوحيد والحضارة ؟!

لقد كان عمله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تكوين أمة ، ودفعها لتأخذ موقعها في مصاف أمم العالم ، بل في ريادتها .. بأحسن ما يمكن من مقومات الأمة ، مضموناً وشكلاً ..

كان عمله إنشاء سفينة ، وإطلاقها في بحر شعوب العالم وفي مجرى التاريخ .. وكان حريصاً أن يكون ربانها بعده أهل بيته ، الذين اصطفاهم الله وطهرهم ، وأورثهم الكتاب .. ولكن إن لم تقبل الأمة بقيادتهم ، فليكن الربان من يكون ، حتى يبلغ الله أمره في هذه الأمة ، ثم يبعث فيها المهدي الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 4

والمسألة الثالثة : أن الجانب الذاتي في الرسول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موجودٌ ومؤثرٌ دون شك ، فهو مفكرٌ ، نابغٌ ، مخطط ٌ ، فاعلٌ مختار .. ولكن الذاتية في عمله ضئيلة جداً !

وما يقابل الذاتية هنا ليس الآلية ، فإن إطاعة الرسول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما يوحى اليه إنما هو عن قناعةٍ ، وإيمانٍ ، وتَعَبُّد.

الرسول يجتهد في أمورٍ ، شخصية أو عامة .. ولكن مساحة الأمور التي يسمح لنفسه أن يجتهد فيها ويعمل فيها برأيه ، جزءٌ قليلٌ من مساحة عمله الواسع الكبير !

فمثله كمثل مهندسٍ أرسله رئيسه لتنفيذ مشروع كبير ، وهو مقتنعٌ أن عليه أن يتصل دائماً برئيسه ، ليأخذ منه التعليمات الحكيمة الصحيحة ، حتى لا يقع في أخطاء ضارة .. فهو يعمل ويفكر وينفذ ، ولكنه على اتصالٍ دائم بمركزه ، يأخذ منه مراحل الخارطة ، ويستشيره في رفع إشكالات التنفيذ !

وهذا المثل لمهمة هذا المهندس ، مصغرٌ آلاف المرات عن مهمة الرسول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

أما مركز هداية الرسول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، فلا يقاس أحدٌ بالله سبحانه ، ولا فعل أحدٍ بأفعاله.

* *

وعلى هذا ، يجب علينا في دراسة سيرة نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن ندخل في حسابنا هذه الأمور الثلاثة : أنه مبلغٌ ما أمر به. وأن عمله إنشاء أمة وإطلاقها في مسيرة التاريخ. وأن عمله دائماً بتوجيه ربه ، وليس من عند نفسه ..

والمتأمل في سيرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يلمس هذه الحقيقة لمساً ، وأن الله تعالى كان يدير أمره من أول يومٍ الى آخر يوم ، وكان هو يطيع وينفذ .. مسْلِماً أمره الى ربه ، متوكلاً عليه ، راضياً بقضائه وقدره ..

ولذا جاءت النتائج فوق مايتصور العقل البشري ، وفوق ما يمكن لكل مهندسي المجتمعات ، ومنشئي الأمم ، ومؤسسي الحضارات ..

لقد استطاع الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يحدث مداً عقائدياً حضارياً عالمياً في أقل مدة ،

ص: 5

وأقل كلفةٍ من الخسائر البشرية والمادية .. فرغم شراسة الأعداء والحروب لم تبلغ قتلى الطرفين ألف قتيل !!

وما ذلك إلا بسبب أن إدارة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت من ربه عز وجل ..

لقد كان القرآن يتنزل عليه باستمرار من أول بعثته الى قرب وفاته ، وكان جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يأتيه دائماً ، بآيات قرآنٍ أو وحيٍ غير القرآن ، وأوامر وتوجيهات وأجوبة .. الخ.

وما أكثر الأمثلة في سيرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)على ذلك ، فهي مليئةٌ بالتدخل الالهي والرعاية في كبير أموره وصغيرها .. وهي تدل على أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما كان يتصرف من عند نفسه إلا في تطبيق الخطوط العامة التي أوحيت اليه ، أو تنفيذ الأوامر التفصيلية التي بلغه إياها جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .. وكثيراً ما كان يتوقف عن العمل ، ينتظر الوحي !

وقد ورد أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال : أوتيت الكتاب ومثله معه ، أي ما كان جبريل يأتيه به من السنن - الإيضاح / 215 ، وأن جبريل كان ينزل عليه بالسنة كما ينزل بالقرآن - الدارمي : 1 / 145.

وكانت هذه التوجيهات كانت تشمل أموره الشخصية أيضاً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، من زواجه وطلاقه ، ولباسه وطعامه ، ونومه ويقظته ، ووضوئه وسواكه ، فضلاً عن عطائه ومنعه ، وحبه وبغضه .. كما كانت شاملة لحالات حله وترحاله ، ورضاه وغضبه ..

- روى في الكافي : 4 / 39 ، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قصة شخص كافر جاء يحاج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويكذبه ويؤذيه ويتهدده ، قال : ( فغضب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى التوى عرق الغضب بين عينيه ، وتربد وجهه ، وأطرق الى الأرض ، فأتاه جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال : ربك يقرؤك السلام ويقول لك : هذا رجلٌ سخيٌّ يطعم الطعام. فسكن عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الغضب ورفع رأسه ، وقال له :

لو لا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخيٌّ تطعم الطعام ، لشردت بك ، وجعلتك حديثاً لمن خلفك !

فقال له الرجل : وإن ربك ليحب السخاء ؟

ص: 6

فقال : نعم.

فقال : إني أشهد أن لا اله إلا الله وأنك رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا رددتُ من مالي أحداً. انتهى.

- وروى في الكافي : 1 / 289 ، أن شخصاً سأل الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال :

حدثْني عن ولاية علي ، أمن الله أو من رسوله ؟

فغضب ! ثم قال : ويحك ! كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخوف ( لله ) من أن يقول ما لم يأمره به الله ! بل افترضها الله ، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.

ولا نطيل الكلام بأمثلة ذلك ، فهي موضوع مهمٌّ لرسالة دكتوراه ، بل لعدة رسائل.

* *

والخلافة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) موضوعٌ بسيطٌ وليس معقداً ..

فقد قال أهل البيت وشيعتهم إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نصب علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولياً للمسلمين من بعده ، وأن ذلك كان بأمر ربه عز وجل ، فلا مجال فيه لاختيار قريشٍ أو غير قريش.

وقالت قريش إنه لم ينصب أحداً ، ولم يوص الى أحد ، وأن ( سلطانه ) ترثه كل قبائل قريش الثلاث وعشرين ، لأنه ابن قريش.

لذلك اختارت قريش بعده قرشياً من قبيلة تَيْم هو أبو بكر ، ثم اختار أبو بكر قرشياً من قبيلة عَدِي هو عمر ، ثم اختار عمر بواسطة الشورى قرشياً ثالثاً من بني أمية هو عثمان ..

ولم يختاروا خليفة من الأنصار ، لأنه ليسوا قرشيين فلا حق لهم في سلطان محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ولم يختاروا من بني هاشم ، لأن حقهم في سلطانه ليس أكثر من غيرهم من قبائل قريش ، ولم تخترهم أكثرية قبائل قريش !

إنه موضوع بسيط ، يدور حول وجود النص وعدم وجوده .. ولكنه موضوعٌ شائكٌ لا تحب فتحه قريش ، لأنه يضع نظام خلافتها تحت الإستفهام .. وإذا فتَحْتَهُ

ص: 7

حذرك القرشيون وقالوا لك : إنه صعبٌ معقد ، وأفتوا لك بأن الكلام فيه حرام !

وآيات الغدير ، جزءٌ من مجموع الآيات التي نزلت في علي وأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، وقد ألَّفَ قدماء المفسرين والمحدثين حتى السنيين منهم ، كتباً خاصة في الآيات التي أنزلها الله تعالى في أهل بيت نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وفي الأحاديث التي قالها فيهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي لا ينطق عن الهوى ! نذكر منها كتاب الحافظ أبي نعيم الأصفهاني باسم ( ما نزل في علي من القرآن ) ، وكتاب النسائي صاحب الصحيح باسم ( خصائص أمير المؤمنين علي ) ، وهما كتابان معروفان مطبوعان ..

وأثناء بحثنا لآيات الغدير الثلاث : « بلغ ما أنزل اليك من ربك » و « اليوم أكملت لكم دينكم » و « سأل سائل بعذاب واقع » وجدناها مرتبطةً بخطب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حجة الوداع ارتباطاً وثيقاً ، فكان لا بد أن يشمل موضوعنا بحوثاً في هذه الخطب الست ! وما فيها من تبليغه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الأمة وجوب اتباع الثقلين من بعده : القرآن والعترة ، وبشارته الأمة في خطبة عرفات بأن الله تعالى حل مشكلة الحكم فيها ، واختار لها من بعده اثني عشر إماماً ربانياً ..

كذلك كان من اللازم أن نبحث العلاقة التي كانت قائمة بين النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وزعماء قريش في قضية حكم أهل بيته من بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وقد اخترنا للكتاب اسم ( آيات الغدير ) رغم اشتماله على هذه الموضوعات ، لأنه الإسم الأنسب لها ، وإن زادت عن تفسير آيات الغدير بالمعنى الإصطلاحي.

نرجو أن تكون بحوثاً مفيدة ، وأن ينفعنا الله تعالى بها في آخرتنا ، ويشملنا بسببها في شفاعة النبي وآله الطاهرين (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

علي الكوراني العاملي

في الثالث عشر من رجب المكرم 1419

ص: 8

الفصل الأول : بحوث تمهيدية لتفسير آية العصمة من الناس

خلاصة آيات الغدير الثلاث

أمر الله تعالى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبل حجة الوداع ، أن يدل أمته على حجهم ، كما دلهم على صلاتهم ، وزكاتهم ، وصومهم ، وأن يدلهم على إمامهم من بعده ويعلن عهده الى وصيه من عترته ، وينصبه علماً لأمته .. لأنه تعالى لم يقبض نبياً من أنبيائه (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إلا بعد أن يكمل له دينه ، ويورث الكتاب الالهي لوصيه ، وينصبه علماً لأمته.

ودعا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المسلمين الى الحج معه ، ليعلمهم مناسك حجهم ، ويقيم لهم علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علماً من بعده .. ولكنه كان يخشى أن تعارض ذلك قريش ، لحسدها القديم لبني هاشم ، وأن يطعنوا في نبوته ، ويتهموه بأنه يريد تأسيس ملك لأسرته كملك كسرى وقيصر .. فيؤدي ذلك الى حدوث حركة ردة في الأمة.

وحج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حجة الوداع ، وبلغ الأمة فريضة الحج ، وخطب في مكة وعرفات ومنى خمس خطب .. بين فيها للأمة معالم دينها ، وبشرها بالأئمة الإثني عشر من أهل بيته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، وشدد على أنه لا أمان للمسلمين من الضلال إلا بالتمسك بالثقلين : القرآن والعترة.

ص: 9

كما حذرهم من الأئمة المضلين ، وأصحابه الذين سينقلبون من بعده على أعقابهم ، فيمنعهم الله تعالى من ورود حوضه يوم القيامة.

وبسبب حساسية قريش ، لم يكرس النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولاية العترة الطاهرة بشكل رسمي ولم يأخذ البيعة من المسلمين لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وفي طريق عودته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بقوله تعالى بالآية الأولى « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ... الخ » فأوقف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المسلمين في الجحفة عند غدير خم ، وبلغهم ما أمره به ربه ، وأصعد علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) معه على المنبر ، ورفع بيده معلناً ولايته من بعده ، وأمر أن تنصب له خيمة ، وأن يهنئه المسلمون بالولاية ، فهنؤوه وبايعوه .. فنزلت عند ذلك آية إكمال الدين وإتمام النعمة بولاية العترة الطاهرة ، وهي قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ... الخ. وذلك في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة.

وقبل وصول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى المدينة وبعده ، بدأت تحركات قريش والمنافقين ، ولكن الله تعالى أحبطها ، وعصم رسوله من ارتداد الأمة على نبوته في حياته ، وذلك بوسائل متعددة ، كان منها أن أنزل العقاب على عدد من المعترضين على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وكان أحدهم جابر بن النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، الذي كان أبوه زعيم بني عبد الدار ، وحامل لواء قريش يوم بدر.

قال أبو عبيد الهروي في كتابه غريب القرآن :

لما بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير خم ما بلَّغ ، وشاع ذلك في البلاد ، أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ، فقال :

يا محمد ! أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك. ثم لم ترض بذلك ، حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شيء منك أم من الله ؟!

ص: 10

فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : والله الذي لا إله إلا هو ، إنَّ هذا من الله.

فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ! فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر ، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى : سأل سائلٌ بعذابٍ واقع .. الخ.

ومع أن عدداً من مصادر السنيين توافقنا على تفسير الآيات الثلاث بقصة الغدير وإعلان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولاية علي والعترة الطاهرة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) .. ولكن أكثر مفسريهم ومحدثيهم فسروها بوجوه أخرى ، متعددةٍ ومتضاربة ، كما سترى.

لذلك حررنا بعض البحوث التمهيدية اللازمة لتفسير هذه الآيات الكريمة.

* *

ص: 11

ص: 12

البحث الأول: خلافة النبي صلی الله علیه و آله كانت مطروحة في حياته

اشارة

مضافاً الى منطق الأمور ، توجد أدلةٌ ملموسةٌ تدل على أن الخلافة وولاية الأمر بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت مطروحةً من أول بعثته والى آخر حياته الشريفة ، وأن الكلام كان يجري في من يخلفه بشكل طبيعي .. لا كما تقول مصادر السنيين من أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يوص الى أحد ، وأن المسلمين لم يطرحوا هذا الموضوع معه أبداً ، ولا سألوه عنه حتى مجرد سؤال !!

وهذه الأدلة غير ما ثبت من نصوص النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على إمامة العترة من بعده (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

الدليل الأول : ماورد في سيرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أنه كان يعرض نفسه على القبائل في أول بعثته ، ويطلب منها أن تحميه لكي يبلغ رسالة ربه .. وأن بعض القبائل قبلت عرضه بشرط أن يكون الأمر لها من بعده ، فأجابها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه مجرد رسول والأمر ليس له ، بل هو لله تعالى يجعله لمن يريد !

وأبرز ما وجدنا من ذلك : حديث بني عامر بن صعصعة ، وحديث كندة ، وكلاهما في أول البعثة ، وحديث عامر بن الطفيل ، وهو في أواخر حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ففي سيرة ابن هشام : 2 / 289 :

أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم الى الله عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال

ص: 13

له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟

قال : الأمر الى الله ، يضعه حيث يشاء.

قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ! فأبوا عليه.

فلما صدر الناس ، رجعت بنو عامر الى شيخ لهم ، قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافى معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتىً من قريش ثم أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبي يدعونا الى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به الى بلادنا ، قال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ، ثم قال : يا بني عامر هل لها من تلافٍ ؟! هل لذناباها من مُطَّلب ؟! والذي نفس فلانٍ بيده ما تقوَّلها إسماعيليٌّ قط ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم ! انتهى.

ورواه الطبري في تاريخه : 2 / 84 ، وابن كثير في سيرته : 2 / 158 ، وحكاه في الغدير : 7 / 134 ، عن سيرة ابن هشام : 2 / 32 ، والروض الأنف : 1 / 264 ، وبهجة المحافل لعماد الدين العامري 1 / 128 ، والسيرة الحلبية : 2 / 3 ، وسيرة زيني دحلان : 1 / 302 ، بهامش الحلبية ، وحياة محمد لهيكل / 152.

وأما حديث قبيلة كندة ، فرواه ابن كثير في سيرته : 2 / 159 قال :

قال عبد الله بن الأجلح : وحدثني أبي عن أشياخ قومه ، أن كندة قالت له : إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الملك لله ، يجعله حيث يشاء.

فقالوا : لا حاجة لنا فيما جئتنا به !. انتهى.

وأما حديث عامر بن الطفيل شيخ مشايخ قبائل غطفان ، فرواه ابن كثير أيضاً في سيرته : 4 / 114 ، قال :

ص: 14

عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب ، وعامر بن الطفيل بن مالك ، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتهيا إليه وهو جالس ، فجلسا بين يديه : فقال عامر بن الطفيل :

- يا محمد ، ما تجعل لي إن أسلمت ؟

- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم.

- قال عامر : أتجعل لي الأمر إن أسلمت ، من بعدك ؟

- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس ذلك لك ، ولا لقومك ، ولكن لك أعنة الخيل.

- قال : أنا الآن في أعنة خيل نجد ، إجعل لي الوَبَر ، ولك المَدَر.

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا.

- فلما قفل من عنده ، قال عامر : أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً !

- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يمنعك الله.

- وفي ص 112 ، قال : وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أخيرك بين ثلاث خصال : يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل الوبر ، وأكون خليفتك من بعدك ، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء !

قال فطَعَن ( أصيب بالطاعون ) في بيت امرأة فقال : أغُدَّةٌ كغدة البعير ، وموتٌ في بيت امرأة من بني فلان ! ( وفي رواية في بيت سلولية ) ائتوني بفرسي ، فركب ، فمات على ظهر فرسه !. انتهى.

الدليل الثاني : أن بيعة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للأنصار تضمنت ثلاثة شروط :

الأول : أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم.

الثاني : أن يحموا أهل بيته وذريته مما يحمون منه أهل بيوتهم وذراريهم.

الثالث : أن لا ينازعوا الأمر أهله.

وهذا يعني أن يطيعوا من يختاره الله تعالى للقيادة بعد نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأن مبدأ الإختيار الالهي للأئمة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان مفروغاً عنه من أول الرسالة.

ص: 15

وقد وفت الأنصار بالشرط الأول خير وفاء ، ولكنها حنثت بالشرطين الأخيرين حنثاً سيئاً مع الأسف !

ففي صحيح البخاري : 8 / 122

عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم.

- ورواه مسلم : 6 / 16 والنسائي : 7 / 137 ، بعدة روايات ، وعقد باباً بعنوان ( باب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله )

- ورواه ابن ماجة : 2 / 957 ، وأحمد : 5 / 316 ، وفي ص 415 وقال ( قال سفيان : زاد بعض الناس : ما لم تروا كفراً بواحاً ). ورواه البيهقي في سننه : 8 / 145.

ورووا روايات فيها الزيادة التي ذكرها سفيان ، وزيادة أخرى .. كما في صحيح البخاري : 8 / 88 قال : دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعنا ، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفراً بواحاً ، عندكم من الله فيه برهان. انتهى.

ورواه البيهقي في سننه : 8 / 145

- وروى أحمد في مسنده : 5 / 321 : عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليك السمع والطاعة ، في عسرك ويسرك ، ومنشطك ومكرهك ، وأثرة عليك ، ولا تنازع الأمر أهله ، وإن رأيت أنه لك. انتهى.

وهاتان الزيادتان محل شكٍ ، لأن البيعة كانت قبل الهجرة ، ولم يكن فيها استثناء من الطاعة ، ولم تكن مسألة إثرة القرشيين على الأنصار مطروحة أبداً إلا بعد بيعة أبي بكر ، واعتراض رئيس الأنصار صاحب السقيفة سعد بن عبادة ، وما جرى له .. وهذا يوجب الاطمئنان بأن زيادتي الإستثناء والأثرة نشأتا من جو علاقة الأنصار مع الخلافة القرشية بعد وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ص: 16

ويلاحظ أن الصحاح القرشية أكثرت من رواية شرط النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الأنصار أن لا ينازعوا الأمر أهله ، لأجل أن تحتج عليهم بأنهم لا سهم لهم في الخلافة القرشية .. ولكنها لم تروِ شرط النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الأنصار أن يمنعوا أهل بيته وذريته مما يمنعون منه أهليهم ، لأن ذلك في غير مصلحة الخلافة القرشية ، التي هاجمت بيت فاطمة وعلي (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) ، وأشعلت فيه النار لتحرقه بمن فيه ، إن لم يخرجوا ويبايعوا !

قال في مجمع الزوائد : 6 / 49

عن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة قال : يا أيها الناس ، هل تدرون على ما تبايعون محمداً صلى الله عليه وسلم ؟ إنكم تبايعونه أن تحاربوا العرب والعجم ، والجن والإنس ! فقالوا : نحن حرب لمن حارب ، وسلم لمن سالم.

قالوا : يا رسول الله إشترط.

قال : تبايعوني على أن : تشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، وأن لا تنازعوا الأمر أهله ، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم.

وعن حسين بن علي قال : جاءت الأنصار تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة فقال : يا علي قم فبايعهم ، فقال علي : ما أبايعهم يا رسول الله ؟

قال : على أن يطاع الله ولا يعصى ، وعلى أن تمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وذريته ، مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم. انتهى.

وستأتي روايته من مصادر أخرى في ( مهمة نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في التبليغ ).

الدليل الثالث : حديث الدار المعروف ، الذي ورد في تفسير قوله تعالى « وأنذر عشيرتك الأقربين ».

ولا بد هنا من التنبيه على أمرٍ مهم ، وهو أن مدوني السيرة النبوية الشريفة طمسوا مرحلة دعوة بني هاشم من السيرة ، مع أنها منصوصة فيالقرآن ، واخترعوا بدلها مرحلة ما قبل بيت الأرقم ، وما بعد بيت الأرقم ... ورووا فيها الصحيح وغير

ص: 17

الصحيح ، والمعقول وغير المعقول !

وتدل الآية الكريمة على أن الله تعالى أمر رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المرحلة الأولى أن يدعو بني هاشم فقط .. فماذا فعل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذه المرحلة ؟

وهل استمرت مدتها شهوراً ، أو سنوات ، حتى نزل الأمر بتوسيع نطاق الدعوة ؟

وما معنى الأمر الالهي : أن تكون نبوة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولاً لبني هاشم خاصة ، وبعدها لقريش والعرب والناس عامة ؟

وما معنى أن قريشاً اتخذت قراراً بمحاصرة بني هاشم ، فالتفوا جميعاً حول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، مؤمنهم وكافرهم ، وتحملوا الحصار الشامل الذي استمر من السنة السادسة أو السابعة ، الى السنة الحادية عشرة للبعثة .. ولم يقل أحد منهم آخ !

وما معنى أنه عندما كانت تقع شدائد على المسلمين ، لا ينهض بحملها إلا بنو هاشم ؟! فقد انهزم المسلمون جميعاً في أحد ، ولم يثبت غير بني هاشم !

ثم انهزموا في حنين وهم عشرة آلاف .. فلم يثبت غير بني هاشم !!

إن هذه الحقائق والظواهر تفسر الحديث الذي روته مصادرنا ( بعثت الى أهل بيتي خاصة ، والى الناس عامة ).

كما تدل آية « أنذر عشيرتك الأقربين » على أن إنذار بني هاشم كان مبرمجاً من الله تعالى .. ويدل حديث الدار على أن تعيين وصي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخليفته من بينهم ، كان عملاً مبكراً ، من ضمن ذلك البرنامج ..

فقد قال السيوطي في الدر المنثور : 5 / 97

وأخرج ابن إسحق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي في الدلائل ، من طرقٍ ، عن علي (رضی الله عنه) قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنذر عشيرتك الأقربين ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً ، وعرفت أني مهما أبادؤهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمتُّ عليها حتى جاء

ص: 18

جبريل فقال : يا محمد إنك إن لم تفعل ماتؤمر به يعذبك ربك ، فاصنع لي صاعاً من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واجعل لنا عساً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب ، حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به.

ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا اليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول النبي صلى الله عليه وسلم بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ، ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : كلوا بسم الله ، فأكل القوم حتى نهلوا عنه ، ما ترى إلا آثار أصابعهم !

والله إنْ كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم.

ثم قال : إسق القوم يا علي ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً !

وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله !

فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب الى الكلام ، فقال : لقد سحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما كان الغد قال : يا علي إن هذا الرجل قد سبقني الى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعدْ لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ، ثم اجمعهم لي ، ففعلت ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا ، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال :

يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئنكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يُوَازِرُنِي على أمري هذا ؟

فقلت وأنا أحدثهم سناً : إنه أنا ، فقام القوم يضحكون.

ثم رواها السيوطي بسند آخر عن ابن مردويه عن البراء بن عازب ، قال : لما نزلت

ص: 19

هذه الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبدالمطلب ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ... الخ. انتهى.

ولكن السيوطي بتر الحديث هنا ، ولم يذكر بقية كلام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. وهو أسلوبٌ دأب رواة خلافة قريشٍ على ارتكابه في حديث الدار ، لأن بقية الحديث تقول إن الله أمر رسوله من ذلك اليوم أن يختار وزيره وخليفته من عشيرته الأقربين !

قال الأميني في الغدير : 1 / 207

وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي قال في تاريخه : 2 / 217 من الطبعة الأولى : إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟

قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا. قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

وقال الأميني : 2 / 279

وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي ، المتوفى 240 ، في كتابه نقض العثمانية ، وقال : إنه روي في الخبر الصحيح.

ورواه الفقيه برهان الدين في ( أنباء نجباء الأبناء ) / 46 - 48

وابن الأثير في الكامل 2 / 24

وأبو الفداء عماد الدين الدمشقي في تاريخه 1 / 116

وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 3 / 37 ( وبتر آخره )

وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح.

والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره / 390

ص: 20

والحافظ السيوطي في جمع الجوامع ، كما في ترتيبه 6 / 392

وفي/ 397 ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي.

وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 254. انتهى.

ثم شكا صاحب الغدير من الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، ولكنه أبهم كلام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حق علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال : ثم قال : إن هذا أخي ، وكذا وكذا !!.

وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 40 ، وفي تفسيره : 3 / 351. انتهى.

- وقال في هامش بحار الأنوار : 32 / 272 : وناهيك من ذلك مؤاخاته مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأمر من الله عز وجل في بدء الإسلام حين نزل قوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين ... راجع تاريخ الطبرى : 2 / 321 ، كامل ابن الأثير : 2 / 24 ، تاريخ أبي الفداء : 1 / 116 ، والنهج الحديدي : 3 / 254 ، ومسند الإمام ابن حنبل : 1 / 159 ، وجمع الجوامع ترتيبه : 6 / 408 ، وكنز العمال : 6 / 401.

وهذه المؤاخاة مع أنها كانت بأمر الله عز وجل ، إنما تحققت بصورة البيعة والمعاهدة ( الحلف ) ولم يكن للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يأخذ أخاً ووزيراً وصاحباً وخليفةً غيره ، ولا لعلي أن يقصر في مؤازرته ونصرته والنصح له ولدينه ، كمؤازرة هارون لموسى على ما حكاه الله عز وجل في القرآن الكريم.

ولذلك ترى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حين يؤاخي بعد ذلك المجلس بين المهاجرين بمكة ، فيؤاخي بين كل رجل وشقيقه وشكله : يؤاخي بين عمر وأبي بكر ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين الزبير وعبد الله بن مسعود ، وبين عبيدة بن الحارث وبلال ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة الكلبي ( راجع سيرة ابن هشام : 1 / 504 المحبر / 71 - 70 البلاذرى : 1 / 270 ) يقول لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :

ص: 21

والذى بعثني بالحق نبياً ما أخرتك إلا لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وأنت أخي ووارثي ، وأنت معي في قصري في الجنة.

ثم قال له : وإذا ذاكرك أحد فقل : أنا عبد الله وأخو رسوله ، ولا يدعيها بعدي إلا كاذب مفتر ( الرياض النضرة : 2 / 168 منتخب كنز العمال : 5 / 45 و 46 ).

ولذلك نفسه تراه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حينما عرض نفسه على القبائل فلم يرفعوا اليه رؤوسهم ، ثم عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة قال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس بن عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال لرسول الله : أرأيت إن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟

قال : الأمر الى الله يضعه حيث يشاء.

قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ، لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه ( راجع سيرة ابن هشام : 1 / 424 الروض الأنف : 1 / 264 بهجة المحافل : 1 / 128 ، سيرة زيني دحلان : 1 / 302 السيرة الحلبية : 2 / 3 ). فلولا أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان تعاهد مع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالخلافة والوصاية بأمر من الله عز وجل قبل ذلك ، لما ردهم بهذا الكلام المؤيس ، وهو بحاجة ماسة من نصرة أمثالهم. انتهى.

وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي : 1 / 15

وروينا أيضاً عن علي بن أبي طالب صلى الله عليه أنه قال : لما أنزل الله عز وجل : وأنذر عشيرتك الأقربين ، جمع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بني عبد المطلب على فخذ شاة وقدح من لبن ، وإن فيهم يومئد عشرة ليس منهم رجل إلا أن يأكل الجذعة ويشرب الفرق ، وهم بضع وأربعون رجلاً ، فأكلوا حتى صدروا وشربوا حتى ارتووا ، وفيهم يومئذ أبو لهب ، فقال لهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :

يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها ، إن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له وصياً ووزيراً ووارثاً وأخاً وولياً ، فأيكم يكون وصيي ووارثي ووليي وأخي ووزيري ؟

ص: 22

فسكتوا ، فجعل يعرض ذلك عليهم رجلاً رجلاً ، ليس منهم أحد يقبله ، حتى لم يبق منهم أحد غيري ، وأنا يومئذ من أحدثهم سناً ، فعرض عليَّ فقلت : أنا يا رسول الله. فقال : نعم ، أنت يا علي.

فلما انصرفوا قال لهم أبو لهب : لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم إلا بما رأيتم ، أتاكم بفخذ شاة وقدح من لبن فشبعتم ورويتم ! وجعلوا يهزؤون ويقولون لأبي طالب : قد قدم ابنك اليوم عليك. انتهى.

ولا بد أن تكون حادثة دعوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لبني هاشم قد شاعت في قريش ، ثم في العرب ، فقالوا إن النبي الجديد جمع عشيرته وأنذرهم ودعاهم الى دينه ، وإنه طلب منهم شخصاً يكون له وزيراً وخليفةً من بعده ، فأجابه ابن عمه الشاب الغلام .. فاتخذه وزيراً وخليفة !

* *

فهذه النصوص تدل على أن ولاية الأمر بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت مطروحةً ومنظورةً للناس ، من أول بعثته الى آخر حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. وأن كل الناس كانوا يعرفون أن مشروع النبوة ودعوة الناس اليها ، هو مشروع تكوين دولة يرأسها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وتحتاج الى خليفة له بعده. ولذلك كان ممثلو القبائل يحاولون أن يأخذوا منه وعداً بأن يكون لهم الأمر من بعده ، ومنهم ممثلون لقبائل يمانية وعدنانية ، وزعيم قبائل نجد المتنقلة .. فكيف يصدق عاقلٌ ما زعمه زعماء قريش ، من أنهم لم يطرحوا مسألة الخلافة مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، حتى بصيغة سؤال عن الحكم الشرعي وواجب المسلمين من بعده !!

وكيف يقبل عاقل أنهم يروون عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحاديث عن مستقبل الأمة في كل الأمور ، إلا في أمر الخلافة والإمام الشرعي من بعده ؟!

* *

ص: 23

ص: 24

البحث الثاني: النبي صلی الله علیه و آله يبشر بالأئمة الإثني عشر من بعده

اشارة

في اعتقادنا أن ولاية الأمر بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت أمراً مفروغاً عنه عنده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأن الله تعالى أمره أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده ، كما هي سنته تعالى في أنبيائه ، أن يورث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة ..

ونبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أفضلهم ، ولا نبوة بعده ، بل إمامةٌ ووراثةُ الكتاب ..

وعترته وذريته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أفضل من ذريات جميع الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وقد طهرهم الله تعالى واصطفاهم ، وأورثهم الحكم والكتاب ( ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ... ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ... ).

وقد كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طوال نبوته يبلغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج ، والتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم ، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده ، بل قد لمس (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مراتٍ عديدة عنف قريش ضدهم ، فأجابهم بغضب نبوي !

وكانت حجة الوداع فرصةً مناسبةً للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكي يبلغ الأمة ولاية الأمر لعترته رسمياً على أوسع نطاق ، حيث لم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام ، واتساع الدولة الإسلامية ، والمخاطر المحيطة بها ، وإعلان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قرب رحيله الى ربه .. إلا أن يرتب أمر الحكم من بعده.

ص: 25

بل تدل النصوص ومنطق الأمور ، على أن ذلك كان هو الهم الأكبر للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حجة الوداع ، وأن قريشاً كانت تعرف جيداً ماذا يريد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وتعمل لمنع إعلان ذلك! وأنها زادت من فعاليتها في حجة الوداع لمنع تكريس ولاية علي والعترة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بشكل رسمي ، وأخذ البيعة لهم من الأمة !

ولا يتسع هذا البحث للإستدلال على المفردات التي ذكرناها .. وكل مفردة منها عليها عدة أدلة .. بل نكتفي هنا باستطلاع خطب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حجة الوداع .. فقد ذكرت المصادر أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خطب خمس خطب غير خطبة الغدير ، وكان من حق هذه الخطب النبوية أن تنقلها المصادر كاملةً غير منقوصة ، لأن المستمعين كانوا عشرات الألوف .. ولكنك تراها مجزأةً مقتضبة ، خاصة في الصحاح المعتمدة رسمياً عند الخلافة القرشية. قال في السيرة الحلبية : 3 / 333 :

خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة ، والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر بمنى ، والرابعة يوم القر بمنى ، والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً. انتهى.

وقد راجعنا نصوص هذه الخطب من أكثر من مئة مصدر ، فوجدنا فيها الغرائب والعجائب ، من التعارض والتضارب ، والمؤشرات والأدلة على تدخلات قريش ورواتها في نصوصها !!

وكل ذنب خطب الوداع أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده ، وحذرهم من الإختلاف بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ، وأقام عليهم الحجة ، كاملةً غير منقوصة !

ولكن رغم كل التعتيم القرشي ، فقد وصلنا منها في المصادر القرشية نفسها ، ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه ، وتأكيده على الإلتزام بقيادة عترته الطاهرين من بعده .. صلى الله عليه وعليهم.

ص: 26

ونذكر منها فيما يلي : حديث الأئمة الإثني عشر ، حيث اتفق الجميع على أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طرح قضيتهم في خطبه على المسلمين في حجة الوداع !

ثم نستعرض أهم ما تضمنته الخطب الشريفة من محاور ، ومنها حديث الثقلين : الكتاب والعترة ، وحديث : حوض النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، والصحابة الذين يمنعون من الورود عليه ، ويؤمر بهم الى النار !

روى البخاري في صحيحه : 8 / 127 :

جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش !

وفي صحيح مسلم : 6 / 3 :

جابر بن سمرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يزال الإسلام عزيزاً الى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش !

ثم روى مسلم رواية ثانية نحوها قال فيها ( ثم تكلم بشيء لم أفهمه ).

ثم روى ثالثة ، جاء فيها ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً الى اثني عشر خليفة ، فقال كلمة صَمَّنِيها الناس ! فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ). انتهى.

ولم يصرح البخاري أن هذا الحديث جزءٌ من خطبة حجة الوداع في عرفات ، وقد قلده غيره في ذلك ، ولكن عدداً من المصادر نصت عليه !

ففي مسند أحمد : 5 / 93 و 96 و 99 ( عن جابر بن سمرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات ، فقال ... ) وفي ص 87 ( يقول في حجة الوداع ). وفي ص 99 منه ( وقال المقدمي في حديثه : سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يخطب بمنى ). انتهى.

وستعرف أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كرر هذا الموضوع المهم في عرفات ، وفي منى عند الجمرة ، وفي مسجد الخيف .. ثم أعلنه شرعياً وصريحاً في غدير خم !

* *

ص: 27

فما هي قصة الأئمة الإثني عشر ؟ ولماذا طرحها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أكبر تجمعٍ للمسلمين ، وهو يودع أمته ؟!

يجيبك البخاري : إن هؤلاء ليسوا أئمة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تجب طاعتهم ، بل هم أمراء صالحون سوف يكونون في أمته في زمن ما ، وأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد أخبر أمته بما أخبره الله تعالى من أمرهم ، وأنهم جميعاً من قريش ، لا من بني هاشم وحدهم ، بل من البضع وعشرين قبيلة التي تتكون منها قريش ! وليس فيهم من الأنصار ، ولا من قبائل العرب الأخرى ، ولا من غير العرب .. وهذا كل ما في الأمر !!

وتسأل البخاري : لماذا أخبر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمته في حجة الوداع في عرفات بهؤلاء الإثني عشر ؟ وما هو الأمر العملي الذي يترتب على ذلك ؟!

يجيبك البخاري : بأن الموضوع مجرد إخبار فقط ، فقد أحب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يخبر أمته بذلك ، لكي تأنس به .. فكأنه مجرد خبرٍ صحفي ليس فيه أي عنصرٍ عملي !!

والنتيجة : أن البخاري لم يروِ في صحيحه في الأئمة الإثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المبهمة ، التي لا يمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك ! بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة ، واضحة مفهومة ، تبين كيف احترمها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وعمرتها !

* *

أما مسلم فكان أكرم من البخاري قليلاً ، لأنه اختار روايةً يفهم منها أن هؤلاء الإثني عشر هم خلفاء يحكمون بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ويفرح المسلم بحديث مسلم هذا ، لأنه يعني أن الله تعالى قد حل مشكلة الحكم في الأمة بعد نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فهؤلاء أئمة معينون من الله تعالى على لسان نبيه ، ويستمدون شرعيتهم من هذا التعيين ، ولا يحتاج الأمر الى سقيفة واختلافات ، ثم الى صراعٍ دموي على الحكم من صدر الإسلام الى يومنا هذا .. وملايين الضحايا .. وانقساماتٍ في الأمة أدت الى تراكم ضعفها .. الى أن .. انهارت خلافتها وخلفاؤها !

ص: 28

ولكن رواية مسلم تقول : كلا لم تحل المشكلة ، لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخبر عنهم إخباراً مجملاً ! ولم يخبر المسلمين عن هويتهم وأسمائهم ؟ ولم يسأله أحدٌ من عشرات الألوف الذين أخبرهم بهذا الموضوع الخطير : من هم يا رسول الله ؟!

وياليت أحدهم سأله فحددهم ، حتى تسلم قريش لهم الأمر بلا منازع ؟!

يقول مسلم كما قال البخاري : كلا ، كلا .. إنهم فقط أناسٌ ربانيون ، يعز الله بهم الإسلام .. وهم من قريش .. من قريش !!

* *

وهكذا لا يمكنك أن تصل من البخاري ومسلم الى نتيجة مقنعة في أمر هؤلاء الأئمة الإثني عشر .. فقد أقفل الشيخان عليك الأبواب ، وقالا لك مقولة قريش : إن نبيك تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الإثني عشر فقط ، فشمها واسكت !

ولكنك لا تعدم الكشف عن عناصر مفيدة من مصادر قرشية أخرى ، أقل مراعاة من البخاري ومسلم للسياسة وأهلها ، أو أن ظروف أصحابها أحسن من ظروفهما !

فقد روى أحمد في مسنده : 5 / 92 ، عن نفس الراوي جابر السوائي قال : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون ( بعدي ) ...

وروى في نفس الصفحة عن نفس الراوي جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون بعدي اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش. قال ثم رجع الى منزله ، فأتته قريش فقالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج. انتهى.

ففي الروايتين كلمة ( بعدي ) والمفهوم منها أنهم يكونون بعده مباشرة ، والثانية تكشف عن اهتمام قريش بالموضوع ، وسؤالهم عن هؤلاء الأئمة الربانيين ، وأن القصة في المدينة ، لا في حجة الوداع ، فاحفظ ذلك لما يأتي !

وقد وردت كلمة بعدي ، ومن بعدي ، في عدد من روايات الحديث ، منها ما رواه أحمد أيضاً في : 5 / 94 ، عن نفس الرواي ( يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك ، فسألت القوم .. )

ص: 29

وفي : 5 / 99 و 108 عن السوائي أيضاً ( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، فتكلم فخفي علي ، فسألت الذي يليني أو الى جنبي ، فقال : كلهم من قريش ).

وفي سنن الترمذي : 3 / 340

( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، قال : ثم تكلم بشيءَ لم أفهمه ، فسألت الذي يليني ، فقال قال : كلهم من قريش ).

وفي تاريخ البخاري : 1 / 446 رقم 1426 : عن جابر بن سمرة أيضاً أنه سمع النبي قال : يكون بعدي اثنا عشر خليفة .. انتهى.

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر / 20 قال :

خرَّج أبو القاسم البغوي بسند حسن ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون خلفي اثنا عشر خليفة. انتهى.

* *

إذن ، فقد طرح النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حجة الوداع أمر الحكم من بعده ، وأخبر عن ربه عز وجل بأن حكم الأمة الشرعي يكون لاثني عشر !

ولكن ذلك لا يحل المشكلة ، بقدر ما يفتح باب الأسئلة على قريش ورواتها :

السؤال الأول : لماذا نرى أن روايات هذه القضية الضخمة تكاد تكون محصورة عندهم براوٍ واحد ، هو جابر السوائي ، الذي كان صغيراً في حجة الوداع ، ولعله كان صبياً ابن عشر سنوات ! ألم يسمعها غيره ؟ ألم يروها غيره من كل الصحابة الذين كانوا حاضرين ؟! أم أن غيره رواها ولكن رواية جابر فازت لأنها أحسن رواية ملائمة للخلافة القرشية ، فاعتمدتها ، وسمحت بتدوينها !

السؤال الثاني : كان المسلمون يسألون النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن صغير الأمور وكبيرها ، حتى في أثناء خطبته ، وهذه الروايات تقول إنه أخبرهم بأمر عقائدي ، عملي ، مصيري ، مستقبلي ، وتدعي أنه أبهمه إبهاماً ، ثم لا تذكر أن أحداً من المسلمين سأله عن

ص: 30

هؤلاء الأئمة الربانيين ، وما هو واجب الأمة تجاههم ؟!

وإذا كانت ( قريش ) قد ذهبت الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بيته في المدينة ، كما يقول نفس الراوي ، وطرقت عليه بابه لتسأله عما يكون بعد هؤلاء الإثني عشر ، فهل يعقل أنها لم تسأله عنهم ، وعما يكون في زمانهم !

وهل تعلم أن قريشاً في المدينة تعني عمر وأبا بكر فقط ؟!

وهل يعقل أن أحداً من المسلمين في حجة الوداع ، لم يسأل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عنهم ، ولا عما يكون قبلهم ، وبعدهم ، وعن واجب الأمة تجاههم ؟!

السؤال الثالث : لماذا خفيت على الراوي الكلمة الحساسة ، التي تحدد هوية الأئمة الإثني عشر ، حتى سأل عنها الراوي القريبين منه ؟

ثم رووها عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المدينة أيضاً ، فخفيت نفس الكلمة !

ثم لماذا تؤكد مصادر الخلافة القرشية على نقل الكلمة المفقودة عن سمرة وعن عمر بن الخطاب فقط ؟! ... الى آخر الأسئلة التي ترد على نص هذا الحديث ، وتلحُّ على الباحث بالسؤال.

أليس من حق الباحث أن يشك في الأمر .. وأن يبحث بنفسه عن هذه كلمة السر المفقودة في أسواق الحديث والتاريخ ؟!

سنحاول في الملاحظات والمسائل التالية ، تسليط الضوء على هذا السرالمفقود !!

الأولى : هل أن أصل كلهم من قريش : كلهم من عترتي !

اشارة

ما هو السبب في غياب الكلمة على الراوي ؟ ومن الذي سأله عنها فشهد له بها ؟

- جاء في مسند أحمد : 5 / 100 و 107 أن الراوي لم يفهم الكلمة ، وخفيت عليه قال ( ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش )

- وفي مستدرك الحاكم : 3 / 617 ( وقال كلمة خفيت علي ، وكان أبي أدنى اليه مجلساً مني فقلت ما قال ؟ فقال كلهم من قريش ).

ص: 31

- وفي مسند أحمد : 5 / 90 و98 أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخفاها وخفض بها صوته ، وهمس بها همساً ! ( قال كلمة خفية لم أفهمها ، قال قلت لأبي ما قال ؟ قال قال كلهم من قريش ).

- وفي مستدرك الحاكم : 3 / 618 ( ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال قال يا بني : كلهم من قريش ).

وفي معجم الطبراني الكبير : 2 / 213 - 214 ح 1794

عن جابر بن سمرة عن النبي قال : يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ، لا يضرهم من خذلهم ، ثم همس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بكلمة لم أسمعها ، فقلت لأبي ما الكلمة التي همس بها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبي : كلهم من قريش ).

بينما تقول روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس ، فالناس - المحرمون لربهم في عرفات ، المودعون لنبيهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، المنتظرون لكل كلمة تصدر منه - صاروا كأنهم في سوق حراج ، وصار فيهم مشاغبون يلغطون عند الكلمة الحساسة ليضيعوها على المؤمنين ، فيضجون ، ويكبرون ، ويتكلمون ، ويلغطون ، ويقومون ، ويقعدون !!

- ففي سنن أبي داود : 2 / 309 ( قال فكبر الناس ، وضجوا ، ثم قال كلمة خفية ، قلت لأبي يا أبة ما قال ؟ قال كلهم من قريش ). ومثله في مسند أحمد : 5 / 98.

- وفي مسند أحمد : 5 / 98 ( ثم قال كلمة أصمنيها الناس ، فقلت لأبي ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) وفي رواية مسلم المتقدمة ( صمنيها الناس ).

وفي ص 93 ( وضج الناس ).

وفي ص 99 ( فسمعته يقول : لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً ، حتى يملك اثنا عشر كلهم ... ثم لغط القوم وتكلموا ، فلم أفهم قوله بعد كلهم ، فقلت لأبي يا أبتاه ما بعد كلهم ؟ قال : كلهم من قريش ).

وفي نفس الصفحة ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه الى اثني عشر خليفة. قال فجعل الناس يقومون ويقعدون ... ) !

ص: 32

أما الذين سألهم جابر بن سمرة عن الكلمة ، فتقول أكثر الروايات إنه سأل أباه سمرة ، فتكون الشهادة بتوسيع دائرة الأئمة من هاشم الى قريش ، متوقفةً على وثاقة سمرة أيضاً! كما رأيت في روايتي البخاري ومسلم ، وغيرهما.

ولكن في رواية أحمد : 5 / 92 ( بعدي اثنا عشر أميراً ، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك ، فسألت القوم كلهم فقالوا : قال كلهم من قريش ). ونحوه في ص 90 ، وفي ص 108 ( يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، قال ثم تكلم فخفي على ما قال ، قال فسألت بعض القوم ، أو الذي يلي ، ما قال؟ قال : كلهم من قريش ).

- وفي : 5 / 99 ( فخفي علي فسألت الذي يليني ) ونحوه في : 5 / 108

- وفي معجم الطبراني الكبير : 2 / 277 ح 2044 ، أن ابن سمرة قال إن القوم زعموا زعماً أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال إنهم من قريش ! قال ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، ثم تكلم بشيء لم أسمعه ، فزعم القوم أنه قال : كلهم من قريش ).

والواقع أنه يصعب على الإنسان أن يقبل خفاء أهم كلمة عن الأئمة الذين بشر بهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وفي مثل ذلك الجو الهادئ المنصت في عرفات! ثم لايسأل أحدٌ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الكلمة الخفية التي هي لب الموضوع !

هذا وقد روى ابن سمرة نفسه أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يخطب وهو راكبٌ على ناقته ، وهذا يعني أنه كان حريصاً على أن يوصل صوته الى الجميع !

ففي مسند أحمد : 5 / 87 ( ثم خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال وكان أبي أقرب الى راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني !

بل رووا أنه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمر شخصاً جهوري الصوت ، فكان يلقي خطبته جملةً جملة ، ويأمره أن ( يصرخ ) بها ليسمعها الناس !

ففي مجمع الزوائد : 3 / 270

عن عبد الله بن الزبير قال : كان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو الذي كان يصرخ يوم عرفة تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له رسول الله صلى

ص: 33

الله عليه وسلم : أصرخ - وكان صيِّتاً - أيها الناس أتدرون أي شهر هذا ؟ فصرخ ، فقالوا : نعم الشهر الحرام ، قال فإن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم الى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا.

ثم قال : أصرخ : هل تدرون أي بلد هذا ... الخ.

وعن ابن عباس ... فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ثدي ناقته ، وكان رجلاً صيتاً فقال : أصرخ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا ... الخ. رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. انتهى.

والذي يزيد في الشك أنهم رووا الحديث عن نفس هذا الراوي بعدة صيغٍ غير متشابهة ، ولكن الكلمة المفقودة في الجميع تبقى نفسها لا تتغير ..

بل رووا عنه أنه صدر من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المدينة ، وليس في حجة الوداع في عرفات .. ولكن الكلمة المفقودة تبقى نفسها ، وهي هوية الأئمة الإثني عشر !!

- ففي مسند أحمد : 5 / 97 و 107

عن جابر بن سمرة قال : جئت أنا وأبي الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لابي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش. انتهى.

ثم رووه عنه ، والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يخطب في المسجد النبوي في المدينة ، وهو مسجد صغير محدود ، ولكن الكلمة نفسها بقيت خفية على جابر بن سمرة حتى سأل عنها الخليفة القرشي عمر بن الخطاب فأخبره بها !

- ففي معجم الطبراني الكبير : 2 / 286 ح 2073 عن جابر بن سمرة ( قال سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يخطب على المنبر ويقول : إثنا عشر قيماً من قريش ، لا يضرهم عداوة من عاداهم ، قال فالتفتُّ خلفي ، فإذا أنا بعمر بن الخطاب (رضی الله عنه) وأبي ، في ناس ، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت ). انتهى.

- وقال عنه في مجمع الزوائد : 5 / 191 : رواه البزار عن جابر بن سمرة وحده ، وزاد

ص: 34

فيه : ثم رجع يعني النبي صلى الله عليه وسلم الى بيته ، فأتيته فقلت : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج. ورجاله ثقات. انتهى.

فصار الحديث : اثني عشر قيماً والناس يعادونهم. وصار الذي أثبت له هوية هؤلاء القيمين على الأمة جماعة فيهم عمر وأبوه! فقد تغيرت صيغة الحديث ومكانه والشخص الذي سأله عنه الكلمة المفقودة ، لكنها ما زالت نفسها مفقودة !!

والأعجب من الجميع أنهم رووا الحديث عن راوٍ آخر ، هو أبو جحيفة ، فخفيت عليه نفس الكلمة أيضاً !! ولكنه سأل عنها عمه ، وليس أباه !

- ففي مستدرك الحاكم : 3 / 618

عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : كنت مع عمي عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال : لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة ، ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ماقال يا عم ؟ قال قال يابني : كلهم من قريش. انتهى. وقال عنه في مجمع الزوائد : 5 / 190 : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، والبزار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح. انتهى.

نجد أنفسنا هنا أمام ظاهرة لا مثيل لها في كل أحاديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !!

مما يدل على أن أمر هذا الحديث مهمٌّ جداً ، وأن نصه وظروفه ليست طبيعية .. وأن في الأمر سراً ، يكمن في كلمة قريش !!

ويرى الباحث من حقه أن يحتمل أن الراوي الأصلي للحديث هو عمر ، وهو الذي صححه لهذا الصبي جابر بن سمرة وأثبته له ، وأمره أن يرويه هكذا !

فقد روى هذا الحديث الخزاز القمي الرازي في كتابه كفاية الأثر / 90 ، عن عمر وحده ، بدون ابن سمرة وأبيه ، وبدون أبي جحيفة وعمه ، قال :

حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله قال : حدثنا الحسن بن علي زكريا العدوي ، عن شيث بن غرقده العدوي قال : حدثنا أبو بكر محمد بن العلا قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري ، عن شريك بن عبد الله ، عن المفضل بن حصين ، عن

ص: 35

عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، ثم أخفى صوته فسمعته يقول : كلهم من قريش.

قال أبو المفضل : هذا غريب لا أعرفه إلا عن الحسن بن علي بن زكريا البصري بهذا الإسناد ، وكتبت عنه ببجارا يوم الأربعاء ، وكان يوم العاشور ، وكان من أصحاب الحديث إلا أنه كان ثقة في الحديث. انتهى.

الثانية : لا يصح الوعد الالهي بقيادة مجهولة !

إن الوعد النبوي بالإثني عشر من بعده ، وعدٌ إلهيٌّ من لدن حكيمٍ خبير بأئمة بعد رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، كما هي سنته تعالى في الأمم السابقة ، ورحمةٌ بهذه الأمة لحل أصعب مشكلة تواجهها الأمم بعد أنبيائها على الإطلاق !

فهل تقبل عقولنا أن الله تعالى قد أمر رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن يدل أمته على قادة مجهولين ؟!

نحن نرى أن الله تعالى قد وعد الأمم السابقة على لسان عيسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) برسولٍ يأتي من بعده بأكثر من خمس مئة سنة ، ومع ذلك سماه باسمه فقال ( يأتي من بعدي اسمه أحمد ) (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فكيف يعقل أن يعد خاتمة الأمم على لسان نبيها بقادتها الربانيين ( القيمين على الأمة ) ثم لا يسمي أولهم على الأقل ، ولا يسمي أسرتهم ، بل يكتفي بالقول إنهم من بضع وعشرين قبيلة متنازعة على الأمور الصغيرة التي هي أقل من السلطة ورئاسة الدولة بآلاف المرات ؟!

إن التصديق بذلك يعني نسبة عدم الحكمة الى الله عز وجل ، والى ساحة رسوله الحكيم المنزه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ! وهو أمرٌ لا يجرأ عليه مسلم ، بل حتى مستشرقٌ منصف !!

نعم قد يكون من المصلحة في بعض الإخبارات النبوية أن يبدأ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بإلقائها عامة تثير السؤال ، حتى إذا سأله الناس عنها بيءَنها لهم ، ليكون بيانها بعد سؤالهم أوقع لها في نفوسهم .. ولكن أين أسئلة المسلمين عن هؤلاء الأئمة ، وأجوبة نبيهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

إنك لا تجدها إلا في مصادر أحاديث الشيعة !

ص: 36

الثالثة : من قريش ، لكن من عترة النبي صلی الله علیه و آله

اشارة

لو غضينا النظر عن كل االإشكالات على الحديث ، وقبلنا أنه صدر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بصيغته التي صححوها في مصادرهم .. فهو إذن يقول : إن قادة الأمة الخاتمة اثنا عشر ربانياً قيماً على الأمة ، وإنهم من قريش.

ويأتي هنا السؤال : من أي قريش اختارهم الله تعالى ؟

إن بطون قريش أو قبائلها أكثر من عشرين قبيلة .. وقد ثبت في صحاحهم أن الله تعالى اختار قريشاً من العرب ، واختار هاشماً من قريش .. فهل يعقل بعد أن اختار الله تعالى معدن هاشم على غيره ، أن يختار الأئمة الإثني عشر الوارثين لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) القيمين على أمته ، من معدن أقل فضلاً ودرجةً من بني هاشم ؟!!

- ففي صحيح مسلم : 7 / 58

عن واثلة بن الأسقع : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم. انتهى.

ورواه الترمذي : 5 / 245 ( هذا حديث حسن صحيح غريب ) وقال عنه في ص 243 ( هذا حديث حسن صحيح ) ثم روى عدة أحاديث بمضمونه ، منها :

عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم ، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض ( والكبوة المزبلة ! )

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ، وخير الفريقين ، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة ، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً ، وخيرهم بيتاً. هذا حديث حسن. وروى بعده نحوه بسند آخر ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب. انتهى.

- وفي صحيح البخاري : 4 / 138

باب قول الله تعالى : واذ كر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. وإذ

ص: 37

قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة. إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ، الى قوله يرزق من يشاء بغير حساب. قال ابن عباس : وآل عمران : المؤمنون من آل ابراهيم ، وآل عمران ، وآل ياسين ، وآل محمد ، صلى الله عليه وسلم.

- وفي نهج البلاغة : 1 / 82 : والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حِيزِنا ، فكانوا كما قال الأول :

أدَمْتَ لعمري شُرْبَكَ المحضَ صابحاً * وأكلكَ بالزُّبد المقشَّرةَ البُجْرا

ونحن وهبناك العلاء ولم تكن * علياً ، وحُطْنَا حولك الجرد والسمرا

وفي صحيح البخاري : 5 / 6

عن قيس بن عبادة عن علي بن أبي طالب (رضی الله عنه) أنه قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة !! انتهى.

ويطول لكلام لو أردنا أن نستعرض ما ورد من القرآن والسنة في اختيار الله تعالى لبني هاشم ، واصطفائهم ، وتفضيلهم ، وحقهم على الأمة. وكل ذلك بسبب أن عترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منهم ، لأنهم جوهرة معدن هاشم ، بل جدهم وهم جوهرة كل بني آدم.

الرابعة : أحاديث النبي صلی الله علیه و آله تفسر حديث الإثني عشر

من المتفق عليه بين المسلمين أن كلامه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً. بل ذلك أصلٌ عقلائي عند كل الأمم في تفسير نصوص أنبيائها ، فإن أيءَ أمةٍ تجد نصاً عن نبيها بالبشارة باثني عشر إماماً من بعده ، ولا تعرفهم من هم ، تنظر في نصوصه وأقواله وأفعاله ، لكي تعرف بواسطتها هؤلاء القادة المبشر بهم على لسانه !

وإذا نظرنا الى ما صدر عن نبينا الذي لا ينطق عن الهوى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حق عترته : علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، مما اتفق عليه المسلمون ، وحكموا بصحته .. لا يبقى عندنا شك في أنه يقصد هؤلاء الذين مدحهم هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مناسبات

ص: 38

عديدة ، وبين للأمة أن الله تعالى مدحهم في آياته ، وطهرهم من الرجس تطهيراً ، وأوجب على المسلمين مودتهم ، وأن يصلوا عليهم معه في صلواتهم ، وحرم عليهم الصدقة ، وجعل لهم الخمس في ميزانية الدولة ، وجعلهم وصيته في أمته ، وسماهم مع كتاب الله الثقلين ....

ولا يتسع المقام لبسط الكلام فيه ، بل تكفي الإشارة الى ما هو إن المتفق عليه بين المسلمين مما صدر في حقهم من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من المديح والتعظيم ، والتحذيرهم من مخالفتهم وظلمهم .. فيه عبرةٌ لمن كان له قلب ، وكفايةٌ لمن ألقى السمع ، وشهادةٌ لمن أراد الحجة من الله تعالى ، والشهادة من رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

الخامسة : اثنا عشر إماماً واثنا عشر شهراً

ذكرت روايات الخطب الشريفة في حجة الوداع ، أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ذكر الأئمة الإثني عشر ، وذكر استدارة الزمن كأول ما خلق الله الأرض ، وقرأ آية : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً .. ففي صحيح البخاري : 5 / 126 :

عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. انتهى. ورواه أيضاً في : 5 / 204 ، و : 6 / 235 ، وكذا أبو داود في : 1 / 435 ، وأحمد في : 5 / 37

- ورواه في مجمع الزوائد : 3 / 265 ، بصيغة أقرب الى أسلوب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من رواية البخاري ، جاء فيها ( ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، ثم قرأ : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ... ) انتهى.

وقد ذكر المفسرون والشراح السنيون أن قصده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلغاء النسيء الذي ابتدعته العرب للأشهر الحرم ، وأن وضع التوقيت والزمن قد رجع الى هيئته الأولى ، فلا نسيء

ص: 39

بعد اليوم .. ولكنه تفسير غير مقنع ، فإن نسيء العرب لم يكن مؤثراً في الزمن والفلك ، حتى يرجع الزمن الى حالته الأولى بإلغاء النسيء !

كما أني لم أجد دليلاً على ارتباط استدارة الزمان بالنسيء في كلامه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا يبعد أن تكون استدارة الزمان موضوعاً مستقلاً عن النسيء.

وبما أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مقام توديع أمته ، وبيان مرحلة مابعده من الهدى والضلال ، والعقائد والأحكام ، وطريق الجنة والنار .. فقد يقصد بإخباره باستدارة الزمن : أن مرحلةً جديدة بدأت من ذلك اليوم فما بعده ، من قوانين الهداية والإضلال الالهي ، ومعالم ذلك هم الأئمة الإثنا عشر (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، الذين ينسجم وجودهم مع نظام الإثني عشر شهراً في تكوين السماوات والأرض.

ويؤيد ذلك : قداسة عدد الإثني عشر في القرآن ، وأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طلب من الأنصار في أول بيعتهم له أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً ..

وأنه بشر الأمة بالأئمة الإثني عشر من بعده ..

ويؤيده : أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخبر الأمة بوجود أئمة مضلين من بعده ، وشدد على التحذير منهم ، وبين أن أخطرهم الإثنا عشر منافقاً من أصحابه !

فمقابل كل إمام هدىً إمامُ ضلالٍ ، كما أن مقابل كل نبيٍّ عدوٌّ من المجرمين ، يعمل لإضلال الناس ! قال الله تعالى :

ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا.

يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا.

لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا.

وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيرا. الفرقان 27 - 31

- وفي صحيح مسلم : 8 / 122 - 123 :

قال النبي صلى الله عليه وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا

ص: 40

يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ثمانيةٌ منهم تكفيكهم الدبيلة ، وأربعةٌ لم أحفظ ما قال شعبة فيهم !

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن في أمتي - قال شعبة : وأحسبه قال حدثني حذيفة ، وقال غندر : أراه قال في أمتي - اثنا عشر منافقاً ، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ثمانيةٌ منهم تكفيكهم الدبيلة ، سراجٌ من النار يظهر في أكتافهم ، حتى ينجم من صدورهم.

حدثنا أبو الطفيل قال : كان بين رجلٍ من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟!

قال فقال له القوم : أخبره إذ سألك.

قال : كنا نُخْبَرُ أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. انتهى. ورواه أحمد في : 4 / 320 ، وغيرها ، ورواه كثيرون.

والنتيجة : أنه لا يبعد أن يكون قصد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يخبر المسلمين بأن الله تعالى أقام الحياة البشرية من يوم خلق السماوات والأرض ، وخلق الجنس البشري ، على قانون الهداية والضلال بإتمام الحجة ، وإمهال الناس ليعملوا بالهدى أو بالضلال .. فكان لا بد من وجود عنصري الهدى وعناصر الضلال معاً ، كعنصري السلب والإيجاب في الطاقة ، فألهم النفس البشرية فجورها وتقواها ، وأنزل آدم الى الأرض ومعه إبليس ، وبعث الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومع كل نبي عدو مضلٌّ أو أكثر ، وجعل بعدهم أئمة ربانيين يهدون ، وأئمة ضلال منافقين يضلون .. وعدد كل منهم في هذه الأمة اثنا عشر .. وأنه قد بدأت بهم دورةٌ جديدةٌ من الهدى والضلال ، كما بدأت بآدم وإبليس .. ولذلك استدار الزمن كهيئته في أوله بانتهاء الفترة ، ووضوح الحجة.

ويؤيد ذلك ما ورد من طريق أهل البيت (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تفسير آية « إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ».

ص: 41

السادسة : راوي الحديث جابر السوائي

روت مصادر السنيين حديث الأئمة الإثني عشر عن عدة رواة ، وهم عبد الله بن مسعود ، وأبو جحيفة ، وجابر بن سمرة السوائي ، وهذا الأخير أهمهم ، لأن الصحاح اعتمدت روايته ، كما تقدم.

وهو جابر بن سمرة بن جنادة. وقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب : 2 / 35 ( يقالين ) في نسبه ، فقال ( يقال : ابن عمرو بن جندب بن حجير ابن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة السوائي. ويقال : من قبيلة عامر بن صعصعة ).

ويؤيد هذا الشك أن الذهبي قال في ترجمته : 3 / 187 ( وهو وأبوه من حلفاء زهرة ) ولو كان من بني عامر بن صعصعة ، لم يحتج أن يكون حليفاً !

وسمرة هذا من الطلقاء ، فقد قال في تهذيب التهذيب : 4 / 206 ( وقرأت : بخط الذهبي إنما مات في ولاية عبد الملك ابنه جابر ، وأما سمرة فقديم. وذكر ابن سعد أنه أسلم عند الفتح ، ولم أقف على من أرخ وفاته غير من تقدم ). انتهى.

لكن البخاري قال في التاريخ الكبير : 4 / 177 : إن لسمرة هذا صحبة. انتهى.

أما جابر ابنه فهو فرخُ طليقٍ ، فقد كان صغيراً عند فتح مكة ، لأنه توفي سنة 76 ، ولأنه يروي أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مسح على خد الصبيان المصلين وكان منهم ( سير أعلام النبلاء : 3 / 187 ).

ولعل أباه سمرة توفي في حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو بعده بقليل ، فعاش جابر في كنف خاله سعد بن أبي وقاص في المدينة ، وقد روي أنه اشترك في فتح المدائن ، ولعله كان شاباً حينذاك ، ثم سكن الكوفة وابتنى بها داراً ( أسد الغابة : 1 / 254 ).

وعلى هذا فيكون جابر في حجة الوداع صبياً صغيراً أو مراهقاً ، ويكون الراوي الوحيد المعتمد في الصحاح لحديث أئمة هذه الأمة بعد نبيها .. هذا الصبي الطليق من حلفاء قريش !

ص: 42

فاعجب لشيوخ الأمة ، وكبار الصحابة ، حيث لم يكن عندهم ذكاء هذا الصبي الطليق ، واهتمامه بمستقبل الأمة ، وأئمتها الربانيين !

أو فاعجب للخلافة القرشية كيف سيطرت على مصادر الحديث النبوي عند السنيين ، فلم تسمح بتدوين حديثٍ في الأئمة الإثني عشر ، الذين بشر بهم نبي الأمة (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)إلا حديث هذا الصبي !!

السابعة : درجات الصحة التي أعطوها للأحاديث الثلاثة

في مصادر السنيين ثلاث صيغ لحديث الأئمة الإثني عشر ، وثلاثة رواة :

وقد اتفقوا على تصحيح حديث جابر بن سمرة ، وعلى تحسين حديث أبي جحيفة المشابه له ، وبعضهم صححه. واختلفوا في تصحيح حديث ابن مسعود الذي يختلف عنهما ، بحجة أن في سنده مجالد بن سعيد ، الذي لم يوثقه إلا النسائي وبعض علماء الجرح والتعديل ، وضعفه آخرون.

ولا بد أن نضيف الى رواة الحديث راويين آخرين هما : سمرة السوائي والد جابر وعمر بن الخطاب ، لأن الروايات تقول إنه سألهما عن الكلمة الخفية فأخبراه بها.

بل لا بد أن نعد عمر بن الخطاب راوياً مستقلاً ، كما تقدم في رواية كفاية الأثر ..

واليك جانباً من كلماتهم في حديث ابن مسعود :

- قال في مجمع الزوائد : 5 / 190 : باب الخلفاء الإثني عشر : عن مسروق قال : كنا جلوساً عند عبد الله وهو يقرئنا القرآن فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد مذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل. رواه أحمد وأبو يعلى والبزار ، وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله ثقات. انتهى.

- وقال الحاكم : 4 / 501 ، بعد رواية هذا الحديث : لا يسعني التسامح في هذا الكتاب عن الرواية عن مجالد وأقرانه ، رحمهم الله. انتهى.

ص: 43

- ولكن ابن حجر حسنه فقال في الصواعق المحرقة / 20 ح 3 فقال : وعن ابن مسعود بسند حسن.

وكذا السيوطي في تاريخ الخلفاء / 10 حيث قال ( وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود ).

وكذا البوصيري كما نقل عنه في كنز العمال : 6 / 89 ( رواه مسدد وابن راهويه وابن ابي شيبة وأبو يعلى وأحمد بسند حسن ).

وقد روت مصادرهم حديث ابن مسعود مثل أحمد : 1 / 398 و 406 ، وكنز العمال 6 / 89 ، عن طبقات ابن سعد وابن عساكر ، وفي 12 / 32 ، عن أحمد ، والطبراني ، وابن حماد .. وغيرهم.

وإذا كانت علة رواية ابن مسعود عندهم وجود مجالد ، فقد روته مصادرنا بسند ليس فيه مجالد ، كما في كتاب الإختصاص للصدوق / 233 ، وكفاية الأثر للخزاز / 73 ، والغيبة للنعماني / 106 ، وسيأتي بعض ذلك.

ولكن ذلك لا يشفع للحديث عند إخواننا السنيين ولا يجعله يستحق أكثر من لقب ( حسن ) ! بل يبدو أن هذه الدرجة من الصحة ثقيلة عليهم ، لأن مشكلة هذا الحديث الأصلية عندهم أنه لم يذكر عبارة ( كلهم من قريش ) وأنه يفهم منه أن هؤلاء الأئمة الربانيين يجب أن يكونوا حكام الأمة بعد نبيها ، ويضع علامة استفهام كبيرة على ما تم في السقيفة في غياب بني هاشم ، وانشغالهم بجنازة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !!

الثامنة : تضارب متون الأحاديث الثلاثة

روت مصادر السنيين حديث جابر بن سمرة بصيغتين ، وجاء حديث أبي جحيفة بإحداهما ، وانفرد حديث ابن مسعود بصيغته .. فتكون الصيغ ثلاثاً :

الأولى : مفادها أن هؤلاء الموعودين يكونون بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأنهم من قريش. وهذا مضمون أكثر روايات ابن سمرة. وقد عرفت أن أنهم صححوا هذه الصيغة ، وقد صححها الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1075.

ص: 44

الثانية : أنهم يحكمون بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنهم من قريش ، وأن الإسلام لا يزال عزيزاً مدة حكمهم ، ثم يضعف ويذل ، أو ينهار. وهي صيغة عدد من روايات جابر بن سمرة ، وكل روايات أبي جحيفة أيضاً. وقد صححها كثير من علمائهم ، ومنهم الألباني في سلسلته أيضاً برقم 376 ، عن ابن سمرة ، وحسن رواية أبي جحيفة ، وجعل رواية ابن مسعود شاهداً على صحتهما ، ورد زيادة أبي داود وغيره التي تصف هؤلاء الأئمة بأن الأمة تجتمع عليهم ، ووصف هذه الزيادة بأنها منكرة.

الثالثة : أنهم يكونون بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كأوصياء موسى وعيسى (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بدون ذكر قريش. وهي صيغة أكثر روايات حديث ابن مسعود.

وأهم ملاحظة على هذه الأحاديث وصيغها : تفاوتها واضطرابها ، وهو أمر غير مقبول في حديث من هذا النوع .. فإنا لو وجدنا نصاً شبيهاً به يروونه عن شيخ قبيلة صغيرة ، قاله لقبيلته وهو يودعها قبل موته ، ويخبرها بفراسته عن شيوخها الذين سيحكمونها من بعده .. لقلنا بوقوع تحريفٍ في كلامه !

فكيف نقبل بذلك لسيد الأنبياء (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسيد البلغاء ، وهو يودع خاتمة الأمم ، ويخبرها عن ربه بأئمتها من بعده ، وعلى أوسع ملأٍ من جماهيرها !!

وتتوجه التهمة بالدرجة الأولى الى احتمال تحريف هوية هؤلاء الأئمة ، والمتهم به هو السلطة التي حكمت بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنها هي المستفيدة من ذلك ، وهي التي أبعدت أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الحكم ، بل بادرت الى بيعة السقيفة بدون أن تخبرهم ، مغتنمةً انشغالهم بجنازة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !!

ويتأكد الشك عندما نجد أن التفاوت والتعارض ، قد تركز على صفة هؤلاء الأئمة الموعودين ، ومقامهم الالهي ، وهويتهم ، ونسبهم ، ووقتهم ، ومدتهم !

وهو تعارض ليس قليلاً قابلاً للحل ، لأنه موجودٌ حتى في الصيغ والألفاظ المنقولة عن الراوي الواحد !

ص: 45

وهو أمرٌ يوجب تضعيف الثقة بصيغ الحديث في مصادر السنة ، ويقوي الثقة بصيغه المتوافقة ، المجمع على مضمونها ، الواردة في مصادرنا ، والتي تقول إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال إنهم عليٌّ والحسن والحسين ، وتسعةٌ من ذرية الحسين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ).

التاسعة : الأئمة الإثنا عشر لا يحتاجون الى اختيار ولا بيعة

وهو أمرٌ واضح ، فما دام الله تعالى قد اختارهم ، فواجب الأمة أن تطيعهم « وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم » فهم يستمدون شرعيتهم من رب الأمة ، ورب الناس ومالكهم ، وهو الحكيم الخبير بما يصلح عباده .. واختياره للناس أفضل من اختيارهم لأنفسهم ، وألزم.

فالأئمة الإثنا عشر من هذه الناحية مفروض الطاعة من الله تعالى شبيهاً بالأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، والنبي لا يكون بالإنتخاب ، ولا يحتاج الى أن يبايعه الناس .. بل لو لم يبايعه أحد من الناس ، وآذوه وقتلوه .. فإن ذلك لا ينقص من وجوب طاعته شيئاً !

ولو بايعه كل الناس لكان معناه اعترافهم بحق الطاعة الذي جعله الله له ، وإعلان التزامهم به ، لا أكثر.

فبيعة الناس للأنبياء وأوصيائهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إنما هي بيعة اعترافٍ والتزامٍ بحقهم في الإطاعة ، وهي تؤكد هذا الحق ، ولا تنشئه.

وهذا هو السبب في أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يأخذ البيعة على المسلمين في المنعطفات الهامة في حياة الأمة ، ليؤكد بذلك عليهم الإلتزام بإطاعته في السراء والضراء ، والحرب والسلم ، وفيما أحبوه أو كرهوه !

وهذا هو السبب نفسه في أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد أن بلَّغ الأمة ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غدير خم ، أمر بأن تنصب له خيمة وأن يهنئه المسلمون بولايته التي أمر الله تعالى بها .. أن يهنئوه تهنئةً ، ثم يبايعوه ..

ص: 46

فالإختيار الالهي قد تمَّ ، وهو يحتاج الى قبولٍ وتهنئةٍ ، ولا يحتاج الى مشورتهم ولا الى بيعتهم ، لكن لو طلبها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منهم وجبت عليهم .. ولو طلبها عليٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) منهم ، وجبت عليهم أيضاً.

ولهذا لا تنفع مناقشة المناقشين بأن ما طلبه النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من المسلمين في الغدير كان مجرد التهنئة لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالولاية ، ولم يكن البيعة .. لأن صدور الأمر الالهي بولايته يُفْرِغ البيعة البشرية من القوة الإنشائية ، ويحصر قيمتها في الإعتراف والإلتزام بالأمر الالهي ، كلما طلبها منهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو الولي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

والقاعدة الكلية في هذا الموضوع : أن الأمة إنما تملك الولاية على نفسها واختيار حكامها - في حدود ماثبت في الشريعة المقدسة - في حالة عدم اختيار الله تعالى لأحد .. أما إذا اختار عز وجل إماماً فقد قضي الأمر ، ولم يبق معنىً لاختيار الأمة لحاكم آخر ، إلا أنها تتفلسف في مقابل ربها عز وجل ، وتخالف اختيار مالكها الحكيم سبحانه ..

العاشرة : قرشية الحديث ألقاها عمر في البحر

اشارة

ومما ينبغي تسجيله هنا : أن الذي رفع راية ( أن الخليفة من قريش والخلافة لا تكون إلا في قريش ) هو الخليفة عمر بن الخطاب ، فقد احتج على الأنصار في السقيفة بأن قريشاً قوم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقبيلته فهم أحق بسلطانه ! وكان هدفه من ذلك تسكيت الأنصار ، الذين يعيش القرشيون في بلدهم وضيافتهم ، حتى لا يقولوا نحن نصرناه ونحن أولى بخلافته !!

وقد نجح عمر بهذا المنطق القبلي في السقيفة ، بسبب تفرق كلمة الأنصار ، رغم مخالفة رئيسهم سعد بن عبادة مخالفةً عنيفة.

ولكن عمر نفسه عند وفاته تخلى عن مبدأ قرشية الخليفة ، وألقى به في البحر ، وأكد أنه لو كان سالم الفارسي مولى أبي حذيفة الأموي حياً ، لعهد اليه بالخلافة !!

ص: 47

- ففي تاريخ المدينة : 3 / 140 :

عن عبد الله بن بريدة : لما طعن عمر (رضی الله عنه) قيل له : لو استخلفت ؟ قال : لو شهدني أحد رجلين استخلفته - أني قد اجتهدت ولم آثم - أو وضعتها موضعها : أبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة !!

- وفي مجمع الزوائد : 4 / 220

عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب كان مستنداً الى ابن عباس وعنده ابن عمر وسعيد بن زيد فقال : إعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئاً ، ولم أستخلف من بعدي أحداً ، وأنه من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من مال الله عز وجل.

فقال سعيد بن زيد : أما إنك لو أشرت برجل من المسلمين لائتمنك الناس ، وقد فعل ذلك أبو بكر ، وائتمنه الناس.

فقال عمر : قد رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً ، وإني جاعلٌ هذا الأمر الى هؤلاء النفر الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

ثم قال : لو أدركني أحد رجلين ، ثم جعلت هذا الأمر اليه لوثقت : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبو عبيدة بن الجراح. انتهى.

وبذلك فتح عمر الباب لأبي حنيفة وغيره ، لكي يلغوا هذا الشرط من الخلافة الإسلامية ، وقد استفاد من فتواه السلاجقة والمماليك ، ثم تبنى العثمانيون مذهب أبي حنيفة ، ونشروا فقهه بسبب فتواه هذه ، وتسموا خلفاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

موقف الوهابيين من شرط القرشية في الحاكم

نشترط نحن الشيعة الإمامية في الأئمة أن يكونوا من قريش من عترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بسبب ثبوت النص عليهم بأسمائهم وعددهم ، فالإمامة عندنا لا تثبت إلا بالنص فقط ، والنص إنما هو على هؤلاء الإثني عشر (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

وبما أن خاتمهم الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) غائب ، فالحكم في الأمة في عصرنا يكون

ص: 48

بالوكالة عنه ، والوكيل لا بد أن تتوفر فيه شروط الفقاهة والعدالة وغيرها .. ولا نشترط فيه أن يكون قرشياً .. وبذلك نلتقي عملياً لا نظرياً مع الذين يسقطون شرط القرشية في الحاكم العادل.

أما إخواننا الشيعة الزيديون ، فالإمامة عندهم غير محصورة بالائمة الإثني عشر (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بل هي مفتوحةٌ لكل عالم من ذرية علي وفاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) ، فهم يشترطون في الإمام الشرعي أن يكون قرشياً علوياً.

وأما المسلمون السنيون ، فمنهم من يوافقنا على إسقاط شرط القرشية في عصرنا ، عملاً بقول الخليفة عمر ، وفتوى أبي حنيفة ..

ومنهم غير عربٍ ولكنهم متعصبون لقريش أكثر من عمر ، وملكيون أكثر من الملك .. ومن هؤلاء أئمة الوهابية ، مثل الألباني ، حيث صحح حديث اشتراط القرشية في الإمام في سلسلة أحاديثه الصحيحة برقم 1552 ، وقال في آخره 4 / 70 :

ولذلك فعلى المسلمين إذا كانو صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية ، أن يتوبوا الى ربهم ويرجعوا الى دينهم ، ويتبعوا أحكام شريعتهم ، ومن ذلك أن الخلافة في قريش ، بالشروط المعروفة في كتب الحديث والفقه.

أما في : 3 / 7 ، فقد صحح حديث الخلافة في قريش برقم 1006 ، وقال في آخره : قلت : وفي هذه الأحاديث الصحيحة ردٌّ صريحٌ على بعض الفرق الضالة قديماً ، وبعض المؤلفين والأحزاب الإسلامية حديثاً ، الذين لا يشترطون في الخليفة أن يكون عربياً قرشياً.

وأعجب من ذلك أن يؤلف أحد المشايخ المدعين للسلفية رسالة في ( الدولة الإسلامية ) ذكر في أولها الشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة ، إلا هذا الشرط ، متجاهلاً كل هذه الأحاديث وغيرها مما في معناها ، ولمَّا ذكرته بذلك تبسم صارفاً النظر عن البحث في الموضوع. ولا أدري أكان ذلك لأنه لا يرى هذا الشرط كالذين أشرنا إليهم آنفاً ، أم أنه كان غير مستعد للبحث من الناحية العلمية.

ص: 49

وسواءً كان هذا أو ذاك ، فالواجب على كل مؤلف أن يتجرد للحق في كل ما يكتب ، وأن لا يتأثر فيه باتجاه حزبي أو تيار سياسي ، ولا يلتزم في ذلك موافقة الجمهور أو مخالفتهم. انتهى.

والطريف أن الألباني صحح حديثاً آخر برقم 1851 يقول :

( الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة في الحبشة ) وعلى فتواه يجب أن يكون الحاكم في عصرنا من قريش من أيِّ قبائلها كان ، وأن يكون الوزراء من الأنصار .. وأن يكون وزير الإرشاد والأوقاف والمفتي وكل من عمله الإعلام والدعوة من الأفارقة ، والأحوط أن يكون من أثيوبيا !!

ذلك أن الوجوب الذي استفاده من الحديث وأفتى به بوجوب القرشية في الحاكم ، تتساوى فيه الخلافة ، والوزارة ، والدعوة !!

لقد فات هذا الشيخ أن فقه الحديث أهم من سنده ، وأنه متقدمٌ عليه رتبةً ، وأن مثل هذا الحديث بعيدٌ عن منطق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ولو صح فهو يحكي عن ظرفٍ معين ، وليس تشريعاً الى يوم القيامة !

الحادية عشرة : تخبط الشراح في تفسير الأئمة الإثني عشر

اشارة

إذا أردنا أن نكون أمناء مع النص النبوي ، يلزم أن نقول : إن كلمة ( من بعدي ) في الحديث الشريف تدل على أن إمامة هؤلاء الإثني عشر تبدأ بعد وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مباشرة ، ولا تدل على أنهم سيحكمون من بعده ، لأنها إخبارٌ عن وجودهم فقط ، سواءً كانوا حكاماً أو محكومين. بل تدل صيغ الحديث المتقدمة عن ابن سمرة وابن مسعود ، على أن الأمة تخذل هؤلاء الأئمة الإثني عشر وتعاديهم ، وذلك يشمل إبعادهم عن الحكم ، ولكنه ذلك لا يضرهم شيئاً.

وقد تقدم في رواية تفسير الطبري ( يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ، لا يضرهم من خذلهم ... إثنا عشر قيماً من قريش لا يضرهم عداوة من عاداهم )

ص: 50

وبذلك لا تجد مانعاً من انطباق الحديث على الأئمة الإثني عشر من عترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى لو لم يحكموا ، أو لم يحكم منهم إلا علي والحسن 8 ، وسيحكم منهم المهدي الموعود من الله تعالى على لسان رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

كما أن الأحاديث التي تذكر مايكون بعدهم تدل على أن مدتهم طويلة ، فبعضها ذكر أنه يكون بعدهم الهرج والفوضى والنفاق ، وأشار الى انهيار الأمة .. وبعضها ذكر أن زمنهم يمتد ما دامت الأرض ، وأن مدتهم إذا تمت ساخت الأرض بأهلها .. وهذا يؤيد نظرية امتداد عصر هؤلاء الأئمة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الى آخر الدنيا ، كما نصت أحاديثنا.

- قال أبوالصلاح الحلبي المتوفى سنة 437 في كتابه تقريب المعارف / 173 :

ورووا عن عبد الله بن أبي أمية مولى مجاشع ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) : لا يزال هذا الدين قائماً الى اثني عشر من قريش ، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها. انتهى. ونحوه في إعلام الورى / 364 ، وهو موافق لما في مصادرنا عن أهمية وجود الحجة لله تعالى في أرضه في كل عصر ..

- ففي الكافي : 1 / 179 و 534

عن أبي حمزة قال : قلت لأبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : أتبقى الأرض بغير إمام ؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت.

عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إني واثنا عشر من ولدي وأنت يا علي زرُّ الأرض ، يعني أوتادها وجبالها ، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها ، فإذا ذهب الإثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ، ولم ينظروا. انتهى.

وعلى هذا التفسير الذي يساعد عليه نص الحديث ، يكون هدف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من طرح الأئمة الإثني عشر في أهم تجمع للمسلمين في حجة الوداع ، هو : توجيه الأمة اليهم لو أنها أخذت بحظها وأطاعته فيهم !

بل يمكن القول : إنه يتعين تفسير الحديث بالائمة الإثني عشر من أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، لأن كل تفسير له بغيرهم لا يصح لكثرة الإشكالات التي ترد عليه.

ص: 51

- قال الكنجي الشافعي في ينابيع المودة / 446

قال بعض المحققين : إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة ... فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان ، علم أن مراد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من حديثه هذا الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته ، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر ، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر ، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز ، ولكونهم من غير بني هاشم ، لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال كلهم من بني هاشم في رواية عبد الملك ، عن جابر ، وإخفاء صوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في هذا القول يرجح هذه الرواية ، لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم.

ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية ، لزيادتهم على العدد المذكور ، ولقلة رعايتهم الآية : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ، وحديث الكساء.

فلا بد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الإثني عشر من أهل بيته وعترته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم ، وأعلاهم نسباً ، وأفضلهم حسباً ، وأكرمهم عند الله ....

ويؤيد هذا المعنى ، أي أن مراد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الأئمة الإثني عشر من أهل بيته ، ويشهد له ويرجحه : حديث الثقلين ، والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب ، وغيرها ....

وفي نهج البلاغة من خطبته على كرم الله وجهه : أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم .. بنا يستعطى الهدى ، وبنا يستجلى العمى.

وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه ، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر.

ص: 52

واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله ، فإنهم عيش العلم وموت الجهل ، هم الذين يخبركم حكمهم عن عملهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ، ولا يختلفون فيه ، وهو بينهم شاهد صادق ، وصامت ناطق. انتهى.

* *

ولكن عامة الشراح السنيين لا يقبلون هذا التفسير ، ويحذرون أتباعهم من أن يقنعهم الشيعة بأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد نص على الأئمة الإثني عشر من عترته !!

ويقولون لأتباعهم : إن حديث الأئمة الإثني عشر صحيحٌ مئة بالمئة ، لكن لا تقبلوا تفسير الشيعة ، ونحن إن شاء الله نفسره لكم تفسيراً صحيحاً ..

ولكنهم الى يومنا هذا لم يستطيعوا أن يقدموا لهم تفسيراً مقنعاً للحديث ، ولن يستطيعوا .. لأنهم يريدون تطبيق هؤلاء الإثني عشر على الخلفاء الذين حكموا بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الخلفاء الأربعة ، وعبد الله بن الزبير ، وسلسلة خلفاء بني سفيان وبني مروان ، ثم بني العباس .. وربما غيرهم من أمويي الأندلس ، والسلاجقة ، والمماليك ، والأتراك !!

وعندما يجدونهم أضعاف العدد المطلوب ، يلجؤون الى الفرضيات ، فيختارون أحسن الخلفاء الأمويين ، والعباسيين ويخلعون عليهم صفة الأئمة الربانيين ، فيثبتون هذا ويحذفون ذاك ! اختياراً وحذفاً ( كيفياً ) لمجرد تكميل العدد !

وبعضهم لا يكمل معه العدد ممن اختارهم فيقول : إن الباقين سوف يأتون !

ومن الواضح أنها تطبيقاتٌ لا تقف عند حد ، ولا تستند الى أساس ، وأن الذي يسلكها يكلف نفسه شططاً ، كمن يكلف نفسه بأن يختار اثني عشر شخصاً من رؤساء المسلمين وملوكهم المعاصرين ، ويقول عنهم إنهم قادةٌ ربانيون اختارهم الله تعالى ، ووعد الأمة بهم على لسان رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ص: 53

ولو أن العلماء السنيين فكروا أكثر لما جشموا أنفسهم هذه العقبة :

أولاً : لأن هؤلاء الأئمة الربانيين الموعودين مختارون من الله تعالى ، فلا بد أن يكونوا متفقين ، لأنهم جميعاً على خط واحد وهدى من ربهم ونبيهم.

بينما خلفاء السنيين وأئمتهم مختلفون متقاتلون ..

فهل سمعتم بالحرب والقتال بين الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) حتى تقنعونا بإمكانها بين الأئمة الربانيين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأن بعضهم يكيد للآخر ويفسقه ويكفره ، ويذبحه ذبح الخروف ، أو يسمل عينيه ويقطع لسانه ويديه ورجليه !!

وثانياً : لأنهم بإعطاء صفة الإمام من الله تعالى للخليفة الذي يحبونه ، ابتداءً من الخليفة عمر بن الخطاب .. الى السلطان سليم العثماني ، يصيرون ملكيين أكثر من الملك ، وخليفيين أكثر من الخليفة ، ويثبتون لهم ما لم يدعه أحد منهم لنفسه !

فلو كان أحدهم إماماً ربانياً مختاراً من الله تعالى مبشراً به من رسوله .. لعرف نفسه وادعى هو ذلك ! حيث لا يمكن أن يكون شخص إماماً وحجة لله على عباده وحاكماً باسمه .. ثم لا يعرف هو نفسه مقامه الالهي العظيم !!

ولا نجد أحداً من هؤلاء الخلفاء ادعى أنه إمامٌ من الله تعالى غير الأئمة من أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وثالثاً : ذكرنا أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال إنهم يكونون من بعده ، ولم يقل إنهم يحكمون .. فلماذا يلزمون أنفسهم بالعثور على الأئمة الإثني عشر الموعودين في الحكام فقط .. وإذا ألزم الباحث نفسه في مسألة بما لا يلزم فيها ، فقد تورط فيها وأقام في ورطته !

ورابعاً : إن الذين يعدونهم أئمة ربانيين ، مبشراً بهم من رب العالمين ، قد ثبت أن أكثرهم قد لعنهم الله تعالى على لسان نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !!

فهل رأيتم أمةً يحكمها بأمر الله تعالى الملعونون على لسان نبيها ؟!!

وكيف يلعن الله تعالى أشخاصاً ويحكم عليهم بالطرد من رحمته لخبثهم ، ثم يختارهم أو يختار من أولادهم أئمةً ربانيين ، هداةً لعباده ، وحكاماً لبلاده !!

ص: 54

فقد ثبت في مصادر السنيين أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد لعن الحكم وابنه مروان ، ونفاهما من المدينة حتى أعادهما عثمان ، وأنه رأى أبا سفيان راكباً على جمل يجره معاوية ويقوده ولده الآخر ، فلعن الراكب والقائد والسائق ( راجع مجمع الزوائد : 1 / 113 ) الى آخر هذا البحث الذي لا يتسع له موضوعنا ، ولا تتسع له صدور أتباع الأمويين !

* *

ولهذه الأسباب كثرت أقوالهم واحتمالاتهم في تفسير الأئمة المبشر بهم ، ولعلها زادت عن الثلاثين قولاً ..! وكلها معلولة ينقضها الحديث الشريف ، وينقض بعضها بعضاً :

- ولعل أقدمها قول ابن حبان الذي نقله عنه في عون المعبود في شرح سنن أبي داود : 11 / 361 ، قال :

وأما : الخلفاء اثنا عشر ، فقد قال جماعة منهم أبو حاتم بن حبان وغيره : إن آخرهم عمر بن عبد العزيز ، فذكروا الخلفاء الأربعة ، ثم معاوية ، ثم يزيد ابنه ، ثم معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ثم عبد الملك ابنه ، ثم الوليد بن عبد الملك ، ثم سليمان بن عبد الملك ، ثم عمر بن العزيز. وكانت وفاته على رأس المائة. انتهى.

ولكن هذا التفسير الأموي لابن حبان وجماعته ، قد نسخه العلماء الذين جاؤوا من بعدهم وأحبوا العباسيين ، فأدخلوا بعضهم في بشارة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وخذفوا بني أمية ، كلاً أو بعضاً !

ويلاحظ أن هذا التفسير حذف اسم الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع أنه مبشرٌ به بأحاديث صحيحة عندهم ، ويشمله قول جده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ( من بعدي اثنا عشر إماماً ).

كما حذفوا اسم الإمام الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع أنه بايعه المسلمون ما عدا أهل الشام وحكم ستة أشهر ، وقد أثبته السنييون المتأخرون عنهم.

بل كان يجب أن يثبتوا اسمه واسم أخيه الحسين (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) شهد بأنهما إمامان قاما أم قعدا ، وشهد بأنهما سيدا شباب أهل الجنة.

ص: 55

بينما أثبت هذا التفسير اسم يزيد بن معاوية ، وجعله من الأئمة الربانيين الذين بشر بهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وهي درجةٌ لا يطمع فيها يزيد ولا محبوه العقلاء ، لأنهم الى اليوم يكافحون لإثبات إسلام يزيد ، وعدم ارتداده بسبب تصريحاته ، وعدم فسقه بسبب جرائمه التي ارتكبها في كربلاء ، وفي استباحة المدينة ، وفي هدم الكعبة !

كما عدوا منهم على هذا التفسير معاوية بن يزيد ( معاوية الثاني ) الذي ولوه الخلافة بعد أبيه يزيد ، فخطب خطبته الأولى والأخيرة ، وتبرأ فيها من ظلم أبيه يزيد وجده معاوية ! وشهد بأن الخلافة حقٌّ شرعي لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وأن معاوية ظلمه وغصبها منه ، ثم عزل نفسه عنها ، فقتله بنو أمية !

فلو كان هذا الشخص من الأئمة الإثني عشر الربانيين لعرف هو ذلك ، وما خلع نفسه وعرَّضها لغضب أسرته الحاكمة الباطشة !

كما أن هذا التفسير تجاهل حديث ( سفينة ) الثابت عندهم القائل إن الخلافة ثلاثون سنة ، وبعدها الملك العضوض ، وقد صححه المحدثون ، وأخذ به المفسرون الآخرون .. الى آخر الإشكالات عليه !

ويطول الكلام لو أردنا أن نستقصي محاولات كبار علمائهم تفسير الحديث الشريف ، ولكن الذي يسهل الأمر أن كلامهم في ذلك متشابه ، وأنه ما زال الى اليوم يدور في محور التفسير الأموي !!

وفيما يلي نماذج من تفاسيرهم وما يرد عليها :

- قال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 10 :

قال القاضي عياض : لعل المراد بالإثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة ، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس الى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة ، زمن الوليد بن يزيد ، فاتصلت بينهم ، الى أن قامت الدولة العباسية ، فاستأصلوا أمرهم.

ص: 56

قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري : كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه ، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : كلهم يجتمع عليه الناس.

قلت : وعلى هذا فقد وجد من الإثنا عشر خليفة : الخلفاء الأربعة ، والحسن ، ومعاوية ، وابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، هؤلاء ثمانية.

ويحتمل أن يضم اليهم المهتدي من العباسيين ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، وكذلك الظاهر ، لما أوتيه من العدل ، وبقي الإثنان المنتظران : أحدهما المهدي ، لأنه من آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.

* *

ولكن السيوطي وابن حجر أخذا بزيادة ( وكلهم تجتمع عليهم الأمة ) التي تقدم أنها لم تثبت ، وأن الألباني الوهابي وغيره قالوا إنها منكرة.

كما أنهما تجاوزا حديث سفينة الذي صح عندهم ، والذي يحدد المدة الزمنية للخلافة الراشدة بثلاثين سنة ! وبذلك يصير المطلوب لهم أحد عشر حاكماً في ثلاثين سنة ، ويبطل انتقاء أحد من الحكام الأمويين والعباسيين !

مضافاً الى أن نقل السيوطي لكلام عياض وابن حجر لم يكن دقيقاً مع الأسف ! فقد تجاهل كلام ابن حجر الذي عدهم الى الثاني عشر من بني أمية ، فقال ( والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ) بينما أوصلهم السيوطي في بني أمية الى ثمانية ، ووضع فيهم اثنين من خلفاء بني العباس !! .. واليك فقرات من كلام ابن حجر في فتح الباري لتعرف الخلل في نقل السيوطي عنه ! قال :

قال ابن بطال عن المهلب : لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث يعني بشيء معين ! فقوم قالوا : يكونون بتوالي إمارتهم.

وقوم قالوا : يكونون في زمن واحد كلهم يدعي الإمارة !

ص: 57

قال : والذي يغلب على الظن أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن ، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميراً !

قال : ولو أراد غير هذا لقال : يكون اثنا عشر أميراً يفعلون كذا ، فلما أعراهم من الخبر ، عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد. انتهى ( أي كلام ابن بطال ). وهو كلام من لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة ، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتها من عند مسلم وغيره أنه ذكر الصفة التي تختص بولايتهم ، وهو كون الإسلام عزيزاً منيعاً.

وفي الرواية الأخرى صفة أخرى وهو أن كلهم يجتمع عليه الناس ، كما وقع عند أبي داود ، فإنه أخرج هذا الحديث من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه عن جابر بن سمرة بلفظ : لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة. وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن الأسود بن سعيد عن جابر بن سمرة بلفظ : لا تضرهم عداوة من عاداهم.

وقد لخص القاضي عياض ذلك فقال : توجه على هذا العدد سؤالان :

أحدهما : أنه يعارضه ظاهر قوله في حديث سفينة ، يعني الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه بن حبان وغيره : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً. الثلاثون سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن بن علي.

والثاني : أنه ولي الخلافة أكثر من هذا العدد.

قال والجواب عن الأول : أنه أراد في حديث سفينة : خلافة النبوة ، ولم يقيده في حديث جابر بن سمرة بذلك.

وعن الثاني : أنه لم يقل لا يلي إلا اثنا عشر ، وإنما قال يكون اثنا عشر ، وقد ولي هذا العدد ، ولا يمنع ذلك الزيادة عليهم.

قال : وهذا إن جعل اللفظ واقعاً على كل من ولي ، وإلا فيحتمل أن يكون المراد من يستحق الخلافة من أئمة العدل ، وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة ، ولا بد من تمام العدة قبل قيام الساعة.

ص: 58

وقد قيل : إنهم يكونون في زمن واحد يفترق الناس عليهم ، وقد وقع في المائة الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس كلهم يتسمى بالخلافة ، ومعهم صاحب مصر ، والعباسية ببغداد ، الى من كان يدعى الخلافة في أقطار الأرض ، من العلوية والخوارج.

قال : ويعضد هذا التأويل قوله في حديث آخر في مسلم : ستكون خلفاء فيكثرون.

قال : ويحتمل أن يكون المراد أن يكون الإثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة ، ويؤيده قوله في بعض الطرق : كلهم تجتمع عليه الأمة ، وهذا قد وجد فيما اجتمع عليه الناس الى أن أضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد ، فاتصلت بينهم الى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم. وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر.

قال : وقد يحتمل وجوهاً أخر .. والله أعلم بمراد نبيه. انتهى. ( أي كلام عياض )

والإحتمال الذي قبل هذا ، وهو اجتماع اثني عشر في عصر واحد كلهم يطلب الخلافة ، هو الذي اختاره المهلب كما تقدم. وقد ذكرت وجه الرد عليه ، ولو لم يرد إلا قوله كلهم يجتمع عليه الناس ، فإن في وجودهم في عصر واحد يوجد عين الافتراق ، فلا يصح أن يكون المراد.

ويؤيد ما وقع عند أبي داود : ما أخرجه أحمد والبزار من حديث بن مسعود بسند حسن ، أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال : سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل.

وقال ابن الجوزي في كشف المشكل : قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلبت مظانه ، وسألت عنه فلم أقع على المقصود به ، لأن ألفاظه مختلفة ، ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة ، ثم وقع لي فيه شيء وجدت الخطابي بعد ذلك قد أشار اليه ، ثم وجدت كلاماً لأبي الحسين بن المنادي وكلاماً لغيره.

ص: 59

فأما الوجه الأول ، فإنه أشار الى ما يكون بعده وبعد أصحابه ، وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه ، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم ، فكأنه أشار بذلك الى عدد الخلفاء من بني أمية ، وكأن قوله : لا يزال الدين أي الولاية الى أن يلي اثنا عشر خليفة ، ثم ينتقل الى صفة أخرى أشد من الأولى.

وأول بني أمية يزيد بن معاوية ، وآخرهم مروان الحمار ، وعدتهم ثلاثة عشر ، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير ، لكونهم صحابة ! فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته ، أو لأنه كان متغلباً بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير ، صحت العدة.

وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة ، حتى استقرت دولة بني العباس ، فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغيراً بيناً.

قال : ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود من حديث بن مسعود رفعه : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين ، فإن هلكوا فسبيل من هلك ، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً. ( لا أعرف من صححه غير الألباني )

قلت : لكن يعكر عليه أن من استقرار الملك لبني أمية عند اجتماع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين ، الى أن زالت دولة بني أمية فقتل مروان بن محمد في أوائل سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، أزيد من تسعين سنة ...

قال : وأما الوجه الثاني فقال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي : يحتمل في معنى حديث : يكون اثنا عشر خليفة ، أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان ، فقد وجدت في كتاب دانيال : إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر ، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر ، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر ، ثم يملك بعده ولده ، فيتم بذلك اثنا عشر ملكاً ، كل واحد منهم إمام مهدي.

قال ابن المنادي : وفي رواية أبي صالح عن بن عباس : المهدي اسمه محمد بن

ص: 60

عبد الله ، وهو رجل ربعة مشرب بحمرة ، يفرج الله به عن هذه الأمة كل كرب ويصرف بعدله كل جور ، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلاً ، ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين ، وآخر من غيرهم ، ثم يموت فيفسد الزمان.

وعن كعب الأحبار : يكون اثنا عشر مهدياً ، ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال.

قال : والوجه الثالث : أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام الى يوم القيامة ، يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم.

ويؤيده ما أخرجه مسدد في مسنده الكبير ، من طريق أبي بحر أن أبا الجلد حدثه أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت محمد ، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة. وعلى هذا فالمراد بقوله : ثم يكون الهرج ، أي الفتن المؤذنه بقيام الساعة ، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج الى أن تنقضي الدنيا. انتهى كلام بن الجوزي ملخصاً بزيادات يسيرة. ( وتابع ابن حجر : )

والوجهان الأول والآخر قد اشتمل عليهما كلام القاضي عياض ، فكأنه ما وقف عليه ، بدليل أن في كلامه زيادة لم يشتمل عليها كلامه.

وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه ، أرجحها الثالث من أوجه القاضي لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : كلهم يجتمع عليه الناس.

وإيضاح ذلك أن المراد بالإجتماع انقيادهم لبيعته. والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، الى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمى معاوية يومئذ بالخلافة ، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن ، ثم اجتمعوا على ولده يزيد ، ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك ، ثم لما مات يزيد وقع الإختلاف ، الى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل بن الزبير ، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة : الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام ، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين. والثاني

ص: 61

عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، واجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين ، ثم قاموا عليه فقتلوه ، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك ، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على بن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته ، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان ، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان ، ثم ثار على مروان بنو العباس ، الى أن قتل.

ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح ، ولم تطل مدته ، مع كثرة من ثار عليه ، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته ، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس ، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها الى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك ، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض ، الى أن لم يبق من الخلافة إلا الإسم في بعض البلاد ، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً مما غلب عليه المسلمون ، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة. ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك.

فعلى هذا يكون المراد بقوله : ثم يكون الهرج ، يعني القتل الناشيء عن الفتن وقوعاً فاشياً يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام ، وكذا كان. والله المستعان.

والوجه الذي ذكره بن المنادي ليس بواضح ، ويعكر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده رفعه : سيكون من بعدي خلفاء ثم من بعد الخلفاء أمراء ، ومن بعد الأمراء ملوك ، ومن بعد الملوك جبابرة ، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، ثم يؤمر القطحاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه. فهذا يرد على ما نقله بن المنادي من كتاب دانيال.

وأما ما ذكره عن أبي صالح فواهٍ جداً ، وكذا عن كعب ....

فالأولى أن يحمل قوله : يكون بعدي اثنا عشر خليفة ، على حقيقة البعدية فإن

ص: 62

جميع من ولي الخلافة من الصديق الى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفساً ، منهم اثنان لم تصح ولايتهما ، ولم تطل مدتهما ، وهما معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم ، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء ، كما أخبر صلى الله عليه وسلم ، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة ، وتغيرت الأحوال بعده ، وانقضى القرن الأول الذي هو خير القرون.

ولا يقدح في ذلك قوله : يجتمع عليهم الناس ، لأنه يحمل على الأكثر الأغلب ، لأن هذه الصفة لم تفقد منهم إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ، مع صحة ولايتهما ، والحكم بأن من خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن ، وبعد قتل بن الزبير. والله أعلم.

وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الإثني عشر منتظمة ، وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلك فهو بالنسبة الى الإستقامة نادر. والله أعلم.

وقد تكلم ابن حبان على معنى حديث تدور رحى الإسلام ، فقال : المراد بقوله : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين ، انتقال أمر الخلافة الى بني أمية وذلك أن قيام معاوية عن علي بصفين حتى وقع التحكيم ، هو مبدأ مشاركة بني أمية ثم استمر الأمر في بني أمية من يومئذ سبعين سنة ، فكان أول ما ظهرت دعاة بني العباس بخراسان سنة ست ومائة ، وساق ذلك بعبارة طويلة ، عليه فيها مؤاخذات كثيرة ، أولها دعواه أن قصة الحكمين كانت في أواخر سنة ست وثلاثين ، وهو خلاف ما اتفق عليه أصحاب الأخبار ، فإنها كانت بعد وقعة صفين بعدة أشهر ، وكانت سنة سبع وثلاثين. والذي قدمته أولى بأن يحمل الحديث عليه. والله أعلم. انتهى.

* *

وقد رأيت أن ما اختاره ابن حجر غير ما نسبه اليه السيوطي ..

ورأيت تحيرهم جميعاً وكثرة احتمالاتهم ، وتضاربها ! وأن أكثرهم أخذوا زيادة

ص: 63

( تجتمع عليه الأمة ) محوراً لتفسيرهم ، مع أنها لم تثبت واستنكرها عدد منهم ورأيت أن القاضي عياض لم يجزم بشيء ، بل ذكر وجوهاً عديدة بكلمة قيل ويحتمل .. وأن ابن حجر رجح الإحتمال الثالث منها ، فقال ( وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجهٌ أرجحها الثالث من أوجه القاضي ).

والنتيجة التي يخرج منها القارئ لتفاسيرهم : أنهم يضيعون عليه الحديث الذي أرادوا أن يفسروه ، وهو حديث صحيحٌ عندهم صريحٌ بالبشارة النبوية باثني عشر إماماً ربانيين ، هداةٍ مهديين ، قيمين على الأمة ، ولكنهم يصرون على تلبيس الحديث لحكام بني أمية ، وعلى خلطه بزيادةٍ وأحاديث غير ثابتة ، لا يستقيم لها معنى ، ولا أثر فيها للبلاغة النبوية !!

* *

وإذا أردت مزيداً من الأمثلة على ضياعهم فاقرأ عون المعبود 11 / 362 - 364 :

قال : بعض المحققين : قد مضى منهم الخلفاء الأربعة ، ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة. وقيل : إنهم يكونون في زمانٍ واحد يفترق الناس عليهم.

وقال التوربشتي : السبيل في هذا الحديث وما يعتقبه في هذا المعنى ، أن يحمل على المقسطين منهم ، فإنهم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة ، ولا يلزم أن يكونوا على الولاء.

وإن قدر أنهم على الولاء ، فإن المراد منه المسمون على المجاز ! كذا في المرقاة.

وقال الشيخ الأجل ولي الله المحدث في قرة العينين في تفضيل الشيخين : وقد استشكل في حديث : لا يزال هذا الدين ظاهراً الى أن يبعث الله اثني عشر خليفةً كلهم من قريش ، ووجه الإستشكال : أن هذا الحديث ناظرٌ الى مذهب الإثني عشرية الذين أثبتوا اثني عشر إماماً.

والأصل أن كلامه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد ثبت من حديث عبد

ص: 64

الله بن مسعود : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة ، أو ست وثلاثين سنة ، أو سبع وثلاثين سنة ، فإن يهلكوا فسبيل من قد هلك ، وإن يقم لهم دينهم ، يقيم سبعين سنة مما مضى.

وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث ، ونحن نقول ما فهمناه على وجه التحقيق :

إن ابتداء هذه المدة من ابتداء الجهاد في السنة الثانية من الهجرة ...!!

وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي سنة خمس وثلاثين من ابتداء الجهاد وقعت حادثة قتل ذي النورين وتفرق المسلمين ....

ولكن الله تعالى بعد ذلك جعل أمر الخلافة منتظماً ، وأمضى الجهاد الى ظهور بني العباس ، وتلاشي دولة بني أمية ...

فتارةً أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خلافة النبوة ، وخصصه بثلاثين سنة ، والتي بعدهم عبرها بملكٍ عضوضٍ ، وتارة عن خلافة النبوة ، والتي تتصل بها كليهما معاً ، وعبرها باثني عشر خليفة ...

فالتحقيق في هذه المسألة : أن يُعتبروا بمعاوية وعبد الملك وبنيه الأربع ( كذا ) وعمر بن عبد العزيز ، ووليد بن يزيد بن عبد الملك ، بعد الخلفاء الأربعة الراشدين.

وقد نقل عن الإمام مالك أن عبد الله بن الزبير أحق بالخلافة من مخالفيه ، ولنا فيه نظر ، فإن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما قد ذكرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تسلط ابن الزبير واستحلال الحرم به مصيبةٌ من مصائب الأمة ، أخرج حديثهما أحمد عن قيس بن أبي حازم قال : جاء ابن الزبير الى عمر بن الخطاب يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : أجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فرد ذلك عليه ، فقال له عمر : في الثالثة أو التي تليها : أقعد في بيتك ، والله إني لأجد بطرف المدينة منك وأصحابك أن تخرجوا فتفسدوا علي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الحاكم.

ص: 65

فمن لفظه بطرف المدينة ، يفهم أن واقعة الجمل غير مراد ها هنا ، بل المراد خروجه للخلافة ، والى هذا المعنى قد أشار علي (رضی الله عنه) في قصة جواب الحسن (رضی الله عنه) ، ولم ينتظم أمر الخلافة عليه.

ويزيد بن معاوية ساقطٌ من هذا البين ، لعدم استقراره مدة يعتد بها ، وسوء سيرته. والله أعلم. انتهى.

وأنت ترى أن صاحب قرة العينين اعترف بأن ملك بني أمية ملكٌ عضوضٌ ، وأن خلافتهم ليست خلافة نبوة .. ومع ذلك فسر بهم الحديث ، وطبق عليهم البشارة النبوية بالائمة الإثني عشر الربانيين القيمين بأمر الله تعالى على أمة نبيه !

كما ترى أنه حذف منهم الإمام الحسن والإمام المهدي (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) ، وحذف ابن الزبير الذي أثبته الإمام مالك وآخرون ... الخ. !

وهو مع ذلك ينتقد الذين غلطوا في تفسيره فيقول ( وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث ) ووعد الناس بأن يرفع المعضلة ، ويحل المشكلة !!

ثم اقرأ ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 248 :

ذكر الأخبار عن الأئمة الإثني عشر الذين كلهم من قريش. وليسوا بالإثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة ، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن ، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر بسرداب سامرا ، وليس له وجودٌ ولا عين ولا أثر.

بل هؤلاء الأئمة الإثنا عشر المخبر عنهم في الحديث : الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وعمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الإثني عشر. انتهى.

ولعله يقصد بالقولين القول بتتابعهم زمنياً ، وعدمه ، ولكنهما وجهان في كل واحد منهما عددٌ من الأقوال .. وقد ذكر هو جملةً منها ، ثم أشار ابن كثير الى

ص: 66

الإحتمالات ، وركز منها على مناقشة البيهقي فقال : فهذا الذي سلكه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الإثني عشر المذكورين في هذا الحديث ، هم المتتابعون الى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق ، الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد ، فإنه مسلكٌ فيه نظر ، وبيان ذلك : أن الخلفاء الى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير ، وبرهانه أن الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة :

الخلافة بعدي ثلاثون سنة. ثم بعدهم الحسن بن علي كما وقع ، لأن علياً أوصى اليه وبايعه أهل العراق ، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام ، حتى اصطلح هو ومعاوية كما دل عليه حديث أبي بكرة ، في صحيح البخاري. ثم معاوية ، ثم ابنه يزيد بن معاوية ، ثم ابنه معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ثم ابنه عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبد الملك ، فهؤلاء خمسة عشر ، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر ، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز ، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الإثني عشر يزيد بن معاوية ، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز ، الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه ، وعدُّوه من الخلفاء الراشدين ، وأجمع الناس قاطبةً على عدله وأن أيامه كانت من أعدل الأيام ، حتى الرافضة يعترفون بذلك.

فإن قال : أنا لا أعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالب ولا ابنه ، لأن الناس لم يجتمعوا عليهما ، وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، وعدَّ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد ، ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير ، فإن الأمة لم تجتمع على واحد منهما.

فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عاداً للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك ثم الوليد بن سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام ، فهؤلاء عشرة ، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق ، ولكن

ص: 67

هذا لا يمكن أن يسلك ، لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الإثني عشر ، وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة ، بل والشيعة ، ثم هو خلاف ما دل عليه نصاً حديث سفينة عن رسول الله أنه قال : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً. وقد ذكر سفينة تفصيل هذه الثلاثين سنة فجمعها من خلافة الأربعة ، وقد بينا دخول خلافة الحسن ، وكانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً ، ثم صار الملك الى معاوية لما سلم الأمر اليه الحسن بن علي.

وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة ، وبيان أن الخلافة قط انقطعت بعد الثلاثين سنة لا مطلقاً ، بل انقطع تتابعها ، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك ، كما دل عليه حديث جابر بن سمرة.

وقال نعيم بن حماد : حدثنا راشد بن سعد ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حذيفة بن اليمان قال : يكون بعد عثمان اثنا عشر ملكاً من بني أمية ، قيل له : خلفاء ؟ قال : لا ، بل ملوك.

وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن صفرة ، عن أبي بحر قال : كان أبو الجلد جاراً لي ، فسمعته يقول يحلف عليه : إن هذه الأمة لن تهلك حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل البيت ، أحدهما يعيش أربعين سنة ، والآخر ثلاثين سنة.

ثم شرع البيهقي في رد ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الرد ، وهذا عجيب منه !

وقد وافق أبا الجلد طائفةٌ من العلماء ، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا.

وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة ، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : إن الله تعالى بشر ابراهيم بإسماعيل ، وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً. انتهى.

ويقصد ابن كثير ما هو موجود في التوراة الفعلية - العهد القديم والجديد 1 / 25 - طبعة مجمع الكنائس الشرقية - في سفر التكوين ، الإصحاح السابع عشر ، قال :

ص: 68

18 - وقال ابراهيم لله ليت اسماعيل يعيش أمامك.

19 - فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه اسحق ، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً ، لنسله من بعده.

20 - وأما اسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيراً جداً. اثني عشر رئيساً يلد ، وأجعله أمة كبيرة.

21 - ولكن عهدي أقيمه مع اسحق ، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت ، في السنة الآتية. انتهى.

وقد وردت ترجمتها عن كعب الأحبار ( قيماً ) وترجمها بعضهم ( إماماً ) ..

فالنص موجودٌ في التوراة ، وفي مصادر السنة ، والشيعة ، وهو مؤيدٌ لبشارة نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ولكنه لا يحل مشكلة المفسرين السنيين ، بل يزيدها !

* *

ومن أعقل هؤلاء الشراح وأكثرهم إنصافاً في هذا الموضوع : ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 ، فقد اعترف في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي بأن تطبيق الحديث على هؤلاء يصل الى طريق مسدود ، ورجح أن يكون الحديث ناقصاً لأن الموجود منه لا يفهم له معنى .. قال :

روى أبو عيسى عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلهم من قريش. صحيح.

فعددنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر أميراً فوجدنا : أبا بكر ، عمر ، عثمان ، علي ، الحسن ، معاوية ، يزيد ، معاوية بن يزيد ، مروان ، عبد الملك ، مروان بن محمد بن مروان ، السفاح ، المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد ، الامين ، المأمون ، المعتصم ، الواثق ، المتوكل ، المنتصر ، المستعين ، المعتز ، المهتدي ، المعتضد ، المكتفي ، المقتدر ، القاهر ، الراضي ، المتقي ، المستكفي

ص: 69

المطيع ، الطائع ، القادر ، القائم ، المقتدي ، أدركته سنة أربع وثمانين وأربعمائة وعهد الى المستظهر أحمد ابنه ، وتوفي في المحرم سنة ست وثمانين ، ثم بايع المستظهر لابنه أبي منصور الفضل ، وخرجت عنهم سنة خمس وتسعين.

وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة الى سليمان بن عبد الملك.

وإذا عددناهم بالمعنى ، كان معنا منهم خمسة : الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز ، ولم أعلم للحديث معنى ، ولعله بعض حديث !! انتهى.

* *

وقد اتضح أن المفسرين السنيين بذلوا كل جهدهم لتفسير هؤلاء الأئمة الإثني عشر الموعودين في التوراة على لسان ابراهيم ، ثم على لسان نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، على ملوك بني أمية ، ولكنهم واجهوا ثلاثة مشاكل أساسية لا حل لها :

الأولى : زيادة عدد هؤلاء ( الخلفاء ) الذين يعترفون بأنهم ليسوا خلفاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بل خلفاء الهواء ! على الإثني عشر ، الأمر الذي يدخلهم في بوابة الحذف والإثبات التي لا ضابط لها ، ولا آخر !

والثانية : أنهم يشعرون أن هذا الثوب الالهي لا يمكن إلباسه لجماعتهم .. وأنهم مهما دافعوا عن سيرة هؤلاء ( الخلفاء غير الخلفاء ) وتستروا على تاريخهم ، ففيهم مفضوحون ، لابد من الإعتراف بسوئهم ، ولا يمكن أن يكون أحدهم إماماً ربانياً ، وقيماً عظيماً على الأمة ، موعوداً من الله تعالى على لسان أعظم الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

والثالثة : أنهم بهذا التفسير يدعون لهؤلاء الملوك منصباً ربانياً لم يدعوه هم لأنفسهم ! فيصيرون بذلك كمن يدعي نبوة لنبيٍّ ، والنبي المزعوم ينكرها !!

وأخيراً ، فقد نصح المفسرون السنيون أتباعهم أن لا يأخذوا بتفسير الشيعة ، ووعدوهم بأن يفسروا لهم الحديث الشريف بأصح من تفسير الشيعة ، وقد رأينا أنهم داروا في تفسيره كثيراً ، وراوحوا مكانهم ..

ص: 70

فمن حق السني أن يعود على بدء ، ويسألهم عن تفسير حديث نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الصحيح وبشارته القطعية باثني عشر إماماً ، ربانياً ، ملهماً ، مميزاً بعلمه وشخصيته وسلوكه ، قيماً من ربه على الأمة .. يكونون جميعاً على هدىً واحد ، وخطٍ واحد ..

ومن حقنا أن نقول لهم : إذا لم تفسروه ، فاعذرونا أن نفسره بالأئمة من أهل بيت النبي وعترته الطاهرين (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأولهم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وآخرهم المهدي الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وقد قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : بنا بدأ الله وبنا يختم.

تورط الشراح في حديث سفينة

سفينة مولى أم سلمة ، وثقه علماء الجرح والتعديل السنيون ، وروى عنه البخاري وغيره من أصحاب الصحاح حديثاً يتعلق بالموضوع وصححوه.

- قال الترمذي : 3 / 341

عن سعيد بن جمهان قال حدثني سفينة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ، ثم ملك بعد ذلك ( عضوضٌ ).

ثم قال لي سفينة : أمسك عليك خلافة أبي بكر ، ثم قال وخلافة عمر ، وخلافة عثمان ، ثم قال أمسك خلافة علي ، فوجدناها ثلاثين سنة.

قال سعيد : فقلت له : إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم ؟

قال : كذب بنو الزرقاء ، بل هم ملوكٌ من شر الملوك.

وفي الباب عن عمر وعلي قالا : لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئاً. هذا حديث حسن ، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ، لا نعرفه إلا من حديثه. انتهى. ورواه أحمد في مسنده : 5 / 220 ، و 221 ، بدون كلام سفينة عن ملوك بني أمية. وقال عنه الحاكم : 3 / 71 وقد أسندت هذه الروايات بإسناد صحيح مرفوعاً الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). انتهى.

- ورواه ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 198 ثم روى بعده عن عبد الرحمن أبي بكرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خلافة نبوة ثلاثون عاماً ، ثم

ص: 71

يؤتي الله ملكه من يشاء ، فقال معاوية : رضينا بالملك !!. انتهى.

وإذا صح حديث سفينة فهو إخبارٌ نبويٌّ عن انحراف الأمة بعد الثلاثين سنة ، وعدم شرعية الحكم فيها.

وبما أن عدد الحكام في هذه الفترة لم يزيدوا عن خمسة ، فلا بد أن يكون الأئمة الإثنا عشر من غير الحاكمين ، أو تكون تكملتهم من غيرهم !

فحديث سفينة يحكم بخطأ جعل الأئمة الإثني عشر من الحكام ، كما هو واضح.

ولكن أكثر الشراح أشربوا في قلوبهم حب بني أمية ، وارتكبوا كل تناقض لجعل ملكهم العضوض إمامةً ربانية ، وجعل حكامهم المعروفين بسلوكهم وبطشهم ، أئمةً ربانيين ، مبشراً بهم على لسان رسول رب العالمين !!

والذي يزيدك اطمئناناً بما قلناه ، أنهم قبلوا حديث سفينة ( الخلافة ثلاثون سنة ) وقد فسره راويه ونفى الخلافة عن بني أمية ، وقال إنهم ملوكٌ شر ملوك !

ومع ذلك جعلوهم أئمة ربانيين ، اختارهم الله تعالى لقيادة هذه الأمة !

ومنهم من حاول نفي تفسير سفينة وقال إنه زيادةٌ لم تثبت ، مثل الألباني ! وكذلك لم يثبت عندهم كل ما في تاريخ بني أمية من ظلمٍ عضوضٍ للناس !!

- قال العيني في عمدة القاري : 16 / 74

فإن قلت : يعارض حديث سفينة ما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة : لا يزال هذا الدين قائماً ما كان اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، الحديث.

قلت : قيل إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، وأراد بهذا خلافة النبوة ، ولم يرد أنه لا يوجد غيرهم.

وقيل : هذا الحديث فيه إشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلين من قريش ، وإن لم يوجدوا على الولاء ، وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ، ثم قد كان بعد ذلك خلفاء راشدون منهم عمر بن عبد العزيز ، ومنهم المهتدي بأمر الله العباسي ، ومنهم المهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان. انتهى.

ص: 72

فانظر الى هذا التصرف بالألفاظ من أجل مصلحة الأمويين ، حيث جعل الخلافة الشرعية نوعين : خلافة نبوة وهي التي كانت لمدة ثلاثين سنة ، وخلافةً شرعية ليست خلافة عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ! بل هي خلافةٌ عن بني تبعٍ وبني حِمْيَر مثلاً ، وهي التي امتدت بعد الثلاثين ، وهي التي بشر بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله : اثنا عشر خليفة أو إماماً !!.

وقد تمسك الشراح المحبون لبني أمية بهذا الإبتكار وفرحوا به ، لأنه يبقي لهم إمكانية التلاعب بالحديث ، وتفسيره بأئمتهم الربانيين من بني أمية !!

- قال ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 198

فإن قيل : فما وجه الجمع بين حديث سفينة هذا ، وبين حديث جابر بن سمرة ، المتقدم في صحيح مسلم ؟...

فالجواب : أن من الناس من قال : إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة ثم وقع تخبيطٌ بعدهم في زمان بني أمية.

وقال آخرون : بل هذا الحديث فيه بشارةٌ بوجود اثني عشر خليفة عادلاً من قريش ، وإن لم يوجدوا على الولاء ( التتابع ) وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ، ثم كانت بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي (رضی الله عنه) وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة ، حتى قال أحمد بن حنبل (رضی الله عنه) : ليس قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز !

ومنهم من ذكر من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي.

والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضاً بالنص على كونه من أهل البيت ، واسمه محمد بن عبد الله ، وليس بالمنتظر في سرداب سامرا ، فإن ذاك ليس بموجود بالكلية ، وإنما ينتظره الجهلة من الروافض. انتهى.

فترى أن ابن كثير لا جواب عنده على إشكال حديث سفينة ، ولذلك قال : من الناس من قال .. وقال آخرون .. ومنهم من ذكر ! وليته أكمل الرواية عن سفينة كما

ص: 73

وردت في مصادرهم !

أما مدحه لعمر بن عبد العزيز أو المهدي العباسي ، فلا يصير دليلاً على أنه أحد الأئمة الربانيين المبشر بهم مهما كثر ! وإلا لاستحق كل ممدوح مثلهما أن يكون منهم ! فإن دخول أحدٍ في عداد أشخاصٍ بشر بهم أنبياء الله تعالى يحتاج الى دليل على أنه مقصودٌ بهذا النص ، وأنه واحدٌ من هؤلاء الربانيين الذين أختارهم الله تعالى وأعطاهم مقاماً فوق مدح المادحين من البشر !

وأما تكراره اتهام الشيعة بانتظار ظهور المهدي من سرداب سامرا ، من المكذوبات علينا ، فنحن ننتظر ظهور المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من مكة كما ينتظره هو ، وسرداب سامرا بيته وبيت أبيه وجده (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، وهو مكانٌ مباركٌ ، نصلي فيه ونتبرك به.

- وقال في هامش عون المعبود : 11 / 361

ذكر الشيخ ابن القيم (رحمه الله) ... حديث : الخلافة بعد وثلاثون سنة ، وحديث اثنا عشر خليفة ، ثم قال : فإن قيل : فكيف الجمع ؟

قيل : لا تعارض بين الحديثين ، فإن الخلافة المقدرة بثلاثين سنة هي خلافة النبوة كما في حديث أبي بكرة. انتهى.

ولم يقل ابن قيم ولا غيره إذا لم تكن خلافة بني أمية خلافة نبوة فهي خلافة ماذا يا ترى ؟؟ وهل تبقى لها صفة إسلاميةٌ وربانية ، بعد أن وصفها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنها ملكٌ عضوضٌ ، كما اعترف صاحب قرة العينين وغيره !

وهل يعني إقرارهم بأنها ملك عضوض ، ونفيهم عنها صفة الخلافة الإسلامية ، إلا أنها خلافةٌ جاهليةٌ عضوضة ؟ فهل يتصور عاقلٌ أن الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يبشران الأمة بأئمة جاهليين ، يعضونها بظلمهم ؟!

ولو أن ابن حبان وابن حجر وابن قيم وصاحب قرة العينين وأمثالهم .. اكتفوا بتعصبهم لبني أمية ، لكان خطبهم أسهل ، ولكنهم مع الأسف أصروا على تسخير الأحاديث النبوية لنصرتهم ، وتطبيق بشائر الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على ملوكهم !!

ص: 74

ومن طريف عمل الألباني في الحديث ، أنه صحح عدة أحاديث عن الإنحراف والأئمة المضلين ، الذين سيحكمون بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ومنها حديث برقم 2982 ( إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه ! ).

وحديث برقم 2864 ( إنه سيلي أموركم من بعدي رجالٌ يطفئون السنة ويحدثون بدعة ).

وحديث برقم 2865 ( إني ممسكٌ بحجزتكم عن النار ، وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب ، ويوشك أن أرسل حجزتكم ... ) الخ.

وحديث برقم 1749 أول من يغير سنتي رجلٌ من بني أمية. وجعل هذا الحديث الأخير تحت عنوان من أعلام نبوته الغيبية ، وقال بعده : ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة. والله أعلم.

وحديث برقم 744 ( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دخلاً عباد الله خولاً ومال الله دولاً ).

كما صحح حديث سفينة برقم 459 ، ولكنه جعله تحت عنوان : خلافة النبوة !

ومع كل هذه الأحاديث التي صححها ، قال مدافعاً عن الأمويين : فلا ينافي مجيء خلفاء آخرين من بعدهم لأنهم ليسوا خلفاء النبوة. فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لا غيرهم ! كما هو واضح !! ويزيده وضوحاً قول شيخ الإسلام في رسالته المذكورة : ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء ، وإن كانوا ملوكاً ولم يكونوا خلفاء الأنبياء .. الخ. انتهى.

فقد أفتى تبعاً لإمامه ابن تيمية ، بأن الأئمة الإثني عشر المبشر بهم على لسان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) القيمين على الأمة بتعيين رب العالمين هم .. معاوية ويزيد وبنو الحكم بن أبي العاص ، الذين صحت فيهم أحاديث ذمٍّ قاصعة !!

وكأنه لا يعرف أنه بسبب غلوه في بني أمية يعطي الحجة على ربه سبحانه ، وعلى نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !!

ص: 75

فماذا يقول إذا قال له مستشرقٌ مثلاً : إنكم أيها المسلمين تقولون إن ربكم مزاجي ونبيكم مزاجي أيضاً ، لأنهما يلعنان أشخاصاً ويذمانهم ويتبرآن منهم .. ثم يتغير مزاجهما فيرضيان عنهم ، ويعلنان للمسلمين : إنا نبشركم بهم وبأولادهم ، إنهم صفوة البشر ، أئمةٌ ، ربانيون ، معصومون ، قيمون على الأمة !!

وهل دخل المستشرقون الخبثاء ، وهل دخل سلمان رشدي وأمثاله ، وطعنوا في الإسلام ، إلا من أبواب أحاديث التعصب لقريش وبني أمية ، وكعب الأحبار ؟!

الثانية عشرة : نماذج من أحاديثنا في الأئمة الإثني عشر :

- روى الصدوق في الخصال / 466 - 467 ، حديث ابن مسعود المتقدم بعدة أسانيد فيها مجالد بن سعيد ، وأسانيد أخرى ليس فيهما مجالد ، قال :

حدثنا أبو علي أحمد بن الحسن القطان قال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال البغدادي قال : حدثنا محمد بن عبدوس الحراني قال : حدثنا عبدالغفار بن الحكم قال : حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عمه قيس بن عبد قال : كنا جلوساً في حلقة فيها عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فقال : أيكم عبد الله بن مسعود ؟

فقال عبد الله : أنا عبد الله بن مسعود.

قال : هل حدثكم نبيكم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كم يكون بعده من الخلفاء ؟

قال : نعم ، اثنا عشر ، عدد نقباء بني إسرائيل.

حدثنا أبو القاسم عتاب بن محمد الوراميني الحافظ قال : حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل ، ومحمد بن عبيد الله بن سوار قالا : حدثنا عبد الغفار بن الحكم قال : حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف عن الشعبي.

قال : عتاب بن محمد : وحدثنا إسحاق بن محمد الأنماطي قال : حدثنا يوسف بن موسى قال : حدثنا جرير ، عن أشعث بن سوار عن الشعبي. قال عتاب بن محمد :

ص: 76

وحدثنا الحسين بن محمد الحراني قال : حدثنا أيوب بن محمد الوزان قال : حدثنا سعيد بن مسلمة قال : حدثنا أشعث بن سوار ، عن الشعبي ، كلهم قالوا عن عمه قيس بن عبد.

قال أبو القاسم عتاب : وهذا حديث مطرف قال : كنا جلوساً في المسجد ، ومعنا عبد الله بن مسعود ، فجاء أعرابي فقال : فيكم عبد الله ؟

قال : نعم أنا عبد الله ، فما حاجتك ؟

قال : يا عبد الله أخبركم نبيكم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كم يكون فيكم من خليفة ؟

قال : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ قدمت العراق ، نعم ، اثنا عشر عدة نقباء بني إسرائيل.

قال : أبو عروبة في حديثه : نعم عدة نقباء بني إسرائيل. وقال جرير عن الأشعث بن مسعود عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال : الخلفاء بعدي اثنا عشر ، كعدد نقباء بني إسرائيل. انتهى. ( ورواهما في كمال الدين وتمام النعمة / 271 ، بنفس السند )

وأكبر عملٍ حديثي قام به قدماء علمائنا في هذا الموضوع ، بل هو أجلُّ ما وجدته في الموضوع من الأعمال العلمية المقارنة ، تأليف المحدث الخبير علي بن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي ، من علماء أوائل القرن الرابع وكتابه القيم ( كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر ) وقد ذكر منهجه في مقدمته فقال في ص 7 :

أما بعد : فإن الذي دعاني الى جمع هذه الأخبار ، عن الصحابة والعترة الأخيار ، في النصوص على الأئمة الأبرار ، أني وجدت قوماً من ضعفاء الشيعة ومتوسطيهم في العلم ، متحيرين في ذلك ومتعجزين ، يشكون فرط اعتراض المشبهة عليهم ، وزمرات المعتزلة ، تلبيساً وتمويهاً عاضدتهم عليه ، حتى آل الأمر بهم الى أن جحدوا أمر النصوص عليهم ، من جهةٍ لا يقطع بمثلها العذر ، حتى أفرط بعضهم وزعم أن ليس لها من الصحابة أثر .... فلما رأيت ذلك كذلك ، ألزمت نفسي الإستقصاء في هذا الباب موضحاً ما عندي من البينات ، ومبطلاً ما أورده المخالفون من الشبهات ، تحرياً لمرضاة الله ، وتقرباً الى رسوله والأئمة من بعده.

ص: 77

وأبتدئ بذكر الروايات في النصوص عليهم من جهة أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعروفين مثل عبد الله بن العباس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وجابر بن سمرة ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن أسيد ، وعمران بن الحصين ، وسعد بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي قتادة الأنصاري ، وعلي بن أبي طالب ، وابنيه الحسن والحسين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

ومن النساء : أم سلمة ، وعائشة ، وفاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ثم أعقبه بذكر الأخبار التي وردت عن الأئمة صلوات الله عليهم ، مما يوافق حديث الصحابة ، في النصوص على الأئمة ، ونص كل واحد منهم على الذي من بعده ، ليعلموا إن أنصفوا ويدينوا به ، ولا يكونوا كما قال الله سبحانة « فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم » إذ مثل هذه الأخبار تزيل الشك والريب ، ويقطع بها العذر ، وإن الأمر أوكد مما ذهبوا اليه. انتهى.

ثم عقد قدس الله نفسه باباً لما روي عن كل واحد من الصحابة الذين ذكرهم ، وأورد فيه حديثه أو أحاديثه ، بسند متصل منه اليه ، الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فحفظ بذلك عدداً من النصوص التي ضاعت في مصادر إخواننا السنيين ، أو تشتتت في مصنفاتهم ، أو بقي منها أجزاء مجزأة ، وأحياناً بقي الحديث بكامله !

ونورد فيما يلي نماذج منها :

- قال في ص 23 في باب ما جاء عن عبد الله بن مسعود :

أخبرنا محمد بن عبد الله (رحمه الله) قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمارة الثقفي قال : حدثني أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال : حدثنا محمد بن الحسان الضرير التومني قال : حدثنا علي بن محمد الأنصاري ، عن عبد الله بن عبد الكريم ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن حبش بن المعتمر ، عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر كلهم من قريش.

ص: 78

وهذا عبد الله بن مسعود روى عنه السائب ، ومسروق ، وقيس بن سعد ، وحبش بن المعتمر.

أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني (رحمه الله) قال حدثنا أبو علي محمد بن زهير بن الفضل الأبلي قال : حدثنا أبو الحسين عمر بن الحسين بن علي بن رستم قال : حدثني ابراهيم بن يسار الرمادي قال : حدثني سفيان بن عتبة ، عن عطا بن السائب ، عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسلم يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، تسعة من صلب الحسين ، والتاسع مهديهم.

وقال في ص 73 في باب ما جاء عن أنس بن مالك :

حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عياش الجوهري قال : حدثنا محمد بن أحمد الصفواني قال : حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة قال : حدثنا محمد بن عبد الله الحمصي قال : حدثنا بن حماد ، عن أنس بن مالك قال : صلى بنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال : معاشر أصحابي من أحب أهل بيتي حشر معنا ، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقى. فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال : يا رسول الله كم الأئمة بعدك ؟

قال : عدد نقباء بني اسرائيل.

فقال : كلهم من أهل بيتك ؟

قال : كلهم من أهل بيتي ، تسعة من صلب الحسين ، والمهدي منهم.

وقال في ص 113 في باب ما جاء عن أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد :

أخبرنا أبو المفضل الشيباني قال : حدثني حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي قال : حدثنا محمد بن مسعود ، عن يوسف بن السخت ، عن سفيان الثوري ، عن موسى بن عبيدة أياس بن مسلمة بن الأكوع ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول : أنا سيد الأنبياء ، وعلي سيد الأوصياء ، وسبطاي خير الأسباط ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين ، ومنا مهدي هذه الأمة.

فقام اليه أعرابي فقال : يا رسول الله كم الأئمة بعدك ؟

ص: 79

قال : عدد الأسباط ، وحواري عيسى ، ونقباء بني إسرائيل.

وقال في ص 120 في باب ما جاء عن عمار بن ياسر :

أخبرنا محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني قال : حدثنا محمد بن الحسين بن حفص الحثعمي الكوفي قال : حدثنا عباد ابن يعقوب قال : حدثنا علي بن هاشم ، عن محمد بن عبد الله ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، عن أبيه ، عن جده عمار قال : كنت مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بعض غزواته ، وقتل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أصحاب الألوية وفرق جمعهم ، وقتل عمراً بن عبد الله الجمحمي ، وقتل شيبة بن نافع ، أتيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسلم فقلت له : يا رسول الله صلى الله عليك إن علياً قد جاهد في الله حق جهاده. فقال : لأنه مني وأنا منه ، وارث علمي وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، والخليفة بعدي ، ولولاه لم يعرف المؤمن المحض ، حربه حربي وحربي حرب الله ، وسلمه سلمي وسلمي سلم الله ، ألا إنه أبو سبطيَّ ، والائمه من صلبه ، يخرج الله تعالى الأئمة الراشدين ، ومنهم مهدي هذه الأمة.

فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا المهدي ؟

قال : يا عمار إن الله تبارك وتعالى عهد اليَّ أنه يخرج من صلب الحسين تسعة ، والتاسع من ولده يغيب عنهم ، وذلك قوله عز وجل : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين ، يكون له غيبة طويلة يرجع عنها قوم ، ويثبت عليها آخرون ، فإذا كان في آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ، ويقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، وهو سميي ، وأشبه الناس بي.

يا عمار ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه ، فإنه مع الحق والحق معه. يا عمار إنك ستقاتل بعدي مع علي صنفين : الناكثين والقاسطين ثم تقتلك الفئة الباغية.

قلت : يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك ؟

قال : نعم على رضا الله ورضاي ، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه.

ص: 80

فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر الى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له : يا أخا رسول الله ، أتاذن لي في القتال ؟

قال مهلاً رحمك الله ، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله ، فأعاد عليه ثالثاً فبكى أمير المؤمنين وقال : إنه اليوم الذي وصفه لي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فنزل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن بغلته وعانق عماراً وودعه ، ثم قال :

يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيراً ، فنعم الأخ كنت ، ونعم الصاحب كنت. ثم بكى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبكى عمار.

ثم قال : والله يا أمير المؤمنين ما تبعتك إلا ببصيرة ، فإني سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول يوم خيبر : يا عمار ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه ، فإنه مع الحق والحق معه ، وستقاتل الناكثين والقاسطين ، فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء ، فلقد أديت وأبلغت ونصحت.

ثم ركب وركب أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثم برز الى القتال ، ثم دعا بشربةٍ من ماء فقيل له ما معنا ماء ، فقام اليه رجل من الأنصار فأسقاه شربةً من لبن ، فشربه ثم قال : هكذا عهد الي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يكون آخر زادي من الدنيا شربةٌ من لبن.

ثم حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفساً ، فخرج اليه رجلان من أهل الشام فطعناه وقتل (رحمه الله).

فلما كان في الليل طاف أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في القتلي ، فوجد عماراً ملقىً بين القتلى ، فجعل رأسه على فخذه ، ثم بكى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنشأ يقول :

ألا أيها الموت الذي لست تاركي

أرحني فقد أفنيت كل خليلِ

أراك بصيراً بالذين أحبهم

كأنك تمضي نحوهم بدليلِ

- وقال في ص 180 في باب ما جاء عن أم سلمة :

حدثنا علي بن الحسن بن محمد بن مندة قال : حدثنا أبو الحسين زيد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخزاز بالكوفة في سنة سبع وسبعين وثلثمائة قال : حدثنا العباس بن العباس الجوهري ببغداد في دار عميرة قال : حدثني عفان بن مسلم قال :

ص: 81

حدثني حماد بن سلمة ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن سداد بن أوس قال : لما كان يوم الجمل قلت : لا أكون مع علي ولا أكون عليه ، وتوقفت عن القتال الى انتصاف النهار ، فلما كان قرب الليل ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع علي ، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان ، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة ، قالت : من أين أقبلت ؟

قلت : من البصرة.

قالت : مع أي الفريقين كنت ؟

قلت : يا أم المؤمنين إني توقفت عن القتال الى انتصاف النهار ، وألقى الله عز و جل أن أقاتل مع علي.

قالت : نعم ما عملت ، لقد سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول : من حارب علياً فقد حاربني ، ومن حاربني فقد حارب الله.

قلت : فترين أن الحق مع علي ؟

قالت : إي والله ، عليٌّ مع الحق والحق معه ، والله ما أنصف أمة محمد نبيهم ، إذ قدموا من أخره الله عز وجل ورسوله ، وأخروا من قدمه الله تعالى ورسوله ! وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم ، وأبرزوا حليلة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى الفناء ! والله سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول : لأمتي فرقة وجعلة ، فجامعوها إذا اجتمعت ، وإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط ، ثم ارقبوا أهل بيتي فإن حاربوا فحاربوا ، وإن سالموا فسالموا ، وإن زالوا فزالو معهم ، فإن الحق معهم حيث كانوا.

قلت : فمن أهل بيته ؟

قالت : أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم ؟

قالت : هم الأئمة بعده كما قال : عدد نقباء بني إسرائيل : علي وسبطاه ، وتسعة من صلب الحسين ، هم أهل بيته هم المطهرون ، والأئمة المعصومون.

قلت : إنا لله هلك الناس إذاً ؟!.

قالت : كل حزب بما لديهم فرحون. انتهى.

* *

ص: 82

البحث الثالث: الأسس الإسلامية في خطب الوداع

اشارة

اتضح مما تقدم أن خطبة عرفات في حجة الوداع تضمنت بشارة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالأئمة الإثني عشر من بعده ، ووصيته بهم ..

فماذا قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الخطب الخمس الباقية ؟ في مكة يوم التروية ، وفي منى يوم العيد ، ووسط أيام التشريق ، وفي مسجد الخيف يوم النفر. وفي غدير خم ؟.

مع أن المصادر نقلت القليل من هذه الخطب وخلطت بين مضامينها .. لكنك تجد في رواياتها المتعددة أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طرح كل الأمور المهمة التي تحتاج اليها الأمة من بعده .. فقد تضمنت الخطب فقرات نبوية في المحاور أو الأسس الخمس التالية :

1 - أساس المساواة الإنسانية

- مبدأ الوحدة الإنسانية بين البشر ، وإلغاء التمايز القومي.

- مبدأ حسن معاملة النساء ، وعدم ظلمهن.

2 - أساس وحدة الأمة الإسلامية

- مبدأ إلغاء آثار الجاهلية ومآثرها وتشريعاتها المخالفة للاسلام.

- مبدأ الأخوة والتكافؤ بين المسلمين.

- مبدأ احترام الملكية الشخصية - تحريم أموال المسلمين على بعضهم.

ص: 83

- مبدأ احترام حياة المسلم - تحريم دمائهم على بعضهم.

- مبدأ احترام عرض المسلم وكرامته - تحريم أعراضهم على بعضهم.

- مبدأ : من قال لا إله إلا الله ، فقد عصم ماله ودمه.

- مبدأ ختام النبوة به 9 وختام الأمم بأمته.

- مبدأ شهادة النبي على الأمة في الآخرة ، وموافاتها له على الحوض.

- مبدأ ضرورة الدقة والحذر من محقرات الأعمال ، التي تجر الى الإنحراف.

- مبدأ التحذير من الكذب على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، والتحقيق فيما ينقل عنه.

3 - أساس وحدة الشريعة ووحدة ثقافة المسلمين

- مبدأ أداء الأمانة

- قوانين الإرث

- قوانين الديات والقصاص

- تشريعات مناسك الحج ( خذوا عني مناسككم )

4 - مبادئ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

- مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.

- مبدأ التأكيد على الثقلين القرآن والعترة.

- مبدأ إعلان أن علياً ولي الأمة من بعده ، والإمام الأول من الإثني عشر.

- مبدأ أداء الفرائض ، وإطاعة ولاة الأمر.

- مبدأ تخليد تعاهد قريش وكنانة على حصار بني هاشم.

- مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

- مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد بعده والصراع على السلطة

5 - أساس عقوبة المخالفين للخط النبوي

- مبدأ لعن من ادعى الى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه.

ص: 84

ولا يتسع المجال لبحث هذه الأسس والمبادئ الإلهية بالتفصيل ، لذا نكتفي بذكر نماذج من الخطب الشريفة ، ثم نذكر فقرات الخطب المتعلقة بالمبادئ المذكورة ، مع التوضيحات الضرورية.

ولا بد أن نشير أولاً الى أن للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له في كل واحدة من هذه المبادئ بياناتٌ متعددةٌ في غير حجة الوداع ، وأنها تشكل مع ما جاء منها في خطب الوداع الستة كلاماً موحداً ، لا يمكن فصل بعضه عن بعض .. فكلامه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إن هو إلا وحيٌ يوحى يكمل بعضه بعضاً ، ويفسر بعضه بعضاً ، ويشكل في كل موضوع وحدةً عقيدية وتشريعية متكاملة البناء ، في صرح الإسلام الرباني الشامل.

نماذج من نصوص خطب الوداع

- تحف العقول ص 30 لابن شعبة الحراني المتوفى حدود سنة 350

خطبته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حجة الوداع :

الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحثكم على العمل بطاعته ، وأستفتح الله بالذي هو خير.

أما بعد : أيها الناس ! إسمعوا مني ما أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، الى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد.

فمن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.

ص: 85

وإن ربا الجاهلية موضوع ، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب.

وإن دماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب.

وإن مآثر الجاهلية موضوعة ، غير السدانة والسقاية.

والعمد قود ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ، وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية.

أيها الناس : إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضي بأن يطاع فيما سوى ذلك ، فيما تحتقرون من أعمالكم.

أيها الناس : إنما النسئ زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليواطؤوا عدة ما حرم الله.

وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ، وواحد فرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد.

أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقاً ، ولكم عليهن حقاً ، حقكم عليهن أن لا يوطئن أحداً فرشكم ، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم ، إلا بإذنكم ، وألا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكتاب الله ، فاتقوا الله في النساء ، واستوصوا بهن خيراً.

أيها الناس : إنما المؤمنون إخوة ، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد.

فلا ترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي.

ص: 86

ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد.

أيها الناس : إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.

ألا هل بلغت ؟

قالوا : نعم.

قال : فليبلغ الشاهد الغائب.

أيها الناس : إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز لوارثٍ وصية في أكثر من الثلث ، والولد للفراش وللعاهر الحجر.

من ادعى الى غير أبيه ، ومن تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. والسلام عليكم ورحمة الله.

- وقال الكليني في الكافي : 1 / 403

عن الحكم بن مسكين ، عن رجل من قريش من أهل مكة قال : قال سفيان الثوري : إذهب بنا الى جعفر بن محمد ، قال فذهبت معه إليه ، فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : ياأبا عبد الله حدثنا بحديثِ خطبة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مسجد الخيف.

قال : دعني حتى أذهب في حاجتى فإني قد ركبت ، فإذا جئت حدثتك.

فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما حدثتني.

قال : فنزل ، فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به ثم قال :

أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مسجد الخيف :

نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه.

يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب حامل فقهٍ ليس بفقيه ، ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه.

ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطةٌ من ورائهم.

ص: 87

المؤمنون إخوةٌ تتكافى دماؤهم ، وهم يدٌ على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم.

فكتبه سفيان ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وجئت أنا وسفيان ، فلما كنا في بعض الطريق قال لي : كما أنت ، حتى أنظر في هذا الحديث.

قلت له : قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً !

فقال : وأي شيء ذلك ؟

فقلت له : ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، قد عرفناه. والنصيحة لأئمة المسلمين ، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان ، ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم ؟

وقوله : واللزوم لجماعتهم ، فأي الجماعة ؟ مرجئ يقول : من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل ؟!

أو قدري يقول : لا يكون ما شاء الله عز وجل ، ويكون ما شاء إبليس ؟!

أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب ، ويشهد عليه بالكفر ؟!

أو جهمي يقول : إنما هي معرفة الله وحده ، ليس الإيمان شيء غيرها ؟!

قال : ويحك ، وأي شيء يقولون ؟!

فقلت : يقولون : إن علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والله الإمام الذي وجب علينا نصيحته. ولزوم جماعتهم : أهل بيته.

قال : فأخذ الكتاب فخرقه ، ثم قال : لا تخبر بها أحداً. انتهى.

- وفي تفسير علي بن ابراهيم : 1 / 171

وحج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة ، فكان من قوله بمنى أن حمد الله واثنى عليه ، ثم قال :

أيها الناس : إسمعوا قولي واعقلوه عني ، فإني لا أدري لا ألقاكم بعد عامي هذا.

ثم قال : هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة ؟

ص: 88

قال الناس : هذا اليوم.

قال : فأي شهر ؟

قال الناس : هذا.

قال : وأي بلد أعظم حرمة ؟

قالوا : بلدنا هذا.

قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، الى يوم تلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم.

ألا هل بلغت أيها الناس ؟

قالوا : نعم.

قال : اللهم اشهد.

ثم قال : ألا وكل مأثرةٍ أو بدعةٍ كانت في الجاهلية ، أو دمٍ أو مالٍ ، فهو تحت قدميَّ هاتين ، ليس أحدٌ أكرم من أحدٍ إلا بالتقوى.

ألا هل بلغت ؟

قالوا : نعم.

قال : اللهم اشهد.

ثم قال : ألا وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبد المطلب.

ألا وكل دمٍ كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول موضوعٍ دم ربيعة.

ألا هل بلغت ؟

قالوا : نعم.

قال : اللهم اشهد.

ثم قال : ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد !

ص: 89

ألا أيها الناس : إن المسلم أخ المسلم حقاً ، لا يحل لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه. وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها ، وحسابهم على الله.

ألا هل بلغت أيها الناس ؟

قالوا : نعم.

قال : اللهم اشهد.

ثم قال : أيها الناس : إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي ، وافهموه تنعشوا. ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن فعلتم ذلك - ولتفعلن - لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة ثم قال - إن شاء الله أو علي بن أبي طالب -

ثم قال : ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا ، ومن خالفهما فقد هلك.

ألا هل بلغت ؟

قالوا : نعم.

قال : اللهم اشهد.

ثم قال : ألا وإنه سيرد عليَّ الحوض منكم رجالٌ فيدفعون عني ، فأقول : رب أصحابي ؟ فيقول : يا محمد إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك ، فأقول : سحقاً سحقا.

فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله : إذا جاء نصر الله والفتح ، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : نُعِيَتْ اليَّ نفسي ، ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخيف ، فاجتمع الناس فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال :

نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ، وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه.

ص: 90

ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لائمة المسلمين ، ولزم جماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم.

المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يدٌ على من سواهم. أيها الناس : إني تارك فيكم الثقلين.

قالوا : يا رسول الله وما الثقلان ؟

قال : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترفا حتى يردا عليَّ الحوض ، كإصبعي هاتين - وجمع بين سبابتيه - ولا أقول كهاتين وجمع سبابته والوسطى ، فتفضل هذه على هذه.

فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته ، فخرج أربعة نفر منهم الى مكة ودخلوا الكعبة ، وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً : إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً !

فأنزل الله على نبيه في ذلك : أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ، بلى ورسلنا لديهم يكتبون ... انتهى.

* *

- وفي صحيح البخاري : 5 / 126

عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان.

أي شهر هذا.

قلنا : الله ورسوله أعلم.

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال :

ص: 91

أليس ذو الحجة ؟

قلنا : بلى.

قال : فأي بلد هذا ؟

قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال :

أليس البلدة ؟

قلنا : بلى.

قال : فأي يوم هذا ؟

قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال :

أليس يوم النحر ؟

قلنا : بلى.

قال : فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم.

ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.

ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه. انتهى. ويلاحظ أن فيه كلمة ضلالاً بدل كفاراً في غيره.

- وفي صحيح البخاري : 1 / 24

عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ذكر النبى صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه ، ثم قال :

أي يوم هذا ؟

فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه.

قال : أليس يوم النحر ؟

قلنا : بلى.

ص: 92

قال : فأي شهر هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.

فقال : أليس بذي الحجة ؟

قلنا : بلى.

قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب ، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه.

- وفي صحيح مسلم : 4 / 41

فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ، وقال :

إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع ، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله.

فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن كسوتهن بالمعروف.

وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله.

وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟

قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.

فقال بإصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكتها الى الناس : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، ثلاث مرات.

ص: 93

- ورواه ابن ماجة : 2 / 1024 ، وفيه :

ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً.

ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ..

- وفي مستدرك الحاكم : 1 / 77

وخطب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال :

يا أيها الناس إني فرط لكم على الحوض ، وإن سعته ما بين الكوفة الى الحجر الأسود ، وآنيته كعدد النجوم ، وإني رأيت أناساً من أمتي لما دنوا مني ، خرج عليهم رجلٌ فمال بهم عني ، ثم أقبلت زمرةٌ أخرى ففعل بهم كذلك ، فلم يفلت إلا كمثل النعم !!

فقال أبو بكر : لعلي منهم يا نبي الله ؟!

قال لا ، ولكنهم قوم يخرجون بعدكم ويمشون القهقرى !. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، وقد حدث به الحجاج بن محمد أيضاً عن الليث ولم يخرجاه.

- وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1016

حدثنا إسماعيل بن توبة ، ثنا زافر بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته المخضرمة بعرفات ، فقال :

أتدرون أي يوم هذا وأي شهر هذا وأي بلد هذا ؟

قالوا : هذا بلدٌ حرام وشهر حرم ويوم حرام.

قال : ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة شهركم هذا في بلدكم هذا في يومكم هذا.

ألا وإني فرطكم على الحوض ، وأكاثر بكم الأمم ، فلا تسودوا وجهي.

ألا وإني مستنقذٌ أناساً ، ومستنقذ مني أناس ، فأقول : يا رب أصحابي ؟ فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ! في الزوائد : إسناده صحيح.

ص: 94

- وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1300

باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض :

عن جرير بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : في حجة الوداع استنصت الناس ، فقال : لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

ويحكم أو ويلكم ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

عن الصنابح الأحمسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إني فرطكم على الحوض وإني مكاثرٌ بكم الأمم ، فلا تقتتلن بعدي.

في الزوائد : إسناده صحيح ، ورجاله ثقات.

- وفي سنن الترمذي : 2 / 61

سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يخطب في حجة الوداع فقال : إتقوا الله ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم.

قال : قلت لأبي أمامة : منذ كم سمعت هذا الحديث ؟

قال : سمعت وأنا ابن ثلاثين سنة. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

- وفي مسند أحمد : 5 / 412

عن مرة قال حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة ، فقال :

أتدرون أي يومكم هذا ؟

قال قلنا يوم النحر.

قال : صدقتم يوم الحج الأكبر. أتدرون أي شهركم هذا ؟

قلنا ذو الحجة.

قال : صدقتم شهر الله الأصم. أتدرون أي بلد بلدكم هذا ؟

ص: 95

قال قلنا : المشعر الحرام.

فقال : صدقتم ، قال فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، أو قال كحرمة يومكم هذا وشهركم هذا وبلدكم هذا ، ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم ، فلا تسودوا وجهي ! ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني وستسألون عني ، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً ، ومستنقذٌ مني آخرون ، فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك !!

- وفي مجمع الزوائد : 3 / 265

( باب الخطب في الحج ) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه قال : كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس ، فقال : يا أيها الناس هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم ؟

قالوا : في يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام.

قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، الى يوم تلقونه.

ثم قال : إسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا ، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه.

ألا وإن كل دم وماء ومال كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه الى يوم القيامة ، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل.

ألا وإن كل رباً في الجاهلية موضوعٌ ، وإن الله عز وجل قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب. لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.

ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، ثم قرأ : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، منها أربعة

ص: 96

حرم ذلك الدين القيم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم.

ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ، ولكنه في التحريش بينكم.

واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوانٌ لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإن لهن عليكم حقاً ، ولكم عليهن حقاً أن لايوطئن فرشكم أحداً غيركم ، ولا يأذنن في بيوتكم لأحد تكرهونه ، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح - قال حميد قلت للحسن ما المبرح ؟ قال : المؤثر - ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما أخذتموهن بأمانة بالله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل.

ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.

وبسط يده وقال ألا هل بلغت ، ألا هل بلغت ؟

ثم قال ليبلغ الشاهد الغائب ، فإنه رب مبلغ أسعد من سامع.

قال حميد قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة : قد والله بلغوا أقواما كانوا أسعد به.

قلت : روى أبو داود منه ضرب النساء فقط رواه أحمد وأبو حرة الرقاشي وثقة أبو داود وضعفه ابن معين. وفيه علي بن زيد وفيه كلام.

وعن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة النبى صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال :

يا أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربى ، ولا أسود على أحمر ولا أحمر على أسود ، إلا بالتقوى.

أبلغت ؟

قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال : أي يوم هذا ؟

قالوا : يوم حرام.

ص: 97

ثم قال : أي بلد هذا ؟

قالوا : بلد حرام.

قال فإن الله عز وجل قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم - قال ولا أدري قال وأعراضكم أم لا - كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.

أبلغت ؟

قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال : ليبلغ الشاهد الغائب. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ( أحمد : 5 / 72 )

وعن ابن عمر قال نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى في أوسط أيام التشريق فعرف أنه الموت ، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب فوقف للناس بالعقبة ، واجتمع له ما شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :

أما بعد أيها الناس ، فإن كل دمٍ كان في الجاهلية فهو هدر ، وإن أول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل. وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع ، وإن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبد المطلب.

أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، رجب مضر الذى بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم الله. كانوا يحلون صفر عاماً ويحرمون المحرم عاماً فذلك النسيء.

يا أيها الناس : من كانت عنده وديعةٌ فليؤدها الى من ائتمنه عليها.

أيها الناس : إن الشيطان أيس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان ، وقد رضي منكم بمحقرات الأعمال ، فاحذروا على دينكم محقرات الأعمال.

أيها الناس : إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن

ص: 98

بكلمة الله ، لكم عليهن حق ولهن عليكم حق ، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ، ولا يعصينكم في معروف ، فإن فعلن ذلك فليس لكم عليهن سبيل ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، فإن ضربتم فاضربوا ضرباً غير مبرح.

لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه.

أيها الناس : إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله فاعملوا به.

أيها الناس : أي يوم هذا ؟

قالوا : يوم حرام.

قال : فأي بلد هذا ؟

قالوا : بلد حرام.

قال : فأي شهر هذا ؟

قالوا : شهر حرام.

قال : فإن الله تبارك وتعالى حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذا اليوم وهذا الشهر وهذا البلد. ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم ، لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم. ثم رفع يديه فقال : اللهم اشهد. قلت في الصحيح وغيره طرف منه - رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.

- وفي مجمع الزوائد : 3 / 272

وعن فهد بن البحيرى بن شعيب بن عمرو بن الأزرق قال : خرجت الى مكة فلما صرت بالصحرية ، قال لي بعض إخواني : هل لك في رجلٍ له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم ، قال صاحب القبة المضروبة في موضع كذا وكذا ، فقلت لأصحابى : قوموا بنا إليه ، فقمنا فانتهينا الى صاحب القبة ، فسلمنا فرد السلام فقال : مَنِ القوم ؟

قلنا : قومٌ من أهل البصرة بلغنا أن لك صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : نعم ، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدت تحت منبره يوم حجة

ص: 99

الوداع ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن الله يقول :

يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، فليس لعربي على عجمي فضل ، ولا لعجمي على عربي فضل ، ولا لأسود على أحمر فضل ، ولا لأحمر على أسود فضل ، إلا بالتقوى.

يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجئ الناس بالآخرة ، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً.

قلنا : ما اسمك ؟ قال : أنا العداء بن خالد بن عمرو بن عامر ، فارس الضحياء في الجاهلية. رواه الطبراني في الكبير بأسانيد هذا ضعيف. وتقدم له إسناد صحيح في الخطبة يوم عرفة.

وعن أبي قبيلة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس في حجة الوداع فقال : لا نبي بعدي ، ولا أمة بعدكم ، فاعبدوا ربكم ، وأقيموا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ولاة أمركم ، ثم ادخلوا جنة ربكم. رواه الطبراني في الكبير ، وفيه بقية وهو ثقة ولكنه مدلس ، وبقية رجاله ثقات.

- وفي سنن الدارمي : 2 / 47

فلما كان يوم التروية وجه الى منى فأهللنا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ، ثم مكث قليلاً حتى إذا طلعت الشمس ، أمر بقبة من الشعر تضرب له بنمرة ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار ، لا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية في المزدلفة ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزلها ، حتى إذا زاغت يعني الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ، وقال :

إن دماء كم وأموالكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وأول

ص: 100

دم وضع دماؤنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء ، فإنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يؤطين فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وأنتم مسؤلون عني فما أنتم قائلون ؟

قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.

فقال بإصبعه السبابة فرفعها الى السماء وينكتها الى الناس : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد.

ثم أذن بلال بنداء واحد وإقامة فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، لم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب حتى وقف ، فجعل بطن ناقته القصواء الى الصخيرات ...

- وفي سنن الدارمي : 2 / 67

عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : لما كان ذلك اليوم قعد النبي صلى الله عليه وسلم على بعير ، لا أدري جمل أو ناقة ، وأخذ إنسان بخطامه ، أو قال بزمامه

فقال : أي يوم هذا ؟

قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه.

فقال : أليس يوم النحر ؟

قلنا : بلى.

قال فأي شهر هذا .... الخ.

الأساس الأول : المساواة الإنسانية

لا نطيل في هذا الأساس لوضوحه ، وقد تقدمت عدة فقرات تتعلق به في نماذج النصوص من خطبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ص: 101

الأساس الثاني : وحدة الأمة الإسلامية

وقد روى المسلمون فقرات الخطب التي تتعلق بالمبادئ الخمس الأولى من هذا الأساس بكثرةٍ وحفظوها وكرروها ، حتى ليتصور الإنسان لأول وهلة أنها الموضوع الوحيد في خطب حجة الوداع !

والسبب في ذلك : أن المجتمع العالمي كان في عصره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مجتمع تمييز حاد على أساس قومي وقبلي وطبقي .. كما أنه كان مجتمع ( قانون الغلبة والقوة ) فالغالب على حق دائماً ، سواء كان حاكماً ، أو قبيلة ، أو فارساً ، أو صعلوكاً .. لأنه استطاع أن يقهر الآخرين ، أو يغزوهم ويقتلهم ويسرق أموالهم ، أو يغصبها منهم عنوةً ، أو يحتال عليهم بحيلة !

فجاءت تشريعات الإسلام لتلغي ذلك كله ، وتعلن تساوي الناس أمام الشرع ، وتحرم كل أنواع الإعتداء على الحقوق الشخصية ، وتركز احترام الإنسان وملكيته وكرامته.

فالأمر الذي جعلهم يحفظونها أكثر من غيرها من كلمات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، هو إعجاب المسلمين المؤمنين بها ، وكونها تمثل الحل لمشكلة الغزو والقتل التي كانوا يعانون منها في الجاهلية القريبة.

وقد كان لهذه التوجيهات بصيغها الإلهية والنبوية البليغة ، تأثيرٌ كبيرٌ على مجرى احترام الإنسان وماله وعرضه ورأيه بعد وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، إذ لولاها لساء وضع مجتمع المسلمين أضعافاً مضاعفة عما وصل اليه من سوء ، ولعادت النظرة الى الإنسان والتصرف معه الى الحالة الجاهلية مئة بالمئة !!

والملاحظ بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن أكثر الناس احتراماً للإنسان وحرياته المشروعة ، هم عترته وأهل بيته الطاهرون ، فعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هو الحاكم الوحيد بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي لم يستعمل قانون الطوارئ أو الأحكام العرفية ، ولا أي قانون استثنائي ، حتى مع

ص: 102

خصومه والممتنعين عن بيعته ، بل حتى في حالات الحرب .. مع أنه ابتلي بثلاثة حروب استوعبت مدة خلافته كلها !

بينما استعمل أبو بكر وعمر منطق القوة والقهر في السقيفة ضد الأنصار ، وهموا بقتل سعد بن عبادة ، ثم هاجموا الممتنعين عن بيعتهم وهم مجتمعون في بيت علي وفاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) ، وكانوا في تعزية بوفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ! بل روي أن جنازته كانت مسجاةً لم تدفن بعد ! وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا ! ولما تأخروا عن الخروج أشعلوا النار في الحطب وأحرقوا الباب .. الخ. !!

* *

وأما المبدأ السادس من هذا الأساس ( من قال : لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه ) فقد جاء في رواية تفسير علي بن ابراهيم القمي بصيغة ( وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ). وهو مبدأ له ثلاثة أبعاد :

الأول : أن من أعلن الشهادتين من أي دين أو قبيلة كان فهو مسلم ، يحرم ماله ودمه وعرضه ، إلا إذا انطبقت عليه مواد الفئة الباغية ، أو المفسد في الأرض ، أو قتل أحداً عمداً ، أو ارتد عن الإسلام ، أو زنى وهو محصن ...

الثاني : أن أهل الكتاب مستثنوْن من هذه القاعدة ، والموقف منهم في الحرب والسلم حسب أحكام التعايش الإسلامية الخاصة بهم.

الثالث : أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أشهد أمته أنه تقيد في الجهاد بأمر ربه عز وجل ، ولم يتعداه .. فمهمته في الجهاد إنما كانت على تنزيل القرآن ، وتحقيق إعلان الشهادتين فقط ، أي لتكوين الشكل الكلي للأمة ، ولم يؤمر بقتال المنحرفين ، أو الذين يريدون أن ينحرفوا من المسلمين ، لأن ذلك قتالٌ على التأويل ، يكون من بعده ، لا في عهده.

* *

ص: 103

وأما المبدأ السابع ( ختام النبوة به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وختام الأمم بأمته ) فقد ورد في رواية مجمع الزوائد المتقدمة وغيرها ( فقال لا نبي بعدي ، ولا أمة بعدكم ، فاعبدوا ربكم ، وأقيموا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ولاة أمركم ، ثم ادخلوا جنة ربكم ).

وهو مبدأ هيمنة شريعته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على شرائع الأنبياء السابقين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) .. وردُّ مدعي النبوة الكذابين ، الذين ظهر بعضهم في زمنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وظهر عددٌ منهم بعده.

كما أنه يعطي الأمة الإسلامية شرف ختام أمم الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، ويلقي عليها مسؤولية هذه الخاتمية في هداية الأمم الأخرى.

وقد حدد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لهم الخطوط العامة بعبادة الله تعالى والصلاة والصوم وإطاعة ولي الأمر .. ولكن لا يبعد أن الراوي نقل ما حفظه من كلامه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونسي بعضه كالزكاة والحج.

ومن الملاحظ في هذه المبدأ وجود فريضة إطاعة ولي الأمر على لسان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإذا أوجب الله تعالى إطاعة أحدٍ بدون شروط ، فمعناه أنه معصومٌ لا يظلم ولا يأمر ولا ينهى إلا بالحق .. وبما أن النص النبوي لم يذكر شروطاً لإطاعة أولي الأمر ، فيكون مقصوده الإثني عشر إماماً المعينين من الله تعالى ، الذين بشر الأمة بهم.

* *

وأما المبدأ الثامن ( شهادة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الأمة في الآخرة ، وموافاتها له على الحوض ) فقد ورد في مصادر متعددة كما مر ، وفي بعضها ( ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم ، فلا تسودوا وجهي ) وفي بعضها ( وإني مكاثرٌ بكم الأمم ، فلا تقتتلن بعدي ) وهو أسلوبٌ نبوي فريدٌ في التأكيد على الأمة في وداعها ، بأنها ستوافي نبيها بين يدي ربها ، ويكون كل فردٍ منها بحاجة ماسةٍ الى أن يسقى من حوض الكوثر ، شربةً لا يظمأ الإنسان بعدها أبداً ، ويصلح بها بدنه لدخول الجنة.

فهذا التوجيه منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كمثل أبٍ يقول لأولاده : إعملوا بوصيتي ، فإني مسافرٌ عنكم ، وسوف أرجع اليكم وآتي بأموالٍ كثيرة ، وتكونون في حالة فقرٍ شديدة ، وسأعرف من يعمل بوصيتي منكم ، ومن يخالفني !

ص: 104

وأما المبدأ التاسع ( تحذير الأمة من محقرات الأعمال ) ففيه إلفاتٌ الى قاعدة مهمة في السلوك الفردي والإجتماعي ، وهي أن الإنحراف يبدأ بأمر صغير ، أو أمور تبدو بسيطة ، يحتقرها الإنسان ولا يراها مهمةً في ميزان التقوى .. وإذا بها تستتبع أموراً أخرى ، وتجره الى هاوية الهلاك الأخروي ، أو الدنيوي !

وهو أمرٌ مشاهد سواءً في حالات الهلاك الفردي أو الإجتماعي ..

فقد يتسامح المسلم في النظر الى امرأة أجنبية تعجبه ، ويتسامح في الحديث معها ، ثم في التصرف .. حتى ينجر أمره الى الفاحشة !

وقد يتسامح في اتخاذ صديق سوء ، ولا ينصت الى صوت ضميره الديني ، ونصح ناصحيه .. حتى يغرق معه في بحر ظلمه للناس ، أو بحر انحرافه ورذيلته !

وقد تتسامح الأمة في اعتداء الأجانب عليها ، أو في نفوذهم السياسي ، أو الإقتصادي أو الثقافي في بلادها .. فينجر الأمر الى تسلطهم على مقدراتها ، وسيطرتهم عليها !

أو يتسامح المجتمع في مظهر من مظاهر الفساد والمنكر أول ما يحدث في محلة أو منطقة منه ، أو في فئة من فئاته ..

أو يتسامح المجتمع في شروط حاكمه ، ووزرائه وقضاته ، أو في ظلمهم وسوء سيرتهم .. فينجر ذلك الى شمول الفساد في المجتمع ، وتسارع هلاكه !

فالمحقرات من الذنوب هي المواقف أو التصرفات الصغيرة ، التي تكون في منطق الأحداث والتاريخ بذوراً غير منظورة ، لشجرة شرٍّ كبيرة ، على المستوى الفردي أو الإجتماعي !!

وبهذا ورد تفسيرها عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مصادر الطرفين ..

- ففي الكافي 2 / 288 ، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : إئتوا بحطبٍ ، فقالوا : يا رسول الله نحن بأرضٍ قرعاء ما بها من حطب ! قال : فليأت كل إنسانٍ بما قدر عليه ، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه ، بعضه على بعض ، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : هكذا تجتمع الذنوب ، ثم قال : إياكم والمحقرات

ص: 105

من الذنوب ، فإن لكل شيء طالباً ، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم ، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين. انتهى.

- وفي سنن البيهقي : 10 / 188

عن عبد الله بن مسعود (رضی الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم ومحقرات الأعمال ، إنهن ليجمعن على الرجل حتى يهلكنه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً ، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل يجئ بالعويد ، والرجل يجىَ بالعويد ، حتى جمعوا من ذلك سواداً ، ثم أججوا ناراً ، فأنضجت ما قذف فيها. انتهى.

وهذان الحديثان الشريفان ناظران الى التراكم الكمي للذنوب والأخطاء المحقرة ، وكيف تتحول الى خطر نوعي في حياة الفرد والمجتمع.

وقد يكون الحديثان التاليان ناظرين الى التراكم الكيفي في نفس الإنسان والمجتمع ، وشخصيتهما ..

- ففي الكافي : 2 / 287

عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : اتقوا المحقرات من الذنوب ، فإنها لا تغفر ! قلت : وما المحقرات ؟ قال : الرجل يذنب الذنب فيقول : طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك !

- وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1417

عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال ، فإن لها من الله طالباً. في الزوائد : إسناده صحيح ، رجاله ثقات. انتهى. ورواه الدارمي : 2 / 303 ، وأحمد : 6 / 70 و 151

ومن القواعد الهامة التي نفهمها من هذا التوجيه النبوي : أن الشيطان عندما ييأس من السيطرة على أمة في قضاياها الكبيرة ، يتجه الى التخريب والإضلال عن طريق المحقرات ! ( ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً ، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تحتقرون من أعمالكم ، فيرضى بها ( سنن ابن ماجة : 2 / 1015 )

ص: 106

فقد كان الإسلام الذي أنزله الله تعالى ، وبناه رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صرحاً كبيراً وقلعةً محكمة ، يئس الشيطان من قدرته على هدمها ، فاتجه الى إقناع شخص من أهلها بسحب حجر واحدٍ صغير من جنب الجدار ، ثم حجرٍ آخر .. وآخر .. حتى يفرغ تحت الأساس فينهار الصرح على من فيه !

ومن الأمور الملفتة التي وردت في التوجيه النبوي في رواية علي بن ابراهيم أن إطاعة الشيطان في محقرات الذنوب عبادةٌ له ، فالذين يبدؤون بالإنحراف في مجتمع ، إنما يعبدون الشيطان ولا يعبدون الله تعالى ، وهم بدعوتهم الى انحرافهم يدعون الأمة العابدة لله تعالى الى عبادة الشيطان .. ( ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم ، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد ! ).

كما أن شهادة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأن الشيطان راض بما تحتقرون من أعمالكم ، شهادةٌ خطيرة يخبر بها عن ارتياح الشيطان من نجاحه في مشروعه في إضلال الأمة ، وهدم صرحها عن طريق المحقرات .. وهو ينفع في تفسير قوله تعالى : ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين. سبأ - 20

أما أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقد اعتبروا أن طمع الأمة بالسلطة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وصراعها عليها ، كان أعظم المحقرات التي ارتكبتها بعد نبيها .. ففي بحار الأنوار : 28 / 217 عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال في تفسير قوله تعالى : ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس قال : ذلك والله يوم قالت الأنصار : منا أميرٌ ومنكم أمير ! انتهى.

* *

وأما المبدأ العاشر ( تحذير النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الكذب عليه ) فقد ورد في روايتي أحمد المتقدمتين وغيرهما ، ووردت فيه أحاديث كثيرة مشددة في مصادر الشيعة والسنة ، تدل على أن هذه المشكلة كانت موجودة في حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأنه أخبر بأنها ستزداد من بعده ، ويكثر الكذابون عليه !

ص: 107

والمتأمل في هذه المشكلة ينفر من هؤلاء الكذابين ، لأن عملهم عملٌ شيطاني من شأنه أن يشوه الإسلام ويزوره ، ويمنع وصوله الى الأجيال .. خاصة أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يكن مأموراً بفتح جبهة داخلية مع أصحابه أبداً ، ولم يؤمر بفضح هؤلاء الكذابين ولا بمعاقبتهم على كذبهم الماضي أو الآتي !!

فهل يكفي في معالجة المشكلة تحذير الكذابين ، وتحذير الأمة منهم ؟!

من الواضح أن ذلك العلاج لا يؤثر إلا تقليل حجم المشكلة الكمي ، ولذا فإن تصريح النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بوجودها ، وإخباره باستمرارها وتفاقمها بعده ، دليلٌ على أنه وضع لها بأمر ربه الحكيم ، علاجاً كافياً ..

وقد كان العلاج وجوب عرض أحاديثه التي تروى عنه على الثقلين اللذين تركهما في الأمة وأوصاها بهما .. فكل حديث خالف كتاب الله تعالى فهو زخرفٌ باطل ، يستحيل أن يكون صادراً من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، لأنه لا يقول مايخالف القرآن .. وكل حديث يخالف ما ثبت عن عترته الذين هم مع القرآن ، فهو باطلٌ أيضاً لأنهم مع القرآن دائماً ، ولأنهم ورثة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمبينون علومه للأمة من بعده.

الأساس الثالث : وحدة شريعة المسلمين وثقافتهم

وقد وردت مبادئ هذا الأساس في فقرات متعددة من خطب حجة الوداع ، ذكرنا منها أداء الأمانة وتشريعات الإرث والديات والحج .. ويوجد في الخطب الشريفة تشريعاتٌ أخرى أيضاً.

ومن الواضح أن العامل الأساسي في وحدة ثقافة الأمة الإسلامية على اختلاف بلادها وقومياتها ، هو وحدة عقيدتها وشريعتها .. وأن كل الدول والحضارات لم تستطع أن تحقق بين الشعوب التي شملتها ماحققه الإسلام من وحدة في التصور والسلوك ، ما زالت قائمة الى اليوم بين شعوبه ، رغم كل العوامل المضادة !

ص: 108

الأساس الرابع : مبادئ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

- مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.

- مبدأ التأكيد على الثقلين : القرآن والعترة.

- مبدأ إعلان علي ولياً للأمة من بعده ، والإمام الأول من الإثني عشر.

- مبدأ أداء الفرائض ، وإطاعة ولاة الأمر.

- مبدأ تخليد تعاهد قريش على حصار بني هاصم.

- مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

- مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة.

وقد تقدم البحث في حديث الأئمة الإثني عشر ، الذي شهدت رواياته بأنه صدر في خطب حجة الوداع.

والعاقل لا يمكنه أن يقبل أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد أخفى هوية هؤلاء الأئمة الإثني عشر المعينين من الله تعالى .. أو أنه طرح موضوعهم وهو يودع الأمة لمجرد إخبارها بوجودهم ، كما تدعي قريش ورواتها !

وأما المبدأ الثاني من هذا الأساس ( التأكيد على الثقلين : القرآن والعترة ) فقد روتها مصادرنا في خطبة الغدير ، وفي خطبة مسجد الخيف أيضاً ، وربما في غيرها من خطب حجة الوداع ، كما تقدم في رواية تفسير علي بن ابراهيم.

أما مصادر السنيين فقد روت بشكل واسع تأكيد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على الثقلين القرآن والعترة في خطبة غدير خم فقط ، وصححوا روايتها ، وقد تقدم أن الطبري المعروف قد ألف كتاباً من مجلدين جمع فيه أحاديث الغدير وطرقها وأسانيدها.

أما في بقية خطب حجة الوداع ، فقد رواها من صحاحهم المعروفة الترمذي في سننه : 5 / 328 عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول :

يا أيها الناس ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل

ص: 109

بيتي. وفي الباب عن أبي ذر ، وأبي سعيد ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن أسيد. هذا حديث غريب حسن ، من هذا الوجه. وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان ، وغير واحد من أهل العلم. انتهى.

ومن الملاحظ أن عدداً من المصادر السنية روت وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حجة الوداع بالكتاب وحده ، بدون العترة !

ففي صحيح مسلم : 4 / 41 ( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله ) ومثله في أبي داود : 1 / 427 ، وسنن البيهقي : 5 / 8 ، ونحوه في ابن ماجة : 2 / 1025 ، وفي مجمع الزوائد : 3 / 265 : بصيغة ( أيها الناس إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله فاعملوا به ).

والمتتبع لأحاديث الباب يطمئن بأن الذي حصل هو إسقاط العترة من الرواية التي رواها هؤلاء ، إما لنسيان الراوي ، أو بسبب رقابة قريش على خطب نبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

والدليل على ذلك : أن نفس المصادر التي روت هذا الحديث ناقصاً في حجة الوداع ، روته تاماً في غيرها ، فيحمل الناقص على التام !

فقد روى مسلم والبيهقي وابن ماجة والهيثمي بروايات متعددة ، وصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالقرآن والعترة معاً ، وتأكيداته المتكررة على ذلك ..

- ففي صحيح مسلم : 7 / 122 :

عن زيد بن أرقم ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال :

أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال :

وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي.

ص: 110

فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ، أليس نساؤه من أهل بيته ؟

قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

قال : ومن هم ؟

قال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس.

قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟

قال : نعم. انتهى.

ورواه البيهقي في سننه 7 / 30 و 10 / 114.

وفي مجمع الزوائد : 1 / 170 : عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني تركت فيكم خليفتين : كتاب الله ، وأهل بيتي ، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات ). ورواه بنحوه : 9 / 162 وقال : رواه أحمد وإسناده جيد.

وأما أبو داود فلم يرو حديثاً صريحاً في الثقلين ، ولكنه عقد في سننه : 2 / 309 كتاباً باسم ( كتاب المهدي ) وروى فيه حديث الأئمة الإثني عشر وبشارة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالإمام المهدي وأنه من ذرية علي وفاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) ، وروى عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله ( لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً ). انتهى.

والذي يؤكد ما ذكرناه من أن الوصية بالعترة حذفت من خطب حجة الوداع : أن الكلام النبوي الذي هو جوامع الكلم ، له خصائص عديدة يتفرد بها .. ومن خصائصه أنه يستعمل تراكيب معينة لمعان معينة ، لا يستعملها لغيرها ، فهو بذلك يشبه القرآن. وتركيب ( ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ) خاصٌّ لوصيته للأمة بالقرآن والعترة ، لم يستعمله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غيرهما أبداً .. كما أن تعبير : إني تارك فيكم الثقلين لم يستعمله في غيرهما أبداً.

ولذلك عندما قال لهم في مرض وفاته : إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً .. فهمت قريش أنه يريد أن يلزم المسلمين بإطاعة الأئمة من عترته

ص: 111

بشكل مكتوب ، فرفضت ذلك بصراحةٍ ووقاحةٍ ! وقد روى البخاري هذه الحادثة في ست أماكن من صحيحه !! وروت المصادر أن عمر افتخر في خلافته ، بأنه بمساعدة قريش حال دون كتابة ذلك الكتاب !!

وغرضنا هنا أن نلفت الى أن ورود هذا التركيب في أكثر رواياتهم لخطب حجة الوداع للقرآن وحده دون العترة ، يخالف الأسلوب النبوي ، وتعبيره المبتكر في الوصية بهما معاً .. خاصةً وأن الترمذي رواهما معاً !

والنتيجة أن بشارة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأمته في حجة الوداع بالائمة الإثني عشر ، ووصيته بالثقلين ، وجعله عترته الطاهرين علياً وفاطمة والحسن والحسين عدلاً للقرآن في وجوب الإتباع ، أمرٌ ثابتٌ في مصادر جميع المسلمين .. لا ينكره إلا من يريد أن يتعصب لقبيلة قريش ، في مقابل الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وأما المبدأ الثالث من هذا الأساس ( إعلان علي ولياً للأمة من بعده ) فهو صريح حديث الغدير ، ولا يتسع موضوعنا لذكر أسانيده ونصوصه ، ودلالتها على ذلك .. وقد تكفلت بذلك المصادر الحديثية والكلامية ، ومن أقدمها كتاب ( الولاية ) للطبري السني ، ومن أواخرها كتاب الغدير للعلامة الأميني.

وأما المبدأ الرابع من هذا الأساس ( تأكيده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أداء الفرائض وإطاعة ولاة الأمر ) فقد تقدم ذكره في فقرات الأساس الثاني ، وقد اعترف الفخر الرازي وغيره في تفسير قوله تعالى « أطيعوا وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » بأن غير المعصوم لا يمكن أن يأمرنا الله تعالى بطاعته بدون شرط ، لأنه يكون بذلك أمرَ بالمعصية ! فلا بد أن يكون أولوا الأمر في الآية معصومين .. وكذلك الحديث النبوي الشريف في حجة الوداع ، وغيرها.

وأما المبدأ الخامس من هذا الأساس ( تخليده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكان تعاهد قريش على حصار بني هاشم ) فقد رواه البخاري في صحيحه : 5 / 92 قال :

ص: 112

عن أبي هريرة (رضی الله عنه) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله ، الخيف ، حيث تقاسموا على الكفر. انتهى.

ورواه في : 4 / 246 و : 8 / 194 ورواه في : 2 / 158 ، بنص أوضح ، فقال :

عن أبي هريرة (رضی الله عنه) قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى : نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر. يعني بذلك المحصب ، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب ، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم !!. انتهى.

ورواه مسلم : 4 / 86 ، وأحمد : 2 / 322 و 237 و 263 و 353 و 540

ورواه البيهقي في سننه : 5 / 160 ، بتفاوت وقال ( أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي ) وقد رواه مسلم عن الأوزاعي ، ولكن البخاري لم يروه عنه ، بل عن أبي هريرة ، ولم نجد في طريقه الأوزاعي ، فهو اشتباهٌ من البيهقي ، أو سقطٌ من نسخة البخاري التي بأيدينا.

وفي رواية البيهقي عن الأوزاعي زيادة ( أن لا يناكحوهم ، ولا يكون بينهم شيء حتى يسلموا اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

كما أن في رواياتهم تفاوتاً في وقت إعلان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للمسلمين عن مكان نزوله في منى ، فرواية البخاري تذكر أنه أعلن ذلك في منى بعد عرفات ، بينما تذكر رواية الطبراني أنه أعلن ذلك في مكة قبل توجهه الى الحج .. وهذا أقرب الى اهتمامه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالموضوع ، وحرصه على تركيزه في أذهان المسلمين ، خاصةً أنه نزل في هذا المنزل ، وبات فيه ليلة عرفات ، وهو في طريقه اليها ، وقد تقدم ذلك في رواية الدارمي ، ثم نزل فيه طيلة أيام التشريق ! قال في مجمع الزوائد : 3 / 250 :

عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل يوم التروية بيوم : منزلنا غداً إن شاء الله بالخيف الأيمن ، حيث استقسم المشركون. رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، ورجاله ثقات. انتهى.

ص: 113

والمسألة المهمة هنا : هي هدف الرسول أن يذكِّر قريشاً والمسلمين بحادثةٍ عظيمة وقعت فيهذا المكان ، قبل نحو أربع عشرة سنة من ذلك اليوم فقط ! هذه الحادثة التي تريد قريش أن تدفنها وأن ينساها الناس ، ويريد الله ورسوله أن تخلد في ذاكرة المسلمين والتاريخ ، وكلها عارٌ على قريش ، وفخرٌ للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبني هاشم .. وهي صورةٌ عن جهود فراعنة قريش ، حيث استطاعوا أن يحققو إجماع قبائلهم ، ويقنعوا قبائل كنانة القريبة من الحرم بتنفيذ مقاطعة تامة على بني هاشم !!

وقد نفذوها لسنين طويلة وضيقوا عليهم اقتصادياً واجتماعياً تضييقاً تاماً ، حتى يتراجع محمد عن نبوته ، أو يسلمه بنو هاشم الى قريش ليقتلوه !!

وقد اعتبر الفراعنة يومذاك أنهم نجحوا نجاحاً كبيراً وحققوا إجماع قريش وكنانة على هذا الهدف الشيطاني ، وكان مؤتمرهم لذلك في المحصب في خيف بني كنانة حيث تقاسموا باللات والعزى على هدفهم ، وبدؤوا من اليوم الثاني بتنفيذه ، واستمر حصارهم ومقاطتهم نحو أربع سنوات الى قبيل هجرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من مكة !!

وقد تضامن بنو هاشم مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مسلمهم وكافرهم وتحملوا سنوات الحصار والفقر والأذى والإهانة ، في شعب أبي طالب ، ولم يشاركهم في ذلك أحد من المسلمين .. حتى فرج الله عنهم بمعجزة !

لقد أراد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يوعي المسلمين الجدد على تاريخ الإسلام ، وتكاليف الوحي ، ليعرفوا قيمته .. ويوعيهم على معدن الإسلام ومعدن الكفر ليعرفوهما !

كما أراد أن يبعث بذلك رسالةً الى بقية الفراعنة ، الذين ما زالوا أحياء من زعماء قريش ، بأنهم قد تحملوا وزر هذا الكفر والعار ، ثم ارتكبوا بعده ما هو أعظم منه ، ولم يتراجعوا إلا عندما جمعهم في فتح مكة تحت سيوف الأنصار وسيوف بني هاشم ، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل .. وها هم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله تعالى ورسوله ، وهم كارهون !!

لقد أهلك الله تعالى عدداً قليلاً من أبطال ذلك الحلف الشيطاني ، من سادة

ص: 114

مؤتمر خيف المحصب ، بالموت ، وبسيف علي بن أبي طالب .. ولكن العديد مثل سهيل بن عمرو ، وأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبا الأعور السلمي ، وغيرهم من زعماء قريش وكنانة .. مازالو أحياءً ينظرون ، وكانوا حاضرين مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حجة الوداع يسمعون كلامه ويذكرون ماضيهم بالأمس القريب جيداً ، ويتعجبون من عفوه عنهم واكتفائه بإقامة الحجة الدامغة عليهم !

وكانت تصرفاتهم الظاهرة والخفية ، ومنطق الأمور ، وشهادة أهل البيت ، ومجرى التاريخ .. تدل على فرحهم بأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعلن قرب موته ورحيله عنهم ، وأنهم يعدون العدة لما بعده لحصار بني هاشم الجديد !!

فأراد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يذكرهم بخطتهم في حصارهم القديم ، وكيف أحبطه الله تعالى ! وأنه سيحبط حصارهم الجديد أيضاً !!

وأما المبدأ السابع من هذا الأساس ( تحذيره قريشاً أن تطغى من بعده وتفسد ) فقد ذكرته أحاديث مصادرنا ، وذكرته رواية الهيثمي المتقدمة في مجمع الزوائد عن فهد بن البحيري ، الذي استمع على مايبدو الى خطبة يوم عرفة ونقل عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قوله ( يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجئ الناس بالآخرة ، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ) انتهى.

ونشكر الله تعالى أن فهدا البحيري هذا كان بدوياً ، ولم يكن قرشياً ولا كنانياً ، وإلا لوضع هذه الرواية في رقبة بني هاشم ، وأبعدها عن قريش ، كما فعل الرواة القرشيون ! فجعلونا نقرأ في مصادر إخواننا السنيين عشرات الأحاديث ( الصحيحة ) في تحذير النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لبني هاشم وبني عبد المطلب وذمهم !! وعشرات الأحاديث في مدح قريش ووجوب أن تكون القيادة فيهم !! ولا تجد فيها حديثاً في ذم قريش إلا وقد أحبطوا معناه بحديث آخر ، أو حولوه الى مدحٍ لقريش !!

ص: 115

وحديث ابن البحيري في حجة الوداع تحذيرٌ نبويٌّ لقريش في محله تماماً .. لأن قريشاً ذات موقع مميزٍ في العرب .. وهي المتصدية لقيادة عرب الجزيرة في حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن بعده .. فالخطر على أهل بيته من قريش وحدها .. والتحريف الذي يخشى على الإسلام .. والظلم الذي يخشى على المسلمين إنما هو من قريش وحدها .. وبقية الناس تبعٌ لها !

والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إنما هو مبلغٌ عن ربه ، ومقيمٌ لحجة ربه ، وعليه أن يحذر وينذر ، ليحيى من حيَّ عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة.

وأما المبدأ الثامن من هذا الأساس ( تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة ) فقد روته مصادر الجميع بصيغتين : مباشرة ، وغير مباشرة ..

أما غير المباشرة فهي قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) وقد تقدم في نصوص الخطب أن ابن ماجة عقد في سننه : 2 / 1300 باباً تحت هذا العنوان وقال فيه إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ( استنصت الناس فقال ... ويحكم أو ويلكم ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ... فلا تقتتلن بعدي ).

وهذا يعني أن ذلك سوف يقع منهم ، وقد أخبرهم أنهم سيفعلون ، ولكنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) استعمل كل بلاغته وكل عاطفته ، وكل موجبات الخوف والحذر .. ليقيم الحجة عليهم لربه عز وجل ، حتى إذا وافوه يوم القيامة لا يقولوا : لماذا لم تحذرنا !

والذين يحذرهم من الإقتتال ليسوا إلا الصحابة لا غير .. لا غير .. لا اليهود ولا القبائل العربية ، ولا حتى زعماء قريش بدون شركائهم من الصحابة ..

فالدولة الإسلامية كانت قائمة ، وقد حققت مركزيتها على كل الجزيرة ، والخوف من الإقتتال بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليس من القبائل التي خضعت للاسلام طوعاً أو كرهاً ، مهما كانت كبيرةً وموحدةً مثل هوازن وعطفان .. فهي لا تستطيع أن تطمح الى قيادة هذه الدولة ، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح ، إلا بواسطة الصحابة ..

ص: 116

واليهود قد انكسروا وأجلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قسماً منهم من الجزيرة ، ولم تبق لهم قوة عسكرية تذكر .. ومكائدهم وخططهم مهما كانت قويةً وخبيثةً ، فلا حظَّ لها في النجاح إلا .. بواسطة الصحابة ..

وزعماء قريش ، مع أنهم يملكون جمهور قبائل قريش ، فهم لا يستطيعون أن يدعوا حقاً في قيادة الدولة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنهم كلهم طلقاؤه ، يعني كان للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الحق في أن يقتلهم ، أو يتخذهم عبيداً ، فاتخذهم عبيداً وأطلقهم .. فلا طريق لهم للقيادة إلا بواسطة العدد الضئيل من الصحابة ، من القرشيين المهاجرين ..

وبذلك يتضح أن تحذيره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الصراع بعده على السلطة ، ينحصر بالصحابة المهاجرين ، ثم بالأنصار فقط .. وفقط !!

وهنا يأتي دور التحذير المباشر ، الذي لا ينقصه إلا الأسماء الصريحة .. وقد جاء هذا الإعلان النبوي على شكل لوحةٍ من الغيب ، عن النتيجة والمصير الذي يمشي اليه هؤلاء الصحابة المنحرفون المحرِّفون !

لوحةٌ أخبره بها جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الله تعالى ، يومَ يجعل الله محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رئيس المحشر ، ويعطيه جبرئيل لواء الحمد ، فيدفعه النبي الى علي بن أبي طالب ، فهو حامل لوائه في الدنيا والآخرة ، ويكون جميع أهل المحشر تحت قيادة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. ويفتخر به آدم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، حتى يدعى أبا محمد .. (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ويعطي الله تعالى رسوله الشفاعة وحوض الكوثر ، فيفد عليه الوافدون من الأمم فيشفع لهم ويعطيهم بطاقة للشرب من حوض الكوثر ، ليتغير بذلك الكأس تركيبهم الفيزيائي ، وتصلح أجسادهم لدخول الجنة ، والخلود في نعيمها ..

وعندما يفد عليه أصحابه تحدث المفاجأة :

يأتي النداء الالهي بمنع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الشفاعة لهم ، ومنعهم من ورود الحوض ، ويؤمر ملائكة العذاب بأخذهم الى جهنم !!

هذا هو مستقبل هؤلاء الصحابة على لسان أصدق الخلق !!

ص: 117

إنه صورةٌ رهيبةٌ ، جاء بها جبرئيل الأمين ، لكي يبلغها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى الأمة في حجة الوداع !!

إنها أعظم كارثةٍ على صحابةِ أعظم رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. ولا بد أن سببها أنهم سوف يوقعون في أمته من بعده أعظم ... كارثة !!

ولا ينجو من هؤلاء الصحابة إلا مثل ( همل النعم ) كما في روايات محبيهم الصحيحة بأشد شروط الصحة .. وهو تعبيرٌ نبويٌّ عجيب ، لأن همل النعم هي الغنم أو الإبل الفالتة من القطيع ، الخارجة على راعيه ! وهو يدل على أن قطيع الصحابة في النار ، وهملهم الذي يفلت منهم ، يفلت من النار الى الجنة !!

بل ذكر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن الصحابة الجهنميين زمرتان ، مما يدل على أنهم خطان من صحابته لاخطٌ واحد ، وتقدم قول الحاكم عن حديثه : صحيحٌ على شرط الشيخين ، وفيه ( ثم أقبلت زمرةٌ أخرى ، ففعل بهم كذلك ، فلم يفلت إلا كمثل النعم !! )

إنها مسألةٌ مذهلةٌ .. صعبةُ التصور والتصديق ، خاصةً على المسلم الذي تربى على حب كل الصحابة ، وخير القرون ، والجيل الفريد ، وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم .. وعلى الصور واللوحات الرائعة للصحابة ، التي كبر معها وكبرت معه .. فإذا به يفاجأ بهذه الصورة الشيطانية المخيفة عنهم !!

لو كان المتكلم عن الصحابة غير الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقالوا عنه إنه عدوٌّ للإسلام ولرسوله يريد أن يكيد للإسلام عن طريق الطعن في صحابة الرسول .. (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ولكن المتكلم هو .. الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. بعينه .. بنفسه .. وكلامه ليس اجتهاداً منه ولا رأياً رآه ، حتى تقول قريش إنه يتكلم في الرضا والغضب ، وكلامه في الغضب ليس حجة .. بل هو وحيٌ نزل عليه من رب العالمين !!

إنها حقيقةٌ مرةٌ .. ولكن هل يجب أن تكون الحقيقة دائماً حلوةً كما نشتهي .. وأن يكون الحق دائماً مفصلاً على مزاجنا ، مطابقاً لموروثاتنا ؟!

وماذا نصنع إذا كانت أحاديث الصحابة المطرودين ، المرفوضين ، الممنوعين من

ص: 118

ورود الحوض مستفيضةٌ في الصحاح ، وهي في غير الصحاح أكثر .. وهي تصرح بأنه لا ينجو منهم إلا مثل الهمل !!

- قال الجوهري في الصحاح : 5 / 1854

والهمل بالتحريك : الإبل التي ترعى بلا راع ، مثل النفش ، إلا أن النفش لا يكون إلا ليلاً ، والهمل يكون ليلاً ونهاراً. يقال : إبلٌ هملٌ وهاملة وهمال وهوامل.

وتركتها هملاً أي سدى ، إذا أرسلتها ترعى ليلاً ونهاراً بلا راع.

وفي المثل : اختلط المرعي بالهمل. والمرعي الذي له راع. انتهى.

ولكن السؤال هو : لماذا طرح الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) موضوعهم في حجة الوداع ؟!

الجواب : لأن الله تعالى أمره بذلك ، فهو لا ينطق عن الهوى ، ولا علم له من نفسه بما سيفعله أصحابه من بعده ، ولا بما سيجري له معهم يوم القيامة !!

والسؤال الآخر : وماذا فعل الصحابة بعد الرسول ؟ هل كفروا وارتدوا كما يقول الحديث ؟ هل حرفوا الدين ؟ هل اقتتلوا على السلطة والحكم ؟!

والجواب : إقبل ما يقوله لك نبيك (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، واسكت ، ولا تصر رافضياً !

والسؤال الآخر : لماذا اختار الله تعالى هذا الأسلوب في التحذير ، ولم يهلك هؤلاء الصحابة ، الذين سينحرفون ، أو يأمر رسوله بقتلهم ، أو يكشفهم للمسلمين ليحذروهم !

والجواب : هذه سياسته سبحانه وتعالى في إقامة الحجة كاملة على العباد ، وترك الحرية لهم .. ليحيى من حيَّ عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة .. ولا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون .. فهو سبحانه مالكهم له حق سؤالهم ، وهو لا يفعل الخطأ حتى يحاسب عليه .. وهو أعلم ، وغير الأعلم لا يمكنه أن يحاسب الأعلم ويسأله !

والسؤال الآخر : ماذا كان وقع ذلك على الصحابة والمسلمين ؟! ألم يهرعوا الى الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليحدد لهم الطريق أكثر ، ويعين لهم من يتبعونه بعده ، حتى لا يضلهم هؤلاء الصحابة الخطرون ؟!

ص: 119

والجواب : لقد عين لهم الثقلين من بعده : كتاب الله وعترته ، وبشرهم باثني عشر إماماً يكونون منهم بعده ..

وقبل حجة الوداع وبعدها ، طالما حدد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لهم عترته وأهل بيته بأسمائهم : علي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، حتى أن الأحاديث الصحاح تقول إنه حددهم حسياً فأدار عليهم كساءً يمانياً ، وقال للمسلمين : هؤلاء عترتي أهل بيتي !!

ولم يكتف بذلك حتى أوقف المسلمين في رمضاء الجحفة بغدير خم ، وأخذ بيد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وبلغ الأمة إمامته من بعده ، ونصب له خيمةً ، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ويباركوا له ولايته عليهم التي أمر بها الله تعالى .. فهنؤوه جميعاً وباركوا له ، وأمر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نساءه وكن معه في حجة الوداع ، أن يهنئن علياً فجئن الى باب خيمته وهنأنه وباركن له .. معلناتٍ رضاهن بولايته على الأمة.

ثم أراد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مرض وفاته أن يؤكد الحجة على الأمة بوثيقةٍ مكتوبة ، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً .. ولكنهم رفضوا ذلك بشدة ! وقالوا له : شكراً أيها الرسول ، لقد قررنا أن نضل ، عالمين عامدين مختارين !! لأنا لانريد أن تكتب لنا أطيعوا بعدي عترتي علياً ، ثم حسناً ، ثم حسيناً ، ثم تسعة من ذرية الحسين !

فهل تريد من نبيك (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يقيم الحجة أكثر من هذا ؟!

الأساس الخامس : عقوبة المخالفين للوصية النبوية بأهل بيته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

وهي عقوبةٌ أخروية ، تتناسب مع مسؤولية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في التبليغ ، والشهادة على الأمة .. وقد جاءت شديدةً قاطعة ، بصيغة قرارٍ من الله تعالى بلعن المخالفين لرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أهل بيته ، وطردهم من الرحمة الإلهية ، وحكماً بعدم قبول توبتهم نهائياً واستحقاقهم العذاب في النار.

وربما يزيد من شدتها ، أنها كانت آخر فقرة من خطبته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !!

ص: 120

وقد تقدم نص هذه اللعنة النبوية في رواية تحف العقول من مصادرنا ، وقد نصت مصادر السنيين على أنها صدرت من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حجة الوداع.

- ففي سنن ابن ماجة : 2 / 905

عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم وهو على راحلته ، وإن راحلته لتقصع بجرتها ، وإن لغامها ليسيل بين كتفي ، قال ... ومن ادعى الى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ. أو قال : عدلٌ ولا صرفٌ.

- وفي سنن الترمذي : 3 / 293

عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع .... ومن ادعى الى غير أبيه ، أو انتمى الى غير مواليه ، فعليه لعنة الله التابعة الى يوم القيامة.

- وفي مسند أحمد : 4 / 239

عن عمرو بن خارجة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى على راحلته ، وإني لتحت جران ناقته ، وهي تقصع بجرتها ، ولعابها يسيل بين كتفي ، فقال : ألا ومن ادعى الى غير مواليه رغبةً عنهم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ورواه أحمد : 4 / 187 بلفظ : ألا ومن ادعى الى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً أو عدلاً ولا صرفاً. انتهى. ورواه بعدة روايات في نفس الصفحة والتي قبلها ، وفي ص 238 و 186 ، ورواه الدارمي في سننه : 2 / 244 و 344 ، ومجمع الزوائد : 5 / 14 ، عن أبي مسعود ، ورواه البخاري في صحيحه : 2 / 221 ، و : 4 / 67

ولعلك تسأل : ما علاقة هذه اللعنة المشددة المذكورة في خطب حجة الوداع وغيرها بوصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأهل بيته ؟! فهي تنصب على الذي ينكر نسبه من أبيه وينسب نفسه الى شخص آخر ، وعلى العبد الذي ينكر مالكه ويدعي أنه عبد

ص: 121

لشخص آخر ، أو ينكر ولاءه وسيده الذي أعتقه ، ويدعي أن ولاءه لشخص آخر !

فهذا هو معنى ( من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه ) !

والجواب : أن مقصود النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالأبوة في هذه الأحاديث الشريفة : أبوته هو المعنوية للأمة ، وبالولاء : ولايته وولاية أهل بيته عليها ، وليس مراده الأبوة النسبية وولاء المالك لعبده !

والدليل على ذلك : لو أن ولداً هرب من أبيه ، وسجل نفسه باسم والدٍ آخر ، ثم تاب من فعلته وصحح هويته ، واستغفر الله تعالى .. فإن الفقهاء جميعاً يفتون بأن توبته تقبل !

ولو أن عبداً مملوكاً هرب من سيده ولجأ الى شخص ، وادعى أنه سيده ، وبعد مدة رجع الى سيده واستغفر الله تعالى .. فإن الفقهاء يفتون بأن توبته تقبل.

بينما الشخص الملعون في كلام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مصبوبٌ عليه الغضب الالهي الى الأبد ! ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ). والصرف هو التوبة ، والعدل الفدية ، وقد فسرتهما الأحاديث الشريفة بذلك.

فهذه العقوبة الإلهية المذكورة في خطب حجة الوداع ، إنما تصح لحالات الخيانة العظمى ، مثل الإرتداد وشبهه ، ولا يعقل أن تكون لولدٍ جاهلٍ يدعو نفسه لغير أبيه ، أو لعبدٍ مملوكٍ أو مظلومٍ يدعو نفسه لغير سيده !

ويؤيد ذلك أن بعض رواياتها صرحت بكفر من يفعل ذلك ، وخروجه من الإسلام ! كما في سنن البيهقي : 8 / 26 ، ومجمع الزوائد : 1 / 97 ، وكنز العمال : 5 / 872. وفي كنز العمال : 10 / 324 ( من تولى غير مواليه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. أحمد عن جابر ).

- وفي / 326 ( من تولى غير مواليه فليتبوأ بيتاً في النار. ابن جرير عن عائشة )

- وفي / 327 ( من تولى غير مواليه فقد كفر. ابن جرير عن أنس ).

- وفي : 16 / 255 ( ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على رسوله. ش )

ص: 122

ولا نحتاج الى تتبع هذه الأحاديث في مصادرها وأسانيدها ، لأنها مؤيداتٌ لحكم العقل القطعي بأن مقصوده (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يمكن أن يكون الأب النسبي ، ومالك العبد.

ويؤيد ذلك أيضاً : أن بعض رواياته كالتي مرت آنفاً وغيرها من روايات أحمد ، ليس فيها ذكر للولد والوالد ، بل اقتصرت على ذكر العبد الذي هو أقل جرماً من الولد ومع ذلك زادت العقوبة واللعنة عليه ، ولم تخففها !

ويؤيد ذلك أيضاً : أن هذه اللعنة وردت في بعض روايات الخطب الشريفة ، بعد ذكر ما ميز به الله تعالى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأهل بيته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) من مالية خاصة هي الخمس ، وحرم عليهم الصدقات والزكوات !

- ففي مسند أحمد : 4 / 186

خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فقال : ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، وأخذ وبرةً من كاهل ناقته ، فقال : ولا ما يساوي هذه ، أو ما يزن هذه. لعن الله من ادعى الى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه. انتهى.

ورواه في كنز العمال : 5 / 293 ، وفي كنز العمال : 10 / 235 ( ومن تولى غير مواليه ، فليتبوأ بيتاً في النار. ابن عساكر عن عائشة ) انتهى.

أما في مصادر أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فالحديث ثابتٌ عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في خطب حجة الوداع في المناسك .. وهو أيضاً جزءٌ من حديث الغدير ..

- ففي بحار الأنوار : 37 / 123

عن أمالي المفيد ، عن علي بن أحمد القلانسي ، عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الرحمان بن صالح ، عن موسى بن عمران ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن زيد بن أرقم قال : سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بغدير خم يقول : إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي ، لعن الله من ادعى الى غير أبيه ، لعن من تولى الى غير مواليه ، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر ، وليس لوارث وصية.

ص: 123

ألا وقد سمعتم مني ، ورأيتموني .. ألا من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.

ألا وإني فرطكم على الحوض ومكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة ، فلا تسودوا وجهي.

ألا لأستنقذن رجالاً من النار ، وليستنقذن من يدي أقوامٌ.

إن الله مولاي ، وأنا مولى كل مؤمن ومؤمنة.

ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه. انتهى.

وروى نحوه في / 186 ، عن بشارة الإسلام.

- وقال ابن البطريق الشيعي في كتابه العمدة / 344

وأما الأخبار التي تكررت من الصحاح من قول النبى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لعن الله من انتمى الى غير أبيه ، أو توالى غير مواليه ، فهي من أدل على الحث على اتباع أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والأمر بولائه دون غيره ، يريد بقوله : من تولى غير مواليه يعني نفسه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعده ، بدليل ما تقدم من الصحاح من غير طريق ، في فصل مفرد مستوفى ، وهو قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : من كنت مولاه فعلي مولاه ، ثم قال مؤكداً لذلك : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.

فمن كان النبى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مولاه فعلي مولاه ، ومن كان مؤمناً فعلي مولاه أيضاً ، بدليل ما تقدم من قول عمر بن الخطاب لعلي لما قال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال له عمر : بخٍ بخٍ لك يا علي ، أصبحت مولى كل مؤمن و مؤمنة. وفي رواية : مولاي ومولى كل مؤمنة ومؤمن.

وهذه منزلة لم تكن إلا لله سبحانه وتعالى ، ثم جعلها الله لرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بدليل قوله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون ...

وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : من انتمى الى غير أبيه فالمراد به : من انتمى الى غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في الولاء ، مأخوذٌ من قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : أنا وأنت أبوا هذه الأمة ، فعلى عاق والديه لعنة الله. انتهى.

ص: 124

كما ورد في مصادر الفريقين أن هذا الحديث جزءٌ مما كان مكتوباً في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي ورَّثه لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .. فقد رواه البخاري في صحيحه : 4 / 67 ، ومسلم : 4 / 115 ، و 216 ، بعدة روايات ، والترمذي : 3 / 297 .. ورواه غيرهم أيضاً ، وأكثروا من روايته ، لأن الراوي ادعى فيه على لسان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يورث أهل بيته شيئاً من العلم ، إلا القرآن وتلك الصحيفة المعلقة في ذؤابة السيف !!

وقد وجدنا أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أطلق هذه اللعنة في مناسبة رابعة ، عندما كثر طلقاء قريش في المدينة ، وتصاعد عملهم مع المنافقين ضد أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقالوا : ( إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا ، أي مزبلة ) فبلغ ذلك النبي فغضب ، وأمر علياً أن يصعد المنبر ويجيبهم !!

- فقد روى في بحار الأنوار : 38 / 204

عن أمالي المفيد ، عن محمد بن عمر الجعابي ، عن ابن عقدة ، عن موسى بن يوسف القطان ، عن محمد بن سليمان المقري ، عن عبد الصمد بن علي النوفلي ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الأصبغ بن نباتة قال :

لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، غدونا نفر من أصحابنا أنا والحارث وسويد بن غفلة ، وجماعة معنا ، فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء فبكينا ، فخرج إلينا الحسن بن علي فقال : يقول لكم أميرالمؤمنين : انصرفوا الى منازلكم ، فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله فبكيت ، وخرج الحسن وقال : ألم أقل لكم : انصرفوا ؟ فقلت : لا والله ياابن رسول الله لا تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

قال : فبكيت ، ودخل فلم يلبث أن خرج فقال لي : أدخل ، فدخلت على أميرالمؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء ، قد نزف واصفر وجهه ، ما أدري وجهه أصفر أو العمامة ؟ فأكببت عليه فقبلته وبكيت.

ص: 125

فقال لي : لا تبك يا أصبغ ، فإنها والله الجنة.

فقلت له : جعلت فداك إني أعلم والله أنك تصير الى الجنة ، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين. جعلت فداك حدثني بحديث سمعته من رسول الله ، فإني أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً ، قال :

نعم يا أصبغ : دعاني رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوماً فقال لي : يا علي انطلق حتى تأتي مسجدي ، ثم تصعد منبري ، ثم تدعو الناس إليك ، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاةً كثيرة ، ثم تقول :

أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، وهو يقول لكم : إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى الى غير أبيه أو ادعى الى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره.

فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه ، وصليت على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)صلاةً كثيرةً ، ثم قلت :

أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، وهو يقول لكم : ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي ، على من انتمى الى غير أبيه ، أو ادعى الى غير مواليه ، أو ظلم أجيراً أجره.

قال : فلم يتكلم أحدٌ من القوم إلا عمر بن الخطاب ، فإنه قال : قد أبلغت يا أبا الحسن ، ولكنك جئت بكلامٍ غير مفسر ، فقلت : أُبْلِغُ ذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فرجعت الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأخبرته الخبر ، فقال : إرجع الى مسجدي حتى تصعد منبري ، فاحمد الله وأثن عليه وصل علي ، ثم قل :

أيها الناس ، ما كنا لنجيئكم بشيء إلا وعندنا تأويله وتفسيره ، ألا وإني أنا أبوكم ألا وإني أنا مولاكم ، ألا وإني أنا أجيركم. انتهى.

وقد وجدنا لهذا الحديث مناسبة خامسة أيضاً ، فقد روى فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره / 392 قال : حدثنا عبد السلام بن مالك قال : حدثنا محمد بن موسى بن

ص: 126

أحمد قال : حدثنا محمد بن الحارث الهاشمي قال : حدثنا الحكم بن سنان الباهلي ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح قال : قلت لفاطمة بنت الحسين : أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث ، واحتج به على الناس.

قالت : نعم ، أخبرني أبي أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان نازلاً بالمدينة ، وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فريضة يستعين بها على من أتاه ، فأتوا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقالوا : قد رأينا ما ينوبك من النوائب ، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك.

قال : فأطرق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طويلاً ثم رفع رأسه فقال : إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً ، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشيء ، وإن أمرت به أعلمتكم.

قال : فنزل جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال : يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك ، وقد أنزل الله عليهم فريضة : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى.

قال فخرجوا وهم يقولون : ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء ، وتخضع الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبد الطلب.

قال : فبعث رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار ، ومن ادعى الى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار.

قال : فقام رجلٌ وقال : يا أبا الحسن ما لهن من تأويل ؟ فقال : الله ورسوله أعلم. فأتى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأخبره ، فقال رسول الله : ويلٌ لقريشٍ من تأويلهن ، ثلاث مرات ! ثم قال : يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء ، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين ، وأنا وأنت أبوا المؤمنين. انتهى.

* *

ص: 127

ص: 128

البحث الرابع: حاجة الأنبياء عليهم السلام في تبليغ رسالاتهم الى حماية الناس

اشارة

ارتكب المنظرون للخلافة القرشية من المحدثين والمفسرين ، خطأين أساسيين في تفسير آية التبليغ ، فشوهوا بذلك معناها :

الخطأ الأول ، في مفهوم تبليغ الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومنهم نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

والخطأ الثاني ، محاولتهم إخفاء واقع قريش بعد الفتح ، وإبعاد الآية عنها ، وأن يصوروا للمسلمين أن قريشاً المشركة منجم الفراعنة وأتباعهم ، قد تحولت بين عشية وضحاها ، الى قبيلة مسلمةٍ مؤمنةٍ تقيةٍ ، تقود الناس بالإسلام والهدى !

معنى التبليغ في القرآن

مفهوم التبليغ في القرآن مفهومٌ بسيط ، فتبليغ الرسل يعني بيانهم الرسالة الإلهية للناس .. ثم الناس بعد ذلك مختارون في أن يقبلوا ، أو يتولوا ، وحسابهم على الله تعالى ، وليس على أنبيائه !

ومن هذا الأساس العميق تتفرع عدة مبادئ :

أولاً : أن النبي يحتاج الى ضمان حرية التعبير عن الرأي ، لكي يتمكن من إيصال رسالة ربه الى العباد وإبلاغهم إياها. وقد كان ذلك مطلب الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الأول من أممهم.

ص: 129

ثانياً : مهمة الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) هي التبليغ فقط ( الإبلاغ ) حتى أن الجهاد لم يكن مفروضاً على أحد من الأنبياء قبل ابراهيم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وقد فرضه الله تعالى عليه وعلى الأنبياء من ذريته ( وكل الأنبياء والأوصياء بعده من ذريته ) من أجل إزاحة العقبات المانعة من التبليغ ، أو رد اعتداءات الكفار على الذين اختاروا الدين الالهي وإقامة حياتهم على أساسه.

ثالثاً : لا إكراه في الدين ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. فينبغي أن يبقى قانون الهداية والإضلال فعالاً ، والقدرة على عمل الخير والشر متوفرة.

رابعاً : الهدف من الإبلاغ هو إقامة الحجة لله على عباده ، واضحة كاملة تامة .. حتى لا يقولوا يوم القيامة : لم يقل النبي لنا ، لم يبلغنا ذلك ، لم نعرف ذلك ، وكنا عنه غافلين. فإقامة الحجة في الدين الالهي محورٌ أصلي دائم في عمل الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) سواء على مستوى الكافرين ، أو على مستوى أممهم المؤمنين بهم.

فالمهم عند النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يوصل العقيدة والأحكام الى الناس .. أن يقول لهم ، ويبين لهم ، ويوضح لهم ويفهمهم .. وبذلك يقيم الحجة لربه عز وجل .. وبذلك يؤدي ما عليه ، ويسقط المسؤولية عن عاتقه.

أما استجابتهم أو تكذيبهم .. وأما عملهم وسلوكهم ، فهو شأنهم وليس النبي مسؤولاً عنه ، بل هو من اختصاص الله تعالى.

قال الله تعالى : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين. الأنعام - 149

وأدلة هذه الحقائق التي ذكرناها كثيرة ، من آيات القرآن وأحاديث السنة ، نشير منها الى ما ذكره الله تعالى من قول نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون. الأعراف - 62

وقول شعيب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين. الأعراف - 93

ص: 130

وقول هود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ. هود - 57

وقوله تعالى عن مهمة جميع الرسل الذين بعثهم (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) :

فهل على الرسل إلا البلاغ المبين. النحل - 35

قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين. يس 16 - 17

ولا يتسع المجال لاستعراض مفاهيم التبليغ وأحكامه في القرآن والحديث ، فهي أجزاء مشرقة من ( نظرية متكاملة ) نشير منها الى أنه تعالى وصف دينه وقرآنه بأنه بلاغ فقال : هذا بلاغٌ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب. ابراهيم - 52

وقال إنه بلاغ يشمل الأجيال الآتية التي يَبْلُغها الإسلام :

قل أي شيء أكبر شهادةً ؟ قل الله شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. الأنعام - 19

وأثنى تعالى على أمانة أنبيائه وشجاعتهم في تبليغ رسالاته ، رغم مقاومة الناس واستهزائهم ، فقال عز وجل : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا. الأحزاب - 39

كما وصف سبحانه عملية تلقي الوحي وتبليغه بأنه من الأعمال الدقيقة الخطيرة التي تحتاج الى شخصيات من نوع خاص ، وحراسة ربانية خاصة لهم أيضاً ، فقال :

عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا. الجن 26 - 28

مهمة نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في التبليغ

والذي يتصل بموضوعنا مباشرةً هو تبليغ نبينا محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد قال تعالى عن مهمته ومسؤوليته : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين. المائدة - 92

ص: 131

قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم. وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين. النور - 54

فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد. آل عمران - 20

فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ. الشورى - 48

فقد أرسل الله نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على أساس نظام الرسالة والتبليغ الالهي ، الذي أرسل به جميع الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وهو قاعدة : إقامة الحجة وإتمامها على الناس ، وعدم إجبارهم على العمل. وهذا هو معنى ( فإنما عليك البلاغ ) فقط ، وفقط !

وهذا هو معنى قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم.

فالإجبار الذي جاء به النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو إجبار أهل الكتاب على التعايش مع المسلمين ، وليس على الدخول في الإسلام ، وإجبار المشركين الوثنيين على الدخول في الإطار العام للإسلام .. وما عداه متروكٌ للأمة ، داخل هذا الإطار ، يطيع منها من يطيع ، ويعصي من يعصي ، ويهتدي منها من يهتدي ، ويضل من يضل .. والمحاسب هو الله تعالى.

ومن الطبيعي إذن ، أن تحتاج مهمة التبليغ الى حماية للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى يؤديها وإلا فإن قبائل قريش الذين يدركون خطر دعوته على نفوذهم وآلهتهم ، سرعان ما يدبرون قتله ، أو تشويه سمعته وعزله ، وحجب الناس عن سماع صوته.

ورغم أن الألطاف الإلهية على أنبيائه (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كثيرة ومتنوعة ، وما خفي عنا منها أعظم مما عرفناه ، أو ما يمكن أن يبلغه فهمنا .. لكن سنته سبحانه في الرسل أن يترك حمايتهم للأسباب ( الطبيعية ) مضافاً الى تلك الألطاف.

ولا يوجد دليلٌ واحدٌ على ما ذكروه من ضمان الله تعالى عصمة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الجرح والقتل ، وأنواع الأذى التي قد يتعرض لها .. وقد تقدمت النصوص الدالة على استمرار حراسته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى آخر حياته ، ونضيف هنا ما رواه الجميع من أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يطلب من قبائل العرب تأمين هذه الحماية حتى يبلغ رسالة ربه.

ص: 132

- ففي سيرة ابن هشام : 2 / 23 عن ربيعة بن عباد ، قال :

إني لغلامٌ شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به. انتهى. ورواه الطبري في تاريخه : 2 / 83 ، وابن كثير في سيرته : 2 / 155

- وقال اليعقوبي في تاريخه : 2 / 35 :

وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ، ويكلم شريف كل قوم ، لايسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه ، ويقول : لا أكره أحداً منكم ، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل ، حتى أبلغ رسالات ربي ، فلم يقبله أحد ، وكانوا يقولون : قوم الرجل أعلم به ! انتهى.

كذلك نصت المصادر على أنه 9 طلب البيعة من الانصار ، على حمايته وحماية أهل بيته مما يحمون أنفسهم وأهليهم .. ففي سيرة ابن هشام : 2 / 38 : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ، ودعا الى الله ، ورغب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب ، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.

- ورواه في تاريخ الطبري : 2 / 92 ، وأسد الغابة : 1 / 174 ، وعيون الأثر : 1 / 217 ، وسيرة ابن كثير : 2 / 198 ، ورواه أحمد : 3 / 461 ، وقال عنه في مجمع الزوائد : 6 / 44 : رواه أحمد والطبراني بنحوه ، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن اسحق وقد صرح بالسماع. ورواه في كنز العمال : 1 / 328 ، و 8 / 29

* *

ص: 133

الى هنا يتسق الموضوع .. فقد طلب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الحماية لتبليغ رسالة ربه على سنة الله تعالى في من مضى من الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وحصل عليها من الأنصار ، ونصره الله تعالى وهزم أعداءه من المشركين واليهود ، وشملت دولته شبه الجزيرة العربية واليمن والبحرين وساحل الخليج ، وامتدت الى أطراف الشام ، وصار جيش الإسلام يهدد الروم في الشام وفلسطين .. وها هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في السنة العاشرة يودع المسلمين في حجة الوداع ، ويتلقى سورة المائدة ويتلقى فيها آية تأمره بالتبليغ وتطمئنه بالعصمة من الناس !!

فما عدا مما بدا ، حتى نزل الأمر بالتبليغ في آخر التبليغ ، وصار النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الآن وهو قائد الدولة القوية ، بحاجة الى حماية وعصمة من الناس !!

إن الباحث ملزمٌ هنا أن يستبعد حاجة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى الحماية المادية ، لأن الله تعالى أراد أن تجري بالأسباب الطبيعية ، ووفرها على أحسن وجه .. فلا بد أن تكون العصمة في الآية من نوع الحماية المعنوية.

والباحث ملزمٌ ثانياً ، أن يفسر الأمر بالتبليغ في الآية بأنه تبليغُ موضوعٍ ثقيلٍ على الناس .. وأن يفسر الناس الذين يثقل عليهم ذلك بالمنافقين من المسلمين ، لأنه لم يبق أمرٌ ثقيلٌ على الكفار إلا وبلغه لهم ، كما أنه لم يبلغهم أمراً بارزاً بعد نزول الآية.

وبهذا لا يبقى معنى للعصمة النازلة من عند الله تعالى ، إلا العصمة من الطعن في نبوته ، إذا بلغهم أن الحكم من بعده في أهل بيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فبذلك فقط يتسق معنى الآية ويكون معناها :

يأيها الرسول : إنما أنت رسول مبلغ ، ولست مسؤولاً عن النتيجة وما يحدث ، بل هو من اختصاص ربك تعالى.

بلغ ما أنزل اليك من ربك : وأمرك به جبرئيل في علي ، وحاولت تبليغه مرات في حجة الوداع ، فشوش المنافقون عليك.

ص: 134

وإن لم تفعل فما بلغت رسالته : ولم تكمل إقامة الحجة لربك ، لأن ولاية عترتك ليست أمراً شخصياً يخصك ، وإن ظنه المنافقون كذلك ، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من هذه الرسالة الخاتمة الموحدة ، وإذا انتفى الجزء انتفى الكل.

والله يعصمك من الناس : من طعن قريش بنبوتك بسبب هذا التبليغ ، وإن كان ثقيلاً عليها .. فسوف يمنعها الله أن ترفض نبوتك بسببه .. وسوف تمر المسألة بسلام ولا يكون تشويش عليك في التبليغ ولا ردة .. وبذلك تكون بلغت عن ربك ، وأتممت له الحجة على أمتك .. ولكن علياً سوف يحتاج الى قتالها على تأويل القرآن كما قاتلتها أنت على تنزيله !

إن الله لا يهدي القوم الكافرين : الذين يظلمون عترتك من بعدك ، ويظلمون الأمة بذلك ، ويبدلون نعمة الله كفراً ، ويحلون الأمة دار البوار !

* *

ص: 135

ص: 136

البحث الخامس: قريش هي السبب في حاجة نبينا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الى عصمة إضافية

اشارة

تدل الآية الكريمة والنصوص العديدة على أن تبليغ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لرسالة ربه في عترته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كان من شأنه أن يحدث زلزلة في الأمة وتهديداً لنبوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

فما هو السبب ، وما هي الظروف التي كانت قائمة ؟!

إن مصدر الخطر على ترتيب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأمر الخلافة من بعده ، كان محصوراً في قريش وحدها .. فلا قبائل العرب غير قريش ، ولا اليهود ، ولا النصارى .. يستطيعون التدخل في هذا الموضوع الداخلي وإعطاء الرأي فيه ، فضلاً عن عرقلة تبليغه أو تنفيذه !

والظاهر أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان آيساً من إمكانية تنفيذ هذا الموضوع ، بدليل أنه كان يخشى ظهور الردة من مجرد تبليغه بشكل صريح ورسمي !!

والسبب في ذلك طبيعة قريش وتركيبتها القبلية !

قريش منجم الفراعنة

زعماء قريش الذين واجهوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - إذا صحت أنسابهم الى إسماعيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - فإنهم يكونون ذرية إسماعيل الفاسدة ، وقد جمعوا بين صفات اليهود المعقدة من أبناء عمهم إسحاق ، وبين غطرسة رؤساء القبائل الصحراوية الخشنة !

ص: 137

وقريش ، باستثناء بني هاشم والقليل القليل من غيرهم ، منجماً للتكبر ! فقد حكم الله سبحانه على زعمائها بأنهم فراعنة تماماً ، بالجمع لا بالمفرد ، فقال تعالى : إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون رسولا. فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلا. المزمل - 15 - 16

وقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن عدد منهم لما وقف على قتلى بدر :

جزاكم الله من عصابة شراً! لقد كذبتموني صادقاً وخونتموني أميناً.

ثم التفت الى أبي جهل بن هشام ، فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحِّدَ الله ، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى !!

( حلية الأبرار : 1 / 127 ، أمالي الطوسي : 1 / 316 ، وعنه البحار : 19 / 272 ح 11 وكذا في مجمع الزوائد : 6 / 91 ).

- وروى ابن هشام في : 1 / 207 قول أبي جهل :

تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك مثل هذه! والله لا نؤمن به أبداً ، ولا نصدقه ! انتهى. ورواه في عيون الأثر : 1 / 146 ، وابن كثير في سيرته : 1 / 506.

- وفي تفسير القمي : 1 / 276

قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقريش : إن الله بعثني أن أقتل جميع ملوك الدنيا وأجرَّ الملك اليكم ، فأجيبوني الى ما أدعوكم اليه تملكوا بها العرب ، وتدين لكم بها العجم ، وتكونوا ملوكاً في الجنة. فقال أبو جهل : اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو آتنا بعذاب أليم ، حسداً لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ثم قال : كنا وبنو هاشم كفرسي رهان ، نحمل إذا حملوا ، ونطعن إذا طعنوا ، ونوقد إذا أوقدوا ، فلما استوى بنا وبهم الركب ، قال قائل منهم : منا نبي ! لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم ، ولا يكون في بني مخزوم !!

ص: 138

- وقال الأبشيهي في المستطرف : 1 / 58

قال معاوية لرجل من اليمن : ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم أمرأة ! فقال : أجهلُ من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، ولم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فاهدنا اليه.

- وقال البياضي في الصراط المستقيم : 3 / 49

قال معاوية : فضل الله قريشاً بثلاث : وأنذر عشيرتك الأقربين ، ونحن الأقربون. وإنه لذكرٌ لك ولقومك ، ونحن قومه. لإيلاف قريش ، ونحن قريش.

فقال رجلٌ أنصاري : على رسلك يا معاوية ، قال الله : وكذب به قومك ، وأنت من قومه. إذا قومك عنه يصدون ، وأنت من قومه. إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، وأنت من قومه !! فهذه ثلاثٌ بثلاث ، ولو زدتنا لزدناك !! فأفهمه. انتهى.

وفرعون وقومه عندما أخذهم الله بالسنين ، طلبوا من موسى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يدعو لهم ربه .. ولكن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دعا ربه على قريش فأخذهم الله بالسنين ، وأصيبوا بالفقر والقحط ، حتى أكلوا العلهز .. وما استكانوا لربهم وما يتضرعون !!

- قال الحاكم في المستدرك : 2 / 394

عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، قد أكلنا العلهز ! يعني الوبر والدم ، فأنزل الله عز وجل : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. انتهى.

ولكن أتباع الخلافة الأموية لا يعجبهم هذا الحديث ، ولا يفسرون به الآية ، ويقولون إن القرشيين خضعوا لربهم وتضرعوا ، ودعا لهم الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !! فانظرالى ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية : 6 / 101.

ص: 139

لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعاً كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة حصدت كل شيء ، حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز. ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم ، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم !!. انتهى.

ومشكلة ابن كثير أنه يحب رائحة أبي سفيان ، وإلا فهو مؤلفٌ في السيرة ، يعرف أن مجيء أبي سفيان كان بعد أن أشفق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على حالة قريش ، وأرسل اليهم بأحمال من المواد الغذائية وبعض الأموال ، لعلهم يستكينوا لله تعالى ويؤمنوا به وبرسوله ، فاغتنموا لفتة القلب النبوي الرحيم ، وبعثوا أبا سفيان بمشروع ( صلح ) مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من نوع مشاريع السلام الإسرائيلية في عصرنا ، فرفضه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وذهب أبو سفيان الى علي وفاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) يرجوهما التوسط الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلم يقبلا ، وعرض عليهم أن يكون هذا ( الصلح ) باسم الحسن والحسين (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) حتى يكون فخراً لهما في العرب ، فقالا : إنا لا نجير أحداً على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !!

- قال في معجم البلدان : 3 / 458

والعلهز : دم القراد والوبر ، يلبك ويشوى ويؤكل في الجدب ! وقال آخرون : العلهز دم يابس يدق مع أوبار الإبل في المجاعات. وأنشد بعضهم :

وإن قرى قحطان قرفٌ وعلهزٌ * فأقبح بهذا ويحَ نفسك من فعلِ!

قبائل قريش

وكانت قريش أكثر من عشرين قبيلة منها :

بنو هاشم بن عبد مناف

بنو أمية بن عبد شمس

بنو عبد الدار بن قصي

بنو مخزوم بن يقظة بن مرة

بنو زهرة بن كلاب

بنو أسد بن عبد العزى

ص: 140

بنو الحارث بن فهر بن مالك

بنو عامر بن لؤى

بنو سهم بن عمرو

بنو جمح بن عمرو

بنو أنمار بن بغيض

بنو تيم بن مرة بن كعب

بنو عدي بن كعب ... الخ.

ولكن الفعل والتأثير كان للقبائل المهمة ، والزعماء المهمين ، وهم بضع قبائل ، والباقون تبعٌ لهم الى حد كبير .. فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل ( مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ) فقال في 2 / 331 : وقد اجتمع فيها أشراف قريش :

من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب.

ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل.

ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة.

ومن بني أسد بن عبد العزى : أبوالبختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود بن المطلب ، وحكيم بن حزام.

ومن بني مخزوم : أبو جهل ابن هشام.

ومن بني سهم : نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ومن بني جمح : أمية بن خلف.

ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش ، فقال بعضهم لبعض :

إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأياً.

ص: 141

قال : فتشاوروا ثم قال قائل منهم : إحبسوه في الحديد ، وأغلقوا عليه باباً ، ثم تربصوا به...الخ.

- وقال في : 2 / 488 مسمياً المنفقين على جيش المشركين في بدر :

وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف : العباس بن عبد المطلب بن هاشم.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

ومن بني نوفل بن عبد مناف : الحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ، يعتقبان ذلك.

ومن بني أسد بن عبد العزى : أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد ، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ، يعتقبان ذلك.

ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. انتهى.

واليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش ، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات ، فإنه يدل على تركيبة قبائلها ، وتميز بني هاشم عليهم :

- قال البيهقي في سننه : 6 / 364 :

عن الشافعي وغيره ، أن عمر (رضی الله عنه) لما دوَّن الدواوين قال : إبدأ ببني هاشم ، ثم قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب ... فوضع الديوان على ذلك ، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.

ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب ، فقال : عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل ، فقدمهم ، ثم دعا بني نوفل يتلونهم.

ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار ، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيهم أنهم من المطيبين ... فقدمهم على بني عبد الدار ، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم.

ص: 142

ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار.

ثم استوت له تيمٌ ومخزوم ، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل ذكر سابقةً ، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم.

ثم دعا مخزوم يتلونهم.

ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب ، فقيل له إبدأ بعدي فقال بل أقر نفسي حيث كنت ، فإن الاسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد ، ولكن انظروا بني جمح وسهم ، فقيل قدم بني جمح.

ثم دعا بني سهم ، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة ، فلما خلصت اليه دعوته كبر تكبيرة عالية ، ثم قال : الحمد لله الذى أوصل اليَّ حظي من رسوله.

ثم دعا بني عامر بن لؤي ، قال الشافعي : فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال : أكل هؤلاء تدعو أمامي ؟!

فقال : يا أبا عبيدة ، إصبر كما صبرتُ أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه ، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا.

قال فقدم معاوية بعدُ بني الحارث بن فهر ، فصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى.

وشجر بين بني سهم وعدي شيء في زمان المهدي فافترقوا ، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح ، للسابقة فيهم.

* *

وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا متميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم ، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم .. وأن جمهور القبائل والملوك كانوا

ص: 143

يحترمونهم احتراماً خاصاً .. حتى حسدهم زعماء قريش ، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب.

فقد رتب هاشم ( رحلة الصيف ) الى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها ، فسافر في الصحاري والدول ، وفاوض رؤساء القبائل ، والملوك ، الذين تمر في مناطقهم قوافل قريش ، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة على قوافل قريش وضمان سلامتها.

وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز ، وبادرت الى الإستفادة منه ، ولكنها حسدت هاشماً ، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم ، وكان فخره لهم.

وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة ، في ظروف من حق الباحث أن يشك فيها !

ولكن بيت هاشم لم ينطفئ بعده ، فسرعان ماظهر ولده عبد المطلب ، وساد في قومه ، وواصل مآثر أبيه ، فرتب لقريش رحلة الشتاء الى اليمن ، وعقد معاهداتٍ لحماية قوافلها مع كل القبائل التي تمر عليها ومع ملك اليمن ، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف.

* *

وعلى الصعيد المعنوي ، كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم الى إسماعيل ، واتباعهم لملة ابراهيم ، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وابراهيم (عَلَيْهِما السَّلاَمُ).

وتفاقم الأمر عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة ، وأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم ، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى ، ووجد فيها غزالين من ذهب ، فزين بذهبهما باب الكعبة ففاز بمأثرةٍ جديدة وصار - بسبب شحة الماء في مكة - ساقي الحرم والحجيح !

ص: 144

ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة ، بأن الجيش لن يصل اليها ، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم ، فصدقت نبوءته ، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول.

ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً ، كأنه نبي أو ممهد لنبي ، فجعل الطواف سبعاً وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً ، فحرم عبد المطلب ذلك. ونهى عن قتل الموؤودة. وأوجب الوفاء بالنذر ، وتعظيم الاشهر الحرم. وحرم الخمر. وحرم الزنا ووضع الحد عليه ، ونفى البغايا ذوات الرايات الى خارج مكة. وحرم نكاح المحارم. وأوجب قطع يد السارق. وشدد على القتل ، وجعل ديته مئة من الإبل.

وقد عظمت مكانة عبد المطلب في قريش وفي قبائل العرب ، وكان زعماء قريش يأكلهم الحسد منه ! حتى جروه مرتين الى المنافرة والإحتكام الى الكهان فنصره الله عليهم بكرامة جديدة ، وتعاظمت مكانته أكثر !

ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب ، أنه ادعى أنه مثل جده ابراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة .. الخ.

وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب ، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب ، وأخذ مكانة أبيه وجده ، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته.

وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) النبوة ، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته !

وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته ، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته ، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة ، ووقف في وجه مؤامراتها ، وأطلق قصائده في

ص: 145

فضح زعماءها فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ويهجو زعماء قريش حتى أنه سمى زعيم مخزوم أبا الحكم ( أحيمق مخزوم ) كما سماه ابن أخيه محمد ( أبا جهل ) !!

ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. ففشلوا !

ثم اتخذوا قراراً باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم ، فهرب أكثرهم الى الحبشة .. وفشل زعماء قريش !

ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا اليهم بني كنانة ، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة ، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع .. فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة !

وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب ، حتى اتحد زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، الذي بقي بزعمهم بلا حامٍ ولا ناصر .. فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله الى المدينة التي أسلم أكثر أهلها !

وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء والوعيد ، واليهود .. ولكنهم فشلوا ، لأن المدينة صارت في يد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهي تقع على طريق شريانهم التجاري ، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها !

فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم ، وحاربوه في بدر ، وأحد ، والخندق .. ففشلوا !

وحاربوه باليهود ، واستنصروا عليه بالفرس والروم .. ففشلوا !

وما هو إلا أن فاجأهم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في السنة الثامنة من هجرته .. ودخل عليهم عاصمتهم مكة ، بجيش من جنود الله لا قبل لهم به. فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم ، والتسليم للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ص: 146

وقام أهل مكة سماطين ينظرون الى دخول رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والى جيشه ..

وتقدم براية الفتح بين يديه شابٌّ أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية ، هو عبد الله بن رواحة ، وهو يقول للفراعنة :

خلُّوا بني الكفار عن سبيلِهِ

فاليوم نضربْكم على تنزيلهِ

ضرباً يزيل الهام عن مَقِيلِهِ

ويذهلُ الخليلَ عن خليله

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي (2)

فقال عمر بن الخطاب : يابن رواحة ، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله ، تقول الشعر !!

فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : مهْ يا عمر ، فو الذي نفسي بيده ، لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل ) ! ( البيهقي في سننه : 10 / 228 ، ونحوه الترمذي : 4 / 217 ، والذهبي في سير أعلام النبلاء : 1 / 235 )

فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم ، ولا يتحداهم في عاصمتهم .. ولا ننسى أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة ، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم.

ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيوف والسهام ، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ ، وقيمته عاليةٌ عند الله تعالى ، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل !!

* *

وأعلن الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الأمان لقريش ، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم .. وشرح لهم تكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته ، وعداءهم لله ورسوله ، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين ، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله ..

ص: 147

- قال الطبري في تاريخه : 2 / 337 :

عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال :

لا إله الا إلله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده.

ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يدَّعى ، فهو تحت قدميَّ هاتين ، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ...

يا معشر قريش : إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم خلق من تراب. « يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم » .. الآية.

يا معشر قريش ويا أهل مكة : ماترون أني فاعلٌ بكم ؟!

قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم.

ثم قال : إذهبوا فأنتم الطلقاء.

فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً ، وكانوا له فَيْأً ، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. انتهى.

لقد خيرهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بين إعلان إسلامهم أو القتل : فأعلنوا إسلامهم ، فقال لهم : إذهبوا فأنتم الطلقاء ، وذلك يعني أنه منَّ عليهم بحياتهم ، مع أنهم يستحقون أن يتخذهم عبيداً ، أو يقتلهم !!

ويعني أن إعلان إسلامهم الشكلي ، لم يرفع جواز استرقاقهم أو قتلهم !

* *

ومما صادفته في تصفحي ، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين ، حيث ضعف هذا الحديث ! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة

ص: 148

3 / 307 برقم 1163 : ضعيف. رواه ابن إسحاق في السيرة 4 / 31 - 32 ، وعنه الطبري في التاريخ 3 / 120 ، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4 / 300 - 301 ، ساكتاً عليه. وهذا سندٌ ضعيف مرسل ، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسمَّ ، فهو مجهول. ثم هو ليس صحابياً ، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة ، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه ، فهو مرسل ، أو معضل. انتهى.

وكأن هذا المحدث لم يطلع على وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى ، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات ..

وما أدري هل هو جهلٌ بالتاريخ والحديث الى هذا الحد .. أم حبٌّ للقرشيين ومحاولةٌ لتخليصهم من صفة الرق الشرعية للرسول وآله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؟!

فإن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق ، واسم ( الطلقاء ) كالعلم لأكثر قريش ، وهو كثيرٌ في مصادر الحديث ، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب.

- فقد روى البخارى في صحيحه : 5 / 105 - 106

قال لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء ، فأدبروا ...

- وفي مسلم : 3 / 106 : ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده !!

ونحوه في : 5 / 196 ونحوه في مسند أحمد : 3 / 190 و 279

والصحيح أنه لم يثبت معه إلا بنو هاشم.

- وفي مسند أحمد : 4 / 363 : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض ، الى يوم القيامة.

وقد صححه الحاكم في المستدرك : 4 / 80 ، وقال عنه في مجمع الزوائد : 10 / 15 :

رواه أحمد والطبراني بأسانيد ، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح ، وقد جوده (رضی الله عنه) وعنا ، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي ، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي.

ص: 149

- وقال الشافعي في كتاب الأم : 7 / 382

قال الأوزاعي : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة ، ولم يجعلها فيئاً.

قال أبو يوسف (رحمه الله) : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال :

من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم ، إلا أن يقاتل أحدٌ فيقتل ، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد : ما ترون أني صانعٌ بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم.

قال : إذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً. وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره ، فهذا من ذلك ، وتفهَّم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن لذلك وجوهاً ومعاني. انتهى.

وراجع أيضاً مغني ابن قدامة : 7 / 321 ، ومبسوط السرخسي : 10 / 39 ، ومسند أحمد : 3 / 279 ، وسنن البيهقي : 6 / 306 ، و : 8 / 266 و : 9 / 118 ، وكنز العمال : 12 / 86.

- وفي كنز العمال : 5 / 735 : قال لهم عمر : إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء ، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً - ابن سعد. انتهى.

وكذلك الأمر في مصادرنا :

- ففي نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده : 3 / 30 في جواب علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمعاوية :

وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلانٌ وفلانٌ ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم تلحقك ثلمته.

وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس ؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم.

هيهات ، لقد حنَّ قدحٌ ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.

ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخر حيث أخرك

ص: 150

القدر ، فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر .. وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد.

- وفي الكافي : 3 / 512

من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده ... وما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبِّله بالذي يرى كما صنع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بخيبر ... وقال : إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر ، وإن أهل مكة دخلها رسول الله 9 عنوةً فكانوا أسراء في يده ، فأعتقهم وقال : إذهبوا فأنتم الطلقاء.

قريش بعد فتح مكة

ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم الى الدخول في الإسلام ؟؟

من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمةً في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم .. ولكن في المقابل ظهر فيهم منطقٌ يقول : إن دولة محمد دولتنا .. فمحمد أخٌ كريمٌ ، وابن أخٍ كريم ، ودولته دولة قريش ، وعزه عزها وفخره فخرها ، فهو مهما كان ابن قريش الرحيم ، ودولته أوسعُ من دولة قريش وأقوى ، والمجال أمام زعمائها مفتوحٌ من داخل هذه الدولة ، فلماذا نحاربها ، ولماذا نتركها بأيدي الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين !.

أما مسألة من يرث دولة محمد بعده ، فهي مسألةٌ قابلةٌ للعلاج ، وهي على كل حال مسألةٌ قرشيةٌ داخلية !!

من البديهي عند الباحث أن يفهم أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأن الهدف الأهم عندها كان : منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم ، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش !

فالنبوة لبني هاشم ، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقريش غير بني هاشم !

ص: 151

لكن رغم وجود هذا المنطق ، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة ! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته ، لأنه يعمل بجدٍّ لتركيز حكم عترته من بعده ..

لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة الى اغتيال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين ..!!

إن فراعنة قريش كفراعنة اليهود أبناء عمهم ، فهم لا يعرفون الوفاء ، بل كأنهم إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن اليهم ، يصابون بالصداع !!

لقد اعلنوا إسلامهم ، وادعوا أنهم ذهبوا مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليساعدوه في حربه مع قبيلتي هوازن وغطفان ، وكان عدد جيشهم ألفين ، وعدد جيش النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي فتح مكة عشرة آلاف ، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشق سهام ، وسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً ، كما حدث في أحد !

وثبت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه بنو هاشم فقط ، كالعادة ، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا اليهم مئة من الفارين حتى ردوا الحملة ، ثم رجع المسلمون الفارون .. وكتب الله النصر.

وفي أثناء هزيمة المسلمين ، قامت قريش بعدة محاولاتٍ لقتل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

نكتفي منها بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث ، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة ! ونقله عنه محب له ولقريش ولبني أمية هو ابن كثير فقال في سيرته : 3 / 691 :

كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس ، فكان يقول : الحمد لله الذي من علينا بالإسلام ، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولم نمت على ما مات عليه الآباء ، وقتل عليه الإخوة وبنو العم.

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش الى حنين ، وهم على دينهم بعد ، قال : ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه ، فلم يمكنا ذلك.

ص: 152

فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه ، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنضير ؟

قلت : لبيك.

قال : هل لك الى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ؟

قال : فأقبلت إليه سريعاً.

فقال : قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع !

قلت : قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم زده ثباتاً.

قال النضير : فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين ، وتبصرة بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي هداه. انتهى.

وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراً من هذا الزعيم القرشي على نفسه ، وإقرار الإنسان على نفسه حجة .. وأنه يتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى ، فقد ذكر أنه تشهده الشهادة الأولى فقط ، ولم يذكر الثانية !

ولكن الدعوى لا تثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره !

ومهما يكن فقد اعترف زعيم بني عبد الدار أصحاب راية قريش التي يصدر حاملها الأوامر لألفي مسلح في حنين ، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً ، وبأنه كل زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا .. فقد أحبط الله تعالى خططهم ، وكشف لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نواياهم !!

بل تدل أحاديث السيرة ، على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر ، فأظهروا كفرهم الراسخ ، وفضحوا أنفسهم !

- ففي سيرة ابن هشام : 4 / 46

قال ابن اسحاق : فلما انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه

ص: 153

وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته ! وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا بطل السحر اليوم !

قال ابن اسحاق : وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار : قلت اليوم أدرك ثأري من محمد ، وكان أبوه قتل يوم أحد ، اليوم أقتل محمداً ، قال :

فأدرت برسول الله لأقتله ، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك ، وعلمت أنه ممنوعٌ مني !! انتهى.

وهذا آخر من أصحاب راية جيش قريش المسلمة ، يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها ( دار ) مرة أو مراتٍ حول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليقتله !

إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش ، وتفكيرهم واهتماماتهم ، يصل الى أن قناعة بأن عنادهم بلغ حداً أنهم اتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعو اليها ويعاملهم بها .. وأن لا يدخلوا في دينه إلا في حالتين لا ثالثة لهما :

إذا كان السيف فوق رؤوسهم !

أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم !

لقد حاربوا هذا الدين ونبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا ..

ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم اغتيال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى عجزوا ..

ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليأخذوا سهماً من دولته فعجزوا ..

ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأنه من قبائل قريش !!!

- قال في مناقب آل أبي طالب : 2 / 239

قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء : إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما نص على أمير المؤمنين

ص: 154

بالإمامة في ابتداء الأمر ، جاءه قوم من قريش وقالوا له : يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب .. فلو عدلت به الى غيره ، لكان أولى !

فقال لهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ.

فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك ، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه ، ليتم لك أمرك ، ولا تخالف الناس عليك. فنزلت الآية : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين.

عبد العظيم الحسني عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خبر : قال رجل من بني عدي اجتمعت اليَّ قريش ، فأتينا النبي فقالوا : يا رسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك ، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء ، فهبط جبرئيل على النبي فقال : يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك .. الآية. انتهى. ( والحديث الأول في تنزيه الأنبياء/ 167 )

* *

قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو

رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم ، فقد حاول الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يستقطبهم ، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم المعركة ، وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم .. الخ.

لقد أمر الله رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم ، وظلماتهم بنور الإحسان ..!!

وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان ، ولم يبق منها إلا ( أمجاد ) حربه مع محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة ، ولا تصلح في السلم للزعامة والعمل السياسي ، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب الى المدينة وطلب منصباً من محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل !!

ص: 155

أما الزعيم الذي يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً .. فقد وجدته قريش في سهيل بن عمرو ، العقل السياسي المفكر والمخطط ..

وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش ، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد أو أماتهم رب محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود ، هو في نظر قريش : قرشي أصيل. ولئن كان من بني عامر بن لؤي ، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( سيرة ابن هشام : 2 / 489 ) ، ولكنه صاحب تاريخ مع محمد ، فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه.

وهو من أعضاء دار الندوة الذين قرروا مقاطعة بني هاشم.

وهو من الذين ائتمروا على قتله عندما ذهب الى الطائف ، وقرروا نفيه من مكة ، وهددوه بالقتل إن هو دخلها ، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول الى مكة وتبليغ رسالة ربه .. ففي تاريخ الطبري : 2 / 82 : أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال للأخنس بن شريق : ائت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك : هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي ؟ فأتاه فقال له ذلك ، قال فقال : إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب ! انتهى.

وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب ، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة.

وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم ، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل.

وهو أحد قادة المشركين في بدر ، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش.

وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بفعالياتهم الخبيثة ، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته ، وأمر رسوله أن يلعنهم ، ويدعو عليهم في صلاته.

وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أحد والخندق وغيرهما.

ص: 156

- قال في سير أعلام النبلاء : 1 / 194

يكنى أبا يزيد ، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم ... وكان قد أسر يوم بدر وتخلص. قام بمكة وحض على النفير ، وقال : يال غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم ! من أراد مالاً فهذا مال ، ومن أراد قوة فهذه قوة.

وكان سمحاً جواداً مفوهاً.

وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم !! وعظم الإسلام. انتهى.

وهو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الحديبية ، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط ، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة ( رسول الله ) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش.

وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم ، أكثر من غيره من فراعنتها.

وهو أخيراً من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقتالهم ! وإعلانه الإسلام تحت السيف لا يغير من آيات الله شيئاً ! ففي تفسير الصنعاني : 1 / 242 : عن قتادة في قوله ( وقاتلوا أئمة الكفر ... ) هو أبو سفيان بن حرب ، وأمية بن خلف ، وعتبه بن ربيعة ، وأبو جهل ، وسهيل بن عمرو. انتهى.

وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولم يهاجر الى المدينة كبعض الطلقاء ، ولم يطلب من محمد منصباً ، لأن كبرباءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يأبيان عليه ذلك !!

ولكنه قبل هدية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حنين وكانت مئة بعير ، بينما كان رفضها في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم أشفق عليهم وأرسل اليهم مساعدة ، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية ، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها !

ص: 157

إنه تاريخٌ طويلٌ مشرقٌ عند القرشييين ، وإن كان أسود عند الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات ، اجتمعت حوله قريش بعد فتح مكة ، وانضوت تحت زعامته !

* *

وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها ، هو عتاب بن أسيد الأموي وحعل معه أنصارياً ، ولكن قريشاً كانت تفضل عليه سهيلاً ، وتسمع كلامه أكثر منه !

والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ارتدت قريش عن الإسلام ، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ مع أنه قرشي أموي .. وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي ، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فاطمأن سهيل بن عمرو ، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة ، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات ، ونحن لا نعبد محمداً ، بل هو رسولٌ بلغ رسالته ومات ، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش ، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر ، فاسمعوا له وأطيعوا.

لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش ، وليس بيد بني هاشم والأنصار اليمانية الذين ( يعبدون ) محمداً ، فلماذا الرجوع عن الإسلام !

فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة !

وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : أخرج من مخبئك ، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة التيمي !

( راجع سيرة ابن هشام : 4 / 1079 ، وفيها : فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ، وظهر عتاب بن أسيد ).

سهيل بن عمرو يحاول الإستقلال !

اقتنعت قريش بعد فتح مكة أن العمل العلني ضد محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) محكوم بالفشل ..

ص: 158

فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن ، والعمل السري الصامت ، لإبعاد عترته عن الحكم ، وجعله في قريش ..

ولكن المشكلة عندها أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي .. ومن بعده للحسن والحسين ، أولاد بنته فاطمة .. وقريش لا تطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم .. لذلك قرر قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو أن يقوموا بأنشطة متعددة ، منها محاولة جريئة مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. فقد كتبوا اليه ثم جاؤوه وفداً برئاسة سهيل بن عمرو ، طالبين اليه أن يرد ( اليهم ) عدداً من أبنائهم وعبيدهم ، الذين تركوا مكة أو مزارعهم في الطائف ، وهاجروا الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليتفقهوا في الدين ، كما تنص الآية القرآنية !

قال سهيل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نحن اليوم حلفاؤك ، وقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا ، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية !

وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك ، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا ، ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين ، فأرجعهم الينا !!

ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد : أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها الى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف .. تريد من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الإعتراف بأنها وجودٌ سياسيٌّ مستقل ، في مقابل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ودينه ودولته !!

- روى الترمذي في : 5 / 298

عن ربعي بن حراش قال : أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال : لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين ، فقالوا يا رسول الله : خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا ، وليس لهم فقه في الدين ، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا ، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم.

ص: 159

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان ! قالوا من هو يا رسول الله ؟

فقال له أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟

وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟

قال هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها. هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي.

- وروى أبو داود : 1 / 611

عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال : خرج عبدانٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني يوم الحديبية قبل الصلح ، فكتب إليه مواليهم فقالوا : يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك ، وإنما خرجوا هرباً من الرق !

فقال ناسٌ : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم !

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا !

وأبى أن يردهم وقال : هم عتقاء الله عز وجل. انتهى.

ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث ، فهذا من أساليب الرواة القرشيين في التزوير فالحادثة وقعت بعد فتح مكة ، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالوفاء لهم بشرطهم ، لأنهم شرطوا على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في صلح الحديبية أن يرد اليهم من يأتيه منهم ، ولا يردون اليه من يأتيهم من المسلمين !

ولو كانت قبل فتح مكة ، لكانت مطالبةً بشرطهم ، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد ، وهو لا يغضب إلا بحق ، ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى ، ولا يرضى إلا بما يرضي الله تعالى !

ص: 160

ولو كانت قبل فتح مكة وقبل ( دخول ) قريش في الإسلام لما قالوا في مطالبتهم بأولادهم وعبيدهم المهاجرين ( سنفقههم ) فهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الاسلام وفقه الإسلام !

كما أن بعض الروايات قد صرحت بأن الحادثة كانت بعد فتح مكة !

- قال الحاكم في المستدرك : 2 / 138

عن ربعي بن حراش عن علي 2 قال : لما افتتح رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكة ، أتاه ناس من قريش فقالوا : يا محمد إنا حلفاؤك وقومك ، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام ، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا !

فشاور أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله !

فقال لعمر ما ترى ؟ فقال مثل قول أبي بكر.

فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للايمان ، فيضرب رقابكم على الدين !

فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟

قال : لا.

قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟

قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في المسجد ، وقد كان ألقى نعله الى علي يخصفها .. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وروى نحوه في 4 / 298 ، وصححه على شرط مسلم وفيه ( لما افتتح رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مكة أتاه ناس من قريش ... يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين ، ثم قال : أنا ، أو خاصف النعل ، قال علي : وأنا أخصف نعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ) انتهى. ورواه في كنز العمال : 13 / 174 ، وقال : ( ش وابن جرير ، ك ، ويحيى بن سعيد في إيضاح الإشكال ).

ص: 161

في هذه الحادثة الخطيرة حقائق مهمة وكبيرة :

الأولى : أنهم جاؤوا الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى المدينة .. وهذا يعني أنهم بعد فتح مكة وخضوعهم وإعلانهم الإسلام تحت السيف ، وعتق (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وآله لرقابهم ، وما فعلوه في حرب حنين .. جاؤوا الى ( محمد ) في عاصمته يطالبونه بالإعتراف العملي باستقلالهم السياسي .. وهي وقاحةٌ ما فوقها وقاحة !!

9 وقالوا له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ( يا محمد ) كما رأيت في صحيح الحاكم على شرط مسلم ! وكما في سنن أبي داود : 1 / 611 ولكن رواية الترمذي جعلتها ( يا رسول الله ) !

وقد مر ما يدل على أن الحادثة كانت في المدينة ففي مسند أحمد : 3 / 82

عن أبي سعيد الخدري قال : كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه ، قال : فقمنا معه فانقطعت نعله ، فتخلف عليها علي يخصفها ، فمضى رسول صلى الله عليه وسلم ثمتَ ومضينا معه ، ثم قام ينتظره وقمنا معه ، فقال : إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله !! فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال : لا ، ولكنه خاصف النعل ! قال فجئنا نبشره قال : وكأنه قد سمعه. انتهى. وقال عنه في مجمع الزوائد : 9 / 133 ( رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ). انتهى.

الثانية : أنهم اعتبروا أن فتح مكة ( ودخولهم ) في الإسلام لا يعني خضوعهم للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وذوبانهم في الأمة الإسلامية ، بل هو تحالف مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ضد أعداء دولته من القبائل التي لم تدخل تحت سيطرتها ، والى حد ما ضد الروم والفرس. فهو تحالف الند للند ، وإن كان تم بفتح مكة بقوة السيف !!

وقد عملوا بزعمهم بهذا التحالف ، فحاربوا معه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حنين ، فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل ! وقد اختاروا أول مطلب لهم أو علامة على ذلك : أن يعيد هؤلاء الفارين اليه من أبنائهم وعبيدهم ! يعيدهم من دولته الى دولتهم !!

ص: 162

الثالثة : أن القرشيين الذين هاجروا مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - ما عدا بني هاشم - وافقوهم على ذلك ! فهذا أبو بكر بن أبي قحافة التيمي ، وعمر بن الخطاب العدوي يؤيدان مطلب قريش مئة بالمئة !!

وتتفاوت الروايات هنا في التصريح في موافقة أبي بكر وعمر على مطلب قريش فبعضها كما رأيت في رواية الحاكم الصحيحة ينص على أن أبا بكر قال ( صدقوا يا رسول الله ! ) وقال عمر مثل قوله : صدقوا يا رسول الله ردهم اليهم !!

وبعضها لا تذكر تصديقهما لمطلب قريش وشهادتهما بأنه حق ، بل تقتصر على سؤالهما إن كانا هما الذين سيبعثهما الله ورسوله لتأديب قريش ! كما في رواية الترمذي المتقدمة ، وكما في مستدرك الحاكم : 3 / 122 ، وكما في مجمع الزوائد : 9 / 134 و : 5 / 186 ، وقال ( رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح ).

وقد غير بعض الرواة القرشيين ( الأذكياء ) اسم الشيخين الى ( ناس ) رسول الله صلى الله عليه وسلم !! وكذا في كنز العمال : 10 / 473 وقال الهندي عن مصادره : أبو داود وابن جرير وصححه ، ق ض ).

وبعضهم حذفوا اسم أبي بكر وعمر كلياً من الحادثة ! كما رأيت في سنن أبي داود ، وكما في كنز العمال : 11 / 613 ، حيث رواه بعدة روايات عن أحمد ، وعن مصادر متعددة ، وليس فيه ذكر لأبي بكر وعمر !

الرابعة : يتساءل الباحث ما هي العلاقة التي كانت تربط أبا بكر وعمر بسهيل بن عمرو ، ولماذا أيدا مطلب قريش المفضوح ؟!

ويتساءل : مادام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهم خطة القرشيين وغضب ورفض مطلبهم وهددهم بالحرب ثانية ، بل وعدهم بها .. فلماذا استشار أبا بكر وعمر في الموضوع ؟!

على أي حال ، إن أقل ما تدل عليه النصوص : أن زعامة قريش كانت متمثلةً في ذلك الوقت بهؤلاء الأربعة ، الذين جمعتهم هذه الحادثة وهم :

ص: 163

رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وسهيل بن عمرو العامري ، زعيم المشركين بالأمس وزعيم قريش اليوم.

وأبو بكر التيمي وعمر العدوي ، الممثلان لقبيلتين صغيرتين لا وزن لهما في قريش ، ولكن لشخصيتيهما وزناً مهماً لصحبتهما للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد أيدا مطلب سهيل !

ولا بد للباحث أن يفترض علاقةً واتفاقاً مسبقاً بين وفد قريش وبين الشيخين ، بل يفهم من بعض الروايات أن سهيلاً ووفد قريش نزلوا في المدينة في ضيافة عمر ، ثم جاء وأبو بكر معهم الى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لمساعدتهم على مطلبهم.

الخامسة : تضمن الموقف النبوي من الحادثة أربعة عناصر :

الأول ، الغضب النبوي من تفكير قريش الكافر ووقاحتها ، وقد ذكرته الروايات ولم تصفه بالتفصيل.

الثاني ، يأس النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها ، بل يأسه من أن تترك قريش تعقيد بني عمها إسحاق وفرعنتهم ، وتخضع للحق ، إلا بقوة السيف !!

ففي عدد من روايات الحادثة كما في الحاكم : 2 / 125 ( فقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا ) أي على الإسلام ! وكذا رواه أبو داود : 1 / 611 ، والبيهقي في سننه : 9 / 229 ، وكنز العمال : 10 / 473 ! وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ، ولن يسلموا إلا تحت السيف !!

الثالث ، تهديدهم بسيف الله تعالى ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الذي ترتعد منه فرائصهم ، لأنهم ذاقوا منه الأمرين ، فقد قتل مجموع المسلمين في حروبهم مع قريش نصف أبطالها ، وقتل علي وحده نصفهم أو أكثر !

ونلاحظ هنا أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كنَّى عن ذلك الشخص الذي سيبعثه الله على قريش فيضرب أعناقهم على الدين ، بأنه أنا أو رجل مني ( مجمع الزوائد : 9 / 133 ) ثم سماه عندما سأله أبو بكر وعمر عنه فقال ( أنا أو خاصف النعل - كنز العمال : 7 / 326 وغرضه من التكنية ثم التسمية ، أن لا تتصور قريش أن المسألة بعيدة فتطمع في مشروعها !

ص: 164

بل ينبغي أن تحتمل أن الأمر قد يصدر غداً الى علي بغزو مكة وقتل فراعنة قريش !

وغرضه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من تعبير ( مني ) أن يبين مكانة علي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأن تعلم قريش أنه مؤمنٌ وأنه هاشمي من ذلك الفرع الذي ما زالت تحسده ، وتموت منه غيضاً !!

فلو أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال لهم : إن علياً سيقاتل قريشاً على تأويل القرآن بعد ربع قرن ، كما قاتلتها أنا على تنزيله بالأمس ، لطمعت قريش وقالت : إذن عندنا فرصة ربع قرن من الزمان ، ولكل حادثٍ حديث !

بل روى في مجمع الزوائد حديثاً قال عنه : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح : أن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كان يعلن في زمان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تهديده لقريش ، ولكل من يفكر بالردة ، بأنه سوف يقاتلهم الى آخر نفس ، وهو عملٌ وقائي بتوجيه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لمنع قريش أن تفكر بالردة ! قال في مجمع الزوائد : 9 / 134

وعن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل يقول : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت. لا والله .. إني لأخوه ، ووليه ، وابن عمه ، ووارثه ، فمن أحق به مني ؟!

- وروى في نفس المكان حديثاً آخر ينص على أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هدد قريشاً بعلي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد فتح مكة مباشرةً ، قال : وعن عبد الرحمن بن عوف قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انصرف الى الطائف فحاصرها سبع عشرة أو ثمان عشرة لم يفتتحها ، ثم أوغل روحةً أو غدوةً ، ثم نزل ثم هجَّرَ فقال :

يا أيها الناس إني فرطٌ لكم وأوصيكم بعترتى خيراً ، وإن موعدكم الحوض. والذي نفسي بيده ليقيموا الصلاة ، وليؤتوا الزكاة ، أو لأبعثن اليهم رجلاً مني ، أو لنفسي ، فليضربن أعناق مقاتليهم ، وليسبين ذراريهم.

قال فرأى الناس أنه أبو بكر أو عمر ، وأخذ بيد علي فقال : هذا هو. رواه أبو يعلى وفيه طلحة بن جبر ، وثقه ابن معين في رواية ، وضعفه الجوزجاني ، وبقية رجاله ثقات.

ص: 165

الرابع : أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حكم بكفر أصحاب هذا الطلب ، ولعمري إن مجرد طلبهم كافٍ لإثبات ذلك. ويؤكده الغضب النبوي وقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) وقوله بأن الله سيبعث عليهم رجلاً يضرب أعناقهم على الدين ، مما يدل على أنهم ليسوا عليه. بل لا يسكتون عنه إلا تحت السيف !!

ولكن الفقهاء يريدون دليلاً أكثر لمساً ، وقد أعطاهم إياه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأبى أن يرد عليهم عبيدهم المملوكين ، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى !

فلو كان هؤلاء الطلقاء مسلمين ، وكانت ملكيتهم محترمة ، فكيف يجوز للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يعتدي على ملكيتهم ، وهو أتقى الأتقياء ، وهو القائل : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه .. والقائل : إن أموالكم ودماءكم عليكم حرام .. الخ.

أثر هذه الحادثة على قريش

الظاهر أن هذه الحادثة كانت آخر محاولات قريش لانتزاع اعتراف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) باستقلالها السياسي ، ولو بصيغة التحالف معه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، أو بصيغة الحكم الذاتي تحت لواء دولته ! فهل سكتت قريش بعد هذه الحادثة ؟

الذين يقرؤون التاريخ المكتوب بحبر الخلافة القرشية ، والإسلام المفصل بمقصات رواتها .. يقولون : من المؤكد أن قريشاً تابت بعد هذه الحادثة ، وأسلم زعماؤها وأتباعهم وحسن إسلامهم ، وتصدقوا وأعتقوا وحجوا ، وأكثروا من الصوم والحج والصلاة !

ولكن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) !! وطبيعة قريش ، وطينة زعامتها تؤكد أنهم واصلوا العمل على كل الجبهات الممكنة !!

نعم .. لقد رأت قريش أن حديدة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حامية ، وأن التفكير بالإستقلال السياسي عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تفكيرٌ خاطىَ ، وأن محمداً لا يقعقع له بالشنان ، فهو من علياء هاشم وذروة شجعانها ، ومعه ابن عمه قَتَّال قريشٍ ومجندل أبطالها ، ومعه الأوس والخزرج ، الذين تجرؤوا لأول مرة في تاريخهم على حرب قريش ..

ص: 166

لقد تراجع عند قريش منطق الإستقلال السياسي عن محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وتأكد عندها المنطق القائل إن دولة محمد شملت كل المنطقة ، وهي تتحفز لمقارعة الروم والفرس ، وقد وعد محمد المسلمين بذلك وتطلعوا اليه .. فلا معنى لأن تطالبه قريش بحكم مكة ومن أطاعها من قبائل العرب !

إنه لا بد من التأقلم مع الوضع الجديد ، والعمل الجاد بالسياسة وبالعنف المنظم ، لكي ترث قريش كل دولة محمد ! (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

فمحمد من قريش ، وقريش أولى بسلطان ابنها ، ولا كلام للأنصار اليمانية ، ولا لغيرهم من القبائل.

أما مسألة بني هاشم الذين يسميهم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) العترة والقربى ، وتنزل عليه فيهم آيات القرآن ، ويصدر فيهم الأحاديث ، ويجعل لهم خمس ميزانية الدولة .. فلا بد من معالجة أمرهم بأي طريقة ممكنة !

نعم .. هذا ما وصلت اليه قريش التي أعتقها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من القتل والرق !

وهذا ما جازته به في حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

وقد ساعدها عليه من ساعدها من أصحابه !!

الخليفة عمر يشهد بفساد قريش !

- قال الطبري في تاريخه : 3 / 426 :

عن الحسن البصري قال : كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان ، إلا بإذنٍ وأجل ، فشكوه ، فبلغه ، فقام فقال : ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير ، يبدأ فيكون جذعاً ، ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديساً ، ثم بازلاً ، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان.

ألا فإن الإسلام قد بزل ، ألا وإن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله مغوياتٍ دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا ، إني قائمٌ دون شعب الحرة ، آخذٌ بحلاقيم قريش

ص: 167

وحجزها أن يتهافتوا في النار !! انتهى. ورواه في كنز العمال : 13 / 75 ، وفي تاريخ المدينة لابن شبة : 2 / 779 ، وفيه ( ألا وإني آخذٌ بحلاقيم قريش عند باب الحرة أن يخرجوا على أمة محمد فيكفروهم ). انتهى. ونحوه في : 2 / 401.

وهذا الموقف من الخليفة عمر يتضمن عدة أمور ، نكتفي بالإشارة اليها :

فهو أولاً ، كلام زعيمٍ لا يشك أحدٌ في ولائه لقريش ، لأنه حمل راية قريش وأحقيتها بخلافة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مقابل الأنصار وبني هاشم ، وخاض صراعاتٍ شديدة ، حتى خلَّص الخلافة من عترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقدمها على طبقٍ الى قبائل قريش !

وهو ثانياً ، شهادةٌ منه بحق المهاجرين القرشيين بأنهم أناسٌ مضلون ، يجب أن يحبسوا في المدينة حتى لا يضلوا المسلمين ويخرجوهم من الإسلام !!

وإذا كان حال القرشيين المسلمين المهاجرين هذا ، فما هو حال الطلقاء ؟!

وهو ثالثاً ، يتضمن تصوراً لانتهاء الإسلام في مدةٍ قليلة ، وكأن الإسلام دورةٌ سياسية تمر على الجزيرة والمناطق التي امتد اليها ، ثم تنتهي !

وقد ثبت عن الخليفة عمر أنه كان يرى أنه سوف لا تمر سنين طويلة حتى تأخذ الأمم الأخرى مناطق المسلمين بما فيها مكة ، ويهجرها أهلها وتخرب !!

ولعله اقتنع بهذا الرأي من كعب الأحبار .. وهو بحثٌ خارجٌ عن موضوعنا.

* *

ص: 168

الفصل الثاني: آية الأمر بالتبليغ

نص الآية مع سياقها

* وقالت اليهود يد الله مغلولة ، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ، وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً ، والله لا يحب المفسدين.

* ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.

* يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، إن الله لا يهدي القوم الكافرين.

* قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ، فلا تأس على القوم الكافرين.

ص: 169

* إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.

* لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً ، كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون. المائدة 64 - 70

مكان الآية في القرآن

إذا قلنا بحجية السياق القرآني ، فلا بد أن نأخذ في تفسيرالآية أمرين :

الأول ، أنها من سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت من القرآن.

والثاني ، أنها وقعت في وسط آيات تتحدث عن أهل الكتاب.

والنتيجة : أن الآية تقول للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : بلغ ولا تخف أهل الكتاب ، فنحن متكفلون بعصمتك منهم ، فلن يستطيعوا أن يضروك.

ولكن هذا التفسير لا يقبله علماء المسلمين ، لا السنة منهم ولا الشيعة ، لأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يبلغ اليهود والنصارى في الشهرين اللذين عاشهما بعد الآية شيئاً إضافياً بارزاً ولأن خطرهم عليه عند نزولها كان قد زال ، وقد خضعوا لحكمه.

وبذلك ينفتح البحث للسؤال عن مكان الآية ، وهل أن هذا مكانها من الأصل ؟ أم أنها وضعت هنا باجتهاد أحد الصحابة ؟

نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى ، معاذ الله ، لكن ورد أن الصحابة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد اجتهدوا في وضع آياتٍ في سور من القرآن .. والظاهر أن وضع هذه الآية هنا من اجتهاداتهم ، أو من المصادفات.

أقوال العلماء السنيين

اختلف المفسرون والفقهاء السنيون في سبب نزول الآية وفي تفسيرها ، على أقوال عديدة ، أهمها سبعة أقوال ، أحدها موافقٌ لتفسير أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، وستة مخالفة .. ونورد فيما يلي الأقوال المخالفة مع مناقشاتها :

ص: 170

القول الأول

اشارة

أنها نزلت في أول البعثة ، حيث خاف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على نفسه فامتنع عن تبليغ الاسلام ، أو تباطأ ! فهدده الله تعالى وطمأنه .. فقام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالتبليغ !

وهذا يعني أن الآية نزلت قبل 23 سنة من نزول سورة المائدة !

وقد ذكر الشافعي هذا التفسير بصيغة ( يقال ) مما يدل على أنه غير مطمئن اليه قال في كتاب الأم : 4 / 168 :

قال الشافعي (رحمه الله) : ويقال والله تعالى أعلم : إن أول ما أنزل الله عليه : إقرأ باسم ربك الذى خلق ، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين ، فمرت لذلك مدة. ثم يقال : أتاه جبريل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم الى الإيمان به فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يتناول ، فنزل عليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. فقال يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حين تبلغ ما أنزل إليك ما مر به ، فاستهزأ به قوم فنزل عليه : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. انتهى.

ويكفي للرد على هذا القول :

أولا ، أن الآية في سورة المائدة ، وقد عرفت أنها آخر ما نزل من القرآن أو على الأقل من آخر ما نزل ، بينما يدعي هذا القول أن الآية من أوائل ما نزل !!

وثانياً ، أن الشافعي قد ضعف هذا الوجه ، لأنه نقله بصيغة يقال ويقال ، ولم ينسبه الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، بل لم يتبناه.

وثالثاً ، أنه لا يمكن قبول هذه التهمة السيئة للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه تلكأ أو امتنع عن تبليغ رسالات ربه ، بسبب خوفه من التكذيب والأذى والقتل ، حتى جاءه التهديد الالهي بالعذاب ، والتأمين من الأذى ، فتحرك وبلغ !!

فهذا التصور لا يناسب شخصية المسلم العادي ، فضلاً عن النبي المعصوم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي هو أعظم الناس إيماناً وشجاعةً.

ص: 171

كما تعارضه الآيات التي تصف حرصه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على تبليغ الرسالة ، وهداية الناس أكثر مما فرض الله تعالى عليه.

روايات ( يقال ) التي ذكرها الشافعي

- قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298

أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لإبلغن أو ليعذبني ، فأنزل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. ( وكذا في أسباب النزول : 1 / 438 )

وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فأنزل الله : والله يعصمك من الناس ، فاستلقى ثم قال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثاً.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : لما نزلت : بلغ ما أنزل اليك من ربك ، قال : يا رب إنما أنا واحدٌ كيف أصنع يجتمع علي الناس ؟! فنزلت : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته !. انتهى.

- ورواه الواحدي في أسباب النزول : 1 / 139 ، والطبري في تفسيره : 6 / 198 - وقال النيسابوري في الوسيط : 2 / 208 : وقال الأنباري : كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ، ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من شر المشركين اليه والى أصحابه ... انتهى.

ويكفي لرد هذه الروايات مضافاً الى أن الآية جزء من سورة المائدة التي نزلت قبيل وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، أنها روايات غير مسندة ، بل هي قولٌ للحسن البصري ومجاهد وابن جريح وأمثالهم ، لا أكثر. وستعرف أن الحسن البصري يقصد رسالةً معينة ، وأنه أخذ هذا التعبير من خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في يوم الغدير ، وخاف أن يرويها على حقيقتها !

روايات ( يقال ) تتحول الى رأي يتبناه العلماء !

مع أن المفسرين يعرفون أن الآية نزلت في أواخر حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ويعرفون أن تفسيرها بحدث في أوائل البعثة إنما هو قول مفسرين من متفقهة التابعين في العصر

ص: 172

الأموي ، أو روايات ضعيفة السند. لكن مع ذلك .. تراهم يفسرونها بهذا الوجه ويقدمون نزول الآية جهاراً نهاراً 23 سنة ! ويزداد تعجبك عندما ترى منهم مفسرين محترمين مثل الزمخشري والفخر الرازي !

والسبب في ذلك أنهم يريدون الفرار من تفسيرها ببيعة الغدير ، ولا يجدون مفراً إلا بأحد أمرين :

إما تفسيرها بأول البعثة والقول بأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خاف وتباطأ في تبليغ الرسالة فهدده الله تعالى وطمأنه بالعصمة من الناس ! وإما تفسيرها بروايات رفع الحراسة المزعومة التي لا يؤيدها التاريخ ، ولا يساعد عليها نص الآية ، كما سترى.

- قال الزمخشري في الكشاف : 1 / 659

والله يعصمك : عِدَةٌ من الله بالحفظ والكلاءة ، والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أعدائك ...

فإن قلت : أين ضمان العصمة ، وقد شُجَّ في وجهه يوم أحد ؟! ... قلت المراد : أنه يعصمه من القتل !.

وروي عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : بعثني الله برسالته فضقت ذرعاً ، فأوحى الله الي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك ، وضمن لي العصمة فقويت. انتهى. ونحوه في الوسيط : 2 / 208

- وقال الرازي في تفسيره : 6 جزء 12 / 48 - 50

يا أيها الرسول بلغ ... روي عن الحسن عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال : إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني ، واليهود والنصارى ، وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية ، زال الخوف بالكلية ....

في قوله : والله يعصمك من الناس سؤال : وهو كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه شج وجهه ، وكسرت رباعيته.

والجواب من وجهين : أحدهما أن المراد يعصمه من القتل ... وثانيها : أنها نزلت بعد يوم أحد. انتهى.

ص: 173

ومما يلاحظ على الرازي أنه قد لم يراعِ الأمانة في النقل ، فقد حشر في نقله عن الحسن البصري اليهود والنصارى ، لأنه يريد تفسير الآية بالعصمة من اليهود والنصارى ، ويبعدها عن قريش !! ولا نلومه على حبه لقريش ولجده أبي بكر بن أبي قحافة ، ولكن نطالبه بالأمانة العلمية ! فقد تتبعت المصادر التي نقلته عن البصري فلم أجد ذكراً لليهود والنصارى ! وستعرف أن البصري أخذ روايته من حديث الغدير !!

وقد شت ابن كثير كثيراً ، فزاد على الرازي وغيره ، قال في البداية : 3 / 53 :

روى ابن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبيه ، عن الحسن بن عيسى بن ميسرة الحارثي ، عن عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي : لما نزلت هذه الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبناً ، وادع لي بني هاشم ، فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل ، أو أربعون ورجل ، فذكر القصة نحو ما تقدم ، الى أن قال : وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ؟ قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسن العباس.

ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك ، قلت : أنا يا رسول الله ! قال : أنت ...

ومعنى قوله في هذالحديث : من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ، يعني إذا مت ، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة الى مشركي العرب أن يقتلوه ، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله ، ويقضي عنه ، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. الآية.

والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو الى الله تعالى ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، لا يصرفه عن ذلك صارف ، ولا يرده عن ذلك راد ، ولا يصده

ص: 174

عنه ذلك صاد ، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج ... انتهى. وذكره بلفظه تقريباً في السيرة : 1 / 460

ويلاحظ أنه خلط في كلامه كثيراً ، وتعصب أكثر ..

فقد بتر حديث « أنذر عشيرتك الأقربين » وحذف منه اختيار النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خليفته من عشيرته الأقربين بأمر ربه تعالى ، وأورد بدله حديثاً محرفاً ، وفسر الحديث المحرف بأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يخاف أن يقتله القرشيون ، فطلب من بني هاشم شخصاً يكون خليفته في أهله ويقضي دينه ، فقبل ذلك علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، ثم انتفت الحاجة الى ذلك بنزول الآية !!

لقد تجاهل ابن كثير أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان مأموراً في تلك المرحلة بدعوة عشيرته الأقربين فقط ، ولم يكن مأموراً بعدُ بدعوة قريش وبقية الناس ! فلا محل لما حبكته الرواية من خوفه من القتل والأذى !

ثم إن ابن كثير تفرد بربط آية العصمة بآية الأقربين ، ولم أجد أحداً سبقه اليه ، ولا ذكر من أين أخذه ؟!

وكأن المهم عنده أن يحرِّف كلام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث الدار ونصه على أن علياً أخوه ووزيره وخليفته من بعده ! ويبعد الآية عن سورة المائدة ويوم الغدير !!

وهذا قليلٌ من كثير من عمل ابن كثير ، وإليك الحديث الذي بتره :

- قال الأميني في الغدير : 1 / 207 :

وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي :

قال في تاريخه : 2 / 217 من الطبعة الأولى :

إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟

قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت - وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً - : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.

ص: 175

فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

- وقال الأميني : 2 / 279 :

وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفرالاسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى 240 في كتابه نقض العثمانية ، وقال : إنه روي في الخبر الصحيح.

ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء / 46 - 48

وابن الأثير في الكامل 2 / 24

وأبو الفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه 1 / 116

وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 3 / 37 ( وبتر آخره ) وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح.

والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره / 390

والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 / 392 نقلاً عن الطبري

وفي / 397 ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي.

وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 254. انتهى.

ثم شكا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري ، الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، لكنه أبهم كلام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حق علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، فقال : ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا. وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 40 ، وفي تفسيره : 3 / 351. انتهى.

القول الثاني

أنها نزلت في مكة قبل الهجرة بدون تحديد ، فاستغنى بها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن حراسة عمه أبي طالب ، أو عمه العباس !

ص: 176

وهذا القول هو المشهور في مصادر السنيين ، ورواياته نوعان : نوعٌ نص على تاريخ نزولها تصريحاً أو تلويحاً ، وأنه في مكة.

ونوعٌ لم يصرح بذلك ولم يربط نزولها بحراسة أبي طالب أو العباس ، ولكنه ربطه بإلغاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لحراسته فحملناه عليه ، لأن أصله رواية الترمذي عن عائشة ، وقد فهم منها البيهقي وغيره أنها تقصد مكة ، كما ستعرف.

فالنوع الأول : كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298 - 299، قال :

أخرج ابن مردويه والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ؟

فقال : كنت بمنى أيام الموسم ، واجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. قال فقمت عند العقبة فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجوا ، ولكم الجنة.

قال فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهى ، ويقولون كذاب صابىَ ، فعرض علي عارضٌ فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم ، كما دعا نوح على قومه بالهلاك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني الى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه.

قال الأعمش : فبذلك تفتخر بنو العباس ....

وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت والله يعصمك من الناس ، فذهب ليبعث معه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي الى من تبعث !!

وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن

ص: 177

ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه ، فقال : ياعم إن الله عصمني لا حاجة الى من تبعث ! انتهى. والرواية في معجم الطبراني الكبير : 11 / 205

- وفي مجمع الزوائد : 7 / 17 :

قوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس. رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.

وعن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبوطالب كل يوم رجالاً من بني هاشم ، حتى نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني من الجن والإنس.

رواه الطبراني وفيه النضربن عبد الرحمن وهو ضعيف.

والنوع الثاني : أصله ما رواه الترمذي في سننه : 4 / 317 : عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس ، حتى نزلت هذه الآية : والله يعصمك من الناس ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا ، فقد عصمني الله. هذا حديث غريب.

وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، ولم يذكروا فيه عن عائشة. انتهى.

- ورواه الحاكم في المستدرك : 2 / 313 عن عائشة أيضاً وقال عنه : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. انتهى.

والظاهر أن حديث عائشة يقصد أن الآية نزلت في مكة أيضاً ومعنى ( فأخرج رأسه من القبة ) أي من الخيمة التي كان فيها ، وقال لحراسه انصرفوا.

ص: 178

ويؤيد ذلك أن البيهقي رواه في سننه : 9 / 8 وعقب عليه بقول الشافعي المتقدم فقال : قال الشافعي : يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حتى تبلغهم ما أنزل اليك فبلغ ما أمر به فاستهزأ به قوم فنزل : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين. انتهى.

ويؤيده أيضاً أن المراغي نقل في تفسيره : 2 جزء 4 / 160 رواية السيوطي الأولى عن ابن مردويه عن ابن عباس ، ورواية الطبراني أيضاً ثم قال : روى الترمذي وأبو الشيخ .... أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية ...

وكذلك ذكر غيره ، مع أنه لا يوجد في رواية عائشة في الترمذي ما يدل على أنها تقصد مكة ، فلعل كلمة في مكة حذفت من نسخة الترمذي الفعلية !

- وقال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 291 عن حديث عائشة :

وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، وابن مردويه ، عن عائشة ...

وروى السيوطي عدة روايات بنفس مضمونه عن غير عائشة ، وبعضها قد يفهم منه أن نزول الآية في المدينة ، فجعلناه في القول الثالث.

قال في الدر المنثور : 2 / 298 - 299 : وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي ذر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل ، حتى نزلت آية العصمة : والله يعصمك من الناس. انتهى.

وقد أخذ بهذا القول كثير من المفسرين والمؤلفين في السيرة فقد ذكره الزمخشري في الكشاف : 1 / 659 ، وكأنه قبله ، وكذلك فعل الرازي في تفسيره : 6 جزء 12 / 50 ! مع أنهما

ص: 179

قالا كما رأيت بنزول الآية في مكة! وبذلك يكونا حملا حديث عائشة على أول البعثة ، كما حملا قول الحسن البصري وأمثاله !

- وقد أخذ بهذا القول أيضاً السهيلي في الروض الأنف : 2 / 290 ، والقسطلاني في إرشاد الساري : 5 / 86 ، وابن العربي في شرح الترمذي : 6 جزء 11 / 174 ، والعيني في عمدة القاري7 جزء 14 / 95 ، وابن جزي في التسهيل : 1 / 244 ، والنويري في نهاية الإرب : 8 جزء 16 / 196 ، و 19 جزء 18 / 342 ، والنيسابوري في الوسيط : 2 / 209 ، والدميري في حياة الحيوان : 1 / 79 .. وغيرهم ، وغيرهم.

- وممن أخذ بهذا القول صاحب السيرة الحلبية : 3 / 327 وقد اغتنم فرصة الآية وارتباطها بحراسة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإثبات فضيلة لأبي بكر بن أبي قحافة فقال : حراسه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبل أن ينزل عليه قوله تعالى : والله يعصمك من الناس .... سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر ، وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر شاهراً سيفه حين نام بالعريش. انتهى.

وبذلك ناقض صاحب الحلبية نفسه وجاء بدليل على ضد مراده ، لأن إلغاء الحراسة إذا كان قبل الهجرة ، فلم تبق حاجة لحراسة أبي بكر وغيره في بدر !

على أن الظاهر أنه لم يكن للمسلمين عريشٌ في بدر ! وقد روى الحاكم رواية وصححها على شرط مسلم ، تذكر أن ثلث المسلمين حرسوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بدر ، وهو أمر معقول ، لأن المسلمين نزلوا بالعدوة القصوى وهي منطقة مكشوفة. قال الحاكم : 2 / 326 : عن عبادة ابن الصامت(رضی الله عنه)قال سألته عن الأنفال ، قال : فينا يوم بدر نزلت ، كان الناس على ثلاث منازل ، ثلثٌ يقاتل العدو ، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه .... فجعله الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقسمه على السواء. انتهى.

ويدل على بطلان هذا القول : أولاً ، ما تقدم في القول الأول.

ثانياً : نفس روايات القول الثالث وغيره ، التي تنص على أن إلغاء الحراسة المزعوم حصل في المدينة ، وليس في مكة.

ص: 180

ثالثاً ، أن عمدة رواياته رواية القبة عن عائشة ، ورواية حراسة العباس .. أما الروايات الأخرى فكلها غير مسندة ، وغرض بعضها تقليل دور أبي طالب في نصرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما هو واضحٌ ، وأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان مستغنياً في مكة عن حراسة أبي طالب.

كما يلاحظ في الرواية الأولى أنها تريد إثبات فضيلة للعباس بأنه كان حارس النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مكة بدل أبي طالب ، وأنه هو الذي عصم الله به رسوله من الناس !

وقد كان دور العباس قبل الهجرة دوراً عادياً مثل بقية بني هاشم الذين تضامنوا مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتحملوا معه حصار الشعب ، ولم يعرف عنهم أنهم أسلموا ، ولم يهاجروا معه الى المدينة مثل علي وحمزة.

ومن المعروف أن العباس قد أسر في بدر وأسلم عند فكاك الأسرى.

هذا مضافاً الى تضعيف الهيثمي وغيره لهذه الرواية ، وما تشاهده من ضعف متنها وركته.

ثالثاً : ما سيأتي في إثبات استمرار حراسته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ونفي كل ما يدل على إلغائها ومن ذلك رواية القبة ، وسيأتي قول الألباني بعدم صحة نسبتها الى عائشة.

القول الثالث

أنها نزلت في المدينة بدون تاريخ ! فقد روى السيوطي عدة روايات تربط نزول الآية بإلغاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للحراسة ، وليس فيها أن ذلك كان في مكة أو في المدينة ، ولكن يفهم من نص بعضها أو رواة بعضها ، أن نزولها كان في المدينة.

- قال في الدر المنثور : 2 / 298 - 299 :

وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عصمة بن مالك الخطمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، حتى نزلت : والله يعصمك من الناس فترك الحرس.

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : يا أيها الرسول

ص: 181

الى قوله : والله يعصمك من الناس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحرسوني ، إن ربي قد عصمني.

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن شقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، فخرج فقال : يا أيها الناس إلحقوا بملاحقكم ، فإن الله قد عصمني من الناس.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحارسه أصحابه ، حتى أنزل الله : والله يعصمك من الناس ، فترك الحرس حين أخبره أنه سيعصمه من الناس.

وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه ، حتى نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك الآية ... انتهى.

- ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة : 1 / 301 ، عن عبد الله بن شقيق وعن محمد بن كعب القرظي. ورواه الطبري في تفسيره : 6 / 199 ، عن عبد الله بن شقيق. وابن سعد في الطبقات : 1 جزء 1 / 113. والبيهقي في دلائل النبوة : 2 / 180.

ويدل على بطلان هذا القول وغيره من الأقوال التي ربطت نزول الآية بالحراسة :

أن من المجمع عليه في أحاديث سيرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان يطلب من قبائل العرب أن تحميه وتمنعه مما يراد به من القتل ، لكي يبلغ رسالة الله عز وجل ، وقد بايعه الأنصار بيعة العقبة على أن يحموه ويحموا أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم .. فلو أن آية العصمة نزلت في مكة ، لما احتاج الى شيء من ذلك !

وسنذكر في آخر البحث أحاديث طلب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الأنصار أن يحموه ويحرسوه ، وبيعتهم على ذلك !

ثم .. إن مصادر الحديث والتفسير والتاريخ مليئة بالروايات التي ذكرت حراسة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنها كانت في مكة والمدينة ، خاصة في الحروب ، الى آخر حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ص: 182

ولذا يجب رفض كل الروايات التي زعمت أنه ألغى الحراسة قبل هذا التاريخ ، لأنها تدعي إلغاءها في السلم والحرب والسفر والحضر !

وقد تقدمت في رواية الحاكم أن ثلث المسلمين كانوا يحرسونه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بدر !

وقد روى أحمد : 2 / 222 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه ، حتى إذا صلى وانصرف اليهم فقال لهم ... الخ.

ورواه في كنز العمال : 12 / 430 ، عن مسند عبد الله بن عمرو بن العاص. وقال عنه في مجمع الزوائد : 10 / 367 : رواه أحمد ورجاله ثقات. انتهى.

وغزوة تبوك كانت في آخر سنة من حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وفي الفصول التي عقدها المحدثون ، وكتَّاب السيرة لحراسته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقصصها ، وحراسه وأسمائهم وقصصهم .. ما يكفي لرد هذه المقولة !

والعجيب أنك ترى بعضهم يذكر كل ذلك عن الحراسة ، ثم يقول إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ألغى الحراسة بعد نزول الآية في مكة قبل الهجرة ، أو بعد الهجرة ! وكأنه حلف يميناً أن يبعد آية العصمة من الناس عن يوم الغدير !!

- قال صاحب عيون الأثر في : 2 / 402

حرسه يوم بدر حين نام في العريش : سعد بن معاذ ، ويوم أحد : محمد بن مسلمة ، ويوم الخندق : الزبير بن العوام. وحرسه ليلة بنى بصفية : أبو أيوب الأنصاري بخيبر ، أو ببعض طريقها ، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني. وحرسه بوادي القرى : بلال ، وسعد بن أبي وقاص ، وذكوان بن عبد قيس. وكان على حرسه عباد بن بشر ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك الحرس !!. انتهى.

وقد حاول أن يجيب على حراستهم للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تبوك ، ففسر نص الحراسة بأنه يعني انتظارهم انتهاء صلاته !

ص: 183

قال في : 1 / 119 : وفي حديث عمرو بن شعيب : فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى ... والمراد والله أعلم : ينتظرون فراغه من الصلاة ! وأما حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ، فقد كان انقطع منذ نزلت : والله يعصمك من الناس ، وذلك قبل تبوك. والله أعلم. انتهى.

ولكنه تفسير مخالفٌ لنص الرواية في الحراسة !

وعلى كل حال ، فإن هذا القول بنزول الآية في المدينة يرد القول الأول الذي جعل تاريخ نزول الآية في مكة !

والنتيجة أن دعوى إلغائه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للحراسة لا دليل عليها من سيرته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، بل الدليل على خلافها ، وأن بني هاشم كانوا يحرسونه في مكة حتى هجرته ، ثم كانوا هم وبقية أصحابه يحرسونه في المدينة ، الى آخر عمره الشريف.

وفي اعتقادي أن نفس محاولة تفسير الآية بإلغاء الحراسة دليلٌ على صحة تفسير أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بأن الآية تقصد العصمة من الإرتداد ، فترى مخالفيهم يصرون على تفسيرها بالعصمة الحسية ويقعون في التناقض مع الواقع !

القول الرابع

أنها نزلت في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد حرب أحد.

- قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 291 : وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ الى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله.

فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أبي : أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه !

ص: 184

قال : إذن أقبل ، فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ، الى أن بلغ الى قوله : والله يعصمك من الناس ... انتهى.

ويكفي في الدلالة على بطلان هذا القول ما تقدم في الحراسة ، ويضاف اليه أن روايته من كلام عطية بن سعد ولم يسندها الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، والآيات المذكورة فيها هي الآيات 1 الى 67 من سورة المائدة ، ولم يقل أحدٌ إن هذا الآيات نزلت في قصة ولاء ابن سلول لليهود ، الذي توفي قبل نزول سورة المائدة !

القول الخامس

أنها نزلت على أثر محاولة شخص اغتيال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وقد تناقضت رواياتهم في ذلك ، فذكر بعضها أن الحادثة كانت في غزوة بني أنمار المعروفة بذات الرقاع ، وأن شخصاً جاء الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقصد اغتياله وطلب منه أن يعطيه سيفه ليراه ، فأعطاه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إياه بكل سهولة ..! أو كان علقه وغفل عنه ، أو دلى رجليه في البئر الخ.

- قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298 - 299

وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ! فقال غورث بن الحرث : لأقتلن محمداً ، فقال له أصحابه : كيف تقتله؟ قال أقول له أعطنى سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به !

فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشِمْهُ ، فأعطاه إياه فرعدت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حال الله بينك وبين ما تريد ، فأنزل الله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ، الآية.

وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ،

ص: 185

قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثرت دماغه فأنزل الله : والله يعصمك من الناس !

وأخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة ، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يمنعني منك ، ضع عنك السيف فوضعه ، فنزلت : والله يعصمك من الناس. انتهى.

وقال بعضهم : إن شخصاً أراد اغتيال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقبضوا عليه : ففي الدر المنثور : 2 / 299 : أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترع ، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي .. انتهى.

* *

ومما يدل على بطلان هذا القول وأن الآية لم تنزل في قصة غورث أو شبهها :

أولاً ، أن غزوة ذات الرقاع أو بني أنمار كانت في السنة الرابعة من الهجرة ( سيرة ابن هشام : 3 / 225 ) وهو تاريخٌ قبل نزول سورة المائدة بسنوات ، كما أن بعض رواياتها بلا تاريخ ، وبعضها غير معقول !

ثانياً ، أن المصادر الأساسية التي روت قصة غورث وغزوة ذات الرقاع ، لم تذكر نزول آية العصمة فيها ، بل ذكر أكثرها تشريع صلاة الخوف والحراسة المشددة على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى في الصلاة ، وهو كافٍ لرد رواية نزول الآية فيها !

أما ابن هشام فقد ذكر أن الآية التي نزلت في قصة غورث هي قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ... ( سيرة ابن هشام : 3 / 227 ، تحقيق السقا ) ولكن ذلك لا يصح ، لأن تلك الآية من سورة المائدة أيضاً !

وأما البخاري وغيره فقد رووا فيها تشريع صلاة الخوف وتشديد الحراسة !

ص: 186

- قال في صحيحه : 5 / 53 :

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه ، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه ، قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً! فقال لي من يمنعك مني ؟ قلت له : الله ، فها هو ذا جالسٌ ، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عن أبى سلمة عن جابر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلقٌ بالشجرة ، فاخترطه فقال له : تخافني ؟ فقال لا. قال فمن يمنعك مني ؟ قال الله. فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقيمت الصلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين.

وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر : اسم الرجل غورث بن الحرث. انتهى.

- وروى الحاكم نحوه : 3 / 29 ، وذكر فيه أيضاً أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صلى بعد الحادثة صلاة الخوف بالحراسة المشددة! وقال عن الحديث : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وكذلك روى أحمد قصة غورث في : 3 / 364 ، و390 ، وذكر فيها صلاة الخوف ولم يذكر نزول الآية! وراجع أيضاً : 4 / 59 ، ورواها الهيثمي في مجمع الزوائد : 9 من / 8 ، وفيها تفصيلاتٌ كثيرة وليس فيها ذكر نزول الآية !!

- وروى الكليني صيغة معقولة لقصة غورث ، قال في الكافي : 8 / 127 :

أبان عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : نزل رسول الله 9 في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل

ص: 187

من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل ، فقال رجل من المشركين لقومه : أنا أقتل محمداً ، فجاء وشد على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالسيف ثم قال : من ينجيك مني يا محمد ؟ فقال : ربي وربك ، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط على ظهره ، فقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخذ السيف ، وجلس على صدره وقال : من ينجيك مني يا غورث ؟ فقال : جودك وكرمك يا محمد ! فتركه ، فقام وهو يقول : والله لأنت خير مني وأكرم. انتهى.

وهكذا لا تجد أثراً في هذه المصادر لنزول الآية في ذات الرقاع ، أو في قصة غورث ، بل تلاحظ أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صلى بعد الحادثة بالحراسة المشددة !

فهل صار إلغاء الحراسة عند أصحاب هذا القول ، أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يطمئن قلبه فأمر بتشديد الحراسة ؟!

ومن تخبطهم في قصة غورث وآية التبليغ ، ما تراه من الرد والبدل بين ابن حجر والقرطبي ، فقد قال القرطبي إن كون النبي وحده في القصة يدل على عدم حراسته حينذاك ، وأن الآية نزلت قبلها !!

فأجابه ابن حجر : لا ، فالآية نزلت يومذاك فألغى الحرس ، أما قبلها فكان أحياناً يضغف إيمانه فيتخذ الحرس ، وأحياناً يقوى فيلغيه ، وفي قصة غورث كان بلا حراسة لقوة إيمانه يومذاك !!

- قال في فتح الباري : 8 / 2752

قوله باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والإستظلال بالشجر.

ذكر فيه حديث جابر الماضي قبل بابين من وجهين ، وهو ظاهر فيما ترجم له ، وقد تقدمت الإشارة الى مكان شرحه.

قال القرطبي : هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في هذا الوقت لا يحرسه أحدٌ من الناس ، بخلاف ما كان عليه في أول الأمر ، فإنه كان يحرس حتى نزل قوله تعالى : والله يعصمك من الناس.

ص: 188

قلت : قد تقدم ذلك قبل أبواب ، لكن قد قيل إن هذه القصة سبب نزول قوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وذلك فيما أخرجه بن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم شجرة وأظلها فنزل تحت شجرة ، فجاء رجل فأخذ سيفه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فأنزل الله : والله يعصمك من الناس ، وهذا إسناد حسن. فيحتمل إن كان محفوظاً أن يقال : كان مخيراً في اتخاذ الحرس ، فتركه مرةً لقوة يقينه فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية ، ترك ذلك. انتهى.

فاعجب لابن حجر الذي لم يلتفت الى أن الآية من سورة المائدة التي نزلت سنة عشر ، وأن غزوة ذات الرقاع سنة أربع ، وأن مجيء أبي هريرة الى المدينة سنة سبع ، وغفل عن تشديد الحراسة وصلاة الخوف في ذات الرقاع ، وهو مع ذلك يشرح رواية البخاري في صلاة الخوف !!

وما ذلك إلا لأن ذهنه مملوء بما زرَّقوه فيه من ربط آية العصمة بالحراسة ، لإبعادها عن الغدير !!

وأخيراً ، فقد تقدمت روايات حراسة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تبوك ، وهي بعد غزوة ذات الرقاع بنحو ست سنوات ، ونضيف اليها هنا حراسته في فتح مكة الذي كان بعد هذه الحادثة ، بنحو أربع سنوات ، فقد روى البخاري أن المسلمين كانوا يحرسون النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)حينئذ ! قال في صحيحه : 5 / 91 : عن هشام عن أبيه قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً ، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران ، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة ، فقال أبو سفيان ما هذه ، لكأنها نيران عرفة ؟! فقال بديل بن ورقاء : نيران بنى عمرو ! فقال أبو سفيان عمرو أقل من ذلك ! فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأدركوهم فأخذوهم ، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى.

ص: 189

ونضيف الى ذلك أسطوانة الحراسة التي ما زالت في المسجد النبوي الشريف ، والتي عرفت بهذا الاسم في عام الوفود ، وهو السنة التاسعة كما في سيرة ابن هشام : 4 / 214 ، تحقيق السقا.

القول السادس

لم يعين أصحابه تاريخ نزول الآية ، ولا ربطوها بالحراسة ، ولكنهم قالوا إنها عامة تؤكد على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجوب تبليغ الرسالة ، وإلا فإنه لم يبلغها !

- ففي الدر المنثور : 2 / 299 : وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ ، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت فقال : والله لا يدع الله عقبي للناس ما صاحبتهم. انتهى.

وهذا القول يشبه القول الأول ، ويرد عليه ما تقدم ، وأن رواياته غير مسندة ، وأنه لا ينطبق على معنى الآية ، ولا يكفي لتصحيح القضية الشرطية فيها ، كما ستعرف.

القول الموافق لرأي لأهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

- قال في الدر المنثور : 2 / 298 : وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك - أن علياً مولى المؤمنين - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ! انتهى.

- المعيار والموازنة / 213

وعن جابر بن عبد الله وعبد الله بن العباس الصحابيين قالا : أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه

ص: 190

وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.

فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم. انتهى. وقال في هامشه :

وروى السيوطي في الدر المنثور عن الحافظ ابن مردويه وابن عساكر بسنديهما عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم ...

أقول : ورواه أيضاً بأسانيد الحافظ الحسكاني في الحديث 211 وتواليه من شواهد التنزيل 1 / 157. ورواه أيضاً ابن عساكر في الحديث ( 585 - 586 ) من ترجمة أميرالمؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من تاريخ دمشق : 2 / 85 ط 1.

وقد روى الخطيب والحافظ الحسكاني وابن عساكر وابن كثير والخوارزمي وابن المغازلي بأسانيد عن أبي هريرة قال : من صام يوم ثماني عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب ، فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم ....

ومن أراد المزيد فعليه بما ألفه علماء المسلمين في هذا الحديث قرناً بعد قرن مثل رسالة الحافظ ابن عقدة ، وحديث الغدير للطبري المفسر والمورخ الشهير ، وحديث الغدير للحافظ الدارقطني ، والذهبي ، وعبيد الله الحسكاني ، ومسعود السجستاني وغيرهم. وعليك بكتاب الغدير ، وحديث الغدير من كتاب عبقات الأنوار ، فإن فيهما ما تشتهيه الأنفس. انتهى.

- وفي تفسير الميزان : 6 / 54

وعن تفسير الثعلبي قال قال جعفر بن محمد : معنى قوله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ، في فضل علي ، فلما نزلت هذه أخذ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه.

ص: 191

وعنه بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية قال : نزلت في علي بن أبي طالب ، أمر الله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يبلغ فيه فأخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه.

- وفي الغدير : 1 / 214

نزلت هذه الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة ن سنة حجة الوداع ( 10 ه ) لما بلغ النبي الأعظم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) غدير خم ، فأتاه جبرئيل بها على خمس ساعات مضت من النهار فقال : يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، الآية. وكان أوائل القوم وهم مائة ألف أو يزيدون قريباً من الجحفة فأمر أن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، وأن يقيم علياً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علماً للناس ، ويبلغهم ما أنزل الله فيه ، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس.

وما ذكرناه من المتسالم عليه عند أصحابنا الإمامية ، غير أنا نحتج في المقام بأحاديث أهل السنة في ذلك. انتهى.

وقد ذكر الأميني (رحمه الله) ثلاثين مؤلفاً من السنيين رووا أن الآية نزلت في ولاية علي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نذكر عدداً منهم باختصار :

1 - الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 ، أخرج بإسناده في كتاب ( الولاية ) في طرق حديث الغدير ، عن زيد بن أرقم قال : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم في رجوعه من حجة الوداع ، وكان في وقت الضحى وحر شديد ، أمر بالدوحات فقمَّت ، ونادى الصلاة جامعة ، فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال : إن الله تعالى أنزل إلي : بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ....

2 - الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي المتوفى 327.

ص: 192

3 - الحافظ أبو عبد الله المحاملي المتوفى 330 ، أخرج في أماليه بإسناده عن ابن عباس ...

4 - الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي المتوفى 407 ، روى في كتابه ما نزل من القرآن في أميرالمؤمنين ، بالإسناد عن ابن عباس ...

5 - الحافظ ابن مردويه المولود 323 والمتوفى 416 ، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب ، وبإسناد آخر عن ابن مسعود أنه قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك - أن علياً مولى المؤمنين ...

6 - أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى 427 ، روى في تفسيره الكشف والبيان ..

7 - الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى 430 ، روى في تأليفه : ما نزل من القرآن في علي ....

8 - أبو الحسن الواحدي النيسابوريالمتوفى 468 ، روى في أسباب النزول / 150 ....

9 - الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477 ، في كتاب الولاية بإسناده من عدة طرق عن ابن عباس ....

10 - الحافظ الحاكم الحسكاني أبو القاسم روى في شواهد التنزيل لقواعد التفصيل والتأويل ، بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وجابر ....

11 - الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الشافعي المتوفى 571 ، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري ....

12 - أبوالفتح النطنزي أخرج في الخصائص العلوية ، بإسناده عن الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق ...

13 - أبو عبد الله فخرالدين الرازي الشافعي المتوفى 606 ، قال في تفسيره الكبير 3

ص: 193

/ 636 : العاشر : نزلت الآية في فضل علي ، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ....

14 - أبو سالم النصيبي الشافعي المتوفى 652 ، في مطالب السؤول / 16 ...

15 - الحافظ عز الدين الرسعني الموصلي الحنبلي المولود 589 ....

16 - شيخ الإسلام أبوإسحاق الحمويني المتوفى 722 ، أخرج في فرايد السمطين عن مشايخه الثلاثة : السيد برهان الدين إبراهيم بن عمر الحسيني المدني ، والشيخ الإمام مجد الدين عبد الله بن محمود الموصلي ، وبدرالدين محمد بن محمد بن أسعد البخاري ، بإسناد هم عن أبي هريرة : أن الآية نزلت في علي.

17 - السيد علي الهمداني المتوفى 786 ، قال في مودة القربي : عن البراء بن عازب (رضی الله عنه) قال : أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فلما كان بغدير خم نودي الصلاة جامعة ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وأخذ بيد علي ، وقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

فقال : ألا من أنا مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. فلقيه عمر (رضی الله عنه) فقال : هنيئاً لك يا علي بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وفيه نزلت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك. الآية.

18 - بدر الدين بن العيني الحنفي المولود 762 والمتوفى 855 ، ذكره في عمدة القاري في شرح صحيح البخارى 8 / 584 في قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل. عن الحافظ الواحدي ....

الوهابيون وحديث الغدير

من العجيب أن يبقى القول الموافق لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في سبب نزول آية التبليغ حياً في مصادر إخواننا السنيين ، لأنه ينسف الأسس التي بذل القرشيون جهودهم ليقنعوا بها المسلمين في مسألة الإمامة والخلافة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ص: 194

ولهذا السبب تجد النواصب يغيظهم وجود حديث الغدير ، وحديث هذه الآية وأمثاله ، ويودون لو أن شيئاً منها لم يكن موجوداً في الصحاح والمصادر .. وتراهم بدل أن يبحثوها بحثاً علمياً على ضوء القرآن والمتفق عليه من السنة .. يكيلون التهم والسباب للشيعة وعلمائهم لأنهم اطلعوا عليها ، وأخرجوها لهم من مصادرهم !!

قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث االصحيحة 5 / 644 :

عصمته في من الناس.

كان يحرس حتى نزلت هذه الآية : والله يعصك من الناس ، فأخرج رسول الله في رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ).

أخرجه الترمذي : 2 / 175 ، وابن جرير : 6 / 199 ، والحاكم : 2 / 3 ، من طريق الحارث بن عبيد عن سعيد الجريري ، عن عبد بن شقيق ، عن عائثة قالت : فذكره.

وقال الترمذي : حديث غريب. وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي يحرس .. ولم يذكروا فيه : عن عائشة.

قلت : وهذا أصح ، لأن الحارث بن عبيد - وهو أبو قدامة الأيادي - فيه ضعف من قبل حفظه ، أشار إليه الحافظ بقوله : صدوق يخطئ.

وقد خالفه بعض الذين أشار إليهم الترمذي ، ومنهم إسماعيل ابن علية الثقة الحافظ ، رواه ابن جرير بإسنادين عنه عن الجريري به مرسلاً.

قلت : فهو صحيح مرسلاً ، وأما قول الحاكم عقب المسند عن عائشة : صحيح الإسناد فمردود ، لما ذكرنا ، وإن تابعه الذهبي.

نعم الحديث صحيح ، فإن له شاهداً من حديث أبي هريرة قال :

كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا نزل منزلاً نظروا أعظم شجرة يرونها فجعلوها للنبي فينزل تحتها وينزل أصحابه بعد ذلك في ظل الشجر ، فبينما هو نازل تحت شجرة وقد علق السيف عليها إذ جاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة ثم دنا من النبي وهو نائم فأيقظه ، فقال : يا محمد من يمنعك مني الليلة ؟ فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : الله. فأنزل الله : يا

ص: 195

أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. الآية. أخرجه ابن حبان في صحيحه 1739 موارد وابن مردويه كما في ابن كثير 6 / 198 ، من طريقين عن حماد بن سلمة : حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه. قلت. وهذا إسناد حسن. وذكر له ابن كثير شاهداً ثانياً من حديث جابر رواه ابن أبي حاتم.

وله شاهدان آخران عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي مرسلاً.

واعلم أن الشيعة يزعمون - خلافاً للأحاديث المتقدمة - أن الآية المذكورة نزلت يوم غدير خم في علي (رضی الله عنه) ويذكرون في ذلك روايات عديدة مراسيل ومعاضيل أكثرها ، ومنها عن أبي سعيد الخدري ولايصح عنه كما حققته في الضعيفة ( 4922 ) والروايات الأخرى أشار إليها عبد الحسين الشيعي في مراجعاته / 38 دون أي تحقيق في أسانيدها كما هي عادته في سرد أحاديث كتابه ، لأن غايته حشد كل ما يشهد لمذهبه سواء صح أو لم يصح ، على قاعدتهم : الغاية تبرر الوسيلة ! فكن منه ومن رواياته على حذر ، وليس هذا فقط ، بل هو يدلس على القراء - إن لم أقل يكذب عليهم - فإنه قال في المكان المشار إليه في تخريج أبي سعيد هذا المنكر بل الباطل : أخرجه غير واحد من أصحاب السنن كالإمام الواحدي ..!

ووجه كذبه : أن المبتدئين في هذا العلم يعلمون أن الواحدي ليس من أصحاب السنن الأربعة ، وإنما هو مفسر يروي بأسانيده ما صح وما لم يصح ، وحديث أبي سعيد هذا مما لم يصح ، فقد أخرجه من طريق فيه متروك شديد الضعف ! كما هو مبين في المكان المشار إليه من الضعيفة.

وهذه من عادة الشيعة قديماً وحديثاً ، أنهم يستحلون الكذب على أهل السنة عملاً في كتبهم وخطبهم ، بعد أن صرحوا باستحلالهم للتقية ، كما صرح بذلك الخميني في كتابه كشف الأسرار ، وليس يخفى على أحد أن التقية أخت الكذب ولذلك قال أعرف الناس بهم شيخ الإسلام ابن تيمية : الشيعة أكذب الطوائف وأنا

ص: 196

شخصياً قد لمست كذبهم لمس اليد في بعض مؤلفيهم ، وبخاصة عبد الحسين هذا ، والشاهد بين يديك فإنه فوق كذبته المذكورة أوهم القراء أن الحديث عند أهل السنة من المسلمات بسكوته عن علته ، وادعائه كثرة طرقه.

وقد كان أصرح منه في الكذب الخميني فإنه صرح في الكتاب المذكور / 149 أن آية العصمة نزلت يوم غدير خم بشأن إمامة علي بن أبي طالب ، باعتراف أهل السنة ، واتفاق الشيعة. كذا قال عامله الله بما يستحق. وسأزيد هذا الأمر بياناً في الضعيفة ، إن شاء الله تعالى. انتهى.

ونقول للباحث الألباني : أولاً : دع عنك التهم والشتائم وإصدار الأحكام ، وتصنيف من هم أصدق الطوائف الإسلامية ومن هم أكذبها ، فإن السنيين والشيعيين فيهم أنواع الناس .. ولكن النواصب لهم حكم خاص ..

ولا تنس أيها الباحث أن ابن تيمية الذي لم ينصف علي بن أبي طالب (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يمكنه أن ينصف شيعته .. وقد دافعتَ أنت عن علي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورددت ظلم ابن تيمية وإنكاره حديث الغدير ( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) فصححت الحديث واعترفت مشكوراً بالحق ، وكتبت صفحات في ذلك في أحاديثك الصحيحة 5 / 330 برقم 1750 ، ثم قلت في / 344 :

إذا عرفت هذا فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته : أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ضعَّف الشطر الأول من الحديث ، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب ! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ، ويدقق النظر فيها. والله المستعان.

أما ما يذكره الشيعة في هذا الحديث وغيره أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال في علي (رضی الله عنه) : إنه خليفتي من بعدي ، فلا يصح بوجه من الوجوه ، بل هو من أباطيلهم الكثيرة التي دل الواقع التاريخي على كذبها ، لأنه لو فرض أن النبي قاله لوقع كما قال لأنه ( وحي يوحى ) والله سبحانه لا يخلف وعده !! انتهى.

ص: 197

ونلاحظ أن الشيخ الألباني تسرع أخيراً وجعل الإخبار التشريعي إخباراً غيبياً ! وشتان ما بينهما .. فلو صح ذلك لانتقض حديثه الذي صححه وأحكمه ، وهو قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) فهو أيضاً ( وحيٌ يوحى ) فوجب على قوله أن يكون علي ولياً لكل المسلمين وسيداً لهم ، وأن يكونوا معه كالعبيد كما كانوا مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. ولكن ذلك لم يتحقق ، بل لقد هاجموا بيت علي وفاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) في اليوم الثاني لوفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو الثالث ، وهددوا المعتصمين بإحراقه عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا .. ثم أجبروا علياً إجباراً على البيعة كما هو معروف ..

فقوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : عليٌّ خليفتي من بعدي مثل قوله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وإذا كان الأول إخباراً عما سيقع فكذلك الثاني ، فكيف تحقق عكسه وصار معنى : من كنت سيده فعلي سيده ، أنَّ الرعية أجبروا سيدهم على بيعتهم ؟!

إن الإخبار في الحديثين تشريعي أيها المحدث ، وبيانٌ لتكليف المسلمين وما يجب عليهم ، وليس هو إخباراً غيبياً ، حتى لا يصح وقوع غيره !

ونقول له ثانياً : عندما ضعَّفت حديث سبب نزول آية « والله يعصمك من الناس » هل جمعت طرقه ودققت النظر فيها فقلت ( مراسيل ومعاضيل أكثرها ) ؟

هل رأيت طرق الثعلبي ، وأبي نعيم ، والواحدي ، وأبي سعيد السجستاني ، والحسكاني ، وأسانيدهم ؟ فوجدتها كلها مرسلةً أو ضعيفةً أو معضلةً ، ووجدت في رواتها من لم تعتمد أنت عليهم ! أم وقعت فيما وقع فيه ابن تيمية مما انتقدته عليه ؟!

على أي حالٍ ، لم يفت الوقت ، فنرجو أن تتفضل بملاحظة ماكتبناه في تفسير الآية ، وأن تدقق الطرق والأسانيد التي قدمناها ، وتبحثها بموازينك التي تريدها ، بشرط أن لا تناقض ماكتبته في كتبك ، ولا تضعِّف راوياً هنا لأنه روى فضيلةً لعلي ، وقد اعتمدت عليه وقبلت روايته في مكان آخر !

ونذكر فيما يلي أسانيد مصدرٍ واحد هو : كتاب شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني

ص: 198

عبيد الله بن عبد الله بن أحمد العامري القرشي ، تلميذ الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك. قال في كتابه المذكور ، بتحقيق المحمودي : 1 / 250 - 257 :

244 - أخبرنا أبو عبد الله الدينوري قراءة ( قال : ) حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ( بن ابراهيم ) السني قال : أخبرني عبد الرحمان بن حمدان قال : حدثنا محمد بن عثمان العبسي قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال : حدثنا علي بن عابس عن الاعمش عن أبي الجحاف ( داود بن أبي عوف ) عن عطية : عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ».

245 - أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ جملة ( قال : أخبرنا ) علي بن عبد الرحمان بن عيسى الدهقان بالكوفة قال : حدثنا الحسين بن الحكم الحبري قال : حدثنا الحسن بن الحسين العرني قال : حدثنا حبان بن علي العنزي قال : حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل : يا ايها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك الآية ( قال : ) نزلت في علي أمر رسول الله صلى الله عليه أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

246 - رواه جماعة عن الحبري وأخرجه السبيعي في تفسيره عنه فكأني سمعته من السبيعي ورواه جماعة عن الكلبي.

وطرق هذا الحديث مستقصاة في كتاب دعاء الهداة الى أداء حق الموالاة من تصنيفي في عشرة أجزاء.

247 - أخبرنا أبو بكر السكري قال : أخبرنا أبو عمرو المقري قال : أخبرنا الحسن بن سفيان قال : حدثني أحمد بن أزهر قال : حدثنا عبد الرحمان بن عمرو بن جبلة قال : حدثنا عمر بن نعيم بن عمر بن قيس الماصر قال : سمعت جدي قال : حدثنا عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول يوم غدير خم وتلا هذه

ص: 199

الآية « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » ثم رفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ثم قال : ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. ثم قال : اللهم اشهد.

248 - أخبرنا عمرو بن محمد بن أحمد العدل بقراءتي عليه من أصل سماع نسخته قال : أخبرنا زاهر بن أحمد قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قال : حدثنا المغيرة بن محمد قال : حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال : حدثني أبي قال : سمعت زياد بن المنذر يقول : كنت عند أبي جعفر محمد بن علي وهو يحدث الناس إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له : عثمان الاعشى - كان يروي عن الحسن البصري - فقال له : يا ابن رسول الله جعلني الله فداك إن الحسن يخبرنا أن هذه الآية نزلت بسبب رجل ولا يخبرنا من الرجل « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك » فقال : لو أراد أن يخبر به لأخبر به ولكنه يخاف إن جبرئيل هبط على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صلاتهم ، فدلهم عليها. ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على زكاتهم ، فدلهم عليها. ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صيامهم ، فدلهم. ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على حجهم ، ففعل. ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة في جميع ذاك. فقال رسول الله : يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس وفخر ، وما منهم رجل إلا وقد وتره وليهم ، وإني أخاف ، فأنزل الله تعالى : « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » يريد فما بلغتها تامة « والله يعصمك من الناس » فلما ضمن الله ( له ) بالعصمة وخوفه أخذ بيد علي بن أبي طالب ثم قال : يا أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه.

ص: 200

قال زياد : فقال عثمان : ما انصرفت الى بلدي بشيء أحب إلي من هذا الحديث.

249 - حدثني علي بن موسى بن إسحاق عن محمد بن مسعود بن محمد قال : حدثنا سهل بن بحر قال : حدثنا الفضل بن شاذان ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة عن الكلبي عن أبي صالح : عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا حابا ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه فأوحى الله إليه : « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك » الآية ، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم.

250- حدثني محمد بن القاسم بن أحمد في تفسيره قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الفقيه قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا أحمد بن عبد الله البرقي عن أبيه عن خلف بن عمار الاسدي عن أبي الحسن العبدي عن الاعمش عن عباية بن ربعي : عن عبد الله بن عباس عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ( وساق ) حديث المعراج الى أن قال : وإني لم أبعث نبياً إلا جعلت له وزيراً وإنك رسول الله ، وإن علياً وزيرك. قال ابن عباس : فهبط رسول الله فكره أن يحدث الناس بشيء منها إذ كانوا حديثي عهد بالجاهلية ، حتى مضى ( من ) ذلك ستة أيام ، فأنزل الله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ، فاحتمل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى كان يوم الثامن عشر أنزل الله عليه « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك » ثم إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمر بلالاً حتى يؤذن في الناس أن لا يبقى غداً أحداً إلا خرج الى غدير خم ، فخرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والناس من الغد فقال : يا أيها الناس إن الله أرسلني إليكم برسالة ، وإني ضقت بها ذرعاً مخافة أن تتهموني وتكذبوني حتى عاتبني ربي فيها بوعيد أنزله علي بعد وعيد ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما ثم قال : أيها الناس الله مولاي وأنا مولاكم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. وأنزل الله « اليوم أكملت لكم دينكم ». انتهى.

ص: 201

رأي أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في الآية

- في تفسير العياشي : 1 / 331

عن أبي صالح ، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله تعالى نبيه محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن ينصب علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علماً للناس ، ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يقولوا حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله اليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ..

- وفي الكافي : 1 / 290 :

محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين جميعاً ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن منصور بن يونس ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : سمعت أبا جعفر (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول : فرض الله عز وجل على العباد خمساً ، أخذوا أربعاً وتركوا واحدة ، قلت : أتسميهن لي جعلت فداك ؟

فقال : الصلاة ، وكان الناس لا يدرون كيف يصلون ، فنزل جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال : يا محمد أخبرهم بمواقيت صلاتهم.

ثم نزلت الزكاة فقال : يا محمد أخبرهم من زكاتهم ما أخبرتهم من صلاتهم.

ثم نزل الصوم ، فكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا كان يوم عاشورا بعث الى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم ، فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال.

ثم نزل الحج ، فنزل جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال : أخبرهم من حجهم ما أخبرتهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم.

ثم نزلت الولاية .... وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال عند ذلك رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : أمتي حديثو عهدٍ بالجاهلية ، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ويقول قائل ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني ، فأتتني عزيمة من الله عز وجل بتلة ، أوعدني إن لم أبلغ أن يعذبني ، فنزلت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي

ص: 202

القوم الكافرين ، فأخذ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال : أيها الناس إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد عمره الله ثم دعاه فأجابه ، فأوشك أن أدعى فأجيب ، وأنا مسؤولٌ وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟

فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك ، فجزاك الله أفضل جزاء المرسلين.

فقال : اللهم اشهد ، ثلاث مرات.

ثم قال : يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب.

- وفي بحار الأنوار : 94 / 300

ومن الدعوات في يوم عيد الغدير ما ذكره محمد بن علي الطرازي في كتابه رويناه بإسنادنا الى عبد الله بن جعفر الحميري قال : حدثنا هارون بن مسلم عن أبي الحسن الليثي ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) أنه قال لمن حضره من مواليه وشيعته : أتعرفون يوماً شيد الله به الإسلام ، وأظهر به منار الدين ، وجعله عيداً لنا ولموالينا وشيعتنا ؟

فقالوا : الله ورسوله وابن رسوله أعلم ، أيوم الفطر هو يا سيدنا ؟

قال : لا.

قالوا : أفيوم الأضحى هو ؟ قال : لا ، وهذان يومان جليلان شريفان ، ويوم منار الدين أشرف منهما وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وإن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما انصرف من حجة الوداع ، وصار بغدير خم ، أمر الله عز وجل جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يهبط على النبي وقت قيام الظهر من ذلك اليوم ، وأمره أن يقوم بولاية أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأن ينصبه علماً للناس بعده ، وأن يستخلفه في أمته ، فهبط إليه وقال له : حبيبي محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : قم في هذا اليوم بولاية علي ليكون علماً لأمتك بعدك يرجعون إليه ، ويكون لهم كأنت. فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : حبيبي جبرئيل ، إني أخاف تغير أصحابي لما قد وتروه ، وأن يبدوا ما يضمرون فيه ، فعرج وما لبث أن

ص: 203

هبط بأمر الله فقال له : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.

فقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ذَعِراً مرعوباً خائفاً من شدة الرمضاء وقدماه تشويان ، وأمر بأن ينظف الموضع ويقمَّ ما تحت الدوح من الشوك وغيره ففعل ذلك ، ثم نادى بالصلاة جامعة فاجتمع المسلمون ، وفيمن اجتمع أبو بكر وعمر وعثمان وسائر المهاجرين والأنصار ، ثم قام خطيباً ، وذكر الولاية فألزمها للناس جميعاً ، فأعلمهم أمر الله بذلك.

- وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي : 1 / 14

وروينا عن أبي جعفر محمد بن علي صلى الله عليه أن رجلاً قال له : يابن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال : إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري ، وخشيت أن يكذبني الناس ، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني.

قال له أبو جعفر : فهل حدثكم بالرسالة ؟

قال : لا.

قال : أما والله إنه ليعلم ما هي ، ولكنه كتمها متعمداً !

قال الرجل : يا بن رسول الله جعلني الله فداك وما هي ؟

فقال : إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه ، فلم يدروا ما الصلاة ولا كيف يصلون ، فأمر الله عز وجل محمداً نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يبين لهم كيف يصلون.

فأخبرهم بكل ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسراً ...

وأمر بالزكاة ، فلم يدروا ما هي ، ففسرها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع ، ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته ، وبينه لهم.

وفرض عليهم الصوم ، فلم يدروا ما الصوم ولا كيف يصومون ، ففسره لهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبين لهم ما يتقون في الصوم ، وكيف يصومون.

وأمر بالحج فأمر الله نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يفسر لهم كيف يحجون ، حتى أوضح لهم ذلك في سنته.

ص: 204

وأمر الله عز وجل بالولاية فقال : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون ، ففرض الله ولاية ولاة الأمر ، فلم يدروا ما هي ، فأمر الله نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يفسر لهم ما الولاية ، مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ذرعاً ، وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، فصدع بأمر الله وقام بولاية أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه يوم غدير خم ، ونادى لذلك الصلاة جامعة ، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب.

وكانت الفرائض ينزل منها شيء بعد شيء ، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا.

قال أبو جعفر : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة ، قد أكملت لكم هذه الفرائض.

وروينا عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال : أوصي من آمن بالله وبي وصدقني : بولاية علي بن أبي طالب ، فإن ولاءه ولائي ، أمٌر أمرني به ربي ، وعهدٌ عهده إليَّ ، وأمرني أن أبلغكموه عنه.

- وروى الحديث الأول في شرح الأخبار : 1 / 101 ، ونحوه في : 2 / 276 ، وفيه :

فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : يا جبرائيل أمتي حديثة عهدٍ بجاهلية ، وأخاف عليهم أن يرتدوا ، فأنزل الله عز وجل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي - فإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس.

فلم يجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بداً من أن جمع الناس بغدير خم فقال : أيها الناس إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني ، أفلستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأني مولى المسلمين ووليهم وأولى بهم من أنفسهم ؟

ص: 205

قالوا : بلى ، فأخذ بيد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأقامه ورفع يده بيده وقال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، ومن كنت وليه فهذا علي وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار.

ثم قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : فوجبت ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على كل مسلم ومسلمة. انتهى.

ورواه بنحوه في تفسير العياشي : 1 / 333 ، وفيه :

كنت عند أبي جعفر محمد بن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالأبطح وهو يحدث الناس ، فقام اليه رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعشى ، كان يروي عن الحسن البصري .. الخ. وقد تقدمت بعض رواياته في آية إكمال الدين ، وهي في مصادرنا كثيرة وصحيحة.

ملاحظات عامة حول الأقوال المخالفة

الملاحظة الأولى :

مع أن البخاري عقد للآية في صحيحه بابين : الأول في : 5 / 88 ، وروى فيه حديثاً عن عائشة في التبليغ وعدم الكتمان ، والثاني في : 8 / 9 ، وروى فيه عن الزهري في التبليغ ، كما روى حديثين تضمنا الآية في : 6 / 50 ، وفي : 8 / 210 ، وكذا مسلم : 1 / 110

مع هذا فلم يرويا ولا روى غيرهما من أصحاب الصحاح شيئاً في تفسير الآية ، ما عدا رواية الترمذي في الحراسة ، والتي قال عنها إنها غريبة.

ونحن لا نرى أن عدم روايتهم لحديثٍ دليلاً ولا مؤشراً على ضعفه ، فكم من حديثٍ هو أصح مما في الصحاح لم يرووه ، وكم من حديثٍ روته الصحاح ، وذكر له علماء الجرح والتعديل عللاً كثيرة.

لكنا نريد القول : إن أصحاب الصحاح حريصون على رد مذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، وهم يعرفون أن آية التبليغ هذه يستدل بها أهل البيت وشيعتهم على مذهبهم ، فلو كان عندهم روايةٌ قويةٌ في ردها لرووها وكرروها ، حتى لا تبقى روايات الشيعة بلا معارض قوي.

ص: 206

فمن ذلك نستكشف أن سبب تركهم روايتها ليس ضعف سندها ، بل ما رأوه من ضعف متنها ، وتعارض صيغها ، وورود الإشكالات على كل واحدةٍ منها ! فاضطروا الى عدم الرد على روايات الشيعة ، وما وافقها من روايات السنة !!

الملاحظة الثانية :

أن روايات السنيين في تاريخ نزول الآية قد غطَّت الثلاث وعشرين سنة ، التي هي كل مدة بعثة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما عدا حجة الوداع التي نزلت فيها سورة المائدة !

وهو أمر يوجب الشك في أن الغرض من سعة تلك الروايات واستثنائها تلك الفترة وحدها ، هو التهرب من الفترة التاريخية التي نزلت فيها السورة !

الملاحظة الثالثة :

أن سبب نزول الآية في مصادرنا سببٌ واحد ، بتاريخ واحد ، على نحو الجزم واليقين. أما في مصادر إخواننا السنيين فأسبابٌ متعددة ، بتواريخ متناقضة ، وعلماؤهم منها في شكٍّ وحيرة. وفي رواياتهم ما يوافق قول أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وإن لم يقبله خلفاء قريش !

وعندما نواجه من كتاب الله تعالى آيةً يتفق المسلمون على أنها نزلت مرة واحدة في تاريخ واحد ، ونجد أنهم يروون تاريخاً متفقاً عليه ، وفيهم أهل بيت نبيهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ويروي بعضهم أسباباً أخرى متعارضة مختلفاً فيها .. فإن السبب المجمع على روايته يكون أقوى وأحق بالإتباع والفتوى.

تقييم الأقوال المخالفة على ضوء الآية

في الآية خمس مسائل لا بد من تحديدها لمعرفة السبب الصحيح في نزولها :

المسألة الأولى : في المأمور به في الآية :

لا يستقيم معنى الآية الشريفة إلا بحمل « أنزل » فيها على الماضي الحقيقي ، لأنها قالت « بلغ ما أنزل اليك » ولم تقل : بلغ ما سوف ينزل اليك .. وبيان ذلك :

ص: 207

أولاً ، ظهور الفعل في الماضي الحقيقي ، وعدم وجود قرينةٍ توجب حمله على ما سوف ينزله الله تعالى في المستقبل. بل لم أجد استعمال « أنزل » في القرآن لما سوف ينزل أبداً ، على كثرة وروده في الآيات.

ثانياً ، أن الآية نزلت في آخر شهور نبوته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وإذا حملنا الفعل على المستقبل يكون معناها : إنك إن لم تبلغ ما سوف ننزله عليك في هذه الشهور الباقية من نبوتك ، فإنك لم تبلغ رسالة ربك أبداً ! وهو معنى لم تجئ به رواية ، ولم يقل به أحدٌ من علماء الشيعة ، ولا السنة !

وإذا تعين حمل لفظ « أنزل اليك » على الماضي الحقيقي ، دلَّ على أن الله تعالى كان أنزل على رسوله أمراً ثقيلاً ، وأمره بتبليغه فكان الرسول يفكر في ثقله على الناس ، وفي كيفية تبليغه لهم ، فجاءت الآية لتقول له : لا تتأخر في التنفيذ ، ولا تفكر في موقف الناس ، هل يؤمنون أو يكفرون .. ولكن نطمئنك بأنهم سوف لن يكفروا ، وسنعصمك منهم. وهذا هو تفسير أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وما وافقه من أحاديث السنيين.

المسألة الثانية : فيما يصحح الشرط والمشروط به في التبليغ :

وقد اتضح ذلك من المسألة الأولى ، وأنه لا معنى لقولك : يا فلان بلغ رسائلي التي سوف أرسلها معك ، فإنك إن لم تفعل لم تبلغ رسائلي ! لأنه من المعلوم أنه إن لم يفعل ، فلم يبلغ رسائلك ، ويكون كلامك من نوع قول الشاعر :

وفسر الماء بعد الجهد بالماءِ !

نعم يصح أن تقول له عن رسالة معينة فعلية أو مستقبلية : إن هذه الرسالة مهمة وضرورية جداً ، وإن لم تبلغها ، فإنك لم تبلغ شيئاً من رسائلي !

- قال في تفسير الميزان : 6 / 49 :

فالكلام موضوع في صوره التهديد وحقيقته بيان أهميه الحكم ، وأنه بحيث لو لم يصل الى الناس ولم يراع حقه كان كأن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين.

فقوله : وإن لم تفعل فما بلغت ، جملة شرطية سيقت لبيان أهميه الشرط وجوداً

ص: 208

وعدماً ، لترتب الجزاء الأهم عليه وجوداً وعدماً ، وليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا ، فإنا نستعمل إن الشرطيه طبعاً فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط ، وحاشا ساحة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أن يقدر القرآن في حقه احتمال أن يبلغ الحكم النازل عليه من ربه ، وأن لا يبلغ ! انتهى.

المسألة الثالثة : في نوع تخوف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :

ولا بد من القول بأن الخوف الذي كان عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان خوفاً على الرسالة ، وليس على شخصه من القتل أو الأذى ، وذلك لعصمته وتقواه وشجاعته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فإن الله تعالى كان أخبر رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من الأيام الأولى لبعثته ، بثقل مسؤولية النبوة والرسالة ، وجسامة تبعاتها .. وكان صلوات الله عليه وآله موطِّناً نفسه على كل ذلك ، فلا معنى لأن يقال بأنه تلكأ بعد ذلك أو تباطأ أو امتنع في أول البعثة ، أو في وسطها أو في آخرها ، حتى جاءه التهديد والتطمين !!

وقد تبين مما تقدم أن الخوف على الرسالة الذي كان يعيشه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عند نزول الآية ، ليس إلا خوفه من ارتداد الأمة ، وعدم قبولها إمامة عترته من بعده.

المسألة الرابعة : في معنى الناس في الآية :

- قال الفخر الرازي في تفسيره : 6 جزء 12 / 50 :

واعلم أن المراد من « الناس » ها هنا الكفار بدليل قوله تعالى : إن الله لا يهدي القوم الكافرين ... لا يمكنهم مما يريدون. انتهى.

ولا يمكن قبول ذلك ، لأن نص الآية العصمة من « الناس » وهو لفظ أعم من المسلمين والكفار ، فلا وجه لحصره بالكفار ..

وقد تصور الرازي أن المعصوم منهم هم الذين لا يهديهم الله تعالى ، وأن المعنى : إن الله سيعصمك من الكفار ولا يهديهم. ولكنه تصورٌ خاطىَ ، لأن ربْط عدم هدايته تعالى للكفار بالآية يتحقق من وجوه عديدة .. فقد يكون المعنى : سيعصمك من كل الناس ، ولا يهدي من يقصدك بأذى لأنه كافر. أو يكون المعنى : بلغ وسيعصمك الله

ص: 209

من الناس ، ومن أبى ما تبلغه فهو كافر ، ولا يهديه الله تعالى. وقد ورد شبيه هذا المعنى في البخاري : 8 / 139 قال : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ! قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ! قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى. انتهى.

فإبقاء لفظة « الناس » على إطلاقها وشمولها للجميع ، يتناسب مع مصدر الأذى والخطر على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي هو غير محصور بالكفار ، بل يشمل المنافقين من الأمة أيضاً. بل عرفت أن الخطر كاد يكون عند نزول الآية محصوراً فيهم.

ولكن الرازي يريد إبعاد الذم في الآية عن المنافقين ، وإبعاد الأمر الالهي فيها عن تبليغ ولاية أمير المؤمنين علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) !

المسألة الخامسة : في معنى العصمة من الناس :

وقد اتضح مما تقدم أن العصمة الإلهية الموعودة في الآية ، لابد أن تكون متناسبة مع الخوف منهم ، ويكون معناها عصمته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أن يطعنوا في نبوته ويتهموه بأنه حابى أسرته واستخلف عترته ، وقد كان من مقولاتهم المعروفة أن محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يريد أن يجمع النبوة والخلافة لبني هاشم ، ويحرم قبائل قريش ..!!

وكأنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هو الذي يملك النبوة والإمامة ويعطيهما من جيبه !!

فهذا هو المعنى المتناسب مع خوف الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنه كان يفكر بينه وبين نفسه بما سيحدث من تبليغه ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

فهي عصمةٌ في حفظ نبوته عند قريش ، وليست عصمةً من القتل أو الجرح أو الأذى ، كما ادعت الأقوال المخالفة. ولذلك لم تتغير حراسته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد نزول الآية عما قبلها ، ولا تغيرت المخاطر والأذايا التي كان يواجهها ، بل زادت.

والقدر المتيقن من هذه العصمة حفظ نبوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الأمة وإن ثقلت عليهم أوامره ، وقرروا مخالفته. والغرض منها بقاء النبوة ، وتمام الحجة لله تعالى.

وهي غير العصمة الإلهية الأصلية للرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أفعاله وأقواله وكل تصرفاته !

ص: 210

وقد وفى الله سبحانه لرسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علية وآله بما وعد ، فقد أعلن (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في يوم الغدير خلافة علي والعترة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ثم أمر أن تنصب لعلي خيمة ، وأن يهنؤوه بالولاية الإلهية عليهم .. ففعلوا ! ولم يخدش أحد منهم في نبوة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ولكنهم عندما توفي فعلوا ما يريدون ، وأقصوا علياً والعترة (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بل أحرقوا بيتهم وأجبروهم على بيعة صاحبهم !!

مسألتان تتعلقان بآية العصمة من الناس

اشارة

يوجد مسألتان ترتبطان بالآية الشريفة ، نتعرض لهما باختصار :

المسألة الأولى : محاربة علي علیه السلام بآية تبليغ ولايته :

يشهد جميع المسلمين للنبي 9 بأنه بلغ عن ربه كل ما أمره به ، ونصح لأمته ، وتحمل أكثر من جميع الأنبياء (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

لكنك تجد في مصادر السنيين تهمةً للشيعة بأنهم يقولون إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كتم أشياء ولم يبلغها الى الأمة ، والعياذ بالله. ويستدلون لردهم بآية « بلغ ما أنزل اليك ».

- قال القرطبي في تفسيره : 6 / 243

من قال إن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب الله تعالى يقول : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، وقبح الله الروافض حيث قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه. انتهى.

- وقال القسطلاني في إرشاد الساري : 7 / 106

وقال الراغب فيما حكاه الطيبي : فإن قيل : كيف قال : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، وذلك كقولك إن لم تبلغ فما بلغت !

قيل : معناه وإن لم تبلغ كل ما أنزل اليك ، تكون في حكم من لم يبلغ شيئاً مما أنزل الله ، بخلاف ما قالت الشيعة إنه قد كتم أشياء على سبيل التقية !. انتهى.

ص: 211

والظاهر أن قصة هذه التهمة وبيت القصيد فيها هو حديث عائشة القائل : من زعم أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كتم شيئاً من كتاب الله ، فقد أعظم على الله الفرية. وقد رووه عنها وأكثروا من روايته .. وقصدهم به الرد على علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وتكذيبه !

فقد كان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يقول إنه وارث علم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وإن عنده غير القرآن حديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومواريثه .. فعنده جامعة فيها كل ما يحتاج اليه الناس حتى أرش الخدش.

وكان يقول إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد أخبره بما سيحدث على عترته من بعده حتى هجومهم على بيته وإحراقه ، وإجباره على بيعتهم ، وأنه أمره في كل ذلك بأوامره ..

ونحن الشيعة نعتقد بكل ذلك ، وتروي مصادرنا ، بل ومصادر السنيين عن مقام علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقربه من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومكانته عنده ، وشهاداته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حقه ما يوجب اليقين بأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان مأموراً من الله تعالى أن يعد علياً إعدادا خاصاً ، ويورثه علمه .. مضافاً الى ما أعطى الله علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من صفات ومؤهلات وإلهام ..

ونعتقد بأن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) طاهرٌ مطهر ، صادقٌ مصدق ، في كل ما يقوله ولو كان شهادةً لنفسه وعترته.

قال السيوطي في الدر المنثور : 6 / 260

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والواحدي ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، وابن النجاري ، عن بريدة قال : قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي : إن الله أمرني أن أدنيك ، ولا أقصيك ، وأن أعلمك ، وأن تعي وحقٌّ لك أن تعي. فنزلت هذه الآية : وتعيها أذن واعية. انتهى.

ثم ذكر السيوطي رواية أبي نعيم في الحلية وفيها : فأنت أذُنٌ واعيةٌ لعلمي. انتهى.

وإذا كان حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو من أتباع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، فإن علياً هو صاحب أسرار النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلومه.

وقد روى الجميع أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عهد اليه أن يقاتل على تأويل القرآن من بعده ، وأخبره أنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين !

ص: 212

بل الظاهر أن وصايا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي كان بعضها معروفاً في حياته ، ومن ذلك وصيته له بأن يسجل مظلوميته ويقيم الحجة على القوم ، ولا يقاتلهم من أجل الخلافة .. فلو لم يكونوا يعرفون ذلك ، لما كانت عندهم جرأة أن يهاجموا علياً في بيته بعشرين مسلح أو خمسين ، ويقتحموا داره ، ثم يلقوا القبض عليه ، ويجروه بحمائل سيفه الى البيعة !!

لقد كان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) معجزةً وأسطورةً في القوة والشجاعة ، وفي الهيبة والرعب في قلوب الناس .. وأكثر الذين هاجموه في داره كانوا معروفين بالخوف والفرار في عدة حروب .. ولم يكن أحدٌ منهم ولا من غيرهم يجرأ أن يقف في وجه علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إذا جرد ذا الفقار !!

ولكنهم كانوا مطمئنين أن إطاعته للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تغلب شجاعته وغيرته ، وأنه سيعمل بالوصية ، ولن يجرد ذا الفقار ، حتى لو ضربت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وأسقط جنينها !!

والحاصل أن الخلافة القرشية قد ردت أقوال علي بأن عنده مواريث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلمه ، ونفت أن يكون النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورث عترته شيئاً لا علماً ولا أوقافاً ولا مالاً ! وبذلك صادر أبو بكر مزرعة فدك ، التي كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أعطاها الى فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) عندما نزل قوله تعالى « وآت ذا القربى حقه » !

بل زادت السلطة على نفي كلام علي ، وحاولت أن تستفيد من آية الأمر بالتبليغ التي هي موضوع بحثنا فقالت : من قال إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد بلغه وحده أموراً وأحكاماً ، ولم يبلغها الى الأمة عامة ، فقد اتهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه قصر في تبليغ الأمة ، وهو نوع من الكفر به (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !! ومقولة عائشة المتقدمة هي مقولة السلطة في رد قول علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ..

- قال البخاري في صحيحه : 5 / 188 :

باب يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كتم شيئاً مما أنزل عليه ، فقد كذب ، والله يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك. الآية. انتهى. ثم كرر البخاري ذلك في : 6 / 50 و 8 / 210 ، ومسلم : 1 / 10 ، والترمذي : 4 / 328 ... وغيرهم.

ص: 213

ولكن هذه العملية من السلطة تتضمن مغالطتين : في توسيع معنى المأمور بتبليغه وفي توسيع معنى المأمور بتبليغهم !

كما تتضمن تحريفاً لمقولة علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وشيعته !

فليس كل شيء قاله الله تعالى لرسوله أوجب عليه أن يبلغه .. فإن علوم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما أوحى الله اليه ، وما ألهمه إياه ، وما شاهده في إسرائه ومعراجه .. أوسع مما بلغه لعامة الناس ، بأضعافٍ مضاعفة ، ولا يمكن أن يوجب الله تعالى عليه تبليغها ، لأن الناس لا يطيقونها حتى لو كانوا مؤمنين !

ولا كل شيء أمره أن يبلغه ، أمره أن الى كل الناس بدون استثناء .. فهناك أمورٌ عامةٌ لكل الناس ، وقد بلغها لهم ، وأمور خاصةٌ لأناسٍ خاصين مؤمنين أو كافرين ، وقد بلغها لأصحابها ، مثل قوله تعالى « قل لهم في أنفسهم قولاً بليغا » .. الخ.

ولم يقل عليٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولا أحدٌ من شيعته إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يبلغ ، بل قالوا إنه كلم الناس على قدر عقولهم ، وعلى قدر تحملهم وتقبلهم ، وأنه لذلك بلغ علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أكثر من غيره واستودعه علومه ، كما أمره الله تعالى ..

وليس في هذا تهمة بعدم التبليغ ، كما زعم القرطبي والقسطلاني. بل هي قولٌ بتبليغ إضافي خاصٍ بعلي والزهراء والحسنين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) !

بل إن علياً وشيعته قالوا إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد بلغ الأمة أموراً كثيرة ، تتعلق بعترته وغيرهم كما ترى في كتابنا هذا .. فتبليغه عندهم أوسع مما يقول به القرشيون.

ولكن القرشيين يظلمون علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويفترون عليه ، ويتغاضون عن تصريح عمر بأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يبين عدة آيات مثل الكلالة والربا ! كما تقدم في آية إكمال الدين !!

والنتيجة أن الأمر بالتبليغ وامتثاله ، لا يتنافى مع تخصيص النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعلومٍ عن غيره ، لأن ذلك مما أمره بتبليغه له.

كما لا يتنافى مع التقية التي قد يستعملها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع قريش أو غيرها ، لأنه مأمورٌ بالعمل بالحكمة لأهداف الإسلام ، وبالتقية ومداراة الناس ..

ص: 214

- ففي الكافي : 2 / 117 ، عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : أمرني ربي بمداراة الناس ، كما أمرني بأداء الفرائض.

- وفي مجمع الزوائد 8 / 17

عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد الى الناس.

وعن بريدة قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رجل من قريش فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقربه ، فلما قام قال : يا بريدة أتعرف هذا ؟

قلت : نعم ، هذا أوسط قريش حسباً ، وأكثرهم مالاً ، ثلاثاً.

فقلت يا رسول الله قد أنبأتك بعلمي فيه ، فأنت أعلم.

فقال : هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً.

وقد عقد البخاري في صحيحه أكثر من باب لمدارة الناس ، قال في : 7 / 102

باب المداراة مع الناس. ويذكر عن أبي الدرداء إنا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم ... عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت يا رسول الله : قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول ؟! فقال : أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس ، اتقاء فحشه. انتهى.

- وفي وسيط النيسابوري 2 / 208

وقال الأنباري : كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ، ويخفي بعضه اشفاقاً على نفسه من شر المشركين اليه ، والى أصحابه ... انتهى.

المسألة الثانية : الرد بالآية على من زعم أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد سُحِر :

فقد استدل عددٌ من علماء الفريقين بالآية على كذب الروايات التي تزعم أن يهودياً قد سحر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأخذ مشطه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعض شعره ، وجعل فيه سحراً ودفنه

ص: 215

في بئر .. وزعموا أن ذلك السحر أثَّر في النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فصار يتخيل أنه فعل الأمر ولم يفعله !! وأنه بقي مدةً على تلك الحالة رجلاً مسحوراً ! حتى دله رجل أو ملك أو جبرئيل ، على الذي سحره وعلى البئر التي أودع المشط والمشاطة ، فذهب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى البئر ، ولكنه لم يستخرج المشط منها ، لأنه كان شفي من السحر ، ولم يرد أن يثير فتنة ، فأمر بدفن البئر !!

فقد روى البخاري هذه التهمة عن عائشة في خمس مواضع من صحيحه ، ففي : 4 / 91 :

عن عائشة قالت : سُحِرَ النبى صلى الله عليه وسلم ، وقال الليث كتب الى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه عن عائشة قالت سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل اليه أنه يفعل الشيء وما يفعله ، حتى كان ذات يوم دعا ودعا ، ثم قال : أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما للآخر :

ما وجع الرجل ؟

قال : مطبوب !

قال : ومن طَبَّهُ ؟

قال : لبيد بن الأعصم ؟

قال : في ماذا ؟

قال : في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر !

قال : فأين هو ؟

قال : في بئر ذروان !

فخرج اليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع فقال لعائشة حين رجع : نخلها كأنها روس الشياطين !

فقلت : استخرجته ؟

فقال : لا ، أما أنا فقد شفاني الله ، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً ، ثم

ص: 216

دفنت البئر!! انتهى. ورواه في : 4 / 68 ، و : 4 / 28 - 29 و164 ، ورواه مسلم في : 7 / 14 ، وغيره .. وغيره.

وقد رد هذه التهمة علماء الشيعة قاطبةً ، وقد تجرأ قليل من العلماء السنيين على ردها ! ومما استدلوا به آية ( والله يعصمك من الناس ».

- قال الطوسي في تفسير التبيان : 1 / 384

ما روي من أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سحر - وكان يرى أنه يفعل مالم يفعله - فأخبار آحادٍ لا يلتفت اليها ، وحاشا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من كل صفة نقصٍ ، إذ تنفر من قبول قوله ، لأنه حجة الله على خلقه ، وصفيه من عباده ، واختاره الله على علمٍ منه ، فكيف يجوز ذلك مع ما جنبه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة ، ولا يجوِّز ذلك على الأنبياء إلا من لم يعرف مقدارهم ، ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم. وقد قال الله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وقد أكذب الله من قال : إن يتبعون إلا رجلاً مسحوراً فقال : وقال الظالمون إن يتبعون إلا رجلاً مسحورا. فنعوذ بالله من الخذلان.

- وقال ابن إدريس العجلي في السرائر : 3 / 534

والرسول (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما سُحِر عندنا بلا خلاف ، لقوله تعالى : والله يعصمك من الناس. وعند بعض المخالفين أنه سُحر ، وذلك بخلاف التنزيل المجيد !

- وقال المجلسي في بحار الأنوار : 60 / 38

ومنها سورة الفلق ، فقد اتفق جمهور المسلمين على أنها نزلت فيما كان من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى مرض ثلاث ليال.

ومنها ما روي أن جارية سحرت عايشة ، وأنه سحر ابن عمر حتى تكوعت يده !

فإن قيل : لو صح السحر لأضرت السحرة بجميع الأنبياء والصالحين ، ولحصلوا لأنفسهم ( على ) الملك العظيم ، وكيف يصح أن يسحر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد قال الله : والله يعصمك من الناس ، ولا يفلح الساحر حيث أتى! وكانت الكفرة يعيبون النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه مسحور ، مع القطع بأنهم كاذبون. انتهى.

ص: 217

وممن رد هذه التهمة من السنيين : النووي في المجموع : 19 / 243 ، قال :

قلت : وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ... تنبيه : قال الشهاب بعد نقل في التأويلات : عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث سحره صلى الله عليه وسلم المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور ، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه.

ونقل الرازي عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلةٌ ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول : والله يعصمك من الناس ، وقال : ولا يفلح الساحر حيث أتى ، ولأن تجويزه يفضي الى القدح في النبوة ، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا الى ضرر جميع الأنبياء والصالحين. انتهى.

- والرازي في تفسيره : 16 جزء 32 / 187 قال : قول جمهور المسلمين أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فى إحدى عشرة عقدة ... فاعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم. وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول : والله يعصمك من الناس ... قال الأصحاب : هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل ... الخ. انتهى.

ولكن هؤلاء قلة من علماء السنة ، فأكثرهم يقبلون أحاديث سحر نبيهم !!

وأصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عائشة وكلام البخاري مهما كان ، ولا يسمحون لأنفسهم ولا لأحدٍ أن يبحثه وينقده .. وقد أوقعهم هذا المنهج في مشكلات عقائدية عديدة ، في التوحيد والنبوة والشفاعة .. ومنها أحاديث بدء الوحي وورقة بن نوفل ، وحديث الغرانيق الذي أخذه المرتد سلمان رشدي وحرفه وسماه الآيات الشيطانية .. ومنها أحاديث أن اليهود سحروا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التي رواها البخاري عن عائشة !

وقد تحيروا فيها كما رأيت ، ولم يجرأ أحد منهم على القول إنها من المكذوبات على عائشة ، أو من خيالات النساء ..

ص: 218

والرد الصحيح أن تهمة السحر تتنافى مع أصل النبوة ، وأنها تهمة الكفار التي برأ الله نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، منها بنص القرآن ، كما تقدم.

أما ردها بآية العصمة فهو ضعيف ، لأنه قد يجاب عنه بأن آية العصمة نزلت في آخر عمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وقصة السحر المزعومة كانت قبلها.

وأما على تفسيرنا للآية ، فقد عرفت أن القدر المتيقن من العصمة فيها عصمته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من ارتداد قريش والمسلمين في حياته ، بسبب تبليغه ولاية عترته من بعده .. فيقتصر فيها على هذا القدر المتيقن ، ما لم يقم دليل على شمولها لغيره.

وقد أكثر المفسرون والشراح السنييون من الكلام في هذا الموضوع ، وتجشموا احتمالات كثيرة .. كل ذلك بسبب تفسيرهم الخاطئ للآية وتصورهم أنها تفيد عصمته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من القتل والسم والجرح والأذى.

ومن ذلك أنهم تصوروا أن الآية تعارض الرواية القائلة إن موته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) استند الى اللقمة التي أكلها من الشاة المسمومة التي قدمتها اليه اليهودية ، ثم أتاه جبريل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأخبره فامتنع عن الأكل ، فانتقض عليه سم تلك اللقمة بعد سنة فتوفي بسببه ..

- قال في هامش الشفا 1 / 317 :

فإن قيل : ما الجمع بين قوله تعالى « والله يعصمك من الناس » وبين هذا الحديث المقتضي لعدم العصمة ، لأن موته (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالسم الصادر من اليهودية ؟

والجواب : أن الآية نزلت عام تبوك ، والسم كان بخيبر قبل ذلك.

* *

ومن ذلك ما تحيروا فيه من أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد تمنى القتل في سبيل الله تعالى ، مع أنه الآية تدل على عصمته من القتل ، فهل يجوز أن يتمنى النبي شيئاً وهو يعلم أنه لا يكون ؟! قال في فتح الباري في شرح البخاري : 8 / 2644 : عن أبي هريرة قال سمعت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول .. والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ....

ص: 219

استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل ، وأجاب بن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وهو متعقب فإن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة ، وهذا الحديث صرح أبو هريرة بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة.

والذي يظهر في الجواب : أن تمنى الفضل والخير لا يستلزم الوقوع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : وددت لو أن موسى صبر ، كما سيأتي في مكانه ، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك ، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه ، قال بن التين : وهذا أشبه.

وحكى شيخنا بن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله ( ولوددت ) مدرج من كلام أبي هريرة ، قال : وهو بعيد. ونحوه في عمدة القاري : 7 جزء 14 / 95

ونقول : لو ثبت ذلك عنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لكان تمنياً حقيقياً ، لأن الآية إنما تضمن عدم ردة الناس في حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ولا ربط لها بضمان عدم القتل والجرح والأذى.

* *

ص: 220

الفصل الثالث: قصة الغدير

قريش في حجة الوداع

رأيت في أحاديث حجة الوداع كيف ركز النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في خطبه وكلامه وتصرفاته على مقام أهل بيته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فبشر الأمة بالائمة الإثني عشر منهم .. وبلغها أن الله تعالى جعل وجوب طاعتهم الى جانب القرآن ، فسماهم مع القرآن ( الثقلين ) ، وأنه تعالى حرم عليهم الصدقات وجعل لهم مالية خاصة هي : الخمس .. الخ.

لقد كانت خطبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الحج ، وما رافقها من أعماله وأقواله ، في علي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، أقصى ما يمكن أن تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم ، و ( حرمان ) بقية قبائل قريش من القيادة حسب زعمهم ، بل تكريس قريش عبيداً طلقاء لبني هاشم !!

ولا تذكر المصادر السنية ردة الفعل الصريحة لزعماء قريش المعروفين على هذه الخطب والأعمال النبوية في حجة الوداع.

ومن الطبيعي أن لا تذكر ذلك .. فهل تريد من مصدر قرشي أن يعترف لك بأن

ص: 221

قريشاً لم تكن مرتاحة لكلام النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؟! وأن سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبا الأعور السلمي ... وغيرهم ، وغيرهم .. كانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لبني هاشم ، وأنهم نشطوا في اتصالاتهم مع القرشيين المهاجرين ، من غير بني هاشم لمعالجة هذا الإتجاه النبوي الخطير ؟!!

أما مصادرنا الشيعية فتذكر أنهم نشطوا ضد بني هاشم في حجة الوداع ، وأن نشاطهم زاد في منى في أيام التشريق ، وكانت نتيجة مشاوراتهم ومحادثاتهم أن كتبوا بينهم صحيفة تسميها مصادرنا ( الصحيفة الملعونة ) لأنهم تعاهدوا فيها أن لا يسمحوا لبني هاشم أن يجمعوا بين النبوة والخلافة !

وتذكر أن بضعة نفر من ممثليهم انسلوا خفيةً من منى الى مكة ، ووقعوا الصحيفة في داخل الكعبة !

فكانت صحيفة قرشية جديدة ضد بني هاشم ، ولكنها هذه المرة ليست لمحاصرتهم في الشعب باسم اللات والعزى .. بل لعزلهم سياسياً وحرمانهم من القيادة بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، باسم الإسلام !!

وذكرت مصادرنا أن الله تعالى أطلع نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على هذه الصحيفة ، فأخبر أصحابها بفعلتهم ، فارتعدت فرائصهم !

ولكنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اكتفى بإتمام الحجة عليهم ، وترك لهم حرية العمل وفق قانون تبليغ الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وواجبهم في إقامة الحجة لله تعالى على عباده !

وإذا كان ما ذكرته الصحاح السنية من لغطٍ وكلامٍ وضجةٍ وصراخٍ في وسط خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في عرفات ، عندما وصل الى نسب الأئمة الإثني عشر من بعده - إذا كان ذلك واحداً من فعاليات قريش المنظمة ضد بني هاشم - فلا بد أن يكون النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنبهم عليه أيضاً ، وعرفهم أنه مطلعٌ عليه جيداً !!

ص: 222

نتائج حجة الوداع

على أي حال ، فقد اعتبر القرشيون أن حجة الوداع مرَّت بسلامٍ نسبياً ، فقد تحدث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كثيراً عن بني هاشم وعن عترته وعن ذريته من فاطمة ، وعن اختيار الله تعالى لهم ، وللأئمة منهم ، وعن تحريم الصدقات عليهم ، وفرض الخمس لهم .. ولكنه لم يتخذ إجراءً عملياً والحمد لله ، ولم يطلب من قريش والمسلمين أن يبايعوا علياً كبير العترة ، بصفته الإمام الأول من العترة !

أما النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد اعتبر أنه بلغ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه ، وأن قريشاً لا تتحمل أكثر من ذلك .. فقد وصل الأمر عندها الى آخر حدود الصبر ، ولو طلب منها بيعة علي بخلافته ، فإنها قد تطعن في نبوته وتتهمه بأن هدفه إقامة ملك لبني هاشم ، شبيهاً بملك كسرى وقيصر !!

وبذلك تستطيع قريش أن تقود حركة ردة في العرب ، وتخوفهم من القبول بملك بني هاشم بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ملك يبدأ بعلي ثم يكون للحسن ثم للحسين ، ثم لا يخرج من أبناء فاطمة الى يوم القيامة !

وقد سجلت المصادر شبيه هذه العبارات ، على ألسنة زعماء قريش ! وكأن الملك ملك محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكأنه هو الذي أعطاه أو يريد أن يعطيه لعترته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) !!

الوحي يضغط على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من السماء وقريش من الأرض

كان جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حجة الوداع وظروفها المصيرية ينزل على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأوامر ربه ، وقد يكون رافقه طوال موسم الحج ، وأملى عليه عبارات خطبه ...

وكان مما قال له في المدينة :

يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك إنه قد دنا أجلك ، وإني مستقدمك عليَّ ، ويأمرك أن تدل أمتك على حجهم ، كما دللتهم على صلاتهم وزكاتهم وصيامهم.

ص: 223

وحج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالمسلمين ، وعلمهم حجهم ، وواصل تركيز مبادئ الإسلام في نفوسهم ، ومكانة الأئمة من عترته ، كما مر في حديث الأئمة الإثني عشر ، وحديث الثقلين ، وحديث فرض الخمس لهم ، وتحريم الصدقات عليهم .. الخ.

وفي آخر أيام الحج نزل عليه جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن الله تعالى يأمرك أن تدل أمتك على وليهم ، فاعهد عهدك ، واعمد الى ما عندك من العلم وميراث الأنبياء فورثه إياه ، وأقمه للناس علماً ، فإني لم أقبض نبياً من أنبيائي إلا بعد إكمال ديني ، ولم أترك أرضي بغير حجة على خلقي ...

فأخذ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يفكر في طريقة الإعلان ، نظراً الى وضع قريش المتشنج ، وقال في نفسه : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ، ويقول قائل ! لذلك قرر أن ينفذ هذا الأمر الالهي الجديد في عترته ، بعد رجوعه الى المدينة ، بالتمهيد المناسب ، وبمعونة الأنصار ..

الوحي يوقف القافلة النبوية

ورحل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من مكة وهو ناوٍ أن يكون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته ، كما أمره ربه تعالى.

لكن في اليوم الثالث من مسيره ، عندما وصل الى كراع الغميم ، وهو كما في مراصد الإطلاع : موضع بين مكة والمدينة ، أمام عسفان بثمانية أميال .. جاءه جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لخمس ساعات مضت من النهار ، وقال له : يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، إن الله لايهدي القوم الكافرين ».

فخاف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وخشع لربه ، وتَسَمَّرَ في مكانه ، وأصدر أمره الى المسلمين بالتوقف ، وكان أولهم قد وصل الى مشارف الجحفة ، وكانت الجحفة بلدةً عامرةً على بعد ميلين أو أقل من كراع الغميم ، ولكن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أراد تنفيذ الأمر الالهي المشدد ، فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي ..!

ص: 224

قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للناس : أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي .. وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين اليه ، ويوقفوا من تأخر منهم حين يصلون اليه ..

ونزل (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن ناقته ، وكان جبرئيل الى جانبه ، ينظر اليه نظرة الرضا ، وهو يراه يرتجف من خشية ربه ، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول : تهديدٌ .. ووعدٌ ووعيدٌ .. لأمضين في أمر الله ، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبنى العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة !

وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار اليه فنظر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإذا على يمينه دوحة أشجار ، فودع جبرئيل ومال اليها ، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ.

قال بعض المسلمين : فبينا نحن كذلك ، إذ سمعنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو ينادي : أيها الناس أجيبوا داعي الله .. فأتيناه مسرعين في شدة الحر ، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه.

ونادى منادي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الناس بالصلاة جامعة ، ووقت الصلاة لم يحن بعد ولكن حانت قبلها ( صلاة ) أخرى لا بد من أدائها قبل صلاة الظهر.

إنها فريضة ولاية عترته الطاهرة ، ولا بد أن يبلغها عن ربه الى المسلمين مهما قال فيه قائلون ، وقال فيهم قائلون .. فقد شدد عليه ربه في ذلك : وأفهمه أن مسألة عترته ليست مسألةً شخصيةً تخصه .. وأنك إن كنت تخشى الناس ، فالله أحق أن تخشاه وسيعصمك منهم ، فاصدع بما تؤمر !!

ونزل المسلمون حول نبيهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وكان ذلك اليوم قائظاً شديد الحر ، فأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبة الولاية ، ثم للصلاة في ذلك الهجير ، وأمرهم أن ينصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر ، ليشرف على الناس ..

ورتب المسلمون المكان والمنبر ، ووضعوا على أحجاره حدائج الإبل ، فصار منصةً أكثر ارتفاعاً ، وحسناً ..

ص: 225

وورد المسلمون ماء الغدير فشربوا منه ، واستقوا ، وتوضؤوا .. وتجمعوا لاستماع الخطبة قبل الصلاة ، ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير ، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة ، فجلس كثير منهم في الشمس ، أو استظل بظل ناقته ..

عرف الجميع أن أمراً قد حدث ، وأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيخطب .. فقد نزل عليه وحيٌ أو حدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير ، ولا يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة العامرة ، التي تبعد عنهم ميلين فقط !

كان مجموع المشاركين في حجة الوداع من مئة ألف الى مئة وعشرين ألفاً كما ذكرت الروايات ، ولكن هذا العدد كان في عرفات ومنى .. أما بعد تمام الحج فقد توزعوا ، فمنهم من أهل مكة وقد رجعوا اليها ، ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلكوا طريقها ، وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما اليها ..

والذين هم مع الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن طريق الجحفة والمدينة ألوفٌ كثيرةٌ أيضاً .. نحو عشرة آلاف .. فقد قال الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مؤرخاً تضييع قريش لحادثة الغدير :

العجب مما لقي علي بن أبي طالب ! إنه كان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر على أخذ حقه ، والرجل يأخذ حقه بشاهدين !! الوسائل : 18 / 174.

* *

لم يدم طويلاً تطلع المسلمين الى ما سيفعله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وما سيقوله .. فقد رأوه صعد على منبر الأحجار والأحداج ، وبدأ باسم الله تعالى ، وأخذ يرتل قصيدةً نبويةً في حمد الله تعالى ، والثناء عليه .. ويشهد الله والناس على عبوديته المطلقة لربه.

ثم قدم لهم عذره ، لأنه اضطر أن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر ، وما أمهلهم حتى يصلوا الى بلدة الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة ، المتوفر فيها ما يحتاج اليه المسافر .. ولا انتظر بهم وقت الصلاة ، بل ناداهم قبل وقتها ، وكلفهم الإستماع اليه في حر الظهيرة ..

ص: 226

وأخبرهم أنه نزل عليه جبرئيل 7 في مسجد الخيف ، وأمره أن يقيم علياً للناس .. ثم قال لهم : إن الله عز وجل بعثني برسالةٍ فضقت بها ذرعاً ، وخفت الناس أن يكذبوني ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي ، يقول قائل ، ويقول قائل ! فأتتني عزيمة من الله بتلة ( قاطعة ) في هذا المكان ، وتواعدني إن لم أبلغها ليعذبني.

وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس ، وهو الكافي الكريم ، فأوحى إلي : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، إن الله لايهدي القوم الكافرين.

ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لا إله إلا هو ، لا يؤمن مكره ، ولا يخاف جوره ، أقرُّ له على نفسي بالعبودية ، وأشهد له بالربوبية ، وأؤدي ما أوحى إلي ، حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ ، لا يدفعها عني أحدٌ ، وإن عظمت حيلته.

أيها الناس : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟

فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت.

فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق ؟

قالوا : يا رسول الله بلى.

فأومأ رسول الله الى صدره وقال : وأنا معكم.

ثم قال رسول الله : أنا لكم فرط ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وسعته ما بين صنعاء الى بصرى ، فيه عدد الكواكب قدحان ، ماؤه أشد بياضاً من الفضة .. فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.

فقام رجل فقال : يا رسول الله وما الثقلان ؟

قال : الأكبر : كتاب الله ، طرفه بيد الله ، وسبب طرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا.

ص: 227

والأصغر : عترتي أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض .. سألت ربي ذلك لهما فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

أيها الناس : ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : قم يا علي. فقام علي ، وأقامه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن يمينه ، وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما ، وقال :

من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار.

فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار ، وعلى التابعين لهم بإحسان ، وعلى البادي والحاضر ، وعلى الأعجمي والعربي ، والحر والمملوك ، والصغير والكبير.

فقام أحدهم فسأله وقال : يا رسول الله ولاؤه كماذا ؟

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ولاؤه كولائي ، من كنت أولى به من نفسه فعليٌّ أولي به من نفسه !

وأفاض (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الإثني عشر من بعده : علي والحسن والحسين ، وتسعة من ذرية الحسين ، واحدٌ بعد واحد ، مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم ، حتى يردوا عليَّ حوضي

ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه .. فشهدوا له ..

وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب .. فوعدوه وقالوا : نعم ..

وقام اليه آخرون فسألوه ... فأجابهم ..

* *

ص: 228

وما أن أتم خطبته ، حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ». فكبر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال : ألله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، وولاية علي بعدي ...

ونزل عن المنبر ، وأمر أن تنصب لعلي خيمة ، وأن يهنئه المسلمون بولايته عليهم .. حتى أنه أمر نساءه بتهنئته ، فجئن الى باب خيمته وهنأنه !

وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له : بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة !

وجاء حسان بن ثابت ، وقال : إئذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن ، فقال : قل على بركة الله ، فأنشد حسان :

يناديهمُ يوم الغدير نبيُّهُمْ

بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديا

بقول فمن مولاكمُ ووليُّكُمْ

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلَهك مولانا وأنت ولينا

ولم ترَ منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليُّ فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه

وكن للذي عادى علياً معاديا

أخذنا هذا التسلسل في قصة الغدير من مصادرنا المتعددة مثل : كمال الدين وتمام النعمة للصدوق / 276 ، والإحتجاج للطبرسي : 1 / 70 ، وروضة الواعظين للنيسابوري / 89 ، والمسترشد / 117 ، وغيرها.

وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريباً مما في مصادرنا ، وتجد ذلك في كتاب الغدير للأميني.

ونكتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه : 7 / 122 قال :

عن يزيد ابن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم ، الى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا اليه قال له حصين :

ص: 229

لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً.

حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال : يا ابن أخي ، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا ، فلا تكلفونيه.

ثم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال :

أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين :

أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال :

وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي.

فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟

قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

قال : ومن هم ؟

قال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس.

قال : كل هؤلاء حرم الصدقة

قال : نعم. انتهى. ورواه أحمد في مسنده : 2 / 366 ، وغيره .. وغيره.

- وقال الحاكم في المستدرك 3 / 148

عن زيد بن أرقم (رضی الله عنه) قال قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وأهل بيتي ، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض.

هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. انتهى.

ص: 230

وقد رأيت أن مسلماً رواه ، ولكن لفظ الحاكم فيه إخبارٌ نبوي باستمرار وجود إمام من أهل بيته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى يوم القيامة.

- وانظر كيف صوَّر ابن كثير القضية في بدايته : 5 / 408 ، قال :

لما تفرغ النبي من بيان المناسك ، ورجع الى المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم ، تحت شجرة هناك ، فبين فيها أشياء ، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه ، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ، وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري ، فجمع فيه مجلدين ، وأورد فيها طرقه وألفاظه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة. انتهى.

فقد جعل القضية أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين من علي بن أبي طالب ، متحاملين عليه في أنفسهم ، فأوقف النبي المسلمين (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غدير خم ، لكي يثبت لهم براءة علي ويرضِّيهم عنه ، فذكر فضله وقربه منه ( وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ) وبين في خطبته ( أشياء ) من هذا القبيل ! وكان الله يحب المحسنين !

إن هذا الأسلوب إنما يكتب به مؤرخٌ من عشيرة بني عبد الدار ، الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارساً منهم حملوا لواء قريش في وجه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ولكن المؤرخ المسلم لا يستطيع أن يكتب به إلا .. إذا كان مبغضاً لعلي بن أبي طالب !

فهل عرفت لماذا يحب ( السلفيون ) ابن كثير ويهتمون بنشر كتبه ؟!

لماذا الجحفة وغدير خم

والسؤال هنا : لماذا الوحي في طريق المدينة .. والصحراء والظهيرة ؟

والجواب : أن الله تعالى قال بذلك لرسوله : المدينة أيها الرسول مثل مكة ، فإن بلغت ولاية عترتك فيها ، فقد تعلن قريش معارضتها ثم ردتها ! فموقفها من عترتك جازم ، ومستميت .. وبما أن واجبك التبليغ مجرد التبليغ ، وإنما بعثت للتبليغ ، فهو ممكنٌ هنا .. والزمان والمكان هنا مناسبان من جهات شتى ، فبلغ ولا تؤخر.

ص: 231

ومن أجل أن تكمل التبليغ وتوصل لهم رسالتي .. سوف أعصمك من قريش ، وأمسك بقلوبها وأذهانها ، وألجم شياطينها الحاضرين ، وأعالج آثار التبليغ ، وأحفظ نبوتك فيها .. ثم أملي لها بعدك ، فتأخذ دولتك وتضطهد عترتك .. حتى يتحقق في أمتك وفي عترتك ما أريد ! ولا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون.

* *

والسؤال هنا : كيف تمت عصمة الله تعالى لنبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من قريش ، فلم يحدث تشويش ، ولم يقم معترض ..! صحيح أن ثقل زعماء قريش كانوا في مكة ، لكن بعضهم كان في قافلة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وكان فيها قرشيون مهاجرون مؤيدون لهم ! فكيف سكتت قريش وضبطت أعصابها ، وهي تسمع تبليغ الرسول في علي والعترة ؟! ثم أشهدها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على تبليغ ذلك .. فشهدت.

ثم طلب منها أن تبلغ الغائبين .. فوعدت.

ثم جاءت الى خيمة علي وهنأته بالولاية ، وإمرة المؤمنين !!

الجواب : أنه تعالى أراد للرسالة أن تصل ، وللحجة أن تقام ، وأن يبقى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) محفوظ الشخصية سالم النبوة .. فأسكت قريشاً بقدرته المطلقة ، وكمَّمَ أفواهها في غدير خم.

والظاهر أن قريشاً أخذت تقنع نفسها بأن المسألة في غدير خم ، ليست أكثر من إعلانٍ وإعلامٍ يضاف الى إعلانات حجة الوداع .. وأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مازال حياً .. فإن مات ، فلكل حادثٍ حديث ..

وعندما أرادت قريش أن تخرج عن سكوتها ، وتخطو خطوةً نحو الردة .. أنزل الله على ناطقها الرسمي النضر بن الحارث حجراً من سجيل فأهلكه ، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته !! فزاد ذلك من قناعة قريش بالسكوت فعلاً عن ولاية العترة !

أما النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فكان تفكيره رسولياً ، وليس قرشياً ..

ص: 232

لقد ارتاح ضميره بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره ، واتقى غضب ربه وعذابه ..

واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع ، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي ، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة ، فأخبره بأن مهمته وصلت الى ختامها ..

كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في عيدٍ ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه ، فرضي عنه ، وقد تكون أصعب رسالةٍ عليه في عمره النبوي على الإطلاق .. وتمت المسألة بسلامٍ ولم تقم قائمة قريش ، ولم يصب جابر بن سمرة وغيره بالصمم من لغط الناس عند سماع كلمة عترتي ، أو كلمة علي ، أو بني هاشم.

ولم تحدث حركة عصيان منظمة ، كما حدثت في المدينة عندما طلب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قبل وفاته بأربعة أيام ، أن يأتوه بدواة وقرطاسٍ ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً .. ولم تحدث حركة ردة نهائياً ، والحمد لله !

ارتاح ضمير النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره .. وهذه هي الرسالة التي روى الحسن البصري أن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره ، فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها ، فخاف ربه وصدع بها .. ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راوغ فيها وراغ عنها ، ولم يخبرهم ما هي ! وكل غلمان قريش إخوان الحسن البصري ، من الفرس وغيرهم ، يراوغون فيها وفي أمثالها ، ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يفكر ربانياً بأعلى مستوى من البيعة .. يفكر على مستوى الأمر الالهي والإختيار الالهي ، الذي لا خيرة فيه لأحد ، ولا محل فيه للبيعة ، إلا إذا طلبها من الناس النبي أو الوصي ، فتجب.

فهذا هو منطق التبليغ ، وحسب !

ولذلك لم يشاورهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بيعة علي ، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج الى مشورتهم ، ولا بيعتهم ، ولا رضاهم ..

لقد أمر الله تعالى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يشاورهم ليتألفهم ، ويسيروا معه في الطريق الصحيح .. أما إذا عزمت فتوكل ، ولا تسمع لكلام مخلوق لأنك تسير بهدى الخالق !

ص: 233

أما إذا عزم الله تعالى واختار للأمة ولياً بعد نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وقال لنبيه بلغ ولا تخف ، ولست مسؤولاً عن إطاعة من أطاع ومعصية من عصى .. فهل يبقى للمشاورة محلٌّ من الإعراب ! وهل يبقى للبيعة محلٌّ من الإعراب !

لقد طلب منهم الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تهنئة علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إقراراً بالإختيار الالهي ، وهي تهنئةٌ أقوى من البيعة ، وألزم منها للأعناق .. ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم .. فإنما على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يبلغهم ، وحسابهم على من يملك كل الأوراق ، ويملك الدنيا والآخرة ، ويفعل ما يريد .. سبحانه وتعالى !

وتدل رواياتنا على أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طلب منهم مع التهنئة البيعة ، فيكون معناها أنه طلب منهم أيضاً إعلان التزامهم بإطاعة علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .. فأعلنوا !

ولكن الأمر من ناحية شرعية وحقوقية ، لا يختلف ، سواء أمرهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ببيعة علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أم أمرهم بتهنئته فقط .. فإن تبليغ الولاية أقوى من التهنئة ، والتهنئة أقوى من البيعة .. فالتبليغ اصطفاء ، والتهنئة خضوع ، والبيعة وعدٌ بالإلتزام.

لقد سكتت قريش آنياً بسبب أنها لم تكن حاضرةً كلها في الجحفة .. وبسبب عنصر المفاجأة ، وظرف المكان والزمان.

ولعلها كانت تقنع نفسها بأن منطق التفكير النبوي يبقي لها مساحة للعمل ..

ذلك أن التبليغ وإتمام الحجة كلامٌ تركيٌّ عند قريش الناطقة بالضاد !

وحتى البيعة المأمور بها من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يمكن لقريش أن تجعلها مثل المراسم الدينية الأخرى ، وتجردها من معنى إمامة علي وقيادة عترة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من بعده !

فالباب في تصور قريش مازال مفتوحاً أمامها للتصرف !!

المنطق النبوي حقق أهدافه وفضح قريشاً

نقلت المصادر السنية ندم الخليفة القرشي أبي بكر على إصداره أمراً بمهاجمة بيت علي وفاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) في اليوم الثاني أو الثالث لوفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ص: 234

- ففي مجمع الزوائد : 5 / 202

عن عبد الرحمن بن عوف قال : دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه ، فسلمت عليه وسألته : كيف أصبحت ؟

فاستوى جالساً فقال : أصبحت بحمد الله بارئاً ، فقال : أما إني على ما ترى وجع وجعلتم لي شغلاً مع وجعي !

جعلت لكم عهداً من بعدي ، واخترت لكم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم لذلك أنفه ، رجاء أن يكون الأمر له !

ورأيت الدنيا أقبلت ، ولما تقبل ، وهي خائنة ، وستنجدون بيوتكم بستور الحرير ونضائد الديباج ، وتألمون النوم على الصوف الأذربي ، كأن أحدكم على حسك السعدان ( يقصد أنكم من ترفكم سترون السجاد الأذربيجاني خشناً لمنامكم مثل الشوك ).

والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد ، خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا.

ثم قال : أما إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن ، وثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن ، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن.

فأما الثلاث التي وددت أني لم أفعلهن : فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته ، وإن أغلق على الحرب.

ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة ، قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ، أبي عبيدة أو عمر ، وكان أمير المؤمنين وكنت وزيراً.

ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى أهل الردة ، أقمت بذي القصة ، فإن ظفر المسلمون ظفروا ، وإلا كنت ردءاً ومدداً.

وأما الثلاث اللاتي وددت أني فعلتها : فوددت أني يوم أتيت بالأشعث أسيراً ضربت عنقه ، فإنه يخيل إلي أنه لا يكون شرٌّ إلا طار إليه.

ص: 235

ووددت أني يوم أتيت بالفجاءة السلمي ، لم أكن أحرقته ، وقتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً.

ووددت أني حين وجهت خالد بن الوليد الى الشام ، وجهت عمر الى العراق فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله عز وجل.

وأما الثلاث اللاتي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن :

فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فلا ينازع أهله.

ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر سبب ؟

ووددت أني سألته عن العمة وبنت الأخ ، فإن في نفسي منهما حاجة. انتهى.

وغرضنا من النص بيان حالة الخليفة وأنه يقصد بقوله ( وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الحرب ) أنه نادمٌ على مهاجمة البيت ، حتى لو كان أهله يعدون العدة لحربه !

وخلاصة القصة : أن أبا بكر أرسل الى علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يطلب منه أن يبايعه ، فامتنع علي عن بيعته ، وأجابهم جواباً شديداً ، اتهمهم فيه.

وبلغ أبا بكر أن عدداً من الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في بيت علي الذي كان يعرف ببيت فاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) ، فأشار عليه عمر بأن يهاجموا البيت ويهددوهم بإحراقه عليهم ، إن لم يخرجوا ويبايعوا !

وبالفعل هاجمت مجموعة بقيادة عمر بن الخطاب بيت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) وحاصروه وجمَّعوا الحطب على باب داره ، وهددوا علياً وفاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) والذين كانوا في البيت - ومنهم مؤيدون لموقف علي ، ومنهم جاؤوا معزين بوفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - هددوهم بأنهم إما أن يخرجوا ويبايعوا أبا بكر ، أو يحرقوا عليهم الدار بمن فيه !

وبالفعل أشعلوا الحطب في باب الدار الخارجي !!

ولم يشأ علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أن يخرج اليهم بذي الفقار عملاً بوصية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، حيث كان أخبره بكل ما سيحدث ، وأمره فيه بأوامره .. فخرجت اليهم فاطمة الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ)

ص: 236

فأهانوها وضربوها ، حتى أسقطت جنينها .. الى آخر تلك الأحداث المؤلمة لقلب كل مسلم ..

في ذلك الظرف ، قرر علي وفاطمة (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) أن يستنهضا الأنصار ويطالباهم بالوفاء ببيعة العقبة ، التي شرط عليهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيها أن يحموه وأهل بيته وذريته ، مما يحمون منه أنفسهم وذراريهم ، فبايعوه على ذلك !

وكانت فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) مريضة مما حدث لها في الهجوم على بيتها ، فأركبها علي 7 على دابة ، وأخذا معهما أولادهما الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم ، وجالوا على بيوت رؤساء الأنصار في تلك الليلة والتي بعدها ، وكلمتهم فاطمة (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فكان قول أكثرهم : يا بنت رسول الله ، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ، ما عدلنا بعلي أحداً ! فقالت الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) :

وهل ترك أبي يوم غدير خمٍّ لأحدٍ عذراً !! ( الخصال/ 173 )

إن منطق الزهراء (عَلَيْهِا السَّلاَمُ) هو منطق أبيها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) تماماً .. فهي بضعةٌ منه ، وهي مطهرةٌ من منطق المثَّاقلين الى الأرض وتفكيرهم .. وكل تكوينها وتفكيرها ومشاعرها وتصرفاتها ربانية ، ولذلك قال عنها أبوها ( إن الله يرضى لرضا فاطمة ، ويغضب لغضبها ! ) ذلك أنها ليس لها شخصيتان : واحدةٌ رسالية والأخرى شخصية ، فتغلبُ هذه مرةً وهذه مرة ، بل وجودها موحدٌ منسجمٌ دائماً .. فهي أَمَةُ هذا الرب العظيم لا غير ، وتابعةُ هذا الرسول والأب الحبيب لا غير .. (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وفاطمة الزهراء تعرف أنه سبحانه يتعامل مع الناس بإقامة الحجة عليهم في أصول الإسلام وتفاصيله ، في أسس العقيدة وجزئيات الشريعة ، وفيما يجب على الأمة في حياة نبيها ، وبعد وفاته ..

وقد أقام أبوها الحجة لربه كاملةً غير منقوصة ، في جميع الأمور ، ومن أعظمها حق زوجها علي ، وولديها الحسن والحسين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذين أعطاهم الله حق الولاية على الأمة بعد أبيها !

ص: 237

بهذا المنطق قالت الزهراء 3 للأنصار : إن جوابكم لي جواب سياسي .. ومنطق الحجة الإلهية أعلى من منطق اللعب السياسية ، ومهيمنٌ عليه ، ومتقدم عليه رتبةً ، وفاضحٌ له .. فقد بلَّغَ أبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن ربه ، وأخبركم أن المالك العظيم سبحانه قد قضى الأمر ، وجعل لأمة رسوله ولياً .. فمتى كان لكم الخيرة من أمركم حتى تختاروا زيداً أو عمراً ، بعد أن قضى الله ورسوله أمراً !!

فالحجة عليكم تامةٌ من أبي ، والآن مني ، ونعم الموعدُ القيامة ، والزعيمُ محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعند الساعة يخسر المبطلون !

* *

لقد كان إعلان غدير خمٍّ عملاً ربانياً خالداً ، بمنطق التبليغ والأعمال الرسولية .. وكانت الأعمال المقابلة له أعمالاً قويةً بمنطق الأعمال السياسية ، وفرض الأمر الواقع .. والعمل السياسي قد يغلب العمل الرسولي .. ولكنها غلبةٌ سياسيةٌ جوفاء بلا حجة ! ولو استمرت سنين ، أو قروناً ، أو الى ظهور المهدي الموعود (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

* *

ص: 238

الفصل الرابع: آية إكمال الدين

آخر ما نزل من القرآن

ليس من المبالغة القول : إن البحث الجاد في أسباب نزول آيات القرآن وسوره ، من شأنه أن يحدث تحولاً علمياً ، لأنه سيكشف العديد من الحقائق ، ويبطل بعض المسلمات التي تصور الناس لقرون طويلة أنها حقائق ثابتة !

ذلك أن الجانب الرياضي في أسباب النزول أقوى منه في موضوعات التفسير الأخرى ..

فعندما تجد خمس روايات في سبب نزول آية ، وكل واحدة منها تذكر سبباً وتاريخاً لنزولها ، وهي متناقضة في المكان أو الزمان أو الحادثة .. فلا يمكنك أن تقول كلها مقبولة وكل رواتها صحابة ، وكلهم نجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا ..

بل لابد أن يكون السبب وأحداً من هذه الأسباب ، أو من غيرها ، والباقي غير صحيح !

ولهذه الطبيعة المحددة في سبب النزول ، كانت مادة أسباب النزول مادة حاسمةً في تفسير القرآن .. وإن كانت صعوبة البحث فيها تعادل غناها ، بل قد تزيد عليه أحياناً ، لكثرة التشويش والتناقض والوضع في رواياتها !

ص: 239

ومهما يكن الأمر ، فلا بد للباحثين في تفسير القرآن وعلومه ، أن يدخلوا هذا الباب بفعاليةٍ وصبر ، ويقدموا نتائج بحوثهم الى الأمة والأجيال ، لأنها ستكون نتائج جديدة ومفيدة في فهم القرآن والسيرة ، بل في فهم العقائد والفقه والإسلام عموماً ..

وأكتفي من هذا الموضوع بهذه الإشارة لنستفيد في موضوعنا من أسباب النزول.

* *

ليس من العجيب أن يختلف المسلمون في أول آيات نزلت على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، لأنهم لم يكونوا مسلمين آنذاك .. ثم إنهم باستثناء القلة ، لم يكتبوا ما سمعوه من نبيهم في حياته ، فاختلفوا بعده في أحاديثه وسيرته.

ولهذا لا نعجب إذا وجدنا أربعة أقوال في تعيين أول ما أنزله الله تعالى من كتابه : أنه سورة إقرأ. وأنه سورة المدثر. وأنه سورة الفاتحة. وأنه البسملة .. كما في الإتقان للسيوطي : 1 / 91

ولكن العجيب اختلافهم في آخر ما نزل من القرآن ، وقد كانوا دولةً وأمةً ملتفَّةً حول نبيها ، وقد أعلن لهم نبيهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه راحلٌ عنهم عن قريب ، وحج معهم حجة الوداع ، ومرض قبل وفاته مدةً ، وودعوه وودعهم !!

فلماذا اختلفوا في آخر آيةٍ أو سورةٍ نزلت عليه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؟!!

الجواب : أن الأغراض الشخصية والسياسية لم تدخل في مسألة أول ما نزل من القرآن كما دخلت في مسألة آخر ما نزل منه .. كما سترى !!

سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن

يصل الباحث في مصادر الحديث والفقه والتفسير الى أن سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن .. وأن آية « اليوم أكملت لكم دينكم » نزلت بعد إكمال نزول جميع الفرائض .. وأن بعض الصحابة حاولوا أن يجعلوا بدل المائدة سوراً أخرى ، وبدل آية إكمال الدين ، آيات أخرى !

ص: 240

رأي أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

- قال العياشي في تفسيره : 1 / 288

عن عيسى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً ، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بآخره ، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة ، فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء. لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي ، حتى وقفت وتدلى بطنها ، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض ، وأغمي على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي ، ثم رفع ذلك عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فقرأ علينا سورة المائدة ، فعمل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعملنا. انتهى.

ويقصد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بذلك : أن المسح على القدمين في الوضوء هو الواجب ، وليس غسلهما ، لأن المسح نزل في سورة المائدة ، وعمل به النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمسلمون ولم ينسخ. ورواه في تفسير نور الثقلين : 1 / 582 و : 5 / 447

- وفي الكافي : 1 / 289

علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود ، جميعاً عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، وفرض ولاية أولي الأمر ، فلم يدروا ما هي ؟ فأمر الله محمداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يفسر لهم الولاية ، كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتخوف أن يرتدوا عن دينهم ، وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، فصدع بأمر الله تعالى ذكره ، فقام بولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يوم غدير خم ، فنادى الصلاة جامعة ، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب -

ص: 241

قال عمر بن أذنية : قالوا جميعاً غير أبي الجارود - وقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض.

- وفي تاريخ اليعقوبي : 2 / 43

وقد قيل إن آخر ما نزل عليه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، وهي الرواية الصحيحة ، الثابتة الصريحة.

مصادر السنيين الموافقة لرأي أهل البيت(عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

- الدر المنثور : 2 / 252

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن أبي ميسرة قال : آخر سورة أنزلت سورة المائدة ، وإن فيها لسبع عشرة فريضة.

- المحلى : 9 / 407

روينا من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن سورة المائدة آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها حلالاً فحللوه ، وما وجدتم فيها حراماً فحرموه. وهذه الآية في المائدة فبطل أنها منسوخة ، وصح أنها محكمة.

- المحلى : 7 / 389

فإن هذا قد عارضه ما رويناه عنها من طريق ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن جري بن كليب ، عن جبير بن نفير قال : قالت لي عائشة أم المؤمنين : هل تقرأ سورة المائدة ؟ قلت : نعم ؟ قالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها حراماً فحرموه. انتهى. ورواه أحمد في مسنده : 6 / 188 ، ورواه البيهقي في سننه : 7 / 172 عن ابن نفير ، ونحوه عن عبد الله بن عمرو. ورواه في طبقات الحنابلة : 1 / 427 ، ورواه الحاكم : 2 / 311 وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ص: 242

ثم روى عن عبد الله بن عمرو أن آخر سورة نزلت سورة المائدة وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وستعرف أنهما لم يخرجاه مراعاة لعمر حيث ادعى أن آخر ما نزل من القرآن غير المائدة.

- وفي مجمع الزوائد : 1 / 256

وعن ابن عباس أنه قال : ذكر المسح على الخفين ، وعند عمر سعدٌ وعبد الله بن عمر ، فقال عمر : سعد أفقه منك ، فقال عبد الله بن عباس : ياسعد إنا لا ننكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح ، ولكن هل مسح منذ نزلت المائدة ، فإنها أحكمت كل شيء ، وكانت آخر سورة نزلت من القرآن ، ألا تراه قال ...

فلم يتكلم أحد.

رواه الطبراني في الأوسط ، وروى ابن ماجة طرفاً منه ، وفيه عبيد بن عبيدة التمار وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : يُغرب. انتهى.

يقصد الهيثمي أن الرواية ضعيفةٌ بهذا الراوي ، الذي هو ثقة عند ابن حبان ، ولكنه يروي روايات غريبة ، أي مخالفة لمقررات المذهب الرسمي الذي يقول إن الواجب هو غسل الرجلين في الوضوء ، ويقول إن المائدة ليست آخر سورة نزلت !

- وفي الدر المنثور : 2 / 252

وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المائدة ( من ) آخر القرآن تنزيلاً ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. انتهى.

ويشك الإنسان في كلمة ( من ) التي تفردت بها هذه الرواية ، وكأن راويها أضافها للمصالحة بين الواقع وبين ما تبنته السلطة ، وجعلته مشهوراً.

- وفي تفسير التبيان : 3 / 413

وقال عبد الله بن عمر : آخر سورة نزلت المائدة.

ص: 243

- وفي الغدير : 1 / 228

ونقل ابن كثير من طريق أحمد والحاكم والنسائي عن عايشة : أن المائدة آخر سورة نزلت. انتهى.

ويتضح من مجموع ذلك أن المتسالم عليه عند عند أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن آخر ما نزل من القرآن سورة المائدة .. وأنه مؤيدٌ برواياتٍ صحيحة وكثيرة ، في مصادر إخواننا .. بل يمكن القول بأن آية « اليوم أكملت لكم دينكم » وحدها تكفي دليلاً على أنها آخر نزلت في آخر ما نزل من كتاب الله تعالى ، لأنها تنص على أن نزول الفرائض قد تمت بها ، فلا يصح القول بأنه نزل بعدها فريضة ، على أنه وردت نصوصٌ بذلك كما تقدم عن الإمام الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وكما سيأتي من رواية الطبري والبيهقي وقول السدي. وعليه ، فكل ما نزل بعدها من القرآن ، لا بد أن يكون خالياً من الفرائض والأحكام ، لأن التشريع قد تم بنزولها ، فلا حكم بعدها !

الآراء المخالفة والمتناقضة

ولكن هذا الأمر المحدد الواضح ، صار غير واضحٍ ولا محددٍ عندهم !! وكثرت فيه الروايات وتناقضت ! وزاد في الطين بلةً أن المتناقض منها صحيحٌ بمقاييسهم ! وأنها آراء صحابةٍ كبارٍ لايجرؤون على ردهم !

ولعل السيوطي استحى من كثرة الأقوال في آخر ما نزل من القرآن ، فأجملها إجمالاً ، ولم يعددها أولاً وثانياً كما عدد الأقوال الأربعة في أول ما نزل !!

ونحن نعدها باختصار ، لنرى أسباب نشأتها !

1 - أن آخر آية هي آية الربا ، وهي الآية 278 من سورة البقرة.

2 - أن آخر آية هي آية الكلالة ، أي الورثة من الأقرباء غير المباشرين ، وهي الآية 176 من سورة النساء.

3 - أن آخر آية هي آية ( واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله .. » البقرة - 281.

ص: 244

4 - أن آخر آية هي آية « لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... » التوبة - 128.

5 - أن آخر آية هي آية ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ... » الأنبياء - 25.

6 - أن آخر آية هي آية ( فمن كان يرجو لقاء ربه ... » الكهف - 110.

7 - أن آخر آية هي آية ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً ... » النساء - 93.

8 - أن آخر سورة نزلت هي سورة التوبة.

9 - أن آخر سورة نزلت هي سورة النصر.

هذا ما جاء فقط في إتقان السيوطي 1 / 101 ، وقد تبلغ أقوالهم ورواياتهم ضعف هذا العدد ، لمن يتتبع المصادر !!

كيف نشأت هذه الآراء المتناقضة

القصة التالية تعطينا ضوءً على نشأة هذا الإضطراب والضياع :

سئل الخليفة عمر ذات يوم عن تفسير آية الربا وأحكام الربا ، فلم يعرفها فقال : أنا متأسف ، لأن هذه الآية آخر آية نزلت ، وقد توفي النبي ولم يفسرها لي !

ومن يومها دخلت آيات الربا على الخط ، وشوشت على سورة المائدة ، وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين المائدة ، وبين آيات الربا !

ولكن الربا ذكر في أربع سور من القرآن : في الآيتين 275 - 276 من سورة البقرة والآية 161 من سورة النساء ، والآية 39 من الروم ، والآية 130 من آل عمران ... وبعض هذه السور مكي وبعضها مدني ! فأي آيةٍ منها قصد الخليفة ؟!

وتبرع المبررون للخليفة وقالوا إن مقصوده الآية 278 من سورة البقرة ! فصار مذهبهم أن آخر آية نزلت من القرآن وضعت في سورة البقرة ، التي نزلت في أول الهجرة ! وصار مذهبهم أن تحريم الربا تشريعٌ إضافي ، لأنه نزل بعد آية إكمال الدين! ولعلهم يتصورون أنه لا بأس بهذه المفارقة في نزول القرآن والوحي ، مادام هدفهم هدفا شرعياً صحيحاً هو الدفاع عن خليفة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ص: 245

- قال الإمام أحمد في مسنده : 1 / 36 :

عن سعيد بن المسيب قال : قال عمر (رضی الله عنه) : إن آخر ما نزل من القرآن آية الربا ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسرها ، فدعوا الربا والريبة !! ورواه في كنز العمال : 4 / 186 عن ( ش وابن راهويه حم ه وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ق في الدلائل ).

- وقال السرخسي في المبسوط : 2 / 51 و 12 / 114 :

فقد قال عمر (رضی الله عنه) : إن آية الربا آخر ما نزل ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبين لنا شأنها !

- وقال السيوطي في الإتقان : 1 / 101

وأخرج البخاري عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله ... وعند أحمد وابن ماجه عن عمر : من آخر ما نزل آية الربا. انتهى.

ولكن إضافة ( من ) في هذه الرواية لا تحل المشكلة ، كما لم تحلها في سورة المائدة ، لأن الروايات الأخرى ليس فيها ( من ) وهي نص على أن آية الربا آخر ما نزل !

قصة ثانية !

وذات يومٍ بل ذات أيام .. لم يعرف الخليفة عمر معنى الكلالة ، وتحير فيها ، واستعصى عليه فهمها ، الى آخر عمره ! فقال وقالوا عنه : إنها آخر آية نزلت ، وتوفي النبي قبل أن يبينها له ، أو بينها له بياناً ناقصاً !

- ففي البخارى : 5 / 115

عن البراء (رضی الله عنه) قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ... ونحوه في : 5 / 185

- وقال السيوطي في الإتقان : 1 / 101

فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال آخر آية نزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، وآخر سورة نزلت براءة.

ص: 246

- وفي مسند أحمد : 4 / 298

عن البراء قال : آخر سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : يستفتونك ... الى آخر السورة .... الى آخره !

ومن يومها دخلت آية الكلالة على الخط ، وشاركت في التشويش على سورة المائدة ! وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين آيات الربا والكلالة ، وبقية المائدة بما فيها آيتا العصمة من الناس ، وإكمال الدين !

وقد راجعت ما تيسر لي من مصادر إخواننا في مسألة الربا والكلالة ، فهالتني مشكلة الخليفة معهما ، خاصةً مسألة الكلالة ، حتى أنه جعلها من القضايا الهامة على مستوى قضايا الأمة الإسلامية الكبرى ، وكان يطرحها من على منبر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واستمر يطرحها كمشكلة كبرى ، حتى ساعات حياته الأخيرة ، وأوصى المسلمين بحلها ! الأمر الذي يدل على شعوره العميق بالحرج أمام المسلمين ، لعدم تمكنه من استيعابها !! ففي صحيح البخاري : 6 / 242

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة أشياء : العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل. والخمر ما خامر العقل. وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهداً : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا. انتهى. ورواه مسلم في : 2 / 81 ، بتفصيل أكثر ، وروى نحوه في : 5 / 61 و8 / 245 ، ورواه ابن ماجة في : 2 / 910 ، وقال عنه السيوطي في الدر المنثور : 2 / 249 : وأخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر عن عمر ...

ويدل هذا الصحيح المؤكد ، على أن عمر لم يسأل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الكلالة.

وقد صرح بذلك صحيح الحاكم الذي رواه في المستدرك : 2 / 303 ، فقال :

محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب(رضی الله عنه)قال : أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثٍ أحب إلي من حمر النعم : عن

ص: 247

الخليفة بعده ، وعن قوم قالوا نقرُّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك ، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.

ولكن في صحيح مسلم أن عمر سأل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عنها مرراً !!

- قال مسلم في : 5 / 61 : عن معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر أبا بكر ثم قال : إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ! ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة! وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه ، حتى طعن بإصبعه في صدري وقال : يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ؟! وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. انتهى.

يعني أنه سأل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عنها مراراً فوضحها له مراراً ، ولكنه كرر سؤاله حتى غضب عليه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعدم فهمه لشرحه إياها !

بل يدل الصحيحان التاليان على أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخبر عمر أنه سوف لن يفهم الكلالة طول عمره ، أو دعا عليه بذلك !

- ففي الدر المنثور : 2 / 250

وأخرج العدني والبزار في مسنديهما ، وأبو الشيخ في الفرائض ، بسند صحيح عن حذيفة قال : نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بحذيفة فلقاها إياه ، فنظر حذيفة فإذا عمر فلقاها إياه. فلما كان في خلافة عمر ، نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها ، فقال حذيفة : لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتك كما لقاني ، والله لا أزيدك على ذلك شيئاً أبداً. انتهى.

- وفي كنز العمال : 11 / 80 حديث 30688 عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يورث الكلالة ؟ قال : أو ليس قد بين الله ذلك ، ثم قرأ : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ... الى آخر الآية ، فكأن عمر لم يفهم !

ص: 248

فأنزل الله : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة .. الى آخر الآية ، فكأن عمر لم يفهم ! فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس ، فاسأليه عنها فقال : أبوك ذكر لك هذا ؟ ما أرى أباك يعلمها أبداً !!

فكان يقول : ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال !! وذكر في مصدره أن ابن راهويه أو ابن مردويه صححه.

- بل روى السيوطي في الدر المنثور : 2 / 249 أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد كتبها لعمر في كتف ! قال : وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن مردويه عن طاوس ، أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فسألته فأملاها عليها في كتف ، وقال : من أمرك بهذا أعمر ؟ ما أراه يقيمها ، أو ما تكفيه آية الصيف ؟!!

قال سفيان : وآية الصيف التي في النساء : وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ ... فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت الآية التي في خاتمة النساء. انتهى.

فانظر الى هذه التناقضات في أحاديث عمر والكلالة ، وكلها صحيحة !

ولاحظ أن الكلالة هي إحدى المسائل الثلاث التي قال البخاري إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يبينها للأمة ، ولا سأل عمر النبي عنها .. مع أن روايتهم الصحيحة تقول إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد كتب الكلالة لعمر في كتف !

وأما المسألة الثانية التي هي الخلافة ، فقد روى البخاري نفسه أيضاً أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دعا بدواة وكتف ليكتب للأمة الإسلامية كتاباً لا تضل بعده أبداً ، ولكن عمر أبى ذلك ..

وأما المسألة الثالثة ، وهي أبواب الربا ، فيستحيل أن لا يكون النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد بينها وشرحها للمسلمين أيضاً ، وقد يكون كتبها لعمر أو غيره في كتف أيضاً !!

دلالة هاتين القصتين

تدل هاتان القصتان على أن صحاح إخواننا فيها متناقضاتٌ لا يمكن لباحثٍ أن يقبلها جميعاً ، بل لا بد له أن يرجح بعضها ويرد بعضها.

ص: 249

وكيف يمكن لعاقلٍ أن يقبل في موضوعنا أن عمر لم يسأل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن الآية لأنها آخر آية نزلت .. وأنه سأله عنها مراراً ، حتى دفعه بإصبعه في صدره ، وغضب منه ، الخ !!

وكيف يقبل أن الكلالة آخر آية ، وآيات الربا آخر آيات .. الى آخر التناقضات التي ذكرناها ، وأكثر منها فيما لم نذكره !

وتدل القصتان على أن سلطة الخليفة عمر على السنيين بلغت حداً تستطيع معه أن تجعل ادعاءه غير المعقول معقولاً ! وأن المهم عندهم تكييف تفسير القرآن ، وأحداث نزول آياته ، وأسبابها ، وفق ما قاله الخليفة ، حتى لو تناقضت أقواله ، وحتى لو لزم من ذلك إثارة شبهة التناقض في دين الله تعالى ، وفي أفعاله تعالى !

وإذا اعترض أحدٌ على ذلك فهو رافضي ، عدوٌّ للإسلام ورسوله وصحابته !.

وتدل القصتان في موضوعنا على أن آيات الربا وإرث الكلالة ، وربما غيرهما ، حسب رأي الخليفة قد نزلت بعد آية إكمال الدين ، ومعنى ذلك أن الله تعالى قال للمسلمين : اليوم أكملت لكم دينكم ، ولكنه لم يكن أكمل أحكام الإرث والربا وأحكام القتل !!

إن من يحترم نفسه لا يمكنه أن يقبل منطقاً يجادل عن إنسان غير معصوم ليبرئه من التناقض ، حتى لو استلزم ذلك نسبة التناقض الى الله عز وجل ورسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

* *

بقية الأقوال :

لا نطيل في ذكر بقية الأقوال ، وأحاديثها الصحيحة عندهم ، بل نجملها إجمالاً :

- ففي صحيح البخارى : 5 / 182

قال سمعت سعيد بن جبير قال : آية اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت فيها الى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ( النساء - 93 ) هي آخر ما نزل ، وما نسخها شيء.

ص: 250

- وفي البخاري : 6 / 15

عن سعيد بن جبير قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت فيه الى ابن عباس فقال : نزلت في آخر ما نزل ، ولم ينخسها شيء.

- وفي الدر المنثور : 2 / 196

وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني من طريق سعيد بن جبير قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت فيها .... هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.

وأخرج أحمد ، وسعيد بن منصور ، والنسائي ، وابن ماجة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والطبراني من طريق سالم بن أبى الجعد ، عن ابن عباس ... قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟

قال : وأنى له بالتوبة ؟!.

- وفي مجموع النووي : 18 / 345

قوله تعالى : ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها .. الآية.

في صحيح البخارى ... هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. وكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الآية فقال : ما نسخها شيء. انتهى.

فهل يمكن لمسلم أن يقبل هذه الروايات ( الصحيحة ) من البخاري أو غيره ، ومن ابن عباس أو غيره ، ويلتزم بأن تحريم قتل المؤمن تشريع إضافي في الإسلام ، نزل بعد آية إكمال الدين !

* *

ص: 251

- وفي مستدرك الحاكم : 2 / 338

عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب (رضی الله عنه) قال : آخر ما نزل من القرآن : لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم. حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وهذه الرواية ( الصحيحة ) على شرط الشيخين تقصد الآيتين 128 - 129 ، من سورة التوبة.

- وفي الدر المنثور : 3 / 295

وأخرج ابن أبي شيبة ، واسحق بن راهويه ، وابن منيع في مسنده ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، من طريق يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ أن آخر ما نزل من القرآن - لقد جاءكم رسول من أنفسكم الى آخر .. الآية.

* وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مروديه ، عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول : إن أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان : لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. الى آخر السورة.

- الدر المنثور : 3 / 295

واخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند ، وابن الضريس في فضائله ، وابن أبي دؤاد في المصاحف : وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والخطيب في تلخيص المتشابه ، والضياء في المختارة ، من طريق أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر ، فكان رجال يكتبون ويمل عليهم أبي بن كعب ، حتى انتهوا الى هذه الآية من سورة براءة : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ... قوم لا يفقهون ، فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن ، فقال أبي بن كعب : إن النبى صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين : لقد

ص: 252

جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم ، فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. فهذا آخر ما نزل من القرآن. قال فختم الأمر بما فتح به بلا إله إلا الله ، يقول الله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحي اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

وأخرج ابن أبي دؤاد في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال : من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان ، فقتل وهو يجمع ذلك اليه.

فقام عثمان بن عفان فقال : من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد به شاهدان ، فجاء خزيمة بن ثابت فقال : إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما !

فقالوا : ما هما ؟

قال : تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم .. الى آخر السورة.

فقال عثمان : وأنا أشهد أنهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما ؟

قال : إختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بهما براءة. انتهى.

وشبيه به في سنن أبي داود : 1 / 182 ، وقد بحثنا هذه الروايات في كتاب تدوين القرآن.

* *

- وفي صحيح مسلم : 8 / 243

عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قال لي ابن عباس : تعلم - وقال هارون تدري - آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً ؟

ص: 253

قلت نعم ، إذا جاء نصر الله والفتح. قال : صدقت.

وفي رواية ابن أبي شيبة : تعلم أي سورة ، ولم يقل آخر.

- وفي سنن الترمذي : 4 / 326

وقد روي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة أنزلت : إذ جاء نصر الله والفتح.

- وفي الغدير : 1 / 228 : وروى ابن كثير في تفسيره : 2 / 2

عن عبد الله بن عمر أن آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ( يعني النصر ).

- وفي الدر المنثور : 6 / 407

وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله : إذا جاء نصر الله والفتح ، قال : علمٌ وحدٌّ حده الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ونعى اليه نفسه ، إنك لا تبقى بعد فتح مكة إلا قليلا.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس قال : آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً : إذا جاء نصر الله والفتح.

* *

- وفي المجعم الكبير للطبرانى : 12 / 19

عن ابن عباس قال : آخر آية أنزلت : واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله. انتهى. وهي الآية 281 من سورة البقرة !

* *

ونذكر في آخر ادعاءاتهم في آخر آيةٍ من القرآن : أن معاوية بن أبي سفيان أدلى بدلوه في هذا الموضوع ، ونفى على المنبر أن تكون آية « اليوم أكملت لكم دينكم .. » آخر ما نزل ، وأفتى للمسلمين بأن آخر آيةٍ نزلت هي الآية 110 من سورة الكهف ، وأنها وكانت تأديباً من الله لنبيه !! ففي المعجم الكبير للطبراني : 19 / 392 :

عمرو بن قيس أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر نزع بهذه الآية : اليوم

ص: 254

أكملت لكم دينكم .. قال : نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ، ثم تلا هذه الآية : فمن كان يرجو لقاء ربه ... وقال : إنها آخر آية نزلت .... تأديباً لرسول الله .. انتهى.

وقد التفت السيوطي الى أن كيل التناقض قد طفح لإبعاد آية إكمال الدين عن ختم القرآن ، وحجة الوداع ، وغدير خم .. فاستشكل في قبول قول معاوية وعمر ! ولكنه مرَّ بذلك مروراً سريعاً ، على عادتهم في التغطية والتستر والروغان !

قال في الإتقان : 1 / 102

من المشكل على ما تقدم قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ، فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها. وقد صرح بذلك جماعة منهم السدي ، فقال : لم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ ، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعدها !

وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم الدين بإفرادهم بالبلد الحرام ، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون ، لا يخالطهم المشركون ! انتهى.

ومعنى كلام ابن جرير الطبري الذي ارتضاه السيوطي : أن حل التناقض في كلام الصحابة بأن نقبله ونبعد إكمال الدين وإتمام النعمة عن التشريع وتنزيل الأحكام والفرائض ، ونحصره بتحرير مكة فقط ، حتى تسلم لنا أحاديث عمر عن الكلالة والربا وحديث معاوية في آخر آية في ( تأديب النبي ) !!

إنها فتوى تتكرر أمامك من العلماء السنيين بوجوب قبول كلام الصحابة - ما عدا أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - حتى لو استلزم ذلك تفريغ آيات الله تعالى وأحاديث رسوله من معانيها ! فهم عملياً يعطون الصحابة درجة العصمة ، بل يعطونهم حق النقض على كلام الله تعالى وكلام رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، لأنهم يجعلون كلامهم حاكماً عليه !

ثم يفرضون عليك أن تقبل ذلك وتغمض عينيك ، وتصمَّ سمعك عن صراخ ضحاياهم من الآيات الظاهرة والأحاديث الصحيحة !!

ص: 255

ونتيجة هذا المنطق : أن آية اليوم أكملت لكم دينكم ليست آخر آية ، ولا سورتها آخر سورة ، ولا معناها أكملت لكم الفرائض والأحكام ، بل أكملت لكم فتح مكة !

وأن معنى ( اليوم ) في الآية ليس يوم نزول الآية ، بل قبل سنتين من حجة الوداع !

وسوف تعرف أن الخليفة عمر أقر في جواب اليهودي بأن معنى اليوم في الآية : يوم نزولها ، وليس يوم فتح مكة ! بل قال القرطبي إن اليوم هنا بمعنى الساعة التي نزلت فيها الآية ، كما سيأتي.

نص الآية الكريمة

يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً ، وإذا حللتم فاصطادوا ، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب.

حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ، وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ، ذلكم فسق ، اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون - اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا - فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم. المائدة 2 - 3

* *

آية إكمال الدين واللحوم المحرمة

أول ما يواجه الباحث في آية إكمال الدين غرابة مكانها في القرآن ، فظاهر ما رواه المحدثون والمفسرون عنها ، أنها نزلت في حجة الوداع آية مستقلة لا جزء آية .. ثم يجدها في القرآن جزءً من آية اللحوم المحرمة ، وكأنها حشرت حشراً في وسطها ، بحيث لو رفعنا آية إكمال الدين منها لما نقص من معناها شيء ، بل لاتصل السياق !!

ص: 256

فما هي الحكمة من هذا السياق ؟ وهل كان هذا موضعها الأصلي من القرآن ، أم وضعت هنا باجتهاد بعض الصحابة ؟!

نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى ، معاذ الله ، لكن نتساءل عسى أن يعرف أحد الجواب : ما هو ربط آية إكمال الدين باللحوم المحرمة ؟

ألا يحتمل أن تكون بالأساس في خاتمة سورة المائدة مثلاً ، ولم يلتفت الى ذلك الذين جمعوا القرآن ، فوضعوها هنا.

ثم .. قد يقبل الإنسان أن تكون الآية نزلت بعد آيات بيان أحكام اللحوم ، ولكن كيف يمكن أن ينزلها الله تعالى في وسط أحكام اللحوم ! فإذا قال الله تعالى : أكملت لكم دينكم ، فقد تمت الأحكام ، فكيف يقول بعدها مباشرة : فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإن الله غفور رحيم ؟! ثم يقول بعدها مباشرة : يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لكم الطيبات وما علمتم ... الى آخر أحكام الدين الذي قال عنه أحكم الحكماء سبحانه قبل لحظات : إنه قد أكمله وأتمه ؟!!

- قال في الدر المنثور : 2 / 259 :

وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : اليوم أكملت لكم دينكم قال : هذا نزل يوم عرفة ، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلالٌ. انتهى.

- وقال في : 2 / 257

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس .... فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله : اليوم أكملت لكم دينكم ، يقول حلالكم وحرامكم ، فلم ينزل بعد هذا حلالٌ ولا حرامٌ. انتهى.

والأحاديث والأقوال في عدم نزول أحكام بعد الآية كثيرة ، وقد مر بعضها ، ولا تحتاج الى استقصائها بعد أن كان ذلك يفهم من الآية نفسها .. ويؤيده ما ذكره اللغويون في معنى الكمال والتمام

ص: 257

- قال الزبيدي في تاج العروس : 8 / 103 :

( الكمال : التمام ) وهما مترادفان كما وقع في الصحاح وغيره ، وقد فرق بينهما بعض أرباب المعاني ، وأوضحوا الكلام في قوله تعالى اليوم : أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، وبسطه في العناية ، وأوسع الكلام فيه البهاء السبكي في عروس الأفراح. وقيل : التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه كما سيأتي ، وفيه ثلاث لغات ( كمل كنصر وكرم وعلم ) قال الجوهري والكسر أردؤها ، وزاد ابن عباد : كمل يكمل مثل ضرب يضرب ، نقله الصاغاني ( كمالاً وكمولاً فهو كامل وكميل ) جاؤوا به على كمل.

وقال في ص 212 : ( وتمام الشيء وتمامته وتتمته ما يتم به ) وقال الفارسي : تمام الشيء ماتم به بالفتح لا غير يحكيه عن أبي زيد. وتتمة كل شيء ما يكون تمام غايته ، كقولك هذه الدراهم تمام هذه المائة ، وتتمة هذه المائة.

قال شيخنا : وقد سبق في كمل أن التمام والكمال مترادفان عند المصنف وغيره ، وأن جماعة يفرقون بينهما بما أشرنا اليه. وزعم العيني أن بينهما فرقا ظاهراً ولم يفصح عنه.

وقال جماعة : التمام الإتيان بما نقص من الناقص ، والكمال الزيادة على التمام ، فلا يفهم السامع عربياً أو غيره من رجل تام الخلق إلا أنه لا نقص في أعضائه ، ويفهم من كامل ، وخصه بمعنى زائد على التمام كالحسن والفضل الذاتي أو العرضي. فالكمال تمامٌ وزيادة ، فهو أخص.

وقد يطلق كل على الآخر تجوزاً ، وعليه قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. كذا في كتاب التوكيد لابن أبي الإصبع.

وقيل التمام يستدعي سبق نقص ، بخلاف الكمال. وقيل غير ذلك ، مما حرره البهاء السبكي في عروس الأفراح ، وابن الزملكاني في شرح التبيان ، وغير واحد.

ص: 258

قلت وقال الحراني : الكمال : الإنتهاء الى غاية ليس وراءها مزيد من كل وجه. وقال ابن الكمال : كمال الشيء : حصول ما فيه الغرض منه ، فإذا قيل كمل فمعناه حصل ما هو الغرض منه. انتهى.

وبعد السؤال عن مكان الآية يواجهنا السؤال عن معناها ، وسبب نزولها .. وفي ذلك ثلاثة أقوال :

القول الأول

قول أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة في الجحفة ، في رجوع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من حجة الوداع ، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم ، قبل أن تتشعب بهم الطرق ، ويبلغهم ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده ، فأوقفهم وخطب فيهم وبلغهم ما أمره به ربه. وهذه نماذج من أحاديثهم :

فقد تقدم ما رواه الكليني في الكافي : 1 / 289

عن الإمام محمد الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفيه ( وقال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى ، وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، قال أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض.

- وعن علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن هارون بن خارجة ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : كنت عنده جالساً فقال له رجل : حدثني عن ولاية علي ، أمن الله أو من رسوله ؟

فغضب ثم قال : ويحك كان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أخوف ( لله ) من أن يقول ما لم يأمره به الله !! بل افترضه الله ، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.

- وفي الكافي : 1 / 198

أبو محمد القاسم بن العلاء (رحمه الله) رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنا مع الرضا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بمرو ، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا ، فأداروا أمر

ص: 259

الامامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ثم قال :

يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم ، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً ، فقال عز وجل : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.

وأمر الامامة من تمام الدين ، ولم يمض (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى بين لأمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم ، وتركهم على قصد سبيل الحق ، وأقام لهم علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) علماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ، ومن رد كتاب الله فهو كافر به.

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة ، فيجوز فيها اختيارهم ؟!

إن الامامة أجل قدراً ، وأعظم شأناً ، وأعلى مكاناً ، وأمنع جانباً ، وأبعد غوراً ، من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم.

إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد النبوة والخلة ، مرتبةً ثالثة ، وفضيلة شرفه بها ، وأشاد بها ذكره فقال : إني جاعلك للناس إماماً ، فقال الخليل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سروراً بها : ومن ذريتي ؟ قال الله تبارك وتعالى : لا ينال عهدي الظالمين. فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم الى يوم القيامة ، وصارت في الصفوة.

ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة ، فقال : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاًّ جعلنا صالحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين.

فلم تزل في ذريته ، يرثها بعض عن بعض ، قرناً فقرناً ، حتى ورثها الله تعالى النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال جل وتعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين

ص: 260

آمنوا والله ولي المؤمنين ، فكانت له خاصة فقلدها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان ، بقوله تعالى : قال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث ، فهي في ولد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خاصة الى يوم القيامة ، إذ لا نبي بعد محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فمن أين يختار هؤلاء الجهال !. انتهى.

القول الثاني

قول المفسرين السنيين الموافق لقول أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) :

وأحاديثهم في بيعة الغدير تبلغ المئات ، وفيها صحاح من الدرجة الأولى عندهم وقد جمعها عددٌ من علمائهم القدماء منهم الطبري المؤرخ في كتابه ( الولاية ) فبلغت طرقها ونصوصها عنده مجلدين ، وتنص رواياتها على أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أصعد علياً معه على المنبر ، ورفع يده حتى بان بياض إبطيهما ، وبلغ الأمة ما أمره الله فيه ... الخ. وقد انتقد الطبري بعض المتعصبين السنيين لتأليفه هذه الكتاب في أحاديث الغدير ، التي يحتج بها الشيعة عليهم ، ويجادلوهم بها عند ربهم !

وتنص بعض روايات الغدير عندهم على أن آية إكمال الدين نزلت في الجحفة يوم الغدير بعد إبلاغ النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

لكن ينبغي الاِلتفات الى أن أكثر السنيين الذين صحت عندهم روايات الغدير ، لم يقبلوا الأحاديث القائلة بأن آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير ، بل أخذوا بقول الخليفة عمر ومعاوية ، أنها نزلت يوم عرفة ، كما سيأتي.

وقد جمع أحاديث بيعة الغدير عدد من علماء الشيعة القدماء والمتأخرين ، ومن أشهر المتأخرين النقوي الهندي في كتاب عبقات الأنوار ، والشيخ الأميني في كتاب الغدير ، والسيد المرعشي في كتاب شرح إحقاق الحق ، والسيد الميلاني في كتاب نفحات الأزهار.

ص: 261

وقد أورد صاحب الغدير عدداً من الروايات من مصادر السنيين ، ذكرت أن آية إكمال الدين نزلت في يوم الغدير ، بعد إعلان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ..

- وهذه خلاصة ما ذكره في الغدير : 1 / 230 :

ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أميرالمؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .... ثم ذكر الأميني (رحمه الله) عدداً من المصادر التي روتها ، نذكر منها :

1 - الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 روى في كتاب الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ...

2 - الحافظ ابن مردويه الأصفهاني المتوفى 410 ، روى من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ... ثم رواه عن أبي هريرة ...

3 - الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى 430 ، روى في كتابه ( ما نزل من القرآن في علي ) ... عن أبي سعيد الخدري (رضی الله عنه) : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس الى علي في غدير خم ، أمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما ، حتى نظر الناس الى بياض إبطي رسول الله ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم .. الآية .. الخ.

4 - الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي المتوفى 463 ، روى في تاريخه 8 / 290 ... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ... قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخٍ بخٍ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله : اليوم أكملت لكم دينكم .. الآية.

5 - الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477 ، في كتاب الولاية بإسناده عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي ، عن قيس بن الربيع ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري ...

6 - أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى 483 ، روى في مناقبه عن أبي بكر

ص: 262

أحمد بن محمد بن طاوان قال : أخبرنا أبوالحسين أحمد بن الحسين بن السماك قال : حدثني أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير الخلدي ، حدثني علي بن سعيد بن قتيبة الرملي ، قال : .. عن أبي هريرة ....

7 - الحافظ أبو القاسم الحاكم الحسكاني .... عن أبي سعيد الخدري : إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم ، قال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي.

8 - الحافظ أبو القاسم بن عساكر الشافعي الدمشقي المتوفى 571 ، روى الحديث المذكور بطريق ابن مردويه ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، كما في الدر المنثور 2 / 259.

9 - أخطب الخطباء الخوارزمي المتوفى 568 ، قال في المناقب / 80 .... عن أبي سعيد الخدري إنه قال : إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم دعا الناس إلي غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ثم دعا الناس الى علي ، فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس الى إبطيه ، حتى نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم .. الآية ...

وروى في المناقب / 94 .... عن ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الوارق. الى آخر ما مر عن الخطيب البغدادي سندآ ومتناً.

10 - أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية ، عن أبي سعيد الخدري بلفظ مر / 43 ، وعن الخدري وجابر الأنصاري ...

11 - أبو حامد سعد الدين الصالحاني ، قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلايل على ترجيح الفضايل : وبالإسناد المذكور عن مجاهد (رضی الله عنه) قال : نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم ، بغدير خم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعلي. رواه الصالحاني.

ص: 263

12 - شيخ الإسلام الحمويني الحنفي المتوفى 722 ، روى في فرايد السمطين في الباب الثاني عشر ، قال : أنبأني الشيخ تاج الدين ... الخ. انتهى.

القول الثالث

قول الخليفة عمر بأنها نزلت في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة ، وهذا هو القول المشهور عند السنيين فقد رواه البخارى في صحيحه : 1 / 16

عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب (رضی الله عنه) أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا !! قال أي آية ؟ قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا. قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قائمٌ بعرفة ، يوم جمعة.

- وفي البخاري 5 / 127

عن طارق بن شهاب إن أناساً من اليهود قالوا : لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، فقال عمر : أية آيةٍ ؟

فقالوا : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.

فقال عمر : إني لا علم أي مكان أنزلت ، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة ...

عن طارق بن شهاب : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً !

فقال عمر : إني لاَعلم حيث أنزلت وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت. يوم عرفة وأنا والله بعرفة - قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة ، أم لا - اليوم أكملت لكم دينكم.

ص: 264

وفي البخاري : 8 / 137 :

عن طارق بن شهاب قال : قال رجل من اليهود لعمر : يا أمير المؤمنين لو أن علينا نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .. لاتخذنا ذلك اليوم عيداً !

فقال عمر : إني لاعلم أي يوم نزلت هذه الآية ، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة. سمع سفيان من مسعر ، ومسعر قيساً ، وقيس طارقاً. انتهى.

وقد روت عامة مصادر السنيين رواية البخاري هذه ونحوها بطرقٍ متعددة ، وأخذ بها أكثر علمائهم ، ولم يديروا بالاً لتشكيك بعضهم في أن يكون يوم عرفة في حجة الوداع يوم جمعة ، مثل سفيان الثوري والنسائي ! ولا لرواياتهم المؤيدة لرأي أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، التي تقدمت .. وذلك بسبب أن الخليفة عمر قال إنها لم تنزل يوم الغدير بل نزلت في عرفات قبل الغدير بتسعة أيام ، وقوله مقدم عندهم على كل اعتبار.

- قال السيوطي في الاِتقان 1 / 75 عن الآيات التي نزلت في السفر :

منها : اليوم أكملت لكم دينكم. في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ، وله طرقٌ كثيرة.

لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت يوم غدير خم.

وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه : أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع. وكلاهما لا يصح. انتهى.

وقال في الدر المنثور : 2 / 259

أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر بسند ضعيف ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم ، فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم.

وأخرج ابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر بسند ضعيف عن أبي هريرة قال : لما كان غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فأنزل الله : اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.

ص: 265

وموقف السيوطي هو الموقف العام للعلماء السنيين .. ولكنه لا يعني أنهم يضعفون حديث الغدير كما تقدم ، بل يقولون إن حديث الغدير صحيحٌ ، ولكن الآية نزلت قبل ذلك اليوم ، تمسكاً بقول الخليفة عمر الذي روته صحاحهم ، حتى لو خالفه حديثٌ صحيحٌ ، وحتى لو خالفه الحساب والتاريخ !

ومن المتعصبين لرأي عمر المذكور : ابن كثير ، وهذه خلاصة من تفسيره : 2 / 14 :

قال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ. وقال ابن جرير وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً ، رواهما ابن جرير.

ثم ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال :

قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا : اليوم أكملت لكم دينكم الآية.

وشك سفيان (رحمه الله) إن كان في الرواية فهو تورُّعٌ ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري (رحمه الله) فإن هذا أمر معلومٌ مقطوعٌ به ، لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة ، لا يشك في صحتها ، والله أعلم. وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر.

وقال ابن جرير ... عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال : قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه !!

فقال عمر : أي آيةٍ يا كعب ؟

فقال : اليوم أكملت لكم دينكم.

فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه ، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ .... ( ورواه في مختصر تاريخ دمشق 2 جزء 4 / 309 )

ص: 266

وقال ابن جرير : .... حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة ...

وقال ابن جرير : وقد قيل ليس ذلك بيومٍ معلومٍ عند الناس !!

ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : اليوم أكملت لكم دينكم يقول ليس بيومٍ معلومٍ عند الناس. قال : وقد قيل إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ( الى ) حجة الوداع.

ثم قال ابن كثير :

قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم ، حين قال لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه. ثم رواه عن أبي هريرة ، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، يعني مرجعه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من حجة الوداع.

ولا يصح لا هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ، أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب (رضی الله عنه) ، وأرسله الشعبي ، وقتادة بن دعامة ، وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الاَئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري (رحمه الله). انتهى.

وتلاحظ أن ابن كثير لا يريد الإعتراف بوجود تشكيكٍ في أن يوم عرفة كان يوم جمعة ، لأن ذلك يخالف قول عمر ، وقد صعب عليه تشكيك سفيان الثوري الصريح فالتفَّ عليه ليخربه !!

ومما يدل على أن الرواة كانوا في شكٍّ من أن يوم عرفات كن يوم جمعة ما رواه الطبري في تفسيره : 4 / 111 مما لم يذكره ابن كثير قال :

ص: 267

حدثنا ابن المثنى قال : ثنا عبد الوهاب قال : ثنا داود قال قلت لعامر : إن اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟!

فقال عامر : أو ما حفظته ؟

قلت له : فأي يوم ؟

قال : يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة !!

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ، أعني قوله : اليوم أكملت لكم دينكم يوم الإثنين ، وقالوا : أنزلت سورة المائدة بالمدينة.

ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى قال : ثنا إسحاق قال : أخبرنا محمد بن حرب قال : ثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش عن ابن عباس : ولد نبيكم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم الإثنين ، وخرج من مكة يوم الإثنين ، ودخل المدينة يوم الإثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الإثنين : اليوم أكملت لكم دينكم ، ورفع الذكر يوم الإثنين.

ثم قال الطبري : وأولى الاَقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده وهي أسانيد غيره. انتهى.

الموقف العلمي في سبب نزول الآية

بإمكان الباحث أن يفتش عن الحقيقة في سبب نزول الآية في أحاديث حجة الوداع ، لأن هذا الوداع الرسولي المهيب قد تم بإعلانٍ ربانيٍّ مسبق ، وإعدادٍ نبوي واسع .. وقد حضره ما بين سبعين ألفاً الى مئة وعشرين ألفاً من المسلمين ، ونقلوا العديد من من أحداث حجة الوداع ، وأقوال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأفعاله فيها ، بشيء من التفصيل ، ورووا أنه خطب في أثنائها خمس خطب أو أكثر .. وسجلوا يوم حركته من المدينة ، والأماكن التي مر عليها أو توقف فيها ، ومتى دخل مكة ، ومتى وكيف أدى المناسك .. ثم رووا حركة رجوعه وما صادفه فيها .. الى أن دخل الى المدينة المنورة وعاش فيها نحو شهرين بقية عمره الشريف (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ص: 268

وعلى هذا ، فإن عنصر التوقيت والتاريخ حاسمٌ في المسألة ، وهو الذي يجب أن يكون مرجحاً للرأي الصحيح من الرأيين المتعارضين.

وعنصر التوقيت هنا يرجح قول أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) والروايات السنية الموافقة لهم ، مضافاً الى المرجحات الأخرى المنطقية ، التي تنضم اليه كما يلي :

أولاً : أن التعارض هنا ليس بين حديثين أحدهما أصح سنداً وأكثر طرقاً كما توهموا .. بل هو تعارض بين حديث عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبين قولٍ للخليفة عمر.

فإن الأحاديث التي ضعفوها هي أحاديث نبوية مسندة ، بينما أحاديث البخاري وغيره هي قول لعمر ، لم يسنده الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

فالباحث السني لا يكفيه أن يستدل بقول عمر في سبب نزول القرآن ، ويردَّ به الحديث النبوي المتضمن سبب النزول ، بل لا بد له أن يبحث في سند الحديث ونصه ، فإن صح عنده فعليه أن يأخذ به ويترك قول عمر .. وإن لم يصح رجع الى أقوال الصحابة المتعارضة ، وجمع بين الموثوق منها أِن أمكن الجمع ، وإلا رجح بعضها وأخذ به ، وترك الباقي .. ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الأسف !

ثانياً : لو تنزلنا وقلنا إن أحاديث أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في سبب نزول الآية والأحاديث السنية المؤيدة لها ليست أكثر من رأي لأهل البيت ومن أيدهم في ذلك ، وأن التعارض يصير بين قولين لصحابيين في سبب النزول ، أو بين قول صحابي وقول بعض أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

فنقول : إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أوصى أمته بأخذ الدين من أهل بيته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ولم يوصها بأخذه من أصحابه .. وذلك في حديث الثقلين الصحيح المتواتر عند الجميع ، وهو كما في مسند أحمد : 3 / 14 : عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني تاركٌ فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. انتهى.

ص: 269

ورواه أيضاً في : 3 / 17 - 26 و59 ، و : 4 / 366 ، و371 ، والدارمي : 2 / 431 ، ومسلم 7 / 122 ، والحاكم ، وصححه على شرط الشيخين وغيرهما في : 3 / 109 و 148 ، والبيهقي في سننه : 2 / 148 ، وغيرهم.

وهذا الحديث الصحيح بدرجة عالية يدل على حصر مصدر الدين بعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأهل بيته صلى الله عليه وعليهم ، أو يدل على الأقل على ترجيح قولهم عند تعارضه مع قول غيرهم !

ثالثاً : أن الرواية عن الخليفة عمر نفسه متعارضة ، وتعارضها يوجب التوقف في الأخذ بها ، فقد رووا عنه أن يوم عرفة في حجة الوداع كان يوم خميس ، وليس يوم جمعة. قال النسائي في سننه : 5 / 251 :

أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال : أنبأنا عبد الله بن إدريس ، عن أبيه ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال يهودي لعمر : لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذناه عيداً : اليوم أكملت لكم دينكم.

قال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والليلة التي أنزلت ، ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات !

والطريف أن النسائي روى عن عمر في : 8 / 114 ، أنها نزلت في عرفات في يوم جمعة !

رابعاً : تقدم قول البخاري في روايته أن سفيان الثوري وهو من أئمة الحديث والعقيدة عندهم ، لم يوافق على أن يوم عرفة كان يوم جمعة ( قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا .. ) وهناك عددٌ من الروايات تؤيد شك سفيان ، بل يظهر أن سفياناً كان قاطعاً بأن يوم عرفة في حجة الوداع لم يكن يوم جمعة ، وإنما قال ( أشك ) مداراةً لجماعة عمر ، الذين رتبوا كل الروايات لاَحداث حجة الوداع ، بل وأحداث التاريخ الإسلامي كلها .. على أساس أن يوم عرفات كان يوم جمعة ، كما ستعرف.

خامساً : أن عيد المسلمين هو يوم الأضحى ، وليس يوم عرفة ، ولم أجد روايةً

ص: 270

تدل على أن يوم عرفة عيدٌ شرعي ، فالقول بذلك مما تفرد به الخليفة عمر ، ولم يوافقه عليه أحدٌ من المسلمين ! وهو عند السلفيين يدخل في باب البدعة !

أما إذا أخذنا برواية النسائي القائلة إن عرفة كان يوم خميس ، وأن الآية نزلت ليلة عرفة .. فلا يبقى عيدٌ حتى يصطدم به العيد النازل من السماء ، ولا يحتاج الأمر الى قانون إدغام الأعياد الإلهية المتصادمة ، كما ادعى الخليفة !.

فيكون معنى جواب الخليفة على هذه الرواية أن يوم نزول آية إكمال الدين يستحق أن يكون عيداً ، ولكن آيته نزلت قبل العيد بيومين ، فلم نتخذ يومها عيداً !

وهذا كلام متهافت !

سادساً : أن قول عمر يناقض ما رووه عن عمر نفسه بسندٍ صحيحٍ أيضاً .. فقد فهم هذا اليهودي من الآية أن الله تعالى قد أكمل تنزيل الإسلام وختمه في يوم نزول الآية ، وقبل عمر منه هذا التفسير .. فلا بد أن يكون نزولها بعد نزول جميع الفرائض ، فيصح على رأيه ما قاله أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وما قاله السدي وابن عباس وغيرهما من أنه لم تنزل بعدها فريضةٌ ولا حكم.

مع أن الخليفة عمر قال إن آية إكمال الدين نزلت قبل آيات الكلالة ، وأحكام الإرث ، وغيرها ، كما تقدم .. فوجب على مذهبه أن يقول لليهودي : ليس معنى الآية كما ظننت ، بل كان بقي من الدين عدة أحكامٍ وشرائع نزلت بعدها ، وذلك اليوم هو الجدير بأن يكون عيداً !

وعندما تتعارض الروايات عن شخصٍ واحد وتتناقض ، فلا بد من التوقف فيها جميعاً ، وتجميد كل روايات عمر في آخر ما نزل من القرآن ، وفي وقت نزول آية إكمال الدين !

ومن جهة أخرى ، فقد أقر الخليفة أن ( اليوم ) في الآية هو اليوم المعين الذي نزلت فيه ، وليس وقتاً مجملاً ولا يوماً مضى قبل سنة كفتح مكة ، أو يأتي بعد شهور

ص: 271

مثلاً. فهو يستوجب رد قول الطبري الذي تعمد اختياره ليوافق عمر ، ويستوجب رد كل الروايات التي تريد تعويم كلمة ( اليوم ) في الآية ، أو تريد جعله يوم فتح مكة.

قال القرطبي في تفسيره : 1 / 143

وقد يطلق اليوم على الساعة منه قال الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم.

وقال في : 2 / 61

واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه ، وكذلك عن الشهر ببعضه تقول : فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا ، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة ، وذلك مستعملٌ في لسان العرب والعجم.

سابعاً : أن جواب الخليفة لليهودي غير مقنعٍ لا لليهودي ولا للمسلم !

فإن كان يقصد الإعتذار بأن نزولها صادف يوم عيد ، ولذلك لم نتخذ يومها عيداً !

فيمكن لليهودي أن يجيبه : لماذا خرَّب عليكم ربكم هذا العيد وأنزله في ذلك اليوم ؟!

وإن كان يقصد إدغام عيد إكمال الدين بعيد عرفة ، حتى صار جزءً منه !

فمن حق سائلٍ أن يسأل : هذا يعني أنكم جعلتم يوم نزولها نصف عيد ، مشتركاً مع عرفة .. فأين هذا العيد الذي لا يوجد له أثر عندكم ، إلا عند الشيعة ؟!

وإن كان يقصد أن هذا اليوم الشريف والعيد العظيم ، قد صادف يوم جمعة ويوم عرفة ، فأدغم فيهما وذاب ، أو أكلاه وانتهى الأمر !

فكيف أنزل الله تعالى هذا العيد على عيدين ، وهو يعلم أنهما سيأكلانه !

فهل تعمد الله تعالى تذويب هذا العيد ، أم أنه نسي والعياذ بالله فأنزل عيداً في يوم عيد ، فتدارك المسلمون الأمر بقرار الدمج والإدغام ، أو التنصيف !!

ثم من الذي اتخذ قرار الإدغام ؟ ومن الذي يحق له أن يدغم عيداً إلهياً في عيد آخر ، أو يطعم عيداً ربانياً لعيد آخر !

ص: 272

ومابال الأمة الإسلامية لم يكن عندها خبر من حادثة اصطدام الأعياد الربانية في عرفات ، حتى جاء هذا اليهودي في خلافة عمر ونبههم ! فأخبره الخليفة عمر بأنه يوافقه على كل ما يقوله ، وأخبره وأخبر المسلمين بقصة تصادم الأعياد الإلهية في عرفات ! وأن الحكم الشرعي في هذا التصادم هو الإدغام لمصلحة العيد السابق ، أو إطعام العيد اللاحق للسابق !

وهل هذه الأحكام للأعياد أحكامٌ إسلامية ربانية ، أم استحسانية شبيهاً بقانون تصادم السيارات ، أو قانون تصادم الأعياد الوطنية والدينية ؟!!

إن المشكلة التي طرحها اليهودي ، ما زالت قائمة عند الخليفة وأتباعه ، لأن الخليفة لم يقدم لها حلاً .. وكل الذي قدمه أنه اعترف بها وأقرها ، ثم رتب عليها أحكاماً لا يمكن قبولها ، ولم يقل إنه سمعها من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

فقد اعترف خليفة المسلمين بأن يوم نزول الآية يوم عظيمٌ ومهمٌ بالنسبة الى المسلمين ، لأنه يوم مصيري وتاريخي أكمل الله فيه تنزيل الإسلام ، وأتمَّ فيه النعمة على أمته ، ورضيه لهم ديناً يدينونه به ، ويسيرون عليه ، ويدعون الأمم اليه.

وأن هذا اليوم العظيم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الإسلامية تحتفل فيه وتجتمع فيه ، في صف أعيادها الشرعية الثلاث : الفطر والأضحى والجمعة ، وأنه لو كان عند أمة أخرى يوم مثله ، لأعلنته عيداً ربانياً ، وكان من حقها ذلك شرعاً ..

لقد وافق الخليفة محاوره اليهودي على كل هذا ، وبذلك يكون عيد إكمال الدين في فقه إخواننا عيداً شرعياً سنوياً ، يضاف الى عيدي الفطر والأضحى السنويين وعيد الجمعة الأسبوعي.

إن الناظر في المسألة يلمس أن الخليفة عمر وقع في ورطة ( آية علي بن أبي طالب ) من ناحيتين : فهو من ناحية ناقض نفسه في آخر ما نزل من القرآن .. ومن ناحية فتح على نفسه المطالبة بعيد الآية الى يوم القيامة !! وصار من حق المسلم أن يسأل أتباع عمر من الفقهاء عن هذا العيد الذي لا يرى له عيناً ولا أثراً ولا اسماً في تاريخ المسلمين ، ولا في حياتهم ، ولا في مصادرهم .. إلا .. عند الشيعة !

ص: 273

ثم .. إن الأعياد الإسلامية توقيفية ، فلا يجوز لأحد أن يشرع عيداً من نفسه .. وحجة الشيعة في جعل يوم الغدير عيداً ، أن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وشيعتهم رووا عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يوم الآية أي يوم الغدير عيدٌ شرعي ، وأن جبرئيل أخبره بأن الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) كانوا يأمرون أممهم أن تتخذ يوم نصب الوصي عيداً.

فما هي حجة الخليفة في تأييد كلام اليهودي ، وموافقته له بأن ذلك اليوم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة الإسلامية ! ثم أخذ يعتذر له بأن مصادفة نزولها في عيدين أوجبت عدم إفراد المسلمين ليومها بعيد .. الخ.

فإن كان الخليفة حكم من عند نفسه بأن يوم الآية يستحق أن يكون عيداً ، فهو تشريع وبدعة ، وإن كان سمعه من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فلماذا لم يذكره ، ولم يرو أحدٌ من المسلمين شيئاً عن عيد الآية ، إلا ما رواه الشيعة ؟!

ثامناً : لو كان يوم عرفة يوم جمعة كما قال عمر في بعض أقواله ، لصلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالمسلمين صلاة الجمعة ، مع أن أحداً لم يرو أنه صلى الجمعة في عرفات ، بل روى النسائي وغيره أنه قد صلى الظهر والعصر !

والظاهر أن النسائي يوافق سفيان الثوري ولا يوافق عمر ، فقد جعل في سننه : 1 / 290 عنواناً باسم ( الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ).

وروى فيه عن جابر بن عبد الله قال : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء فرحلت له ، حتى إذا انتهى الى بطن الوادي خطب الناس ، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً !! انتهى.

- وكذلك روى أبو داود في سننه : 1 / 429

عن ابن عمر قال : غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة ، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة ، وهي منزل الإمام الذي ينزل بعرفة ،

ص: 274

حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً ، فجمع بين الظهر والعصر ، ثم خطب الناس ، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة. انتهى.

وأما الجواب بأن الجمعة تسقط في السفر ، فهو أمر مختلفٌ عندهم فيه ، ولو صح أن يوم عرفة كان يوم جمعة ولم يصل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صلاة الجمعة ، لذكر ذلك مئات المسلمين الذين كانوا في حجة الوداع !

وقد تمحل ابن حزم في الجواب عن ذلك فقال في المحلى : 7 / 272 :

مسألة : وإن وافق الإمام يوم عرفة يوم جمعةٍ جهرِ وهي صلاة جمعة ! ويصلي الجمعة أيضاً بمنى وبمكة ، لأن النص لم يأت بالنهي عن ذلك ، وقال تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ، فلم يخص الله تعالى بذلك غير يوم عرفة ومنى.

وروينا ... عن عطاء بن أبي رباح قال : إذا وافق يوم جمعة يوم عرفة ، جهر الإمام بالقراءة ... فإن ذكروا خبراً رويناه ... عن الحسن بن مسلم قال : وافق يوم التروية يوم الجمعة وحجة النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال : من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى فليفعل ، فصلى الظهر بمنى ولم يخطب ... فهذا خبرٌ موضوعٌ فيه كل بلية : ابراهيم بن أبي يحيى مذكور بالكذب متروك من الكل ، ثم هو مرسل ، وفيه عن ابن الزبير ، مع ابن أبي يحيى الحجاج بن أرطاة ، وهو ساقط ، ثم الكذب فيه ظاهر ، لأن يوم التروية في حجة النبي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إنما كان يوم الخميس ، وكان يوم عرفة يوم الجمعة ، روينا ذلك من طريق البخارى ...

فإن قيل : إن الآثار كلها إنما فيها جمع رسول الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعرفة بين الظهر والعصر ؟

قلنا : نعم وصلاة الجمعة هي صلاة الظهر نفسها ! وليس في شيء من الآثار أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لم يجهر فيها ، والجهر أيضاً ليس فرضاً ، وإنما يفترق الحكم في أن ظهر يوم الجمعة في الحضر والسفر للجماعة ركعتان. انتهى.

ص: 275

وجواب ابن حزم : أنه صادر على المطلوب ، لأنه رد الرواية لمجرد مخالفتها لقول عمر بأن يوم عرفة لم يكن يوم جمعة !

فلماذا لم يرد قول عمر بقوله الثاني بأن عرفة كانت يوم خميس ، وروايته صحيحة ؟

أو بقول النسائي والثوري ، والأقوال العديدة التي ذكرها الطبري وغيره ؟

ولو صح ما قاله من أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اعتبر ركعتي الظهر في عرفة صلاة جمعة لأنه جهر فيهما ، لاشتهر بين المسلمين أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جهر في صلاة الظهر التي لا يجهر بها لتصبح ( أتوماتيكياً ) صلاة جمعة !

بل إن الرواية التي كذبها وهاجمها بسبب مخالفتها لرواية عمر تنص على أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صلى الجمعة في منى ، وهي أقرب الى حساب سفره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من المدينة الذي كان يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة ، ووصوله الى مكة يوم الخميس لأربع مضين من ذي الحجة ، وأن أول ذي الحجة كان يوم الإثنين ، فيوم عرفة يوم الثلاثاء ، وعيد الأضحى الأربعاء ، ويوم الجمعة كان ثاني عشر ذي الحجة كما سيأتي .. فيكون قول الراوي إن الجمعة كانت في منى قولاً صحيحاً ، ولكنه اشتبه وحسبها قبل موقف عرفات ، مع أنها كانت بعده !

تاسعاً : إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة ، تعارضه رواياتهم التي تقول إنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عاش بعد نزول الآية إحدى وثمانين ليلةً أو ثمانين !

فقد ثبت عندهم أن وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ومن 9 ذي الحجة الى 12 ربيع الأول أكثر من تسعين يوماً .. فلا بد لهم إما أن يأخذوا برواية وفاته قبل ذلك فيوافقونا على أنها في 28 من صفر ، أو يوافقونا على نزول الآية في يوم الغدير 18 ذي الحجة.

- قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 59

وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : اليوم أكملت لكم دينكم. انتهى.

- وذكر نحوه في : 2 / 257 عن البيهقي في شعب الإيمان.

ص: 276

- وقال ابن حجر في تلخيص الحبير بهامش مجموع النووي : 7 / 3

وروى أبو عبيد ، عن حجاج ، عن ابن جريح أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق بعد نزول قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم إلا إحدى وثمانين ليلة. ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 12984 ، ورواه الطبري في تفسيره : 4 / 106 عن ابن جريح قال : حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج قال : مكث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : اليوم أكملت لكم دينكم.

- وقال القرطبي في تفسيره : 20 / 223 :

وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزلت : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً. ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً ، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم. فعاش بعدها خمسه وثلاثين يوماً. ثم نزل واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا. انتهى.

ورواية ابن عمر تؤيد قول أبيه بنزول آية الكلالة بعد آية إكمال الدين ، ولكنه نسي آية الربا التي قال أبوه أيضاً إنها آخر آية ، ومن ناحية أخرى خالف أباه في أن آية إكمال الدين نزلت في عرفة ، وقال إنها نزلت بعد سورة النصر بمنى ، يعني بعد انتهاء حجة الوداع وسفر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، واقترب من القول بنزولها في الغدير !!

- وقال الأميني في الغدير : 1 / 230

وهو الذي يساعده الاِعتبار ويؤكده النقل الثابت في تفسير الرازي : 3 / 529 عن أصحاب الآثار : إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين ، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي : 3 / 523 ، وذكر المؤرخون منهم أن وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الثاني عشر من ربيع الأول ، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الإثنين وثمانين يوماً ، بعد إخراج يومي الغدير والوفاة ..

ص: 277

وعلى أي فهو أقرب الى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة ، كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما لزيادة الأيام حينئذ. انتهى.

كما تعارض قول عمر بأن يوم عرفات كان يوم جمعة ، رواياتهم التي تنص على أن الآية نزلت يوم الإثنين .. ففي دلائل البيهقي : 7 / 233 : عن ابن عباس قال : ولد نبيكم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم الإثنين ، ونبىَ يوم الإثنين ، وخرج من مكة يوم الإثنين ، وفتح مكة يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين : اليوم أكملت لكم دينكم وتوفي يوم الإثنين.

- وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 196

رواه أحمد والطبراني في الكبير وزاد فيه : وفتح بدراً يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين : اليوم أكملت لكم دينكم ، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف ، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح. انتهى.

وللحديث طرقٌ ليس فيها ابن لهيعة .. ولكن علته الحقيقية عندهم مخالفته لما قاله الخليفة عمر ، كما صرح به السيوطي وابن كثير ! فقد قال ابن كثير في سيرته : 1 / 198 : تفرد به أحمد ، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة ، وزاد : نزلت سورة المائدة يوم الإثنين : اليوم أكملت لكم دينكم ، وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به ، وزاد أيضاً : وكانت وقعة بدر يوم الإثنين. وممن قال هذا يزيد بن حبيب. وهذا منكرٌ جداً !! قال ابن عساكر : والمحفوظ أن بدراً ونزول : اليوم أكملت لكم دينكم يوم الجمعة وصدق ابن عساكر. انتهى.

وقد تقدم أن علة نكارته عند ابن كثير أنه مخالف لقول عمر ، وقول معاوية ! وقد كان ابن عساكر أكثر اتزاناً منه حيث لم يصف الخبر بالضعف أو النكارة ، بل قال إنه مخالفٌ للمحفوظ ، أي المشهور عندهم ، وهو قول عمر.

وينبغي الإلفات الى أن الإشكال عليهم بأحاديث نزول الآية في يوم الإثنين إنما هو إلزامٌ لهم بما التزموا به ، وإلا فنحن لا نقبل أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يبق بعد الآية إلا ثمانين يوماً

ص: 278

لأن المعتمد عندنا أن الآية نزلت يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وأن وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت في يوم الثامن والعشرين من صفر ، فتكون الفاصلة بنحو سبعين يوماً.

وقد ثبت عندنا أن الآية نزلت يوم الخميس ، وفي رواية يوم الجمعة ، كما ثبت عندنا أن بعثة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت يوم الإثنين ، وأن علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) صلى معه يوم الثلاثاء ، وأن وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت في يوم الإثنين أيضاً ، وقد تكون سورة المائدة نزلت يوم الإثنين أي أكثرها ، ثم نزلت بقيتها بعد ذلك ، ومنها آية التبليغ ، وآية إكمال الدين.

عاشراً : إن القول بأن يوم عرفة في تلك السنة كان يوم جمعة ، تعارضه الروايات التي سجلت يوم حركة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من المدينة ، وأنه كان يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة. وهو الرواية المشهورة عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ، وهي منسجمةٌ مع تاريخ نزول الآية في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة.

وذلك ، لأن سفر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان في يوم الخميس ، أي في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة ، لأربع بقين من ذي القعدة هي : الخميس والجمعة والسبت والأحد .. ويكون أول ذي الحجة يوم الإثنين ، ووصول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى مكة عصر الخميس الرابع من ذي الحجة في سلخ الرابع ، كما في رواية الكافي : 4 / 245 ، ويكون يوم عرفة يوم الثلاثاء ، ويوم الغدير يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة. وهذه نماذج من روايات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في ذلك :

- ففي وسائل الشيعة : 9 / 318

محمد بن إدريس في ( آخر السرائر ) نقلاً من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب قال : خرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأربع بقين من ذي القعدة ، ودخل مكة لأربع مضيْن من ذي الحجة ، دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين ، وخرج من أسفلها.

- وفي الكافي : 4 / 245

عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : حج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عشرين حجة ... إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ، ثم أنزل الله عز وجل عليه : وأذن في الناس بالحج

ص: 279

يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق ، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والاَعراب ، واجتمعوا لحج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وإنما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه ، أو يصنع شيئاً فيصنعونه ، فخرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في أربع بقين من ذي القعدة ، فلما انتهى الى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل ، ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر ، وعزم بالحج مفرداً ، وخرج حتى انتهى الى البيداء عند الميل الأول فصف له سماطان ، فلبى بالحج مفرداً ، وساق الهدي ستاً وستين أو أربعاً وستين ، حتى انتهى الى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة فطاف بالبيت سبعة أشواط ، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، ثم عاد الى الحجر فاستلمه ...

- وفي المسترشد / 119 :

العبدي عن أبي سعيد أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دعا الناس الى علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بغدير خم ، وأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ، ثم دعا الناس ، وأخذ بضبعيه ورفعه حتى نظر الناس الى بياض إبطيه ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي. انتهى.

* *

ويؤيد قول أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ما روته مصادر الفريقين من أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان لا يبدأ سفره إلا يوم الخميس ، أو قلما يبدأه في غيره ، كما في صحيح البخاري : 4 / 6 وسنن أبي داود 1 / 586 ، وتنص رواية ابن سيد الناس في عيون الأثر : 2 / 341 على أن سفر النبي من المدينة كان يوم الخميس.

ص: 280

وروى في بحار الأنوار : 16 / 272 عن الكافي بسندٍ مقبول عن أبي عبد الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال : كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس ، وإذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد ، دخل يوم الجمعة. انتهى.

ويؤيد قول أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أيضاً ما رووه عن جابر بأن حركته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كانت لأربع بقين من ذي القعدة ، كما يأتي من سيرة ابن كثير.

بل يؤيده أيضاً ، أن البخاري وأكثر الصحاح رووا أن سفره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة ، بدون تحديد يوم راجع البخاري : 2 / 146 و 184 و 187 و : 4 / 7 وفيه ( وقدم مكة لأربع ليالٍ خلون من ذي الحجة ) ، والنسائي : 1 / 154 و 208 و : 5 / 121 ، ومسلم : 4 / 32 ، وابن ماجه : 2 / 993 ، والبيهقي : 5 / 33 ، وغيرها.

ويؤيده أيضاً أن مدة سيره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من المدينة الى مكة لا تزيد على ثمانية أيامٍ ، وذلك بملاحظة الطريق الذي سلكه ، والذي هو في حدود 400 كيلو متراً ، وملاحظة سرعة السير ، حتى أن بعض الناس شكوا له تعب أرجلهم فعلمهم شدها.

وملاحظة أن أحداً لم يرو توقفه في طريق مكة أبداً.

وملاحظة روايات رجوعه ووصوله الى المدينة أيضاً ، مع أنه توقف طويلاً نسبياً في الغدير .. الخ.

ثم بملاحظة الروايات التي تتفق على وصوله الى مكة في الرابع من ذي الحجة. كما رأيت في روايات أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ورواية البخاري الآنفة.

وبذلك تسقط رواية خروجه من المدينة لستٍ بقين من ذي الحجة ، كما في عمدة القاري ، وإرشاد الساري ، وابن حزم ، وهامش السيرة الحلبية : 3 / 257 ، لأنها تستلزم أن تكون مدة السير الى مكة عشرة أيام !

* *

ص: 281

وبهذا يتضح حال القول المخالف لرواية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) الذي اعتمد أصحابه رواية ( خمس بقين من ذي القعدة ) وحاولوا تطبيقها على يوم السبت ، ليجعلوا أول ذي الحجة الخميس ، ويجعلوا يوم عرفة يوم الجمعة تصديقاً لقول عمر ، بل تراهم ملكيين أكثر من الملك ، لما تقدم عن عمر من أن يوم عرفة كان يوم الخميس.

وممن قال برواية السبت ابن سعد في الطبقات : 2 / 124 ، والواقدي في المغازي : 2 / 1089 وكذا في هامش السيرة الحلبية : 3 / 3 ، والطبري : 3 / 148 ، وتاريخ الذهبي : 2 / 701 ، وغيرهم.

وعلى هذه الرواية يكون الباقي من شهر ذي القعدة خمسة أيام هي : السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء ، ويكون أول ذي الحجة الخميس ، ويكون يوم عرفة يوم الجمعة ، وتكون مدة السير الى مكة تسعة أيام ، إلا أن يكون الراوي تصور أن ذي القعدة كان تاماً ، فظهر ناقصاً.

وقد حاول ابن كثير الدفاع عن هذا القول ، فقال في سيرته : 4 / 217 :

وقال أحمد ... عن أنس بن مالك الأنصاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات ، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين آمناً لا يخاف ، في حجة الوداع. تفرد به أحمد من هذين الوجهين ، وهما على شرط الصحيح. وهذا ينفي كون خروجه 7 يوم الجمعة قطعاً.

ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم ، لأنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة ، لأنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس لما ثبت (بالتواتر والإجماع ) من أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقف بعرفة يوم الجمعة ، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع.

فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة ، لبقي في الشهر ست ليال قطعاً : ليلة الجمعة والسبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء. فهذه ست ليال. وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة وتعذر

ص: 282

أنه يوم الجمعة لحديث أنس ، فتعين على هذا أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خرج من المدينة يوم السبت ، وظن الراوي أن الشهر يكون تاماً فاتفق في تلك السنة نقصانه ، فانسلخ يوم الأربعاء واستهل شهر ذي الحجة ليلة الخميس. ويؤيده ما وقع في رواية جابر : لخمس بقين أو أربع.

وهذا التقريب على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه. والله أعلم. انتهى.

ويظهر من كلام ابن كثير عدم اطمئنانه بهذه التقديرات ، لأنه رأى تشكيك الخليفة عمر نفسه ، وتشكيك سفيان الثوري الذي رواه البخاري ، وتشكيك النسائي. وجزم ابن حزم بأن سفره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان يوم الخميس.

ونلاحظ أن ابن كثير استدل على أن خروج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم الخميس بالمصادرة على المطلوب فقال ( لما ثبت بالتواتر والإجماع من أنه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقف بعرفة يوم الجمعة ) فأي تواترٍ وإجماعٍ يقصد ، وما زال في أول البحث ؟!

كما أنه استدل على أن سفر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يبدأ من المدينة يوم الجمعة برواية أنس أن النبي صلى الظهر والعصر ولم يصل الجمعة ، وهو استدلالٌ يرد نفسه ويؤيد قول أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) بأن بدء سفره كان الخميس لأربع بقين من ذي القعدة !

وتقدمت الرواية عندنا أنه (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) صلى الظهر والعصر في ذي الحليفة.

ولو صحت رواية أنس بأنه صلى الظهر في مسجده في المدينة ، ثم صلى العصر في ذي الحليفة ، فلا ينافي ذلك أن يكون سفره الخميس ، بل يكون معناه أنه أحرم بعد العصر من ذي الحليفة ، وواصل سفره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

* *

والنتيجة : أن القول بنزول آية إكمال الدين في يوم عرفة ، يرد عليه إشكالاتٌ عديدةٌ ، سواء في منطقه ، أم في تاريخه وتوقيته .. تستوجب من الباحث المنصف أن يتوقف ولا يأخذ به.

ص: 283

فيبقى رأي أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ومن وافقهم في سبب نزول الآية بدون معارض ، لأن المعارض الذي لا يستطيع النهوض للمعارضة كعدمه .. والمتن الكسيح لا ينفع معه السند الصحيح !!

وفي الختام : فإن المجمع عليه عند جميع المسلمين أن يوم نزول الآية عيدٌ إلهيٌّ عظيمٌ ( عيد إكمال الدين وإتمام النعمة ) بل ورد عن أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أنه أعظم الأعياد الإسلامية على الاطلاق ، ودليله المنطقي واضحٌ ، حيث ارتبط العيد الأسبوعي للمسلمين بصلاة الجمعة ، وارتبط عيد الفطر بعبادة الصوم ، وارتبط عيد الأضحى بعبادة الحج .. أما هذا العيد ، فهو مرتبطٌ بإتمام الله تعالى نعمة الإسلام كله على الأمة ، وقد تحقق في رأي إخواننا السنة بتنزيل أحكام الدين وإكماله من دون تعيين آليةٍ لقيادة مسيرته ..

وتحقق في رأينا بإكمال تنزيل الأحكام ، ونعمة الحل الالهي لمشكلة القيادة وإرساء نظام الإمامة الى يوم القيامة ، في عترة خاتم النبيين (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ومادام جميع المسلمين متفقون على أنه عيدٌ شرعي ، فلماذا يقبل علماء المسلمين ومفكروهم ورؤساؤهم أن تخسر الأمة أعظم أعيادها ، ولا يكون له ذكرٌ في مناسبته ، ولا مراسمُ تناسب شرعيته وقداسته ؟!

فهل يستجيب علماء إخواننا السنة الى دعوتنا بالبحث في فقه هذا العيد المظلوم المغيب .. وإعادته الى حياة كل المسلمين ، بالشكل الذي ينسجم مع عقائدهم وفقه مذاهبهم !

* *

ص: 284

الفصل الخامس: آية : سأل سائل بعذاب واقع

اشارة

قال الله تعالى في مطلع سورة المعارج :

سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج ... الى آخر السورة الكريمة التي تبلغ 44 آية.

أحداث كانت وراءها قريش

نمهد لتفسير الآية بذكر فهرس عددٍ من الأحداث الخطيرة في أواخر حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. ثبت أن قريشاً كانت وراء بعضها ، وتوجد مؤشرات توجب الظن بأنها كانت وراء الباقي.

الأولى : محاولة اغتيال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حنين .. وقد تقدم في البحث الخامس اعتراف بعض زعماء قريش بها !

الثانية : محاولة اغتيال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في العقبة في طريق رجوعه من تبوك ، وقد كانت محاولة متقنةً ، نفذتها مجموعةٌ منافقة بلغت نحو عشرين شخصاً ، وقد عرفوا أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيمر ليلاً من طريق الجبل بينما يمر الجيش من طريقٍ حول الجبل ، وكانت خطتهم أن يكمنوا فوق الطريق الذي سيمر فيه الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، حتى إذا وصل

ص: 285

الى المضيق ألقوا عليه ما استطاعوا من صخورٍ لتنحدر بقوةٍ وتقتله ، ثم يفرون ويضيعون أنفسهم في جيش المسلمين ، ويبكون على الرسول ، ويأخذون خلافته !

وقد تركهم الله تعالى ينفذون خطتهم ، حتى إذا بدؤوا بدحرجة الصخور ، جاء جبرئيل وأضاء الجبل عليهم ، فرآهم الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وناداهم بأسمائهم ، وأراهم لمرافقيْه المؤمنيْن : حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وأشهدهما عليهم ، فسارع المنافقون ونزلوا من الجهة الثانية من الجبل ، وضيعوا أنفسهم في المسلمين !!

أما لماذا لم يعلن الرسول أسماءهم ؟!

فلا جواب إلا أنهم من قريش ، ومن المعروفين فيها .. وإعلان أسمائهم يعني معاقبتهم ، ومعاقبتهم تعني خطر ارتداد قريش عن الإسلام ، وإمكان إقناعها بعض قبائل العرب بالإرتداد ، بحجة أن محمداً أعطى كل شيء من بعده لبني هاشم ، ولم يعط لقريشٍ والعرب شيئاً !

وهذا يعني السمعة السيئة للإسلام ، وأن نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد أن آمن به أصحابه اختلف معهم ، وقاتلهم وقاتلوه !

ويعني الحاجة من جديد الى بدرٍ وأحدٍ والخندق وفتح مكة !

ولن تكون نتائج هذه الدورة للإسلام أفضل من الدورة الأولى !

فالحل الالهي هو : السكوت عنهم ما داموا يعلنون قبول الإسلام ، ونبوة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وينكرون فعلتهم.

ومن الملاحظ أن روايات مؤامرة العقبة ذكرت أسماء قرشية معروفة ، وقد ضعَّفها رواة قريش طبعاً ، لكن أكثرهم وثقوا ابن جميْع وغيره من الرواة الذين نقلوا عن حذيفة بن اليمان أسماء هؤلاء الزعماء المشاركين فيها !

كما أنهم رووا عن حذيفة وعمار رواياتٍ فاضحةٍ لبعض الصحابة الذين كانوا يسألونهما عن أنفسهم : هل رأياهم في الجبل ليلة العقبة ؟! ويحاولون أن يأخذوا منهما براءةً من النفاق والمشاركة في المؤامرة !

ص: 286

ورووا أنهم كانوا يعرفون الشخص أنه من المنافقين أم لا ، عندما يموت .. فإن صلى حذيفة على جنازته فهو مؤمن ، وإن لم يصل على جنازته فهو منافق.

ورووا أن حذيفة لم يصل على جنازة أي زعيمٍ من قريشٍ مات في حياته !!

الثالثة : قصة سورة التحريم ، التي تنص على أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أسرَّ بحديثٍ خطيرٍ الى بعض أزواجه ، وأكد عليها أن لا تقوله لأحد ، ولا بد أن الله تعالى أمره بذلك لحِكَمٍ ومصالح يعلمها سبحانه .. فخالفت ( أم المؤمنين ) حكم الله تعالى ، وأفشت سر زوجها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وعملت مع صاحبتها لمصلحة ( قريش ) ضد مصلحة زوجها الرسول .. فأطْلع الله تعالى نبيه على مؤامرتهما ، فأخبرهما بما فعلتا ، ونزل القرآن بكشف سرهما وسر من ورائهما ، وهددهما وضرب لهما مثلاً بامرأتي نوح ولوط ، اللتين خانتاهما ، فدخلتا النار !!

أما رواة الخلافة القرشية فيقولون إن المسألة كانت عائلية ، تتعلق بغيرة النساء من بعضهن ، وببعض الأخطاء الفنية الخفيفة لهن مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

إنهم يريدونك أن تغمض عينيك عن آيات الله تعالى في سورة التحريم ، التي تتحدث عن خطرٍ عظيمٍ على الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والرسالة ، وتحشد أعظم جيشٍ جرارٍ لمواجهة الموقف فتقول « إن تتوبا الى الله فقد صغت قلوبكما ، وإن تظاهرا عليه ، فإن الله هو مولاه ، وجبريل ، وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير »

فلمن صغت قلوبهما ، ولمصلحة من تعاونتا على الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؟!

وما هي القضية الشخصية التي تحتاج معالجتها الى هذا الجيش الالهي الجرار ، الذي لا يستنفره الله تعالى إلا لحالات الطوارئ القصوى ؟!

أما ابن عباس الذي يصفونه بحبر الأمة ، فكان يقرأ الآية « زاغت قلوبكما » وبذلك تكون اثنتان من أمهات المؤمنين احتاجتا الى تجديد إسلامهما !

الرابعة : حادثة هجر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لنسائه شهراً ، وشيوع خبر طلاقه لهن .. وذهابه بعيداً عنهن وعن المسجد ، الى بيت مارية القبطية الذي كان في طرف المدينة أو خارجها ..

ص: 287

فقد صورت الروايات القرشية هذه الحادثة على أنها حادثةٌ شخصية .. شخصيةٌ بزعمهم وشغلت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والوحي والمسلمين !

وادعوا أن سببها كثرة طلبات نسائه المعيشية منه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأكدوا أنه لا ربط للحادثة بقضايا الإسلام المالئة للساحة السياسية آنذاك ، والشاغلة لزعماء قريش خاصة ..

الخامسة : تصعيد عمل قريشٍ ضد علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لإسقاط شخصيته ، وغضب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وشدته عليهم في دفاعه عن علي ، وتركيزه لشخصيته .. ولهذا الموضوع مفرداتٌ عديدة في حروب النبي وسلمه وسفره وحضره (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ونلاحظ أنها كثرت في السنة الأخيرة من حياته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وغضب بسببها مراراً ، وخطب أكثر من مرة ، مبيناً فضل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وفسق أو كفر من يؤذيه !

ولو لم يكن من ذلك إلا قصة بريدة الأسلمي الكاسحة ، التي روتها مصادر السنيين بطرقٍ عديدة ، وأسانيد صحيحة عالية ، وكشفت عن وجود شبكة عملٍ منظم ترسل الرسائل وتضع الخطط ضد علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وسجلت إدانة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الغاضبة لهم ، وتصريحه بأن علياً وليكم من بعدي ، وحُكمه بالنفاق على كل من ينتقد علياًوكل من لا يحب علياً ، ولا يطيعه ..!

وهي حادثةٌ تكفي دليلاً على ظلم زعماء قريش وحسدهم لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ... الخ .!

السادسة : منع تدوين سنة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حياته .. أما القرآن فقد كان عامة الناس يكتبونه من حين نزوله ، وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يأمر بوضع ما ينزل منه جديداً بين منبره والحائط ، وكان يوجد هناك ورقٌ ودواةٌ ، لمن يريد أن يكتبه.

وكان علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يكتب القرآن ، وحديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الذي يأمره بكتابته.

وكان آخرون يكتبون حديث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ومنهم شبانٌ قرشيون يعرفون الكتابة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص ..

وقد أحست قريش بأن ذلك يعني تدوين مقولات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) العظيمة في حق عترته وبني هاشم ، ومقولاته في ذم عددٍ كبيرٍ من فراعنة قريش وشخصياتها ..

ص: 288

فعملت على منع كتابة سنة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حياته ، في حين أن بعض زعمائها كان يكتب أحاديث اليهود ، ويحضر درسهم في كل سبت !! وقد وثقنا ذلك في كتاب تدوين القرآن.

وقد روت مصادر السنيين أن عبد الله بن عمرو شكى الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن ( قريشاً ) نهته عن كتابة حديثه ، لأن أحاديثه التي فيها غضبٌ عليها ليست حجة شرعا !

قال أبو داود في سننه : 2 / 176 :

عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيءٍ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أريد حفظه ، فنهتني قريش ( ؟ ) وقالوا : أتكتب كل شيء تسمعه ؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا ؟! فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأومأ بإصبعه الى فيه فقال : أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق!. انتهى. ورواه أحمد في مسنده : 2 / 192 ، و215 ، والحاكم في المستدرك : 1 / 105 و : 3 / 528 ، وصححه.

السابعة : محاولة اغتيال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في طريق عودته من حجة الوداع عند عقبة هرشى ، وقد كشف الوحي المؤامرة ، وكانت شبيهةً الى حد كبيرٍ بمؤامرة اغتياله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في العقبة ، في طريق رجوعه من مؤتة !

الثامنة : تصعيد قريش انتقادها لأعمال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لتركيز مكانة عترته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وأسرته بني هاشم في الأمة ، واعتراض عددٍ منهم عليه بصراحةٍ ووقاحةٍ ، ومطالبتهم بأن يجعل الخلافة لقريش تدور في قبائلها ، أو يشرك مع علي غيره من قبائل قريش ، وقد رفض النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كل مطالبهم ، لأنه لا يملك شيئاً مع الله تعالى ، ولم يعط شيئاً من عنده حتى يمنعه ، وإنما هو عبدٌ ورسولٌ مبلغ !! (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وقد تقدم نص تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى / 167 ، وفيه ( جاءه قوم من قريش فقالوا له : يا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إن الناس قريبو عهد بالإسلام ، لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب. فلو عدلت به الى غيره لكان أولى.

ص: 289

فقال لهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه علي.

فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك ، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه ، ليتم لك أمرك ، ولا يخالف الناس عليك.

التاسعة : أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندما كان مريضاً شكل جيشاً بقيادة أسامة بن زيد ، وجعل تحت إمرته كل زعماء قريش غير بني هاشم ، وعقد اللواء لأسامة بن زيد ، وأمره أن يسير الى مؤتة في الأردن لمحاربة الروم .. أراد بذلك أن يرسخ قدرة الدولة الإسلامية ويأخذ بثار شهداء مؤتة ، وأراد أن يفرغ المدينة من المعارضين لعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قبيل وفاته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

فخرج أسامة بمن معه وعسكر خارج المدينة ، ولكن زعماء قريش أحبطوا خطة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتتثاقلهم عن الإنضمام الى جيش أسامة ، وتأخيرهم من استطاعوا عنه ، ثم طعنوا في تأمير النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأسامة الأفريقي الشاب ، بحجة صغر سنه ، وواصلوا تسويفهم الوقت ، والذهاب الى معسكر أسامة ثم الرجوع الى المدينة .. حتى صعد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المنبر وشدد على إنفاذ جيش أسامة ، وأبلغ المسلمين صدور اللعنة من ربه عز وجل ومنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على كل من تخلف عن جيش أسامة !!

العاشرة : تصعيد قريش فعاليتها في مواجهة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وقرارها الخطير بمواجهته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مباشرةً إذا أراد أن يستخلف علياً وأهل بيته من بعده رسمياً !

وبالفعل فقد قام بمهمة المواجهة زعيم قريش الجديد عمر بن الخطاب ، وذلك عندما جمع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) زعماء قريش والأنصار في مرض وفاته ، وأخبرهم أنه قرر أن يكتب لأمته كتاباً لن تضل بعده أبداً ، فعرفوا أنه يريد أن يثبت ولاية علي وأهل بيته (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) على الأمة بصورة مكتوبة ، فواجهه عمر بصراحة : لا نريد كتابك وأمانك من الضلال ، ولا سنتك ولا عترتك ، وحسبنا كتاب الله ! وحتى تفسيره من حقنا نحن لا من حقك ، وحق عترتك !!

ص: 290

وأيده القرشيون الحاضرون ومن أثَّروا عليه من الأنصار ، وصاحوا في محضر نبيهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : القول ما قاله عمر !!

وانقسم المودعون لنبيهم في آخر أيامه ، وتشادوا بالكلام فوق رأسه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !! منهم من يقول قربوا له قلماً وقرطاساً يكتب لكم أماناً من الضلال. وأكثرهم يصيح : القول ما قاله عمر ، لا تقربوا له شيئاً ، ولا تدَعُوهُ يكتب !!

ولعل جبرئيل حينذاك كان عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد كثر نزوله عليه في الأيام الأخيرة ، فتشاور معه وأخبره أن الحجة قد تمت ، والإصرار على الكتاب يعني دفع قريش نحو الردة ، والحل هو الإعراض عنهم ، وإكمال تبليغهم بطردهم !!

فطردهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال لهم : قوموا فما ينبغي عند نبي تنازع ! قوموا ، فما أنا فيه خير مما تدعوني اليه ..!!

وحديث إيتوني بدواةٍ وقرطاسٍ حديث معروفٌ ، وقد سمى ابن عباس تلك الحادثة ( رزية يوم الخميس ) ، وقد رواها البخاري في ست مواضع من صحيحه !

الحادية عشرة : كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مصاباً بحمى شديدة في مرضه ، وكان يغشى عليه لدقائق من شدة الحمى ويفيق .. فأحس بأن بعض من حوله أرادوا أن يسقوه دواء عندما أغمي عليه ، فأفاق ونهاهم ، وشدد عليهم النهي بأن لا يسقوه أي دواء إذا أغمي عليه .. ولكنهم اغتنموا فرصة الإغماء عليه بعد ذلك ، وصبوا في فمه دواء فرفضه ، ولكنهم سقوه إياه بالقوة !!

فأفاق النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ووبخهم على عملهم ! وأمر كل من كان حاضراً أن يشرب من ذلك الدواء ، ما عدا بني هاشم !!

ورووا أن الجميع شربوا من ( ذلك ) الدواء !!

هذه الحادثة المعروفة في السيرة بحادثة ( لَدّ النبي ) (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ينبغي أن تعطى حقها من البحث والتحقيق ، فربما كانت محاولةً لقتل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالسم !!

ص: 291

إن وكل واحدة من هذه الحوادث تصلح أن تكون موضوعاً لرسالة دكتوراه .. ولكنا أردنا منها التمهيد لتفسير آية « سأل سائل » في مطلع سورة المعارج.

وإذا أردت أن تعرف الأبطال الحقيقيين لهذه الحوادث ، والأدمغة المخططة لها .. فابحث عن قريش !!

وإذا أردت أن تفهم أكثر وتتعمق أكثر ، فابحث .. عن علاقة قريش باليهود !! فاعجب من ذلك ، وافهم كيف عصم الله تعالى رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أن ترتد قريش في حياته ، وتعلن كفرها بنبوته !

ولكنه لم يعصمه من أذاها ومؤامراتها .. فذلك هو طريق الأنبياء (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) وتكاليفه .. لا تغيير فيها !

استنفار قريش بعد الغدير

تحركت قافلة النبوة والإمامة من غدير خمٍ نحو المدينة .. وسكن قلب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واطمأن .. ولكن قريشاً لم تسكن ، بل صارت في حالة غليانٍ من الغيظ !

هكذا تقول الأحاديث ، ومنطق الأحداث .. فقريش لا تسكت حتى ترى العذاب الأليم ! وقد قال لهم الصادق الأمين الذي لا ينطق إلا وحياً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لا أراكم منتهين يا معشر قريش !!

إن آية العصمة من الناس كما قدمنا ، لا تعني أن الله تعالى جعل الطريق أمام رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ناعماً كالحرير ، ولا أنه جعل له قريشاً فرساً ريِّضاً طائعاً ..

إن قدرته تعالى لا يمتنع منها شيء .. ولكنه أراد للأمور أن تجري بأسبابها ، وللأمة أن تجري عليها سنن الأمم الماضية ، فتمتحن بإطاعة نبيها من بعده ، أو معصيته ..

وهذا يستوجب أن تبقى لها القدرة على معصيته .. أما على الردة في حياته وفي وجهه .. فلا.

إن قدرتها تصل الى حد قولها لنبيها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لا نريد وصيتك ولا سنتك ولا عترتك ، حسبنا كتاب الله !!

ص: 292

لكن ما بعدها ذلك خطٌّ أحمر .. هكذا أراد الله تعالى !!

لقد تحققت عصمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من قريش في منعطفات كثيرة في حجة الوداع .. في مكة ، وعرفات ، وفي ثلاث خطبٍ في منى ، خاصةً خطبة مسجد الخيف ..

وما تنفست قريش الصعداء إلا برحيله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) دون أن يطالبها بالبيعة لعلي !

ولكن الله تعالى لم يكتف بذلك ، حتى أمر نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يوقف المسلمين في طريق عودتهم في حر الظهيرة ، في صحراء ليس فيها كلأ لخيولهم وجمالهم ، ولا سوق ليشتروا منه علوفة وطعاماً ، إلا دوحةٌ من بضع أشجار على قليل من ماء .. وذلك بعد مسير ثلاثة أيام ، ولم يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة التي لم يبق عنها إلا ميلان أو أقل ، بل كان أول القافلة وصل الى مشارفها ، فبعث اليهم وأرجعهم الى صحراء الغدير !

كل ذلك لكي يصعد الرسول 9 المنبر في غير وقت صلاة ، ليرفع بيد ابن عمه وصهره علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ويقول لهم : هذا وليكم من بعدي ، ثم من بعده ولداه الحسن والحسين ، ثم تسعة من ذرية الحسين (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) !

هنا تجلت آية العصمة من الناس مجسمةً للعيان .. فقد كمَّمَ الله تعالى أفواه قريش عن المعارضة ، وفتح أفواههم للموافقة ، فقالوا جميعاً : نشهد أنك بلغت عن ربك .. وأنك نعم الرسول .. سمعنا وأطعنا .. وتهافتوا مع المهنئين الى خيمة علي .. وكبروا مع المكبرين عندما نزلت آية « اليوم أكملت لكم دينكم » !

ثم أصغوا جميعاً الى قصيدة حسان بن ثابت في وصف نداء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وإبلاغه عن ربه ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده.

واستمرت التهنئة من بعد صلاة العصر الى ماشاء الله .. ومن بعد صلاة المغرب والعشاء تتابع عدد من المهنئين في العتمة ، حتى طلع قمر ليلة التاسع عشر من ذي الحجة .. فقد بات النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في غدير الإمامة ، وتحرك الى المدينة بعد صلاة فجره .. وقيل بقي فيه يومان !

ص: 293

أما كيف سلب الله تعالى قريشاً القدرة على تخريب مراسم الغدير .. وكيف كف ألسنتها .. وهي السليطةُ بالإعتراض .. الجريئةُ على الأنبياء ؟!

وكيف جعلها تفكر بأن تمرر هذا اليوم لمحمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يفعل لبني هاشم وعليٍّ ما يشاء ؟! فذلك من عمله عز وجل ، وقدرته المطلقة .. المطلقة !

هذا هو الأسلوب الأول الذي عصم الله به رسوله من ارتداد قريش ، ولا بد أن ما خفي عنا من ألطافه تعالى أعظم.

أما الأسلوب الثاني فكان لغة العذاب السماوي ، التي تفهمها قريش جيداً ، كما كان يفهمها اليهود في زمان أنبيائهم !!

أحجار من السماء للناطقين باسم قريش

ورد في أحاديث السنة والشيعة أسماءٌ عديدةٌ لأشخاصٍ اعترضوا على إعلان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في غدير خم.

ويفهم منها أن عدداً منها تصحيفات لاسم شخص واحد ، ولكن عدداً آخر لا يمكن أن يكون تصحيفاً ، بل يدل على تعدد الحادثة ، خاصة أن العقاب السماوي في بعضها مختلف عن الآخر .. وهم :

جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ..

والحارث بن النعمان الفهري ..

والحرث بن النعمان الفهري

وعمرو بن عتبة المخزومي ..

والنضر بن الحارث الفهري ..

والحارث بن عمرو الفهري

والنعمان بن الحارث اليهودي

والنعمان بن المنذر الفهري

ص: 294

وعمرو بن الحارث الفهري

ورجل من بني تيم

ورجل أعرابي ...

ورجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة.

وكل هؤلاء قرشيون إلا الربيعي واليهودي إذا صحت روايتهما ! وليس فيهم أنصاري واحد ، إذ لم يعهد من الأنصار اعتراضٌ على الإمتيازات التي أعطاها الله تعالى لعترة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ! وإن عهد منهم عدم الوفاء لهم بعد وفاة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وخلاصة الحادثة : أن أحد هؤلاء الأشخاص - أو أكثر من واحد - اعترض على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واتهمه بأن إعلانه علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولياً على الأمة ، كان عملاً من عنده وليس بأمر الله تعالى ! ولم يقتنع بتأكيد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له ، بأنه ما فعل ذلك إلا بأمر ربه !

وذهب المعترض من عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مغاضباً وهو يدعو الله تعالى أن يمطر الله عليه حجارة من السماء إن كان هذا الأمر من عنده .. فرماه الله بحجرٍ من سجيلٍ فأهلكه ! أو أنزل عليه ناراً من السماء فأحرقته !

وهذه الحادثة تعني أن الله تعالى استعمل التخويف مع قريش أيضاً ، ليعصم رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من تكاليف حركة الردة التي قد تُقْدِم عليها .. وبذلك تعزز عند زعماء قريش الإتجاه القائل بفشل المواجهة العسكرية مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وضرورة الصبر حتى يتوفاه الله تعالى !

* *

وفي هذا الحديث النبوي ، والحادثة الربانية ، مسائل وبحوث عديدةٌ أهمها :

المسألة الأولى : في أن مصادر السنيين روت هذا الحديث

اشارة

لم تختص بروايته مصادرنا الشيعية بل روته مصادر السنيين أيضاً ، وأقدم من رواه من أئمتهم : أبو عبيد الهروي في كتابه : غريب القرآن.

ص: 295

قال في مناقب آل أبي طالب 2 / 240 :

أبو عبيد ، والثعلبي ، والنقاش ، وسفيان بن عينيه ، والرازي ، والقزويني ، والنيسابوري ، والطبرسي ، والطوسي في تفاسيرهم ، أنه لما بلَّغَ رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بغدير خم ما بلَّغ ، وشاع ذلك في البلاد ، أتى الحارث بن النعمان الفهري وفي رواية أبي عبيد : جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال :

يا محمد ! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك ، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شيء منك أم من الله ؟! فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله.

فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل اليها حتى رماه الله بحجر ، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع .. الآية. انتهى.

وقد أحصى علماؤنا كصاحب العبقات ، وصاحب الغدير ، وصاحب إحقاق الحق ، وصاحب نفحات الأزهار ، وغيرهم .. عدداً من أئمة السنيين وعلمائهم الذين أوردوا هذا الحديث في مصنفاتهم ، فزادت على الثلاثين .. نذكر منهم اثني عشر :

1 - الحافظ أبو عبيد الهروي المتوفى بمكة 223 ، في تفسيره ( غريب القرآن )

2 - أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي المتوفى 351 ، في تفسيره.

3 - أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى 427 ، في تفسيره ( الكشف والبيان )

4 - الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب ( أداء حق الموالاة )

5 - أبو بكر يحيى القرطبي المتوفى 567 ، في تفسيره

6 - شمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى 654 في تذكرته

7 - شيخ الإسلام الحمويني المتوفى 722 ، روى في فرائد السمطين في الباب

ص: 296

الثالث عشر قال : أخبرني الشيخ عماد الدين الحافظ بن بدران بمدينة نابلس ، فيما أجاز لي أن أرويه عنه إجازة ، عن القاضي جمال الدين عبد القاسم بن عبد الصمد الأنصاري إجازة ، عن عبد الجبار بن محمد الحواري البيهقي إجازة ، عن الإمام ابي الحسن علي بن أحمد الواحدي قال : قرأت على شيخنا الأستاذ أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره : أن سفيان بن عيينة سئل عن قوله عز وجل : سأل سائل بعذاب واقع فيمن نزلت فقال ....

8 - أبو السعود العمادي المتوفى 982 ، قال في تفسيره 8 / 292 : قيل هو الحرث بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في علي (رضی الله عنه) : من كنت مولاه فعلي مولاه ، قال ....

9 - شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى 977 ، قال : في تفسيره السراج المنير : 4 / 364 : اختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس : هو النضر بن الحرث ، وقيل : هو الحرث بن النعمان ....

10 - الشيخ برهان الدين علي الحلبي الشافعي المتوفى 1044 ، روى في السيرة الحلبية : 3 / 302 وقال : لما شاع قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : من كنت مولاه فعلي مولاه في ساير الأمصار وطار في جميع الأقطار ، بلغ الحرث بن النعمان الفهري .... الى آخر لفظ سبط ابن الجوزي.

11 - شمس الدين الحفني الشافعي المتوفى 1181 ، قال في شرح الجامع الصغير للسيوطي : 2 / 387 في شرح قوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : من كنت مولاه فعلي مولاه.

12 - أبوعبد الله الزرقاني المالكي المتوفى 1122 ، في شرح المواهب اللدنية ، / 13. انتهى. وسيأتي ذكر بقية مصادر الحديث في بحث أسانيده.

المسألة الثانية : هل أن سورة المعارج مكية أو مدنية

يلاحظ القارئ أن الجو العام للسورة الشريفة الى آية 36 ، أقرب الى جو السور

ص: 297

المدنية وتشريعات سورة النور والمؤمنين ، وأن جو الآيات 36 الى آخر السورة أقرب الى جو السور المكية ، التي تؤكد على مسائل العقيدة والآخرة.

ولذلك لا يمكن معرفة مكان نزول السورة من آياتها ، حسب ما ذكروه من خصائص للسور المكية والمدنية ، وضوابط للتمييز بينها .. على أن هذه الخصائص والضوابط غير دقيقة ولا علمية !

وإذا صح لنا أن نكتفي بها ، فلا بد أن نقول إن القسم الأخير من السورة من قوله تعالى « فما للذين كفروا قبلك مهطعين » الى آخرها ، نزلت أولاً في مكة ، ثم نزل القسم الأول منها في المدينة ، ووضع في أولها !!

ولكن ذلك ليس أكثر من ظن! والطريق الصحيح لتعيين مكيتها أو مدنيتها هو النص ، والنص هنا متعارضٌ سواءً في مصادرنا أو مصادر السنيين ، ولكن المفسرين السنيين رجحوا مكيتها وعدوها في المكي.

ولا يبعد أن ذلك هو المرحج حسب نصوص مصادرنا أيضاً.

- فقد روى القاضي النعمان في شرح الأخبار 1 / 241

عن الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال : نزلت والله بمكة للكافرين بولاية علي 7. انتهى.

والظاهر أن مقصوده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : أنها نزلت في مكة وكان مقدراً أن يأتي تأويلها في المدينة عند اعتراضهم على إعلان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

- وقال الكليني في الكافي 5 / 450 :

قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر ما تقول في المتعة ، أتزعم أنها حلال ؟

قال : نعم.

قال : فما يمنعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ويكتسبن عليك ؟

فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالاً ، وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم. ولكن ما تقول يا أبا حنيفة في النبيذ ، أتزعم أنه حلال ؟

ص: 298

فقال : نعم.

قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نباذات فيكتسبن عليك ؟

فقال أبو حنيفة : واحدةٌ بواحدة ، وسهمك أنفذ.

ثم قال له : يا أبا جعفر إن الآية التي في سأل سائل ، تنطق بتحريم المتعة والرواية عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد جاءت بنسخها ؟

فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة إن سورة سأل سائل مكية ، وآية المتعة مدنية ، وروايتك شاذة ردية.

فقال له أبوحنيفة : وآية الميراث أيضاً تنطق بنسخ المتعة ؟

فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث.

قال أبو حنيفة : من أين قلت ذاك ؟

فقال أبو جعفر : لو أن رجلاً من المسلمين تزوج امرأة من أهل الكتاب ، ثم توفي عنها ما تقول فيها ؟

قال : لا ترث منه.

قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث. ثم افترقا. انتهى.

وقول أبي حنيفة إن سورة سأل سائل تنطق بتحريم المتعة ، يقصد به قوله تعالى في السورة « والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ».

فأجابه مؤمن الطاق بأن السورة مكية وآية « فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن » مدنية ، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر ؟

ولكن الجواب الأصح : أن المتمتع بها زوجةٌ شرعية ، فهي مشمولةٌ لقوله تعالى « إلا على أزواجهم » وقد أفتى عدد من علماء السنيين بأنه يجوز للرجل أن يتزوج امرأة حتى لو كان ناوياً أن يطلقها غداً ، وهو نفس المتعة التي يشنعون بها علينا.

بل أفتى أبو حنيفة نفسه بأن الرجل لو استأجر امرأة لخدمته وكنْس منزله وغسل ثيابه ، فقد جاز له مقاربتها بدون عقد زواج ، لا دائمٍ ولا منقطع !! بحجة أن عقد

ص: 299

الإجارة يشمل ذلك ! وهذا أوسع من المتعة التي يقول بها الفقه الشيعي ، لأن عقد الزواج شرطٌ فيها ، وإلا كانت زنا.

والنتيجة أن المرجح أن تكون سورة المعارج مكية ، ولكن ذلك لا يؤثر على صحة الحديث القائل بأن العذاب الواقع هو العذاب النازل على المعترض على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندما أعلن ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، لأن ذلك يكون تأويلاً لها ، وإخباراً من جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأن هذه الحادثة هي من العذاب الواقع الموعود.

فقد تقدمت رواية شرح الأخبار في ذلك ، وستأتي منه رواية فيها ( فأصابته الصاعقة فأحرقته النار ، فهبط جبرئيل وهو يقول : إقرأ يا محمد : سأل سائلٌ بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع ). وهي كالنص في أن جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نزل على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتطبيق الآية أو تأويلها.

بل يظهر من أحاديثنا أن ما حل بالعبدري والفهري ما هو جزءٌ صغيرٌ من « العذاب الواقع » الموعود ، وأن أكثره سينزل تمهيداً لظهور الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أو نصرةً له ..

- وقد أوردنا في معجم أحاديث الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : 5 / 458 عدة أحاديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) في تفسير العذاب الواقع بأحداثٍ تكون عند ظهور الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

- منها ما رواه علي بن ابراهيم القمي في تفسيره : 2 / 385 قال :

سأل سائلٌ بعذاب واقع ، قال : سئل أبو جعفر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن معنى هذا ، فقال : نارٌ تخرج من المغرب ، وملكٌ يسوقها من خلفها حتى تأتي دار بني سعد بن همام عند مسجدهم ، فلا تدع داراً لبني أمية إلا أحرقتها وأهلها ، ولا تدع داراً فيها وترٌ لآل محمدٍ إلا أحرقتها ، وذلك المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

- ومنها مارواه النعماني في كتاب الغيبة / 272 قال :

حدثنا محمد بن همام قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مالك قال : حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن الحسن بن علي ، عن صالح بن سهل ، عن أبي عبد

ص: 300

الله جعفر بن محمد (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) في قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع ، قال : تأويلها فيما يأتي عذابٌ يقع في الثوية يعني ناراً حتى تنتهي الى الكناسة كناسة بني أسد ، حتى تمر بثقيف لا تدع وتراً لآل محمد إلا أحرقته ، وذلك قبل خروج القائم (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). انتهى.

والأمكنة التي ذكرتها الروايتان ، من أمكنة الكوفة التي ثبت أن الإمام المهدي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيتخذها عاصمةً له.

وقول الإمام الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ( تأويلها فيما يأتي ) يدل على أن مذهب أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) أن العذاب الواقع في الآية وعيدٌ مفتوحٌ منه ما وقع فيما مضى على المشركين والمنافقين ، ومنه ما يقع فيما يأتي على بقيتهم .. وهو المناسب مع إطلاق التهديد في الآية ، ومع سنة الله تعالى وانتصاره لدينه وأوليائه.

المسألة الثالثة : هل العذاب في سورة المعارج دنيوي أم أخروي

المتأمل في السورة نفسها بقطع النظر عن الأحاديث والتفاسير .. يلاحظ أن موضوعها ومحور كل آياتها هو العذاب الأخروي وليس الدنيوي.

كما أن آياتها لا تنص على ذم السائل عن ذلك العذاب ، فقد يكون مجرد مستفهمٍ لا ذنب له ، وقد يكون السائل بالعذاب هنا بمعنى الداعي به ، وقد رأيت أن القرطبي ذكر قولاً بأن السائل بالعذاب نبي الله نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وقولاً آخر بأنه نبينا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ولذلك يرد في الذهن سؤال : من أين أطبق المفسرون الشيعة والسنة على أنها تشمل العذاب الدنيوي ، وأن ذلك السائل بالعذاب سأل متحدياً ومكذباً ؟!

والجواب : أن سر ذلك يكمن في ( باء ) العذاب ، وأن ( سأل به ) تعني التساؤل عن الشيء المدعى وطلبه ، استنكاراً وتحدياً !

فكلمة : سأل به ، تدل على أن السائل سمع بهذا العذاب ، لأن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان ينذرهم بالعذاب الدنيوي والأخروي معاً .. فتساءل عنه ، وأنكره ، وتحدى أن يقع !

وقد أجابه الله تعالى بالسورة ، ولم ينف سبحانه العذاب الدنيوي لأعدائه ، وإن كان ركز على العذاب الأخروي وأوصافه ، لأنه الأساس والأكثر أهميةً واستمراراً ،

ص: 301

ولأن صفته الجزائية أكثر وضوحاً.

فكأن السورة تقول : أيها المستهزؤون بالعذاب الذي ينذركم به رسولنا .. إن كل ما أنذركم به من عذاب دنيوي أو أخروي سوف يقع ، ولا دافع له عن الكفار .. فآمنوا بالله ليدفعه عنكم ، بحسب قوانينه تعالى في دفع عذابه عن المؤمنين.

فقوله تعالى « للكافرين ليس له دافع » ينفي إمكان دفعه عن الكافرين ، فهو ثابت لمن يستحقه منهم ، وهو أيضاً ثابتٌ لمن يستحقه من الذين قالوا آمنا ، لكن دافعٌ هو التوبة والإستغفار مثلاً.

كما أن « الكافرين » في الآية لا يبعد أن تكون بالمعنى اللغوي ، فتشمل الكافرين ببعض آيات الله تعالى ، أو بنعمه ، ولو كانوا مسلمين.

وعندما نشك في أن كلمة استعملت بمعناها اللغوي أو الإصطلاحي ، فلا بد أن نرجح المعنى اللغوي ، لأنه الأصل ، والإصطلاحي يحتاج الى قرينة.

وقد وقع المفسرون السنيون في تهافتٍ في تفسير السورة ، لأنهم جعلوا ( العذاب الواقع ) عذاباً أخروياً أو لغير المسلمين ، وفي نفس الوقت فسروه بعذاب النضر بن الحارث العبدري بقتله يوم بدر ، فصار بذلك شاملاً للعذاب الدنيوي !

ويلاحظ الباحث في التفاسير السنية أنه يوجد منهجٌ فيها ، يحاول أصحابه دائماً أن يفسروا آيات العذاب الواردة في القرآن الكريم - خاصة التي نزلت في قريش - بالعذاب الأخروي ، أو يرموها على أهل الكتاب ، ويبعدوها عن المسلمين ، حتى المنافقين منهم ! وقد أوجب عليهم هذا المنهج في تبرئة قريش ، أن يتهموا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه دعا ربه بالعذاب على قومه ، فلم يستجب له ! بل وبخه الله تعالى بقوله : ليس لك من الأمر شيء .. الخ ..

وهكذا ركزت الدولة القرشية مقولة اختيار الله لقريش ، وعدم سماحه بعذابها ، وجعلتها أحاديث نبوية ، ولو كان فيها تحطئةٌ وإهانةٌ للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأدخلتها في مصادر التفسير والحديث.

ص: 302

أما عندما يضطرون الى الإعتراف بوقوع العذاب الدنيوي لأحد فراعنة قريش ، فيقولون إنه خاصٌ بحالة معينة ، مثل حالة النضر بن الحارث ، وقد وقعت في بدر وانتهى الأمر !

- فقد اختار الفخر الرازي في تفسيره : 30 / 122

أن العذاب المذكور في مطلع السورة هو العذاب الأخروي ، وأن الدنيوي مخصوص بالنضر بن الحارث ، قال : ( لأن العذاب نازل للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد ، وقد وقع بالنضر لأنه قتل يوم بدر ) ثم وصف هذا الرأي بأنه سديد .. وهو بذلك يتبع جمهور المفسرين السنيين ، مع أن السورة لا تشير الى انتهاء أي نوع من العذاب الموعود !!

على أن منهج المفسرين في إبعاد العذاب عن قريش ، أقل تشدداً من منهج المحدثين الرسميين ، فهولاء لايقبلون ( العذاب الواقع ) لأحدٍ من قريش ، حتى للنضر بن الحارث ، وحتى لأبي جهل ! بل هم الذين فتحوا باب تهمة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنه دعا على قومه ، فخطَّأَهُ الله تعالى ووبخه !!

- فقد روى البخاري في صحيحه : 5 / 199

عن أنس بن مالك قال : قال أبو جهل : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فنزلت : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. ورواه البخاري في عدة أماكن أخرى ، ورواه مسلم في : 8 / 129 ..

وإذا أردت أن تقرأ ما لا تكاد تصدقه عيناك ، فاقرأ ما رووه في تفسير قوله تعالى « ليس لك من الأمر شيء » فهي آيةٌ تنفي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كل أنواع الألوهية والشراكة لله تعالى ، ولكنها في نفس الوقت لا تسلب عنه شيئاً من مقامه النبوي وخلقه العظيم وحكمته ، وحرصه على هداية قومه .. ولكن انظر كيف صور المحدثون النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في تفسيرها بأنه ضيق الصدر ، مبغضٌ لقريش ، يريد الإعتداء عليها وظلمها ..!!

ص: 303

فنزل الوحي مدافعاً عن هذه القبائل المقدسة ، ورد عدوانية نبيها !!

ولا يتسع المجال للإفاضة في هذا الموضوع ، ولكن القارئ السني يجد نفسه متحيراً بين ولاء المفسرين لقريش كمجاهد الذي يسمح بكون قتل بعض فراعنتها كالنضر عذاباً لها ، وبين ولاء المحدثين لقريش كالبخاري الذي يقول إن قتل النضر وأبي جهل ليس هو العذاب الالهي ، فهؤلاء قومٌ برزوا الى مضاجعهم ، فقد رفع الله عذابه عن قريش ، ووبخ رسوله ، لأنه دعا عليها !!

* *

وأخيراً يمكن للباحث أن يستدل لنصرة رأي المفسرين القائل بأن العذاب السورة يشمل العذاب الدنيوي ، بما رواه ابن سعد في الطبقات ، من قصة اختلاف طلحة والزبير وابنيهما على إمامة الصلاة في معسكر عائشة في حرب الجمل ، قال :

ولما قدموا البصرة أخذوا بيت المال ، وختماه جميعاً طلحة والزبير ، وحضرت الصلاة فتدافع طلحة والزبير حتى كادت الصلاة تفوت ، ثم اصطلحا على أن يصلي عبد الله بن الزبير صلاةً ومحمد بن طلحة صلاةً ، فذهب ابن الزبير يتقدم فأخره محمد بن طلحة ، وذهب محمد بن طلحة يتقدم فأخره عبد الله بن الزبير عن أول صلاة !! فاقترعا فقرعه محمد بن طلحة ، فتقدم فقرأ : سأل سائل بعذاب واقع !! انتهى. فقد فهم محمد بن طلحة القرشي التيمي من السورة أنها تهديدٌ بعذاب دنيوي ولذلك هدد بها ابن الزبير. وهو دليلٌ على أن الإرتكاز الذهني عند الصحابة المعاصرين للنزول ، أن العذاب في السورة يشمل العذاب الدنيوي أيضاً.

المسألة الرابعة : موقف السنيين من الحديث

اشارة

ولكن الذين ذكروا الحديث من السنيين ليس موقفهم منه واحداً ، فمنهم من قبله ورجحه على غيره كأبي عبيد والثعلبي والحمويني ، ومنهم من نقله بصيغة : روي أو قيل. ومنهم من رجح غيره عليه ، ولكن أحداً منهم لم يطعن فيه .. وأقل موقفهم منه أنه حديثٌ موجودٌ ، قد يكون سنده صحيحاً ، ولكن غيره أرجح منه ، كما سترى.

ص: 304

إن العالم السني يرى نفسه ملزماً باحترام هذا الحديث ، بل يرى أنه بإمكانه أن يطمئن اليه ويأخذ به ، لأن الذين قبلوه من أئمة العلم والدين قد يكتفي العلماء بمجرد نقل أحدهم للحديث وقبوله له ، كأبي عبيد وسفيان بن عيينة ..

وقد رأينا المحدث الألباني الذي يعتبره الكثيرون المجتهد الأول في التصحيح والتضعيف في عصرنا ، ربما يكتفي في سلسلته أحاديثه الصحيحة للحكم بصحة الحديث بتصحيح عالمين أو ثلاثة من قبيل : ابن تيمية والذهبي وابن قيم.

مضافاً الى أن المحدثين السنة ذكروا له طرقاً أخرى ، عن حذيفة ، وعن أبي هريرة وغيرهما.

وتجد ترجمات هؤلاء الأئمة مفصلةً في مصادر الجرح والتعديل السنية ، وفي عبقات الأنوار ، والغدير ، ونفحات الأزهار ، من مصادرنا.

نماذج من تفسيرات السنيين لآية : سأل سائل

- قال الشوكاني في فتح القدير : 5 / 352 :

وهذا السائل هو النضر بن الحارث حين قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجار من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وهو ممن قتل يوم بدر صبراً.

وقيل : هو أبو جهل. وقيل : هو الحارث بن النعمان الفهري. والأول أولى لما سيأتي. انتهى.

وقصده بما يأتي ما ذكره في ص 356 ، من رواياتهم التي تثبت أن السورة مكية وأن صاحب العذاب الواقع هو النضر ، وليس ابنه جابراً ، ولا الحارث الفهري قال : وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : سأل سائل ، قال : هو النضر بن الحارث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجار من السماء. انتهى.

ولم يذكر الشوكاني الحديث المروي في جابر والحارث ، ومن رووه ، ولماذا رجح عليه حديث النضر ؟ هل بسبب السند أو الدلالة ... الخ.

ص: 305

ولو أنه اقتصر على ذكر ما اختاره في سبب نزولها لكان له وجهٌ ، ولكنه ذكر القولين ، وذكر رواية أحدهما دون الآخر ، وبذلك ابتعد عن إنصاف العالم الباحث.

لكن شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى سنة 977 ، صاحب التفسير المعروف ، كان أكثر إنصافاً من الشوكاني ، فقد ذكر السببين معاً ، فقال كما نقل عنه صاحب عبقات الأنوار : 7 / 398 :

سأل سائل بعذاب واقع : اختلف في هذا الداعي ، فقال ابن عباس : هو النضر بن الحارث. وقيل : هو الحارث بن النعمان ، وذلك أنه لما بلغه قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من كنت مولاه فعلي مولاه ، ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته في الأبطح ثم قال : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك ... الخ .. انتهى.

أما أبو عبيد المتوفى سنة 223 ، فقد جعل الحديث سبباً لنزول الآية على نحو الجزم ، لأنه ثبت عنده ، ولعله لم يثبت عنده غيره حتى يذكره ، فقال كما في نفحات الأزهار : 7 / 291

لما بلَّغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير خم ما بلَّغَ ، وشاع ذلك في البلاد ، أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال :

يا محمد ! أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلاالله وأنك رسول الله ، وبالصلاة ، والصوم والحج ، والزكاة ، فقبلنا منك .. ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شيء منك أم من الله ؟!

فقال رسول الله : والله الذي لا إله إلا هو إنَّ هذا من الله.

فولى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع .. الآية. انتهى.

- وقال القرطبي في تفسيره : 18 / 278

أي سأل سائل عذاباً واقعاً. للكافرين : أي على الكافرين. وهو النضر بن الحارث

ص: 306

حيث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فنزل سؤاله. وقتل يوم بدر صبراً هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبراً غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد.

وقيل : إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي(رضی الله عنه)( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح .. الى آخره ، بنحو رواية أبي عبيد. ثم قال :

وقيل : إن السائل هنا أبو جهل ، وهو القائل لذلك ، قاله الربيع.

وقيل : إنه قول جماعةٍ من كفار قريش.

وقيل : هو نوح (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سأل العذاب على الكافرين.

وقيل : هو رسول الله صلي الله عليه وسلم أي دعا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالعقاب ، وطلب أن يوقعه الله بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة ، وامتد الكلام الى قوله تعالى : فاصبر صبراً جميلاً أي : لا تستعجل فإنه قريب. انتهى.

وبذلك نلاحظ أن المفسرين السنيين وإن كانوا يرجحون تفسير الآية بالنضر بن الحارث العبدري ، ويرحجون أن العذاب الموعود فيها هو قتله في بدر .. ولكنهم في نفس الوقت يذكرون تفسيرها بوقوع العذاب على من اعترض على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإعلانه ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بعده في غدير خم.

ومجرد ورود هذا التفسير في مصادرهم بصفته قولاً محترماً في تفسير الآية ، ولو رجحوا عليه غيره ، يدل على وجود إعلان نبوي رسمي بحق علي ، ووجود اعتراضٍ عليه ! فالمسلم لا يحتاج الى أكثر من اعتراف المفسرين بذلك ، سواءً وقعت الصاعقة على المعترض أم لم تقع ، وسواء نزلت سورة المعارج عند هذه الحادثة أو لم تنزل !! فلا بد للشيعي من توجيه الشكر لهم ، وإن ناقشهم في الوجه الآخر الذي رجحوه. وأهم الإشكالات التي ترد عليه : أن روايته ليست مرفوعة الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، بينما تفسير الشيعة مرفوع.

ص: 307

ورواية تفسيرهم عن ابن عباس ومجاهد لا تحل المشكلة ، خاصةً إذا كانت من راويه عكرمة المجروح عندنا وعندهم.

ويرد على تفسيرهم أيضاً : أن من المتفق عليه عندهم تقريباً أن السؤال في الآية حقيقي وليس مجازياً ، فقد حدث أن سأل النضر بن الحارث بالعذاب ، وطلب نزوله فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فعذبه الله في بدرٍ بالقتل.

مع أن آية مطر الحجارة من سورة الأنفال التي نزلت مع أحكام الأنفال ، بعد بدر وبعد قتل النضر .. ومن البعيد أن يكون جواب قول النضر نزل في سورة مكية قبل الهجرة ، ونفس قوله نزل في سورة مدنية ، بعد هلاكه.

ويرد عليه أيضاً : أن قولهم ( اللهم إن كان هذا هوالحق من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء ) أكثر تناسباً وانطباقاً على تفسيرنا ، وأصعب انطباقاً على تفسيرهم .. لأن معناه على تفسيرهم : اللهم إن كان هذا الدين منزلاً من عندك فأمطر علينا حجارة. ومعناه على تفسيرنا : اللهم إن الحكم لآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من بعده منزلاً من عندك ، فأمطر علينا حجارة .. وهذا أكثر تناسباً ، لأن الدعاء بحجارة من السماء لا يقوله قائله إلا في حالة اليأس من التعايش مع وضع سياسي جديد ، يتحدى وضعه القبلي المتجذر في صميمه !!

ويرد عليه أيضاً : أنه لو صح ، فهو لا يمنع من تفسيرنا ، فلا وجه لافتراضهم التعارض بينهما .. فأي تعارض بين أن يكون العذاب الواقع هو العذاب الذي وقع على النضر بن الحارث في بدر ، ثم وقع على ولده جابر بن النضر ، كما في رواية أبي عبيد ، ثم وقع ويقع لى آخرين من مستحقيه !

وينبغي أن نشير هنا الى قاعدة مهمة في تفسير القرآن والنصوص عامة ، وهي : ضرورة المحافظة على إطلاقات النص ما أمكن وعدم تضييقها وتقييدها .. فالآية الكريمة تقول إن أحدهم تحدى وتساءل عن العذاب الموعود ، الذي أنذر به

ص: 308

النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فأجابه الله تعالى إنه واقعٌ بالكفار لا محالة كما أنذركم به رسولنا (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حرفياً ، في الدنيا والآخرة ، وأنه جارٍ في الكفار وفي من آمن ، حسب القوانين الخاصة التي وضعها له الله تعالى.

وعليه فيكون عذاب الله تعالى لقريش في بدر والخندق من ذلك العذاب الواقع الموعود ، وعذابهم بالجوع والقحط منه أيضاً ، وعذابهم بفتح مكة وتسليمهم وخلعهم سلاحهم منه أيضاً .. ويكون عذاب المعترضين على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإعلانه ولاية عترته من بعده منه أيضاً !

فلا موجب لحصر الآية بالنضر وحده ، ولا لتضييق العذاب المنذر به بقتل شخص ، ولو كان من الفراعنة ، ولا حصره في عصر دون العصور الآتية ، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها ..

وكم تجد عند المفسرين السنيين من هذه التضييقات في آيات العذاب والرحمة حيث يحصرون أنفسهم فيها بلا موجب ، ويحصرون فيها كلام الله المطلق ، بلا دليل !

المسألة الخامسة : موقف النواصب من حديث حجر السجيل

اشارة

أما النواصب المبعضون لأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلم نعثر على أحدٍ منهم رد هذا الحديث وكذبه قبل ابن تيمية ، فقد هاجمه بعنف وتخبط في رده ! وتبعه على ذلك من المتأخرين الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه تفسير المنار .. ومن الملاحظ أن هذا الشخص متأثرٌ بابن تيمية وتلميذه ابن قيم المدرسة الجوزية ، بل مقلدٌ لهما في كثير من أفكارهما ، وقد أدخلها في تفسيره ، واستفاد لذلك من اسم أستاذه الشيخ محمد عبده (رحمه الله) وادعى أنه ميز بين أفكاره وأفكار أستاذه !

ومن يقرأ تفسير المنار يلمس الفرق بين الجزءين الأولين اللذين كتبهما في حياة الشيخ محمد عبده ، واستفاد مما سجله من دروسه ، وفيهما من عقلانيته (رحمه الله) واعتقاده بولاية أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) .. وبين الأجزاء التي أخرجها الشيخ رشيد رضا بعد

ص: 309

وفاة الشيخ محمد عبده ، أو أعاد طباعتها ، وفيها الكثير من الأفكار الجامدة والناصبة لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

وقد نقل صاحب تفسير المنار في 6 / 464 وما بعدها عن تفسير الثعلبي :

أن هذا القول من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في موالاة علي شاع وطار فى البلاد ، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على ناقة وكان بالابطح فنزل وعقل ناقته وقال للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو في ملأ من أصحابه : يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك ... ثم ذكر سائر أركان الإسلام ... ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا منك أم من الله ! فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : والله الذي لا إله إلا هو هو أمر الله.

فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجاره من السماء أو ائتنا بعذاب اليم! فما وصل الى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع الحديث ...

وهذه الرواية موضوعةٌ ، وسورة المعارج هذه مكية ، وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك كان تذكيراً بقول قالوه قبل الهجره وهذا التذكير في سورة الأنفال ، وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين ، وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتد ، ولم يعرف في الصحابة ، والأبطح بمكة والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يرجع من غدير خم الى مكة ، بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع الى المدينة. انتهى.

وكأن رشيد رضا اغتاظ من هذا الحديث ، وحاول تكذيبه من ناحية سنده فلم يجد ما يشفي غليله ، ولما وجد تكذيب ابن تيمية له بنقد متنه فرح به وتبناه ، ولكنه لم ينسبه اليه !

وعمدة ما قاله ابن تيمية وصاحب المنار : أن مكان الرواية الأبطح ، وهو مكان في

ص: 310

مكة ، والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يرجع بعد الغدير الى مكة .. وقد جهلا أو تجاهلا أبطح المدينة المشهور !

ثم قالا : إن الرواية تدعي أن الآية نزلت في المدينة ، مع أن سورة المعارج مكية .. وقد تجاهلا أن جوَّ السورة الى الآية 36 على الأقل مدني ، وأن هذا الحديث دليل على مدنيتها.

ثم لو صح كونها مكية ، فقد يتكرر نزول الآية لبيان تفسيرها أو تأويلها ، فتكون الحادثة تأويلاً لها. وقد روى المفسرون نزول آية « إنا أعطيناك الكوثر » في عدة مواضع تسليةً لقلب الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

فما المانع أن يكون تأويلها قد تحقق في ( عشيرة العذاب الواقع ) فتحقق في الأب النضز بن الحارث عندما قتله النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في بدر ، ثم تحقق في الإبن جابر عندما قتله الله بحجر من السماء في أبطح المدينة ، وأن يكون جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أكد الآية كلما تحقق تأويلها.

ثم من حق الباحث أن يقول لهما : لو سلمنا أن ذكر نزول الآية في الحادثة خطأ ، أو زيادة ، فما ذنب بقية الحديث ! ولماذا يردونه كله ولا يقتصرون على رد زيادته وهو نزول الآية بمناسبته ؟!

- وقد ناقش صاحب تفسيرالميزان 6 / 54 تضعيف صاحب المنار للحديث فقال :

وأنت ترى ما في كلامه من التحكم. أما قوله إن الرواية موضوعة وسورة المعارج هذه مكية ، فيعول في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عباس وابن الزبير أن سورة المعارج نزلت بمكة ، وليت شعري ما هو المرجح لهذه الرواية على تلك الرواية ، والجميع آحاد.

سلمنا أن سورة المعارج مكية كما ربما تؤيده مضامين معظم آياتها ، فما هو الدليل على أن جميع آياتها مكية ؟ فلتكن السورة مكية والآيتان خاصة غير مكيتين.

كما أن سورتنا هذه أعني سورة المائدة مدنية نازلة في آخر عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد

ص: 311

وضعت فيها الآية المبحوث عنها ، أعني قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك ، الآية ، وهو كغيره من المفسرين مصرون على أنها نزلت بمكة في أول البعثة ! ...

وأما قوله وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش الى آخره ، فهو في التحكم كسابقه ، فهب أن سورة الأنفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين ، فهل يمنع ذلك أن يوضع عند التأليف بعض الآيات النازلة بعدها فيها ، كما وضعت آيات الربا وآية : واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله : البقرة - 281 ، وهي آخر ما نزل على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عندهم ، في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة ، وقد نزلت قبلها ببضع سنين ؟

ثم قوله إن آية : وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق ، الآية ، تذكيرٌ لما قالوه قبل الهجرة ، تحكمٌ آخر من غير حجة ، لو لم يكن سياق الآيه حجة على خلافه ، فإن العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أن هذا أعني قوله : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، لاشتماله على قوله : إن كان هذا هو الحق من عندك بما فيه من اسم الاشاره وضمير الفصل والحق المحلى باللام ، وقوله من عندك ، ليس كلام وثني مشرك يستهزئ بالحق ويسخر منه ، إنما هو كلام من أذعن بمقام الربوبية ، ويرى أن الأمور الحقة تتعين من لدنه وأن الشرائع مثلاً تنزل من عنده ، ثم إنه يتوقف في أمر منسوب الى الله تعالى يدعي مدع أنه الحق لا غيره ، وهو لا يتحمل ذلك ويتحرج منه ، فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة.

وأما قوله : وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتد ، ولم يعرف في الصحابة ، تحكمٌ آخر ، فهل يسع أحداً أن يدعي أنهم ضبطوا أسماء كل من رأى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وآمن به ، أو آمن به فارتد !

وإن يكن شيء من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل.

وأما قوله والأبطح بمكة والنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يرجع من غدير خم الى مكة ، فهو يشهد

ص: 312

على أنه أخذ لفظ الأبطح اسماً للمكان الخاص بمكة ، ولم يحمله على معناه العام وهو كل مكان ذي رمل .. ولا دليل على ما حمله عليه ، بل الدليل على خلافه وهو القصة المسرودة فى الرواية وغيرها ...

قال في مراصد الاطلاع : أبطح بالفتح ثم السكون وفتح الطاء والحاء المهملة : كل مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح ....

على أن الرواية بعينها رواها غير الثعلبي ، وليس فيه ذكر من الأبطح ، وهي ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور وغيرها.

وبعد هذا كله ، فالرواية من الآحاد وليست من المتواترات ، ولا مما قامت على صحتها قرينة قطعية ، وقد عرفت من أبحاثنا المتقدمه أنا لا نعول على الآحاد في غير الأحكام الفرعية ، على طبق الميزان العام العقلائي ، الذي عليه بناء الإنسان في حياته ، وإنما المراد بالبحث الآنف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه التي استنتج منها أنها موضوعة. انتهى.

* *

وكلام صاحب الميزان في رد تضعيف رشيد رضا للحديث كلامٌ قوي ، لكن ليته بدل أن يضعِّفه هو بدعوى أنه من أخبار الآحاد ، اطلع على مصادره ورواته .. وعلى بحث الأميني حوله في المجلد الأول من الغدير ، وبحث السيد النقوي الهندي في عبقات الأنوار : 7 و 8 ، وغيرهما.

- ونورد فيما يلي خلاصةً لما كتبه صاحب الغدير ; في : 1 / 239 ، قال :

ومن الآيات النازلة بعد نص الغدير ، قوله تعالى من سورة المعارج : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج.

وقد أذعنت به الشيعة وجاء مثبتاً في كتب التفسير والحديث لمن لا يستهان بهم من علماء أهل السنة ، ودونك نصوصها.

ص: 313

ثم أورد صاحب الغدير نصوص ثلاثين مؤلفاً رووا الحديث بعدة طرق ، وفيهم محدثان أقدم من الثعلبي كما تقدم .. ثم أفاض في رد الوجوه التي ذكرها ابن تيمية في كتابه منهاج السنة : 4 / 13 ، وأجاب عنها ، ونورد فيما يلي خلاصتها ، قال :

الوجه الأول : إن قصة الغدير كانت في مرتجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، وقد أجمع الناس على هذا ، وفي الحديث : أنها لما شاعت في البلاد جاءه الحارث ، وهو بالأبطح بمكة ، وطبع الحال يقتضي أن يكون ذلك بالمدينة ، فالمفتعل للرواية كان يجهل تاريخ قصة الغدير.

الجواب : أولاً ما سلف في رواية الحلبي في السيرة ، وسبط ابن الجوزي في التذكرة ، والشيخ محمد صدر العالم في معارج العلى ، من أن مجيء السائل كان في المسجد - إن أريد منه مسجد المدينة - ونص الحلبي على أنه كان بالمدينة ، لكن ابن تيمية عزب عن ذلك كله ، فطفق يهملج في تفنيد الرواية بصورة جزمية .... فحسب اختصاص الأبطح بحوالي مكة ، ولو كان يراجع كتب الحديث ومعاجم اللغة والبلدان والأدب لوجد فيها نصوص أربابها بأن الأبطح كل مسيل فيه دقاق الحصى.

- روى البخاري في صحيحه : 1 / 181 ، ومسلم في صحيحه : 1 / 382

عن عبد الله ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها.

الوجه الثاني : أن سورة المعارج مكية باتفاق أهل العلم ، فيكون نزولها قبل واقعة الغدير بعشر سنين أو أكثر من ذلك.

الجواب : أن المتيقن من معقد الإجماع المذكور هو نزول مجموع السورة مكياً ، لا جميع آياتها ، فيمكن أن يكون خصوص هذه الآية مدنياً ، كما في كثير من السور.

ولا يرد عليه أن المتيقن من كون السورة مكية أو مدنية ، هو كون مفاتيحها كذلك أو الآية التي انتزع منها اسم السورة ، لما قدمناه من أن هذا الترتيب هو ما اقتضاه التوقيف ، لا ترتيب النزول ، فمن الممكن نزول هذه الآية أخيراً ، وتقدمها

ص: 314

على النازلات قبلها بالتوقيف ، وإن كنا جهلنا الحكمة في ذلك ، كما جهلناها في أكثر موارد الترتيب في الذكر الحكيم ، وكم لها من نظير ومن ذلك :

1 - سورة العنكبوت ، فإنها مكية إلا من أولها عشرة آيات ، كما رواه الطبري في تفسيره في الجزء العشرين/ 86 ، والقرطبي في تفسيره 13 / 323

2 - سورة الكهف ، فإنها مكية إلا من أولها سبع آيات ، فهي مدنية ... كما في تفسير القرطبي 10 / 346 ، وإتقان السيوطي 1 / 16 ...

ثم عدد الأميني سبع عشرة سورة مكية فيها آيات مدنية ، وسوراً مدنية فيها آيات مكية ..

الوجه الثالث : أن قوله تعالى : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، نزلت عقيب بدر بالإتفاق قبل يوم الغدير بسنين.

الجواب : كأن هذا الرجل يحسب أن من يروي تلك الأحاديث المتعاضدة يرى نزول ما لهج به الحارث بن النعمان الكافر من الآية الكريمة ... في اليوم المذكور.

والقارئ لهاتيك الأخبار جد عليم بمينه في هذا الحسبان ، أو أنه يرى حجراً على الآيات السابق نزولها أن ينطق بها أحدٌ ، فهل في هذه الرواية غير أن الرجل المرتد الحارث أو جابر تفوه بهذه الكلمات ؟ وأين هو من وقت نزولها ، فدعها يكن نزولها في بدر أو أحد ، فالرجل أبدى كفره بها كما أبدى الكفار قبله إلحادهم بها !

لكن ابن تيمية يريد تكثير الوجوه في إبطال الحق الثابت.

الوجه الرابع : أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون بمكة ، ولم ينزل عليهم العذاب هناك لوجود النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، لقوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.

الجواب : لا ملازمة بين عدم نزول العذاب في مكة على المشركين ، وبين عدم نزوله هاهنا على الرجل ، فإن أفعال المولى سبحانه تختلف باختلاف وجوه الحكمة.

ص: 315

ثم أورد الأميني عدداً من الذين دعا عليهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعذبهم الله تعالى ، ثم قال : ولو كان وجود الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مانعاً عن جميع أقسام العذاب بالجملة ، لما صح ذلك التهديد ، ولما أصيب النفر الذين ذكرناهم بدعوته ، ولما قتل أحد في مغازيه بعضبه الرهيف ، فإن كل هذه من أقسام العذاب ، أعاذنا الله منها.

الوجه الخامس : أنه لو صح ذلك لكان آيةً كآية أصحاب الفيل ، ومثلها تتوفر الدواعي لنقله ، ولما وجدنا المصنفين في العلم من أرباب المسانيد والصحاح والفضايل والتفسير والسير ونحوها ، قد أهملوه رأساً فلا يروى إلا بهذا الإسناد المنكر ، فعلم أنه كذب باطل.

الجواب : إن قياس هذه التي هي حادثة فردية ، لا تحدث في المجتمع فراغاً كبيراً يؤبه له ، وورائها أغراض مستهدفة تحاول إسدال ستور الإنساء عليها كما أسدلوها على نص الغدير نفسه ... مجازفةٌ ظاهرةٌ ، فإن من حكم الضرورة أن الدواعي في الأولى دونها في الثانية ....

وأما ما ادعاه ابن تيمية من إهمال طبقات المصنفين لها ، فهو مجازفة أخرى ، لما أسلفناه من رواية المصنفين لها من أئمة العلم ، وحملة التفسير ، وحفاظ الحديث ، ونقلة التاريخ ....

لم نعرف المشار إليه في قوله : بهذا الإسناد المنكر ! فإنه لا ينتهي إلا الى حذيفة بن اليمان الصحابي العظيم ، وسفيان بن عيينة المعروف بإمامته في العلم والحديث والتفسير ، وثقته في الرواية.

وأما الإسناد إليهما ، فقد عرفه الحفاظ والمحدثون والمفسرون المنقبون في هذا الشأن ، فوجدوه حرياً بالذكر والإعتماد ، وفسروا به آيات من الذكر الحكيم ، من دون أي نكير ، ولم يكونوا بالذين يفسرون الكتاب بالتافهات.

نعم : هكذا سبق العلماء وفعلوا ، لكن ابن تيمية استنكر السند ، وناقش في المتن لأن شيئاً من ذلك لا يلائم دعارة خطته.

ص: 316

الوجه السادس : أن المعلوم من هذا الحديث أن حارثاً المذكور كان مسلماً باعترافه بالمبادئ الخمسة الإسلامية ، ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً من المسلمين لم يصبه عذاب على العهد النبوي.

الجواب : إن الحديث كما أثبت إسلام الحارث ، فكذلك أثبت ردته برده قول النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتشكيكه فيما أخبر به عن الله تعالى ، والعذاب لم يأته حين إسلامه ، وإنما جاءه بعد الكفر والإرتداد ... على أن في المسلمين من شملته العقوبة لما تجرؤوا على قدس صاحب الرسالة ... ثم ذكر الأميني عدداً من الذين دعا عليهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من المسلمين ، منهم من ذكره مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع : أن رجلاً أكل عند النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بشماله ، فقال : كل بيمينك. قال : لا أستطيع ، قال : لا استطعت ! قال : فما رفعها الى فيه بعد .. الخ. !

الوجه السابع : أن الحارث بن النعمان غير معروف في الصحابة ، ولم يذكره ابن عبد البر في الإستيعاب وابن مندة وأبو نعيم الإصبهاني وأبو موسى في تآليف ألفوها في أسماء الصحابة ، فلم نتحقق وجوده.

الجواب : إن معاجم الصحابة غير كافلةٍ لاستيفاء أسمائهم ، فكل مؤلف من أربابها جمع ما وسعته حيطته وأحاط به إطلاعه ، ثم جاء المتأخر عنه فاستدرك على من قبله بما أوقفه السير في غضون الكتب وتضاعيف الآثار ، وأوفى ما وجدناه من ذلك كتاب الإصابة بتمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ، ومع ذلك فهو يقول في مستهل كتابه : ومع ذلك فلم يحصل لنا من ذلك جميعاً الوقوف على العشر من أسامي الصحابة بالنسبة الى ما جاء عن أبي زرعة الرازي قال : توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان ، من رجل وامرأة ، كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية ....

وبعد هذا كله فالنافي لشخصٍ لم يجد اسمه في كتب هذا شأنها خارجٌ عن ميزان النصفة ، ومتحايد عن نواميس البحث ، على أن من المحتمل قريباً أن مؤلفي معاجم الصحابة أهملوا ذكره لردته الأخيرة. انتهى.

ص: 317

ونضيف الى ما ذكره صاحب الغدير (رحمه الله) وما تقدم :

أولاً : أن من الأدلة القوية على صحة هذا الحديث أنه لا يمكن أن ينشأ من فراغ ، وأن احتمال وضعه من قبل رواة الخلافة القرشية غير معقول ، لأنهم لا يقدمون على وضع حديث يثبت أن ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نزلت من السماء قبل بيعة أبي بكر في السقيفة وأن الله تعالى عاقب من اعترض عليها بحجر من السماء ، كما عاقب أصحاب الفيل الكفار !

كما أن القول بتسرب الحديث من مصادر الشيعة الى مصادر السنة بابٌ خطيرٌ عليهم .. فلو قبلوا بفتحه لانهار بناء صحاحهم كلها ، ثم انهارت الخلافة القرشية وسقيفتها ! وذلك لأن رواة هذه الأحاديث ( الشيعية ) هم رواة أصول عقيدة الخلافة القرشية وبناة قواعدها .. فهم مجبورون على توثيقهم وقبول رواياتهم ، ومنها هذه الروايات التي تضر أصول مبانيهم !

ثانياً : أن المتفق عليه في مصادر الشيعة والسنة أقوى من المختلف فيه .. لأنك عندما ترى أن مذاهب المسلمين كلها تروي حديثاً ، يقوى عندك احتمال أن يكون صدر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وعندما يرويه بعضها ويرده بعضها تنزل عندك درجة الإحتمال ومما يزيد في درجة احتمال الصحة : أن يكون الطرف الراوي للحديث متضرراً منه ضرراً مؤكداً ، ومتحيراً في كيفية التخلص منه !

وحديثنا من هذا النوع ، فهو حديثٌ يتضرر منه أتباع خلافة قريش من المسلمين ويبغضه عَبَدَةُ قبيلة قريش من النواصب.

أما أتباع أهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيحتجون به ، وتخبت له قلوبهم.

ثالثاً : أن الإختلاف في اسم الشخص الذي نزل عليه حجر السجيل ، لا يضر في صحة الحديث ، إذا تمت بقية شروطه .. خاصةً أن اسمه صار سوأةً على أقاربه وعشيرته ، ولا بد أنهم عملوا على إخفائه ونسيان أمره ، حتى لا يعيرهم به المسلمون ، كما قال الاميني.

ص: 318

على أن للباحث أن يرجح أن اسم المعترض هو : جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ، وليس الحارث بن النعمان الفهري .. بدليل أن الحافظ أبي عبيد الهروي المتوفى سنة 223 ، ضبطه في تفسيره بهذا الإسم ، وكل العلماء السنيين يحترمون علم أبي عبيد ، وخبرته بالأحاديث ، وقدم عصره.

وجابر بن النضر شخصيةٌ قرشية معروفة ، لأنه ابن زعيم بني عبد الدار ، حامل لواء قريش يوم بدر .. فلا يبقى لابن تيمية والنواصب حجةٌ في رد الحديث !

على أن الباقين الذين وردت أسماؤهم في روايات الحديث ، كالحارث الفهري وغيره ، ترجم لهم المترجمون للصحابة أيضاً ، أو ترجموا لمن يصلحوا أن يكونوا أقارب لهم.

المسألة السادسة : طرق وأسانيد حديث حجر الغدير

أولاً : طرق وأسانيد المصادر السنية

اشارة

الطريق الأول : حديث أبي عبيد الهروي في كتابه : غريب القرآن ، وقد تقدم ، وهو بمقاييس أهل الجرح والتعديل السنيين بقوة المسند المقبول.

الطريق الثاني : حديث الثعلبي عن سفيان بن عيينة .. وله أسانيد كثيرة ، وأكثر الذين ذكرهم صاحب الغدير ، رووه عن الثعلبي بأسانيدهم اليه ، أو نقلوه من كتابه.

- وذكر السيد المرعشي عدداً منهم في إحقاق الحق : 6 / 358 ، قال :

- العلامة الثعلبي في تفسيره ( مخطوط ) : روى بسنده عن سفيان بن عيينة (رحمه الله) سئل عن قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع ، فيمن نزلت ؟ فقال للسائل : لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك ، حدثني أبي ، عن جعفر بن محمد عن آبائه رضي الله عنهم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد علي (رضی الله عنه) وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فشاع ذلك فطار في البلاد ، وبلغ ذلك الحارث ( خ. الحرث ) بن النعمان الفهري ، فأتي رسول الله

ص: 319

صلى الله عليه وسلم على ناقة له ، فأناخ راحلته ونزل عنها ، وقال : يا محمد أمرتنا عن الله عز وجل أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلنا منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصوم رمضان وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شيء منك أم من الله عز وجل ؟!

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله عز وجل.

فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل الى راحلته حتى رماه الله عز وجل بحجر سقط على هامته فخرج من دبره فقتله ، فأنزل الله عز وجل « سئل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج ».

- ومنهم العلامة الحمويني في فرائد السمطين ( المخطوط ) قال :

أخبرني الشيخ عماد الدين عبد الحافظ بن بدران بن شبل المقدسي بمدينة نابلس فيما أجازني أن أرويه عنه ، عن القاضي جمال الدين عبد القاسم بن عبد الصمد بن محمد الأنصاري إجازة ، عن عبد الجبار بن محمد الخوارزمي البيهقي إجازة ، عن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي (رحمه الله) قال : قرأت على شيخنا الأستاد أبي إسحاق الثعلبي (رحمه الله) في تفسيره أن سفيان بن عيينة .. فذكر الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي.

- ومنهم العلامة الزرندي في نظم درر السمطين / 93 ط. مطبعة القضاء :

روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي.

- ومنهم العلامة ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة / 24 ط. الغري

روى الحديث نقلاً عن الثعلبي بعين ما تقدم عن تفسيره بلا واسطة.

- ومنهم العلامة عبد الرحمن الصفوري في نزهة المجالس 2 / 209 ط. القاهرة :

روى الحديث نقلاً عن تفسير القرطبي بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي.

ص: 320

- ومنهم العلامة السيد جمال الدين عطاء الله الشيرازي الهروي في الأربعين حديثاً

( مخطوط ) روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي ، لكنه زاد بعد قوله : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله : وأدر الحق معه حيث كان ، وفي رواية اللهم أعنه وأعن به وارحمه وارحم به ، وانصره وانصر به.

- ومنهم العلامة عبد الله الشافعي في المناقب / 205 مخطوط

روى الحديث بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي.

- ومنهم العلامة القندوزي في ينابيع المودة / 274 ط. اسلامبول

روى الحديث عن الثعلبي بعين ما تقدم عنه في تفسيره.

- ومنهم العلامة الأمرتسري في أرجح المطالب / 568 ط. لاهور

روى الحديث من طريق شهاب الدين الدولت آبادي ، والسيد السمهودي في جواهر العقدين ، وجمال الدين المحدث صاحب روضة الأحباب في أربعينه

- وعبد الرؤوف المناوي في فيض القدير

- ومحمد بن محمد القادري في الصراط السوي

- والحلبي في إنسان العيون

- وأحمد بن الفضل بن محمد باكثير في وسيلة الامال

- ومحمد بن إسماعيل الامير في الروضة الندية

- والحافظ محمد بن يوسف الكنجي في كفاية الطالب بعين ما تقدم عن تفسير الثعلبي. انتهى.

سندا القاضي الحسكاني الى ابن عيينة

- قال في شواهد التنزيل : 2 / 382

1030 - أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي أخبرنا أبو بكر الجرجرائي ، حدثنا أبو أحمد البصري قال : حدثني محمد بن سهل حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصاري ،

ص: 321

حدثنا محمد بن أيوب الواسطي ، عن سفيان بن عينية ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : عن علي قال : لما نصب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً يوم غدير خم فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه. طار ذلك في البلاد ، فقدم على رسول الله النعمان بن الحرث الفهري فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة والصوم فقبلناها منك ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه معلي مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله ؟!!

فقال : أمرٌ من عند الله.

قال : الله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله ؟

قال : الله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله.

قال : فولى النعمان وهو يقول ( اللهم ) إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، فأنزل الله تعالى « سأل سائل ».

1031 - حدثونا عن أبي بكر السبيعي ، حدثنا أحمد بن محمد بن نصر أبو جعفر الضبعي ، قال : حدثني زيد بن إسماعيل بن سنان ، حدثنا شريح بن النعمان حدثنا سفيان بن عيينة ، عن جعفر عن أبيه ، عن علي بن الحسين قال : نصب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً يوم غدير خم ( و ) قال : من كنت مولاه فعلي مولاه. فطار ذلك في البلاد. الحديث به ، سواء معنى.

الطريق الثالث : للقاضي الحسكاني عن جابر الجعفي

- قال في شواهد التنزيل : 2 / 382

1032 - و ( رواه أيضاً ) في ( التفسير ) العتيق ( قال ) : حدثنا إبراهيم بن محمد الكوفي قال : حدثني نصر بن مزاحم ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر الجعفي ، عن محمد بن علي قال : أقبل الحارث بن عمرو الفهري الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال : إنك أتيتنا

ص: 322

بخبر السماء فصدقناك وقبلنا منك. فذكر مثله الى قوله : فارتحل الحارث ، فلما صار ببطحاء ( مكة ) أتته جندلة من السماء فشدخت رأسه ، فأنزل الله « سأل سائل بعذاب واقع للكافرين » بولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وفي الباب عن حذيفة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وابن عباس.

الطريق الرابع : للقاضي الحسكاني عن حذيفة بن اليمان

- قال في شواهد التنزيل : 2 / 383

1033 - حدثني أبو الحسن الفارسي ، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسماعيل الحسني ، حدثنا عبد الرحمان بن الحسن الأسدي ، حدثنا إبراهيم.

وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد البغدا دي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الشيباني ، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن الأسدي ، حدثنا إبراهيم بن الحسن الكسائي ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان بن سعيد ، حدثنا منصور ، عن ربعي ، عن حذيفة بن اليمان قال : لما قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعلي : من كنت مولاه فهذا مولاه. قام النعمان بن المنذر الفهري ( كذا ) فقال : هذا شيء قلته من عندك أو شيء أمرك به ربك.

قال : لا ، بل أمرني به ربي.

فقال : اللهم أنزل علينا حجارة من السماء. فما بلغ رحله حتى جاءه حجرٌ فأدماه فخر ميتاً ، فأنزل الله تعالى « سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع » و ( الطريقان ) لفظهما واحد.

الطريق الخامس : للقاضي الحسكاني عن أبي هريرة

- قال في شواهد التنزيل : 2 / 383

1034 - وأخبرنا عثمان أخبرنا فرات بن إبراهيم الكوفي قال : حدثنا الحسين بن محمد بن مصعب البحلي قال : حدثنا أبو عمارة محمد بن أحمد المهدي ، حدثنا

ص: 323

محمد بن أبي معشر المدني ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعضد علي بن أبي طالب يوم غدير خم ، ثم قا ل : من كنت مولاه فهذا مولاه. فقام إليه أعرابي فقال : دعوتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فصدقناك ، وأمرتنا بالصلاة والصيام فصلينا وصمنا ، وبالزكاة فأدينا ، فلم يقعنك إلا أن تفعل هذا ! فهذا عن الله أم عنك ؟

قال : عن الله ، لا عني.

قال : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن الله لا عنك ؟!

قال : نعم ، ثلاثاً ، فقام الأعرابي مسرعاً الى بعيره ، وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، الآية ، فما استتم الكلمات حتى نزلت نارٌ من السماء فأحرقته ، وأنزل الله في عقب ذلك : سأل سائل ، الى قوله دافع. انتهى.

وقد ذكر الحسكاني كما رأيت طريقين آخرين الى سعد بن أبي وقاص ، وابن عباس ، ولم يذكر سندهما .. ولعلهما الطريقان الموجودان في تفسير فرات الكوفي.

* *

ثانياً : طرق وأسانيد مصادرنا الى سفيان بن عيينة

أسانيد فرات بن ابراهيم الكوفي الى سفيان بن عيينة

- تفسير فرات الكوفي ص 505

3 - فرات قال : حدثني محمد بن أحمد ظبيان معنعناً : عن الحسين بن محمد الخارفي قال : سألت سفيان بن عيينة عن : سأل سائل ، فيمن نزلت : قال : يا ابن أخي سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، لقد سألت جعفر بن محمد (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) عن مثل الذي سألتني عنه ، فقال : أخبرني أبي عن جدي عن أبيه عن ابن عباس (رضی الله عنه) قال : لما كان يوم غدير خم ، قام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خطيباً فأوجز في خطبته ، ثم دعا علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فأخذ بضبعه ثم رفع بيده حتى رئي بياض إبطيهما وقال : ألم أبلغكم

ص: 324

الرسالة ؟ ألم أنصح لكم ؟ قالوا : اللهم نعم ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله. ففشت في الناس فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري ، فرحل راحلته ثم استوى عليها - ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذ ذاك بمكة - حتى انتهى الى الأبطح ، فأناخ ناقته ثم عقلها ثم جاء الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فسلم فرد عليه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال :

يا محمد إنك دعوتنا أن نقول لا إله إلا الله فقلنا ! ثم دعوتنا أن نقول إنك رسول الله فقلنا ، وفي القلب ما فيه ، ثم قلت صلوا فصلينا ، ثم قلت صوموا فصمنا فأظمأنا نهارنا وأتعبنا أبداننا ، ثم قلت حجوا فحججنا ، ثم قلت إذا رزق أحدكم مأتي درهم فليتصدق بخمسة كل سنة ، ففعلنا.

ثم انك أقمت ابن عمك فجعلته علماً وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ، أفعنك أم عن الله ؟! قال : بل عن الله - قال فقالها ثلاثاً - قال : فنهض ، وإنه لمغضب وإنه ليقول : اللهم إن كان ما قال محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء ، تكون نقمة في أولنا وآية في آخرنا ، وإن كان ما قال محمد كذباً فأنزل به نقمتك.

ثم أثار ناقته فحل عقالها ثم استوى عليها ، فلما خرج من الأبطح رماه الله تعالى بحجر من السماء فسقط على رأسه وخرج من دبره ، وسقط ميتاً فأنزل الله فيه : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج. انتهى.

أسانيد محمد بن العباس الى سفيان بن عيينة

- تأويل الآيات : 2 / 722

قال محمد بن العباس (رحمه الله) : حدثنا علي بن محمد بن مخلد ، عن الحسن بن القاسم ، عن عمر بن الأحسن ، عن آدم بن حماد ، عن حسين بن محمد قال : سألت سفيان بن عيينة عن قول الله عز وجل : سأل سائل ، فيمن نزلت ؟ فقال ... بنحو رواية فرات الأخيرة.

ص: 325

سند الشريف المرتضى الى سفيان بن عيينة

- مدينة المعاجز : 1 / 407

270 - السيد المرتضى في عيون المعجزات : قال : حدث أبو عبد الله محمد بن أحمد قال : حدثنا أبي قال : حدثني علي بن فروخ السمان قال : حدثني يحيى بن زكرياء المنقري قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثني عمر بن أبي سليم العيسى ، عن جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) قال : لما نصب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً يوم غدير خم وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ...

قلت : قد ذكرت في معنى هذا الحديث رواية المفضل بن عمر الجعفي ، عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في كتاب البرهان في تفسير القرآن بالرواية عن أهل البيت في قوله تعالى : قل فلله الحجة البالغة من سورة الأنعام.

وفي سورة المعارج في قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع ، رواية اخرى.

سند منتجب الدين الرازي الى سفيان بن عيينة

- الأربعون حديثاً لمنتجب الدين الرازي ص 82

الحكاية الخامسة : أنا أبو العلاء زيد بن علي بن منصور الأديب والسيد أبوتراب المرتضى بن الداعي بن القاسم الحسني قال : أنا الشيخ المفيد عبد الرحمن بن أحمد الواعظ الحافظ املاءً : أنامحمد بن زيد بن علي الطبري أبو طالب بن أبي شجاع البريدي بآمل بقراءتي عليه ، أنا أبو الحسين زيد بن إسماعيل الحسني ، أنا السيد أبوالعباس أحمد بن إبراهيم الحسني ، أنا عبد الرحمن بن الحسن الخاقاني ، أنا عباس بن عيسى ، أنا الحسن بن عبد الواحد الخزاز ، عن الحسن بن علي النخعي ، عن رومي بن حماد المخارقي قال : قلت لسفيان بن عيينة : أخبرني عن « سأل سائل » فيمن أنزلت ط قال : لقد سألتني عن مسألة ماسألني عنها أحد قبلك ، سألت عنها جعفر بن محمد الصادق (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) فقال : لقد سألتني عن مسألة ما سألني عنها أحد قبلك ، حدثني أبي عن آبائه (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) قال : لما حج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حجة الوداع فنزل بغدير خم ، نادى في

ص: 326

الناس فاجتمعوا فقال : يا أيها الناس ألم أبلغكم الرسالة ؟ قالوا : اللهم بلى. قال : أفلم أنصح لكم ؟ قالوا : اللهم بلى. قال : فأخذ بضبع علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فرفعه حتى رؤي بياض إبطيهما ، ثم قال : أيها الناس من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

قال : فشاع ذلك ، فبلغ الحارث بن النعمان الفهري ، فأقبل يسير على ناقة له حتى نزل بالأبطح فأناخ راحلته وشد عقالها ، ثم أتى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو في ملأ من أصحابه فقال : يا رسول الله والله الذي لا إله إلا هو إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فشهدنا ، ثم أمرتنا أن نشهد أنك رسوله فشهدنا ، ثم أمرتنا أن نصلي خمساً فصلينا ، ثم أمرتنا أن نصوم شهر رمضان فصمنا ، ثم أمرتنا أن نزكي فزكينا ، ثم أمرتنا أن نحج فحججنا ، ثم لم ترض حتى نصبت ابن عمك علينا ، فقلت : من كنت مولاه فهذا علي مولاه. هذا عنك أو عن الله تعالى ؟!

قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لا بل عن الله.

قال : فقام الحارث بن النعمان مغضباً وهو يقول : اللهم إن كان ما قال محمد حقاً فأنزل بي نقمة عاجلة.

قال : ثم أتى الأبطح فحل عقال ناقته واستوى عليها ، فلما توسط الأبطح رماه الله بحجر فوقع وسط دماغه وخرج من دبره ، فخر ميتاً ، فأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع. وقد أورد أبو إسحاق الثعلبي إمام أصحاب الحديث في تفسيره هذه الحكاية بغير إسناد.

سند الطبرسي الى سفيان بن عيينة

- تفسير الميزان : 6 / 58

وفي المجمع أخبرنا السيد أبو الحمد قال : حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال : أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال : أخبرنا أبو بكر الجرجانى قال : أخبرنا أبو أحمد البصرى قال : حدثنا محمد بن سهل قال : حدثنا زيد بن إسماعيل مولى

ص: 327

الأنصار قال : حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال : حدثنا سفيان بن عيينه ، عن جعفر بن محمد الصادق ، عن آبائه قال : لما نصب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً يوم غدير خم قال من كنت مولاه فهذا على مولاه ....

* *

ثالثاً : طرق وأسانيد من مصادرنا من غير طريق سفيان بن عيينة

أسانيد محمد بن يعقوب الكليني

- الكافي : 1 / 422

47 - علي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قول الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ( بولاية علي ) ليس له دافع.

ثم قال : هكذا والله نزل بها جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). انتهى.

ومعنى قوله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ( هكذا والله نزل بها جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : أنه نزل بتأويلها ، وهذا مثل قول ابن مسعود المتقدم في آية التبليغ أنهم كانوا يقرؤون على عهد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) « بلغ ما أنزل اليك - في علي » وما ورد عن ابن عباس في آيات الخندق أنه كان يقرأ ( وكفى الله المؤمنين القتال - بعلي » فهذه ليست قراءات ، لأنه لا يجوز إضافة أي حرفٍ الى نص كتاب الله تعالى ، بل كلها تفاسير من الصحابة ، أو تفسيرٌ نزل به جبرئيل (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فبلغهم إياها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فكانوا يقرؤونها كالذي يشرح آيةً ، أو كتبوها في تفاسيرهم كالهامش.

- وفي الكافي : 8 / 57

18 - عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير قال : بينا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ذات يوم جالساً إذ أقبل أمير المؤمنين (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إن فيك شبهاً من عيسى بن مريم ، ولو لا أن تقول فيك طوائف من

ص: 328

أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، لقلت فيك قولاً لا تمر بملأٍ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك ، يلتمسون بذلك البركة.

قال : فغضب أعرابيان والمغيرة بن شعبة وعدةٌ من قريش معهم ، فقالوا : ما رضي أن يضرب لابن عمه مثلاً إلا عيسى ابن مريم ، فأنزل الله على نبيه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال : ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون ، وقالوا ءآلهتنا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ، إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل. ولو نشاء لجعلنا منكم - يعني من بني هاشم - ملائكة في الأرض يخلفون. قال : فغضب الحارث بن عمرو الفهري فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك أن بني هاشم يتوارثون هرقلاً بعد هرقل ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم .... الى آخره ، ولعل في متنه اضطراباً ، وفيه :

ثم قال له : يا بن عمرو إما تبت وإما رحلت.

فقال : يا محمد ، بل تجعل لسائر قريش شيئاً مما في يديك ، فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم !

فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ليس ذلك إلي ، ذلك إلى الله تبارك وتعالى.

فقال : يا محمد قلبي ما يتابعني على التوبة ، ولكن أرحل عنك ، فدعا براحلته فركبها فلما صار بظهر المدينة ، أتته جندلةٌ فرضخت هامته ، ثم أتى الوحي الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين - بولاية علي - ليس له دافع ، من الله ذي المعارج.

أسانيد فرات بن ابراهيم الكوفي

- تفسير فرات الكوفي ص 503

1- قال : حدثنا الحسين بن محمد بن مصعب البجلي قال : حدثنا أبو عمارة محمد بن أحمد المهتدي قال : حدثنا محمد بن معشر المدني ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : طرحت الأقتاب لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يوم غدير خم

ص: 329

قال فعلا عليها فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أخذ بعضد علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فاستلها فرفعها ، ثم قال : اللهم من كنت مولاه فعلي فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.

فقام إليه أعرابي من أوسط الناس فقال : يا رسول الله دعوتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فشهدنا وأنك رسول الله فصدقنا ، وأمرتنا بالصلاة فصلينا ، وبالصيام فصمنا ، وبالجهاد فجاهدنا ، وبالزكاة فأدينا ، قال : ولم يقنعك إلا أن أخذت بيد هذا الغلام على رؤس الأشهاد ، فقلت : اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ! فهذا عن الله أم عنك ؟!

قال : هذا عن الله ، لا عني.

قال : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن الله لا عنك ؟!

قال : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن الله لا عني.

ثم قال ثالثة : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن ربك لا عنك ؟

قال : الله الذي لا إله إلا هو لهذا عن ربي لا عني.

قال : فقام الأعرابي مسرعاً الى بعيره وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.

قال : فما استتم الأعرابي الكلمات حتى نزلت عليه نارٌ من السماء فأحرقته ، وأنزل الله في عقب ذلك : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج.

2 - قال فرات : حدثني جعفر بن محمد بن بشروية القطان معنعناً ، عن الأوزاعي ، عن صعصعة بن صوحان والأحنف بن قيس قالا جميعاً : سمعنا ابن عباس (رضی الله عنه) قال : كنت مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذ دخل علينا عمرو بن الحارث الفهري قال : يا أحمد أمرتنا بالصلاة والزكاة أفمنك هذا أم من ربك يا محمد ؟ قال : الفريضة من ربي وأداء الرسالة مني ، حتى أقول : ما أديت إليكم إلا ما أمرني ربي.

ص: 330

قال : فأمرتنا بحب علي بن أبي طالب ، زعمت أنه منك كهارون من موسى ، وشيعته على نوق غر محجلةٍ يرفلون في عرصة القيامة ، حتى يأتي الكوثر فيشرب ويسقي هذه الأمة ، ويكون زمرة في عرصة القيامة ، أبهذا الحب سبق من السماء أم كان منك يا محمد ؟

قال : بلى سبق من السماء ثم كان مني. لقد خلقنا الله نوراً تحت العرش !

فقال عمرو بن الحارث : الآن علمت أنك ساحر كذاب ! يا محمد ألستما من ولد آدم ؟

قال : بلى ، ولكن خلقني الله نوراً تحت العرش قبل أن يخلق الله آدم باثني عشر ألف سنة ، فلما أن خلق الله آدم ألقى النور في صلب آدم ، فأقبل ينتقل ذلك النور من صلب الى صلب ، حتى تفرقنا في صلب عبد الله بن عبد المطلب وأبي طالب ، فخلقنا ربي من ذلك النور ، لكنه لكن لا نبي بعدي.

قال : فوثب عمرو بن الحارث الفهري مع اثني عشر رجلاً من الكفار ، وهم ينفضون أرديتهم فيقولون : اللهم إن كان محمد صادقاً في مقالته فارم عمراً وأصحابه بشواظٍ من نار.

قال فرمي عمرو وأصحابه بصاعقة من السماء ، فأنزل الله هذه الآية : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج. فالسائل عمرو وأصحابه.

4 - فرات قال : حدثنا أبو أحمد يحيى بن عبيد بن القاسم القزويني معنعناً ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : صلى بنا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) صلاة الفجر يوم الجمعة ، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم الحسن وأثنى على الله تبارك وتعالى ، فقال : أخرج يوم القيمة وعلي بن أبي طالب أمامي ، وبيده لواء الحمد ، وهو يومئذ من شقتين شقة من السندس وشقة من الإستبرق ، فوثب إليه رجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة ، فقال : قد أرسلوني إليك لأسألك ، فقال : قل يا أخا البادية.

قال : ما تقول في علي بن أبي طالب ، فقد كثر الإختلاف فيه ؟

ص: 331

فتبسم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ضاحكاً فقال : يا أعرابي ، ولم يكثر الإختلاف فيه ؟ عليٌّ مني كرأسي من بدني ، وزري من قميصي.

فوثب الأعرابي مغضباً ثم قال : يا محمد إني أشد من علي بطشاً ، فهل يستطيع علي أن يحمل لواء الحمد ؟

فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : مهلاً يا أعرابي ، فقد أعطي علي يوم القيامة خصالاً شتى : حسن يوسف ، وزهد يحيى ، وصبر أيوب ، وطول آدم ، وقوة جبرئيل. وبيده لواء الحمد وكل الخلائق تحت اللواء ، يحف به الأئمة والمؤذنون بتلاوة القرآن والأذان ، وهم الذين لا يتبددون في قبورهم.

فوثب الأعرابي مغضباً وقال : اللهم إن يكن ما قال محمد فيه حقاً فأنزل علي حجراً. فأنزل الله فيه : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج.

سندا محمد بن العباس

- تأويل الآيات : 2 / 722

- وقال أيضاً : حدثنا أحمد بن القاسم ، عن أحمد بن محمد السياري ، عن محمد بن خالد ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه تلا : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - بولاية علي - ليس له دافع ، ثم قال : هكذا هي في مصحف فاطمة (عَلَيْهِا السَّلاَمُ).

- ويؤيده : ما رواه محمد البرقي ، عن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله عز وجل : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - بولاية علي - ليس له دافع ، ثم قال : هكذا والله نزل بها جبرئيل على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). انتهى.

وقد تقدم أن عبارة ( بولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ) تفسيرٌ للآية ، وكانوا يكتبون ذلك في هامش مصاحفهم ، كما ورد عن مصحف ابن عباس أنه كان فيه : وكفى الله المؤمنين القتال ، بعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 332

سند جامع الأخبار

- بحار الأنوار : 33 / 165

42 - جامع الأخبار : أخبرنا علي بن عبد الله الزيادي ، عن جعفر بن محمد الدوريستي ، عن أبيه ، عن الصدوق ، عن أبيه ، عن سعد ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن أبيه ، عن محمد بن سنان ، عن زرارة قال : سمعت الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : لما خرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى مكة في حجة الوداع فلما انصرف منها - وفي خبر آخر : وقد شيعه من مكة اثنا عشر ألف رجل من اليمن وخمسة آلاف رجل من المدينة - جاءه جبرئيل في الطريق فقال له :

يا رسول الله إن الله تعالى يقرؤك السلام ، وقرأ هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك .. فقال له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : يا جبرئيل إن الناس حديثو عهد بالإسلام فأخشى أن يضطربوا ولا يطيعوا .....

فقال له : يا جبرئيل أخشى من أصحابي أن يخالفوني ، فعرج جبرئيل ونزل عليه في اليوم الثالث وكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بموضع يقال له غدير خم ، وقال له : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس.

فلما سمع رسول الله هذه المقالة قال للناس : أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي ، وأمر أن ينصب له منبر من أقتاب الإبل وصعدها وأخرج معه علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وقام قائماً وخطب خطبة بليغة ، وعظ فيها وزجر ، ثم قال في آخر كلامه : يا أيها الناس ألست أولى بكم منكم ؟

فقالوا : بلى يا رسول الله ....

فلما كان بعد ثلاثةٍ ، وجلس النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مجلسه أتاه رجل من بني مخزوم يسمى عمر بن عتبة - وفي خبر آخر حارث بن النعمان الفهري ، فقال :

يا محمد أسألك عن ثلاث مسائل.

فقال : سل عما بدا لك.

ص: 333

فقال : أخبرني عن شهادة أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله ، أمنك أم من ربك ؟

قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : أُوحِيَ إلي من الله ، والسفير جبرئيل ، والمؤذن أنا ، وما أذنت إلا من أمر ربي.

قال : فأخبرني عن الصلاة والزكاة والحج والجهاد ، أمنك أم من ربك ؟

قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مثل ذلك.

قال : فأخبرني عن هذا الرجل - يعني علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - وقولك فيه : من كنت مولاه فهذا علي مولاه .. الى آخره ، أمنك أم من ربك ؟

قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : الوحي إليَّ من الله ، والسفير جبرئيل ، والمؤذن أنا ، وما أذنت إلا ما أمرني.

فرفع المخزومي رأسه الى السماء فقال : اللهم إن كان محمد صادقاً فيما يقول فأرسل علي شواظاً من نار ، وفي خبر آخر في التفسير فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، وولى ، فوالله ما سار غير بعيد حتى أظلته سحابة سوداء ، فأرعدت وأبرقت فأصعقت ، فأصابته الصاعقة فأحرقته النار ! فهبط جبرئيل وهو يقول : إقرأ يا محمد : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع.

فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لأصحابه : رأيتم ؟!

قالوا : نعم.

قال : وسمعتم ؟

قالوا : نعم.

قال : طوبى لمن والاه والويل لمن عاداه ، كأني أنظر الى علي وشيعته يوم القيامة يزفون على نوقٍ من رياض الجنة ، شبابٌ متوجون مكحلون لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ، قد أيدوا برضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم ، حتى سكنوا حظيرة القدس من جوار رب العالمين ، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون ، ويقول لهم الملائكة : سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.

ص: 334

سند مدينة المعاجز للبحراني

- مدينة المعاجز : 2 / 267

العلامة الحلي في الكشكول : عن محمد بن أحمد بن عبد الرحمان الباوردي ....

فقال النضر بن الحارث الفهري : إذا كان غداً اجتمعوا عند رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى أقبل أنا وأتقاضاه ما وعدنا به في بدء الإسلام ، وانظر ما يقول ، ثم نحتج ، فلما أصبحوا فعلوا ذلك فأقبل النضر بن الحارث فسلم على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال :

يا رسول الله إذا كنت أنت سيد ولد آدم ، وأخوك سيد العرب ، وابنتك فاطمة سيدة نساء العالمين ، وابناك الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وعمك حمزة سيد الشهداء ، وابن عمك ذو الجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء. وعمك جلدة بين عينيك وصنو أبيك ، وشيبة له السدانة ، فما لسائر قومك من قريش وسائر العرب ؟!

فقد أعلمتنا في بدء الإسلام أنا إذا آمنا بما تقول لنا مالك وعلينا ما عليك.

فأطرق رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طويلاً ثم رفع رأسه فقال :

أما أنا والله ما فعلت بهم هذا ، بل الله فعل بهم هذا فما ذنبي ؟!

فولى النضر بن الحارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم.

يعني الذي يقول محمد فيه وفي أهل بيته ، فأنزل الله تعالى : وإذ قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم .. الى قوله : وهم يستغفرون.

فبعث رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الى النضر بن الحارث الفهري وتلا عليه الآية فقال : يا رسول الله إني قد سررت ذلك جميعه أنا ومن لم تجعل له ما جعلته لك ولأهل بيتك من الشرف والفضل في الدنيا والآخرة ، فقد أظهر الله ما أسررنا به.

أما أنا فأسألك أن تأذن لي أن أخرج من المدينة ، فإني لا أطيق المقام بها ! فوعظه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إن ربك كريم ، فإن أنت صبرت وتصابرت لم يخلك من مواهبه ، فارض

ص: 335

وسلم ، فإن الله يمتحن خلقه بضروب من المكاره ، ويخفف عمن يشاء ، وله الخلق والأمر ، مواهبه عظيمة ، وإحسانه واسع.

فأبى الحارث ، وسأله الإذن فأذن له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأقبل الى بيته وشد على راحلته وركبها مغضباً ، وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.

فلما صار بظهر المدينة وإذا بطيرٍ في مخلبه حجرٌ ، فأرسله إليه فوقع على هامته ، ثم دخلت في دماغه وخرج من جوفه ووقع على ظهر راحلته وخرج من بطنها ، فاضطربت الراحلة وسقطت وسقط النضر بن الحارث من عليها ميتين ، فأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - بعلي وفاطمة والحسن والحسين وآل محمد - ليس له دافع من الله ذي المعارج. انتهى.

وقال في هامشه : لم نجد كتاب الكشكول للعلامة الحلي (رحمه الله) بل هو للمحدث الجليل العلامة السيد حيدر بن علي الحسيني الآملي من علماء القرن الثامن الهجري أوله : أما البداية فليس بخفي من علمك ولا يستتر عن فهمك وآخره : والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين. انتهى.

رواية المناقب لابن شهر آشوب

- بحار الأنوار : 31 / 320

17 - قب : أبو بصير عن الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لما قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : يا علي لولا أنني أخاف أن يقول فيك ما قالت النصارى في المسيح لقلت اليوم فيك مقالة لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدمك. الخبر.

قال الحارث بن عمرو الفهري لقوم من أصحابه : ما وجد محمد لابن عمه مثلاً إلا عيسى بن مريم يوشك أن يجعله نبياً من بعده. والله إن آلهتنا التي كنا نعبد خيرٌ منه ! فأنزل الله تعالى : ولما ضرب بن مريم مثلاً الى قوله : وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم.

ص: 336

وفي رواية : أنه نزل أيضاً : إن هو إلا عبد أنعمنا عليه الآية. فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) :

يا حارث اتق الله وارجع عما قلت من العداوة لعلي بن أبي طالب.

فقال : إذا كنت رسول الله وعلي وصيك من بعدك وفاطمة بنتك سيدة نساء العالمين والحسن والحسين ابناك سيدا شباب أهل الجنة ، وحمزة عمك سيد الشهداء ، وجعفر الطيار ابن عمك يطير مع الملائكة في الجنة ، والسقاية للعباس عمك ، فما تركت لسائر قريش وهم ولد أبيك !

فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ويلك يا حارث ما فعلت ذلك ببني عبد المطلب ، لكن الله فعله بهم !

فقال : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية.

فأنزل الله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، ودعا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الحارث فقال : إما أن تتوب أو ترحل عنا.

قال : فإن قلبي لا يطاوعني الى التوبة ، لكني أرحل عنك !

فركب راحلته فلما أصحر ، أنزل الله عليه طيراً من السماء في منقاره حصاة مثل العدسة فأنزلها على هامته وخرجت من دبره الى الأرض ، ففحص برجله وأنزل الله تعالى على رسوله : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - بولاية علي.

رواية علي بن ابراهيم القمي

- تفسير القمي : 2 / 385

أخبرنا أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الله ، عن محمد بن علي ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي الحسن (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في قوله : سأل سائل بعذاب واقع قال : سأل رجل عن الأوصياء وعن شأن ليلة القدر ، وما يلهمون فيها ؟ فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : سألت عن عذابٍ واقع ، ثم كفرٍ بأن ذلك لا يكون ، فإذا وقع فليس له من دافع.

ص: 337

وهناك أسانيد أخرى ، يصعب استقصاؤها فراجع شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ، وكنز الحقائق للكراجكي ، والفضائل لشاذان بن جبرئيل ، وتفسير القمي ، والمناقب لابن شهراشوب ، وغاية المرام للبحراني .. وغيرها.

النتيجة صحة أصل الحديث ، وتعدد العقاب الإلهي

المتأمل في روايات العقاب الالهي العاجل لمن اعترض على ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يصل الى نتيجتين :

الأولى : أن أصل الحديث مستوفٍ لشروط الصحة .. فمهما كان الباحث بطيء التصديق ، ميالاً للتشكيك ، وأجاز لنفسه القول إن الشيعة وضعوا هذا الحديث ودونوه في مصادرهم .. فلا يمكنه أن يفسر وجوده في مصادر السنة بذلك ، لأن عدداً من أئمتهم المحدثين قد رووه وتبنوه ، كما رأيت.

نعم قد يعترض متعصبٌ بأن هؤلاء الأئمة السنيين ، قد رووا ذلك عن أئمة أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ)

وجوابه أولاً ، أن مقام أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) عند السنة لا يقل عن مقام كبار أئمتهم ، خاصةً مثل الإمامين الباقر والصادق (عَلَيْهِما السَّلاَمُ) اللذين يروي عنهما مباشرةً أو بالواسطة عددٌ من كبار أئمتهم ، مثل أبي عبيد والسفيانين والزهري ومالك وأحمد .. وغيرهم.

والحساسية التي قد تراها عند السنيين من أحاديث أهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) إنما هي مما نرويه نحن الشيعة ، أما ما يرويه عنهم أئمتهم ، فقد قبلوه ودونوا عدداً منه في صحاحهم.

وجوابه ثانياً ، أن طرق الحديث ليست محصورةً بأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فقد تقدم طريق الحاكم الحسكاني عن حذيفة ، وأبي هريرة ، وغيرهما أيضاً.

والنتيجة الثانية : أن الحادثة التي وردت في الأحاديث المتقدمة وغيرها لا يمكن أن تكون حادثة واحدة ، بل هي متعددة .. وذلك بسبب تعدد الأسماء ، ونوع العقوبة والأمكنة ، والأزمنة ، والملابسات المذكورة في روايات الحديث.

ص: 338

فرواية أبي عبيد والثعلبي وغيرها تقول إن الحادثة كانت في المدينة أو قربها ، وأن العذاب كان بحجرٍ من سجيل .. ورواية أبي هريرة وغيرها تقول إن الإعتراض كان في نفس غدير خم بعد خطبة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وأن العقوبة كانت بنارٍ نزلت من السماء .. وبعضها يقول إنها كانت بصاعقة ..

والأسماء الواردة متعددة أيضاً ، والتصحيف يصح في بعضها ، لكن لا يصح في جميعها.

المسألة السابعة : عشيرة سأل سائل بعذاب واقع

اشارة

بقيت عدة مسائل وبحوث ، تتعلق بموضوعنا :

منها ، عدد المعترضين على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد الغدير ، وهوياتهم .. ونوع العقوبة الإلهية ، التي وقعت عليهم ..

ومنها ، ما أحدثه الإعلان النبوي عن ولاية العترة من تأثيرٍ على المسلمين عامة ، وعلى قريشٍ خاصة .. وما يتصل به من الجو العام في الشهرين الأخيرين من حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، والآيات التي نزلت ، والأحداث التي وقعت .. ومن أهمها تشاور الأنصار وعرضهم على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يخصصوا له ولعترته ثلث أموالهم لمصارفهم ، ونزول آية « قل لاأسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى » وزيادة حساسية قريش بسبب ذلك.

ومن أهمها أيضاً ، أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قرر أن يرسل كل شخصيات قريش المؤثرين في جيشٍ الى مؤتة ، وأمَّر عليهم شاباً أسود البشرة من أصل إفريقي عمره تسع عشرة سنة ، هو أسامة بن زيد ! وهدفه من ذلك أن يوجه نظر الأمة الى الجبهة الخارجية ، ويفرغ المدينة من المخالفين لعترته ، حتى إذا توفي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يكن فيها إلا علي والأنصار .. الى آخر الأحداث والأوضاع التي كانت في هذه الفترة الحاسمة ..

ص: 339

ومنها ، بحث محاولتي اغتيال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد إعلان الغدير ، في طريق رجوعه في عقبة هرشى ، وفي قصة لده وإعطائه الدواء عندما أغمي عليه من الحمى في مرضه رغم أنه كان نهاهم عنه !

ومنها ، قصة الصحيفة الملعونة الثالثة ، التي ورد في مصادرنا أن المعارضين لإعلان ولاية علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كتبوها في المدينة ، وتعاهدوا ضد آل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) !

ومن البحوث المفيدة أيضاً ، بحث فضل يوم الغدير ، وما ورد في مصادر الفريقين من استحباب صومه ، والشكر وإظهار السرور فيه .. الخ.

ومع أنها جميعاً بحوث مفيدة ، ترتبط بموضوعنا .. لكن فضلنا عدم الإطالة بها ، واقتصرنا على أولها ، وهو عشيرة بني عبد الدار القرشية ، التي ورد عند الفريقين أن آية « سأل سائل بعذاب واقع » نزلت في رئيسها النضر بن الحارث ، وفي ابنه جابر بن النضر .. وغرضنا من هذا البحث أيضاً أن يكون مكملاً للتصور الصحيح عن قبائل قريش ، وحسدها الشديد للنبي وأهل بيته الطاهرين ، صلى الله عليه وعليهم.

الحسد القديم وحلف لعقة الدم

كانت الجزيرة العربية مجتمعاتٍ قبلية ، ومعظم مناطقها تحكمها القبائل وليس فيها حكومةٌ مركزية.

وكانت الصراعات والحروب ، والتحالفات القبلية أمراً شائعاً بين قبائلها ، ومنها قبائل قريش.

ومن أهم الأحلاف القرشية التي سجلتها مصادر التاريخ ، حلف الفضول الذي دعا اليه عبد المطلب جد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) .. وسمي حلف المطيبين ، لأنهم أكدوا تحالفهم بغمس أيديهم في جفنة طيبٍ صنعتها لهم بنت عبد المطلب.

وكانت أهم بنود هذا الحلف : أن يحموا الكعبة الشريفة ممن يريد بها شراً ، ويمنعوا الظلم فيها ، وينصروا المظلوم حتى يصل الى حقه.

ص: 340

وهو الحلف الذي شارك فيه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وكان عمره الشريف نحو عشرين سنة .. بل تدل بعض الأحاديث على أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمضاه بعد بعثته ، كما في مسند أحمد : 1 / 190 قال : شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلامٌ ، فما أحب أن لي حمر النعم ... وصححه الحاكم : 2 / 220.

وكان هذا الحلف جواباً لحلف مضادٍ ، دعا اليه بنو عبد الدار ، فأجابتهم بعض قبائل قريش ، وعرف حلفهم باسم ( لعقة الدم ) لأنهم ذبحوا بقرة ، وأكدوا تحالفهم بأن يلعق ممثل القبيلة لعقةً من دمها !

وقد اختلفت النصوص في سبب الحلفين ووقتهما ، فذكر بعضها أنه عند بناء الكعبة بسبب اختلافهم على القبيلة التي تفوز بشرف وضع الحجر الأسود في موضعه.

وذكر بعضها أنه كان بسبب شكاية بائع مظلوم ، اشترى منه قرشي بضاعة ، وأراد أن يأكل عليه ثمنها ..

والأرجح ما ذكره ابن واضح اليعقوبي من أن بني عبد الدار حسدوا عبد المطلب ، فدعوا الى حلف لعقة الدم ، فدعا عبد المطلب في مقابلهم الى حلف المطيبين.

- قال اليعقوبي في تاريخه : 1 / 248

ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر ، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب ، فمشت بنو عبد الدار الى بني سهم فقالوا : إمنعونا من بني عبد مناف .... فتطيب بنو عبد مناف ، وأسد ، وزهرة ، وبنو تيم ، وبنو الحارث بن فهر ، فسموا حلف المطيبين.

فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا : من أدخل يده في دمها ولعق منه ، فهو منا ! فأدخلت أيديها بنو سهم ، وبنو عبد الدار ، وبنو جمح ، وبنو عدي ، وبنو مخزوم ، فسموا اللعقة.

وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا ، ولا يسلم بعضهم بعضاً.

ص: 341

وقالت اللعقة : قد أعتدنا لكل قبيلةٍ قبيلة. انتهى.

- وقال اليعقوبي : 2 / 17

حضر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حلف الفضول وقد جاوز العشرين ، وقال بعدما بعثه الله : حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ، ما يسرني به حمر النعم ، ولو دعيت اليه اليوم لأجبت.

وكان سبب حلف الفضول أن قريشاً تحالفت أحلافاً كثيرة على الحمية والمنعة ، فتحالف المطيبون وهم بنو عبد مناف ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تيم ، وبنو الحارث بن فهر ، على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير ، وما بلَّ بحرٌ صوفة. وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيباً فغمسوا أيديهم فيه ...

فتذممت قريش فقاموا فتحالفوا ألا يظلم غريبٌ ولا غيره ، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم ، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي.

وكانت الأحلاف هاشم ، وأسد ، وزهرة ، وتيم ، والحارث بن فهر ، فقالت قريش :

هذا فضول من الحلف ، فسمي حلف الفضول. انتهى.

- وفي سيرة ابن هشام : 1 / 85

فكان بنو أسد بن عبد العزى بن قصي ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو تيم بن مرة بن كعب ، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر ، مع بني عبد مناف.

وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة ، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب ، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب ، وبنو عدي بن كعب ، مع بني عبد الدار.

ويفهم من هذه النصوص وغيرها أن حركة التحالف بدأها بنو عبد الدار حسداً لعبد المطلب ، فسعوا للتحالف ضده ، فبادر عبد المطلب ومؤيدوه الى عقد حلف المطيبين قبلهم ، ثم عقد بنو عبد الدار ومؤيدوهم حلف لعقة الدم.

ويفهم منها ، أن أهداف حلف عبد المطلب حماية الكعبة ونصرة المظلوم ، بينما هدف حلف بني عبد الدار مواجهة المطيبين !

ص: 342

بنو عبد الدار أصحاب لواء قريش

وذكر المؤرخون أن بني عبد الدار ورثوا من جدهم قصي دار الندوة التي كانت شبيهةً بمركز لمجلس شيوخ قريش ، تبحث فيها الأمور المهمة ، وتتخذ فيها القرارات ، كما ورثوا لواء الحرب ، فكانوا هم أصحاب لواء قريش في حروبها ..

- قال البلاذري في فتوح البلدان 60

فلم تزل دار الندوة لبني عبد الدار بن قصي ، حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ، من معاوية بن أبي سفيان ، فجعلها داراً للإمارة. انتهى.

وقد قتل علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من بني عبد الدار كل من رفع لواء قريش في وجه رسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فبلغوا بضعة عشر ، وروي أن بعضهم قتلهم عمه حمزة بن عبد المطلب !

- قال ابن هشام في : 3 / 587 : واصفاً تحميس أبي سفيان وزوجته لبني عبد الدار في أحد :

قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال : يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر ، فأصابنا ما قد رأيتم ، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم ، إذا زالت زالوا ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه !

فهمُّوا به وتواعدوه ، وقالوا : نحن نسلم اليك لواءنا ؟!! ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع ! وذلك أراد أبو سفيان.

فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض ، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها ، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم ، فقالت هند فيما تقول :

ويهاً بني عبد الدار

ويهاً حماة الأدبار

ضرباً بكل بتار

ص: 343

- وفي سيرة ابن هشام : 3 / 655

قال ابن هشام : أنشدني أبو عبيدة للحجاج بن علاط السلمي يمدح أبا الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، صاحب لواء المشركين يوم أحد :

لله أيُّ مذببٍ عن حرمةٍ

أعني ابن فاطمةَ المُعِمَّ المُخولا

سبقت يداك له بعاجلِ طعنةٍ

تركت طليحة للجبين مجدلا

وشددت شدةَ باسلٍ فكشفتهم

بالجر إذ يهوون أخول أخولا.انتهى.

وقد تتابع على حمل لواء المشركين يوم أحد تسعة من بني عبد الدار ، وقيل أكثر وركزوا حملاتهم على قتل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد أن تركه المسلمون وهربوا صعوداً في الجبل ، وثبت الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وجه حملات قريش ، التي تواصلت الى ما بعد الظهر !

وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقاتل في مركزه ، وعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يحمل عليهم ، يضرب مقدمتهم ، ثم يغوص فيهم يضرب يميناً وشمالاً ، حتى يصل الى العبدري حامل لوائهم فيحصد رأسه ، فتنكفئ الحملة ..

ثم يتحمس عبدريٌّ آخر فيحمل لواء الشرك ، ويهجمون باتجاه الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيتلقاهم علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وهو راجلٌ وهم فرسان .. حتى قتل من فرسان قريش عشرات ، ومن العبدريين أصحاب ألويتهم تسعة ! فيئسوا وانسحبوا ، ونادى مناديهم كذباً : قتل محمد !

وقد أصابته (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بضع جراحات ، وأصابت علياً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بضع وسبعون جراحة ! منها جراحاتٌ بليغة ، روي أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مسح عليها بريقه فبرأت.

بنو عبد الدار علموا قريشاً فناً في الدفاع

ومن طريف ما ذكره المؤرخون عن بني عبد الدار الشجعان ، أنهم أول من علم قريشاً أسلوباً في الدفاع عن نفسها في الحرب أمام بني هاشم ، فقد ابتكروا طريقة للإستفادة في الحرب من ترفع بني هاشم وسموهم الأخلاقي !

ص: 344

- روى ابن كثير في السيرة : 3 / 39 ، ناقلاً عن ابن هشام :

لما اشتد القتال يوم أحد ، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار ، وأرسل الى علي : أن قدم الراية ، فقدم علي وهو يقول : أنا أبو القصم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة ، وهو صاحب لواء المشركين : هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة ؟ قال : نعم.

فبرزا بين الصفين ، فاختلفا ضربتين ، فضربه علي فصرعه ، ثم انصرف ولم يجهز عليه !

فقال له بعض أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟

فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم ، وعرفت أن الله قد قتله.

وقد فعل ذلك علي (رضی الله عنه) يوم صفين مع بسر بن أبي أرطاة ، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته ، فرجع عنه.

وكذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين ، أبدى عن عورته ، فرجع علي أيضاً. ففي ذلك يقول الحارث بن النضر :

أفي كل يوم

فارسٌ غير منتهٍ

وعورته وسْطَ العجاجةِ باديَهْ

يكفُّ لها عنه عليٌّ سنانه

ويضحك منها في الخلاء معاوية

النضر بن الحارث رئيس بني عبد الدار

- قال ابن هشام : 1 / 195

وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العدواة ، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه ، فهلم الي فأنا

ص: 345

أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً مني ؟!

قال ابن هشام : وهو الذي قال فيما بلغني : سأنزل مثل ما أنزل الله.

قال ابن اسحاق : وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول فيما بلغني : نزل فيه ثمان آيات من القرآن ، قول الله عز وجل : إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين.

وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن. انتهى.

وذكر ابن هشام 1 / 239 قول النضر عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ( وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتبتها كما اكتتبتها !! ).

- وقال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 181

وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : نزلت في النضر : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ، ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ، وسأل سائل بعذاب واقع !

قال عطاء (رضی الله عنه) : لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله. انتهى.

- وروى نحوه في : 5 / 297 ، عن عبد بن حميد.

- وقال عنه في تفسير الجلالين 540

وهو النضر بن الحارث ، كان يأتي الحيرة يتجر فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة ويقول : إن محمداً يحدثكم أحاديث عادٍ وثمود ، وأنا أحدثكم أحاديث فارس والروم ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ! انتهى.

وقد عرفت أن مصادرنا وعدداً من مصادر السنيين ذكرت أن السائل بالعذاب الواقع هو جابر بن النضر بن الحارث ، أو الحارث الفهري. وأن أكثر مصادر السنيين رجحت أنه أبوه النضر بن الحارث ، اعتماداً على روايات عن ابن جبير وابن عباس غير مرفوعة. فقد روى الحاكم في المستدرك : 2 / 502 : عن سعيد بن جبير ، سأل سائل

ص: 346

بعذاب واقع ، قال : هو النضر بن الحارث بن كلدة ، قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

- وقال السيوطي في الدر المنثور : 6 / 263 : أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ... الخ. ولم أجد في مصادر السيرة والتراجم عن الإبن غير قصة هلاكه بحجر من السماء ، لكفره وبغضه لأهل بيت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ولعله كان شاباً ، أو أنهم عتَّموا على ذكره حسداً لأهل البيت (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) ويدل الموجود في مصادر السيرة على أن الأب أسوأ من الإبن بكثيرٍ ، لأنه من كبار الفراعنة الذين واجهوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، ولعل ابنه لو عاش لفاق أباه في كفراً وعتواً !!

وكان النضر عضو مجلس الفراعنة المتآمرين على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

- قال ابن هشام : 1 / 191

قال ابن اسحاق : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء ، وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين.

ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة .... اجتمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث أخو بني عبد الدار ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم ...

قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، قال بعضهم لبعض : إبعثوا الى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا اليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فقالوا له :

ص: 347

يا محمد ، إنا قد بعثنا اليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة ، فما بقي أمرٌ قبيحٌ إلا قد جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا - فان كنت إنما جئت بهذا الحديت تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذى يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً - فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك ! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :

مابي ما تقولون ، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني اليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم ... الى آخر مناظرتهم.

- وقال ابن هشام : 2 / 331

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما أجمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة ... وقد اجتمع فيها أشراف قريش : من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبوسفيان بن حرب. ومن بنى نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدى ، وجبير ابن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بنى عبد الدار بن قصي : النضر ابن الحارث بن كلدة ... الخ.

فقال أبوجهل بن هشام : والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد.

قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟

قال : أرى أن نأخذ من كان قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ، ثم نعطي كل

ص: 348

فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يعمدوا اليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم. انتهى.

ورواه الطبري في تاريخه : 2 / 98

وكان النضر رسول قريش الى اليهود

- جاء في سيرة ابن هشام : 1 / 195

قام النضر بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ... فقال :

يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثاً ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به ، قلتم ساحر ، لا والله ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن ، لا والله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر ، لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها : هزجه ورجزه. وقلتم مجنون ، لا والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقة ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه.

يا معشر قريش فانظروا في شأنكم ، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم ....

فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه ، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط الى أحبار يهود بالمدينة ، وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علمٌ ليس عندنا من علم الأنبياء.

فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ؟.

فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاثٍ نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وان لم يفعل فالرجل متقول ، فَرَوْا فيه رأيكم.

ص: 349

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول : ما كان أمرهم ، فإنه قد كان لهم حديث عجيب ؟ وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبأه ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟

فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي ، وإن لم يفعل فهو رجلٌ متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم ... الى آخر القصة. ورواها في عيون الأثر : 1 / 142

كاتب الصحيفة الملعونة الأولى ضد بني هاشم

- قال ابن هشام : 1 / 234

اجتمعوا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم ، وبني المطلب ، على أن لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم ، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ، تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم ، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. قال ابن هشام : ويقال النضر بن الحارث ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشل بعض أصابعه.

وقال ابن واضح اليعقوبي في تاريخه : 2 / 31

وهمت قريش بقتل رسول الله ، وأجمع ملأها على ذلك ، وبلغ أبا طالب فقال :

والله لن يصلوا اليك بجمعهم

حتى أغيَّبَ في التراب دفينا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح

ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا

وعرضت ديناً قد علمت بأنه

من خير أديان البرية دينا

فلما علمت قريش أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأن أبا طالب لا يسلمه ، وسمعت بهذا من قول أبي طالب ، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم ، ولا يناكحوهم ، ولا يعاملوهم ، حتى يدفعوا اليهم محمداً فيقتلوه. وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا ، وختموا على الصحيفة بثمانين

ص: 350

خاتماً ، وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ، فشلت يده.

ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب الذي يقال له شعب أبي طالب ست سنين من مبعثه.

فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين ، حتى أنفق رسول الله ماله ، وأنفق أبو طالب ماله ، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها ، وصاروا الى حد الضر والفاقة.

ثم نزل جبريل على رسول الله فقال : إن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم ، إلا المواضع التي فيها ذكر الله !

فخبَّر رسول الله أبا طالب بذلك ، ثم خرج أبو طالب ومعه رسول الله وأهل بيته حتى صار الى الكعبة فجلس بفنائها ، وأقبلت قريش من كل أوب فقالوا : قد آن لك يا أبا طالب أن تذكر العهد وأن تشتاق الى قومك ، وتدع اللجاج في ابن أخيك.

فقال لهم : يا قوم أحضروا صحيفتكم فلعلنا أن نجد فرجاً وسبباً لصلة الأرحام وترك القطيعة ، وأحضروها وهي بخواتيمهم.

فقال : هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها ؟

قالوا : نعم.

قال : فهل أحدثتم فيها حدثاً ؟

قالوا : اللهم لا.

قال : فإن محمداً أعلمني عن ربه أنه بعث الأرضة فأكلت كل ما فيها إلا ذكر الله ، أفرأيتم إن كان صادقاً ماذا تصنعون ؟

قالوا : نكف ونمسك.

قال : فإن كان كاذباً دفعته اليكم تقتلونه.

قالوا : قد أنصفت وأجملت.

ص: 351

وفضت الصحيفة فإذا الأرضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله عز وجل.

فقالوا : ما هذا إلا سحر ، وما كنا قطُّ أجدَّ في تكذيبه منا ساعتنا هذه !!

وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم ، وخرج بنو هاشم من الشعب وبنو المطلب فلم يرجعوا اليه. انتهى.

وقد وردت رواية شعر أبي طالب ( ودعوتني وعلمت أنك ناصح ) وهو الأنسب لجو القصيدة ، وإيمان أبي طالب (رحمه الله) ، وقد بحثنا افتراءات قريش عليه في المجلد الثالث من العقائد الإسلامية.

وكان النضر من المطعمين جيش قريش في بدر

وقد تقدم في البحث الخامس أن النضر أحد الرهط الذين كانوا يطعمون جيش قريش في حرب بدر ، وقد عده النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من أفلاذ أكباد مكة ، عاصمة قريش ! ( ابن هشام : 2 / 488 ، وتاريخ الطبري : 2 / 142 )

نهاية الأول من فراعنة سأل سائل

- سيرة ابن هشام : 2 / 206 - 207

ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً الى المدينة ، ومعه الأسارى من المشركين ، وفيهم عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث .... قال ابن اسحاق : حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء ، قتل النضر بن الحارث ، قتله علي بن أبي طالب ، كما خبرني بعض أهل العلم من أهل مكة.

قال ابن اسحاق : ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية ، قتل عقبة ابن أبي معيط.

( راجع أيضا سيرة ابن هشام : 2 / 286 و 527 ، وتاريخ الطبري : 2 / 157 و 286 ).

- وفي معجم البلدان : 1 / 94

الأثيل : تصغير الأثل موضعٌ قرب المدينة ، وهناك عين ماء لآل جعفر بن أبي طالب ، بين بدر ووادي الصفراء ، ويقال له ذو أثيل .... وكان النبي صلى الله عليه

ص: 352

وسلم ، قتل عنده النضر بن الحارث بن كلدة ، عند منصرفه من بدر ، فقالت قتيلة بنت النضر ترثي أباها ، وتمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :

يا راكباً إن الأثيل مظنةٌ

من صبحِ خامسةٍ ، وأنت موفقُ

بلغ به ميتاً ، فإن تحيةً

ما إن تزال بها الركائب تخفق

مني اليه ، وعبرةً مسفوحةً

جادت لمائحها وأخرى تخنق

فليسمعن النضر ، إن ناديته

إن كان يسمع ميت أو ينطق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقق !

أمحمد ! ولإنت ضنء نجيبة

في قومها ، والفحل فحل معرق

لو كنت قابل فدية ، فلنأتي

ن بأعز ما يغلو لديك وينفق

ما كان ضرك لو مننت وربما

منَّ الفتى ، وهو المغيظ المحنق

والنضر أقرب من أصبت وسيلةً

وأحقهم ، إن كان عتق يعتق

فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم شعرها رق لها ، وقال : لو سمعت شعرها قبل قتله لوهبته لها. انتهى.

ومن الثابت عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه كان أكره الناس للقتل ، وأنه لم يقتل أحداً إلا عند اللزوم والضرورة .. وحسبك أن جميع القتلى في جميع حروبه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن أقام عليهم الحد الشرعي لا يبلغون سبع مئة شخص ، وبذلك كانت حركته العظيمة (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أعظم حركة في نتائجها ، وأقل حركة في كلفتها !

لهذا لا يبعد أن يكون قتله للنضر تم بأمر الله تعالى ، لأنه جرثومة شرٍ وفساد ! وكذلك صديق النضر وشريكه في الشر ، عقبة بن معيط الأموي ، وكان صاحب خمارة ومبغى في مكة ، وكان معروفاً بإلحاده.

وإذا صح ما قاله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لبنت النضر الشاعرة ، فلا ينافي أن قتله لأبيها كان بأمر الله تعالى ، لأن معناها أنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لو سمع هذا الشعر منها وما فيه من قيم واستعطاف ، قبل أن يقتله ، لطلب من ربه عز وجل أن يأذن له بأن يهب هذا الفرعون لابنته ، ويكفي المسلمين شره ، كما أمكنهم منه فأسروه.

ص: 353

النضير بن الحارث أخ النضر ووارثه

ذكرت مصادر السيرة والتاريخ أن لواء قريش بعد النضر كان بيد آخرين من بني عبد الدار ، ولم تذكر أن أخاه النضير كان فارساً مثله ، ويظهر أنه صار بعد أخيه النضر رئيس بني عبد الدار ، وإن لم يكن شجاعاً صاحب اللواء ، فقد وصفه رواة قريش وأصحاب السير بالحلم ، إشارة الى أنه كان سياسياً محباً للدعة .. وعدُّوه من رؤساء قريش والمؤلفة قلوبهم ، الذين أعطى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كل واحد منهم مئة بعيرٍ من غنائم حنين.

- قال الطبري في تاريخه : 2 / 358

فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير ، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة بن علقمة أخا بني عبد الدار مائة بعير ، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير ، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير ، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير ، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير ، وأعطى حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس مائة بعير ...

ونحوه في سيرة ابن هشام : 4 / 929 ، وابن كثير : 3 / 682 وتاريخ اليعقوبي

وقد تقدم ذكره في البحث الخامس ، واعترافه بأنه خطط مع زعماء قريش لقتل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حنين ، ولم يتمكنوا من ذلك !

وقد اختلط اسم النضير عند بعضهم باسم أخيه النضر ، قال الرازي في الجرح والتعديل : 8 / 473 :

النضر بن الحارث بن كلدة العبدري من مسلمة الفتح ، ويقال نضير وليست له رواية ، سمعت أبي يقول ذلك.

وقال في هامشه : وهذا هو الصواب إن شاء الله ، لأن النضر بن الحارث قتل كافراً إجماعاً ، وإنما هذا أخوه ، واحتمال أن يكون مسمى باسمه أيضا بعيد ، وأثبت ما جاء في الروايات أن هذا هو ( النضير ) راجع الإصابة الترجمتين. انتهى.

ص: 354

رواة قريش يجعلون النضير مسلماً مهاجراً شهيداً !

وعلى عادة رواة قريش ، فقد جعلوا من الحارث أو النضير شخصيةً اسلامية ، وعدوه في المهاجرين وشهداء اليرموك .. ويظهر أنهم جعلوا كل الذين كانوا في الشام من القرشيين وماتوا في طاعون عمواس ، مثل سهيل بن عمرو والعبدريين ، جعلوهم شهداء ، وعدوهم في شهداء اليرموك !

- قال السمعاني المحب لقريش وبني أمية ، في أنسابه : 3 / 110

الرهيني : بفتح الراء وكسر الهاء بعدهما الياء الساكنة آخر الحروف وفي آخرها النون ، هذه النسبة الى رهين ، وهو لقب الحارث بن علقمة ويلقب بالرهين ، ومن ولده محمد بن المرتفع بن النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي الرهيني ، يروي عن عبد الله بن الزبير ، روى عنه سفيان بن عيينة.

فأما جده النضير بن الحارث فكان من المهاجرين ، وكان يعد من حلماء قريش ، قتل يوم اليرموك شهيداً ، وهو أخو النضر بن الحارث الذي قتله علي بن أبي طالب بالصفراء صبراً يوم بدر ، وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه نزلت سورة « سأل سائل بعذاب واقع » وقالت بنته أبياتاً من الشعر ...

وتبعه في إكمال الكمال : 1 / 327 ، وغيره.

هل اعترض النضير على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مثل أخيه وابن أخيه ؟

روت مصادرنا مناقشة غريبة لأحدهم مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في المدينة ، وسمته النضر بن الحارث الفهري ، ويحتمل أن تكون كلمة الفهري تصحيف العبدري ، نسبةً الى بني عبد الدار ، والنضر تصحيف النضير ..

وإذا صحت نسبتها اليه ، فتكون صدرت منه في المدينة بعد حجة الوداع.

- وقد تقدمت من كتاب مدينة المعاجز للبحراني : 2 / 267 ، وفيها :

أقبل النضر بن الحارث فسلم على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال :

ص: 355

يا رسول الله إذا كنت أنت سيد ولد آدم ، وأخوك سيد العرب ، وابنتك فاطمة سيدة نساء العالمين ، وابناك الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وعمك حمزة سيد الشهداء ، وابن عمك ذو الجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء ، وعمك جلدة بين عينيك وصنو أبيك ، وشيبة له السدانة .. فما لسائر قومك من قريش وسائر العرب ؟!

فقد أعلمتنا في بدء الإسلام أنا إذا آمنا بما تقول لنا مالك وعلينا ما عليك.

فأطرق رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طويلاً ، ثم رفع رأسه فقال :

أما أنا والله ما فعلت بهم هذا ، بل الله فعل بهم هذا ، فما ذنبي ؟! ....

فوعظه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال له : إن ربك كريم ، فإن أنت صبرت وتصابرت ، لم يخلك من مواهبه ، فارض وسلم ، فإن الله يمتحن خلقه بضروب من المكاره ، ويخفف عمن يشاء ، وله الخلق والأمر ، مواهبه عظيمة ، وإحسانه واسع. فأبى الحارث. انتهى.

- وقد نص ابن هشام : 2 / 488 ، على أن النضير هذا يسمى الحارث أيضاً باسم أبيه ، وسماه اليعقوبي في تاريخه : 2 / 63 ( الحارث بن الحارث بن كلدة ) وهو أمر يوجب الشك ، لأنه يستغرب أن يكون لشخصٍ اسمان معاً ، خاصةً إذا كان أحدهما باسم أبيه ، لأن العوائل المالكة في القبائل تحترم اسم الأب ولا تغيره الى اسمٍ آخر ، ولا تضيف معه اسماً آخر ، لأنه يضعفه !

وهذا يفتح باب الإحتمال أن يكون الحارث أخاهم الثالث ، وأن يكون هو الذي ورد اسمه في بعض الروايات أنه اعترض على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإعلانه ولاية علي والحسنين من بعده (عَلَيْهِم السَّلاَمُ) فرماه الله بصاعقةٍ أو حجرٍ من سجيل !

وبذلك يكون العذاب الواقع نزل بثلاثة أشخاص من هذه الأسرة : الأب في بدر ، وولده جابر الذي نص عليه أبو عبيد ، والحارث هذا .. ويكون اسم عشيرة العذاب الواقع مثلث الإنطباق على هذه القبيلة !!

كما يحتمل أن يكون صاحبنا النضير بن الحارث ، أو الحارث بن الحارث

ص: 356

العبدري ، هو الحارث المعترض ، لكن لم تنزل عليه العقوبة ، لأنهم ذكروا وفاته في الشام ، وليس بالعذاب الواقع.

ومهما يكن ، فإن من المؤكد أنه يوجد حارثٌ غيره اعترض على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حيث ورد ذكره في تفسير الثعلبي ، وعدد من مصادرنا باسم الحارث بن النعمان الفهري ، وأنه هو صاحب حجر السجيل ، كما تقدم.

وكذلك تقدم اسم الحارث بن عمرو الفهري ، في رواية الحاكم الحسكاني ، ورواية الكافي والمناقب.

ومما يؤيد أنه حارثٌ آخر ، أنهم ترجموا لشخصٍ وأولاده قد ينطبق عليه ، ولم يذكروا عنه شرحاً ، ولا ذكروا سبب موته ! قال ابن كثير في سيرته : 2 / 499 :

عامر بن الحارث الفهري ، كذا ذكره سلمة عن ابن اسحاق وابن عائذ. وقال موسى بن عقبة وزياد عن ابن اسحاق : عمرو بن الحارث.

وقال في ص 502 : عمرو بن عامر بن الحارث الفهري ، ذكره موسى بن عقبة. انتهى.

- وذكر نحوه في عيون الأثر : 1 / 358

وعليه ، يكون الحارث صاحب حجر السجيل فهرياً ، وليس عبدرياً.

ويكون جابر بن النضر العبدري الذي ورد في رواية أبي عبيد ، صاحب حجر سجيلٍ آخر .. والله العالم.

الأفجران من قريش أو ... الأفجرون ؟

ورد في مصادر الحديث أن أسوأ قبائل قريش ، وأشدها على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هم بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وهم فرع أبي جهل من مخزوم ، وورد وصفهم بالأفجريْن ..

ولا بد أن نضيف اليهم بني عبد الدار فيكونون الأفجرون بالجمع .. وإن كان الإنسان بعد أن يستثني بني هاشم والقلة الذين معهم من قريش ، يشك في من هو الأحسن والأفجر من الباقين !!

ص: 357

- قال السيوطي في الدر المنثور : 4 / 85

وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن عمر بن الخطاب (رضی الله عنه) في قوله : ألم تر الى الذين بدلوا نعمة الله كفراً ، قال : هما الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمُتِّعُوا الى حين !. انتهى.

ويشبه أن يكون ذلك كلاماً نبوياً ردده عمر ، وإذا صح ذلك عنه ، يتوجه اليه السؤال : لماذا ولَّى معاوية الأموي على حكم الشام ، وأطلق يده ولم يحاسبه أبداً ، ثم رتب الخلافة من بعده في شورى جعل فيها حق النقض لصهر عثمان الأموي ، فأكمل بذلك تسليم الدولة الإسلامية لأحد الأفجريْن من قريش ؟!

* *

تم ، والحمد لله رب العالمين

* *

ص: 358

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.