شماره کتابشناسی ملی : ایران
سرشناسه : گریوانی، خلیل
عنوان و نام پديدآور : فقه القرآن راوندی/قطب الدين راوندى
وضعیت نشر : كتابخانه آيت الله مرعشى نجفى، قم
توصیفگر : قطب راوندی، سعید بن هبةالله، -573ق.
توصیفگر : کتاب فقه القرآن راوندی
توصیفگر : فقه
ص: 1
تأليف الفقيه المحدث المفسر الأديب قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي المتوفي سنة 573-ه
ص: 2
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
رَبِّ زِدْنِي عِلْماً الحمد لله الذي خلق الخلق كما أراد و لم يرد إلا الحكمة و السداد ابتدعهم بقدرته ابتداعا و اخترعهم على مشيته اختراعا فأغنى بفضله كل صغير و أقنى بمنه كل كبير و من أجل مواهبه و أجمل صنائعه هذا العقل الذي يدرك به سعادة الأبد و ينقذ من الشقاوة كل أحد فطوبى لمن عز بأعماله و بؤسى لمن ذل بإهماله ثم لم يرض سبحانه بذلك لرأفته بالمكلفين حتى أمد عقولهم بإرسال الرسل و إنزال الكتب و أكد بالألطاف الحجة و أوضح بالشرائع المحجة فله الحمد دائبا و له الشكر واصبا بكل ما حمده به أكرم خلائقه عليه و أرضى حامديه لديه فقد أكمل لنا دينه و أتم علينا نعمته و رضي لنا الإسلام دينا.و صلى الله على محمد سيد المرسلين و خاتم النبيين و على آله الأطهار الأئمة الأخيار الهداة الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.أما بعد فإن الذي حملني على الشروع في جمع هذا الكتاب أني لم أجد من علماء الإسلام قديما و حديثا من ألف كتابا مفردا يشتمل على الفقه الذي ينطق به كتاب الله
ص: 3
و لم يتعرض أحد منهم لاستيعاب ما نصه عليه لفظه أو معناه و ظاهره أو فحواه في مجموع كان على الانفراد صائب هدف المراد و إن صنفوا في الفقه و تفسير القرآن ما لا يحاط به إلا على امتداد الزمان.و العذر لنا خاصة واضح لأن حجة هذه الطائفة في صواب جميع ما انفردت به من الأحاديث الشرعية و التكاليف السمعية أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء هي إجماعها لأن إجماعها حجة قاطعة و دلالة موجبة للعلم بكون المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ فيه فإن انضاف إلى ذلك كتاب الله أو طريقة أخرى توجب العلم و تثمر اليقين فهي فضيلة و دلالة تنضاف إلى أخرى و إلا ففي إجماعهم كفاية.فرأيت أن أؤلف كتابا في فقه القرآن يغني عن غيره بحسن مبانيه و لا يقصر فهم القارئ عن معانيه متجنبا فيه الإطالة و التكثير و متحريا الإيجاز و التيسير ليكون الناظر فيه أنيسا يصادقه و للفقيه ردءا يصدقه فجمعت منه بعون الله تعالى جملة مشروحة أخرجها الاستقراء و إن نسأ الله في الأجل ذكرت بعد ذلك ما يقتضيه الاستقصاء و الله الموفق لما يشاء
ص: 4
اعلم أن الله سبحانه و تعالى بين أحكام الطهارة في القرآن على سبيل التفصيل في موضعين و نبه عليها جملة في مواضع شتى منه خصوصا أو عموما تصريحا أو تلويحا.و أنا إن شاء الله أورد جميع ذلك أو أكثر ما فيه على غاية ما يمكن تلخيصه و أستوفيه و أومي إلى تعليله و جهة دليله و أذكر أقوال العلماء و المفسرين في ذلك و الصحيح منها و الأقوى و إن شبهت شيئا بشيء فعلى جهة المثال لا على وجه حمل أحدهما على الآخر.و أقتصر في جميع ما يحتاج إليه على مجرد ما روى السلف رحمهم الله من المعاني إلا القليل النادر و الشاذ الشارد و أقنع أيضا بألفاظهم المنقولة حتى لا يستوحش من ذلك و هذا شرطي إلى آخر الكتاب.و لا أجمع إلا ما فرقه أصحابنا في مصنفاتهم و ذلك لأن القياس بالدليل الواضح غير صحيح في الشريعة و هو حمل الشيء على غيره في الحكم لأجل ما
ص: 5
بينهما من الشبه فيسمى المقيس فرعا و المقيس عليه أصلا و كذلك الاجتهاد غير جائز في الشرع (1)و هو استفراغ الجهد في استخراج أحكام الشرع و قيل هو بذل الوسع في تعرف الأحكام الشرعية.فأما إذا صح بإجماع الفرقة المحقة حكم من الأحكام الشرعية بنص من الرسول صلّى اللّه عليه و آله مقطوع على صحته على سبيل التفصيل رواه المعصومون من أهل بيته عليهم السّلام ثم طلب الفقيه بعد ذلك دلالة عليه من الكتاب جملة أو تفصيلا ليضيفها إلى السنة حسما للشنعة فلا يكون ذلك قياسا و لا اجتهادا لأن القائس و المجتهد لو كان معهما نص على وجه من الوجوه لم يكن ذلك منهما قياسا و لا اجتهادا و هذا واضح بحمد الله.على أن أكثر الآيات التي نتكلم عليها في هذا المعنى فهو ما نبهنا عليه (2)الأئمة من آل محمد عليهم السّلام و هم معدن التأويل و منزل التنزيل.
حجة العقل و الكتاب و السنة و الإجماع.أما الكتاب و هو غرضنا هاهنا فهو القرآن في دلالته على الأحكام الشرعية و المستدل بالكتاب على ما ذكرناه يحتاج إلى أن يعرف (3)من علومه خمسة أصناف
ص: 6
العام و الخاص و المحكم و المتشابه و المجمل و المفسر و المطلق و المقيد و الناسخ و المنسوخ.أما العموم و الخصوص قليلا يتعلق بعموم قد دخله التخصيص
كقوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (1) و هذا عام في كل مشركة حرة كانت أو أمة و قوله وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (2) خاص في الحرائر فقط فلو تمسك بالعموم غلط و كذلك قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (3) عام و قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ (4) خاص في أهل الكتاب.و أما المحكم و المتشابه فليقض بالمحكم و يفت به دون المتشابه (5).و أما المجمل و المفسر فليعمل بالمفسر كقوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلاةَ (6) و هذا غير مفسر و قوله فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (7) مفسر بإجماع المفسرين لأنه فسر الصلوات الخمس لأن قوله حِينَ تُمْسُونَ يعني المغرب و العشاء الآخرة و حِينَ تُصْبِحُونَ يعني الصبح و عَشِيًّا يعني العصر و حِينَ تُظْهِرُونَ الظهر.و أما المطلق و المقيد فليبنى المطلق على المقيد إذا كانا في حكم واحد كقوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ (8) فهذا مطلق في العدل و الفاسق و قوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (9) مقيد بالعدالة فيبنى المطلق عليه.2.
ص: 7
و أما الناسخ و المنسوخ فليقض بالناسخ دون المنسوخ كآية العدة بالحول و الآية التي تضمنت العدة بالأشهر.و يأتي بيان جميع ذلك إن شاء الله تعالى
الدليل على هذه الأشياء الأربعة التي هي مدار الطهارتين و ما يقوم مقامهما عند الضرورة اثنان من المائدة و النساء و هما
قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ (1) و قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى (2) و ظاهر هذا الخطاب متوجه إلى من كان على ظاهر الإيمان فأما الكافر فلا يعلم بهذا الظاهر أنه مخاطب به و يعلم بآية أخرى و دلالة عليه به أحرى.و إنما أمر المؤمنون به و هو واجب على الكل لأنه بعد الدخول في الملة و من أتى الإسلام يؤمر به ثم يؤمر بفروعه.على أنه يمكن أن يقال إن التخصيص هاهنا ورد للتغليب و التشريف و إن كان الكل مرادا كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (3) أ لا ترى أن أسباب التكليف التي حسن الخطاب لأجلها حاصلة للمؤمن و الكافر يوضح ذلك و يبينه قوله تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ (4) و لا خلاف
ص: 8
أنه ينبغي أن يحمل على عمومه في كل ما هو عبادة الله و إن كان خاصا في المكلفين منهم الذين أوجب الله ذلك عليهم أو ندبهم إليه و الآية متوجهة إلى جميع الناس ممن يصح مخاطبته مؤمنهم و كافرهم لحصول العموم فيها إلا من ليس بشرائط التكليف على ما ذكرناه.فالكافر إذا لا بد أن يكون مخاطبا بالصلاة و بجميع أركان الشريعة لكونها واجبة عليه لأنه مذموم بتركها متمكن من أن يعلم وجوبها و يعاقب غدا عليه أيضا أ لا ترى إلى قوله تعالى حكاية عن الكفار قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (1) .و لا يقدح في وجوب ذلك بأنه إذا أسلم لا يجب عليه قضاء ما فاته لأن القضاء هو الفرض الثاني.فإن قيل كيف يجوز أن يكون من مخاطبين بذلك و لم يكن من (2)موجودين في ذلك الوقت و من المحال أن يخاطب المعدوم.قلنا الأوامر على ضربين أحدهما على الإطلاق فالمأمور يجب أن يكون قادرا مزاح العلة فضلا على وجوده و الآخر يكون أمرا بشرط فالمأمور لا يجب أن يكون كذلك في الحال و لكن بشرط أن يوجد و يصير قادرا مزاح العلة متمكنا.و إذا ثبت هذا فأوامر الله تعالى و أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله كانت أوامر للمكلفين الموجودين في ذلك الزمان على تلك الصفات و كانت أوامر لمن بعدهم بشرط أن يوجدوا و يصيروا قادرين مترددي الدواعي على ما ذكرناه و الأمر على هذا الوجه يكون حسنا فإنه يحسن من الواحد منا أن يأمر النجار بإنجار باب غدا بشرط أن يمكنه مما يحتاج إليه من الآلات و غيرها و إن لم يمكنه في الحالة (3).و إنما أوردت هذه الجملة استيناسا للناظر فيه و هو التنبيه للفقيهم.
ص: 9
أما قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (1) .فإنه يدل بظاهره على وجوب أربعة أفعال مقارنة للوضوء و يدل من فحواه على وجوب النية فيه لأنه عمل و الأعمال بالنيات.ثم اعلم أن القيام إلى الصلاة ضربان أحدهما أن يقوم للدخول فيها و الآخر أن يتأهب باستعمال الطهارة للشروع فيها فالأول لا يصح من دون الثاني و الثاني إنما يجب بشرط تقدم الأول فبهذا الخطاب أمرهم الله أنهم إذا أرادوا القيام إلى الصلاة و هم على غير طهر أن يغسلوا وجوههم و يفعلوا ما أمرهم الله به فيها.و حذف الإرادة لأن في الكلام دلالة عليه و مثله قوله تعالى فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ (2) معناه إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ و قوله وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ (3) معناه فأردت أن تقيم لهم الصلاة.و الذي يدل عليه هو أن الله أمر بغسل الأعضاء إذا قام إلى الصلاة بقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا و معلوم أنه إذا قام إلى الصلاة لا يغسل أعضاءه لأنه لا يقوم إليها ليصلي إلا و قد غسل الأعضاء أو فعل ما قام مقامه فعلم أنه أراد إذا أردت القيام إلى الصلاة فاغسل أعضاءك فأمر بغسل الأعضاء فثبت أن الغسلين و المسحين كليهما واجب في هذه الطهارة.و يدل قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (4) على
ص: 10
وجوب عشر كيفيات مقارنة للوضوء و على وجوب أربعة أشياء قبل الوضوء و هي تركان و فعلان (1).
فصل
و إذا ثبت وجوب الطهارة لأن الله أمر بها و الأمر في الشرع يحمل على الوجوب لا يحمل على الندب إلا لقرينة فاعلم أنهم اختلفوا هل يجب ذلك كلما أراد القيام إلى الصلاة أو في بعضها أو في أي حال هي.فقال قوم المراد به إذا أراد القيام إليها و هو على غير طهر و هو المروي عن ابن عباس و جابر.و قيل معناه إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة
وَ رُوِيَ: أَنَّ الْبَاقِرَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ سُئِلَ مَا الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا فَقَالَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِيَامُ مِنَ النَّوْمِ (2). و قيل المراد به جميع حال قيام الإنسان إلى الصلاة فعليه أن يجدد طهر الصلاة
عَنْ عِكْرِمَةَ وَ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ وَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ. و هذا محمول على الندب و عن ابن سيرين كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة و عن ابن عمر كان الفرض أن يتوضأ لكل صلاة ثم نسخ ذلك بالتخفيف
فَقَدْ حَدَّثَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلِ حَدَّثَهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأُمِرَ بِالسِّوَاكِ وَ رُفِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ (3)فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرَى ذَلِكَ فَرْضاً.2.
ص: 11
وَ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئاً مَا كُنْتَ تَصْنَعُهُ فَقَالَ عَمْداً فَعَلْتُهُ (1).
فصل
و الآية تدل على جميع ما ذكرناه من الواجب و الندب لغة و أقوى الأقوال ما حكيناه أولا من أن الفرض بالوضوء يتوجه إلى من أراد الصلاة و هو على غير طهر فأما من كان متطهرا فعليه ذلك استحبابا.و قال الحسين بن علي المغربي معنى إِذا قُمْتُمْ إذا عزمتم عليها و هممتم بها قال الراجز للرشيد
ما قاسم دون الفتى ابن أمه و قد رضيناه فقم فسمه (2)
فقال يا أعرابي ما رضيت أن تدعونا إلى عقدة الأمر له قعودا حتى أمرتنا بالقيام فقال قيام عزم لا قيام جسم و قال خزيم الهمداني
فحدثت نفسي أنها أو خيالها أتانا عشاء حين قمنا لنهجعا
أي حين عزمنا للهجوع (3).و قال قوم إن الله تعالى أنزل هذه الآية إعلاما للنبي صلّى اللّه عليه و آله أنه لا وضوء عليه واجبا إلا إذا قام إلى الصلاة و ما يجري مجراها من العبادات لأنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى نزلت هذه الآية فأباح الله له بها أن يفعل ما بدا له من الأعمال بعد الحدث توضأ أو لم يتوضأ إلا عمل الصلاة فإنه3.
ص: 12
يجب عليه أن يتوضأ له.و في الآية نيف و عشرون حكما سوى التفريعات الداخلة تحتها و الامتحان يستخرجها فالحوادث غير متناهية و عموم النصوص أيضا غير متناهية و إن كانت النصوص متناهية فلا حاجة إلى القياس شرعا.
فصل
و قوله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أمر منه تعالى بغسل الوجه و الأمر شرعا يقتضي الوجوب و إنما يحمل على الندب لقرينة و غير ممتنع أن يراد باللفظ الواحد في الحالين لأنه لا تنافي بينهما.و الغسل جريان الماء أو كالجريان فقد رخص عند عوز الماء مثل الدهن و اختلفوا في حد الوجه الذي يجب غسله فحده عندنا من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا و ما دخل بين الإبهام و الوسطى عرضا و ما خرج عن ذلك فلا يجب غسله و ما نزل من المحادر لا يجب غسله.و الدليل عليه من القرآن جملة قوله وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قد بينها عليه و آله السّلام.و أما ما غطاه الشعر كالذقن و الصدغين فإن إمرار الماء على ما علا عليه من الشعر يجزي من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه (1).و الذي يدل عليه أن ما ذكرناه مجمع على أنه من الوجه و من ادعى الزيادة فعليه الدلالة و لا دليل شرعا لمن خالفنا فيه.و قال عبد الجبار لو خلينا و الظاهر لكان بعد نبات اللحية يجب إيصال الماءه.
ص: 13
إلى البشرة التي هي تحتها كما يلزم ذلك من لا لحية له إلا أن الدلالة قامت على زوال وجوب ذلك بستر اللحية و الآية تدل عليه لأن إفاضة الماء على ما يقابل هذه البشرة و ما سقط من اللحية عن الوجه فلا يلزم فيه على وجه.و إن نبت للمرأة لحية فكمثل الرجل.و كل مسألة شرعية لها شعب و وجوه فإذا سألك عنها سائل فتثبت في الجواب فلا تجبه بلا أو بنعم على العجلة و تصفح حال المستفتي فإن كان عاميا يطلب الجواب ليعمل به و يعول عليه فاستفسره عن الذي يقصده و يريد الجواب عنه فإذا عرفت ما يريده بعينه أجبته عنه و لا تتجاوز إلى غيره من الوجوه فليس مقصود هذا السائل إلا الوجه الذي يريد بيان حكمه ليعمل به و إذا كان السائل معاندا يريد الإعنات تستفسره أيضا عن الوجه الذي يريد من المسألة فإذا ذكره أفتيته عنه بعينه و لا تتجاوزه إلى غيره أيضا فليس مقصوده طلب الفائدة و إنما هو يطلب المعاندة فضيق عليه سبيل العناد و إن كان السائل مستفيدا يطلب بيان وجوه المسألة و الجواب عن كل وجه ليعلمه و يستفيده فأوضح له الوجوه كلها و اجعل الكلام منقسما لئلا يذهب شيء من بابه و هذا لعمري استظهار للعالم في جميع العلوم إن شاء الله تعالى.
فصل
و قوله وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ عطف على وُجُوهَكُمْ فالواجب غسلهما.و يجب عندنا غسل الأيدي من المرافق و غسل المرافق معهما إلى رءوس الأصابع و لا يجوز غسلها من الأصابع إلى المرافق إلا عند الضرورة فقد قال الله تعالى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) .و إلى في الآية بمعنى مع كقوله وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ (2) .2.
ص: 14
و إنما قلنا ذلك لأن إلى قد تكون بمعنى الغاية و قد تكون بمعنى مع حقيقة فيهما و لا خلاف بين أهل اللسان أن كل لفظة مشتركة بين معنيين أو معان كثيرة إنما يتميز بعضها دون بعض بما يقترن إليها من القرائن فإذا صح اشتراك لفظة إلى في معنى الغاية و معنى مع حقيقة لا استعارة و مجازا و انضاف إلى واحد منهما و هو ما ذكرناه إجماع الطائفة ثبت ما أردناه من وجوب ابتداء غسل الأيدي من المرافق و غسلها معها إلى رءوس الأصابع.و قد قال جماعة من الخاصة و العامة أن حمل إلى في هذا الموضع على معنى مع أولى من حمله على معنى الغاية لأنه أعم و فيه زيادة في فائدة الخطاب و احتياط في الطهارة و استظهار بدخول المرافق في الوضوء و في معنى الغاية إسقاط الفائدة و ترك الاحتياط و إبطال سائر ما ذكرناه و يؤكد ذلك قراءة أهل البيت عليهم السّلام فاغسلوا وجوهكم و أيديكم من المرافق (1).على أن المرتضى رضي الله عنه قال إن الابتداء في غسل اليدين للوضوء من المرافق و الانتهاء إلى أطراف الأصابع الأولى أن يكون مسنونا و مندوبا إليه لا أن يكون فرضا حتما و الفقهاء يقولون لعل هو مخير بين الابتداء بالأصابع و بين الابتداء بالمرافق (2).و قال الزجاج لو كان المراد بإلى مع لوجب غسل اليد إلى الكتف لتناول الاسم له قال و إنما المراد بإلى الغاية و الانتهاء لكن المرافق يجب غسلها مع اليدين (3).و هذا الذي ذكره ليس بصحيح لأنا لو خلينا و ذلك لقلنا بما قاله لكن3.
ص: 15
أخرجناه بدليل و هو إجماع الأمة على أن من بدا من المرافق كان وضوؤه صحيحا و إذا جعلت غاية ففيه الخلاف.و اختلف أهل التأويل في ذلك فقال مالك بن أنس يجب غسل اليدين إلى المرفقين و لا يجب غسل المرفق و هو قول زفر.و قال الشافعي لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها.و قال الطبري غسل المرفقين و ما فوقهما مندوب إليه غير واجب و قد اعتذر له بأن معنى كلامه أن وجوب ذلك يعلم من السنة لا من الآية.و إنما اعتبرنا غسل المرافق لإجماع الأمة على أن من غسلهما صحت صلاته و من لم يغسلهما ففيه الخلاف (1).و قيل الآية مجملة فالواجب الرجوع إلى البيان و قد ثبت أنه صلّى اللّه عليه و آله غسلهما فيما حكاه كبار الصحابة في صفة وضوئه فصار فعله بيانا للآية كما أن قوله كذلك.و ليس لأحد أن يقول إن ظاهر قوله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ يوجب أن يكون المرفق غاية في الوضوء لا أن يكون مبدوءا به أو يغسل المرفق معها.لأنا قد بينا بأن إلى بمعنى مع و الغاية على سبيل الحقيقة و قرينة إجماع الأمة أن غسل المرافق واجب فلو كان إلى للغاية هنا لم يلزم غسل المرفق على مقتضى وضع اللغة لأن ما بعد إلى إذا كانت للغاية لا يدخل فيما قبلها و إلا فلا تكون غاية.ة.
ص: 16
فصل
قوله وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ جملة فعلية معطوفة على الجملة المتقدمة و هي تقتضي الإيجاب حيث تقتضيه الأولى و تتناول الندب حيث تتناوله الأولى و لا فرق بين المقتضيين في الجملتين على حال لمكان الواو العاطفة.و كذلك يجب أن يكون حكم أرجلكم حكم رءوسكم لمكان واو العاطفة أيضا سواء كان عطفا على اللفظ أو على المحل لأن جميع ذلك اسم لشيء واحد و هو الوضوء فإن اقتصر على بعضها اختيارا فلا وضوء.فإذا ثبت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في صفة المسح فقال قوم يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح و هو مذهبنا و به قال عبد الله بن عمر و القاسم بن محمد و الشافعي.و قال مالك يجب مسح جميع الرأس.و قال أبو حنيفة لا يجوز مسح الرأس بأقل من ثلاثة أصابع و هذا عندنا على الاستحباب.و لا يجوز المسح عندنا إلا على مقدم الرأس و هو المروي عن ابن عمر و القاسم بن محمد و الطبري و لم يعتبره أحد من الفقهاء و قالوا أي موضع مسح أجزأه.و إنما اعتبرنا المسح ببعض الرأس (1)فضلا على النص من آل محمد عليهم السّلام (2)لدخول الباء الموجبة للتبعيض لأن دخولها في الإثبات في الموضع الذي يتعدى الفعل فيه بنفسه لا وجه له غير التبعيض و إلا لكان لغوا و حملها على الزيادة لا يجوز مع إمكانها على فائدة مجددة.2.
ص: 17
فإن قيل يلزم على ذلك المسح ببعض الوجه في التيمم في قوله فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ .قلنا كذلك نقول فإن في التيمم يمسح الوجه بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف على ما نصوا عليه عليهم السّلام.و من غسل الرأس فإنه لا يجزيه عن المسح عندنا و خالف جميع الفقهاء في ذلك و قالوا يجزيه لأنه يشتمل عليه.و هذا غير صحيح لأن حد المسح شرعا هو إمرار العضو الذي فيه نداوة على العضو الممسوح من غير أن يجرى عليه الماء و الغسل لا يكون إلا بجريان الماء عليه بعلاج و غير علاج فمعناهما مختلف و لو كانا واحدا لما ورد الأمر بهما و اقتصر بقوله فَاغْسِلُوا و لم يقل بعده وَ امْسَحُوا و ليس إذا دخل المسح في الغسل يسمى الغسل مسحا كما أن العمامة لا تسمى خرقة و إن كانت تشتمل على خرق كثيرة.و قال الشافعي الأذنان ليستا من الوجه و لا من الرأس (1).
فصل
و قوله وَ أَرْجُلَكُمْ من قرأها بالجر عطفها على اللفظ و ذهب إلى أنه يجب مسح الرجلين كما وجب مسح الرأس و من نصب فكمثله لأنه ذهب إلى أنه معطوف على موضع الرءوس فإن موضعهما نصب لوقوع المسح عليهما فالقراءتان جميعا تفيدان المسح على ما نذهب إليه.و ممن قال بالمسح ابن عباس و الحسن البصري و الجبائي و الطبري و غيرهم.و عندنا أن المسح على ظاهرهما من رءوس الأصابع إلى الكعبين.
"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ أَنَسٌ: الْوُضُوءُ غَسْلَتَانِ وَ مَسْحَتَانِ.م.
ص: 18
و قال عكرمة ليس على الرجلين غسل إنما فيهما المسح و به قال الشعبي و قال أ لا ترى أن في التيمم يمسح ما كان غسلا و يلغى ما كان مسحا.و قال قتادة افترض الله مسحين و غسلين.
وَ رَوَى أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ تَوَضَّأَ وَ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ ثُمَّ قَامَ وَ صَلَّى وَ كَذَلِكَ رَوَى حُذَيْفَةُ: (1).
وَ رَوَى حَبَّةُ الْعُرَنِيُّ: رَأَيْتُ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ شَرِبَ فِي الرَّحْبَةِ قَائِماً ثُمَّ تَوَضَّأَ وَ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ (2).
وَ وَصَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى رِجْلَيْهِ وَ قَالَ إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمَسْحَ وَ يَأْبَى النَّاسُ إِلاَّ الْغَسْلَ (1). و الغسل في اللغة إجراء الماء على الشيء على وجه التنظيف و التحسين و إزالة الوسخ عنه و نحوها و مسحه بالماء إيصال رطوبته إليه فقط كما ذكرناه.
وَ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلاَّ بِالْمَسْحِ (2). و أما الكعبان فهما عندنا الناتئان في وسط القدم و به قال محمد بن الحسن الشيباني و إن أوجب الغسل.و قال أكثر الفقهاء هما عظما الساقين.يدل على ما قلناه أنه لو أراد ما قالوا لقال سبحانه إلى الكعاب لأن في الرجلين منها أربعة.فإن ادعوا تقديرا بعد قوله وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ أي كل واحدة إلى الكعبين كما في قولهم اكسنا حلة أي اكس كل واحد منا حلة فذلك مجاز و حمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن أولى و هو قولنا.1.
ص: 19
فإن قيل كيف قال إِلَى الْكَعْبَيْنِ و على مذهبكم ليس في كل رجل إلا كعب واحد.قلنا إنه تعالى أراد رجلي كل متطهر و في الرجلين كعبان و لو بنى الكلام على ظاهره لقال و أرجلكم إلى الكعاب و العدول بلفظ أَرْجُلَكُمْ إلى أن المراد بها رجلا كل متطهر أولى من حملها على كل رجل.
فصل
إن قيل القراءة بالجر في أَرْجُلِكُمْ ليست بالعطف على الرءوس في المعنى و إنما عطف عليها على طريق المجاورة كما قالوا جحر ضب خرب و خرب من صفات الجحر لا الضب.قلنا أولا إن العرب لم تتكلم به إلا ساكنا فقالوا خرب فإنهم لا يقفون إلا على الساكن فلا يستشهد به و بعد التسليم فإنه لا يجوز في الآية من وجوه أحدها ما قال الزجاج إن الإعراب بالمجاورة لا يكون مع حرف العطف و في الآية حرف العطف الذي يوجب أن يكون حكم المعطوف حكم المعطوف عليه و ما ذكروه ليس فيه حرف العطف فأما قول الشاعر
فهل أنت إن ماتت أتانك راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب (1)
قالوا جر مع حرف العطف الذي هو الفاء فإنه يمكن أن يكون أراد الرفع و إنما جر الراوي وهما و يكون عطفا على راحل فيكون قد أقوى (2)لأن القصيدة مجرورة و قال قوم أراد بذلك الأمر و إنما جر لإطلاق الشعر.و الثاني أن الإعراب بالمجاورة إنما يجوز مع ارتفاع اللبس فأما مع».
ص: 20
حصول اللبس فلا يجوز و لا يلتبس على أحد أن خرب صفة جحر لا ضب و ليس كذلك في الآية لأن الأرجل يمكن أن تكون ممسوحة و مغسولة فالاشتباه حاصل هنا و مرتفع هناك.و أما قوله و حور عين (1)في قراءة من جرهما فليس بمجرور على المجاورة بل يحتمل أمرين أحدهما أن يكون عطفا على قوله يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (2) إلى قوله وَ حُورٌ عِينٌ فهو عطف على أكواب و قولهم إنه لا يطاف إلا بالكأس غير مسلم بل لا يمتنع أن يطاف بالحور العين كما يطاف بالكأس و قد ذكر في جملة ما يطاف به الفاكهة و اللحم.و الثاني أنه لما قال أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ (3) عطف بقوله وَ حُورٌ عِينٌ على جَنّاتِ النَّعِيمِ فكأنه قال هم في جنات النعيم و في مقاربة أو معاشرة حور عين ذكره أبو علي الفارسي (4).و من قال القراءة بالجر يقتضي المسح على الخفين فقوله باطل لأن الخف لا يسمى رجلا في لغة و لا شرع و الله أمر بإيقاع الفرض على ما يسمى رجلا على الحقيقة.
فصل
و إن قيل في القراءة بالنصب في أَرْجُلَكُمْ هي معطوفة على قوله وَ أَيْدِيَكُمْ في الجملة الأولة.3.
ص: 21
فيقال إن هذا غير صحيح لأنه لا يجوز أن يقول القائل اضرب زيدا و عمرا و أكرم بكرا و خالدا و يريد بنصب خالدا العطف على زيدا و عمرا المضروبين لأن ذلك خروج عن فصاحة الكلام و دخول في معنى اللغز فإن أكرم المأمور خالدا فيكون ممتثلا لأمره معذورا عند العقلاء و إن ضربه كان ملوما عندهم و هذا مما لا محيص عنه.على أن الكلام متى حصل فيه عاملان قريب و بعيد لا يجوز إعمال البعيد دون القريب مع صحة حمله عليه و بمثله ورد القرآن و فصيح الشعر قال تعالى وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً (1) و لو أعمل الأول لقال كما ظننتموه و قال آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (2) و لو أعمل الأول لقال أفرغه و قال هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (3) و لو أعمل الأول لقال هاؤم اقرءوه و إليه ذهب البصريون.فأما من يختار إعمال الأول من الكوفيين فإنه لا يجيز ذلك في مثل الموضع الذي نحن فيه و ليس قول إمرئ القيس
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني و لم أطلب قليل من المال
من قبيل ما نحن بصدده إذ لم يوجه فيه الفعل الثاني (4)إلى ما وجه إليه الأول و إنما أعمل الأول لأنه لم يجعل القليل مطلوبا و إنما كان المطلوب عنده الملك و جعل القليل كافيا و لو لم يرد هذا و نصب لفسد المعنى و على هذا يعمل الأقرب أبدا أنشد سيبويه قول طفيل
جرى فوقها فاستشعرت لون مذهب (5)».
ص: 22
و قال كثير
قضى كل ذي دين فوفى غريمه و عزة ممطول معنى غريمها
و لو أعمل الأول لقال فوفاه غريمه و الاستدلال بقوله ممطول معنى غريمها أولى لأن قوله عزة مبتدأ و ممطول خبره و معنى كذلك و كل واحد منهما فعل للغريم فلا يجوز رفعه بممطول فيبقى معنى و قد جرى خبرا على عزة و هو فعل لغيرها فيجب إبراز ضميره.فأما من قال إن قوله وَ أَرْجُلَكُمْ منصوبة بتقدير و اغسلوا أرجلكم كما قال
متقلدا سيفا و رمحا
و
علفتها تبنا و ماء باردا
فقد أخطأ أيضا لأن ذلك إنما يجوز إذا استحال حمله على ما في اللفظ فأما إذا جاز حمله على ما في اللفظ فلا يجوز هذا التقدير.
فصل
و قد ذكرنا من قبل أن قوله وَ أَرْجُلَكُمْ بالنصب معطوف على موضع بِرُؤُسِكُمْ لأن موضعها النصب و العطف على الموضع جائز حسن كما يجوز على اللفظ لا فرق بينهما عند العرب في الحسن لأنهم يقولون لست بقائم و لا قاعدا أو لا قاعد و إن زيدا في الدار و عمرو فرفع عمرو بالعطف على الموضع كما نصب قاعدا لأنه معطوف على محل بقائم قال الشاعر
معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال و لا الحديدا (1)
مقدرا لكل شبهة.و صح أن الحكم في الآية المسح في الرجلين و قد تقل الشبهة في القراءةى.
ص: 23
بالجر على ما قدمناه.و من قال يجب غسل الرجلين لأنهما محدودتان كاليدين فقوله ليس بصحيح لأنا لا نسلم أن العلة في كون اليدين مغسولتين كونهما محدودتين و إنما وجب غسلهما لأنهما عطفتا على عضو مغسول و هو الوجه و كذلك إذا عطف الرجلان على ممسوح و هو الرأس وجب أن يكونا ممسوحتين و الفصاحة فيما قال الله في الجملتين ذكر معطوفا و معطوفا عليه أحدهما محدود و الآخر غير محدود فيهما.و روي أن الحسن قرأ و أرجلكم بالرفع فإن صحت هذه القراءة فالوجه أنه الابتداء و خبره مضمر أي و أرجلكم ممسوحة كما يقال أكرمت زيدا و أخوه أي و أخوه أكرمته فأضمره على شريطة التفسير و استغنى بذكره مرة أخرى إذا كان في الكلام الذي يليه ما يدل عليه و كان فيما أبقى دليل على ما ألقى فكأن هذه القراءة و إن كانت شاذة إشارة إلى أن مسح الرأس ببقية النداوة من مسح الرأس (1)كما هو.و يدل أيضا على وجوب الموالاة لأن الواو إذا واو الحال في قوله و أرجلكم بالرفع.
فصل
و هذه الآية تدل على أن من غسل وجهه مرة و ذراعيه مرة مرة أدى الواجب على ما فصله الأئمة عليهم السّلام (2)و دخل في امتثال ما يقتضيه الظاهر لأن لفظ الأمر يدل على المرة الواحدة و يحتاج على الاقتصار أو التكرار إلى دليل آخر فلما ورد أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله توضأ مرة مرة و توضأ مرتين مرتين (3)علم أن الفرض3.
ص: 24
مرة واحدة و الثانية سنة لأن الآية مجملة و بيانها فعله عليه و آله السّلام.و كذلك تدل الآية على أنه لا يجوز أن يجعل مكان المسح غسلا و لا بدل الغسل مسحا لأن الله أوجب بظاهر الآية الغسل في الوجه و اليدين و فرض المسح في الرأس و الرجلين فمن مسح ما أمر الله بالغسل أو غسل ما أمر بالمسح لم يكن ممتثلا للأمر لأن مخالفة الأمر لا تجزي في مثل هذا الموضع.و تدل الآية أيضا على أنه يجب تولي المتطهر وضوءه بنفسه إذا كان متمكنا من ذلك و لا يجزيه سواه لأنه قال فَاغْسِلُوا أمر بأن يكونوا (1)غاسلين و ماسحين و الظاهر يقتضي تولي الفعل حتى يستحق التسمية لأن من وضأه غيره لا يسمى غاسلا و لا ماسحا على الحقيقة.و يزيد ذلك تأكيدا
مَا رُوِيَ: أَنَّ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَأَى الْمَأْمُونَ يَتَوَضَّأُ بِنَفْسِهِ وَ الْغُلاَمُ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (2) . فإذا كان هذا مكروها فينبغي أن يكون الأول محظورا.و في الآية أيضا دلالة على أن من مسح على العمامة أو الخفين لا يجزيه لأن العمامة لا تسمى رأسا و الخف لا يسمى رجلا كما لا يسمى البرقع و ما يستر اليدين وجها و لا يدا.و ما روي في المسح على الخفين (3)أخبار آحاد لا يترك لها ظاهر القرآن على أنه
رَوَى الْمُخَالِفُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: نُسَخِ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَ لِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِمَنْ شَهِدَ لِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ أَ قَبْلَ الْمَائِدَةِ أَمْ بَعْدَهَا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالُوا لاَ نَدْرِي فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ قَبْلَ الْمَائِدَةِ (4).3.
ص: 25
فصل
و في هذه الآية دلالة على أن الطهارة تفتقر إلى النية سواء كانت وضوءا أو غسلا أو ما يقوم مقامهما من التيمم و هو مذهب الشافعي أيضا.و قال أبو حنيفة الطهارة بالماء لا تفتقر إلى النية و التيمم لا بد فيه من نية.و الدليل على صحة ما ذكرناه أن قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا تقديره أي فاغسلوا للصلاة و إنما حذف ذكر الصلاة اختصارا و مذهب العرب في ذلك واضح لأنهم إذا قالوا إذا أردت لقاء الأمير فالبس ثيابك تقديره فالبس ثيابك للقاء الأمير.و إذا أمر بالغسل للصلاة فلا بد من النية لأن بالنية يتوجه الفعل إلى الصلاة دون غيرها.
وَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (1). يؤكده.
فصل
و إذا صح بظاهر تلك الآية أن أفعال الوضوء الواجبة المقارنة له خمس النية و غسل الوجه و غسل اليدين و مسح الرأس و مسح الرجلين.فاعلم أن في الآية أيضا دلالة على وجوب كيفياتها العشر المقارنة له بظاهرها و من فحواها و لو لا النصوص المجمع على صحتها في وجوب هذه الواجبات و غيرها الموجبة علما و عملا لما أوردنا هذه الاستدلالات التي ربما يقال لنا إنها على أسلوب استخراجات الفقهاء إلا أنهم يرجمون رجما فيما طريقه العلم و نحن بعد أن قبلناه علما بالإجماع من الفرقة المحقة الذي هو حجة نتجاذب أهداب تلك1.
ص: 26
الاستدلالات و نتشبث بها نضيف بذلك فضيلة إلى فضيلة على أن أكثر ما نتبينه من أئمة الهدى عليهم السّلام.و لعمري إن الله قد أغنى الخلق عن التعسف بين و فصل الشريعة على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله و ألسنة حججه عليهم السّلام ما أجمله في كتابه من الأحكام لما في مجمل الكتاب و تفصيل السنة من دواء العليل و شفاء الغليل ما تصير الألطاف الإلهية بهما أقوى و أبلغ.و كلا الأمرين من الله جملة و تفصيلا ليس للرسول و الأئمة عليهم السّلام في شيء من ذلك اجتهاد إنما هو علم علمهم الله نعمة عليهم و رحمة للعالمين حتى أرش الخدش (1).
فصل
و الآية تدل على وجوب الترتيب في الوضوء من وجهين أحدهما أن الواو توجب الترتيب لغة على قول الفراء و أبي عبيد و شرعا على قول كثير من الفقهاء
وَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ (2). و الثاني و هو على قول الجمهور أن الله أوجب على من يريد القيام إلى الصلاة إذا كان محدثا أن يغسل وجهه أولا لقوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا و الفاء توجب الترتيب و التعقيب بلا خلاف فإذا ثبت أن البداءة بالوجه هو الواجب ثبت في باقي الأعضاء لأن أحدا لا يفرق.و يقويه
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ الْوُضُوءَ فَقَالَ هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ (3). فإن كان رتب فهو كما نقول و إن لم يرتب لزم أن يكون من رتب3.
ص: 27
لا يجزيه و قد أجمعت الأمة على خلافه.و قال أبو مسلم بن مهرإيزد أجود ما يقال على من أجاز وقوع الطهارة بغير الترتيب أنه قد ثبت أن فاعله مسيء بفعله و المسيء معاقب و الاحتراز عن العقاب واجب (1)قال و الوجه اسم لما يناله البصر عند المواجهة من قصاص شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا.و لم يحد الله الوجه كما حد اليد لأن الوجه معروف مختص يجب غسل جميعه و اليد يشتمل على جميع ما هو من البنان إلى أصل الساعد و لا يجب غسل جميعها في الوضوء فلا بد فيها من التحديد.و أشار إلى مسح بعض الرأس بالباء التي ليست للتعدية و حد الرجلين لمثل ما ذكرناه في اليد.
فصل
و ظاهر الآية يوجب غسل الأعضاء و مسحها متى أراد الصلاة و هو محدث فإذا غسلها بلا ترتيب ثم أراد الصلاة يجب أن يكون بعد مخاطبا به عملا بمقتضى الآية.على أن من أخطأ في الوضوء فقدم مؤخرا أو أخر مقدما يجب عليه أن يعيد لأن الترتيب في الوضوء واجب على ما ذكرناه من مقتضى الآية.
وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: تَابِعْ بَيْنَ الْوُضُوءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ابْدَأْ بِالْوَجْهِ ثُمَّ بِالْيَدَيْنِ ثُمَّ امْسَحِ الرَّأْسَ وَ الرِّجْلَيْنِ وَ لاَ تُقَدِّمَنَّ شَيْئاً بَيْنَ يَدَيْ شَيْءٍ تُخَالِفُ مَا أُمِرْتَ بِهِ (2)فَإِنْ غَسَلْتَ الذِّرَاعَ قَبْلَ الْوَجْهِ فَابْدَأْ بِالْوَجْهِ وَ أَعِدْ عَلَى الذِّرَاعِ وَ إِنْ مَسَحْتَ الرِّجْلَر.
ص: 28
قَبْلَ الرَّأْسِ فَامْسَحْ عَلَى الرَّأْسِ قَبْلَ الرِّجْلِ ثُمَّ أَعِدْ عَلَى الرِّجْلِ ابْدَأْ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ (1). و هذا عام في العمد و الخطإ.
فصل
و في الآية أيضا دلالة على أن الموالاة واجبة في الوضوء لأن الأمر شرعا يجب على الفور و لا يسوغ فيه التراخي إلا بدليل فإذا ثبت ذلك و كان المأمور بالصلاة في وقتها مأمورا بالوضوء قبلها فيجب عليه فعل الوضوء عقيب توجه الأمر إليه و كذلك جميع الأعضاء الأربعة لأنه إذا غسل وجهه فهو مأمور بعد ذلك بغسل اليدين و لا يجوز له تأخيره.فإن فرق وضوءه للضرورة حتى يجف ما تقدم منه استأنف الوضوء من أوله و إن لم يجف وصله من حيث قطعه إذا كان الهواء معتدلا.و إن والى بين غسل أعضاء الطهارة و مسحها و جف شيء منها قبل الفراغ لحر شديد أو ريح من غير تقصير منه فيه فلا بأس إذا بقيت نداوة تكفي للمسح لأنه قال ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) .و بمثل ذلك تدل الآية على مقارنة النية و استدامة حكمها.
فصل
و يدل قوله وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ على أن من مسح رأسه و رجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم و يكون ماسحا.و لا يلزم على ذلك ما دون الإصبع لأنا لو خلينا و الظاهر لقلنا بذلك لكن السنة منعت منه.8.
ص: 29
و صورته أن يمسح برأس مسبحة يمينه مقدم رأسه يضعها عليه عرضا مع الشعر إلى قصاصه ثم يمسح بها عرضا رجله اليمنى من أصابعها إلى الكعبين و بمسبحة اليسرى رجله اليسرى كذلك فهذا مجزئ.و الندب أن يمسح مقدم الرأس بثلاث أصابع مضمومة بالعرض و أن يمسح الرجلين بالكفين.و الباء في قوله بِرُؤُسِكُمْ كما تدل على مسح بعض الرأس تدل في الرجلين أيضا عليه لأنها مضمرة في أَرْجُلَكُمْ و واو العطف منبئة عنه و قائمة مقامها و كل ما هو منوي في الكلام فهو في حكم الثابت على بعض الوجوه.
فصل
و تدل الآية بقريب من ذلك على أن مسح الرأس و الرجلين ببقية نداوة الوضوء من غير استئناف ماء جديد لأن الأمر كما هو على الإيجاب شرعا فهو على الفور و إذا لم يشتغل المتطهر بأخذ الماء الجديد و اكتفى بالبلة فهو على الفور و لأن اسم المسح يقع على كليهما فلا يصح أن يميز و يخصص بأحدهما إلا بقرينة تنضم إليه.و إجماع الطائفة الذي هو حجة حاصل على أن المسح ببقية النداوة و هو من أوثق القرائن على أنه سبحانه لم يذكر في الآية استئناف الماء و هذا قد مسح.فإن قيل و لم يذكر المسح ببقية النداوة أيضا.قلنا نحمل الآية على العموم و نخصها بدليل إجماع الفرقة على أن المسح في الشرع هو أن يبل المحل بالماء من غير أن يسيل و الغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل مع الاختيار
ص: 30
ثم قال سبحانه و تعالى عاطفا على تلك الجملة جملة أخرى فقال وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .و لكل كلام حكم نفسه (1)
وَ لِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا أَجْنَبَ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ (2). فعلة الغسل هي الجنابة كما ذكره المرتضى في الذريعة فغسل الجنابة واجب على كل حال.و قد ذكرنا في كتاب الشجار (3)في وجوب غسل الجنابة بيان ذلك على الاستقصاء و بينا ما هو العمل عليه و المعمول على ما أشرنا هاهنا أيضا إليه.و قيل إن هذه الأحكام التي هي الغسل و التيمم الذي هو بدل منه أو من الوضوء من مقدمات الصلاة و شرائطها تجب لوجوبها أي و إن أصابتكم جنابة و أردتم القيام إلى الصلاة فاطهروا و معناه فتطهروا بالاغتسال فهذه الجملة مفصلة بالجملة الأولى متعلقة بها لأن الآية من أولها إلى آخرها تبين شرائط الصلاة المتقدمة فلهذا كان حكم الجملة الأخيرة حكم الأولى لا لأنه قد ربطها الواو العاطفة بما قبلها حتى يقدح (4)في ذلك بقوله وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (1) .
ص: 31
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (1) .
فصل
و نبدأ أولا بفسر ألفاظ الآية و كشف معانيها ثم نشتغل بذكر الأحكام المتعلقة بها فنقول إن لفظ الجنب يقع على الواحد و الجمع و الاثنين و المذكر و المؤنث مثل عدل و خصم و زور و نحو ذلك إذ هو مصدر أو بمنزلة المصدر و قال الزجاج تقديره ذو جنب.و أصل الجنابة البعد لأنها حالة تبعد عن مقاربة العبادات إلى أن يتطهر بالاغتسال على بعض الوجوه.و الاطهار هو الاغتسال بلا خلاف و اطهر هو تطهر مدغما لأن التاء أدغم في الطاء فسكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل.و معنى الآية أي استعملوا الماء أو ما يقوم مقامه.و الجنابة تحصل بشيئين إما بإنزال الماء الدافق في النوم و اليقظة بشهوة أو بغير شهوة أو بالتقاء الختانين وجب غيبوبة الحشفة في القبل أنزل أو لم ينزل.و قال أبو مسلم بن مهرإيزد يلزم الرجل حكم الجنابة من أمور منها أن يجامع في قبل أو دبر و منها أن يلتقي الختانان و إن لم يكن إنزال و لا ماء شهوة و منها أن يحتلم في النوم بشرط أن يجد بللا.و الأغسال المفروضة و المسنونة سبعة و ثلاثون غسلا منها ستة أغسال مفترضات و الباقية نوافل (2).6.
ص: 32
و لم يورد المشايخ تغسيل الأموات من جملة الواجبات و لا غسل نظارة المصلوب بعد ثلاثة أيام و لا غسل استسقاء و لا غسل من أسلم بعد الكفر فلذلك نقص عن هذا العدد.و الفرض المذكور بظاهر اللفظ في القرآن منها اثنان غسل الجنابة و الحيض قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (1) فأوجب بظاهر هذا اللفظ الغسل و قال سبحانه وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ (2) فيمن قرأ بالتشديد و قد بينا أن الاطهار هو الاغتسال و سيجيء بيانه في بابه إن شاء الله تعالى.
فصل
و ليس على الجنب وضوء مع الغسل فإن قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا هو على الإطلاق غير مقيد و لا مشروط بالوضوء و من اغتسل من الجنابة فقد طهر بلا خلاف.و كل غسل ما عدا غسل الجنابة يجب الوضوء قبله حتى يستباح به الدخول في الصلاة فإن نسيه المغتسل فليتوضأ بعد الغسل لتصح منه الصلاة.و غسل المرأة من الجنابة كغسل الرجل سواء لا ناقد بينا في قوله جُنُباً إن الجنب يقع على الرجال و النساء و الرجل و المرأة فينبغي أن يكون حكم الجنابة و حكم غسل الجنابة فيهما سواء و إن ورد الخطاب بلفظ المذكرين في قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فإن ذلك لتغليب لفظ الرجال على النساء إذا اجتمعوا.و الأغسال الأخر الواجبة و هي أربعة يعلم وجوبها بالإجماع و السنة و بقوله2.
ص: 33
تعالى على سبيل الجملة ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1) .و قال المرتضى غسل من مس ميتا من الناس مستحب غير واجب و إنما ذكره كذلك لخبر ورد للتقية.و الجنب إذا أراد الغسل يجب عليه ستة أشياء (2)و يعلم هذا من السنة على سبيل التفصيل و من القرآن على سبيل الجملة قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قد فصلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رواها الأئمة المعصومون عليهم السّلام كما علمه الله غضا طريا.و قال بعضهم لا يجب الاغتسال على الجنب بقوله فَاطَّهَّرُوا بل بتفسيره في قوله إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (3) في سورة النساء.فإن قيل ما معنى تكرير قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ إن كان معنى اللمس الجماع مع قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .قلنا يمكن أن يقال إن الجنابة في الأول تحمل على الاحتلام و في الثاني على الجنابة عمدا.و قيل إن المعنى في قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا غير المعنى بقوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ لأن معنى قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا إذا كنتم واجدين للماء متمكنين لاستعماله ثم بين حكمه إذا عدم الماء أو لا يتمكن من استعماله فالتيمم هو فرضه و هو طهارته فأراد إذا كان له سبيل إلى الماء فعليه أن يغتسل و إن جامع و لم يجد الماء فعليه التيمم فالأول في حكمه مع وجود الماء و الثاني في حكمه مع عوز الماء3.
ص: 34
ثم قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ (1) بين تعالى أحكام التيمم الخمسة و أشار إلى أنه على ضربين تيمم هو بدل من الوضوء و تيمم هو بدل من الغسل المفروض.قال المفسرون معنى الآية أنه لما تقدم الأمر بالوفاء بالعقود و من جملتها إقامة الصلاة و من شرائطها الطهارة بين سبحانه و تعالى و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيام إليها و أنتم على غير طهر فعليكم الوضوء و إن كنتم جنبا عند ذلك فاغتسلوا أي اغسلوا جميع البدن على وجه و إن كنتم جرحى أو مجدرين أو مرضى يضر بكم استعمال الماء و كنتم جنبا أو على غير وضوء و كنتم مسافرين و أنتم جنب أو جاء من الغائط أحدكم قد قضى حاجته منه و هو مسافر أو جامعتم النساء و لم تجدوا ماء أو لا تتمكنون من استعماله فاقصدوا وجه الأرض طاهرا نظيفا غير نجس و لا قدر فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من الصعيد (2).فإذا تبينت خلاصة معنى الآية يسهل عليك تدبر أحكامها التي نذكرها.و الغائط أصله المطمئن من الأرض و كانوا يبرزون إليه ليغيبوا عن عيون الناس ثم كثر ذلك حتى قيل للحدث غائط كناية بالتغوط عن الحدث في الغائط و قيل إنهم كانوا يلقون النجو في هذا المكان و ترميه الرياح إليه أيضا فسمي باسمه على سبيل المجاورة ثم كثر هاهنا حتى صار فيه حقيقة و إن استعمل فيما وضع له كان مجازا.
ص: 35
و اللمس يكون باليد ثم اتسع فيه فأوقع على الجماع.و التيمم القصد و قد صار في الشرع اسما لقصد مخصوص و هو أن يقصد الصعيد و نحوه و يستعمل التراب و ما في معناه في أعضاء مخصوصة.و الصعيد وجه الأرض من غير نبات و لا شجر و قال الزجاج الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض ترابا كان أو غيره من الأحجار و نحوها و إنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض.و قوله أَوْ عَلى سَفَرٍ معناه و إن كنتم مسافرين.
فصل
اعلم أنهم قالوا إن السفر في هذين الموضعين غير معتبر اعتبارا يخل به (1)إذا حصل شرطه الذي قرنه الله بذلك و قيده به من قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً و إنما ذكر لأن أكثر هذه الضرورات على الأغلب تكون في الحال السفر فإن حصلت في غيره فكمثله لهذا نظائر كثيرة كقوله وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ (2) و ليس لكونهن في الحجور اعتبارا و إنما ذكر ذلك لكونه في أكثر الحالات كذلك.و قيل إن أو هاهنا بمعنى الواو كقوله أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (3) يعني و جاء أحد منكم من الغائط و ذلك لأن المجيء من الغائط ليس من جنس المرض و السفر حتى يصح عطفه عليهما فإنهما سبب لإباحة التيمم و الرخصة و المجيء من الغائط سبب لإيجاب الطهارة و التقدير و قد جاء من الغائط.و قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ المراد به الجماع و كذا إذا قرئ أو لمستم و اللمس و الملامسة معناهما واحد لأنه لا يلمسها إلا و هي تلمسه و قيل المراد به اللمس باليد و غيرها و الصحيح هو الأول.7.
ص: 36
يروى أن العرب و الموالي اختلفتا فيه فقال الموالي المراد به الجماع و قال العرب المراد به مس المرأة فارتفعت أصواتهم إلى ابن عباس فقال غلب الموالي المراد به الجماع (1).و سمي الجماع لمسا لأن به يتوصل إلى الجماع كما سمي المطر سماء.
فصل
و قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً راجع إلى المرضى و المسافرين جميعا مسافر لا يجد الماء و مريض لا يجد الماء أو من يوضئه أو يخاف الضرر من استعمال الماء لأن الأصل أن حال المرض يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء و حال السفر يغلب فيها عدم الماء. فَتَيَمَّمُوا أي تعمدوا و تحروا و اقصدوا صعيدا.و قد ذكرنا أن الزجاج قال الصعيد وجه الأرض و هذا يوافق مذهب أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب أو لم يكن.و التيمم إنما يصح و يجب لفريضة الوقت في آخر الوقت و عند تضيقه لأن التيمم بلا خلاف إنما هو طهارة ضرورية و لا ضرورة إليه إلا في آخر الوقت و ما قبل هذه الحال لم تتحقق فيه ضرورة.و ليس للمخالف أن يتعلق بظاهر قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا و بأنه لم يفرق بين أول الوقت و آخره لأن الآية لو كان له ظاهر يخالف قولنا جاز أن يخصه بإجماع الفرقة المحقة و بما ذكرناه أيضا كيف و لا ظاهر لها ينافي ما نذهب إليه لأنه تعالى قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ و أراد بلا خلاف إذا أردتم القيام إلى الصلاة كما قدمناه ثم أتبع ذلك حكم العادم للماء الذي يجب عليه التيمم فيجب على من تعلق بهذه الآية أن يدل على أن من كان في أول الوقت3.
ص: 37
له أن يريد الصلاة و يعزم على القيام إليها.فإنا نخالف في ذلك و نقول ليس لمن عدم الماء أن يريد الصلاة في أول الوقت و ليس لهم أن يفصلوا بين الجملتين و يقولوا (1)إن إرادة الصلاة شرط في الجملة الأولى التي أمر فيها بالطهارة بالماء مع وجوده و ليست شرطا في الجملة الثانية التي ابتداؤها وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى و ذلك لأن الشرط الأول لو لم يكن شرطا في الجملتين لكان يجب على المريض أو المسافر إذا أحدثا التيمم و إن لم يردا الصلاة و هذا لا يقوله أحد.و التيمم إنما أوجبه الله عند عدم الماء حيث لم يجده الإنسان و معلوم أنه أراد من وجود الماء التمكن منه و القدرة عليه لأنه لو وجد الماء و لم يتمكن من الوصول إليه للخوف من السبع أو التلف على نفسه لم يكن واجبا عليه استعماله و لم يحسن أن يكون مرادا فعلم أنه إنما أراد التمكن و التمكن مرتفع بأحد الأشياء الثلاثة إما لعدم الماء مع الطلب له أو لعدم ما يتوصل إلى الماء من آلة أو ثمن أو لحائل بينه و بين الماء من الخوف من استعماله إما على النفس أو على المال و ما أشبه ذلك فالآية بمجردها تدل على جميع ذلك.
فصل
على أنا نحمل قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا على العموم في جميع الأوقات عنه عدم الأشياء الثلاثة المذكورة على بعض الوجوه فإن القاضي للصلوات المفروضات يتيمم عند حصول إحدى تلك الشرائط في كل حال (2)و إن لم يكن وقت صلاة حاضرة و كذلك يتيمم من أراد أن يصلي صلاة نافلة في غير وقت فريضة أو في أول وقتها ثم يجوز أن يصلي بذلك التيمم فريضة الوقت في آخر وقتها».
ص: 38
عند تضيقه إذا لم ينتقض حكم ذلك التيمم بحدث أو ما يجري مجراه و هو التمكن من استعمال الماء.و اختلف في كيفية التيمم على أقوال أحدها أنه ضربة للوجه و ضربة لليدين إلى المرفقين و هو قول أبي حنيفة و الشافعي و أكثر الفقهاء و به قال قوم من أصحابنا لحديث ورد للتقية (1).و ثانيها أنه ضربة للوجه و ضربة لليدين من الزندين و إليه ذهب عمار بن ياسر و مكحول و الطبري و هو مذهبنا في التيمم إذا كان بدلا من الجنابة فإن كان بدلا من الوضوء كفاه ضربة واحدة يمسح بها وجهه من قصاص شعره إلى طرف أنفه و يديه من زنديه إلى أطراف أصابعهما.و إنما وهم الراوي عن عمار في الضربة في اليدين للتيمم على كل حال لأنه روى التيمم الذي هو بدل من الجنابة و قصته معروفة و هي أنه و عمر كانا في سفر فاحتلما و لم يجدا الماء فامتنع عمر من الصلاة إلى أن وجد الماء و تمعك عمار في التراب و صلى إذ لم يعرفا كيفية التيمم فلما دخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكيا حالهما فتبسم عليه السّلام و قال تمعكت كما تتمعك الدابة (2)ثم علمه كيفية التيمم (3).و ثالثها أنه إلى الإبطين ذهب إليه الخوارج.و روى الزهري أن الله عفو يقبل منكم العفو السهل لأن في قبوله التيمم بدلا من الوضوء تسهيل الأمر علينا.و مسح الوجه بالتراب و ما يجري مجراه في التيمم إنما هو إلى طرف الأنف و مسح اليد على ظاهر الكف على ما قدمناه و الدليل عليه بعد إجماع الطائفة2.
ص: 39
قوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و دخول الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل إلى المفعول لا بد له من فائدة و إلا كان عبثا و لا فائدة بعد ارتفاع التعدية إلا التبعيض (1)و حكم التبعيض يسري (2)من الوجوه إلى الأيدي لأن حكم المعطوف و المعطوف عليه سواء في مثل ذلك.
فصل
و المقيم إذا فقد الماء يتيمم كالمسافر لأن العلة في السفر فقدان الماء أ لا ترى أن السفر بانفراده لا يرخص التيمم فيه و إنما ذكر سبحانه السفر مع السببين للترخيص في التيمم على ما قدمناه لأن الغالب في السفر عوز الماء دون الحضر و بناء كلام العرب على الأغلب كثير.فإن قيل الآية ترخص للمحدث التيمم إذا فقد الماء فمن أين لكم أن من سواه ممن ذكرتموه يجوز له أيضا ذلك.قلنا قد قدمنا أن من المعلوم أنه تعالى أراد بوجود الماء التمكن من استعماله و القدرة عليه و التمكن مرتفع في المواضع كلها.
فصل
قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً يدل على أن المحبوس إذا لم يجد الماء و تيمم و صلى فلا إعادة عليه خلافا للشافعي.و إنما قلنا إنه لا يعيد لأنه إذا صلى فقد أدى فرضا بالاتفاق و إعادة الفرض لا تجب إلا بحجة و لا حجة على إعادة صلاة المحبوس بالتيمم من كتاب و لا سنة و لا إجماع.».
ص: 40
و يستحب التيمم من ربى الأرض (1)التي تنحدر المياه عنها فإنها أطيب من مهابطها قال تعالى صَعِيداً طَيِّباً و سمي صعيدا لأنه يصعد من الأرض و الطيب ما لم يعلم فيه نجاسة و طيبا أي طاهرا و قيل حلالا و قيل منبتا دون السبخة التي لا تنبت كقوله وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً (2) و العموم يتناول الكل.و تسمية التيمم بالطهارة حكم شرعي
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِداً وَ تُرَابُهَا طَهُوراً (3). و لا يرفع الحدث بالتيمم سواء كان بدلا من الوضوء أو بدلا من الغسل و إنما يستباح به الصلاة عند ارتفاع التمكن من الطهارتين أ لا ترى أن الجنب إذا تيمم و صلى فإذا تمكن من الماء يجب عليه الاغتسال.و قال المرتضى رضي الله عنه يجب في نية التيمم رفع الحدث ليصح الدخول في الصلاة.
فصل
و قوله تعالى ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (4) معناه ما يريد الله فيما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة و من الغسل من الجنابة و التيمم عند عدم الماء أو تعذر استعماله ليلزمكم في دينكم من ضيق و لا ليفتنكم فيه و من الحرج الذي لم يرده الله تعالى بهم أن يغتسلوا حين يخافون منه تلف النفس.6.
ص: 41
ثم قال وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي لكن يريد الله ليطهركم بما فرض عليكم من الوضوء و الغسل من الأحداث و الجنابة أن ينظف به أجسامكم من الذنوب
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِنَّ الْوُضُوءَ يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ (1). و قوله وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ معناه يريد الله مع تطهيركم من ذنوبكم أن يتم نعمته بإباحته لكم التيمم و بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء و الغسل إذا قمتم إلى الصلاة مع وجود الماء و التيمم مع عدمه لتشكروا الله على نعمه فتستحقوا الثواب إذا قمتم بالواجب في ذلك.
فصل
و الله تعالى ما جعل علينا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ حتى أباح للمتيمم أن يصلي بتيممه صلوات الليل كلها من الفرائض و النوافل ما لم يحدث أو لم يتمكن من استعمال الماء.و يدل عليه قوله في آية الطهارة أنه أوجب الطهارة على القائم إلى الصلاة إذا وجد الماء ثم عطف عليه بالتيمم عند فقد الماء و الصلاة أتم الجنس و كأنه قال و الطهارة تجزيكم لجنس الصلاة (2)إذا وجدتم الماء و إذا فقدتموه أجزأكم التيمم لجنسها.ثم كما لا تختص الطهارة بصلاة واحدة فكذلك التيمم.فإن قيل إن قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ يدل على إيجاب الطهور أو التيمم إذا لم يجد الماء على كل قائم إلى الصلاة و هذا يقتضي وجوب التيمم لكل صلاة.قلنا ظاهر الأمر لا يدل على التكرار و لا على الاقتصار من فعل مرة واحدة فليس يجب تكرر الطهارة بتكرر القيام إلى الصلاة إلا بقرينة و دليل.ج.
ص: 42
على أن السائل يذهب إلى أن الرجل لو قال لامرأته أنت طالق إذا دخلت الدار فلم يقتض قوله أكثر من مرة واحدة عند من يجيز الطلاق مشروطا و لو تكرر دخولها لم يتكرر وقوع الطلاق عليها
أما قوله تعالى في سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى (1) فقد قيل في هذه الآية نيفا و عشرين حكما سوى التفريعات (2).و قالوا في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما قال إبراهيم إنها نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح (3).الثاني قالت عائشة نزلت في جماعة منهم أعوزهم الماء (4).و ظاهر الخطاب متوجه إلى المؤمنين كلهم بأن لا يقربوا الصلاة و هم سكارى و لا يجب قصر الحكم على سببه بلا خلاف.و قرب يقرب متعد يقال قربتك و قرب يقرب لازم يقال قربت منه.
ص: 43
و أصل السكر سد مجرى الماء فبالسكر تنسد طريق المعرفة (1).و قوله وَ أَنْتُمْ سُكارى جملة منصوبة الموضع على الحال و العامل فيه تقربوا و ذو الحال ضميره.و قوله جُنُباً انتصب لكونه عطفا عليه و المراد به الجمع.و عابِرِي سَبِيلٍ منصوب على الاستثناء.و قوله عَلى سَفَرٍ عطف على مَرْضى أي مسافرين.
فصل
و معنى الآية لا تقربوا مكان الصلاة أي المساجد للصلاة و غيرها كقوله وَ صَلَواتٌ أي مواضعها.و هذا أولى مما روي أن معناه لا تصلوا و أنتم سكارى (2)لأن قوله إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ يؤكد الأول فإن العبور إنما يكون في المواضع دون الصلاة.و أَنْتُمْ سُكارى فيه قولان أحدهما أن المراد به سكر النوم روى ذلك عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام (3).و الثاني أن المراد به سكر الشراب (4). حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي حتى تميزوا بين الكلام و حتى تحفظوا ما تتلون من القرآن.و قوله وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ فيه قولان أيضا1.
ص: 44
أحدهما أن معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد و أنتم جنب إلا مجتازين (1)و عابِرِي سَبِيلٍ أي مارين في طريق حتى تغتسلوا من الجنابة.و الثاني أن المراد به و لا تقربوا الصلاة و أنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين فيجوز لكم أداؤها بالتيمم و إن لم يرتفع حكم الجنابة فإن التيمم و إن أباح الصلاة لا يرفع الحدث.و القول الأول أقوى لأنه تعالى بين حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء فلو حملناه على القول الثاني لكان تكرارا و إنما أراد تعالى أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية و يبين حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.و قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى قد بينا أنه نزل في أنصاري مريض لم يستطع أن يقوم فيتوضأ (2).و المرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح و الكسر و القروح إذا خاف أصحابها من مس الماء و قيل هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء أو لا يكون هناك من يناوله على ما قدمناه و المروي عن الأئمة عليهم السّلام جواز التيمم في جميع ذلك لأنه على العموم (3).و المراد بقوله لمستم و لامَسْتُمُ الجماع ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء كما بين حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا و بين أيضا حكم المحدث عند عدم الماء بقوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ .9.
ص: 45
فصل
يسأل عن قوله تعالى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى فيقال كيف يجوز نهي السكران في حال السكر مع زوال العقل.و يجاب عنه بأجوبة أحدها أن النهي إنما ورد عن التعرض للسكر في حال وجوب أداء الصلاة عليهم على التخصيص و إن وجب ذلك قبله كما قال تعالى بعد ذكر الأشهر الحرم فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (1) و إن وجب ذلك في غيرها من الأشهر.و الثاني أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من حد نقصان العقل إلى ما لا يحتمل الأمر و النهي.و الثالث أن النهي إنما دل على أن إعادة الصلاة واجبة عليهم إن أدوها في حال السكر و لا تصح (2)لو كان الخمر على ثوبه أو بدنه.و قد سئل أيضا فقيل إذا كان السكران مكلفا فكيف يجوز أن ينهى عن الصلاة في حال سكره مع أن عمل المسلمين على خلافه.و أجيب عنه بجوابين أحدهما أنه منسوخ على حد قول من زعم أن قليل الخمر لم يكن شربه حراما بحيث لم يسكر.و الآخر أنهم لم يؤمروا بتركها لكن أمروا بأن يصلوها في بيوتهم و نهوا عن الصلاة مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله في جماعة تعظيما له و توقيرا للمسجد.و لا يصح من السكران شيء من العقود كالنكاح و البيع و الشراء و غير ذلك على بعض الوجوه و لا رفعها كالطلاق و العتاق.ن.
ص: 46
فأما ما يلزم به الحدود و القصاص فإنه يلزمه جميع ذلك يقطع بالسرقة على كل حال إذا تمت شرائط السرقة و كذا يحد بالقذف و الزناء لأنه السبب لذلك و لعموم الآيات المتناولة لذلك على ما نذكره.
فصل
على أن من كان مكلفا يلزمه الصلاة على كل حال و إنما حسن أن ينهى عن الصلاة من على ثوبه أو بدنه نجاسة مع أنه مكلف و الخمر نجس فالنهي على هذا متوجه إليه في حال يكون عليه.و معنى الآية أنه خاطب المؤمنين و لا سكر و قال لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ في المستقبل وَ أَنْتُمْ سُكارى و إذا كان كذلك فيجب أن يكون منعا مما يؤدي إلى السكر و على هذا قال السلف إن الله حرم بهذه الآية المسكر ثم حرم القليل و الكثير منه في المائدة كما ذكر هاهنا بعض أحكام الطهارة و بينها في المائدة.و معنى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تصلوا و لا تقرب الشيء أبلغ في النهي من لا تفعله.و قد ذكروا أن قوله وَ أَنْتُمْ سُكارى جملة من مبتدأ و خبر في موضع الحال لأنه لم ينههم عن الصلاة مطلقا إنما نهاهم عن السكر الذي لا يفهم معه القول أي إذا كنتم بهذه الحالة فلا تصلوا و المراد تجنبوا الصلاة في هذه الحالة.و قوله حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ غاية للحال التي نهي عن الصلاة فيها فكأنه قال لكن إذا كنتم من السكر في حالة تعلمون معه معنى ما تقرءون في صلاتكم أو لفظه فصلوا.و قد بينا أن قوله وَ لا جُنُباً إنما نصب على الحال عطفا على محل وَ أَنْتُمْ سُكارى أي لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد لا مجتازين في حال السكر
ص: 47
و لا مجتازين في حال الجنابة و هو قول أبي جعفر عليه السّلام (1)و حذف لدلالة الكلام عليه و هو الأقوى لأنه تعالى بين حكم الجنابة في آخر هذه الآية إذا عدم الماء فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا و إنما أراد أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية و حكمه إذا أراد الصلاة مع عدم الماء في آخرها.و بهذه الآية و بالآية التي تقدم ذكرها من المائدة يستدل على تحريم الخمسة الأشياء على الجنب على ما ذكرناه.
فصل
و قوله أو لمستم المراد بالقراءتين في الآيتين الجماع (2)و اختاره أبو حنيفة أيضا أ لا ترى إلى قوله وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ (3) خصص باليد لئلا يلتبس بالوجه الآخر.و كل موضع ذكر الله تعالى المماسة أراد به الجماع كقوله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا (4) و كذلك الملامسة.و قال بعضهم من قرأ بلا ألف أراد اللمس باليد و غيرها مما دون الجماع و اختاره الشافعي و الصحيح هو الأول.
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا حُمِلَ عابِرِي سَبِيلٍ عَلَى الْمُسَافِرِينَ كَانَ تَكْرَاراً فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الاِجْتِيَازِ بِالْمَسَاجِدِ إِلَى الاِغْتِسَالِ إِذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى الْمَاءِ إِلاَّ بِهِ. و قال عبد الله و الحسن يمر به إلى الماء و لا يجلس فيه.و قيل إن ما توهموه من التكرير غير صحيح لأن المكرر إذا علق به حكم3.
ص: 48
آخر لم يفهم من الأول كان حسنا و قد ذكر معه التيمم فلم يكن تكريرا معيبا و الأول أولى.و قال قوم إن في التيمم جائز أن يضرب باليدين على الرمل فيمسح به وجهه و إن لم يعلق بها شيء و به نقول.و الشافعي يوجب التيمم لكل صلاة (1)و يرويه عن علي عليه السّلام و ذلك عندنا محمول على الندب.و قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يدخل تحته النساء أيضا لأنه لا خلاف إذا اجتمع المذكر و المؤنث يغلب المذكر.و قوله إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ (2) الآية إنما ذكر إزالة للشبهة فإن أم سلمة قالت يا رسول الله الرجال يذكرون في القرآن و لا تذكر النساء فنزلت الآية (3).
فصل
و الجنب لا يجوز أن يمس القرآن و هو المكتوب في الكتاب أو اللوح لقوله تعالى لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (4) و كذا كل من يجب عليه غسل واجب.و الضمير في لا يَمَسُّهُ يرجع إلى القرآن لا إلى الدفتر لقوله تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ (1) حظر الله مس القرآن مع ارتفاع الطهارة.فإن قيل هذا يلزمكم أن لا تجوزوا على من ليس على الطهارة الصغرى أيضا أن يمس القرآن.قلنا و كذلك نقول و إنما يجوز له أن يمس حواشي المصحف و أما نفس المكتوب فلا يجوز.و كذلك لا يمس كتابه شيء عليه اسم الله أو أسماء أنبيائه و أسماء أئمته عليهم السّلام.و يجوز للجنب و الحائض أن يقرءا من القرآن ما شاءا إلا عزائم السجود الأربع (2)و الدليل عليه زائدا على إجماع الفرقة قوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3)9.
ص: 49
رَبِّ الْعالَمِينَ (1) حظر الله مس القرآن مع ارتفاع الطهارة.فإن قيل هذا يلزمكم أن لا تجوزوا على من ليس على الطهارة الصغرى أيضا أن يمس القرآن.قلنا و كذلك نقول و إنما يجوز له أن يمس حواشي المصحف و أما نفس المكتوب فلا يجوز.و كذلك لا يمس كتابه شيء عليه اسم الله أو أسماء أنبيائه و أسماء أئمته عليهم السّلام.و يجوز للجنب و الحائض أن يقرءا من القرآن ما شاءا إلا عزائم السجود الأربع (2)و الدليل عليه زائدا على إجماع الفرقة قوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3)
فَأَمَّا الْحَدِيثُ: مَا كَانَ يَحْجُبُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلاَّ الْجَنَابَةُ (4). فهو الكراهة.و ظاهر عموم ذلك يقتضي حال الجنابة و غيرها فإن ألزمنا قراءة السجدات قلنا أخرجناها بدليل و هو إجماع الطائفة و أخبارهم.و يمكن أن يكون هذا الفرق بين عزائم السجود و غيرها أن فيها سجودا واجبا و السجود لا يكون إلا على طهر ذكره بعض أصحابنا.و هذا ضعيف لأن العلة لو كان ذلك لما تجاوز موضع السجود إلا أن يقال النهي عن قراءة تلك السور الأربع لحرمتها الزائدة على غيرها و النهي الوارد في الأحاديث بقراءة القرآن للجنب ففي السور الأربع على الحظر و فيما عداها على الكراهة1.
ص: 50
قال الله تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ (1) .و سبب نزول هذه الآية أنهم كانوا في الجاهلية يجتنبون مؤاكلة الحائض و مشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك و استعلموا ذلك أ واجب هو أم لا فنزلت الآية (2).و قيل كانوا يستجيزون إتيان النساء في أدبارهن أيام الحيض فلما سألوا عنه بين تحريمه (3)و الأول أقوى.و قالوا إن في هذه الآية خمسة عشر حكما (2)و زاد بعضهم.و المحيض و الحيض مصدر حاضت المرأة و المحيض في الآية تصلح للمصدر و الزمان فتقدير المصدر يسألونك عن حيض المرأة ما حكمه من المجامعة و غيرها و تقدير الزمان يسألونك عن حال المرأة وقت الحيض ما حكمها في مجامعة الرجل
ص: 51
إياها و السائل أبو الدحداح فيما روي (1).و صفة الحيض هو الدم الغليظ الأسود الذي يخرج بحرارة على الأغلب.و أقل الحيض ثلاثة أيام متواليات و لا يعتبر التوالي فيها بعض أصحابنا إذا لم يكن بين بعض الأيام الثلاثة و بين بعض عشرة أيام و كلاهما على الإطلاق غير صحيح لأن غير التتابع في ثلاثة الأيام إنما يكون في الحبلى لم يستبن حملها و التتابع لمن عداها على ما ذكره في الإستبصار (2).و أكثر الحيض عشرة أيام و عليه أهل العراق و الحسن.و أقل الطهر عشرة أيام و خالف الجميع و قالوا خمسة عشر.و أما المستحاضة فهي المرأة التي غلبها الدم فلا يرقأ و السين هاهنا للصيرورة أي صارت كالحائض.و الاستحاضة دم رقيق أصفر بارد على الأغلب و هي بحكم الطاهر إذا فعلت ما عليها.و قال قوم تغتسل مرة ثم تتوضأ لكل صلاة و قال قوم تغتسل عند كل صلاة.و عندنا لها ثلاثة أحوال إن رأت الدم لا يظهر على القطنة فعليها تجديد الوضوء لكل صلاة و إن ظهر الدم على القطنة و لا يسيل فعليها غسل لصلاة الغداة و تجديد الوضوء لباقي الصلوات (3)و إن ظهر الدم عليها و سال فعليها ثلاثة أغسال عند الغداة و الظهر و المغرب.و حكم النفاس حكم الحيض إلا في الأقل فليس حد لأقل النفاس.و هذا يعلم بالإجماع و السنة تفصيلا و بالكتاب جملة قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .م.
ص: 52
فصل
و قوله قُلْ هُوَ أَذىً معناه قذر و نجاسة و قيل قل يا محمد هو دم و مرض و قيل هو أذى لهن و عليهن لما فيه من المشقة. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج عن ابن عباس و عائشة و الحسن و قتادة و مجاهد و هو قول الشيباني محمد بن الحسن و يوافق مذهبنا.و قيل إنه لا يحرم منها غير موضع الدم فقط و قيل يحرم ما دون الإزار و يحل ما فوقه و هو قول أبي حنيفة و الشافعي.و الاعتزال التنحي عن الشيء.و قيل معنى أَذىً أي ذو أذى أي يتأذى به المجامع بنفور طبعه عما يشاهد فلا تلزموا أنفسكم منه أكثر من ترك مجامعتهن في ذلك الموضع لأن من العرب من كان يتجنب المرأة كلها تقبيلها و أن يماس بدنها فأبطل الله هذا الاعتقاد و بين أنه أذى فقط أي يستقذر المجامع دم الحيض و أنه كلفه عليهن في التكليف.و لو قال فاعتزلوا النساء فيه لكان كافيا و إنما ذكر في المحيض إيضاحا و توكيدا و تفخيما و لذلك قال وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ بعد أن قال فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ لما وصله به من ذكر الغاية التي أمر باعتزالهن و هو قوله حَتّى يَطْهُرْنَ .
فصل
و معنى لا تَقْرَبُوهُنَّ أي لا تقربوا مجامعتهن في موضع الحيض إلا أن اللفظ عام و المعنى خاص لأن العلماء مجمعون على جواز قضاء الوطر منها فيما
ص: 53
بين الفخذين و الأليتين و أي موضع أراد من جسدها و إنما اختلفوا في الدبر فمنع منه الجمهور و أجازه مالك بن أنس و عزاه إلى نافع عن ابن عمر (1).و كل من أنكر ذلك قال إن الله سماهن حرثا و ليس الدبر موضع الحرث و هذا ليس بسداد لأنهم يجوزون في غير القبل و إن لم يكن موضع حرث.فالجواب الصحيح أن العلماء أجمعوا على جواز هذا و لم يجمعوا على جواز ذلك فافترق الأمران.فمباشرة الحائض على ثلاثة أضرب محرم بلا خلاف و مباح بلا خلاف و مختلف فيه.فالمحظور بلا خلاف وطؤها في الفرج لقوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فإن خالف و فعل فقد عصى الله و عليه الكفارة.و أما المباح فما عدا ما بين السرة و الركبة في أي موضع شاء من بدنها.و المختلف فيه ما بين السرة و الركبة غير الفرج و الظاهر أن هذا أيضا مباح.و الآية دالة على وجوب اعتزال المرأة و التباعد منهن في حال الحيض على ما ذكرناه و فيها ذكر غاية التحريم و يشمل ذلك على فصول أحدها ذكر الحيض و أقله و أكثره و قد فصلناه.و ثانيها حكم الوطي في حال الحيض فإن عندنا الكفارة عليه إن كان في أوله دينار و في وسطه نصف دينار و في آخره ربع دينار و قال ابن عباس عليه دينار و لم يفصل و أول الحيض و آخره مبني على أكثر أيام الحيض و هي عشرة أيام دون عادة المرأة.و ثالثها غاية تحريم الوطي و سيجيء ذكرها.و قال المرتضى من وطئ جاريته في حيضها فعليه أن يتصدق و الدليل عليه أنا قد علمنا أن الصدقة بر و قربة و طاعة لله تعالى فهي داخلة تحت قوله وَ افْعَلُوا
الْخَيْرَ و أمره بالطاعة مما لا يحصى بالكتاب و ظاهر الأمر يقتضي الإيجاب في الشريعة فينبغي أن تكون الصدقة واجبة و يثبت له حكم الندب بدليل قاد إلى ذلك و لا دليل هاهنا يوجب العدول عن الظواهر.فأنعم النظر كيف ألزم القوم الذين خالفوه من طريقهم.1.
ص: 54
الْخَيْرَ و أمره بالطاعة مما لا يحصى بالكتاب و ظاهر الأمر يقتضي الإيجاب في الشريعة فينبغي أن تكون الصدقة واجبة و يثبت له حكم الندب بدليل قاد إلى ذلك و لا دليل هاهنا يوجب العدول عن الظواهر.فأنعم النظر كيف ألزم القوم الذين خالفوه من طريقهم.
فصل
و قوله حَتّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف معناه حتى ينقطع الدم عنهن و بالتشديد معناه حتى يغتسلن و قال مجاهد و طاوس معنى يَطَّهَّرْنَ بتشديد يتوضأن و هو مذهبنا و أصله يتطهرن فأدغم التاء في الطاء.و عندنا يجوز وطء المرأة إذا انقطع دمها و طهرت و إن لم تغتسل إذا غسلت فرجها و فيه خلاف.فمن قال لا يجوز وطؤها إلا بعد الطهر من الدم و الاغتسال تعلق بالقراءة بالتشديد و إنها تفيد الاغتسال.و من جوز وطأها بعد الطهر من الدم قبل الاغتسال تعلق بالقراءة بالتخفيف و هو الصحيح لأنه يمكن في قراءة التشديد أن يحمل على أن المراد به يتوضأن على ما حكيناه عن طاوس و غيره و من عمل بالقراءة بالتشديد يحتاج أن يحذف القراءة بالتخفيف أو يقدر محذوفا بأن يقول تقديره حتى يطهرن و يتطهرن.و على مذهبنا لا يحتاج إلى ذلك لأنا نعمل بالقراءتين فإنا نقول يجوز وطء الرجل زوجته إذا طهرت من دم الحيض و إن لم تغتسل متى مست به الحاجة و المستحب أن لا يقربها إلا بعد التطهير و الاغتسال.و القراءتان إذا صحتا كانتا كآيتين يجب العمل بموجبهما إذا لم يكن نسخ.و مما يدل على استباحة وطئها إذا طهرت و إن لم تغتسل قوله وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ (1) .و قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ قال المفسرون إن اليهود قالوا من أتى زوجته من خلفها في قبلها يكون الولد أحولا فكذبهم الله و أباح ما حظروه (2)فعموم هذه الظواهر يتناول موضع الخلاف و يقطع كل اعتراض عليه قوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ إذ لا شبهة في أن المراد بذلك انقطاع الدم دون الاغتسال لأن طهرت المرأة في الشرع بخلاف طمثت و إن كان في الأصل هو ضد النجاسة يقال طهرت المرأة فهي طاهرة إذا لم يكن عليها نجاسة و طهرت فهي طاهر إذا لم تكن حائضا.و الخطاب إذا ورد من الحكيم و يكون فيه وضع اللغة و عرف الشرع يجب حمله على العرف الشرعي إذا كان واردا لحكم من أحكام الشرع و لأن جعله تعالى انقطاع الدم غاية يقتضي أن ما بعده بخلافه فالحيض كما ذكر الله تعالى مانع و ليس وجوب الاغتسال مانعا.و طهرت بالفتح أقيس لقولهم طاهر كقولهم قعد فهو قاعد و من حيث الطبيعة طهرت أولى في المعنى.و القراءة بالتشديد لا بد أن يكون المراد بها الطهارة فإن كان المعنى التوضأ كما ذكرنا فلا كلام و إن كان الاغتسال فنحمله على الاستحباب.
ص: 55
و قوله حَتّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف معناه حتى ينقطع الدم عنهن و بالتشديد معناه حتى يغتسلن و قال مجاهد و طاوس معنى يَطَّهَّرْنَ بتشديد يتوضأن و هو مذهبنا و أصله يتطهرن فأدغم التاء في الطاء.و عندنا يجوز وطء المرأة إذا انقطع دمها و طهرت و إن لم تغتسل إذا غسلت فرجها و فيه خلاف.فمن قال لا يجوز وطؤها إلا بعد الطهر من الدم و الاغتسال تعلق بالقراءة بالتشديد و إنها تفيد الاغتسال.و من جوز وطأها بعد الطهر من الدم قبل الاغتسال تعلق بالقراءة بالتخفيف و هو الصحيح لأنه يمكن في قراءة التشديد أن يحمل على أن المراد به يتوضأن على ما حكيناه عن طاوس و غيره و من عمل بالقراءة بالتشديد يحتاج أن يحذف القراءة بالتخفيف أو يقدر محذوفا بأن يقول تقديره حتى يطهرن و يتطهرن.و على مذهبنا لا يحتاج إلى ذلك لأنا نعمل بالقراءتين فإنا نقول يجوز وطء الرجل زوجته إذا طهرت من دم الحيض و إن لم تغتسل متى مست به الحاجة و المستحب أن لا يقربها إلا بعد التطهير و الاغتسال.و القراءتان إذا صحتا كانتا كآيتين يجب العمل بموجبهما إذا لم يكن نسخ.و مما يدل على استباحة وطئها إذا طهرت و إن لم تغتسل قوله وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ (1) .و قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ قال المفسرون إن اليهود قالوا من أتى زوجته من خلفها في قبلها يكون الولد أحولا فكذبهم الله و أباح ما حظروه (2)فعموم هذه الظواهر يتناول موضع الخلاف و يقطع كل اعتراض عليه قوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ إذ لا شبهة في أن المراد بذلك انقطاع الدم دون الاغتسال لأن طهرت المرأة في الشرع بخلاف طمثت و إن كان في الأصل هو ضد النجاسة يقال طهرت المرأة فهي طاهرة إذا لم يكن عليها نجاسة و طهرت فهي طاهر إذا لم تكن حائضا.و الخطاب إذا ورد من الحكيم و يكون فيه وضع اللغة و عرف الشرع يجب حمله على العرف الشرعي إذا كان واردا لحكم من أحكام الشرع و لأن جعله تعالى انقطاع الدم غاية يقتضي أن ما بعده بخلافه فالحيض كما ذكر الله تعالى مانع و ليس وجوب الاغتسال مانعا.و طهرت بالفتح أقيس لقولهم طاهر كقولهم قعد فهو قاعد و من حيث الطبيعة طهرت أولى في المعنى.و القراءة بالتشديد لا بد أن يكون المراد بها الطهارة فإن كان المعنى التوضأ كما ذكرنا فلا كلام و إن كان الاغتسال فنحمله على الاستحباب.
فصل
و قوله فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ أي إذا اغتسلن و قيل إذا توضأن و قيل إذا غسلن الفرج.1.
ص: 56
فَأْتُوهُنَّ أي فجامعوهن و هو إباحة كقوله وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (1) و كقوله فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ (2) .و أما قوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ فمعناه من حيث أمركم الله (3)بتجنيبه في حال الحيض و هو الفرج و قيل من قبل الطهر دون الحيض و قال محمد بن الحنفية أي من قبل النكاح دون الفجور.و الأول أليق بالظاهر و إن كان العموم يحتمل جميع ذلك و كذا يحتمل أن يكون المراد من حيث أباح الله لكم دون ما حرمه عليكم من إتيانها و هي صائمة واجبا أو محرمة أو معتكفة على بعض الوجوه ذكره الزجاج و العموم يشمل الجميع.فغاية تحريم الوطء مختلف فيها منهم من جعل الغاية انقطاع الدم حسب ما قدمناه و منهم من قال إذا توضأت أو غسلت فرجها حل وطؤها و إن كان الأولى أن لا يقربها إلا بعد الغسل و هو مذهبنا و منهم من قال إذا انقطع دمها و اغتسلت حل وطؤها عن الشافعي و منهم من قال إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدم يحللها للزوج و إن كان دون العشر فلا يحل وطؤها إلا بعد الغسل أو التيمم أو مضى وقت صلاة عليها عن أبي حنفية.
فصل
و قوله إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قال عطاء المتطهرين بالماء و قال مجاهد المتطهرين من الذنوب و الأول مروي في سبب نزول هذه الآية (4)و العموم يتناول الأمرين.1.
ص: 57
و إنما قال اَلْمُتَطَهِّرِينَ و لم يذكر المتطهرات لأن المذكر و المؤنث إذا اجتمعا فالغلبة للمذكر كما قدمناه في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .و قيل اَلتَّوّابِينَ من الذنوب و اَلْمُتَطَهِّرِينَ بالماء.و لو قلنا المراد به الرجال دون النساء لأن الخطاب بالأمر و النهي معهم دونهن لقوله فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ و لا تَقْرَبُوهُنَّ لكان أولى و لم يحتج إلى عذر.و يستدل بهذه الآية أيضا على استحباب غسل التوبة و كذا على ما ذكرناه من أنهن لا يقربن إلا بعد الاغتسال
قال الله تعالى وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (1) أي طاهرا مطهرا مزيلا للأحداث و النجاسات مع طهارته في نفسه.و وصف الله الماء بكونه طهورا مطلقا يدل على أن الطهورية صفة أصلية للماء ثابتة له قبل الاستعمال بخلاف قولهم ضارب و شاتم و متكلم لأنه إنما يوصف به بعد ضربه و شتمه و كلامه و لذلك لا يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء.و كذا لا يجوز الوضوء به و الغسل (2)لأنه تعالى نقل الحكم من الماء المطلق إلى التيمم و معناه أنه أوجب التيمم على من لم يجد الماء و هذا غير واجد للماء لأن المائع ليس بماء لأنه لا يسمى ماء.و أيضا فقوله فَتَيَمَّمُوا الفاء فيه يوجب التعقيب بلا خلاف.و وجه الدلالة أن الله تعالى قال وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً فأطلق
ص: 58
على ما وقع عليه اسم الماء فإنه طهور سواء نزل من السماء أو نبع من الأرض عذبا كان أو مالحا باردا أو مسخنا واقفا أو جاريا ماء البحر أو البر أو البئر أو العين.و قال ابن بابويه أصل جميع الماء من السماء لقوله وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (1) و الطهور هو المطهر في اللغة فيجب أن يعتبر كل ما يقع عليه اسم الماء بأنه طاهر و مطهر إلا ما قام الدليل على تغير حكمه أو أنه غير مطهر و إن كان طاهرا لكونه مضافا.
فصل
فإن قيل الطهور لا يفيد في لغة العرب كونه مطهرا.قلنا هذا خلاف على أهل اللغة لأنهم لا يفرقون بين قول القائل هذا ماء طهور و هذا ماء مطهر بل الطهور أبلغ و أيضا وجدنا العرب تقول ماء طهور و تراب طهور و لا يقولون ثوب طهور و لا خل طهور لأن التطهير ليس في شيء من ذلك فثبت أن الطهور هو المطهر.فإن قيل كيف يكون الطهور هو المطهر و اسم الفاعل منه غير متعد.قلنا هذا كلام من لم يفهم معاني الألفاظ العربية و ذلك أنه لا خلاف بين أهل النحو أن اسم الفعول موضوع للمبالغة و تكرر الصفة فإنهم يقولون فلان ضارب فإذا تكرر منه ذلك و كثر قالوا ضروب و إذا كان كون الماء طاهرا ليس مما يتكرر و لا يتزايد فينبغي أن يعتبر في إطلاق الطهور عليه غير ذلك و ليس بعد ذلك إلا أنه مطهر و لو حملناه على ما حملنا عليه لفظة طاهر لم يكن فيه زيادة فائدة.1.
ص: 59
فصل
و يدل عليه أيضا قوله تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1) فكل ما وقع عليه اسم الماء المطلق يجب أن يكون مطهرا بظاهر اللفظ إلا ما خرج بالدليل.و قوله اَلسَّماءِ يعني مطهرا و غيثا.و قوله لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ (2)
"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يُذْهِبَ عَنْكُمْ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ (3)فَإِنَّ الْكُفَّارَ غَلَبُوكُمْ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى تُصَلُّوا أَنْتُمْ مُجْنِبُونَ وَ ذَلِكَ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَ كَانَ الْكُفَّارُ نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَزْعُمُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ الْمَاءِ وَ عَدُوُّكُمْ عَلَى الْمَاءِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ فَشَرِبُوا وَ اغْتَسَلُوا وَ أَذْهَبَ بِهِ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ وَ كَانُوا عَلَى رَمْلٍ تَغُوصُ فِيهِ الْأَقْدَامُ فَشَدَّهُ الْمَطَرُ حَتَّى ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْأَرْجُلُ وَ هُوَ قَوْلُهُ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (4) . و الهاء في به راجعة إلى الماء (5).و قد أطبق المفسرون على أن رِجْزَ الشَّيْطانِ في الآية المراد به أثر الاحتلام فإن المسلمين كان أكثرهم احتلموا ليلتهم فأنزل الله المطر و طهرهم به.و التطهير لا يطلق في الشرع إلا بإزالة النجاسة أو غسل الأعضاء الأربعة و قد أطلق الله عليه اسم التطهير و قال الجبائي إنما ذكر الرجز و كنى به عن الاحتلام لأنه بوسوسة الشيطان.5.
ص: 60
فصل
و لا بأس بأن يشرب المضطر من المياه النجسة و لا يجوز شربها مع الاختيار و ليس الشرب منها مع الاضطرار كالتطهير لأن التطهير قربة إلى الله و التقرب إليه تعالى لا يكون بالنجاسات و لأن المحدث يجد في إباحته للصلاة بدلا من الماء عند فقده قال تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا (1) .و لا يجد المضطر بالعطش بدلا من الماء غيره فإذا وجد الماء و كان نجسا رخص الله له في تناوله مقدار ما يمسك به رمقه.و يدل على استباحة الماء النجس في حال الاضطرار أن الله أباح كل محرم عند ضرورة حيث قال إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (2) فبين أنه لا إثم على متناول هذه المحظورات عند الضرورة.
فصل
و الماء إذا خالطه من الطاهرات ما غير لونه أو طعمه أو رائحته فإنه يجوز التوضؤ به ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء عليه لأن الله أوجب التيمم عند فقد الماء بقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا و من وجد ماء على تلك الصفة فهو واجد للماء
قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْمَاءُ كُلُّهُ طَاهِرٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ قَذِرٌ (3). و لا خلاف أن الماء له حكم التطهير إذا كان على خلقته و الخلاف في أنه إذا خالطه غيره أو استعمل.1.
ص: 61
و قيل إذا اغتسل به جنب خرج عن بابه و منهم من كره التطهير به بعد ذلك و قال المرتضى يجوز إزالة النجاسات بالمايعات لأن الغرض بإزالة النجاسة أن لا تكون و أسباب أن لا تكون النجاسة لا تختلف قال و الدليل عليه أن لا تختلف بين أن لا تكون أصلا و بين إزالتها فإذا كان هكذا فمتى أزيلت مشى ما ذكرناه و قد سقط حكمها (1).و قال الشيخ أبو جعفر إن كان ذلك كذلك عقلا فإنا متعبدون شرعا أن لا نزيل النجاسة إلا بالماء المطلق.
فصل
و من لا يجد ماء و لا ترابا نظيفا قال أبو حنيفة لا يصلي و عندنا أنه يصلي ثم يعيد بالوضوء أو التيمم و بذلك نص عن آل محمد عليهم السّلام (2)و يؤيده قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (3) و قوله أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ (4) الآية.و الأمر على الوجوب إلا أن يدل دليل و لا دليل (5)على ما يدعيه الخصم و قد بين النبي صلّى اللّه عليه و آله أحكام المياه و ما ينجسها و ما يزيل حكم نجاستها بالزيادة أو النقصان على ما أمر الله بعد أن علمه تعالى فقال وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ
ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (1) أي أنزلنا إليك القرآن يا محمد لتبين للناس ما نزل من الأحكام على ما علمناك و أمر جميع الأمة باتباعه و الأخذ منه جملة و تفصيلا فقال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .فإن قيل كيف لكم وجه الاحتجاج بالأخبار التي تروونها أنتم عن جعفر بن محمد و آبائه و أبنائه عليهم السّلام على من خالفكم.قلنا إن الله تعالى قال أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2) و هذا على العموم و قد ثبت بالأدلة إمامة الصادق عليه السّلام و عصمته و أن قوله و فعله حجة فجرى قوله من هذا الوجه مجرى قول الرسول على أنه عليه السّلام صرح بذلكج.
ص: 62
ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (1) أي أنزلنا إليك القرآن يا محمد لتبين للناس ما نزل من الأحكام على ما علمناك و أمر جميع الأمة باتباعه و الأخذ منه جملة و تفصيلا فقال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .فإن قيل كيف لكم وجه الاحتجاج بالأخبار التي تروونها أنتم عن جعفر بن محمد و آبائه و أبنائه عليهم السّلام على من خالفكم.قلنا إن الله تعالى قال أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2) و هذا على العموم و قد ثبت بالأدلة إمامة الصادق عليه السّلام و عصمته و أن قوله و فعله حجة فجرى قوله من هذا الوجه مجرى قول الرسول على أنه عليه السّلام صرح بذلك
وَ قَالَ: كُلُّ مَا أَقُولُهُ فَهُوَ عَنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ جَبْرَئِيلَ عَنِ اللَّهِ (3). و من وجه آخر و هو
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: إِنِّي مُخْلِفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي الْخَبَرَ (4). فجعل عترته في باب الحجة مثل كتاب الله و لا شك أن هذا الخطاب إنما يتناول علماء العترة الذين هم أولو الأمر و هم الصادق و آباؤه و أبناؤه الاثنا عشر عليهم السّلام و كل ما يصدر عنهم من أحكام الشرع عن رسول الله عن الله تعالى يجب على من خالفنا العمل عليه سواء أسندوا أو أرسلوا و كيف لا و هم يعملون على ما رواه مثل أبي هريرة و أنس من أخبار الآحاد.و هذا السؤال يعتمده مخالفونا في جميع مسائل الشرع و هو غير قادح.4.
ص: 63
فصل
و قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (1) يدل على أن سؤر اليهودي و النصراني و كل كافر أصلي أو مرتد أو ملي نجس.و في الآية شيئان تدل على المبالغة في نجاستهم أحدهما قوله إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ فهو أبلغ في الإخبار بنجاستهم من أن يقال المشركون نجس من غير إنما فإن قول القائل إنما زيد خارج عند النحويين بمنزلة ما خارج إلا زيد.و الثاني قوله نَجَسٌ و هو مصدر و لذلك لم يجمع و التقدير إنما المشركون ذو نجاسة و جعلهم نجسا مبالغة في وصفهم بذلك كما يقال ما هو إلا سير إذا وصف بكثرة السير و كقوله
فإنما هي إقبال و إدبار (2)
و ليس لأحد أن يقول المراد به نجاسة الحكم لا نجاسة العين لأن حقيقة هذه اللفظة تقتضي نجاسة العين في الشرع و إنما يحمل على الحكم تشبيها و مجازا و الحقيقة أولى من المجاز باللفظ على أنا نحمله على الأمرين لأنه لا مانع من ذلك.فإن قيل فقد قال الله تعالى وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ (3) و هذا عام في جميع ما شربوا و عالجوا بأيديهم.قلنا يجب تخصيص هذا الظاهر بالدلالة على نجاستهم و تحمل هذه الآية على أن المراد بها طعامهم الذي هو الحبوب و يملكونه دون ما هو سؤر أو عالجوه بأجسامهم.5.
ص: 64
على أن ما في طعام أهل الكتاب ما يغلب على الظن أن فيه خمرا أو لحم خنزير فلا بد من إخراجه من هذا الظاهر و إذا أخرجناه من الظاهر لأجل النجاسة و كان سؤرهم على ما بينا نجسا أخرجناه أيضا من الظاهر.
فصل
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْجُنُبِ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَالَ إِنْ كَانَتْ قَذِرَةً فَلْيُهَرِقْهُ وَ إِنْ كَانَ لَمْ يُصِبْهَا قَذَرٌ فَلْيَغْتَسِلْ مِنْهُ هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) .
وَ سُئِلَ أَيْضاً عَنِ الْجُنُبِ يَغْتَسِلُ فَيَنْتَضِحُ مِنَ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ فَقَالَ لاَ بَأْسَ هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) . و إذا صافح المسلم الكافر أو من كان حكمه حكمه و يده مرطبة بالعرق أو غيره غسلها من مسه بالماء البتة و إذا لم يكن في يد أحدهما رطوبة مسحها بالحائط لأنه تعالى قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فحكم عليهم بالنجاسة بظاهر اللفظ فيجب أن يكون ما يماسونه نجسا إلا ما أباحته الشريعة.فإن قيل هل يجوز الوضوء و الغسل بماء مستعمل.قلنا يجوز ذلك فيما استعمل في الوضوء و لا يجوز فيما استعمل في غسل الجنابة و الحيض و أشباههما مما يزال به كبار النجاسات و بذلك نصوص عن أئمة الهدى عليهم السّلام.و في تأييد جواز ما استعمل في الوضوء قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا (3)6.
ص: 65
و هذا الضرب من الماء مستحق للاسم على الإطلاق و في منع ما سواه نص ظاهر و احتياط للصلاة قاله الشيخ المفيد.و قال المرتضى يجوز استعمال الماء المستعمل في الأغسال الواجبة أيضا إذا لم تكن نجاسة على البدن لعموم هذه الآية و قد أشرنا في الباب الأول إلى هذا
فصل فيما ينقض الطهارتين
نواقضهما عشر بإجماع الفرقة المحقة و بالكتاب و السنة جملة و تفصيلا.أما النوم فإن آية الطهارة تدل بظاهرها على أنه حدث ناقض للوضوء و إنما يوجب إعادته على اختلاف حالات النائم إذا أراد الصلاة.و قد نقل أهل التفسير و أجمعوا على أن المراد بقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إذا قمتم من النوم و هذا الظاهر يوجب الوضوء من كل نوم.
وَ قَالَ زَيْدٌ الشَّحَّامُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْخَفْقَةِ وَ الْخَفْقَتَيْنِ فَقَالَ مَا أَدْرِي مَا الْخَفْقَةُ وَ الْخَفْقَتَانِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (1) إِنَّ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَقُولُ مَنْ وَجَدَ طَعْمَ النَّوْمِ أُوْجِبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ (2).
وَ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قَالَ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ قُلْتُ يَنْقُضُ النَّوْمُ الْوُضُوءَ فَقَالَ نَعَمْ إِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى السَّمْعِ وَ لاَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ (3). و الجنابة تنقض الوضوء على أي وجهيها حصلت و توجب الغسل أيضا قال1.
ص: 66
تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (1) و كذا الحيض قال تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (2) الآية و السكر المزيل للعقل ينقض الوضوء فقط و كذلك الغائط قال تعالى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى إلى قوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (3) و ما سواها من النواقض يعلم بالتفصيل من السنة و إنما يعلم من القرآن على الجملة.
وَ رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ لِأَهْلِ قُبَا مَا ذَا تَفْعَلُونَ فِي طُهْرِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فَقَالُوا نَغْسِلُ أَثَرَ الْغَائِطِ فَقَالَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكُمْ وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (4) . فقوله رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا (5) أي يتطهرون بالماء من الغائط و البول و هو المروي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام (6).
وَ رُوِيَ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ (7) أَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ الْبَوْلُ شَيْئاً مِنْ جَسَدِهِمْ قَطَعُوهُ بِالسِّكِّينِ (8).
قد بينا أن من شرط الصلاة الذي لا تتم إلا به الطهور و هو ينقسم على ثلاثة
ص: 67
أضرب وضوء و غسل و تيمم بدلهما.
و كما لا يجوز الدخول في الصلاة مع عدم الطهارة في أثر الحالات لا يجوز الدخول فيها مع نجاسة على البدن أو الثياب اختيارا قال تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (1) .حمل هذه الآية أهل التفسير على الحقيقة و المجاز أما الحقيقة فظاهر أي فطهر ثيابك من كل نجاسة للصلاة فيها قال ابن سيرين و ابن زيد اغسلها بالماء و قيل معناه شمر ثيابك
وَ رَأَى عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَنْ يَجُرُّ ذَيْلَهُ لِطُولِهِ فَقَالَ لَهُ قَصِّرْ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَتْقَى وَ أَنْقَى وَ أَبْقَى. و أما من حمله على المجاز فقال كأنه تعالى قال و بدنك فطهر أو نفسك فطهر كما يقال فلان طاهر الثوب أي طاهر النفس كقول إمرئ القيس
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي (2).
و لا مانع للحمل على الحقيقة و المجاز معا لفقد التنافي بينهما فيجب إجراؤه على العموم فيهما لفقد المخصص و القرينة على أن الحقيقة أصل و المجاز فرع عليه و الحمل على الأصل أولى و الأمر شرعا على الوجوب.و يدل عليه أيضا قوله وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ (3) و لم يفرق بين الظاهر و الخفي و لا بين القليل و الكثير.
فصل
و قوله وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (4)4.
ص: 68
"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعَشْرِ سُنَنِ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَ خَمْسٌ فِي الْبَدَنِ أَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ فَالْمَضْمَضَةُ وَ الاِسْتِنْشَاقُ وَ الْفَرْقُ وَ قَصُّ الشَّوَارِبِ وَ السِّوَاكُ وَ أَمَّا الَّتِي فِي الْجَسَدِ فَالْخِتَانُ وَ حَلْقُ الْعَانَةِ وَ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَ نَتْفُ الْإِبْطَيْنِ وَ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ (1). و به قال قتادة و أبو الخلد و قال تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ (2) أي ابتغوا ملته فإنها داخلة في ملة نبينا مع زيادات.
فصل
و إنما نتكلم في النجاسات التي خالفونا فيها احتجاجا عليهم اعلم أن المني نجس لا يجزي فيه إلا الغسل عندنا و الدليل عليه بعد إجماع الطائفة قوله وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ (3) فإن المفسرين قالوا إنه تعالى أراد به أثر الاحتلام على ما قدمناه.و الآية دالة على نجاسة المني من وجهين أحدهما أن الرجس و الرجز و النجس بمعنى واحد لقوله وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ و لقوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ .و الوجه الثاني أنه تعالى أطلق عليه اسم التطهير و هو في الشرع إزالة النجاسة.و دم الحيض نجس قليله و كثيره لا يجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه شيء قليل و الدليل عليه آية المحيض فإنها على العموم.1.
ص: 69
و الخمر و كل مسكر نجس يدل عليه آية تحريمه و هي على العموم أيضا.و أما الغائط فيمكن أن يستدل على نجاسته بآية الطهارة.و الفقاع و غيره من النجاسات تدل على نجاستها السنة على سبيل التفصيل و القرآن على الإجمال قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قد نهى عنه.
فصل
و الدم الذي ليس بدم حيض و نفاسة و استحاضة يجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي و ما زاد على ذلك لا يجوز الصلاة فيه.و احتجاجنا عليه
من الكتاب مضافا إلى الإجماع قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا (1) فجعل تطهير الأعضاء الأربعة مبيحا للصلاة فلو تعلقت الإباحة بغسل نجاسة لكان زيادة لا يدل عليها الظاهر لأنه بخلافها و لا يلزم على هذا ما زاد على الدرهم.و ما عدا الدم من سائر النجاسات من بول أو عذرة و مني و غيرها إذا كان قليلا يجب إزالته لأن الظاهر و إن لم يوجب ذلك فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة على الظاهر و ليس في ذلك يسير الدم.و تلك الدماء الثلاثة للنساء تختص في الأكثر بأوقات معينة يمكن التحرز منها و باقي الدماء بخلاف ذلك.و إنما فرقنا بين الدم و بين البول و المني و سائر النجاسات في اعتبار الدرهم لإجماع الطائفة و أخبارهم و يمكن أن يكون الوجه فيه أن الدم لا يوجب خروجه6.
ص: 70
من الجسد على اختلاف مواضعه وضوءا إلا ما ذكرناه و البول و العذرة و المني يوجب خروج كل واحد منها الطهارة فغلظت أحكامها من هذا الوجه على حكم الدم.
فصل
فأما من كان به بثور (1)يرشح منها الدم دائما لم يكن عليه حرج في الصلاة به و كذا إن كان به جراح يرشح دما و قيحا فله أن يصلي فيها و إن كثر ذلك يدل عليه قوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) و نحن نعلم لو ألزم المكلف إزالة ذلك لحرج به و ربما تفوته الصلاة مع ذلك فأباحه الله رأفة بعباده.و الآية دالة أيضا على أن حكم الثوب إذا أصابه دم البق و البراغيث فلا حرج أن يصلى فيه و إن كان كثيرا لأنه مما لا يمكن التحرز منه و أنه تعالى رفع الحرج عن المكلفين.و قد قدمنا أن الخمر و نبيذ التمر الذي نش (3)و كل مسكر لا يجوز الصلاة فيه و إن كان قليلا حتى يغسل بالماء و يدل عليه قوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ (4) و إذا ثبت أنه نجس يجب إزالته ثم قال فَاجْتَنِبُوهُ أمر باجتناب ذلك على كل حال و ظاهر أمر الله شرعا على الإيجاب فيجب اجتناب ما يتناول اللفظ على كل وجه0.
ص: 71
إذا سمعت الله تعالى يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارع لها سمعك فإنها لأمر يؤمر به أو لنهي ينهى عنه
وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَذَّةُ مَا فِي النِّدَاءِ أَزَالَتْ تَعَبَ الْعِبَادَةِ وَ الْعَنَاءِ. و قوله وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (1) يدل على أنه يكره أن يستعين الإنسان في الوضوء أو الغسل بمن يصب الماء عليه بل ينبغي أن يتولاه بنفسه.و من وضأه غيره و هو يتمكن منه لم يجزه و كذلك في الغسل إذا تولاه غيره مع تمكنه لا يكون مجزيا لقوله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (2) و إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (3) فإنه إذا لا يكون متطهرا.فإن كان عاجزا عن الوضوء أو الغسل لمرض أو ما يقوم مقامه بحيث لا يتمكن منه لم يكن به بأس لقوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4) .
مسألة
إن قيل لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل في قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ .قلنا لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه و يقع بوجه دون وجه بإرادته له فكما يعبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم الإنسان لا يطير و الأعمى لا يبصر أي لا يقدران على الطيران و الإبصار كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل فأقيم ما هو كالمسبب مقام ما هو كالسبب للملابسة بينهما و لا مجاز في الكلام.
ص: 72
مسألة
فإن قيل ظاهر الأمر يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث و غير محدث.قلنا يحتمل أن يكون الأمر للوجوب فيكون الخطاب للمحدثين خاصة.فإن قيل هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين و غيرهم لهؤلاء على وجه الإيجاب و لهؤلاء على وجه الاستحباب.قلنا نعم هذا من الصواب لأنه لا مانع من أن تتناول الكلمة الواحدة معنيين مختلفين.
مسألة
أما ما
"رُوِيَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَاماً وَ شَرَاباً فَدَعَا نَفَراً مِنَ الصَّحَابَةِ حِينَ كَانَتِ الْخَمْرُ مُبَاحَةً فَأَكَلُوا وَ شَرِبُوا فَلَمَّا ثَمِلُوا وَ جَاءَ وَقْتُ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ قَدَّمُوا أَحَدَهُمْ لَيُصَلِّيَ بِهِمْ فَقَرَأَ أَعْبُدُ مَنْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فَنَزَلَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (1) فَكَانُوا لاَ يَشْرَبُونَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ فَإِذَا صَلُّوا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا فَلاَ يُصْبِحُونَ إِلاَّ وَ قَدْ ذَهَبَ عَنْهُمُ السُّكْرُ وَ يعلموا [يَعْلَمُونَ] مَا يَقُولُونَ ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُهَا (2). فهذه الرواية غير صحيحة فالخمر كانت محرمة في كل ملة على ما نذكره في بابه.1.
ص: 73
مسألة
فإن قيل ما محل قوله إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ من الإعراب.قلنا من فسر الصلاة في الآية بمواضع الصلاة و هي المساجد فحذف المضاف فهو في موضع الحال أي لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين منه إذا كان فيه الطريق إلى الماء أو كان الماء منه أو احتلمتم فيه و كان النّبي صلّى اللّه عليه و آله لم يأذن لأحد يمر في مسجده و هو جنب إلا لعليّ عليه السّلام حتى سد الأبواب كلها إلا بابه (1).و أما من حمل الآية على ظاهرها و هو بعيد فقال معناه لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا و معكم حال أخرى تعذرون فيها و هي حال السفر و عبور السبيل عبارة عن السفر فقد ترك مجازا و وقع في مجازين.و إن زعم أنه صفة لقوله جُنُباً أي و لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا و لعلم حال أخرى تعذرون معها و هي حال السفر و عبور السبيل عنده عبارة عن السفر فقد ترك مجازا و وقع في مجازين (2).و إن زعم أنه صفة لقوله جُنُباً أي و لا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل فإنهم لا تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر حتى يغتسلوا و يتيمموا عند العذر و هذا يستوي فيه المقيم و المسافر.
مسألة
فإن قيل إن الله تعالى أدخل في حكم الشرط أربعة و هم المرضى و المسافرون».
ص: 74
و المحدثون و أهل الجنابة فبمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم عند عدم الماء منهم.قلنا الظاهر أنه يتعلق بهم جميعا و أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم و عجزهم عن الوصول إليه أو مع وجدانهم الماء لا يمكنهم استعمال الماء لجرح أو قرح بهم فلهم أن يتيمموا و كذلك السفر إذا عدموه لبعدهم منه أو لبعض الأسباب التي هي في الشرع عذر و المحدثون و أهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب.
مسألة
فإن قيل كيف نظم في سلك واحد بين المرضى و المسافرين و بين المحدثين و المجنبين و المرض و السفر سببان من أسباب الرخصة و الأحداث سبب لوجوب الوضوء و الغسل.قلنا أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهير و هم عادمون للماء في التيمم فخص من بينهم مرضاهم و سفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض و السفر و غلبتهما على سائر الأسباب الموجبة لغرضه ثم عم من وجب عليه التطهر و أعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض و السفر.
مسألة
الدلك في غسل الجنابة غير واجب بدلالة قوله وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (1) و اسم الاغتسال ثابت مع عدم الدلك للجوارح و اليدين فبطل3.
ص: 75
قول من أوجبه إذ ليس بعد امتثال الأمر بالغسل أمر آخر و دلك البدن أمر زائد على الغسل و إيجاب ما زاد على المأمور به لا يكون من جهة الشرع إلا أن يريد به احتياط المغتسل في إيصال الماء إلى أصل كل شعر من رأسه و بدنه.
مسألة
فإن قيل مم اشتقاق الجنابة.قلنا من البعد (1)فكأنه سمي به لتباعده عن المساجد إلى أن يغتسل و لذلك قيل أجنب.
"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِنْسَانُ لاَ يُجْنِبُ وَ الثَّوْبُ لاَ يُجْنِبُ. فإنه أراد به أن الإنسان لا يجنب بمماسة الجنب و كذا الثوب إذا لبسه الجنب.
مسألة
الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره و إن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه لكان ذلك طهوره و هو مذهب أبي حنيفة أيضا.فإن قيل فما يصنع بقوله في المائدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ (2) أي بعضه و هذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.قلنا قالوا إن من لابتداء الغاية على أنه لو كان للتبعيض لا يلزم ما ذكر لأن التيمم بالتراب عند وجوده أولى منه بالصخر و كون الغبرة على الكفين لا اعتبار بها.3.
ص: 76
مسألة
المحيض مصدر مثل المجيء و كانت الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يساكنوها في بيت كفعل اليهود و المجوس و أخرجوهن من بيوتهن في صدر الإسلام أيضا بظاهر قوله فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ (1) فقال عليه و آله السّلام إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن و لم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم (2).
مسألة
و قد قال بعض المفسرين في قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (3) معناه أفلح من تطهر للصلاة و توجه بذكر الله فصلى الصلوات الخمس4.
ص: 77
و قد ورد في القرآن آي كثيرة على طريق الجملة تدل على وجوب الصلاة نحو قوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (1)
و قوله فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (2)
و قوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ (3) .و يمكن الاستدلال بهذه الآيات على وجوب جميع الصلوات و على صلاة الجنائز و صلاة العيدين و على (4)وجوب الصلاة على النبي و آله في التشهد لأنه عام في جميع ذلك.و قوله حافِظُوا أبلغ من احفظوا لأن هذا البناء أصله لتكرر الفعل بوقوعه من اثنين فإذا استعمل فيما يكون من واحد ضمن مبالغة و تطاولا في ذلك الفعل كقوله عافاك الله لا يقصد به سؤال هذا الفعل مرة واحدة فكان الله تعالى كرر الأمر بحفظ الصلوات الخمس و تحفظ الصلوات بأن يؤتى بها في أوقاتها بحدودها و حقوقها.
ص: 78
و الصلاة أفضل العبادات و لهذا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لِكُلِّ شَيْءٍ وَجْهٌ وَ وَجْهُ دِينِكُمُ الصَّلاَةُ (1).
وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الصَّلاَةُ أَوَّلُ مَا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فَإِنْ صَحَّتْ لَمْ يُنْظَرْ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ وَ إِنْ لَمْ تَصِحَّ نُظِرَ فِيهَا وَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ (2).
فصل
فإن قيل كيف أمروا بالصلاة و هم لا يعرفون حقيقتها في الشريعة.قيل إنما أمروا بذلك لأنهم أحيلوا فيه على بيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و وجه الحكمة فيه ظاهر لأن المكلفين إذا أمروا بشيء على الإجمال كان أسهل عليهم في أول الوهلة و أدعى لهم في قبولها من أن يفصل ثم كون المجمل المأمور به يدعوهم إلى استفسار ذلك فيكون قبول تفصيله ألزم لهم.و مثاله في العقليات قول أصحاب المعارف لنا لو كنا مكلفين بالمعرفة لوجب أن نكون عالمين بصفة المعرفة لئلا يكون تكليفا بما لا يطاق.فنقول لهم الواحد منا و إن لم يكن عالما بصفة المعرفة فإنه عالم بسبب المعرفة و هو النظر فالعلم به يقوم مقام العلم بمسببه الذي هو المعرفة و صفتها و المكلف إنما يجب أن يكون عالما بصفة ما كلف لتمكنه الإتيان به على الوجه الذي كلف فإذا أمكنه من دونه فلا معنى لاشتراطه.
فصل
و إقامة الصلاة أداؤها بحدودها و فرائضها كما فرضت عليهم يقال أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من المبايعة.ظ.
ص: 79
و قيل إقامتها إدامة فرائضها يقال للشيء الراتب قائم.و قيل هو من تقويم الشيء يقال قام بالأمر إذا أحكمه و حافظ عليه.و قيل إنه مشتق مما فيها من القيام و لذلك يقال قد قامت الصلاة.و أما الصلاة فهي الدعاء في الأصل و الصلاة اشتقاقها من اللزوم يقال اصطلى بالنار أي لزمها (1)و قال تعالى تَصْلى ناراً (2) .و تخصصت في الشرع بالدعاء و الذكر في موضع مخصوص و قيل هي عبارة عن الركوع و السجود على وجه مخصوص و أذكار مخصوصة.و قال أصحاب المعاني إن معنى صلى أزال الصلاء منه و هو النار كما يقال مرض.و فرضها على ثلاثة أقسام متعلقة بثلاثة أحوال الحضر و السفر و الضرورة و إنما اختلفت أحكامها لاختلاف أحوالها و بينها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فصلها و نص القرآن عليها جملة قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (3) و قال وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (4)
فأولها الظهر و هي أول صلاة فرضها الله تعالى على نبيه صلّى اللّه عليه و آله
و قال
ص: 80
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ (1) و دلوكها زوالها و بعدها العصر قال حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (2) ففرض في الآية الأولى بين دلوك الشمس و غسق الليل (3)أربع صلوات الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة ثم قال وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ فأوجب صلاة الفجر أيضا و قال تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ (4) .و قال في الموضعين أَقِمِ فالمراد به أمته معه.
فصل
و الدلوك في آية الفرض المتقدمة اختلفوا فيه فقال ابن عباس و ابن مسعود و ابن زيد هو الغروب و الصلاة المأمور بها هاهنا هي المغرب و قال ابن عباس في رواية أخرى و الحسن و مجاهد و قتادة دلوكها زوالها و هو المروي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام (5)و ذلك أن الناظر إليها يدلك عينه لشدة شعاعها و أما عند غروبها فيدلك عينه ليتبينها و الصلاة المأمور بها عند هؤلاء الظهر.و غسق الليل ظهور ظلامه يقال غسقت القرحة أي انفجرت و ظهر ما فيها و قال ابن عباس و قتادة هو بدء الليل و قال الجبائي غسق الليل انتصافه (6).و قوله تعالى وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ قال قوم يعني به صلاة الفجر و ذلك يدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة لأنه أمر بالقراءة و أراد بها الصلاة لأنها لا تتم إلا بها مع التمكن.2.
ص: 81
و معنى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً تشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار فتكتب في صحيفة الليل و صحيفة النهار (1)و فيه حث للمسلمين على أن يحضروا هذه الصلاة و يشهدوها للجماعة
وَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهَا الصَّلاَةُ الْوُسْطَى (2). و قال الحسن لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لزوالها صلاة الظهر و العصر إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ صلاة العشاءين كأنه يقول من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على ما بين أوقات الصلوات الأربع ثم أفرد صلاة الفجر بالذكر.و قال الزجاج سمي صلاة الفجر قرآن الفجر لتأكيد أمر القراءة في الصلاة كما ذكرنا.
فصل
و استدل قوم بهذه الآية على أن الوقت الأول موسع إلى آخر النهار في الأحوال لأنه أوجب إقامة الصلاة من وقت الدلوك إلى وقت غسق الليل و ذلك يقتضي أن ما بينهما وقت.و قال الشيخ أبو جعفر الطوسي هذا ليس بقوي لأن من قال إن الدلوك هو الغروب لا دليل له فيها لأن من قال ذلك يقول إنه يجب إقامة المغرب من عند الغروب (3)إلى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق و ما بين ذلك وقت المغرب و من قال الدلوك هو الزوال يمكنه أن يقول المراد بالآية بيان وجوبر.
ص: 82
الصلوات الخمس على ما ذكره الحسن لا بيان وقت صلاة واحدة فلا دلالة في الآية على ذلك (1).و الصلاة في أول وقتها أفضل قال تعالى فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ (2) ففي عمومها دليل عليه.
فصل
و قوله أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ (3) أمر الله به نبيه و أمته بإقامة الصلاة و الإتيان بأعمالها على وجه التمام في ركوعها و سجودها و سائر فروضها.و قيل إقامتها هو عملها على استواء كالقيام الذي هو الانتصاب في الاستواء.و قوله طَرَفَيِ النَّهارِ يريد بهما صلاة الفجر و المغرب و قال الزجاج يعني به الغداة و الظهر و العصر (4)و يحتمل أن يريد به صلاة الفجر و العصر لأن طرف الشيء من الشيء و صلاة المغرب ليست من النهار.و قوله زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ عن ابن عباس يريد به العشاء الآخرة و قال الزجاج العشاءان المغرب و العتمة و الزلفة المنزلة.و من قال المراد بطرفي النهار الفجر و المغرب قال ترك ذكر الظهر و العصر لظهورهما في أنهما صلاة النهار و التقدير أقم الصلاة طرفي النهار مع الصلاتين المفروضتين.و قيل إنهما ذكرا على التبع للطرف الأخير لأنهما بعد الزوال فهما أقرب إليه و قد قال أقم لدلوك الشمس إلى غسق الليل و دلوكها زوالها ثم قال إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ (5) أي إن الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيئات4.
ص: 83
فإذا دعا إلى تركها فكأنها ذهبت بها لقوله إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (1) .
فصل
و قوله تعالى فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (2) هذه الآية أيضا تدل على الصلوات الخمس في اليوم و الليلة لأن قوله حِينَ تُمْسُونَ يقتضي المغرب و العشاء الآخرة وَ حِينَ تُصْبِحُونَ يقتضي صلاة الفجر وَ عَشِيًّا يقتضي العصر وَ حِينَ تُظْهِرُونَ يقتضي صلاة الظهر ذكره ابن عباس و مجاهد.و إنما أخر الظهر عن العصر لازدواج الفواصل.و الإمساء الدخول في المساء و المساء مجيء الظلام بالليل و الإصباح نقيضه و هو الدخول في الصباح و الصباح مجيء ضوء النهار.و فَسُبْحانَ اللّهِ أي سبحوا الله في هذه الأوقات تنزيها لله عما لا يليق به وَ لَهُ الْحَمْدُ يعني الثناء و المدح فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا أي في العشي وَ حِينَ تُظْهِرُونَ أي حين تدخلون في الظهر و هو نصف النهار.و إنما خص الله العشي و الإظهار في الذكر بالحمد و إن كان حمده واجبا في جميع الأوقات لأنها أحوال تذكر بإحسان الله و ذلك أن انقضاء إحسان أول يقتضي الحمد عند تمام الإحسان و الأخذ في الآخر كما قال وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (3) .
فصل
و قوله فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ
غُرُوبِها (1) .قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله فَاصْبِرْ على أذاهم إياك وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صل و السبحة الصلاة بِحَمْدِ رَبِّكَ أي بثناء ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني سبحة الصبحة أي صلاة الفجر و قَبْلَ غُرُوبِها يعني صلاة العصر و مِنْ آناءِ اللَّيْلِ يعني صلاة المغرب و العشاء وَ أَطْرافَ النَّهارِ صلاة الظهر في قول قتادة.فإن قيل لم جمع أطراف النهار.قلنا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه أراد أطراف كل نهار و النهار اسم جنس في معنى جمع و ثانيها أنه بمنزلة قوله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (2) و ثالثها أراد طرف أول النصف الأول و طرف آخر النصف الأول و طرف أول النصف الأخير و طرف آخر النصف الأخير فلذلك جمع.و قوله لَعَلَّكَ تَرْضى أي افعل ما أمرتك به لكي ترضى بما يعطيك الله من الثواب على ذلك و قيل أي لكي ترضى بما حملت على نفسك من المشقة في طاعة الله بأمره كما كنت تريد أن تكون في مثل ما كان الأنبياء عليه من قبلك.0.
ص: 84
غُرُوبِها (1) .قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله فَاصْبِرْ على أذاهم إياك وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صل و السبحة الصلاة بِحَمْدِ رَبِّكَ أي بثناء ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني سبحة الصبحة أي صلاة الفجر و قَبْلَ غُرُوبِها يعني صلاة العصر و مِنْ آناءِ اللَّيْلِ يعني صلاة المغرب و العشاء وَ أَطْرافَ النَّهارِ صلاة الظهر في قول قتادة.فإن قيل لم جمع أطراف النهار.قلنا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه أراد أطراف كل نهار و النهار اسم جنس في معنى جمع و ثانيها أنه بمنزلة قوله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (2) و ثالثها أراد طرف أول النصف الأول و طرف آخر النصف الأول و طرف أول النصف الأخير و طرف آخر النصف الأخير فلذلك جمع.و قوله لَعَلَّكَ تَرْضى أي افعل ما أمرتك به لكي ترضى بما يعطيك الله من الثواب على ذلك و قيل أي لكي ترضى بما حملت على نفسك من المشقة في طاعة الله بأمره كما كنت تريد أن تكون في مثل ما كان الأنبياء عليه من قبلك.
فصل
و قوله فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ (3) أي احتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج.و صل قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صلاة الفجر وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ صلاة العصر و قيل صلاة الظهر و العصر وَ مِنَ اللَّيْلِ يعني صلوات الليل و يدخل فيها صلاة0.
ص: 85
المغرب و العتمة و نوافل الليل أيضا وَ أَدْبارَ السُّجُودِ عن الحسن بن علي عليه السّلام أنهما الركعتان بعد المغرب تطوعا (1)و قيل التسبيحات المائة بعد الفرائض عن ابن عباس و مجاهد و عن ابن زيد هي النوافل كلها.و أصل التسبيح التنزيه لله عن كل ما لا يجوز في صفته و سميت الصلاة تسبيحا لما فيها من التسبيح.و روي أنه تعالى أراد بأدبار السجود نوافل المغرب و أراد بقوله إِدْبارَ النُّجُومِ الركعتين قبل الفجر (2).فتلك الآيات الست تدل على المواقيت للصلوات الموقتة في اليوم و الليلة
[القبلة و تغييرها]
قال الله تعالى جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ (3) في بعض التفاسير أي جعل الله الكعبة ليقوم الناس في متعبداتهم متوجهين إليها قياما و عزما عليها و قيل قواما لهم يقوم به معادهم و معاشهم و قياما أي مراعاة للناس و حفظا لهم.
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى بَعْدِ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الْمَدِينَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْراً.
"وَ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْكَعْبَةِ.
قال تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها (4) .
ص: 86
اختلفوا في الذين عابوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة على ثلاثة أقوال قال الحسن هم مشركو العرب فإن رسول الله لما تحول بأمر الله إلى الكعبة من بيت المقدس قالوا يا محمد رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها أيضا و الله لترجعن إلى دينهم.و قال ابن عباس هم اليهود.و قال السدي هم المنافقون قالوا ذلك استهزاء بالإسلام.و العموم يتناول الكل.و اختلفوا في سبب عيبهم الصرف عن القبلة فقيل إنهم قالوا ذلك على وجه الإنكار للنسخ.
"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْماً مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ مَا وَلاَّكَ عَنْ قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ارْجِعْ إِلَيْهَا نَتَّبِعْكَ وَ نُؤْمِنْ بِكَ وَ أَرَادُوا بِذَلِكَ فِتْنَتَهُ. الثالث أن مشركي العرب قالوا ذلك ليوهموا أن الحق ما هم عليه.و إنما صرفهم الله عن القبلة الأولى لما علم من تغيير المصلحة في ذلك و قيل إنما فعل ذلك لما قال تعالى وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ (1) لأنهم لما كانوا بمكة أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة فلما انتقل الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة كانت اليهود الذين بالمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس فنقلوا إلى الكعبة للمصالح الدينية الكثيرة من جملتها ليتميزوا من اليهود كما أراد في الأول أن يتميزوا من كفار مكة.
فصل
لا خلاف أن التوجه إلى بيت المقدس قبل النسخ كان فرضا واجبا ثم اختلفوا فقال الربيع كان ذلك على وجه التخيير خير الله نبيه صلّى اللّه عليه و آله بين أن3.
ص: 87
يتوجه إلى بيت المقدس و بين أن يتوجه إلى الكعبة.
و قال ابن عباس و أكثر المفسرين كان ذلك فرضا معينا و هو الأقوى لقوله وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها فبين تعالى أنه جعلها قبلة و ظاهر ذلك أنه معين لأنه لا دليل على التخيير.و يمكن أن يقال إنه كان مخيرا بين أن يجعل الكعبة بينه و بين بيت المقدس في توجهه إليه و بين أن لا ينتقل لما كان بمكة.على أنه لو ثبت أنه كان مخيرا لما خرج عن كونه فرضا كما أن الفرض هو أن يصلي الصلاة في الوقت ثم هو مخير بين أوله و أوسطه و آخره.و قوله إِلاّ لِنَعْلَمَ أي ليعلم ملائكتنا و إلا فالله كان عالما به و قال المرتضى فيه وجها مليحا أي يعلم هو تعالى و غيره و لا يحصل علمه مع علم غيره إلا بعد حصول الاتباع فأما قبل حصوله فإنما يكون هو تعالى العالم وحده فصح حينئذ ظاهر الآية.و قوله مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ قيل فيه قولان أحدهما أن قوما ارتدوا عن الإسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيها من وجوه الحكمة و الآخر أن المراد به كل مقيم على كفره لأن جهة الاستقامة إقبال و خلافها إدبار و لذلك وصف الكافر بأنه أدبر و استكبر و قال لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى اَلَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلّى (1) عن الحق.
فصل
ثم قال وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً فالضمير يحتمل رجوعه إلى ثلاثة أشياء القبلة على قول أبي العالية و التحويلة على قول ابن عباس و هو الأقوى لأن القوم إنما ثقل عليهم التحول لا نفس القبلة و على قول ابن زيد الصلاة.و ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ في معناه أقوال قال ابن عباس لما6.
ص: 88
حولت القبلة قال ناس كيف أعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى و كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك فأنزله الله و قال الحسن إنه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة أتبعه بذكر ما لهم من المثوبة و أنه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه لأن التذكير به يبعث على ملازمة الحق و الرضا به الثالث قال البلخي إنه لما ذكر إنعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر السبب الذي استحقوه به و هو إيمانهم بما حملوه أولا فقال وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة (1).فإن قيل كيف جاز عليهم الشك فيمن مضى من إخوانهم فلم يدروا أنهم كانوا على حق في صلاتهم إلى بيت المقدس.قلنا الوجه فيه أنهم تمنوا و قالوا كيف لإخواننا لو أدركوا الفضل بالتوجه إلى الكعبة معنا فإنهم أحبوا لهم ما أحبوا لأنفسهم و كان الماضون في حسرة ذلك أو يكون قال ذلك منافق فخاطب الله المؤمنين بما فيه الرد على المنافقين.و إنما جاز أن يضيف الإيمان إلى الأحياء على التغليب لأن من عادتهم أن يغلبوا المخاطب على الغائب كما يغلبون المذكر على المؤنث فيقولون فعلنا بكما و بلغناكما و إن كان أحدهما حاضرا و الآخر غائبا.
فصل
ثم قال تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها (2) قال قوم إن هذه الآية نزلت قبل التي تقدمتها و هي قوله سَيَقُولُ السُّفَهاءُ .4.
ص: 89
فإن قيل لم قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله وجهه في السماء قلنا عنه جوابان أحدهما أنه كان وعد بالتحويل عن بيت المقدس فكان يفعل ذلك انتظارا و توقعا لما وعد به.و الثاني أنه كان يحبه محبة طباع و لم يكن يدعو به حتى أذن له فيه لأن الأنبياء عليهم السّلام لا يدعون إلا بإذن الله لئلا يكون في ردهم تنفير عن قبول قولهم إن كانت المصلحة في خلاف ما سألوه و هذا الجواب مروي عن ابن عباس.و قيل في سبب محبة النبي صلّى اللّه عليه و آله التوجه إلى الكعبة ثلاثة أقوال أحدها أنه أراد مخالفة اليهود و التميز منهم و الثاني أنه أراد ذلك استدعاء للعرب إلى الإيمان.و الثالث أنه أحب ذلك لأنها كانت قبلة إبراهيم.و لو قلنا إنه أحب جميع ذلك لكان صوابا.
فصل
و شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه و تلقاه و عليه المفسرون و أهل اللغة.و عن الجبائي أراد بالشطر النصف فأمره أن يولي وجهه نصف المسجد حتى يكون مقابل الكعبة.و الأول أولى لأن اللفظ إذا كان مشتركا بين النصف و النحو ينبغي أن لا يحمل على أحدهما إلا بدليل و على الأول إجماع المفسرين.و قوله إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (1) هم اليهود عن السدي و قيل هم أحبار اليهود و علماء النصارى غير أنهم جماعة قليلة يجوز عليهم إظهار خلاف ما يبطنون لأن الجمع الكثير لا يتأتى ذلك منهم لما يرجع إلى العادة فإنها لم يجز ذلك مع اختلاف الدواعي و إنما يجوز العناد على النفر القليل.4.
ص: 90
و هذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس قبل ذلك و عن ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة و قال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها.و هذا مما نسخ من السنة بالقرآن لأنه ليس في القرآن ما يدل على تعبده بالتوجه إلى بيت المقدس ظاهرا.و من قال إنها نسخت قوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ (1) فنقول له ليست هذه منسوخة بل هي مختصة بالنوافل في حال السفر على ما نذكره بعد.فأما من قال يجب على الناس أن يتوجهوا إلى الميزاب الذي على الكعبة و يقصدوه فقوله باطل على الإطلاق لأنه خلاف ظاهر القرآن.
"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَيْتُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَ قِبْلَتُهُ بَابُهُ. و هذا يجوز فأما أن يجب على جميع الخلق التوجه إليه فهو خلاف الإجماع.
فصل
وَ قَوْلَهُ تَعَالَى وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ رُوِيَ عَنِ الْبَاقِرِ وَ الصَّادِقِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَ قَوْلُهُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ قَالاَ هُوَ فِي النَّافِلَةِ (2).
وَ عَنِ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ أَتَى رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْأَشْهَلِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَ هُمْ قِيَامٌ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ قَدْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَرَفَ رَسُولَهُ نَحْوَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَصَرَفُوا وُجُوهَهُمْ نَحْوَهُ فِي بَقِيَّةِ صَلاَتِهِمْ (3). وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الهاء يعود إلى التحويل و قيل التوجه إلى الكعبة لأنه قبلة إبراهيم و جميع الأنبياء.3.
ص: 91
و عن عطا في قوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الحرم كله مسجد.و هذا مثل قول أصحابنا إن الحرم قبلة من كان نائيا عن الحرم من الآفاق.و اختلف الناس في صلاة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت المقدس (1)فقال قوم كان يصلي بمكة إلى الكعبة فلما صار بالمدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس (2)سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة و قال قوم كان يصلى بمكة إلى البيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه و بينه ثم أمره الله بالتوجه إلى الكعبة (3).فإن قيل كيف قال وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (2) و قد آمن منهم خلق كثير.قلنا عن ذلك جوابان أحدهما قال الحسن إن المعنى أن جميعهم لا يؤمن و الثاني أنه مخصوص بمن كان معاندا من أهل الكتاب دون جميعهم الذين وصفهم الله تعالى يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ (3) .و قوله وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ معناه الدلالة على فساد مذاهبهم و تبكيتهم بها.و قوله وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أي ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم لأن النصارى يتوجهون إلى المشرق و اليهود إلى المغرب فبين الله أن إرضاء الفريقين محال.و قيل إنه لما كان النسخ مجوزا قبل نزول هذه الآية في القبلة أنزل الله الآية ليرتفع ذلك التجويز و كذلك ينحسم طمع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك و ظنوا أنه يرجع النبي إلى الصلاة إلى بيت المقدس.و قوله وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أي لا يصير النصارى كلهم يهودا و لا6.
ص: 92
اليهود كلهم نصارى أبدا كما لا يتبع جميعهم الإسلام.
فصل
ثم قال تعالى وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ كتموا أمر القبلة و هم يعلمون صحة ما كتموه و ما لمن دفع الحق من العذاب.و الهاء في يَعْرِفُونَهُ عائدة على أمر القبلة في قول ابن عباس و قال الزجاج هي عائدة على أنهم يعرفون حق النبي صلّى اللّه عليه و آله و صحة أمره.و إنما قال وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ و في أول الآية قال يَعْرِفُونَهُ على العموم لأن أهل الكتاب منهم من أسلم و أقر بما عرف فلم يدخل في جملة الكاتمين كعبد الله بن سلام و كعب الأحبار و غيرهما ممن دخل الإسلام.فإن قيل كيف قال يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ و هم لا يعرفون في الحقيقة أن أبناءهم أبناؤهم و يعرفون أن محمدا هو النبي المبعوث المبشر به في الحقيقة.قلنا التشبيه وقع بين المعرفة بالابن في الحكم و هي معرفة تميزه بها من غيره و بين المعرفة بأنه هو النبي المبشر به في الحقيقة فوقع التشبيه بين معرفتين إحداهما أظهر من الأخرى فكل من ربى ولدا كثيرا و رآهم سنين و سمى هذا أحمدا و ذا محمدا و ذا عليا و ذا حسنا و ذا حسينا فإنه يميز بينهم بحيث لا يلتبس عليه ذلك بحال.
فصل
ص: 93
و قوله وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فيه أقوال أحدها أن لكل أهل ملة من اليهود و النصارى وجهة و ثانيها أن لكل نبي وجهة واحدة و هي الإسلام و إن اختلفت الأحكام كما قال لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً (1) أي شرائع الأنبياء.و ثالثها هو صلاتهم إلى بيت المقدس و صلاتهم إلى الكعبة و رابعها أن لكل قوم من المسلمين وجهة وراء الكعبة أو قدامها أو عن يمينها أو عن شمالها.و الوجهة القبلة و مُوَلِّيها في قول مجاهد مستقبلها.و قيل في تكرار قوله فَوَلِّ وَجْهَكَ إنه لما كان فرضا نسخ ما قبله كان من مواضع التأكيد لينصرف الناس إلى الحالة الثانية بعد الحالة الأولى و يثبتون عليه على يقين.و قيل في تكرير قوله وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ إن الاختلاف لاختلاف المعنى و إن اتفق اللفظ لأن المراد بالأول من حيث خرجت (2)منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس فول وجهك شطر المسجد الحرام و المراد بالثاني أين كنت من البلاد فتوجه نحو المسجد الحرام مستقبلا كنت لظهر القبلة أو وجهها أو يمينها أو شمالها.و في قوله وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ محذوف و اجتزئ بدلالة الحال عن دلالة الكلام قال الزجاج عرفتكم ذلكم كيلا يكون لأهل الكتاب حجة لو جاء على خلاف ما تقدمت به البشارة في الكتب السالفة من أن المؤمنين سيوجهون إلى الكعبة. إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا استثناء منقطع أي لكن الظالمين منهم يتعلقون بالشبهة و يضعونها موضع الحجة فلذلك حسن الاستثناء و هو كقوله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ (3)7.
ص: 94
ستر السوأتين (1)على الرجال مفروض و ما عدا ذلك مسنون و على النساء الحرائر يجب ستر جميع البدن قال تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (2) يعني البسوا لباسا مأمورا به عند كل صلاة مع التمكن.و الزينة هاهنا باتفاق المفسرين ما يوارى به العورة قالوا أمر الله بأخذ الزينة و لا خلاف أن التزين ليس بواجب و الأمر في الشريعة على الوجوب فلا بد من حمله على ستر العورة.
و يدل عليه أيضا قوله يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى (3) قال علي بن موسى القمي دل ذلك على وجوب ستر العورة.و قال غيره إنما يدل ذلك على أنه أنعم عليهم بما يقيهم الحر و البرد و ما يتجملون به و يصح اجتماع القولين.و إنما قال أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً لأن ما يتخذ هو منه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء و هو القطن و الكتان و جميع ما ينبت من الحشيش و الرياش الذي يتجمل به.و لِباسُ التَّقْوى هو الذي يقتصر عليه من أراد التواضع و النسك في العبادة من لبس الصوف و الشعر و الوبر و الخشن من الثياب و قيل هو ما يكون مما ينبت من الأرض و شعر و صوف ما يؤكل لحمه من الحيوان و قيل التقدير
ص: 95
و لباس التقوى خير لكم إذا أخذتم من الريش و أقرب لكم إلى الله منه و الريش ما فيه الجمال كالخز الخالص و نحوه مما أباحه الله و منه ريش الطائر.و الحمل على جميع ذلك أولى لفقد الاختصاص فالحرير الخالص غير محرم على النساء على حال و إذا كان مخلطا بالقطن و نحوه فللرجال أيضا حلال.
فصل
و هذه الآية خطاب من الله تعالى لأهل كل زمان من المكلفين على ما يصح و يجوز من وصول ذلك إليهم كما يوصي الإنسان ولده و ولد ولده و إن نزلوا بتقوى الله و إيثار طاعته.و يجوز خطاب المعدوم بمعنى أن يراد بالخطاب إذا كان المعلوم أنه سيوجد و تتكامل فيه شرائط التكليف و لا يجوز أن يراد من لا يوجد لأن ذلك عبث لا فائدة فيه.على أن الآية كانت خطابا للمكلفين الموجودين في ذلك الزمان و لكل من يكون حكمهم حكمه.و قوله تعالى يُوارِي سَوْآتِكُمْ أي يستر ما يسوؤكم انكشافه من الجسد لأن السوء ما إذا انكشف عن البدن يسوء و العورة ترجع إلى النقيصة في البدن.و قوله يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي تناولوا زينتكم و هي اللبسة الحسنة و يسمى ما يتزين به زينة من الثياب الجميلة و نحو ذلك.قال الزجاج هو أمر بالاستتار في الصلاة قال أبو علي و لهذا صار التزيين للجمع و الأعياد سنة و قال مجاهد هو ما وارى العورة و لو عباءة.
وَ قَوْلُهُ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي الْجُمُعَاتِ وَ الْأَعْيَادِ (1).
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.2.
ص: 96
و قالوا لما أباح الله تناول الزينة و حث عليه و ندب إليه و هناك قوم يحرمون كثيرا من الأشياء من هذا الجنس قال الله تعالى منكرا لذلك قُلْ يا محمد مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ .
فصل
و جلد ما يؤكل لحمه يجوز فيه الصلاة إذا كان مذكى مشروعا.و جلود الميتة لا تطهر بالدباغ و كذا جلود ما يذكيه أهل الخلاف و الدليل على ذلك مضافا إلى إجماع الطائفة
قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1) و هذا تحريم مطلق يتناول أجزاء الميتة في كل حال.و جلد الميتة يتناوله اسم الموت لأن الحياة تحله و ليس بجار مجرى العظم و الشعر و هو بعد الدباغ يسمى جلد ميتة كما يسمى قبل الدباغ فينبغي أن يكون حظر التصرف لاحقا به.فأما دلالته على أن الشعر و الصوف و الريش منها و الناب و العظم كلها محرم فلا يدل عليه لأن ما لم تحله الحياة لا يسمى ميتة.و كذلك جلد ذبائح أهل الكتاب و كل من خالف الإسلام أو من أظهره و دان بالتجسم و الصورة و قال بالجبر و التشبيه أو خالف الحق فعندنا لا يجوز الانتفاع به على وجه و لا يصح الصلاة فيه لعموم الآية قال تعالى وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ (2) .
فصل
و قوله تعالى لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ (3) .5.
ص: 97
قال ابن عباس الدفء لباس من الأكسية و غيرها كأنه سمي بالمصدر من دفئ يومنا دفاء و نظيره الكن و قال الحسن يريد ما استدفئ به من أوبارها و أصوافها و أشعارها و الدفء خلاف البرد و منه رجل دفآن (1).
و قال تعالى وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ (2) يعني قمصا من الكتان و القطن (3)و خص الحر بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر لأمرين أحدهما أن الذين خوطبوا به أهل حر في بلادهم و الثاني أنه ترك ذلك لأنه معلوم.
فصل
و قال تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (4) .قيل المراد بالمساجد في الآية بقاع الأرض كلها
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَرْضَ لِي مَسْجِداً (5). فالأرض كلها مسجد يجوز الصلاة فيه إلا ما كان مغصوبا أو نجسا فإذا زال الغصب و النجاسة منه فحكمه حكمها و روى ذلك زيد بن علي عن آبائه عليهم السّلام.1.
ص: 98
فصل
و قال تعالى وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً (1) .النداء في الآية الدعاء بمد الصوت في الأذان و نحوه.أخبر الله عن صفة الكفار الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بأنهم إذا نادى المؤمنون للصلاة و دعوا إليها اتخذوها هزوا و لعبا.و في معنى ذلك قولان أحدهما قال قوم إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم و تغامزوا على طريق السخف و المجون تجهيلا لأهلها و تنفيرا للناس عنها و عن الداعي إليها.و الثاني أنهم كانوا يرون المنادي إليه بمنزلة اللاعب الهاذي بفعلها جهلا منهم بمنزلتها و قال أبو ذهيل الجمحي
و أبرزتها من بطن مكة بعد ما أصاب المنادي بالصلاة و اعتما
فالاستدلال بهذه الآية يمكن على الأذان و كذا بقوله إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (2) .و الأذان للمنفرد سنة على كل حال و كذا الإقامة و واجبان في صلاة الجمعة إذا اجتمعت شرائطها لأن تلك الجماعة واجبة و لا تنعقد إلا بهما و يقال على الإطلاق إنهما واجبان في الجماعة لخمس صلوات و قيل يتأكد ندبهما.و قد بين رسول الله أحكامها كما أمره الله بقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ و قد علمه الله.9.
ص: 99
و الأذان في اللغة اسم للإعلام (1)قائم مقام الإيذان كما أن العطاء اسم للإعطاء و هو في الأصل علم سمعي قال تعالى وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ (2) .و الأذان في الشرع إعلام الناس بحلول وقت الصلاة و قال السدي كان رجل من النصارى بالمدينة يسمع المؤذن ينادي أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله قال حرق الكاذب و القائل كان منافقا فدخلت خادمة له بعد ذلك ليلة بنار فسقطت شرارة فاحترق البيت و احترق هو و أهله.و قد بينا أن المؤذن في اللغة كل من تكلم بشيء نداء و أذنته و آذنته و يستعمل ذلك في العلم الذي يتوصل إليه بالسماع كقوله فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ (3)
قال الله تعالى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (4) .قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت هذه الآية.و قد دلت على أن القيام مع القدرة و الاختيار واجب في الصلاة.و قال تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (5) .تدل هذه الآية على أن النية للصلاة و لسائر العبادات واجبة و ذلك أن الإخلاص
ص: 100
بالديانة هو التقرب إلى الله بعملها مع ارتفاع الشوائب و التقرب لا يصح إلا بالعقد عليه و النية له ببرهان الدلالة.
وَ رُوِيَ عَنِ الرِّضَا عَنْ آبَائِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَنَّهُ قَالَ: لاَ قَوْلَ إِلاَّ بِعَمَلٍ وَ لاَ قَوْلَ وَ لاَ عَمَلَ إِلاَّ بِنِيَّةٍ وَ لاَ عَمَلَ وَ لاَ نِيَّةَ إِلاَّ بِإِصَابَةِ السُّنَّةِ وَ مَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ أُمَّتِي كَانَ لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ (1). و محل النية القلب و ذلك لأن النية هي الإرادة المخصوصة التي تؤثر في وقوع الفعل على وجه دون وجه و لا يكون من فعل غيره و بها يقع الفعل عبادة و واقعا موقع الوجوب أو الندب
وَ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (2). و لا يجوز في تكبيرة الافتتاح إلا قول الله أكبر مع القدرة عليه لأن المسلمين قد أجمعوا على أن من قاله انعقدت صلاته بلا خلاف و إذا أتى بغيره فليس على انعقادها دليل فالاحتياط يقتضي ما قلناه.و قال قوم إن قوله وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (3) أمر بذلك و هو على الإيجاب شرعا و كذا قوله وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (4) .و قيل معناه صل لله طاهرا في ثياب طاهرة فكنى بالتكبير عن الصلاة و لو لا وجوب التكبير في الصلاة لما كنى به عنها و هذا كقوله الحج عرفة.
فصل
القراءة شرط في صحة الصلاة قال تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (5)0.
ص: 101
و قال فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ (1) و الأمر في الشريعة يقتضي الإيجاب.
وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2). و هذا تفصيل ما أجمله الآيتان ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ .و قال تعالى وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ (3) أي صلاة الفجر فسمى الله الصلاة قرآنا إعلاما بأنها لا تتم إلا بالقراءة.و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا (4) لما كان الله في كثير من الآيات أمر بالصلاة جملة ثم نص على بعض أفعالها تنبيها على عظم محله و كبر شأنه كذلك أمر بالركوع و السجود مفردا تفخيما لمنزلتهما في الصلاة أي صلوا على ما أمرتكم به من الركوع و السجود ثم أمرهم تعالى بعد ذلك بأوامر فقال وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ إلى أن أمر مرة أخرى بإقامة الصلاة فقال فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ و كل هذا يدل على شدة التأكيد في الركوع و السجود و أنهما ركنان من الصلاة على ما ذكرناه لا تتم إلا بهما مع الاختيار أو ما يقوم مقامهما مع الاضطرار.و التسبيح فيهما واجب أيضا و الدليل عليه
مَا رُوِيَ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (5) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (6) قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ضَعُوا هَذَا فِي سُجُودِكُمْ (7). و هذان أمران يقتضيان الوجوب.1.
ص: 102
فصل
إن سأل سائل عن قوله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (1) أن قوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ يدخل فيها الركوع فلم قال وَ ارْكَعُوا و هل هذا إلا تكرار.قلنا هذا أولا يدل على أن الركوع ركن من أركان الصلاة على بعض الوجوه لا تصح من دونه فهذا إنما ذكره للتفخيم و التعظيم لشأن الركوع كقوله وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ (2) و كما قال فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ (3) و فعل الركوع يعبر به أيضا عن الصلاة بتمامها فقول القائل فرغت من ركوعي أي من صلاتي و إنما يعبر به عنها لأنه أول ما يشاهد مما يدل على أن الإنسان في الصلاة لأن أصل الركوع الانحناء.و قال بعض المفسرين إن المأمورين في الآية هم أهل الكتاب و لا ركوع في صلاتهم فكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك لأنه أبعد من اللبس فأمرهم الله بالصلاة على ما يرونها من أمرهم بضم الركوع إليها و الأمر شرعا على الوجوب.و يمكن أن يقال إن قوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ إنما يفيد إيجاب إقامتها و يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها و يجوز أن يكون أيضا إشارة إلى الصلاة الشرعية فلما قال وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ حتى مع هؤلاء المسلمين الراكعين فخصصت بالصلاة المنفردة في الشرع فلا يكون تكرارا بل يكون بيانا.و قيل فيه وجه لطيف و هو أنه لما أمر بالصلاة بقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ8.
ص: 103
حث بقوله وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ على صلاة الجماعة لتقدم الصلاة للمنفرد في أول الآية و يجيء بيانها في بابها.
فصل
و قال تعالى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (1) .قال الطبري المراد لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ يعني صلاة النهار العجماء (2)وَ لا تُخافِتْ بِها يعني صلاة الليل التي يجهر بها في القراءة (3)فالجهر في صلاة الغداة واجب و كذلك في الركعتين الأوليين من العشاءين.فأما صلاة النهار فهي عجماء كما ذكرناه يجب في الظهر و العصر جميعا المخافتة إلا في الجمعة يوم الجمعة و في الركعتين الأوليين من الظهر أيضا من يوم الجمعة فإنه يستحب الجهر فيهما.و قيل إنه نهي من الله تعالى عن الجهر العظيم في حال الصلاة و عن المخافتة الشديدة و أمر بأن يتخذ بين ذلك طريقا وسطا فأقل الجهر أن تسمع من يليك و أكثر المخافتة أن تسمع نفسك و لا مانع من الحمل على القولين لعمومه.
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِمَكَّةَ كَانَ إِذَا صَلَّى يَجْهَرُ بِصَلاَتِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ فَسَمِعَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَشَتَمُوهُ وَ آذَوْهُ وَ أَرَادُوا أَصْحَابَهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِتَرْكِ الْجَهْرِ.
"وَ عَنْ عَائِشَةَ: الْمُرَادُ بِالصَّلاَةِ هَاهُنَا الدُّعَاءُ أَيْ لاَ تَجْهَرْ بِدُعَائِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهِ وَ لَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ. و يجوز أن يكون جميع ما ذكرناه مرادا لأنه لا مانع.و قال قوم هذا خطاب لكل واحد من المصلين و المعنى لا تجهر أيها5.
ص: 104
المصلي بصلاتك تحسنها مراءاة في العلانية و لا تخافت بها تسيء في القيام بها في السريرة.و صلاة الغداة يجهر بها و إن كانت من صلاة النهار لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله صلاها في غلس الصبح.
فصل
و قال قوم يمكن أن يستدل على أن الصلاة على النبي و آله في التشهد واجب
بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (1) و هو أمر و هو في الشرع على الوجوب.و الإجماع حاصل باستحباب الصلاة على النبي و آله في كل موضع و على كل حال.و وجوبها لا يعتبر إلا في التشهد و القنوت في كل صلاة مستحب في الموضع المخصوص منها يدل عليه قوله تعالى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (2) قال صاحب العين القنوت في الصلاة دعاء بعد القراءة في آخر الركعتين يدعو قائما.فإذا قيل القنوت هو القيام الطويل هاهنا.قلنا المعروف في الشريعة أن هذا الاسم يختص الدعاء و لا يعرف من إطلاقه سواه (3)على أنا نحمله على الأمرين لأنه عام.و يجوز الدعاء في الصلاة أين شاء المصلي منها و الحجة بعد إجماع الطائفة ظاهر أمر الله بالدعاء على الإطلاق قال تعالى قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا1.
ص: 105
اَلرَّحْمنَ (1) و قال اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (2) .و قال قوم القنوت السكوت و قوله قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ يدل على أن الكلام و التحدث في الصلاة محظور نهى الله عنه و هذا التأويل أيضا غير مستبعد مع أنه لا ينافي ما قدمناه و يجوز أن يكون الكل مرادا.
فصل
و يجب القراءة في الركعتين الأوليين على التضيق للمنفرد و المصلي مخير في الركعتين الأخيرتين بين القراءة و التسبيح و يمكن أن يستدل عليه
بقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3) لأن ظاهر هذا القول يقتضي عموم الأحوال كلها التي من جملتها أحوال الصلاة.و لو تركنا و ظاهر الآية قلنا إن القراءة واجبة كلها تضييقا لكن لما دل الدليل على وجوبها في الأوليين على التضيق و في الأخيرتين يجب على التخيير للمنفرد قلنا بجواز التسبيح في الأخيرتين إلا أن الأثر ورد بأن القراءة للإمام في الأخيرتين أيضا أفضل من التسبيح.و افتتاح الصلاة المفروضة يستحب بسبع تكبيرات يفصل بينهن بتسبيح و ذكر الله و الوجه فيه بعد إجماع الفرقة المحقة هو أن الله ندبنا في كل الأحوال إلى تكبيره و تسبيحه و أذكاره الجميلة و ظواهر آيات كثيرة من القرآن تدل عليه مثل قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (4) فوقت افتتاح الصلاة داخل في عموم الأخبار التي أمرنا فيها بالأذكار.2.
ص: 106
و يجب الطمأنينة في الركوع و السجود و كذا بعد رفع الرأس منهما.و قد بين النبي صلّى اللّه عليه و آله كيفية الصلاة من الفرائض و السنن و ما يترك لأمر الله بذلك قال تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ و رواها علماء أهل البيت و على صحة جميع ذلك إجماع الطائفة و هو دليل قاطع ففي أول ركعة ثلاثة عشر فعلا مفروضا و كذا في كل ركعة إلا النية و تكبيرة الإحرام (1)
قال الله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) .أمر منه تعالى لنبيه و يدخل فيه جميع المكلفين يأمرهم الله بالصلاة و أن ينحروا.قال قوم معناه صل لربك الصلاة المكتوبة و استقبل القبلة بنحرك تقول العرب منازلنا تتناحر أي تتقابل أي هذا ينحر ذا يعني يستقبله و أنشد
أبا حكم هل أنت عم مجالد و سيد أهل الأبطح المتناحر (3).
و هذا قول الفراء.
وَ رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِجَبْرَئِيلَ مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا رَبِّي قَالَ لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ وَ إِنَّمَا يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلاَةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ وَ إِذَا رَكَعْتَ وَ إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ وَ إِذَا سَجَدْتَ فَإِنَّهُ صَلاَتُنَا وَ صَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةً وَ إِنَّ زِينَةَ الصَّلاَةِ رَفْعُ الْأَيْدِي عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ (4).
ص: 107
و أما ما رووه عن علي عليه السّلام أن معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة (1)فمما لا يصح عنه لأن جميع عترته الطاهرة قد رووا عنه بخلاف ذلك و هو أن معناه ارفع يديك إلى النحر في الصلاة حسب ما قدمناه.
وَ كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ هُوَ رَفْعُ يَدَيْكَ حِذَاءَ وَجْهِكَ (2)وَ رَوَى مِثْلَهُ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ: (3).
وَ قَالَ حَمَّادُ بْنُ عُثْمَانَ: سَأَلْتُهُ مَا النَّحْرُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ فَقَالَ هَكَذَا يَعْنِي اسْتَقْبَلَ بِيَدَيْهِ الْقِبْلَةَ فِي اسْتِفْتَاحِ الصَّلاَةِ (4).
وَ عَنْ جَمِيلٍ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا يَعْنِي اسْتَقْبَلَ بِيَدَيْهِ حَذْوَ وَجْهِهِ الْقِبْلَةَ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ (5).
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: رَفْعُ الْأَيْدِي مِنَ الاِسْتِكَانَةِ قِيلَ وَ مَا الاِسْتِكَانَةُ قَالَ أَ لاَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (6) . و قد أورد الثعلبي و الواحدي في تفسيريهما الحديث الذي قدمناه عن الأصبغ عن علي عليه السّلام و جعلا هذا الخبر من تمامه و هو الصحيح.
وَ رَوَى جَمَاعَةٌ: عَنِ الْبَاقِرِ وَ الصَّادِقِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فِي قَوْلِهِ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (7) أَنَّ التَّبَتُّلَ هُنَا رَفْعُ الْأَيْدِي فِي الصَّلاَةِ (8)4.
ص: 108
وَ فِي رِوَايَةٍ: هُوَ رَفْعُ يَدَيْكَ إِلَى اللَّهِ وَ تَضَرُّعُكَ إِلَيْهِ (1). و العموم يتناولهما.
فصل
و قال تعالى وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً (2) .قال الفراء و الزجاج المساجد مواضع السجود من الإنسان الجبهة و اليدان و الرجلان.و زاد في رواية أصحابنا عنهم عليهم السّلام تفصيلا فقالوا في قوله وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ السجود على سبعة أعظم فريضة الجبهة و اليدين و الركبتين و طرف أصابع الرجلين (3).و المعنى أنه لا ينبغي أن يسجد بهذه الأعضاء لأحد سوى الله أي أن الصلاة لا تجب إلا لله لأنها عبادة و العبادة غاية الشكر و الشكر يجب على النعمة و غاية الشكر التي هي العبادة تجب على أصول النعمة و هي خلق الحياة و القدرة و الشهوة (4)و غيرها مما لا يدخل تحت مقدور القدر و لا يقدر على أصول النعمة غير الله فلا تجب العبادة إلا له تعالى.و قال تعالى فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً أي لا تراءوا أحدا نهاهم الله عن الرياء في الصلاة حتى لا يراءوا بها غيره فإنها لا تكون مقبولة إلا إذا كانت خالصة لله تعالى.و السجود على هذه الأعضاء السبعة واجب و وضع الأنف على الأرض سنة و كنايتهم عليهم السّلام فيه الإرغام بالأنف سنة (5).4.
ص: 109
و قال بعضهم الأنف و الجبهة عظم واحد فلا تقبل صلاة لا يصيب الأنف منها ما يصيب الجبهة و هذا لشدة تأكيد الندب في ذلك.
فصل
قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (1) .قال مجاهد هو غض الطرف و خفض الجناح أي بقيت أعمالهم الصالحة فهم خافضون متذللون فيها لله.و قيل الخشوع هو أن ينظر المصلي إلى موضع سجوده في حال القيام و ينظر في حال الركوع إلى ما بين قدميه أو يغمض عينه في هذه الحالة و أما في حال السجود فإلى طرف أنفه و في جلوسه إلى حجره.و روي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يرفع بصره إلى السماء فلما نزلت هذه الآية طأطأ رأسه و نظر إلى مصلاه (2).و إنما أعاد ذكر الصلاة هاهنا بقوله وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (3) مع جري ذكرها في الآية المقدمة لأنه أمر بالخشوع في أول الآيات و أمر في آخرها بالمحافظة عليها و القراءة بالتوحيد لأن الصلاة اسم جنس يقع على القليل و الكثير أي لا يضيعونها و هم يواظبون على أدائها.و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام أن معناه الذين يحافظون على مواقيت الصلاة فيؤدونها في أوقاتها و لا يؤخرونها حتى يخرج وقتها (4)و به قال أكثر المفسرين.2.
ص: 110
فصل
و قوله يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ (1)
"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ صَلاَةٌ.
وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ قَوْماً بِأَنَّهُمْ إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلاَةِ تَرَكُوا تِجَارَتَهُمْ وَ بَيْعَهُمْ وَ اشْتَغَلُوا بِالصَّلاَةِ (2). و هذان الوقتان من أصعب ما يكون على المتبايعين و هما الغداة و العشي.و قوله قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ (3) إنما أضاف الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد و العدل لأن فيها التعظيم لله عند التكبير و فيها تلاوة القرآن التي تدعو إلى كل بر و فيها الركوع و السجود و هما غاية خضوع لله و فيها التسبيح الذي هو تنزيه الله تعالى.و إنما جمع بين صلاته و حياته و إحداهما من فعله و الأخرى من فعل الله لأنهما جميعا بتدبير الله.و الكيفيات المفروضة في أول ركعة ثمانية عشر و في أصحابنا من يزيد في العدد (4)و إن كانت الواجبات بحالها في القولين.،.
ص: 111
و في الركعة الثانية مثلها إلا كيفية النية و كيفية التكبير.و في التشهد يجب ستة أشياء و يستدل عليها من فحوى الآيات التي تقدم ذكرها و من الآيات التي يأتي بيانها من بعد.
فصل
قال الله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (1) .و معنى الآية حث على مراعاة الصلوات و مواقيتهن و أن لا يقع فيها و لا في شرائطها و لا في أفعالها و لا في كيفياتها التي بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجوبها تضييع و تفريط و هذا عام في جميع واجباتها من الأفعال و التروك و كيفياتها و الفرائض و السنن.و قوله اَلصَّلاةِ الْوُسْطى هي العصر فيما روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و عن علي عليه السّلام و عن ابن عباس و الحسن (2)و قال ابن عمر و زيد بن ثابت إنها الظهر و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السّلام (3)و قال قبيصة بن ذؤيب هي المغرب و قال جابر هي الغداة و عن ابن عمر هي واحدة من الخمس غير مميزة.و قال الحسن بن علي المغربي المعني بها صلاة الجماعة لأن الوسط1.
ص: 112
العدل فلما كانت صلاة الجماعة (1)أفضلها خصت بالذكر و هذا وجه مليح غير أنه لم يذهب إليه غيره.فمن جعلها العصر قال لأنها بين صلاتي النهار و صلاتي الليل و إنما حث عليها زيادة لأنها وقت شغل الناس في غالب الأمر.و من قال إنها صلاة الظهر قال لأنها وسط النهار و لأنها أول صلاة فرضت فلها بذلك فضل.و من قال هي المغرب قال لأنها وسط في الطول و القصر من بين الصلوات فهي أول صلاة الليل و قد رغب الله في الصلاة بالليل.و أما من قال هي الغداة قال لأنها بين الظلام و الضياء و هي صلاة لا تجمع معها غيرها.و من حمل الصلاة الوسطى على صلاة الجماعة جعل الصلوات على عمومها من الفرائض.و من حملها على واحدة من الصلوات على الخلاف فيه اختلفوا فمنهم من قال أراد بقوله عَلَى الصَّلَواتِ ما عدا هذه الصلاة حتى لا يكون عطف الشيء على نفسه و منهم من قال لا يمتنع لمن يريد بالأول جميع الصلوات و خص هذه الصلاة بالذكر تعظيما لها و تأكيدا لفضلها و شرفها كقوله وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ (2) .
فصل
اعلم أن الله تعالى لما حث على الطاعة بقوله وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ (3) خص بعده الصلاة بالمحافظة عليها لأنها أعظم الطاعات فقال حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ7.
ص: 113
أي داوموا على الصلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها ثم خص الوسطى تفخيما لشأنها ثم اختلف فيها على ستة أقوال على ما ذكرنا.و أكد من ذكر أنها الظهر
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَبَّحَ كُلُّ شَيْءٍ لِرَبِّنَا فَأَمَرَ اللَّهُ بِالصَّلاَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَ هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي تُفَتَّحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَلاَ تُغْلَقُ حَتَّى يُصَلَّى الظُّهْرُ وَ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ. و ذكر أنها الجمعة يوم الجمعة و الظهر سائر الأيام.و من ادعى أنها العصر أكد قوله
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ (1)فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَ مَالَهُ. و من ذكر أنها المغرب أكد قوله
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ لَمْ يَحُطَّهَا اللَّهُ عَنْ مُسَافِرٍ وَ لاَ مُقِيمٍ فَتَحَ اللَّهُ بِهَا صَلاَةَ اللَّيْلِ وَ خَتَمَ بِهَا صَلاَةَ النَّهَارِ فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَ صَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْراً فِي الْجَنَّةِ وَ مَنْ صَلَّى بَعْدَهُمَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَنْبَ عِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. و من زعم أنها صلاة العشاء الآخرة قال لأنها بين صلاتين لا يقصران
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلِهِ. و من قال إنها إحدى الصلوات الخمس لم يعينها الله و أخفاها في جملة المكتوبات كلها ليحافظوا على كلها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان و اسمه الأعظم في جميع أسمائه و ساعة الإجابة في ساعات الجمعة.و من قال إنها صلاة الفجر دل عليه أيضا من التنزيل بقوله وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (2) يعني تشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار و هي مكتوب في ديوان الليل و ديوان النهار و لأنها صلاة لا تجمع مع غيرها كما تقدم فهي منفردة بين مجتمعتين فقد جمع النبي صلّى اللّه عليه و آله بين الظهر و العصر و جمع بين المغرب8.
ص: 114
و العشاء بالمزدلفة فصلاة الظهر متآخية لصلاة العصر و كذا المغرب للعشاء و صلاة الغداة منفردة.و يستحب الجمع في هذين الموضعين يعني عرفة و المشعر على الرجال و النساء في أي يوم كان من الأسبوع و في أية ليلة كانت سوى ليلة الجمعة أو غيرها من الليالي و لا يستحب الجمع في غيرهما من المواضع بل هو رخصة سواء كان في الحضر أو السفر إلا في يوم الجمعة فإنه يستحب فيه الجمع بين الظهر و العصر لا غير في كل بقعة و على كل حال.و يلزم النساء خاصة الجمع بين الظهر و العصر و الجمع بين المغرب و العشاء الآخرة في بعض وجوه استحاضتهن.
فصل
ثم قال تعالى في آخر الآية وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ أي داعين و القنوت هو الدعاء في الصلاة في حال القيام و هو المروي عنهما عليهما السّلام (1)و قيل ساكتين لأنهم نهوا بذلك عن الكلام في الصلاة و قيل خاشعين فنهوا عن العبث و الالتفات في الصلاة فالالتفات فيها إلى خلف محظور و إلى ما سواه من الجوانب مكروه.و الأصل في القنوت الإتيان بالدعاء و غيره من العبادات في حال القيام (2)و يجوز أن يطلق في سائر الطاعات فإنه و إن لم يكن فيه القيام الحقيقي فإن فيه القيام بالعبادة.5.
ص: 115
و استدل الشافعي على أنها هي الغداة بقوله وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ بمعنى و قوموا فيها لله قانتين و هذا في جميع الصلوات عندنا.و القنوت جهرا في كل صلاة
وَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَانَ يُصَلِّي الْهَاجِرَةَ وَ كَانَتْ أَثْقَلَ الصَّلَوَاتِ عَلَى أَصْحَابِهِ فَلاَ يَكُونُ وَرَاءَهُ إِلاَّ الصَّفُّ وَ الصَّفَّانِ فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحْرِقَ عَلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ بُيُوتَهُمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ (1) .
فصل
و قوله إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (2) .لا خلاف بين الأمة أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام حين تصدق بخاتمه و هو راكع روى ذلك المغربي عن أبي بكر الرازي و الطبري و الرماني و مجاهد و السدي و قالوا المعني بالآية هو الذي آتى الزكاة في حال الركوع و هو قول أهل البيت عليهم السّلام (3).و أجمعت الأمة على أنه لم يؤت الزكاة في الركوع غير أمير المؤمنين عليه السّلام (4).و في هذه الآية دلالة على أن العمل القليل لا يفسد الصلاة.و قيل في قوله وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ (5) هو وضع الجبهة و الأنف في السجود على الأرض.1.
ص: 116
فصل
و قوله تعالى وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (1) قال قوم معناه متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها فأقمتها أو فات وقتها فاقضها سواء فاتت عمدا أو نسيانا.و قيل معناه أقم أيها المكلف الصلاة لتذكرني فيها بالتسبيح و التعظيم و إني أذكرك (2)بالمدح و الثواب.و قال تعالى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ (3) أي تركوها و قيل أي أخروها عن مواقيتها و هو الذي رواه أصحابنا.و قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (4) و هذا تهديد لمن يؤخرها عن وقتها لأنه تعالى قال عَنْ صَلاتِهِمْ و لم يقل ساهون فيها و إنما ذم من وقع منه السهو مع أنه ليس من فعل العبد بل هو من فعل الله لأن الذم توجه في الحقيقة على التعرض للسهو بدخوله فيها على وجه الرياء و قلبه مشغول بغيرها لا يرى لها منزلة تقتضي صرف الهمة إليها.
وَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمَّارٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أَ هِيَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ قَالَ لاَ كُلُّ أَحَدٍ يُصِيبُهُ هَذَا وَ لَكِنْ أَنْ يَغْفُلَهَا وَ يَدَعَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا (5).
وَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ: سَأَلْتُهُ أَيْضاً عَنْ قَوْلِهِ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ هُوَ التَّرْكُ لَهَا وَ التَّوَانِي عَنْهَا (6).4.
ص: 117
وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: هُوَ التَّصْنِيعُ لَهَا (1).
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا. و قيل يريد المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابا إن صلوا و لا يخافون عليها عقابا إن تركوا فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها فإذا كانوا مع المؤمنين صلوها رياء و إذا لم يكونوا معهم لم يصلوا و هو قوله اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ .و قيل ساهون عنها لا يبالون صلوا أو لم يصلوا.و عن أبي العالية هم الذين لا يصلونها لمواقيتها و لا يتمون ركوعها و لا سجودها هم الذين إذا سجدوا قالوا برءوسهم هكذا و هكذا ملتفتين.
"وَ قَالَ أَنَسٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ عَنْ صَلاتِهِمْ وَ لَمْ يَقُلْ فِي صَلاَتِهِمْ. أراد بذلك أن السهو الذي يقع للإنسان في صلاته من غير عزم لا يعاقب عليه.
فصل
و قوله تعالى فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ (2) .خاطب محمدا صلّى اللّه عليه و آله و المراد به هو و جميع المكلفين أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله لأن بعد القراءة لا تكون الاستعاذة إلا عند من لا يعتد بخلافه.و قيل هو التقديم و التأخير و هذا ضعيف لأن ذلك لا يجوز مع ارتفاع اللبس و الشبهة.و الاستعاذة عند التلاوة مستحبة إلا عند أهل الظاهر فإنهم قالوا فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ أمر و هو على الإيجاب و لو لا الرواية عن أهل البيت أنها مستحبة و على صحتها إجماع الطائفة لقلنا بوجوبها.و التعوذ في الصلاة مستحب في أول ركعة دون ما عداها و تكراره في كل8.
ص: 118
ركعة يحتاج إلى دليل و لا دليل.و يسر في التعوذ في جميع الصلوات و يجب الجهر ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في الحمد و في كل سورة بعدها في كل صلاة يجب الجهر فيها و تجب قراءته لأنه آية من كل سورة و الدليل عليه إجماعنا الذي تقدم أنه حجة فإن كانت الصلاة مما لا يجهر فيها استحب الجهر ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيها.و اختلف فيه أيضا فقيل إنه مقصور على الركعتين الأوليين من الظهر و العصر و الأظهر أنه على العموم في جميع المواضع التي كانت فيها من الصلوات.و قالوا في قوله وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ (1) أي اقرأ أيها المخاطب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في أول كل سورة.
فصل
قال الله تعالى وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى قوله بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (2) .تدل هذه الآية أن من قرأ بغير العربية معنى القرآن بأي لغة كانت في الصلاة كانت صلاته باطلة لأن ما قرأه لم يكن قرآنا.و إن وضع لفظا عربيا موضع لفظ من القرآن يكون معناهما واحدا فكمثله فإنه تعالى وصف اللسان بصفتين أ لا ترى أنه تعالى أخبر أنه أنزل القرآن بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ و قال تعالى إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (3) فأخبر أنه أنزله عربيا.فمن قال إذا كان بغير العربي فهو قرآن فقد ترك الآية و قال تعالى وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ (4) و عند أبي حنيفة أرسل الله رسوله بكل لسان.4.
ص: 119
و إذا ثبت أنه بغير العربية لا يكون قرآنا سقط قولهم و ثبت أنها لا تجزي.على أن من يحسن الحمد لا يجوز أن يقرأ غيرها
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كُلُّ صَلاَةٍ لَيْسَ فِيهَا فَاتِحَةٌ فَهِيَ خِدَاجٌ (1). فإن لم يحسن الحمد وجب عليه أن يتعلمها فإن ضاق عليه الوقت و أحسن غيرها قرأ ما يحسن فإن لم يحسن إلا بعض سورة قرأه فإن لم يحسن شيئا أصلا ذكر الله و كبره و لا يقرأ معنى القرآن بغير العربية.
فصل
و قوله تعالى وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها (2) .يدل على أنه يجوز للمصلي أن يدعو لدينه و دنياه و لإخوانه لأنه قال فَادْعُوهُ و لم يستثن حال الصلاة و ظاهره في عرف الشرع الاستغراق و العموم فلا مانع.و إذا سلم عليه و هو في الصلاة رد عليه مثله يقول سلام عليكم و لا يقول و عليكم السلام فإنه يقطع الصلاة.و يمكن أن يكون الوجه في ذلك أن لفظة سَلامٌ عَلَيْكُمْ من ألفاظ القرآن يجوز للمصلي أن يتلفظ بها تاليا للقرآن و ناويا لرد السلام إذ لا تنافي بين الأمرين قال الله تعالى وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها (3) .قال الحسن و جماعة من متقدمي المفسرين إن السلام تطوع و الرد فرض لقوله فَحَيُّوا و الأمر شرعا على الوجوب فإذا أطلق الأمر و لم يقيده بحال دون حال فالمصلي إذا سلم عليه و هو في الصلاة فليرد عليه مثل ذلك.6.
ص: 120
و سمعت بعض مشايخي مذاكرة أنه مخصوص بالنوافل و الأظهر أنه على العموم.
وَ مِنْ شُجُونِ الْحَدِيثِ: 1 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ دَعَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَ هُوَ فِي الصَّلاَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَوَبَّخَهُ وَ قَالَ أَ لَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (1) .
فصل
و قوله تعالى اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (2) أي يصلون على قدر إمكانهم في صحتهم و سقمهم و هو المروي في أخبارنا (3)لأن الصلاة يلزم التكليف ما دام عقله ثابتا فإن لم يتمكن من الصلاة لا قائما و لا قاعدا و لا مضطجعا فليصل موميا يبدأ بالصلاة بالتكبير و يقرأ فإذا أراد الركوع غمض عينيه فإذا رفع رأسه فتحهما و إذا أراد السجود غمضهما و إذا رفع رأسه فتحهما و إذا أراد السجود الثاني غمضهما و إذا رفع رأسه فتحهما و على هذا صلاته.و قوله فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (4) إن كان صلى ركعة مستلقيا هكذا ثم قوي على أن يصلي مضطجعا أو كان صلى مضطجعا و قدر أن يصلي قاعدا أو كان يصلي قاعدا فقوي أن يصلي قائما رجع إليه.و كذا على عكسه إن صلى ركعة قائما فضعف عن القيام صلى الباقي قاعدا.3.
ص: 121
و عن ابن مسعود نزلت هذه الآية في صلاة المريض لقوله وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ .و العريان إذا كان بحيث لا يراه أحد صلى قائما و إذا كان بحيث لا يأمن أن يراه أحد صلى جالسا للآية و لقوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) .
"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فِي تَرْكِهِ لِلصَّلاَةِ إِلاَّ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ. و هذا يدل على عظم حال الصلاة.
فصل
و قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (2) .يستدل بهذه الآية على أن من ترك الصلاة متعمدا يجب قتله البتة على بعض الوجوه لأن الله تعالى أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرطين أحدهما أن يتوبوا من الشرك و الثاني أن يقيموا الصلاة فإذا لم يقيموا وجب قتلهم.ثم قال فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ (3) تقديره فهم إخوانكم.أما قوله وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً (4) فمعناه أنه إخبار من الله تعالى أنه لم يكن صلاة هؤلاء الكفار تلك الصلاة التي أمروا بها فأخبر تعالى بذلك لئلا يظن ظان أن الله لا يعذبهم مع كونهم مصلين و مستغفرين ثم قال تعالى وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (5) .و إنما سمى الله مكاءهم صلاة لأنهم يجعلون ذلك مكان الصلاة و الدعاء4.
ص: 122
و التسبيح المشروع و المكاء الصفير و التصدية التصفيق و لأنهم كانوا يعملون كعمل الصلاة مما في هذا و قيل كان بعضهم يتصدى البعض ليراه بذلك الفعل و كان يصفر له
اعلم أن القضاء هو فرض ثان يدل عليه السنة على سبيل التفصيل و يستدل عليه من القرآن بقوله وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ (1) على طريق الجملة و على ما قدمناه في قوله وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (2) .ثم من كان مخاطبا بالصلاة ففاتته فإن كان كافرا في الأصل فالصلاة الفائتة منه في حال كفره لا يلزمه قضاؤها و إن كان مخاطبا بالشرائع بالدليل القاطع و عموم قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (3) يشهد ببراءة ذمته التي هي الأصل و السنة قد فصلت أنه لا يلزمه قضاؤها.فأما من كان على ظاهر الإسلام بالغا كامل العقل فإن جميع ما يفوته من الصلوات بعذر و غير عذر يلزمه قضاؤها حسب ما فاتته إن سفرا فسفر و إن حضرا فحضر و كذا ما يفوته في حال النوم المعتاد أو حال السكر أو تناول الأشياء المرقدة.و إن كان على مذهب فاسد كالتشبيه و نحوه و كان صلى أو لم يصل فإذا استبصر وجب عليه قضاء جميع ذلك.
ص: 123
فصل
و قوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ (1) أي يخلف كل واحد منهما صاحبه مما يحتاج أن يعمل فيه فمن فاته عمل الليل استدركه بالنهار و من فاته عمل النهار استدركه بالليل على الفور و هو قوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً .عن أكثر المفسرين أن الله أراد أن يجعل الليل و النهار وقتين للمتذكرين و الشاكرين من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر.
وَ عَنْ عَنْبَسَةَ الْعَابِدِ: سَأَلْتُ الصَّادِقَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً قَالَ قَضَاءُ صَلاَةِ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ وَ قَضَاءُ صَلاَةِ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ (2).
وَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: قَالَ فِي قَوْلِهِ وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً يُقْضَى صَلاَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ وَ صَلاَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ (3). و قوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ كلام مجمل يفسره
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَوَقْتُهَا حِينَ يَذْكُرُهَا (4). يعني إذا ذكر أنها فاتته قضاها لقوله تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي3.
ص: 124
قال الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ (1) .و هذا أمر من الله لنبيه صلّى اللّه عليه و آله بقيام جميع الليل إلا القليل منه و الخطاب معه حين التف بثيابه تأهبا للصلاة و قيل التف بثيابه للنوم و قال الحسن إن الله فرض على النبي و المؤمنين أن يقوموا ثلث الليل فما زاد فقاموا حتى تورمت أقدامهم ثم نسخ تخفيفا عنهم و قال غيره هو فعل لم ينسخ لأنه لو كان فرضا لما خير في ذلك و إنما بين تخفيف الثقل.و قال قوم المرغب فيه قيام ثلث الليل أو نصف الليل أو الليل كله إلا القليل و إنما لم يرغب بالآية في قيام جميعه لأنه تعالى قال إِلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يعني على النصف.و قال الزجاج نصفه بدل من الليل بدل البعض من الكل كقوله ضرب زيد رأسه و المعنى قم نصف الليل أو زد على نصف الليل و ذلك قبل أن يتعبد بالصلوات الخمس.و عن ابن عباس و غيره كان بين أول السورة و آخرها الذي نزل فيه التخفيف سنة و قال ابن جبير عشر سنين و قال الحسن و عكرمة نسخت الثانية الأولة و الأولى أن يكون الكلام على ظاهره و يكون جميع ذلك سنة مؤكدة إلا أنه ليس بفرض.
فصل
و
قوله وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (2) أمر من الله له بأن يرتل القراءة.
ص: 125
و الترتيل ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها و تبيين الإعراب تثبت فيها و الحدر هو الإسراع فيها و كلاهما حسن إلا أن الترتيل هاهنا هو المرغب فيه.و ناشِئَةَ اللَّيْلِ (1) ساعات التهجد من الليل و قال أبو جعفر و أبو عبد الله عليهما السّلام هو القيام آخر الليل إلى صلاة الليل (2).و المعنى أن عمل الليل أشد ثباتا من عمل النهار و أثبت في القلب من عمل النهار لأنه يواطئ فيه القلب اللسان لانقطاع الشغل و فراغ القلب و ثوابه أعظم لأن عمل الليل أشد على البدن من عمل النهار.ثم قال إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ (3) في الناس من قال هذه الآية ناسخة لما في أول السورة من الأمر الحتم بقيام الليل إلا قليلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ .و قال آخرون إنما نسخ ما كان فرضا إلى أن صار نفلا.و قد قلنا الأمر في أول السورة على وجه الندب فكذا هاهنا فلا تنافي بينهما حتى ينسخ بعضها ببعض.
فصل
و قوله وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (4) البكرة الغداة و الأصيل العشي و هو أصل الليل. وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ (5) دخلت من للتبعيض يعني فاسجد له في بعض الليل6.
ص: 126
لأنه لم يأمر بقيام جميع الليل كما قال إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ (1) و المعنى أن ربك يعلم يا محمد أنك تقوم أدنى أي أقرب و أقل من ثلثي الليل و نصفه و ثلثه أي أقل من نصفه و من ثلثه و الهاء تعود إلى الليل أي نصف الليل و ثلث الليل معناه أنك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين و في بعضها قريبا من نصف الليل و في بعضها قريبا من ثلثه.و قيل إن الهاء تعود إلى الثلثين أي و أقرب من نصف الثلثين و من ثلث الثلثين و إذا نصبت فالمعنى و تقوم نصفه و ثلثه و يقوم طائفة من الذين معك.و قوله تعالى وَ اللّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (2) أي يقدر أوقاتهما لتعلموا منها على ما يأمركم به. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي تطيقوا المداومة على قيام الليل و يقع منكم التقصير فيه فَتابَ عَلَيْكُمْ بأن جعله تطوعا و لم يجعله فرضا و قيل أي فخفف عليكم. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3) الآن يعني في الصلاة عند أكثر المفسرين.و أجمعوا أيضا على أن المراد بالقيام المتقدم في قوله قُمِ اللَّيْلَ هو القيام إلى الصلاة إلا أبا مسلم فإنه قال أراد القيام لقراءة القرآن. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى و ذلك يقتضي التخفيف عنكم وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ أي و منكم قوم آخرون يسافرون للتجارة و طلب الأرباح و منكم قوم آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فكل ذلك يقتضي التخفيف عنكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ .
وَ رُوِيَ عَنِ الرِّضَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ قَالَ: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ لَكُمْ فِيهِ خُشُوعُ الْقَلْبِ وَ صَفَاءُ السِّرِّ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ لِحُدُودِهَا الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ.0.
ص: 127
فصل
و قوله تعالى كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (1) .قال الزهري كانُوا يعني المتقين الذين وعدهم بالجنات قليلا ما يهجعون بالليل في دار التكليف أي كان هجوعهم قليلا فتكون ما مصدرية و قال الحسن ما صلة و تقديره كانوا يهجعون هجوعا قليلا و قال قتادة كان هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة و العبادة.
وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (2) فِي الْوَتْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ سَبْعِينَ مَرَّةً (3).
وَ قَالَ فِي قَوْلِهِ كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أَيْ كَانُوا أَقَلَّ اللَّيَالِي يَفُوتُهُمْ لاَ يَقُومُونَ فِيهَا وَ كَانَ الْقَوْمُ يَنَامُونَ وَ لَكِنْ كُلَّمَا انْقَلَبَ أَحَدُهُمْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ اللَّهُ أَكْبَرُ (4).
وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي قَوْلِهِ وَ أَقْوَمُ قِيلاً (5) قِيَامُ الرَّجُلِ عَنْ فِرَاشِهِ يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ لاَ يُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ (6). و قال مجاهد في قوله وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (7) أي يصلون في السحر.و عن الحسن يطلبون من الله المغفرة و الحمل عليهما للعموم أحسن.8.
ص: 128
و السحر الوقت قبل طلوع الفجر و هو من أفضل الأوقات قال تعالى اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (1) أي المصلين بها يسألون المغفرة فيها و قد تطلب المغفرة بالصلاة كما تطلب الدعاء.و قال عمران بن حصين في قوله وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (2) هي الصلاة فيها شفع و وتر.
وَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَ الْباقِياتُ الصّالِحاتُ (3) هِيَ الْقِيَامُ آخِرَ اللَّيْلِ لِصَلاَةِ اللَّيْلِ وَ الدُّعَاءُ فِي الْأَسْحَارِ. و سميت باقيات لأن منافعها تبقى و تنفع أهلها في الدنيا و الآخرة بخلاف ما نفعه مقصور على الدنيا فقط و قيل هي قوله سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر (4)عقيب الصلوات و في غيرها (5).
فصل
و قوله تعالى وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ (6) .خاطب نبيه صلّى اللّه عليه و آله و من للتبعيض و التهجد التيقظ بما ينفي الهجود و هو النوم كالتأثم و التحرج.قال المبرد التهجد عند أهل اللغة السهر للصلاة أو لذكر الله فإذا سهر9.
ص: 129
للصلاة قيل تهجد و إذا أراد النوم قيل هجد (1).و النافلة فعل ما فيه الفضيلة مما رغب الله فيه و لم يوجبه (2).و قوله نافِلَةً لَكَ وجه هذا الاختصاص هو أنه أتم الترغيب لما في ذلك من الصلاح لأمته في الاقتداء به و الدعاء إلى الاستئذان بسنته.و روي أنها فرضت عليه و لم تفرض على غيره فكانت فضيلة له ذكره ابن عباس و إليه أشار أبو عبد الله عليه السّلام (3).و السنة مضافة إلى الله من حيث دلنا عليها و على تحريم الحرام منها و تحليل الحلال و تضاف إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله من حيث سمعناها منه و كان هو المبتدئ بها.
فصل
و قوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ (4) عنهما عليهما السّلام إن الآية متناولة لمن يقوم إلى صلاة الليل عن لذة مضجعة في وقت السحر (5)و قد مدح الله القائمين بالليل قال تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ (6) هو ما يظهر في وجوههم من السهر بالليل عن ابن عباس أثر صلاتهم يظهر في وجوههم و عن زين العابدين عليه السّلام خلوا بالله فكساهم نورا من نوره.9.
ص: 130
وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ سَبْعِينَ مَرَّةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1) وَ قَالَ فِي قَوْلِهِ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (2) إِنَّ ذَلِكَ فِي النَّوَافِلِ يَدْعُونَ عَلَيْهَا وَ فِي قَوْلِهِ وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (3) فِي الْفَرَائِضِ وَ الْوَاجِبَاتِ. و قوله وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (4) قال أبو الأحوص معناه حين تقوم من نومك.و قيل معناه صل النوافل بحمد ربك حين تقوم من نوم القائلة قبل فريضة الظهر مِنَ اللَّيْلِ يعني حين تقوم من النوم فصل نوافل الليل وَ إِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر قبل الفرض وَ أَدْبارَ السُّجُودِ نوافل المغرب
قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ (5) .من هاهنا بمعنى في الدالة على الظرفية بدليل أن النداء للصلاة المشار إليها في وسط الجمعة و لو كانت من التي تختص بابتداء الغاية لكان النداء في أول يوم الجمعة فهو على إضمار مصدر محذوف حذف لدلالة الكلام عليه و معناه إذا سمعتم أذان يوم الجمعة فامضوا إلى الصلاة.
ص: 131
قال قتادة امضوا إلى الصلاة مسرعين غير متغافلين و قال الزجاج المعنى فامضوا لا السعي الذي هو الإسراع قال و قرأ ابن مسعود فامضوا إلى ذكر الله ثم قال لو علمت الإسراع لأسرعت حتى يقع ردائي من كتفي قال و كذلك كان يقرأ قال الحسن و الله ما أمروا إلا بأن يأتوا الصلاة و عليهم الوقار و السكينة و قال الزجاج أي اقصدوا و السعي التصرف في كل عمل يدل عليه قوله وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (1) أي بما عمل و منه قوله لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (2) .
وَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: السَّعْيُ قَصُّ الشَّارِبِ وَ نَتْفُ الْإِبْطِ وَ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَ الْغُسْلُ وَ التَّطَيُّبُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَ لُبْسُ أَفْضَلِ الثِّيَابِ وَ الذِّكْرُ (3). خاطب الله المؤمنين أنه إذا أذن لصلاة الجمعة و كذلك إذا صعد الإمام المنبر يوم الجمعة و ذلك لأنه لم يكن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سواه (4)فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ أي فامضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين و قيل ما هو السعي على الأقدام و لكن بالقلوب و النية و الخشوع فقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا و عليهم السكينة و الوقار.و قال السائب بن يزيد كان لرسول الله مؤذن واحد و هو بلال فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة ثم كان أبو بكر و عمر كذلك حتى إذا كان في عهد عثمان و كثر الناس و تباعدت المنازل زاد أذانا فأمر بالتأذين الأول على سطح دار له بالسوق فإذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه فإذا نزل أقام للصلاة فلم يعب ذلك عليه (5).د.
ص: 132
و ليس هذا دليلا شرعيا
بَلْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ.
فصل
اعلم أن فرض الجمعة يلزم جميع المكلفين لعموم
ص: 133
أن الله تعالى قد دعاه إلى كل واحدة من الصلاة على التخيير و لم يحظر عليه الجمع بينهما إذا شاء فوجب أن يكون الفرض أحدهما على الإبهام فلم يتعين بحكم شرعي.و قال آخرون إذا لم يمكنه السعي إلى الجمعة و إن كان مقيما ففرضه أربع.و يكره السفر يوم الجمعة قبل الصلاة لأنه مانع من أفعال الخير و كل ما يمنع من الأفضل في الأعمال مكروه.
فصل
ص: 134
و فيها دلالة على أن الخطاب للأحرار لأن العبد لا يملك البيع و على اختصاص الجمعة بمكان و لذلك أوجب السعي إليه.فإن قيل هل يجوز أن يخطب رجل و يصلي آخر.قلنا لا و ذلك أن السنة ثبتت بخلافه و لم يحفظ عن أحد من أئمة الإسلام أنه تفرد بالصلاة دون الخطبة فثبت أن فعل ما في السؤال بدعة و استدل من فحوى الآية بعضهم على ذلك.و الإمام إذا عقد صلاة الجمعة بتكبيرة الإحرام ثم تفرق عنه الناس بعد دخولهم فيها معه تمم هو ركعتين و لم يصل أربعا الظهر فإنه عقدها جمعة عقدا صحيحا فلم ينقض ما عقده فعل من غيره لم يتعد إلى صلاته بالفساد و يدل عليه قوله وَ تَرَكُوكَ قائِماً .
فصل
و قوله تعالى فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي إذا صليتم الجمعة و فرغتم عنها تفرقوا في الأرض و اطلبوا الرزق في الشراء و البيع و هذا إباحة و رخصة و ليس بأمر بل رفع الحظر الذي أوقعه بقوله وَ ذَرُوا الْبَيْعَ .و قد أطبقوا على أن هذا الأمر الوارد بعد الحظر يقتضي الإباحة و الصحيح أن حكم لفظ الأمر الواقع بعد الحظر (1)هو حكم أمر المبتدإ على الوجوب أو الندب أو الوقف على الحالين فهو كذلك بعد الحظر و هذا قوي في الدلالة على وجوب هذه الصلاة على هذه الهيئة لأنها لو لم تجب لكان الانتشار مباحا قبل إتمامها و يدخل في الانتشار سائر التصرف خصوصا مع ذكر ابتغاء الفضل.و قيل في قوله وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ أي اطلبوا من فضله بعمل الطاعةج.
ص: 135
و الدعاء له تعالى و عيادة المريض و حضور الجنائز و زيارة الإخوان في الله و اذكروا إحسانه لتفلحوا و قيل هذا أمر بزيادة التعقيب الذي يستحب يوم الجمعة و العموم يتناول جميع ذلك.و الإمام إذا قرب من الزوال ينبغي أن يصعد المنبر و يأخذ في الخطبة بمقدار ما إذا خطب الخطبتين زالت الشمس فإذا زالت نزل فصلى بالناس و فحوى الآية يدل عليه.و يفصل بين الخطبتين بجلسة كلا و لا و هذا التفصيل يعلم بعمل رسول الله و قوله من القرآن على الجملة قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .و هذا الفصل بينهما سنة عندنا و قال الشافعي و أبو حنيفة هو واجب.و يحرم الكلام على من حضر و يجب عليه الإصغاء إلى الخطبتين لأنهما بدل من الركعتين.و لا يذكر فيهما إلا الحق و إلا فلا جمعة له.و من دخل المسجد و الإمام يخطب فلا يتطوع لأن ذلك شاغل له عن سماع الخطبة و استماعها أفضل من التطوع بالصلاة إذ هو بدل من ركعتي فرض الظهر في سائر الأيام على ما روي (1).و من وجد الإمام قد رفع رأسه من الركوع في الثانية فقد فاتته الجمعة و عليه الظهر أربع ركعات.و من أدرك مع الإمام ركعة فإذا سلم الإمام قام فأضاف إليها ركعة أخرى يجهر فيها و قد تمم جمعته.
فصل
وَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ قَالَ الصَّلاَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَ الاِنْتِشَارُ يَوْمَ السَّبْتِ (1).5.
ص: 136
الْأَرْضِ قَالَ الصَّلاَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَ الاِنْتِشَارُ يَوْمَ السَّبْتِ (1).
وَ فِي الْخَبَرِ: أَنَّ اللَّهَ بَارَكَ لِأُمَّتِي فِي خَمِيسِهَا وَ سَبْتِهَا لِأَجْلِ الْجُمُعَةِ.
وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنِّي لَأَرْكَبُ فِي الْحَاجَةِ الَّتِي كَفَاهَا اللَّهُ مَا أَرْكَبُ فِيهَا إِلاَّ الْتِمَاسَ أَنْ يَرَانِيَ اللَّهُ أُضْحِي فِي طَلَبِ الْحَلاَلِ أَ مَا تَسْمَعُ قَوْلَ اللَّهِ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ (2) .
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنِ اغْتَسَلَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ وَ لَبِسَ صَالِحَ ثِيَابِهِ وَ مَسَّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَ زِيَادَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَهَا (3). و قيل المراد بالذكر هاهنا الفكر و قيل اذكروا الله في تجارتكم و أسواقكم.و لا يجوز الخطبة إلا قائما قال تعالى وَ تَرَكُوكَ قائِماً فإن خطب لعذر جالسا جاز لقوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .و يجوز رد السلام و تسميت العاطس و الإمام يخطب إذ لم يحظر ذلك كتاب و لا سنة.
فصل
ثم أخبر الله عن جماعة قابلوا الكرم باللؤم
فقال وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها .سبب نزوله
مَا رُوِيَ: أَنَّهُ أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ وَ غَلاَءُ سِعْرٍ فَقَدِمَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ بِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ دَقِيقٍ وَ بُرٍّ وَ غَيْرِهِمَا وَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ2.
ص: 137
يَخْطُبُ وَ ذَاكَ قَبْلَ أَنْ أَسْلَمَ دِحْيَةُ وَ جَعَلَ يَضْرِبُ بِطَبْلٍ لِيُعْلَمَ بِقُدُومِهِ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا إِلَى الْبَيْعِ خَشْيَةَ أَنْ يُسْبَقُوا [إِلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً وَ انْفَضَّ الْآخَرُونَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَوْ تَبَايَعْتُمْ حَتَّى لاَ يَبْقَى] (1)مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَاراً وَ لَوْ لاَ هَؤُلاَءِ لَسُوِّمَتْ لَهُمُ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. و روي أنهم استقبلوه باللهو أي تفرقوا عنك خارجين إليها و مالوا و نحوها و رَأَوْا تِجارَةً أي عاينوها و قيل علموا بيعا و شراء لَهْواً و هو الطبل و قيل المزامير و الضمير للتجارة و خصت بالذكر إليها دون اللهو لأمرين أحدهما أن التجارة كانت أهم إليهم و هم بها آسر من الطبل الثاني أنهم انصرفوا إلى التجارة و اللهو كان معهم فأي حاجة بالضمير إليه (2).
فصل
وَ قَوْلُهُ وَ تَرَكُوكَ قائِماً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ انْصَرَفُوا إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً تَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ (3). و سئل ابن مسعود أ كان النبي يخطب قائما فقال أ ما تقرأ وَ تَرَكُوكَ قائِماً .و قال جابر بن سمرة ما رأيت رسول الله خطب إلا و هو قائم فمن حدثك أنه خطب و هو جالس فكذبه.و أول من استراح على المنبر هو عثمان كان يخطب قائما فإذا أعيا جلس و أول من خطب (4)جالسا معاوية.ج.
ص: 138
وَ رُوِيَ فِي قَوْلِهِ وَ تَرَكُوكَ قائِماً أَيْ قَائِماً فِي الصَّلاَةِ (1). ثم قال قل يا محمد لهم ما عند الله من الثواب على سماع الخطبة أحمد عاقبة من ذلك و الله يرزقكم و إن لم تتركوا الخطبة و الجمعة.و في بعض القراءة حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى و هي صلاة العصر وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (2) في الصلاة الوسطى (3).قالوا نزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول الله في سفر فقنت فيها و تركها على حالها في السفر و الحضر (4).و قوله إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (5) أي مفروضا إنها خمس بخمسين حصل التخفيف مع أجر خمسين صلاة لقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (6)
قال الله تعالى وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (7) .و هذا أمر منه تعالى للمكلفين بصلاة الجماعة لأنه تعالى قال قبله وَ أَقِيمُوا
ص: 139
اَلصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ أمر بهذه اللفظة بواجباتها و نوافلها و التكرار في الكلام لغير فائدة غير مستحسن فيجب أن يكون قوله وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ بعده دالا على صلاة الجماعة سواء كانت الجماعة واجبة أو مندوبا إليها فالأمر يكون بالواجب مطلقا و الندب مقيدا في الشرع و قوله تعالى مَعَ الرّاكِعِينَ دليل صريح لذلك.و الجماعة على أربعة أضرب واجب و مستحب و مكروه و محظور.فالواجب لا يكون إلا في الجمعة و العيدين إذا اجتمعت شرائطها على ما ذكرناه و المستحب هو الجماعة في الصلوات الخمس و المكروه صلاة الحاضر خلف المسافر فيما يقصر في السفر و المحظور هو الصلاة خلف الفاسق و الفاجر.و قد رغب الله في الجماعة و حث عليها بالآية التي تلوناها و بقوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى فقد قيل إن الصلاة الوسطى كناية عن صلاة الجماعة لأنها أفضل الصلوات و كذلك خصها الله بالذكر.و أقل ما تكون الجماعة اثنان فصاعدا و يتقدم للإمامة أقرأهم ثم أفقههم.و لا تنعقد الجماعة إلا بالأذان و الإقامة.
فصل
و قوله تعالى وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (1)
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَ فِي رِوَايَةٍ عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ. فازدحم الناس و كانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا نبيع دورنا و لنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت الآية رواه الربيع بن أنس (2).6.
ص: 140
و معنى الآية إنا نجازي الناس على نياتهم.
"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلاَةِ وَ الْمُسْتَأْخِرِينَ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِيُدْرِكُوا فَضِيلَتَهُ وَ كَانَ يَتَأَخَّرُ بَعْضُهُمْ لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْجَازِ النِّسَاءِ فَنَزَلَ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ .
وَ رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَ شَرُّهَا آخِرُهَا وَ خَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَ شَرُّهَا أَوَّلُهَا فَازْدَحَمُوا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ (1).
فصل
و المؤتمون يجب عليهم أن يستمعوا قراءة الإمام إذا جهر و أن لا يقرءوا و الدليل عليه قوله وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا (2) .و المفسرون اختلفوا في الوقت الذي أمروا بالإنصات و الاستماع فقال قوم أمروا حال كون المصلي في الصلاة خلف الإمام الذي يؤتم به و هم يستمعون قراءة الإمام فعليهم أن ينصتوا و لا يقرءوا و يستمعون لقراءته فإذا كانوا على بعد من الإمام بحيث لا يسمعون صوته و إن كانت الصلاة مما يجهر فيها فلا بأس إذا أن يقرءوا.و من المفسرين من قال أمروا بالإنصات لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة و إذا دخل داخل و هم في الصلاة قال لهم كم صليتم فيخبرونه و كان مباحا فنسخه الله.و قال قوم هو أمر بالإنصات للإمام في خطبته4.
ص: 141
و قيل هو أمر بذلك في الصلاة و الخطبة.و أقوى الأقوال الأول الذي استدللنا به لأنه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلا حال قراءة الإمام في الصلاة فإن على المأموم الإنصات و الاستماع له على ما قدمناه فأما خارج الصلاة فلا خلاف أنه لا يجب الإنصات و الاستماع و ما روي عن أبي عبد الله عليه السّلام أنه في حال الصلاة و غيرها (1)فهو على وجه الاستحباب.و قال أبو حنيفة لا يصلى صلاة الخسوف جماعة و كل ما يدل من القرآن و السنة على جواز الجماعة في كل فريضة فهو عام على أن العامة قد روت أيضا عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنه صلاها جماعة و رووا أنه صلاها فرادى فوافقت رواياتهم رواياتنا.مع أن الشيخ المفيد ذكر في كتابه مسائل الخلاف أنه إن انكسف القرص بأسره في الشمس أو القمر صليت صلاة الكسوف جماعة و إن انكسف (2)بعضه صليت فرادى
اعلم أن السفر الذي يجب فيه التقصير في الصلاة ثمانية فراسخ فما فوقها إذا كان مباحا أو طاعة.و الحجة مع الإجماع المكرر هو أن الله علق سقوط فرض الصيام عن المسافر بكونه مسافرا
في قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (3) و لا خلاف بين الأمة أن كل سفر أسقط فرض الصيام و رخص في الإفطار
ص: 142
فهو بعينه موجب لقصر الصلاة و إذا كان الله قد علق ذلك في الآية باسم السفر فلا شبهة في أن اسم السفر يتناول المسافة التي حددنا السفر بها فيجب أن يكون الحكم تابعا لها.و لا يلزم على ذلك أدنى ما يقع عليه الاسم من فرسخ أو ميل لأن الظاهر يقتضي ذلك لو تركنا معه لكن الدليل و الإجماع أسقطا اعتبار ذلك و لم يسقطاه فيما اعتبرناه من المسافة و هو داخل تحت الاسم.
وَ ذَكَرَ الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: إِنَّمَا وَجَبَ التَّقْصِيرُ فِي ثَمَانِيَةِ فَرَاسِخَ لِأَنَّهَا مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَ لَوْ لَمْ يَجِبْ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ (1)لَمَا وَجَبَ فِي مَسِيرَةِ أَلْفِ سَنَةٍ وَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مِنْهَا نَظِيرُ هَذَا الْيَوْمِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَمَا وَجَبَ فِي نَظِيرِهِ (2).
فصل
فإن قيل القرآن يمنع مما ذكرتم من وجوب التقصير لأنه تعالى قال وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ (3) و رفع الجناح يدل على الإباحة لا على الوجوب.قلنا هذه الآية غير متناولة لقصر الصلاة في عدد الركعات و إنما المستفاد منها التقصير في الأفعال من الإيماء و غيره لأنه تعالى علق القصر بالخوف و لا خلاف في أنه ليس الخوف من شرط القصر في عدد ركعات الصلاة و إنما الخوف شرط في الوجه الآخر و هو التقصير في الأفعال من الإيماء و غيره في الصلاة لأن صلاة الخوف قد أبيح فيها ما ليس مباحا مع الأمن.1.
ص: 143
و قال أبو جعفر الطوسي من تمم في السفر و قد تليت عليه آية التقصير و علم وجوبه وجب عليه إعادة الصلاة فإن لم يكن علم ذلك فليس عليه شيء و لم يفصل المرتضى في الإعادة بين الحالتين و كأنه للاحتياط.و من تمم في السفر الصلاة متعمدا يجب عليه الإعادة مع التقصير على كل حال و إن كان أتم ناسيا أعاد ما دام في الوقت و لا إعادة عليه بعد خروج الوقت و الحجة في ذلك زائدا على الإجماع المتردد أن فرض السفر ركعتان فيما كان أربعا في الحضر و ليس ذلك رخصة و إذا كان الفرض كذلك فمن لم يأت على ما فرض وجب عليه الإعادة.
فصل
و قوله تعالى وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ (1) .قال قوم كان ابن عمر يصلي حيث توجهت به راحلته في السفر تطوعا و يذكر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يفعل ذلك و يتأول عليه هذه الآية.فالمصلي نافلة على الراحلة و من يصلي صلاة شدة الخوف و من كان في السفينة ثم دارت يستقبل كل واحد من هؤلاء الثلاثة قبلته بتكبيرة الإحرام ثم يصلي كيف شاء و الآية تدل على جميع ذلك.و قيل نزلت في قوم صلوا في ظلمة و قد خفيت عليهم جهة القبلة فلما أصبحوا إذا هم صلوا يمين القبلة أو يسارها فأنزل الله الآية (2).و قيل المراد بقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أي فثم رضوان الله كما يقال هذا3.
ص: 144
وجه الصواب و قيل المراد به فثم جهة القبلة و هي الكعبة لأنه يمكن التوجه إليها من كل مكان.
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَدَّ عَلَى الْيَهُودِ لَمَّا أَنْكَرُوا تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ (1)لَيْسَ هُوَ فِي جِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ كَمَا يَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ (2). و قال الزجاج في قوله إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ إنه يدل على التوسعة للناس فيما رخص لهم في الشريعة.
فصل
و إذا نوى الإنسان السفر لا يجوز أن يقصر حتى يغيب عنه البنيان و يخفى عنه أذان مصره أو جدران بلده و الدليل عليه من القرآن قوله وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ .و من نوى السفر و لم يفارق موضعه فلا يجوز له القصر و إذا فارق بنيان بلده يجوز له التقصير.و لا يجوز أن يقصر ما دام بين بنيان البلد سواء كانت عامرة أو خرابا فإن اتصل بالبلد بساتين فإذا حصل بحيث لا يسمع أذان المصر قصر فإن كان دونه تمم.و من خرج من البلد إلى موضع بالقرب مسافة فرسخ أو فرسخين نيته أن ينتظر الرفقة هناك و المقام عشرا فصاعدا فإذا تكاملوا ساروا سفرا فيه يجب عليهم التقصير (3)و لا يجوز أن يقصر إلا بعد المسير من الموضع الذي يجتمعون فيه لأنه ما نوى بالخروج إلى هذا الموضع سفرا يجب فيه التقصير.».
ص: 145
و إن لم ينو المقام عشرة أيام هناك و إنما خرج نيته سفر بعيد إلا أنه ينتظر قوما يتصلون به هناك اليوم أو غدا فالظاهر أنه يقصر.و حكى قتادة عن أبي العالية أن قصر الصلاة في حال الأمن بنص القرآن قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ (1) هذا إذا كان التقصير يراد بها في السفر كما يراد في الشعر بعد الإحرام.
"وَ مِنْ شُجُونِ الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً لِقَوْلِهِ وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (2) فَاتَّخَذُوا مِيلاَدَ عِيسَى قِبْلَةً كَمَا سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفِ وُجُوهِهِمْ لِقَوْلِهِ وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (3) فَسَجَدُوا وَ جَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ بِحَرْفِ وُجُوهِهِمْ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً.
قال تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (4) .اعلم أن صلاة الخوف على ضربين أحدهما صلاة شدة الخوف و هو إذا كان في المسلمين قلة لا يمكنهم أن يفترقوا فرقتين فعند ذلك يصلون فرادى إيماء و يكون سجودهم على قربوس سرجهم فإن لم يتمكنوا من ذلك ركعوا و سجدوا بالإيماء و يكون سجودهم (5)
ص: 146
أخفض من ركوعهم فإن زاد الأمر على ذلك أجزأهم عن كل ركعة أن يقولوا سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و القصر في الآية التي تلوناها الآن هو هذا التفصيل.و الضرب الثاني هو إذا لم يبلغ الخوف إلى ذلك الحد و أرادوا أن يصلوا فرادى صلى كل واحد منهم صلاة تامة الركوع و السجود و يبطل حكم القصر إلا في السفر مع الانفراد ذكره الشيخ أبو جعفر في بعض كتبه.فإن أرادوا أن يصلوا جماعة نظروا فإن كان في المسلمين كثرة و العدو في جهة القبلة صلوا كما صلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله يوم بني سليم فإنه قام و المشركون أمامه يعني قدامه فصف خلف رسول الله صف و بعد ذلك الصف صف آخر فركع رسول الله و ركع الصفان ثم سجد و سجد الصف الذين يلونه و كان الآخرون يحرسونهم فلما فرغ الأولون مع النبي من السجدتين و قاموا سجد الآخرون (1)فلما فرغوا من السجدتين و قاموا تأخر الصف الذين يلونه إلى مقام الآخرين و تقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله و ركعوا جميعا في حالة واحدة ثم سجد و سجد معه الصف الذي يليه و قام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله و الصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا و تشهدوا جميعا فسلم بهم أجمعين (2).و إن كان العدو في خلاف جهة القبلة يصلون كما وصفه الله في كتابه حيث قال وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ (3) و هي مشروحة في كل كتاب.و إذا كان في المسلمين كثرة يمكنهم أن يفترقوا فرقتين و كل فرقة يقاوم العدو2.
ص: 147
جاز أن يصلي بالفرقة الأولى الركعتين و يسلم بهم ثم يصلي بالطائفة الأخرى الركعتين أيضا و يكون نفلا له و هي فرض للطائفة الثانية و يسلم بهم و هكذا صلى عليه السّلام بذات النخل (1).و هذا يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل و على عكسه.و صلاة الخوف مقصورة على وجهين سفرا و حضرا على ما تقدم.
فصل
و قوله تعالى وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ معناه و إذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك يا محمد أي المسافرين الخائفين عدوهم أن يفتنوهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ يعني أتممت لهم الصلاة بحدودها و ركوعها و سجودها و لم تقصرها القصر الذي يجب في صلاة شدة الخوف من الاقتصار على الإيماء فليقم طائفة من أصحابك الذين أنت فيهم معك في صلاتك و ليكن سائرهم في وجه العدو.و لم يذكر ما ينبغي أن يفعله الطائفة غير المصلية من حمل السلاح و حراسة المصلين لدلالة الكلام و الحال عليه لأنها (2)لا بد أن يكونوا آخذين السلاح.ثم قال وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ قال قوم الفرقة المأمورة في الظاهر هي المصلية مع رسول الله و السلاح مثل السيف يتقلد به و الخنجر يشده إلى درعه و كذا السكين و نحوه و هو الصحيح.قال ابن عباس الطائفة المأمورة بأخذ السلاح هي التي بإزاء العدو دون المصلية فإذا سجدوا يعني الطائفة التي قامت معك مصلية بصلاتك و فرغت من سجودها فليكونوا من ورائكم يعني فليصبروا بعد فراغهم من سجودهم مصافين».
ص: 148
للعدو.و عندنا أنهم يحتاجون أن يتموا صلاتهم ركعتين و الإمام قائم في الثانية و يطيل القراءة و ينوون هم الانفراد بها و قرءوا و ركعوا و سجدوا و تشهدوا فإذا سلموا انصرفوا إلى موضع أصحابهم و يجيء الآخرون فيستفتحون الصلاة فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية له و يطيل التشهد حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ثم سلم بهم الإمام.
فصل
و في كتاب المولد و المبعث لأبي محمد أحمد بن أعثم الكوفي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله صلى العصر كذلك في غزوة ذات الرقاع إذ حارب بني سعد و كان صلى رسول الله الظهر أربعا قبل أن تنزل الآية قال و هم المشركون أن يحملوا على المسلمين و هم في صلاة العصر و أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يصلي العصر بأصحابه فنزلت الآية و أسلم بعض الكفار بسبب ذلك ثم قال ابن أعثم فيجب على أهل الإسلام الآن إذا صلوا صلاة الخوف من عدو ثم فصل التفصيل الذي ذكره أبو مسلم بن مهرإيزد الأصفهاني في تفسيره أيضا قال إن النبي صلّى اللّه عليه و آله قام فصلى و قامت طائفة خلفه من المؤمنين و طائفة وجاه العدو فصلى بالطائفة التي خلفه ركعة و قام فأتمت الطائفة بركعة أخرى و سلمت و هو صلّى اللّه عليه و آله واقف يقرأ ثم انصرفت فقامت تجاه الكفار و أتت الطائفة التي كانت تلقاء العدو فصلى النبي بهم ركعة هي له ثانية و لهذه الطائفة الركعة الأولى و جلس حتى قاموا فصلوا ركعة ثانية وحدهم و هو قاعد يتشهد و يدعو لم يسلم حتى انتهت الطائفة الثانية إلى التسليم فسلم و سلموا معه بتسليمه.و هو اختيار الشافعي و مالك و هذه بعينها مذهبنا أمر بها أئمة أهل البيت عن رسول الله عن الله تعالى.
ص: 149
فصل
و من قال إن صلاة الخائف ركعة قال الأولون إذا صلوا ركعة فقد فرغوا و هذا عندنا إنما يجوز في صلاة شدة الخوف على بعض الوجوه.و في الناس من قال كان النبي صلّى اللّه عليه و آله صلى بهم ركعة فلما قام خرجوا من الجماعة و تمموا صلاتهم فعلى هذا صلاة الخائف ركعة في الجماعة و ركعة على الانفراد لكل واحدة من الفرقتين.و قوله وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ يجوز أن يرجع الضمير إلى جميع المسلمين من الفرقتين أي يأخذون السلاح و الحذر في حال الصلاة.و قوله وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ معناه تمنى الكافرون لو تعتزلون عن أسلحتكم و أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ أي يحملون عليكم حملة واحدة و أنتم متشاغلون بصلاتكم عن أسلحتكم و أمتاعكم فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم و يستبيحون عسكركم و ما معكم.و المعنى لا تشاغلوا بأجمعكم بالصلاة عند مواقفة العدو فتمكنون عدوكم من أنفسكم و أسلحتكم و لكن أقيموها على ما بينت وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ بأخذ السلاح.و من عادة العرب أن يقولوا ملنا عليهم أي حملنا عليهم
وَ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ (1)الْأَنْصَارِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ وَ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ غَداً عَلَى أَهْلِ مِنًى (2)بِأَسْيَافِنَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ (3). يعني في ذلك الوقت.2.
ص: 150
فصل
ثم قال تعالى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ (1) معناه لا حرج عليكم و لا إثم إن نالكم مطر و أنتم مواقفو عدوكم أو كنتم جرحى أن تضعوا أسلحتكم (2)إذا ضعفتم عن حملها لكن إذا وضعتموها فخذوا حذركم أي احترزوا منهم أن يميلوا عليكم و أنتم غافلون.و قال طائِفَةٌ أُخْرى و لم يقل طائفة آخرون ثم قال لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا حملا للكلام مرة على اللفظ و مرة على المعنى كقوله وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما (3) و مثله فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ (4) .و الآية تدل على نبوته صلّى اللّه عليه و آله فالآية نزلت و النبي بعسفان (5)و المشركون بضجنان (6)هموا أن يغيروا عليهم فصلى بهم العصر صلاة الخوف.و قال قوم اختص النبي بهذه الصلاة و الصحيح أنه يجوز لغيره.و قال قوم في قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا يعني في عددها فيصلوا الرباعيات ركعتين و ظاهرها يقتضي أن التقصير لا يجوز إلا إذا خاف المسافر لأنه قال إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ و لا خلاف اليوم أن الخوف ليس بشرط فيه لأن3.
ص: 151
السفر المخصوص بانفراده سبب التقصير.و الصحيح أن فرض السفر مخالف لفرض المقيم و ليس ذلك قصرا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ غَيْرُ قَصْرٍ. و أما الخوف بانفراده فإنه يوجب القصر.و معنى قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا أي من حدود الصلاة في صلاة شدة الخوف.
وَ رُوِيَ: أَنَّ يَعْلَى بْنَ مُنَبِّهٍ (1)قَالَ لِعُمَرَ كَيْفَ تُقَصِّرُ الصَّلاَةَ فِي السَّفَرِ وَ قَدْ أَمِنَّا فَقَالَ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ (2). و لا يقرأ أبي في الآية إِنْ خِفْتُمْ .
فصل
و قوله فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ (3) .المعنى أيها المؤمنون إذا فرغتم من صلاتكم و أنتم مواقفو عدوكم فاذكروا الله في حال قيامكم و في حال قعودكم و مضطجعين على جنوبكم و ادعوا لأنفسكم بالظفر على عدوكم لعل الله ينصركم عليهم و هو كقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللّهَ (4) .5.
ص: 152
ثم قال فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معناه إذا استيقنتم بزوال الخوف من عدوكم و حدوث الأمن لكم فأتموا الصلاة بحدودها غير قاصريها عن شيء من الركوع و السجود و إن كنتم صليتم إيماء بعضها و هذا أقوى من قول من قال معناه إذا استقررتم في أوطانكم فأتموها التي أذن لكم في قصرها في حال خوفكم و سفركم لأنه قال وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فلما قال فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ كان معلوما أنه تعالى يريد إذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا فيها مقيمين صلاتكم فأقيموها مع حدودها قاصرين لها.
فصل
و قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً (1) يدل على ما ذكرناه من صلاة شدة الخوف لأن معناه إن خفتم فصلوا على أرجلكم لأن الراجل هو الكائن على رجله واقفا كان أو ماشيا.و الخائف إن صلى منفردا صلاة شدة الخوف الذي نقوله إنه يصلي ركعتين يومئ إيماء و يكون سجوده أخفض من ركوعه و إن لم يتمكن كبر عن كل ركعة تكبيرة على ما ذكرناه و هكذا صلاة شدة الخوف إذا صلوها جماعة و إلى هذا ذهب الضحاك و إبراهيم النخعي.و روي أن أمير المؤمنين عليه السّلام صلى ليلة الهرير و يومه خمس صلوات بالإيماء و قيل بالتكبير (2)و أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله صلى يوم الأحزاب إيماء.و قال الحسن و قتادة و ابن زيد يجوز أن يصلي الخائف ماشيا و قال أهل العراق لا يجوز لأن المشي عمل و الأول أصح لأنه تعالى قال ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (3) .8.
ص: 153
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْقَصْرَ فِي قَوْلِهِ وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا (1) الْمُرَادُ بِهِ صَلاَةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ يُقَصِّرُ مِنْ حُدُودِهَا وَ يُصَلِّيهَا إِيمَاءً. و هو مذهبنا.ثم قال فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ قيل إنه الصلاة أي فصلوا صلاة الأمن و اذكروه بالثناء عليه و الحمد له
قال الله تعالى وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً (2) .قال الخليل التقدير و لكن المساجد لله أخبر تعالى ألا يذكر مع الله في المساجد التي هي المواضع التي وضعت للصلاة أحد كما يدعو النصارى في بيعهم و المشركون في الكعبة.و قيل من السنة أن يقال عند دخول المسجد لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحدا.و قيل معناه يجب أن يدعوه بالوحدانية و من هنا لا ينبغي للإنسان أن يشتغل بشيء من أمور الدنيا في المساجد.ثم رغب الله بقوله وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ (3) فيما يستحب من الأدعية عند دخول المساجد المروية فإنه أمر منه تعالى و ترغيب بهذا الدعاء و بغيره إذا دخل مسجدا أو غيره و إذا خرج.و لذلك رغب في المشي إلى المساجد للصلاة فيها و العبادات بقوله تعالى
ص: 154
وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ (1) قال مجاهد إنا نأمر ملائكتنا ليثبتوا جميع أفعالهم الصالحة حتى مشيهم إلى المساجد فإن بني سلمة من الأنصار شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد منازلهم فنزلت الآية (2).و آثارَهُمْ أي خطاهم فمن مشى إلى مسجد كان له بكل خطوة أجر عظيم.
فصل
و قوله تعالى قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (3) .يأمر المكلفين أن يقيموا وجوههم عند كل مسجد أي يتوجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على الاستقامة.و قال الفراء معناه إذا دخل عليك وقت صلاة في مسجد فصل فيه و لا تقل آتي مسجد قومي.و قيل أي توجهوا بالإخلاص لله و لا تشتغلوا بما لا يليق فعله في المساجد من المكروهات و المحظورات بل من المباحات التي لا يستقبح في غير المتعبدات.و لا يختلف المعنى سواء كان مسجد مصدرا أو مكانا أو زمانا فالمصدر عبارة عن الصلاة و أن لا يسجدوا إلا لله أي كلما صليتم فأقيموا وجوهكم لله أي فلا تصلوا إلا لله و أقبلوا بصلاتكم عليه و لا تشغلوا قلوبكم بغيره و أما المكان فعلى معنى كل مكان تصلون فيه و يؤول المعنى إلى الأول و كذا إذا أريد به الزمان أي في أوقات صلاتكم أقيموا وجوهكم لله.9.
ص: 155
فصل
و قوله يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (1) أمر منه تعالى للمكلفين بالاستتار في الصلاة و في المساجد ففي الآية دلالة على أنه لا يجوز كشف الركبة أو الفخذ و لا السرة في شيء من المساجد فضلا عن كشف العورة فيها.و قوله تعالى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ (2) قيل أراد بالبيوت المساجد أي إذا دخلتموها فسلموا على من فيها من المؤمنين الذين هم بمنزلة أنفسكم و إذا دخلتموها و لم يكن فيها أحد فقولوا السلام علينا و على عباد الله الصالحين فهذا على الحقيقة و الأول مجاز و كلاهما يجوز أن يكون مرادا.و قوله تعالى وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (3) .أمرهم الله أن يصلوا في بيوتهم و يجعلوا في البيوت قبلة أي مصلى إذا كانوا خائفين و هذا رخصة و كل ما يعلم صحة كونه في شريعة نبي و لا يعرف فيه نسخ و لم يرد فيه نهي فالأصل فيه أنه باق على حاله.
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ أَمَرَ بِهَدْمِ مَسَاجِدِهِمْ وَ أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ. و قد تقدم في قوله وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ أنه يمكن أن يستدل به على أنه ينبغي أن يجنب المساجد البيع و الشراء و إنشاد الشعر و رفع الأصوات و غير ذلك مما هو محظور أو مكروه و لذلك استدل قوم بهذه الآية على أنه يكره في المساجد.7.
ص: 156
فصل
و قوله تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (1) .المراد بذلك مشركو العرب من قريش لأنهم صدوا النبي صلّى اللّه عليه و آله عن المسجد الحرام و هو المروي عن الصادق عليه السّلام (2)و قيل أراد جميع المساجد و قيل إنهم الروم غزوا بيت المقدس و سعوا في خرابه و قيل هو بخت نصر (3)خرب بيت المقدس.و إذا صح وجه منها لا يجب الاقتصار عليه لأن نزول حكم في سبب لا يوجب الوقوف عليه و يجوز أن يعنى غيره للعموم أ لا ترى إلى قوله يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ نزل في الصوم فلما كانت الآية عامة و إن وردت في سبب وجب حملها على عموم اللفظ دون خصوص السبب.و قال الطبري إن كفار قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام (4)و هذا ليس بشيء لأن عمارة المسجد بالصلاة فيه و خرابه المنع من أن يصلى فيه على أنهم قد هدموا مساجد كانت بمكة كان المسلمون يصلون فيها لما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.و ذكر المساجد لأن كل موضع منه مسجد ثم يدخل في خرابه خراب جميع المساجد.1.
ص: 157
فصل
و قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (1) .أمر المؤمنين بمنع الكفار من مقاربة المسجد الحرام لطواف و غيره و قيل إنهم منعوا من الحج فأما دخولهم للتجارة فلم يمنعوا منه يبين ذلك قوله وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ .و قوله بَعْدَ عامِهِمْ هذا هي سنة تسع من الهجرة التي تبدأ فيها براءة المشركين.و ظاهر الآية أن الكفار أنجاس لا يمكنون من دخول مسجد و قال عمر بن عبد العزيز و لا يجوز أن يدخل المسجد أحد من اليهود و النصارى و غيرهم من الكفار و نحن نذهب إليه.و إنما قال إِنْ شاءَ لأن منهم من لم يبلغ الموعود بأن يموت قبله و قيل إنما ذكره لتنقطع الآمال إلى الله كما قال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ (2) .و قوله ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ (3) نادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن لا يحج مشرك بعد العام فإن دخل مسجدا منهم داخل كان على المسلمين أن يمنعوه فإن أدخل إلى حاكم المسجد الذي يحكم فيه فلا يقعد مطمئنا فيه بل ينبغي أن يكون خائفا من الإخراج على وجه الطرد.4.
ص: 158
فصل
و قوله تعالى وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً (1) أي بنوه للإضرار و الكفر و التفريق بين المؤمنين فإنهم إذا تحزبوا فصلى حزب هنا و حزب يصلي في غيره اختلفت الكلمة و بطلت الألفة.و إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ هو أبو عامر الراهب لحق بقيصر متنصرا و كان يبعث إليهم سآتيكم بجند فأخرج محمدا فبنوه يترقبونه و هو الذي حزب الأحزاب مع المشركين فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الروم و ابنه عبد الله أسلم و قتل يوم أحد و هو غسيل الملائكة و وجه رسول الله عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني و مالك بن الدخشم و كان مالك من بني عوف الذين بنوا مسجد الضرار فقال لهما انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه ففعلا ما أمر به (2)فقال تعالى لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً نهى نبيه و جميع المؤمنين أن يقوموا في مثل هذا المسجد و يصلوا فيه و أقسم أن المسجد الذي أسس على التقوى أحق أن يقوم فيه هو مسجد قبا و قيل مسجد المدينة و سبب ذلك أنهم قالوا بنينا للضعيف في وقت المطر نسألك يا رسول الله أن تصلي فيه و كان توجه إلى تبوك فوعدهم أن يفعل إذا عاد فنهي عنه
قال الله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (3) أي فصل لربك صلاة العيد و انحر
ص: 159
الأضاحي و انحر أعم نفعا من النسك.و هذه الصلاة واجبة عند حصول شرائطها و هي شرائط الجمعة و تستحب تلك الصلاة إذا اختل شرائطها.و قوله تعالى لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ (1) قال الحسن ذبح قوم قبل صلاة العيد يوم النحر فأمروا بإعادة ذبيحة أخرى و قال الزجاج معناه لا تقدموا أعمال الطاعة حتى لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها.و التكبيرات المأمور بها في العيدين يدل عليها بعد إجماع الطائفة قوله وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ (2) .و إذا أجدبت البلاد يستحب صلاة الاستسقاء قال الله تعالى وَ سْئَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ (3) و مثله من الآيات يدل على استحبابها.و ما روي أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله صلاها و قال تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يدل عليها و على جميع ما يستحب من الصلوات المندوبة كصلاة الاستخارة و الحاجة فقد أمر بهما رسول الله عن الله و قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .و قوله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ (4) أي صل شكرا له على ما جدد لك من نعمه و هذا يدل على أن صلاة الشكر مستحبة.و كذلك صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلاة الكسوف و فعله بيان (5)».
ص: 160
لقوله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ و قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .و لما حولت القبلة إلى الكعبة كانوا لا يعتبرون بطاعة إلا بالصلاة إلى الكعبة قال تعالى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ (1)
"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ الْبِرُّ كُلُّهُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الصَّلاَةِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَ لَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ إِنَّ هَذِهِ تَدْعُو إِلَى الصَّلاَحِ وَ تَصْرِفُ عَنِ الْفَسَادِ وَ إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَزْمَانِ.
يدل على أربعة أحكام مفروضة في حق المؤمن إذا مات قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قد بين رسول الله تغسيله و تكفينه و الصلاة عليه و دفنه و فرضها على الكفاية و قد بينها بقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .فإذا مات كافر أو منافق فلا يجب شيء من ذلك على الأحياء قال تعالى وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ (2) [و هذا نهي من الله لنبيه أن يصلي على منافق أو يقوم على قبره] (3)أي لا تتول دفنه كما يقال قام فلان بكذا (4).
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ قَبْلَ أَنْ نُهِيَ عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ.
ص: 161
و كان الشيخ المفيد يستدل بفحوى هذه الآية على وجوب القيام بدفن المؤمنين و الصلاة عليهم لأنه كان يقول بدليل الخطاب و يجعله دليلا و منع منه المرتضى و توقف فيه أبو جعفر الطوسي و كذا حالهم في استصحاب الحال.و القيام في الآية يجوز أن يكون الذي هو مقابل الجلوس و يكون معناه لا تقف عند قبره و من قولهم قام بكذا إذا ثبت على صلاحه و يكون القبر مصدرا على هذا أي لا تتول دفن ميت منهم و المفسرون كلهم على أن المراد بذلك الصلاة التي تصلى على الموتى و كان صلاة أهل الجاهلية على موتاهم أن يتقدم رجل فيذكر محاسن الميت و يثني عليه ثم يقول عليك رحمة الله.و قوله إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ كسرت إن و فيها معنى العلة لتحقيق الإخبار بأنهم على هذه الصفة و يدل ذلك على أن الصلاة على الميت عبادة.
فصل
و قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (1) يدل بعمومه على أن أحق الناس بالصلاة على الميت وليه و هو أولى بها من غيره.و قوله تعالى وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ (2) الآية.
"قَالَ جَابِرٌ وَ غَيْرُهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ أَخْبَرَهُ بِوَفَاةِ النَّجَاشِيِّ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَ رَفَعَ اللَّهُ الْحِجَابَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ جِنَازَتِهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَ دَعَا لَهُ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُ وَ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ صَلُّوا عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ1.
ص: 162
يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ بِنَجْرَانَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ (1). و الصفات التي ذكرت في الآية هي صفات النجاشي.و قال مجاهد نزلت في كل من أسلم من اليهود و النصارى و لا مانع من هذا أيضا لأن الآية قد تنزل على سبب و تكون عامة في كل ما تتناوله.و يجوز أن يصلى على الجنازة بالتيمم مع وجود الماء إذا خيف فوت الصلاة عليه و بذلك آثار عن أئمة الهدى عليهم السّلام و كأنه استثناء من قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية.على أن هذا قد ورد في الصلاة المطلقة و الصلاة على الجنائز صلاة مقيدة فأما التيمم فيها فلإجماع الطائفة.و أما التكفين فإنه يدل عليه من القرآن قوله يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ (2) الآية تعم الأحياء و الأموات لأنه تعالى لم يفصل فدل على وجوب الكفن عمومها.و أما الدفن فالدليل عليه من كتاب الله قوله أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً (3) فالكفات الضمائم و الوعاء (4)أي تضمهم في الحالين فظهرها للأحياء و بطنها للأموات.و قوله تعالى ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (5) فالمقبر الآمر بالدفن و القابر الدافن.1.
ص: 163
و قوله تعالى فَبَعَثَ اللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ (1) هو أول ميت كان من الناس فلذلك لم يدر أخوه كيف يواريه و كيف يدفنه حتى بعث الله غرابان أحدهما حي و الآخر ميت فنقر في الأرض حتى جعل حفيرة و وضع الميت فيه و واراه بالتراب إلهاما من الله
اَلصَّلاةِ الْوُسْطى أي الفضلى من قولهم الأفضل الأوسط و إنما أفردت و عطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل.
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ نَاراً ثُمَّ قَالَ إِنَّهَا الصَّلاَةُ الَّتِي شُغِلَ عَنْهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (2) . و روي في قوله وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا (3).
مسألة
دلكت الشمس زالت أو غربت فإذا كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس لأن الغسق الظلمة و هو وقت صلاة العشاءين و قرآن الفجر صلاة الغداة و إذا كان الدلوك الغروب خرجت منها صلاة الظهر و العصر.
ص: 164
و قوله تعالى وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ يجوز أن يكون حثا على طول القراءة فيها و كذلك كانت صلاة الفجر أطول الصلوات قراءة. وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ أي و عليك بعض الليل فتهجد به و التهجد ترك الهجود و هو النوم للصلاة.و نافِلَةً أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس و وضع نافلة موضع تهجد لأن التهجد عبادة زائدة فنافلة مصدر من غير لفظ الفعل قبله.
مسألة
فإن قيل أي فائدة في إخبار الله بقول اليهود أو المنافقين أو المشركين قبل وقوعه فقال سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها (1) .قلنا فائدته أن مفاجأة المكروه أشد و العلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدمه من توطين النفس فإن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم و أرد لسعيه و قبل الرمي يراش السهم. ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ و هي بيت المقدس. لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ أي الأرض كلها يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و هو ما توجبه الحكمة و المصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس و أخرى إلى الكعبة
مسألة
وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها قال بعض المفسرين قوله اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ليست بصفة القبلة إنما هي ثاني مفعولي جعل يريد و ما جعلنا2.
ص: 165
القبلة الجهة التي كنت عليها و هي الكعبة لأن رسول الله كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود ثم تحول إلى الكعبة فيقول و ما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة يعني و ما رددناك إليها إلا امتحانا للناس كقوله وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً (1) .و يجوز أن يكون بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس [قبلته يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة و أن استقبالك بيت المقدس] (2)كان أمرا عارضا لغرض و إنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا و هي بيت المقدس لنمتحن الناس.
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ قِبْلَتُهُ بِمَكَّةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الْقِبْلَةَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ.
مسألة
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه و قرأ أبي تلقاء المسجد الحرام .و شطر نصب على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد الحرام أي في جهته و سمته لأن استقبال عين الكعبة فيه حرج عظيم على البعيد.و ذكر المسجد الحرام دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين فعلى هذا الكعبة قبلة من كان في المسجد الحرام و المسجد قبلة من كان في الحرم و الحرم قبلة من نأى من أي جانب كان و هو شطر المسجد و تلقاؤه و قراءة أبي وَ لِكُلٍّ قِبْلَةٌ إشارة إلى ما ذكرنا.و قوله تعالى هُوَ مُوَلِّيها أي هو موليها وجهته فحذف أحد المفعولين.ج.
ص: 166
و قيل هو لله أي الله موليها إياه على أن القراءة العامة يجوز أن يراد بها ذلك أيضا و يكون المعنى و لكل منكم يا أمة محمد وجهة أي جهة تصلى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية أينما تكونوا يجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة و كأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.
مسألة
و عن أبي حنيفة يجوز أن يصلى الفريضة في جوف الكعبة و عندنا لا يجوز و بذلك نصوص عن أئمة الهدى
و يؤيده قوله وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و قد بينا أن المراد به نحوه و من كان في جوف الكعبة لم يكن مصليا نحوها على أنه قد ورد النص بأنه يصلى النوافل في الكعبة.و قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يدل على أن البعيد من مكة يتوجه إلى المسجد فإنه لا يمكنه التوجه إلى عين الكعبة إلا لمن يقربها.
مسألة
ص: 167
مسألة
قوله تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ يجوز أن يكون أن يذكر ثاني مفعول منع و يجوز أن يكون مفعولا له. وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ أي بلادهما ففي أي مكان فعلتم التولية يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أي جهته التي أمر بها و رضيها و المعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام قد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها و افعلوا التولية منها فإنها ممكنة في كل مكان.
مسألة
قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الصَّلاَةُ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ صَلاَةُ السَّفَرِ وَ صَلاَةُ الْحَضَرِ وَ صَلاَةُ الْخَوْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ وَ صَلاَةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ وَ صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ وَ الصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ (1).
مسألة
و قوله اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (2) تفصيل هذه الجملة ما
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِعِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ صَلِّ قَائِماً فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ تُومِي إِيمَاءً (3).2.
ص: 168
مسألة
و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ المراد بالنداء الأذان هاهنا و من في قوله مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان لإذا و تفسير له.و قيل إن الأنصار قالوا إن لليهود يوما يجتمعون فيه في كل سبعة أيام و النصارى كذلك فاجتمعوا يوم العَرُوبة إلى سعد بن زرارة فأنزل الله آية الجمعة.و أول جمعة جمعها رسول الله هي أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف و أقام بها يوم الإثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و أسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم فخطب و صلى الجمعة.و قد أبطل الله قول اليهود حين افتخروا بالسبت و أنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
مسألة
[قال أبو حنيفة] (1)لا تجب الجمعة إلا على أهل الأمصار فأما من كان موضعه منفصلا عن البلد فإنه لا يجب عليه و إن سمع النداء.و عندنا و عند الشافعي تجب على الكل إذا بلغوا العدد الذي تنعقد به الجمعة مع الشرائط الأخر
يؤيده قوله إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ يعم الأمر بذلك كل متمكن من سماع النداء إلا من خصه الدليل.
وَ كَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ (2). ثم استثنى أشياء و بقي هذا على العموم.».
ص: 169
مسألة
و قوله وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ (1) الضرب في الأرض السفر و قال الفقهاء القصر ثابت بالكتاب مع الخوف و بالسنة في حال الأمن.فإن قيل كيف جمع بين الحذر و الأسلحة في قوله وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ (2) .قلنا جعل الحذر و هو التحرز و التيقظ آلة يستعملها الغازي فلذلك جمع بينه و بين الأسلحة في الأخذ و جعلا مأخوذين و نحوه قوله وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَ الْإِيمانَ (3) جعل الإيمان مستقرا لهم و متبوئا لتمكنهم فيه.
مسألة
و قوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (4) ليس بتهجين بل هو ثناء عليه و تحسين لحاله التي كان عليها ثم أمره بأن يختار على الهجود التهجد و على التزمل التشمر لا جرم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقبل على إحياء الليالي مع إصباحه حتى ظهرت السماء في وجوههم.و ترتيل القرآن قراءته على تؤدة بتبيين الحروف و إشباع الحركات حتى يجيء المتلو كالثغر المرتل و تَرْتِيلاً تأكيد لقوله وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ في إيجاب الأمر به و أنه مما لا بد منه للقارئ.
مسألة
وَ عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَ يَقُولُ أَ مَا سَمِعْتُمْ1.
ص: 170
قَوْلَ اللَّهِ إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هَذِهِ ناشئة اللَّيْلِ.
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: تَنَفَّلُوا فِي سَاعَةِ الْغَفْلَةِ وَ لَوْ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُورِثَانِ دَارَ الْكَرَامَةِ وَ دَارَ السَّلاَمِ وَ هِيَ الْجَنَّةُ وَ سَاعَةُ الْغَفْلَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَ الْعِشَاءِ (1).
مسألة
و قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أخبر تعالى بثبات الفلاح لهم.و الخشوع في الصلاة خشية القلب و إلزام البصر موضع السجود و من الخشوع أن يستعمل الآداب فيتوقى لف الثياب و العبث بالجسد و الثياب و الالتفات و التمطي و التثاؤب و التغميض و الفرقعة و التشبيك و تقليب الحصى و كل ما لا يكون من الصلاة.و إضافة الصلاة إليهم لأنهم ينتفعون بها و هي ذخيرة لهم و الله متعال عن الحاجة3.
ص: 171
قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (1) .فقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ يقتضي الوجوب من وجهين أحدهما كُتِبَ و هو في الشرع يفيد الإيجاب كما قيل المكتوبة في فريضة الصلوات و الثاني عَلَيْكُمُ لأنه يبنى على الإيجاب أيضا كقوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (2) و إذا جمع بينهما فالدلالة على الإيجاب أوكد.و معنى كُتِبَ فرض و أوجب و عبر عن الفرض بالكتب لأن المكتوب أبقى و أثبت و يجوز أن يكون معناه كتب في اللوح المحفوظ أنكم تتعبدون بذلك.و المراد فرض عليكم الصوم أياما معدودة كما فرض على من كان قبلكم أياما معدودة
ص: 172
و إن زاد و نقص و اختلفت الأيام فالتشبيه واقع على جملة أمر الصوم لا على جميع أوقاته و أحكامه.لتتقوا النار التي أعدت للكافرين (1)أي توقوا أنفسكم عذاب النار فالصوم جنة فأوجب الله فرض الصيام على جميع المؤمنين بعموم اللفظ المنتظم للجميع و عم به جميع المؤمنات لمعرفة تغليب المذكر على المؤنث إذا اجتمعوا و بقرينة الإجماع إلا من خصه من الجميع في الآية التي تعقب ما تلوناه و ما يتبعها من السنة على لسان رسول الله صلّى اللّه عليه و آله.ثم قال مفسرا ما أجمله ضربا من التفسير أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (2) الآية فبين أن الفرض متعلق بأزمان مخصوصة و كشف عما يختص بالخروج عن فرضه في الحال من المرضى و المسافرين و إن كان ألزمهم إياه بعد الحال.
فصل
ثم قال وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ رخص في صدر الإسلام للمشاهدين له من أهل السلامة و الصحة من الأمراض إفطاره على التعمد على شرط قيامهم بفدية الإفطار من الإطعام و دل على أن الصوم له مع ذلك أفضل عنده و أولى من الفدية للإفطار.ثم نسخ تعالى ذلك بما أردفه من الذكر من القرآن فقال شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ4.
ص: 173
اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (1) الآية.فأوضح بها عن بقية تفسير الإجمال فيما أنزله أولا من فرض الصيام و بين أنه في أيام معدودات يجب فعله في شهر على التمام بما ذكر في العدة من فرض الكمال و حظر ما كان أباحه من قبل من الإفطار للفدية مع طاقة الصيام بإلزامه الفرض للشاهد في الزمان مع السلامة من العلل و الأمراض و أكد خروج المرضى و المسافرين من فرضه في الحال بتكرار ذكرهم للبصيرة و البيان و أبان عن علة خروجهم بما وصف من إرادتهم به تعالى لهم اليسر و كراهة العسر عليهم زيادة منه في البرهان.و جاء في التفسير أن ما جاء في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فإنها مدنية و ما فيه يا أَيُّهَا النّاسُ (2) مكية.و الصوم شرعا إمساك مخصوص عن أشياء مخصوصة و من شرط انعقاده النية و لأن تفسير الصوم بالصبر أولى لقوله تعالى وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (3) فقد قال المفسرون إن الصبر في الآية هو الصوم و لا يوهم أنه ترك
قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .و فيه ثلاثة أقوال أحسنها أنه كتب عليكم صيام أيام و كما محله نصب صفة مصدر محذوف أي فرض عليكم فرضا مثلما فرض على الذين من قبلكم.
ص: 174
و يحتمل أن يكون أيضا من الحال للصيام و تقديره كتب عليكم الصيام مفروضا في هذه الحال.و الثاني ما قاله الحسن إنه فرض علينا شهر رمضان كما كان فرض شهر رمضان على النصارى و إنما زادوا فيه و حولوه إلى زمان الربيع.و الثالث ما قاله جماعة إنه كان الصوم من العتمة إلى العتمة لا يحل بعد النوم مأكل و لا مشرب و لا منكح ثم نسخ و الأول هو المعتمد.و قال مجاهد المعني بالذين من قبلكم أهل الكتاب و قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تتقوا المعاصي بفعل الصوم و قال السدي لتتقوا ما حرم عليكم من المأكل و المشرب و قال قوم معناه لتكونوا أتقياء مما لطف بكم في الصيام لأنه لو لم يلطف بكم لم تكونوا أتقياء.و إنما قلنا إن الأول أصح لأنه يصح ذلك في اللغة إذا فرض عليهم صيام أيام كما فرض علينا صيام أيام و إن اختلف ذلك بالزيادة و النقصان.و قوله أَيّاماً مَعْدُوداتٍ قال الفراء إنه مفعول كقولك أعطى زيد المال و قال الزجاج هو ظرف كأنه قيل الصيام في أيام معدودات و إذا كان المفروض في الحقيقة هو الصيام دون الأيام فلا يجوز ما قاله الفراء إلا على سعة الكلام.و قال عطاء و ابن عباس أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ و قال ابن أبي ليلى المعني به شهر رمضان و إنما كان صيام ثلاثة أيام تطوعا.
وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كَانَ وَاجِباً صَوْمُهُ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ دُونَ أُمَّتِهِ وَ إِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَى أُمَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَحَسْبُ (1).ظ.
ص: 175
فصل
و قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ تقديره فعليه عدة من أيام أخر.و هذه الآية فيها دلالة على أن المسافر و المريض يجب عليهما الإفطار لأنه تعالى أوجب القضاء عليهما مطلقا و كل من أوجب القضاء بنفس السفر و المرض أوجب الإفطار و أوجب داود القضاء و خير في الإفطار فإن قدروا في الآية فأفطر على تقدير فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كان ذلك خلاف ظاهر الآية و خروجا عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل.و بوجوب الإفطار في السفر قال عمر بن عبد العزيز و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس و عبد الرحمن بن عوف و أبو هريرة و عروة بن الزبير و هو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام.و روي عن عمر أن رجلا صام في السفر فأمره أن يعيد صومه.
"وَ رَوَى يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ قَالَ أَ رَأَيْتَ لَوْ تَصَدَّقْتَ عَلَى رَجُلٍ بِصَدَقَةٍ فَرَدَّهَا عَلَيْكَ أَ لاَ تَغْضَبُ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكُمْ.
"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ عَزِيمَةٌ.
وَ رَوَى ابْنُ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ. و روى عطا عن المحرز بن أبي هريرة قال كنت مع أبي في سفر في شهر رمضان فكنت أصوم و يفطر فقال أبي أما إنك إذا أقمت فصليت و صام رجل في السفر فأمره عروة أن يقضي.
ص: 176
وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كَانَ أَبِي عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاَ يَصُومُ فِي السَّفَرِ وَ يَنْهَى عَنْهُ. و قال الطبري إنه لم ينقطع العذر برواية صحيحة أنه كان هاهنا صوم متعبد فنسخه الله بشهر رمضان.
فصل
و قوله تعالى وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الهاء عائدة على الصوم و قيل عائدة على الفداء لأنه معلوم و إن لم يجر له ذكر و الأول أقوى.و قال الحسن و أكثر أهل التأويل إن هذا الحكم كان في المراضع و الحوامل و الشيخ الكبير فنسخ من الآية المراضع و الحوامل و بقي الشيخ الكبير.
وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ذَلِكَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ يُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً مِنْهُمْ مِنْ مَالٍ نِصْفَ صَاعٍ وَ هُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ. و قال الشافعي مد عن كل يوم و عندنا مدان إن كان قادرا و إن لم يقدر إلا على مد أجزأه.
وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَعْنَاهُ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ ثُمَّ أَصَابَهُمْ كِبَرٌ أَوْ عُطَاشٌ وَ شِبْهُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مُدٌّ (1). قال السدي لم تنسخ إنه كان فيمن يطيقه فصار إلى حال العجز عنه و إنما المعنى و على الذين يطيقونه ثم صاروا بحيث لا يطيقونه.و قوله فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي و من جمع بين الصوم و الصدقة و قيل من أعطى أكثر من مسكين.و المعني بقوله وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أنه سائر الناس كان في أول الإسلام من شاء صام و من شاء أفطر و افتدى لكل يوم طعام مسكين حتى نسخ ذلك.ف.
ص: 177
و فَمَنْ تَطَوَّعَ من للجزاء أو بمعنى الذي.و قوله فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ (1) أي لكل يوم يفطر طعام مسكين و من أضاف و جمع المساكين فمعنى قراءته يؤول إليه أيضا لأنه إذا قيل إطعام مساكين للأيام بمعنى لكل يوم إطعام مسكين صار المعنى واحدا. وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي و صومه خير لكم من الإفطار و الفدية و كان هذا مع جواز الفدية فأما بعد النسخ فلا يجوز أن يقال الصوم خير من الفدية مع أن الإفطار لا يجوز له أصلا.
فصل
و قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2) .قيل في معناه قولان أحدهما من شاهد منكم الشهر مقيما فليصمه و ثانيهما من شهده بأن حضره و لم يغب لأنه يقال شاهد بمعنى حاضر و يقال بمعنى مشاهد.و عندنا أن من دخل عليه الشهر كره له أن يسافر حتى يمضي ثلاث و عشرون من الشهر إلا أن يكون سفرا واجبا كالحج (3)أو تطوعا كالزيارة فإن لم يفعل و خرج قبل ذلك في مباح أيضا كان عليه الإفطار و لم يجزه الصوم.و قال أكثر المفسرين فمن شهد الشهر بأن دخل عليه شهر رمضان و هو حاضر فعليه أن يصوم كله.و شَهْرُ رَمَضانَ خبر مبتدإ أي هي شهر رمضان يدل عليه أياما معدودات و قيل بدل من قوله اَلصِّيامُ و تقديره كتب عليكم شهر رمضان أو صوم شهر رمضان على حذف المضاف.ه.
ص: 178
و قوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ نُجُوماً (1). و قيل ابتدئ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان (1).فإن قيل كيف يجوز أن يقال أنزل في ليلة واحدة و في الآية إخبار عما كان و لا يصلح ذلك قبل أن يكون.قلنا يجوز ذلك كما قال تعالى وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ (2) أي إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الجنة أصحاب النار و مثله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ (3) و لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ (4) على أنه إذا كان وقت كذا أنزل لقد نصركم الله و الحكمة في أثنائه على اللوح المحفوظ ليكون لطفا للملائكة.و على هذا مسألة و هي أن بيان الأحكام الشرعية إنما يكون بالمواضعة و بما يتبع ذلك فالأول مثاله الكلام و الكتابة و الثاني هو الإشارة و الأفعال فالنبي صلّى اللّه عليه و آله يصح أن يبين الأحكام بالوجوه الأربعة و لا يصح البيان من الله إلا بالكلام و الكتابة (5)فإن الإشارة لا تجوز عليه و الأفعال التي تكون بيانا يقتضي مشاهدة فاعلها على بعض الوجوه و ذلك يقتضي مشاهدته أما الكتابة فقد بين الله تعالى للملائكة بها في اللوح المحفوظ.و قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ناسخ للفدية على قول من قال بالتخيير على ما تقدم و ناسخ للفدية أيضا في المراضيع و الحوامل عند من ذهبج.
ص: 179
إليه و بقي الشيخ له أن يطعم و لم ينسخ.و عندنا أن المرضعة و الحامل إذا خافتا على ولديهما أفطرتا و كفرتا و كان عليهما القضاء فيما بعد إذا زال العذر و به قال جماعة من المفسرين كالطبري و غيره.
فصل
و قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ قد بينا أنه يدل على وجوب الإفطار في السفر لأنه أوجب القضاء بنفس السفر و المرض و كل من قال ذلك أوجب الإفطار و من قدر في الآية فأفطر فعدة من أيام أخر زاد في الظاهر ما ليس منه.فإن قيل هذا كقوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ (1) فمعناه فحلق ففدية من صيام.قلنا إنما قدرنا هناك فحلق للإجماع على ذلك و ليس هنا إجماع فيجب أن لا يترك الظاهر و لا نزيد فيه ما ليس منه.
وَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ حَدِّ الْمَرَضِ الَّذِي عَلَى صَاحِبِهِ فِيهِ الْإِفْطَارُ فَقَالَ هُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ ضَعْفاً فَلْيُفْطِرْ وَ إِنْ وَجَدَ قُوَّةً فَلْيَصُمْ كَانَ الْمَرِيضُ عَلَى مَا كَانَ (2)بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . و روي أن ذلك كل مرض لا يقدر معه على القيام بمقدار زمان صلاة (3).و قيل ما يخاف الإنسان معه الزيادة المفرطة في مرضه.7.
ص: 180
فصل
و قوله يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك اليسر في الآية الإفطار في السفر و العسر الصوم فيه و في المرض و العدة المأمور بإكمالها المراد بها أيام السفر أو المرض التي أمر بالإفطار فيها.و قوله وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عطف على تأويل محذوف دل عليه ما تقدم من الكلام لأنه لما قال يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ دل على أنه فعل ذلك ليسهل عليكم فجاز و لتكملوا العدة.و قيل هو عطف جملة على جملة لأن بعده محذوفا كأنه قال و لتكملوا العدة شرع ذلك أو أريد ذلك و مثله قوله وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (1) أي و ليكون من الموقنين (2)بما أريناه.هذا قول الفراء و الأول قول الزجاج و هو أجود لأن العطف يعتمد على ما قبله لا على ما بعده.و عطف الظرف على الاسم في قوله وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ جائز لأنه بمعنى الاسم و تقديره أو مسافرا و مثله دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً (3) كأنه قال دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما (4).
فصل
و قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أراد تعالى من شهد الشهر و هو ممنج.
ص: 181
يتوجه إليه الخطاب فعلى هذا الصبي إذا احتلم في نصف يوم من شهر رمضان أمسك ما بقي تأديبا و لا قضاء عليه فيما مضى و يمسك الكافر أيضا إذا أسلم في نهار رمضان للتأديب.و المجنون و المغمى عليه في الشهر كله لا قضاء عليهم عندنا بدلالة قوله فَمَنْ شَهِدَ و تقديره فمن كان شاهدا الشهر و يتوجه الخطاب إليه و المجنون و المغمى عليه ليسا بعاقلين حتى يتناولهما الخطاب.و الكافر و إن كان مخاطبا بالشرعيات فقد سامح الله معه إذا أسلم.و قسم هذا الكلام بعض أصحابنا فقال من نوى الصوم في أول الشهر ثم أغمي عليه و استمر به أياما فهو بحكم الصائم لم يلزمه قضاء و إن لم يكن مفيقا في أول الشهر وجب عليه القضاء (1)و إنما يحمل هذا على الاستحباب لأنه تعالى قال ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2)
قال الله تعالى وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ المراد به إذا كان مريضا (3)عليلا فلا يطيق الصوم أو يخاف على نفسه منه فيلزمه عدة من الأيام الأخر.و اعلم أن من فاته رمضان بعذر من مرض و غيره فعليه قضاؤه و وقت القضاء ما بين رمضانين الذي تركه و الذي بعده فإن أخر القضاء إلى أن يدركه رمضان آخر صام الذي أدركه و قضى الذي فاته و إن كان تأخيره لعذر من سفر أو مرض استدام به فلا كفارة عليه و إن تركه مع القدرة كفر عن كل يوم بمد من طعام يدل عليه بعد إجماع الطائفة و الاحتياط قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ و هذا هو القضاء و الأمر على الفور إلا لقرينة.
ص: 182
ثم الظاهر أن الفدية على من أطاق القضاء و إن كان الخطاب راجعا إلى القضاء و الأداء معا فالظاهر أنه منهما (1)إلا أن يقوم دلالة على تركه و قال أهل العراق الحامل و المرضع اللتان يخافان على ولديهما يفطران و لا يقضيان يوما مكانه و لا صدقة عليهما و لا كفارة و به قال قوم من أصحابنا و قال الشافعي في رواية المزني عليهما القضاء و يطعمان لكل يوم مدا و هو مذهبنا المعول عليه.و الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر و يتصدق مكان كل يوم نصف صاع في قول أهل العراق و هو مذهبنا.
فصل
قال المرتضى من بلغ من الهرم إلى حد يتعذر معه الصوم وجب عليه الإفطار بلا كفارة و لا فدية و لو كان من ذكرنا حاله لو تكلف الصوم لتأتى منه لكن بمشقة شديدة يخشى المرض منها و الضرر العظيم كان له أن يفطر و يكفر عن كل يوم بمد من طعام قال
و مما يجوز أن يستدل به على أن الشيخ الذي لا يطيق الصوم يجوز له الإفطار من غير فدية قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (2) و إذا لم يكن في وسع الشيخ الصوم خرج من الخطاب به و لا فدية عليه إذا أفطر لأن الفدية إنما تكون عن تقصير و إذا لم يطق الشيخ الصوم فلا تقصير وقع منه.و يدل على أن من أطاق من الشيوخ الصوم لكن بمشقة شديدة يخشى منها المرض يجوز له أن يفطر و يفدي قوله تعالى وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ و معنى الآية أن الفدية تلزم مع الإفطار و كأن الله خير في ابتداء الأمر بهذه الآية الناس6.
ص: 183
كلهم بين الصوم و بين الإفطار و الفدية ثم نسخ ذلك بقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .و أجمعوا على تناول هذه الآية لكل من عدا الشيخ الهرم ممن لا يشق عليه الصوم و لم يقم دليل على أن الشيخ إذا كان الضرر في هذه الآية فهو إذا يدخل تحت حكم الآية الأولى (1).
فصل
و قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام بعد أن ذكر كلام الشيخ المفيد و هو أن الشيخ الكبير و المرأة الكبيرة إذا لم يطيقا الصيام و عجزا عنه فقد سقط عنهما فرضه و وسعهما الإفطار و لا كفارة عليهما و إذا أطاقاه بمشقة عظيمة و كان مرضهما يضر بهما ضررا بينا (2)وسعهما الإفطار و عليهما أن يكفرا عن كل يوم بمد من طعام.قال و هذا الذي فصل به بين من يطيق الصيام بمشقة و بين من لا يطيقه أصلا لم أجد به حديثا مفصلا و الأحاديث كلها على أنه متى عجزا كفرا عنه.و الذي حمله على هذا التفصيل هو أنه ذهب إلى أن الكفارة فرع على وجوب الصوم و من ضعف عن الصيام ضعفا لا يقدر عليه جملة فإنه يسقط عنه وجوبه جملة لأنه لا يحسن تكليفه للصيام و حاله هذه و قد قال الله تعالى لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و هذا ليس بصحيح لأن وجوب الكفارة ليس بمبني على وجوب الصوم لأنه ما كان يمتنع أن يقول الله متى لم تطيقوا الصيام فصار مصلحتكم في الكفارة و سقط وجوب الصوم عنكم و ليس لأحدهما تعلق بالآخر.ا.
ص: 184
و الذي ورد في الأحاديث في ذلك
مَا رَوَاهُ الْحَلَبِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ كَبِيرٍ يَضْعُفُ عَنْ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ يَتَصَدَّقُ بِمَا يُجْزِي عَنْهُ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ.
وَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِ اللَّهِ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعُطَاشُ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا وَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: يَتَصَدَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ بِمُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ. و هذا ليس بمضاد للرواية التي تضمنت مدا من طعام أو إطعام مسكين لأن هذا الحكم يختلف بحسب اختلاف أحوال المكلفين فمن أطاق إطعام مدين يلزمه ذلك و من لم يطق إلا إطعام مد فعل ذلك و من لم يقدر على شيء منه فليس عليه شيء حسب ما قدمناه (1).و مقدار المد ثلاثمائة سوى سبعة دراهم و نصف درهم (2)
من شرط صحة الصوم النية
قال الله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (3) و الإخلاص لله بالديانة هو أن يتقرب إليه بذلك من غير رياء و لا سمعة و هذا التقرب لا يصح إلا بالنية له
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (4).
ص: 185
و يكفي في النية أن يعزم أنه يصوم شهر رمضان كله من أوله إلى آخره مع ارتفاع ما يوجب إفطاره.و النية إرادة مخصوصة و لا تتعلق إلا بحادث و نحوه و هاهنا لا تتعلق بالإمساك و إنما تتعلق بكراهة تناول المفطرات (1)و قد ذكرنا ذلك مستوفى في كتاب النيات في جميع العبادات.و إذا نوى الإنسان في أول شهر رمضان صوم الشهر كله إلى آخره قال بعد النية في قلبه إن شاء الله فإن الله تعالى يقول وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (2) .و الصيام كما ذكرنا هو الكف عن تناول أشياء و الصبر عليه و قد ورد الأمر من الله بالكف عنها في أزمان مخصوصة مما يجب أن يمسك عنه الصائم مما إن أقدم عليه يوجب القضاء سبعة عشر شيئا فإذا كف العبد عنها في أوقات الصيام المحدودة بنية الكف عنها لوجه الله كان آتيا بالصيام و قد حظر الله على الصائم تناول جميع ما ينقض صومه من حد بيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود و هو بياض الفجر عند انسلاخ الليل فإذا طلع الفجر فقد دخل وقت فرض الصيام و دخل وقت فريضة الصلاة ثم الحظر ممتد إلى دخول الليل و حد دخوله مغيب قرص الشمس و علامة سقوط القرص عدم الحمرة من المشرق فإذا عدمت الحمرة من المشرق سقط الحظر و دخل وقت الإفطار بضروبه من الأكل و الشرب و الجماع و سائر ما يتبع ذلك و يختص حظره بحال الصيام.و لا يلزم الكفارة مع القضاء إلا في تسعة مما قدمناه مجملا على أنه يجب3.
ص: 186
الإمساك عن جميع المحرمات و القبائح التي هي سوى التسعة الموجبة للقضاء و الكفارة و الثمانية الموجبة للقضاء دون الكفارة و يتأكد وجوب الامتناع عنها لمكان الصوم.
فصل
قال الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ (1) .جعل الله الأهلة علامات الشهور و دلائل أزمان الفروض و مواقيت للناس في الحج و الصوم و حلول آجال الدين و محل الكفارات و فعل الواجب و المندوب إليه.
سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْأَهِلَّةِ فِي قَوْلِهِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ فَقَالَ هِيَ أَهِلَّةُ الشُّهُورِ فَإِذَا رَأَيْتَ الْهِلاَلَ فَصُمْ وَ إِذَا رَأَيْتَهُ فَأَفْطِرْ وَ لَيْسَ بِالرَّأْيِ وَ التَّظَنِّي (2). و يسمى هلالا لليلتين (3)قاله الزجاج.فإن قيل عما ذا وقع السؤال من حال الأهلة.قيل عن زيادتها و نقصانها و ما وجه الحكمة في ذلك فأجيب بأن مقاديرها يحتاج إليها الناس في صومهم و فطرهم و حجهم و عدد نسائهم و محل ديونهم و غير ذلك.).
ص: 187
و فيها دلالة واضحة على أن الصوم لا يثبت بعدد الجدوليين و أنه يثبت بالهلال لأن عددهم لو كان مراعى لما أحيل في مواقيت الناس في الحج على ذلك بل أحيل على العدد.و الميقات منتهى الوقت و الآخرة منتهى الخلق و الإهلال ميقات الشهر.
فصل
و من قال إن قوله تعالى وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ يدل على أن شهر رمضان لا ينقص أبدا فقد أبعد من وجهين أحدهما لأن قوله وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ معناه و لتكملوا عدة الشهر سواء كان الشهر تاما أو ناقصا أعني ثلاثين يوما أو تسعة و عشرين يوما و الثاني أن ذلك راجع إلى القضاء لأنه قال عقيب ذكر السفر و المرض فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ يعني عدة ما فاته و هذا بين.فالهلال علامة الشهر و به وجبت العبادة في الصيام و الإفطار و الحج و سائر ما يتعلق بالشهور على أهل الشرع و ربما خفي لعارض أو استبين أهل مصر لعلة و ظهر لأهل غير ذلك المصر و لكن الغرض إنما تعلق على العبادة إذ هو العلم دون غيره بما قدمناه من آي القرآن.فإن قيل أي تعلق لقوله تعالى وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها (1) بسؤال قدم عن الأهلة.قلنا لأنه لما بين ما فيه من وجه الحكمة اقتضى لتعملوا على أمور متعددة و لتجروا أموركم على استقامة فإنما البر أن تتبعوا أمر الله و أن تأتوا البيوت من أبوابها أي ائتوا البر من وجهه الذي أمر الله به و رغب فيه و هذا عام في كل شيء حتى في الصوم و الإفطار فإنه يجب أن لا يصام فرضا من عند رؤية هلال شعبان9.
ص: 188
إلا بعد أن يقضي ثلاثون يوما مع العلة في السماء و لا يفطر إلا بالرؤية أو بعد انقضاء ثلاثين يوما من عند رؤية هلال شهر رمضان إذا كان في آخره علة في السماء لا يصح معها الترائي قبله إن كان
الصوم الواجب على ضربين مطلق من غير سبب و هو شهر رمضان قال تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .و الثاني ما هو واجب بسبب و هو عشرة أوجه و وجوبها كوجوب شهر رمضان أحدها صوم شهرين متتابعين في كفارة الظهار قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ (1) .الثاني صيام شهرين متتابعين فيمن أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا قال الله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ و قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .الثالث صيام شهرين متتابعين في قتل الخطإ ممن لم يجد العتق قال الله تعالى وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ (2) .الرابع صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام و الكسوة
ص: 189
و العتق قال الله تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ (1) كل ذلك متتابع و ليس بمفترق.الخامس صيام أذى حلق الرأس قال تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (2) فصاحبها مخير إن شاء صام ثلاثا أو تصدق أو نسك.السادس صوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي قال الله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (3) .السابع صوم جزاء الصيد قال الله تعالى وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً (4) .الثامن صوم النذر سواء كان متعينا أو غير متعين قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (5) و قال يُوفُونَ بِالنَّذْرِ (6) .التاسع صوم الاعتكاف و قال تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (7) .العاشر صوم قضاء ما فات من شهر رمضان و النذر قال الله تعالى فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) يلحق بها صوم كفارة من أفطر يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال فإنه أيضا واجب.فأما بيان آية صوم شهر رمضان فقد مضى و نحن نبين الآن ما يتعلق بالوجوه الأخر من الصوم الواجب و نفرد لكل واحد فصلا مفردا إن شاء الله تعالى7.
ص: 190
مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) يلحق بها صوم كفارة من أفطر يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال فإنه أيضا واجب.فأما بيان آية صوم شهر رمضان فقد مضى و نحن نبين الآن ما يتعلق بالوجوه الأخر من الصوم الواجب و نفرد لكل واحد فصلا مفردا إن شاء الله تعالى
الفصل الأول في الصوم الذي هو كفارة الظهار
قال تعالى اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا (2) .يقول فمن لم يجد الرقبة يعني عجز عنها فالصيام و التتابع فيه أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما و عند قوم إن بدأ من نصف شهر لا يفطر فيما بينهما فإن أفطر لا لعذر استأنف فإن أفطر لعذر من مرض اختلفوا فمنهم قال يستأنف من عذر و غير عذر و قال قوم يبني.و أجمعوا على أن المرأة إذا أفطرت للحيض في الشهرين المتتابعين في كفارة قتل الخطإ أنها تبني فقاسوا عليه المظاهر.و روى أصحابنا أنه إذا صام شهرا و من الثاني بعضه و لو يوما ثم أفطر لغير عذر فقد أخطأ إلا أنه يبني فإن أفطر قبل ذلك بغير عذر استأنف و إن كان لعذر يبني قال تعالى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ثم قال فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً4.
ص: 191
الفصل الثاني في صوم كفارة قتل الخطإ
قال الله تعالى وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ (1) يعني فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة عن قتله المؤمن لإعساره فعليه صيام شهرين متتابعين.و اختلفوا في معناه فقال قوم مثل ما قلناه ذهب إليه مجاهد و قال قوم فمن لم يجد الدية فعليه صوم الشهرين عن الرقبة و الدية و تأويل الآية فمن لم يجد رقبة مؤمنة و لا دية يسلمها إلى أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين ذهب إليه مسروق.و الأول هو الصحيح لأن دية قتل الخطإ على العاقلة على ما نذكره في بابه و الكفارة على القاتل بإجماع الأمة على ذلك.و صفة التتابع في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بإفطار يوم و قال أصحابنا إذا صام شهرا و زيادة ثم أفطر خطأ جاز له البناء كالتفصيل الذي ذكرناه في الفصل الأول.و قوله تَوْبَةً مِنَ اللّهِ أي رفعة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم من فرض تحرير رقبة مؤمنة بإيجاب صوم الشهرين المتتابعين
الفصل الثالث في صوم كفارة اليمين
قال الله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ (2) فحد من لم يكن بواجد هو من9.
ص: 192
ليس عنده ما يفضل عن قوته و قوت عياله يومه و ليلته و هو قول قتادة و الشافعي أيضا فصوم هذه الثلاثة الأيام متتابع.فأما إذا قال القائل إذا فعلت كذا فلله علي أن أتصدق بمائة دينار أو أصوم يوم كذا فهذا عندنا نذر و عند أكثر الفقهاء يلزمه مائة دينار أو الصوم.و قال أبو علي عليه كفارة يمين لقوله ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ و هو عام في جميع الأيمان و عندنا هذا ليس بيمين بل هو نذر يلزمه الوفاء به لقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و لقوله وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ و لقوله يُوفُونَ بِالنَّذْرِ و الوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه.و الوفاء إمضاء العقد على الأمر الذي يدعو إليه العقد و منه قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أي العقود الصحيحة لأنه لا يلزم أحدا أن يفي بعقد فاسد و كل عقد صحيح يجب الوفاء به
الفصل الرابع في صيام أذى حلق الرأس
قال الله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (1) .أمر الله تعالى أن لا يزيلوا شعور رؤسهم من أول ذي القعدة حتى ينتهي الهدي إلى المكان الذي يحل نحره فيه فمن مرض أو قمل رأسه أو تأذى به فعليه فدية من صيام فالذي رواه أصحابنا أن الصيام ثلاثة أيام أو صدقة ستة مساكين و روي عشرة مساكين (2)و النسك شاة و روي عن كعب بن عجرة الأنصاري و مجاهد7.
ص: 193
و علقمة و إبراهيم و الربيع و اختار الجبائي مثل ما قلناه أن الصوم ثلاثة أيام و قال الحسن و عكرمة صوم عشرة أيام
الفصل الخامس في صوم دم المتعة
قال الله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ (1) .فالهدي واجب على المتمتع فإن لم يجد الهدي و لا ثمنه صام ثلاثة أيام في الحج و عندنا أن وقت صوم هذه الثلاثة الأيام يوم قبل التروية و يوم التروية و يوم عرفة فإن صام في أول العشر جاز ذلك رخصة و إن صام يوم التروية و يوم عرفة قضى يوما آخر بعد التشريق فإن فاته يوم التروية فلا يصوم يوم عرفة لذلك بل يصوم بعد انقضاء أيام التشريق ثلاثة أيام متتابعات و صوم السبعة أيام إذا رجع إلى أهله فأما أيام التشريق فلا يجوز صومها عندنا لمن كان بمنى و بمكة حاجا لصوم دم المتعة و غيره
الفصل السادس في صوم جزاء الصيد
قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً (2) .قيل في معناه قولان5.
ص: 194
أحدهما لا تقتلوا الصيد محرمين فمن صاد فعليه الجزاء أو الصدقة أو أن يقوم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاما في قول عطاء و هو مذهبنا.و قال قتادة يقوم نفس الصيد المقتول حيا ثم يجعل قيمته طعاما.و نصب صياما على التمييز و في معناه قولان أحدهما يقوم ذلك المقتول بدراهم و تفض على الطعام ثم يصام لكل مد من الطعام يوم عن عطاء و قال غيره عن كل يوم مدين و هو مذهبنا و قال سعيد بن جبير يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام.
وَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فِي قَوْلِهِ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قَالَ قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَ وَ تَدْرِي كَيْفَ كَانَ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً فَقُلْتُ لاَ قَالَ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ قِيمَةً ثُمَّ تُفَضُّ تِلْكَ الْقِيمَةُ عَلَى الْبُرِّ ثُمَّ يُكَالُ ذَلِكَ الْبُرُّ أَصْوَاعاً فَيَصُومُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْماً (1). هذا إذا أصابه المحل في الحرم
الفصل السابع في صوم النذر
قال الله تعالى وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (2) و قال أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3) يقال وفى بعهده و أوفى لغة أهل الحجاز و هي لغة القرآن و قد ذكرنا ما في الوفاء بالنذر.أما العقود فجمع العقد بمعنى المعقود و هو أوكد العهود.1.
ص: 195
و الفرق بين العهد و العقد أن العقد فيه معنى الاستيثاق و الشد و لا يكون إلا بين متعاقدين و العهد قد ينفرد به الواحد فكل عهد عقد و لا يكون كل عقد عهدا خاطب الله تعالى المؤمنين و تقديره يا أيها المؤمنون و هو اسم تعظيم و تكريم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و الأمر على الوجوب شرعا فعلى هذا من نذر صوم يوم بعينه فعليه الوفاء به واجبا.و اختلفوا في هذه العهود على أربعة أقوال أحدها أن المراد بها العقود التي يتعاقد الناس بينهم و يعقدها المرء على نفسه كعقد الإيمان و النذور و عقد العهد و عقد البيع.و ثانيها أنها العهود التي أخذها الله على العباد مما أحل و حرم.و ثالثها أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا على النصرة و المؤازرة على من حاول ظلمه.و رابعها أن ذلك أمر من الله لأهل الكتاب قالوا فإنما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة و الإنجيل في تصديق نبينا صلّى اللّه عليه و آله.و الأقوى أن يكون على العموم فإن ذلك بعرف الشرع يحمل على العموم و الاستغراق وجوبا فيدخل تحته الصوم و الصلاة و الحج و غير ذلك
الفصل الثامن في صوم الاعتكاف
قال الله تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (1) .قيل في معناه قولان أحدهما أنه أراد به الجماع عن ابن عباس و غيره و الثاني أنه أراد به الجماع و كل ما كان دونه من قبله و غيرها و هو مذهبنا.7.
ص: 196
و قوله وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فعندنا الاعتكاف هو اللبث في أحد المساجد الأربعة للعبادة من غير اشتغال بما يجوز تركه من أمور الدنيا و له شرائط مذكورة في كتب الفقه و أصله اللزوم.و قوله تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ أي فرائضه و الحد منتهى الشيء.و لا يجوز الاعتكاف إلا بالصوم و به قال أبو حنيفة و مالك بن أنس و دلت الآية من فحواها على الصوم الواجب في الاعتكاف و الدليل القاطع من القرآن قوله ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و إن كان على الجملة.و عندنا لا يكون أقل من ثلاثة أيام و به قال أهل المدينة.و قيل إن هذه الآية من أولها أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ نزلت في شأن أبي قيس بن صرمة (1)و كان يعمل في أرض له فأراد الأكل فقالت امرأته نصلح لك شيئا فغلبت عيناه ثم قدمت إليه الطعام فلم يأكل فلما أصبح لاقى جهدا فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك فنزلت الآية (2).و روي أن عمر أراد أن يواقع زوجته في شهر رمضان بالليل فقالت إني نمت (3)فظن أنها تعتل عليه فوقع عليها ثم أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله من الغد فنزلت الآية فيهما (4).و عن الصادق عليه السّلام أنها نزلت في خوات بن جبير بمثل قصة أبي قيس بن صرمة و كان ذلك يوم الخندق (5)1.
ص: 197
الفصل التاسع في صوم قضاء ما فات من شهر رمضان لعذر
قال الله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) و تقديره فمن كان منكم في سفر يعني مسافرا فليصم عدة من أيام أخر و الأمر على الإيجاب في الشرع فعلم أن قضاء ما يفوت من شهر رمضان لعذر واجب يجوز متتابعا و متفرقا و التتابع أفضل و به قال الشافعي و مالك و قال أهل العراق هو مخير.
وَ رَوَى عَبْدُ خَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِنَّ عَلَيَّ أَيَّاماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَ فَيَجُوزُ أَنْ أَقْضِيَهَا مُتَفَرِّقَةً قَالَ اقْضِهَا إِنْ شِئْتَ مُتَتَابِعَةً وَ إِنْ شِئْتَ تَتْرَى قَالَ فَقُلْتُ إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ لاَ تُجْزِي إِلاَّ مُتَتَابِعَةً قَالَ بَلْ تُجْزِي تَتْرَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَ لَوْ أَرَادَهَا مُتَتَابِعَةً لَبَيَّنَ التَّتَابُعَ كَمَا قَالَ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ. و قال المرتضى يخير أصحابنا للقاضي لصوم شهر رمضان إذا فاته بين التفريق و المتابعة و لي في ذلك تأمل و الأقوى أن يلزمه متتابعا إذا لم يكن له عذر لأن الواجبات عندنا هي على الفور شرعا دون التراخي و القول بتخييره في ذلك يدفع هذا الأصل فأما عند العذر فلا خلاف أنه يجوز التفريق.و معنى قوله تترى أي متواترة تقول العرب جاءت الخيل متتابعة إذا جاء بعضها في أثر بعض بلا فصل و جاءت متواترة إذا تلاحقت و بينها فصل و العامة يوهمون فيقولون للمتتابع متواتر.و أما صيام النذر فإن كان الناذر نذر أن يصوم يوما بعينه في سفر أو حضر ثم4.
ص: 198
وافق ذلك اليوم أن يكون مسافرا فإنه يجب الصيام في حال السفر أيضا فإن اتفق أن يكون ذلك اليوم يوم عيد أو يكون الناذر مريضا فعليه الإفطار و القضاء.و قد نص على قضاء ما يفوت من صيام النذر لعذر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تفصيلا و نص عليه القرآن جملة كما قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
الفصل العاشر في صيام شهرين متتابعين على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا
من أفطر في شهر رمضان متعمدا بالجماع في الفرج لزمه القضاء و الكفارة عندنا و الكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا و عليه إجماع الطائفة المحقة.و الدليل عليه على سبيل التفصيل إنما يكون من السنة
ص: 199
من صام في السفر واجبا يجب عليه الإعادة غير النذر المقيد صومه بالسفر و غير الثلاثة الأيام في الحج بدل هدي المتعة.و الحجة لقولنا زائدا على الإجماع المكرر
قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ فأوجب الله القضاء بنفس السفر.فإن قيل فيجب أن تقولوا مثل ذلك في قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ و لا تضمروا فحلق.قلنا هكذا يقتضي الظاهر و لو خلينا و إياه لم نضمر شيئا لكن أضمرناه بالإجماع و لا دليل و لا إجماع نقطع به في الموضع الذي اختلفنا فيه و الشيء إذا تكرر تقرر.و من تمضمض لطهارة فوصل الماء إلى جوفه لا شيء عليه من قضاء و لا غيره و إن وصل لغير طهارة من تبرد أو غيره ففيه القضاء خاصة.
ص: 200
فصل
قال الله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (1) .الرفث الجماع هاهنا بلا خلاف (2)و روي عنهما (3)عليهما السّلام كراهية الجماع في أول كل شهر إلا أول ليلة من شهر رمضان لمكان الآية (4).و يمكن أن يقال الوجه في ذلك تكسير الشهوة لسائر الشهر و إرضاء النفس اللوامة.و الأشبه أن يكون المراد بليلة الصيام ليالي الشهر كله و إنما ذكر بلفظ التوحيد لأنه اسم جنس دل على الكثير.و قوله تعالى عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ معناه أنهم كانوا لما حرم عليهم الجماع في شهر رمضان بعد النوم خالفوا في ذلك فذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك الفريضة.فإن قيل أ ليس الخيانة انتقاص الحق عن جهة المساترة فكيف يساتر الإنسان نفسه.قلنا عنه جوابان أحدهما أن بعضهم كان يساتر بعضا فيه فصار كأنه يساتر نفسه لأن ضرر النقص و المساترة داخل عليه و الثاني أنه يعمل عمل المساتر له فهو يعمل لنفسه عمل الخائن له.1.
ص: 201
و قوله تعالى وَ عَفا عَنْكُمْ أي أزال تحريم ذلك عنكم و ذلك عفو عن تحريمه عنهم فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ أي جامعوهن و معناه الإباحة دون الأمر وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ في معناه قولان أحدهما قال الحسن يعني طلب الولد و الثاني قال قتادة يعني الحلال الذي بينه الله في كتابه بقوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا إباحة للأكل و الشرب حتى يظهر بياض الفجر من سواد الليل و قيل خيط الفجر الثاني مما كان في موضعه من الظلام و قيل النهار من الليل فأول النهار طلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياء.و قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ يحتمل من معنيين التبعيض لأن المعنى بعض الفجر و ليس الفجر كله أو التبيين أي حتى يتبين الخيط الأبيض الذي هو الفجر.
فصل
و قوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ و الليل هو بعد غروب الشمس و علامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق و إقبال السواد منه و إلا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة و عدم الجبال و الروابي فقد دخل الليل.و قوله وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا يمكن أن يقال هو أمر على الوجوب يتناول ما هو قوام البدن و أمر على الاستحباب بأكل السحور فإنه عون على الصوم و خلاف على اليهود و اقتداء بالرسول
فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: يُسْتَحَبُّ السَّحُورُ وَ لَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ وَ أَفْضَلُهُ التَّمْرُ (1).
وَ رُوِيَ: أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِنِّي وَضَعْتُ خَيْطَيْنِ مِنْ شَعْرٍ أَبْيَضَ وَ أَسْوَدَ فَكُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِمَا فَلاَ يَتَبَيَّنَانِ لِي فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ4.
ص: 202
حَتَّى رُئِيَ نَوَاجِذُهُ وَ قَالَ يَا ابْنَ حَاتِمٍ إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَ سَوَادُ اللَّيْلِ فَابْتَدِئِ الصَّوْمَ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ (1). و قد بين سبحانه الانتهاء أيضا بقوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي من وقت طلوع الفجر الثاني و هو الفجر الصادق المستطير المعترض الذي يأخذ الأفق و يجب عنده الصلاة إلى وقت دخول الليل على ما حددناه.
فصل
و قوله تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ (2) .قيل معناه لتبلون بالعبادات في أنفسكم كالصلاة و الصيام و غيرهما و في أموالكم من الزكوات و الأخماس و الإنفاق في سبيل الله ليتميز المطيع من العاصي.و يقال لشهر رمضان شهر الصبر لصبر صائمه عن الطعام و الشراب نهارا و صبره إياهم عن المأكول و المشروب أي كفه إياهم و حبسه لهم عن ذلك قال تعالى وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (3) أي بالصوم و الصلاة و هو خطاب لجميع من هو بشرائط التكليف لفقد الدلالة على التخصيص و اقتضاء العموم لذلك و الصبر هو منع النفس عن محابها و كفها عن هواها و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا أحزنه أمر استعان بالصبر و الصلاة.و اعلم أن من تحرى الفجر فلم يره فتسحر ثم علم بعد ذلك أنه كان طالعا لم يكن عليه قضاء بدلالة قوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ إذا كان الصوم فرضا كشهر رمضان فأما إن كان قضاء لشهر رمضان أو نافلة فلا يصح صوم ذلك اليوم.3.
ص: 203
و قوله لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و إن لم يكن تحرى الفجر و أقدم على التسحر قبل تحريه و قد طلع الفجر حينئذ وجب عليه القضاء لما كان منه من تفريطه في فرض الصيام.
فصل
و قد جرى ذكر النسخ في المسح على الخفين بسورة المائدة و نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة و كذا في آية الصوم ذكرنا دليلا على جوازه
و قال تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها (1) .فالنسخ حقيقته كل دليل شرعي دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص الأول غير ثابت فيما بعد على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه.و النسخ في الشرع على ثلاثة أقسام (2)نسخ الحكم دون اللفظ و نسخ اللفظ دون الحكم و نسخهما معا.فالأول كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (3) فكان الفرض الأول وجوب ثبوت الواحد للعشرة فنسخ بثبوت الواحد للاثنين فحكم الآية الأولى منسوخ و تلاوتها ثابتة و نحوها آية العدة و الفدية و غير ذلك.و الثاني كآية الرجم
فَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا كَانَتْ مَنْزِلَةَ الشَّيْخُ وَ الشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا5.
ص: 204
فَارْجِمُوهُمَا الْبَتَّةَ فَإِنَّهُمَا قَضَيَا الشَّهْوَةَ جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1). فرفع لفظها و بقي حكمها.و الثالث ما هو مجوز و لم يقطع بأنه كان
"وَ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَهُوَ كُفْرٌ (2). و اعلم أن سبيل النسخ سبيل سائر ما تعبد الله به و شرعه على حسب ما يعلم من المصلحة فيه فإذا زال الوقت الذي تكون المصلحة مقرونة به زال بزواله و ذلك مشروط بما في المعلوم من المصلحة به و هذا كاف في إبطال قول من أبى النسخ.و معنى الآية ما نبدل من آية أو نتركها أو نؤخرها نأت بخير منها لكم في التسهيل كالأمر بالقتال أو مثلها كالتوجه إلى القبلة
سَأَلَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ عِلَّةِ الصِّيَامِ فَقَالَ إِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الصِّيَامَ لِيَسْتَوِيَ بِهِ الْغَنِيُّ وَ الْفَقِيرُ وَ ذَلِكَ أَنَّ الْغَنِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَجِدَ مَسَّ الْجُوعِ فَيَرْحَمَ الْفَقِيرَ [لِأَنَّ الْغَنِيَّ كُلَّمَا أَرَادَ شَيْئاً قَدَرَ عَلَيْهِ] فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ [يُسَوِّيَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَ أَنْ] يُذِيقَ الْغَنِيَّ مَسَّ الْجُوعِ لِيَرِقَّ عَلَى الضَّعِيفِ وَ يَرْحَمَ الْجَائِعَ (3).
مسألة
من قرأ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فطعام مسكين عطف بيان لقوله فدية و من
ص: 205
أضاف الفدية إلى طعام فهو كإضافة البعض إلى ما هو بعض له فإنه سمى الطعام الذي يفدى به فدية ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية و غيرها و هذا كقولهم خاتم حديد.
مسألة
و قوله فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ أي فعليه عدة ارتفاعه على الابتداء و يجوز أن يكون خبر ابتداء أي فالذي ينويه عدة من أيام أخر.فإن قيل كيف قيل فعدة على التنكير و لم يقل فعدتها.قلنا لما قيل فعدة فالعدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة فكأنها إن أفطر بعض الشهر فبعضه و إن أفطر الكل فالكل.و اختلفوا في العدة من الأيام الأخر فقال الحسن هي على التضييق إذا برأ المريض أو قدم المسافر و عندنا موقت فيما بين رمضانين فإن فرط فعلى ما ذكرناه.
مسألة
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قَالَ مَنْ مَرِضَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ ثُمَّ صَحَّ وَ لَمْ يَقْضِ مَا فَاتَهُ مُتَوَانِياً حَتَّى جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ لِكُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ وَ أَنْ يَقْضِيَ بَعْدَهُ (1).
مسألة
وَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَصُومُ فِي السَّفَرِ تَطَوُّعاًظ.
ص: 206
وَ لاَ فَرِيضَةً مُنْذُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ (1)عِنْدَ صَلاَةِ الْهِجِّيرِ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ وَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا فَقَالَ قَوْمٌ لَوْ تَمَمْنَا يَوْمَنَا هَذَا فَسَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الْعُصَاةَ فَلَمْ يَزَالُوا يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ الاِسْمِ حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ (2).
مسألة
و قوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي أنزل في فرضه و إيجاب صومه على الخلق القرآن فيكون فيه بمعنى في فرضه كما يقول القائل أنزل الله في الزكاة كذا يريد في فرضها و قد ذكرنا له معنى آخر و المراد بالهدى الأولى الهداية من الضلالة و بالهدى الثانية بيان الحلال و الحرام.
وَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْقُرْآنُ جُمْلَةُ الْكِتَابِ وَ الْفُرْقَانُ الْمُحْكَمُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ (3).
مسألة
و قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ الألف و اللام في الشهر للعهد و المراد به شهر رمضان و ينتصب على أنه ظرف لا على أنه مفعول به لأنه لو كان مفعولا به للزم صومه المسافر كما يلزم المقيم من حيث إن المسافر يشهد الشهر4.
ص: 207
كما يشهد المقيم فلما لم يلزم المسافر علمنا أن معناه فمن شهد منكم المصر في الشهر فليصمه أي فليصم جميعه و لا يكون الشهر مفعولا به.فإن قيل كيف جاء ضميره متصلا في قوله فَلْيَصُمْهُ إذا لم يكن الشهر مفعولا به.قلنا قد حذف منه المضاف على ما ذكرنا.و قيل إن الاتساع وقع فيه بعد أن استعمل ظرفا على ما تقدم بيان أمثاله في مواضع.
مسألة
و قوله وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ اللام فيه يجوز أن يكون للأمر كقراءة من قرأ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا (1)بالتاء و إنما أورد اللام في أمر المخاطب هنا إشعارا أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمته الحاضرين و الغائبين داخلون تحت هذا الخطاب (2).».
ص: 208
مسألة
و قوله تعالى يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إشارة إلى جواز غير التتابع في قضاء تلك العدة و إن كانت شهرا أو أياما إلا أنه لا بد من قضائها جميعا.
مسألة
و قوله تعالى وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ المراد به تكبير ليلة الفطر و يومه عقيب أربع صلوات المغرب و العشاء و الغداة و صلاة العيد على مذهبنا.
مسألة
و قوله تعالى حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ يسأل فيقال لم زيد قوله مِنَ الْفَجْرِ و هلا اختصر به على الاستعارة قلنا لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام و لو لم يذكر مِنَ الْفَجْرِ لم يعلم أن الخيطين مستعاران فزيد مِنَ الْفَجْرِ فكان تشبيها بليغا على أن مع هذا البيان التبس على العربي الفصيح مثل عدي بن حاتم.
مسألة
ص: 209
كتب عليكم كما كتب عليهم أن تتقوا المفطر بعد أن تصلوا العشاء و بعد أن تناموا ثم نسخ ذلك بقوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ .و معنى مَعْدُوداتٍ موقتات بعدد معلوم أو قلائل كقوله دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ و الله أعلم
ص: 210
كتاب الزكاة و جميع العبادات المالية (1)
قال الله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (2) .أمر الله تعالى في هذه الآية جميع المكلفين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين أوجبهما عليهم و أن يطيعوا الرسول في كل ما يأمرهم به و يدعوهم إليه ليرحموا جزاء على ذلك و يثابوا بالنعم الجزيلة فالفرض التالي لفرض الصلاة في محكم التنزيل هو الزكاة فلا بد من معرفته و تحصيله إذ كان في الجهل به جهل أصل الشريعة يكفر المنكر له برده و يؤمن بالإقرار به لعموم تكليفه و عدم سقوطه عن بعض البالغين لا لعذر.و في قوله وَ آتُوا الزَّكاةَ في آي كثيرة و مواضع متفرقة في كتاب الله دلالة
ص: 211
قاطعة على أنها واجبة لأن ما رغب الله فيه فقد أراده و كل ما أراده من العبد و أمر به في الشرع فهو واجب إلا أن يقوم دليل على أنه نفل و قيل الاحتياط يقتضي الوجوب.و سمي بالزكاة ما يجب إخراجه من المال لأنه نماء لما يبقى و تثمير له و قيل بل هو مدح لما يبقى بعد الزكاة فإنه زكي به أي مطهر كما قال أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً (1) أي طاهرة.
و قوله في أول البقرة وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (2) عن ابن عباس أنه الزكاة المفروضة تؤتيها احتسابا و قال الضحاك هو التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى و الأولى حمل الآية على عمومها فيمن أخرج الزكاة الواجبة و النفقات الواجبة و تطوع بالخيرات.
فصل
قال الله تعالى وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ (3) .و قال أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (4) .هذه الآية نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي صلّى اللّه عليه و آله في قتال المشركين منهم عبد الرحمن بن عوف و هم بمكة فلم يأذن لهم فلما كتب عليهم القتال و هم بالمدينة قال فريق منهم ما حكاه الله في الآية (5).1.
ص: 212
فإن قيل كيف يصح ذلك و لم أمرهم الله بإيتاء الزكاة و لم تكن الزكاة فرضت بمكة.قلنا إنما قال الله ذلك و أمر بها على وجه الاستحباب و الندب دون الزكاة المقدرة على وجه مخصوص.و قيل الآية نزلت في اليهود نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا مثل صنيعهم.على أن العقل دال على حسن الإحسان و الإنفاق فجائز أن يعلم الكافر حسنه غير أنه و إن علم ذلك لا يقع منه على وجه يكون طاعة لأنه لو أوقعها على ذلك الوجه لا يستحق الثواب و هذا لا يجوز فبين الله في الآية الأولى أنه لا يثيب من فعل الخيرات إذا كان كافرا.
فصل
و قوله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ إلى قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ (1) .لا خلاف أن هذه الآية تدل على وجوب إعطاء الزكاة و تدل أيضا في قول الشعبي و الجبائي على وجوب غيره مما له سبب وجوب كالإنفاق على من يجب عليه نفقته و على من يجب عليه سد رمقه إذا خاف التلف و على ما يلزمه من النذر و الكفارات و يدخل أيضا فيها ما يخرجه الإنسان على وجه التطوع و القربة إليه تعالى لأن ذلك كله من البر.و معنى قوله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ أي ليس الدين و الخير الصلاة وحدها لكنه الصلاة مع العبادات الأخر المذكورة.7.
ص: 213
عن ابن عباس قال فإن قيل قوله وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ معطوف على قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى فلم كرر و ليس زيادة فائدة.قلنا إنما قال تعالى وَ آتَى الزَّكاةَ و قد تضمن قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى إيتاء الزكاة توكيدا لأمر الزكاة و تنبيها على أنها تالية للصلاة فجمع بينهما في الذكر كما يجبان على حد واحد.و قيل إن قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ليس يتناول الزكاة المفروضة في هذه الآية و إنما يدل على وجوب الزكاة قوله وَ آتَى الزَّكاةَ و إنما يدل قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ على الإنفاق على أولئك إذا عرف منهم شدة الحاجة و لا يخرجه ذلك من أن يكون واجبا كما يجب عليه النفقات في أهله و ولده و رتب الله هذا الترتيب لتقديم الأولى فالأولى.
فصل
فإن قيل كيف قال الله لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ (1) و الفقير لا تجب عليه الصدقة و إن لم ينفق فإنه غير مخاطب به.قلنا الكلام خرج مخرج الحث على الصدقة إلا أنه على ما يصح و يجوز من إمكان النفقة فهو مقيد في الجملة بذلك إلا أنه أطلق الكلام به للمبالغة في الترغيب فيه و قال الحسن هو الزكاة الواجبة و ما فرض الله في الأموال خاصة.و الأولى أن تحمل الآية على الخصوص بأن نقول هي متوجهة إلى من يجب عليه إخراج شيء أوجبه الله عليه دون من لم تجب عليه و يكون ذلك أيضا مشروطا بأن لا يعفو الله عنه أو نقول لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ الكامل الواقع على أشرف الوجوه حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ .2.
ص: 214
و قيل في معنى البر إنه الجنة و قيل إنه البر من الله بالثواب و الجنة و قيل البر فعل الخير الذي يستحقون به الأجر.فإذا ثبت وجوب الزكاة فاعلم أنه يحتاج فيها إلى معرفة خمسة أشياء ما تجب فيه و من تجب عليه و مقدار ما تجب فيه و متى تجب و من المستحق لها و يدخل في القسم الأخير مقدار ما يعطى.و الطريق إلى معرفتها الكتاب و السنة جملة و تفصيلا و نحن نشير إليها في أبواب إن شاء الله تعالى
الزكاة عندنا لا تجب إلا في تسعة أشياء بينها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله
و الدليل عليه من القرآن قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قال وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .و هي الأنعام و الأثمان و الغلات و الثمار و ما عداها من الحبوب تستحب فيه الزكاة.
فصل
و الذي يدل على صحته زائدا على إجماع الطائفة قوله تعالى وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (1) و المعنى أنه لا يوجب في أموالكم حقوقا لأنه تعالى لا يسألنا أموالنا إلا على هذا الوجه.و هذا الظاهر يمنع من وجوب حق في الأموال مما أخرجناه فهو بالدليل
ص: 215
القاطع و ما عداه باق تحت الظاهر فإن تعلق المخالف بقوله وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ (1) و أنه عام في جميع الزروع و غيرها مما ذكر في الآية.فالجواب عنه أنا لا نسلم أن قوله وَ آتُوا حَقَّهُ يتناول العشر و نصف العشر المأخوذ على سبيل الزكاة فمن ادعى تناوله لذلك فعليه الدلالة.و عند أصحابنا أن ذلك يتناول ما يعطى المسكين و الفقير المجتاز وقت الحصاد و الجذاذ (2)من الجفنة و الضغث (3)فقد رووا ذلك عن الأئمة عليهم السّلام فمنه
مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ الزَّكَاةَ أَ لاَ تَرَى أَنَّهُ قَالَ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (4) . و هذه نكتة منه عليه السّلام مليحة لأن النهي عن السرف لا يكون إلا فيما ليس بمقدر و الزكاة مقدرة و ليس لأحد أن يقول إن الإسراف هاهنا هو أن يعطى غير المستحق لأن ذلك مجاز و لا يجوز ترك الظاهر الذي هو الحقيقة و الخروج إلى المجاز إلا بدليل و لا دليل هاهنا.
وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَ مَا حَقُّهُ قَالَ يُنَاوِلُ مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَ السَّائِلَ (5). و الأحاديث بذلك كثيرة و يكفي احتمال اللفظ و إن كان يقوي هذا التأويل أن الآية تقتضي أن يكون العطاء في وقت الحصاد و العشر المفروض أو نصفه في1.
ص: 216
الزكاة لا يمكن في تلك الحال لأن العشر أو نصفه مكيل و لا يؤخذ إلا من المكيل و في وقت الحصاد لا يكون مكيلا و لا يمكن كيله و إنما يكال بعد تذريته و تصفيته فتعليق العطاء بتلك الحال لا يمكن إلا بما ذكرناه.و يقوي هذا التأويل ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من النهي عن الحصاد و الجذاذ بالليل (1)و إنما نهى عن ذلك لما فيه من حرمان المساكين ما ينبذ إليهم من ذلك أ لا ترى إلى قوله تعالى إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَ لا يَسْتَثْنُونَ (2) .و ما يقوله قوم في قوله وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ من أنها مجملة و لا دليل فيها فليس بصحيح لأن الإجمال هو مقدار الواجب لا الموجب فيه (3).
فصل
فإن قيل
في قوله وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قد سماه الله تعالى حقا و ذلك لا يليق إلا بالواجب.قلنا قد يطلق اسم الحق على الواجب و المندوب إليه أ لا ترى إلى
مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ هَلْ عَلَيَّ حَقٌّ فِي إِبِلِي سِوَى الزَّكَاةِ قَالَ نَعَمْ تَحْمِلُ عَلَيْهَا وَ تَسْقِي مِنْ لَبَنِهَا. فإن قالوا فظاهر قوله وَ آتُوا حَقَّهُ يقتضي الوجوب و ما ذكرتموه ليس بواجب.قلنا إذا سلمنا أن ظاهر الأمر شرعا على الوجوب أو الإيجاب كان لنا من الكلام طريقان».
ص: 217
أحدهما أن نقول إن ترك ظاهر من الكلام ليسلم ظاهر آخر له كترك ظاهر ذاك ليسلم هذا و أنتم إذا حملتم الأمر على الوجوب هاهنا تركتم تعلق العطاء بوقت الحصاد و نحن إذا حملنا الأمر على الندب سلم لنا ظاهر تعلق العطاء بوقت الحصاد و ليس أحد هذين الأمرين إلا كصاحبه و أنتم المستدلون بالآية فخرجت من أن تكون دليلا لكم.و الطريق الآخر أنا لو قلنا بوجوب هذا العطاء في وقت الحصاد فإن لم يكن مقدرا بل موكولا إلى اختيار المعطي لم نقل بعيدا من الصواب (1).فإن تعلق مخالفنا بقوله تعالى أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (2) أن المراد بالنفقة هاهنا الصدقة بدلالة قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ (3) يعني لا يخرجون زكاتها.فالجواب عن ذلك أن اسم النفقة لا يجري على الزكاة إلا مجازا و لا يعقل من إطلاق لفظ الإنفاق إلا ما كان من المباحات و ما جرى مجراها ثم لو سلمنا ظاهر العموم لجاز تخصيصه ببعض الأدلة التي ذكرناها.
فصل
و قوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ (4) أمر من الله لنبيه صلّى اللّه عليه و آله أن يأخذ من المالكين النصاب الإبل إذا بلغت خمسا و البقر إذا بلغت ثلاثين و الغنم إذا بلغت أربعين و الورق إذا بلغ مائتين3.
ص: 218
و الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا و الغلات و الثمار إذا بلغت خمسة أوسق تطهيرا لهم بها من ذنوبهم و وجب على الأمة حملها إليه لفرضه عليها طاعته و نهيه لها عن خلافه (1)و الإمام قائم مقام النّبي صلّى اللّه عليه و آله فيما فرض عليه من إقامة الحدود و الأحكام لأنه مخاطب في ذلك بخطابه.و قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يدل على أن الأخذ يجب من اختلاف الأموال لأنه تعالى جمعه و لو قال خذ من مالهم لأفاد وجوب الأخذ من جنس واحد متفق و من دخلت للتبعيض فكأنه قال خذ بعض مختلف الأموال.و ظاهر الآية لما ذكرنا لا يدل على أنه يجب أن يؤخذ من كل صنف لأنه لو أخذ من صنف واحد لكان قد أخذ بعض الأموال و إنما يعلم ذلك بدليل آخر.و الصدقة عطية ما له قيمة في الشرع للفقير و ذي الحاجة و البر عطية لاجتلاب المودة و مثله الصلة.و إنما ارتفع تُطَهِّرُهُمْ لأحد أمرين إما أن يكون صفة للصدقة و تكون التاء للتأنيث و قوله بِها تبيين له و التقدير صدقة مطهرة و إما أن تكون التاء لخطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و التقدير فإنك تطهرهم بها و هو أيضا صفة الصدقة إلا أنه اجتزأ بذكر بها في الثاني (2)عن الأول.و قيل يجوز أن يكون على الاستئناف و حمله على الاتصال أولى (3).و قيل في هذه الصدقة قولان أحدهما قاله الحسن إنها كفارة الذنوب التي أصابوها و قال غيره هي الزكاة الواجبة.و أصل التطهير إزالة النجس (2)فالمراد هاهنا إزالة نجس الذنوب علىل.
ص: 219
المجاز و الاستعارة.و قوله وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ أمر من الله لنبيه صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو لمن يأخذ منه الصدقة و قال قوم يجب ذلك على كل ساع يجمع الصدقات أن يدعو لصاحبها بالخير و التزكية و البركة كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَ اسْتَغْفِرْ لَنَا فَقَالَ مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئاً فَأَنْزَلَ اللَّهُ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً .
فصل
و لا تجب الزكاة في عروض التجارة و إنما تستحب على بعض الوجوه.فإن تعلق المخالف بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً و أن عموم القول يتناول عروض التجارة فالجواب عن ذلك أن أكثر ما في هذه الآية أن يكون لفظها عموما و العموم معرض للتخصيص و نحن نخص هذا العموم ببعض ما تقدم من أدلتنا.على أن مخالفينا لا بد لهم من ترك هذا الظاهر في عروض التجارة لأنهم يضمرون في تناول هذا اللفظ لعروض التجارة أن يبلغ قيمتها نصاب الزكاة و هذا ترك للظاهر و خروج عنه و لا فرق بينهم فيه و بيننا إذا حملنا اللفظ في الآية على الأصناف التي أجمعنا على وجوب الزكاة فيها و إذا قمنا في ذلك مقامهم و هم المستدلون بالآية بطل استدلالهم.و بمثل هذا الكلام يبطل تعلقهم
بقوله وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (1) .9.
ص: 220
و يمكن أن يقال في هذه الآية إنها خرجت مخرج المدح لهم لما فعلوه لا على سبيل إيجاب الحق في أموالهم لأنه تعالى قال كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ فأخرج الكلام كله مخرج المدح لهم بما فعلوه و ليس في إيجاب الله في أموالهم حقا معلوما [مدح لهم و لا ما يجب الثناء عليهم فعلم أن المعنى و يعطون من أموالهم حقا معلوما] (1)للسائل و المحروم و ما يفعلونه من ذلك ليس بلازم أن يكون واجبا بل قد يكون نفلا و متطوعا به و قد يمدح الفاعل على ما يتطوع به كما يمدح على فعل ما يجب عليه.و لا تعلق لهم بقوله وَ آتُوا الزَّكاةَ لأن اسم الزكاة اسم شرعي و نحن لا نسلم أن في عروض التجارة زكاة فيتناولها الاسم فعلى من ادعى ذلك أن يدل عليه.و الدين إذا كان يد صاحبه تمتد إليه و لا يتعذر عليه كانت الزكاة فيه و إذا لم يتمكن من قبضه لتأجيله أو دفعه باليد عنه فلا زكاة فيه على صاحبه و بذلك نصوص عن آل محمد عليهم السّلام فإن الله لم يجعل فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و لا كلف عسيرا بنص التنزيل.
فصل
و قوله أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ (2) .سبب ذلك أنهم لما سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يأخذ من مالهم ما يكون كفارة لذنوبهم فامتنع النبي من ذلك حتى أذن له فيه بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
صَدَقَةً على ما قدمناه فبين الله هاهنا أن ليس للنبي قبول توبتكم و أن ذلك إلى الله دونه فإن الله تعالى هو الذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يأخذها بتضمن الجزاء عليها كما تؤخذ الهدية.قال الجبائي جعل أخذ النبي و المؤمنين للصدقة أخذا له تعالى على وجه المجاز من حيث كان يأمره4.
ص: 221
صَدَقَةً على ما قدمناه فبين الله هاهنا أن ليس للنبي قبول توبتكم و أن ذلك إلى الله دونه فإن الله تعالى هو الذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يأخذها بتضمن الجزاء عليها كما تؤخذ الهدية.قال الجبائي جعل أخذ النبي و المؤمنين للصدقة أخذا له تعالى على وجه المجاز من حيث كان يأمره
وَ أَكَّدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى السَّائِلِ (1). و في التفسير
أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ وَ صَاحِبَهُ لَمَّا بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِقَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُمْ وَ مَغْفِرَتِهِ لَهُمْ قَالُوا نَتَقَرَّبُ بِجَمِيعِ أَمْوَالِنَا شُكْراً لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَكْفِيكُمُ الثُّلُثُ.
فصل
و قوله تعالى وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (2) يدل على أن النية واجبة في الزكاة لأن إعطاء المال قد يقع على وجوه كثيرة فمنها إعطاؤه على وجه الصدقة و منها إعطاؤه على وجه (3)الهدية و منها الصلة و منها الوديعة و منها قضاء الدين و منها القرض و منها البر و منها الزكاة و منها النذر و غير ذلك و بالنية يتميز بعضها من بعض.قال الكلبي في معنى الآية يضاعف الله أموالهم في الدنيا و نحوه قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ (4) .1.
ص: 222
قال الربيع و السدي الآية تدل على أن النفقة بسبع مائة ضعف لقوله سَبْعَ سَنابِلَ فأما غيرها فالحسنة بعشرة كقوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (1) و معنى الآية أي يضاعف الله لهم الحسنات.فإن قيل هل رئي في سنبلة مائة حبة حتى يضرب المثل بها.قلنا إن ذلك متصور فشبه به لذلك و إن لم ير كقول إمرئ القيس
و مسنونة زرق كأنياب أغوال
و قال تعالى طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (2) و قيل يرى ذلك في سنبل الدخن و قد يكون ذلك عبارة عن حب كثير.و هذه الآية متصل بقوله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً (3) و هذا مجاز لأن حقيقته أن يستعمل في الحاجة و يستحيل ذلك و معناه التلطف في الاستدعاء إلى أعمال البر.و جهلت اليهود لما نزلت هذه الآية فقالوا الذي يستقرض منا فنحن أغنياء و هو فقير إلينا فأنزل الله لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ (4) .
فصل
و قوله تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ (5) الآية دلالة على أنهم لم ينظروا إلى كيفية القسمة أ هي عادلة أم جائرة و إنما اعتبروا إعطاءه إياهم فقط فإن أعطاهم قالوا عدل و أحسن و إن لم يعطهم سخطوا و أنكروا و هذا جهل و معلوم أن من لم8.
ص: 223
يرض قسمة النبي صلّى اللّه عليه و آله الصدقات و طعن عليه فيها سرا أو جهرا إما كافر أو منافق.و اللمز العيب في خلوة أي من المنافقين من يعيبك في تفريق الصدقات
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لاَ أُعْطِيكُمْ شَيْئاً وَ لاَ أَمْنَعُكُمُوهُ إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ أَضَعَ حَيْثُ أُمِرْتُ. و لا تعجب إن اختلف أحكام الصدقات فالغلات و الثمار لا يراعى فيها حول الحول و شرطها اثنان الملك و النصاب.و يراعى حول الحول في الأنعام و الأثمان و من شرط الأنعام الملك و النصاب و السوم و من شرط الأثمان الملك و النصاب و كونهما مضروبين منقوشين دنانير و دراهم.و هذا التفصيل إنما نعلمه ببيان الرسول قال تعالى وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ فبيانه في مثل ذلك بالقول و بيانه في تفريقها بالعمل و كلاهما بيان.ثم قال تعالى وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللّهُ و جوابه محذوف أي لكانوا مؤمنين و الحذف في مثل هذا أبلغ لأن الذكر يقصره على معنى و الحذف يجوز كل ممكن محتمل يذهب النفس معه كل مذهب و الله أعلم
قال الله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ (1) .أخبر الله في هذه الآية أنه ليست الصدقات التي هي زكاة الأموال إلا للفقراء
ص: 224
و المساكين و من ذكرهم الله في الآية.و فسر العالم عليه السّلام هذه الأصناف الثمانية فقال الفقراء الذين لا يسألون لقوله تعالى في سورة البقرة لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ (1) الآية و المساكين هم أهل الزمانات منهم الرجال و النساء و الصبيان و العاملين عليها هم السعاة في أخذها و جمعها و حفظها حتى يؤدوها إلى من يقسمها و المؤلفة قلوبهم قال هم قوم وحدوا الله و لم يدخل قلوبهم (2)أن محمدا رسول الله فكان صلّى اللّه عليه و آله يتألفهم فجعل لهم نصيبا بأمر الله لكي يعرفوا و يرغبوا و في الرقاب قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطإ و في الظهار و في الإيمان و في قتل الصيد في الحرم و ليس عندهم ما يكفرون به و هم مؤمنون (3).و قال بعض العلماء جعل الله الزكوات لأمرين أحدهما سد خلة و الآخر تقوية و معونة لعز الإسلام و استدل لذلك على أن المؤلفة قلوبهم في كل زمان و الغارمين الذين ركبتهم الديون في مباح أو طاعة و في سبيل الله الجهاد و جميع مصالح المؤمنين و ابن السبيل المسافر المنقطع به و الضيف.ت.
ص: 225
فصل
اختلفوا في الفرق بين الفقير و المسكين فقال ابن عباس و جماعة الفقير المتعفف الذي لا يسأل و المسكين الذي يسأل ذهبوا إلى أنه مشتق من المسكنة بالسؤال (1).و هذا الخلاف في الفقير و المسكين لا يخل بشيء في باب الزكاة لأنهما جميعا من جملة ذوي السهام الثمانية سواء كان هذا أشد حالا أو ذاك إلا أنه ليس كلا اللفظين عبارة عن شيء واحد.
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَرُدُّهُ الْأَكِلَةُ وَ الْأَكْلَتَانِ وَ التَّمْرَةُ وَ التَّمْرَتَانِ وَ لَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى فَيُعِينُهُ وَ لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافاً. و قال قتادة الفقير ذو الزمانة من أهل الحاجة و المسكين من كان صحيحا محتاجا.و قال قوم هما بمعنى واحد إلا أنه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره و ليعطى من له شيء و لا يكفيه كما يعطى من لا شيء له.و سمي المحتاج فقيرا من حيث كأنه كسر فقار ظهره و المسكين كأن الحاجة سكنته عن حالة أهل السعة و الثروة.و من قال المسكين أحسن حالا استدل بقوله أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ (2) و من قال هما سواء قال كانت السفينة مشتركة بين جماعة لكل واحد منهم شيء يسير. وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها يعني سعاة الزكاة و جباتها.9.
ص: 226
وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أقوام أشراف كانوا في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله فكان يتألفهم على الإسلام و يستعين بهم على قتال غيرهم (1)فيعطيهم سهما من الزكاة فقال قوم كان هذا خاصا على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله
وَ رَوَى جَابِرٌ عَنِ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ عَصْرِ إِلاَّ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِمَامُ عَدْلٍ يَتَأَلَّفُهُمْ عَلَى ذَلِكَ (2). و اختاره الجبائي. وَ فِي الرِّقابِ يعني المكاتبين و أجاز أصحابنا أن يشترى به عبد مؤمن إذا كان في شدة و يعتق من مال الزكاة و يكون ولاؤه لأرباب الزكاة و هو قول ابن عباس و جعفر بن مبشر.و المكاتب إنما يعطى من الصدقة إذا لم يكن معه ما يعطى ما عليه من مال الكتابة فإن كان ذلك عنده فإنه لا يعطى شيئا هذا إذا حل عليه نجم و ليس معه ما يعطيه أو ما يكفيه لنجمه و إن لم يكن معه شيء غير أنه لم يحل عليه نجم فإنه يجوز أيضا أن يعطى لعموم الآية. وَ الْغارِمِينَ هم الذين ركبتهم الديون في غير معصية و لا إسراف فيقضى عنهم ديونهم هذا قول أبي جعفر عليه السّلام و عليه جميع المفسرين. وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني الجهاد بلا خلاف و يدخل فيه عند أصحابنا جميع مصالح المسلمين و هو قول ابن عمر و عطاء و به قال البلخي فإنه قال يبنى منه المساجد و القناطر و غير ذلك و هو قول جعفر بن مبشر. وَ ابْنِ السَّبِيلِ هو المسافر المنقطع به فإنه يعطى من الزكاة و إن كان غنيا في بلده من غير أن يكون دينا عليه و هو قول قتادة و مجاهد.و يستحب له أيضا إذا وصل إلى ماله أن يتصدق بمثل ما أخذه حيث انقطع به.2.
ص: 227
فصل
إذا دفع صاحب المال زكاته إلى الفقير بغير إذن الإمام عند حضوره فللإمام أن يعيد عليه و يطالبه بالزكاة بدلالة تعلق فرض الأداء به
قال الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها و الإمام مخاطب بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله بما خوطب به في تنفيذ الأحكام.و اختلفوا في مقدار ما يعطى الجابي للصدقة فقال مجاهد و الضحاك يعطى الثمن بلا زيادة و قال به عبد الله بن عمرو بن العاص و الحسن و ابن نهد و هو قدر عمالته (1)و هو المروي في أخبارنا.و اللام في قوله لِلْفُقَراءِ ليست للملك إذ لا خلاف أن الصدقات لا يملكها الفقراء بالوجوب و إنما تصير حقا لهم و لمن عطف عليهم و اللام إذا دلت على الحق لم يجب فيها العموم إذ الحق قد يكون للفقراء و يكون الاختيار إلى من يضعه فيهم فله أن لا يعمهم و إن كان قبل الوضع لجماعتهم فقد صار التخصيص في التمليك يصح مع كونه حقا [على طريق العموم.فإذا أبيت من ذلك فالواجب من الظاهر أن لا يقطع على كونه حقا] (2)لجماعتهم يبين ذلك أنه لو كان كذلك لما جاز في الصدقة أن يوضع في ثلاثة مساكين بل كان يجب وضعها في جميع من يتمكن منه في البلد و قد أجمعوا على خلافه.
وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ لِقَاسِمِ الزَّكَاةِ أَنْ يَضَعَهَا فِي أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ. و إليه ذهب ابن عباس و حذيفة و عمر و عطاء و إبراهيم و سعيد بن جبير.و قال بعض المتأخرين لا يضعها إلا في سبعة أصناف لأن المؤلفة قلوبهم قدم.
ص: 228
انقرضوا و إن قسمها الإنسان عن نفسه ففي ستة لأنه بطل سهم العامل عليها و زعم أنه لا يجزي في كل صنف أقل من ثلاثة.و عندنا أن سهم المؤلفة و السعاة و سهم الجهاد قد سقط اليوم و يقسم في الخمسة الباقية كما شاء رب المال و إن وضعها في فرقة منهم جاز إلا أن أقل ما يعطى مستحق ما يجب في نصاب و لا يكسر إلا في الغلات و الثمار و الاحتياط فيها أن لا يكسر في نصابها أيضا.و أجمعت الأمة على أن الصدقات يخالف حكمها حكم الوصية لأنه إذا أوصى بسهام ثم تعذر بعضها في البلد لم يجز صرفها إلى الموجودين فيه و لم يختلفوا في جواز ذلك في الزكاة فقد ثبت أن هذه السهام جهات لجواز الوضع فيهم فكأن الله وسع على المصدق القاسم الحال في ذلك فجاز أن يضعه في جميعهم كيف شاء و جاز أن يضع جميعه في بعضهم إذا رأى ذلك أولى و أحق في الحال.
فصل
قد ذكرنا من قبل أنه يجوز أن يشترى المملوك من مال الزكاة فيعتق إذا كان حاله ما قدمناه
ص: 229
و يجوز أن يكفن من الزكاة الموتى و يقضى بها الدين عن الميت و باقي الفقهاء يخالفوننا فيه و الحجة لأصحابنا مضافا إلى إجماعهم قوله وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ في آية وجوه الصدقة التي ذكرناها و معنى سبيل الله الطريق إلى ثواب الله و الوصلة إلى التقرب إليه تعالى و لما كان ما ذكرنا مقربا إلى الله و موصلا إلى الثواب جاز صرفه فيه.فإن قيل المراد بقوله وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ما ينفق في جهاد العدو.قلنا كل هذا مما يوصف بأنه سبيل الله و إرادة بعضه لا يمنع من إرادة البعض الآخر.و قد روى مخالفونا عن ابن عمر أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله فقال ابن عمر إن الحج من سبيل الله فاجعلوه فيه.
وَ رَوَوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَنَّ الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ (1) .هذا و إن كان خطابا للمؤمنين دون سائر الناس فلا يدل على أن الكافر غير متعبد به لأن الأمر المتوجه إليك لا يكون نهيا لغيرك مع أن جميع المؤمنين لا يجب عليهم الزكاة و إنما تجب على من يكون حرا يملك النصاب مع شرائطها الأخر المذكورة و قد قال الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ (2)
ص: 230
فقد توعدهم على ترك الزكاة الواجبة عليهم لأنهم متعبدون بجميع العبادات و معاقبون على تركها.قال الزجاج معناه ويل للمشركين الذين لا يؤمنون بأن الزكاة واجبة عليهم.و إنما خص الزكاة بالذكر تفريعا لهم على شحهم الذي يأنف منه أهل الفضل و الصحيح أنه عام في جميع ذلك و حسن الإحسان و الإنعام يعلم على الجملة عقلا.و لا زكاة واجب في صامت أموال الصبيان و تجب فيهما عدا ذلك من أنعامهم و غلاتهم و ثمارهم و بهذا نصوص عن آل محمد عليهم السّلام (1)و يؤيدها قوله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (2) فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة و الصبي غير مخاطب بالصلاة و قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها (3) و الصبي لا يحتاج إلى التطهير إذ لا ذنب له و لا تكليف عليه.فأما زكاة حرثه و نعمه فمأخوذ من قوله وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (4) و قد ثبت أن القرآن لا يتناقض و لا يختلف معانيه و لم يكن طريق إلى الملاءمة بين معانيه إلا على الوجه الذي ذكرناه مع وفاق السنة في ذلك له.و قوله أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ يدخل فيه الزكاة المفروضة و غيرها من أنواع النفقة.و قال عبيدة السلماني و الحسن هي مختصة بالزكاة لأن الأمر على الإيجاب و لا يجب من الإنفاق على الكل إلا الزكاة.و قال الجبائي هي في التطوع لأن الفرض من الصدقة له مقدار من القيمة إن قصر كان ذنبا عليه إلى أن يؤديه على التمام.4.
ص: 231
فصل
و قوله وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (1) .عن علي عليه السّلام و البراء و الحسن و قتادة أنها نزلت لأن بعضهم كان يأتي بالحشف (2)فيدخله في تمر الصدقة (3)و قال ابن زيد الخبيث الحرام.و الأول أقوى و العموم يستغرقهما إلا أنه تعالى قال أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ثم قال وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ يعني من الذي كسبتم أو أخرجه الله من الأرض و الحرام و إن كان خبيثا فليس من ذلك غير أنه يمكن أن يراد بذلك لأنه لا ينافي السبب.فأما إذا كان مال المزكى كله رديئا فجائز له أن يعطي منه و لا يدخل فيما نهي عنه لأن تقدير ما جعله الله للفقير في مال الغني تقدير حصة الشريك فليس لأحد الشريكين أن يأخذ الجيد و يعطي صاحبه الرديء [لما فيه من الوكس فإذا استوى في الرداءة جاز له إعطاء الزكاة من الرديء لأنه حينئذ] (4)لم يبخسه حقا هو له كما يبخسه في الأول.و يقوي القول الأول قوله وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ لأن الإغماض لا يكون إلا في الشيء الرديء دون ما هو حرام.و الأجناس التسعة التي تجب فيها الزكاة تدخل [تحت قوله أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ
ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ و كذا الأجناس الخمسة التي يستحب فيها الزكاة تدخل] (1)تحته.ج.
ص: 232
ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ و كذا الأجناس الخمسة التي يستحب فيها الزكاة تدخل] (1)تحته.
وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ لَهُمْ أَمْوَالٌ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ مِنْهُ فَنَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الطَّيِّبِ الْحَلاَلِ (2). فعليك أيها الناظر في كتابي هذا أن تتدبره فإن السنة منها جيء و منها أجيء و بيان الكتاب من السنة.
فصل
و قوله وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ في معناه قولان أحدهما أن لا تتصدقوا بما لا تجدونه من غرمائكم إلا بالمسامحة و المساهلة فالإغماض المساهلة و الآخر معناه لا تتصدقوا بما لا تأخذونه إلا أن تحطوا من الثمن فيه و مثله قول الزجاج أي لستم تأخذونه إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة.ثم قال إن الله غني عن صدقاتكم يقبلها منكم و يحمدكم عليها و يجازيكم عليه.ثم حذر من الشيطان المانع من الصدقة فإنه يعدكم الفقر بتأدية زكاتكم و يأمركم بالإنفاق من الرديء و سماه فحشاء لأن فيه معصية الله و الله يعدكم أن يخلف عليكم خيرا من صدقتكم و عن ابن عباس اثنان من الله و اثنان من الشيطان.
وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لِلشَّيْطَانِ لَمَّةٌ وَ لِلْمَلَكِ لَمَّةٌ فَلَمَّةُ (3)الشَّيْطَانِ وَعْدُهُ بِالْفَقْرِ وَ أَمْرُهُ بِالْفَاحِشَةِ وَ لَمَّةُ الْمَلَكِ أَمْرُهُ بِالْإِنْفَاقِ وَ نَهْيُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. ثم ذكر تعالى صفة الإنفاق و رغب فيه فقال إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ
وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (1) .اعلم أن صدقة التطوع إخفاؤها أفضل لأنه أبعد من الرياء و المفروض لا يدخله الرياء و يلحقه تهمة المنع بإخفائها فإظهارها أفضل عن ابن عباس و كذا).
ص: 233
وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (1) .اعلم أن صدقة التطوع إخفاؤها أفضل لأنه أبعد من الرياء و المفروض لا يدخله الرياء و يلحقه تهمة المنع بإخفائها فإظهارها أفضل عن ابن عباس و كذا
رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ تُخْرَجُ عَلاَنِيَةً وَ تُدْفَعُ عَلاَنِيَةً وَ غَيْرُ الزَّكَاةِ إِنْ دَفَعَهُ سِرّاً فَهُوَ أَفْضَلُ (2). و قيل الإخفاء في كل صدقة من واجب و غيره أفضل عن الحسن و هو الأشبه لعموم الآية و عليه يدخل أخبارنا على أن الأول حسن و نحوه أن إظهار الصلوات الخمس أفضل دفعا للشبهة و إخفاء النوافل حسن دفعا للرياء.و الزكاة و الصدقة يتداخل معناهما و إن كانت الزكاة وضعت عرفا أولا في الفرض و الصدقة في النفل و الإبداء الإظهار و الإخفاء الإسرار.و قوله فَنِعِمّا هِيَ أي نعم شيئا إبداؤها فما نكرة و هي في موضع نصب لأنه يفسر الفاعل المضمر قبل الذكر في نعم و الإبداء هو المخصوص بالمدح فحذف المضاف الذي هو الإبداء و أقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات و هو هي.
فصل
وَ قَوْلَهُ تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (3) عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مُنَادِيَهُ فَنَادَى فِي النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الزَّكَاةَ كَمَا فَرَضَ عَلَيْكُمُ الصَّلاَةَ فَفَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنَ الذَّهَبِ3.
ص: 234
وَ الْفِضَّةِ وَ الْإِبِلِ وَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ وَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَ الشَّعِيرِ وَ التَّمْرِ وَ الزَّبِيبِ وَ عَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِمُ الْحَوْلُ مِنْ قَابِلٍ فَصَامُوا وَ أَفْطَرُوا فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ زَكُّوا أَمْوَالَكُمْ تُقْبَلْ صَلاَتُكُمْ قَالَ ثُمَّ وَجَّهَ عُمَّالَ الصَّدَقَةِ (1).
وَ قَدْ بَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مُصَدِّقاً مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى بَادِيَتِهَا فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ لاَ تُؤْثِرَنَّ دُنْيَاكَ عَلَى آخِرَتِكَ وَ كُنْ حَافِظاً لِمَا ائْتَمَنْتُكَ عَلَيْهِ رَاعِياً لِحَقِّ اللَّهِ فِيهِ حَتَّى تَأْتِيَ نَادِيَ بَنِي فُلاَنٍ فَإِذَا قَدِمْتَ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِسَكِينَةٍ وَ وَقَارٍ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قُلْ لَهُمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ حَقٌّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ فَإِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ لاَ فَلاَ تُرَاجِعْهُ وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مِنْهُمْ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تَعِدَهُ إِلاَّ خَيْراً فَإِذَا أَتَيْتَ مَالَهُ فَلاَ تَدْخُلْهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ لَهُ فَقُلْ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَ تَأْذَنُ لِي فِي دُخُولِ مَالِكَ فَإِنْ أَذِنَ لَكَ فَلاَ تَدْخُلْ دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ فِيهِ وَ لاَ عَنِفٍ بِهِ فَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِنِ اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضْ لَهُ فَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اخْلِطْهَا وَ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا قَبَضْتَهُ فَلاَ تُوَكِّلْ بِهِ إِلاَّ نَاصِحاً شَفِيقاً أَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعْنِفٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا ثُمَّ احْدُرْ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ كُلِّ فأد [نَادٍ] إِلَيْنَا نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ فَإِذَا انْحَدَرَ بِهَا رَسُولُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ فَصِيلِهَا وَ لاَ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَ لاَ يَصُرَّ لَبَنَهَا فَيُضِرَّ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَ لاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ وَ لْيُورِدْهُنَّ كُلَّ مَاءٍ يَمُرُّ بِهِ وَ لاَ يَعْدِلْ بِهِنَّ عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطَّرِيقِ حَتَّى تَأْتِيَنَا سِجَاحاً سِمَاناً غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لاَ مُجْهَدَاتٍ فَنَقْسِمَهُنَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ عَلَى3.
ص: 235
أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ (1). فقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أمر منه تعالى بأخذ صدقاتهم على ما تقدم و فرض على الأمة حملها إليه لفرضه عليها طاعته و الإمام قائم مقامه فيما فرض على النّبي صلّى اللّه عليه و آله من إقامة الحدود و الأحكام لأنه مخاطب بخطابه في ذلك و لما وجد النبي كان الفرض حمل الزكاة إليه فلما غاب من العالم بوفاته صار الفرض حمل الزكاة (2)إلى خليفته فإذا غاب الخليفة كان الفرض حملها إلى من نصبه في مقامه من خاصته فإذا عدم السفراء بينه و بين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء المأمونين من أهل ولايته لأن الفقيه أعرف بموضعها ممن لا فقه له.
فصل
و قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً (3) قال المبرد يعني أن السنة للمسلمين على الأهلة لا على ما يعده أهل الكتاب فسمى الله كل ثلاثين يوما أو تسعة و عشرين يوما عند تجدد رؤية الهلال بعد استسراده شهرا و سمى كل اثني عشر شهرا سنة و عاما و حولا إذ كان لا ينتظم أمر الناس إلا بهذا الحساب و إجراء الأحوال على مقتضى هذا المثال في جميع الأبواب.و لما كان سائر الأمم سوى العرب يجعلون الشهر ثلاثين يوما و السنة بحلول الشمس أول الحمل و ذلك إنما يكون بانقضاء ثلاثمائة و خمسة و ستين يوما و ربع يوم و اليهود و النصارى عبادتهم المتعلقة بالأوقات تجري على هذا الحساب بين الله أنه حكم بأن تكون السنة قمرية لا شمسية و أنه تعبد المسلمين بهذا فجعل حجتهم و أعيادهم و معاملاتهم و حساباتهم و وجوب الزكوات عليهم معتبرة بالقمر و شهوره6.
ص: 236
لا بالشمس فإن كان مع الإنسان مال تام النصاب و حال عليه الحول يجب فيه الزكاة و حد حول الحول فيها أنه إذا استهل هلال الشهر الثاني عشر.و الأثمان و الأنعام لا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول.فأما الغلات فوقت الزكاة فيها حين حصولها بعد الحصاد و الجذاذ و تفصيل ذلك أن وقت وجوب الزكاة في الغلات إذا كانت حبوبا إذا اشتدت و في الثمار إذا بدا صلاحها.و على الإمام أن يبعث سعاته لحفظها في الاحتياط عليها كما فعل رسول الله بخيبر.و وقت الإخراج إذا ديس الحب و نقي و صفي و في الثمر إذا جففت و شمست و المراعى في النصاب مجففا مشمسا.و قوله تعالى وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ
"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الزَّكَاةُ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ.
وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مِمَّا تَنْشُرُ مِمَّا يُعْطَى الْمَسَاكِينَ الضِّغْثَ بَعْدَ الضِّغْثِ وَ الْجَفْنَةَ بَعْدَ الْجَفْنَةِ (1). و عن السدي الآية منسوخة بفرض العشر و نصف العشر لأن الزكاة لا تخرج يوم الحصاد و لأن هذه الآية مكية و فرض الزكاة نزل بالمدينة و لما روي أن الزكاة نسخت كل صدقة و قال الرماني هذا غلط لأن يوم حصاده ظرف لحقه و ليس بظرف لإيتاء المأمور به.و قوله وَ لا تُسْرِفُوا نهي عن وضع الزكاة في غير أهله و أن من أعطى زكاة ماله الفاسق و الفاجر فقد أسرف و وجب عليه الإعادة
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الْمُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا (2). و الإسراف مجاوزة حد الحق و هو يكون4.
ص: 237
بالتفريط و الإفراط و التقصير و الزيادة.و الخطاب لأرباب المال و قيل للسلطان و قيل خطاب للجميع و هو أعم فائدة.و روي عن ثابت بن قيس بن شماس أنه كان له خمسمائة رأس نخلة فصرمها و تصدق بها و لم يترك لأهله منها شيئا فنهى الله عن ذلك و بين أنه سرف (1)
وَ لِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. و الآية الأولى تدل على أن الواجب تعليق الأحكام المتصلة بالشهور و السنين من عبادات و غيرها بهذه الأشهر دون الشهور التي تعتبرها العجم و الروم فمن هذا الوجه تعليق الصيام و أخذ الجزية و غيرها بحئول هذا الحول يؤيده قوله مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (2) و العدة اسم المعدود.
فصل
و قوله تعالى وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أي ما تنفقوا في وجوه البر من مال فلأنفسكم ثوابه ثم قال (3)وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ (4) أخبر تعالى عن صفة المؤمنين أنهم لا ينفقون إلا طلبا لرضا الله و قيل معناه النهي و إن كان ظاهره الخبر أي لا تنفقوا إلا طلبا لرضوان الله (5).ثم قال لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ (6) قيل هو بدل من قوله فَلِأَنْفُسِكُمْ3.
ص: 238
و الأحسن أن يكون العامل محذوفا أي النفقة المذكورة للفقراء الذين حبسوا و منعوا في طاعة الله إما لخوف العدو و إما للمرض و الفقر و إما للإقبال على العبادة.ثم وصفهم بقوله يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً .ثم حث الناس عليها فقال اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي ينفقون على الدوام إذ لا وقت سواها فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ (1) أتى بالفاء ليدل على أن الأجر من أجل الإنفاق في طاعة الله.ثم عقب بآية الربا ثم قال وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ (2) أي إن وقع في غرمائكم فقر فتؤخر إلى وقت يساره
وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي حَدِّ هَذَا الْإِعْسَارِ وَ هُوَ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهِ وَ قُوتِ عِيَالِهِ عَلَى الاِقْتِصَادِ وَ هُوَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ دَيْنٍ (3).
وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِلى مَيْسَرَةٍ مَعْنَاهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ الْإِمَامَ فَيَقْضِيَ عَنْهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ أَنْفَقَهُ فِي مَعْرُوفٍ (4). وَ أَنْ تَصَدَّقُوا أي أن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير من الشر فإن كان الدين على والدك أو على والدتك أو ولدك جاز أن تقضيه عنهم من الزكاة و إن لم يجز إعطاء الزكاة إياهم.و قوله اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً (5) فالمن هو ذكر ما ينقص المعروف بأن يقول أحسنت إلى فلان و أغنيته2.
ص: 239
و نحوه و الأذى أن يقول أنت أبدا فقير و من أبلاني بك و أراحني الله منك.ثم قال لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ (1) فالمنافق و المنان يفعلان لغير وجه الله فلا يستحقان عليه ثوابا و لا دليل فيها على أن الثواب الثابت يزول بالمن.أما قوله يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ (2) فقال السدي الآية واردة في الزكاة يستحب سان مصارف الزكاة و الأظهر أن المراد به نفقة التطوع على من لا يجوز وضع الزكاة عنده و لمن يجوز وضع الزكاة عنده فهي عامة في الزكاة المفروضة و في التطوع لأنه لا دليل على نسخها.و الآية نزلت في عمرو بن الجموح كان شيخا كبيرا ذا مال قال يا رسول الله بما ذا أتصدق و على من أتصدق (3).ثم قال وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (4)
عَنِ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْعَفْوُ هَاهُنَا مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِ السَّنَةِ (5). فنسخ ذلك بآية الزكاة
وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْعَفْوُ الْوَسَطُ (6)أَيْ لاَ إِقْتَارَ وَ لاَ إِسْرَافَ.
فصل
و قوله اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ (7) نزلت في9.
ص: 240
حبحاب (1)لأنه أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله بصاع من تمر و قال يا رسول الله إني عملت في النخل بصاعين فتركت للعيال صاعا و أهديت لله صاعا فقال المنافقون إن الله لغني عما أتى به (2).و المتطوع المتنفل من طاعة الله ما ليس بواجب.و قوله وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ (3) أكثر المفسرين و العلماء على أن الوعيد يتناول مانع الزكاة الواجبة لأن جمع المال ليس بمحظور و بعد إخراج حق الله منه فحفظه إليه إن شاء أحرزه بالدفن في الأرض أو بالوضع في الصندوق (4).
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إِلاَّ جِيءَ بِكَنْزِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُحْمَى بِهِ جَنْبُهُ وَ جَبِينُهُ لِعُبُوسِهِ وَ ازْوِرَارِهِ وَ جَعْلِ السَّائِلِ وَ السَّاعِي وَرَاءَ ظَهْرِهِ (5). و روى ابن مهرإيزد في تفسيره أن سائلا سأل أبا ذر و هو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل فقال كنا بالشام فسألني معاوية عن هذه الآية أ هي فينا أم في أهل الكتاب فقال قلت فينا و فيهم فقال معاوية بل هي في أهل الكتاب ثم كتب إلى عثمان أن أبا ذر يطعن فينا فاستقدمني عثمان المدينة فلما أقبلت قال تنح قليلا فتنحيت إلى منزلي هذا.2.
ص: 241
وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ (1) .
قال الله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (2) .الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال (3)و هي هبة من الله للمسلمين.و الخمس يجب فيها و في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب و أرباح التجارات و في الكنوز و المعادن و الغوص و غير ذلك و هي خمسة و عشرون جنسا و كل واحد منها غنيمة فإذا كان كذلك فالاستدلال يمكن عليها كلها بهذه الآية و يدل عليها جملة قوله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .و وقت وجوب الخمس فيه وقت حصوله لا يراعى فيه حئول الحول و لا النصاب الذي في الزكاة إلا في شيئين منها أحدهما الكنوز فإنه يراعى فيها النصاب الذي يجب فيه زكاة الأثمان و الثاني الغوص فإنه يراعى فيه مقدار دينار و ما عداهما لا يعتبر فيه مقدار و التقدير و اعلموا أن ما غنمتموه ما نصب اسم أن و غنمتم صلته.و قوله فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ أي فأمره و شأنه أن لله خمسه فما بمعنى الذي
ص: 242
و لا يجوز أن يكتب إلا مفصولا لأن كتبه موصولا يوجب كون ما كافة على ما عليه عرف أهل اللغة و النحو.و قال الشيخ المفيد الخمس يجب في المعدن إذا بلغ الموجود منه مبلغا قيمته مائتا درهم و بذلك نصوص عن أئمة آل محمد عليهم السّلام و يؤيد ذلك قوله وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ و ما وجد في المعدن فهو من الغنائم بمقتضى العرف و اللسان.
فصل
و أما قسمة الخمس فهو عندنا على ستة أقسام على ما ذكره الله سهم لله و سهم لرسوله و هذان مع سهم ذي القربى القائم مقام النّبي صلّى اللّه عليه و آله ينفقهما على نفسه و أهل بيته من بني هاشم و سهم لليتامى و سهم للمساكين و سهم لأبناء السبيل كلهم من أهل بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله لا يشركهم فيها باقي الناس لأن الله عوضهم ذلك عما أباح لفقراء سائر المسلمين و مساكينهم و أبناء سبيلهم من الصدقات الواجبة المحرمة على أهل بيت النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو قول زين العابدين و الباقر عليه السّلام روى الطبري بإسناده عنهما.و اعلم أن الفقير إذا أطلق مفردا دخل فيه المسكين و كذا لفظ المسكين إذا أطلق مفردا دخل فيه الفقير لأنهما متقاربان في المعنى و لم يذكر في آية الخمس الفقراء كما جمع الله في آية الزكاة بينهما لأن هناك لهما سهمان من ثمانية أسهم و هاهنا أفرد لفظ المساكين و أراد بهم من له شيء لا يكفيه و من لا شيء له و لكليهما سهم واحد من ستة أسهم.
ص: 243
فصل
و قوله وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ قال المغربي حاكيا عن الصابوني إن هؤلاء الثلاث الفرق لا يدخلون في سهم ذي القربى و إن كان عموم اللفظ يقتضيه لأن سهامهم مفردة و هو الظاهر من المذهب.و إفراد لفظ ذي من ذي القربى دون أن يكون ذوي القربى على الجمع يحقق ما ذكرناه أنه للإمام القائم مقام الرسول صلّى اللّه عليه و آله.و الذين يستحقون الخمس عندنا من كان من ولد عبد المطلب لأن هاشما لم يعقب إلا منه من الطالبيين و العباسيين و الحارثيين و اللهبيين فأما ولد عبد مناف من المطلبين فلا شيء لهم منه.
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخُمُسُ يُقْسَمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ فَسَهْمُ اللَّهِ وَ سَهْمُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ. و قال قوم يقسم أربعة أقسام سهم لبني هاشم و ثلاث للذين ذكرهم الله بعد ذلك من سائر المسلمين ذهب إليه الشافعي و قال أهل العراق يقسم ثلاثة أقسام لأن سهم الرسول صرف الأئمة الثلاثة إلى الكراع و السلاح و قال مالك يقسم على ما ذكره الله و قال أبو العالية و هو رجل من صلحاء التابعين يقسم على ستة أقسام فسهم الله للكعبة و الباقي لمن ذكر بعد ذلك.
فصل
"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ مُجَاهِدٍ: ذُو الْقُرْبَى بَنُو هَاشِمٍ. و قد بينا أن المراد بذي القربى من كان أولى من أهل بيته في حياته و بعد النبي هو القائم مقامه و به قال علي بن الحسين عليه السّلام في رواياتهم و قال الحسن و قتادة سهم الله و رسوله و سهم
ص: 244
ذي القربى لولي الأمر من بعده و هو مثل مذهبنا.و اليتيم هو من مات أبوه و هو صغير و لم يبلغ و ابن السبيل هو المنقطع به في سفره سواء كان له في بلده يسار أو لم يكن و لا يجب أن يكون له في بلده يسار و انقطع به في السفر لأن ذلك لا يقتضيه كلمة الأصل التي هي ابن السبيل و لا تفسيره الذي هو المنقطع به لأن المسافر إنما قيل له ابن السبيل لأن السبيل أخرجه إلى هذا المستقر كما أخرجه أبوه إلى مستقره لقي محتاجا و المنقطع به هو الذي نفد ما عنده بل ضاع منه أو قطع به الطريق أو لغير ذلك سواء كان ما عنده (1)قليلا أو كثيرا و سواء كان من ورائه شيء أو لم يكن.و ذكر الشيخ في المبسوط أن ابن السبيل على ضربين أحدهما المنشئ للسفر من بلده الثاني المجتاز بغير بلده و كلاهما مستحق للصدقة عند أبي حنيفة و الشافعي و لا يستحقها إلا المجتاز عند مالك و هو الأصح لأنهم عليهم السّلام فسروه فقالوا هو المنقطع به و إن كان في بلده ذا يسار فدل ذلك على أنه المجتاز و قد روي أن الضيف داخل فيه و المنشئ للسفر من بلده إذا كان فقيرا جاز أن يعطى من سهم الفقراء دون سهم ابن السبيل.ثم قسم السفر إلى طاعة و معصية قال فإذا كان طاعة أو مباحا استحق بهما الصدقة و لا يستباح بسفر المعصية الصدقة ثم قال فابن السبيل متى كان منشئا للسفر من بلده و لم يكن له مال أعطي من سهم الفقراء عندنا و من سهم ابن السبيل عندهم و إن كان له مال لا يدفع إليه لأنه غير محتاج بلا خلاف و إن كان مجتازا بغير بلده و ليس معه شيء دفع إليه و إن كان غنيا في بلده لأنه محتاج في موضعه.هذا كلامه في باب الزكاة و الصحيح أن المنشئ من بلده للسفر ليعطى شيئا في بلد آخر لا مانع من أن يدفع إليه من سهم ابن السبيل مقدار ما يوصله إلى بلده.ج.
ص: 245
فصل
قال المرتضى رضي الله عنه إن تمسك الخصم بقوله وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى و قال عموم الكلام يقتضي ألا يكون ذو القربى واحدا و عموم قوله وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ يقتضي تناوله لكل من كان بهذه الصفات و لا يختص ببني هاشم و مذهبكم يخالف ظاهر الكتاب لأنكم تخصون الإمام بسهم ذي القربى و لا تجعلونه لجميع قرابة الرسول من بني هاشم و تقولون إن الثلاثة الأسهم الباقية هي ليتامى آل محمد و مساكينهم و أبناء سبيلهم و لا تتعدونهم إلى غيرهم ممن استحق هذا الاسم و هذه الأوصاف.و أجاب عنه فقال ليس يمتنع تخصيص ما ظاهره العموم بالأدلة على أنه لا خلاف بين الأمة في تخصيص هذه الظواهر لأن ذا القربى عام و قد خصوه بقربى النبي صلّى اللّه عليه و آله دون غيره و لفظ اليتامى و المسكين و ابن السبيل عام في المشرك و الذمي و الغني و الفقير و قد خصته الجماعة ببعض من له هذه الصفة على أن من ذهب من أصحابنا إلى أن ذا القربى هو الإمام القائم مقام النبي خاصة و سمي بذلك لقربه منه نسبا و تخصصا فالظاهر معه لأن قوله لِذِي الْقُرْبى لفظ وحده و لو أراد الجمع لقال ذوي القربى فمن حمل ذلك على الجمع فهو مخالف للظاهر (1).فأما الاستدلال بأن ذا القربى في الآية لا يجوز أن يحمل على جميع ذوي القرابات من بني هاشم فإن ما عطف على ذلك من اليتامى و المساكين و ابن السبيل إذا يلزم أن يكونوا غير الأقارب لأن الشيء لا يعطف على نفسه فضعيف و ذلك غير لازم لأن الشيء و إن لم يعطف على نفسه فقد يعطف صفة على أخرى و الموصوف واحد.ظ.
ص: 246
فصل
و الفيء ما أخذ بغير قتال في قول عطاء و السائب و سفيان الثوري و هو قول الشافعي و هو اختيارنا و قال قوم الغنيمة و الفيء واحد.و قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ إلى آخر الآية ناسخ للآية التي في الحشر من قوله ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (1) قالوا لأن الله بين في آية الغنيمة أن الأربعة الأخماس للمقاتلة و خمسها للرسول و لأقربائه و في آية الحشر كلها له و على القول الأول لا يحتاج إلى هذا لأنه الفيء.و عندنا الفيء للإمام خاصة يفرقه فيمن يشاء يضعه في مئونة نفسه و ذي قرابته و اليتامى و المساكين و ابن السبيل من أهل بيت النّبي صلّى اللّه عليه و آله ليس لسائر الناس فيه شيء.و كذلك قيل في قوله تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى (1) إن الأمر فيه بإعطاء ذي القربى هو أمر بصلة قرابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و هم الذين أرادهم الله بقوله فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (2)
رُوِيَ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ
وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِجَبْرَئِيلَ لِمَنْ هَذَا الْفَيْءُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (3) فَاسْتَدْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ فَأَعْطَاهَا فَدَكاً وَ سَلَّمَهَا إِلَيْهَا فَكَانَ وُكَلاَؤُهَا فِيهَا طُولَ حَيَاةِ النَّبِيِّ مِنْ عِنْدِ نُزُولِهَا فَلَمَّا مَضَى رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَ لَمْ يَقْبَلْ بَيِّنَتَهَا وَ لاَ سَمِعَ دَعْوَاهَا فَطَالَبَتْ بِالْمِيرَاثِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا مُنِعَ مِنْ وَجْهٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ لَهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ فَمَنَعَهَا الْمِيرَاثَ بِهَذَا الْكَلاَمِ. و هذا مشهور.
ص: 247
وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِجَبْرَئِيلَ لِمَنْ هَذَا الْفَيْءُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) فَاسْتَدْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ فَأَعْطَاهَا فَدَكاً وَ سَلَّمَهَا إِلَيْهَا فَكَانَ وُكَلاَؤُهَا فِيهَا طُولَ حَيَاةِ النَّبِيِّ مِنْ عِنْدِ نُزُولِهَا فَلَمَّا مَضَى رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَ لَمْ يَقْبَلْ بَيِّنَتَهَا وَ لاَ سَمِعَ دَعْوَاهَا فَطَالَبَتْ بِالْمِيرَاثِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا مُنِعَ مِنْ وَجْهٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ لَهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ فَمَنَعَهَا الْمِيرَاثَ بِهَذَا الْكَلاَمِ. و هذا مشهور.
وَ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَسْبَاطٍ قَالَ: لَمَّا وَرَدَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى الْمَهْدِيِّ الْخَلِيفَةِ وَجَدَهُ يَرُدُّ الْمَظَالِمَ فَقَالَ مَا بَالُ مَظْلِمَتِنَا لاَ تُرَدُّ فَقَالَ مَا هِيَ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَتَحَ عَلَى نَبِيِّهِ فَدَكاً وَ مَا وَالاَهَا وَ لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَ آتِ ذَا الْقُرْبى فَلَمْ يَدْرِ رَسُولُ اللَّهِ مَنْ هُمْ فَرَاجَعَ فِي ذَلِكَ جِبْرِيلَ فَسَأَلَ اللَّهَ عَنْ ذَلِكَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ادْفَعْ فَدَكاً إِلَى فَاطِمَةَ فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ لَهَا يَا فَاطِمَةُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَ إِلَيْكِ فَدَكاً فَقَالَتْ قَدْ قَبِلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ وَ مِنْكَ فَلَمْ يَزَلْ وُكَلاَؤُهَا فِيهَا حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَ عَنْهَا وُكَلاَءَهَا فَأَتَتْهُ فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا فَقَالَ ائْتِينِي بِأَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ فَجَاءَتْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ وَ أُمِّ أَيْمَنَ فَشَهِدُوا لَهَا فَكَتَبَ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ فَخَرَجَتْ وَ الْكِتَابُ مَعَهَا فَلَقِيَهَا عُمَرُ فَقَالَ مَا هَذَا مَعَكِ يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ قَالَتْ كِتَابٌ كَتَبَهُ لِي ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ قَالَ فَأَرِينِهِ فَأَبَتْ فَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهَا فَنَظَرَ فِيهِ ثُمَّ تَفَلَ فِيهِ وَ مَحَاهُ وَ خَرَقَهُ وَ قَالَ هَذَا لِأَنَّ أَبِيكِ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ وَ تَرَكَهَا وَ مَضَى فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ حُدَّهَا فَحَدَّهَا فَقَالَ هَذَا كَثِيرٌ وَ أَنْظُرُ فِيهِ (2).2.
ص: 248
فصل
و قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ (1)
وَ رُوِيَ عَنِ الْبَاقِرِ وَ الصَّادِقِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: أَنَّ الْأَنْفَالَ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ إِذَا انْجَلَى أَهْلُهَا عَنْهَا (2). و قسمها الفقهاء فيئا و ميراث من لا وارث له و غير ذلك مما هو مذكور في كتب الفقه.و هو لله و للرسول و بعده للقائم مقامه يصرف حيث يشاء من مصالح نفسه و من يلزمه مئونته ليس لأحد فيه شيء.و قالا كانت غنائم بدر للنبي صلّى اللّه عليه و آله خاصة فسألوه أن يعطيهم.و في قِرَاءَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ يَسْئَلُونَكَ الْأَنْفَالَ (3)فأنزل الله قوله قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ و لذلك قال تعالى فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ و لو سألوه عن موضع الاستحقاق لم يقل فَاتَّقُوا اللّهَ و قد اختلفوا في ذلك اختلافا شديدا و الصحيح ما ذكرناه.و قال قوم نزلت في بعض أصحاب النبي سأله من المغنم شيئا قبل القسمة فلم يعطه إياها فجعل الله جميع ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله و كان نفل قوما و قال آخرون لو أردنا لأخذنا فأنزل الله الآية يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله ماض و قال معنى عن معنى من و كان ابن مسعود يقرأ يَسْئَلُونَكَ الْأَنْفَالَ .2.
ص: 249
وَ قَالَ الْحَسَنُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَيُّمَا سُرِّيَّةٍ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ إِمَامِهَا فَمَا أَصَابَتْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ غُلُولٌ. و اختلفوا هل لأحد بعد النبي أن ينفل فقال جماعة من الفقهاء و اختاره الطبري أن للأئمة أن يتأسوا بالنبي في ذلك.و ذاتَ بَيْنِكُمْ قال الزجاج أراد الحال التي ينصلح بها أمر المسلمين.
فصل
و أما قوله ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى فأوله وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني من اليهود و الذين أجلاهم من بني النضير و إن كان الحكم سائرا في جميع الكفار إذا كان حكمهم حكمهم.و الفيء رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله إياهم على ما شرط فيه و قال عمر الفيء مال الخراج و الجزية و قيل هو كل ما رجع من أموال الكافرين إلى المؤمنين فمنه غنيمة و غير غنيمة.و الذي نذهب إليه أن مال الفيء غير مال الغنيمة فالغنيمة كل ما أخذ بالسيف من دار الحرب عنوة على ما قدمناه و الفيء كل ما أخذ من الكفار بغير قتال أو انجلى أهلها و كان ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله و هي لمن قام مقامه و مال بني النضير كان له عليه السّلام لأنه لما نزل المدينة عاقدوه على أن لا يكونوا لا عليه و لا له ثم نقضوا العهد و أرادوا أن يطرحوا عليه حجرا حين مشى النبي إليهم يستعين بهم فأجلاهم الله عن منازلهم.و ما أَفاءَ اللّهُ يعني ما رجعه الله عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني من بني النضير فهو له يفعل فيه ما يشاء و ليس فيه لأحد حظ.
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَيُّمَا قَرْيَةٍ فَتَحَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَهِيَ لِلَّهِ
ص: 250
وَ لِرَسُولِهِ وَ أَيُّمَا قَرْيَةٍ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِأَقْرِبَائِهِ وَ مَا بَقِيَ غَنِيمَةٌ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ يَصِحُّ نَقْلُهُ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ نَقْلُهُ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ.ثُمَّ قَالَ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ يَعْنِي لَمْ يُوجِفُوا عَلَى ذَلِكَ بِخَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ وَ إِنَّمَا جَلَوْا عَنِ الرُّعْبِ وَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِتَالٌ.ثُمَّ بَيَّنَ الْمُسْتَحِقَّ لِذَلِكَ فَقَالَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يَعْنِي قُرَى بَنِي النَّضِيرِ فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى يَعْنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لِهَؤُلاَءِ سَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ ثُمَّ بَيَّنَ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَالَ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ فَالدُّولَةُ نَقْلُ النِّعْمَةِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ.ثُمَّ قَالَ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ أَيْ مَا أَعْطَاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الْفَيْءِ فَخُذُوهُ وَ ارْضَوْا بِهِ فَإِنَّ مَالَ بَنِي النَّضِيرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَإِنَّهُ فَيْءٌ لاَ غَنِيمَةٌ وَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِنَّمَا وَضَعَهُ فِي الْمُهَاجِرِينَ إِذَا كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَ لَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ إِلاَّ أَبَا دُجَانَةَ وَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ لِفَقْرِهِمَا وَ إِنَّمَا وَضَعَهُ فِي الْمَذْكُورِينَ لِلْفَقْرِ لاَ مِنْ حَيْثُ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ وَ هُوَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. و قوله لِلْفُقَراءِ ليست اللام للتمليك و الاستحقاق و إنما هل للتخصيص من حيث تبرع النبي صلّى اللّه عليه و آله بشيء منه لهم كما تقدم بل اللام يتعلق بمعنى الكلام في قوله ما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي ما آتاكم الرسول إيتاء للفقراء و من قال لِلْفُقَراءِ بدل من قوله لِذِي الْقُرْبى غفل عن سبب نزول الآية.و أما قوله وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ فمبتدأ و خبره يُحِبُّونَ (1) و كذا وَ الَّذِينَ جاؤُ مبتدأ و خبره يَقُولُونَ (2) فلا تتوهم أن هؤلاء كلهم مشتركون في ذلك الفيء كما يدعيه المخالفون0.
ص: 251
كل آية دلت على زكاة المال تدل على زكاة الرءوس لعمومها و لفقد الاختصاص
وَ قَدْ رُوِيَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (1) الْمُرَادُ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ وَ فِيهَا نَزَلَتْ خَاصَّةً (2). فمن ملك قبل أن يهل شوال بلحظة نصابا وجب عليه إخراج الفطرة.و قوله وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (3) إشارة إلى صلاة العيد و ذلك لأن إخراج الفطرة يجب يوم الفطر قبل صلاة العيد على ما بدأ الله به في الآية.و قال العلماء و المفسرون كل موضع من القرآن يدل على الصلوات الخمس و زكاة الأموال فذكر الصلاة فيه مقدم كقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (4) و قدم الزكاة في هذه الآية على الصلاة فقال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى إعلاما أن تلك الزكاة زكاة الفطرة و أن تلك الصلاة صلاة العيد.و يحتاج في زكاة الفطرة (5)إلى معرفة خمسة أشياء من تجب عليه و متى تجب و ما الذي يجب و كم يجب و من يستحقها و يعلم تفصيلها من سنة النبي صلّى اللّه عليه و آله و قد بينها بقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .و تجب الفطرة على كل حر بالغ مالك لما يجب فيه زكاة المال و يلزمه أن يخرجه عن نفسه و عن جميع من يعوله حتى فطرة خادمة زوجته لقوله وَ عاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ (1) و هذا من المعروف فإن أهل شوال و زوجته المدخول بها مقيمة على النشوز لم يلزمه فطرتها و المرأة الموسرة إذا كانت تحت معسر لا يلزمها فطرة نفسها و تسقط عن الزوج لإعساره و لو قلنا إنها إذا ملكت نصابا وجب عليها الفطرة كان قويا لعموم الخبر إذا كان الحال هذه.و الفطرة صاع من أحد أجناس ستة الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الأرز و الأقط (2).و لا يجوز أن يخرج صاع من جنسين و يجوز إخراج قيمته و لا يجوز إخراج المسوس و المدود منها لقوله تعالى وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (3)
ص: 252
بِالْمَعْرُوفِ (1) و هذا من المعروف فإن أهل شوال و زوجته المدخول بها مقيمة على النشوز لم يلزمه فطرتها و المرأة الموسرة إذا كانت تحت معسر لا يلزمها فطرة نفسها و تسقط عن الزوج لإعساره و لو قلنا إنها إذا ملكت نصابا وجب عليها الفطرة كان قويا لعموم الخبر إذا كان الحال هذه.و الفطرة صاع من أحد أجناس ستة الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الأرز و الأقط (2).و لا يجوز أن يخرج صاع من جنسين و يجوز إخراج قيمته و لا يجوز إخراج المسوس و المدود منها لقوله تعالى وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (3)
قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: تَمَامُ الصَّوْمِ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ يَعْنِي الْفِطْرَةَ كَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ وَ آلِهِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ وَ مَنْ صَامَ وَ لَمْ يُؤَدِّهَا فَلاَ صَوْمَ لَهُ إِذَا تَرَكَهَا مُتَعَمِّداً وَ مَنْ صَلَّى وَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ وَ آلِهِ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (4) . و يمكن أن يقال إن هذا فيمن صام و اعتقد أن الفطرة لا تجب عليه و على وجه و كان ابن مسعود يقول رحم الله امرأ تصدق ثم صلى و يقرأ هذه الآية.
فصل
فإن قيل روي في قوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى عن ابن عمر و أبي العاليةظ.
ص: 253
و عكرمة و ابن سيرين أنه أراد صدقة الفطرة و صلاة العيد (1)و كيف يصح ذلك و السورة مكية و لم يكن هناك صلاة عيد و لا زكاة فطرة.قلنا يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكة و ختمت بالمدينة (2).قال تعالى فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّى أي لم يتصدق و لم يصل لكِنْ كَذَّبَ بالله وَ تَوَلّى عن طاعته (3)و كأنه في زكاة الفطرة لأنه ابتدأ بذكر الصدقة ثم بالصلاة على ما قدمنا و الصدقة العطية للفقير (4).و قال تعالى وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) و الشح منع الواجب في الشرع و كذا البخل (6)قال الله تعالى سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ (7)
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِنَّهُ شُجَاعٌ أَقْرَعُ طُوِّقُوا بِهِ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (8).
قال الله تعالى حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (9) و الجزية عبارة
ص: 254
شرعية عن حق مخصوص يؤخذ من أهل الكتاب ليقروا على دينهم كما أن المأخوذ من أموال المسلمين على جهة الطهر يسمى زكاة و كلاهما اسم شرعي.و المعنى أن ذلك إذا أدوه أغنى عنهم لاجتزاء للمؤمنين لهم منهم و الإبقاء به على دمائهم مأخوذة من قولهم هذا الشيء يجزي عن فلان أي يغني عنه و يكفي.و قد طعن الدهرية في أمر الجزية و أخذها و إبقاء العاصي على كفره لهذا النفع اليسير من جهته فكأنه إجازة الكفر لأجل الرشوة المأخوذة من أهل الذمة.الجواب لم تؤخذ الجزية للرضا بالكفر و فيه وجه حسن و هو أن إبقاءه أحسن في العقل من قبله لأن الفرض بتكليفه نفعه و هو ما دام حيا فعلى حد الرجاء من التوبة و الإيمان بأن يتذكر ما غفل عنه و إذا قتل فقد انقطع الرجاء و هم أهل الكتاب يوحدون الله باللسان بخلاف الكافر الحربي فإن الحكمة تقتضي قتله إلا أن يسلم و إذا أخذ الجزية من هؤلاء و بقوا ربما يكون سببا للإيمان و ذو النفس الدنية ربما يفادي من ذهاب المال عنه الدخول في الدين و فيه منفعة المؤمنين جملة و على أهل الذمة إهانة فالطعن ساقط.
فصل
قيل إن قوله تعالى وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (1) نزلت في أهل الذمة ثم نسخها قوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (2) فأوجب الجزية على أهل الكتاب من الرجال البالغين.و الفقير الذي لا شيء معه يجب عليه الجزية لأنه لا دليل على إسقاطها منه9.
ص: 255
و عموم الآية يقتضيه فإذا لم يقدر على أدائها كانت في ذمته فإذا استغنى أخذت منه من يوم ضمنها.و بدليل العقل تسقط من مجانينهم و نواقصي العقول منهم.و ما للجزية حد لأنه من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله و مما يطيق إنما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا فتؤخذ منهم على قدر ما يطيقون حتى يسلموا فإن الله قال حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ فمنهم من لا يكترث مما يؤخذ منه فإذا وجد ذلا يسلم الجزية بيده صاغرا فإنما على طريق الإذلال [بذلك و قابضها منه يكون قاعدا تألم لذلك يسلم] (1).و قوله تعالى فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ (2) يدل على أن من وجبت عليه الجزية و حل الوقت فأسلم قبل أن يعطيها سقطت عنه و لم يلزمه أداؤها لأن ذلك على العموم.و أما عقد الجزية فهو الذمة و لا يصح إلا بشرطين التزام الجزية و أن يجرى عليهم أحكام المسلمين من غير استثناء فالتزام الجزية و ضمانها لا بد منه لقوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ إلى قوله حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ و حقيقة الإعطاء هو الدفع غير أن المراد هاهنا هو الضمان و إن لم يحصل الدفع.و أما التزام أحكامنا عليهم فلا بد منه و هو الصغار المذكور في الآية ففي الناس من قال الصغار هو وجوب جري أحكامنا عليهم و منهم من قال الصغار أن تؤخذ الجزية منه قائما و المسلم جالس عن خشوع و ضراعة و ذل و استكانة من الذمي و عن يد من المسلمين و نعمة منهم عليهم في حقن دمائهم و قبول الجزية منهم.و لا حد لها محدود بل يضعها الإمام على أرضهم أو على رءوسهم على قدر1.
ص: 256
أحوالهم من الضعف و القوة بقدر ما يكونون به صاغرين
وَ مَا رُوِيَ: أَنَّ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَضَعَ عَلَى الْمُوسِرِ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةً وَ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً وَ عَلَى الْمَبْسُوطِ أَرْبَعَةً وَ عِشْرِينَ دِرْهَماً وَ عَلَى الْمُتَجَمِّلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَماً (1). إنما فعله لما رآه في تلك الحال من المصلحة
أما قوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ فقصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة و أنها مختصة بهم كأنه قيل إنما هي لهم لا لغيرهم و نحوه قولهم إنما الخلافة لقريش يريدون لا يتعداهم و لا يكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها و أن تصرف إلى بعضها.
مسألة
فإن قيل لم عدل عن اللام التي في الأربعة الأولة من قوله لِلْفُقَراءِ التي في الأربعة الأخيرة.قلنا قال بعض المفسرين إن ذلك للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره لأن في للدعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات و ذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر و في فك الغارمين من الغرم من التخليص و الإنفاذ.و يجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر و العالة و كذلك ابن السبيل الجامع بين الفقر و الغربة عن الأهل و المال و تكرير في في قوله وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فيه فضل ترجيح لهذين على الغارمين.
ص: 257
و قيل اللام في الأصناف الأربعة تدل على أن تلك الصدقة لهم يفعلون به ما أرادوا و ينفقون كما شاءوا مما أبيح لهم و لفظة في تدل أن الصدقة التي تعطى المكاتب و الغارم ليس لهما أن ينفقا على أنفسهما و أهاليهما و إنما يضعان في فك الرقبة و الذمة فيوصل المكاتب إلى سيده المديون إلى غريمه.و قوله فَرِيضَةً مصدر مؤكد لأن قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ معناه فرض الله الصدقات لهم.
مسألة
و قوله وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (1)
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَ لاَ أُمَّةَ بَعْدَكُمْ صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَ صُومُوا شَهْرَكُمْ وَ حُجُّوا بَيْتَكُمْ وَ أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ. فاشتملت هذه الآية على جميع العبادات.
مسألة
و أما قوله وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (2) فما بمعنى الذي و من شيء بيانه.قيل من كل شيء حتى الحنطة و المخيط و قيل من بعض الأشياء لا من جميعها فيكون التقدير من شيء مخصوص فحذف الصفة كقوله فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ (3) أي من الأم.و قوله فَأَنَّ لِلّهِ تقديره فواجب أن لله خمسه كأنه قيل فلا بد من ثبات1.
ص: 258
الخمس (1)فيه من حيث إنه إذا حذف الخبر و احتمل غير واحد من المقدرات كقولك واجب ثابت حق لازم و ما أشبه ذلك كان أقوى لإيجابه من النص على واحدة و تعلق قوله إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ بمحذوف و يدل عليه اِعْلَمُوا أي إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس لهؤلاء المذكورين و ليس المراد العلم المجرد و لكنه العلم المضمن بالعمل و الطاعة لأمر الله لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن و الكافر.
مسألة
فإن قيل ما معنى ذكر الله و عطف الرسول و غيره عليه
في قوله تعالى فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى الآية و ما المراد بالجمع بين الله و رسوله في قوله قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ .قلنا أما آية الغنيمة فإن الله لما رأى المصلحة أن يكون خمس الغنيمة على ستة أقسام و يكون لرسوله سهمان منه في حال حياته و سهم لذي قرباه و ثلاثة الأسهم الباقية ليتامى آل محمد و مساكينهم و أبناء سبيلهم و يكون بعد وفاة رسول الله سهم الله و سهم رسوله و سهم ذي القربى لذي قربى الرسول القائم مقامه فصل تفصيلا في ذلك تمهيدا لعذره عليه السّلام و قطعا لأطماع كل طامع.و كذلك آية الأنفال لما علم الله الصلاح في الأنفال أن تكون خاصة لرسوله و بعده لمن يقوم مقامه من ذي قرباه أضافها إلى نفسه و إلى رسوله لكيلا تكون دولة بين هذا و ذا و أبى القوم إلا أن تكون دولة بينهم.
مسألة
و قوله وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ أي ما جعله الله فيئا له خاصة فما أوجفتم».
ص: 259
على تحصيله خيلا و لا تعبتم في الاقتتال عليه و لكن سلط الله رسوله على مال بني النضير و نحوه فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء يعني أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها و ذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت الآية.ثم قال ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ و لم يدخل الواو العاطفة لأنه بيان للجملة الأولى فالجملة الأخيرة غير أجنبية عنها بين لرسول الله ما يصنع بما أفاء الله عليه و أن كان هو حقه نحلة من الله في هذه الآية و في قوله وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ .
مسألة
وَ عَنْ زُرَارَةَ وَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُمَا قَالاَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَ رَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ الْآيَةَ أَ كُلُّ هَؤُلاَءِ يُعْطَى وَ إِنْ كَانَ لاَ يَعْرِفُ فَقَالَ إِنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي هَؤُلاَءِ جَمِيعاً لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالطَّاعَةِ وَ إِنَّمَا يُعْطِي مَنْ لاَ يَعْرِفُ لِيَرْغَبَ فِي الدِّينِ فَيَثْبُتَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ تُعْطِيهَا أَنْتَ وَ أَصْحَابُكَ إِلاَّ مَنْ تَعْرِفُ فَمَنْ وَجَدْتَ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمُسْلِمِينَ عَارِفاً فَأَعْطِهِ دُونَ النَّاسِ (1).
مسألة
فإن قيل كيف
قال وَ فِي الرِّقابِ بعد قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى و لا يقال آتى المال فيه.قلنا المفعول محذوف و التقدير و آتى في فك الرقاب سيدهم و في حق الغارمين أصحاب ديونهم و لا تعطى المملوك المال لينفق على نفسه و إنما يعطى ليدفع إلى مولاه فينعتق سواء كان مكاتبا أو مملوكا.2.
ص: 260
مسألة
قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ (1) الْمَعْرُوفُ الْقَرْضُ (2).
وَ قَالَ: فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ (3) هُوَ الرَّجُلُ يَدَعُ مَالَهُ لاَ يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ بُخْلاً ثُمَّ يَدَعُهُ لِمَنْ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ بِمَعْصِيَتِهِ فَإِنْ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ رَآهُ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ فَرَآهُ حَسْرَةً وَ قَدْ كَانَ الْمَالُ لَهُ وَ إِنْ عَمِلَ بِهِ فِي مَعْصِيَتِهِ قَوَّاهُ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى عَمِلَ بِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (4).
مسألة
قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: قَوْلُهُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (5) إِنَّهُ التَّصَدُّقُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَ قَالَ لاَ أُبَالِي أَنْ أَجِدَ فِي كِتَابِي غَيْرَهَا لِقَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى أَيْ أَعْطَاهُ زَكَاةَ الْفِطْرَةِ فَتَوَجَّهَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى صَلاَةَ الْعِيدِ.
مسألة
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذَا كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ أَقِطٍ فَقَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجّاً فَقَالَ أَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ (6)».
ص: 261
يَعْدِلُ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ (1). و ذلك في عهد عثمان
فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ قَدْ سُئِلَ عَنِ الْفِطْرَةِ فَقَالَ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ قِيلَ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ قَالَ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ .
مسألة
وَ قَالَ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ الْخُمُسَ بَعْدَ الْمَئُونَةِ (2).
وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْنَا الزَّكَاةَ أَنْزَلَ لَنَا الْخُمُسَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْنَا حَرَامٌ وَ الْخُمُسُ لَنَا فَرِيضَةٌ وَ الْكَرَامَةُ لَنَا حَلاَلٌ (3).
مسألة
وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ وَ لاَ وَارِثَ لَهُ وَ لاَ مَوْلَى إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ (4) .
وَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ: 5 قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَنَا لِأَبِي جَعْفَرٍ شَيْءٌ فَكَيْفَ نَصْنَعُ فَقَالَ مَا كَانَ لِأَبِي عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِسَبَبِ الْإِمَامَةِ فَهُوَ لِي وَ مَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مِيرَاثٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.2.
ص: 262
قال الله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1) فأوجب سبحانه بهذه الآية حجة الإسلام و عمرة الإسلام لأنه تعالى أمر من المكلفين جميع من توجه إليه وجوب الحج أن يتم الحج و العمرة و وجوب الإتمام يدل على أنه واجب بل هذا آكد في الإيجاب من حجوا و اعتمروا كما أن أَقِيمُوا الصَّلاةَ آكد من صلوا و آتُوا الزَّكاةَ آكد من زكوا.و هي واجبة بشروط ثمانية بينها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.و قوله أَتِمُّوا أمر بإيقاعهما تامة فإن نسكها كثيرة و لا يجوز أن يقضى بعضها دون بعض.و قيل من دخل في الحج أو العمرة على سبيل التطوع و أحرم فإنه يجب عليه أن يتمه و مثاله الاعتكاف فإنه يستحب للمكلف أن يعتكف في أحد المساجد الأربعة فإذا اعتكف فإنه يجب عليه أن يتمه.
ص: 263
فصل
و لما قرن تعالى العمرة بالحج و أمر بإتمامهما و فعلهما أمرا واحدا فهي في الوجوب مرة واحدة كالحج.و الحج في اللغة القصد و في الشرع هو القصد إلى البيت الحرام لأداء مناسك بها مخصوصة في أوقات مخصوصة.و العمرة في اللغة الزيارة و في الشرع عبارة عن زيارة البيت لأداء مناسك مخصوصة فإن كانت مما يتمتع بها إلى الحج فتكون أيضا في وقت مخصوص و إذا كانت مبتولة ففي أي وقت كان من أيام السنة جازت.و قيل في قوله وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ أي أقيموها إلى آخر ما فيهما و هو المروي عن أمير المؤمنين و زين العابدين عليه السّلام (1).و قوله لِلّهِ أي اقصدوا بهما التقرب إلى الله.
فصل
و قال تعالى وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (2)
سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فَقَالَ مَا يَقُولُ فِيهَا هَؤُلاَءِ قِيلَ يَقُولُونَ الزَّادُ وَ الرَّاحِلَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَدْ قِيلَ ذَلِكَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ هَلَكَ النَّاسُ إِذَا كَانَ مَنْ لَهُ زَادٌ وَ رَاحِلَةٌ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا أَوْ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِمَّا يَقُوتُ بِهِ عِيَالَهُ وَ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ النَّاسِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثُمَّ رَجَعَ فَيَسْأَلُ النَّاسَ بِكَفِّهِ لَقَدْ هَلَكَ إِذاً فَقِيلَ لَهُ فَمَا السَّبِيلُ عِنْدَكَ فَقَالَ السَّعَةُ7.
ص: 264
فِي الْمَالِ وَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَا يَحُجُّ بِبَعْضِهِ وَ يَبْقَى بَعْضٌ يَقُوتُ بِهِ نَفْسَهُ وَ عِيَالَهُ ثُمَّ قَالَ أَ لَيْسَ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ الزَّكَاةَ فَلَمْ تُجْعَلْ إِلاَّ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (1). و إنما أورد عليه السّلام هذه اللفظة على وجه المثال لا على جهة الحمل و الأمثلة مما توضح به المسائل قال الله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (2)
معلوم أن الحج ليس المراد به القصد و الحضور فقط و إنما هو مجمل يحتاج إلى التفصيل كالصلاة و تفصيله يدرك بالكتاب و السنة و الله سبحانه قد بين بعض ذلك كالوقوف و الدفع و السعي و الطواف كما ذكر في سورة البقرة و بين أيضا ما يجب أن يمتنع منه كالرفث و الفسوق و الجدال و قتل الصيد.و الذي يدرك بالسنة فقد بينها رسول الله لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .ثم اعلم أن الحج ضروب ثلاثة مفرد لأهل مكة و قارن لمن حكمه حكم أهل مكة و إن كان منزله خارج مكة من بواديها ثم النوعان للفريقين و تمتع لمن نأى من الحرم.فالإفراد فرض ساكني مكة و مجاوريها الذين جاوروا ثلاث سنين فصاعدا لم يجز لهم التمتع و يجوز لهم القران فأما من كان بحكم حاضري المسجد الحرام فهو كل من كان على اثني عشر ميلا فما دونها إلى مكة من أي جانب كان ففرضه الإفراد و القران و لأن يحرم أغنياؤهم فالإقران أولى.و فرض التمتع عندنا هو اللازم لكل من لم يكن من حاضري المسجد الحرام
ص: 265
و هو كل من كان على أكثر من اثني عشر ميلا من أي جانب كان إلى مكة فمن خرج عنها و ليس من الحاضرين لا يجوز له مع الإمكان غير التمتع قال الله تعالى فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الآية (1).
فصل
وَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ (2) الْآيَةَ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنِينَ أَنْ يُؤَذِّنُوا عَلَى أَصْوَاتِهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ هَذَا فَعَلِمَ بِهِ مَنْ حَضَرَ الْمَدِينَةَ وَ أَهْلُ الْعَوَالِي (3)وَ الْأَعْرَابُ فَاجْتَمَعُوا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِي أَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ (4)فَزَالَتِ الشَّمْسُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ (5)فَصَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ وَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فَلَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ بِالْمَرْوَةِ (6)بَعْدَ فِرَاغِهِ مِنَ السَّعْيِ قَالَ إِنَّ هَذَا جِبْرِيلُ وَ أَوْمَى بِيَدِهِ إِلَى خَلْفِهِ يَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْياً أَنْ يُحِلَّ ثُمَّ قَالَ وَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا أَمَرْتُكُمْ وَ لَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَ لاَ يَنْبَغِي لِسَائِقِ الْهَدْيِ أَنْ يُحِلَّ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَقَالَ عُمَرُ (7)أَ نَخْرُجُ».
ص: 266
حُجَّاجاً وَ رُءُوسُنَا تَقْطُرُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِنَّكَ لَنْ تُؤْمِنَ بِهَا أَبَداً فَقَامَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ فَقَالَ فَهَذَا الَّذِي أَمَرْتَنَا بِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَوْ لِمَا يَسْتَقْبِلُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَلْ هُوَ لِلْأَبَدِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ بِالْبَطْحَاءِ هُوَ وَ أَصْحَابُهُ وَ لَمْ يَنْزِلُوا الدُّورَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَغْتَسِلُوا وَ يُهِلُّوا بِالْحَجِّ وَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُفِيضُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَ هِيَ جَمْعٌ وَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ أَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ فِي إِفَاضَتِهِمْ مِنْهَا وَ مَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ مَضَى إِلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَاتٍ فَوَقَفَ حَتَّى وَقَعَ الْقُرْصُ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (1).
فصل
و مما يدل على التمتع بالعمرة إلى الحج هو فرض الله على كل من نأى عن المسجد الحرام و لا يجزيه مع التمكن سواه بعد إجماع الطائفة عليه قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (2) فأمره تعالى شرعا على الوجوب و الفور فلا يخلو من أن يأتي بهما على الفور بأن يحرم بالحج أو العمرة معا أو يبدأ بالحج و يثني بالعمرة أو يبدأ بالعمرة و يثني بالحج فالأول يفسد و يبطل لأن عندنا أنه لا يجوز أن يجمع في إحرام واحد بين الحج و العمرة كما لا يجمع في إحرام واحد بين (3)حجتين أو عمرتين و القسم الثاني أيضا باطل لأن أحدا من الأمة لا يوجب على من أحرم بالحج مفردا أن يأتي عقيبه بلا فصل بالعمرة فلم يبق إلا وجوب القسم الأخير الذي ذكرناه و هو التمتع الذي ذهبنا إليه.ج.
ص: 267
فإن قيل قد نهى عمر عن هذه المتعة مع متعة النساء و أمسكت الأمة عنه راضية بقوله.قلنا من ليس بمعصوم عن الفعل القبيح لا يدل على قبحه قوله بالنهي عن التمتع و الإمساك عن النكير لا يدل عند أحد من العلماء على الرضا إلا بعد أن يعلم أنه لا وجه له إلا الرضا.
وَ رَوَى الْحَلَبِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْحَجِّ فَقَالَ تَمَتَّعْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (1) فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَتَّعَ إِلاَّ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَ جَرَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّا إِذَا وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ قُلْنَا يَا رَبَّنَا عَمِلْنَا بِكِتَابِكَ وَ قَالَ النَّاسُ رَأَيْنَا وَ رَأَيْنَا وَ يَفْعَلُ اللَّهُ بِنَا وَ بِهِمْ مَا أَرَادَ ثُمَّ قَالَ إِنَّا لاَ نَتَّقِي أَحَداً فِي التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَ اجْتِنَابِ الْمُسْكِرِ وَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ (2).
فصل
و سياق التمتع أن يحرم من الميقات بالعمرة في أشهر الحج و هي شوال و ذو القعدة و تسع من ذي الحجة و يلبي ثم يدخل مكة فيطوف بالبيت للعمرة و يصلي ركعتي الطواف لها و يسعى بين الصفا و المروة و يقصر و قد حل.فيتمتع حينئذ بلبس الثياب إن شاء و عمل كل ما يعمله الحلال (3)من الطيبم.
ص: 268
و النساء و غيرهما إلا الصيد لأنه في الحرم إلى أن يحرم بالحج يوم التروية فهذه المدة التي بينهما متعة له.ثم ينشئ إحراما آخر بالحج من المسجد الحرام و يلبي و يخرج إلى عرفات و يقف هناك و يفيض إلى المشعر و يقف هناك و يغدو منها إلى منى و يذبح الهدي بها مع باقي المناسك يوم النحر ثم يأتي مكة يوم النحر أو من الغد لا غير اختيارا و يطوف طواف الزيارة و يصلي ركعتيه و يسعى و يطوف طواف النساء و يصلي ركعتيه و قد أحل من كل شيء و يعود إلى منى فيبيت ليالي منى بها (1)و يرمي الجمار.و فرائض الحج المتمتع ثماني عشرة يدل عليها ظواهر القرآن و فحواه و فرائض الحج القارن و المفرد عشر و من أفرد أو قارن فعليه أن يعتمر بعد الفراغ عمرة الإسلام مبتولة من حجه متى شاء
أولها النية لأن من خرج من بيته قاصدا بيت الله يجب عليه وقت نهوضه أن ينوي أنه يخرج لحجة الإسلام.ثم هو في قطع الطريق يؤدي الواجبات لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو أيضا واجب فإذا بلغ الميقات أحرم به للعمرة التي يتمتع بها إلى الحج و نوى و لبس ثوبي الإحرام و لبى أربع كلمات واجبا.فالدليل على وجوب النية
قوله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2) فهذه الآية تدل على أن النية للحج و لجميع العبادات واجبة لأن الإخلاص بالديانة هو القربى إلى الله تعالى بعملها مع ارتفاع الشوائب و التقرب إليه تعالى
ص: 269
لا يصح إلا بالعقد عليه و النية له ببرهان.و النية إرادة مخصوصة محلها القلب و بين صلّى اللّه عليه و آله ذلك
بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (1). و أما الإحرام فريضة من تركه متعمدا فلا حج له فإذا أراد الإحرام تنظف و اتزر بثوب و توشح بآخر أو ارتدى به و لا يلبس مخيطا.
"وَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلاً مُحْرِماً وَ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ الْقَمِيصُ وَ السِّرْوَالُ فَقَالَ لَهُ انْزِعْ هَذَا عَنْكَ فَقَالَ الرَّجُلُ اقْرَأْ عَلَيَّ آيَةً فِي هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا . و الآية عامة في كل ما آتى رسول الله و ما نهى عنه و إن كان أمر النبي متصلا به و لا خلاف بين الفقهاء أن الآية إذا نزلت في أمر لا تكون مقصورة عليه.
فصل
و قوله تعالى وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ (2) الآية.
"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَامَ فِي الْمَقَامِ فَنَادَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ دَعَاكُمْ إِلَى الْحَجِّ فَأَجَابَ الْحَاضِرُونَ بِلَبَّيْكَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. و الشيء إذا علم أنه كان في شرع و لم ينسخ فهو على ما كان.
وَ قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَ قَوْلُهُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (3) حِينَ سَأَلُوا عَنْ أَمْرِ الْحَجِّ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فَقَالُوا فِي كُلِّ عَامٍ قَالَ لاَ وَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ (4).2.
ص: 270
"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلٌ مَطْعُونٌ فِي نَسَبِهِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حُذَافَةُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ (1). و كأن السؤال الأول و الثاني وقعا في مجلس واحد فخاطب الله المؤمنين بهذه الآية و نهاهم عن مسألة الأشياء التي إذا ظهرت ساءت و أحزنت من أظهرت له.
وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى أَهْلِ الْجِدَةِ (2)فِي كُلِّ عَامٍ وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فَقَالَ أَخُوهُ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ قُلْتُ وَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنَّا فَقَدْ كَفَرَ [قَالَ لاَ وَ لَكِنْ مَنْ قَالَ لَيْسَ هَذَا هَكَذَا فَقَدْ كَفَرَ] (3). و معناه أنه يجب على أهل الجدة في كل عام على طريق البدل لأن من وجب عليه الحج في السنة الأولة فعلى هذا في كل سنة إلى أن يحج [و لم يعن عليه السّلام وجوب ذلك عليهم في كل عام على طريق الجمع] (4)و نظير ذلك ما نقوله في وجوب الكفارات الثلاث من أنه متى لم يفعل واحدة منها فإنا نقول إن كل واحدة منها له صفة الوجوب فإذا فعل واحدة منها خرج الباقي من أن يكون واجبا فكذلك القول فيما تضمن هذا الحديث.و المراد بقوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الأمر دون الخبر كقوله وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (5) فإن معناه الأمر أيضا أي أمنوه لأنه لو كان خبرا لكان كذبا.7.
ص: 271
فصل
و من أحرم بالحج أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج في غير أشهر الحج و هي شوال و ذو القعدة و عشر من ذي الحجة لم ينعقد إحرامه.و الحجة لنا بعد الإجماع المكرر
قوله تعالى اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ (1) و معنى ذلك وقت الحج أشهر معلومات لأن الحج نفسه لا يكون أشهرا و التوقيت في الشريعة يدل على اختصاص الموقت بذلك الوقت و أنه لا يجزي إلا في وقته.فإن تعلق المخالف بقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ (2) و أن ظاهر ذلك يقتضي أن الشهور كلها متساوية في جواز الإحرام فيها.الجواب أن هذه الآية عامة نخصصها بقوله اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ و نحمل لفظ اَلْأَهِلَّةِ على أشهر الحج خاصة.على أن أبا حنيفة لا يمكنه التعلق بهذه الآية لأن الله تعالى قال مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ و الإحرام عنده ليس من الحج.و قد أجاب بعض الشفعوية (3)عن التعلق بهذه الآية بأن قال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ أي لمنافعهم و تجاراتهم ثم قال وَ الْحَجِّ فاقتضى ذلك أن يكون بعضها لهذا و بعضها لهذا و هكذا نقول و يجري ذلك مجرى قولهم هذا المال لزيد و عمرو أن الظاهر يقتضي اشتراكهما فيه.و هذا ليس بمعتمد لأن الظاهر من قوله لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ يقتضي أن يكونة.
ص: 272
جميع الأهلة على العموم لكل واحد من الأمرين و ليس كذلك قولهم المال لزيد و عمرو لأنه لا يجوز أن يكون جميع المال لكل واحد منهما فوجب الاشتراك لهذه العلة و جرت الآية مجرى أن نقول هذا الشهر أجل لدين فلان و دين فلان في أنه يقتضي كون الشهر كله أجلا للدينين جميعا و لا ينقسم لانقسام المال فوجب أن لا يكون الاشتراك لهذه العلة.
فصل
و الطواف بالبيت فريضة و هو سبعة أشواط يبتدأ به من عند الحجر الأسود
قال تعالى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ (1) و الطائف الدائر حول الكعبة و قال وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (2) و قال وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ (3) و قال أَرِنا مَناسِكَنا (4) قال قتادة أراهما الله الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و غير ذلك من أعمال الحج و العمرة.و قال تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (5) قال الشعبي و قتادة أمروا أن يصلوا عنده و هو المروي في أخبارنا (6)و بذلك يستدل على أن صلاة الطواف فريضة مثل الطواف لأن الله أمر بذلك و الأمر في الشرع يقتضي الإيجاب و ليس هاهنا صلاة يجب أداؤها عنده غير هذه.2.
ص: 273
و قال تعالى يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ (1) الآية قال مجاهد إنما ذكر اللباس هاهنا لأن المشركين كانوا يتعرون في الطواف حتى تبدو سوآتهم.و قوله تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها (2) هو التعري في الطواف كانوا يقولون لا نخدم الله في ثياب أذنبنا فيها و يقال أيضا بالتعري من الذنوب و كانت المرأة تطوف أيضا عريانة إلا أنها تشد في حقوها (3)سيرا.
فصل
السعي بين الصفا و المروة فرض عندنا في الحج و العمرة و به قال الحسن و عائشة و الشافعي
قال الله إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ (4) .و هما جبلان معروفان بمكة و هما من الشعائر أي معالم الله و شعائر الله أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر مأخوذ من شعرت به أي علمت و كل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة و أداء فريضة فهو مشعر لتلك العبادة (5).و إنما قال فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (6) و هو8.
ص: 274
طاعة من حيث إنه جواب لمن توهم أن فيه جناحا لصنمين كانا عليهما أحدهما أساف و الآخر نائلة و روي ذلك عنهما عليهما السّلام (1)و كان ذلك في عمرة القضاء و لم يكن فتح مكة بعد و كانت الأصنام على حالها حول الكعبة.و قال قوم سبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما فكره المسلمون ذلك خوفا أن يكون من أفعال الجاهلية فأنزل الله فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما .و قال آخرون على عكس ذلك و ذكروا أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون السعي بينهما فظن قوم أن في الإسلام مثل ذلك فأنزل الله الآية.و جملته أن في الآية ردا على جميع ما كرهه من كرهه لاختلاف أسبابه على الأجوبة الثلاثة.
فصل
قوله تعالى وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ (2) لا يدل على أن السعي بين الصفا و المروة مستحب متطوع لأن معناه و من تطوع خيرا بالصعود على الصفا و المروة فهو المجازى بالثواب على تطوعه و فيمن لم يصعد و لم يقف على رءوسهما و سعى و طاف بينهما من طرف هذا إلى طرف تلك و من طرف تلك إلى طرف هذا هكذا سبعا فقد أدى الواجب فلا جناح عليه.و قال أنس و عطا إن جميع ذلك تطوع و به قال أبو حنيفة و عندنا أن من ترك الطواف بينهما متعمدا فلا حج له حتى يعود و يسعى و به قالت عائشة و الشافعي و قال أبو حنيفة إن عاد فحسن و إلا جبره بدم و قال عطا و مجاهد يجزيه و لا شيء عليه.و قال المفسرون في معنى قوله وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ثلاثة أقوال أولها من8.
ص: 275
تطوع خيرا أي الحج أو العمرة بعد الفريضة و الثاني و من تطوع خيرا أي بالطواف بهما عند من قال إنهما نفل و الثالث و من تطوع خيرا بعد الفرائض كمن طاف بالبيت الطوافات النافلة بعد الفراغ من مناسك الحج و هذا هو الأولى لأنه أعم.و قال الجبائي التقدير فلا جناح عليه أن يطوف بهما و هو غير صحيح لأن الحذف يحتاج إلى دليل.و الفرق بين الفرض و التطوع أن الفرض يستحق بتركه الذم و العقاب و التطوع لا مدخل لهما في تركه.
وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ آدَمَ الصَّفِيَّ نَزَلَ عَلَى الصَّفَا وَ حَوَّاءَ عَلَى الْمَرْوَةِ وَ هِيَ مَرْأَةٌ تَسَمَّيَا بِهِمَا (1). و التقصير بعد الفراغ من هذه العمرة واجب قال تعالى مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ (2) .
فصل
و إذا كان يوم التروية و قد فرغ من العمرة التي يتمتع بها إلى الحج و أراد الإحرام للحج و هو واجب نوى و أحرم عند مقام إبراهيم و لبى و كل هذه الثلاثة واجب يدل عليه الآيات التي تلوناها من قبل
و قال تعالى أيضا ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .و يتوجه إلى عرفات فإذا زالت الشمس بها وقف هناك بعد الظهر و العصر إلى غروب الشمس و هذا الموقف فريضة (3)في الحج قال تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ (1) كانت قريش في الجاهلية لا تخرج إلى عرفات و يقولون لا نخرج من الحرم و كانوا يقفون يوم عرفة بالمشعر الحرام و ليلة العيد أيضا بها و كان الناس الذين يحجون غيرهم يقفون بعرفات يوم عرفة كما كان إبراهيم و إسماعيل و إسحاق يفعلون فأمر الله أن يقف المسلمون كلهم يوم عرفة بعرفات و يفيضوا منها عند الغروب إلى المشعر بقوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ و الإفاضة منها لا يمكن إلا بعد الوقوف أو الكون بها.ج.
ص: 276
مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ (1) كانت قريش في الجاهلية لا تخرج إلى عرفات و يقولون لا نخرج من الحرم و كانوا يقفون يوم عرفة بالمشعر الحرام و ليلة العيد أيضا بها و كان الناس الذين يحجون غيرهم يقفون بعرفات يوم عرفة كما كان إبراهيم و إسماعيل و إسحاق يفعلون فأمر الله أن يقف المسلمون كلهم يوم عرفة بعرفات و يفيضوا منها عند الغروب إلى المشعر بقوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ و الإفاضة منها لا يمكن إلا بعد الوقوف أو الكون بها.
فصل
و قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ (2) بين تعالى فرض الموقفين عرفات و المشعر أي إذا دفعتم من عرفات بعد الاجتماع بها فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ .أوجب الله على الحاج كلهم أن يذكروا الله بالمشعر لأن الأمر شرعا على الوجوب و لا يجوز أن يوجب الذكر فيه إلا و قد أوجب الكون فيه ففي هذا دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليلة العيد فريضة كما ذهبنا إليه و تقدير الكلام فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام و اذكروا الله فيه أي اذكروه تعالى بالثناء و الشكر حسب نعمائه عليكم بالهداية فإن الشكر يجب أن يكون على حسب النعمة في عظم المنزلة كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة و لا يجوز التسوية بين من عظمت نعمته و من صغرت نعمته يعني اذكروه ذكرا فيه بمثل هدايته إياكم و إن كنتم قبل محمد و قبل الهدى لَمِنَ الضّالِّينَ عن النبوة و الشريعة هداكم إليه (3).م.
ص: 277
فإن قيل ثم للترتيب متراخيا فما معنى الترتيب بين قوله فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و بين قوله ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ و لا خلاف أن الوقوف بعرفات مقدم على الوقوف بالمشعر.قلنا هذا يوجب الترتيب في الإخبار بهما لا بالعمل فيهما و نحوه قوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا (1) بعد قوله أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (2) و لا خلاف أن الإيمان يجب أن يكون قبل الإطعام.و قد روى أصحابنا أن هاهنا تقديما و تأخيرا و تقديره ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام و استغفروا الله إن الله غفور رحيم (3).و أجاب المتأولون بأن قالوا رتبت الإفاضة بعد المعنى الذي دل الكلام الأول عليه كأنه قيل أحرموا بالحج على ما بين لكم ثم أفيضوا يا معشر قريش من حيث أفاض الناس بعد الوقوف بعرفة.و هذا قريب مما قلناه و إنما عدل من تأوله على الإفاضة من مزدلفة لأنه رآه بعد قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ قال فأمروا أن يفيضوا من المزدلفة يوم الوقوف بها كما أمروا بعرفة و ما قدمناه هو التأويل المختار.فإذا أصبح يوم النحر صلى الفجر و وقف للدعاء بالمشعر إلى طلوع الشمس ثم يفيض إلى منى لأداء المناسك بها كما بينها رسول الله لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ .1.
ص: 278
فصل
و الهدي واجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج و من لم يقدر عليه وجب عليه صيام عشرة أيام
قال تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (1) فالهدي على الحاج المتمتع واجب بلا خلاف لظاهر القرآن و خالفوا في أنه نسك أو جبران و الصحيح أنه نسك (2)و كذلك هو عندنا.فإن لم يجد الهدي و لا ثمنه صام ثلاثة أيام متتابعة في أول ذي الحجة رخصة و وقت صومها يوم قبل التروية و يوم التروية و يوم عرفة فإن فاتته صام ثلاثة أيام بعد أيام التشريق في شوال متتابعة و صام سبعة الأيام إذا رجع إلى أهله و هذا أصح من قول من قال إذا رجع عن حجه في طريقه.
وَ قَوْلُهُ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّ الْمَعْنَى كَامِلَةٌ مِنَ الْهَدْيِ إِذَا وَقَعَتْ بَدَلاً مِنْهُ اسْتَكْمَلَتْ ثَوَابَهُ (3). ثم إنه لإزالة الإبهام لئلا يظن أن الواو بمعنى أو كأنه قال فصيام ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجعتم كقوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (4) ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي ما تقدم ذكره من التمتع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكة و من يجري مجراهم و إنما هو لمن لم يكن من حاضري مكة.3.
ص: 279
فصل
و قال تعالى وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (1) .يجب على كل من حج أن يوفر شعر رأسه من أول ذي القعدة إلى يوم النحر بمنى فيحلقه هناك و المعنى لا تزيلوا شعر رءوسكم حتى ينتهي الهدي إلى المكان الذي يحل نحره فيه و هو منى.و قال تعالى وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (2) عن ابن عباس أنه تعالى أمر بمناسك الحج الوقوف بعرفة و المشعر و الإفاضة و رمى الجمار و الطواف و السعي و غير ذلك من مناسكه فَأَتَمَّهُنَّ أي وفى بهن.و الابتلاء الاختبار و هو مجاز يعني أنه تعالى يقابل العبد مقابلة المختبر الذي لا يعلم لأنه تعالى لو جازاهم بعلمه فيهم كان ظلما لمن أدخله النار.و على هذا قوله تعالى وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ (3) عن ابن عباس و حسن و جماعة الليالي العشر هي العشر الأول من ذي الحجة شرفها الله ليسارع الناس فيها إلى عمل الخير و اتقاء الشر وَ الشَّفْعِ يوم النحر وَ الْوَتْرِ يوم عرفة و وجه ذلك أن يوم النحر مشفع بيوم بعده.و لا يجوز للمتمتع مع الإمكان طواف الحج و ركعتاه و السعي بين الصفا و المروة للحج إلا في هذين اليومين فالطواف للحج و ركعتاه و السعي له و طواف النساء و ركعتاه فهذه الخمسة كلها فريضة و قد بينها رسول الله لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ و قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .2.
ص: 280
و أما قوله تعالى وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (1) قال قوم هو طواف العمرة الذي يقال له طواف الصيد لأنه تعالى أمر به عقيب المناسك كلها و قيل هو طواف الإفاضة بعد التعريف إما يوم النحر و إما بعده و هو طواف الزيارة و روى أصحابنا أن المراد به هاهنا طواف النساء (2)الذي يستباح به وطي النساء و هو زيادة على طواف الزيارة للحج و العموم يتناول الجميع
اعلم أن فرائض الحج المفرد و القارن عشر احتججنا من القرآن تصريحا و تلويحا و تبيينا و إشارة فإن الثمانية الأشياء التي وجبت في العمرة التي يتمتع بها إلى الحج تسقط في الإفراد و القران و من حج مفردا فعليه عمرة الإسلام بعد الحج مبتولة منه.
و قوله تعالى اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أي أشهر الحج أشهر معلومات أو الحج حج أشهر معلومات ليكون الثاني هو الأول في المعنى فحذف المضاف أي لا حج إلا في هذه الأشهر و قد يجوز أن يجعل الأشهر الحج على الاتساع لكونه فيها و لكثرته من الفاعلين له لقول الخنساء
فإنما هي إقبال و إدبار.
أي أشهر الحج أشهر موقتة معينة لا يجوز فيها التبديل و التغيير بالتقديم
ص: 281
و التأخير الذي كان يفعلهما النساء قال الله تعالى (1)إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ (2) .و قد ذكر أن أشهر الحج شوال و ذو القعدة و عشر من ذي الحجة عندنا على ما روي عن أبي جعفر عليه السّلام (3)و قيل هو شوال و ذو القعدة و ذو الحجة و روي ذلك أيضا في أخبارنا (4)و روي تسع من ذي الحجة و لا تنافي بينها لأن على الرواية الأخيرة لا يصح الإحرام بالحج إلا فيها و عندنا لا يصح الإحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج إلا بالرواية الأولى.و من قال إن جميع ذي الحجة من أشهر الحج قال لأنه يصح أن يقع فيها بعض أفعال الحج مثل صوم الأيام الثلاثة و ذبح الهدي.و اختلف المفسرون فيه فقال قوم المعنى في جميع ذلك واحد و قال آخرون هو مختلف من حيث إن الثاني معناه أن العمرة لا ينبغي أن تكون في الأشهر الثلاثة على التمام لأنها من أشهر الحج و الأول على أنها ينبغي أن يكون في شهرين و عشرا و تسع من الثالث.فإن قيل كيف جمع شهرين و عشرة أيام ثلاثة أشهر.قلنا لأنه قد يضاف الفعل إلى الوقت و إن وقع في بعضه و يجوز7.
ص: 282
أن يضاف الوقت إليه كذلك كقولك صليت يوم الجمعة و صليت يوم العيد و إن كانت الصلاة في بعضه و قدم زيد في يوم كذا و قدومه في بعض اليوم فكذلك جاز أن يقال ذو الحجة شهر الحج و إن كان في بعضه و إنما يفرض الإحرام بالحج في البعض.
فصل
و قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ (1) .فمن فتح الجميع فقد نفى جميع الرفث و الفسوق و الجدال كقوله تعالى لا رَيْبَ فِيهِ (2) بعد نفي جميع الريب و من رفع فعلى الابتداء و خبره في الحج و يعلم من الفحوى أنه ليس المنفي رفثا واحدا و لكنه جميع ضروبه.و الرفث هاهنا عندنا كناية عن الجماع و هو قول ابن عباس و قتادة و الأصل الإفحاش في المنطق في اللغة و عن جماعة المراد هاهنا المواعدة للجماع و التعريض للجماع أو المداعبة كله رفث.و الفسوق قيل هو التنابز بالألقاب لقوله بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ (3) و قيل هو السباب
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ (4). و روى بعض أصحابنا أن المراد به الكذب و الأولى أن نحمله على جميع المعاصي التي نهى المحرم عنها و به قال ابن عمر و قد يقول القائل ينبغي أن تقيد لسانك في شهر رمضان لئلا يبطل صومك فيخصه بالذكر لعظم حرمته.2.
ص: 283
و قوله وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ فالذي رواه أصحابنا أنه قول لا و الله و بلى و الله صادقا و كاذبا و للمفسرين فيه قولان أحدهما أنه لا مراء بالسباب و الإغضاب على وجه اللجاج و الثاني أنه لا جدال في أن الحج قد استدار لأنهم أنسئوا الشهور فقدموا و أخروا فالآن قد رجع إلى حاله و الجدال المخاصمة.و لا رفث إن خرج مخرج النفي و الإخبار فالمراد به النهي وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ أي يجازيكم عليه لأنه عالم به.
فصل
و قوله تعالى وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى (1) أي تزودوا من الطعام و لا تلقوا كلكم على الناس كما يفعله العامة و خير الزاد مع ذلك التقوى و قيل تزودوا من الأفعال الصالحة فإن الاستكثار من أعمال البر أحق شيء بالحج و العموم يتناول التأويلين.ثم قال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ (2) و هذا تصريح بالإذن بالتجارة و هو المروي عن أئمتنا عليهم السّلام (3)أي لستم تأثمون في أن تبتغوا و تطلبوا الرزق فإنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله الإثم بهذه اللفظة عمن يتجر في الحج.و قيل كان في الحج أجراء و مكارون و كان الناس يقولون إنه لا حج لهم فبين تعالى أنه لا إثم على الحاج في أن يكون أجيرا لغيره أو مكاريا.و قيل معناه لا جناح أن تطلبوا المغفرة من ربكم رواه جابر عن أبي جعفر1.
ص: 284
عليه السّلام (1)و العموم يتناول الجميع.فالآية تدل على أن التاجر و الحمال و الأجير و غيرهم يصح لهم الحج فليس الحج كالصلاة لأن أفعال الصلاة متصلة لا يتخللها غيرها و أفعال الحج بخلافها فلا يمتنع قصد ابتغاء المنافع مع قصد إقامة التعبد و كذلك لا يمتنع أن يستغفر الله و يصلي على النبي و آله في خلال ذكر التلبيات و غيرها.
فصل
و قوله تعالى وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ عن ابن عباس و ابن عمر السبيل الذي يلزم بها الحج هي الزاد و الراحلة و قال ابن الزبير و الحسن ما يبلغه كائنا ما كان و عندنا هو وجود الزاد و الراحلة و نفقة من يلزمه نفقته و الرجوع إلى كفاية عند العود إما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة و السلامة و زوال الموانع و إمكان المسير و لا بيان في ذلك أبين مما بينه الله بأن يكون مستطيعا إليه السبيل و ذلك (2)عام في جميع ما ذكرنا و من في موضع الجر بدل من الناس المعنى و لله على من استطاع من الناس حج البيت.و قوله تعالى وَ مَنْ كَفَرَ أي من جحد فرض الحج فلم يره واجبا فأما من تركه و هو يعتقد فرضه فإنه لا يكون كافرا و إن كان عاصيا و قال قوم معنى من كفر أي ترك الحج و السبب في ذلك أنه لما نزل قوله وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً (3) قال اليهود نحن مسلمون نحن مسلمون فأنزل الله هذه الآية يأمرهم بأمر الحج إن كانوا صادقين فامتنعوا فقال تعالى فمن ترك من هؤلاء الحج فهو كافر.5.
ص: 285
و ظاهر الآية خبر و معناه أمر لأنه إيجاب الحج على الناس و في مورد هذا الإيجاب في صورة الخبر نكتة مليحة يطلع عليها من تدبره و فيها مداراة و استمالة لأن المأمور به ينكسر بالأمر و أكثر كلام الله و كلام رسوله الوارد على لفظ الخبر إما يتضمن الأمر أو النهي.
فصل
و مما يدل على أن الوقوف بالمشعر الحرام واجب و هو ركن من أركان الحج بعد الإجماع المذكور
قوله تعالى فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ (1) و الأمر شرعا على الإيجاب و لا يجوز أن يوجب ذكر الله فيه إلا و قد أوجب الكون فيه و لأن كل من أوجب الذكر فيه أوجب الوقوف به.فإن قالوا نحمل ذلك على الندب قلنا هو خلاف الظاهر و يحتاج إلى دلالة و لا دليل.فإن قيل هذه الآية تدل على وجوب الذكر و أنتم لا توجبونه و إنما توجبون الوقوف به كالوقوف بعرفة قلنا لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر هذه الآية.و بعد فإن الآية تقتضي وجوب الكون في المكان المخصوص و الذكر جميعا فإذا دل الدليل على أن الذكر مستحب غير واجب أخرجناه من الظاهر و بقي الآخر يتناوله الظاهر و تقدير الكلام فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام و اذكروا الله فيه.فإن قيل الكون في المكان يتبع الذكر في وجوب أو استحباب لأنه إنما يراد له و من أجله فإذا ثبت أن الذكر مستحب فكذلك الكون.قلنا لا نسلم أن الكون في ذلك المكان تابع للذكر لأن الكون به عبادة8.
ص: 286
مفردة عن الذكر و الذكر عبادة أخرى فلا يتبع الكون الذكر كما لا يتبع الذكر لله في عرفات الكون في ذلك المكان و الوقوف به لأن الذكر بعرفات مستحب و الوقوف بها واجب بلا خلاف على أن الذكر لو لم يكن واجبا فالشكر لله على نعمه واجب على كل حال و قد أمر الله أن يشكر عند المشعر الحرام فيجب أن يكون الكون بالمشعر واجبا.فإن قيل ما أنكرتم من أن يكون المشعر ليس بمحل للشكر و إن كان محلا للذكر و إن عطف الشكر على الذكر.قلنا الظاهر بخلاف ذلك عطف الشكر على الذكر يقتضي تساوي حكمهما في المحل و غيره و ليس في الآية ذكر الشكر صريحا و لكن الذكر الأول على عمومه و الذكر الثاني مفسر بالشكر لقرينة قوله كَما هَداكُمْ فالهداية نعمة واجب الشكر عليها لأن الشكر على كل نعمة واجب و على هذا لا تكرار مستقبحا في الكلام أيضا.
فصل
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ فالتفث مناسك الحج من الوقوف و الطواف و السعي و رمي الجمار و الحلق بمنى و الإحرام من الميقات.
"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّفَثُ جَمِيعُ الْمَنَاسِكِ. و قال قوم التفث قشف الإحرام و قضاؤه بحلق الرأس و الاغتسال و نحوه و قال الأزهري في كتاب تهذيب اللغة التفث في كلام العرب لا يعلم إلا من قول ابن عباس (1)و قيل التفث الدرن و معنى قوله ثُمَّن.
ص: 287
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ليزيلوا أدرانهم و قيل هو الأخذ من الشارب و قص الأظفار و نتف الإبط و حلق العانة و هذا عند الخروج من الإحرام.و قوله وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي يفوا بما نذروا من نحر البدن و قال مجاهد كل ما نذر في الحج فربما نذر الإنسان إن رزق حجا أن يتصدق و إذا كان على الإنسان نذر فالأفضل أن يفي به هناك و لم يقل بنذورهم لأن المراد بالإيفاء الإتمام أي ليتموا نذورهم بقضائها.و قوله وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ عام في كل طواف و سمي عتيقا لأنه أعتق من أن يملكه جبار (1).
فصل
و قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (2) ظاهره يقتضي تحريم الصيد في حال الإحرام و تحريم ما صاده غيره و منهم من فرق بين ما صيد و هو محرم و بين ما صيد قبل إحرامه و عندنا لا فرق بينهما و الكل محرم على المحرم فأما من لم يكن محرما فيجوز أن يأكل من الصيد الذي ذبح و صيد في غير الحرم و إن كان في الحرم.و الصيد يكون عبارة عن الاصطياد فيكون مصدرا و يعبر به عن المصيد فيكون اسما صريحا و يجب أن يحمل ذكره في الآية على الأمرين و تحريم الجميع و المعنى أبيح لكم صيد الماء.و إنما أحل بهذه الآية الطري من صيد البحر لأن العتيق لا خلاف في كونه6.
ص: 288
حلالا و طَعامُهُ أي طعام البحر يريد المملوح و هو الذي يليق بمذهبنا و إنما سمي طعاما لأنه يدخر ليطعم فيكون المراد بصيد البحر الطري و بطعامه المملوح و قيل المراد بطعامه ما ينبت من الزرع و الثمار بحباته
قوله تعالى وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ (1) أي يثوبون إليه في كل عام يعني ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس.و عن ابن عباس معناه أنه لا ينصرف عنه أحد و هو يرى أنه قد قضى منه وطرا فهم يعودون إليه.
وَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ لاَ يَقْضُونَ وَطَراً. و حكى الحارثي أن معناه يحجون إليه فيثابون عليه.و روي أن كل من فرغ من الحج و انصرف و عزم أن لا يعود إليه أبدا مات قبل الحول (2).و إنما جعل الله أمنا بأن حكم أن من عاذ به و التجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه بما جعله في نفوس العرب من تعظيمه و كان من فيه أمنا و يتخطف الناس من حوله.و لعظم حرمته أن من جنى جناية فالتجأ إليه لا يقام عليه الحد فيه لكن يضيق عليه في المطعم و المشرب حتى يخرج فيحد فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم فيه الحد لأنه هتك حرمة الحرم (3).
ص: 289
فصل
و قوله تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (1) .قيل فيه أربعة أقوال قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم و قال عطاء مقام إبراهيم عرفة و المزدلفة و الجمار و قال مجاهد الحرم كله مقام إبراهيم و قال السدي هو الحجر الذي فيه أثر رجلي إبراهيم و كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدميه حتى غسلت رأسه فوضع إبراهيم عليه رجله و هو راكب فغسلت شقه الأيمن ثم رفعته و قد غابت رجله فيه فوضعته تحت قدمه اليسرى و غسلت الشق الأيسر من رأسه فغابت رجله اليسرى أيضا في الحجر فأمر الله بوضع ذلك الحجر قريبا من الحجر الأسود و أن يصلى عنده بعد الطواف و هو الظاهر في أخبارنا (2).و قوله وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا (3) أمرهما الله أن يطهراه من فرث و دم كان يطرح المشركون قبل أن صار في يد إبراهيم و قيل أراد طهراه من الأصنام و الأوثان و قيل طهرا بيتي ببنائكما له على الطهارة كقوله أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى (4) .و معنى الطائفين هم الذين أتوه من غربة و قيل هم الطائفون بالبيت و الطائف الدائر.و اَلْعاكِفِينَ قيل إنهم المقيمون بحضرته و قيل هم المجاورون و قيل9.
ص: 290
هم أهل البلد الحرام و قيل هم المصلون و قيل العاكف المعتكف في المسجد.و اَلرُّكَّعِ السُّجُودِ هم الذين يصلون عند الكعبة و الطواف للطاري أحسن و الصلاة لأهل مكة أفضل.
فصل
و قوله تعالى وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً (1)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْحَرَمُ أَمْناً قَبْلَ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ هَذِهِ حَرَمٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ (2). و قيل كانت قبل الدعوة ممنوعا من الايتفاك (3)كما لحق غيرها من البلاد فسأل إبراهيم أن يجعلها أمنا من القحط لأنه أسكن أهله بها فأجابه الله.
وَ قَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَ إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ (4). و قال في سورة إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً بتعريف البلد لأن النكرة إذا أعيدت تعرفت.سأل أن يديم أمنه من الجدب و الخسف.و قوله رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي (5) المراد بالذرية إسماعيل أبو العرب و أمه هاجر أسكنهما مكة و من للتبعيض و مفعول أسكنت محذوف.و قيل لما أن بناه إبراهيم سماه بيتا لأنه كان قبل ذلك بيتا و إنما خربته طسم (6)و اندرس.».
ص: 291
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (1) هذا سؤال من إبراهيم أن يجعل الله قلوب الخلق تحن إليه ليكون في ذلك منافع ذريته لأنه واد غير ذي زرع.
فصل
و قوله وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا (2) كان إبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجر و إنما رفعا البيت للعبادة لا للمسكن لقولهما تَقَبَّلْ مِنّا .
وَ رُوِيَ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَنَاهُ ثُمَّ عُفِيَ أَثَرُهُ فَجَدَّدَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (3).
وَ الْمَرْوِيُّ فِي أَخْبَارِنَا: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ حَجَّ آدَمُ حَجَّ وَ اعْتَمَرَ أَلْفَ مَرَّةٍ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنَ الْهِنْدِ (4).
وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ تَحْتَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةَ أَسَاطِينَ وَ سَمَّاهُ الضُّرَاحَ (5)وَ هُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ وَ قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ طُوفُوا بِهِ ثُمَّ بَعَثَ مَلاَئِكَةً فَقَالَ لَهُمُ ابْنُوا فِي الْأَرْضِ بَيْتاً بِمِثَالِهِ وَ قَدْرِهِ وَ أَمَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ وَ قَالَ وَ لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ إِنِّي مُنْزِلٌ مَعَكَ بَيْتاً يَطُوفُ (6)حَوْلَهُ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي وَ يُصَلَّى عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ رُفِعَ فَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ يَحُجُّونَهُ وَ لاَ يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ حَتَّى تَوَاهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ فَأَعْلَمَهُ مَكَانَهُ فَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ».
ص: 292
أَجْبُلٍ مِنْ حِرَاءَ وَ ثَبِيرٍ وَ لُبْنَانٍ وَ جَبَلِ الطُّورِ وَ جَبَلِ الحمر [اَلْخَمَرِ] . و قال الطبري و هو جبل بدمشق.و قوله تعالى وَ أَرِنا مَناسِكَنا أي متعبدنا قال الزجاج متعبد منسك و قيل المناسك هي ما يتقرب بها إلى الله من الهدي و الذبح و غير ذلك من أعمال الحج و العمرة و قيل مناسكنا مذابحنا و أرنا من رؤية البصر و قيل أي أعلمنا.و قيل أراهما الله الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و الإفاضة من عرفات و الإفاضة في جمع حتى رمي الجمار فأكمل الله له الدين و هذا أقوى لأنه هو العرف الشرعي في معنى المناسك.و قال وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ (1) هي ملة نبينا لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد مع زيادات هاهنا.و قوله ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ (2) معناه و الأمر ذلك أي هكذا أمر الحاج المناسك و من يعظم حرمات الله فالتعظيم خير له في الآخرة يعني بأن يترك ما حرمه الله و الحرمة ما لا يحل انتهاكه.و اختار المفسرون في معنى الحرمات هنا أنها المناسك لدلالة ما يتصل بها من الآيات و قيل هي في الآية ما نهي عنها من الوقوع فيها و تعظيمها ترك ملابستها و قيل معناها البيت الحرام و البلد الحرام و الشهر الحرام.
فصل
و قوله تعالى وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي الإبل و البقر و الغنم في حال إحرامكم إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ من الصيد فإنه يحرم على المحل في الحرم إذا صيد في الحرم و على المحرم في الحل و الحرم فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ كانوا0.
ص: 293
يلطخون أصنامهم بدماء قربانهم فسمي ذلك رجسا وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (1) أي الكذب و هو تلبية المشركين لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.و روى أصحابنا أنه يدخل فيه سائر الأقوال الملهية (2). ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ (3) الشعائر مناسك الحج و المراد بالمنافع التجارة.و قوله إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن يعود من مكة.و قوله وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً (4) إشارة إلى ما ذكرنا من تفصيل المجمل للمعتمر و الحاج
قال تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (5) قد ذكرنا أن من حج متمتعا فالواجب عليه أن ينحر بدنة أو بقرة أو فحلا من الضأن أو شاة كما تيسر عليه و يسهل و لا يصعب فإن لم يجد شيئا منها و وجد ثمنه خلفه عند ثقة حتى يشتري له هديا و يذبحه إلى انقضاء ذي الحجة فإن لم يصبه ففي العام المقبل في ذي الحجة.و قوله تعالى ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ قيل الشعائر البدن إذا أسفرت في الحج القارن أي أعلمت عليها بأن يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي و تعظيمها استسمانها و استحسانها لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
ص: 294
منافعها ركوب ظهورها و شرب ألبانها إذا احتيج إليها و هو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام (1).و قال ابن عباس ذلك ما لم يسم هديا أو بدنا و قال عطاء ما لم يقلد إلى أجل مسمى إلى أن ينحر.و قوله ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ معناه أن يحل الهدي و البدن الكعبة و عند أصحابنا إن كان في العمرة المفردة فمحله مكة قبالة الكعبة بالحزورة و إن كان الهدي في الحج فمحله منى.ثم عاد إلى ذكر الشعائر فقال وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ (2) أي و جعلنا البدن صواف لكم فيها عبادة لله بما في سوقها إلى البيت و تقليدها بما ينبئ أنها هدي ثم ينحرها للأكل منها و إطعام القانع و المعتر. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوافَّ أمر من الله أن يذكروا اسم الله عليها فإذا أقيمت للذبح صافة أي مستمرة في وقوفها على منهاج واحد و التسمية إنما يجب عند نحرها دون حال قيامها.و اَلْبُدْنَ الإبل العظام البدنة بالسمن جمع بدنة (3)و هي إذا نحرت فعندهم يعقل لها يد واحدة (4)و كانت على ثلاث و عند أصحابنا يشد يداها إلى إبطيها و يطلق رجلاها و البقر يشد يداها و رجلاها و يطلق (5)ذنبها و الغنم تشد ثلاثة أرجل منها و يطلق فرد رجل.ل.
ص: 295
وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْقَانِعُ الَّذِي يَسْأَلُ فَيَرْضَى بِمَا أُعْطِيَ وَ الْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِي رَحْلَكَ مِمَّنْ لاَ يَسْأَلُ (1)وَ قَالَ يَنْبَغِي لِمَنْ ذَبَحَ الْهَدْيَ أَنْ يُعْطِيَ الْقَانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ ثُلُثَهُ وَ يُهْدِيَ لِأَصْدِقَائِهِ ثُلُثَهُ وَ يُطْعِمَ ثُلُثَهُ الْبَاقِيَ (2). كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي مثل ما وصفناه ذللناها لكم حتى لا تمتنع عما تريدون منها من النحر و الذبح بخلاف السباع الممتنعة و لتنتفعوا بركوبها و حملها و نتاجها نعمة منا عليكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (3) ذلك. لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها (4) أي لن يصعد إلى الله تلكم و إنما يصعد إليه التقوى و هذا كناية عن القبول فإن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله و وصل إليه فخاطب الله عباده بما اعتادوه في مخاطباتهم و كانوا في الجاهلية إذا ذبحوا الهدي استقبلوا الكعبة بالدماء فنضحوها حول البيت قربة إلى الله تعالى.و المعنى لن يتقبل الله اللحوم و لا الدماء لكن يتقبل التقوى فيها و في غيرها بأن يوجب في مقابلتها الثواب لِتُكَبِّرُوا اللّهَ تعظموه و تشكروه في حال الإحلال كما يليق به في حال الإحرام و قيل لتسموا الله على الذباحة. إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ (5) أي من ذكر اسم غير الله على الذبيحة فهو الجحود لنعم الله.
فصل
و قوله تعالى وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (6) قد ذكرنا أن6.
ص: 296
الحاج لا ينبغي أن يحلق رأسه من أول ذي القعدة إلى يوم النحر بمنى فحينئذ يلزم الرجال أن يحلقوا رءوسهم.قال تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ (1) فإن الصرورة تلزمه الحلق و غير الصرورة تجزيه التقصير و لا يجب على النساء الحلق و يجزيهن التقصير على كل حال.و محل الهدي منى إن كان في الحج أو في العمرة التي يتمتع بها إلى الحج يوم النحر و إن كان في العمرة المبتولة فمكة و المعنى لا تحلوا من إحرامكم حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ و ينحر أو يذبح. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أي من مرض منكم مرضا يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي تأذى بهوام رأسه أبيح له الحلق بشرط الفدية قبل يوم النحر في ذي القعدة أو في تسع ذي الحجة فالأذى المذكور في الآية كل ما تأذيت به.نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة فإنه كان قد قمل رأسه فأنزل الله فيه ذلك (2)و هي محمولة على جميع الأذى.و قوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فالذي رواه أصحابنا أن من حلق لعذر فالصيام عليه ثلاثة أيام أو الصدقة ستة مساكين و روي عشرة مساكين (3)و النسك شاة و فيه خلاف بين المفسرين.و المعنى أن تأذى بشيء فحلق لذلك العذر فعليه فدية أي بدل و جزاء يقوم مقام ذلك من صيام أو صدقة أو نسك مخير فيها.1.
ص: 297
و أما رمي الجمار فقوله تعالى وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (1) يدل عليه بإجماع أهل البيت (2)و العلماء أي كلفه مناسك الحج و من جملتها رمي الجمار و عليه المفسرون يرمي جمرة العقبة يوم النحر سبعة و كل يوم من أيام التشريق (3)الثلاثة إحدى و عشرين حصاة في الجمرات الثلاث يبدأ بالجمرة الأولى فيرمي سبعة ثم كذا في الوسطى ثم في الأخرى
قال الله تعالى فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ (4) أي إذا أديتموها و فرغتم منها قال مجاهد هي الذبائح و قيل المعنى فإذا قضيتم ما وجب عليكم في متعبداتكم إيقاعه من الذبح و الحلق و الرمي و غيرها فَاذْكُرُوا اللّهَ فإنه يستحب الدعاء بعد رمي الجمرتين الأوليين و قيل المراد بالذكر هاهنا التكبير أيام منى و قيل إنه سائر الدعاء في تلك المواطن فإنه أفضل من غيره.و قوله كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ وَ يَفْتَخِرُونَ بِالْآبَاءِ وَ بِمَآثِرِهِمْ وَ يُبَالِغُونَ فِيهِ (5).
ص: 298
و قوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً بما لله عليكم من النعمة و إنما شبه الأوجب بما هو دونه في الوجوب لأنه خرج على حال لأهل الجاهلية معتادة أن يذكروا آباءهم بأبلغ الذكر و قيل اذكروا الله كذكر الصبي لأمه و الأول أظهر.ثم بين أن من يسأل هناك فمنهم من يسأل نعيم الدنيا فقط لأنه غير مؤمن بالقيامة و منهم من يقول رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً (1)
عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهَا السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَ الْمَعَاشِ وَ حُسْنُ الْخُلُقِ فِي الدُّنْيَا وَ رِضْوَانُ اللَّهِ وَ الْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ (2).
وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ أُوتِيَ قَلْباً شَاكِراً وَ زَوْجَةً صَالِحَةً تُعِينُهُ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاهُ وَ آخِرَتِهِ فَقَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ وُقِيَ عَذَابَ النَّارِ (3).
فصل
ثم قال تعالى وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ (4) .أمر من الله أن يذكروا الله في هذه الأيام و هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر و الأيام المعلومات عشر ذي الحجة و هو قول ابن عباس و جماعة و قال الفراء المعلومات أيام التشريق و المعدودات عشر ذي الحجة و في النهاية نحوه على خلاف ما في كتبه الأخر (5).و الصحيح أن المعدودات هي أيام التشريق لا غير و الدليل عليه قوله هاهنا فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى و النفر الأول و النفر الثاني لا يكونان إلا في أيام التشريق بلا خلاف.م.
ص: 299
و الأيام المعلومات يوصف بها عشر ذي الحجة و يوصف بها أيام التشريق معا و قد ذكر في تهذيب الأحكام أن الأيام المعلومات هي أيام التشريق و يؤكد ذلك بقوله في سورة الحج لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ (1) .و سميت أيام التشريق معدودات لأنها قلائل و هي ثلاثة.و هذه الآية تدل على وجوب التكبير أو استحبابه و الذكر المأمور به الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر و لله الحمد و الحمد لله على ما رزقنا من بهيمة الأنعام و الأظهر أنها تجب بمنى و تستحب بغير منى.
فصل
و قوله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى (2) المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من التشريق فإن أقام إلى النفر الأخير و هو اليوم الثالث من التشريق كان أفضل فإن نفر في الأول نفر بعد الزوال إلى قبيل الغروب فإن غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث بعد الرمي و ليس للإمام أن ينفر في النفر الأول.و قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [قيل فيه قولان أحدهما لا إثم عليه] (3)لتكفير سيئاته مما كان من حجه المبرور و ببركته تفضل الله بالمغفرة لذنوبه و هو معنى قول ابن مسعود الثاني قال الحسن لا إثم عليه في تعجله و لا تأخره و إنما نفى الإثم لئلا يتوهم ذلك متوهم في التعجيل و جاء في التأخير على مزاوجة الكلام كما يقول إنج.
ص: 300
أظهرت الصدقة فجائز و إن أسررتها فجائز و الإسرار أفضل.و يمكن أن يقال إن الأول معناه لا حرج عليه و الثاني معناه لم يبق عليه إثم فقد غفر له جميع ذنوبه فيكون جمعا للقولين المتقدمين.و قوله لِمَنِ اتَّقى فيه قولان أحدهما لما قال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ دل على وعده بالثواب و علقه بالتقوى لئلا يتوهم أنه بالطاعة في النفر فقط الثاني أنه لا إثم عليه في تعجله إذا لم يعمل لضرب من ضروب الفساد و لكن لاتباع إذن الله فيه.و قيل هو التحذير في الإيكال على ما سلف من أعمال البر في الحج فبين أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى و مجانبة المعاصي.و قد روى أصحابنا أن قوله لِمَنِ اتَّقى متعلق بالتعجل في يومين فلا إثم عليه لمن اتقى الصيد إن شاء نفر في النفر الأول و إن شاء وقف إلى انقضاء النفر الأخير و من لم يتق الصيد فلا يجوز له النفر في الأول و هو اختيار الفراء و هو قول ابن عباس (1).
وَ رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ مَنْ مَاتَ فِي هَذَيْنِ فَقَدْ كُفِّرَ عَنْهُ كُلُّ ذَنْبٍ وَ مَنْ تَأَخَّرَ أَيْ أُنْسِئَ أَجَلُهُ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا إِذَا اتَّقَى الْكَبَائِرَ (2). و التقدير ذلك لمن اتقى أو جعلناه لمن اتقى و قيل العامل فلا إثم عليه.قوله وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (3) أي إذا حللتم من إحرامكم و خرجتم من الحرم فاصطادوا الصيد الذي نهيتم أن تحلوه إن شئتم فالسبب المحرم له زال و هو إباحة أي لا حرج عليكم في صيده بعد ذلك2.
ص: 301
قد تقدم القول في كثير من ذلك و قد عد مشايخنا التروك المفروضة و المكروهة في الحج و العمرة فمحظورات الإحرام ستة و ثمانون (1)شيئا (2)و محظورات الطواف و السعي و الذبح و الرمي سبعة و أربعون شيئا و مكروهات الحج و العمرة ثلاثة و خمسون شيئا و قد نطق القرآن ببعضها مفصلا
و قوله وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يدل على جميع ذلك جملة.و قوله فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ (3) قد ذكرنا أن الرفث كناية عن الجماع فحكم المحرم إذا جامع له شرح طويل لا نطيل به الكتاب.و المراد بالفسوق الكذب فمن كذب مرة فعليه شاة و من كذب مرتين فعليه بقرة و من كذب ثلاثا فعليه بدنة و قد أشرنا إلى الجدال أنه القسم بالله.
ص: 302
و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لاَ الْهَدْيَ (1) أي يا أيها الذين صدقوا الله فيما أوجب عليهم لا تحلوا حرمات الله و لا تعدوا حدوده و لا تحلوا معالم حدود الله و أمره و نهيه و فرائضه و لا تحلوا حرم الله و شعائر حرم الله و رسوله و مناسك الحج.عن ابن عباس المعنى لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها و قال مجاهد شعائر الله الصفا و المروة و الهدي من البدن و غيرها و قال الفراء كانت عامة العرب لا ترى الصفا و المروة من شعائر الله و لا يطوفون بهما فنهاهم الله عن ذلك و هو قول أبي جعفر عليه السّلام و قال قوم لا تحلوا ما حرم الله عليكم في إحرامكم و قيل الشعائر العلامات المنصوبة للفرق بين الحل و الحرم نهاهم الله أن يتجاوزوا المواقيت إلى مكة بغير إحرام و قال الحسين بن علي المغربي المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة هديا للبيت و قريب منه ما روي عن ابن عباس أيضا أن المشركين كانوا يحجون البيت و يهدون الهدايا فأراد بعض المسلمين أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عنه و العموم يتناول الكل.ثم قال وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تستحلوا الأشهر الحرم كلها بالقتال فيها أعداءكم هؤلاء من المشركين و لا تستحلوها بالنسيء إنما النسيء زيادة في الكفر (2).و قوله تعالى وَ لاَ الْقَلائِدَ أي و لا تحلوا الهدي المقلد و إنما كرر لأنه أراد».
ص: 303
المنع من حل الهدي الذي لا يقلد و الهدي الذي قلد و قيل هو نعل يقلد بها الإبل و البقر يجب التصدق بها إن كان لها قيمة.و قوله وَ لاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ نهى أن يحل و يمنع من يلتمس أرباحا في تجاراتهم من الله و أن يرضى عنهم بنسكهم فأما من قصد البيت ظلما لأهله وجب منعه و دفعه
قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ (1) هذا خطاب من الله للمؤمنين و قسم منه تعالى أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم بشيء من الصيد و أصله إظهار باطن الحال و المعنى يعرضكم بأمره و نهيه لأن يظهر ما في نفوسكم و هو خاف في الحال و سمي ذلك اختبارا لأنه شبيه في الظاهر باختبار الناس و إن كان المختبر لا يعلم ما يكون من المختبر و الله عالم بما يكون من المكلف بكل جلي و خفي و مضمر و منوي و المعنى ليظهر طاعتكم من معصيتكم.و من في قوله مِنَ الصَّيْدِ للتبعيض و يحتمل وجهين أحدهما أن يكون عنى صيد البر دون صيد البحر و الآخر أن يكون لما عنى الصيد ما داموا في الإحرام أو في الإحرام و الحرم كان ذلك بعض الصيد و يجوز أن يكون من لتبيين الجنس و أراد بالصيد المصيد بدلالة قوله تعالى تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ و لو كان الصيد هنا مصدرا كان حدثا فلا يوصف بمثل اليد و الرمح و إنما يوصف به ما كان عينا.و قال أصحاب المعاني امتحن الله أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله بصيد البر كما امتحن أمة موسى عليه السّلام بصيد البحر.
ص: 304
و لما تقدم في أول السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا بين سبحانه ذلك هاهنا فقال ليختبرن الله تعالى طاعتكم من معصيتكم بشيء من الصيد أي بتحريم شيء من الصيد و بعض منه.و الذي تناله الأيدي فراخ الطير و صغار الوحش و البيض و الذي تناله الرماح الكبار من الصيد عن ابن عباس و هو المروي عن الصادق عليه السّلام (1).و قيل المراد به صيد الحرم ينال بالأيدي و الرماح لأنه يأنس بالناس و لا ينفر منهم كما ينفر في الحل و ذلك آية من آيات الله.و قيل المراد به ما قرب و ما بعد من الصيد.و جاء في التفسير أنه يعني به حمام مكة و هي تفرخ في بيوت مكة في السقف و على الحيطان فربما كانت الفراخ بحيث تصل اليد إليها.
فصل
و بهذه الآية حرم الله صيد الحل على المحرم و صيد الحرم على المحل و المحرم جميعا و قال الزجاج سن النبي صلّى اللّه عليه و آله تحريم صيد الحرم على المحرم و غيره و هذا صحيح و صيد غير الحرم يحرم على المحرم دون المحل و قال أبو علي صيد الحرم هو المحرم بهذه الآية و نحوه قول بعض المفسرين إن الله عنى به كل صيد الحرم لأنه جعل الصيد آمنا بالحرم فهو لا ينفر من الناس نفاره إذا خرج من مكة و إذا بمكة أمكن قتله بالرمح و أخذه باليد فأمر الله أن لا يقتلوا هذا الصيد و لا يأخذوه و لا يؤذوه.و قيل تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ إشارة إلى صيد الحرم لأنه يكون آنس من غيره فيمكن تناوله باليد و قوله وَ رِماحُكُمْ إشارة إلى صيد غير الحرم للمحرم لأنه يمكنه أخذه بالرمح و هذا من الصيد إلهام من الله بخلاف صيد آخر يكون في أرض أخرى.1.
ص: 305
لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليعلم ملائكة الله من يخافه غائبا لأنه تعالى عالم فيما لم يزل و معنى ليعلموا أي ليعرفوا قوما يخافون صيد الحرم في العلانية فلا يعترضون له على حال.ثم قال فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي من تجاوز حد الله بمخالفة أمره و ارتكاب نهيه بالصيد في الحرم و في حال الإحرام فله عذاب النار في القيامة و يجوز أن يكون غير ذلك من الآلام و العقوبات في الدنيا فقد قال لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً (1) حكاية عن سليمان في حق الهدهد و لم يرد عذاب النار
قال الله تعالى عقيب ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ (2) اختلف في المعني بالصيد فقيل هو كل الوحش أكل أو لم يؤكل و هو قول أهل العراق و استدلوا
بِقَوْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ:
صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبُ وَ ثَعَالِبُ وَ إِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الْأَبْطَالُ.
و هو مذهبنا و قيل هو كل ما يؤكل لحمه و هو قول الشافعي.و قوله وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ فيه ثلاثة أوجه أحدها و أنتم محرمون بحج أو عمرة الثاني و أنتم في الحرم الثالث و أنتم في الشهر الحرام و لا خلاف أن هذا ليس بمراد فالآية تدل على تحريم قتل الصيد في حال الإحرام بالحج أو العمرة سواء كان محرما بالعمرة أو بالحج أو لم يكن و قال الرماني تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بالحج أو العمرة و الأول أعم فائدة و اختاره أكثر المفسرين.
ص: 306
و قال جماعة الأولى أن تكون الآية الأولى حرم فيها الصيد بالحرم في جميع الأوقات و الحالات و هذه الآية الثانية حرم فيها صيد البر كله في حال الإحرام.و واحد الحرم حرام كسحاب و سحب.
فصل
ثم
قال تعالى وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ (1) .فقوله تعالى من قتله فيه قولان أحدهما أن يتعمد القتل و ينشئ الإحرام الثاني الذاكر لإحرامه مع تعمد قتله و قال ابن جرير و هو عام في الناسي و الذاكر لأن ظاهره عام و لا دليل على الخصوص.و قوله مِنْكُمْ يعني كل من يدين بدين الإسلام و مُتَعَمِّداً نصب على الحال أي قاصدا غير ساه و لا جاهل به.و الفتوى أن قاتل الصيد إذا كان محرما لزمه الجزاء عامدا كان في القتل أو خاطئا أو ناسيا لإحرامه أو ذاكرا عالما كان أو جاهلا و على هذا أكثر الفقهاء و العلماء و قال جماعة إنه يلزمه إذا كان متعمدا لقتله ذاكرا لإحرامه و هو أشبه بالظاهر و الأول يشهد به روايات أصحابنا.
فصل
و اختلفوا في مثل المقتول
بقوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قال ابن عباس و الحسن و السدي و الضحاك و مجاهد و عطاء هو أشبه الأشياء به من النعم إن قتل نعامة فعليه بدنة حكم النبي صلّى اللّه عليه و آله بذلك في البدنة و إن قتل أروى (2)».
ص: 307
فبقرة و إن قتل غزالا أو أرنبا فشاة و هذا هو الذي يدل عليه روايات أصحابنا (1).و قال قوم يقوم الصيد بقيمة عادلة ثم يشترى بثمنه مثله من النعم ثم يهدى إلى الكعبة فإن لم يبلغ ثمن هدي كفر أو صام و فيه خلاف بين الفقهاء.و قد تواترت أخبارنا و رواياتنا بأن كل ما يصيده المحل في الحرم يلزمه فيه القيمة و ما يصيده المحرم في الحل من الصيد كان عليه الفداء و إن أصابه المحرم في الحرم كان عليه الفداء و القيمة و ما يجب فيه التضعيف هو ما لم يبلغ بدنة فإذا بلغها لها يجب عليه غيرها.قال الزهري نزل القرآن بالعمد و جرت السنة في الخطإ.و الفتوى أن الصيد كلما تكرر من المحرم كان عليه كفارة إذا كان ذلك منه نسيانا فإن فعله متعمدا مرة كان عليه الكفارة و إن فعله مرتين فهو ممن ينتقم الله منه و ليس عليه الجزاء.فإن قيل بم يعلم المماثلة بين النعم و ما يضاد.قلنا لهذا جوابان أحدهما أن الله بين على لسان نبيه صلّى اللّه عليه و آله في قتل النعامة بدنة من الإبل على كل حال في الحل إذا كان محرما و في الحرم و جعل بدل حمار وحش أو بقر وحش بقرة إذا أصابه المحرم في الحل و بدل ظبية شاة هكذا و إن أصاب قطاة فعليه حمل مفطوم و إن أصاب ظبا فعليه جدي و إن أصاب عصفورا فعليه مد من طعام و إن أصاب المحرم في الحل حمامة فعليه دم و إن أصابها و هو محل في الحرم فعليه درهم و إن أصابها و هو محرم في الحرم فعليه دم و القيمة و إن قتل فرخا و هو محرم في الحل فعليه حمل و إن قتله في الحرم و هو محل فعليه نصف درهم و إن قتله و هو محرم في الحرم فعليه الجزاء و القيمة معا و إن أصاب بيض حمام و هو محرم في الحل فعليه درهم و إن أصاب و هو محل في الحرم فعليه ربع درهم و إن أصابه و هو محرم في الحرم فعليه الجزاء و القيمة فإن كان حمام1.
ص: 308
الحرم يشترى به العلف لحمام الحرم و إن كان حماما أهليا يتصدق به فقد بين جميع ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .و الجواب الثاني أنه اختلف في المكان الذي يقوم فيه الصيد فقال أبو حنيفة و صاحباه يقوم بالمكان الذي أصاب فيه إن كان أصاب بخراسان أو غيره و قال عامر الشعبي يقوم بمكة أو منى.و قوله يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني شاهدين عدلين فقيهين يحكمان بأنه جزاء مثل ما قتل من الصيد أي يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم أي من أهل ملتكم و دينكم فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به.و قوله هَدْياً أي يهديه هديا و بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة.و الهدي يجب أن يكون صحيحا بالصفة التي تجري في الأضحية و قال الشافعي يجوز في الهدي ما لا يجوز في الأضحية.و عندنا إن قتل طائرا أو نحوه ففيه دم في الحل على المحرم و على المحل في الحرم القيمة و على المحرم في الحرم دم و القيمة لما قدمنا و الدم لا يكون أقل من دم شاة.و قد تقدم إن كان ذلك الصيد في إحرام الحج أو العمرة التي يتمتع بها يذبح بمنى و إن كان في العمرة المبتولة فمكة و عن ابن عباس إذا أتى مكة ذبحه كله و تصدق به.
فصل
ص: 309
و قوله تعالى مِنَ النَّعَمِ في هذه القراءة صفة للنكرة التي هي جزاء و فيه ذكر له و لا ينبغي إضافة جزاء إلى مثل لأن عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله و لا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله و لا يجوز على هذه القراءة أن يكون قوله مِنَ النَّعَمِ متعلقا بالمصدر كما جاز أن يكون الجار متعلقا به في قوله جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها لأنك قد وصفت الموصول و إذا وصفته لم يجز أن تعلق به بعد الوصف شيئا كما أنك إذا عطفت عليه أو أكدته لم يجز أن تعلق به شيئا بعد العطف عليه و التأكيد له و المماثلة في القيامة أو الخلقة على اختلاف الفقهاء في ذلك.و أما من قرأ فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ فأضاف الجزاء إلى المثل فقوله مِنَ النَّعَمِ يكون صفة للجزاء كما كان في قول من نون و لم يضف صفة له (1)و يجوز فيه وجه آخر مما يجوز في قول من نون (2)فيمتنع تعلقه به لأن من أضاف الجزاء إلى مثل فهو كقولهم أنا أكرم مثلك أي أنا أكرمك فالمراد فجزاء ما قتل و لو قدرت الجزاء تقدير المصدر المضاف إلى المفعول به فالواجب عليه في الحقيقة جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول لأن معناه مجازا مثل ما قتل.و نحن نعمل بظاهر القراءتين فإن المحرم إذا قتل الصيد الذي له مثل فهو مخير بين أن يخرج مثله من النعم و هو أن يقوم مثله دراهم و يشتري به طعاما و يتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما و لا يجوز إخراج القيمة جملة و إن كان الصيد لا مثل له كان مخيرا بين أن يقوم الصيد و يشتري به طعاما و يتصدق به و بين أن يصوم عن كل مد يوما.و القراءتان إذا كانتا مجمعا على صحتهما كانتا كالآيتين يجب العمل بهما و قد تخلصنا أن يتعسف في النحو و الإعراب.ج.
ص: 310
فصل
وَ عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِي الصَّيْدِ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قَالَ فِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَ فِي الْحَمَامَةِ وَ أَشْبَاهِهَا وَ إِنْ كَانَ فِرَاخاً فَعِدَّتُهَا مِنَ الْحُمْلاَنِ وَ فِي حِمَارِ وَحْشٍ بَقَرَةٌ وَ فِي النَّعَامَةِ جَزُورٌ (1).
وَ عَنْ حَرِيزٍ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِ اللَّهِ فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ وَ فِي حِمَارِ وَحْشٍ بَقَرَةٌ وَ فِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَ فِي الْبَقَرَةِ بَقَرَةٌ (2).
وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قَالَ عَدْلُ الْهَدْيِ مَا بَلَغَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَلْيَصُمْ بِقَدْرِ مَا بَلَغَ لِكُلِّ طَعَامِ مِسْكِينٍ يَوْماً (3).
وَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ وَ لَمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُ مِنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الصَّيْدَ قَوَّمَ جَزَاءَهُ مِنَ النَّعَمِ دَرَاهِمَ ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ طَعَاماً لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الطَّعَامِ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْماً (4).
وَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَ وَ تَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً قُلْتُ لاَ قَالَ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ قِيمَةً ثُمَّ يُفَضُّ تِلْكَ الْقِيمَةُ عَلَى الْبُرِّ ثُمَّ يُكَالُ ذَلِكَ الْبُرُّ أَصْوَاعاً فَيَصُومُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْماً (5).1.
ص: 311
و إذا قتل صيدا فهو مخير بين ثلاثة أشياء بين أن يخرج مثله من النعم و بين أن يقوم مثله دراهم و يشتري به طعاما و يتصدق به و بين أن يصوم عن كل مد يوما [و إن كان الصيد لا مثل له فهو مخير بين شيئين أن يقوم الصيد و يشتري به طعاما يتصدق به أو يصوم عن كل يوم مدا] (1).و لا يجوز إخراج القيمة بحال و به قال الشافعي و وافق مالك في جميع ذلك إلا أن عندنا أنه إذا أراد شراء الطعام قوم المثل و عنده قوم الصيد و يشتري به طعاما و في أصحابنا من قال على الترتيب دليلنا عليه قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فأوجب في الصيد مثلا موصوفا من النعم و جزاء الصيد على التخيير بين إخراج المثل أو بيعه و شراء الطعام و التصدق به و بين الصوم عن كل مد يوما و به قال جميع الفقهاء.و عن ابن عباس و ابن سيرين أن وجوب الجزاء على الترتيب و عليه قوم من أصحابنا.دليلنا قوله تعالى فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ إلى قوله أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً و أو للتخيير بلا خلاف بين أهل اللسان فمن ادعى الترتيب فعليه الدلالة.و المثل الذي يقوم هو الجزاء و به قال الشافعي و عند مالك يقوم الصيد المقتول و دليلنا الآية.و ما له مثل يلزم قيمته وقت الإخراج دون حال الإتلاف و ما لا مثل له يلزمه قيمته حال الإتلاف دون حال الإخراج.و قال المرتضى إذا قتل المحرم صيدا متعمدا فعليه جزاءان و باقي الفقهاء يخالفون في ذلك قال و يمكن أن يقال قد ثبت أن من قتل الصيد ناسيا يجب عليه الجزاء و العمد أغلظ من النسيان في الشريعة فيجب أن يتضاعف الجزاء عليه مع العمد (2).ر.
ص: 312
فصل
أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ قال أبو علي الفارسي من رفع طعام مساكين جعله عطفا على الكفارة عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة و لم يضف الكفارة إلى الطعام و من أضاف الكفارة إلى الطعام فلأنه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء الهدي و الطعام و الصيام استجاز الإضافة لذلك فكأنه قال كفارة طعام لا كفارة هدي أو صيام فاستقامت الإضافة.و أورد ابن جني في المحتسب أن قراءة أبي عبد الرحمن فَجَزاءٌ منون مِثْلَ مَا بالنصب معناها أي مجازي مثل ما قتل و قراءة الباقر و الصادق عليهما السّلام يَحْكُمُ بِهِ ذُو عَدْلٍ قال و إنه لم يوجد ذو لأن الواحد يكفي لكنه أراد معنى من أي يحكم به من يعدل و من يكون للاثنين كما يكون للواحد كقوله
فكن مثل من يا ذئب يصطحبان (1)
وَ رُوِيَ عَنْهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْعَدْلِ رَسُولُ اللَّهِ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ (2). و كفى بصاحب القراءة خبرا بمعنى قراءته.و قيل في معناه قولان أحدهما أن يقوم عدله من النعم يجعل قيمته طعاما و ليتصدق به عن عطاء و الآخر أن يقوم الصيد المقتول حيا ثم يجعل طعاما عن قتادة. أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قيل فيه قولان أحدهما أن يصوم عن كل مد يقوم من الطعام يوما عن عطاء و هو مذهب الشافعي و الآخر أن يصوم عن كل مدين يوما و هو المروي عن أئمتنا عليهم السّلام و هو مذهب أبي حنيفة.1.
ص: 313
فصل
[و اختلفوا في هذه الكفارات الثلاث فقيل إنها مرتبة عن ابن عباس و الشعبي و السدي قالوا و إنما دخلت أو لأنه لا يخرج حكمه عن إحدى الثلاث و قيل إنها على التخيير و هو مذهب الفقهاء و اختاره الشيخ أبو جعفر على ما تقدم و كلا القولين رواه أصحابنا.قال المرتضى الأظهر أنه ليس على التخيير لكن على الترتيب و دخلت أو لأنه لا يخرج حكمه عن أحد الثلاثة على أنه لم يجد الجزاء فالإطعام فإن لم يجد الإطعام فالصيام و ليس في الآية دليل على العمل بالقياس لأن الرجوع إلى ذوي عدل في تقويم الجزاء مثل الرجوع إلى المقومين في قيم المتلفات و لا تعلق لذلك بالقياس.و قوله لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي عقوبة ما فعله في الآخرة إن لم يتب و قيل معناه ليذوق وخامة عاقبة أمره و ثقله بما يلزمه من الجزاء.فإن قيل كيف يسمى الجزاء وبالا و إنما هي عبادة و إذا كان عبادة فهي نعمة و مصلحة.فالجواب أن الله شدد عليه بالتكليف بعد أن عصاه فيثقل ذلك عليه كما حرم الشحم على بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت فثقل ذلك عليهم و إن كان مصلحة لهم.قوله وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ أي من عاد إلى قتل الصيد محرما فالله تعالى يكافيه عقوبة بما صنع.و اختلف في لزوم الجزاء بالمعاودة فقيل إنه لا جزاء عليه عن ابن عباس و الحسن و هو الظاهر في رواياتنا و قيل إنه يلزمه الجزاء عن جماعة و به قال بعض أصحابنا و الجمع بين الروايتين أن في معاودة قتل الصيد عمدا لا جزاء عليه و في النسيان يكرر.
ص: 314
فإن قيل ظاهر القرآن يخالف مذهبكم لأنه تعالى قال فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ .. أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً و لفظة أو يقتضي التخيير و مذهبكم أن القاتل للصيد عليه الهدي فإن لم يقدر عليه فالإطعام فإن عجز عنهما فالصيام.فالجواب قلنا ندع الظاهر للدلالة كما تركنا ظاهر إيجاب الواو للجمع و حملناها على التخيير في قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ و يكون كذا إذا لم يجد الأول] (1).
فصل
ثم
قال أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (2) .و ظاهره يقتضي تحريم الصيد في حال الإحرام و تحريم كل ما صاده غيره و به قال جماعة و قال الحسن لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره و منهم من فرق ما بين صيد و هو محرم و بين ما صيد قبل إحرامه و عندنا لا فرق بينهما فالكل محرم على المحرم.و الصيد يعبر به عن الاصطياد فيكون مصدرا و يعبر به عن الصيد فيكون اسما صريحا و يجب أن تحمل الآية على الأمرين و تحريم الجميع.بين الله تعالى ما يحل من الصيد و ما لا يحل فقال أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أي أبيح لكم صيد الماء و إنما أحل بهذه الآية الطبري من صيد البحر لأن العتيق لا خلاف في كونه حلالا عن ابن عباس و جماعة.6.
ص: 315
و قوله وَ طَعامُهُ يعني طعام البحر يريد به المملوح عن جماعة و هو الذي يليق بمذهبنا و إنما سمي طعاما لأنه يدخر ليطعم
الحصر عندنا لا يكون إلا بالمرض و الصد إنما يكون من جهة العدو و عند الفقهاء كلاهما من جهة العدو و المذهب هو الأول.فإذا أحرم المكلف بحجة أو عمرة فحصره عدو من المشركين و منعوه من الوصول إلى البيت كان له أن يتحلل لعموم الآية هذا في الحصر العام و أما الحصر الخاص و هو أن يحبس بدين عليه أو غيره فلا يخلو أن يحبس بحق أو بغير حق فإن حبس بحق بأن يكون عليه دين يقدر على قضائه فلم يقضه لم يكن له أن يتحلل لأنه متمكن من الخلاص فهو حابس نفسه باختياره و إن حبس بظلم أو دين لا يقدر على أدائه كان له أن يتحلل لعموم الآية و الأخبار بأنه مصدود.و كل من له التحلل فلا يتحلل إلا بهدي و لا يجوز له قبل ذلك.و إذا لم يجد المحصر الهدي أو لا يقدر على ثمنه لا يجوز له أن يتحلل حتى يهدي و لا يجوز له أن ينتقل إلى بدل من الصوم أو الإطعام لأنه لا دليل على ذلك.و أيضا
ص: 316
و لا بد أن يكون للشرط فائدة مثل أن يقول إن مرضت أو فني نفقتي أو فاتني الوقت أو ضاق علي أو منعني عدو أو غيره فأما أن يقول إن خلى حيث شئت فليس له ذلك فإذا حصل ما شرط فلا بد له من الهدي لعموم الآية هذا كلام الشيخ أبي جعفر.و قال المرتضى إذا اشترط المحرم فقال عند دخوله في الإحرام فإن عرض لي عارض يحبسني فحلني حيث حبستني جاز له أن يتحلل عند العوائق من مرض و غيره بغير دم و هذا أحد قولي الشافعي و ذهب باقي الفقهاء إلى أن وجود هذا الشرط كعدمه فإن احتجوا بعموم قوله وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قلنا نحمل ذلك على من لم يشترط (1).
فصل
و قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فيه خلاف قال قوم إن منعكم حابس قاهر و قال آخرون إن منعكم خوف أو عدو أو مرض أو هلاك بوجه من الوجوه فامتنعتم لذلك و هذا قول جماعة و هو المروي عن ابن عباس و هذا أقوى و هو في أخبارنا و لأن الإحصار هو أن يجعل غيره بحيث يمتنع من الشيء و حصره منعه.و قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فليهد ما استيسر من الهدي أو فعليكم ما سهل و تيسر من الهدي إذا أردتم الإحلال.و في معنى فَمَا اسْتَيْسَرَ خلاف
فَرُوِيَ: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهَا شَاةٌ. و عن ابن عمر و عائشة أنه ما كان الإبل و البقر دون غيرهما و وجهها التيسر على ناقة دون ناقة و بقرة دون بقرة فالأول هو المعمول عليه عندنا و إن كان الأفضل هو الثاني.و قال الفراء أحصر و حصر بمعنى و قال المبرد و الزجاج حصره حبسه و أوقع4.
ص: 317
به الحصر و أحصره عرضه للحصر و نظيره حبسه أي جعله في الحبس و أحبسه أي عرضه للحبس و أقتله عرضه للقتل و قتله فعل به و قبره و أقبره.و في أصل الهدي قولان أحدهما أنه من الهدية فعلى هذا إنما يكون هديا لأجل التقرب به إلى الله بإخلاص الطاعة فيه على ما أمر به و واحده هدية كتمرة و تمر و جمع الهدي هدي على فعيل كما يقال عبد و عبيد و القول الآخر أنه من هداه إذا ساقه إلى الرشاد فسمي هديا لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد (1).و الهدي يكون من ثلاثة الأنواع جزور أو بقرة أو شاة و أيسرها شاة و بينا أنه هو الصحيح.
فصل
و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (2) أي و هم يصدون فالمعنى و من شأنهم الصد أي إن الذين كفروا فيما مضى و هم الآن يصدون عن الحج و العمرة و عن طاعة الله و المسجد الحرام الذي جعلناه للناس منسكا و متعبدا لم يخص به بعضا دون بعض سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ فالمعتمر فيه و الذي ينتابه من غير أهله مستويان في سكناه و النزول به فليس أحدهما أحق بالنزول فيه من الآخر غير أنه لا يخرج أحد من بيته و قيل إن كراء دور مكة و بيعها حرام.و المراد بالمسجد الحرام الحرم كله لقوله تعالى أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (3) و الظاهر أنه غير المسجد و كان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة1.
ص: 318
في المسجد الحرام و الطواف به و يدعون أنهم ولاته.و قيل نزلت الآية في الذين صدوا عن مكة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبية من أبي سفيان و أصحابه (1). وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ أي من يرد فيه ميلا عن الحق بأن يدخل مكة بغير إحرام إلا الحطابة و الرعاة في وقت دون وقت و قيل هو احتكار الطعام بمكة.و قيل هو كل شيء نهي عنه حتى شتم الخادم لأن الذنوب هناك أعظم و قيل الباء في قوله تعالى بِإِلْحادٍ زائدة أي و من يرد فيه إلحادا و الباء في بِظُلْمٍ للتعدية و قال الزجاج الباء ليست بملغاة و إليه يذهب أصحابنا و المعنى و من إرادته فيه بأن يلحد بظلم كقوله أريد لأنسى ذكرها أي أريد و أرادني لهذا.
فصل
اعلم أن مجموع فوائد قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ و قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ أن يقال إن المحرم الممنوع على ضربين محصور و مصدود.فالمحصور هو الذي لحقه المرض فإن كان معه هدي فليبعث إلى منى إن كان حاجا أو معتمرا للتمتع و إلى مكة إن كان معتمرا لا للتمتع و يجتنب جميع ما يجتنبه المحرم إلى أن يبلغ الهدي محله ثم قصر و قد أحل و يجب عليه الحج من قابل إن كان حجة الإسلام و لا تحل له النساء إلى أن يحج في العام القابل و إن لم يكن ساق الهدي فليبعث ثمنه مع أصحابه ليذبحوا عنه في وقته و يجتنب هو ما يجب اجتنابه على المحرم فإذا دخل الوقت المعين فقد أحل.و أما المصدود و هو الذي يصده العدو و قد أحرم فإن كان معه هدي فليبعثه3.
ص: 319
إلى مكة أو إلى منى على ما ذكرناه ليذبح هناك عنه فإن لم يقدر على ذلك ذبح هناك و قصر و أحل من كل شيء من النساء و غيرها فإن لم يكن معه هدي وجب أن يقصر في مكانه و يحل مما أحرم منه.و الاشتراط في الإحرام ليس لسقوط فرض الحج فإن من حج حجة الإسلام و أحصر لزمه الحج من قابل فإن كان تطوعا فإنه يستحب
قال الله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1) فالعمرة واجبة مثل الحج إلا أنه من تمتع بها إليه سقط فرضها عنه مفردا و من حج قارنا أو مفردا يعتمر بعد انقضاء الحج.و أقل ما بين العمرتين عشرة أيام من آخر انقضاء العمرة الأولى و قيل شهر فيجوز أن يعتمر في كل عشرة أيام سنة.فأما المعتمر إذا حصر فعليه العمرة فرضا في الشهر الداخل إذا كانت واجبة.و قوله وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ عام يتناول بعمومه الرجال و النساء و غلب بالذكر الذكران.و قوله لِلّهِ أي اقصدوا بالحج و العمرة التقرب لله و لا يوحشنك ما لا ينفتح من حمل التنزيل من الكتاب إلا بتفصيل التأويل من السنة فإن معاني القرآن على ثلاثة أوجه أحدها المحكم و هو ما طابق لفظه معناه و أكثر القرآن من هذا الجنس.و الثاني هو المجمل و هو ما لا يعلم بظاهره مراد الله كله كقوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (2) فإن تفصيله و كيفيته و أحكامه لا يعلم إلا ببيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
ص: 320
و الثالث هو المتشابه و هو ما يشترك لفظه بين معنيين و أكثر و كل واحد منهما يجوز أن يكون مرادا فحكمه أن يحمل على جميع محتملاته في اللغة إلا أن يمنع دليل من حمله على وجه منها و لا نقطع على مراد الله فيه إلا بنص من رسوله.و أفعال عمرة الإسلام الواجبة ثمانية النية و الإحرام و التلبية و الطواف و السعي و طواف النساء و ركعتا طواف له (1)هذا إذا كانت العمرة غير التي يتمتع بها إلى الحج فإن كانت مما يتمتع بها فليس فيها طواف النساء و لا ركعتاه و يجب بعد السعي فيه التقصير.
فصل
و اعلم أن عندنا و عند الشافعي العمرة واجبة كوجوب حجة الإسلام
لأن الله قال وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ فكأنه قال و أتموا الحج و أتموا العمرة.و اختلفوا في معنى إتمامهما فقال مجاهد و المبرد و الجبائي إنه يجب إجراء أعمالهما بعد الدخول فيهما و قال ابن جبير و عطاء و السدي إن معناه إقامتهما إلى آخر ما فيهما لأنهما واجبان و قال طاوس إتمامهما إفرادهما.و قال أهل الكوفة العمرة مسنونة فمن قال إنها غير واجبة قال لأن الله أمر بإتمام الحج و إتمام الحج وجوب إتمامه لا يدل على أنه واجب قبل ذلك كما أن الحج المتطوع به يجب إتمامه و إن لم يجب أولا الدخول فيه قالوا و إنما علمنا وجوب الحج بقوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الآية.و إجماع الفرقة المحقة على أن عمرة الإسلام واجبة كحجة الإسلام و قدق.
ص: 321
بينا أن معنى أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ أقيموهما و هو الذي رووه عن علي و زين العابدين عليهما السّلام و به قال مسروق و السدي.و للمفسرين في التمتع أقوال
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَ حَجِّهِ وَ سَمَّاهُ قَارِناً. و أنكره ابن عمر.و الثاني روي عن ابن عباس و ابن عمر و ابن المسيب و عطاء و الجبائي هو أن يعتمر في أشهر الحج ثم يدخل مكة فيطوف و يسعى و يقصر ثم يقيم حلالا إلى يوم التروية فيهل فيه بالحج من مكة ثم يحج و هذا كما قلناه سواء و قال البلخي هذا الضرب كرهه عمر (1)و نهى عنه.و الثالث هو الناسخ للحج بالعمرة
رَوَى جَابِرٌ وَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَمَرَهُمْ وَ قَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ لاَ يَنْوُونَ غَيْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا وَ يَنْقُلُوا نِيَّاتِهِمْ إِلَى الْعُمْرَةِ الَّتِي يُتَمَتَّعُ بِهَا إِلَى الْحَجِّ ثُمَّ يُحِلُّوا إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ. و هذا عندنا جائز أن يفعل.و قوله تعالى وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (2) قال جماعة هو الحج الذي فيه الوقوف بعرفة و المشعر و النسك بمنى و الحج الأصغر العمرة.
وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ إِنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ قَالَ وَ سُمِّيَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ لِأَنَّهُ حَجَّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَ الْمُسْلِمُونَ وَ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا مُشْرِكٌ (3)وَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَل