فقه القرآن

اشارة

شماره کتابشناسی ملی : ایران

سرشناسه : گریوانی، خلیل

عنوان و نام پديدآور : فقه القرآن راوندی/قطب الدين راوندى

وضعیت نشر : كتابخانه آيت الله مرعشى نجفى، قم

توصیفگر : قطب راوندی، سعید بن هبةالله، -573ق.

توصیفگر : کتاب فقه القرآن راوندی

توصیفگر : فقه

ص: 1

المجلد 1

اشارة

تأليف الفقيه المحدث المفسر الأديب قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي المتوفي سنة 573-ه

ص: 2

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

رَبِّ زِدْنِي عِلْماً الحمد لله الذي خلق الخلق كما أراد و لم يرد إلا الحكمة و السداد ابتدعهم بقدرته ابتداعا و اخترعهم على مشيته اختراعا فأغنى بفضله كل صغير و أقنى بمنه كل كبير و من أجل مواهبه و أجمل صنائعه هذا العقل الذي يدرك به سعادة الأبد و ينقذ من الشقاوة كل أحد فطوبى لمن عز بأعماله و بؤسى لمن ذل بإهماله ثم لم يرض سبحانه بذلك لرأفته بالمكلفين حتى أمد عقولهم بإرسال الرسل و إنزال الكتب و أكد بالألطاف الحجة و أوضح بالشرائع المحجة فله الحمد دائبا و له الشكر واصبا بكل ما حمده به أكرم خلائقه عليه و أرضى حامديه لديه فقد أكمل لنا دينه و أتم علينا نعمته و رضي لنا الإسلام دينا.و صلى الله على محمد سيد المرسلين و خاتم النبيين و على آله الأطهار الأئمة الأخيار الهداة الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.أما بعد فإن الذي حملني على الشروع في جمع هذا الكتاب أني لم أجد من علماء الإسلام قديما و حديثا من ألف كتابا مفردا يشتمل على الفقه الذي ينطق به كتاب الله

ص: 3

و لم يتعرض أحد منهم لاستيعاب ما نصه عليه لفظه أو معناه و ظاهره أو فحواه في مجموع كان على الانفراد صائب هدف المراد و إن صنفوا في الفقه و تفسير القرآن ما لا يحاط به إلا على امتداد الزمان.و العذر لنا خاصة واضح لأن حجة هذه الطائفة في صواب جميع ما انفردت به من الأحاديث الشرعية و التكاليف السمعية أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء هي إجماعها لأن إجماعها حجة قاطعة و دلالة موجبة للعلم بكون المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ فيه فإن انضاف إلى ذلك كتاب الله أو طريقة أخرى توجب العلم و تثمر اليقين فهي فضيلة و دلالة تنضاف إلى أخرى و إلا ففي إجماعهم كفاية.فرأيت أن أؤلف كتابا في فقه القرآن يغني عن غيره بحسن مبانيه و لا يقصر فهم القارئ عن معانيه متجنبا فيه الإطالة و التكثير و متحريا الإيجاز و التيسير ليكون الناظر فيه أنيسا يصادقه و للفقيه ردءا يصدقه فجمعت منه بعون الله تعالى جملة مشروحة أخرجها الاستقراء و إن نسأ الله في الأجل ذكرت بعد ذلك ما يقتضيه الاستقصاء و الله الموفق لما يشاء

ص: 4

كتاب الطهارة

اشارة

اعلم أن الله سبحانه و تعالى بين أحكام الطهارة في القرآن على سبيل التفصيل في موضعين و نبه عليها جملة في مواضع شتى منه خصوصا أو عموما تصريحا أو تلويحا.و أنا إن شاء الله أورد جميع ذلك أو أكثر ما فيه على غاية ما يمكن تلخيصه و أستوفيه و أومي إلى تعليله و جهة دليله و أذكر أقوال العلماء و المفسرين في ذلك و الصحيح منها و الأقوى و إن شبهت شيئا بشيء فعلى جهة المثال لا على وجه حمل أحدهما على الآخر.و أقتصر في جميع ما يحتاج إليه على مجرد ما روى السلف رحمهم الله من المعاني إلا القليل النادر و الشاذ الشارد و أقنع أيضا بألفاظهم المنقولة حتى لا يستوحش من ذلك و هذا شرطي إلى آخر الكتاب.و لا أجمع إلا ما فرقه أصحابنا في مصنفاتهم و ذلك لأن القياس بالدليل الواضح غير صحيح في الشريعة و هو حمل الشيء على غيره في الحكم لأجل ما

ص: 5

بينهما من الشبه فيسمى المقيس فرعا و المقيس عليه أصلا و كذلك الاجتهاد غير جائز في الشرع (1)و هو استفراغ الجهد في استخراج أحكام الشرع و قيل هو بذل الوسع في تعرف الأحكام الشرعية.فأما إذا صح بإجماع الفرقة المحقة حكم من الأحكام الشرعية بنص من الرسول صلّى اللّه عليه و آله مقطوع على صحته على سبيل التفصيل رواه المعصومون من أهل بيته عليهم السّلام ثم طلب الفقيه بعد ذلك دلالة عليه من الكتاب جملة أو تفصيلا ليضيفها إلى السنة حسما للشنعة فلا يكون ذلك قياسا و لا اجتهادا لأن القائس و المجتهد لو كان معهما نص على وجه من الوجوه لم يكن ذلك منهما قياسا و لا اجتهادا و هذا واضح بحمد الله.على أن أكثر الآيات التي نتكلم عليها في هذا المعنى فهو ما نبهنا عليه (2)الأئمة من آل محمد عليهم السّلام و هم معدن التأويل و منزل التنزيل.

فصل اعلم أن الأدلة كلها أربعة

حجة العقل و الكتاب و السنة و الإجماع.أما الكتاب و هو غرضنا هاهنا فهو القرآن في دلالته على الأحكام الشرعية و المستدل بالكتاب على ما ذكرناه يحتاج إلى أن يعرف (3)من علومه خمسة أصناف

ص: 6


1- يريد الاجتهاد الذي يسلك المجتهد فيه سبيل الرأى و الاستحسان و ما أشبههما مما لا يقره أئمة أهل البيت عليهم الصلاة و السلام و كان بعض المجتهدين المعاصرين لهم يأخذ بها مدعيا أنّه يستنبط به حكم اللّه تعالى و هو مصيب في استنباطه بهذه الوسيلة،و لا يريد استخراج الاحكام الشرعية من الطرق و الأدلة الصحيحة التي تستند الى القرآن الكريم و السنة الطاهرة و الأدلة الكلية المستفادة منهما،فان هذا هو المسلك الوحيد الذي يمكن به معرفة حكم اللّه تبارك و تعالى إذا لم يكن الشخص مقلدا أو محتاطا.
2- في م«كما نبهنا عليه».
3- في م«الى يعرف».

العام و الخاص و المحكم و المتشابه و المجمل و المفسر و المطلق و المقيد و الناسخ و المنسوخ.أما العموم و الخصوص قليلا يتعلق بعموم قد دخله التخصيص

كقوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (1) و هذا عام في كل مشركة حرة كانت أو أمة و قوله وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (2) خاص في الحرائر فقط فلو تمسك بالعموم غلط و كذلك قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (3) عام و قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ (4) خاص في أهل الكتاب.و أما المحكم و المتشابه فليقض بالمحكم و يفت به دون المتشابه (5).و أما المجمل و المفسر فليعمل بالمفسر كقوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلاةَ (6) و هذا غير مفسر و قوله فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (7) مفسر بإجماع المفسرين لأنه فسر الصلوات الخمس لأن قوله حِينَ تُمْسُونَ يعني المغرب و العشاء الآخرة و حِينَ تُصْبِحُونَ يعني الصبح و عَشِيًّا يعني العصر و حِينَ تُظْهِرُونَ الظهر.و أما المطلق و المقيد فليبنى المطلق على المقيد إذا كانا في حكم واحد كقوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ (8) فهذا مطلق في العدل و الفاسق و قوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (9) مقيد بالعدالة فيبنى المطلق عليه.2.

ص: 7


1- سورة البقرة:221.
2- سورة المائدة:5.
3- سورة التوبة:5.
4- سورة التوبة:29.
5- المتشابه كقوله تعالى «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» [البقرة:228] «ه ج».
6- سورة البقرة:43.
7- سورة الروم:17.
8- سورة البقرة:282.
9- سورة الطلاق:2.

و أما الناسخ و المنسوخ فليقض بالناسخ دون المنسوخ كآية العدة بالحول و الآية التي تضمنت العدة بالأشهر.و يأتي بيان جميع ذلك إن شاء الله تعالى

باب وجوب الطهارة و كيفيتها و ما به تكون و ما ينقضها

الدليل على هذه الأشياء الأربعة التي هي مدار الطهارتين و ما يقوم مقامهما عند الضرورة اثنان من المائدة و النساء و هما

قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ (1) و قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى (2) و ظاهر هذا الخطاب متوجه إلى من كان على ظاهر الإيمان فأما الكافر فلا يعلم بهذا الظاهر أنه مخاطب به و يعلم بآية أخرى و دلالة عليه به أحرى.و إنما أمر المؤمنون به و هو واجب على الكل لأنه بعد الدخول في الملة و من أتى الإسلام يؤمر به ثم يؤمر بفروعه.على أنه يمكن أن يقال إن التخصيص هاهنا ورد للتغليب و التشريف و إن كان الكل مرادا كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (3) أ لا ترى أن أسباب التكليف التي حسن الخطاب لأجلها حاصلة للمؤمن و الكافر يوضح ذلك و يبينه قوله تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ (4) و لا خلاف

ص: 8


1- سورة المائدة:6.و الآية ساقطة من ج.
2- سورة النساء:43.
3- سورة التحريم:6.
4- سورة البقرة:21.

أنه ينبغي أن يحمل على عمومه في كل ما هو عبادة الله و إن كان خاصا في المكلفين منهم الذين أوجب الله ذلك عليهم أو ندبهم إليه و الآية متوجهة إلى جميع الناس ممن يصح مخاطبته مؤمنهم و كافرهم لحصول العموم فيها إلا من ليس بشرائط التكليف على ما ذكرناه.فالكافر إذا لا بد أن يكون مخاطبا بالصلاة و بجميع أركان الشريعة لكونها واجبة عليه لأنه مذموم بتركها متمكن من أن يعلم وجوبها و يعاقب غدا عليه أيضا أ لا ترى إلى قوله تعالى حكاية عن الكفار قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (1) .و لا يقدح في وجوب ذلك بأنه إذا أسلم لا يجب عليه قضاء ما فاته لأن القضاء هو الفرض الثاني.فإن قيل كيف يجوز أن يكون من مخاطبين بذلك و لم يكن من (2)موجودين في ذلك الوقت و من المحال أن يخاطب المعدوم.قلنا الأوامر على ضربين أحدهما على الإطلاق فالمأمور يجب أن يكون قادرا مزاح العلة فضلا على وجوده و الآخر يكون أمرا بشرط فالمأمور لا يجب أن يكون كذلك في الحال و لكن بشرط أن يوجد و يصير قادرا مزاح العلة متمكنا.و إذا ثبت هذا فأوامر الله تعالى و أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله كانت أوامر للمكلفين الموجودين في ذلك الزمان على تلك الصفات و كانت أوامر لمن بعدهم بشرط أن يوجدوا و يصيروا قادرين مترددي الدواعي على ما ذكرناه و الأمر على هذا الوجه يكون حسنا فإنه يحسن من الواحد منا أن يأمر النجار بإنجار باب غدا بشرط أن يمكنه مما يحتاج إليه من الآلات و غيرها و إن لم يمكنه في الحالة (3).و إنما أوردت هذه الجملة استيناسا للناظر فيه و هو التنبيه للفقيهم.

ص: 9


1- سورة المدّثّر:43.
2- الزيادتان منا.
3- الزيادة من م.

باب الوضوء

أما قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (1) .فإنه يدل بظاهره على وجوب أربعة أفعال مقارنة للوضوء و يدل من فحواه على وجوب النية فيه لأنه عمل و الأعمال بالنيات.ثم اعلم أن القيام إلى الصلاة ضربان أحدهما أن يقوم للدخول فيها و الآخر أن يتأهب باستعمال الطهارة للشروع فيها فالأول لا يصح من دون الثاني و الثاني إنما يجب بشرط تقدم الأول فبهذا الخطاب أمرهم الله أنهم إذا أرادوا القيام إلى الصلاة و هم على غير طهر أن يغسلوا وجوههم و يفعلوا ما أمرهم الله به فيها.و حذف الإرادة لأن في الكلام دلالة عليه و مثله قوله تعالى فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ (2) معناه إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ و قوله وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ (3) معناه فأردت أن تقيم لهم الصلاة.و الذي يدل عليه هو أن الله أمر بغسل الأعضاء إذا قام إلى الصلاة بقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا و معلوم أنه إذا قام إلى الصلاة لا يغسل أعضاءه لأنه لا يقوم إليها ليصلي إلا و قد غسل الأعضاء أو فعل ما قام مقامه فعلم أنه أراد إذا أردت القيام إلى الصلاة فاغسل أعضاءك فأمر بغسل الأعضاء فثبت أن الغسلين و المسحين كليهما واجب في هذه الطهارة.و يدل قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (4) على

ص: 10


1- سورة المائدة:6.
2- سورة النحل:98.
3- سورة النساء:102.
4- سورة الحشر:7.

وجوب عشر كيفيات مقارنة للوضوء و على وجوب أربعة أشياء قبل الوضوء و هي تركان و فعلان (1).

فصل

و إذا ثبت وجوب الطهارة لأن الله أمر بها و الأمر في الشرع يحمل على الوجوب لا يحمل على الندب إلا لقرينة فاعلم أنهم اختلفوا هل يجب ذلك كلما أراد القيام إلى الصلاة أو في بعضها أو في أي حال هي.فقال قوم المراد به إذا أراد القيام إليها و هو على غير طهر و هو المروي عن ابن عباس و جابر.و قيل معناه إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة

وَ رُوِيَ: أَنَّ الْبَاقِرَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ سُئِلَ مَا الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا فَقَالَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِيَامُ مِنَ النَّوْمِ (2). و قيل المراد به جميع حال قيام الإنسان إلى الصلاة فعليه أن يجدد طهر الصلاة

عَنْ عِكْرِمَةَ وَ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ وَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ. و هذا محمول على الندب و عن ابن سيرين كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة و عن ابن عمر كان الفرض أن يتوضأ لكل صلاة ثم نسخ ذلك بالتخفيف

فَقَدْ حَدَّثَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلِ حَدَّثَهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأُمِرَ بِالسِّوَاكِ وَ رُفِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ (3)فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرَى ذَلِكَ فَرْضاً.2.

ص: 11


1- التركان أن لا يستقبل القبلة و لا يستدبرها في حال الخلاء،و الفعلان تطهير مخرج البول و تطهير مخرج الغائط«ه.ج».
2- البرهان 452/1 عن الباقر عليه السلام،و في التهذيب 7/1 و الاستبصار 80/1 عن الصادق عليه السلام.
3- الدّر المنثور 262/2.

وَ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئاً مَا كُنْتَ تَصْنَعُهُ فَقَالَ عَمْداً فَعَلْتُهُ (1).

فصل

و الآية تدل على جميع ما ذكرناه من الواجب و الندب لغة و أقوى الأقوال ما حكيناه أولا من أن الفرض بالوضوء يتوجه إلى من أراد الصلاة و هو على غير طهر فأما من كان متطهرا فعليه ذلك استحبابا.و قال الحسين بن علي المغربي معنى إِذا قُمْتُمْ إذا عزمتم عليها و هممتم بها قال الراجز للرشيد

ما قاسم دون الفتى ابن أمه و قد رضيناه فقم فسمه (2)

فقال يا أعرابي ما رضيت أن تدعونا إلى عقدة الأمر له قعودا حتى أمرتنا بالقيام فقال قيام عزم لا قيام جسم و قال خزيم الهمداني

فحدثت نفسي أنها أو خيالها أتانا عشاء حين قمنا لنهجعا

أي حين عزمنا للهجوع (3).و قال قوم إن الله تعالى أنزل هذه الآية إعلاما للنبي صلّى اللّه عليه و آله أنه لا وضوء عليه واجبا إلا إذا قام إلى الصلاة و ما يجري مجراها من العبادات لأنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى نزلت هذه الآية فأباح الله له بها أن يفعل ما بدا له من الأعمال بعد الحدث توضأ أو لم يتوضأ إلا عمل الصلاة فإنه3.

ص: 12


1- الدّر المنثور 261/2.
2- لسان العرب(قوم)و فيه«دون مدى»و«فقد».
3- التبيان 448/3.

يجب عليه أن يتوضأ له.و في الآية نيف و عشرون حكما سوى التفريعات الداخلة تحتها و الامتحان يستخرجها فالحوادث غير متناهية و عموم النصوص أيضا غير متناهية و إن كانت النصوص متناهية فلا حاجة إلى القياس شرعا.

فصل

و قوله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أمر منه تعالى بغسل الوجه و الأمر شرعا يقتضي الوجوب و إنما يحمل على الندب لقرينة و غير ممتنع أن يراد باللفظ الواحد في الحالين لأنه لا تنافي بينهما.و الغسل جريان الماء أو كالجريان فقد رخص عند عوز الماء مثل الدهن و اختلفوا في حد الوجه الذي يجب غسله فحده عندنا من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا و ما دخل بين الإبهام و الوسطى عرضا و ما خرج عن ذلك فلا يجب غسله و ما نزل من المحادر لا يجب غسله.و الدليل عليه من القرآن جملة قوله وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قد بينها عليه و آله السّلام.و أما ما غطاه الشعر كالذقن و الصدغين فإن إمرار الماء على ما علا عليه من الشعر يجزي من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه (1).و الذي يدل عليه أن ما ذكرناه مجمع على أنه من الوجه و من ادعى الزيادة فعليه الدلالة و لا دليل شرعا لمن خالفنا فيه.و قال عبد الجبار لو خلينا و الظاهر لكان بعد نبات اللحية يجب إيصال الماءه.

ص: 13


1- انظر التبيان 449/3 فان ما هنا ملخص منه.

إلى البشرة التي هي تحتها كما يلزم ذلك من لا لحية له إلا أن الدلالة قامت على زوال وجوب ذلك بستر اللحية و الآية تدل عليه لأن إفاضة الماء على ما يقابل هذه البشرة و ما سقط من اللحية عن الوجه فلا يلزم فيه على وجه.و إن نبت للمرأة لحية فكمثل الرجل.و كل مسألة شرعية لها شعب و وجوه فإذا سألك عنها سائل فتثبت في الجواب فلا تجبه بلا أو بنعم على العجلة و تصفح حال المستفتي فإن كان عاميا يطلب الجواب ليعمل به و يعول عليه فاستفسره عن الذي يقصده و يريد الجواب عنه فإذا عرفت ما يريده بعينه أجبته عنه و لا تتجاوز إلى غيره من الوجوه فليس مقصود هذا السائل إلا الوجه الذي يريد بيان حكمه ليعمل به و إذا كان السائل معاندا يريد الإعنات تستفسره أيضا عن الوجه الذي يريد من المسألة فإذا ذكره أفتيته عنه بعينه و لا تتجاوزه إلى غيره أيضا فليس مقصوده طلب الفائدة و إنما هو يطلب المعاندة فضيق عليه سبيل العناد و إن كان السائل مستفيدا يطلب بيان وجوه المسألة و الجواب عن كل وجه ليعلمه و يستفيده فأوضح له الوجوه كلها و اجعل الكلام منقسما لئلا يذهب شيء من بابه و هذا لعمري استظهار للعالم في جميع العلوم إن شاء الله تعالى.

فصل

و قوله وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ عطف على وُجُوهَكُمْ فالواجب غسلهما.و يجب عندنا غسل الأيدي من المرافق و غسل المرافق معهما إلى رءوس الأصابع و لا يجوز غسلها من الأصابع إلى المرافق إلا عند الضرورة فقد قال الله تعالى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) .و إلى في الآية بمعنى مع كقوله وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ (2) .2.

ص: 14


1- سورة الحجّ:78.
2- سورة النساء:2.

و إنما قلنا ذلك لأن إلى قد تكون بمعنى الغاية و قد تكون بمعنى مع حقيقة فيهما و لا خلاف بين أهل اللسان أن كل لفظة مشتركة بين معنيين أو معان كثيرة إنما يتميز بعضها دون بعض بما يقترن إليها من القرائن فإذا صح اشتراك لفظة إلى في معنى الغاية و معنى مع حقيقة لا استعارة و مجازا و انضاف إلى واحد منهما و هو ما ذكرناه إجماع الطائفة ثبت ما أردناه من وجوب ابتداء غسل الأيدي من المرافق و غسلها معها إلى رءوس الأصابع.و قد قال جماعة من الخاصة و العامة أن حمل إلى في هذا الموضع على معنى مع أولى من حمله على معنى الغاية لأنه أعم و فيه زيادة في فائدة الخطاب و احتياط في الطهارة و استظهار بدخول المرافق في الوضوء و في معنى الغاية إسقاط الفائدة و ترك الاحتياط و إبطال سائر ما ذكرناه و يؤكد ذلك قراءة أهل البيت عليهم السّلام فاغسلوا وجوهكم و أيديكم من المرافق (1).على أن المرتضى رضي الله عنه قال إن الابتداء في غسل اليدين للوضوء من المرافق و الانتهاء إلى أطراف الأصابع الأولى أن يكون مسنونا و مندوبا إليه لا أن يكون فرضا حتما و الفقهاء يقولون لعل هو مخير بين الابتداء بالأصابع و بين الابتداء بالمرافق (2).و قال الزجاج لو كان المراد بإلى مع لوجب غسل اليد إلى الكتف لتناول الاسم له قال و إنما المراد بإلى الغاية و الانتهاء لكن المرافق يجب غسلها مع اليدين (3).و هذا الذي ذكره ليس بصحيح لأنا لو خلينا و ذلك لقلنا بما قاله لكن3.

ص: 15


1- روى ذلك عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام.انظر البرهان 451/1.
2- الانتصار ص 16 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
3- التبيان 451/3.

أخرجناه بدليل و هو إجماع الأمة على أن من بدا من المرافق كان وضوؤه صحيحا و إذا جعلت غاية ففيه الخلاف.و اختلف أهل التأويل في ذلك فقال مالك بن أنس يجب غسل اليدين إلى المرفقين و لا يجب غسل المرفق و هو قول زفر.و قال الشافعي لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها.و قال الطبري غسل المرفقين و ما فوقهما مندوب إليه غير واجب و قد اعتذر له بأن معنى كلامه أن وجوب ذلك يعلم من السنة لا من الآية.و إنما اعتبرنا غسل المرافق لإجماع الأمة على أن من غسلهما صحت صلاته و من لم يغسلهما ففيه الخلاف (1).و قيل الآية مجملة فالواجب الرجوع إلى البيان و قد ثبت أنه صلّى اللّه عليه و آله غسلهما فيما حكاه كبار الصحابة في صفة وضوئه فصار فعله بيانا للآية كما أن قوله كذلك.و ليس لأحد أن يقول إن ظاهر قوله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ يوجب أن يكون المرفق غاية في الوضوء لا أن يكون مبدوءا به أو يغسل المرفق معها.لأنا قد بينا بأن إلى بمعنى مع و الغاية على سبيل الحقيقة و قرينة إجماع الأمة أن غسل المرافق واجب فلو كان إلى للغاية هنا لم يلزم غسل المرفق على مقتضى وضع اللغة لأن ما بعد إلى إذا كانت للغاية لا يدخل فيما قبلها و إلا فلا تكون غاية.ة.

ص: 16


1- جواب الزجاج و اقوال الفقهاء مأخوذ من التبيان 451/3 مع اختصار و إضافة.

فصل

قوله وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ جملة فعلية معطوفة على الجملة المتقدمة و هي تقتضي الإيجاب حيث تقتضيه الأولى و تتناول الندب حيث تتناوله الأولى و لا فرق بين المقتضيين في الجملتين على حال لمكان الواو العاطفة.و كذلك يجب أن يكون حكم أرجلكم حكم رءوسكم لمكان واو العاطفة أيضا سواء كان عطفا على اللفظ أو على المحل لأن جميع ذلك اسم لشيء واحد و هو الوضوء فإن اقتصر على بعضها اختيارا فلا وضوء.فإذا ثبت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في صفة المسح فقال قوم يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح و هو مذهبنا و به قال عبد الله بن عمر و القاسم بن محمد و الشافعي.و قال مالك يجب مسح جميع الرأس.و قال أبو حنيفة لا يجوز مسح الرأس بأقل من ثلاثة أصابع و هذا عندنا على الاستحباب.و لا يجوز المسح عندنا إلا على مقدم الرأس و هو المروي عن ابن عمر و القاسم بن محمد و الطبري و لم يعتبره أحد من الفقهاء و قالوا أي موضع مسح أجزأه.و إنما اعتبرنا المسح ببعض الرأس (1)فضلا على النص من آل محمد عليهم السّلام (2)لدخول الباء الموجبة للتبعيض لأن دخولها في الإثبات في الموضع الذي يتعدى الفعل فيه بنفسه لا وجه له غير التبعيض و إلا لكان لغوا و حملها على الزيادة لا يجوز مع إمكانها على فائدة مجددة.2.

ص: 17


1- الزيادة من التبيان لاستقامة الجملة.
2- انظر النصوص في الموضوع في وسائل الشيعة 290/1-292.

فإن قيل يلزم على ذلك المسح ببعض الوجه في التيمم في قوله فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ .قلنا كذلك نقول فإن في التيمم يمسح الوجه بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف على ما نصوا عليه عليهم السّلام.و من غسل الرأس فإنه لا يجزيه عن المسح عندنا و خالف جميع الفقهاء في ذلك و قالوا يجزيه لأنه يشتمل عليه.و هذا غير صحيح لأن حد المسح شرعا هو إمرار العضو الذي فيه نداوة على العضو الممسوح من غير أن يجرى عليه الماء و الغسل لا يكون إلا بجريان الماء عليه بعلاج و غير علاج فمعناهما مختلف و لو كانا واحدا لما ورد الأمر بهما و اقتصر بقوله فَاغْسِلُوا و لم يقل بعده وَ امْسَحُوا و ليس إذا دخل المسح في الغسل يسمى الغسل مسحا كما أن العمامة لا تسمى خرقة و إن كانت تشتمل على خرق كثيرة.و قال الشافعي الأذنان ليستا من الوجه و لا من الرأس (1).

فصل

و قوله وَ أَرْجُلَكُمْ من قرأها بالجر عطفها على اللفظ و ذهب إلى أنه يجب مسح الرجلين كما وجب مسح الرأس و من نصب فكمثله لأنه ذهب إلى أنه معطوف على موضع الرءوس فإن موضعهما نصب لوقوع المسح عليهما فالقراءتان جميعا تفيدان المسح على ما نذهب إليه.و ممن قال بالمسح ابن عباس و الحسن البصري و الجبائي و الطبري و غيرهم.و عندنا أن المسح على ظاهرهما من رءوس الأصابع إلى الكعبين.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ أَنَسٌ: الْوُضُوءُ غَسْلَتَانِ وَ مَسْحَتَانِ.م.

ص: 18


1- الزيادة من م.

و قال عكرمة ليس على الرجلين غسل إنما فيهما المسح و به قال الشعبي و قال أ لا ترى أن في التيمم يمسح ما كان غسلا و يلغى ما كان مسحا.و قال قتادة افترض الله مسحين و غسلين.

وَ رَوَى أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ تَوَضَّأَ وَ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ ثُمَّ قَامَ وَ صَلَّى وَ كَذَلِكَ رَوَى حُذَيْفَةُ: (1).

وَ رَوَى حَبَّةُ الْعُرَنِيُّ: رَأَيْتُ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ شَرِبَ فِي الرَّحْبَةِ قَائِماً ثُمَّ تَوَضَّأَ وَ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ (2).

وَ وَصَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى رِجْلَيْهِ وَ قَالَ إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمَسْحَ وَ يَأْبَى النَّاسُ إِلاَّ الْغَسْلَ (1). و الغسل في اللغة إجراء الماء على الشيء على وجه التنظيف و التحسين و إزالة الوسخ عنه و نحوها و مسحه بالماء إيصال رطوبته إليه فقط كما ذكرناه.

وَ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلاَّ بِالْمَسْحِ (2). و أما الكعبان فهما عندنا الناتئان في وسط القدم و به قال محمد بن الحسن الشيباني و إن أوجب الغسل.و قال أكثر الفقهاء هما عظما الساقين.يدل على ما قلناه أنه لو أراد ما قالوا لقال سبحانه إلى الكعاب لأن في الرجلين منها أربعة.فإن ادعوا تقديرا بعد قوله وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ أي كل واحدة إلى الكعبين كما في قولهم اكسنا حلة أي اكس كل واحد منا حلة فذلك مجاز و حمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن أولى و هو قولنا.1.

ص: 19


1- الدّر المنثور 262/2.
2- التهذيب 63/1.

فإن قيل كيف قال إِلَى الْكَعْبَيْنِ و على مذهبكم ليس في كل رجل إلا كعب واحد.قلنا إنه تعالى أراد رجلي كل متطهر و في الرجلين كعبان و لو بنى الكلام على ظاهره لقال و أرجلكم إلى الكعاب و العدول بلفظ أَرْجُلَكُمْ إلى أن المراد بها رجلا كل متطهر أولى من حملها على كل رجل.

فصل

إن قيل القراءة بالجر في أَرْجُلِكُمْ ليست بالعطف على الرءوس في المعنى و إنما عطف عليها على طريق المجاورة كما قالوا جحر ضب خرب و خرب من صفات الجحر لا الضب.قلنا أولا إن العرب لم تتكلم به إلا ساكنا فقالوا خرب فإنهم لا يقفون إلا على الساكن فلا يستشهد به و بعد التسليم فإنه لا يجوز في الآية من وجوه أحدها ما قال الزجاج إن الإعراب بالمجاورة لا يكون مع حرف العطف و في الآية حرف العطف الذي يوجب أن يكون حكم المعطوف حكم المعطوف عليه و ما ذكروه ليس فيه حرف العطف فأما قول الشاعر

فهل أنت إن ماتت أتانك راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب (1)

قالوا جر مع حرف العطف الذي هو الفاء فإنه يمكن أن يكون أراد الرفع و إنما جر الراوي وهما و يكون عطفا على راحل فيكون قد أقوى (2)لأن القصيدة مجرورة و قال قوم أراد بذلك الأمر و إنما جر لإطلاق الشعر.و الثاني أن الإعراب بالمجاورة إنما يجوز مع ارتفاع اللبس فأما مع».

ص: 20


1- نسب البيت الى جرير و لم تثبت النسبة.
2- الاقواء في العروض،اى يجىء بيت في القصيدة مرفوعا و بيت آخر مجرورا «ه.ج».

حصول اللبس فلا يجوز و لا يلتبس على أحد أن خرب صفة جحر لا ضب و ليس كذلك في الآية لأن الأرجل يمكن أن تكون ممسوحة و مغسولة فالاشتباه حاصل هنا و مرتفع هناك.و أما قوله و حور عين (1)في قراءة من جرهما فليس بمجرور على المجاورة بل يحتمل أمرين أحدهما أن يكون عطفا على قوله يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (2) إلى قوله وَ حُورٌ عِينٌ فهو عطف على أكواب و قولهم إنه لا يطاف إلا بالكأس غير مسلم بل لا يمتنع أن يطاف بالحور العين كما يطاف بالكأس و قد ذكر في جملة ما يطاف به الفاكهة و اللحم.و الثاني أنه لما قال أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ (3) عطف بقوله وَ حُورٌ عِينٌ على جَنّاتِ النَّعِيمِ فكأنه قال هم في جنات النعيم و في مقاربة أو معاشرة حور عين ذكره أبو علي الفارسي (4).و من قال القراءة بالجر يقتضي المسح على الخفين فقوله باطل لأن الخف لا يسمى رجلا في لغة و لا شرع و الله أمر بإيقاع الفرض على ما يسمى رجلا على الحقيقة.

فصل

و إن قيل في القراءة بالنصب في أَرْجُلَكُمْ هي معطوفة على قوله وَ أَيْدِيَكُمْ في الجملة الأولة.3.

ص: 21


1- سورة الواقعة:22.
2- سورة الواقعة:17-18.
3- سورة الواقعة:12-13.
4- انظر التبيان 454/3.

فيقال إن هذا غير صحيح لأنه لا يجوز أن يقول القائل اضرب زيدا و عمرا و أكرم بكرا و خالدا و يريد بنصب خالدا العطف على زيدا و عمرا المضروبين لأن ذلك خروج عن فصاحة الكلام و دخول في معنى اللغز فإن أكرم المأمور خالدا فيكون ممتثلا لأمره معذورا عند العقلاء و إن ضربه كان ملوما عندهم و هذا مما لا محيص عنه.على أن الكلام متى حصل فيه عاملان قريب و بعيد لا يجوز إعمال البعيد دون القريب مع صحة حمله عليه و بمثله ورد القرآن و فصيح الشعر قال تعالى وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً (1) و لو أعمل الأول لقال كما ظننتموه و قال آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (2) و لو أعمل الأول لقال أفرغه و قال هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (3) و لو أعمل الأول لقال هاؤم اقرءوه و إليه ذهب البصريون.فأما من يختار إعمال الأول من الكوفيين فإنه لا يجيز ذلك في مثل الموضع الذي نحن فيه و ليس قول إمرئ القيس

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني و لم أطلب قليل من المال

من قبيل ما نحن بصدده إذ لم يوجه فيه الفعل الثاني (4)إلى ما وجه إليه الأول و إنما أعمل الأول لأنه لم يجعل القليل مطلوبا و إنما كان المطلوب عنده الملك و جعل القليل كافيا و لو لم يرد هذا و نصب لفسد المعنى و على هذا يعمل الأقرب أبدا أنشد سيبويه قول طفيل

جرى فوقها فاستشعرت لون مذهب (5)».

ص: 22


1- سورة الجن:7.
2- سورة الكهف:96.
3- سورة الحاقة:19.
4- الزيادة من ج.
5- من بيت لطفيل بن عوف بن ضبيس الغنوى،و صدره«و كمتا مدماة كأنّ متونها».

و قال كثير

قضى كل ذي دين فوفى غريمه و عزة ممطول معنى غريمها

و لو أعمل الأول لقال فوفاه غريمه و الاستدلال بقوله ممطول معنى غريمها أولى لأن قوله عزة مبتدأ و ممطول خبره و معنى كذلك و كل واحد منهما فعل للغريم فلا يجوز رفعه بممطول فيبقى معنى و قد جرى خبرا على عزة و هو فعل لغيرها فيجب إبراز ضميره.فأما من قال إن قوله وَ أَرْجُلَكُمْ منصوبة بتقدير و اغسلوا أرجلكم كما قال

متقلدا سيفا و رمحا

و

علفتها تبنا و ماء باردا

فقد أخطأ أيضا لأن ذلك إنما يجوز إذا استحال حمله على ما في اللفظ فأما إذا جاز حمله على ما في اللفظ فلا يجوز هذا التقدير.

فصل

و قد ذكرنا من قبل أن قوله وَ أَرْجُلَكُمْ بالنصب معطوف على موضع بِرُؤُسِكُمْ لأن موضعها النصب و العطف على الموضع جائز حسن كما يجوز على اللفظ لا فرق بينهما عند العرب في الحسن لأنهم يقولون لست بقائم و لا قاعدا أو لا قاعد و إن زيدا في الدار و عمرو فرفع عمرو بالعطف على الموضع كما نصب قاعدا لأنه معطوف على محل بقائم قال الشاعر

معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال و لا الحديدا (1)

مقدرا لكل شبهة.و صح أن الحكم في الآية المسح في الرجلين و قد تقل الشبهة في القراءةى.

ص: 23


1- البيت لعقبة بن هبيرة الأسدى.

بالجر على ما قدمناه.و من قال يجب غسل الرجلين لأنهما محدودتان كاليدين فقوله ليس بصحيح لأنا لا نسلم أن العلة في كون اليدين مغسولتين كونهما محدودتين و إنما وجب غسلهما لأنهما عطفتا على عضو مغسول و هو الوجه و كذلك إذا عطف الرجلان على ممسوح و هو الرأس وجب أن يكونا ممسوحتين و الفصاحة فيما قال الله في الجملتين ذكر معطوفا و معطوفا عليه أحدهما محدود و الآخر غير محدود فيهما.و روي أن الحسن قرأ و أرجلكم بالرفع فإن صحت هذه القراءة فالوجه أنه الابتداء و خبره مضمر أي و أرجلكم ممسوحة كما يقال أكرمت زيدا و أخوه أي و أخوه أكرمته فأضمره على شريطة التفسير و استغنى بذكره مرة أخرى إذا كان في الكلام الذي يليه ما يدل عليه و كان فيما أبقى دليل على ما ألقى فكأن هذه القراءة و إن كانت شاذة إشارة إلى أن مسح الرأس ببقية النداوة من مسح الرأس (1)كما هو.و يدل أيضا على وجوب الموالاة لأن الواو إذا واو الحال في قوله و أرجلكم بالرفع.

فصل

و هذه الآية تدل على أن من غسل وجهه مرة و ذراعيه مرة مرة أدى الواجب على ما فصله الأئمة عليهم السّلام (2)و دخل في امتثال ما يقتضيه الظاهر لأن لفظ الأمر يدل على المرة الواحدة و يحتاج على الاقتصار أو التكرار إلى دليل آخر فلما ورد أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله توضأ مرة مرة و توضأ مرتين مرتين (3)علم أن الفرض3.

ص: 24


1- الزيادة من ج.
2- انظر الأحاديث في ذلك في الوسائل 271/1-282.
3- انظر احكام القرآن للجصاص 357/3.

مرة واحدة و الثانية سنة لأن الآية مجملة و بيانها فعله عليه و آله السّلام.و كذلك تدل الآية على أنه لا يجوز أن يجعل مكان المسح غسلا و لا بدل الغسل مسحا لأن الله أوجب بظاهر الآية الغسل في الوجه و اليدين و فرض المسح في الرأس و الرجلين فمن مسح ما أمر الله بالغسل أو غسل ما أمر بالمسح لم يكن ممتثلا للأمر لأن مخالفة الأمر لا تجزي في مثل هذا الموضع.و تدل الآية أيضا على أنه يجب تولي المتطهر وضوءه بنفسه إذا كان متمكنا من ذلك و لا يجزيه سواه لأنه قال فَاغْسِلُوا أمر بأن يكونوا (1)غاسلين و ماسحين و الظاهر يقتضي تولي الفعل حتى يستحق التسمية لأن من وضأه غيره لا يسمى غاسلا و لا ماسحا على الحقيقة.و يزيد ذلك تأكيدا

مَا رُوِيَ: أَنَّ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَأَى الْمَأْمُونَ يَتَوَضَّأُ بِنَفْسِهِ وَ الْغُلاَمُ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (2) . فإذا كان هذا مكروها فينبغي أن يكون الأول محظورا.و في الآية أيضا دلالة على أن من مسح على العمامة أو الخفين لا يجزيه لأن العمامة لا تسمى رأسا و الخف لا يسمى رجلا كما لا يسمى البرقع و ما يستر اليدين وجها و لا يدا.و ما روي في المسح على الخفين (3)أخبار آحاد لا يترك لها ظاهر القرآن على أنه

رَوَى الْمُخَالِفُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: نُسَخِ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَ لِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِمَنْ شَهِدَ لِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ أَ قَبْلَ الْمَائِدَةِ أَمْ بَعْدَهَا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالُوا لاَ نَدْرِي فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ قَبْلَ الْمَائِدَةِ (4).3.

ص: 25


1- في النسختين«بأن يكون».
2- سورة الكهف:110،و الحديث في الوسائل 336/1.
3- انظر الأحاديث في ذلك في الدّر المنثور 262/2،احكام القرآن للجصاص 353/3.
4- التبيان 457/3.

فصل

و في هذه الآية دلالة على أن الطهارة تفتقر إلى النية سواء كانت وضوءا أو غسلا أو ما يقوم مقامهما من التيمم و هو مذهب الشافعي أيضا.و قال أبو حنيفة الطهارة بالماء لا تفتقر إلى النية و التيمم لا بد فيه من نية.و الدليل على صحة ما ذكرناه أن قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا تقديره أي فاغسلوا للصلاة و إنما حذف ذكر الصلاة اختصارا و مذهب العرب في ذلك واضح لأنهم إذا قالوا إذا أردت لقاء الأمير فالبس ثيابك تقديره فالبس ثيابك للقاء الأمير.و إذا أمر بالغسل للصلاة فلا بد من النية لأن بالنية يتوجه الفعل إلى الصلاة دون غيرها.

وَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (1). يؤكده.

فصل

و إذا صح بظاهر تلك الآية أن أفعال الوضوء الواجبة المقارنة له خمس النية و غسل الوجه و غسل اليدين و مسح الرأس و مسح الرجلين.فاعلم أن في الآية أيضا دلالة على وجوب كيفياتها العشر المقارنة له بظاهرها و من فحواها و لو لا النصوص المجمع على صحتها في وجوب هذه الواجبات و غيرها الموجبة علما و عملا لما أوردنا هذه الاستدلالات التي ربما يقال لنا إنها على أسلوب استخراجات الفقهاء إلا أنهم يرجمون رجما فيما طريقه العلم و نحن بعد أن قبلناه علما بالإجماع من الفرقة المحقة الذي هو حجة نتجاذب أهداب تلك1.

ص: 26


1- وسائل الشيعة 34/1.

الاستدلالات و نتشبث بها نضيف بذلك فضيلة إلى فضيلة على أن أكثر ما نتبينه من أئمة الهدى عليهم السّلام.و لعمري إن الله قد أغنى الخلق عن التعسف بين و فصل الشريعة على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله و ألسنة حججه عليهم السّلام ما أجمله في كتابه من الأحكام لما في مجمل الكتاب و تفصيل السنة من دواء العليل و شفاء الغليل ما تصير الألطاف الإلهية بهما أقوى و أبلغ.و كلا الأمرين من الله جملة و تفصيلا ليس للرسول و الأئمة عليهم السّلام في شيء من ذلك اجتهاد إنما هو علم علمهم الله نعمة عليهم و رحمة للعالمين حتى أرش الخدش (1).

فصل

و الآية تدل على وجوب الترتيب في الوضوء من وجهين أحدهما أن الواو توجب الترتيب لغة على قول الفراء و أبي عبيد و شرعا على قول كثير من الفقهاء

وَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ (2). و الثاني و هو على قول الجمهور أن الله أوجب على من يريد القيام إلى الصلاة إذا كان محدثا أن يغسل وجهه أولا لقوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا و الفاء توجب الترتيب و التعقيب بلا خلاف فإذا ثبت أن البداءة بالوجه هو الواجب ثبت في باقي الأعضاء لأن أحدا لا يفرق.و يقويه

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ الْوُضُوءَ فَقَالَ هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ (3). فإن كان رتب فهو كما نقول و إن لم يرتب لزم أن يكون من رتب3.

ص: 27


1- الزيادة من م.
2- وسائل الشيعة 316/1،و فيه«ابدأ بما بدأ اللّه عزّ و جلّ به».
3- الكافي 31/3.

لا يجزيه و قد أجمعت الأمة على خلافه.و قال أبو مسلم بن مهرإيزد أجود ما يقال على من أجاز وقوع الطهارة بغير الترتيب أنه قد ثبت أن فاعله مسيء بفعله و المسيء معاقب و الاحتراز عن العقاب واجب (1)قال و الوجه اسم لما يناله البصر عند المواجهة من قصاص شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا.و لم يحد الله الوجه كما حد اليد لأن الوجه معروف مختص يجب غسل جميعه و اليد يشتمل على جميع ما هو من البنان إلى أصل الساعد و لا يجب غسل جميعها في الوضوء فلا بد فيها من التحديد.و أشار إلى مسح بعض الرأس بالباء التي ليست للتعدية و حد الرجلين لمثل ما ذكرناه في اليد.

فصل

و ظاهر الآية يوجب غسل الأعضاء و مسحها متى أراد الصلاة و هو محدث فإذا غسلها بلا ترتيب ثم أراد الصلاة يجب أن يكون بعد مخاطبا به عملا بمقتضى الآية.على أن من أخطأ في الوضوء فقدم مؤخرا أو أخر مقدما يجب عليه أن يعيد لأن الترتيب في الوضوء واجب على ما ذكرناه من مقتضى الآية.

وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: تَابِعْ بَيْنَ الْوُضُوءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ابْدَأْ بِالْوَجْهِ ثُمَّ بِالْيَدَيْنِ ثُمَّ امْسَحِ الرَّأْسَ وَ الرِّجْلَيْنِ وَ لاَ تُقَدِّمَنَّ شَيْئاً بَيْنَ يَدَيْ شَيْءٍ تُخَالِفُ مَا أُمِرْتَ بِهِ (2)فَإِنْ غَسَلْتَ الذِّرَاعَ قَبْلَ الْوَجْهِ فَابْدَأْ بِالْوَجْهِ وَ أَعِدْ عَلَى الذِّرَاعِ وَ إِنْ مَسَحْتَ الرِّجْلَر.

ص: 28


1- الزيادة من ج.
2- الزيادة من المصدر.

قَبْلَ الرَّأْسِ فَامْسَحْ عَلَى الرَّأْسِ قَبْلَ الرِّجْلِ ثُمَّ أَعِدْ عَلَى الرِّجْلِ ابْدَأْ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ (1). و هذا عام في العمد و الخطإ.

فصل

و في الآية أيضا دلالة على أن الموالاة واجبة في الوضوء لأن الأمر شرعا يجب على الفور و لا يسوغ فيه التراخي إلا بدليل فإذا ثبت ذلك و كان المأمور بالصلاة في وقتها مأمورا بالوضوء قبلها فيجب عليه فعل الوضوء عقيب توجه الأمر إليه و كذلك جميع الأعضاء الأربعة لأنه إذا غسل وجهه فهو مأمور بعد ذلك بغسل اليدين و لا يجوز له تأخيره.فإن فرق وضوءه للضرورة حتى يجف ما تقدم منه استأنف الوضوء من أوله و إن لم يجف وصله من حيث قطعه إذا كان الهواء معتدلا.و إن والى بين غسل أعضاء الطهارة و مسحها و جف شيء منها قبل الفراغ لحر شديد أو ريح من غير تقصير منه فيه فلا بأس إذا بقيت نداوة تكفي للمسح لأنه قال ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) .و بمثل ذلك تدل الآية على مقارنة النية و استدامة حكمها.

فصل

و يدل قوله وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ على أن من مسح رأسه و رجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم و يكون ماسحا.و لا يلزم على ذلك ما دون الإصبع لأنا لو خلينا و الظاهر لقلنا بذلك لكن السنة منعت منه.8.

ص: 29


1- وسائل الشيعة 316/1.
2- سورة الحجّ:78.

و صورته أن يمسح برأس مسبحة يمينه مقدم رأسه يضعها عليه عرضا مع الشعر إلى قصاصه ثم يمسح بها عرضا رجله اليمنى من أصابعها إلى الكعبين و بمسبحة اليسرى رجله اليسرى كذلك فهذا مجزئ.و الندب أن يمسح مقدم الرأس بثلاث أصابع مضمومة بالعرض و أن يمسح الرجلين بالكفين.و الباء في قوله بِرُؤُسِكُمْ كما تدل على مسح بعض الرأس تدل في الرجلين أيضا عليه لأنها مضمرة في أَرْجُلَكُمْ و واو العطف منبئة عنه و قائمة مقامها و كل ما هو منوي في الكلام فهو في حكم الثابت على بعض الوجوه.

فصل

و تدل الآية بقريب من ذلك على أن مسح الرأس و الرجلين ببقية نداوة الوضوء من غير استئناف ماء جديد لأن الأمر كما هو على الإيجاب شرعا فهو على الفور و إذا لم يشتغل المتطهر بأخذ الماء الجديد و اكتفى بالبلة فهو على الفور و لأن اسم المسح يقع على كليهما فلا يصح أن يميز و يخصص بأحدهما إلا بقرينة تنضم إليه.و إجماع الطائفة الذي هو حجة حاصل على أن المسح ببقية النداوة و هو من أوثق القرائن على أنه سبحانه لم يذكر في الآية استئناف الماء و هذا قد مسح.فإن قيل و لم يذكر المسح ببقية النداوة أيضا.قلنا نحمل الآية على العموم و نخصها بدليل إجماع الفرقة على أن المسح في الشرع هو أن يبل المحل بالماء من غير أن يسيل و الغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل مع الاختيار

ص: 30

باب الغسل

ثم قال سبحانه و تعالى عاطفا على تلك الجملة جملة أخرى فقال وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .و لكل كلام حكم نفسه (1)

وَ لِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا أَجْنَبَ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ (2). فعلة الغسل هي الجنابة كما ذكره المرتضى في الذريعة فغسل الجنابة واجب على كل حال.و قد ذكرنا في كتاب الشجار (3)في وجوب غسل الجنابة بيان ذلك على الاستقصاء و بينا ما هو العمل عليه و المعمول على ما أشرنا هاهنا أيضا إليه.و قيل إن هذه الأحكام التي هي الغسل و التيمم الذي هو بدل منه أو من الوضوء من مقدمات الصلاة و شرائطها تجب لوجوبها أي و إن أصابتكم جنابة و أردتم القيام إلى الصلاة فاطهروا و معناه فتطهروا بالاغتسال فهذه الجملة مفصلة بالجملة الأولى متعلقة بها لأن الآية من أولها إلى آخرها تبين شرائط الصلاة المتقدمة فلهذا كان حكم الجملة الأخيرة حكم الأولى لا لأنه قد ربطها الواو العاطفة بما قبلها حتى يقدح (4)في ذلك بقوله وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي

حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (1) .

ص: 31


1- حتى لا يلزم ان الغسل الواجب للصلاة كالوضوء«ه ج».
2- الاستبصار 162/1.
3- يريد كتاب«شجار العصابة في غسل الجنابة»-انظر عنه كتاب الذريعة 26/13.
4- وجه القدح أن يقال:إذا كان يجب أن يكون حكم الجملة الثانية حكم الجملة الأولى-لمكان واو العطف-لزمكم أن تكون بنت الزوجة مشاركة في الحكم لام الزوجة، و حينئذ يلزم أن تحل أم الزوجة على الرجل إذا لم يدخل ببنتها،كما تحل بنت الزوجة عليه اذا لم يدخل بأمها،و ليس كذلك«ه ج».

حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (1) .

فصل

و نبدأ أولا بفسر ألفاظ الآية و كشف معانيها ثم نشتغل بذكر الأحكام المتعلقة بها فنقول إن لفظ الجنب يقع على الواحد و الجمع و الاثنين و المذكر و المؤنث مثل عدل و خصم و زور و نحو ذلك إذ هو مصدر أو بمنزلة المصدر و قال الزجاج تقديره ذو جنب.و أصل الجنابة البعد لأنها حالة تبعد عن مقاربة العبادات إلى أن يتطهر بالاغتسال على بعض الوجوه.و الاطهار هو الاغتسال بلا خلاف و اطهر هو تطهر مدغما لأن التاء أدغم في الطاء فسكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل.و معنى الآية أي استعملوا الماء أو ما يقوم مقامه.و الجنابة تحصل بشيئين إما بإنزال الماء الدافق في النوم و اليقظة بشهوة أو بغير شهوة أو بالتقاء الختانين وجب غيبوبة الحشفة في القبل أنزل أو لم ينزل.و قال أبو مسلم بن مهرإيزد يلزم الرجل حكم الجنابة من أمور منها أن يجامع في قبل أو دبر و منها أن يلتقي الختانان و إن لم يكن إنزال و لا ماء شهوة و منها أن يحتلم في النوم بشرط أن يجد بللا.و الأغسال المفروضة و المسنونة سبعة و ثلاثون غسلا منها ستة أغسال مفترضات و الباقية نوافل (2).6.

ص: 32


1- سورة النساء:23.
2- عد الشيخ يحيى بن سعيد الحلّيّ اثنين و عشرين غسلا واجبا و خمسة و أربعين غسلا مسنونا،و يمكن أن يتداخل بعضها في بعض لوحدة ملاكها أو حكمها،و لكنها على كل حال اكثر ممّا ذكره القطب الراونديّ هنا-انظر كتاب نزهة الناظر ص 13-16.

و لم يورد المشايخ تغسيل الأموات من جملة الواجبات و لا غسل نظارة المصلوب بعد ثلاثة أيام و لا غسل استسقاء و لا غسل من أسلم بعد الكفر فلذلك نقص عن هذا العدد.و الفرض المذكور بظاهر اللفظ في القرآن منها اثنان غسل الجنابة و الحيض قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (1) فأوجب بظاهر هذا اللفظ الغسل و قال سبحانه وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ (2) فيمن قرأ بالتشديد و قد بينا أن الاطهار هو الاغتسال و سيجيء بيانه في بابه إن شاء الله تعالى.

فصل

و ليس على الجنب وضوء مع الغسل فإن قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا هو على الإطلاق غير مقيد و لا مشروط بالوضوء و من اغتسل من الجنابة فقد طهر بلا خلاف.و كل غسل ما عدا غسل الجنابة يجب الوضوء قبله حتى يستباح به الدخول في الصلاة فإن نسيه المغتسل فليتوضأ بعد الغسل لتصح منه الصلاة.و غسل المرأة من الجنابة كغسل الرجل سواء لا ناقد بينا في قوله جُنُباً إن الجنب يقع على الرجال و النساء و الرجل و المرأة فينبغي أن يكون حكم الجنابة و حكم غسل الجنابة فيهما سواء و إن ورد الخطاب بلفظ المذكرين في قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فإن ذلك لتغليب لفظ الرجال على النساء إذا اجتمعوا.و الأغسال الأخر الواجبة و هي أربعة يعلم وجوبها بالإجماع و السنة و بقوله2.

ص: 33


1- سورة المائدة:6.
2- سورة البقرة:222.

تعالى على سبيل الجملة ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1) .و قال المرتضى غسل من مس ميتا من الناس مستحب غير واجب و إنما ذكره كذلك لخبر ورد للتقية.و الجنب إذا أراد الغسل يجب عليه ستة أشياء (2)و يعلم هذا من السنة على سبيل التفصيل و من القرآن على سبيل الجملة قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قد فصلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رواها الأئمة المعصومون عليهم السّلام كما علمه الله غضا طريا.و قال بعضهم لا يجب الاغتسال على الجنب بقوله فَاطَّهَّرُوا بل بتفسيره في قوله إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (3) في سورة النساء.فإن قيل ما معنى تكرير قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ إن كان معنى اللمس الجماع مع قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .قلنا يمكن أن يقال إن الجنابة في الأول تحمل على الاحتلام و في الثاني على الجنابة عمدا.و قيل إن المعنى في قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا غير المعنى بقوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ لأن معنى قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا إذا كنتم واجدين للماء متمكنين لاستعماله ثم بين حكمه إذا عدم الماء أو لا يتمكن من استعماله فالتيمم هو فرضه و هو طهارته فأراد إذا كان له سبيل إلى الماء فعليه أن يغتسل و إن جامع و لم يجد الماء فعليه التيمم فالأول في حكمه مع وجود الماء و الثاني في حكمه مع عوز الماء3.

ص: 34


1- سورة الحشر:7.
2- ثلاثة افعال و هي الاستبراء و النية و غسل جميع الجسد،و ثلاث كيفيات و هي مقارنة النية و استدامتها و الترتيب«ه ج».
3- سورة النساء:43.

باب التيمم

ثم قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ (1) بين تعالى أحكام التيمم الخمسة و أشار إلى أنه على ضربين تيمم هو بدل من الوضوء و تيمم هو بدل من الغسل المفروض.قال المفسرون معنى الآية أنه لما تقدم الأمر بالوفاء بالعقود و من جملتها إقامة الصلاة و من شرائطها الطهارة بين سبحانه و تعالى و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيام إليها و أنتم على غير طهر فعليكم الوضوء و إن كنتم جنبا عند ذلك فاغتسلوا أي اغسلوا جميع البدن على وجه و إن كنتم جرحى أو مجدرين أو مرضى يضر بكم استعمال الماء و كنتم جنبا أو على غير وضوء و كنتم مسافرين و أنتم جنب أو جاء من الغائط أحدكم قد قضى حاجته منه و هو مسافر أو جامعتم النساء و لم تجدوا ماء أو لا تتمكنون من استعماله فاقصدوا وجه الأرض طاهرا نظيفا غير نجس و لا قدر فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من الصعيد (2).فإذا تبينت خلاصة معنى الآية يسهل عليك تدبر أحكامها التي نذكرها.و الغائط أصله المطمئن من الأرض و كانوا يبرزون إليه ليغيبوا عن عيون الناس ثم كثر ذلك حتى قيل للحدث غائط كناية بالتغوط عن الحدث في الغائط و قيل إنهم كانوا يلقون النجو في هذا المكان و ترميه الرياح إليه أيضا فسمي باسمه على سبيل المجاورة ثم كثر هاهنا حتى صار فيه حقيقة و إن استعمل فيما وضع له كان مجازا.

ص: 35


1- سورة المائدة:6.
2- انظر التبيان 457/3،فان ما هاهنا ملخص منه.

و اللمس يكون باليد ثم اتسع فيه فأوقع على الجماع.و التيمم القصد و قد صار في الشرع اسما لقصد مخصوص و هو أن يقصد الصعيد و نحوه و يستعمل التراب و ما في معناه في أعضاء مخصوصة.و الصعيد وجه الأرض من غير نبات و لا شجر و قال الزجاج الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض ترابا كان أو غيره من الأحجار و نحوها و إنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض.و قوله أَوْ عَلى سَفَرٍ معناه و إن كنتم مسافرين.

فصل

اعلم أنهم قالوا إن السفر في هذين الموضعين غير معتبر اعتبارا يخل به (1)إذا حصل شرطه الذي قرنه الله بذلك و قيده به من قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً و إنما ذكر لأن أكثر هذه الضرورات على الأغلب تكون في الحال السفر فإن حصلت في غيره فكمثله لهذا نظائر كثيرة كقوله وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ (2) و ليس لكونهن في الحجور اعتبارا و إنما ذكر ذلك لكونه في أكثر الحالات كذلك.و قيل إن أو هاهنا بمعنى الواو كقوله أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (3) يعني و جاء أحد منكم من الغائط و ذلك لأن المجيء من الغائط ليس من جنس المرض و السفر حتى يصح عطفه عليهما فإنهما سبب لإباحة التيمم و الرخصة و المجيء من الغائط سبب لإيجاب الطهارة و التقدير و قد جاء من الغائط.و قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ المراد به الجماع و كذا إذا قرئ أو لمستم و اللمس و الملامسة معناهما واحد لأنه لا يلمسها إلا و هي تلمسه و قيل المراد به اللمس باليد و غيرها و الصحيح هو الأول.7.

ص: 36


1- أي بالتيمم.
2- سورة النساء:23.
3- سورة الصافّات:147.

يروى أن العرب و الموالي اختلفتا فيه فقال الموالي المراد به الجماع و قال العرب المراد به مس المرأة فارتفعت أصواتهم إلى ابن عباس فقال غلب الموالي المراد به الجماع (1).و سمي الجماع لمسا لأن به يتوصل إلى الجماع كما سمي المطر سماء.

فصل

و قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً راجع إلى المرضى و المسافرين جميعا مسافر لا يجد الماء و مريض لا يجد الماء أو من يوضئه أو يخاف الضرر من استعمال الماء لأن الأصل أن حال المرض يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء و حال السفر يغلب فيها عدم الماء. فَتَيَمَّمُوا أي تعمدوا و تحروا و اقصدوا صعيدا.و قد ذكرنا أن الزجاج قال الصعيد وجه الأرض و هذا يوافق مذهب أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب أو لم يكن.و التيمم إنما يصح و يجب لفريضة الوقت في آخر الوقت و عند تضيقه لأن التيمم بلا خلاف إنما هو طهارة ضرورية و لا ضرورة إليه إلا في آخر الوقت و ما قبل هذه الحال لم تتحقق فيه ضرورة.و ليس للمخالف أن يتعلق بظاهر قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا و بأنه لم يفرق بين أول الوقت و آخره لأن الآية لو كان له ظاهر يخالف قولنا جاز أن يخصه بإجماع الفرقة المحقة و بما ذكرناه أيضا كيف و لا ظاهر لها ينافي ما نذهب إليه لأنه تعالى قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ و أراد بلا خلاف إذا أردتم القيام إلى الصلاة كما قدمناه ثم أتبع ذلك حكم العادم للماء الذي يجب عليه التيمم فيجب على من تعلق بهذه الآية أن يدل على أن من كان في أول الوقت3.

ص: 37


1- مجمع البيان 52/3.

له أن يريد الصلاة و يعزم على القيام إليها.فإنا نخالف في ذلك و نقول ليس لمن عدم الماء أن يريد الصلاة في أول الوقت و ليس لهم أن يفصلوا بين الجملتين و يقولوا (1)إن إرادة الصلاة شرط في الجملة الأولى التي أمر فيها بالطهارة بالماء مع وجوده و ليست شرطا في الجملة الثانية التي ابتداؤها وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى و ذلك لأن الشرط الأول لو لم يكن شرطا في الجملتين لكان يجب على المريض أو المسافر إذا أحدثا التيمم و إن لم يردا الصلاة و هذا لا يقوله أحد.و التيمم إنما أوجبه الله عند عدم الماء حيث لم يجده الإنسان و معلوم أنه أراد من وجود الماء التمكن منه و القدرة عليه لأنه لو وجد الماء و لم يتمكن من الوصول إليه للخوف من السبع أو التلف على نفسه لم يكن واجبا عليه استعماله و لم يحسن أن يكون مرادا فعلم أنه إنما أراد التمكن و التمكن مرتفع بأحد الأشياء الثلاثة إما لعدم الماء مع الطلب له أو لعدم ما يتوصل إلى الماء من آلة أو ثمن أو لحائل بينه و بين الماء من الخوف من استعماله إما على النفس أو على المال و ما أشبه ذلك فالآية بمجردها تدل على جميع ذلك.

فصل

على أنا نحمل قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا على العموم في جميع الأوقات عنه عدم الأشياء الثلاثة المذكورة على بعض الوجوه فإن القاضي للصلوات المفروضات يتيمم عند حصول إحدى تلك الشرائط في كل حال (2)و إن لم يكن وقت صلاة حاضرة و كذلك يتيمم من أراد أن يصلي صلاة نافلة في غير وقت فريضة أو في أول وقتها ثم يجوز أن يصلي بذلك التيمم فريضة الوقت في آخر وقتها».

ص: 38


1- الزيادة من ج.
2- في ج«فى كل واحد».

عند تضيقه إذا لم ينتقض حكم ذلك التيمم بحدث أو ما يجري مجراه و هو التمكن من استعمال الماء.و اختلف في كيفية التيمم على أقوال أحدها أنه ضربة للوجه و ضربة لليدين إلى المرفقين و هو قول أبي حنيفة و الشافعي و أكثر الفقهاء و به قال قوم من أصحابنا لحديث ورد للتقية (1).و ثانيها أنه ضربة للوجه و ضربة لليدين من الزندين و إليه ذهب عمار بن ياسر و مكحول و الطبري و هو مذهبنا في التيمم إذا كان بدلا من الجنابة فإن كان بدلا من الوضوء كفاه ضربة واحدة يمسح بها وجهه من قصاص شعره إلى طرف أنفه و يديه من زنديه إلى أطراف أصابعهما.و إنما وهم الراوي عن عمار في الضربة في اليدين للتيمم على كل حال لأنه روى التيمم الذي هو بدل من الجنابة و قصته معروفة و هي أنه و عمر كانا في سفر فاحتلما و لم يجدا الماء فامتنع عمر من الصلاة إلى أن وجد الماء و تمعك عمار في التراب و صلى إذ لم يعرفا كيفية التيمم فلما دخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكيا حالهما فتبسم عليه السّلام و قال تمعكت كما تتمعك الدابة (2)ثم علمه كيفية التيمم (3).و ثالثها أنه إلى الإبطين ذهب إليه الخوارج.و روى الزهري أن الله عفو يقبل منكم العفو السهل لأن في قبوله التيمم بدلا من الوضوء تسهيل الأمر علينا.و مسح الوجه بالتراب و ما يجري مجراه في التيمم إنما هو إلى طرف الأنف و مسح اليد على ظاهر الكف على ما قدمناه و الدليل عليه بعد إجماع الطائفة2.

ص: 39


1- تهذيب الأحكام 208/1.
2- تمعكت:تمرغت في التراب،و المعك الدلك-النهاية لابن الأثير 343/4.
3- وسائل الشيعة 976/2.

قوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و دخول الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل إلى المفعول لا بد له من فائدة و إلا كان عبثا و لا فائدة بعد ارتفاع التعدية إلا التبعيض (1)و حكم التبعيض يسري (2)من الوجوه إلى الأيدي لأن حكم المعطوف و المعطوف عليه سواء في مثل ذلك.

فصل

و المقيم إذا فقد الماء يتيمم كالمسافر لأن العلة في السفر فقدان الماء أ لا ترى أن السفر بانفراده لا يرخص التيمم فيه و إنما ذكر سبحانه السفر مع السببين للترخيص في التيمم على ما قدمناه لأن الغالب في السفر عوز الماء دون الحضر و بناء كلام العرب على الأغلب كثير.فإن قيل الآية ترخص للمحدث التيمم إذا فقد الماء فمن أين لكم أن من سواه ممن ذكرتموه يجوز له أيضا ذلك.قلنا قد قدمنا أن من المعلوم أنه تعالى أراد بوجود الماء التمكن من استعماله و القدرة عليه و التمكن مرتفع في المواضع كلها.

فصل

قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً يدل على أن المحبوس إذا لم يجد الماء و تيمم و صلى فلا إعادة عليه خلافا للشافعي.و إنما قلنا إنه لا يعيد لأنه إذا صلى فقد أدى فرضا بالاتفاق و إعادة الفرض لا تجب إلا بحجة و لا حجة على إعادة صلاة المحبوس بالتيمم من كتاب و لا سنة و لا إجماع.».

ص: 40


1- لان كل من قال بفائدة زائدة أقر بأنها التبعيض«ه ج».
2- في م«ينتهى من الوجوه».

و يستحب التيمم من ربى الأرض (1)التي تنحدر المياه عنها فإنها أطيب من مهابطها قال تعالى صَعِيداً طَيِّباً و سمي صعيدا لأنه يصعد من الأرض و الطيب ما لم يعلم فيه نجاسة و طيبا أي طاهرا و قيل حلالا و قيل منبتا دون السبخة التي لا تنبت كقوله وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً (2) و العموم يتناول الكل.و تسمية التيمم بالطهارة حكم شرعي

لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِداً وَ تُرَابُهَا طَهُوراً (3). و لا يرفع الحدث بالتيمم سواء كان بدلا من الوضوء أو بدلا من الغسل و إنما يستباح به الصلاة عند ارتفاع التمكن من الطهارتين أ لا ترى أن الجنب إذا تيمم و صلى فإذا تمكن من الماء يجب عليه الاغتسال.و قال المرتضى رضي الله عنه يجب في نية التيمم رفع الحدث ليصح الدخول في الصلاة.

فصل

و قوله تعالى ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ (4) معناه ما يريد الله فيما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة و من الغسل من الجنابة و التيمم عند عدم الماء أو تعذر استعماله ليلزمكم في دينكم من ضيق و لا ليفتنكم فيه و من الحرج الذي لم يرده الله تعالى بهم أن يغتسلوا حين يخافون منه تلف النفس.6.

ص: 41


1- ربى الأرض،جمع الرابية من الربو،و هو ما ارتفع من الأرض-صحاح اللغة 2349/6.
2- سورة الأعراف:58.
3- مستدرك الوسائل 156/1.
4- سورة المائدة:6.

ثم قال وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي لكن يريد الله ليطهركم بما فرض عليكم من الوضوء و الغسل من الأحداث و الجنابة أن ينظف به أجسامكم من الذنوب

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِنَّ الْوُضُوءَ يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ (1). و قوله وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ معناه يريد الله مع تطهيركم من ذنوبكم أن يتم نعمته بإباحته لكم التيمم و بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء و الغسل إذا قمتم إلى الصلاة مع وجود الماء و التيمم مع عدمه لتشكروا الله على نعمه فتستحقوا الثواب إذا قمتم بالواجب في ذلك.

فصل

و الله تعالى ما جعل علينا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ حتى أباح للمتيمم أن يصلي بتيممه صلوات الليل كلها من الفرائض و النوافل ما لم يحدث أو لم يتمكن من استعمال الماء.و يدل عليه قوله في آية الطهارة أنه أوجب الطهارة على القائم إلى الصلاة إذا وجد الماء ثم عطف عليه بالتيمم عند فقد الماء و الصلاة أتم الجنس و كأنه قال و الطهارة تجزيكم لجنس الصلاة (2)إذا وجدتم الماء و إذا فقدتموه أجزأكم التيمم لجنسها.ثم كما لا تختص الطهارة بصلاة واحدة فكذلك التيمم.فإن قيل إن قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ يدل على إيجاب الطهور أو التيمم إذا لم يجد الماء على كل قائم إلى الصلاة و هذا يقتضي وجوب التيمم لكل صلاة.قلنا ظاهر الأمر لا يدل على التكرار و لا على الاقتصار من فعل مرة واحدة فليس يجب تكرر الطهارة بتكرر القيام إلى الصلاة إلا بقرينة و دليل.ج.

ص: 42


1- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 35/6.
2- الزيادة من ج.

على أن السائل يذهب إلى أن الرجل لو قال لامرأته أنت طالق إذا دخلت الدار فلم يقتض قوله أكثر من مرة واحدة عند من يجيز الطلاق مشروطا و لو تكرر دخولها لم يتكرر وقوع الطلاق عليها

باب أحكام الطهارة من الآية الثانية التي هي من أمهات الطهارة أيضا

أما قوله تعالى في سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى (1) فقد قيل في هذه الآية نيفا و عشرين حكما سوى التفريعات (2).و قالوا في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما قال إبراهيم إنها نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح (3).الثاني قالت عائشة نزلت في جماعة منهم أعوزهم الماء (4).و ظاهر الخطاب متوجه إلى المؤمنين كلهم بأن لا يقربوا الصلاة و هم سكارى و لا يجب قصر الحكم على سببه بلا خلاف.و قرب يقرب متعد يقال قربتك و قرب يقرب لازم يقال قربت منه.

ص: 43


1- سورة النساء:43.
2- أ لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى،ب حتّى تعلموا ما تقولون لان معناها اقربوها اذا علمتم ما تقولون،ج و لا جنبا لان المراد لا تقربوها جنبا،د الا عابرى سبيل لان المراد اقربوا مواضع الصلاة عابرى سبيل،ه حتّى تغتسلوا لان معناه اقربوا إذا اغتسلتم.فهذه خمسة احكام خاصّة غير مكررة،و أربعة مكررة في المرضى و المسافرين و المحدثين و الملامسين كما ذكرنا فيما تقدم من آية الطهارة،يو المفهومات من قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ ،و واحد مشترك بين المسافر و المحدث و الملامس-الخ و لا يقرأ بقية التعليق في الصورة«ه ج».
3- لباب النقول ص 81.
4- اسباب النزول للواحدى 102.

و أصل السكر سد مجرى الماء فبالسكر تنسد طريق المعرفة (1).و قوله وَ أَنْتُمْ سُكارى جملة منصوبة الموضع على الحال و العامل فيه تقربوا و ذو الحال ضميره.و قوله جُنُباً انتصب لكونه عطفا عليه و المراد به الجمع.و عابِرِي سَبِيلٍ منصوب على الاستثناء.و قوله عَلى سَفَرٍ عطف على مَرْضى أي مسافرين.

فصل

و معنى الآية لا تقربوا مكان الصلاة أي المساجد للصلاة و غيرها كقوله وَ صَلَواتٌ أي مواضعها.و هذا أولى مما روي أن معناه لا تصلوا و أنتم سكارى (2)لأن قوله إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ يؤكد الأول فإن العبور إنما يكون في المواضع دون الصلاة.و أَنْتُمْ سُكارى فيه قولان أحدهما أن المراد به سكر النوم روى ذلك عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام (3).و الثاني أن المراد به سكر الشراب (4). حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي حتى تميزوا بين الكلام و حتى تحفظوا ما تتلون من القرآن.و قوله وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ فيه قولان أيضا1.

ص: 44


1- قال ابن فارس:السين و الكاف و الراء أصل واحد يدلّ على حيرة،من ذلك السكر من الشراب،يقال سكر(بكسر الكاف)سكرا(بسكون الكاف).معجم مقاييس اللغة 89/3.
2- الدّر المنثور 165/2.
3- و عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام.انظر البرهان في تفسير القرآن 370/1.
4- روى ذلك عن الصادق عليه السلام معللا أنّه قبل تحريم الخمر.انظر البرهان 370/1.

أحدهما أن معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد و أنتم جنب إلا مجتازين (1)و عابِرِي سَبِيلٍ أي مارين في طريق حتى تغتسلوا من الجنابة.و الثاني أن المراد به و لا تقربوا الصلاة و أنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين فيجوز لكم أداؤها بالتيمم و إن لم يرتفع حكم الجنابة فإن التيمم و إن أباح الصلاة لا يرفع الحدث.و القول الأول أقوى لأنه تعالى بين حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء فلو حملناه على القول الثاني لكان تكرارا و إنما أراد تعالى أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية و يبين حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.و قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى قد بينا أنه نزل في أنصاري مريض لم يستطع أن يقوم فيتوضأ (2).و المرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح و الكسر و القروح إذا خاف أصحابها من مس الماء و قيل هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء أو لا يكون هناك من يناوله على ما قدمناه و المروي عن الأئمة عليهم السّلام جواز التيمم في جميع ذلك لأنه على العموم (3).و المراد بقوله لمستم و لامَسْتُمُ الجماع ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء كما بين حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا و بين أيضا حكم المحدث عند عدم الماء بقوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ .9.

ص: 45


1- روى ذلك عن الصادق عليه السلام،مستثنيا المسجد الحرام بمكّة و مسجد النبيّ بالمدينة.انظر البرهان 371/1.
2- الدّر المنثور 166/2.
3- انظر الأحاديث الواردة في ذلك في وسائل الشيعة 966/2-969.

فصل

يسأل عن قوله تعالى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى فيقال كيف يجوز نهي السكران في حال السكر مع زوال العقل.و يجاب عنه بأجوبة أحدها أن النهي إنما ورد عن التعرض للسكر في حال وجوب أداء الصلاة عليهم على التخصيص و إن وجب ذلك قبله كما قال تعالى بعد ذكر الأشهر الحرم فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (1) و إن وجب ذلك في غيرها من الأشهر.و الثاني أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من حد نقصان العقل إلى ما لا يحتمل الأمر و النهي.و الثالث أن النهي إنما دل على أن إعادة الصلاة واجبة عليهم إن أدوها في حال السكر و لا تصح (2)لو كان الخمر على ثوبه أو بدنه.و قد سئل أيضا فقيل إذا كان السكران مكلفا فكيف يجوز أن ينهى عن الصلاة في حال سكره مع أن عمل المسلمين على خلافه.و أجيب عنه بجوابين أحدهما أنه منسوخ على حد قول من زعم أن قليل الخمر لم يكن شربه حراما بحيث لم يسكر.و الآخر أنهم لم يؤمروا بتركها لكن أمروا بأن يصلوها في بيوتهم و نهوا عن الصلاة مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله في جماعة تعظيما له و توقيرا للمسجد.و لا يصح من السكران شيء من العقود كالنكاح و البيع و الشراء و غير ذلك على بعض الوجوه و لا رفعها كالطلاق و العتاق.ن.

ص: 46


1- سورة التوبة:36.
2- لا تقرأ في النسختين.

فأما ما يلزم به الحدود و القصاص فإنه يلزمه جميع ذلك يقطع بالسرقة على كل حال إذا تمت شرائط السرقة و كذا يحد بالقذف و الزناء لأنه السبب لذلك و لعموم الآيات المتناولة لذلك على ما نذكره.

فصل

على أن من كان مكلفا يلزمه الصلاة على كل حال و إنما حسن أن ينهى عن الصلاة من على ثوبه أو بدنه نجاسة مع أنه مكلف و الخمر نجس فالنهي على هذا متوجه إليه في حال يكون عليه.و معنى الآية أنه خاطب المؤمنين و لا سكر و قال لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ في المستقبل وَ أَنْتُمْ سُكارى و إذا كان كذلك فيجب أن يكون منعا مما يؤدي إلى السكر و على هذا قال السلف إن الله حرم بهذه الآية المسكر ثم حرم القليل و الكثير منه في المائدة كما ذكر هاهنا بعض أحكام الطهارة و بينها في المائدة.و معنى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تصلوا و لا تقرب الشيء أبلغ في النهي من لا تفعله.و قد ذكروا أن قوله وَ أَنْتُمْ سُكارى جملة من مبتدأ و خبر في موضع الحال لأنه لم ينههم عن الصلاة مطلقا إنما نهاهم عن السكر الذي لا يفهم معه القول أي إذا كنتم بهذه الحالة فلا تصلوا و المراد تجنبوا الصلاة في هذه الحالة.و قوله حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ غاية للحال التي نهي عن الصلاة فيها فكأنه قال لكن إذا كنتم من السكر في حالة تعلمون معه معنى ما تقرءون في صلاتكم أو لفظه فصلوا.و قد بينا أن قوله وَ لا جُنُباً إنما نصب على الحال عطفا على محل وَ أَنْتُمْ سُكارى أي لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد لا مجتازين في حال السكر

ص: 47

و لا مجتازين في حال الجنابة و هو قول أبي جعفر عليه السّلام (1)و حذف لدلالة الكلام عليه و هو الأقوى لأنه تعالى بين حكم الجنابة في آخر هذه الآية إذا عدم الماء فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا و إنما أراد أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية و حكمه إذا أراد الصلاة مع عدم الماء في آخرها.و بهذه الآية و بالآية التي تقدم ذكرها من المائدة يستدل على تحريم الخمسة الأشياء على الجنب على ما ذكرناه.

فصل

و قوله أو لمستم المراد بالقراءتين في الآيتين الجماع (2)و اختاره أبو حنيفة أيضا أ لا ترى إلى قوله وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ (3) خصص باليد لئلا يلتبس بالوجه الآخر.و كل موضع ذكر الله تعالى المماسة أراد به الجماع كقوله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا (4) و كذلك الملامسة.و قال بعضهم من قرأ بلا ألف أراد اللمس باليد و غيرها مما دون الجماع و اختاره الشافعي و الصحيح هو الأول.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا حُمِلَ عابِرِي سَبِيلٍ عَلَى الْمُسَافِرِينَ كَانَ تَكْرَاراً فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الاِجْتِيَازِ بِالْمَسَاجِدِ إِلَى الاِغْتِسَالِ إِذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى الْمَاءِ إِلاَّ بِهِ. و قال عبد الله و الحسن يمر به إلى الماء و لا يجلس فيه.و قيل إن ما توهموه من التكرير غير صحيح لأن المكرر إذا علق به حكم3.

ص: 48


1- انظر فيما سبق ص 45.
2- يريد بالقراءتين «أو لمستم» و «أَوْ لامَسْتُمُ» .
3- سورة الأنعام:7.
4- سورة المجادلة:3.

آخر لم يفهم من الأول كان حسنا و قد ذكر معه التيمم فلم يكن تكريرا معيبا و الأول أولى.و قال قوم إن في التيمم جائز أن يضرب باليدين على الرمل فيمسح به وجهه و إن لم يعلق بها شيء و به نقول.و الشافعي يوجب التيمم لكل صلاة (1)و يرويه عن علي عليه السّلام و ذلك عندنا محمول على الندب.و قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يدخل تحته النساء أيضا لأنه لا خلاف إذا اجتمع المذكر و المؤنث يغلب المذكر.و قوله إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ (2) الآية إنما ذكر إزالة للشبهة فإن أم سلمة قالت يا رسول الله الرجال يذكرون في القرآن و لا تذكر النساء فنزلت الآية (3).

فصل

و الجنب لا يجوز أن يمس القرآن و هو المكتوب في الكتاب أو اللوح لقوله تعالى لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (4) و كذا كل من يجب عليه غسل واجب.و الضمير في لا يَمَسُّهُ يرجع إلى القرآن لا إلى الدفتر لقوله تَنْزِيلٌ مِنْ

رَبِّ الْعالَمِينَ (1) حظر الله مس القرآن مع ارتفاع الطهارة.فإن قيل هذا يلزمكم أن لا تجوزوا على من ليس على الطهارة الصغرى أيضا أن يمس القرآن.قلنا و كذلك نقول و إنما يجوز له أن يمس حواشي المصحف و أما نفس المكتوب فلا يجوز.و كذلك لا يمس كتابه شيء عليه اسم الله أو أسماء أنبيائه و أسماء أئمته عليهم السّلام.و يجوز للجنب و الحائض أن يقرءا من القرآن ما شاءا إلا عزائم السجود الأربع (2)و الدليل عليه زائدا على إجماع الفرقة قوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3)9.

ص: 49


1- و قال مالك لا يصلى صلاتي فرض بتيمم واحد،و لا يصلى الفرض بتيمم النافلة، و يصلى النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض.و قال شريك بن عبد اللّه يتيمم لكل صلاة فرض و يصلى الفرض و النفل و صلاة الجنازة بتيمم واحد-انظر احكام القرآن للجصاص 21/4.
2- سورة الأحزاب:35.
3- اسباب النزول للواحدى 240 و نسب سبب نزول الآية الى أسماء بنت عميس و نساء من المسلمات،لباب النقول 225 و نسب سبب نزول الآية الى أم عمارة الأنصارية و نساء المسلمات.
4- سورة الواقعة:79.

رَبِّ الْعالَمِينَ (1) حظر الله مس القرآن مع ارتفاع الطهارة.فإن قيل هذا يلزمكم أن لا تجوزوا على من ليس على الطهارة الصغرى أيضا أن يمس القرآن.قلنا و كذلك نقول و إنما يجوز له أن يمس حواشي المصحف و أما نفس المكتوب فلا يجوز.و كذلك لا يمس كتابه شيء عليه اسم الله أو أسماء أنبيائه و أسماء أئمته عليهم السّلام.و يجوز للجنب و الحائض أن يقرءا من القرآن ما شاءا إلا عزائم السجود الأربع (2)و الدليل عليه زائدا على إجماع الفرقة قوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3)

فَأَمَّا الْحَدِيثُ: مَا كَانَ يَحْجُبُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلاَّ الْجَنَابَةُ (4). فهو الكراهة.و ظاهر عموم ذلك يقتضي حال الجنابة و غيرها فإن ألزمنا قراءة السجدات قلنا أخرجناها بدليل و هو إجماع الطائفة و أخبارهم.و يمكن أن يكون هذا الفرق بين عزائم السجود و غيرها أن فيها سجودا واجبا و السجود لا يكون إلا على طهر ذكره بعض أصحابنا.و هذا ضعيف لأن العلة لو كان ذلك لما تجاوز موضع السجود إلا أن يقال النهي عن قراءة تلك السور الأربع لحرمتها الزائدة على غيرها و النهي الوارد في الأحاديث بقراءة القرآن للجنب ففي السور الأربع على الحظر و فيما عداها على الكراهة1.

ص: 50


1- سورة الواقعة:80.
2- أي السور الاربع التي فيها آية السجود و التي يجب السجدة لقراءتها،و هى: سورة السجدة التي بعد سورة لقمان،و سورة حم السجدة،و سورة النجم،و سورة اقرأ. و انظر الأحاديث في ذلك في الوسائل 494/1-495.
3- سورة المزّمّل:20.
4- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 423/1.

باب الحيض و الاستحاضة و النفاس

قال الله تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ (1) .و سبب نزول هذه الآية أنهم كانوا في الجاهلية يجتنبون مؤاكلة الحائض و مشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك و استعلموا ذلك أ واجب هو أم لا فنزلت الآية (2).و قيل كانوا يستجيزون إتيان النساء في أدبارهن أيام الحيض فلما سألوا عنه بين تحريمه (3)و الأول أقوى.و قالوا إن في هذه الآية خمسة عشر حكما (2)و زاد بعضهم.و المحيض و الحيض مصدر حاضت المرأة و المحيض في الآية تصلح للمصدر و الزمان فتقدير المصدر يسألونك عن حيض المرأة ما حكمه من المجامعة و غيرها و تقدير الزمان يسألونك عن حال المرأة وقت الحيض ما حكمها في مجامعة الرجل

ص: 51


1- سورة البقرة:222. (2و3) اسباب النزول للواحدى ص 46.
2- و هي هذه:يسألونك عن المحيض الآية يدلّ على وجوب السؤال عن الشرعيات، ب قل لانه يدلّ على وجوب البيان،ج هو أذى،د فاعتزلوا النساء في المحيض أي في الفرج، ه تحليل ما دون الفرج لئلا يضيع القيد،و تحليل مجالستها،ز تحليل مؤاكلتها،ح تحليل مشاربتها و هي كلها مفهومة من قوله في المحيض.ط انتهاء تحريم القرب عند التطهير بقوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ،أي وجوب التطهير بقوله «يَطْهُرْنَ» ،يا فإذا تطهرن فأتوهن فانه اباحة للاتيان عند الطهارة،يب وجوب الإتيان على الوجه المأمور به،يج دلالة امركم اللّه على تقدم الاعلام منه تعالى حكم المأتى،يد إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ،به يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ .فهذا هو الذي ادركه الفهم و اللّه اعلم بمراده«ه ج».

إياها و السائل أبو الدحداح فيما روي (1).و صفة الحيض هو الدم الغليظ الأسود الذي يخرج بحرارة على الأغلب.و أقل الحيض ثلاثة أيام متواليات و لا يعتبر التوالي فيها بعض أصحابنا إذا لم يكن بين بعض الأيام الثلاثة و بين بعض عشرة أيام و كلاهما على الإطلاق غير صحيح لأن غير التتابع في ثلاثة الأيام إنما يكون في الحبلى لم يستبن حملها و التتابع لمن عداها على ما ذكره في الإستبصار (2).و أكثر الحيض عشرة أيام و عليه أهل العراق و الحسن.و أقل الطهر عشرة أيام و خالف الجميع و قالوا خمسة عشر.و أما المستحاضة فهي المرأة التي غلبها الدم فلا يرقأ و السين هاهنا للصيرورة أي صارت كالحائض.و الاستحاضة دم رقيق أصفر بارد على الأغلب و هي بحكم الطاهر إذا فعلت ما عليها.و قال قوم تغتسل مرة ثم تتوضأ لكل صلاة و قال قوم تغتسل عند كل صلاة.و عندنا لها ثلاثة أحوال إن رأت الدم لا يظهر على القطنة فعليها تجديد الوضوء لكل صلاة و إن ظهر الدم على القطنة و لا يسيل فعليها غسل لصلاة الغداة و تجديد الوضوء لباقي الصلوات (3)و إن ظهر الدم عليها و سال فعليها ثلاثة أغسال عند الغداة و الظهر و المغرب.و حكم النفاس حكم الحيض إلا في الأقل فليس حد لأقل النفاس.و هذا يعلم بالإجماع و السنة تفصيلا و بالكتاب جملة قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .م.

ص: 52


1- في الدّر المنثور 258/1:سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح،و أبو الدحداح كنية له-انظر الإصابة 193/1.
2- الاستبصار 132/1.
3- الزيادة من م.

فصل

و قوله قُلْ هُوَ أَذىً معناه قذر و نجاسة و قيل قل يا محمد هو دم و مرض و قيل هو أذى لهن و عليهن لما فيه من المشقة. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج عن ابن عباس و عائشة و الحسن و قتادة و مجاهد و هو قول الشيباني محمد بن الحسن و يوافق مذهبنا.و قيل إنه لا يحرم منها غير موضع الدم فقط و قيل يحرم ما دون الإزار و يحل ما فوقه و هو قول أبي حنيفة و الشافعي.و الاعتزال التنحي عن الشيء.و قيل معنى أَذىً أي ذو أذى أي يتأذى به المجامع بنفور طبعه عما يشاهد فلا تلزموا أنفسكم منه أكثر من ترك مجامعتهن في ذلك الموضع لأن من العرب من كان يتجنب المرأة كلها تقبيلها و أن يماس بدنها فأبطل الله هذا الاعتقاد و بين أنه أذى فقط أي يستقذر المجامع دم الحيض و أنه كلفه عليهن في التكليف.و لو قال فاعتزلوا النساء فيه لكان كافيا و إنما ذكر في المحيض إيضاحا و توكيدا و تفخيما و لذلك قال وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ بعد أن قال فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ لما وصله به من ذكر الغاية التي أمر باعتزالهن و هو قوله حَتّى يَطْهُرْنَ .

فصل

و معنى لا تَقْرَبُوهُنَّ أي لا تقربوا مجامعتهن في موضع الحيض إلا أن اللفظ عام و المعنى خاص لأن العلماء مجمعون على جواز قضاء الوطر منها فيما

ص: 53

بين الفخذين و الأليتين و أي موضع أراد من جسدها و إنما اختلفوا في الدبر فمنع منه الجمهور و أجازه مالك بن أنس و عزاه إلى نافع عن ابن عمر (1).و كل من أنكر ذلك قال إن الله سماهن حرثا و ليس الدبر موضع الحرث و هذا ليس بسداد لأنهم يجوزون في غير القبل و إن لم يكن موضع حرث.فالجواب الصحيح أن العلماء أجمعوا على جواز هذا و لم يجمعوا على جواز ذلك فافترق الأمران.فمباشرة الحائض على ثلاثة أضرب محرم بلا خلاف و مباح بلا خلاف و مختلف فيه.فالمحظور بلا خلاف وطؤها في الفرج لقوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فإن خالف و فعل فقد عصى الله و عليه الكفارة.و أما المباح فما عدا ما بين السرة و الركبة في أي موضع شاء من بدنها.و المختلف فيه ما بين السرة و الركبة غير الفرج و الظاهر أن هذا أيضا مباح.و الآية دالة على وجوب اعتزال المرأة و التباعد منهن في حال الحيض على ما ذكرناه و فيها ذكر غاية التحريم و يشمل ذلك على فصول أحدها ذكر الحيض و أقله و أكثره و قد فصلناه.و ثانيها حكم الوطي في حال الحيض فإن عندنا الكفارة عليه إن كان في أوله دينار و في وسطه نصف دينار و في آخره ربع دينار و قال ابن عباس عليه دينار و لم يفصل و أول الحيض و آخره مبني على أكثر أيام الحيض و هي عشرة أيام دون عادة المرأة.و ثالثها غاية تحريم الوطي و سيجيء ذكرها.و قال المرتضى من وطئ جاريته في حيضها فعليه أن يتصدق و الدليل عليه أنا قد علمنا أن الصدقة بر و قربة و طاعة لله تعالى فهي داخلة تحت قوله وَ افْعَلُوا

الْخَيْرَ و أمره بالطاعة مما لا يحصى بالكتاب و ظاهر الأمر يقتضي الإيجاب في الشريعة فينبغي أن تكون الصدقة واجبة و يثبت له حكم الندب بدليل قاد إلى ذلك و لا دليل هاهنا يوجب العدول عن الظواهر.فأنعم النظر كيف ألزم القوم الذين خالفوه من طريقهم.1.

ص: 54


1- الدّر المنثور 263/1.

الْخَيْرَ و أمره بالطاعة مما لا يحصى بالكتاب و ظاهر الأمر يقتضي الإيجاب في الشريعة فينبغي أن تكون الصدقة واجبة و يثبت له حكم الندب بدليل قاد إلى ذلك و لا دليل هاهنا يوجب العدول عن الظواهر.فأنعم النظر كيف ألزم القوم الذين خالفوه من طريقهم.

فصل

و قوله حَتّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف معناه حتى ينقطع الدم عنهن و بالتشديد معناه حتى يغتسلن و قال مجاهد و طاوس معنى يَطَّهَّرْنَ بتشديد يتوضأن و هو مذهبنا و أصله يتطهرن فأدغم التاء في الطاء.و عندنا يجوز وطء المرأة إذا انقطع دمها و طهرت و إن لم تغتسل إذا غسلت فرجها و فيه خلاف.فمن قال لا يجوز وطؤها إلا بعد الطهر من الدم و الاغتسال تعلق بالقراءة بالتشديد و إنها تفيد الاغتسال.و من جوز وطأها بعد الطهر من الدم قبل الاغتسال تعلق بالقراءة بالتخفيف و هو الصحيح لأنه يمكن في قراءة التشديد أن يحمل على أن المراد به يتوضأن على ما حكيناه عن طاوس و غيره و من عمل بالقراءة بالتشديد يحتاج أن يحذف القراءة بالتخفيف أو يقدر محذوفا بأن يقول تقديره حتى يطهرن و يتطهرن.و على مذهبنا لا يحتاج إلى ذلك لأنا نعمل بالقراءتين فإنا نقول يجوز وطء الرجل زوجته إذا طهرت من دم الحيض و إن لم تغتسل متى مست به الحاجة و المستحب أن لا يقربها إلا بعد التطهير و الاغتسال.و القراءتان إذا صحتا كانتا كآيتين يجب العمل بموجبهما إذا لم يكن نسخ.و مما يدل على استباحة وطئها إذا طهرت و إن لم تغتسل قوله وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ (1) .و قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ قال المفسرون إن اليهود قالوا من أتى زوجته من خلفها في قبلها يكون الولد أحولا فكذبهم الله و أباح ما حظروه (2)فعموم هذه الظواهر يتناول موضع الخلاف و يقطع كل اعتراض عليه قوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ إذ لا شبهة في أن المراد بذلك انقطاع الدم دون الاغتسال لأن طهرت المرأة في الشرع بخلاف طمثت و إن كان في الأصل هو ضد النجاسة يقال طهرت المرأة فهي طاهرة إذا لم يكن عليها نجاسة و طهرت فهي طاهر إذا لم تكن حائضا.و الخطاب إذا ورد من الحكيم و يكون فيه وضع اللغة و عرف الشرع يجب حمله على العرف الشرعي إذا كان واردا لحكم من أحكام الشرع و لأن جعله تعالى انقطاع الدم غاية يقتضي أن ما بعده بخلافه فالحيض كما ذكر الله تعالى مانع و ليس وجوب الاغتسال مانعا.و طهرت بالفتح أقيس لقولهم طاهر كقولهم قعد فهو قاعد و من حيث الطبيعة طهرت أولى في المعنى.و القراءة بالتشديد لا بد أن يكون المراد بها الطهارة فإن كان المعنى التوضأ كما ذكرنا فلا كلام و إن كان الاغتسال فنحمله على الاستحباب.

ص: 55

و قوله حَتّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف معناه حتى ينقطع الدم عنهن و بالتشديد معناه حتى يغتسلن و قال مجاهد و طاوس معنى يَطَّهَّرْنَ بتشديد يتوضأن و هو مذهبنا و أصله يتطهرن فأدغم التاء في الطاء.و عندنا يجوز وطء المرأة إذا انقطع دمها و طهرت و إن لم تغتسل إذا غسلت فرجها و فيه خلاف.فمن قال لا يجوز وطؤها إلا بعد الطهر من الدم و الاغتسال تعلق بالقراءة بالتشديد و إنها تفيد الاغتسال.و من جوز وطأها بعد الطهر من الدم قبل الاغتسال تعلق بالقراءة بالتخفيف و هو الصحيح لأنه يمكن في قراءة التشديد أن يحمل على أن المراد به يتوضأن على ما حكيناه عن طاوس و غيره و من عمل بالقراءة بالتشديد يحتاج أن يحذف القراءة بالتخفيف أو يقدر محذوفا بأن يقول تقديره حتى يطهرن و يتطهرن.و على مذهبنا لا يحتاج إلى ذلك لأنا نعمل بالقراءتين فإنا نقول يجوز وطء الرجل زوجته إذا طهرت من دم الحيض و إن لم تغتسل متى مست به الحاجة و المستحب أن لا يقربها إلا بعد التطهير و الاغتسال.و القراءتان إذا صحتا كانتا كآيتين يجب العمل بموجبهما إذا لم يكن نسخ.و مما يدل على استباحة وطئها إذا طهرت و إن لم تغتسل قوله وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ (1) .و قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ قال المفسرون إن اليهود قالوا من أتى زوجته من خلفها في قبلها يكون الولد أحولا فكذبهم الله و أباح ما حظروه (2)فعموم هذه الظواهر يتناول موضع الخلاف و يقطع كل اعتراض عليه قوله وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ إذ لا شبهة في أن المراد بذلك انقطاع الدم دون الاغتسال لأن طهرت المرأة في الشرع بخلاف طمثت و إن كان في الأصل هو ضد النجاسة يقال طهرت المرأة فهي طاهرة إذا لم يكن عليها نجاسة و طهرت فهي طاهر إذا لم تكن حائضا.و الخطاب إذا ورد من الحكيم و يكون فيه وضع اللغة و عرف الشرع يجب حمله على العرف الشرعي إذا كان واردا لحكم من أحكام الشرع و لأن جعله تعالى انقطاع الدم غاية يقتضي أن ما بعده بخلافه فالحيض كما ذكر الله تعالى مانع و ليس وجوب الاغتسال مانعا.و طهرت بالفتح أقيس لقولهم طاهر كقولهم قعد فهو قاعد و من حيث الطبيعة طهرت أولى في المعنى.و القراءة بالتشديد لا بد أن يكون المراد بها الطهارة فإن كان المعنى التوضأ كما ذكرنا فلا كلام و إن كان الاغتسال فنحمله على الاستحباب.

فصل

و قوله فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ أي إذا اغتسلن و قيل إذا توضأن و قيل إذا غسلن الفرج.1.

ص: 56


1- سورة المؤمنون:5.
2- الدّر المنثور 261/1،البرهان 216/1.

فَأْتُوهُنَّ أي فجامعوهن و هو إباحة كقوله وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (1) و كقوله فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ (2) .و أما قوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ فمعناه من حيث أمركم الله (3)بتجنيبه في حال الحيض و هو الفرج و قيل من قبل الطهر دون الحيض و قال محمد بن الحنفية أي من قبل النكاح دون الفجور.و الأول أليق بالظاهر و إن كان العموم يحتمل جميع ذلك و كذا يحتمل أن يكون المراد من حيث أباح الله لكم دون ما حرمه عليكم من إتيانها و هي صائمة واجبا أو محرمة أو معتكفة على بعض الوجوه ذكره الزجاج و العموم يشمل الجميع.فغاية تحريم الوطء مختلف فيها منهم من جعل الغاية انقطاع الدم حسب ما قدمناه و منهم من قال إذا توضأت أو غسلت فرجها حل وطؤها و إن كان الأولى أن لا يقربها إلا بعد الغسل و هو مذهبنا و منهم من قال إذا انقطع دمها و اغتسلت حل وطؤها عن الشافعي و منهم من قال إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدم يحللها للزوج و إن كان دون العشر فلا يحل وطؤها إلا بعد الغسل أو التيمم أو مضى وقت صلاة عليها عن أبي حنفية.

فصل

و قوله إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قال عطاء المتطهرين بالماء و قال مجاهد المتطهرين من الذنوب و الأول مروي في سبب نزول هذه الآية (4)و العموم يتناول الأمرين.1.

ص: 57


1- سورة المائدة:2.
2- سورة النساء:103.
3- الزيادة من ج.
4- الدّر المنثور 261/1.

و إنما قال اَلْمُتَطَهِّرِينَ و لم يذكر المتطهرات لأن المذكر و المؤنث إذا اجتمعا فالغلبة للمذكر كما قدمناه في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .و قيل اَلتَّوّابِينَ من الذنوب و اَلْمُتَطَهِّرِينَ بالماء.و لو قلنا المراد به الرجال دون النساء لأن الخطاب بالأمر و النهي معهم دونهن لقوله فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ و لا تَقْرَبُوهُنَّ لكان أولى و لم يحتج إلى عذر.و يستدل بهذه الآية أيضا على استحباب غسل التوبة و كذا على ما ذكرناه من أنهن لا يقربن إلا بعد الاغتسال

باب أحكام المياه

قال الله تعالى وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (1) أي طاهرا مطهرا مزيلا للأحداث و النجاسات مع طهارته في نفسه.و وصف الله الماء بكونه طهورا مطلقا يدل على أن الطهورية صفة أصلية للماء ثابتة له قبل الاستعمال بخلاف قولهم ضارب و شاتم و متكلم لأنه إنما يوصف به بعد ضربه و شتمه و كلامه و لذلك لا يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء.و كذا لا يجوز الوضوء به و الغسل (2)لأنه تعالى نقل الحكم من الماء المطلق إلى التيمم و معناه أنه أوجب التيمم على من لم يجد الماء و هذا غير واجد للماء لأن المائع ليس بماء لأنه لا يسمى ماء.و أيضا فقوله فَتَيَمَّمُوا الفاء فيه يوجب التعقيب بلا خلاف.و وجه الدلالة أن الله تعالى قال وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً فأطلق

ص: 58


1- سورة الفرقان:48.
2- أي بمائع سوى الماء.

على ما وقع عليه اسم الماء فإنه طهور سواء نزل من السماء أو نبع من الأرض عذبا كان أو مالحا باردا أو مسخنا واقفا أو جاريا ماء البحر أو البر أو البئر أو العين.و قال ابن بابويه أصل جميع الماء من السماء لقوله وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (1) و الطهور هو المطهر في اللغة فيجب أن يعتبر كل ما يقع عليه اسم الماء بأنه طاهر و مطهر إلا ما قام الدليل على تغير حكمه أو أنه غير مطهر و إن كان طاهرا لكونه مضافا.

فصل

فإن قيل الطهور لا يفيد في لغة العرب كونه مطهرا.قلنا هذا خلاف على أهل اللغة لأنهم لا يفرقون بين قول القائل هذا ماء طهور و هذا ماء مطهر بل الطهور أبلغ و أيضا وجدنا العرب تقول ماء طهور و تراب طهور و لا يقولون ثوب طهور و لا خل طهور لأن التطهير ليس في شيء من ذلك فثبت أن الطهور هو المطهر.فإن قيل كيف يكون الطهور هو المطهر و اسم الفاعل منه غير متعد.قلنا هذا كلام من لم يفهم معاني الألفاظ العربية و ذلك أنه لا خلاف بين أهل النحو أن اسم الفعول موضوع للمبالغة و تكرر الصفة فإنهم يقولون فلان ضارب فإذا تكرر منه ذلك و كثر قالوا ضروب و إذا كان كون الماء طاهرا ليس مما يتكرر و لا يتزايد فينبغي أن يعتبر في إطلاق الطهور عليه غير ذلك و ليس بعد ذلك إلا أنه مطهر و لو حملناه على ما حملنا عليه لفظة طاهر لم يكن فيه زيادة فائدة.1.

ص: 59


1- من لا يحضره الفقيه 5/1.

فصل

و يدل عليه أيضا قوله تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1) فكل ما وقع عليه اسم الماء المطلق يجب أن يكون مطهرا بظاهر اللفظ إلا ما خرج بالدليل.و قوله اَلسَّماءِ يعني مطهرا و غيثا.و قوله لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ (2)

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يُذْهِبَ عَنْكُمْ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ (3)فَإِنَّ الْكُفَّارَ غَلَبُوكُمْ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى تُصَلُّوا أَنْتُمْ مُجْنِبُونَ وَ ذَلِكَ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَ كَانَ الْكُفَّارُ نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَزْعُمُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ الْمَاءِ وَ عَدُوُّكُمْ عَلَى الْمَاءِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ فَشَرِبُوا وَ اغْتَسَلُوا وَ أَذْهَبَ بِهِ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ وَ كَانُوا عَلَى رَمْلٍ تَغُوصُ فِيهِ الْأَقْدَامُ فَشَدَّهُ الْمَطَرُ حَتَّى ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْأَرْجُلُ وَ هُوَ قَوْلُهُ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (4) . و الهاء في به راجعة إلى الماء (5).و قد أطبق المفسرون على أن رِجْزَ الشَّيْطانِ في الآية المراد به أثر الاحتلام فإن المسلمين كان أكثرهم احتلموا ليلتهم فأنزل الله المطر و طهرهم به.و التطهير لا يطلق في الشرع إلا بإزالة النجاسة أو غسل الأعضاء الأربعة و قد أطلق الله عليه اسم التطهير و قال الجبائي إنما ذكر الرجز و كنى به عن الاحتلام لأنه بوسوسة الشيطان.5.

ص: 60


1- سورة الأنفال:11.
2- سورة الأنفال:11.
3- تنوير المقباس ص 114.
4- الدّر المنثور 171/3.
5- التبيان 86/5.

فصل

و لا بأس بأن يشرب المضطر من المياه النجسة و لا يجوز شربها مع الاختيار و ليس الشرب منها مع الاضطرار كالتطهير لأن التطهير قربة إلى الله و التقرب إليه تعالى لا يكون بالنجاسات و لأن المحدث يجد في إباحته للصلاة بدلا من الماء عند فقده قال تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا (1) .و لا يجد المضطر بالعطش بدلا من الماء غيره فإذا وجد الماء و كان نجسا رخص الله له في تناوله مقدار ما يمسك به رمقه.و يدل على استباحة الماء النجس في حال الاضطرار أن الله أباح كل محرم عند ضرورة حيث قال إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (2) فبين أنه لا إثم على متناول هذه المحظورات عند الضرورة.

فصل

و الماء إذا خالطه من الطاهرات ما غير لونه أو طعمه أو رائحته فإنه يجوز التوضؤ به ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء عليه لأن الله أوجب التيمم عند فقد الماء بقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا و من وجد ماء على تلك الصفة فهو واجد للماء

قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْمَاءُ كُلُّهُ طَاهِرٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ قَذِرٌ (3). و لا خلاف أن الماء له حكم التطهير إذا كان على خلقته و الخلاف في أنه إذا خالطه غيره أو استعمل.1.

ص: 61


1- سورة النساء:43.
2- سورة البقرة:173.
3- وسائل الشيعة 100/1.

و قيل إذا اغتسل به جنب خرج عن بابه و منهم من كره التطهير به بعد ذلك و قال المرتضى يجوز إزالة النجاسات بالمايعات لأن الغرض بإزالة النجاسة أن لا تكون و أسباب أن لا تكون النجاسة لا تختلف قال و الدليل عليه أن لا تختلف بين أن لا تكون أصلا و بين إزالتها فإذا كان هكذا فمتى أزيلت مشى ما ذكرناه و قد سقط حكمها (1).و قال الشيخ أبو جعفر إن كان ذلك كذلك عقلا فإنا متعبدون شرعا أن لا نزيل النجاسة إلا بالماء المطلق.

فصل

و من لا يجد ماء و لا ترابا نظيفا قال أبو حنيفة لا يصلي و عندنا أنه يصلي ثم يعيد بالوضوء أو التيمم و بذلك نص عن آل محمد عليهم السّلام (2)و يؤيده قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (3) و قوله أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ (4) الآية.و الأمر على الوجوب إلا أن يدل دليل و لا دليل (5)على ما يدعيه الخصم و قد بين النبي صلّى اللّه عليه و آله أحكام المياه و ما ينجسها و ما يزيل حكم نجاستها بالزيادة أو النقصان على ما أمر الله بعد أن علمه تعالى فقال وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ

ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (1) أي أنزلنا إليك القرآن يا محمد لتبين للناس ما نزل من الأحكام على ما علمناك و أمر جميع الأمة باتباعه و الأخذ منه جملة و تفصيلا فقال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .فإن قيل كيف لكم وجه الاحتجاج بالأخبار التي تروونها أنتم عن جعفر بن محمد و آبائه و أبنائه عليهم السّلام على من خالفكم.قلنا إن الله تعالى قال أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2) و هذا على العموم و قد ثبت بالأدلة إمامة الصادق عليه السّلام و عصمته و أن قوله و فعله حجة فجرى قوله من هذا الوجه مجرى قول الرسول على أنه عليه السّلام صرح بذلكج.

ص: 62


1- كلام المرتضى مضطرب في النسختين،و قد صححناه على ما يفهم من المسائل الناصريات في المسألة الثانية و العشرين.
2- فقد روى عن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال في حديث:و لا تدع الصلاة على حال،فان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:الصلاة عماد دينكم-الوسائل 605/2.
3- سورة النساء:103.
4- سورة الإسراء:78.
5- الزيادة من ج.

ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (1) أي أنزلنا إليك القرآن يا محمد لتبين للناس ما نزل من الأحكام على ما علمناك و أمر جميع الأمة باتباعه و الأخذ منه جملة و تفصيلا فقال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .فإن قيل كيف لكم وجه الاحتجاج بالأخبار التي تروونها أنتم عن جعفر بن محمد و آبائه و أبنائه عليهم السّلام على من خالفكم.قلنا إن الله تعالى قال أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2) و هذا على العموم و قد ثبت بالأدلة إمامة الصادق عليه السّلام و عصمته و أن قوله و فعله حجة فجرى قوله من هذا الوجه مجرى قول الرسول على أنه عليه السّلام صرح بذلك

وَ قَالَ: كُلُّ مَا أَقُولُهُ فَهُوَ عَنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ جَبْرَئِيلَ عَنِ اللَّهِ (3). و من وجه آخر و هو

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: إِنِّي مُخْلِفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي الْخَبَرَ (4). فجعل عترته في باب الحجة مثل كتاب الله و لا شك أن هذا الخطاب إنما يتناول علماء العترة الذين هم أولو الأمر و هم الصادق و آباؤه و أبناؤه الاثنا عشر عليهم السّلام و كل ما يصدر عنهم من أحكام الشرع عن رسول الله عن الله تعالى يجب على من خالفنا العمل عليه سواء أسندوا أو أرسلوا و كيف لا و هم يعملون على ما رواه مثل أبي هريرة و أنس من أخبار الآحاد.و هذا السؤال يعتمده مخالفونا في جميع مسائل الشرع و هو غير قادح.4.

ص: 63


1- سورة النحل:44.
2- سورة النساء:59.
3- هذا المضمون في الكافي 53/1.
4- البرهان 9/1-14.

فصل

و قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (1) يدل على أن سؤر اليهودي و النصراني و كل كافر أصلي أو مرتد أو ملي نجس.و في الآية شيئان تدل على المبالغة في نجاستهم أحدهما قوله إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ فهو أبلغ في الإخبار بنجاستهم من أن يقال المشركون نجس من غير إنما فإن قول القائل إنما زيد خارج عند النحويين بمنزلة ما خارج إلا زيد.و الثاني قوله نَجَسٌ و هو مصدر و لذلك لم يجمع و التقدير إنما المشركون ذو نجاسة و جعلهم نجسا مبالغة في وصفهم بذلك كما يقال ما هو إلا سير إذا وصف بكثرة السير و كقوله

فإنما هي إقبال و إدبار (2)

و ليس لأحد أن يقول المراد به نجاسة الحكم لا نجاسة العين لأن حقيقة هذه اللفظة تقتضي نجاسة العين في الشرع و إنما يحمل على الحكم تشبيها و مجازا و الحقيقة أولى من المجاز باللفظ على أنا نحمله على الأمرين لأنه لا مانع من ذلك.فإن قيل فقد قال الله تعالى وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ (3) و هذا عام في جميع ما شربوا و عالجوا بأيديهم.قلنا يجب تخصيص هذا الظاهر بالدلالة على نجاستهم و تحمل هذه الآية على أن المراد بها طعامهم الذي هو الحبوب و يملكونه دون ما هو سؤر أو عالجوه بأجسامهم.5.

ص: 64


1- سورة التوبة:28.
2- من بيت للخنساء-انظر مجمع البحرين 110/4.
3- سورة المائدة:5.

على أن ما في طعام أهل الكتاب ما يغلب على الظن أن فيه خمرا أو لحم خنزير فلا بد من إخراجه من هذا الظاهر و إذا أخرجناه من الظاهر لأجل النجاسة و كان سؤرهم على ما بينا نجسا أخرجناه أيضا من الظاهر.

فصل

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْجُنُبِ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَالَ إِنْ كَانَتْ قَذِرَةً فَلْيُهَرِقْهُ وَ إِنْ كَانَ لَمْ يُصِبْهَا قَذَرٌ فَلْيَغْتَسِلْ مِنْهُ هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) .

وَ سُئِلَ أَيْضاً عَنِ الْجُنُبِ يَغْتَسِلُ فَيَنْتَضِحُ مِنَ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ فَقَالَ لاَ بَأْسَ هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) . و إذا صافح المسلم الكافر أو من كان حكمه حكمه و يده مرطبة بالعرق أو غيره غسلها من مسه بالماء البتة و إذا لم يكن في يد أحدهما رطوبة مسحها بالحائط لأنه تعالى قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فحكم عليهم بالنجاسة بظاهر اللفظ فيجب أن يكون ما يماسونه نجسا إلا ما أباحته الشريعة.فإن قيل هل يجوز الوضوء و الغسل بماء مستعمل.قلنا يجوز ذلك فيما استعمل في الوضوء و لا يجوز فيما استعمل في غسل الجنابة و الحيض و أشباههما مما يزال به كبار النجاسات و بذلك نصوص عن أئمة الهدى عليهم السّلام.و في تأييد جواز ما استعمل في الوضوء قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا (3)6.

ص: 65


1- الاستبصار 20/1 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2- الكافي 14/2.
3- سورة المائدة:6.

و هذا الضرب من الماء مستحق للاسم على الإطلاق و في منع ما سواه نص ظاهر و احتياط للصلاة قاله الشيخ المفيد.و قال المرتضى يجوز استعمال الماء المستعمل في الأغسال الواجبة أيضا إذا لم تكن نجاسة على البدن لعموم هذه الآية و قد أشرنا في الباب الأول إلى هذا

فصل فيما ينقض الطهارتين

نواقضهما عشر بإجماع الفرقة المحقة و بالكتاب و السنة جملة و تفصيلا.أما النوم فإن آية الطهارة تدل بظاهرها على أنه حدث ناقض للوضوء و إنما يوجب إعادته على اختلاف حالات النائم إذا أراد الصلاة.و قد نقل أهل التفسير و أجمعوا على أن المراد بقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إذا قمتم من النوم و هذا الظاهر يوجب الوضوء من كل نوم.

وَ قَالَ زَيْدٌ الشَّحَّامُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْخَفْقَةِ وَ الْخَفْقَتَيْنِ فَقَالَ مَا أَدْرِي مَا الْخَفْقَةُ وَ الْخَفْقَتَانِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (1) إِنَّ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَقُولُ مَنْ وَجَدَ طَعْمَ النَّوْمِ أُوْجِبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ (2).

وَ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قَالَ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ قُلْتُ يَنْقُضُ النَّوْمُ الْوُضُوءَ فَقَالَ نَعَمْ إِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى السَّمْعِ وَ لاَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ (3). و الجنابة تنقض الوضوء على أي وجهيها حصلت و توجب الغسل أيضا قال1.

ص: 66


1- سورة القيامة:14.
2- الاستبصار 80/1،و في الكافي 37/3 عن عبد الرحمن بن الحجاج.
3- الاستبصار 80/1.

تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (1) و كذا الحيض قال تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (2) الآية و السكر المزيل للعقل ينقض الوضوء فقط و كذلك الغائط قال تعالى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى إلى قوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (3) و ما سواها من النواقض يعلم بالتفصيل من السنة و إنما يعلم من القرآن على الجملة.

وَ رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ لِأَهْلِ قُبَا مَا ذَا تَفْعَلُونَ فِي طُهْرِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فَقَالُوا نَغْسِلُ أَثَرَ الْغَائِطِ فَقَالَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكُمْ وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (4) . فقوله رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا (5) أي يتطهرون بالماء من الغائط و البول و هو المروي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام (6).

وَ رُوِيَ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ (7) أَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ الْبَوْلُ شَيْئاً مِنْ جَسَدِهِمْ قَطَعُوهُ بِالسِّكِّينِ (8).

باب توابع الطهارة

قد بينا أن من شرط الصلاة الذي لا تتم إلا به الطهور و هو ينقسم على ثلاثة

ص: 67


1- سورة المائدة:6.
2- سورة البقرة:222.
3- سورة المائدة:6.
4- وسائل الشيعة 250/1.
5- سورة التوبة:108.
6- مجمع البيان 73/5.
7- سورة الأعراف:157.
8- تفسير البرهان 40/2.

أضرب وضوء و غسل و تيمم بدلهما.

و كما لا يجوز الدخول في الصلاة مع عدم الطهارة في أثر الحالات لا يجوز الدخول فيها مع نجاسة على البدن أو الثياب اختيارا قال تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (1) .حمل هذه الآية أهل التفسير على الحقيقة و المجاز أما الحقيقة فظاهر أي فطهر ثيابك من كل نجاسة للصلاة فيها قال ابن سيرين و ابن زيد اغسلها بالماء و قيل معناه شمر ثيابك

وَ رَأَى عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَنْ يَجُرُّ ذَيْلَهُ لِطُولِهِ فَقَالَ لَهُ قَصِّرْ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَتْقَى وَ أَنْقَى وَ أَبْقَى. و أما من حمله على المجاز فقال كأنه تعالى قال و بدنك فطهر أو نفسك فطهر كما يقال فلان طاهر الثوب أي طاهر النفس كقول إمرئ القيس

فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي (2).

و لا مانع للحمل على الحقيقة و المجاز معا لفقد التنافي بينهما فيجب إجراؤه على العموم فيهما لفقد المخصص و القرينة على أن الحقيقة أصل و المجاز فرع عليه و الحمل على الأصل أولى و الأمر شرعا على الوجوب.و يدل عليه أيضا قوله وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ (3) و لم يفرق بين الظاهر و الخفي و لا بين القليل و الكثير.

فصل

و قوله وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (4)4.

ص: 68


1- سورة المدّثّر:4-5.
2- اوله«فان تك قد ساءتك منى خليقة»،و قوله«تنسلى»من«نسل الثوب عن الرجل»سقط،و الياء الاشباع،و المعنى:خلصى قلبى من قلبك«ه ج».
3- سورة الأعراف:157.
4- سورة البقرة:124.

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعَشْرِ سُنَنِ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَ خَمْسٌ فِي الْبَدَنِ أَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ فَالْمَضْمَضَةُ وَ الاِسْتِنْشَاقُ وَ الْفَرْقُ وَ قَصُّ الشَّوَارِبِ وَ السِّوَاكُ وَ أَمَّا الَّتِي فِي الْجَسَدِ فَالْخِتَانُ وَ حَلْقُ الْعَانَةِ وَ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَ نَتْفُ الْإِبْطَيْنِ وَ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ (1). و به قال قتادة و أبو الخلد و قال تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ (2) أي ابتغوا ملته فإنها داخلة في ملة نبينا مع زيادات.

فصل

و إنما نتكلم في النجاسات التي خالفونا فيها احتجاجا عليهم اعلم أن المني نجس لا يجزي فيه إلا الغسل عندنا و الدليل عليه بعد إجماع الطائفة قوله وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ (3) فإن المفسرين قالوا إنه تعالى أراد به أثر الاحتلام على ما قدمناه.و الآية دالة على نجاسة المني من وجهين أحدهما أن الرجس و الرجز و النجس بمعنى واحد لقوله وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ و لقوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ .و الوجه الثاني أنه تعالى أطلق عليه اسم التطهير و هو في الشرع إزالة النجاسة.و دم الحيض نجس قليله و كثيره لا يجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه شيء قليل و الدليل عليه آية المحيض فإنها على العموم.1.

ص: 69


1- هذا أحد الأقوال المنقولة عن ابن عبّاس-انظر الدّر المنثور 111/1.
2- سورة الحجّ:78.
3- سورة الأنفال:11.

و الخمر و كل مسكر نجس يدل عليه آية تحريمه و هي على العموم أيضا.و أما الغائط فيمكن أن يستدل على نجاسته بآية الطهارة.و الفقاع و غيره من النجاسات تدل على نجاستها السنة على سبيل التفصيل و القرآن على الإجمال قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قد نهى عنه.

فصل

و الدم الذي ليس بدم حيض و نفاسة و استحاضة يجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي و ما زاد على ذلك لا يجوز الصلاة فيه.و احتجاجنا عليه

من الكتاب مضافا إلى الإجماع قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا (1) فجعل تطهير الأعضاء الأربعة مبيحا للصلاة فلو تعلقت الإباحة بغسل نجاسة لكان زيادة لا يدل عليها الظاهر لأنه بخلافها و لا يلزم على هذا ما زاد على الدرهم.و ما عدا الدم من سائر النجاسات من بول أو عذرة و مني و غيرها إذا كان قليلا يجب إزالته لأن الظاهر و إن لم يوجب ذلك فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة على الظاهر و ليس في ذلك يسير الدم.و تلك الدماء الثلاثة للنساء تختص في الأكثر بأوقات معينة يمكن التحرز منها و باقي الدماء بخلاف ذلك.و إنما فرقنا بين الدم و بين البول و المني و سائر النجاسات في اعتبار الدرهم لإجماع الطائفة و أخبارهم و يمكن أن يكون الوجه فيه أن الدم لا يوجب خروجه6.

ص: 70


1- سورة المائدة:6.

من الجسد على اختلاف مواضعه وضوءا إلا ما ذكرناه و البول و العذرة و المني يوجب خروج كل واحد منها الطهارة فغلظت أحكامها من هذا الوجه على حكم الدم.

فصل

فأما من كان به بثور (1)يرشح منها الدم دائما لم يكن عليه حرج في الصلاة به و كذا إن كان به جراح يرشح دما و قيحا فله أن يصلي فيها و إن كثر ذلك يدل عليه قوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) و نحن نعلم لو ألزم المكلف إزالة ذلك لحرج به و ربما تفوته الصلاة مع ذلك فأباحه الله رأفة بعباده.و الآية دالة أيضا على أن حكم الثوب إذا أصابه دم البق و البراغيث فلا حرج أن يصلى فيه و إن كان كثيرا لأنه مما لا يمكن التحرز منه و أنه تعالى رفع الحرج عن المكلفين.و قد قدمنا أن الخمر و نبيذ التمر الذي نش (3)و كل مسكر لا يجوز الصلاة فيه و إن كان قليلا حتى يغسل بالماء و يدل عليه قوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ (4) و إذا ثبت أنه نجس يجب إزالته ثم قال فَاجْتَنِبُوهُ أمر باجتناب ذلك على كل حال و ظاهر أمر الله شرعا على الإيجاب فيجب اجتناب ما يتناول اللفظ على كل وجه0.

ص: 71


1- البثور:خراج صغار،و هو مثل الجدرى يقبح على الوجه و غيره من بدن الإنسان لسان العرب(بثر).
2- سورة الحجّ:78.
3- الخمر تنش:إذا أخذت تغلى-اساس البلاغة 443/2.
4- سورة المائدة:90.

باب الزيادات في الخبر

إذا سمعت الله تعالى يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارع لها سمعك فإنها لأمر يؤمر به أو لنهي ينهى عنه

وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَذَّةُ مَا فِي النِّدَاءِ أَزَالَتْ تَعَبَ الْعِبَادَةِ وَ الْعَنَاءِ. و قوله وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (1) يدل على أنه يكره أن يستعين الإنسان في الوضوء أو الغسل بمن يصب الماء عليه بل ينبغي أن يتولاه بنفسه.و من وضأه غيره و هو يتمكن منه لم يجزه و كذلك في الغسل إذا تولاه غيره مع تمكنه لا يكون مجزيا لقوله فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (2) و إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (3) فإنه إذا لا يكون متطهرا.فإن كان عاجزا عن الوضوء أو الغسل لمرض أو ما يقوم مقامه بحيث لا يتمكن منه لم يكن به بأس لقوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4) .

مسألة

إن قيل لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل في قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ .قلنا لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه و يقع بوجه دون وجه بإرادته له فكما يعبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم الإنسان لا يطير و الأعمى لا يبصر أي لا يقدران على الطيران و الإبصار كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل فأقيم ما هو كالمسبب مقام ما هو كالسبب للملابسة بينهما و لا مجاز في الكلام.

ص: 72


1- سورة الكهف:110.
2- سورة المائدة:6.
3- سورة المائدة:6.
4- سورة الحجّ:78.

مسألة

فإن قيل ظاهر الأمر يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث و غير محدث.قلنا يحتمل أن يكون الأمر للوجوب فيكون الخطاب للمحدثين خاصة.فإن قيل هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين و غيرهم لهؤلاء على وجه الإيجاب و لهؤلاء على وجه الاستحباب.قلنا نعم هذا من الصواب لأنه لا مانع من أن تتناول الكلمة الواحدة معنيين مختلفين.

مسألة

أما ما

"رُوِيَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَاماً وَ شَرَاباً فَدَعَا نَفَراً مِنَ الصَّحَابَةِ حِينَ كَانَتِ الْخَمْرُ مُبَاحَةً فَأَكَلُوا وَ شَرِبُوا فَلَمَّا ثَمِلُوا وَ جَاءَ وَقْتُ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ قَدَّمُوا أَحَدَهُمْ لَيُصَلِّيَ بِهِمْ فَقَرَأَ أَعْبُدُ مَنْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فَنَزَلَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (1) فَكَانُوا لاَ يَشْرَبُونَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ فَإِذَا صَلُّوا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا فَلاَ يُصْبِحُونَ إِلاَّ وَ قَدْ ذَهَبَ عَنْهُمُ السُّكْرُ وَ يعلموا [يَعْلَمُونَ] مَا يَقُولُونَ ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُهَا (2). فهذه الرواية غير صحيحة فالخمر كانت محرمة في كل ملة على ما نذكره في بابه.1.

ص: 73


1- سورة النساء:43.
2- اسباب النزول للواحدى:101.

مسألة

فإن قيل ما محل قوله إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ من الإعراب.قلنا من فسر الصلاة في الآية بمواضع الصلاة و هي المساجد فحذف المضاف فهو في موضع الحال أي لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين منه إذا كان فيه الطريق إلى الماء أو كان الماء منه أو احتلمتم فيه و كان النّبي صلّى اللّه عليه و آله لم يأذن لأحد يمر في مسجده و هو جنب إلا لعليّ عليه السّلام حتى سد الأبواب كلها إلا بابه (1).و أما من حمل الآية على ظاهرها و هو بعيد فقال معناه لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا و معكم حال أخرى تعذرون فيها و هي حال السفر و عبور السبيل عبارة عن السفر فقد ترك مجازا و وقع في مجازين.و إن زعم أنه صفة لقوله جُنُباً أي و لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا و لعلم حال أخرى تعذرون معها و هي حال السفر و عبور السبيل عنده عبارة عن السفر فقد ترك مجازا و وقع في مجازين (2).و إن زعم أنه صفة لقوله جُنُباً أي و لا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل فإنهم لا تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر حتى يغتسلوا و يتيمموا عند العذر و هذا يستوي فيه المقيم و المسافر.

مسألة

فإن قيل إن الله تعالى أدخل في حكم الشرط أربعة و هم المرضى و المسافرون».

ص: 74


1- وسائل الشيعة.
2- احدهما استعمال القرب الذي هو من صفات الاجسام في الصلاة،و الآخر حمل عبور السبيل على السفر«ه ج».

و المحدثون و أهل الجنابة فبمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم عند عدم الماء منهم.قلنا الظاهر أنه يتعلق بهم جميعا و أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم و عجزهم عن الوصول إليه أو مع وجدانهم الماء لا يمكنهم استعمال الماء لجرح أو قرح بهم فلهم أن يتيمموا و كذلك السفر إذا عدموه لبعدهم منه أو لبعض الأسباب التي هي في الشرع عذر و المحدثون و أهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب.

مسألة

فإن قيل كيف نظم في سلك واحد بين المرضى و المسافرين و بين المحدثين و المجنبين و المرض و السفر سببان من أسباب الرخصة و الأحداث سبب لوجوب الوضوء و الغسل.قلنا أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهير و هم عادمون للماء في التيمم فخص من بينهم مرضاهم و سفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض و السفر و غلبتهما على سائر الأسباب الموجبة لغرضه ثم عم من وجب عليه التطهر و أعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض و السفر.

مسألة

الدلك في غسل الجنابة غير واجب بدلالة قوله وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (1) و اسم الاغتسال ثابت مع عدم الدلك للجوارح و اليدين فبطل3.

ص: 75


1- سورة النساء:43.

قول من أوجبه إذ ليس بعد امتثال الأمر بالغسل أمر آخر و دلك البدن أمر زائد على الغسل و إيجاب ما زاد على المأمور به لا يكون من جهة الشرع إلا أن يريد به احتياط المغتسل في إيصال الماء إلى أصل كل شعر من رأسه و بدنه.

مسألة

فإن قيل مم اشتقاق الجنابة.قلنا من البعد (1)فكأنه سمي به لتباعده عن المساجد إلى أن يغتسل و لذلك قيل أجنب.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِنْسَانُ لاَ يُجْنِبُ وَ الثَّوْبُ لاَ يُجْنِبُ. فإنه أراد به أن الإنسان لا يجنب بمماسة الجنب و كذا الثوب إذا لبسه الجنب.

مسألة

الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره و إن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه لكان ذلك طهوره و هو مذهب أبي حنيفة أيضا.فإن قيل فما يصنع بقوله في المائدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ (2) أي بعضه و هذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.قلنا قالوا إن من لابتداء الغاية على أنه لو كان للتبعيض لا يلزم ما ذكر لأن التيمم بالتراب عند وجوده أولى منه بالصخر و كون الغبرة على الكفين لا اعتبار بها.3.

ص: 76


1- قال ابن فارس:الجيم و النون و الباء اصلان متقاربان،احدهما الناحية و الآخر البعد..و اما البعد فالجنابة..و يقال ان الجنب الذي يجامع أهله مشتق من هذا،لانه يبعد عما يقرب منه غيره من الصلاة و المسجد و غير ذلك-معجم مقاييس اللغة 483/1.
2- سورة المائدة:43.

مسألة

المحيض مصدر مثل المجيء و كانت الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يساكنوها في بيت كفعل اليهود و المجوس و أخرجوهن من بيوتهن في صدر الإسلام أيضا بظاهر قوله فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ (1) فقال عليه و آله السّلام إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن و لم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم (2).

مسألة

و قد قال بعض المفسرين في قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (3) معناه أفلح من تطهر للصلاة و توجه بذكر الله فصلى الصلوات الخمس4.

ص: 77


1- سورة البقرة:222.
2- تفسير البرهان 215/1.
3- سورة الأعلى:14.

كتاب الصلاة

باب وجوب الصلاة

و قد ورد في القرآن آي كثيرة على طريق الجملة تدل على وجوب الصلاة نحو قوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (1)

و قوله فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (2)

و قوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ (3) .و يمكن الاستدلال بهذه الآيات على وجوب جميع الصلوات و على صلاة الجنائز و صلاة العيدين و على (4)وجوب الصلاة على النبي و آله في التشهد لأنه عام في جميع ذلك.و قوله حافِظُوا أبلغ من احفظوا لأن هذا البناء أصله لتكرر الفعل بوقوعه من اثنين فإذا استعمل فيما يكون من واحد ضمن مبالغة و تطاولا في ذلك الفعل كقوله عافاك الله لا يقصد به سؤال هذا الفعل مرة واحدة فكان الله تعالى كرر الأمر بحفظ الصلوات الخمس و تحفظ الصلوات بأن يؤتى بها في أوقاتها بحدودها و حقوقها.

ص: 78


1- سورة البقرة:43.
2- سورة النساء:103.
3- سورة البقرة:238.
4- الزيادة من م.

و الصلاة أفضل العبادات و لهذا

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لِكُلِّ شَيْءٍ وَجْهٌ وَ وَجْهُ دِينِكُمُ الصَّلاَةُ (1).

وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الصَّلاَةُ أَوَّلُ مَا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فَإِنْ صَحَّتْ لَمْ يُنْظَرْ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ وَ إِنْ لَمْ تَصِحَّ نُظِرَ فِيهَا وَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ (2).

فصل

فإن قيل كيف أمروا بالصلاة و هم لا يعرفون حقيقتها في الشريعة.قيل إنما أمروا بذلك لأنهم أحيلوا فيه على بيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و وجه الحكمة فيه ظاهر لأن المكلفين إذا أمروا بشيء على الإجمال كان أسهل عليهم في أول الوهلة و أدعى لهم في قبولها من أن يفصل ثم كون المجمل المأمور به يدعوهم إلى استفسار ذلك فيكون قبول تفصيله ألزم لهم.و مثاله في العقليات قول أصحاب المعارف لنا لو كنا مكلفين بالمعرفة لوجب أن نكون عالمين بصفة المعرفة لئلا يكون تكليفا بما لا يطاق.فنقول لهم الواحد منا و إن لم يكن عالما بصفة المعرفة فإنه عالم بسبب المعرفة و هو النظر فالعلم به يقوم مقام العلم بمسببه الذي هو المعرفة و صفتها و المكلف إنما يجب أن يكون عالما بصفة ما كلف لتمكنه الإتيان به على الوجه الذي كلف فإذا أمكنه من دونه فلا معنى لاشتراطه.

فصل

و إقامة الصلاة أداؤها بحدودها و فرائضها كما فرضت عليهم يقال أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من المبايعة.ظ.

ص: 79


1- وسائل الشيعة 16/3.
2- وسائل الشيعة:23/3 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

و قيل إقامتها إدامة فرائضها يقال للشيء الراتب قائم.و قيل هو من تقويم الشيء يقال قام بالأمر إذا أحكمه و حافظ عليه.و قيل إنه مشتق مما فيها من القيام و لذلك يقال قد قامت الصلاة.و أما الصلاة فهي الدعاء في الأصل و الصلاة اشتقاقها من اللزوم يقال اصطلى بالنار أي لزمها (1)و قال تعالى تَصْلى ناراً (2) .و تخصصت في الشرع بالدعاء و الذكر في موضع مخصوص و قيل هي عبارة عن الركوع و السجود على وجه مخصوص و أذكار مخصوصة.و قال أصحاب المعاني إن معنى صلى أزال الصلاء منه و هو النار كما يقال مرض.و فرضها على ثلاثة أقسام متعلقة بثلاثة أحوال الحضر و السفر و الضرورة و إنما اختلفت أحكامها لاختلاف أحوالها و بينها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فصلها و نص القرآن عليها جملة قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (3) و قال وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (4)

باب ذكر المواقيت

فأولها الظهر و هي أول صلاة فرضها الله تعالى على نبيه صلّى اللّه عليه و آله

و قال

ص: 80


1- قال ابن فارس:الصاد و اللام و الحرف المعتل اصلان:احدهما النار و ما أشبهها من الحمى،و الآخر جنس من العبادة.فأما الأول فقولهم«صليت العود بالنار»،و الصلى صلى النار،و اصطليت بالنار،و الصلاء ما يصطلى به و ما يذكى به النار و يوقد...و اما الثاني فالصلاة و هي الدعاء-معجم مقاييس اللغة 300/3.
2- سورة الغاشية:4.
3- سورة الحشر:7.
4- سورة النحل:44.

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ (1) و دلوكها زوالها و بعدها العصر قال حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (2) ففرض في الآية الأولى بين دلوك الشمس و غسق الليل (3)أربع صلوات الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة ثم قال وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ فأوجب صلاة الفجر أيضا و قال تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ (4) .و قال في الموضعين أَقِمِ فالمراد به أمته معه.

فصل

و الدلوك في آية الفرض المتقدمة اختلفوا فيه فقال ابن عباس و ابن مسعود و ابن زيد هو الغروب و الصلاة المأمور بها هاهنا هي المغرب و قال ابن عباس في رواية أخرى و الحسن و مجاهد و قتادة دلوكها زوالها و هو المروي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام (5)و ذلك أن الناظر إليها يدلك عينه لشدة شعاعها و أما عند غروبها فيدلك عينه ليتبينها و الصلاة المأمور بها عند هؤلاء الظهر.و غسق الليل ظهور ظلامه يقال غسقت القرحة أي انفجرت و ظهر ما فيها و قال ابن عباس و قتادة هو بدء الليل و قال الجبائي غسق الليل انتصافه (6).و قوله تعالى وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ قال قوم يعني به صلاة الفجر و ذلك يدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة لأنه أمر بالقراءة و أراد بها الصلاة لأنها لا تتم إلا بها مع التمكن.2.

ص: 81


1- سورة الإسراء:78.
2- سورة البقرة:234.
3- الزيادة من ج.
4- سورة هود:114.
5- تفسير البرهان 435/2.
6- و هو المروى عن الباقر عليه السلام،انظر البرهان 435/2.

و معنى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً تشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار فتكتب في صحيفة الليل و صحيفة النهار (1)و فيه حث للمسلمين على أن يحضروا هذه الصلاة و يشهدوها للجماعة

وَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهَا الصَّلاَةُ الْوُسْطَى (2). و قال الحسن لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لزوالها صلاة الظهر و العصر إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ صلاة العشاءين كأنه يقول من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على ما بين أوقات الصلوات الأربع ثم أفرد صلاة الفجر بالذكر.و قال الزجاج سمي صلاة الفجر قرآن الفجر لتأكيد أمر القراءة في الصلاة كما ذكرنا.

فصل

و استدل قوم بهذه الآية على أن الوقت الأول موسع إلى آخر النهار في الأحوال لأنه أوجب إقامة الصلاة من وقت الدلوك إلى وقت غسق الليل و ذلك يقتضي أن ما بينهما وقت.و قال الشيخ أبو جعفر الطوسي هذا ليس بقوي لأن من قال إن الدلوك هو الغروب لا دليل له فيها لأن من قال ذلك يقول إنه يجب إقامة المغرب من عند الغروب (3)إلى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق و ما بين ذلك وقت المغرب و من قال الدلوك هو الزوال يمكنه أن يقول المراد بالآية بيان وجوبر.

ص: 82


1- هذا مضمون أحاديث رويت عن السجّاد و الصادق عليهما السلام-انظر البرهان 436/4-437.
2- الدّر المنثور 300/1.
3- الزيادة من م و المصدر.

الصلوات الخمس على ما ذكره الحسن لا بيان وقت صلاة واحدة فلا دلالة في الآية على ذلك (1).و الصلاة في أول وقتها أفضل قال تعالى فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ (2) ففي عمومها دليل عليه.

فصل

و قوله أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ (3) أمر الله به نبيه و أمته بإقامة الصلاة و الإتيان بأعمالها على وجه التمام في ركوعها و سجودها و سائر فروضها.و قيل إقامتها هو عملها على استواء كالقيام الذي هو الانتصاب في الاستواء.و قوله طَرَفَيِ النَّهارِ يريد بهما صلاة الفجر و المغرب و قال الزجاج يعني به الغداة و الظهر و العصر (4)و يحتمل أن يريد به صلاة الفجر و العصر لأن طرف الشيء من الشيء و صلاة المغرب ليست من النهار.و قوله زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ عن ابن عباس يريد به العشاء الآخرة و قال الزجاج العشاءان المغرب و العتمة و الزلفة المنزلة.و من قال المراد بطرفي النهار الفجر و المغرب قال ترك ذكر الظهر و العصر لظهورهما في أنهما صلاة النهار و التقدير أقم الصلاة طرفي النهار مع الصلاتين المفروضتين.و قيل إنهما ذكرا على التبع للطرف الأخير لأنهما بعد الزوال فهما أقرب إليه و قد قال أقم لدلوك الشمس إلى غسق الليل و دلوكها زوالها ثم قال إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ (5) أي إن الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيئات4.

ص: 83


1- التبيان 510/6.
2- سورة المائدة:48.
3- سورة هود:114.
4- كأنّه جعل ما بعد الزوال الى الليل طرف النهار كما يسميه أصحابنا عشية«ه ج».
5- سورة هود:114.

فإذا دعا إلى تركها فكأنها ذهبت بها لقوله إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (1) .

فصل

و قوله تعالى فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (2) هذه الآية أيضا تدل على الصلوات الخمس في اليوم و الليلة لأن قوله حِينَ تُمْسُونَ يقتضي المغرب و العشاء الآخرة وَ حِينَ تُصْبِحُونَ يقتضي صلاة الفجر وَ عَشِيًّا يقتضي العصر وَ حِينَ تُظْهِرُونَ يقتضي صلاة الظهر ذكره ابن عباس و مجاهد.و إنما أخر الظهر عن العصر لازدواج الفواصل.و الإمساء الدخول في المساء و المساء مجيء الظلام بالليل و الإصباح نقيضه و هو الدخول في الصباح و الصباح مجيء ضوء النهار.و فَسُبْحانَ اللّهِ أي سبحوا الله في هذه الأوقات تنزيها لله عما لا يليق به وَ لَهُ الْحَمْدُ يعني الثناء و المدح فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا أي في العشي وَ حِينَ تُظْهِرُونَ أي حين تدخلون في الظهر و هو نصف النهار.و إنما خص الله العشي و الإظهار في الذكر بالحمد و إن كان حمده واجبا في جميع الأوقات لأنها أحوال تذكر بإحسان الله و ذلك أن انقضاء إحسان أول يقتضي الحمد عند تمام الإحسان و الأخذ في الآخر كما قال وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (3) .

فصل

و قوله فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ

غُرُوبِها (1) .قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله فَاصْبِرْ على أذاهم إياك وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صل و السبحة الصلاة بِحَمْدِ رَبِّكَ أي بثناء ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني سبحة الصبحة أي صلاة الفجر و قَبْلَ غُرُوبِها يعني صلاة العصر و مِنْ آناءِ اللَّيْلِ يعني صلاة المغرب و العشاء وَ أَطْرافَ النَّهارِ صلاة الظهر في قول قتادة.فإن قيل لم جمع أطراف النهار.قلنا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه أراد أطراف كل نهار و النهار اسم جنس في معنى جمع و ثانيها أنه بمنزلة قوله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (2) و ثالثها أراد طرف أول النصف الأول و طرف آخر النصف الأول و طرف أول النصف الأخير و طرف آخر النصف الأخير فلذلك جمع.و قوله لَعَلَّكَ تَرْضى أي افعل ما أمرتك به لكي ترضى بما يعطيك الله من الثواب على ذلك و قيل أي لكي ترضى بما حملت على نفسك من المشقة في طاعة الله بأمره كما كنت تريد أن تكون في مثل ما كان الأنبياء عليه من قبلك.0.

ص: 84


1- سورة العنكبوت:45.
2- سورة الروم:17.
3- سورة يونس:10.

غُرُوبِها (1) .قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله فَاصْبِرْ على أذاهم إياك وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صل و السبحة الصلاة بِحَمْدِ رَبِّكَ أي بثناء ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني سبحة الصبحة أي صلاة الفجر و قَبْلَ غُرُوبِها يعني صلاة العصر و مِنْ آناءِ اللَّيْلِ يعني صلاة المغرب و العشاء وَ أَطْرافَ النَّهارِ صلاة الظهر في قول قتادة.فإن قيل لم جمع أطراف النهار.قلنا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه أراد أطراف كل نهار و النهار اسم جنس في معنى جمع و ثانيها أنه بمنزلة قوله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (2) و ثالثها أراد طرف أول النصف الأول و طرف آخر النصف الأول و طرف أول النصف الأخير و طرف آخر النصف الأخير فلذلك جمع.و قوله لَعَلَّكَ تَرْضى أي افعل ما أمرتك به لكي ترضى بما يعطيك الله من الثواب على ذلك و قيل أي لكي ترضى بما حملت على نفسك من المشقة في طاعة الله بأمره كما كنت تريد أن تكون في مثل ما كان الأنبياء عليه من قبلك.

فصل

و قوله فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ (3) أي احتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج.و صل قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صلاة الفجر وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ صلاة العصر و قيل صلاة الظهر و العصر وَ مِنَ اللَّيْلِ يعني صلوات الليل و يدخل فيها صلاة0.

ص: 85


1- سورة طه:130.
2- سورة التحريم:4.
3- سورة ق:39-40.

المغرب و العتمة و نوافل الليل أيضا وَ أَدْبارَ السُّجُودِ عن الحسن بن علي عليه السّلام أنهما الركعتان بعد المغرب تطوعا (1)و قيل التسبيحات المائة بعد الفرائض عن ابن عباس و مجاهد و عن ابن زيد هي النوافل كلها.و أصل التسبيح التنزيه لله عن كل ما لا يجوز في صفته و سميت الصلاة تسبيحا لما فيها من التسبيح.و روي أنه تعالى أراد بأدبار السجود نوافل المغرب و أراد بقوله إِدْبارَ النُّجُومِ الركعتين قبل الفجر (2).فتلك الآيات الست تدل على المواقيت للصلوات الموقتة في اليوم و الليلة

باب ذكر القبلة

[القبلة و تغييرها]

قال الله تعالى جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ (3) في بعض التفاسير أي جعل الله الكعبة ليقوم الناس في متعبداتهم متوجهين إليها قياما و عزما عليها و قيل قواما لهم يقوم به معادهم و معاشهم و قياما أي مراعاة للناس و حفظا لهم.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى بَعْدِ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الْمَدِينَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْراً.

"وَ عَنْ أَنَسٍ: كَانَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْكَعْبَةِ.

قال تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها (4) .

ص: 86


1- الدّر المنثور 110/6.
2- الدّر المنثور 110/6.
3- سورة المائدة:97.
4- سورة البقرة:142.

اختلفوا في الذين عابوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة على ثلاثة أقوال قال الحسن هم مشركو العرب فإن رسول الله لما تحول بأمر الله إلى الكعبة من بيت المقدس قالوا يا محمد رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها أيضا و الله لترجعن إلى دينهم.و قال ابن عباس هم اليهود.و قال السدي هم المنافقون قالوا ذلك استهزاء بالإسلام.و العموم يتناول الكل.و اختلفوا في سبب عيبهم الصرف عن القبلة فقيل إنهم قالوا ذلك على وجه الإنكار للنسخ.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْماً مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ مَا وَلاَّكَ عَنْ قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ارْجِعْ إِلَيْهَا نَتَّبِعْكَ وَ نُؤْمِنْ بِكَ وَ أَرَادُوا بِذَلِكَ فِتْنَتَهُ. الثالث أن مشركي العرب قالوا ذلك ليوهموا أن الحق ما هم عليه.و إنما صرفهم الله عن القبلة الأولى لما علم من تغيير المصلحة في ذلك و قيل إنما فعل ذلك لما قال تعالى وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ (1) لأنهم لما كانوا بمكة أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة فلما انتقل الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة كانت اليهود الذين بالمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس فنقلوا إلى الكعبة للمصالح الدينية الكثيرة من جملتها ليتميزوا من اليهود كما أراد في الأول أن يتميزوا من كفار مكة.

فصل

لا خلاف أن التوجه إلى بيت المقدس قبل النسخ كان فرضا واجبا ثم اختلفوا فقال الربيع كان ذلك على وجه التخيير خير الله نبيه صلّى اللّه عليه و آله بين أن3.

ص: 87


1- سورة البقرة:143.

يتوجه إلى بيت المقدس و بين أن يتوجه إلى الكعبة.

و قال ابن عباس و أكثر المفسرين كان ذلك فرضا معينا و هو الأقوى لقوله وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها فبين تعالى أنه جعلها قبلة و ظاهر ذلك أنه معين لأنه لا دليل على التخيير.و يمكن أن يقال إنه كان مخيرا بين أن يجعل الكعبة بينه و بين بيت المقدس في توجهه إليه و بين أن لا ينتقل لما كان بمكة.على أنه لو ثبت أنه كان مخيرا لما خرج عن كونه فرضا كما أن الفرض هو أن يصلي الصلاة في الوقت ثم هو مخير بين أوله و أوسطه و آخره.و قوله إِلاّ لِنَعْلَمَ أي ليعلم ملائكتنا و إلا فالله كان عالما به و قال المرتضى فيه وجها مليحا أي يعلم هو تعالى و غيره و لا يحصل علمه مع علم غيره إلا بعد حصول الاتباع فأما قبل حصوله فإنما يكون هو تعالى العالم وحده فصح حينئذ ظاهر الآية.و قوله مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ قيل فيه قولان أحدهما أن قوما ارتدوا عن الإسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيها من وجوه الحكمة و الآخر أن المراد به كل مقيم على كفره لأن جهة الاستقامة إقبال و خلافها إدبار و لذلك وصف الكافر بأنه أدبر و استكبر و قال لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى اَلَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلّى (1) عن الحق.

فصل

ثم قال وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً فالضمير يحتمل رجوعه إلى ثلاثة أشياء القبلة على قول أبي العالية و التحويلة على قول ابن عباس و هو الأقوى لأن القوم إنما ثقل عليهم التحول لا نفس القبلة و على قول ابن زيد الصلاة.و ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ في معناه أقوال قال ابن عباس لما6.

ص: 88


1- سورة الليل:15-16.

حولت القبلة قال ناس كيف أعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى و كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك فأنزله الله و قال الحسن إنه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة أتبعه بذكر ما لهم من المثوبة و أنه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه لأن التذكير به يبعث على ملازمة الحق و الرضا به الثالث قال البلخي إنه لما ذكر إنعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر السبب الذي استحقوه به و هو إيمانهم بما حملوه أولا فقال وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة (1).فإن قيل كيف جاز عليهم الشك فيمن مضى من إخوانهم فلم يدروا أنهم كانوا على حق في صلاتهم إلى بيت المقدس.قلنا الوجه فيه أنهم تمنوا و قالوا كيف لإخواننا لو أدركوا الفضل بالتوجه إلى الكعبة معنا فإنهم أحبوا لهم ما أحبوا لأنفسهم و كان الماضون في حسرة ذلك أو يكون قال ذلك منافق فخاطب الله المؤمنين بما فيه الرد على المنافقين.و إنما جاز أن يضيف الإيمان إلى الأحياء على التغليب لأن من عادتهم أن يغلبوا المخاطب على الغائب كما يغلبون المذكر على المؤنث فيقولون فعلنا بكما و بلغناكما و إن كان أحدهما حاضرا و الآخر غائبا.

فصل

ثم قال تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها (2) قال قوم إن هذه الآية نزلت قبل التي تقدمتها و هي قوله سَيَقُولُ السُّفَهاءُ .4.

ص: 89


1- أضاف المصدر الى مفعوله الثاني،أي استوجبتم بايمانكم أن يبلغكم اللّه تعالى الى ما تحبونه من التوجه الى الكعبة«ه ج».
2- سورة البقرة:144.

فإن قيل لم قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله وجهه في السماء قلنا عنه جوابان أحدهما أنه كان وعد بالتحويل عن بيت المقدس فكان يفعل ذلك انتظارا و توقعا لما وعد به.و الثاني أنه كان يحبه محبة طباع و لم يكن يدعو به حتى أذن له فيه لأن الأنبياء عليهم السّلام لا يدعون إلا بإذن الله لئلا يكون في ردهم تنفير عن قبول قولهم إن كانت المصلحة في خلاف ما سألوه و هذا الجواب مروي عن ابن عباس.و قيل في سبب محبة النبي صلّى اللّه عليه و آله التوجه إلى الكعبة ثلاثة أقوال أحدها أنه أراد مخالفة اليهود و التميز منهم و الثاني أنه أراد ذلك استدعاء للعرب إلى الإيمان.و الثالث أنه أحب ذلك لأنها كانت قبلة إبراهيم.و لو قلنا إنه أحب جميع ذلك لكان صوابا.

فصل

و شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه و تلقاه و عليه المفسرون و أهل اللغة.و عن الجبائي أراد بالشطر النصف فأمره أن يولي وجهه نصف المسجد حتى يكون مقابل الكعبة.و الأول أولى لأن اللفظ إذا كان مشتركا بين النصف و النحو ينبغي أن لا يحمل على أحدهما إلا بدليل و على الأول إجماع المفسرين.و قوله إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (1) هم اليهود عن السدي و قيل هم أحبار اليهود و علماء النصارى غير أنهم جماعة قليلة يجوز عليهم إظهار خلاف ما يبطنون لأن الجمع الكثير لا يتأتى ذلك منهم لما يرجع إلى العادة فإنها لم يجز ذلك مع اختلاف الدواعي و إنما يجوز العناد على النفر القليل.4.

ص: 90


1- سورة البقرة:144.

و هذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس قبل ذلك و عن ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة و قال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها.و هذا مما نسخ من السنة بالقرآن لأنه ليس في القرآن ما يدل على تعبده بالتوجه إلى بيت المقدس ظاهرا.و من قال إنها نسخت قوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ (1) فنقول له ليست هذه منسوخة بل هي مختصة بالنوافل في حال السفر على ما نذكره بعد.فأما من قال يجب على الناس أن يتوجهوا إلى الميزاب الذي على الكعبة و يقصدوه فقوله باطل على الإطلاق لأنه خلاف ظاهر القرآن.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَيْتُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَ قِبْلَتُهُ بَابُهُ. و هذا يجوز فأما أن يجب على جميع الخلق التوجه إليه فهو خلاف الإجماع.

فصل

وَ قَوْلَهُ تَعَالَى وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ رُوِيَ عَنِ الْبَاقِرِ وَ الصَّادِقِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَ قَوْلُهُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ قَالاَ هُوَ فِي النَّافِلَةِ (2).

وَ عَنِ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ أَتَى رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْأَشْهَلِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَ هُمْ قِيَامٌ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ قَدْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَرَفَ رَسُولَهُ نَحْوَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَصَرَفُوا وُجُوهَهُمْ نَحْوَهُ فِي بَقِيَّةِ صَلاَتِهِمْ (3). وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الهاء يعود إلى التحويل و قيل التوجه إلى الكعبة لأنه قبلة إبراهيم و جميع الأنبياء.3.

ص: 91


1- سورة البقرة:115.
2- تفسير البرهان 145/1.
3- وسائل الشيعة 214/3.

و عن عطا في قوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الحرم كله مسجد.و هذا مثل قول أصحابنا إن الحرم قبلة من كان نائيا عن الحرم من الآفاق.و اختلف الناس في صلاة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى بيت المقدس (1)فقال قوم كان يصلي بمكة إلى الكعبة فلما صار بالمدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس (2)سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة و قال قوم كان يصلى بمكة إلى البيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه و بينه ثم أمره الله بالتوجه إلى الكعبة (3).فإن قيل كيف قال وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (2) و قد آمن منهم خلق كثير.قلنا عن ذلك جوابان أحدهما قال الحسن إن المعنى أن جميعهم لا يؤمن و الثاني أنه مخصوص بمن كان معاندا من أهل الكتاب دون جميعهم الذين وصفهم الله تعالى يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ (3) .و قوله وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ معناه الدلالة على فساد مذاهبهم و تبكيتهم بها.و قوله وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أي ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم لأن النصارى يتوجهون إلى المشرق و اليهود إلى المغرب فبين الله أن إرضاء الفريقين محال.و قيل إنه لما كان النسخ مجوزا قبل نزول هذه الآية في القبلة أنزل الله الآية ليرتفع ذلك التجويز و كذلك ينحسم طمع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك و ظنوا أنه يرجع النبي إلى الصلاة إلى بيت المقدس.و قوله وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أي لا يصير النصارى كلهم يهودا و لا6.

ص: 92


1- انظر الأحاديث في ذلك في الوسائل 216/3-220. (2-3) الزيادتان من م.
2- سورة البقرة:145.
3- سورة البقرة:146.

اليهود كلهم نصارى أبدا كما لا يتبع جميعهم الإسلام.

فصل

ثم قال تعالى وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ كتموا أمر القبلة و هم يعلمون صحة ما كتموه و ما لمن دفع الحق من العذاب.و الهاء في يَعْرِفُونَهُ عائدة على أمر القبلة في قول ابن عباس و قال الزجاج هي عائدة على أنهم يعرفون حق النبي صلّى اللّه عليه و آله و صحة أمره.و إنما قال وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ و في أول الآية قال يَعْرِفُونَهُ على العموم لأن أهل الكتاب منهم من أسلم و أقر بما عرف فلم يدخل في جملة الكاتمين كعبد الله بن سلام و كعب الأحبار و غيرهما ممن دخل الإسلام.فإن قيل كيف قال يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ و هم لا يعرفون في الحقيقة أن أبناءهم أبناؤهم و يعرفون أن محمدا هو النبي المبعوث المبشر به في الحقيقة.قلنا التشبيه وقع بين المعرفة بالابن في الحكم و هي معرفة تميزه بها من غيره و بين المعرفة بأنه هو النبي المبشر به في الحقيقة فوقع التشبيه بين معرفتين إحداهما أظهر من الأخرى فكل من ربى ولدا كثيرا و رآهم سنين و سمى هذا أحمدا و ذا محمدا و ذا عليا و ذا حسنا و ذا حسينا فإنه يميز بينهم بحيث لا يلتبس عليه ذلك بحال.

فصل

ص: 93

و قوله وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فيه أقوال أحدها أن لكل أهل ملة من اليهود و النصارى وجهة و ثانيها أن لكل نبي وجهة واحدة و هي الإسلام و إن اختلفت الأحكام كما قال لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً (1) أي شرائع الأنبياء.و ثالثها هو صلاتهم إلى بيت المقدس و صلاتهم إلى الكعبة و رابعها أن لكل قوم من المسلمين وجهة وراء الكعبة أو قدامها أو عن يمينها أو عن شمالها.و الوجهة القبلة و مُوَلِّيها في قول مجاهد مستقبلها.و قيل في تكرار قوله فَوَلِّ وَجْهَكَ إنه لما كان فرضا نسخ ما قبله كان من مواضع التأكيد لينصرف الناس إلى الحالة الثانية بعد الحالة الأولى و يثبتون عليه على يقين.و قيل في تكرير قوله وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ إن الاختلاف لاختلاف المعنى و إن اتفق اللفظ لأن المراد بالأول من حيث خرجت (2)منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس فول وجهك شطر المسجد الحرام و المراد بالثاني أين كنت من البلاد فتوجه نحو المسجد الحرام مستقبلا كنت لظهر القبلة أو وجهها أو يمينها أو شمالها.و في قوله وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ محذوف و اجتزئ بدلالة الحال عن دلالة الكلام قال الزجاج عرفتكم ذلكم كيلا يكون لأهل الكتاب حجة لو جاء على خلاف ما تقدمت به البشارة في الكتب السالفة من أن المؤمنين سيوجهون إلى الكعبة. إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا استثناء منقطع أي لكن الظالمين منهم يتعلقون بالشبهة و يضعونها موضع الحجة فلذلك حسن الاستثناء و هو كقوله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ (3)7.

ص: 94


1- سورة المائدة:48.
2- الزيادة من م.
3- سورة النساء:157.

باب ستر العورة و ذكر المكان و اللباس مما يجوز الصلاة عليه و فيه و ذكر الأذان و الإقامة

ستر السوأتين (1)على الرجال مفروض و ما عدا ذلك مسنون و على النساء الحرائر يجب ستر جميع البدن قال تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (2) يعني البسوا لباسا مأمورا به عند كل صلاة مع التمكن.و الزينة هاهنا باتفاق المفسرين ما يوارى به العورة قالوا أمر الله بأخذ الزينة و لا خلاف أن التزين ليس بواجب و الأمر في الشريعة على الوجوب فلا بد من حمله على ستر العورة.

و يدل عليه أيضا قوله يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى (3) قال علي بن موسى القمي دل ذلك على وجوب ستر العورة.و قال غيره إنما يدل ذلك على أنه أنعم عليهم بما يقيهم الحر و البرد و ما يتجملون به و يصح اجتماع القولين.و إنما قال أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً لأن ما يتخذ هو منه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء و هو القطن و الكتان و جميع ما ينبت من الحشيش و الرياش الذي يتجمل به.و لِباسُ التَّقْوى هو الذي يقتصر عليه من أراد التواضع و النسك في العبادة من لبس الصوف و الشعر و الوبر و الخشن من الثياب و قيل هو ما يكون مما ينبت من الأرض و شعر و صوف ما يؤكل لحمه من الحيوان و قيل التقدير

ص: 95


1- السوأتان القبل و الدبر،و يقال لهما السوأتان لانه يسوء الإنسان عند الكشف عنهما،كما سيذكر بعد هذا.
2- سورة الأعراف:31.
3- سورة الأعراف:26.

و لباس التقوى خير لكم إذا أخذتم من الريش و أقرب لكم إلى الله منه و الريش ما فيه الجمال كالخز الخالص و نحوه مما أباحه الله و منه ريش الطائر.و الحمل على جميع ذلك أولى لفقد الاختصاص فالحرير الخالص غير محرم على النساء على حال و إذا كان مخلطا بالقطن و نحوه فللرجال أيضا حلال.

فصل

و هذه الآية خطاب من الله تعالى لأهل كل زمان من المكلفين على ما يصح و يجوز من وصول ذلك إليهم كما يوصي الإنسان ولده و ولد ولده و إن نزلوا بتقوى الله و إيثار طاعته.و يجوز خطاب المعدوم بمعنى أن يراد بالخطاب إذا كان المعلوم أنه سيوجد و تتكامل فيه شرائط التكليف و لا يجوز أن يراد من لا يوجد لأن ذلك عبث لا فائدة فيه.على أن الآية كانت خطابا للمكلفين الموجودين في ذلك الزمان و لكل من يكون حكمهم حكمه.و قوله تعالى يُوارِي سَوْآتِكُمْ أي يستر ما يسوؤكم انكشافه من الجسد لأن السوء ما إذا انكشف عن البدن يسوء و العورة ترجع إلى النقيصة في البدن.و قوله يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي تناولوا زينتكم و هي اللبسة الحسنة و يسمى ما يتزين به زينة من الثياب الجميلة و نحو ذلك.قال الزجاج هو أمر بالاستتار في الصلاة قال أبو علي و لهذا صار التزيين للجمع و الأعياد سنة و قال مجاهد هو ما وارى العورة و لو عباءة.

وَ قَوْلُهُ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي الْجُمُعَاتِ وَ الْأَعْيَادِ (1).

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.2.

ص: 96


1- تفسير البرهان 8/2.

و قالوا لما أباح الله تناول الزينة و حث عليه و ندب إليه و هناك قوم يحرمون كثيرا من الأشياء من هذا الجنس قال الله تعالى منكرا لذلك قُلْ يا محمد مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ .

فصل

و جلد ما يؤكل لحمه يجوز فيه الصلاة إذا كان مذكى مشروعا.و جلود الميتة لا تطهر بالدباغ و كذا جلود ما يذكيه أهل الخلاف و الدليل على ذلك مضافا إلى إجماع الطائفة

قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1) و هذا تحريم مطلق يتناول أجزاء الميتة في كل حال.و جلد الميتة يتناوله اسم الموت لأن الحياة تحله و ليس بجار مجرى العظم و الشعر و هو بعد الدباغ يسمى جلد ميتة كما يسمى قبل الدباغ فينبغي أن يكون حظر التصرف لاحقا به.فأما دلالته على أن الشعر و الصوف و الريش منها و الناب و العظم كلها محرم فلا يدل عليه لأن ما لم تحله الحياة لا يسمى ميتة.و كذلك جلد ذبائح أهل الكتاب و كل من خالف الإسلام أو من أظهره و دان بالتجسم و الصورة و قال بالجبر و التشبيه أو خالف الحق فعندنا لا يجوز الانتفاع به على وجه و لا يصح الصلاة فيه لعموم الآية قال تعالى وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ (2) .

فصل

و قوله تعالى لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ (3) .5.

ص: 97


1- سورة المائدة:3.
2- سورة الأنعام:121.
3- سورة النحل:5.

قال ابن عباس الدفء لباس من الأكسية و غيرها كأنه سمي بالمصدر من دفئ يومنا دفاء و نظيره الكن و قال الحسن يريد ما استدفئ به من أوبارها و أصوافها و أشعارها و الدفء خلاف البرد و منه رجل دفآن (1).

و قال تعالى وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ (2) يعني قمصا من الكتان و القطن (3)و خص الحر بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر لأمرين أحدهما أن الذين خوطبوا به أهل حر في بلادهم و الثاني أنه ترك ذلك لأنه معلوم.

فصل

و قال تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (4) .قيل المراد بالمساجد في الآية بقاع الأرض كلها

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَرْضَ لِي مَسْجِداً (5). فالأرض كلها مسجد يجوز الصلاة فيه إلا ما كان مغصوبا أو نجسا فإذا زال الغصب و النجاسة منه فحكمه حكمها و روى ذلك زيد بن علي عن آبائه عليهم السّلام.1.

ص: 98


1- قال ابن فارس:الدال و الفاء و الهمزة أصل واحد يدلّ على خلاف البرد،فالدفء خلاف البرد،يقال دفؤ يومنا و هو دفيء..قال الاموى:الدفء عند العرب نتاج الإبل، و هو قوله جل ثناؤه«لكم فيها دفء و منافع»-معجم مقاييس اللغة 287/2.
2- سورة النحل:81.
3- السرابيل جمع السربال،و هو ما يلبس من قميص او درع-معجم الفاظ القرآن الكريم 581/1.
4- سورة البقرة:114.
5- مستدرك الوسائل 156/1.

فصل

و قال تعالى وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً (1) .النداء في الآية الدعاء بمد الصوت في الأذان و نحوه.أخبر الله عن صفة الكفار الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بأنهم إذا نادى المؤمنون للصلاة و دعوا إليها اتخذوها هزوا و لعبا.و في معنى ذلك قولان أحدهما قال قوم إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم و تغامزوا على طريق السخف و المجون تجهيلا لأهلها و تنفيرا للناس عنها و عن الداعي إليها.و الثاني أنهم كانوا يرون المنادي إليه بمنزلة اللاعب الهاذي بفعلها جهلا منهم بمنزلتها و قال أبو ذهيل الجمحي

و أبرزتها من بطن مكة بعد ما أصاب المنادي بالصلاة و اعتما

فالاستدلال بهذه الآية يمكن على الأذان و كذا بقوله إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (2) .و الأذان للمنفرد سنة على كل حال و كذا الإقامة و واجبان في صلاة الجمعة إذا اجتمعت شرائطها لأن تلك الجماعة واجبة و لا تنعقد إلا بهما و يقال على الإطلاق إنهما واجبان في الجماعة لخمس صلوات و قيل يتأكد ندبهما.و قد بين رسول الله أحكامها كما أمره الله بقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ و قد علمه الله.9.

ص: 99


1- سورة المائدة:58.
2- سورة الجمعة:9.

و الأذان في اللغة اسم للإعلام (1)قائم مقام الإيذان كما أن العطاء اسم للإعطاء و هو في الأصل علم سمعي قال تعالى وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ (2) .و الأذان في الشرع إعلام الناس بحلول وقت الصلاة و قال السدي كان رجل من النصارى بالمدينة يسمع المؤذن ينادي أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله قال حرق الكاذب و القائل كان منافقا فدخلت خادمة له بعد ذلك ليلة بنار فسقطت شرارة فاحترق البيت و احترق هو و أهله.و قد بينا أن المؤذن في اللغة كل من تكلم بشيء نداء و أذنته و آذنته و يستعمل ذلك في العلم الذي يتوصل إليه بالسماع كقوله فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ (3)

باب ما يقارن حال الصلاة

قال الله تعالى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (4) .قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت هذه الآية.و قد دلت على أن القيام مع القدرة و الاختيار واجب في الصلاة.و قال تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (5) .تدل هذه الآية على أن النية للصلاة و لسائر العبادات واجبة و ذلك أن الإخلاص

ص: 100


1- قال ابن فارس:الهمزة و الذال و النون اصلان متقاربان في المعنى متباعدان في اللفظ:احدهما اذن كل ذى اذن،و الآخر العلم..تقول العرب«قد أذنت بهذا الامر»اى علمت،و آذننى فلان اعلمنى..و من الباب الاذان،و هو اسم التأذين-معجم مقاييس اللغة 77/1.
2- سورة الحجّ:27.
3- سورة البقرة:279.
4- سورة البقرة:238.
5- سورة البينة:5.

بالديانة هو التقرب إلى الله بعملها مع ارتفاع الشوائب و التقرب لا يصح إلا بالعقد عليه و النية له ببرهان الدلالة.

وَ رُوِيَ عَنِ الرِّضَا عَنْ آبَائِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَنَّهُ قَالَ: لاَ قَوْلَ إِلاَّ بِعَمَلٍ وَ لاَ قَوْلَ وَ لاَ عَمَلَ إِلاَّ بِنِيَّةٍ وَ لاَ عَمَلَ وَ لاَ نِيَّةَ إِلاَّ بِإِصَابَةِ السُّنَّةِ وَ مَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ أُمَّتِي كَانَ لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ (1). و محل النية القلب و ذلك لأن النية هي الإرادة المخصوصة التي تؤثر في وقوع الفعل على وجه دون وجه و لا يكون من فعل غيره و بها يقع الفعل عبادة و واقعا موقع الوجوب أو الندب

وَ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (2). و لا يجوز في تكبيرة الافتتاح إلا قول الله أكبر مع القدرة عليه لأن المسلمين قد أجمعوا على أن من قاله انعقدت صلاته بلا خلاف و إذا أتى بغيره فليس على انعقادها دليل فالاحتياط يقتضي ما قلناه.و قال قوم إن قوله وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (3) أمر بذلك و هو على الإيجاب شرعا و كذا قوله وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (4) .و قيل معناه صل لله طاهرا في ثياب طاهرة فكنى بالتكبير عن الصلاة و لو لا وجوب التكبير في الصلاة لما كنى به عنها و هذا كقوله الحج عرفة.

فصل

القراءة شرط في صحة الصلاة قال تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (5)0.

ص: 101


1- وسائل الشيعة 33/1 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2- وسائل الشيعة 34/1.
3- سورة الإسراء:111.
4- سورة المدّثّر:3.
5- سورة المزّمّل:20.

و قال فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ (1) و الأمر في الشريعة يقتضي الإيجاب.

وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2). و هذا تفصيل ما أجمله الآيتان ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ .و قال تعالى وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ (3) أي صلاة الفجر فسمى الله الصلاة قرآنا إعلاما بأنها لا تتم إلا بالقراءة.و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا (4) لما كان الله في كثير من الآيات أمر بالصلاة جملة ثم نص على بعض أفعالها تنبيها على عظم محله و كبر شأنه كذلك أمر بالركوع و السجود مفردا تفخيما لمنزلتهما في الصلاة أي صلوا على ما أمرتكم به من الركوع و السجود ثم أمرهم تعالى بعد ذلك بأوامر فقال وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ إلى أن أمر مرة أخرى بإقامة الصلاة فقال فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ و كل هذا يدل على شدة التأكيد في الركوع و السجود و أنهما ركنان من الصلاة على ما ذكرناه لا تتم إلا بهما مع الاختيار أو ما يقوم مقامهما مع الاضطرار.و التسبيح فيهما واجب أيضا و الدليل عليه

مَا رُوِيَ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (5) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (6) قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ضَعُوا هَذَا فِي سُجُودِكُمْ (7). و هذان أمران يقتضيان الوجوب.1.

ص: 102


1- سورة المزّمّل:20.
2- مستدرك الوسائل:274/1.
3- سورة الإسراء:78.
4- سورة الحجّ:77.
5- سورة الحاقة:51-52.
6- سورة الأعلى:2.
7- من لا يحضره الفقيه 315/1.

فصل

إن سأل سائل عن قوله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (1) أن قوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ يدخل فيها الركوع فلم قال وَ ارْكَعُوا و هل هذا إلا تكرار.قلنا هذا أولا يدل على أن الركوع ركن من أركان الصلاة على بعض الوجوه لا تصح من دونه فهذا إنما ذكره للتفخيم و التعظيم لشأن الركوع كقوله وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ (2) و كما قال فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ (3) و فعل الركوع يعبر به أيضا عن الصلاة بتمامها فقول القائل فرغت من ركوعي أي من صلاتي و إنما يعبر به عنها لأنه أول ما يشاهد مما يدل على أن الإنسان في الصلاة لأن أصل الركوع الانحناء.و قال بعض المفسرين إن المأمورين في الآية هم أهل الكتاب و لا ركوع في صلاتهم فكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك لأنه أبعد من اللبس فأمرهم الله بالصلاة على ما يرونها من أمرهم بضم الركوع إليها و الأمر شرعا على الوجوب.و يمكن أن يقال إن قوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ إنما يفيد إيجاب إقامتها و يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها و يجوز أن يكون أيضا إشارة إلى الصلاة الشرعية فلما قال وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ حتى مع هؤلاء المسلمين الراكعين فخصصت بالصلاة المنفردة في الشرع فلا يكون تكرارا بل يكون بيانا.و قيل فيه وجه لطيف و هو أنه لما أمر بالصلاة بقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ8.

ص: 103


1- سورة البقرة:43.
2- سورة البقرة:98.
3- سورة الرحمن:68.

حث بقوله وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ على صلاة الجماعة لتقدم الصلاة للمنفرد في أول الآية و يجيء بيانها في بابها.

فصل

و قال تعالى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (1) .قال الطبري المراد لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ يعني صلاة النهار العجماء (2)وَ لا تُخافِتْ بِها يعني صلاة الليل التي يجهر بها في القراءة (3)فالجهر في صلاة الغداة واجب و كذلك في الركعتين الأوليين من العشاءين.فأما صلاة النهار فهي عجماء كما ذكرناه يجب في الظهر و العصر جميعا المخافتة إلا في الجمعة يوم الجمعة و في الركعتين الأوليين من الظهر أيضا من يوم الجمعة فإنه يستحب الجهر فيهما.و قيل إنه نهي من الله تعالى عن الجهر العظيم في حال الصلاة و عن المخافتة الشديدة و أمر بأن يتخذ بين ذلك طريقا وسطا فأقل الجهر أن تسمع من يليك و أكثر المخافتة أن تسمع نفسك و لا مانع من الحمل على القولين لعمومه.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِمَكَّةَ كَانَ إِذَا صَلَّى يَجْهَرُ بِصَلاَتِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ فَسَمِعَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَشَتَمُوهُ وَ آذَوْهُ وَ أَرَادُوا أَصْحَابَهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِتَرْكِ الْجَهْرِ.

"وَ عَنْ عَائِشَةَ: الْمُرَادُ بِالصَّلاَةِ هَاهُنَا الدُّعَاءُ أَيْ لاَ تَجْهَرْ بِدُعَائِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهِ وَ لَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ. و يجوز أن يكون جميع ما ذكرناه مرادا لأنه لا مانع.و قال قوم هذا خطاب لكل واحد من المصلين و المعنى لا تجهر أيها5.

ص: 104


1- سورة الإسراء:110.
2- عبر عنها بالعجماء لأنّها لا تبين لاخفات الصوت فيها.
3- تفسير الطبريّ 125/15.

المصلي بصلاتك تحسنها مراءاة في العلانية و لا تخافت بها تسيء في القيام بها في السريرة.و صلاة الغداة يجهر بها و إن كانت من صلاة النهار لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله صلاها في غلس الصبح.

فصل

و قال قوم يمكن أن يستدل على أن الصلاة على النبي و آله في التشهد واجب

بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (1) و هو أمر و هو في الشرع على الوجوب.و الإجماع حاصل باستحباب الصلاة على النبي و آله في كل موضع و على كل حال.و وجوبها لا يعتبر إلا في التشهد و القنوت في كل صلاة مستحب في الموضع المخصوص منها يدل عليه قوله تعالى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (2) قال صاحب العين القنوت في الصلاة دعاء بعد القراءة في آخر الركعتين يدعو قائما.فإذا قيل القنوت هو القيام الطويل هاهنا.قلنا المعروف في الشريعة أن هذا الاسم يختص الدعاء و لا يعرف من إطلاقه سواه (3)على أنا نحمله على الأمرين لأنه عام.و يجوز الدعاء في الصلاة أين شاء المصلي منها و الحجة بعد إجماع الطائفة ظاهر أمر الله بالدعاء على الإطلاق قال تعالى قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا1.

ص: 105


1- سورة الأحزاب:56.
2- سورة البقرة:238.
3- قال الجوهريّ:القنوت الطاعة،هذا هو الأصل،و منه قوله تعالى «وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ» ،ثمّ سمى القيام في الصلاة قنوتا،و في الحديث«افضل الصلاة طول القنوت»، و منه قنوت الوتر-صحاح اللغة 261/1.

اَلرَّحْمنَ (1) و قال اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (2) .و قال قوم القنوت السكوت و قوله قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ يدل على أن الكلام و التحدث في الصلاة محظور نهى الله عنه و هذا التأويل أيضا غير مستبعد مع أنه لا ينافي ما قدمناه و يجوز أن يكون الكل مرادا.

فصل

و يجب القراءة في الركعتين الأوليين على التضيق للمنفرد و المصلي مخير في الركعتين الأخيرتين بين القراءة و التسبيح و يمكن أن يستدل عليه

بقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3) لأن ظاهر هذا القول يقتضي عموم الأحوال كلها التي من جملتها أحوال الصلاة.و لو تركنا و ظاهر الآية قلنا إن القراءة واجبة كلها تضييقا لكن لما دل الدليل على وجوبها في الأوليين على التضيق و في الأخيرتين يجب على التخيير للمنفرد قلنا بجواز التسبيح في الأخيرتين إلا أن الأثر ورد بأن القراءة للإمام في الأخيرتين أيضا أفضل من التسبيح.و افتتاح الصلاة المفروضة يستحب بسبع تكبيرات يفصل بينهن بتسبيح و ذكر الله و الوجه فيه بعد إجماع الفرقة المحقة هو أن الله ندبنا في كل الأحوال إلى تكبيره و تسبيحه و أذكاره الجميلة و ظواهر آيات كثيرة من القرآن تدل عليه مثل قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (4) فوقت افتتاح الصلاة داخل في عموم الأخبار التي أمرنا فيها بالأذكار.2.

ص: 106


1- سورة الإسراء:110.
2- سورة غافر:60.
3- سورة المزّمّل:20.
4- سورة الأحزاب:41-42.

و يجب الطمأنينة في الركوع و السجود و كذا بعد رفع الرأس منهما.و قد بين النبي صلّى اللّه عليه و آله كيفية الصلاة من الفرائض و السنن و ما يترك لأمر الله بذلك قال تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ و رواها علماء أهل البيت و على صحة جميع ذلك إجماع الطائفة و هو دليل قاطع ففي أول ركعة ثلاثة عشر فعلا مفروضا و كذا في كل ركعة إلا النية و تكبيرة الإحرام (1)

باب هيآت الصلاة

قال الله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) .أمر منه تعالى لنبيه و يدخل فيه جميع المكلفين يأمرهم الله بالصلاة و أن ينحروا.قال قوم معناه صل لربك الصلاة المكتوبة و استقبل القبلة بنحرك تقول العرب منازلنا تتناحر أي تتقابل أي هذا ينحر ذا يعني يستقبله و أنشد

أبا حكم هل أنت عم مجالد و سيد أهل الأبطح المتناحر (3).

و هذا قول الفراء.

وَ رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِجَبْرَئِيلَ مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا رَبِّي قَالَ لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ وَ إِنَّمَا يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلاَةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ وَ إِذَا رَكَعْتَ وَ إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ وَ إِذَا سَجَدْتَ فَإِنَّهُ صَلاَتُنَا وَ صَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةً وَ إِنَّ زِينَةَ الصَّلاَةِ رَفْعُ الْأَيْدِي عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ (4).

ص: 107


1- الزيادة من ج.
2- سورة الكوثر:2.
3- لبعض بنى اسد،لسان العرب(نحر).
4- تفسير البرهان 514/4.و هو حديث عامى انظر الدّر المنثور 403/6.

و أما ما رووه عن علي عليه السّلام أن معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة (1)فمما لا يصح عنه لأن جميع عترته الطاهرة قد رووا عنه بخلاف ذلك و هو أن معناه ارفع يديك إلى النحر في الصلاة حسب ما قدمناه.

وَ كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ هُوَ رَفْعُ يَدَيْكَ حِذَاءَ وَجْهِكَ (2)وَ رَوَى مِثْلَهُ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ: (3).

وَ قَالَ حَمَّادُ بْنُ عُثْمَانَ: سَأَلْتُهُ مَا النَّحْرُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ فَقَالَ هَكَذَا يَعْنِي اسْتَقْبَلَ بِيَدَيْهِ الْقِبْلَةَ فِي اسْتِفْتَاحِ الصَّلاَةِ (4).

وَ عَنْ جَمِيلٍ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا يَعْنِي اسْتَقْبَلَ بِيَدَيْهِ حَذْوَ وَجْهِهِ الْقِبْلَةَ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ (5).

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: رَفْعُ الْأَيْدِي مِنَ الاِسْتِكَانَةِ قِيلَ وَ مَا الاِسْتِكَانَةُ قَالَ أَ لاَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (6) . و قد أورد الثعلبي و الواحدي في تفسيريهما الحديث الذي قدمناه عن الأصبغ عن علي عليه السّلام و جعلا هذا الخبر من تمامه و هو الصحيح.

وَ رَوَى جَمَاعَةٌ: عَنِ الْبَاقِرِ وَ الصَّادِقِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فِي قَوْلِهِ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (7) أَنَّ التَّبَتُّلَ هُنَا رَفْعُ الْأَيْدِي فِي الصَّلاَةِ (8)4.

ص: 108


1- الدّر المنثور 403/6.
2- وسائل الشيعة 728/4.
3- تهذيب الأحكام 66/2.
4- مجمع البيان 550/5.
5- وسائل الشيعة 728/4.
6- الدّر المنثور 403/6.
7- سورة المزّمّل:8.
8- تفسير البرهان 397/4.

وَ فِي رِوَايَةٍ: هُوَ رَفْعُ يَدَيْكَ إِلَى اللَّهِ وَ تَضَرُّعُكَ إِلَيْهِ (1). و العموم يتناولهما.

فصل

و قال تعالى وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً (2) .قال الفراء و الزجاج المساجد مواضع السجود من الإنسان الجبهة و اليدان و الرجلان.و زاد في رواية أصحابنا عنهم عليهم السّلام تفصيلا فقالوا في قوله وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ السجود على سبعة أعظم فريضة الجبهة و اليدين و الركبتين و طرف أصابع الرجلين (3).و المعنى أنه لا ينبغي أن يسجد بهذه الأعضاء لأحد سوى الله أي أن الصلاة لا تجب إلا لله لأنها عبادة و العبادة غاية الشكر و الشكر يجب على النعمة و غاية الشكر التي هي العبادة تجب على أصول النعمة و هي خلق الحياة و القدرة و الشهوة (4)و غيرها مما لا يدخل تحت مقدور القدر و لا يقدر على أصول النعمة غير الله فلا تجب العبادة إلا له تعالى.و قال تعالى فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً أي لا تراءوا أحدا نهاهم الله عن الرياء في الصلاة حتى لا يراءوا بها غيره فإنها لا تكون مقبولة إلا إذا كانت خالصة لله تعالى.و السجود على هذه الأعضاء السبعة واجب و وضع الأنف على الأرض سنة و كنايتهم عليهم السّلام فيه الإرغام بالأنف سنة (5).4.

ص: 109


1- تفسير البرهان 397/4.
2- سورة الجن:18.
3- انظر وسائل الشيعة 954/4-955.
4- كلمة لا تقرأ في النسختين.
5- انظر وسائل الشيعة 954/4.

و قال بعضهم الأنف و الجبهة عظم واحد فلا تقبل صلاة لا يصيب الأنف منها ما يصيب الجبهة و هذا لشدة تأكيد الندب في ذلك.

فصل

قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (1) .قال مجاهد هو غض الطرف و خفض الجناح أي بقيت أعمالهم الصالحة فهم خافضون متذللون فيها لله.و قيل الخشوع هو أن ينظر المصلي إلى موضع سجوده في حال القيام و ينظر في حال الركوع إلى ما بين قدميه أو يغمض عينه في هذه الحالة و أما في حال السجود فإلى طرف أنفه و في جلوسه إلى حجره.و روي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يرفع بصره إلى السماء فلما نزلت هذه الآية طأطأ رأسه و نظر إلى مصلاه (2).و إنما أعاد ذكر الصلاة هاهنا بقوله وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (3) مع جري ذكرها في الآية المقدمة لأنه أمر بالخشوع في أول الآيات و أمر في آخرها بالمحافظة عليها و القراءة بالتوحيد لأن الصلاة اسم جنس يقع على القليل و الكثير أي لا يضيعونها و هم يواظبون على أدائها.و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام أن معناه الذين يحافظون على مواقيت الصلاة فيؤدونها في أوقاتها و لا يؤخرونها حتى يخرج وقتها (4)و به قال أكثر المفسرين.2.

ص: 110


1- سورة المؤمنون 1-2.
2- الدّر المنثور 3/5.
3- سورة المؤمنون:9.
4- تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ 89/2.

فصل

و قوله يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ (1)

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ صَلاَةٌ.

وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ قَوْماً بِأَنَّهُمْ إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلاَةِ تَرَكُوا تِجَارَتَهُمْ وَ بَيْعَهُمْ وَ اشْتَغَلُوا بِالصَّلاَةِ (2). و هذان الوقتان من أصعب ما يكون على المتبايعين و هما الغداة و العشي.و قوله قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ (3) إنما أضاف الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد و العدل لأن فيها التعظيم لله عند التكبير و فيها تلاوة القرآن التي تدعو إلى كل بر و فيها الركوع و السجود و هما غاية خضوع لله و فيها التسبيح الذي هو تنزيه الله تعالى.و إنما جمع بين صلاته و حياته و إحداهما من فعله و الأخرى من فعل الله لأنهما جميعا بتدبير الله.و الكيفيات المفروضة في أول ركعة ثمانية عشر و في أصحابنا من يزيد في العدد (4)و إن كانت الواجبات بحالها في القولين.،.

ص: 111


1- سورة النور:35-36.
2- تفسير البرهان 139/2.
3- سورة الأنعام:162-163.
4- من يزيد في العدد و يقول احدى و عشرون كيفية كما ذكره المصنّف رضي اللّه عنه في كتاب«فرائض العبادات»،و هى:مقارنة النية بتكبيرة الاحرام لأول الصلاة،و استمرار حكم النية الى حين الفراغ،و قول«اللّه أكبر»خاصّة و لا يتلفظ مكانه«اللّه و أكبر»أو «اللّه الكبير»او نحوه فانه لا يجزئ،و قراءة الحمد و سورة اخرى معها في الفرض مع القدرة و الاختيار،و الترتيب بين الحمد و السورة يبدأ بقراءة الحمد اولا،و الاخفات فيما يخافت فيه،و الجهر فيما يجهر فيه،و الترتيب بين القراءة و الركوع يقرأ اولا ثمّ يركع،.

و في الركعة الثانية مثلها إلا كيفية النية و كيفية التكبير.و في التشهد يجب ستة أشياء و يستدل عليها من فحوى الآيات التي تقدم ذكرها و من الآيات التي يأتي بيانها من بعد.

فصل

قال الله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (1) .و معنى الآية حث على مراعاة الصلوات و مواقيتهن و أن لا يقع فيها و لا في شرائطها و لا في أفعالها و لا في كيفياتها التي بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجوبها تضييع و تفريط و هذا عام في جميع واجباتها من الأفعال و التروك و كيفياتها و الفرائض و السنن.و قوله اَلصَّلاةِ الْوُسْطى هي العصر فيما روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و عن علي عليه السّلام و عن ابن عباس و الحسن (2)و قال ابن عمر و زيد بن ثابت إنها الظهر و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السّلام (3)و قال قبيصة بن ذؤيب هي المغرب و قال جابر هي الغداة و عن ابن عمر هي واحدة من الخمس غير مميزة.و قال الحسن بن علي المغربي المعني بها صلاة الجماعة لأن الوسط1.

ص: 112


1- سورة البقرة:238.
2- الدّر المنثور 302/1-305.
3- تفسير البرهان 231/1.

العدل فلما كانت صلاة الجماعة (1)أفضلها خصت بالذكر و هذا وجه مليح غير أنه لم يذهب إليه غيره.فمن جعلها العصر قال لأنها بين صلاتي النهار و صلاتي الليل و إنما حث عليها زيادة لأنها وقت شغل الناس في غالب الأمر.و من قال إنها صلاة الظهر قال لأنها وسط النهار و لأنها أول صلاة فرضت فلها بذلك فضل.و من قال هي المغرب قال لأنها وسط في الطول و القصر من بين الصلوات فهي أول صلاة الليل و قد رغب الله في الصلاة بالليل.و أما من قال هي الغداة قال لأنها بين الظلام و الضياء و هي صلاة لا تجمع معها غيرها.و من حمل الصلاة الوسطى على صلاة الجماعة جعل الصلوات على عمومها من الفرائض.و من حملها على واحدة من الصلوات على الخلاف فيه اختلفوا فمنهم من قال أراد بقوله عَلَى الصَّلَواتِ ما عدا هذه الصلاة حتى لا يكون عطف الشيء على نفسه و منهم من قال لا يمتنع لمن يريد بالأول جميع الصلوات و خص هذه الصلاة بالذكر تعظيما لها و تأكيدا لفضلها و شرفها كقوله وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ (2) .

فصل

اعلم أن الله تعالى لما حث على الطاعة بقوله وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ (3) خص بعده الصلاة بالمحافظة عليها لأنها أعظم الطاعات فقال حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ7.

ص: 113


1- الزيادة من ج.
2- سورة البقرة:97.
3- سورة البقرة:237.

أي داوموا على الصلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها ثم خص الوسطى تفخيما لشأنها ثم اختلف فيها على ستة أقوال على ما ذكرنا.و أكد من ذكر أنها الظهر

بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَبَّحَ كُلُّ شَيْءٍ لِرَبِّنَا فَأَمَرَ اللَّهُ بِالصَّلاَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَ هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي تُفَتَّحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَلاَ تُغْلَقُ حَتَّى يُصَلَّى الظُّهْرُ وَ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ. و ذكر أنها الجمعة يوم الجمعة و الظهر سائر الأيام.و من ادعى أنها العصر أكد قوله

بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ (1)فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَ مَالَهُ. و من ذكر أنها المغرب أكد قوله

بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ لَمْ يَحُطَّهَا اللَّهُ عَنْ مُسَافِرٍ وَ لاَ مُقِيمٍ فَتَحَ اللَّهُ بِهَا صَلاَةَ اللَّيْلِ وَ خَتَمَ بِهَا صَلاَةَ النَّهَارِ فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَ صَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْراً فِي الْجَنَّةِ وَ مَنْ صَلَّى بَعْدَهُمَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَنْبَ عِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. و من زعم أنها صلاة العشاء الآخرة قال لأنها بين صلاتين لا يقصران

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلِهِ. و من قال إنها إحدى الصلوات الخمس لم يعينها الله و أخفاها في جملة المكتوبات كلها ليحافظوا على كلها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان و اسمه الأعظم في جميع أسمائه و ساعة الإجابة في ساعات الجمعة.و من قال إنها صلاة الفجر دل عليه أيضا من التنزيل بقوله وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (2) يعني تشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار و هي مكتوب في ديوان الليل و ديوان النهار و لأنها صلاة لا تجمع مع غيرها كما تقدم فهي منفردة بين مجتمعتين فقد جمع النبي صلّى اللّه عليه و آله بين الظهر و العصر و جمع بين المغرب8.

ص: 114


1- في ج«من فاتته صلاة العصر».
2- سورة الإسراء:78.

و العشاء بالمزدلفة فصلاة الظهر متآخية لصلاة العصر و كذا المغرب للعشاء و صلاة الغداة منفردة.و يستحب الجمع في هذين الموضعين يعني عرفة و المشعر على الرجال و النساء في أي يوم كان من الأسبوع و في أية ليلة كانت سوى ليلة الجمعة أو غيرها من الليالي و لا يستحب الجمع في غيرهما من المواضع بل هو رخصة سواء كان في الحضر أو السفر إلا في يوم الجمعة فإنه يستحب فيه الجمع بين الظهر و العصر لا غير في كل بقعة و على كل حال.و يلزم النساء خاصة الجمع بين الظهر و العصر و الجمع بين المغرب و العشاء الآخرة في بعض وجوه استحاضتهن.

فصل

ثم قال تعالى في آخر الآية وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ أي داعين و القنوت هو الدعاء في الصلاة في حال القيام و هو المروي عنهما عليهما السّلام (1)و قيل ساكتين لأنهم نهوا بذلك عن الكلام في الصلاة و قيل خاشعين فنهوا عن العبث و الالتفات في الصلاة فالالتفات فيها إلى خلف محظور و إلى ما سواه من الجوانب مكروه.و الأصل في القنوت الإتيان بالدعاء و غيره من العبادات في حال القيام (2)و يجوز أن يطلق في سائر الطاعات فإنه و إن لم يكن فيه القيام الحقيقي فإن فيه القيام بالعبادة.5.

ص: 115


1- أي عن الباقر و الصادق عليهما السلام،انظر البرهان 231/1.و ذكر القنوت في روايات اخرى أيضا بمعنى الإطاعة و الرغبة و المحافظة على الصلوات.
2- قال ابن فارس:و الأصل فيه الطاعة،يقال قنت يقنت قنوتا،ثمّ سمى كل استقامة في طريق الدين قنوتا،و قيل لطول القيام في الصلاة قنوت،و سمى السكوت في الصلاة و الاقبال عليها قنوتا،قال اللّه تعالى «وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ» -معجم مقاييس اللغة 31/5.

و استدل الشافعي على أنها هي الغداة بقوله وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ بمعنى و قوموا فيها لله قانتين و هذا في جميع الصلوات عندنا.و القنوت جهرا في كل صلاة

وَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَانَ يُصَلِّي الْهَاجِرَةَ وَ كَانَتْ أَثْقَلَ الصَّلَوَاتِ عَلَى أَصْحَابِهِ فَلاَ يَكُونُ وَرَاءَهُ إِلاَّ الصَّفُّ وَ الصَّفَّانِ فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحْرِقَ عَلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ بُيُوتَهُمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ (1) .

فصل

و قوله إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (2) .لا خلاف بين الأمة أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام حين تصدق بخاتمه و هو راكع روى ذلك المغربي عن أبي بكر الرازي و الطبري و الرماني و مجاهد و السدي و قالوا المعني بالآية هو الذي آتى الزكاة في حال الركوع و هو قول أهل البيت عليهم السّلام (3).و أجمعت الأمة على أنه لم يؤت الزكاة في الركوع غير أمير المؤمنين عليه السّلام (4).و في هذه الآية دلالة على أن العمل القليل لا يفسد الصلاة.و قيل في قوله وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ (5) هو وضع الجبهة و الأنف في السجود على الأرض.1.

ص: 116


1- الدّر المنثور 298/1.
2- سورة المائدة:55.
3- الدّر المنثور 293/2،تفسير البرهان 479/1.
4- الزيادة من ج.
5- سورة طه:111.

فصل

و قوله تعالى وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (1) قال قوم معناه متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها فأقمتها أو فات وقتها فاقضها سواء فاتت عمدا أو نسيانا.و قيل معناه أقم أيها المكلف الصلاة لتذكرني فيها بالتسبيح و التعظيم و إني أذكرك (2)بالمدح و الثواب.و قال تعالى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ (3) أي تركوها و قيل أي أخروها عن مواقيتها و هو الذي رواه أصحابنا.و قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (4) و هذا تهديد لمن يؤخرها عن وقتها لأنه تعالى قال عَنْ صَلاتِهِمْ و لم يقل ساهون فيها و إنما ذم من وقع منه السهو مع أنه ليس من فعل العبد بل هو من فعل الله لأن الذم توجه في الحقيقة على التعرض للسهو بدخوله فيها على وجه الرياء و قلبه مشغول بغيرها لا يرى لها منزلة تقتضي صرف الهمة إليها.

وَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمَّارٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أَ هِيَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ قَالَ لاَ كُلُّ أَحَدٍ يُصِيبُهُ هَذَا وَ لَكِنْ أَنْ يَغْفُلَهَا وَ يَدَعَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا (5).

وَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ: سَأَلْتُهُ أَيْضاً عَنْ قَوْلِهِ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قَالَ هُوَ التَّرْكُ لَهَا وَ التَّوَانِي عَنْهَا (6).4.

ص: 117


1- سورة طه:14.
2- كذا في م و في ج«و لان اذكر بالمدح».
3- سورة مريم:59.
4- سورة الماعون:4-5. (5-6) تفسير البرهان 511/4.

وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: هُوَ التَّصْنِيعُ لَهَا (1).

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا. و قيل يريد المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابا إن صلوا و لا يخافون عليها عقابا إن تركوا فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها فإذا كانوا مع المؤمنين صلوها رياء و إذا لم يكونوا معهم لم يصلوا و هو قوله اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ .و قيل ساهون عنها لا يبالون صلوا أو لم يصلوا.و عن أبي العالية هم الذين لا يصلونها لمواقيتها و لا يتمون ركوعها و لا سجودها هم الذين إذا سجدوا قالوا برءوسهم هكذا و هكذا ملتفتين.

"وَ قَالَ أَنَسٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ عَنْ صَلاتِهِمْ وَ لَمْ يَقُلْ فِي صَلاَتِهِمْ. أراد بذلك أن السهو الذي يقع للإنسان في صلاته من غير عزم لا يعاقب عليه.

فصل

و قوله تعالى فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ (2) .خاطب محمدا صلّى اللّه عليه و آله و المراد به هو و جميع المكلفين أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله لأن بعد القراءة لا تكون الاستعاذة إلا عند من لا يعتد بخلافه.و قيل هو التقديم و التأخير و هذا ضعيف لأن ذلك لا يجوز مع ارتفاع اللبس و الشبهة.و الاستعاذة عند التلاوة مستحبة إلا عند أهل الظاهر فإنهم قالوا فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ أمر و هو على الإيجاب و لو لا الرواية عن أهل البيت أنها مستحبة و على صحتها إجماع الطائفة لقلنا بوجوبها.و التعوذ في الصلاة مستحب في أول ركعة دون ما عداها و تكراره في كل8.

ص: 118


1- تفسير البرهان:511/4.
2- سورة النحل:98.

ركعة يحتاج إلى دليل و لا دليل.و يسر في التعوذ في جميع الصلوات و يجب الجهر ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في الحمد و في كل سورة بعدها في كل صلاة يجب الجهر فيها و تجب قراءته لأنه آية من كل سورة و الدليل عليه إجماعنا الذي تقدم أنه حجة فإن كانت الصلاة مما لا يجهر فيها استحب الجهر ب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيها.و اختلف فيه أيضا فقيل إنه مقصور على الركعتين الأوليين من الظهر و العصر و الأظهر أنه على العموم في جميع المواضع التي كانت فيها من الصلوات.و قالوا في قوله وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ (1) أي اقرأ أيها المخاطب بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في أول كل سورة.

فصل

قال الله تعالى وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى قوله بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (2) .تدل هذه الآية أن من قرأ بغير العربية معنى القرآن بأي لغة كانت في الصلاة كانت صلاته باطلة لأن ما قرأه لم يكن قرآنا.و إن وضع لفظا عربيا موضع لفظ من القرآن يكون معناهما واحدا فكمثله فإنه تعالى وصف اللسان بصفتين أ لا ترى أنه تعالى أخبر أنه أنزل القرآن بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ و قال تعالى إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (3) فأخبر أنه أنزله عربيا.فمن قال إذا كان بغير العربي فهو قرآن فقد ترك الآية و قال تعالى وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ (4) و عند أبي حنيفة أرسل الله رسوله بكل لسان.4.

ص: 119


1- سورة المزّمّل:8.
2- سورة الشعراء:92-95.
3- سورة يوسف:2.
4- سورة إبراهيم:4.

و إذا ثبت أنه بغير العربية لا يكون قرآنا سقط قولهم و ثبت أنها لا تجزي.على أن من يحسن الحمد لا يجوز أن يقرأ غيرها

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كُلُّ صَلاَةٍ لَيْسَ فِيهَا فَاتِحَةٌ فَهِيَ خِدَاجٌ (1). فإن لم يحسن الحمد وجب عليه أن يتعلمها فإن ضاق عليه الوقت و أحسن غيرها قرأ ما يحسن فإن لم يحسن إلا بعض سورة قرأه فإن لم يحسن شيئا أصلا ذكر الله و كبره و لا يقرأ معنى القرآن بغير العربية.

فصل

و قوله تعالى وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها (2) .يدل على أنه يجوز للمصلي أن يدعو لدينه و دنياه و لإخوانه لأنه قال فَادْعُوهُ و لم يستثن حال الصلاة و ظاهره في عرف الشرع الاستغراق و العموم فلا مانع.و إذا سلم عليه و هو في الصلاة رد عليه مثله يقول سلام عليكم و لا يقول و عليكم السلام فإنه يقطع الصلاة.و يمكن أن يكون الوجه في ذلك أن لفظة سَلامٌ عَلَيْكُمْ من ألفاظ القرآن يجوز للمصلي أن يتلفظ بها تاليا للقرآن و ناويا لرد السلام إذ لا تنافي بين الأمرين قال الله تعالى وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها (3) .قال الحسن و جماعة من متقدمي المفسرين إن السلام تطوع و الرد فرض لقوله فَحَيُّوا و الأمر شرعا على الوجوب فإذا أطلق الأمر و لم يقيده بحال دون حال فالمصلي إذا سلم عليه و هو في الصلاة فليرد عليه مثل ذلك.6.

ص: 120


1- وسائل الشيعة 733/4.و الخداج-بكسر الخاء-النقصان،يقال«خدجت الناقة»اذا ألقت ولدها قبل الاوان-النهاية لابن الأثير 12/2.
2- سورة الأعراف:180.
3- سورة النساء:86.

و سمعت بعض مشايخي مذاكرة أنه مخصوص بالنوافل و الأظهر أنه على العموم.

وَ مِنْ شُجُونِ الْحَدِيثِ: 1 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ دَعَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَ هُوَ فِي الصَّلاَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَوَبَّخَهُ وَ قَالَ أَ لَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ (1) .

فصل

و قوله تعالى اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (2) أي يصلون على قدر إمكانهم في صحتهم و سقمهم و هو المروي في أخبارنا (3)لأن الصلاة يلزم التكليف ما دام عقله ثابتا فإن لم يتمكن من الصلاة لا قائما و لا قاعدا و لا مضطجعا فليصل موميا يبدأ بالصلاة بالتكبير و يقرأ فإذا أراد الركوع غمض عينيه فإذا رفع رأسه فتحهما و إذا أراد السجود غمضهما و إذا رفع رأسه فتحهما و إذا أراد السجود الثاني غمضهما و إذا رفع رأسه فتحهما و على هذا صلاته.و قوله فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (4) إن كان صلى ركعة مستلقيا هكذا ثم قوي على أن يصلي مضطجعا أو كان صلى مضطجعا و قدر أن يصلي قاعدا أو كان يصلي قاعدا فقوي أن يصلي قائما رجع إليه.و كذا على عكسه إن صلى ركعة قائما فضعف عن القيام صلى الباقي قاعدا.3.

ص: 121


1- سورة الأنفال:24.
2- سورة آل عمران:191.
3- تفسير البرهان 332/1.
4- سورة النساء:103.

و عن ابن مسعود نزلت هذه الآية في صلاة المريض لقوله وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ .و العريان إذا كان بحيث لا يراه أحد صلى قائما و إذا كان بحيث لا يأمن أن يراه أحد صلى جالسا للآية و لقوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) .

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فِي تَرْكِهِ لِلصَّلاَةِ إِلاَّ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ. و هذا يدل على عظم حال الصلاة.

فصل

و قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (2) .يستدل بهذه الآية على أن من ترك الصلاة متعمدا يجب قتله البتة على بعض الوجوه لأن الله تعالى أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرطين أحدهما أن يتوبوا من الشرك و الثاني أن يقيموا الصلاة فإذا لم يقيموا وجب قتلهم.ثم قال فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ (3) تقديره فهم إخوانكم.أما قوله وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً (4) فمعناه أنه إخبار من الله تعالى أنه لم يكن صلاة هؤلاء الكفار تلك الصلاة التي أمروا بها فأخبر تعالى بذلك لئلا يظن ظان أن الله لا يعذبهم مع كونهم مصلين و مستغفرين ثم قال تعالى وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (5) .و إنما سمى الله مكاءهم صلاة لأنهم يجعلون ذلك مكان الصلاة و الدعاء4.

ص: 122


1- سورة الحجّ:78.
2- سورة التوبة:5.
3- سورة التوبة:11.
4- سورة الأنفال:35.
5- سورة الأنفال:34.

و التسبيح المشروع و المكاء الصفير و التصدية التصفيق و لأنهم كانوا يعملون كعمل الصلاة مما في هذا و قيل كان بعضهم يتصدى البعض ليراه بذلك الفعل و كان يصفر له

باب قضاء الصلاة و تركها

اعلم أن القضاء هو فرض ثان يدل عليه السنة على سبيل التفصيل و يستدل عليه من القرآن بقوله وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ (1) على طريق الجملة و على ما قدمناه في قوله وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (2) .ثم من كان مخاطبا بالصلاة ففاتته فإن كان كافرا في الأصل فالصلاة الفائتة منه في حال كفره لا يلزمه قضاؤها و إن كان مخاطبا بالشرائع بالدليل القاطع و عموم قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (3) يشهد ببراءة ذمته التي هي الأصل و السنة قد فصلت أنه لا يلزمه قضاؤها.فأما من كان على ظاهر الإسلام بالغا كامل العقل فإن جميع ما يفوته من الصلوات بعذر و غير عذر يلزمه قضاؤها حسب ما فاتته إن سفرا فسفر و إن حضرا فحضر و كذا ما يفوته في حال النوم المعتاد أو حال السكر أو تناول الأشياء المرقدة.و إن كان على مذهب فاسد كالتشبيه و نحوه و كان صلى أو لم يصل فإذا استبصر وجب عليه قضاء جميع ذلك.

ص: 123


1- سورة الكهف:24.
2- سورة طه:14.
3- سورة النساء:31.

فصل

و قوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ (1) أي يخلف كل واحد منهما صاحبه مما يحتاج أن يعمل فيه فمن فاته عمل الليل استدركه بالنهار و من فاته عمل النهار استدركه بالليل على الفور و هو قوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً .عن أكثر المفسرين أن الله أراد أن يجعل الليل و النهار وقتين للمتذكرين و الشاكرين من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر.

وَ عَنْ عَنْبَسَةَ الْعَابِدِ: سَأَلْتُ الصَّادِقَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً قَالَ قَضَاءُ صَلاَةِ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ وَ قَضَاءُ صَلاَةِ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ (2).

وَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: قَالَ فِي قَوْلِهِ وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً يُقْضَى صَلاَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ وَ صَلاَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ (3). و قوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ كلام مجمل يفسره

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَوَقْتُهَا حِينَ يَذْكُرُهَا (4). يعني إذا ذكر أنها فاتته قضاها لقوله تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي3.

ص: 124


1- سورة الفرقان:62.
2- تفسير البرهان 173/3.
3- تفسير البرهان 173/3.
4- وسائل الشيعة 348/3.

باب ذكر صلاة الليل و ذكر جميع النوافل

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ (1) .و هذا أمر من الله لنبيه صلّى اللّه عليه و آله بقيام جميع الليل إلا القليل منه و الخطاب معه حين التف بثيابه تأهبا للصلاة و قيل التف بثيابه للنوم و قال الحسن إن الله فرض على النبي و المؤمنين أن يقوموا ثلث الليل فما زاد فقاموا حتى تورمت أقدامهم ثم نسخ تخفيفا عنهم و قال غيره هو فعل لم ينسخ لأنه لو كان فرضا لما خير في ذلك و إنما بين تخفيف الثقل.و قال قوم المرغب فيه قيام ثلث الليل أو نصف الليل أو الليل كله إلا القليل و إنما لم يرغب بالآية في قيام جميعه لأنه تعالى قال إِلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يعني على النصف.و قال الزجاج نصفه بدل من الليل بدل البعض من الكل كقوله ضرب زيد رأسه و المعنى قم نصف الليل أو زد على نصف الليل و ذلك قبل أن يتعبد بالصلوات الخمس.و عن ابن عباس و غيره كان بين أول السورة و آخرها الذي نزل فيه التخفيف سنة و قال ابن جبير عشر سنين و قال الحسن و عكرمة نسخت الثانية الأولة و الأولى أن يكون الكلام على ظاهره و يكون جميع ذلك سنة مؤكدة إلا أنه ليس بفرض.

فصل

و

قوله وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (2) أمر من الله له بأن يرتل القراءة.

ص: 125


1- سورة المزّمّل:1-2.
2- سورة المزّمّل:4.

و الترتيل ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها و تبيين الإعراب تثبت فيها و الحدر هو الإسراع فيها و كلاهما حسن إلا أن الترتيل هاهنا هو المرغب فيه.و ناشِئَةَ اللَّيْلِ (1) ساعات التهجد من الليل و قال أبو جعفر و أبو عبد الله عليهما السّلام هو القيام آخر الليل إلى صلاة الليل (2).و المعنى أن عمل الليل أشد ثباتا من عمل النهار و أثبت في القلب من عمل النهار لأنه يواطئ فيه القلب اللسان لانقطاع الشغل و فراغ القلب و ثوابه أعظم لأن عمل الليل أشد على البدن من عمل النهار.ثم قال إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ (3) في الناس من قال هذه الآية ناسخة لما في أول السورة من الأمر الحتم بقيام الليل إلا قليلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ .و قال آخرون إنما نسخ ما كان فرضا إلى أن صار نفلا.و قد قلنا الأمر في أول السورة على وجه الندب فكذا هاهنا فلا تنافي بينهما حتى ينسخ بعضها ببعض.

فصل

و قوله وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (4) البكرة الغداة و الأصيل العشي و هو أصل الليل. وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ (5) دخلت من للتبعيض يعني فاسجد له في بعض الليل6.

ص: 126


1- سورة المزّمّل:6.
2- مجمع البيان 378/4.
3- سورة المزّمّل:20.
4- سورة الإنسان:25.
5- سورة الإنسان:26.

لأنه لم يأمر بقيام جميع الليل كما قال إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ (1) و المعنى أن ربك يعلم يا محمد أنك تقوم أدنى أي أقرب و أقل من ثلثي الليل و نصفه و ثلثه أي أقل من نصفه و من ثلثه و الهاء تعود إلى الليل أي نصف الليل و ثلث الليل معناه أنك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين و في بعضها قريبا من نصف الليل و في بعضها قريبا من ثلثه.و قيل إن الهاء تعود إلى الثلثين أي و أقرب من نصف الثلثين و من ثلث الثلثين و إذا نصبت فالمعنى و تقوم نصفه و ثلثه و يقوم طائفة من الذين معك.و قوله تعالى وَ اللّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (2) أي يقدر أوقاتهما لتعلموا منها على ما يأمركم به. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي تطيقوا المداومة على قيام الليل و يقع منكم التقصير فيه فَتابَ عَلَيْكُمْ بأن جعله تطوعا و لم يجعله فرضا و قيل أي فخفف عليكم. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3) الآن يعني في الصلاة عند أكثر المفسرين.و أجمعوا أيضا على أن المراد بالقيام المتقدم في قوله قُمِ اللَّيْلَ هو القيام إلى الصلاة إلا أبا مسلم فإنه قال أراد القيام لقراءة القرآن. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى و ذلك يقتضي التخفيف عنكم وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ أي و منكم قوم آخرون يسافرون للتجارة و طلب الأرباح و منكم قوم آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فكل ذلك يقتضي التخفيف عنكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ .

وَ رُوِيَ عَنِ الرِّضَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ قَالَ: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ لَكُمْ فِيهِ خُشُوعُ الْقَلْبِ وَ صَفَاءُ السِّرِّ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ لِحُدُودِهَا الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ.0.

ص: 127


1- سورة المزّمّل:20.
2- سورة المزّمّل:20.
3- سورة المزّمّل:20.

فصل

و قوله تعالى كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (1) .قال الزهري كانُوا يعني المتقين الذين وعدهم بالجنات قليلا ما يهجعون بالليل في دار التكليف أي كان هجوعهم قليلا فتكون ما مصدرية و قال الحسن ما صلة و تقديره كانوا يهجعون هجوعا قليلا و قال قتادة كان هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة و العبادة.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (2) فِي الْوَتْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ سَبْعِينَ مَرَّةً (3).

وَ قَالَ فِي قَوْلِهِ كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أَيْ كَانُوا أَقَلَّ اللَّيَالِي يَفُوتُهُمْ لاَ يَقُومُونَ فِيهَا وَ كَانَ الْقَوْمُ يَنَامُونَ وَ لَكِنْ كُلَّمَا انْقَلَبَ أَحَدُهُمْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ اللَّهُ أَكْبَرُ (4).

وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي قَوْلِهِ وَ أَقْوَمُ قِيلاً (5) قِيَامُ الرَّجُلِ عَنْ فِرَاشِهِ يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ لاَ يُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ (6). و قال مجاهد في قوله وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (7) أي يصلون في السحر.و عن الحسن يطلبون من الله المغفرة و الحمل عليهما للعموم أحسن.8.

ص: 128


1- سورة الذاريات:17.
2- سورة الذاريات:18.
3- تفسير البرهان:232/4.
4- تفسير البرهان:232/4.
5- سورة المزّمّل:6.
6- تفسير البرهان:397/4.
7- سورة الذاريات:18.

و السحر الوقت قبل طلوع الفجر و هو من أفضل الأوقات قال تعالى اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (1) أي المصلين بها يسألون المغفرة فيها و قد تطلب المغفرة بالصلاة كما تطلب الدعاء.و قال عمران بن حصين في قوله وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (2) هي الصلاة فيها شفع و وتر.

وَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَ الْباقِياتُ الصّالِحاتُ (3) هِيَ الْقِيَامُ آخِرَ اللَّيْلِ لِصَلاَةِ اللَّيْلِ وَ الدُّعَاءُ فِي الْأَسْحَارِ. و سميت باقيات لأن منافعها تبقى و تنفع أهلها في الدنيا و الآخرة بخلاف ما نفعه مقصور على الدنيا فقط و قيل هي قوله سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر (4)عقيب الصلوات و في غيرها (5).

فصل

و قوله تعالى وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ (6) .خاطب نبيه صلّى اللّه عليه و آله و من للتبعيض و التهجد التيقظ بما ينفي الهجود و هو النوم كالتأثم و التحرج.قال المبرد التهجد عند أهل اللغة السهر للصلاة أو لذكر الله فإذا سهر9.

ص: 129


1- سورة آل عمران:17.
2- سورة الفجر:3.
3- سورة الكهف:46،سورة مريم:76.
4- تفسير البرهان 21/3.
5- في العباب:روى كعب بن عجرة«رض»عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنه قال:معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن:دبر كل صلاة ثلاث و ثلاثون تسبيحة و ثلاث و ثلاثون تحميدة و أربع و ثلاثون تكبيرة،قال شمر:أراد بالمعقبات تسبيحات تخلف بأعقاب الناس.قال: المعقبات من كل شيء ما خلف ما بعده«ه ج». اقول:يمكن أن يقال سميت«معقبات»لانها اذكار تقال عقيب الصلوات.
6- سورة الإسراء:79.

للصلاة قيل تهجد و إذا أراد النوم قيل هجد (1).و النافلة فعل ما فيه الفضيلة مما رغب الله فيه و لم يوجبه (2).و قوله نافِلَةً لَكَ وجه هذا الاختصاص هو أنه أتم الترغيب لما في ذلك من الصلاح لأمته في الاقتداء به و الدعاء إلى الاستئذان بسنته.و روي أنها فرضت عليه و لم تفرض على غيره فكانت فضيلة له ذكره ابن عباس و إليه أشار أبو عبد الله عليه السّلام (3).و السنة مضافة إلى الله من حيث دلنا عليها و على تحريم الحرام منها و تحليل الحلال و تضاف إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله من حيث سمعناها منه و كان هو المبتدئ بها.

فصل

و قوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ (4) عنهما عليهما السّلام إن الآية متناولة لمن يقوم إلى صلاة الليل عن لذة مضجعة في وقت السحر (5)و قد مدح الله القائمين بالليل قال تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ (6) هو ما يظهر في وجوههم من السهر بالليل عن ابن عباس أثر صلاتهم يظهر في وجوههم و عن زين العابدين عليه السّلام خلوا بالله فكساهم نورا من نوره.9.

ص: 130


1- قال ابن فارس:الهاء و الجيم و الدال اصيل يدلّ على ركود في مكان،يقال «هجد»اذا نام هجودا،و الهاجد النائم،و ان صلى ليلا فهو متهجد،كأنّه بصلاته ترك الهجود عنه-معجم مقاييس اللغة 34/6.
2- النافلة عطية عن يد،و النفل و النافلة ما يفعله الإنسان ممّا لا يجب عليه-لسان العرب(نفل).
3- تفسير البرهان 438/2.
4- سورة السجدة:16.
5- تفسير البرهان 284/3.
6- سورة الفتح 29.

وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ سَبْعِينَ مَرَّةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1) وَ قَالَ فِي قَوْلِهِ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (2) إِنَّ ذَلِكَ فِي النَّوَافِلِ يَدْعُونَ عَلَيْهَا وَ فِي قَوْلِهِ وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (3) فِي الْفَرَائِضِ وَ الْوَاجِبَاتِ. و قوله وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (4) قال أبو الأحوص معناه حين تقوم من نومك.و قيل معناه صل النوافل بحمد ربك حين تقوم من نوم القائلة قبل فريضة الظهر مِنَ اللَّيْلِ يعني حين تقوم من النوم فصل نوافل الليل وَ إِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر قبل الفرض وَ أَدْبارَ السُّجُودِ نوافل المغرب

باب أحكام الجمعة

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ (5) .من هاهنا بمعنى في الدالة على الظرفية بدليل أن النداء للصلاة المشار إليها في وسط الجمعة و لو كانت من التي تختص بابتداء الغاية لكان النداء في أول يوم الجمعة فهو على إضمار مصدر محذوف حذف لدلالة الكلام عليه و معناه إذا سمعتم أذان يوم الجمعة فامضوا إلى الصلاة.

ص: 131


1- سورة الذاريات:18.
2- سورة المعارج:34.
3- سورة المؤمنون:9.
4- سورة الطور:48.
5- سورة الجمعة:9.

قال قتادة امضوا إلى الصلاة مسرعين غير متغافلين و قال الزجاج المعنى فامضوا لا السعي الذي هو الإسراع قال و قرأ ابن مسعود فامضوا إلى ذكر الله ثم قال لو علمت الإسراع لأسرعت حتى يقع ردائي من كتفي قال و كذلك كان يقرأ قال الحسن و الله ما أمروا إلا بأن يأتوا الصلاة و عليهم الوقار و السكينة و قال الزجاج أي اقصدوا و السعي التصرف في كل عمل يدل عليه قوله وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (1) أي بما عمل و منه قوله لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (2) .

وَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: السَّعْيُ قَصُّ الشَّارِبِ وَ نَتْفُ الْإِبْطِ وَ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَ الْغُسْلُ وَ التَّطَيُّبُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَ لُبْسُ أَفْضَلِ الثِّيَابِ وَ الذِّكْرُ (3). خاطب الله المؤمنين أنه إذا أذن لصلاة الجمعة و كذلك إذا صعد الإمام المنبر يوم الجمعة و ذلك لأنه لم يكن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سواه (4)فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ أي فامضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين و قيل ما هو السعي على الأقدام و لكن بالقلوب و النية و الخشوع فقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا و عليهم السكينة و الوقار.و قال السائب بن يزيد كان لرسول الله مؤذن واحد و هو بلال فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة ثم كان أبو بكر و عمر كذلك حتى إذا كان في عهد عثمان و كثر الناس و تباعدت المنازل زاد أذانا فأمر بالتأذين الأول على سطح دار له بالسوق فإذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه فإذا نزل أقام للصلاة فلم يعب ذلك عليه (5).د.

ص: 132


1- سورة النجم:36.
2- سورة طه:15.
3- تفسير البرهان 334/4 مع بعض الاختلاف في الألفاظ.
4- أي سوى هذا الاذان«ه ج».
5- الدّر المنثور 218/6 ما هو بمضمونه عن السائب بن يزيد.

و ليس هذا دليلا شرعيا

بَلْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ.

فصل

اعلم أن فرض الجمعة يلزم جميع المكلفين لعموم

ص: 133

أن الله تعالى قد دعاه إلى كل واحدة من الصلاة على التخيير و لم يحظر عليه الجمع بينهما إذا شاء فوجب أن يكون الفرض أحدهما على الإبهام فلم يتعين بحكم شرعي.و قال آخرون إذا لم يمكنه السعي إلى الجمعة و إن كان مقيما ففرضه أربع.و يكره السفر يوم الجمعة قبل الصلاة لأنه مانع من أفعال الخير و كل ما يمنع من الأفضل في الأعمال مكروه.

فصل

ص: 134

و فيها دلالة على أن الخطاب للأحرار لأن العبد لا يملك البيع و على اختصاص الجمعة بمكان و لذلك أوجب السعي إليه.فإن قيل هل يجوز أن يخطب رجل و يصلي آخر.قلنا لا و ذلك أن السنة ثبتت بخلافه و لم يحفظ عن أحد من أئمة الإسلام أنه تفرد بالصلاة دون الخطبة فثبت أن فعل ما في السؤال بدعة و استدل من فحوى الآية بعضهم على ذلك.و الإمام إذا عقد صلاة الجمعة بتكبيرة الإحرام ثم تفرق عنه الناس بعد دخولهم فيها معه تمم هو ركعتين و لم يصل أربعا الظهر فإنه عقدها جمعة عقدا صحيحا فلم ينقض ما عقده فعل من غيره لم يتعد إلى صلاته بالفساد و يدل عليه قوله وَ تَرَكُوكَ قائِماً .

فصل

و قوله تعالى فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي إذا صليتم الجمعة و فرغتم عنها تفرقوا في الأرض و اطلبوا الرزق في الشراء و البيع و هذا إباحة و رخصة و ليس بأمر بل رفع الحظر الذي أوقعه بقوله وَ ذَرُوا الْبَيْعَ .و قد أطبقوا على أن هذا الأمر الوارد بعد الحظر يقتضي الإباحة و الصحيح أن حكم لفظ الأمر الواقع بعد الحظر (1)هو حكم أمر المبتدإ على الوجوب أو الندب أو الوقف على الحالين فهو كذلك بعد الحظر و هذا قوي في الدلالة على وجوب هذه الصلاة على هذه الهيئة لأنها لو لم تجب لكان الانتشار مباحا قبل إتمامها و يدخل في الانتشار سائر التصرف خصوصا مع ذكر ابتغاء الفضل.و قيل في قوله وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ أي اطلبوا من فضله بعمل الطاعةج.

ص: 135


1- الزيادة من ج.

و الدعاء له تعالى و عيادة المريض و حضور الجنائز و زيارة الإخوان في الله و اذكروا إحسانه لتفلحوا و قيل هذا أمر بزيادة التعقيب الذي يستحب يوم الجمعة و العموم يتناول جميع ذلك.و الإمام إذا قرب من الزوال ينبغي أن يصعد المنبر و يأخذ في الخطبة بمقدار ما إذا خطب الخطبتين زالت الشمس فإذا زالت نزل فصلى بالناس و فحوى الآية يدل عليه.و يفصل بين الخطبتين بجلسة كلا و لا و هذا التفصيل يعلم بعمل رسول الله و قوله من القرآن على الجملة قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .و هذا الفصل بينهما سنة عندنا و قال الشافعي و أبو حنيفة هو واجب.و يحرم الكلام على من حضر و يجب عليه الإصغاء إلى الخطبتين لأنهما بدل من الركعتين.و لا يذكر فيهما إلا الحق و إلا فلا جمعة له.و من دخل المسجد و الإمام يخطب فلا يتطوع لأن ذلك شاغل له عن سماع الخطبة و استماعها أفضل من التطوع بالصلاة إذ هو بدل من ركعتي فرض الظهر في سائر الأيام على ما روي (1).و من وجد الإمام قد رفع رأسه من الركوع في الثانية فقد فاتته الجمعة و عليه الظهر أربع ركعات.و من أدرك مع الإمام ركعة فإذا سلم الإمام قام فأضاف إليها ركعة أخرى يجهر فيها و قد تمم جمعته.

فصل

وَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي

الْأَرْضِ قَالَ الصَّلاَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَ الاِنْتِشَارُ يَوْمَ السَّبْتِ (1).5.

ص: 136


1- انظر وسائل الشيعة 14/5.

الْأَرْضِ قَالَ الصَّلاَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَ الاِنْتِشَارُ يَوْمَ السَّبْتِ (1).

وَ فِي الْخَبَرِ: أَنَّ اللَّهَ بَارَكَ لِأُمَّتِي فِي خَمِيسِهَا وَ سَبْتِهَا لِأَجْلِ الْجُمُعَةِ.

وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنِّي لَأَرْكَبُ فِي الْحَاجَةِ الَّتِي كَفَاهَا اللَّهُ مَا أَرْكَبُ فِيهَا إِلاَّ الْتِمَاسَ أَنْ يَرَانِيَ اللَّهُ أُضْحِي فِي طَلَبِ الْحَلاَلِ أَ مَا تَسْمَعُ قَوْلَ اللَّهِ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ (2) .

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنِ اغْتَسَلَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ وَ لَبِسَ صَالِحَ ثِيَابِهِ وَ مَسَّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَ زِيَادَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَهَا (3). و قيل المراد بالذكر هاهنا الفكر و قيل اذكروا الله في تجارتكم و أسواقكم.و لا يجوز الخطبة إلا قائما قال تعالى وَ تَرَكُوكَ قائِماً فإن خطب لعذر جالسا جاز لقوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .و يجوز رد السلام و تسميت العاطس و الإمام يخطب إذ لم يحظر ذلك كتاب و لا سنة.

فصل

ثم أخبر الله عن جماعة قابلوا الكرم باللؤم

فقال وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها .سبب نزوله

مَا رُوِيَ: أَنَّهُ أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ وَ غَلاَءُ سِعْرٍ فَقَدِمَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ بِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ دَقِيقٍ وَ بُرٍّ وَ غَيْرِهِمَا وَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ2.

ص: 137


1- من لا يحضره الفقه 424/1.
2- نور الثقلين 347/5.
3- هذا المضمون في صحيح البخاريّ 4/2.

يَخْطُبُ وَ ذَاكَ قَبْلَ أَنْ أَسْلَمَ دِحْيَةُ وَ جَعَلَ يَضْرِبُ بِطَبْلٍ لِيُعْلَمَ بِقُدُومِهِ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا إِلَى الْبَيْعِ خَشْيَةَ أَنْ يُسْبَقُوا [إِلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً وَ انْفَضَّ الْآخَرُونَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَوْ تَبَايَعْتُمْ حَتَّى لاَ يَبْقَى] (1)مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَاراً وَ لَوْ لاَ هَؤُلاَءِ لَسُوِّمَتْ لَهُمُ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. و روي أنهم استقبلوه باللهو أي تفرقوا عنك خارجين إليها و مالوا و نحوها و رَأَوْا تِجارَةً أي عاينوها و قيل علموا بيعا و شراء لَهْواً و هو الطبل و قيل المزامير و الضمير للتجارة و خصت بالذكر إليها دون اللهو لأمرين أحدهما أن التجارة كانت أهم إليهم و هم بها آسر من الطبل الثاني أنهم انصرفوا إلى التجارة و اللهو كان معهم فأي حاجة بالضمير إليه (2).

فصل

وَ قَوْلُهُ وَ تَرَكُوكَ قائِماً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ انْصَرَفُوا إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً تَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ (3). و سئل ابن مسعود أ كان النبي يخطب قائما فقال أ ما تقرأ وَ تَرَكُوكَ قائِماً .و قال جابر بن سمرة ما رأيت رسول الله خطب إلا و هو قائم فمن حدثك أنه خطب و هو جالس فكذبه.و أول من استراح على المنبر هو عثمان كان يخطب قائما فإذا أعيا جلس و أول من خطب (4)جالسا معاوية.ج.

ص: 138


1- الزيادة من ج.
2- انظر أسباب النزول للواحدى ص 286،تفسير البرهان 336/4.
3- نور الثقلين 330/5.
4- الزيادة من ج.

وَ رُوِيَ فِي قَوْلِهِ وَ تَرَكُوكَ قائِماً أَيْ قَائِماً فِي الصَّلاَةِ (1). ثم قال قل يا محمد لهم ما عند الله من الثواب على سماع الخطبة أحمد عاقبة من ذلك و الله يرزقكم و إن لم تتركوا الخطبة و الجمعة.و في بعض القراءة حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى و هي صلاة العصر وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (2) في الصلاة الوسطى (3).قالوا نزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول الله في سفر فقنت فيها و تركها على حالها في السفر و الحضر (4).و قوله إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (5) أي مفروضا إنها خمس بخمسين حصل التخفيف مع أجر خمسين صلاة لقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (6)

باب الجماعة و أحكامها

قال الله تعالى وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (7) .و هذا أمر منه تعالى للمكلفين بصلاة الجماعة لأنه تعالى قال قبله وَ أَقِيمُوا

ص: 139


1- مجمع البيان 289/5.
2- سورة البقرة:238.
3- هذه العبارة وردت في تفسير البرهان في حديث عن الباقر عليه السلام هكذا «و في بعض القراءات «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى و صلاة العصر وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ» قال:و نزلت هذه الآية يوم الجمعة..»و هي الصحيح.
4- تفسير البرهان:231/1.
5- سورة النساء:103.
6- سورة الأنعام:160.
7- سورة البقرة:43.

اَلصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ أمر بهذه اللفظة بواجباتها و نوافلها و التكرار في الكلام لغير فائدة غير مستحسن فيجب أن يكون قوله وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ بعده دالا على صلاة الجماعة سواء كانت الجماعة واجبة أو مندوبا إليها فالأمر يكون بالواجب مطلقا و الندب مقيدا في الشرع و قوله تعالى مَعَ الرّاكِعِينَ دليل صريح لذلك.و الجماعة على أربعة أضرب واجب و مستحب و مكروه و محظور.فالواجب لا يكون إلا في الجمعة و العيدين إذا اجتمعت شرائطها على ما ذكرناه و المستحب هو الجماعة في الصلوات الخمس و المكروه صلاة الحاضر خلف المسافر فيما يقصر في السفر و المحظور هو الصلاة خلف الفاسق و الفاجر.و قد رغب الله في الجماعة و حث عليها بالآية التي تلوناها و بقوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى فقد قيل إن الصلاة الوسطى كناية عن صلاة الجماعة لأنها أفضل الصلوات و كذلك خصها الله بالذكر.و أقل ما تكون الجماعة اثنان فصاعدا و يتقدم للإمامة أقرأهم ثم أفقههم.و لا تنعقد الجماعة إلا بالأذان و الإقامة.

فصل

و قوله تعالى وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (1)

كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَ فِي رِوَايَةٍ عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ. فازدحم الناس و كانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا نبيع دورنا و لنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت الآية رواه الربيع بن أنس (2).6.

ص: 140


1- سورة الحجر:24.
2- اسباب النزول للواحدى ص 186.

و معنى الآية إنا نجازي الناس على نياتهم.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلاَةِ وَ الْمُسْتَأْخِرِينَ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِيُدْرِكُوا فَضِيلَتَهُ وَ كَانَ يَتَأَخَّرُ بَعْضُهُمْ لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْجَازِ النِّسَاءِ فَنَزَلَ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ .

وَ رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَ شَرُّهَا آخِرُهَا وَ خَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَ شَرُّهَا أَوَّلُهَا فَازْدَحَمُوا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ (1).

فصل

و المؤتمون يجب عليهم أن يستمعوا قراءة الإمام إذا جهر و أن لا يقرءوا و الدليل عليه قوله وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا (2) .و المفسرون اختلفوا في الوقت الذي أمروا بالإنصات و الاستماع فقال قوم أمروا حال كون المصلي في الصلاة خلف الإمام الذي يؤتم به و هم يستمعون قراءة الإمام فعليهم أن ينصتوا و لا يقرءوا و يستمعون لقراءته فإذا كانوا على بعد من الإمام بحيث لا يسمعون صوته و إن كانت الصلاة مما يجهر فيها فلا بأس إذا أن يقرءوا.و من المفسرين من قال أمروا بالإنصات لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة و إذا دخل داخل و هم في الصلاة قال لهم كم صليتم فيخبرونه و كان مباحا فنسخه الله.و قال قوم هو أمر بالإنصات للإمام في خطبته4.

ص: 141


1- الدّر المنثور 97/4.
2- سورة الأعراف:204.

و قيل هو أمر بذلك في الصلاة و الخطبة.و أقوى الأقوال الأول الذي استدللنا به لأنه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلا حال قراءة الإمام في الصلاة فإن على المأموم الإنصات و الاستماع له على ما قدمناه فأما خارج الصلاة فلا خلاف أنه لا يجب الإنصات و الاستماع و ما روي عن أبي عبد الله عليه السّلام أنه في حال الصلاة و غيرها (1)فهو على وجه الاستحباب.و قال أبو حنيفة لا يصلى صلاة الخسوف جماعة و كل ما يدل من القرآن و السنة على جواز الجماعة في كل فريضة فهو عام على أن العامة قد روت أيضا عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنه صلاها جماعة و رووا أنه صلاها فرادى فوافقت رواياتهم رواياتنا.مع أن الشيخ المفيد ذكر في كتابه مسائل الخلاف أنه إن انكسف القرص بأسره في الشمس أو القمر صليت صلاة الكسوف جماعة و إن انكسف (2)بعضه صليت فرادى

باب الصلاة في السفر

اعلم أن السفر الذي يجب فيه التقصير في الصلاة ثمانية فراسخ فما فوقها إذا كان مباحا أو طاعة.و الحجة مع الإجماع المكرر هو أن الله علق سقوط فرض الصيام عن المسافر بكونه مسافرا

في قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (3) و لا خلاف بين الأمة أن كل سفر أسقط فرض الصيام و رخص في الإفطار

ص: 142


1- تفسير البرهان 57/2.
2- الزيادة من م.
3- سورة البقرة:184.

فهو بعينه موجب لقصر الصلاة و إذا كان الله قد علق ذلك في الآية باسم السفر فلا شبهة في أن اسم السفر يتناول المسافة التي حددنا السفر بها فيجب أن يكون الحكم تابعا لها.و لا يلزم على ذلك أدنى ما يقع عليه الاسم من فرسخ أو ميل لأن الظاهر يقتضي ذلك لو تركنا معه لكن الدليل و الإجماع أسقطا اعتبار ذلك و لم يسقطاه فيما اعتبرناه من المسافة و هو داخل تحت الاسم.

وَ ذَكَرَ الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: إِنَّمَا وَجَبَ التَّقْصِيرُ فِي ثَمَانِيَةِ فَرَاسِخَ لِأَنَّهَا مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَ لَوْ لَمْ يَجِبْ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ (1)لَمَا وَجَبَ فِي مَسِيرَةِ أَلْفِ سَنَةٍ وَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مِنْهَا نَظِيرُ هَذَا الْيَوْمِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَمَا وَجَبَ فِي نَظِيرِهِ (2).

فصل

فإن قيل القرآن يمنع مما ذكرتم من وجوب التقصير لأنه تعالى قال وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ (3) و رفع الجناح يدل على الإباحة لا على الوجوب.قلنا هذه الآية غير متناولة لقصر الصلاة في عدد الركعات و إنما المستفاد منها التقصير في الأفعال من الإيماء و غيره لأنه تعالى علق القصر بالخوف و لا خلاف في أنه ليس الخوف من شرط القصر في عدد ركعات الصلاة و إنما الخوف شرط في الوجه الآخر و هو التقصير في الأفعال من الإيماء و غيره في الصلاة لأن صلاة الخوف قد أبيح فيها ما ليس مباحا مع الأمن.1.

ص: 143


1- الزيادة من ج و المصدر.
2- من لا يحضره الفقيه 454/1 مع تغيير و اختصار لبعض الألفاظ.
3- سورة النساء:101.

و قال أبو جعفر الطوسي من تمم في السفر و قد تليت عليه آية التقصير و علم وجوبه وجب عليه إعادة الصلاة فإن لم يكن علم ذلك فليس عليه شيء و لم يفصل المرتضى في الإعادة بين الحالتين و كأنه للاحتياط.و من تمم في السفر الصلاة متعمدا يجب عليه الإعادة مع التقصير على كل حال و إن كان أتم ناسيا أعاد ما دام في الوقت و لا إعادة عليه بعد خروج الوقت و الحجة في ذلك زائدا على الإجماع المتردد أن فرض السفر ركعتان فيما كان أربعا في الحضر و ليس ذلك رخصة و إذا كان الفرض كذلك فمن لم يأت على ما فرض وجب عليه الإعادة.

فصل

و قوله تعالى وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ (1) .قال قوم كان ابن عمر يصلي حيث توجهت به راحلته في السفر تطوعا و يذكر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يفعل ذلك و يتأول عليه هذه الآية.فالمصلي نافلة على الراحلة و من يصلي صلاة شدة الخوف و من كان في السفينة ثم دارت يستقبل كل واحد من هؤلاء الثلاثة قبلته بتكبيرة الإحرام ثم يصلي كيف شاء و الآية تدل على جميع ذلك.و قيل نزلت في قوم صلوا في ظلمة و قد خفيت عليهم جهة القبلة فلما أصبحوا إذا هم صلوا يمين القبلة أو يسارها فأنزل الله الآية (2).و قيل المراد بقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أي فثم رضوان الله كما يقال هذا3.

ص: 144


1- سورة البقرة:115.
2- اسباب النزول للواحدى ص 23.

وجه الصواب و قيل المراد به فثم جهة القبلة و هي الكعبة لأنه يمكن التوجه إليها من كل مكان.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَدَّ عَلَى الْيَهُودِ لَمَّا أَنْكَرُوا تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ (1)لَيْسَ هُوَ فِي جِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ كَمَا يَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ (2). و قال الزجاج في قوله إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ إنه يدل على التوسعة للناس فيما رخص لهم في الشريعة.

فصل

و إذا نوى الإنسان السفر لا يجوز أن يقصر حتى يغيب عنه البنيان و يخفى عنه أذان مصره أو جدران بلده و الدليل عليه من القرآن قوله وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ .و من نوى السفر و لم يفارق موضعه فلا يجوز له القصر و إذا فارق بنيان بلده يجوز له التقصير.و لا يجوز أن يقصر ما دام بين بنيان البلد سواء كانت عامرة أو خرابا فإن اتصل بالبلد بساتين فإذا حصل بحيث لا يسمع أذان المصر قصر فإن كان دونه تمم.و من خرج من البلد إلى موضع بالقرب مسافة فرسخ أو فرسخين نيته أن ينتظر الرفقة هناك و المقام عشرا فصاعدا فإذا تكاملوا ساروا سفرا فيه يجب عليهم التقصير (3)و لا يجوز أن يقصر إلا بعد المسير من الموضع الذي يجتمعون فيه لأنه ما نوى بالخروج إلى هذا الموضع سفرا يجب فيه التقصير.».

ص: 145


1- أي قال اللّه تعالى«ه ج».
2- اسباب النزول للواحدى ص 24.
3- أي هم يقصرون و هو لا يقصر،لانهم نووا المسافة و هو لم ينوها«ه ج».

و إن لم ينو المقام عشرة أيام هناك و إنما خرج نيته سفر بعيد إلا أنه ينتظر قوما يتصلون به هناك اليوم أو غدا فالظاهر أنه يقصر.و حكى قتادة عن أبي العالية أن قصر الصلاة في حال الأمن بنص القرآن قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ (1) هذا إذا كان التقصير يراد بها في السفر كما يراد في الشعر بعد الإحرام.

"وَ مِنْ شُجُونِ الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً لِقَوْلِهِ وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (2) فَاتَّخَذُوا مِيلاَدَ عِيسَى قِبْلَةً كَمَا سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفِ وُجُوهِهِمْ لِقَوْلِهِ وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (3) فَسَجَدُوا وَ جَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ بِحَرْفِ وُجُوهِهِمْ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً.

باب صلاة الخوف

قال تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (4) .اعلم أن صلاة الخوف على ضربين أحدهما صلاة شدة الخوف و هو إذا كان في المسلمين قلة لا يمكنهم أن يفترقوا فرقتين فعند ذلك يصلون فرادى إيماء و يكون سجودهم على قربوس سرجهم فإن لم يتمكنوا من ذلك ركعوا و سجدوا بالإيماء و يكون سجودهم (5)

ص: 146


1- سورة الفتح:27.
2- سورة مريم:16.
3- سورة الأعراف:171.
4- سورة النساء:101.
5- الزيادة من ج.

أخفض من ركوعهم فإن زاد الأمر على ذلك أجزأهم عن كل ركعة أن يقولوا سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و القصر في الآية التي تلوناها الآن هو هذا التفصيل.و الضرب الثاني هو إذا لم يبلغ الخوف إلى ذلك الحد و أرادوا أن يصلوا فرادى صلى كل واحد منهم صلاة تامة الركوع و السجود و يبطل حكم القصر إلا في السفر مع الانفراد ذكره الشيخ أبو جعفر في بعض كتبه.فإن أرادوا أن يصلوا جماعة نظروا فإن كان في المسلمين كثرة و العدو في جهة القبلة صلوا كما صلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله يوم بني سليم فإنه قام و المشركون أمامه يعني قدامه فصف خلف رسول الله صف و بعد ذلك الصف صف آخر فركع رسول الله و ركع الصفان ثم سجد و سجد الصف الذين يلونه و كان الآخرون يحرسونهم فلما فرغ الأولون مع النبي من السجدتين و قاموا سجد الآخرون (1)فلما فرغوا من السجدتين و قاموا تأخر الصف الذين يلونه إلى مقام الآخرين و تقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله و ركعوا جميعا في حالة واحدة ثم سجد و سجد معه الصف الذي يليه و قام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله و الصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا و تشهدوا جميعا فسلم بهم أجمعين (2).و إن كان العدو في خلاف جهة القبلة يصلون كما وصفه الله في كتابه حيث قال وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ (3) و هي مشروحة في كل كتاب.و إذا كان في المسلمين كثرة يمكنهم أن يفترقوا فرقتين و كل فرقة يقاوم العدو2.

ص: 147


1- الزيادة من ج و المصدر.
2- مستدرك الوسائل 499/1،و هذا المضمون مأخوذ من حديث رواه العامّة،انظر صحيح مسلم 574/1.
3- سورة النساء:102.

جاز أن يصلي بالفرقة الأولى الركعتين و يسلم بهم ثم يصلي بالطائفة الأخرى الركعتين أيضا و يكون نفلا له و هي فرض للطائفة الثانية و يسلم بهم و هكذا صلى عليه السّلام بذات النخل (1).و هذا يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل و على عكسه.و صلاة الخوف مقصورة على وجهين سفرا و حضرا على ما تقدم.

فصل

و قوله تعالى وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ معناه و إذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك يا محمد أي المسافرين الخائفين عدوهم أن يفتنوهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ يعني أتممت لهم الصلاة بحدودها و ركوعها و سجودها و لم تقصرها القصر الذي يجب في صلاة شدة الخوف من الاقتصار على الإيماء فليقم طائفة من أصحابك الذين أنت فيهم معك في صلاتك و ليكن سائرهم في وجه العدو.و لم يذكر ما ينبغي أن يفعله الطائفة غير المصلية من حمل السلاح و حراسة المصلين لدلالة الكلام و الحال عليه لأنها (2)لا بد أن يكونوا آخذين السلاح.ثم قال وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ قال قوم الفرقة المأمورة في الظاهر هي المصلية مع رسول الله و السلاح مثل السيف يتقلد به و الخنجر يشده إلى درعه و كذا السكين و نحوه و هو الصحيح.قال ابن عباس الطائفة المأمورة بأخذ السلاح هي التي بإزاء العدو دون المصلية فإذا سجدوا يعني الطائفة التي قامت معك مصلية بصلاتك و فرغت من سجودها فليكونوا من ورائكم يعني فليصبروا بعد فراغهم من سجودهم مصافين».

ص: 148


1- انظر هامش من لا يحضره الفقيه 462/1 نقلا عن الدروس،و انظر صحيح مسلم 576/1.
2- في ج«الا انها».

للعدو.و عندنا أنهم يحتاجون أن يتموا صلاتهم ركعتين و الإمام قائم في الثانية و يطيل القراءة و ينوون هم الانفراد بها و قرءوا و ركعوا و سجدوا و تشهدوا فإذا سلموا انصرفوا إلى موضع أصحابهم و يجيء الآخرون فيستفتحون الصلاة فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية له و يطيل التشهد حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ثم سلم بهم الإمام.

فصل

و في كتاب المولد و المبعث لأبي محمد أحمد بن أعثم الكوفي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله صلى العصر كذلك في غزوة ذات الرقاع إذ حارب بني سعد و كان صلى رسول الله الظهر أربعا قبل أن تنزل الآية قال و هم المشركون أن يحملوا على المسلمين و هم في صلاة العصر و أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يصلي العصر بأصحابه فنزلت الآية و أسلم بعض الكفار بسبب ذلك ثم قال ابن أعثم فيجب على أهل الإسلام الآن إذا صلوا صلاة الخوف من عدو ثم فصل التفصيل الذي ذكره أبو مسلم بن مهرإيزد الأصفهاني في تفسيره أيضا قال إن النبي صلّى اللّه عليه و آله قام فصلى و قامت طائفة خلفه من المؤمنين و طائفة وجاه العدو فصلى بالطائفة التي خلفه ركعة و قام فأتمت الطائفة بركعة أخرى و سلمت و هو صلّى اللّه عليه و آله واقف يقرأ ثم انصرفت فقامت تجاه الكفار و أتت الطائفة التي كانت تلقاء العدو فصلى النبي بهم ركعة هي له ثانية و لهذه الطائفة الركعة الأولى و جلس حتى قاموا فصلوا ركعة ثانية وحدهم و هو قاعد يتشهد و يدعو لم يسلم حتى انتهت الطائفة الثانية إلى التسليم فسلم و سلموا معه بتسليمه.و هو اختيار الشافعي و مالك و هذه بعينها مذهبنا أمر بها أئمة أهل البيت عن رسول الله عن الله تعالى.

ص: 149

فصل

و من قال إن صلاة الخائف ركعة قال الأولون إذا صلوا ركعة فقد فرغوا و هذا عندنا إنما يجوز في صلاة شدة الخوف على بعض الوجوه.و في الناس من قال كان النبي صلّى اللّه عليه و آله صلى بهم ركعة فلما قام خرجوا من الجماعة و تمموا صلاتهم فعلى هذا صلاة الخائف ركعة في الجماعة و ركعة على الانفراد لكل واحدة من الفرقتين.و قوله وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ يجوز أن يرجع الضمير إلى جميع المسلمين من الفرقتين أي يأخذون السلاح و الحذر في حال الصلاة.و قوله وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ معناه تمنى الكافرون لو تعتزلون عن أسلحتكم و أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ أي يحملون عليكم حملة واحدة و أنتم متشاغلون بصلاتكم عن أسلحتكم و أمتاعكم فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم و يستبيحون عسكركم و ما معكم.و المعنى لا تشاغلوا بأجمعكم بالصلاة عند مواقفة العدو فتمكنون عدوكم من أنفسكم و أسلحتكم و لكن أقيموها على ما بينت وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ بأخذ السلاح.و من عادة العرب أن يقولوا ملنا عليهم أي حملنا عليهم

وَ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ (1)الْأَنْصَارِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ وَ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ غَداً عَلَى أَهْلِ مِنًى (2)بِأَسْيَافِنَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ (3). يعني في ذلك الوقت.2.

ص: 150


1- في م«نغيلة»،و انظر أسد الغابة 108/3.
2- منى-بلفظ منى الرجل-ماء بقرب ضرية في سفح جبل احمر من جبال بنى كلاب ثمّ للضباب منهم-معجم البلدان 219/5.و الظاهر ان هذا الموضع هو المقصود في الحديث.
3- تاريخ الطبريّ 365/2.

فصل

ثم قال تعالى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ (1) معناه لا حرج عليكم و لا إثم إن نالكم مطر و أنتم مواقفو عدوكم أو كنتم جرحى أن تضعوا أسلحتكم (2)إذا ضعفتم عن حملها لكن إذا وضعتموها فخذوا حذركم أي احترزوا منهم أن يميلوا عليكم و أنتم غافلون.و قال طائِفَةٌ أُخْرى و لم يقل طائفة آخرون ثم قال لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا حملا للكلام مرة على اللفظ و مرة على المعنى كقوله وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما (3) و مثله فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ (4) .و الآية تدل على نبوته صلّى اللّه عليه و آله فالآية نزلت و النبي بعسفان (5)و المشركون بضجنان (6)هموا أن يغيروا عليهم فصلى بهم العصر صلاة الخوف.و قال قوم اختص النبي بهذه الصلاة و الصحيح أنه يجوز لغيره.و قال قوم في قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا يعني في عددها فيصلوا الرباعيات ركعتين و ظاهرها يقتضي أن التقصير لا يجوز إلا إذا خاف المسافر لأنه قال إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ و لا خلاف اليوم أن الخوف ليس بشرط فيه لأن3.

ص: 151


1- سورة النساء:102.
2- الزيادة من ج.
3- سورة الحجرات:9.
4- سورة الأعراف:30.
5- عسفان بضم العين و سكون السين،و هي قرية او منهلة على مرحلتين من مكّة على طريق المدينة-معجم البلدان 121/4.
6- ضجنان بفتح الضاد و فتح الجيم او سكونها،جبل بناحية تهامة بينه و بين مكّة خمسة و عشرون ميلا-معجم البلدان 453/3.

السفر المخصوص بانفراده سبب التقصير.و الصحيح أن فرض السفر مخالف لفرض المقيم و ليس ذلك قصرا

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ غَيْرُ قَصْرٍ. و أما الخوف بانفراده فإنه يوجب القصر.و معنى قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا أي من حدود الصلاة في صلاة شدة الخوف.

وَ رُوِيَ: أَنَّ يَعْلَى بْنَ مُنَبِّهٍ (1)قَالَ لِعُمَرَ كَيْفَ تُقَصِّرُ الصَّلاَةَ فِي السَّفَرِ وَ قَدْ أَمِنَّا فَقَالَ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ (2). و لا يقرأ أبي في الآية إِنْ خِفْتُمْ .

فصل

و قوله فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ (3) .المعنى أيها المؤمنون إذا فرغتم من صلاتكم و أنتم مواقفو عدوكم فاذكروا الله في حال قيامكم و في حال قعودكم و مضطجعين على جنوبكم و ادعوا لأنفسكم بالظفر على عدوكم لعل الله ينصركم عليهم و هو كقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللّهَ (4) .5.

ص: 152


1- كذا في ج،و في م«منية»،و ورد الاسم في صدر الحديث في المصادر«يعلى ابن أميّة».قال الرازيّ:يعلى بن أميّة التميمى،و هو ابن منية،و منية أمه،عامل عمر على نجران-الجرح و التعديل 301/9.
2- التاج الجامع للأصول 318/1.
3- سورة النساء:103.
4- سورة الأنفال:45.

ثم قال فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معناه إذا استيقنتم بزوال الخوف من عدوكم و حدوث الأمن لكم فأتموا الصلاة بحدودها غير قاصريها عن شيء من الركوع و السجود و إن كنتم صليتم إيماء بعضها و هذا أقوى من قول من قال معناه إذا استقررتم في أوطانكم فأتموها التي أذن لكم في قصرها في حال خوفكم و سفركم لأنه قال وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فلما قال فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ كان معلوما أنه تعالى يريد إذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا فيها مقيمين صلاتكم فأقيموها مع حدودها قاصرين لها.

فصل

و قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً (1) يدل على ما ذكرناه من صلاة شدة الخوف لأن معناه إن خفتم فصلوا على أرجلكم لأن الراجل هو الكائن على رجله واقفا كان أو ماشيا.و الخائف إن صلى منفردا صلاة شدة الخوف الذي نقوله إنه يصلي ركعتين يومئ إيماء و يكون سجوده أخفض من ركوعه و إن لم يتمكن كبر عن كل ركعة تكبيرة على ما ذكرناه و هكذا صلاة شدة الخوف إذا صلوها جماعة و إلى هذا ذهب الضحاك و إبراهيم النخعي.و روي أن أمير المؤمنين عليه السّلام صلى ليلة الهرير و يومه خمس صلوات بالإيماء و قيل بالتكبير (2)و أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله صلى يوم الأحزاب إيماء.و قال الحسن و قتادة و ابن زيد يجوز أن يصلي الخائف ماشيا و قال أهل العراق لا يجوز لأن المشي عمل و الأول أصح لأنه تعالى قال ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (3) .8.

ص: 153


1- سورة البقرة:239.
2- مستدرك الوسائل 500/1.
3- سورة الحجّ:78.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْقَصْرَ فِي قَوْلِهِ وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا (1) الْمُرَادُ بِهِ صَلاَةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ يُقَصِّرُ مِنْ حُدُودِهَا وَ يُصَلِّيهَا إِيمَاءً. و هو مذهبنا.ثم قال فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ قيل إنه الصلاة أي فصلوا صلاة الأمن و اذكروه بالثناء عليه و الحمد له

باب فضل المساجد و ما يتعلق بها من الأحكام

قال الله تعالى وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً (2) .قال الخليل التقدير و لكن المساجد لله أخبر تعالى ألا يذكر مع الله في المساجد التي هي المواضع التي وضعت للصلاة أحد كما يدعو النصارى في بيعهم و المشركون في الكعبة.و قيل من السنة أن يقال عند دخول المسجد لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحدا.و قيل معناه يجب أن يدعوه بالوحدانية و من هنا لا ينبغي للإنسان أن يشتغل بشيء من أمور الدنيا في المساجد.ثم رغب الله بقوله وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ (3) فيما يستحب من الأدعية عند دخول المساجد المروية فإنه أمر منه تعالى و ترغيب بهذا الدعاء و بغيره إذا دخل مسجدا أو غيره و إذا خرج.و لذلك رغب في المشي إلى المساجد للصلاة فيها و العبادات بقوله تعالى

ص: 154


1- سورة النساء:101.
2- سورة الجن:18.
3- سورة الإسراء:80.

وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ (1) قال مجاهد إنا نأمر ملائكتنا ليثبتوا جميع أفعالهم الصالحة حتى مشيهم إلى المساجد فإن بني سلمة من الأنصار شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد منازلهم فنزلت الآية (2).و آثارَهُمْ أي خطاهم فمن مشى إلى مسجد كان له بكل خطوة أجر عظيم.

فصل

و قوله تعالى قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (3) .يأمر المكلفين أن يقيموا وجوههم عند كل مسجد أي يتوجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على الاستقامة.و قال الفراء معناه إذا دخل عليك وقت صلاة في مسجد فصل فيه و لا تقل آتي مسجد قومي.و قيل أي توجهوا بالإخلاص لله و لا تشتغلوا بما لا يليق فعله في المساجد من المكروهات و المحظورات بل من المباحات التي لا يستقبح في غير المتعبدات.و لا يختلف المعنى سواء كان مسجد مصدرا أو مكانا أو زمانا فالمصدر عبارة عن الصلاة و أن لا يسجدوا إلا لله أي كلما صليتم فأقيموا وجوهكم لله أي فلا تصلوا إلا لله و أقبلوا بصلاتكم عليه و لا تشغلوا قلوبكم بغيره و أما المكان فعلى معنى كل مكان تصلون فيه و يؤول المعنى إلى الأول و كذا إذا أريد به الزمان أي في أوقات صلاتكم أقيموا وجوهكم لله.9.

ص: 155


1- سورة يس:12.
2- اسباب النزول للواحدى 245.
3- سورة الأعراف:29.

فصل

و قوله يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (1) أمر منه تعالى للمكلفين بالاستتار في الصلاة و في المساجد ففي الآية دلالة على أنه لا يجوز كشف الركبة أو الفخذ و لا السرة في شيء من المساجد فضلا عن كشف العورة فيها.و قوله تعالى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ (2) قيل أراد بالبيوت المساجد أي إذا دخلتموها فسلموا على من فيها من المؤمنين الذين هم بمنزلة أنفسكم و إذا دخلتموها و لم يكن فيها أحد فقولوا السلام علينا و على عباد الله الصالحين فهذا على الحقيقة و الأول مجاز و كلاهما يجوز أن يكون مرادا.و قوله تعالى وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (3) .أمرهم الله أن يصلوا في بيوتهم و يجعلوا في البيوت قبلة أي مصلى إذا كانوا خائفين و هذا رخصة و كل ما يعلم صحة كونه في شريعة نبي و لا يعرف فيه نسخ و لم يرد فيه نهي فالأصل فيه أنه باق على حاله.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ أَمَرَ بِهَدْمِ مَسَاجِدِهِمْ وَ أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ. و قد تقدم في قوله وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ أنه يمكن أن يستدل به على أنه ينبغي أن يجنب المساجد البيع و الشراء و إنشاد الشعر و رفع الأصوات و غير ذلك مما هو محظور أو مكروه و لذلك استدل قوم بهذه الآية على أنه يكره في المساجد.7.

ص: 156


1- سورة الأعراف:31.
2- سورة النور:61.
3- سورة يونس:87.

فصل

و قوله تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (1) .المراد بذلك مشركو العرب من قريش لأنهم صدوا النبي صلّى اللّه عليه و آله عن المسجد الحرام و هو المروي عن الصادق عليه السّلام (2)و قيل أراد جميع المساجد و قيل إنهم الروم غزوا بيت المقدس و سعوا في خرابه و قيل هو بخت نصر (3)خرب بيت المقدس.و إذا صح وجه منها لا يجب الاقتصار عليه لأن نزول حكم في سبب لا يوجب الوقوف عليه و يجوز أن يعنى غيره للعموم أ لا ترى إلى قوله يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ نزل في الصوم فلما كانت الآية عامة و إن وردت في سبب وجب حملها على عموم اللفظ دون خصوص السبب.و قال الطبري إن كفار قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام (4)و هذا ليس بشيء لأن عمارة المسجد بالصلاة فيه و خرابه المنع من أن يصلى فيه على أنهم قد هدموا مساجد كانت بمكة كان المسلمون يصلون فيها لما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.و ذكر المساجد لأن كل موضع منه مسجد ثم يدخل في خرابه خراب جميع المساجد.1.

ص: 157


1- سورة البقرة:114.
2- تفسير البرهان 145/1.
3- قال صدر الأفاضل:بخت نصر بتشديد الصاد،نقله أبو حاتم في كتاب«ما يلحن فيه العوام»عن الأصمعى«ه ج».
4- تفسير الطبريّ 398/1.

فصل

و قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (1) .أمر المؤمنين بمنع الكفار من مقاربة المسجد الحرام لطواف و غيره و قيل إنهم منعوا من الحج فأما دخولهم للتجارة فلم يمنعوا منه يبين ذلك قوله وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ .و قوله بَعْدَ عامِهِمْ هذا هي سنة تسع من الهجرة التي تبدأ فيها براءة المشركين.و ظاهر الآية أن الكفار أنجاس لا يمكنون من دخول مسجد و قال عمر بن عبد العزيز و لا يجوز أن يدخل المسجد أحد من اليهود و النصارى و غيرهم من الكفار و نحن نذهب إليه.و إنما قال إِنْ شاءَ لأن منهم من لم يبلغ الموعود بأن يموت قبله و قيل إنما ذكره لتنقطع الآمال إلى الله كما قال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ (2) .و قوله ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ (3) نادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن لا يحج مشرك بعد العام فإن دخل مسجدا منهم داخل كان على المسلمين أن يمنعوه فإن أدخل إلى حاكم المسجد الذي يحكم فيه فلا يقعد مطمئنا فيه بل ينبغي أن يكون خائفا من الإخراج على وجه الطرد.4.

ص: 158


1- سورة التوبة:28.
2- سورة الفتح:27.
3- سورة البقرة:114.

فصل

و قوله تعالى وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً (1) أي بنوه للإضرار و الكفر و التفريق بين المؤمنين فإنهم إذا تحزبوا فصلى حزب هنا و حزب يصلي في غيره اختلفت الكلمة و بطلت الألفة.و إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ هو أبو عامر الراهب لحق بقيصر متنصرا و كان يبعث إليهم سآتيكم بجند فأخرج محمدا فبنوه يترقبونه و هو الذي حزب الأحزاب مع المشركين فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الروم و ابنه عبد الله أسلم و قتل يوم أحد و هو غسيل الملائكة و وجه رسول الله عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني و مالك بن الدخشم و كان مالك من بني عوف الذين بنوا مسجد الضرار فقال لهما انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه ففعلا ما أمر به (2)فقال تعالى لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً نهى نبيه و جميع المؤمنين أن يقوموا في مثل هذا المسجد و يصلوا فيه و أقسم أن المسجد الذي أسس على التقوى أحق أن يقوم فيه هو مسجد قبا و قيل مسجد المدينة و سبب ذلك أنهم قالوا بنينا للضعيف في وقت المطر نسألك يا رسول الله أن تصلي فيه و كان توجه إلى تبوك فوعدهم أن يفعل إذا عاد فنهي عنه

باب صلاة العيدين و الاستسقاء و الكسوف و غير ذلك

قال الله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (3) أي فصل لربك صلاة العيد و انحر

ص: 159


1- سورة التوبة:107.
2- مستدرك الوسائل 243/1.
3- سورة الكوثر:2.

الأضاحي و انحر أعم نفعا من النسك.و هذه الصلاة واجبة عند حصول شرائطها و هي شرائط الجمعة و تستحب تلك الصلاة إذا اختل شرائطها.و قوله تعالى لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ (1) قال الحسن ذبح قوم قبل صلاة العيد يوم النحر فأمروا بإعادة ذبيحة أخرى و قال الزجاج معناه لا تقدموا أعمال الطاعة حتى لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها.و التكبيرات المأمور بها في العيدين يدل عليها بعد إجماع الطائفة قوله وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ (2) .و إذا أجدبت البلاد يستحب صلاة الاستسقاء قال الله تعالى وَ سْئَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ (3) و مثله من الآيات يدل على استحبابها.و ما روي أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله صلاها و قال تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يدل عليها و على جميع ما يستحب من الصلوات المندوبة كصلاة الاستخارة و الحاجة فقد أمر بهما رسول الله عن الله و قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .و قوله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ (4) أي صل شكرا له على ما جدد لك من نعمه و هذا يدل على أن صلاة الشكر مستحبة.و كذلك صلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلاة الكسوف و فعله بيان (5)».

ص: 160


1- سورة الحجرات:1.
2- سورة البقرة:185.
3- سورة النساء:32.
4- سورة النصر:1-3.
5- أي فعله بيان كما ان قوله بيان«ه ج».

لقوله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ و قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .و لما حولت القبلة إلى الكعبة كانوا لا يعتبرون بطاعة إلا بالصلاة إلى الكعبة قال تعالى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ (1)

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ الْبِرُّ كُلُّهُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الصَّلاَةِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَ لَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ إِنَّ هَذِهِ تَدْعُو إِلَى الصَّلاَحِ وَ تَصْرِفُ عَنِ الْفَسَادِ وَ إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَزْمَانِ.

باب الصلاة على الموتى و أحكامهم

يدل على أربعة أحكام مفروضة في حق المؤمن إذا مات قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قد بين رسول الله تغسيله و تكفينه و الصلاة عليه و دفنه و فرضها على الكفاية و قد بينها بقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .فإذا مات كافر أو منافق فلا يجب شيء من ذلك على الأحياء قال تعالى وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ (2) [و هذا نهي من الله لنبيه أن يصلي على منافق أو يقوم على قبره] (3)أي لا تتول دفنه كما يقال قام فلان بكذا (4).

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ قَبْلَ أَنْ نُهِيَ عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ.

ص: 161


1- سورة البقرة:177.
2- سورة التوبة:84.
3- الزيادة من ج.
4- يمكن الاستدلال بهذه الآية على منع الصلاة على الكافر أيضا،لانه تعالى علل المنع بقوله «أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ» و الكفر حاصل في الكافر فوجب أن لا يصلى عليه«ه ج».

و كان الشيخ المفيد يستدل بفحوى هذه الآية على وجوب القيام بدفن المؤمنين و الصلاة عليهم لأنه كان يقول بدليل الخطاب و يجعله دليلا و منع منه المرتضى و توقف فيه أبو جعفر الطوسي و كذا حالهم في استصحاب الحال.و القيام في الآية يجوز أن يكون الذي هو مقابل الجلوس و يكون معناه لا تقف عند قبره و من قولهم قام بكذا إذا ثبت على صلاحه و يكون القبر مصدرا على هذا أي لا تتول دفن ميت منهم و المفسرون كلهم على أن المراد بذلك الصلاة التي تصلى على الموتى و كان صلاة أهل الجاهلية على موتاهم أن يتقدم رجل فيذكر محاسن الميت و يثني عليه ثم يقول عليك رحمة الله.و قوله إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ كسرت إن و فيها معنى العلة لتحقيق الإخبار بأنهم على هذه الصفة و يدل ذلك على أن الصلاة على الميت عبادة.

فصل

و قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (1) يدل بعمومه على أن أحق الناس بالصلاة على الميت وليه و هو أولى بها من غيره.و قوله تعالى وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ (2) الآية.

"قَالَ جَابِرٌ وَ غَيْرُهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ أَخْبَرَهُ بِوَفَاةِ النَّجَاشِيِّ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَ رَفَعَ اللَّهُ الْحِجَابَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ جِنَازَتِهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَ دَعَا لَهُ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُ وَ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ صَلُّوا عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ1.

ص: 162


1- سورة الأنفال:75.
2- سورة آل عمران:191.

يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ بِنَجْرَانَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ (1). و الصفات التي ذكرت في الآية هي صفات النجاشي.و قال مجاهد نزلت في كل من أسلم من اليهود و النصارى و لا مانع من هذا أيضا لأن الآية قد تنزل على سبب و تكون عامة في كل ما تتناوله.و يجوز أن يصلى على الجنازة بالتيمم مع وجود الماء إذا خيف فوت الصلاة عليه و بذلك آثار عن أئمة الهدى عليهم السّلام و كأنه استثناء من قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية.على أن هذا قد ورد في الصلاة المطلقة و الصلاة على الجنائز صلاة مقيدة فأما التيمم فيها فلإجماع الطائفة.و أما التكفين فإنه يدل عليه من القرآن قوله يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ (2) الآية تعم الأحياء و الأموات لأنه تعالى لم يفصل فدل على وجوب الكفن عمومها.و أما الدفن فالدليل عليه من كتاب الله قوله أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً (3) فالكفات الضمائم و الوعاء (4)أي تضمهم في الحالين فظهرها للأحياء و بطنها للأموات.و قوله تعالى ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (5) فالمقبر الآمر بالدفن و القابر الدافن.1.

ص: 163


1- اسباب النزول ص 93 مع اختلاف في بعض الألفاظ.و العلج:الرجل من كفّار العجم،و الجمع علوج و اعلاج و معلوجاء و علجة(صحاح اللغة 330/1).و نجران بالفتح ثمّ السكون..فى مخاليف اليمن من ناحية مكّة.
2- سورة الأعراف:26.
3- سورة المرسلات:25-26.
4- في الكشّاف:الكفات من الكفت،و هو الجمع،و هي بمعنى كافته،و بهذا نصبت احياء بالمفعولية«ه ج».
5- سورة عبس:21.

و قوله تعالى فَبَعَثَ اللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ (1) هو أول ميت كان من الناس فلذلك لم يدر أخوه كيف يواريه و كيف يدفنه حتى بعث الله غرابان أحدهما حي و الآخر ميت فنقر في الأرض حتى جعل حفيرة و وضع الميت فيه و واراه بالتراب إلهاما من الله

باب الزيادات

اَلصَّلاةِ الْوُسْطى أي الفضلى من قولهم الأفضل الأوسط و إنما أفردت و عطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل.

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ نَاراً ثُمَّ قَالَ إِنَّهَا الصَّلاَةُ الَّتِي شُغِلَ عَنْهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (2) . و روي في قوله وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا (3).

مسألة

دلكت الشمس زالت أو غربت فإذا كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس لأن الغسق الظلمة و هو وقت صلاة العشاءين و قرآن الفجر صلاة الغداة و إذا كان الدلوك الغروب خرجت منها صلاة الظهر و العصر.

ص: 164


1- سورة المائدة:31.
2- الدّر المنثور 301/1.
3- الدّر المنثور 306/1.

و قوله تعالى وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ يجوز أن يكون حثا على طول القراءة فيها و كذلك كانت صلاة الفجر أطول الصلوات قراءة. وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ أي و عليك بعض الليل فتهجد به و التهجد ترك الهجود و هو النوم للصلاة.و نافِلَةً أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس و وضع نافلة موضع تهجد لأن التهجد عبادة زائدة فنافلة مصدر من غير لفظ الفعل قبله.

مسألة

فإن قيل أي فائدة في إخبار الله بقول اليهود أو المنافقين أو المشركين قبل وقوعه فقال سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها (1) .قلنا فائدته أن مفاجأة المكروه أشد و العلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدمه من توطين النفس فإن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم و أرد لسعيه و قبل الرمي يراش السهم. ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ و هي بيت المقدس. لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ أي الأرض كلها يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و هو ما توجبه الحكمة و المصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس و أخرى إلى الكعبة

مسألة

وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها قال بعض المفسرين قوله اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ليست بصفة القبلة إنما هي ثاني مفعولي جعل يريد و ما جعلنا2.

ص: 165


1- سورة البقرة:142.

القبلة الجهة التي كنت عليها و هي الكعبة لأن رسول الله كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود ثم تحول إلى الكعبة فيقول و ما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة يعني و ما رددناك إليها إلا امتحانا للناس كقوله وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً (1) .و يجوز أن يكون بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس [قبلته يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة و أن استقبالك بيت المقدس] (2)كان أمرا عارضا لغرض و إنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا و هي بيت المقدس لنمتحن الناس.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ قِبْلَتُهُ بِمَكَّةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الْقِبْلَةَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ.

مسألة

شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه و قرأ أبي تلقاء المسجد الحرام .و شطر نصب على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد الحرام أي في جهته و سمته لأن استقبال عين الكعبة فيه حرج عظيم على البعيد.و ذكر المسجد الحرام دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين فعلى هذا الكعبة قبلة من كان في المسجد الحرام و المسجد قبلة من كان في الحرم و الحرم قبلة من نأى من أي جانب كان و هو شطر المسجد و تلقاؤه و قراءة أبي وَ لِكُلٍّ قِبْلَةٌ إشارة إلى ما ذكرنا.و قوله تعالى هُوَ مُوَلِّيها أي هو موليها وجهته فحذف أحد المفعولين.ج.

ص: 166


1- الزيادة ليست في ج.
2- سورة المدّثّر:31.

و قيل هو لله أي الله موليها إياه على أن القراءة العامة يجوز أن يراد بها ذلك أيضا و يكون المعنى و لكل منكم يا أمة محمد وجهة أي جهة تصلى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية أينما تكونوا يجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة و كأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.

مسألة

و عن أبي حنيفة يجوز أن يصلى الفريضة في جوف الكعبة و عندنا لا يجوز و بذلك نصوص عن أئمة الهدى

و يؤيده قوله وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و قد بينا أن المراد به نحوه و من كان في جوف الكعبة لم يكن مصليا نحوها على أنه قد ورد النص بأنه يصلى النوافل في الكعبة.و قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يدل على أن البعيد من مكة يتوجه إلى المسجد فإنه لا يمكنه التوجه إلى عين الكعبة إلا لمن يقربها.

مسألة

ص: 167

مسألة

قوله تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ يجوز أن يكون أن يذكر ثاني مفعول منع و يجوز أن يكون مفعولا له. وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ أي بلادهما ففي أي مكان فعلتم التولية يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أي جهته التي أمر بها و رضيها و المعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام قد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها و افعلوا التولية منها فإنها ممكنة في كل مكان.

مسألة

قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الصَّلاَةُ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ صَلاَةُ السَّفَرِ وَ صَلاَةُ الْحَضَرِ وَ صَلاَةُ الْخَوْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ وَ صَلاَةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ وَ صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ وَ الصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ (1).

مسألة

و قوله اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (2) تفصيل هذه الجملة ما

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِعِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ صَلِّ قَائِماً فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ تُومِي إِيمَاءً (3).2.

ص: 168


1- وسائل الشيعة 3/3.
2- سورة آل عمران:191.
3- الدّر المنثور 110/2.

مسألة

و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ المراد بالنداء الأذان هاهنا و من في قوله مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان لإذا و تفسير له.و قيل إن الأنصار قالوا إن لليهود يوما يجتمعون فيه في كل سبعة أيام و النصارى كذلك فاجتمعوا يوم العَرُوبة إلى سعد بن زرارة فأنزل الله آية الجمعة.و أول جمعة جمعها رسول الله هي أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف و أقام بها يوم الإثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و أسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم فخطب و صلى الجمعة.و قد أبطل الله قول اليهود حين افتخروا بالسبت و أنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.

مسألة

[قال أبو حنيفة] (1)لا تجب الجمعة إلا على أهل الأمصار فأما من كان موضعه منفصلا عن البلد فإنه لا يجب عليه و إن سمع النداء.و عندنا و عند الشافعي تجب على الكل إذا بلغوا العدد الذي تنعقد به الجمعة مع الشرائط الأخر

يؤيده قوله إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ يعم الأمر بذلك كل متمكن من سماع النداء إلا من خصه الدليل.

وَ كَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ (2). ثم استثنى أشياء و بقي هذا على العموم.».

ص: 169


1- ليست في ج.
2- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 368/1،و ليس فيه لفظة«واجبة».

مسألة

و قوله وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ (1) الضرب في الأرض السفر و قال الفقهاء القصر ثابت بالكتاب مع الخوف و بالسنة في حال الأمن.فإن قيل كيف جمع بين الحذر و الأسلحة في قوله وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ (2) .قلنا جعل الحذر و هو التحرز و التيقظ آلة يستعملها الغازي فلذلك جمع بينه و بين الأسلحة في الأخذ و جعلا مأخوذين و نحوه قوله وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَ الْإِيمانَ (3) جعل الإيمان مستقرا لهم و متبوئا لتمكنهم فيه.

مسألة

و قوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (4) ليس بتهجين بل هو ثناء عليه و تحسين لحاله التي كان عليها ثم أمره بأن يختار على الهجود التهجد و على التزمل التشمر لا جرم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقبل على إحياء الليالي مع إصباحه حتى ظهرت السماء في وجوههم.و ترتيل القرآن قراءته على تؤدة بتبيين الحروف و إشباع الحركات حتى يجيء المتلو كالثغر المرتل و تَرْتِيلاً تأكيد لقوله وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ في إيجاب الأمر به و أنه مما لا بد منه للقارئ.

مسألة

وَ عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَ يَقُولُ أَ مَا سَمِعْتُمْ1.

ص: 170


1- سورة النساء:101.
2- سورة النساء:102.
3- سورة الحشر:9.
4- سورة المزّمّل:1.

قَوْلَ اللَّهِ إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هَذِهِ ناشئة اللَّيْلِ.

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: تَنَفَّلُوا فِي سَاعَةِ الْغَفْلَةِ وَ لَوْ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُورِثَانِ دَارَ الْكَرَامَةِ وَ دَارَ السَّلاَمِ وَ هِيَ الْجَنَّةُ وَ سَاعَةُ الْغَفْلَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَ الْعِشَاءِ (1).

مسألة

و قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أخبر تعالى بثبات الفلاح لهم.و الخشوع في الصلاة خشية القلب و إلزام البصر موضع السجود و من الخشوع أن يستعمل الآداب فيتوقى لف الثياب و العبث بالجسد و الثياب و الالتفات و التمطي و التثاؤب و التغميض و الفرقعة و التشبيك و تقليب الحصى و كل ما لا يكون من الصلاة.و إضافة الصلاة إليهم لأنهم ينتفعون بها و هي ذخيرة لهم و الله متعال عن الحاجة3.

ص: 171


1- وسائل الشيعة 249/3.

كتاب الصوم

[باب في وجوبه]

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (1) .فقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ يقتضي الوجوب من وجهين أحدهما كُتِبَ و هو في الشرع يفيد الإيجاب كما قيل المكتوبة في فريضة الصلوات و الثاني عَلَيْكُمُ لأنه يبنى على الإيجاب أيضا كقوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (2) و إذا جمع بينهما فالدلالة على الإيجاب أوكد.و معنى كُتِبَ فرض و أوجب و عبر عن الفرض بالكتب لأن المكتوب أبقى و أثبت و يجوز أن يكون معناه كتب في اللوح المحفوظ أنكم تتعبدون بذلك.و المراد فرض عليكم الصوم أياما معدودة كما فرض على من كان قبلكم أياما معدودة

ص: 172


1- سورة البقرة:183.
2- سورة آل عمران:97.

و إن زاد و نقص و اختلفت الأيام فالتشبيه واقع على جملة أمر الصوم لا على جميع أوقاته و أحكامه.لتتقوا النار التي أعدت للكافرين (1)أي توقوا أنفسكم عذاب النار فالصوم جنة فأوجب الله فرض الصيام على جميع المؤمنين بعموم اللفظ المنتظم للجميع و عم به جميع المؤمنات لمعرفة تغليب المذكر على المؤنث إذا اجتمعوا و بقرينة الإجماع إلا من خصه من الجميع في الآية التي تعقب ما تلوناه و ما يتبعها من السنة على لسان رسول الله صلّى اللّه عليه و آله.ثم قال مفسرا ما أجمله ضربا من التفسير أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (2) الآية فبين أن الفرض متعلق بأزمان مخصوصة و كشف عما يختص بالخروج عن فرضه في الحال من المرضى و المسافرين و إن كان ألزمهم إياه بعد الحال.

فصل

ثم قال وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ رخص في صدر الإسلام للمشاهدين له من أهل السلامة و الصحة من الأمراض إفطاره على التعمد على شرط قيامهم بفدية الإفطار من الإطعام و دل على أن الصوم له مع ذلك أفضل عنده و أولى من الفدية للإفطار.ثم نسخ تعالى ذلك بما أردفه من الذكر من القرآن فقال شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ4.

ص: 173


1- الآية في سورة آل عمران 131 هكذا «وَ اتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» . و هي ليست في موضوع الصوم خاصّة-فلاحظ.
2- سورة البقرة:184.

اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (1) الآية.فأوضح بها عن بقية تفسير الإجمال فيما أنزله أولا من فرض الصيام و بين أنه في أيام معدودات يجب فعله في شهر على التمام بما ذكر في العدة من فرض الكمال و حظر ما كان أباحه من قبل من الإفطار للفدية مع طاقة الصيام بإلزامه الفرض للشاهد في الزمان مع السلامة من العلل و الأمراض و أكد خروج المرضى و المسافرين من فرضه في الحال بتكرار ذكرهم للبصيرة و البيان و أبان عن علة خروجهم بما وصف من إرادتهم به تعالى لهم اليسر و كراهة العسر عليهم زيادة منه في البرهان.و جاء في التفسير أن ما جاء في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فإنها مدنية و ما فيه يا أَيُّهَا النّاسُ (2) مكية.و الصوم شرعا إمساك مخصوص عن أشياء مخصوصة و من شرط انعقاده النية و لأن تفسير الصوم بالصبر أولى لقوله تعالى وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (3) فقد قال المفسرون إن الصبر في الآية هو الصوم و لا يوهم أنه ترك

باب في تفصيل ما أجملناه

قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .و فيه ثلاثة أقوال أحسنها أنه كتب عليكم صيام أيام و كما محله نصب صفة مصدر محذوف أي فرض عليكم فرضا مثلما فرض على الذين من قبلكم.

ص: 174


1- سورة البقرة:185.
2- الزيادة من ج.
3- سورة البقرة:45.

و يحتمل أن يكون أيضا من الحال للصيام و تقديره كتب عليكم الصيام مفروضا في هذه الحال.و الثاني ما قاله الحسن إنه فرض علينا شهر رمضان كما كان فرض شهر رمضان على النصارى و إنما زادوا فيه و حولوه إلى زمان الربيع.و الثالث ما قاله جماعة إنه كان الصوم من العتمة إلى العتمة لا يحل بعد النوم مأكل و لا مشرب و لا منكح ثم نسخ و الأول هو المعتمد.و قال مجاهد المعني بالذين من قبلكم أهل الكتاب و قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تتقوا المعاصي بفعل الصوم و قال السدي لتتقوا ما حرم عليكم من المأكل و المشرب و قال قوم معناه لتكونوا أتقياء مما لطف بكم في الصيام لأنه لو لم يلطف بكم لم تكونوا أتقياء.و إنما قلنا إن الأول أصح لأنه يصح ذلك في اللغة إذا فرض عليهم صيام أيام كما فرض علينا صيام أيام و إن اختلف ذلك بالزيادة و النقصان.و قوله أَيّاماً مَعْدُوداتٍ قال الفراء إنه مفعول كقولك أعطى زيد المال و قال الزجاج هو ظرف كأنه قيل الصيام في أيام معدودات و إذا كان المفروض في الحقيقة هو الصيام دون الأيام فلا يجوز ما قاله الفراء إلا على سعة الكلام.و قال عطاء و ابن عباس أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ و قال ابن أبي ليلى المعني به شهر رمضان و إنما كان صيام ثلاثة أيام تطوعا.

وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كَانَ وَاجِباً صَوْمُهُ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ دُونَ أُمَّتِهِ وَ إِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَى أُمَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَحَسْبُ (1).ظ.

ص: 175


1- الوسائل 172/7 مع اختلاف في الألفاظ.

فصل

و قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ تقديره فعليه عدة من أيام أخر.و هذه الآية فيها دلالة على أن المسافر و المريض يجب عليهما الإفطار لأنه تعالى أوجب القضاء عليهما مطلقا و كل من أوجب القضاء بنفس السفر و المرض أوجب الإفطار و أوجب داود القضاء و خير في الإفطار فإن قدروا في الآية فأفطر على تقدير فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كان ذلك خلاف ظاهر الآية و خروجا عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل.و بوجوب الإفطار في السفر قال عمر بن عبد العزيز و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس و عبد الرحمن بن عوف و أبو هريرة و عروة بن الزبير و هو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام.و روي عن عمر أن رجلا صام في السفر فأمره أن يعيد صومه.

"وَ رَوَى يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ قَالَ أَ رَأَيْتَ لَوْ تَصَدَّقْتَ عَلَى رَجُلٍ بِصَدَقَةٍ فَرَدَّهَا عَلَيْكَ أَ لاَ تَغْضَبُ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكُمْ.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ عَزِيمَةٌ.

وَ رَوَى ابْنُ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ. و روى عطا عن المحرز بن أبي هريرة قال كنت مع أبي في سفر في شهر رمضان فكنت أصوم و يفطر فقال أبي أما إنك إذا أقمت فصليت و صام رجل في السفر فأمره عروة أن يقضي.

ص: 176

وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كَانَ أَبِي عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاَ يَصُومُ فِي السَّفَرِ وَ يَنْهَى عَنْهُ. و قال الطبري إنه لم ينقطع العذر برواية صحيحة أنه كان هاهنا صوم متعبد فنسخه الله بشهر رمضان.

فصل

و قوله تعالى وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الهاء عائدة على الصوم و قيل عائدة على الفداء لأنه معلوم و إن لم يجر له ذكر و الأول أقوى.و قال الحسن و أكثر أهل التأويل إن هذا الحكم كان في المراضع و الحوامل و الشيخ الكبير فنسخ من الآية المراضع و الحوامل و بقي الشيخ الكبير.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ذَلِكَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ يُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً مِنْهُمْ مِنْ مَالٍ نِصْفَ صَاعٍ وَ هُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ. و قال الشافعي مد عن كل يوم و عندنا مدان إن كان قادرا و إن لم يقدر إلا على مد أجزأه.

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَعْنَاهُ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ ثُمَّ أَصَابَهُمْ كِبَرٌ أَوْ عُطَاشٌ وَ شِبْهُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مُدٌّ (1). قال السدي لم تنسخ إنه كان فيمن يطيقه فصار إلى حال العجز عنه و إنما المعنى و على الذين يطيقونه ثم صاروا بحيث لا يطيقونه.و قوله فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي و من جمع بين الصوم و الصدقة و قيل من أعطى أكثر من مسكين.و المعني بقوله وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أنه سائر الناس كان في أول الإسلام من شاء صام و من شاء أفطر و افتدى لكل يوم طعام مسكين حتى نسخ ذلك.ف.

ص: 177


1- وسائل الشيعة 151/7 مع بعض الاختلاف.

و فَمَنْ تَطَوَّعَ من للجزاء أو بمعنى الذي.و قوله فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ (1) أي لكل يوم يفطر طعام مسكين و من أضاف و جمع المساكين فمعنى قراءته يؤول إليه أيضا لأنه إذا قيل إطعام مساكين للأيام بمعنى لكل يوم إطعام مسكين صار المعنى واحدا. وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي و صومه خير لكم من الإفطار و الفدية و كان هذا مع جواز الفدية فأما بعد النسخ فلا يجوز أن يقال الصوم خير من الفدية مع أن الإفطار لا يجوز له أصلا.

فصل

و قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2) .قيل في معناه قولان أحدهما من شاهد منكم الشهر مقيما فليصمه و ثانيهما من شهده بأن حضره و لم يغب لأنه يقال شاهد بمعنى حاضر و يقال بمعنى مشاهد.و عندنا أن من دخل عليه الشهر كره له أن يسافر حتى يمضي ثلاث و عشرون من الشهر إلا أن يكون سفرا واجبا كالحج (3)أو تطوعا كالزيارة فإن لم يفعل و خرج قبل ذلك في مباح أيضا كان عليه الإفطار و لم يجزه الصوم.و قال أكثر المفسرين فمن شهد الشهر بأن دخل عليه شهر رمضان و هو حاضر فعليه أن يصوم كله.و شَهْرُ رَمَضانَ خبر مبتدإ أي هي شهر رمضان يدل عليه أياما معدودات و قيل بدل من قوله اَلصِّيامُ و تقديره كتب عليكم شهر رمضان أو صوم شهر رمضان على حذف المضاف.ه.

ص: 178


1- الزيادة ليست في ج.
2- سورة البقرة:185.
3- الواجب بالنذر و شبهه.

و قوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ نُجُوماً (1). و قيل ابتدئ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان (1).فإن قيل كيف يجوز أن يقال أنزل في ليلة واحدة و في الآية إخبار عما كان و لا يصلح ذلك قبل أن يكون.قلنا يجوز ذلك كما قال تعالى وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ (2) أي إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الجنة أصحاب النار و مثله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ (3) و لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ (4) على أنه إذا كان وقت كذا أنزل لقد نصركم الله و الحكمة في أثنائه على اللوح المحفوظ ليكون لطفا للملائكة.و على هذا مسألة و هي أن بيان الأحكام الشرعية إنما يكون بالمواضعة و بما يتبع ذلك فالأول مثاله الكلام و الكتابة و الثاني هو الإشارة و الأفعال فالنبي صلّى اللّه عليه و آله يصح أن يبين الأحكام بالوجوه الأربعة و لا يصح البيان من الله إلا بالكلام و الكتابة (5)فإن الإشارة لا تجوز عليه و الأفعال التي تكون بيانا يقتضي مشاهدة فاعلها على بعض الوجوه و ذلك يقتضي مشاهدته أما الكتابة فقد بين الله تعالى للملائكة بها في اللوح المحفوظ.و قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ناسخ للفدية على قول من قال بالتخيير على ما تقدم و ناسخ للفدية أيضا في المراضيع و الحوامل عند من ذهبج.

ص: 179


1- انظر تفسير البرهان 182/1.
2- سورة الأعراف:44.
3- سورة آل عمران:123.
4- سورة التوبة:25.
5- الزيادة ليست في ج.

إليه و بقي الشيخ له أن يطعم و لم ينسخ.و عندنا أن المرضعة و الحامل إذا خافتا على ولديهما أفطرتا و كفرتا و كان عليهما القضاء فيما بعد إذا زال العذر و به قال جماعة من المفسرين كالطبري و غيره.

فصل

و قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ قد بينا أنه يدل على وجوب الإفطار في السفر لأنه أوجب القضاء بنفس السفر و المرض و كل من قال ذلك أوجب الإفطار و من قدر في الآية فأفطر فعدة من أيام أخر زاد في الظاهر ما ليس منه.فإن قيل هذا كقوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ (1) فمعناه فحلق ففدية من صيام.قلنا إنما قدرنا هناك فحلق للإجماع على ذلك و ليس هنا إجماع فيجب أن لا يترك الظاهر و لا نزيد فيه ما ليس منه.

وَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ حَدِّ الْمَرَضِ الَّذِي عَلَى صَاحِبِهِ فِيهِ الْإِفْطَارُ فَقَالَ هُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ ضَعْفاً فَلْيُفْطِرْ وَ إِنْ وَجَدَ قُوَّةً فَلْيَصُمْ كَانَ الْمَرِيضُ عَلَى مَا كَانَ (2)بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . و روي أن ذلك كل مرض لا يقدر معه على القيام بمقدار زمان صلاة (3).و قيل ما يخاف الإنسان معه الزيادة المفرطة في مرضه.7.

ص: 180


1- سورة البقرة:196.
2- مستدرك الوسائل 568/1.
3- وسائل الشيعة 157/7.

فصل

و قوله يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك اليسر في الآية الإفطار في السفر و العسر الصوم فيه و في المرض و العدة المأمور بإكمالها المراد بها أيام السفر أو المرض التي أمر بالإفطار فيها.و قوله وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عطف على تأويل محذوف دل عليه ما تقدم من الكلام لأنه لما قال يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ دل على أنه فعل ذلك ليسهل عليكم فجاز و لتكملوا العدة.و قيل هو عطف جملة على جملة لأن بعده محذوفا كأنه قال و لتكملوا العدة شرع ذلك أو أريد ذلك و مثله قوله وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (1) أي و ليكون من الموقنين (2)بما أريناه.هذا قول الفراء و الأول قول الزجاج و هو أجود لأن العطف يعتمد على ما قبله لا على ما بعده.و عطف الظرف على الاسم في قوله وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ جائز لأنه بمعنى الاسم و تقديره أو مسافرا و مثله دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً (3) كأنه قال دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما (4).

فصل

و قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أراد تعالى من شهد الشهر و هو ممنج.

ص: 181


1- سورة الأنعام:75.
2- الزيادة من ج.
3- سورة يونس:12.
4- الزيادة من ج.

يتوجه إليه الخطاب فعلى هذا الصبي إذا احتلم في نصف يوم من شهر رمضان أمسك ما بقي تأديبا و لا قضاء عليه فيما مضى و يمسك الكافر أيضا إذا أسلم في نهار رمضان للتأديب.و المجنون و المغمى عليه في الشهر كله لا قضاء عليهم عندنا بدلالة قوله فَمَنْ شَهِدَ و تقديره فمن كان شاهدا الشهر و يتوجه الخطاب إليه و المجنون و المغمى عليه ليسا بعاقلين حتى يتناولهما الخطاب.و الكافر و إن كان مخاطبا بالشرعيات فقد سامح الله معه إذا أسلم.و قسم هذا الكلام بعض أصحابنا فقال من نوى الصوم في أول الشهر ثم أغمي عليه و استمر به أياما فهو بحكم الصائم لم يلزمه قضاء و إن لم يكن مفيقا في أول الشهر وجب عليه القضاء (1)و إنما يحمل هذا على الاستحباب لأنه تعالى قال ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2)

باب من له عذر أو ما يجري مجرى العذر

قال الله تعالى وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ المراد به إذا كان مريضا (3)عليلا فلا يطيق الصوم أو يخاف على نفسه منه فيلزمه عدة من الأيام الأخر.و اعلم أن من فاته رمضان بعذر من مرض و غيره فعليه قضاؤه و وقت القضاء ما بين رمضانين الذي تركه و الذي بعده فإن أخر القضاء إلى أن يدركه رمضان آخر صام الذي أدركه و قضى الذي فاته و إن كان تأخيره لعذر من سفر أو مرض استدام به فلا كفارة عليه و إن تركه مع القدرة كفر عن كل يوم بمد من طعام يدل عليه بعد إجماع الطائفة و الاحتياط قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ و هذا هو القضاء و الأمر على الفور إلا لقرينة.

ص: 182


1- لانه لم ينو الصوم«ه ج».
2- سورة الحجّ:78.
3- الزيادة من ج.

ثم الظاهر أن الفدية على من أطاق القضاء و إن كان الخطاب راجعا إلى القضاء و الأداء معا فالظاهر أنه منهما (1)إلا أن يقوم دلالة على تركه و قال أهل العراق الحامل و المرضع اللتان يخافان على ولديهما يفطران و لا يقضيان يوما مكانه و لا صدقة عليهما و لا كفارة و به قال قوم من أصحابنا و قال الشافعي في رواية المزني عليهما القضاء و يطعمان لكل يوم مدا و هو مذهبنا المعول عليه.و الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر و يتصدق مكان كل يوم نصف صاع في قول أهل العراق و هو مذهبنا.

فصل

قال المرتضى من بلغ من الهرم إلى حد يتعذر معه الصوم وجب عليه الإفطار بلا كفارة و لا فدية و لو كان من ذكرنا حاله لو تكلف الصوم لتأتى منه لكن بمشقة شديدة يخشى المرض منها و الضرر العظيم كان له أن يفطر و يكفر عن كل يوم بمد من طعام قال

و مما يجوز أن يستدل به على أن الشيخ الذي لا يطيق الصوم يجوز له الإفطار من غير فدية قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (2) و إذا لم يكن في وسع الشيخ الصوم خرج من الخطاب به و لا فدية عليه إذا أفطر لأن الفدية إنما تكون عن تقصير و إذا لم يطق الشيخ الصوم فلا تقصير وقع منه.و يدل على أن من أطاق من الشيوخ الصوم لكن بمشقة شديدة يخشى منها المرض يجوز له أن يفطر و يفدي قوله تعالى وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ و معنى الآية أن الفدية تلزم مع الإفطار و كأن الله خير في ابتداء الأمر بهذه الآية الناس6.

ص: 183


1- أي من افطر مع القدرة فهو من جملة الفريقين اللذين يجب عليهما القضاء و الأداء «ه ج».
2- سورة البقرة:286.

كلهم بين الصوم و بين الإفطار و الفدية ثم نسخ ذلك بقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .و أجمعوا على تناول هذه الآية لكل من عدا الشيخ الهرم ممن لا يشق عليه الصوم و لم يقم دليل على أن الشيخ إذا كان الضرر في هذه الآية فهو إذا يدخل تحت حكم الآية الأولى (1).

فصل

و قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام بعد أن ذكر كلام الشيخ المفيد و هو أن الشيخ الكبير و المرأة الكبيرة إذا لم يطيقا الصيام و عجزا عنه فقد سقط عنهما فرضه و وسعهما الإفطار و لا كفارة عليهما و إذا أطاقاه بمشقة عظيمة و كان مرضهما يضر بهما ضررا بينا (2)وسعهما الإفطار و عليهما أن يكفرا عن كل يوم بمد من طعام.قال و هذا الذي فصل به بين من يطيق الصيام بمشقة و بين من لا يطيقه أصلا لم أجد به حديثا مفصلا و الأحاديث كلها على أنه متى عجزا كفرا عنه.و الذي حمله على هذا التفصيل هو أنه ذهب إلى أن الكفارة فرع على وجوب الصوم و من ضعف عن الصيام ضعفا لا يقدر عليه جملة فإنه يسقط عنه وجوبه جملة لأنه لا يحسن تكليفه للصيام و حاله هذه و قد قال الله تعالى لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و هذا ليس بصحيح لأن وجوب الكفارة ليس بمبني على وجوب الصوم لأنه ما كان يمتنع أن يقول الله متى لم تطيقوا الصيام فصار مصلحتكم في الكفارة و سقط وجوب الصوم عنكم و ليس لأحدهما تعلق بالآخر.ا.

ص: 184


1- الانتصار ص 67-68 مع بعض الاختصار.
2- عبارة الأصل هكذا:و كان يمرضهما ان صاماه أو يضر بهما ضررا بينا.

و الذي ورد في الأحاديث في ذلك

مَا رَوَاهُ الْحَلَبِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ كَبِيرٍ يَضْعُفُ عَنْ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ يَتَصَدَّقُ بِمَا يُجْزِي عَنْهُ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ.

وَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِ اللَّهِ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعُطَاشُ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا فَإِنْ لَمْ يَقْدِرَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا وَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: يَتَصَدَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ بِمُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ. و هذا ليس بمضاد للرواية التي تضمنت مدا من طعام أو إطعام مسكين لأن هذا الحكم يختلف بحسب اختلاف أحوال المكلفين فمن أطاق إطعام مدين يلزمه ذلك و من لم يطق إلا إطعام مد فعل ذلك و من لم يقدر على شيء منه فليس عليه شيء حسب ما قدمناه (1).و مقدار المد ثلاثمائة سوى سبعة دراهم و نصف درهم (2)

باب في النية و في علامة أول الشهر و آخره

من شرط صحة الصوم النية

قال الله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (3) و الإخلاص لله بالديانة هو أن يتقرب إليه بذلك من غير رياء و لا سمعة و هذا التقرب لا يصح إلا بالنية له

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (4).

ص: 185


1- تهذيب الأحكام 237/4-239 مع حذف اسانيد الأحاديث و اختصار.
2- المد ما يقرب من ثلاثة ارباع الكيلو(75 غرام).
3- سورة البينة:5.
4- وسائل الشيعة 7/7.

و يكفي في النية أن يعزم أنه يصوم شهر رمضان كله من أوله إلى آخره مع ارتفاع ما يوجب إفطاره.و النية إرادة مخصوصة و لا تتعلق إلا بحادث و نحوه و هاهنا لا تتعلق بالإمساك و إنما تتعلق بكراهة تناول المفطرات (1)و قد ذكرنا ذلك مستوفى في كتاب النيات في جميع العبادات.و إذا نوى الإنسان في أول شهر رمضان صوم الشهر كله إلى آخره قال بعد النية في قلبه إن شاء الله فإن الله تعالى يقول وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (2) .و الصيام كما ذكرنا هو الكف عن تناول أشياء و الصبر عليه و قد ورد الأمر من الله بالكف عنها في أزمان مخصوصة مما يجب أن يمسك عنه الصائم مما إن أقدم عليه يوجب القضاء سبعة عشر شيئا فإذا كف العبد عنها في أوقات الصيام المحدودة بنية الكف عنها لوجه الله كان آتيا بالصيام و قد حظر الله على الصائم تناول جميع ما ينقض صومه من حد بيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود و هو بياض الفجر عند انسلاخ الليل فإذا طلع الفجر فقد دخل وقت فرض الصيام و دخل وقت فريضة الصلاة ثم الحظر ممتد إلى دخول الليل و حد دخوله مغيب قرص الشمس و علامة سقوط القرص عدم الحمرة من المشرق فإذا عدمت الحمرة من المشرق سقط الحظر و دخل وقت الإفطار بضروبه من الأكل و الشرب و الجماع و سائر ما يتبع ذلك و يختص حظره بحال الصيام.و لا يلزم الكفارة مع القضاء إلا في تسعة مما قدمناه مجملا على أنه يجب3.

ص: 186


1- لانه عدم محض،و النية يجب تعلقها بالحادث لكونها ارادة،و إذا تعلقت بالكراهة لم يلزم اجتماع الضدين،لان متعلق الإرادة هو الكراهة و متعلق الكراهة هو تناول المفطرات، فزال التضاد«ه ج».
2- سورة الكهف:23.

الإمساك عن جميع المحرمات و القبائح التي هي سوى التسعة الموجبة للقضاء و الكفارة و الثمانية الموجبة للقضاء دون الكفارة و يتأكد وجوب الامتناع عنها لمكان الصوم.

فصل

قال الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ (1) .جعل الله الأهلة علامات الشهور و دلائل أزمان الفروض و مواقيت للناس في الحج و الصوم و حلول آجال الدين و محل الكفارات و فعل الواجب و المندوب إليه.

سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْأَهِلَّةِ فِي قَوْلِهِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ فَقَالَ هِيَ أَهِلَّةُ الشُّهُورِ فَإِذَا رَأَيْتَ الْهِلاَلَ فَصُمْ وَ إِذَا رَأَيْتَهُ فَأَفْطِرْ وَ لَيْسَ بِالرَّأْيِ وَ التَّظَنِّي (2). و يسمى هلالا لليلتين (3)قاله الزجاج.فإن قيل عما ذا وقع السؤال من حال الأهلة.قيل عن زيادتها و نقصانها و ما وجه الحكمة في ذلك فأجيب بأن مقاديرها يحتاج إليها الناس في صومهم و فطرهم و حجهم و عدد نسائهم و محل ديونهم و غير ذلك.).

ص: 187


1- سورة البقرة:189.
2- وسائل الشيعة 182/7،و فيه عدة أحاديث بهذا المضمون و ليس فيها جملة«و ليس بالرأى و التظنى»،و ذكر حديثا عن ابى جعفر الباقر عليه السلام و لفظه«إذا رأيتم الهلال فصوموا و إذا رأيتموه فأفطروا..».
3- قال ابن منظور:و الهلال غرة القمر حين يهله الناس في غرة الشهر،و قيل يسمى هلالا لليلتين من الشهر ثمّ لا يسمى به الى أن يعود في الشهر الثاني،و قيل يسمى به ثلاث ليال ثمّ يسمى قمرا،و قيل يسماه حتّى يحجر،و قيل يسمى هلالا الى أن يبهر ضوؤه سواد الليل و هذا لا يكون الا في الليلة السابعة.انظر لسان العرب(هلل).

و فيها دلالة واضحة على أن الصوم لا يثبت بعدد الجدوليين و أنه يثبت بالهلال لأن عددهم لو كان مراعى لما أحيل في مواقيت الناس في الحج على ذلك بل أحيل على العدد.و الميقات منتهى الوقت و الآخرة منتهى الخلق و الإهلال ميقات الشهر.

فصل

و من قال إن قوله تعالى وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ يدل على أن شهر رمضان لا ينقص أبدا فقد أبعد من وجهين أحدهما لأن قوله وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ معناه و لتكملوا عدة الشهر سواء كان الشهر تاما أو ناقصا أعني ثلاثين يوما أو تسعة و عشرين يوما و الثاني أن ذلك راجع إلى القضاء لأنه قال عقيب ذكر السفر و المرض فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ يعني عدة ما فاته و هذا بين.فالهلال علامة الشهر و به وجبت العبادة في الصيام و الإفطار و الحج و سائر ما يتعلق بالشهور على أهل الشرع و ربما خفي لعارض أو استبين أهل مصر لعلة و ظهر لأهل غير ذلك المصر و لكن الغرض إنما تعلق على العبادة إذ هو العلم دون غيره بما قدمناه من آي القرآن.فإن قيل أي تعلق لقوله تعالى وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها (1) بسؤال قدم عن الأهلة.قلنا لأنه لما بين ما فيه من وجه الحكمة اقتضى لتعملوا على أمور متعددة و لتجروا أموركم على استقامة فإنما البر أن تتبعوا أمر الله و أن تأتوا البيوت من أبوابها أي ائتوا البر من وجهه الذي أمر الله به و رغب فيه و هذا عام في كل شيء حتى في الصوم و الإفطار فإنه يجب أن لا يصام فرضا من عند رؤية هلال شعبان9.

ص: 188


1- سورة البقرة:189.

إلا بعد أن يقضي ثلاثون يوما مع العلة في السماء و لا يفطر إلا بالرؤية أو بعد انقضاء ثلاثين يوما من عند رؤية هلال شهر رمضان إذا كان في آخره علة في السماء لا يصح معها الترائي قبله إن كان

باب أقسام الصوم الواجب

الصوم الواجب على ضربين مطلق من غير سبب و هو شهر رمضان قال تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .و الثاني ما هو واجب بسبب و هو عشرة أوجه و وجوبها كوجوب شهر رمضان أحدها صوم شهرين متتابعين في كفارة الظهار قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ (1) .الثاني صيام شهرين متتابعين فيمن أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا قال الله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ و قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .الثالث صيام شهرين متتابعين في قتل الخطإ ممن لم يجد العتق قال الله تعالى وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ (2) .الرابع صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام و الكسوة

ص: 189


1- سورة المجادلة:3-4.
2- سورة النساء:92.

و العتق قال الله تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ (1) كل ذلك متتابع و ليس بمفترق.الخامس صيام أذى حلق الرأس قال تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (2) فصاحبها مخير إن شاء صام ثلاثا أو تصدق أو نسك.السادس صوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي قال الله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (3) .السابع صوم جزاء الصيد قال الله تعالى وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً (4) .الثامن صوم النذر سواء كان متعينا أو غير متعين قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (5) و قال يُوفُونَ بِالنَّذْرِ (6) .التاسع صوم الاعتكاف و قال تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (7) .العاشر صوم قضاء ما فات من شهر رمضان و النذر قال الله تعالى فَعِدَّةٌ

مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) يلحق بها صوم كفارة من أفطر يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال فإنه أيضا واجب.فأما بيان آية صوم شهر رمضان فقد مضى و نحن نبين الآن ما يتعلق بالوجوه الأخر من الصوم الواجب و نفرد لكل واحد فصلا مفردا إن شاء الله تعالى7.

ص: 190


1- سورة المائدة:89.
2- سورة البقرة:196.
3- سورة البقرة:196.
4- سورة المائدة:95.
5- سورة المائدة:1.
6- سورة الإنسان:7.
7- سورة البقرة:187.

مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) يلحق بها صوم كفارة من أفطر يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال فإنه أيضا واجب.فأما بيان آية صوم شهر رمضان فقد مضى و نحن نبين الآن ما يتعلق بالوجوه الأخر من الصوم الواجب و نفرد لكل واحد فصلا مفردا إن شاء الله تعالى

الفصل الأول في الصوم الذي هو كفارة الظهار

قال تعالى اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا (2) .يقول فمن لم يجد الرقبة يعني عجز عنها فالصيام و التتابع فيه أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما و عند قوم إن بدأ من نصف شهر لا يفطر فيما بينهما فإن أفطر لا لعذر استأنف فإن أفطر لعذر من مرض اختلفوا فمنهم قال يستأنف من عذر و غير عذر و قال قوم يبني.و أجمعوا على أن المرأة إذا أفطرت للحيض في الشهرين المتتابعين في كفارة قتل الخطإ أنها تبني فقاسوا عليه المظاهر.و روى أصحابنا أنه إذا صام شهرا و من الثاني بعضه و لو يوما ثم أفطر لغير عذر فقد أخطأ إلا أنه يبني فإن أفطر قبل ذلك بغير عذر استأنف و إن كان لعذر يبني قال تعالى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ثم قال فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً4.

ص: 191


1- سورة البقرة:184.
2- سورة المجادلة:2-4.

الفصل الثاني في صوم كفارة قتل الخطإ

قال الله تعالى وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ (1) يعني فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة عن قتله المؤمن لإعساره فعليه صيام شهرين متتابعين.و اختلفوا في معناه فقال قوم مثل ما قلناه ذهب إليه مجاهد و قال قوم فمن لم يجد الدية فعليه صوم الشهرين عن الرقبة و الدية و تأويل الآية فمن لم يجد رقبة مؤمنة و لا دية يسلمها إلى أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين ذهب إليه مسروق.و الأول هو الصحيح لأن دية قتل الخطإ على العاقلة على ما نذكره في بابه و الكفارة على القاتل بإجماع الأمة على ذلك.و صفة التتابع في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بإفطار يوم و قال أصحابنا إذا صام شهرا و زيادة ثم أفطر خطأ جاز له البناء كالتفصيل الذي ذكرناه في الفصل الأول.و قوله تَوْبَةً مِنَ اللّهِ أي رفعة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم من فرض تحرير رقبة مؤمنة بإيجاب صوم الشهرين المتتابعين

الفصل الثالث في صوم كفارة اليمين

قال الله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ (2) فحد من لم يكن بواجد هو من9.

ص: 192


1- سورة النساء:92.
2- سورة المائدة:89.

ليس عنده ما يفضل عن قوته و قوت عياله يومه و ليلته و هو قول قتادة و الشافعي أيضا فصوم هذه الثلاثة الأيام متتابع.فأما إذا قال القائل إذا فعلت كذا فلله علي أن أتصدق بمائة دينار أو أصوم يوم كذا فهذا عندنا نذر و عند أكثر الفقهاء يلزمه مائة دينار أو الصوم.و قال أبو علي عليه كفارة يمين لقوله ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ و هو عام في جميع الأيمان و عندنا هذا ليس بيمين بل هو نذر يلزمه الوفاء به لقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و لقوله وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ و لقوله يُوفُونَ بِالنَّذْرِ و الوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه.و الوفاء إمضاء العقد على الأمر الذي يدعو إليه العقد و منه قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أي العقود الصحيحة لأنه لا يلزم أحدا أن يفي بعقد فاسد و كل عقد صحيح يجب الوفاء به

الفصل الرابع في صيام أذى حلق الرأس

قال الله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (1) .أمر الله تعالى أن لا يزيلوا شعور رؤسهم من أول ذي القعدة حتى ينتهي الهدي إلى المكان الذي يحل نحره فيه فمن مرض أو قمل رأسه أو تأذى به فعليه فدية من صيام فالذي رواه أصحابنا أن الصيام ثلاثة أيام أو صدقة ستة مساكين و روي عشرة مساكين (2)و النسك شاة و روي عن كعب بن عجرة الأنصاري و مجاهد7.

ص: 193


1- سورة البقرة:196.
2- انظر الأحاديث في ذلك وسائل الشيعة 295/9-297.

و علقمة و إبراهيم و الربيع و اختار الجبائي مثل ما قلناه أن الصوم ثلاثة أيام و قال الحسن و عكرمة صوم عشرة أيام

الفصل الخامس في صوم دم المتعة

قال الله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ (1) .فالهدي واجب على المتمتع فإن لم يجد الهدي و لا ثمنه صام ثلاثة أيام في الحج و عندنا أن وقت صوم هذه الثلاثة الأيام يوم قبل التروية و يوم التروية و يوم عرفة فإن صام في أول العشر جاز ذلك رخصة و إن صام يوم التروية و يوم عرفة قضى يوما آخر بعد التشريق فإن فاته يوم التروية فلا يصوم يوم عرفة لذلك بل يصوم بعد انقضاء أيام التشريق ثلاثة أيام متتابعات و صوم السبعة أيام إذا رجع إلى أهله فأما أيام التشريق فلا يجوز صومها عندنا لمن كان بمنى و بمكة حاجا لصوم دم المتعة و غيره

الفصل السادس في صوم جزاء الصيد

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً (2) .قيل في معناه قولان5.

ص: 194


1- سورة البقرة:196.
2- سورة المائدة:95.

أحدهما لا تقتلوا الصيد محرمين فمن صاد فعليه الجزاء أو الصدقة أو أن يقوم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاما في قول عطاء و هو مذهبنا.و قال قتادة يقوم نفس الصيد المقتول حيا ثم يجعل قيمته طعاما.و نصب صياما على التمييز و في معناه قولان أحدهما يقوم ذلك المقتول بدراهم و تفض على الطعام ثم يصام لكل مد من الطعام يوم عن عطاء و قال غيره عن كل يوم مدين و هو مذهبنا و قال سعيد بن جبير يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام.

وَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فِي قَوْلِهِ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قَالَ قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَ وَ تَدْرِي كَيْفَ كَانَ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً فَقُلْتُ لاَ قَالَ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ قِيمَةً ثُمَّ تُفَضُّ تِلْكَ الْقِيمَةُ عَلَى الْبُرِّ ثُمَّ يُكَالُ ذَلِكَ الْبُرُّ أَصْوَاعاً فَيَصُومُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْماً (1). هذا إذا أصابه المحل في الحرم

الفصل السابع في صوم النذر

قال الله تعالى وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (2) و قال أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3) يقال وفى بعهده و أوفى لغة أهل الحجاز و هي لغة القرآن و قد ذكرنا ما في الوفاء بالنذر.أما العقود فجمع العقد بمعنى المعقود و هو أوكد العهود.1.

ص: 195


1- تفسير البرهان 504/1.
2- سورة الحجّ:29.
3- سورة المائدة:1.

و الفرق بين العهد و العقد أن العقد فيه معنى الاستيثاق و الشد و لا يكون إلا بين متعاقدين و العهد قد ينفرد به الواحد فكل عهد عقد و لا يكون كل عقد عهدا خاطب الله تعالى المؤمنين و تقديره يا أيها المؤمنون و هو اسم تعظيم و تكريم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و الأمر على الوجوب شرعا فعلى هذا من نذر صوم يوم بعينه فعليه الوفاء به واجبا.و اختلفوا في هذه العهود على أربعة أقوال أحدها أن المراد بها العقود التي يتعاقد الناس بينهم و يعقدها المرء على نفسه كعقد الإيمان و النذور و عقد العهد و عقد البيع.و ثانيها أنها العهود التي أخذها الله على العباد مما أحل و حرم.و ثالثها أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا على النصرة و المؤازرة على من حاول ظلمه.و رابعها أن ذلك أمر من الله لأهل الكتاب قالوا فإنما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة و الإنجيل في تصديق نبينا صلّى اللّه عليه و آله.و الأقوى أن يكون على العموم فإن ذلك بعرف الشرع يحمل على العموم و الاستغراق وجوبا فيدخل تحته الصوم و الصلاة و الحج و غير ذلك

الفصل الثامن في صوم الاعتكاف

قال الله تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (1) .قيل في معناه قولان أحدهما أنه أراد به الجماع عن ابن عباس و غيره و الثاني أنه أراد به الجماع و كل ما كان دونه من قبله و غيرها و هو مذهبنا.7.

ص: 196


1- سورة البقرة:187.

و قوله وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ فعندنا الاعتكاف هو اللبث في أحد المساجد الأربعة للعبادة من غير اشتغال بما يجوز تركه من أمور الدنيا و له شرائط مذكورة في كتب الفقه و أصله اللزوم.و قوله تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ أي فرائضه و الحد منتهى الشيء.و لا يجوز الاعتكاف إلا بالصوم و به قال أبو حنيفة و مالك بن أنس و دلت الآية من فحواها على الصوم الواجب في الاعتكاف و الدليل القاطع من القرآن قوله ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و إن كان على الجملة.و عندنا لا يكون أقل من ثلاثة أيام و به قال أهل المدينة.و قيل إن هذه الآية من أولها أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ نزلت في شأن أبي قيس بن صرمة (1)و كان يعمل في أرض له فأراد الأكل فقالت امرأته نصلح لك شيئا فغلبت عيناه ثم قدمت إليه الطعام فلم يأكل فلما أصبح لاقى جهدا فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك فنزلت الآية (2).و روي أن عمر أراد أن يواقع زوجته في شهر رمضان بالليل فقالت إني نمت (3)فظن أنها تعتل عليه فوقع عليها ثم أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله من الغد فنزلت الآية فيهما (4).و عن الصادق عليه السّلام أنها نزلت في خوات بن جبير بمثل قصة أبي قيس بن صرمة و كان ذلك يوم الخندق (5)1.

ص: 197


1- كذا في النسختين،و في المصدر«قيس بن صرمة»،و ذكر في المصادر الحديثية بعناوين مختلفة-انظر الإصابة 177/2 و 160/4.
2- اسباب النزول للواحدى ص 30 مع اختلاف في الألفاظ.
3- انما قالت نمت لان الجماع بعد النوم كان محظورا عليهم«ه ج».
4- اسباب النزول للواحدى ص 31.
5- انظر تفسير البرهان 186/1.

الفصل التاسع في صوم قضاء ما فات من شهر رمضان لعذر

قال الله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) و تقديره فمن كان منكم في سفر يعني مسافرا فليصم عدة من أيام أخر و الأمر على الإيجاب في الشرع فعلم أن قضاء ما يفوت من شهر رمضان لعذر واجب يجوز متتابعا و متفرقا و التتابع أفضل و به قال الشافعي و مالك و قال أهل العراق هو مخير.

وَ رَوَى عَبْدُ خَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِنَّ عَلَيَّ أَيَّاماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَ فَيَجُوزُ أَنْ أَقْضِيَهَا مُتَفَرِّقَةً قَالَ اقْضِهَا إِنْ شِئْتَ مُتَتَابِعَةً وَ إِنْ شِئْتَ تَتْرَى قَالَ فَقُلْتُ إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ لاَ تُجْزِي إِلاَّ مُتَتَابِعَةً قَالَ بَلْ تُجْزِي تَتْرَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَ لَوْ أَرَادَهَا مُتَتَابِعَةً لَبَيَّنَ التَّتَابُعَ كَمَا قَالَ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ. و قال المرتضى يخير أصحابنا للقاضي لصوم شهر رمضان إذا فاته بين التفريق و المتابعة و لي في ذلك تأمل و الأقوى أن يلزمه متتابعا إذا لم يكن له عذر لأن الواجبات عندنا هي على الفور شرعا دون التراخي و القول بتخييره في ذلك يدفع هذا الأصل فأما عند العذر فلا خلاف أنه يجوز التفريق.و معنى قوله تترى أي متواترة تقول العرب جاءت الخيل متتابعة إذا جاء بعضها في أثر بعض بلا فصل و جاءت متواترة إذا تلاحقت و بينها فصل و العامة يوهمون فيقولون للمتتابع متواتر.و أما صيام النذر فإن كان الناذر نذر أن يصوم يوما بعينه في سفر أو حضر ثم4.

ص: 198


1- سورة البقرة:184.

وافق ذلك اليوم أن يكون مسافرا فإنه يجب الصيام في حال السفر أيضا فإن اتفق أن يكون ذلك اليوم يوم عيد أو يكون الناذر مريضا فعليه الإفطار و القضاء.و قد نص على قضاء ما يفوت من صيام النذر لعذر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تفصيلا و نص عليه القرآن جملة كما قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ

الفصل العاشر في صيام شهرين متتابعين على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا

من أفطر في شهر رمضان متعمدا بالجماع في الفرج لزمه القضاء و الكفارة عندنا و الكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا و عليه إجماع الطائفة المحقة.و الدليل عليه على سبيل التفصيل إنما يكون من السنة

ص: 199

باب مسائل شتى من ذلك

من صام في السفر واجبا يجب عليه الإعادة غير النذر المقيد صومه بالسفر و غير الثلاثة الأيام في الحج بدل هدي المتعة.و الحجة لقولنا زائدا على الإجماع المكرر

قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ فأوجب الله القضاء بنفس السفر.فإن قيل فيجب أن تقولوا مثل ذلك في قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ و لا تضمروا فحلق.قلنا هكذا يقتضي الظاهر و لو خلينا و إياه لم نضمر شيئا لكن أضمرناه بالإجماع و لا دليل و لا إجماع نقطع به في الموضع الذي اختلفنا فيه و الشيء إذا تكرر تقرر.و من تمضمض لطهارة فوصل الماء إلى جوفه لا شيء عليه من قضاء و لا غيره و إن وصل لغير طهارة من تبرد أو غيره ففيه القضاء خاصة.

ص: 200

فصل

قال الله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (1) .الرفث الجماع هاهنا بلا خلاف (2)و روي عنهما (3)عليهما السّلام كراهية الجماع في أول كل شهر إلا أول ليلة من شهر رمضان لمكان الآية (4).و يمكن أن يقال الوجه في ذلك تكسير الشهوة لسائر الشهر و إرضاء النفس اللوامة.و الأشبه أن يكون المراد بليلة الصيام ليالي الشهر كله و إنما ذكر بلفظ التوحيد لأنه اسم جنس دل على الكثير.و قوله تعالى عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ معناه أنهم كانوا لما حرم عليهم الجماع في شهر رمضان بعد النوم خالفوا في ذلك فذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك الفريضة.فإن قيل أ ليس الخيانة انتقاص الحق عن جهة المساترة فكيف يساتر الإنسان نفسه.قلنا عنه جوابان أحدهما أن بعضهم كان يساتر بعضا فيه فصار كأنه يساتر نفسه لأن ضرر النقص و المساترة داخل عليه و الثاني أنه يعمل عمل المساتر له فهو يعمل لنفسه عمل الخائن له.1.

ص: 201


1- سورة البقرة:187.
2- قال ابن منظور:الرفث الجماع و غيره ممّا يكون بين الرجل و امرأته،يعنى التقبيل و المغازلة و نحوهما ممّا يكون في حالة الجماع،و أصله قول الفحش-لسان العرب(رفث).
3- المراد بقولنا«عنهما»الباقر و الصادق عليهما السلام،و كذا قولنا عن احدهما عليهما السلام«ه ج».
4- وسائل الشيعة 255/7 بمضمونه،و انظر تفسير البرهان 186/1.

و قوله تعالى وَ عَفا عَنْكُمْ أي أزال تحريم ذلك عنكم و ذلك عفو عن تحريمه عنهم فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ أي جامعوهن و معناه الإباحة دون الأمر وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ في معناه قولان أحدهما قال الحسن يعني طلب الولد و الثاني قال قتادة يعني الحلال الذي بينه الله في كتابه بقوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا إباحة للأكل و الشرب حتى يظهر بياض الفجر من سواد الليل و قيل خيط الفجر الثاني مما كان في موضعه من الظلام و قيل النهار من الليل فأول النهار طلوع الفجر الثاني لأنه أوسع ضياء.و قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ يحتمل من معنيين التبعيض لأن المعنى بعض الفجر و ليس الفجر كله أو التبيين أي حتى يتبين الخيط الأبيض الذي هو الفجر.

فصل

و قوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ و الليل هو بعد غروب الشمس و علامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق و إقبال السواد منه و إلا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة و عدم الجبال و الروابي فقد دخل الليل.و قوله وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا يمكن أن يقال هو أمر على الوجوب يتناول ما هو قوام البدن و أمر على الاستحباب بأكل السحور فإنه عون على الصوم و خلاف على اليهود و اقتداء بالرسول

فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ: يُسْتَحَبُّ السَّحُورُ وَ لَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ وَ أَفْضَلُهُ التَّمْرُ (1).

وَ رُوِيَ: أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِنِّي وَضَعْتُ خَيْطَيْنِ مِنْ شَعْرٍ أَبْيَضَ وَ أَسْوَدَ فَكُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِمَا فَلاَ يَتَبَيَّنَانِ لِي فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ4.

ص: 202


1- الكافي 94/4.

حَتَّى رُئِيَ نَوَاجِذُهُ وَ قَالَ يَا ابْنَ حَاتِمٍ إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَ سَوَادُ اللَّيْلِ فَابْتَدِئِ الصَّوْمَ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ (1). و قد بين سبحانه الانتهاء أيضا بقوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي من وقت طلوع الفجر الثاني و هو الفجر الصادق المستطير المعترض الذي يأخذ الأفق و يجب عنده الصلاة إلى وقت دخول الليل على ما حددناه.

فصل

و قوله تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ (2) .قيل معناه لتبلون بالعبادات في أنفسكم كالصلاة و الصيام و غيرهما و في أموالكم من الزكوات و الأخماس و الإنفاق في سبيل الله ليتميز المطيع من العاصي.و يقال لشهر رمضان شهر الصبر لصبر صائمه عن الطعام و الشراب نهارا و صبره إياهم عن المأكول و المشروب أي كفه إياهم و حبسه لهم عن ذلك قال تعالى وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (3) أي بالصوم و الصلاة و هو خطاب لجميع من هو بشرائط التكليف لفقد الدلالة على التخصيص و اقتضاء العموم لذلك و الصبر هو منع النفس عن محابها و كفها عن هواها و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله إذا أحزنه أمر استعان بالصبر و الصلاة.و اعلم أن من تحرى الفجر فلم يره فتسحر ثم علم بعد ذلك أنه كان طالعا لم يكن عليه قضاء بدلالة قوله ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ إذا كان الصوم فرضا كشهر رمضان فأما إن كان قضاء لشهر رمضان أو نافلة فلا يصح صوم ذلك اليوم.3.

ص: 203


1- الدّر المنثور 199/1 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2- سورة آل عمران:186.
3- سورة البقرة:45 و 153.

و قوله لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و إن لم يكن تحرى الفجر و أقدم على التسحر قبل تحريه و قد طلع الفجر حينئذ وجب عليه القضاء لما كان منه من تفريطه في فرض الصيام.

فصل

و قد جرى ذكر النسخ في المسح على الخفين بسورة المائدة و نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة و كذا في آية الصوم ذكرنا دليلا على جوازه

و قال تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها (1) .فالنسخ حقيقته كل دليل شرعي دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص الأول غير ثابت فيما بعد على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه.و النسخ في الشرع على ثلاثة أقسام (2)نسخ الحكم دون اللفظ و نسخ اللفظ دون الحكم و نسخهما معا.فالأول كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (3) فكان الفرض الأول وجوب ثبوت الواحد للعشرة فنسخ بثبوت الواحد للاثنين فحكم الآية الأولى منسوخ و تلاوتها ثابتة و نحوها آية العدة و الفدية و غير ذلك.و الثاني كآية الرجم

فَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهَا كَانَتْ مَنْزِلَةَ الشَّيْخُ وَ الشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا5.

ص: 204


1- سورة البقرة:106.
2- انظر في ذلك الاتقان للسيوطي 26/2،و هذا التقسيم لم يعرف عند الشيعة الإماميّة.
3- سورة الأنفال:64-65.

فَارْجِمُوهُمَا الْبَتَّةَ فَإِنَّهُمَا قَضَيَا الشَّهْوَةَ جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1). فرفع لفظها و بقي حكمها.و الثالث ما هو مجوز و لم يقطع بأنه كان

"وَ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَهُوَ كُفْرٌ (2). و اعلم أن سبيل النسخ سبيل سائر ما تعبد الله به و شرعه على حسب ما يعلم من المصلحة فيه فإذا زال الوقت الذي تكون المصلحة مقرونة به زال بزواله و ذلك مشروط بما في المعلوم من المصلحة به و هذا كاف في إبطال قول من أبى النسخ.و معنى الآية ما نبدل من آية أو نتركها أو نؤخرها نأت بخير منها لكم في التسهيل كالأمر بالقتال أو مثلها كالتوجه إلى القبلة

باب الزيادات :

سَأَلَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ عِلَّةِ الصِّيَامِ فَقَالَ إِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الصِّيَامَ لِيَسْتَوِيَ بِهِ الْغَنِيُّ وَ الْفَقِيرُ وَ ذَلِكَ أَنَّ الْغَنِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَجِدَ مَسَّ الْجُوعِ فَيَرْحَمَ الْفَقِيرَ [لِأَنَّ الْغَنِيَّ كُلَّمَا أَرَادَ شَيْئاً قَدَرَ عَلَيْهِ] فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ [يُسَوِّيَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَ أَنْ] يُذِيقَ الْغَنِيَّ مَسَّ الْجُوعِ لِيَرِقَّ عَلَى الضَّعِيفِ وَ يَرْحَمَ الْجَائِعَ (3).

مسألة

من قرأ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فطعام مسكين عطف بيان لقوله فدية و من

ص: 205


1- الاتقان 25/2.
2- الاتقان 25/2،و هو مرويّ عن عمر.
3- من لا يحضره الفقيه 73/2.و الزيادتان منه.

أضاف الفدية إلى طعام فهو كإضافة البعض إلى ما هو بعض له فإنه سمى الطعام الذي يفدى به فدية ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية و غيرها و هذا كقولهم خاتم حديد.

مسألة

و قوله فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ أي فعليه عدة ارتفاعه على الابتداء و يجوز أن يكون خبر ابتداء أي فالذي ينويه عدة من أيام أخر.فإن قيل كيف قيل فعدة على التنكير و لم يقل فعدتها.قلنا لما قيل فعدة فالعدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة فكأنها إن أفطر بعض الشهر فبعضه و إن أفطر الكل فالكل.و اختلفوا في العدة من الأيام الأخر فقال الحسن هي على التضييق إذا برأ المريض أو قدم المسافر و عندنا موقت فيما بين رمضانين فإن فرط فعلى ما ذكرناه.

مسألة

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قَالَ مَنْ مَرِضَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ ثُمَّ صَحَّ وَ لَمْ يَقْضِ مَا فَاتَهُ مُتَوَانِياً حَتَّى جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ لِكُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ وَ أَنْ يَقْضِيَ بَعْدَهُ (1).

مسألة

وَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَصُومُ فِي السَّفَرِ تَطَوُّعاًظ.

ص: 206


1- تفسير البرهان 181/1،مع اختلاف في بعض الألفاظ.

وَ لاَ فَرِيضَةً مُنْذُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ (1)عِنْدَ صَلاَةِ الْهِجِّيرِ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ وَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا فَقَالَ قَوْمٌ لَوْ تَمَمْنَا يَوْمَنَا هَذَا فَسَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الْعُصَاةَ فَلَمْ يَزَالُوا يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ الاِسْمِ حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ (2).

مسألة

و قوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي أنزل في فرضه و إيجاب صومه على الخلق القرآن فيكون فيه بمعنى في فرضه كما يقول القائل أنزل الله في الزكاة كذا يريد في فرضها و قد ذكرنا له معنى آخر و المراد بالهدى الأولى الهداية من الضلالة و بالهدى الثانية بيان الحلال و الحرام.

وَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْقُرْآنُ جُمْلَةُ الْكِتَابِ وَ الْفُرْقَانُ الْمُحْكَمُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ (3).

مسألة

و قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ الألف و اللام في الشهر للعهد و المراد به شهر رمضان و ينتصب على أنه ظرف لا على أنه مفعول به لأنه لو كان مفعولا به للزم صومه المسافر كما يلزم المقيم من حيث إن المسافر يشهد الشهر4.

ص: 207


1- الكراع-بضم الكاف-اسم لجمع الخيل،و كراع الغميم موضع بناحية الحجاز بين مكّة و المدينة،و هو واد امام عسفان بثمانية أميال،و هذا الكراع جبل اسود في طرف الحرة يمتد إليه-معجم البلدان 443/4.
2- تفسير البرهان 180/1 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
3- البرهان 155/4.

كما يشهد المقيم فلما لم يلزم المسافر علمنا أن معناه فمن شهد منكم المصر في الشهر فليصمه أي فليصم جميعه و لا يكون الشهر مفعولا به.فإن قيل كيف جاء ضميره متصلا في قوله فَلْيَصُمْهُ إذا لم يكن الشهر مفعولا به.قلنا قد حذف منه المضاف على ما ذكرنا.و قيل إن الاتساع وقع فيه بعد أن استعمل ظرفا على ما تقدم بيان أمثاله في مواضع.

مسألة

و قوله وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ اللام فيه يجوز أن يكون للأمر كقراءة من قرأ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا (1)بالتاء و إنما أورد اللام في أمر المخاطب هنا إشعارا أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمته الحاضرين و الغائبين داخلون تحت هذا الخطاب (2).».

ص: 208


1- سورة يونس:58.
2- قال الاخفش:ادخال اللام في أمر المخاطب لغة رديئة،لان هذا اللام انما تدخل في الموضع الذي لا يقدر فيه على أفعل،و إذا خاطبت قلت قم لانك قد استغنيت عنها.قال صدر الأفاضل الخوارزمي:و الامر كما ذكره الاخفش،الا ان من المواضع ما يحسن فيه الامر باللام للفاعل المخاطب،و ذلك إذا لم يكن المأمور ثمة بعضها غائب و بعضها مخاطب، لقوله صلّى اللّه عليه و آله«لتأخذوا مصافكم»،فالتاء تفيد الخطاب و اللام تفيد الغيبة و بمجموع الامرين يستفاد العموم،و لو قال«خذوا»لاوهم خصوص الجماعة المخاطبة،و عليه قراءته صلّى اللّه عليه و آله«فلتفرحوا»،الفاء في فلتفرحوا مزيدة،كما في«فاجزعى»من قوله: لا تجزعى ان منفسا اهلكته و إذا هلكت فعند ذلك فاجزعى «ه ج».

مسألة

و قوله تعالى يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إشارة إلى جواز غير التتابع في قضاء تلك العدة و إن كانت شهرا أو أياما إلا أنه لا بد من قضائها جميعا.

مسألة

و قوله تعالى وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ المراد به تكبير ليلة الفطر و يومه عقيب أربع صلوات المغرب و العشاء و الغداة و صلاة العيد على مذهبنا.

مسألة

و قوله تعالى حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ يسأل فيقال لم زيد قوله مِنَ الْفَجْرِ و هلا اختصر به على الاستعارة قلنا لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام و لو لم يذكر مِنَ الْفَجْرِ لم يعلم أن الخيطين مستعاران فزيد مِنَ الْفَجْرِ فكان تشبيها بليغا على أن مع هذا البيان التبس على العربي الفصيح مثل عدي بن حاتم.

مسألة

ص: 209

كتب عليكم كما كتب عليهم أن تتقوا المفطر بعد أن تصلوا العشاء و بعد أن تناموا ثم نسخ ذلك بقوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ .و معنى مَعْدُوداتٍ موقتات بعدد معلوم أو قلائل كقوله دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ و الله أعلم

ص: 210

كتاب الزكاة و جميع العبادات المالية

اشارة

كتاب الزكاة و جميع العبادات المالية (1)

باب في وجوب الزكاة

قال الله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (2) .أمر الله تعالى في هذه الآية جميع المكلفين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين أوجبهما عليهم و أن يطيعوا الرسول في كل ما يأمرهم به و يدعوهم إليه ليرحموا جزاء على ذلك و يثابوا بالنعم الجزيلة فالفرض التالي لفرض الصلاة في محكم التنزيل هو الزكاة فلا بد من معرفته و تحصيله إذ كان في الجهل به جهل أصل الشريعة يكفر المنكر له برده و يؤمن بالإقرار به لعموم تكليفه و عدم سقوطه عن بعض البالغين لا لعذر.و في قوله وَ آتُوا الزَّكاةَ في آي كثيرة و مواضع متفرقة في كتاب الله دلالة

ص: 211


1- الزيادة من ج.
2- سورة النور:56.

قاطعة على أنها واجبة لأن ما رغب الله فيه فقد أراده و كل ما أراده من العبد و أمر به في الشرع فهو واجب إلا أن يقوم دليل على أنه نفل و قيل الاحتياط يقتضي الوجوب.و سمي بالزكاة ما يجب إخراجه من المال لأنه نماء لما يبقى و تثمير له و قيل بل هو مدح لما يبقى بعد الزكاة فإنه زكي به أي مطهر كما قال أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً (1) أي طاهرة.

و قوله في أول البقرة وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (2) عن ابن عباس أنه الزكاة المفروضة تؤتيها احتسابا و قال الضحاك هو التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى و الأولى حمل الآية على عمومها فيمن أخرج الزكاة الواجبة و النفقات الواجبة و تطوع بالخيرات.

فصل

قال الله تعالى وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ (3) .و قال أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (4) .هذه الآية نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي صلّى اللّه عليه و آله في قتال المشركين منهم عبد الرحمن بن عوف و هم بمكة فلم يأذن لهم فلما كتب عليهم القتال و هم بالمدينة قال فريق منهم ما حكاه الله في الآية (5).1.

ص: 212


1- سورة الكهف:74.
2- سورة البقرة:3.
3- سورة التوبة:54.
4- سورة النساء:77.
5- اسباب النزول للواحدي ص 111.

فإن قيل كيف يصح ذلك و لم أمرهم الله بإيتاء الزكاة و لم تكن الزكاة فرضت بمكة.قلنا إنما قال الله ذلك و أمر بها على وجه الاستحباب و الندب دون الزكاة المقدرة على وجه مخصوص.و قيل الآية نزلت في اليهود نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا مثل صنيعهم.على أن العقل دال على حسن الإحسان و الإنفاق فجائز أن يعلم الكافر حسنه غير أنه و إن علم ذلك لا يقع منه على وجه يكون طاعة لأنه لو أوقعها على ذلك الوجه لا يستحق الثواب و هذا لا يجوز فبين الله في الآية الأولى أنه لا يثيب من فعل الخيرات إذا كان كافرا.

فصل

و قوله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ إلى قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ (1) .لا خلاف أن هذه الآية تدل على وجوب إعطاء الزكاة و تدل أيضا في قول الشعبي و الجبائي على وجوب غيره مما له سبب وجوب كالإنفاق على من يجب عليه نفقته و على من يجب عليه سد رمقه إذا خاف التلف و على ما يلزمه من النذر و الكفارات و يدخل أيضا فيها ما يخرجه الإنسان على وجه التطوع و القربة إليه تعالى لأن ذلك كله من البر.و معنى قوله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ أي ليس الدين و الخير الصلاة وحدها لكنه الصلاة مع العبادات الأخر المذكورة.7.

ص: 213


1- سورة البقرة:177.

عن ابن عباس قال فإن قيل قوله وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ معطوف على قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى فلم كرر و ليس زيادة فائدة.قلنا إنما قال تعالى وَ آتَى الزَّكاةَ و قد تضمن قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى إيتاء الزكاة توكيدا لأمر الزكاة و تنبيها على أنها تالية للصلاة فجمع بينهما في الذكر كما يجبان على حد واحد.و قيل إن قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ليس يتناول الزكاة المفروضة في هذه الآية و إنما يدل على وجوب الزكاة قوله وَ آتَى الزَّكاةَ و إنما يدل قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ على الإنفاق على أولئك إذا عرف منهم شدة الحاجة و لا يخرجه ذلك من أن يكون واجبا كما يجب عليه النفقات في أهله و ولده و رتب الله هذا الترتيب لتقديم الأولى فالأولى.

فصل

فإن قيل كيف قال الله لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ (1) و الفقير لا تجب عليه الصدقة و إن لم ينفق فإنه غير مخاطب به.قلنا الكلام خرج مخرج الحث على الصدقة إلا أنه على ما يصح و يجوز من إمكان النفقة فهو مقيد في الجملة بذلك إلا أنه أطلق الكلام به للمبالغة في الترغيب فيه و قال الحسن هو الزكاة الواجبة و ما فرض الله في الأموال خاصة.و الأولى أن تحمل الآية على الخصوص بأن نقول هي متوجهة إلى من يجب عليه إخراج شيء أوجبه الله عليه دون من لم تجب عليه و يكون ذلك أيضا مشروطا بأن لا يعفو الله عنه أو نقول لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ الكامل الواقع على أشرف الوجوه حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ .2.

ص: 214


1- سورة آل عمران:92.

و قيل في معنى البر إنه الجنة و قيل إنه البر من الله بالثواب و الجنة و قيل البر فعل الخير الذي يستحقون به الأجر.فإذا ثبت وجوب الزكاة فاعلم أنه يحتاج فيها إلى معرفة خمسة أشياء ما تجب فيه و من تجب عليه و مقدار ما تجب فيه و متى تجب و من المستحق لها و يدخل في القسم الأخير مقدار ما يعطى.و الطريق إلى معرفتها الكتاب و السنة جملة و تفصيلا و نحن نشير إليها في أبواب إن شاء الله تعالى

الباب الأول فيما تجب فيه الزكاة و كيفيتها و ما تستحب فيه الزكاة

الزكاة عندنا لا تجب إلا في تسعة أشياء بينها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و الدليل عليه من القرآن قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ و قال وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .و هي الأنعام و الأثمان و الغلات و الثمار و ما عداها من الحبوب تستحب فيه الزكاة.

فصل

و الذي يدل على صحته زائدا على إجماع الطائفة قوله تعالى وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (1) و المعنى أنه لا يوجب في أموالكم حقوقا لأنه تعالى لا يسألنا أموالنا إلا على هذا الوجه.و هذا الظاهر يمنع من وجوب حق في الأموال مما أخرجناه فهو بالدليل

ص: 215


1- سورة محمد:36.

القاطع و ما عداه باق تحت الظاهر فإن تعلق المخالف بقوله وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ (1) و أنه عام في جميع الزروع و غيرها مما ذكر في الآية.فالجواب عنه أنا لا نسلم أن قوله وَ آتُوا حَقَّهُ يتناول العشر و نصف العشر المأخوذ على سبيل الزكاة فمن ادعى تناوله لذلك فعليه الدلالة.و عند أصحابنا أن ذلك يتناول ما يعطى المسكين و الفقير المجتاز وقت الحصاد و الجذاذ (2)من الجفنة و الضغث (3)فقد رووا ذلك عن الأئمة عليهم السّلام فمنه

مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ الزَّكَاةَ أَ لاَ تَرَى أَنَّهُ قَالَ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (4) . و هذه نكتة منه عليه السّلام مليحة لأن النهي عن السرف لا يكون إلا فيما ليس بمقدر و الزكاة مقدرة و ليس لأحد أن يقول إن الإسراف هاهنا هو أن يعطى غير المستحق لأن ذلك مجاز و لا يجوز ترك الظاهر الذي هو الحقيقة و الخروج إلى المجاز إلا بدليل و لا دليل هاهنا.

وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَ مَا حَقُّهُ قَالَ يُنَاوِلُ مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَ السَّائِلَ (5). و الأحاديث بذلك كثيرة و يكفي احتمال اللفظ و إن كان يقوي هذا التأويل أن الآية تقتضي أن يكون العطاء في وقت الحصاد و العشر المفروض أو نصفه في1.

ص: 216


1- سورة الأنعام:141.
2- قال الجوهريّ:جذ النخل يجذه اي صرمه،و اجذ النخل حان له أن يجذ،و هذا من الجذاذ و الجذاذ-اى بفتح الجيم و كسره-مثل الصرام و الصرام«ه ج».
3- الجفن قضبان الكرم،الواحدة جفنة،قضبت أي قطعت أغصانه أيّام الربيع،قضبه اى قطعه.و الضغث قطعة حشيش مختلطة الرطب باليابس-من هامش نسخة م.
4- تفسير البرهان 555/1.
5- تفسير البرهان 556/1.

الزكاة لا يمكن في تلك الحال لأن العشر أو نصفه مكيل و لا يؤخذ إلا من المكيل و في وقت الحصاد لا يكون مكيلا و لا يمكن كيله و إنما يكال بعد تذريته و تصفيته فتعليق العطاء بتلك الحال لا يمكن إلا بما ذكرناه.و يقوي هذا التأويل ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من النهي عن الحصاد و الجذاذ بالليل (1)و إنما نهى عن ذلك لما فيه من حرمان المساكين ما ينبذ إليهم من ذلك أ لا ترى إلى قوله تعالى إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَ لا يَسْتَثْنُونَ (2) .و ما يقوله قوم في قوله وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ من أنها مجملة و لا دليل فيها فليس بصحيح لأن الإجمال هو مقدار الواجب لا الموجب فيه (3).

فصل

فإن قيل

في قوله وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قد سماه الله تعالى حقا و ذلك لا يليق إلا بالواجب.قلنا قد يطلق اسم الحق على الواجب و المندوب إليه أ لا ترى إلى

مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ هَلْ عَلَيَّ حَقٌّ فِي إِبِلِي سِوَى الزَّكَاةِ قَالَ نَعَمْ تَحْمِلُ عَلَيْهَا وَ تَسْقِي مِنْ لَبَنِهَا. فإن قالوا فظاهر قوله وَ آتُوا حَقَّهُ يقتضي الوجوب و ما ذكرتموه ليس بواجب.قلنا إذا سلمنا أن ظاهر الأمر شرعا على الوجوب أو الإيجاب كان لنا من الكلام طريقان».

ص: 217


1- تفسير البرهان 556/1.
2- سورة القلم:17-18.
3- أي لا يمكن دفع شبهة الخصم بهذا الجواب،لان الاجمال في مقدار الواجب، و بحثنا فيما يجب الزكاة فيه«ه ج».

أحدهما أن نقول إن ترك ظاهر من الكلام ليسلم ظاهر آخر له كترك ظاهر ذاك ليسلم هذا و أنتم إذا حملتم الأمر على الوجوب هاهنا تركتم تعلق العطاء بوقت الحصاد و نحن إذا حملنا الأمر على الندب سلم لنا ظاهر تعلق العطاء بوقت الحصاد و ليس أحد هذين الأمرين إلا كصاحبه و أنتم المستدلون بالآية فخرجت من أن تكون دليلا لكم.و الطريق الآخر أنا لو قلنا بوجوب هذا العطاء في وقت الحصاد فإن لم يكن مقدرا بل موكولا إلى اختيار المعطي لم نقل بعيدا من الصواب (1).فإن تعلق مخالفنا بقوله تعالى أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (2) أن المراد بالنفقة هاهنا الصدقة بدلالة قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ (3) يعني لا يخرجون زكاتها.فالجواب عن ذلك أن اسم النفقة لا يجري على الزكاة إلا مجازا و لا يعقل من إطلاق لفظ الإنفاق إلا ما كان من المباحات و ما جرى مجراها ثم لو سلمنا ظاهر العموم لجاز تخصيصه ببعض الأدلة التي ذكرناها.

فصل

و قوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ (4) أمر من الله لنبيه صلّى اللّه عليه و آله أن يأخذ من المالكين النصاب الإبل إذا بلغت خمسا و البقر إذا بلغت ثلاثين و الغنم إذا بلغت أربعين و الورق إذا بلغ مائتين3.

ص: 218


1- أي يجوز ان نلتزم ان اخراج بعض الزرع واجب بمقتضى الآية،الا أن صاحبه مخير ان شاء أعطى القليل و ان شاء أعطى الكثير«ه ج».
2- سورة البقرة:267.
3- سورة التوبة:34.
4- سورة التوبة:103.

و الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا و الغلات و الثمار إذا بلغت خمسة أوسق تطهيرا لهم بها من ذنوبهم و وجب على الأمة حملها إليه لفرضه عليها طاعته و نهيه لها عن خلافه (1)و الإمام قائم مقام النّبي صلّى اللّه عليه و آله فيما فرض عليه من إقامة الحدود و الأحكام لأنه مخاطب في ذلك بخطابه.و قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يدل على أن الأخذ يجب من اختلاف الأموال لأنه تعالى جمعه و لو قال خذ من مالهم لأفاد وجوب الأخذ من جنس واحد متفق و من دخلت للتبعيض فكأنه قال خذ بعض مختلف الأموال.و ظاهر الآية لما ذكرنا لا يدل على أنه يجب أن يؤخذ من كل صنف لأنه لو أخذ من صنف واحد لكان قد أخذ بعض الأموال و إنما يعلم ذلك بدليل آخر.و الصدقة عطية ما له قيمة في الشرع للفقير و ذي الحاجة و البر عطية لاجتلاب المودة و مثله الصلة.و إنما ارتفع تُطَهِّرُهُمْ لأحد أمرين إما أن يكون صفة للصدقة و تكون التاء للتأنيث و قوله بِها تبيين له و التقدير صدقة مطهرة و إما أن تكون التاء لخطاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و التقدير فإنك تطهرهم بها و هو أيضا صفة الصدقة إلا أنه اجتزأ بذكر بها في الثاني (2)عن الأول.و قيل يجوز أن يكون على الاستئناف و حمله على الاتصال أولى (3).و قيل في هذه الصدقة قولان أحدهما قاله الحسن إنها كفارة الذنوب التي أصابوها و قال غيره هي الزكاة الواجبة.و أصل التطهير إزالة النجس (2)فالمراد هاهنا إزالة نجس الذنوب علىل.

ص: 219


1- في م«و نهيها له عن خلافه». (2-3) الزيادتان من ج.
2- قال ابن فارس:الطاء و الهاء و الراء أصل واحد صحيح يدلّ على نقاء و زوال.

المجاز و الاستعارة.و قوله وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ أمر من الله لنبيه صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو لمن يأخذ منه الصدقة و قال قوم يجب ذلك على كل ساع يجمع الصدقات أن يدعو لصاحبها بالخير و التزكية و البركة كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَ اسْتَغْفِرْ لَنَا فَقَالَ مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئاً فَأَنْزَلَ اللَّهُ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً .

فصل

و لا تجب الزكاة في عروض التجارة و إنما تستحب على بعض الوجوه.فإن تعلق المخالف بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً و أن عموم القول يتناول عروض التجارة فالجواب عن ذلك أن أكثر ما في هذه الآية أن يكون لفظها عموما و العموم معرض للتخصيص و نحن نخص هذا العموم ببعض ما تقدم من أدلتنا.على أن مخالفينا لا بد لهم من ترك هذا الظاهر في عروض التجارة لأنهم يضمرون في تناول هذا اللفظ لعروض التجارة أن يبلغ قيمتها نصاب الزكاة و هذا ترك للظاهر و خروج عنه و لا فرق بينهم فيه و بيننا إذا حملنا اللفظ في الآية على الأصناف التي أجمعنا على وجوب الزكاة فيها و إذا قمنا في ذلك مقامهم و هم المستدلون بالآية بطل استدلالهم.و بمثل هذا الكلام يبطل تعلقهم

بقوله وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (1) .9.

ص: 220


1- سورة الذاريات:19.

و يمكن أن يقال في هذه الآية إنها خرجت مخرج المدح لهم لما فعلوه لا على سبيل إيجاب الحق في أموالهم لأنه تعالى قال كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ فأخرج الكلام كله مخرج المدح لهم بما فعلوه و ليس في إيجاب الله في أموالهم حقا معلوما [مدح لهم و لا ما يجب الثناء عليهم فعلم أن المعنى و يعطون من أموالهم حقا معلوما] (1)للسائل و المحروم و ما يفعلونه من ذلك ليس بلازم أن يكون واجبا بل قد يكون نفلا و متطوعا به و قد يمدح الفاعل على ما يتطوع به كما يمدح على فعل ما يجب عليه.و لا تعلق لهم بقوله وَ آتُوا الزَّكاةَ لأن اسم الزكاة اسم شرعي و نحن لا نسلم أن في عروض التجارة زكاة فيتناولها الاسم فعلى من ادعى ذلك أن يدل عليه.و الدين إذا كان يد صاحبه تمتد إليه و لا يتعذر عليه كانت الزكاة فيه و إذا لم يتمكن من قبضه لتأجيله أو دفعه باليد عنه فلا زكاة فيه على صاحبه و بذلك نصوص عن آل محمد عليهم السّلام فإن الله لم يجعل فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و لا كلف عسيرا بنص التنزيل.

فصل

و قوله أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ (2) .سبب ذلك أنهم لما سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يأخذ من مالهم ما يكون كفارة لذنوبهم فامتنع النبي من ذلك حتى أذن له فيه بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ

صَدَقَةً على ما قدمناه فبين الله هاهنا أن ليس للنبي قبول توبتكم و أن ذلك إلى الله دونه فإن الله تعالى هو الذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يأخذها بتضمن الجزاء عليها كما تؤخذ الهدية.قال الجبائي جعل أخذ النبي و المؤمنين للصدقة أخذا له تعالى على وجه المجاز من حيث كان يأمره4.

ص: 221


1- الزيادة ليست في ج.
2- سورة التوبة:104.

صَدَقَةً على ما قدمناه فبين الله هاهنا أن ليس للنبي قبول توبتكم و أن ذلك إلى الله دونه فإن الله تعالى هو الذي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يأخذها بتضمن الجزاء عليها كما تؤخذ الهدية.قال الجبائي جعل أخذ النبي و المؤمنين للصدقة أخذا له تعالى على وجه المجاز من حيث كان يأمره

وَ أَكَّدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى السَّائِلِ (1). و في التفسير

أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ وَ صَاحِبَهُ لَمَّا بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِقَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُمْ وَ مَغْفِرَتِهِ لَهُمْ قَالُوا نَتَقَرَّبُ بِجَمِيعِ أَمْوَالِنَا شُكْراً لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَكْفِيكُمُ الثُّلُثُ.

فصل

و قوله تعالى وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (2) يدل على أن النية واجبة في الزكاة لأن إعطاء المال قد يقع على وجوه كثيرة فمنها إعطاؤه على وجه الصدقة و منها إعطاؤه على وجه (3)الهدية و منها الصلة و منها الوديعة و منها قضاء الدين و منها القرض و منها البر و منها الزكاة و منها النذر و غير ذلك و بالنية يتميز بعضها من بعض.قال الكلبي في معنى الآية يضاعف الله أموالهم في الدنيا و نحوه قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ (4) .1.

ص: 222


1- تفسير البرهان 157/2.
2- سورة الروم:39.
3- الزيادة من ج.
4- سورة البقرة:261.

قال الربيع و السدي الآية تدل على أن النفقة بسبع مائة ضعف لقوله سَبْعَ سَنابِلَ فأما غيرها فالحسنة بعشرة كقوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (1) و معنى الآية أي يضاعف الله لهم الحسنات.فإن قيل هل رئي في سنبلة مائة حبة حتى يضرب المثل بها.قلنا إن ذلك متصور فشبه به لذلك و إن لم ير كقول إمرئ القيس

و مسنونة زرق كأنياب أغوال

و قال تعالى طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (2) و قيل يرى ذلك في سنبل الدخن و قد يكون ذلك عبارة عن حب كثير.و هذه الآية متصل بقوله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً (3) و هذا مجاز لأن حقيقته أن يستعمل في الحاجة و يستحيل ذلك و معناه التلطف في الاستدعاء إلى أعمال البر.و جهلت اليهود لما نزلت هذه الآية فقالوا الذي يستقرض منا فنحن أغنياء و هو فقير إلينا فأنزل الله لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ (4) .

فصل

و قوله تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ (5) الآية دلالة على أنهم لم ينظروا إلى كيفية القسمة أ هي عادلة أم جائرة و إنما اعتبروا إعطاءه إياهم فقط فإن أعطاهم قالوا عدل و أحسن و إن لم يعطهم سخطوا و أنكروا و هذا جهل و معلوم أن من لم8.

ص: 223


1- سورة الأنعام:160.
2- سورة الصافّات:65.
3- سورة البقرة:245.
4- سورة آل عمران:181،و انظر الدّر المنثور 106/2.
5- سورة التوبة:58.

يرض قسمة النبي صلّى اللّه عليه و آله الصدقات و طعن عليه فيها سرا أو جهرا إما كافر أو منافق.و اللمز العيب في خلوة أي من المنافقين من يعيبك في تفريق الصدقات

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لاَ أُعْطِيكُمْ شَيْئاً وَ لاَ أَمْنَعُكُمُوهُ إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ أَضَعَ حَيْثُ أُمِرْتُ. و لا تعجب إن اختلف أحكام الصدقات فالغلات و الثمار لا يراعى فيها حول الحول و شرطها اثنان الملك و النصاب.و يراعى حول الحول في الأنعام و الأثمان و من شرط الأنعام الملك و النصاب و السوم و من شرط الأثمان الملك و النصاب و كونهما مضروبين منقوشين دنانير و دراهم.و هذا التفصيل إنما نعلمه ببيان الرسول قال تعالى وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ فبيانه في مثل ذلك بالقول و بيانه في تفريقها بالعمل و كلاهما بيان.ثم قال تعالى وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللّهُ و جوابه محذوف أي لكانوا مؤمنين و الحذف في مثل هذا أبلغ لأن الذكر يقصره على معنى و الحذف يجوز كل ممكن محتمل يذهب النفس معه كل مذهب و الله أعلم

الباب الثاني في ذكر من يستحق الزكاة و أقل ما يعطى

قال الله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ (1) .أخبر الله في هذه الآية أنه ليست الصدقات التي هي زكاة الأموال إلا للفقراء

ص: 224


1- سورة التوبة:60.

و المساكين و من ذكرهم الله في الآية.و فسر العالم عليه السّلام هذه الأصناف الثمانية فقال الفقراء الذين لا يسألون لقوله تعالى في سورة البقرة لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ (1) الآية و المساكين هم أهل الزمانات منهم الرجال و النساء و الصبيان و العاملين عليها هم السعاة في أخذها و جمعها و حفظها حتى يؤدوها إلى من يقسمها و المؤلفة قلوبهم قال هم قوم وحدوا الله و لم يدخل قلوبهم (2)أن محمدا رسول الله فكان صلّى اللّه عليه و آله يتألفهم فجعل لهم نصيبا بأمر الله لكي يعرفوا و يرغبوا و في الرقاب قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطإ و في الظهار و في الإيمان و في قتل الصيد في الحرم و ليس عندهم ما يكفرون به و هم مؤمنون (3).و قال بعض العلماء جعل الله الزكوات لأمرين أحدهما سد خلة و الآخر تقوية و معونة لعز الإسلام و استدل لذلك على أن المؤلفة قلوبهم في كل زمان و الغارمين الذين ركبتهم الديون في مباح أو طاعة و في سبيل الله الجهاد و جميع مصالح المؤمنين و ابن السبيل المسافر المنقطع به و الضيف.ت.

ص: 225


1- سورة البقرة:273.
2- الزيادة من ج.
3- وسائل الشيعة 145/6-146 مع اختلاف و اختصار،و قد أسقط المؤلّف ذيل الحديث فلم يكمل تفسير الاصناف،و بقية الحديث هكذا:و الغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير اسراف فيجب على الامام أن يقضى عنهم و يفكهم من مال الصدقات،و في سبيل اللّه قوم يخرجون في الجهاد و ليس عندهم ما يتقوون به،او قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به اوفى جميع سبل الخير،فعلى الامام ان يعطيهم من مال الصدقات حتّى يقووا على الحجّ و الجهاد،و ابن السبيل ابناء الطريق الذين يكونون في الاسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم و يذهب مالهم فعلى الامام أن يردهم الى اوطانهم من مال الصدقات.

فصل

اختلفوا في الفرق بين الفقير و المسكين فقال ابن عباس و جماعة الفقير المتعفف الذي لا يسأل و المسكين الذي يسأل ذهبوا إلى أنه مشتق من المسكنة بالسؤال (1).و هذا الخلاف في الفقير و المسكين لا يخل بشيء في باب الزكاة لأنهما جميعا من جملة ذوي السهام الثمانية سواء كان هذا أشد حالا أو ذاك إلا أنه ليس كلا اللفظين عبارة عن شيء واحد.

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَرُدُّهُ الْأَكِلَةُ وَ الْأَكْلَتَانِ وَ التَّمْرَةُ وَ التَّمْرَتَانِ وَ لَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى فَيُعِينُهُ وَ لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافاً. و قال قتادة الفقير ذو الزمانة من أهل الحاجة و المسكين من كان صحيحا محتاجا.و قال قوم هما بمعنى واحد إلا أنه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره و ليعطى من له شيء و لا يكفيه كما يعطى من لا شيء له.و سمي المحتاج فقيرا من حيث كأنه كسر فقار ظهره و المسكين كأن الحاجة سكنته عن حالة أهل السعة و الثروة.و من قال المسكين أحسن حالا استدل بقوله أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ (2) و من قال هما سواء قال كانت السفينة مشتركة بين جماعة لكل واحد منهم شيء يسير. وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها يعني سعاة الزكاة و جباتها.9.

ص: 226


1- ذكر في الوسائل 144/6 روايتين تصرحان بأن الفقير هو الذي لا يسأل،و المسكين أجهد منه و هو يسأل.
2- سورة الكهف:79.

وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أقوام أشراف كانوا في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله فكان يتألفهم على الإسلام و يستعين بهم على قتال غيرهم (1)فيعطيهم سهما من الزكاة فقال قوم كان هذا خاصا على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله

وَ رَوَى جَابِرٌ عَنِ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ عَصْرِ إِلاَّ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِمَامُ عَدْلٍ يَتَأَلَّفُهُمْ عَلَى ذَلِكَ (2). و اختاره الجبائي. وَ فِي الرِّقابِ يعني المكاتبين و أجاز أصحابنا أن يشترى به عبد مؤمن إذا كان في شدة و يعتق من مال الزكاة و يكون ولاؤه لأرباب الزكاة و هو قول ابن عباس و جعفر بن مبشر.و المكاتب إنما يعطى من الصدقة إذا لم يكن معه ما يعطى ما عليه من مال الكتابة فإن كان ذلك عنده فإنه لا يعطى شيئا هذا إذا حل عليه نجم و ليس معه ما يعطيه أو ما يكفيه لنجمه و إن لم يكن معه شيء غير أنه لم يحل عليه نجم فإنه يجوز أيضا أن يعطى لعموم الآية. وَ الْغارِمِينَ هم الذين ركبتهم الديون في غير معصية و لا إسراف فيقضى عنهم ديونهم هذا قول أبي جعفر عليه السّلام و عليه جميع المفسرين. وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني الجهاد بلا خلاف و يدخل فيه عند أصحابنا جميع مصالح المسلمين و هو قول ابن عمر و عطاء و به قال البلخي فإنه قال يبنى منه المساجد و القناطر و غير ذلك و هو قول جعفر بن مبشر. وَ ابْنِ السَّبِيلِ هو المسافر المنقطع به فإنه يعطى من الزكاة و إن كان غنيا في بلده من غير أن يكون دينا عليه و هو قول قتادة و مجاهد.و يستحب له أيضا إذا وصل إلى ماله أن يتصدق بمثل ما أخذه حيث انقطع به.2.

ص: 227


1- في م«عشيرتهم».
2- تفسير البرهان 137/2.

فصل

إذا دفع صاحب المال زكاته إلى الفقير بغير إذن الإمام عند حضوره فللإمام أن يعيد عليه و يطالبه بالزكاة بدلالة تعلق فرض الأداء به

قال الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها و الإمام مخاطب بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله بما خوطب به في تنفيذ الأحكام.و اختلفوا في مقدار ما يعطى الجابي للصدقة فقال مجاهد و الضحاك يعطى الثمن بلا زيادة و قال به عبد الله بن عمرو بن العاص و الحسن و ابن نهد و هو قدر عمالته (1)و هو المروي في أخبارنا.و اللام في قوله لِلْفُقَراءِ ليست للملك إذ لا خلاف أن الصدقات لا يملكها الفقراء بالوجوب و إنما تصير حقا لهم و لمن عطف عليهم و اللام إذا دلت على الحق لم يجب فيها العموم إذ الحق قد يكون للفقراء و يكون الاختيار إلى من يضعه فيهم فله أن لا يعمهم و إن كان قبل الوضع لجماعتهم فقد صار التخصيص في التمليك يصح مع كونه حقا [على طريق العموم.فإذا أبيت من ذلك فالواجب من الظاهر أن لا يقطع على كونه حقا] (2)لجماعتهم يبين ذلك أنه لو كان كذلك لما جاز في الصدقة أن يوضع في ثلاثة مساكين بل كان يجب وضعها في جميع من يتمكن منه في البلد و قد أجمعوا على خلافه.

وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ لِقَاسِمِ الزَّكَاةِ أَنْ يَضَعَهَا فِي أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ. و إليه ذهب ابن عباس و حذيفة و عمر و عطاء و إبراهيم و سعيد بن جبير.و قال بعض المتأخرين لا يضعها إلا في سبعة أصناف لأن المؤلفة قلوبهم قدم.

ص: 228


1- العمالة بالضم:رزق العامل«ه ج».
2- الزيادة من م.

انقرضوا و إن قسمها الإنسان عن نفسه ففي ستة لأنه بطل سهم العامل عليها و زعم أنه لا يجزي في كل صنف أقل من ثلاثة.و عندنا أن سهم المؤلفة و السعاة و سهم الجهاد قد سقط اليوم و يقسم في الخمسة الباقية كما شاء رب المال و إن وضعها في فرقة منهم جاز إلا أن أقل ما يعطى مستحق ما يجب في نصاب و لا يكسر إلا في الغلات و الثمار و الاحتياط فيها أن لا يكسر في نصابها أيضا.و أجمعت الأمة على أن الصدقات يخالف حكمها حكم الوصية لأنه إذا أوصى بسهام ثم تعذر بعضها في البلد لم يجز صرفها إلى الموجودين فيه و لم يختلفوا في جواز ذلك في الزكاة فقد ثبت أن هذه السهام جهات لجواز الوضع فيهم فكأن الله وسع على المصدق القاسم الحال في ذلك فجاز أن يضعه في جميعهم كيف شاء و جاز أن يضع جميعه في بعضهم إذا رأى ذلك أولى و أحق في الحال.

فصل

قد ذكرنا من قبل أنه يجوز أن يشترى المملوك من مال الزكاة فيعتق إذا كان حاله ما قدمناه

ص: 229

و يجوز أن يكفن من الزكاة الموتى و يقضى بها الدين عن الميت و باقي الفقهاء يخالفوننا فيه و الحجة لأصحابنا مضافا إلى إجماعهم قوله وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ في آية وجوه الصدقة التي ذكرناها و معنى سبيل الله الطريق إلى ثواب الله و الوصلة إلى التقرب إليه تعالى و لما كان ما ذكرنا مقربا إلى الله و موصلا إلى الثواب جاز صرفه فيه.فإن قيل المراد بقوله وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ما ينفق في جهاد العدو.قلنا كل هذا مما يوصف بأنه سبيل الله و إرادة بعضه لا يمنع من إرادة البعض الآخر.و قد روى مخالفونا عن ابن عمر أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله فقال ابن عمر إن الحج من سبيل الله فاجعلوه فيه.

وَ رَوَوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَنَّ الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

الباب الثالث في ذكر من يجب عليه الزكاة و ذكر أحكام الزكاة كلها

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ (1) .هذا و إن كان خطابا للمؤمنين دون سائر الناس فلا يدل على أن الكافر غير متعبد به لأن الأمر المتوجه إليك لا يكون نهيا لغيرك مع أن جميع المؤمنين لا يجب عليهم الزكاة و إنما تجب على من يكون حرا يملك النصاب مع شرائطها الأخر المذكورة و قد قال الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ (2)

ص: 230


1- سورة البقرة:267.
2- سورة فصلت:6-7.

فقد توعدهم على ترك الزكاة الواجبة عليهم لأنهم متعبدون بجميع العبادات و معاقبون على تركها.قال الزجاج معناه ويل للمشركين الذين لا يؤمنون بأن الزكاة واجبة عليهم.و إنما خص الزكاة بالذكر تفريعا لهم على شحهم الذي يأنف منه أهل الفضل و الصحيح أنه عام في جميع ذلك و حسن الإحسان و الإنعام يعلم على الجملة عقلا.و لا زكاة واجب في صامت أموال الصبيان و تجب فيهما عدا ذلك من أنعامهم و غلاتهم و ثمارهم و بهذا نصوص عن آل محمد عليهم السّلام (1)و يؤيدها قوله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (2) فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة و الصبي غير مخاطب بالصلاة و قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها (3) و الصبي لا يحتاج إلى التطهير إذ لا ذنب له و لا تكليف عليه.فأما زكاة حرثه و نعمه فمأخوذ من قوله وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (4) و قد ثبت أن القرآن لا يتناقض و لا يختلف معانيه و لم يكن طريق إلى الملاءمة بين معانيه إلا على الوجه الذي ذكرناه مع وفاق السنة في ذلك له.و قوله أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ يدخل فيه الزكاة المفروضة و غيرها من أنواع النفقة.و قال عبيدة السلماني و الحسن هي مختصة بالزكاة لأن الأمر على الإيجاب و لا يجب من الإنفاق على الكل إلا الزكاة.و قال الجبائي هي في التطوع لأن الفرض من الصدقة له مقدار من القيمة إن قصر كان ذنبا عليه إلى أن يؤديه على التمام.4.

ص: 231


1- انظر الوسائل 54/6.
2- سورة النور:56.
3- سورة التوبة:103.
4- سورة المعارج:24.

فصل

و قوله وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (1) .عن علي عليه السّلام و البراء و الحسن و قتادة أنها نزلت لأن بعضهم كان يأتي بالحشف (2)فيدخله في تمر الصدقة (3)و قال ابن زيد الخبيث الحرام.و الأول أقوى و العموم يستغرقهما إلا أنه تعالى قال أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ثم قال وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ يعني من الذي كسبتم أو أخرجه الله من الأرض و الحرام و إن كان خبيثا فليس من ذلك غير أنه يمكن أن يراد بذلك لأنه لا ينافي السبب.فأما إذا كان مال المزكى كله رديئا فجائز له أن يعطي منه و لا يدخل فيما نهي عنه لأن تقدير ما جعله الله للفقير في مال الغني تقدير حصة الشريك فليس لأحد الشريكين أن يأخذ الجيد و يعطي صاحبه الرديء [لما فيه من الوكس فإذا استوى في الرداءة جاز له إعطاء الزكاة من الرديء لأنه حينئذ] (4)لم يبخسه حقا هو له كما يبخسه في الأول.و يقوي القول الأول قوله وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ لأن الإغماض لا يكون إلا في الشيء الرديء دون ما هو حرام.و الأجناس التسعة التي تجب فيها الزكاة تدخل [تحت قوله أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ

ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ و كذا الأجناس الخمسة التي يستحب فيها الزكاة تدخل] (1)تحته.ج.

ص: 232


1- سورة البقرة:267.
2- الحشف اليابس الفاسد من التمر،و قيل الضعيف الذي لا نوى له-النهاية لابن الأثير(حشف).
3- اسباب النزول للواحدي ص 55.
4- الزيادة من ج.

ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ و كذا الأجناس الخمسة التي يستحب فيها الزكاة تدخل] (1)تحته.

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ لَهُمْ أَمْوَالٌ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ مِنْهُ فَنَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الطَّيِّبِ الْحَلاَلِ (2). فعليك أيها الناظر في كتابي هذا أن تتدبره فإن السنة منها جيء و منها أجيء و بيان الكتاب من السنة.

فصل

و قوله وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ في معناه قولان أحدهما أن لا تتصدقوا بما لا تجدونه من غرمائكم إلا بالمسامحة و المساهلة فالإغماض المساهلة و الآخر معناه لا تتصدقوا بما لا تأخذونه إلا أن تحطوا من الثمن فيه و مثله قول الزجاج أي لستم تأخذونه إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة.ثم قال إن الله غني عن صدقاتكم يقبلها منكم و يحمدكم عليها و يجازيكم عليه.ثم حذر من الشيطان المانع من الصدقة فإنه يعدكم الفقر بتأدية زكاتكم و يأمركم بالإنفاق من الرديء و سماه فحشاء لأن فيه معصية الله و الله يعدكم أن يخلف عليكم خيرا من صدقتكم و عن ابن عباس اثنان من الله و اثنان من الشيطان.

وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لِلشَّيْطَانِ لَمَّةٌ وَ لِلْمَلَكِ لَمَّةٌ فَلَمَّةُ (3)الشَّيْطَانِ وَعْدُهُ بِالْفَقْرِ وَ أَمْرُهُ بِالْفَاحِشَةِ وَ لَمَّةُ الْمَلَكِ أَمْرُهُ بِالْإِنْفَاقِ وَ نَهْيُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. ثم ذكر تعالى صفة الإنفاق و رغب فيه فقال إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ

وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (1) .اعلم أن صدقة التطوع إخفاؤها أفضل لأنه أبعد من الرياء و المفروض لا يدخله الرياء و يلحقه تهمة المنع بإخفائها فإظهارها أفضل عن ابن عباس و كذا).

ص: 233


1- الزيادة ليست فى ج.
2- البرهان 255/1 عن ابى جعفر الباقر عليه السلام.
3- اللمة-بفتح اللام-الهمة و الخطرة تقع فى القلب،و قيل لمة أى دنو-لسان العرب(لمم).

وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (1) .اعلم أن صدقة التطوع إخفاؤها أفضل لأنه أبعد من الرياء و المفروض لا يدخله الرياء و يلحقه تهمة المنع بإخفائها فإظهارها أفضل عن ابن عباس و كذا

رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ تُخْرَجُ عَلاَنِيَةً وَ تُدْفَعُ عَلاَنِيَةً وَ غَيْرُ الزَّكَاةِ إِنْ دَفَعَهُ سِرّاً فَهُوَ أَفْضَلُ (2). و قيل الإخفاء في كل صدقة من واجب و غيره أفضل عن الحسن و هو الأشبه لعموم الآية و عليه يدخل أخبارنا على أن الأول حسن و نحوه أن إظهار الصلوات الخمس أفضل دفعا للشبهة و إخفاء النوافل حسن دفعا للرياء.و الزكاة و الصدقة يتداخل معناهما و إن كانت الزكاة وضعت عرفا أولا في الفرض و الصدقة في النفل و الإبداء الإظهار و الإخفاء الإسرار.و قوله فَنِعِمّا هِيَ أي نعم شيئا إبداؤها فما نكرة و هي في موضع نصب لأنه يفسر الفاعل المضمر قبل الذكر في نعم و الإبداء هو المخصوص بالمدح فحذف المضاف الذي هو الإبداء و أقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات و هو هي.

فصل

وَ قَوْلَهُ تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (3) عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مُنَادِيَهُ فَنَادَى فِي النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الزَّكَاةَ كَمَا فَرَضَ عَلَيْكُمُ الصَّلاَةَ فَفَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنَ الذَّهَبِ3.

ص: 234


1- سورة البقرة:284.
2- تفسير على بن ابراهيم 92/1 مع اختلاف فى بعض الالفاظ.
3- سورة التوبة:103.

وَ الْفِضَّةِ وَ الْإِبِلِ وَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ وَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَ الشَّعِيرِ وَ التَّمْرِ وَ الزَّبِيبِ وَ عَفَا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِمُ الْحَوْلُ مِنْ قَابِلٍ فَصَامُوا وَ أَفْطَرُوا فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ زَكُّوا أَمْوَالَكُمْ تُقْبَلْ صَلاَتُكُمْ قَالَ ثُمَّ وَجَّهَ عُمَّالَ الصَّدَقَةِ (1).

وَ قَدْ بَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مُصَدِّقاً مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى بَادِيَتِهَا فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ لاَ تُؤْثِرَنَّ دُنْيَاكَ عَلَى آخِرَتِكَ وَ كُنْ حَافِظاً لِمَا ائْتَمَنْتُكَ عَلَيْهِ رَاعِياً لِحَقِّ اللَّهِ فِيهِ حَتَّى تَأْتِيَ نَادِيَ بَنِي فُلاَنٍ فَإِذَا قَدِمْتَ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِسَكِينَةٍ وَ وَقَارٍ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قُلْ لَهُمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ حَقٌّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ فَإِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ لاَ فَلاَ تُرَاجِعْهُ وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مِنْهُمْ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تَعِدَهُ إِلاَّ خَيْراً فَإِذَا أَتَيْتَ مَالَهُ فَلاَ تَدْخُلْهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ لَهُ فَقُلْ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَ تَأْذَنُ لِي فِي دُخُولِ مَالِكَ فَإِنْ أَذِنَ لَكَ فَلاَ تَدْخُلْ دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ فِيهِ وَ لاَ عَنِفٍ بِهِ فَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِنِ اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضْ لَهُ فَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اخْلِطْهَا وَ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا قَبَضْتَهُ فَلاَ تُوَكِّلْ بِهِ إِلاَّ نَاصِحاً شَفِيقاً أَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعْنِفٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا ثُمَّ احْدُرْ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ كُلِّ فأد [نَادٍ] إِلَيْنَا نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ فَإِذَا انْحَدَرَ بِهَا رَسُولُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ فَصِيلِهَا وَ لاَ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَ لاَ يَصُرَّ لَبَنَهَا فَيُضِرَّ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَ لاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ وَ لْيُورِدْهُنَّ كُلَّ مَاءٍ يَمُرُّ بِهِ وَ لاَ يَعْدِلْ بِهِنَّ عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطَّرِيقِ حَتَّى تَأْتِيَنَا سِجَاحاً سِمَاناً غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لاَ مُجْهَدَاتٍ فَنَقْسِمَهُنَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ عَلَى3.

ص: 235


1- الكافى 497/3.

أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ (1). فقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أمر منه تعالى بأخذ صدقاتهم على ما تقدم و فرض على الأمة حملها إليه لفرضه عليها طاعته و الإمام قائم مقامه فيما فرض على النّبي صلّى اللّه عليه و آله من إقامة الحدود و الأحكام لأنه مخاطب بخطابه في ذلك و لما وجد النبي كان الفرض حمل الزكاة إليه فلما غاب من العالم بوفاته صار الفرض حمل الزكاة (2)إلى خليفته فإذا غاب الخليفة كان الفرض حملها إلى من نصبه في مقامه من خاصته فإذا عدم السفراء بينه و بين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء المأمونين من أهل ولايته لأن الفقيه أعرف بموضعها ممن لا فقه له.

فصل

و قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً (3) قال المبرد يعني أن السنة للمسلمين على الأهلة لا على ما يعده أهل الكتاب فسمى الله كل ثلاثين يوما أو تسعة و عشرين يوما عند تجدد رؤية الهلال بعد استسراده شهرا و سمى كل اثني عشر شهرا سنة و عاما و حولا إذ كان لا ينتظم أمر الناس إلا بهذا الحساب و إجراء الأحوال على مقتضى هذا المثال في جميع الأبواب.و لما كان سائر الأمم سوى العرب يجعلون الشهر ثلاثين يوما و السنة بحلول الشمس أول الحمل و ذلك إنما يكون بانقضاء ثلاثمائة و خمسة و ستين يوما و ربع يوم و اليهود و النصارى عبادتهم المتعلقة بالأوقات تجري على هذا الحساب بين الله أنه حكم بأن تكون السنة قمرية لا شمسية و أنه تعبد المسلمين بهذا فجعل حجتهم و أعيادهم و معاملاتهم و حساباتهم و وجوب الزكوات عليهم معتبرة بالقمر و شهوره6.

ص: 236


1- نهج البلاغة 27/2 مع اختلاف فى بعض الالفاظ.
2- الزيادة من ج.
3- سورة التوبة:36.

لا بالشمس فإن كان مع الإنسان مال تام النصاب و حال عليه الحول يجب فيه الزكاة و حد حول الحول فيها أنه إذا استهل هلال الشهر الثاني عشر.و الأثمان و الأنعام لا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول.فأما الغلات فوقت الزكاة فيها حين حصولها بعد الحصاد و الجذاذ و تفصيل ذلك أن وقت وجوب الزكاة في الغلات إذا كانت حبوبا إذا اشتدت و في الثمار إذا بدا صلاحها.و على الإمام أن يبعث سعاته لحفظها في الاحتياط عليها كما فعل رسول الله بخيبر.و وقت الإخراج إذا ديس الحب و نقي و صفي و في الثمر إذا جففت و شمست و المراعى في النصاب مجففا مشمسا.و قوله تعالى وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الزَّكَاةُ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ.

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مِمَّا تَنْشُرُ مِمَّا يُعْطَى الْمَسَاكِينَ الضِّغْثَ بَعْدَ الضِّغْثِ وَ الْجَفْنَةَ بَعْدَ الْجَفْنَةِ (1). و عن السدي الآية منسوخة بفرض العشر و نصف العشر لأن الزكاة لا تخرج يوم الحصاد و لأن هذه الآية مكية و فرض الزكاة نزل بالمدينة و لما روي أن الزكاة نسخت كل صدقة و قال الرماني هذا غلط لأن يوم حصاده ظرف لحقه و ليس بظرف لإيتاء المأمور به.و قوله وَ لا تُسْرِفُوا نهي عن وضع الزكاة في غير أهله و أن من أعطى زكاة ماله الفاسق و الفاجر فقد أسرف و وجب عليه الإعادة

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الْمُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا (2). و الإسراف مجاوزة حد الحق و هو يكون4.

ص: 237


1- تفسير البرهان 556/1.
2- المعجم المفهرس لالفاظ الحديث 158/4.

بالتفريط و الإفراط و التقصير و الزيادة.و الخطاب لأرباب المال و قيل للسلطان و قيل خطاب للجميع و هو أعم فائدة.و روي عن ثابت بن قيس بن شماس أنه كان له خمسمائة رأس نخلة فصرمها و تصدق بها و لم يترك لأهله منها شيئا فنهى الله عن ذلك و بين أنه سرف (1)

وَ لِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. و الآية الأولى تدل على أن الواجب تعليق الأحكام المتصلة بالشهور و السنين من عبادات و غيرها بهذه الأشهر دون الشهور التي تعتبرها العجم و الروم فمن هذا الوجه تعليق الصيام و أخذ الجزية و غيرها بحئول هذا الحول يؤيده قوله مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (2) و العدة اسم المعدود.

فصل

و قوله تعالى وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أي ما تنفقوا في وجوه البر من مال فلأنفسكم ثوابه ثم قال (3)وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ (4) أخبر تعالى عن صفة المؤمنين أنهم لا ينفقون إلا طلبا لرضا الله و قيل معناه النهي و إن كان ظاهره الخبر أي لا تنفقوا إلا طلبا لرضوان الله (5).ثم قال لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ (6) قيل هو بدل من قوله فَلِأَنْفُسِكُمْ3.

ص: 238


1- الدر المنثور 49/3.
2- سورة التوبة:36.
3- الزيادة من ج.
4- سورة البقرة:272.
5- الزيادة ليست فى ج.
6- سورة البقرة:273.

و الأحسن أن يكون العامل محذوفا أي النفقة المذكورة للفقراء الذين حبسوا و منعوا في طاعة الله إما لخوف العدو و إما للمرض و الفقر و إما للإقبال على العبادة.ثم وصفهم بقوله يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً .ثم حث الناس عليها فقال اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي ينفقون على الدوام إذ لا وقت سواها فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ (1) أتى بالفاء ليدل على أن الأجر من أجل الإنفاق في طاعة الله.ثم عقب بآية الربا ثم قال وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ (2) أي إن وقع في غرمائكم فقر فتؤخر إلى وقت يساره

وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي حَدِّ هَذَا الْإِعْسَارِ وَ هُوَ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهِ وَ قُوتِ عِيَالِهِ عَلَى الاِقْتِصَادِ وَ هُوَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ دَيْنٍ (3).

وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِلى مَيْسَرَةٍ مَعْنَاهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ الْإِمَامَ فَيَقْضِيَ عَنْهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ أَنْفَقَهُ فِي مَعْرُوفٍ (4). وَ أَنْ تَصَدَّقُوا أي أن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير من الشر فإن كان الدين على والدك أو على والدتك أو ولدك جاز أن تقضيه عنهم من الزكاة و إن لم يجز إعطاء الزكاة إياهم.و قوله اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً (5) فالمن هو ذكر ما ينقص المعروف بأن يقول أحسنت إلى فلان و أغنيته2.

ص: 239


1- سورة البقرة:274.
2- سورة البقرة:280.
3- نور الثقلين 297/1.
4- تفسير البرهان 260/1.
5- سورة البقرة:262.

و نحوه و الأذى أن يقول أنت أبدا فقير و من أبلاني بك و أراحني الله منك.ثم قال لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ (1) فالمنافق و المنان يفعلان لغير وجه الله فلا يستحقان عليه ثوابا و لا دليل فيها على أن الثواب الثابت يزول بالمن.أما قوله يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ (2) فقال السدي الآية واردة في الزكاة يستحب سان مصارف الزكاة و الأظهر أن المراد به نفقة التطوع على من لا يجوز وضع الزكاة عنده و لمن يجوز وضع الزكاة عنده فهي عامة في الزكاة المفروضة و في التطوع لأنه لا دليل على نسخها.و الآية نزلت في عمرو بن الجموح كان شيخا كبيرا ذا مال قال يا رسول الله بما ذا أتصدق و على من أتصدق (3).ثم قال وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (4)

عَنِ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْعَفْوُ هَاهُنَا مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِ السَّنَةِ (5). فنسخ ذلك بآية الزكاة

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْعَفْوُ الْوَسَطُ (6)أَيْ لاَ إِقْتَارَ وَ لاَ إِسْرَافَ.

فصل

و قوله اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ (7) نزلت في9.

ص: 240


1- سورة البقرة:264.
2- سورة البقرة:215.
3- مجمع البيان 390/1.
4- سورة البقرة:219.
5- تفسير البرهان 212/1.
6- نفس المصدر و الصفحة.
7- سورة التوبة 79.

حبحاب (1)لأنه أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله بصاع من تمر و قال يا رسول الله إني عملت في النخل بصاعين فتركت للعيال صاعا و أهديت لله صاعا فقال المنافقون إن الله لغني عما أتى به (2).و المتطوع المتنفل من طاعة الله ما ليس بواجب.و قوله وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ (3) أكثر المفسرين و العلماء على أن الوعيد يتناول مانع الزكاة الواجبة لأن جمع المال ليس بمحظور و بعد إخراج حق الله منه فحفظه إليه إن شاء أحرزه بالدفن في الأرض أو بالوضع في الصندوق (4).

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إِلاَّ جِيءَ بِكَنْزِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُحْمَى بِهِ جَنْبُهُ وَ جَبِينُهُ لِعُبُوسِهِ وَ ازْوِرَارِهِ وَ جَعْلِ السَّائِلِ وَ السَّاعِي وَرَاءَ ظَهْرِهِ (5). و روى ابن مهرإيزد في تفسيره أن سائلا سأل أبا ذر و هو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل فقال كنا بالشام فسألني معاوية عن هذه الآية أ هي فينا أم في أهل الكتاب فقال قلت فينا و فيهم فقال معاوية بل هي في أهل الكتاب ثم كتب إلى عثمان أن أبا ذر يطعن فينا فاستقدمني عثمان المدينة فلما أقبلت قال تنح قليلا فتنحيت إلى منزلي هذا.2.

ص: 241


1- حبحاب،ابو عقيل الانصارى،هو الذى لمزه المنافقون لما جاء بصاع من تمر صدقة-اسد الغابة 366/1.
2- اسباب النزول ص 172،و فى تفسير البرهان 148/2 ان المتصدق هو سالم بن عمير الانصارى.
3- سورة التوبة:34.
4- يعلم هذا من حديث منقول فى تفسير البرهان 121/2 مروى عن النبى صلى اللّه عليه و آله و سلم.
5- بهذا المعنى فى صحيح مسلم 682/2.

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ (1) .

باب ذكر الخمس و أحكامه

قال الله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (2) .الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال (3)و هي هبة من الله للمسلمين.و الخمس يجب فيها و في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب و أرباح التجارات و في الكنوز و المعادن و الغوص و غير ذلك و هي خمسة و عشرون جنسا و كل واحد منها غنيمة فإذا كان كذلك فالاستدلال يمكن عليها كلها بهذه الآية و يدل عليها جملة قوله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .و وقت وجوب الخمس فيه وقت حصوله لا يراعى فيه حئول الحول و لا النصاب الذي في الزكاة إلا في شيئين منها أحدهما الكنوز فإنه يراعى فيها النصاب الذي يجب فيه زكاة الأثمان و الثاني الغوص فإنه يراعى فيه مقدار دينار و ما عداهما لا يعتبر فيه مقدار و التقدير و اعلموا أن ما غنمتموه ما نصب اسم أن و غنمتم صلته.و قوله فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ أي فأمره و شأنه أن لله خمسه فما بمعنى الذي

ص: 242


1- سورة المؤمنون:100.و انظر الحديث فى تفسير البرهان 119/3.
2- سورة الانفال:41.
3- الزيادة من ج.

و لا يجوز أن يكتب إلا مفصولا لأن كتبه موصولا يوجب كون ما كافة على ما عليه عرف أهل اللغة و النحو.و قال الشيخ المفيد الخمس يجب في المعدن إذا بلغ الموجود منه مبلغا قيمته مائتا درهم و بذلك نصوص عن أئمة آل محمد عليهم السّلام و يؤيد ذلك قوله وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ و ما وجد في المعدن فهو من الغنائم بمقتضى العرف و اللسان.

فصل

و أما قسمة الخمس فهو عندنا على ستة أقسام على ما ذكره الله سهم لله و سهم لرسوله و هذان مع سهم ذي القربى القائم مقام النّبي صلّى اللّه عليه و آله ينفقهما على نفسه و أهل بيته من بني هاشم و سهم لليتامى و سهم للمساكين و سهم لأبناء السبيل كلهم من أهل بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله لا يشركهم فيها باقي الناس لأن الله عوضهم ذلك عما أباح لفقراء سائر المسلمين و مساكينهم و أبناء سبيلهم من الصدقات الواجبة المحرمة على أهل بيت النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو قول زين العابدين و الباقر عليه السّلام روى الطبري بإسناده عنهما.و اعلم أن الفقير إذا أطلق مفردا دخل فيه المسكين و كذا لفظ المسكين إذا أطلق مفردا دخل فيه الفقير لأنهما متقاربان في المعنى و لم يذكر في آية الخمس الفقراء كما جمع الله في آية الزكاة بينهما لأن هناك لهما سهمان من ثمانية أسهم و هاهنا أفرد لفظ المساكين و أراد بهم من له شيء لا يكفيه و من لا شيء له و لكليهما سهم واحد من ستة أسهم.

ص: 243

فصل

و قوله وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ قال المغربي حاكيا عن الصابوني إن هؤلاء الثلاث الفرق لا يدخلون في سهم ذي القربى و إن كان عموم اللفظ يقتضيه لأن سهامهم مفردة و هو الظاهر من المذهب.و إفراد لفظ ذي من ذي القربى دون أن يكون ذوي القربى على الجمع يحقق ما ذكرناه أنه للإمام القائم مقام الرسول صلّى اللّه عليه و آله.و الذين يستحقون الخمس عندنا من كان من ولد عبد المطلب لأن هاشما لم يعقب إلا منه من الطالبيين و العباسيين و الحارثيين و اللهبيين فأما ولد عبد مناف من المطلبين فلا شيء لهم منه.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخُمُسُ يُقْسَمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ فَسَهْمُ اللَّهِ وَ سَهْمُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ. و قال قوم يقسم أربعة أقسام سهم لبني هاشم و ثلاث للذين ذكرهم الله بعد ذلك من سائر المسلمين ذهب إليه الشافعي و قال أهل العراق يقسم ثلاثة أقسام لأن سهم الرسول صرف الأئمة الثلاثة إلى الكراع و السلاح و قال مالك يقسم على ما ذكره الله و قال أبو العالية و هو رجل من صلحاء التابعين يقسم على ستة أقسام فسهم الله للكعبة و الباقي لمن ذكر بعد ذلك.

فصل

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ مُجَاهِدٍ: ذُو الْقُرْبَى بَنُو هَاشِمٍ. و قد بينا أن المراد بذي القربى من كان أولى من أهل بيته في حياته و بعد النبي هو القائم مقامه و به قال علي بن الحسين عليه السّلام في رواياتهم و قال الحسن و قتادة سهم الله و رسوله و سهم

ص: 244

ذي القربى لولي الأمر من بعده و هو مثل مذهبنا.و اليتيم هو من مات أبوه و هو صغير و لم يبلغ و ابن السبيل هو المنقطع به في سفره سواء كان له في بلده يسار أو لم يكن و لا يجب أن يكون له في بلده يسار و انقطع به في السفر لأن ذلك لا يقتضيه كلمة الأصل التي هي ابن السبيل و لا تفسيره الذي هو المنقطع به لأن المسافر إنما قيل له ابن السبيل لأن السبيل أخرجه إلى هذا المستقر كما أخرجه أبوه إلى مستقره لقي محتاجا و المنقطع به هو الذي نفد ما عنده بل ضاع منه أو قطع به الطريق أو لغير ذلك سواء كان ما عنده (1)قليلا أو كثيرا و سواء كان من ورائه شيء أو لم يكن.و ذكر الشيخ في المبسوط أن ابن السبيل على ضربين أحدهما المنشئ للسفر من بلده الثاني المجتاز بغير بلده و كلاهما مستحق للصدقة عند أبي حنيفة و الشافعي و لا يستحقها إلا المجتاز عند مالك و هو الأصح لأنهم عليهم السّلام فسروه فقالوا هو المنقطع به و إن كان في بلده ذا يسار فدل ذلك على أنه المجتاز و قد روي أن الضيف داخل فيه و المنشئ للسفر من بلده إذا كان فقيرا جاز أن يعطى من سهم الفقراء دون سهم ابن السبيل.ثم قسم السفر إلى طاعة و معصية قال فإذا كان طاعة أو مباحا استحق بهما الصدقة و لا يستباح بسفر المعصية الصدقة ثم قال فابن السبيل متى كان منشئا للسفر من بلده و لم يكن له مال أعطي من سهم الفقراء عندنا و من سهم ابن السبيل عندهم و إن كان له مال لا يدفع إليه لأنه غير محتاج بلا خلاف و إن كان مجتازا بغير بلده و ليس معه شيء دفع إليه و إن كان غنيا في بلده لأنه محتاج في موضعه.هذا كلامه في باب الزكاة و الصحيح أن المنشئ من بلده للسفر ليعطى شيئا في بلد آخر لا مانع من أن يدفع إليه من سهم ابن السبيل مقدار ما يوصله إلى بلده.ج.

ص: 245


1- الزيادة ليست فى ج.

فصل

قال المرتضى رضي الله عنه إن تمسك الخصم بقوله وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى و قال عموم الكلام يقتضي ألا يكون ذو القربى واحدا و عموم قوله وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ يقتضي تناوله لكل من كان بهذه الصفات و لا يختص ببني هاشم و مذهبكم يخالف ظاهر الكتاب لأنكم تخصون الإمام بسهم ذي القربى و لا تجعلونه لجميع قرابة الرسول من بني هاشم و تقولون إن الثلاثة الأسهم الباقية هي ليتامى آل محمد و مساكينهم و أبناء سبيلهم و لا تتعدونهم إلى غيرهم ممن استحق هذا الاسم و هذه الأوصاف.و أجاب عنه فقال ليس يمتنع تخصيص ما ظاهره العموم بالأدلة على أنه لا خلاف بين الأمة في تخصيص هذه الظواهر لأن ذا القربى عام و قد خصوه بقربى النبي صلّى اللّه عليه و آله دون غيره و لفظ اليتامى و المسكين و ابن السبيل عام في المشرك و الذمي و الغني و الفقير و قد خصته الجماعة ببعض من له هذه الصفة على أن من ذهب من أصحابنا إلى أن ذا القربى هو الإمام القائم مقام النبي خاصة و سمي بذلك لقربه منه نسبا و تخصصا فالظاهر معه لأن قوله لِذِي الْقُرْبى لفظ وحده و لو أراد الجمع لقال ذوي القربى فمن حمل ذلك على الجمع فهو مخالف للظاهر (1).فأما الاستدلال بأن ذا القربى في الآية لا يجوز أن يحمل على جميع ذوي القرابات من بني هاشم فإن ما عطف على ذلك من اليتامى و المساكين و ابن السبيل إذا يلزم أن يكونوا غير الأقارب لأن الشيء لا يعطف على نفسه فضعيف و ذلك غير لازم لأن الشيء و إن لم يعطف على نفسه فقد يعطف صفة على أخرى و الموصوف واحد.ظ.

ص: 246


1- انظر كلام المرتضى فى الانتصار ص 87-88 مع بعض الاختلاف فى الالفاظ.

فصل

و الفيء ما أخذ بغير قتال في قول عطاء و السائب و سفيان الثوري و هو قول الشافعي و هو اختيارنا و قال قوم الغنيمة و الفيء واحد.و قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ إلى آخر الآية ناسخ للآية التي في الحشر من قوله ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (1) قالوا لأن الله بين في آية الغنيمة أن الأربعة الأخماس للمقاتلة و خمسها للرسول و لأقربائه و في آية الحشر كلها له و على القول الأول لا يحتاج إلى هذا لأنه الفيء.و عندنا الفيء للإمام خاصة يفرقه فيمن يشاء يضعه في مئونة نفسه و ذي قرابته و اليتامى و المساكين و ابن السبيل من أهل بيت النّبي صلّى اللّه عليه و آله ليس لسائر الناس فيه شيء.و كذلك قيل في قوله تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى (1) إن الأمر فيه بإعطاء ذي القربى هو أمر بصلة قرابة النبي صلّى اللّه عليه و آله و هم الذين أرادهم الله بقوله فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (2)

باب الأنفال :

رُوِيَ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ

وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِجَبْرَئِيلَ لِمَنْ هَذَا الْفَيْءُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (3) فَاسْتَدْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ فَأَعْطَاهَا فَدَكاً وَ سَلَّمَهَا إِلَيْهَا فَكَانَ وُكَلاَؤُهَا فِيهَا طُولَ حَيَاةِ النَّبِيِّ مِنْ عِنْدِ نُزُولِهَا فَلَمَّا مَضَى رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَ لَمْ يَقْبَلْ بَيِّنَتَهَا وَ لاَ سَمِعَ دَعْوَاهَا فَطَالَبَتْ بِالْمِيرَاثِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا مُنِعَ مِنْ وَجْهٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ لَهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ فَمَنَعَهَا الْمِيرَاثَ بِهَذَا الْكَلاَمِ. و هذا مشهور.

ص: 247


1- سورة النحل:90.
2- سورة الانفال:41.
3- سورة الحشر:7.

وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِجَبْرَئِيلَ لِمَنْ هَذَا الْفَيْءُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (1) فَاسْتَدْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ فَأَعْطَاهَا فَدَكاً وَ سَلَّمَهَا إِلَيْهَا فَكَانَ وُكَلاَؤُهَا فِيهَا طُولَ حَيَاةِ النَّبِيِّ مِنْ عِنْدِ نُزُولِهَا فَلَمَّا مَضَى رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَ لَمْ يَقْبَلْ بَيِّنَتَهَا وَ لاَ سَمِعَ دَعْوَاهَا فَطَالَبَتْ بِالْمِيرَاثِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا مُنِعَ مِنْ وَجْهٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ لَهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ فَمَنَعَهَا الْمِيرَاثَ بِهَذَا الْكَلاَمِ. و هذا مشهور.

وَ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَسْبَاطٍ قَالَ: لَمَّا وَرَدَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى الْمَهْدِيِّ الْخَلِيفَةِ وَجَدَهُ يَرُدُّ الْمَظَالِمَ فَقَالَ مَا بَالُ مَظْلِمَتِنَا لاَ تُرَدُّ فَقَالَ مَا هِيَ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَتَحَ عَلَى نَبِيِّهِ فَدَكاً وَ مَا وَالاَهَا وَ لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَ آتِ ذَا الْقُرْبى فَلَمْ يَدْرِ رَسُولُ اللَّهِ مَنْ هُمْ فَرَاجَعَ فِي ذَلِكَ جِبْرِيلَ فَسَأَلَ اللَّهَ عَنْ ذَلِكَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ادْفَعْ فَدَكاً إِلَى فَاطِمَةَ فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ لَهَا يَا فَاطِمَةُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَ إِلَيْكِ فَدَكاً فَقَالَتْ قَدْ قَبِلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ وَ مِنْكَ فَلَمْ يَزَلْ وُكَلاَؤُهَا فِيهَا حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَ عَنْهَا وُكَلاَءَهَا فَأَتَتْهُ فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا فَقَالَ ائْتِينِي بِأَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ فَجَاءَتْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ وَ أُمِّ أَيْمَنَ فَشَهِدُوا لَهَا فَكَتَبَ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ فَخَرَجَتْ وَ الْكِتَابُ مَعَهَا فَلَقِيَهَا عُمَرُ فَقَالَ مَا هَذَا مَعَكِ يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ قَالَتْ كِتَابٌ كَتَبَهُ لِي ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ قَالَ فَأَرِينِهِ فَأَبَتْ فَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهَا فَنَظَرَ فِيهِ ثُمَّ تَفَلَ فِيهِ وَ مَحَاهُ وَ خَرَقَهُ وَ قَالَ هَذَا لِأَنَّ أَبِيكِ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ وَ تَرَكَهَا وَ مَضَى فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ حُدَّهَا فَحَدَّهَا فَقَالَ هَذَا كَثِيرٌ وَ أَنْظُرُ فِيهِ (2).2.

ص: 248


1- سورة الاسراء:26.
2- تفسير البرهان 414/2.

فصل

و قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ (1)

وَ رُوِيَ عَنِ الْبَاقِرِ وَ الصَّادِقِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: أَنَّ الْأَنْفَالَ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ إِذَا انْجَلَى أَهْلُهَا عَنْهَا (2). و قسمها الفقهاء فيئا و ميراث من لا وارث له و غير ذلك مما هو مذكور في كتب الفقه.و هو لله و للرسول و بعده للقائم مقامه يصرف حيث يشاء من مصالح نفسه و من يلزمه مئونته ليس لأحد فيه شيء.و قالا كانت غنائم بدر للنبي صلّى اللّه عليه و آله خاصة فسألوه أن يعطيهم.و في قِرَاءَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ يَسْئَلُونَكَ الْأَنْفَالَ (3)فأنزل الله قوله قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ و لذلك قال تعالى فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ و لو سألوه عن موضع الاستحقاق لم يقل فَاتَّقُوا اللّهَ و قد اختلفوا في ذلك اختلافا شديدا و الصحيح ما ذكرناه.و قال قوم نزلت في بعض أصحاب النبي سأله من المغنم شيئا قبل القسمة فلم يعطه إياها فجعل الله جميع ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله و كان نفل قوما و قال آخرون لو أردنا لأخذنا فأنزل الله الآية يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله ماض و قال معنى عن معنى من و كان ابن مسعود يقرأ يَسْئَلُونَكَ الْأَنْفَالَ .2.

ص: 249


1- سورة الانفال:1.
2- تفسير البرهان 61/2.
3- نقل ذلك عن زين العابدين و الباقر و الصادق عليهم السلام-انظر مجمع البيان 516/2.

وَ قَالَ الْحَسَنُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَيُّمَا سُرِّيَّةٍ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ إِمَامِهَا فَمَا أَصَابَتْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ غُلُولٌ. و اختلفوا هل لأحد بعد النبي أن ينفل فقال جماعة من الفقهاء و اختاره الطبري أن للأئمة أن يتأسوا بالنبي في ذلك.و ذاتَ بَيْنِكُمْ قال الزجاج أراد الحال التي ينصلح بها أمر المسلمين.

فصل

و أما قوله ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى فأوله وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني من اليهود و الذين أجلاهم من بني النضير و إن كان الحكم سائرا في جميع الكفار إذا كان حكمهم حكمهم.و الفيء رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله إياهم على ما شرط فيه و قال عمر الفيء مال الخراج و الجزية و قيل هو كل ما رجع من أموال الكافرين إلى المؤمنين فمنه غنيمة و غير غنيمة.و الذي نذهب إليه أن مال الفيء غير مال الغنيمة فالغنيمة كل ما أخذ بالسيف من دار الحرب عنوة على ما قدمناه و الفيء كل ما أخذ من الكفار بغير قتال أو انجلى أهلها و كان ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله و هي لمن قام مقامه و مال بني النضير كان له عليه السّلام لأنه لما نزل المدينة عاقدوه على أن لا يكونوا لا عليه و لا له ثم نقضوا العهد و أرادوا أن يطرحوا عليه حجرا حين مشى النبي إليهم يستعين بهم فأجلاهم الله عن منازلهم.و ما أَفاءَ اللّهُ يعني ما رجعه الله عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني من بني النضير فهو له يفعل فيه ما يشاء و ليس فيه لأحد حظ.

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَيُّمَا قَرْيَةٍ فَتَحَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَهِيَ لِلَّهِ

ص: 250

وَ لِرَسُولِهِ وَ أَيُّمَا قَرْيَةٍ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِأَقْرِبَائِهِ وَ مَا بَقِيَ غَنِيمَةٌ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ يَصِحُّ نَقْلُهُ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ نَقْلُهُ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ.ثُمَّ قَالَ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ يَعْنِي لَمْ يُوجِفُوا عَلَى ذَلِكَ بِخَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ وَ إِنَّمَا جَلَوْا عَنِ الرُّعْبِ وَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِتَالٌ.ثُمَّ بَيَّنَ الْمُسْتَحِقَّ لِذَلِكَ فَقَالَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يَعْنِي قُرَى بَنِي النَّضِيرِ فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى يَعْنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لِهَؤُلاَءِ سَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ ثُمَّ بَيَّنَ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَالَ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ فَالدُّولَةُ نَقْلُ النِّعْمَةِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ.ثُمَّ قَالَ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ أَيْ مَا أَعْطَاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الْفَيْءِ فَخُذُوهُ وَ ارْضَوْا بِهِ فَإِنَّ مَالَ بَنِي النَّضِيرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَإِنَّهُ فَيْءٌ لاَ غَنِيمَةٌ وَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِنَّمَا وَضَعَهُ فِي الْمُهَاجِرِينَ إِذَا كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَ لَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ إِلاَّ أَبَا دُجَانَةَ وَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ لِفَقْرِهِمَا وَ إِنَّمَا وَضَعَهُ فِي الْمَذْكُورِينَ لِلْفَقْرِ لاَ مِنْ حَيْثُ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ وَ هُوَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. و قوله لِلْفُقَراءِ ليست اللام للتمليك و الاستحقاق و إنما هل للتخصيص من حيث تبرع النبي صلّى اللّه عليه و آله بشيء منه لهم كما تقدم بل اللام يتعلق بمعنى الكلام في قوله ما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي ما آتاكم الرسول إيتاء للفقراء و من قال لِلْفُقَراءِ بدل من قوله لِذِي الْقُرْبى غفل عن سبب نزول الآية.و أما قوله وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ فمبتدأ و خبره يُحِبُّونَ (1) و كذا وَ الَّذِينَ جاؤُ مبتدأ و خبره يَقُولُونَ (2) فلا تتوهم أن هؤلاء كلهم مشتركون في ذلك الفيء كما يدعيه المخالفون0.

ص: 251


1- سورة الحشر:9.
2- سورة الحشر:10.

باب زكاة الفطرة

كل آية دلت على زكاة المال تدل على زكاة الرءوس لعمومها و لفقد الاختصاص

وَ قَدْ رُوِيَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (1) الْمُرَادُ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ وَ فِيهَا نَزَلَتْ خَاصَّةً (2). فمن ملك قبل أن يهل شوال بلحظة نصابا وجب عليه إخراج الفطرة.و قوله وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (3) إشارة إلى صلاة العيد و ذلك لأن إخراج الفطرة يجب يوم الفطر قبل صلاة العيد على ما بدأ الله به في الآية.و قال العلماء و المفسرون كل موضع من القرآن يدل على الصلوات الخمس و زكاة الأموال فذكر الصلاة فيه مقدم كقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (4) و قدم الزكاة في هذه الآية على الصلاة فقال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى إعلاما أن تلك الزكاة زكاة الفطرة و أن تلك الصلاة صلاة العيد.و يحتاج في زكاة الفطرة (5)إلى معرفة خمسة أشياء من تجب عليه و متى تجب و ما الذي يجب و كم يجب و من يستحقها و يعلم تفصيلها من سنة النبي صلّى اللّه عليه و آله و قد بينها بقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .و تجب الفطرة على كل حر بالغ مالك لما يجب فيه زكاة المال و يلزمه أن يخرجه عن نفسه و عن جميع من يعوله حتى فطرة خادمة زوجته لقوله وَ عاشِرُوهُنَّ

بِالْمَعْرُوفِ (1) و هذا من المعروف فإن أهل شوال و زوجته المدخول بها مقيمة على النشوز لم يلزمه فطرتها و المرأة الموسرة إذا كانت تحت معسر لا يلزمها فطرة نفسها و تسقط عن الزوج لإعساره و لو قلنا إنها إذا ملكت نصابا وجب عليها الفطرة كان قويا لعموم الخبر إذا كان الحال هذه.و الفطرة صاع من أحد أجناس ستة الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الأرز و الأقط (2).و لا يجوز أن يخرج صاع من جنسين و يجوز إخراج قيمته و لا يجوز إخراج المسوس و المدود منها لقوله تعالى وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (3)

ص: 252


1- سورة الاعلى:14.
2- انظر تفسير البرهان 450/4.
3- سورة الاعلى:15.
4- سورة البقرة:43.
5- الزيادة من م.

بِالْمَعْرُوفِ (1) و هذا من المعروف فإن أهل شوال و زوجته المدخول بها مقيمة على النشوز لم يلزمه فطرتها و المرأة الموسرة إذا كانت تحت معسر لا يلزمها فطرة نفسها و تسقط عن الزوج لإعساره و لو قلنا إنها إذا ملكت نصابا وجب عليها الفطرة كان قويا لعموم الخبر إذا كان الحال هذه.و الفطرة صاع من أحد أجناس ستة الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الأرز و الأقط (2).و لا يجوز أن يخرج صاع من جنسين و يجوز إخراج قيمته و لا يجوز إخراج المسوس و المدود منها لقوله تعالى وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (3)

قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: تَمَامُ الصَّوْمِ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ يَعْنِي الْفِطْرَةَ كَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ وَ آلِهِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ وَ مَنْ صَامَ وَ لَمْ يُؤَدِّهَا فَلاَ صَوْمَ لَهُ إِذَا تَرَكَهَا مُتَعَمِّداً وَ مَنْ صَلَّى وَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ وَ آلِهِ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (4) . و يمكن أن يقال إن هذا فيمن صام و اعتقد أن الفطرة لا تجب عليه و على وجه و كان ابن مسعود يقول رحم الله امرأ تصدق ثم صلى و يقرأ هذه الآية.

فصل

فإن قيل روي في قوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى عن ابن عمر و أبي العاليةظ.

ص: 253


1- سورة النساء:19.
2- فى العباب:روى ابو سعيد الخدرى رضى اللّه عنه انه قال:كنا نخرج زكاة الفطرة: صاعا من طعام،أو صاعا من شعير،أو صاعا من تمر،أو صاعا من أقط،أو صاعا من زبيب«ه ج».
3- سورة البقرة:267.
4- وسائل الشيعة 221/6 مع اختلاف فى بعض الالفاظ.

و عكرمة و ابن سيرين أنه أراد صدقة الفطرة و صلاة العيد (1)و كيف يصح ذلك و السورة مكية و لم يكن هناك صلاة عيد و لا زكاة فطرة.قلنا يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكة و ختمت بالمدينة (2).قال تعالى فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّى أي لم يتصدق و لم يصل لكِنْ كَذَّبَ بالله وَ تَوَلّى عن طاعته (3)و كأنه في زكاة الفطرة لأنه ابتدأ بذكر الصدقة ثم بالصلاة على ما قدمنا و الصدقة العطية للفقير (4).و قال تعالى وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) و الشح منع الواجب في الشرع و كذا البخل (6)قال الله تعالى سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ (7)

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِنَّهُ شُجَاعٌ أَقْرَعُ طُوِّقُوا بِهِ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (8).

باب الجزية

قال الله تعالى حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (9) و الجزية عبارة

ص: 254


1- انظر الدر المنثور 339/6-340.
2- نقل عن الضحاك انها مدنية-انظر مجمع البيان 472/5.
3- سورة القيامة:31-32.
4- هذا من الجانب الشرعى-انظر لسان العرب(صدق).
5- سورة الحشر:9 و سورة التغابن:16.
6- قال ابن منظور:الشح و الشح-بضم الشين و فتحها-البخل،و الضم اعلى، و قيل هو البخل مع الحرص،و فى الحديث«اياكم و الشح»،الشح اشد البخل،و هو ابلغ فى المنع من البخل،و قيل البخل فى افراد الامور و آحادها و الشح عام.و قيل للبخل بالمال و الشح بالمال و المعروف-لسان العرب(شحح).
7- سورة آل عمران:180.
8- تفسير البرهان 327/1.
9- سورة التوبة:29.

شرعية عن حق مخصوص يؤخذ من أهل الكتاب ليقروا على دينهم كما أن المأخوذ من أموال المسلمين على جهة الطهر يسمى زكاة و كلاهما اسم شرعي.و المعنى أن ذلك إذا أدوه أغنى عنهم لاجتزاء للمؤمنين لهم منهم و الإبقاء به على دمائهم مأخوذة من قولهم هذا الشيء يجزي عن فلان أي يغني عنه و يكفي.و قد طعن الدهرية في أمر الجزية و أخذها و إبقاء العاصي على كفره لهذا النفع اليسير من جهته فكأنه إجازة الكفر لأجل الرشوة المأخوذة من أهل الذمة.الجواب لم تؤخذ الجزية للرضا بالكفر و فيه وجه حسن و هو أن إبقاءه أحسن في العقل من قبله لأن الفرض بتكليفه نفعه و هو ما دام حيا فعلى حد الرجاء من التوبة و الإيمان بأن يتذكر ما غفل عنه و إذا قتل فقد انقطع الرجاء و هم أهل الكتاب يوحدون الله باللسان بخلاف الكافر الحربي فإن الحكمة تقتضي قتله إلا أن يسلم و إذا أخذ الجزية من هؤلاء و بقوا ربما يكون سببا للإيمان و ذو النفس الدنية ربما يفادي من ذهاب المال عنه الدخول في الدين و فيه منفعة المؤمنين جملة و على أهل الذمة إهانة فالطعن ساقط.

فصل

قيل إن قوله تعالى وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (1) نزلت في أهل الذمة ثم نسخها قوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (2) فأوجب الجزية على أهل الكتاب من الرجال البالغين.و الفقير الذي لا شيء معه يجب عليه الجزية لأنه لا دليل على إسقاطها منه9.

ص: 255


1- سورة البقرة:83.
2- سورة التوبة:29.

و عموم الآية يقتضيه فإذا لم يقدر على أدائها كانت في ذمته فإذا استغنى أخذت منه من يوم ضمنها.و بدليل العقل تسقط من مجانينهم و نواقصي العقول منهم.و ما للجزية حد لأنه من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله و مما يطيق إنما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا فتؤخذ منهم على قدر ما يطيقون حتى يسلموا فإن الله قال حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ فمنهم من لا يكترث مما يؤخذ منه فإذا وجد ذلا يسلم الجزية بيده صاغرا فإنما على طريق الإذلال [بذلك و قابضها منه يكون قاعدا تألم لذلك يسلم] (1).و قوله تعالى فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ (2) يدل على أن من وجبت عليه الجزية و حل الوقت فأسلم قبل أن يعطيها سقطت عنه و لم يلزمه أداؤها لأن ذلك على العموم.و أما عقد الجزية فهو الذمة و لا يصح إلا بشرطين التزام الجزية و أن يجرى عليهم أحكام المسلمين من غير استثناء فالتزام الجزية و ضمانها لا بد منه لقوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ إلى قوله حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ و حقيقة الإعطاء هو الدفع غير أن المراد هاهنا هو الضمان و إن لم يحصل الدفع.و أما التزام أحكامنا عليهم فلا بد منه و هو الصغار المذكور في الآية ففي الناس من قال الصغار هو وجوب جري أحكامنا عليهم و منهم من قال الصغار أن تؤخذ الجزية منه قائما و المسلم جالس عن خشوع و ضراعة و ذل و استكانة من الذمي و عن يد من المسلمين و نعمة منهم عليهم في حقن دمائهم و قبول الجزية منهم.و لا حد لها محدود بل يضعها الإمام على أرضهم أو على رءوسهم على قدر1.

ص: 256


1- الزيادة من ج.
2- سورة التوبة:11.

أحوالهم من الضعف و القوة بقدر ما يكونون به صاغرين

وَ مَا رُوِيَ: أَنَّ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَضَعَ عَلَى الْمُوسِرِ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةً وَ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً وَ عَلَى الْمَبْسُوطِ أَرْبَعَةً وَ عِشْرِينَ دِرْهَماً وَ عَلَى الْمُتَجَمِّلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَماً (1). إنما فعله لما رآه في تلك الحال من المصلحة

باب الزيادات

أما قوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ فقصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة و أنها مختصة بهم كأنه قيل إنما هي لهم لا لغيرهم و نحوه قولهم إنما الخلافة لقريش يريدون لا يتعداهم و لا يكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها و أن تصرف إلى بعضها.

مسألة

فإن قيل لم عدل عن اللام التي في الأربعة الأولة من قوله لِلْفُقَراءِ التي في الأربعة الأخيرة.قلنا قال بعض المفسرين إن ذلك للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره لأن في للدعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات و ذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر و في فك الغارمين من الغرم من التخليص و الإنفاذ.و يجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر و العالة و كذلك ابن السبيل الجامع بين الفقر و الغربة عن الأهل و المال و تكرير في في قوله وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فيه فضل ترجيح لهذين على الغارمين.

ص: 257


1- وسائل الشيعة 115/11.

و قيل اللام في الأصناف الأربعة تدل على أن تلك الصدقة لهم يفعلون به ما أرادوا و ينفقون كما شاءوا مما أبيح لهم و لفظة في تدل أن الصدقة التي تعطى المكاتب و الغارم ليس لهما أن ينفقا على أنفسهما و أهاليهما و إنما يضعان في فك الرقبة و الذمة فيوصل المكاتب إلى سيده المديون إلى غريمه.و قوله فَرِيضَةً مصدر مؤكد لأن قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ معناه فرض الله الصدقات لهم.

مسألة

و قوله وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (1)

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَ لاَ أُمَّةَ بَعْدَكُمْ صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَ صُومُوا شَهْرَكُمْ وَ حُجُّوا بَيْتَكُمْ وَ أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ. فاشتملت هذه الآية على جميع العبادات.

مسألة

و أما قوله وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (2) فما بمعنى الذي و من شيء بيانه.قيل من كل شيء حتى الحنطة و المخيط و قيل من بعض الأشياء لا من جميعها فيكون التقدير من شيء مخصوص فحذف الصفة كقوله فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ (3) أي من الأم.و قوله فَأَنَّ لِلّهِ تقديره فواجب أن لله خمسه كأنه قيل فلا بد من ثبات1.

ص: 258


1- سورة النور:56.
2- سورة الانفال:41.
3- سورة النساء:11.

الخمس (1)فيه من حيث إنه إذا حذف الخبر و احتمل غير واحد من المقدرات كقولك واجب ثابت حق لازم و ما أشبه ذلك كان أقوى لإيجابه من النص على واحدة و تعلق قوله إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ بمحذوف و يدل عليه اِعْلَمُوا أي إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس لهؤلاء المذكورين و ليس المراد العلم المجرد و لكنه العلم المضمن بالعمل و الطاعة لأمر الله لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن و الكافر.

مسألة

فإن قيل ما معنى ذكر الله و عطف الرسول و غيره عليه

في قوله تعالى فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى الآية و ما المراد بالجمع بين الله و رسوله في قوله قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ .قلنا أما آية الغنيمة فإن الله لما رأى المصلحة أن يكون خمس الغنيمة على ستة أقسام و يكون لرسوله سهمان منه في حال حياته و سهم لذي قرباه و ثلاثة الأسهم الباقية ليتامى آل محمد و مساكينهم و أبناء سبيلهم و يكون بعد وفاة رسول الله سهم الله و سهم رسوله و سهم ذي القربى لذي قربى الرسول القائم مقامه فصل تفصيلا في ذلك تمهيدا لعذره عليه السّلام و قطعا لأطماع كل طامع.و كذلك آية الأنفال لما علم الله الصلاح في الأنفال أن تكون خاصة لرسوله و بعده لمن يقوم مقامه من ذي قرباه أضافها إلى نفسه و إلى رسوله لكيلا تكون دولة بين هذا و ذا و أبى القوم إلا أن تكون دولة بينهم.

مسألة

و قوله وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ أي ما جعله الله فيئا له خاصة فما أوجفتم».

ص: 259


1- اى كأن اللّه تعالى قال أن ما غنمتم من شىء فلا بد من ثبات الخمس فيه«ه ج».

على تحصيله خيلا و لا تعبتم في الاقتتال عليه و لكن سلط الله رسوله على مال بني النضير و نحوه فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء يعني أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها و ذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت الآية.ثم قال ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ و لم يدخل الواو العاطفة لأنه بيان للجملة الأولى فالجملة الأخيرة غير أجنبية عنها بين لرسول الله ما يصنع بما أفاء الله عليه و أن كان هو حقه نحلة من الله في هذه الآية و في قوله وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ .

مسألة

وَ عَنْ زُرَارَةَ وَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُمَا قَالاَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَ رَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ الْآيَةَ أَ كُلُّ هَؤُلاَءِ يُعْطَى وَ إِنْ كَانَ لاَ يَعْرِفُ فَقَالَ إِنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي هَؤُلاَءِ جَمِيعاً لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالطَّاعَةِ وَ إِنَّمَا يُعْطِي مَنْ لاَ يَعْرِفُ لِيَرْغَبَ فِي الدِّينِ فَيَثْبُتَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ تُعْطِيهَا أَنْتَ وَ أَصْحَابُكَ إِلاَّ مَنْ تَعْرِفُ فَمَنْ وَجَدْتَ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمُسْلِمِينَ عَارِفاً فَأَعْطِهِ دُونَ النَّاسِ (1).

مسألة

فإن قيل كيف

قال وَ فِي الرِّقابِ بعد قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى و لا يقال آتى المال فيه.قلنا المفعول محذوف و التقدير و آتى في فك الرقاب سيدهم و في حق الغارمين أصحاب ديونهم و لا تعطى المملوك المال لينفق على نفسه و إنما يعطى ليدفع إلى مولاه فينعتق سواء كان مكاتبا أو مملوكا.2.

ص: 260


1- تفسير البرهان 135/2.

مسألة

قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ (1) الْمَعْرُوفُ الْقَرْضُ (2).

وَ قَالَ: فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ (3) هُوَ الرَّجُلُ يَدَعُ مَالَهُ لاَ يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ بُخْلاً ثُمَّ يَدَعُهُ لِمَنْ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ بِمَعْصِيَتِهِ فَإِنْ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ رَآهُ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ فَرَآهُ حَسْرَةً وَ قَدْ كَانَ الْمَالُ لَهُ وَ إِنْ عَمِلَ بِهِ فِي مَعْصِيَتِهِ قَوَّاهُ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى عَمِلَ بِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (4).

مسألة

قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: قَوْلُهُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (5) إِنَّهُ التَّصَدُّقُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَ قَالَ لاَ أُبَالِي أَنْ أَجِدَ فِي كِتَابِي غَيْرَهَا لِقَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى أَيْ أَعْطَاهُ زَكَاةَ الْفِطْرَةِ فَتَوَجَّهَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى صَلاَةَ الْعِيدِ.

مسألة

رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذَا كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ أَقِطٍ فَقَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجّاً فَقَالَ أَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ (6)».

ص: 261


1- سورة النساء:114.
2- من لا يحضره الفقيه 58/2.
3- سورة البقرة:167.
4- تفسير البرهان 173/1.
5- سورة الاعلى:14-15.
6- السمراء:الحنطة-عن الجوهرى«ه ج».

يَعْدِلُ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ (1). و ذلك في عهد عثمان

فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ قَدْ سُئِلَ عَنِ الْفِطْرَةِ فَقَالَ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ قِيلَ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ قَالَ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ .

مسألة

وَ قَالَ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ الْخُمُسَ بَعْدَ الْمَئُونَةِ (2).

وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْنَا الزَّكَاةَ أَنْزَلَ لَنَا الْخُمُسَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْنَا حَرَامٌ وَ الْخُمُسُ لَنَا فَرِيضَةٌ وَ الْكَرَامَةُ لَنَا حَلاَلٌ (3).

مسألة

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ وَ لاَ وَارِثَ لَهُ وَ لاَ مَوْلَى إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ (4) .

وَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ: 5 قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَنَا لِأَبِي جَعْفَرٍ شَيْءٌ فَكَيْفَ نَصْنَعُ فَقَالَ مَا كَانَ لِأَبِي عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِسَبَبِ الْإِمَامَةِ فَهُوَ لِي وَ مَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مِيرَاثٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.2.

ص: 262


1- صحيح البخارى 162/2 بهذا المضمون.
2- وسائل الشيعة 348/6.
3- وسائل الشيعة 187/6.
4- تفسير البرهان 59/2.

كتاب الحج

في وجوب الحج

قال الله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1) فأوجب سبحانه بهذه الآية حجة الإسلام و عمرة الإسلام لأنه تعالى أمر من المكلفين جميع من توجه إليه وجوب الحج أن يتم الحج و العمرة و وجوب الإتمام يدل على أنه واجب بل هذا آكد في الإيجاب من حجوا و اعتمروا كما أن أَقِيمُوا الصَّلاةَ آكد من صلوا و آتُوا الزَّكاةَ آكد من زكوا.و هي واجبة بشروط ثمانية بينها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.و قوله أَتِمُّوا أمر بإيقاعهما تامة فإن نسكها كثيرة و لا يجوز أن يقضى بعضها دون بعض.و قيل من دخل في الحج أو العمرة على سبيل التطوع و أحرم فإنه يجب عليه أن يتمه و مثاله الاعتكاف فإنه يستحب للمكلف أن يعتكف في أحد المساجد الأربعة فإذا اعتكف فإنه يجب عليه أن يتمه.

ص: 263


1- سورة البقرة:196.

فصل

و لما قرن تعالى العمرة بالحج و أمر بإتمامهما و فعلهما أمرا واحدا فهي في الوجوب مرة واحدة كالحج.و الحج في اللغة القصد و في الشرع هو القصد إلى البيت الحرام لأداء مناسك بها مخصوصة في أوقات مخصوصة.و العمرة في اللغة الزيارة و في الشرع عبارة عن زيارة البيت لأداء مناسك مخصوصة فإن كانت مما يتمتع بها إلى الحج فتكون أيضا في وقت مخصوص و إذا كانت مبتولة ففي أي وقت كان من أيام السنة جازت.و قيل في قوله وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ أي أقيموها إلى آخر ما فيهما و هو المروي عن أمير المؤمنين و زين العابدين عليه السّلام (1).و قوله لِلّهِ أي اقصدوا بهما التقرب إلى الله.

فصل

و قال تعالى وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (2)

سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فَقَالَ مَا يَقُولُ فِيهَا هَؤُلاَءِ قِيلَ يَقُولُونَ الزَّادُ وَ الرَّاحِلَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَدْ قِيلَ ذَلِكَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ هَلَكَ النَّاسُ إِذَا كَانَ مَنْ لَهُ زَادٌ وَ رَاحِلَةٌ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُمَا أَوْ مِقْدَارُ ذَلِكَ مِمَّا يَقُوتُ بِهِ عِيَالَهُ وَ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ النَّاسِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثُمَّ رَجَعَ فَيَسْأَلُ النَّاسَ بِكَفِّهِ لَقَدْ هَلَكَ إِذاً فَقِيلَ لَهُ فَمَا السَّبِيلُ عِنْدَكَ فَقَالَ السَّعَةُ7.

ص: 264


1- مجمع البيان 290/1.
2- سورة آل عمران:97.

فِي الْمَالِ وَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَا يَحُجُّ بِبَعْضِهِ وَ يَبْقَى بَعْضٌ يَقُوتُ بِهِ نَفْسَهُ وَ عِيَالَهُ ثُمَّ قَالَ أَ لَيْسَ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ الزَّكَاةَ فَلَمْ تُجْعَلْ إِلاَّ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (1). و إنما أورد عليه السّلام هذه اللفظة على وجه المثال لا على جهة الحمل و الأمثلة مما توضح به المسائل قال الله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (2)

باب في أنواع الحج

معلوم أن الحج ليس المراد به القصد و الحضور فقط و إنما هو مجمل يحتاج إلى التفصيل كالصلاة و تفصيله يدرك بالكتاب و السنة و الله سبحانه قد بين بعض ذلك كالوقوف و الدفع و السعي و الطواف كما ذكر في سورة البقرة و بين أيضا ما يجب أن يمتنع منه كالرفث و الفسوق و الجدال و قتل الصيد.و الذي يدرك بالسنة فقد بينها رسول الله لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .ثم اعلم أن الحج ضروب ثلاثة مفرد لأهل مكة و قارن لمن حكمه حكم أهل مكة و إن كان منزله خارج مكة من بواديها ثم النوعان للفريقين و تمتع لمن نأى من الحرم.فالإفراد فرض ساكني مكة و مجاوريها الذين جاوروا ثلاث سنين فصاعدا لم يجز لهم التمتع و يجوز لهم القران فأما من كان بحكم حاضري المسجد الحرام فهو كل من كان على اثني عشر ميلا فما دونها إلى مكة من أي جانب كان ففرضه الإفراد و القران و لأن يحرم أغنياؤهم فالإقران أولى.و فرض التمتع عندنا هو اللازم لكل من لم يكن من حاضري المسجد الحرام

ص: 265


1- وسائل الشيعة 24/8.
2- سورة آل عمران:59.

و هو كل من كان على أكثر من اثني عشر ميلا من أي جانب كان إلى مكة فمن خرج عنها و ليس من الحاضرين لا يجوز له مع الإمكان غير التمتع قال الله تعالى فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الآية (1).

فصل

وَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ (2) الْآيَةَ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنِينَ أَنْ يُؤَذِّنُوا عَلَى أَصْوَاتِهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ هَذَا فَعَلِمَ بِهِ مَنْ حَضَرَ الْمَدِينَةَ وَ أَهْلُ الْعَوَالِي (3)وَ الْأَعْرَابُ فَاجْتَمَعُوا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِي أَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ (4)فَزَالَتِ الشَّمْسُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ (5)فَصَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ وَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فَلَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ بِالْمَرْوَةِ (6)بَعْدَ فِرَاغِهِ مِنَ السَّعْيِ قَالَ إِنَّ هَذَا جِبْرِيلُ وَ أَوْمَى بِيَدِهِ إِلَى خَلْفِهِ يَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْياً أَنْ يُحِلَّ ثُمَّ قَالَ وَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا أَمَرْتُكُمْ وَ لَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَ لاَ يَنْبَغِي لِسَائِقِ الْهَدْيِ أَنْ يُحِلَّ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَقَالَ عُمَرُ (7)أَ نَخْرُجُ».

ص: 266


1- سورة البقرة:196.
2- سورة الحج:27.
3- العالية الحجاز و ما والاها«ه ج».
4- ذو الحليفة قرية بينها و بين المدينة ستة أميال أو سبعة،و منها ميقات اهل المدينة، و هو من مياه جشم-معجم البلدان 295/2.
5- و هى على ستة اميال من المدينة-معجم البلدان 325/3.
6- جبل بمكة بعطف على الصفا..مائل الى الحمرة-معجم البلدان 116/5.
7- فى م«فقال عثمان».

حُجَّاجاً وَ رُءُوسُنَا تَقْطُرُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِنَّكَ لَنْ تُؤْمِنَ بِهَا أَبَداً فَقَامَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ فَقَالَ فَهَذَا الَّذِي أَمَرْتَنَا بِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَوْ لِمَا يَسْتَقْبِلُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَلْ هُوَ لِلْأَبَدِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ بِالْبَطْحَاءِ هُوَ وَ أَصْحَابُهُ وَ لَمْ يَنْزِلُوا الدُّورَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَغْتَسِلُوا وَ يُهِلُّوا بِالْحَجِّ وَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُفِيضُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَ هِيَ جَمْعٌ وَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ أَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ فِي إِفَاضَتِهِمْ مِنْهَا وَ مَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ مَضَى إِلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَاتٍ فَوَقَفَ حَتَّى وَقَعَ الْقُرْصُ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (1).

فصل

و مما يدل على التمتع بالعمرة إلى الحج هو فرض الله على كل من نأى عن المسجد الحرام و لا يجزيه مع التمكن سواه بعد إجماع الطائفة عليه قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (2) فأمره تعالى شرعا على الوجوب و الفور فلا يخلو من أن يأتي بهما على الفور بأن يحرم بالحج أو العمرة معا أو يبدأ بالحج و يثني بالعمرة أو يبدأ بالعمرة و يثني بالحج فالأول يفسد و يبطل لأن عندنا أنه لا يجوز أن يجمع في إحرام واحد بين الحج و العمرة كما لا يجمع في إحرام واحد بين (3)حجتين أو عمرتين و القسم الثاني أيضا باطل لأن أحدا من الأمة لا يوجب على من أحرم بالحج مفردا أن يأتي عقيبه بلا فصل بالعمرة فلم يبق إلا وجوب القسم الأخير الذي ذكرناه و هو التمتع الذي ذهبنا إليه.ج.

ص: 267


1- الكافى 244/4-248 مع تفصيل اكثر مما هنا.
2- سورة البقرة:196.
3- الزيادة من ج.

فإن قيل قد نهى عمر عن هذه المتعة مع متعة النساء و أمسكت الأمة عنه راضية بقوله.قلنا من ليس بمعصوم عن الفعل القبيح لا يدل على قبحه قوله بالنهي عن التمتع و الإمساك عن النكير لا يدل عند أحد من العلماء على الرضا إلا بعد أن يعلم أنه لا وجه له إلا الرضا.

وَ رَوَى الْحَلَبِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْحَجِّ فَقَالَ تَمَتَّعْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (1) فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَتَّعَ إِلاَّ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَ جَرَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّا إِذَا وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ قُلْنَا يَا رَبَّنَا عَمِلْنَا بِكِتَابِكَ وَ قَالَ النَّاسُ رَأَيْنَا وَ رَأَيْنَا وَ يَفْعَلُ اللَّهُ بِنَا وَ بِهِمْ مَا أَرَادَ ثُمَّ قَالَ إِنَّا لاَ نَتَّقِي أَحَداً فِي التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَ اجْتِنَابِ الْمُسْكِرِ وَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ (2).

فصل

و سياق التمتع أن يحرم من الميقات بالعمرة في أشهر الحج و هي شوال و ذو القعدة و تسع من ذي الحجة و يلبي ثم يدخل مكة فيطوف بالبيت للعمرة و يصلي ركعتي الطواف لها و يسعى بين الصفا و المروة و يقصر و قد حل.فيتمتع حينئذ بلبس الثياب إن شاء و عمل كل ما يعمله الحلال (3)من الطيبم.

ص: 268


1- سورة البقرة:196.
2- هذا الحديث مركب من ثلاثة احاديث ذكرها الطوسى فى الاستبصار 150/2-151، الاول و الثانى مروى عن الحلبى كما هنا و الثالث مروى عن محمد بن الفضل الهاشمى-فراجع.
3- اى المحل الذى ليس عليه لباس الاحرام.

و النساء و غيرهما إلا الصيد لأنه في الحرم إلى أن يحرم بالحج يوم التروية فهذه المدة التي بينهما متعة له.ثم ينشئ إحراما آخر بالحج من المسجد الحرام و يلبي و يخرج إلى عرفات و يقف هناك و يفيض إلى المشعر و يقف هناك و يغدو منها إلى منى و يذبح الهدي بها مع باقي المناسك يوم النحر ثم يأتي مكة يوم النحر أو من الغد لا غير اختيارا و يطوف طواف الزيارة و يصلي ركعتيه و يسعى و يطوف طواف النساء و يصلي ركعتيه و قد أحل من كل شيء و يعود إلى منى فيبيت ليالي منى بها (1)و يرمي الجمار.و فرائض الحج المتمتع ثماني عشرة يدل عليها ظواهر القرآن و فحواه و فرائض الحج القارن و المفرد عشر و من أفرد أو قارن فعليه أن يعتمر بعد الفراغ عمرة الإسلام مبتولة من حجه متى شاء

باب في تفصيل أفعال الحج المتمتع

أولها النية لأن من خرج من بيته قاصدا بيت الله يجب عليه وقت نهوضه أن ينوي أنه يخرج لحجة الإسلام.ثم هو في قطع الطريق يؤدي الواجبات لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو أيضا واجب فإذا بلغ الميقات أحرم به للعمرة التي يتمتع بها إلى الحج و نوى و لبس ثوبي الإحرام و لبى أربع كلمات واجبا.فالدليل على وجوب النية

قوله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2) فهذه الآية تدل على أن النية للحج و لجميع العبادات واجبة لأن الإخلاص بالديانة هو القربى إلى الله تعالى بعملها مع ارتفاع الشوائب و التقرب إليه تعالى

ص: 269


1- اى ليالى التشريق«ه ج».
2- سورة البينة:5.

لا يصح إلا بالعقد عليه و النية له ببرهان.و النية إرادة مخصوصة محلها القلب و بين صلّى اللّه عليه و آله ذلك

بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (1). و أما الإحرام فريضة من تركه متعمدا فلا حج له فإذا أراد الإحرام تنظف و اتزر بثوب و توشح بآخر أو ارتدى به و لا يلبس مخيطا.

"وَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلاً مُحْرِماً وَ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ الْقَمِيصُ وَ السِّرْوَالُ فَقَالَ لَهُ انْزِعْ هَذَا عَنْكَ فَقَالَ الرَّجُلُ اقْرَأْ عَلَيَّ آيَةً فِي هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا . و الآية عامة في كل ما آتى رسول الله و ما نهى عنه و إن كان أمر النبي متصلا به و لا خلاف بين الفقهاء أن الآية إذا نزلت في أمر لا تكون مقصورة عليه.

فصل

و قوله تعالى وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ (2) الآية.

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَامَ فِي الْمَقَامِ فَنَادَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ دَعَاكُمْ إِلَى الْحَجِّ فَأَجَابَ الْحَاضِرُونَ بِلَبَّيْكَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. و الشيء إذا علم أنه كان في شرع و لم ينسخ فهو على ما كان.

وَ قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَ قَوْلُهُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (3) حِينَ سَأَلُوا عَنْ أَمْرِ الْحَجِّ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فَقَالُوا فِي كُلِّ عَامٍ قَالَ لاَ وَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ (4).2.

ص: 270


1- وسائل الشيعة 34/1.
2- سورة الحج:27.
3- سورة المائدة:101.
4- الدر المنثور 335/2.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلٌ مَطْعُونٌ فِي نَسَبِهِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حُذَافَةُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ (1). و كأن السؤال الأول و الثاني وقعا في مجلس واحد فخاطب الله المؤمنين بهذه الآية و نهاهم عن مسألة الأشياء التي إذا ظهرت ساءت و أحزنت من أظهرت له.

وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى أَهْلِ الْجِدَةِ (2)فِي كُلِّ عَامٍ وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فَقَالَ أَخُوهُ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ قُلْتُ وَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنَّا فَقَدْ كَفَرَ [قَالَ لاَ وَ لَكِنْ مَنْ قَالَ لَيْسَ هَذَا هَكَذَا فَقَدْ كَفَرَ] (3). و معناه أنه يجب على أهل الجدة في كل عام على طريق البدل لأن من وجب عليه الحج في السنة الأولة فعلى هذا في كل سنة إلى أن يحج [و لم يعن عليه السّلام وجوب ذلك عليهم في كل عام على طريق الجمع] (4)و نظير ذلك ما نقوله في وجوب الكفارات الثلاث من أنه متى لم يفعل واحدة منها فإنا نقول إن كل واحدة منها له صفة الوجوب فإذا فعل واحدة منها خرج الباقي من أن يكون واجبا فكذلك القول فيما تضمن هذا الحديث.و المراد بقوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الأمر دون الخبر كقوله وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (5) فإن معناه الأمر أيضا أي أمنوه لأنه لو كان خبرا لكان كذبا.7.

ص: 271


1- الدر المنثور 336/2.
2- الجدة الغنى و الثروة،يقال:وجد فى المال وجدا وجدة،أى استغنى.
3- الزيادة من م،و الحديث مع الزيادة فى الاستبصار 149/2.
4- الزيادة من ج.
5- سورة آل عمران:97.

فصل

و من أحرم بالحج أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج في غير أشهر الحج و هي شوال و ذو القعدة و عشر من ذي الحجة لم ينعقد إحرامه.و الحجة لنا بعد الإجماع المكرر

قوله تعالى اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ (1) و معنى ذلك وقت الحج أشهر معلومات لأن الحج نفسه لا يكون أشهرا و التوقيت في الشريعة يدل على اختصاص الموقت بذلك الوقت و أنه لا يجزي إلا في وقته.فإن تعلق المخالف بقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ (2) و أن ظاهر ذلك يقتضي أن الشهور كلها متساوية في جواز الإحرام فيها.الجواب أن هذه الآية عامة نخصصها بقوله اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ و نحمل لفظ اَلْأَهِلَّةِ على أشهر الحج خاصة.على أن أبا حنيفة لا يمكنه التعلق بهذه الآية لأن الله تعالى قال مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ و الإحرام عنده ليس من الحج.و قد أجاب بعض الشفعوية (3)عن التعلق بهذه الآية بأن قال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ أي لمنافعهم و تجاراتهم ثم قال وَ الْحَجِّ فاقتضى ذلك أن يكون بعضها لهذا و بعضها لهذا و هكذا نقول و يجري ذلك مجرى قولهم هذا المال لزيد و عمرو أن الظاهر يقتضي اشتراكهما فيه.و هذا ليس بمعتمد لأن الظاهر من قوله لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ يقتضي أن يكونة.

ص: 272


1- سورة البقرة:197.
2- سورة البقرة:189.
3- يريد اصحاب الشافعى احد أئمة المذاهب الاربعة عند السنة.

جميع الأهلة على العموم لكل واحد من الأمرين و ليس كذلك قولهم المال لزيد و عمرو لأنه لا يجوز أن يكون جميع المال لكل واحد منهما فوجب الاشتراك لهذه العلة و جرت الآية مجرى أن نقول هذا الشهر أجل لدين فلان و دين فلان في أنه يقتضي كون الشهر كله أجلا للدينين جميعا و لا ينقسم لانقسام المال فوجب أن لا يكون الاشتراك لهذه العلة.

فصل

و الطواف بالبيت فريضة و هو سبعة أشواط يبتدأ به من عند الحجر الأسود

قال تعالى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ (1) و الطائف الدائر حول الكعبة و قال وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (2) و قال وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ (3) و قال أَرِنا مَناسِكَنا (4) قال قتادة أراهما الله الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و غير ذلك من أعمال الحج و العمرة.و قال تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (5) قال الشعبي و قتادة أمروا أن يصلوا عنده و هو المروي في أخبارنا (6)و بذلك يستدل على أن صلاة الطواف فريضة مثل الطواف لأن الله أمر بذلك و الأمر في الشرع يقتضي الإيجاب و ليس هاهنا صلاة يجب أداؤها عنده غير هذه.2.

ص: 273


1- سورة البقرة:125.
2- سورة الحج:29.
3- سورة البقرة:128.
4- سورة البقرة:128.
5- سورة البقرة:125.
6- انظر تفسير البرهان 151/1-152.

و قال تعالى يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ (1) الآية قال مجاهد إنما ذكر اللباس هاهنا لأن المشركين كانوا يتعرون في الطواف حتى تبدو سوآتهم.و قوله تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها (2) هو التعري في الطواف كانوا يقولون لا نخدم الله في ثياب أذنبنا فيها و يقال أيضا بالتعري من الذنوب و كانت المرأة تطوف أيضا عريانة إلا أنها تشد في حقوها (3)سيرا.

فصل

السعي بين الصفا و المروة فرض عندنا في الحج و العمرة و به قال الحسن و عائشة و الشافعي

قال الله إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ (4) .و هما جبلان معروفان بمكة و هما من الشعائر أي معالم الله و شعائر الله أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر مأخوذ من شعرت به أي علمت و كل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة و أداء فريضة فهو مشعر لتلك العبادة (5).و إنما قال فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (6) و هو8.

ص: 274


1- سورة الاعراف:26.
2- سورة الاعراف:33.
3- الحقو:الخصر و مشد الازار-صحاح اللغة 2317/6.
4- سورة البقرة:158.
5- قال ابن فارس:الشين و العين و الراء اصلان معروفان،يدل أحدهما على ثبات و الاخر على علم و علم-بسكون اللام و فتحه-.و مشاعر الحج مواضع المناسك،سميت بذلك لانها معالم الحج،و الشعيرة واحدة الشعائر،و هى أعلام الحج و أعماله..و يقال الشعيرة ايضا البدنة تهدى-معجم مقاييس اللغة 193/3.
6- سورة البقرة:158.

طاعة من حيث إنه جواب لمن توهم أن فيه جناحا لصنمين كانا عليهما أحدهما أساف و الآخر نائلة و روي ذلك عنهما عليهما السّلام (1)و كان ذلك في عمرة القضاء و لم يكن فتح مكة بعد و كانت الأصنام على حالها حول الكعبة.و قال قوم سبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما فكره المسلمون ذلك خوفا أن يكون من أفعال الجاهلية فأنزل الله فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما .و قال آخرون على عكس ذلك و ذكروا أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون السعي بينهما فظن قوم أن في الإسلام مثل ذلك فأنزل الله الآية.و جملته أن في الآية ردا على جميع ما كرهه من كرهه لاختلاف أسبابه على الأجوبة الثلاثة.

فصل

قوله تعالى وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ (2) لا يدل على أن السعي بين الصفا و المروة مستحب متطوع لأن معناه و من تطوع خيرا بالصعود على الصفا و المروة فهو المجازى بالثواب على تطوعه و فيمن لم يصعد و لم يقف على رءوسهما و سعى و طاف بينهما من طرف هذا إلى طرف تلك و من طرف تلك إلى طرف هذا هكذا سبعا فقد أدى الواجب فلا جناح عليه.و قال أنس و عطا إن جميع ذلك تطوع و به قال أبو حنيفة و عندنا أن من ترك الطواف بينهما متعمدا فلا حج له حتى يعود و يسعى و به قالت عائشة و الشافعي و قال أبو حنيفة إن عاد فحسن و إلا جبره بدم و قال عطا و مجاهد يجزيه و لا شيء عليه.و قال المفسرون في معنى قوله وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ثلاثة أقوال أولها من8.

ص: 275


1- عن الباقر و الصادق عليهما السلام-انظر تفسير البرهان 169/1.
2- سورة البقرة:158.

تطوع خيرا أي الحج أو العمرة بعد الفريضة و الثاني و من تطوع خيرا أي بالطواف بهما عند من قال إنهما نفل و الثالث و من تطوع خيرا بعد الفرائض كمن طاف بالبيت الطوافات النافلة بعد الفراغ من مناسك الحج و هذا هو الأولى لأنه أعم.و قال الجبائي التقدير فلا جناح عليه أن يطوف بهما و هو غير صحيح لأن الحذف يحتاج إلى دليل.و الفرق بين الفرض و التطوع أن الفرض يستحق بتركه الذم و العقاب و التطوع لا مدخل لهما في تركه.

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ آدَمَ الصَّفِيَّ نَزَلَ عَلَى الصَّفَا وَ حَوَّاءَ عَلَى الْمَرْوَةِ وَ هِيَ مَرْأَةٌ تَسَمَّيَا بِهِمَا (1). و التقصير بعد الفراغ من هذه العمرة واجب قال تعالى مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ (2) .

فصل

و إذا كان يوم التروية و قد فرغ من العمرة التي يتمتع بها إلى الحج و أراد الإحرام للحج و هو واجب نوى و أحرم عند مقام إبراهيم و لبى و كل هذه الثلاثة واجب يدل عليه الآيات التي تلوناها من قبل

و قال تعالى أيضا ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .و يتوجه إلى عرفات فإذا زالت الشمس بها وقف هناك بعد الظهر و العصر إلى غروب الشمس و هذا الموقف فريضة (3)في الحج قال تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا

مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ (1) كانت قريش في الجاهلية لا تخرج إلى عرفات و يقولون لا نخرج من الحرم و كانوا يقفون يوم عرفة بالمشعر الحرام و ليلة العيد أيضا بها و كان الناس الذين يحجون غيرهم يقفون بعرفات يوم عرفة كما كان إبراهيم و إسماعيل و إسحاق يفعلون فأمر الله أن يقف المسلمون كلهم يوم عرفة بعرفات و يفيضوا منها عند الغروب إلى المشعر بقوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ و الإفاضة منها لا يمكن إلا بعد الوقوف أو الكون بها.ج.

ص: 276


1- تفسير البرهان 169/1،و المنقول هنا مختصر فيه.
2- سورة الفتح:27.
3- الزيادة من ج.

مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ (1) كانت قريش في الجاهلية لا تخرج إلى عرفات و يقولون لا نخرج من الحرم و كانوا يقفون يوم عرفة بالمشعر الحرام و ليلة العيد أيضا بها و كان الناس الذين يحجون غيرهم يقفون بعرفات يوم عرفة كما كان إبراهيم و إسماعيل و إسحاق يفعلون فأمر الله أن يقف المسلمون كلهم يوم عرفة بعرفات و يفيضوا منها عند الغروب إلى المشعر بقوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ و الإفاضة منها لا يمكن إلا بعد الوقوف أو الكون بها.

فصل

و قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ (2) بين تعالى فرض الموقفين عرفات و المشعر أي إذا دفعتم من عرفات بعد الاجتماع بها فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ .أوجب الله على الحاج كلهم أن يذكروا الله بالمشعر لأن الأمر شرعا على الوجوب و لا يجوز أن يوجب الذكر فيه إلا و قد أوجب الكون فيه ففي هذا دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليلة العيد فريضة كما ذهبنا إليه و تقدير الكلام فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام و اذكروا الله فيه أي اذكروه تعالى بالثناء و الشكر حسب نعمائه عليكم بالهداية فإن الشكر يجب أن يكون على حسب النعمة في عظم المنزلة كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة و لا يجوز التسوية بين من عظمت نعمته و من صغرت نعمته يعني اذكروه ذكرا فيه بمثل هدايته إياكم و إن كنتم قبل محمد و قبل الهدى لَمِنَ الضّالِّينَ عن النبوة و الشريعة هداكم إليه (3).م.

ص: 277


1- سورة البقرة:199.
2- سورة البقرة:198.
3- الزيادة من م.

فإن قيل ثم للترتيب متراخيا فما معنى الترتيب بين قوله فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و بين قوله ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ و لا خلاف أن الوقوف بعرفات مقدم على الوقوف بالمشعر.قلنا هذا يوجب الترتيب في الإخبار بهما لا بالعمل فيهما و نحوه قوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا (1) بعد قوله أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (2) و لا خلاف أن الإيمان يجب أن يكون قبل الإطعام.و قد روى أصحابنا أن هاهنا تقديما و تأخيرا و تقديره ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام و استغفروا الله إن الله غفور رحيم (3).و أجاب المتأولون بأن قالوا رتبت الإفاضة بعد المعنى الذي دل الكلام الأول عليه كأنه قيل أحرموا بالحج على ما بين لكم ثم أفيضوا يا معشر قريش من حيث أفاض الناس بعد الوقوف بعرفة.و هذا قريب مما قلناه و إنما عدل من تأوله على الإفاضة من مزدلفة لأنه رآه بعد قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ قال فأمروا أن يفيضوا من المزدلفة يوم الوقوف بها كما أمروا بعرفة و ما قدمناه هو التأويل المختار.فإذا أصبح يوم النحر صلى الفجر و وقف للدعاء بالمشعر إلى طلوع الشمس ثم يفيض إلى منى لأداء المناسك بها كما بينها رسول الله لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ .1.

ص: 278


1- سورة البلد:14-17.
2- سغب الرجل-بكسر الغين-جاع،و يوم ذو مسغبة أى ذو المجاعة-لسان العرب (سغب).
3- انظر فى ذلك مجمع البيان 296/1.

فصل

و الهدي واجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج و من لم يقدر عليه وجب عليه صيام عشرة أيام

قال تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (1) فالهدي على الحاج المتمتع واجب بلا خلاف لظاهر القرآن و خالفوا في أنه نسك أو جبران و الصحيح أنه نسك (2)و كذلك هو عندنا.فإن لم يجد الهدي و لا ثمنه صام ثلاثة أيام متتابعة في أول ذي الحجة رخصة و وقت صومها يوم قبل التروية و يوم التروية و يوم عرفة فإن فاتته صام ثلاثة أيام بعد أيام التشريق في شوال متتابعة و صام سبعة الأيام إذا رجع إلى أهله و هذا أصح من قول من قال إذا رجع عن حجه في طريقه.

وَ قَوْلُهُ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّ الْمَعْنَى كَامِلَةٌ مِنَ الْهَدْيِ إِذَا وَقَعَتْ بَدَلاً مِنْهُ اسْتَكْمَلَتْ ثَوَابَهُ (3). ثم إنه لإزالة الإبهام لئلا يظن أن الواو بمعنى أو كأنه قال فصيام ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجعتم كقوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (4) ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي ما تقدم ذكره من التمتع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكة و من يجري مجراهم و إنما هو لمن لم يكن من حاضري مكة.3.

ص: 279


1- سورة البقرة:196.
2- الزيادة من ج.
3- تفسير البرهان 197/1 عن ابى عبد اللّه الصادق عليه السلام.
4- سورة النساء:3.

فصل

و قال تعالى وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (1) .يجب على كل من حج أن يوفر شعر رأسه من أول ذي القعدة إلى يوم النحر بمنى فيحلقه هناك و المعنى لا تزيلوا شعر رءوسكم حتى ينتهي الهدي إلى المكان الذي يحل نحره فيه و هو منى.و قال تعالى وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (2) عن ابن عباس أنه تعالى أمر بمناسك الحج الوقوف بعرفة و المشعر و الإفاضة و رمى الجمار و الطواف و السعي و غير ذلك من مناسكه فَأَتَمَّهُنَّ أي وفى بهن.و الابتلاء الاختبار و هو مجاز يعني أنه تعالى يقابل العبد مقابلة المختبر الذي لا يعلم لأنه تعالى لو جازاهم بعلمه فيهم كان ظلما لمن أدخله النار.و على هذا قوله تعالى وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ (3) عن ابن عباس و حسن و جماعة الليالي العشر هي العشر الأول من ذي الحجة شرفها الله ليسارع الناس فيها إلى عمل الخير و اتقاء الشر وَ الشَّفْعِ يوم النحر وَ الْوَتْرِ يوم عرفة و وجه ذلك أن يوم النحر مشفع بيوم بعده.و لا يجوز للمتمتع مع الإمكان طواف الحج و ركعتاه و السعي بين الصفا و المروة للحج إلا في هذين اليومين فالطواف للحج و ركعتاه و السعي له و طواف النساء و ركعتاه فهذه الخمسة كلها فريضة و قد بينها رسول الله لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ و قال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ .2.

ص: 280


1- سورة البقرة:196.
2- سورة البقرة:124.
3- سورة الفجر:1-2.

و أما قوله تعالى وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (1) قال قوم هو طواف العمرة الذي يقال له طواف الصيد لأنه تعالى أمر به عقيب المناسك كلها و قيل هو طواف الإفاضة بعد التعريف إما يوم النحر و إما بعده و هو طواف الزيارة و روى أصحابنا أن المراد به هاهنا طواف النساء (2)الذي يستباح به وطي النساء و هو زيادة على طواف الزيارة للحج و العموم يتناول الجميع

باب فرائض الحج و سننه و ما يجري مجراها

اعلم أن فرائض الحج المفرد و القارن عشر احتججنا من القرآن تصريحا و تلويحا و تبيينا و إشارة فإن الثمانية الأشياء التي وجبت في العمرة التي يتمتع بها إلى الحج تسقط في الإفراد و القران و من حج مفردا فعليه عمرة الإسلام بعد الحج مبتولة منه.

و قوله تعالى اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أي أشهر الحج أشهر معلومات أو الحج حج أشهر معلومات ليكون الثاني هو الأول في المعنى فحذف المضاف أي لا حج إلا في هذه الأشهر و قد يجوز أن يجعل الأشهر الحج على الاتساع لكونه فيها و لكثرته من الفاعلين له لقول الخنساء

فإنما هي إقبال و إدبار.

أي أشهر الحج أشهر موقتة معينة لا يجوز فيها التبديل و التغيير بالتقديم

ص: 281


1- سورة الحج:29.
2- مروى عن الصادق عليه السلام-انظر البرهان 88/3.

و التأخير الذي كان يفعلهما النساء قال الله تعالى (1)إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ (2) .و قد ذكر أن أشهر الحج شوال و ذو القعدة و عشر من ذي الحجة عندنا على ما روي عن أبي جعفر عليه السّلام (3)و قيل هو شوال و ذو القعدة و ذو الحجة و روي ذلك أيضا في أخبارنا (4)و روي تسع من ذي الحجة و لا تنافي بينها لأن على الرواية الأخيرة لا يصح الإحرام بالحج إلا فيها و عندنا لا يصح الإحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج إلا بالرواية الأولى.و من قال إن جميع ذي الحجة من أشهر الحج قال لأنه يصح أن يقع فيها بعض أفعال الحج مثل صوم الأيام الثلاثة و ذبح الهدي.و اختلف المفسرون فيه فقال قوم المعنى في جميع ذلك واحد و قال آخرون هو مختلف من حيث إن الثاني معناه أن العمرة لا ينبغي أن تكون في الأشهر الثلاثة على التمام لأنها من أشهر الحج و الأول على أنها ينبغي أن يكون في شهرين و عشرا و تسع من الثالث.فإن قيل كيف جمع شهرين و عشرة أيام ثلاثة أشهر.قلنا لأنه قد يضاف الفعل إلى الوقت و إن وقع في بعضه و يجوز7.

ص: 282


1- عن الجوهرى:قوله تعالى «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» هو فعيل بمعنى مفعول من قولك نسأت الشىء فهو منسوء،اذا أخرته،ثم يحول منسوء الى نسىء كما يحول مقتول الى قتيل،و رجل ناسىء و قوم نسأة مثل فاسق و فسقة،و ذلك أنهم كانوا اذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول:أنا الذى لا يرد لى قضاء.فيقولون:انسئنا شهرا أى اخر عنا حرمة المحرم و اجعلها فى صفر،لانهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة اشهر لا يغيرون فيها،لان معائشهم كان من الغارة فيحل لهم المحرم«ه ج»انظر الصحاح 77/1.
2- سورة التوبة:38.
3- وسائل الشيعة 197/8.
4- انظر وسائل الشيعة 196/8-197.

أن يضاف الوقت إليه كذلك كقولك صليت يوم الجمعة و صليت يوم العيد و إن كانت الصلاة في بعضه و قدم زيد في يوم كذا و قدومه في بعض اليوم فكذلك جاز أن يقال ذو الحجة شهر الحج و إن كان في بعضه و إنما يفرض الإحرام بالحج في البعض.

فصل

و قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ (1) .فمن فتح الجميع فقد نفى جميع الرفث و الفسوق و الجدال كقوله تعالى لا رَيْبَ فِيهِ (2) بعد نفي جميع الريب و من رفع فعلى الابتداء و خبره في الحج و يعلم من الفحوى أنه ليس المنفي رفثا واحدا و لكنه جميع ضروبه.و الرفث هاهنا عندنا كناية عن الجماع و هو قول ابن عباس و قتادة و الأصل الإفحاش في المنطق في اللغة و عن جماعة المراد هاهنا المواعدة للجماع و التعريض للجماع أو المداعبة كله رفث.و الفسوق قيل هو التنابز بالألقاب لقوله بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ (3) و قيل هو السباب

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ (4). و روى بعض أصحابنا أن المراد به الكذب و الأولى أن نحمله على جميع المعاصي التي نهى المحرم عنها و به قال ابن عمر و قد يقول القائل ينبغي أن تقيد لسانك في شهر رمضان لئلا يبطل صومك فيخصه بالذكر لعظم حرمته.2.

ص: 283


1- سورة البقرة:197.
2- سورة البقرة:2.
3- سورة الحجرات:11.
4- الكافى 360/2.

و قوله وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ فالذي رواه أصحابنا أنه قول لا و الله و بلى و الله صادقا و كاذبا و للمفسرين فيه قولان أحدهما أنه لا مراء بالسباب و الإغضاب على وجه اللجاج و الثاني أنه لا جدال في أن الحج قد استدار لأنهم أنسئوا الشهور فقدموا و أخروا فالآن قد رجع إلى حاله و الجدال المخاصمة.و لا رفث إن خرج مخرج النفي و الإخبار فالمراد به النهي وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ أي يجازيكم عليه لأنه عالم به.

فصل

و قوله تعالى وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى (1) أي تزودوا من الطعام و لا تلقوا كلكم على الناس كما يفعله العامة و خير الزاد مع ذلك التقوى و قيل تزودوا من الأفعال الصالحة فإن الاستكثار من أعمال البر أحق شيء بالحج و العموم يتناول التأويلين.ثم قال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ (2) و هذا تصريح بالإذن بالتجارة و هو المروي عن أئمتنا عليهم السّلام (3)أي لستم تأثمون في أن تبتغوا و تطلبوا الرزق فإنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله الإثم بهذه اللفظة عمن يتجر في الحج.و قيل كان في الحج أجراء و مكارون و كان الناس يقولون إنه لا حج لهم فبين تعالى أنه لا إثم على الحاج في أن يكون أجيرا لغيره أو مكاريا.و قيل معناه لا جناح أن تطلبوا المغفرة من ربكم رواه جابر عن أبي جعفر1.

ص: 284


1- سورة البقرة:197.
2- سورة البقرة:198.
3- انظر تفسير البرهان 201/1.

عليه السّلام (1)و العموم يتناول الجميع.فالآية تدل على أن التاجر و الحمال و الأجير و غيرهم يصح لهم الحج فليس الحج كالصلاة لأن أفعال الصلاة متصلة لا يتخللها غيرها و أفعال الحج بخلافها فلا يمتنع قصد ابتغاء المنافع مع قصد إقامة التعبد و كذلك لا يمتنع أن يستغفر الله و يصلي على النبي و آله في خلال ذكر التلبيات و غيرها.

فصل

و قوله تعالى وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ عن ابن عباس و ابن عمر السبيل الذي يلزم بها الحج هي الزاد و الراحلة و قال ابن الزبير و الحسن ما يبلغه كائنا ما كان و عندنا هو وجود الزاد و الراحلة و نفقة من يلزمه نفقته و الرجوع إلى كفاية عند العود إما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة و السلامة و زوال الموانع و إمكان المسير و لا بيان في ذلك أبين مما بينه الله بأن يكون مستطيعا إليه السبيل و ذلك (2)عام في جميع ما ذكرنا و من في موضع الجر بدل من الناس المعنى و لله على من استطاع من الناس حج البيت.و قوله تعالى وَ مَنْ كَفَرَ أي من جحد فرض الحج فلم يره واجبا فأما من تركه و هو يعتقد فرضه فإنه لا يكون كافرا و إن كان عاصيا و قال قوم معنى من كفر أي ترك الحج و السبب في ذلك أنه لما نزل قوله وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً (3) قال اليهود نحن مسلمون نحن مسلمون فأنزل الله هذه الآية يأمرهم بأمر الحج إن كانوا صادقين فامتنعوا فقال تعالى فمن ترك من هؤلاء الحج فهو كافر.5.

ص: 285


1- تفسير البرهان 201/1.
2- الزيادة من ج.
3- سورة آل عمران:85.

و ظاهر الآية خبر و معناه أمر لأنه إيجاب الحج على الناس و في مورد هذا الإيجاب في صورة الخبر نكتة مليحة يطلع عليها من تدبره و فيها مداراة و استمالة لأن المأمور به ينكسر بالأمر و أكثر كلام الله و كلام رسوله الوارد على لفظ الخبر إما يتضمن الأمر أو النهي.

فصل

و مما يدل على أن الوقوف بالمشعر الحرام واجب و هو ركن من أركان الحج بعد الإجماع المذكور

قوله تعالى فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ (1) و الأمر شرعا على الإيجاب و لا يجوز أن يوجب ذكر الله فيه إلا و قد أوجب الكون فيه و لأن كل من أوجب الذكر فيه أوجب الوقوف به.فإن قالوا نحمل ذلك على الندب قلنا هو خلاف الظاهر و يحتاج إلى دلالة و لا دليل.فإن قيل هذه الآية تدل على وجوب الذكر و أنتم لا توجبونه و إنما توجبون الوقوف به كالوقوف بعرفة قلنا لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر هذه الآية.و بعد فإن الآية تقتضي وجوب الكون في المكان المخصوص و الذكر جميعا فإذا دل الدليل على أن الذكر مستحب غير واجب أخرجناه من الظاهر و بقي الآخر يتناوله الظاهر و تقدير الكلام فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام و اذكروا الله فيه.فإن قيل الكون في المكان يتبع الذكر في وجوب أو استحباب لأنه إنما يراد له و من أجله فإذا ثبت أن الذكر مستحب فكذلك الكون.قلنا لا نسلم أن الكون في ذلك المكان تابع للذكر لأن الكون به عبادة8.

ص: 286


1- سورة البقرة:198.

مفردة عن الذكر و الذكر عبادة أخرى فلا يتبع الكون الذكر كما لا يتبع الذكر لله في عرفات الكون في ذلك المكان و الوقوف به لأن الذكر بعرفات مستحب و الوقوف بها واجب بلا خلاف على أن الذكر لو لم يكن واجبا فالشكر لله على نعمه واجب على كل حال و قد أمر الله أن يشكر عند المشعر الحرام فيجب أن يكون الكون بالمشعر واجبا.فإن قيل ما أنكرتم من أن يكون المشعر ليس بمحل للشكر و إن كان محلا للذكر و إن عطف الشكر على الذكر.قلنا الظاهر بخلاف ذلك عطف الشكر على الذكر يقتضي تساوي حكمهما في المحل و غيره و ليس في الآية ذكر الشكر صريحا و لكن الذكر الأول على عمومه و الذكر الثاني مفسر بالشكر لقرينة قوله كَما هَداكُمْ فالهداية نعمة واجب الشكر عليها لأن الشكر على كل نعمة واجب و على هذا لا تكرار مستقبحا في الكلام أيضا.

فصل

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ فالتفث مناسك الحج من الوقوف و الطواف و السعي و رمي الجمار و الحلق بمنى و الإحرام من الميقات.

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّفَثُ جَمِيعُ الْمَنَاسِكِ. و قال قوم التفث قشف الإحرام و قضاؤه بحلق الرأس و الاغتسال و نحوه و قال الأزهري في كتاب تهذيب اللغة التفث في كلام العرب لا يعلم إلا من قول ابن عباس (1)و قيل التفث الدرن و معنى قوله ثُمَّن.

ص: 287


1- نقل الجاحظ فى الحيوان 376/5 قول امية بن ابى الصلت: شاحين آباطهم لم ينزعوا تغثا و لم يسلوا لهم قملا و صئبانا و هذا البيت حجة على من يقول من اللغويين بأن لفظة«التفث»لم ترد فى كلام العرب و لم يعلم معناها الا من قبل المفسرين.

لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ليزيلوا أدرانهم و قيل هو الأخذ من الشارب و قص الأظفار و نتف الإبط و حلق العانة و هذا عند الخروج من الإحرام.و قوله وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي يفوا بما نذروا من نحر البدن و قال مجاهد كل ما نذر في الحج فربما نذر الإنسان إن رزق حجا أن يتصدق و إذا كان على الإنسان نذر فالأفضل أن يفي به هناك و لم يقل بنذورهم لأن المراد بالإيفاء الإتمام أي ليتموا نذورهم بقضائها.و قوله وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ عام في كل طواف و سمي عتيقا لأنه أعتق من أن يملكه جبار (1).

فصل

و قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (2) ظاهره يقتضي تحريم الصيد في حال الإحرام و تحريم ما صاده غيره و منهم من فرق بين ما صيد و هو محرم و بين ما صيد قبل إحرامه و عندنا لا فرق بينهما و الكل محرم على المحرم فأما من لم يكن محرما فيجوز أن يأكل من الصيد الذي ذبح و صيد في غير الحرم و إن كان في الحرم.و الصيد يكون عبارة عن الاصطياد فيكون مصدرا و يعبر به عن المصيد فيكون اسما صريحا و يجب أن يحمل ذكره في الآية على الأمرين و تحريم الجميع و المعنى أبيح لكم صيد الماء.و إنما أحل بهذه الآية الطري من صيد البحر لأن العتيق لا خلاف في كونه6.

ص: 288


1- هذا مروى عن ابى جعفر الباقر عليه السلام كما فى الكافى 189/4.و قيل لقدمه لانه اول بيت وضع للناس،و قيل لانه أعتق من الغرق ايام الطوفان-انظر لسان العرب(عتق).
2- سورة المائدة:96.

حلالا و طَعامُهُ أي طعام البحر يريد المملوح و هو الذي يليق بمذهبنا و إنما سمي طعاما لأنه يدخر ليطعم فيكون المراد بصيد البحر الطري و بطعامه المملوح و قيل المراد بطعامه ما ينبت من الزرع و الثمار بحباته

باب ذكر المناسك و ما يتعلق بها

قوله تعالى وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ (1) أي يثوبون إليه في كل عام يعني ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس.و عن ابن عباس معناه أنه لا ينصرف عنه أحد و هو يرى أنه قد قضى منه وطرا فهم يعودون إليه.

وَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ لاَ يَقْضُونَ وَطَراً. و حكى الحارثي أن معناه يحجون إليه فيثابون عليه.و روي أن كل من فرغ من الحج و انصرف و عزم أن لا يعود إليه أبدا مات قبل الحول (2).و إنما جعل الله أمنا بأن حكم أن من عاذ به و التجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه بما جعله في نفوس العرب من تعظيمه و كان من فيه أمنا و يتخطف الناس من حوله.و لعظم حرمته أن من جنى جناية فالتجأ إليه لا يقام عليه الحد فيه لكن يضيق عليه في المطعم و المشرب حتى يخرج فيحد فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم فيه الحد لأنه هتك حرمة الحرم (3).

ص: 289


1- سورة البقرة:152.
2- مجمع البيان 203/1.
3- هذا مأخوذ من حديث مروى عن ابى عبد اللّه الصادق عليه السلام-انظر الكافى 226/4.

فصل

و قوله تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (1) .قيل فيه أربعة أقوال قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم و قال عطاء مقام إبراهيم عرفة و المزدلفة و الجمار و قال مجاهد الحرم كله مقام إبراهيم و قال السدي هو الحجر الذي فيه أثر رجلي إبراهيم و كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدميه حتى غسلت رأسه فوضع إبراهيم عليه رجله و هو راكب فغسلت شقه الأيمن ثم رفعته و قد غابت رجله فيه فوضعته تحت قدمه اليسرى و غسلت الشق الأيسر من رأسه فغابت رجله اليسرى أيضا في الحجر فأمر الله بوضع ذلك الحجر قريبا من الحجر الأسود و أن يصلى عنده بعد الطواف و هو الظاهر في أخبارنا (2).و قوله وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا (3) أمرهما الله أن يطهراه من فرث و دم كان يطرح المشركون قبل أن صار في يد إبراهيم و قيل أراد طهراه من الأصنام و الأوثان و قيل طهرا بيتي ببنائكما له على الطهارة كقوله أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى (4) .و معنى الطائفين هم الذين أتوه من غربة و قيل هم الطائفون بالبيت و الطائف الدائر.و اَلْعاكِفِينَ قيل إنهم المقيمون بحضرته و قيل هم المجاورون و قيل9.

ص: 290


1- سورة البقرة:125.
2- مجمع البيان 203/1.
3- سورة البقرة:125.
4- سورة التوبة:109.

هم أهل البلد الحرام و قيل هم المصلون و قيل العاكف المعتكف في المسجد.و اَلرُّكَّعِ السُّجُودِ هم الذين يصلون عند الكعبة و الطواف للطاري أحسن و الصلاة لأهل مكة أفضل.

فصل

و قوله تعالى وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً (1)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْحَرَمُ أَمْناً قَبْلَ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ هَذِهِ حَرَمٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ (2). و قيل كانت قبل الدعوة ممنوعا من الايتفاك (3)كما لحق غيرها من البلاد فسأل إبراهيم أن يجعلها أمنا من القحط لأنه أسكن أهله بها فأجابه الله.

وَ قَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَ إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ (4). و قال في سورة إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً بتعريف البلد لأن النكرة إذا أعيدت تعرفت.سأل أن يديم أمنه من الجدب و الخسف.و قوله رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي (5) المراد بالذرية إسماعيل أبو العرب و أمه هاجر أسكنهما مكة و من للتبعيض و مفعول أسكنت محذوف.و قيل لما أن بناه إبراهيم سماه بيتا لأنه كان قبل ذلك بيتا و إنما خربته طسم (6)و اندرس.».

ص: 291


1- سورة البقرة:126.
2- الكافى 226/4.
3- ايتفكت البلدة بأهلها:اى انقلبت،نعوذ باللّه من سخط اللّه-عن الجوهرى«ه ج».
4- انظر هذا المضمون فى الكافى 564/4.
5- سورة ابراهيم:37.
6- طسم قبيلة من عاد كانوا فانقرضوا«ه ج».

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (1) هذا سؤال من إبراهيم أن يجعل الله قلوب الخلق تحن إليه ليكون في ذلك منافع ذريته لأنه واد غير ذي زرع.

فصل

و قوله وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا (2) كان إبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجر و إنما رفعا البيت للعبادة لا للمسكن لقولهما تَقَبَّلْ مِنّا .

وَ رُوِيَ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَنَاهُ ثُمَّ عُفِيَ أَثَرُهُ فَجَدَّدَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (3).

وَ الْمَرْوِيُّ فِي أَخْبَارِنَا: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ حَجَّ آدَمُ حَجَّ وَ اعْتَمَرَ أَلْفَ مَرَّةٍ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنَ الْهِنْدِ (4).

وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ تَحْتَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةَ أَسَاطِينَ وَ سَمَّاهُ الضُّرَاحَ (5)وَ هُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ وَ قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ طُوفُوا بِهِ ثُمَّ بَعَثَ مَلاَئِكَةً فَقَالَ لَهُمُ ابْنُوا فِي الْأَرْضِ بَيْتاً بِمِثَالِهِ وَ قَدْرِهِ وَ أَمَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ وَ قَالَ وَ لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ إِنِّي مُنْزِلٌ مَعَكَ بَيْتاً يَطُوفُ (6)حَوْلَهُ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي وَ يُصَلَّى عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ رُفِعَ فَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ يَحُجُّونَهُ وَ لاَ يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ حَتَّى تَوَاهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ فَأَعْلَمَهُ مَكَانَهُ فَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ».

ص: 292


1- سورة ابراهيم:37.
2- سورة البقرة:127.
3- من لا يحضره الفقيه 235/2.
4- من لا يحضره الفقيه 229/2 مع اختلاف.
5- هو بالضم،قيل البيت المعمور فى السماء الرابعة،من المضارحة و هى المقابلة و المضارعة-مجمع البحرين 391/2.
6- كذا فى النسختين و الظاهر أن الصحيح«يطاف».

أَجْبُلٍ مِنْ حِرَاءَ وَ ثَبِيرٍ وَ لُبْنَانٍ وَ جَبَلِ الطُّورِ وَ جَبَلِ الحمر [اَلْخَمَرِ] . و قال الطبري و هو جبل بدمشق.و قوله تعالى وَ أَرِنا مَناسِكَنا أي متعبدنا قال الزجاج متعبد منسك و قيل المناسك هي ما يتقرب بها إلى الله من الهدي و الذبح و غير ذلك من أعمال الحج و العمرة و قيل مناسكنا مذابحنا و أرنا من رؤية البصر و قيل أي أعلمنا.و قيل أراهما الله الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و الإفاضة من عرفات و الإفاضة في جمع حتى رمي الجمار فأكمل الله له الدين و هذا أقوى لأنه هو العرف الشرعي في معنى المناسك.و قال وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ (1) هي ملة نبينا لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد مع زيادات هاهنا.و قوله ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ (2) معناه و الأمر ذلك أي هكذا أمر الحاج المناسك و من يعظم حرمات الله فالتعظيم خير له في الآخرة يعني بأن يترك ما حرمه الله و الحرمة ما لا يحل انتهاكه.و اختار المفسرون في معنى الحرمات هنا أنها المناسك لدلالة ما يتصل بها من الآيات و قيل هي في الآية ما نهي عنها من الوقوع فيها و تعظيمها ترك ملابستها و قيل معناها البيت الحرام و البلد الحرام و الشهر الحرام.

فصل

و قوله تعالى وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي الإبل و البقر و الغنم في حال إحرامكم إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ من الصيد فإنه يحرم على المحل في الحرم إذا صيد في الحرم و على المحرم في الحل و الحرم فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ كانوا0.

ص: 293


1- سورة البقرة:130.
2- سورة الحج:30.

يلطخون أصنامهم بدماء قربانهم فسمي ذلك رجسا وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (1) أي الكذب و هو تلبية المشركين لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.و روى أصحابنا أنه يدخل فيه سائر الأقوال الملهية (2). ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ (3) الشعائر مناسك الحج و المراد بالمنافع التجارة.و قوله إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن يعود من مكة.و قوله وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً (4) إشارة إلى ما ذكرنا من تفصيل المجمل للمعتمر و الحاج

باب الذبح و الحلق و رمي الجمار

قال تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (5) قد ذكرنا أن من حج متمتعا فالواجب عليه أن ينحر بدنة أو بقرة أو فحلا من الضأن أو شاة كما تيسر عليه و يسهل و لا يصعب فإن لم يجد شيئا منها و وجد ثمنه خلفه عند ثقة حتى يشتري له هديا و يذبحه إلى انقضاء ذي الحجة فإن لم يصبه ففي العام المقبل في ذي الحجة.و قوله تعالى ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ قيل الشعائر البدن إذا أسفرت في الحج القارن أي أعلمت عليها بأن يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي و تعظيمها استسمانها و استحسانها لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى

ص: 294


1- سورة الحج:30.
2- انظر مجمع البيان 82/4،و قد جاء احاديث كثيرة فى تفسير البرهان 90/3-91 قد فسرت قول الزور بالغناء.
3- سورة الحج:32.
4- سورة الحج:34.
5- سورة البقرة:196.

منافعها ركوب ظهورها و شرب ألبانها إذا احتيج إليها و هو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام (1).و قال ابن عباس ذلك ما لم يسم هديا أو بدنا و قال عطاء ما لم يقلد إلى أجل مسمى إلى أن ينحر.و قوله ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ معناه أن يحل الهدي و البدن الكعبة و عند أصحابنا إن كان في العمرة المفردة فمحله مكة قبالة الكعبة بالحزورة و إن كان الهدي في الحج فمحله منى.ثم عاد إلى ذكر الشعائر فقال وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ (2) أي و جعلنا البدن صواف لكم فيها عبادة لله بما في سوقها إلى البيت و تقليدها بما ينبئ أنها هدي ثم ينحرها للأكل منها و إطعام القانع و المعتر. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوافَّ أمر من الله أن يذكروا اسم الله عليها فإذا أقيمت للذبح صافة أي مستمرة في وقوفها على منهاج واحد و التسمية إنما يجب عند نحرها دون حال قيامها.و اَلْبُدْنَ الإبل العظام البدنة بالسمن جمع بدنة (3)و هي إذا نحرت فعندهم يعقل لها يد واحدة (4)و كانت على ثلاث و عند أصحابنا يشد يداها إلى إبطيها و يطلق رجلاها و البقر يشد يداها و رجلاها و يطلق (5)ذنبها و الغنم تشد ثلاثة أرجل منها و يطلق فرد رجل.ل.

ص: 295


1- تفسر البرهان 91/3.
2- سورة الحج:36.
3- البدن بضم الباء و سكون الدال،جمع بدنة بفتح الباء و الدال،تقع على الناقة و البقرة و البعير الذكر مما يجوز فى الهدى و الاضاحى،سميت بدنة لعظمها-انظر لسان العرب(بدن).
4- الزيادة من ج.
5- اى يشد يد واحدة منها بالعقال.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الْقَانِعُ الَّذِي يَسْأَلُ فَيَرْضَى بِمَا أُعْطِيَ وَ الْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِي رَحْلَكَ مِمَّنْ لاَ يَسْأَلُ (1)وَ قَالَ يَنْبَغِي لِمَنْ ذَبَحَ الْهَدْيَ أَنْ يُعْطِيَ الْقَانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ ثُلُثَهُ وَ يُهْدِيَ لِأَصْدِقَائِهِ ثُلُثَهُ وَ يُطْعِمَ ثُلُثَهُ الْبَاقِيَ (2). كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي مثل ما وصفناه ذللناها لكم حتى لا تمتنع عما تريدون منها من النحر و الذبح بخلاف السباع الممتنعة و لتنتفعوا بركوبها و حملها و نتاجها نعمة منا عليكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (3) ذلك. لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها (4) أي لن يصعد إلى الله تلكم و إنما يصعد إليه التقوى و هذا كناية عن القبول فإن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله و وصل إليه فخاطب الله عباده بما اعتادوه في مخاطباتهم و كانوا في الجاهلية إذا ذبحوا الهدي استقبلوا الكعبة بالدماء فنضحوها حول البيت قربة إلى الله تعالى.و المعنى لن يتقبل الله اللحوم و لا الدماء لكن يتقبل التقوى فيها و في غيرها بأن يوجب في مقابلتها الثواب لِتُكَبِّرُوا اللّهَ تعظموه و تشكروه في حال الإحلال كما يليق به في حال الإحرام و قيل لتسموا الله على الذباحة. إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ (5) أي من ذكر اسم غير الله على الذبيحة فهو الجحود لنعم الله.

فصل

و قوله تعالى وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (6) قد ذكرنا أن6.

ص: 296


1- الكافى 499/4.
2- الكافى 499/4 بمعناه.
3- سورة الحج:36.
4- سورة الحج:37.
5- سورة الحج:38.
6- سورة البقرة:196.

الحاج لا ينبغي أن يحلق رأسه من أول ذي القعدة إلى يوم النحر بمنى فحينئذ يلزم الرجال أن يحلقوا رءوسهم.قال تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ (1) فإن الصرورة تلزمه الحلق و غير الصرورة تجزيه التقصير و لا يجب على النساء الحلق و يجزيهن التقصير على كل حال.و محل الهدي منى إن كان في الحج أو في العمرة التي يتمتع بها إلى الحج يوم النحر و إن كان في العمرة المبتولة فمكة و المعنى لا تحلوا من إحرامكم حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ و ينحر أو يذبح. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أي من مرض منكم مرضا يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي تأذى بهوام رأسه أبيح له الحلق بشرط الفدية قبل يوم النحر في ذي القعدة أو في تسع ذي الحجة فالأذى المذكور في الآية كل ما تأذيت به.نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة فإنه كان قد قمل رأسه فأنزل الله فيه ذلك (2)و هي محمولة على جميع الأذى.و قوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فالذي رواه أصحابنا أن من حلق لعذر فالصيام عليه ثلاثة أيام أو الصدقة ستة مساكين و روي عشرة مساكين (3)و النسك شاة و فيه خلاف بين المفسرين.و المعنى أن تأذى بشيء فحلق لذلك العذر فعليه فدية أي بدل و جزاء يقوم مقام ذلك من صيام أو صدقة أو نسك مخير فيها.1.

ص: 297


1- سورة الفتح:27.
2- اسباب النزول للواحدى ص 35-37.
3- تفسير البرهان 195/1.

و أما رمي الجمار فقوله تعالى وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (1) يدل عليه بإجماع أهل البيت (2)و العلماء أي كلفه مناسك الحج و من جملتها رمي الجمار و عليه المفسرون يرمي جمرة العقبة يوم النحر سبعة و كل يوم من أيام التشريق (3)الثلاثة إحدى و عشرين حصاة في الجمرات الثلاث يبدأ بالجمرة الأولى فيرمي سبعة ثم كذا في الوسطى ثم في الأخرى

باب في ذكر أيام التشريق يكون فيها رمي الجمرات على ما ذكر

قال الله تعالى فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ (4) أي إذا أديتموها و فرغتم منها قال مجاهد هي الذبائح و قيل المعنى فإذا قضيتم ما وجب عليكم في متعبداتكم إيقاعه من الذبح و الحلق و الرمي و غيرها فَاذْكُرُوا اللّهَ فإنه يستحب الدعاء بعد رمي الجمرتين الأوليين و قيل المراد بالذكر هاهنا التكبير أيام منى و قيل إنه سائر الدعاء في تلك المواطن فإنه أفضل من غيره.و قوله كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ وَ يَفْتَخِرُونَ بِالْآبَاءِ وَ بِمَآثِرِهِمْ وَ يُبَالِغُونَ فِيهِ (5).

ص: 298


1- سورة البقرة:124.
2- فى ج«أهل التفسير».
3- تشريق اللحم تقديده،و منه سميت امام التشريق،و هى ثلاثة ايام بعد النحر،لان لحوم الاضاحى تشرق فيها،أى تنشر فى الشمس.و يقال سميت بذلك لقولهم«أشرق ثبير كيما تغير»،حكاه يعقوب.و قال ابن الاعرابى:سميت بذلك لان الهدى لا تنحر حتى تشرق الشمس.و اللّه اعلم«ه ج».
4- سورة البقرة:200.
5- تفسر البرهان 203/1.

و قوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً بما لله عليكم من النعمة و إنما شبه الأوجب بما هو دونه في الوجوب لأنه خرج على حال لأهل الجاهلية معتادة أن يذكروا آباءهم بأبلغ الذكر و قيل اذكروا الله كذكر الصبي لأمه و الأول أظهر.ثم بين أن من يسأل هناك فمنهم من يسأل نعيم الدنيا فقط لأنه غير مؤمن بالقيامة و منهم من يقول رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً (1)

عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّهَا السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَ الْمَعَاشِ وَ حُسْنُ الْخُلُقِ فِي الدُّنْيَا وَ رِضْوَانُ اللَّهِ وَ الْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ (2).

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَنْ أُوتِيَ قَلْباً شَاكِراً وَ زَوْجَةً صَالِحَةً تُعِينُهُ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاهُ وَ آخِرَتِهِ فَقَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ وُقِيَ عَذَابَ النَّارِ (3).

فصل

ثم قال تعالى وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ (4) .أمر من الله أن يذكروا الله في هذه الأيام و هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر و الأيام المعلومات عشر ذي الحجة و هو قول ابن عباس و جماعة و قال الفراء المعلومات أيام التشريق و المعدودات عشر ذي الحجة و في النهاية نحوه على خلاف ما في كتبه الأخر (5).و الصحيح أن المعدودات هي أيام التشريق لا غير و الدليل عليه قوله هاهنا فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى و النفر الأول و النفر الثاني لا يكونان إلا في أيام التشريق بلا خلاف.م.

ص: 299


1- سورة البقرة:201.
2- تفسر البرهان 203/1.
3- الدر المنثور 233/1.
4- سورة البقرة:203.
5- الزيادة من م.

و الأيام المعلومات يوصف بها عشر ذي الحجة و يوصف بها أيام التشريق معا و قد ذكر في تهذيب الأحكام أن الأيام المعلومات هي أيام التشريق و يؤكد ذلك بقوله في سورة الحج لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ (1) .و سميت أيام التشريق معدودات لأنها قلائل و هي ثلاثة.و هذه الآية تدل على وجوب التكبير أو استحبابه و الذكر المأمور به الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر و لله الحمد و الحمد لله على ما رزقنا من بهيمة الأنعام و الأظهر أنها تجب بمنى و تستحب بغير منى.

فصل

و قوله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى (2) المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من التشريق فإن أقام إلى النفر الأخير و هو اليوم الثالث من التشريق كان أفضل فإن نفر في الأول نفر بعد الزوال إلى قبيل الغروب فإن غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث بعد الرمي و ليس للإمام أن ينفر في النفر الأول.و قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [قيل فيه قولان أحدهما لا إثم عليه] (3)لتكفير سيئاته مما كان من حجه المبرور و ببركته تفضل الله بالمغفرة لذنوبه و هو معنى قول ابن مسعود الثاني قال الحسن لا إثم عليه في تعجله و لا تأخره و إنما نفى الإثم لئلا يتوهم ذلك متوهم في التعجيل و جاء في التأخير على مزاوجة الكلام كما يقول إنج.

ص: 300


1- سورة الحج:28.
2- سورة البقرة 203.
3- الزيادة من ج.

أظهرت الصدقة فجائز و إن أسررتها فجائز و الإسرار أفضل.و يمكن أن يقال إن الأول معناه لا حرج عليه و الثاني معناه لم يبق عليه إثم فقد غفر له جميع ذنوبه فيكون جمعا للقولين المتقدمين.و قوله لِمَنِ اتَّقى فيه قولان أحدهما لما قال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ دل على وعده بالثواب و علقه بالتقوى لئلا يتوهم أنه بالطاعة في النفر فقط الثاني أنه لا إثم عليه في تعجله إذا لم يعمل لضرب من ضروب الفساد و لكن لاتباع إذن الله فيه.و قيل هو التحذير في الإيكال على ما سلف من أعمال البر في الحج فبين أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى و مجانبة المعاصي.و قد روى أصحابنا أن قوله لِمَنِ اتَّقى متعلق بالتعجل في يومين فلا إثم عليه لمن اتقى الصيد إن شاء نفر في النفر الأول و إن شاء وقف إلى انقضاء النفر الأخير و من لم يتق الصيد فلا يجوز له النفر في الأول و هو اختيار الفراء و هو قول ابن عباس (1).

وَ رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ مَنْ مَاتَ فِي هَذَيْنِ فَقَدْ كُفِّرَ عَنْهُ كُلُّ ذَنْبٍ وَ مَنْ تَأَخَّرَ أَيْ أُنْسِئَ أَجَلُهُ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا إِذَا اتَّقَى الْكَبَائِرَ (2). و التقدير ذلك لمن اتقى أو جعلناه لمن اتقى و قيل العامل فلا إثم عليه.قوله وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (3) أي إذا حللتم من إحرامكم و خرجتم من الحرم فاصطادوا الصيد الذي نهيتم أن تحلوه إن شئتم فالسبب المحرم له زال و هو إباحة أي لا حرج عليكم في صيده بعد ذلك2.

ص: 301


1- انظر مجمع البيان 299/1.
2- تفسير البرهان 204/1 بمناه.
3- سورة المائدة:2.

باب ما يجب على المحرم اجتنابه

قد تقدم القول في كثير من ذلك و قد عد مشايخنا التروك المفروضة و المكروهة في الحج و العمرة فمحظورات الإحرام ستة و ثمانون (1)شيئا (2)و محظورات الطواف و السعي و الذبح و الرمي سبعة و أربعون شيئا و مكروهات الحج و العمرة ثلاثة و خمسون شيئا و قد نطق القرآن ببعضها مفصلا

و قوله وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يدل على جميع ذلك جملة.و قوله فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ (3) قد ذكرنا أن الرفث كناية عن الجماع فحكم المحرم إذا جامع له شرح طويل لا نطيل به الكتاب.و المراد بالفسوق الكذب فمن كذب مرة فعليه شاة و من كذب مرتين فعليه بقرة و من كذب ثلاثا فعليه بدنة و قد أشرنا إلى الجدال أنه القسم بالله.

ص: 302


1- و ثلاثون«خ ل».و تعرف من التعليقة الاتية أنه الصحيح.
2- محظورات الاحرام:ان لا يلبس المخيط،و لا يلامس بشهوة،و لا يتزوج،و لا يعقد نكاحا،و لا يزوج،و لا يشهد عقدا،و لا يجامع،و لا يستمنى،و لا يقبل بشهوة،و لا يصطاد،و لا يذبح صيدا، و لا يدل عليه،و لا يأكل لحم صيد،و لا يغطى المحمل،و لا رأسه،و لا يكسر بيض صيد،و لا يذبح فرخ الطير،و لا يقلع شجر الحرم و حشيشه،و لا يدهن بما فيه طيب،و لا يأكل ما فيه ذلك،و لا يقرب المسك أو الكافور أو العود أو الزعفران،و لا يلبس ما يستر ظاهر القدم بالخف اختيارا، و لا يتختم للزينة،و لا يفسق بالكذب على اللّه و الرسول و لا يجادل،و لا يقص شيئا من شعره،و لا يزيل القمل عن نفسه،و لا يسد أنفه من النتن،و لا يدمى جسده و لافاه بحك و لا سواك،و لا يدلك رأسه و لا وجهه فى وضوء أو غسل لئلا يسقط شىء من شعره،و لا يقص اظفاره،و ان مات لم يقرب الكافور، و لا يقتل جرادا او زنابير قصدا،و لا يتسلخ الا لضرورة،و لا يخرج حمام الحرم منه،و لا يمسك الطير اذا دخل به فى الحرم.فهذه ستة و ثلاثون«ه ج».
3- سورة البقرة:197.

و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لاَ الْهَدْيَ (1) أي يا أيها الذين صدقوا الله فيما أوجب عليهم لا تحلوا حرمات الله و لا تعدوا حدوده و لا تحلوا معالم حدود الله و أمره و نهيه و فرائضه و لا تحلوا حرم الله و شعائر حرم الله و رسوله و مناسك الحج.عن ابن عباس المعنى لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها و قال مجاهد شعائر الله الصفا و المروة و الهدي من البدن و غيرها و قال الفراء كانت عامة العرب لا ترى الصفا و المروة من شعائر الله و لا يطوفون بهما فنهاهم الله عن ذلك و هو قول أبي جعفر عليه السّلام و قال قوم لا تحلوا ما حرم الله عليكم في إحرامكم و قيل الشعائر العلامات المنصوبة للفرق بين الحل و الحرم نهاهم الله أن يتجاوزوا المواقيت إلى مكة بغير إحرام و قال الحسين بن علي المغربي المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة هديا للبيت و قريب منه ما روي عن ابن عباس أيضا أن المشركين كانوا يحجون البيت و يهدون الهدايا فأراد بعض المسلمين أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عنه و العموم يتناول الكل.ثم قال وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تستحلوا الأشهر الحرم كلها بالقتال فيها أعداءكم هؤلاء من المشركين و لا تستحلوها بالنسيء إنما النسيء زيادة في الكفر (2).و قوله تعالى وَ لاَ الْقَلائِدَ أي و لا تحلوا الهدي المقلد و إنما كرر لأنه أراد».

ص: 303


1- سورة المائدة:2.
2- فى التبيان:قال ابو على:كانوا يؤخرون الحج فى كل سنة شهرا،و كان الذى ينسئون بنى سليم و غطفان و هوازن،وافق ذلك فى الحجة،فلما حج النبى صلى اللّه عليه و آله فى العام المقبل وافق ذلك فى ذى الحجة،فلذلك قال:لا ان الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات و الارض-فى قول مجاهد.و كأن النسىء المنهى فى الاية تأخير الاشهر الحرم عما وقتها اللّه تعالى،و كانوا فى الجاهلية يعملون ذلك،و كان الحج يقع فى غيره و فيه،فبين اللّه ان ذلك زيادة فى الكفر«ه ج».

المنع من حل الهدي الذي لا يقلد و الهدي الذي قلد و قيل هو نعل يقلد بها الإبل و البقر يجب التصدق بها إن كان لها قيمة.و قوله وَ لاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ نهى أن يحل و يمنع من يلتمس أرباحا في تجاراتهم من الله و أن يرضى عنهم بنسكهم فأما من قصد البيت ظلما لأهله وجب منعه و دفعه

باب نهي المحرم من الإخلال و التعدي و التقصير

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ (1) هذا خطاب من الله للمؤمنين و قسم منه تعالى أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم بشيء من الصيد و أصله إظهار باطن الحال و المعنى يعرضكم بأمره و نهيه لأن يظهر ما في نفوسكم و هو خاف في الحال و سمي ذلك اختبارا لأنه شبيه في الظاهر باختبار الناس و إن كان المختبر لا يعلم ما يكون من المختبر و الله عالم بما يكون من المكلف بكل جلي و خفي و مضمر و منوي و المعنى ليظهر طاعتكم من معصيتكم.و من في قوله مِنَ الصَّيْدِ للتبعيض و يحتمل وجهين أحدهما أن يكون عنى صيد البر دون صيد البحر و الآخر أن يكون لما عنى الصيد ما داموا في الإحرام أو في الإحرام و الحرم كان ذلك بعض الصيد و يجوز أن يكون من لتبيين الجنس و أراد بالصيد المصيد بدلالة قوله تعالى تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ و لو كان الصيد هنا مصدرا كان حدثا فلا يوصف بمثل اليد و الرمح و إنما يوصف به ما كان عينا.و قال أصحاب المعاني امتحن الله أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله بصيد البر كما امتحن أمة موسى عليه السّلام بصيد البحر.

ص: 304


1- سورة المائدة:94.

و لما تقدم في أول السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا بين سبحانه ذلك هاهنا فقال ليختبرن الله تعالى طاعتكم من معصيتكم بشيء من الصيد أي بتحريم شيء من الصيد و بعض منه.و الذي تناله الأيدي فراخ الطير و صغار الوحش و البيض و الذي تناله الرماح الكبار من الصيد عن ابن عباس و هو المروي عن الصادق عليه السّلام (1).و قيل المراد به صيد الحرم ينال بالأيدي و الرماح لأنه يأنس بالناس و لا ينفر منهم كما ينفر في الحل و ذلك آية من آيات الله.و قيل المراد به ما قرب و ما بعد من الصيد.و جاء في التفسير أنه يعني به حمام مكة و هي تفرخ في بيوت مكة في السقف و على الحيطان فربما كانت الفراخ بحيث تصل اليد إليها.

فصل

و بهذه الآية حرم الله صيد الحل على المحرم و صيد الحرم على المحل و المحرم جميعا و قال الزجاج سن النبي صلّى اللّه عليه و آله تحريم صيد الحرم على المحرم و غيره و هذا صحيح و صيد غير الحرم يحرم على المحرم دون المحل و قال أبو علي صيد الحرم هو المحرم بهذه الآية و نحوه قول بعض المفسرين إن الله عنى به كل صيد الحرم لأنه جعل الصيد آمنا بالحرم فهو لا ينفر من الناس نفاره إذا خرج من مكة و إذا بمكة أمكن قتله بالرمح و أخذه باليد فأمر الله أن لا يقتلوا هذا الصيد و لا يأخذوه و لا يؤذوه.و قيل تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ إشارة إلى صيد الحرم لأنه يكون آنس من غيره فيمكن تناوله باليد و قوله وَ رِماحُكُمْ إشارة إلى صيد غير الحرم للمحرم لأنه يمكنه أخذه بالرمح و هذا من الصيد إلهام من الله بخلاف صيد آخر يكون في أرض أخرى.1.

ص: 305


1- تفسير البرهان 502/1.

لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليعلم ملائكة الله من يخافه غائبا لأنه تعالى عالم فيما لم يزل و معنى ليعلموا أي ليعرفوا قوما يخافون صيد الحرم في العلانية فلا يعترضون له على حال.ثم قال فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي من تجاوز حد الله بمخالفة أمره و ارتكاب نهيه بالصيد في الحرم و في حال الإحرام فله عذاب النار في القيامة و يجوز أن يكون غير ذلك من الآلام و العقوبات في الدنيا فقد قال لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً (1) حكاية عن سليمان في حق الهدهد و لم يرد عذاب النار

باب تفصيل ما يجب على هذا الاعتداء من الجزاء

قال الله تعالى عقيب ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ (2) اختلف في المعني بالصيد فقيل هو كل الوحش أكل أو لم يؤكل و هو قول أهل العراق و استدلوا

بِقَوْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ:

صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبُ وَ ثَعَالِبُ وَ إِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الْأَبْطَالُ.

و هو مذهبنا و قيل هو كل ما يؤكل لحمه و هو قول الشافعي.و قوله وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ فيه ثلاثة أوجه أحدها و أنتم محرمون بحج أو عمرة الثاني و أنتم في الحرم الثالث و أنتم في الشهر الحرام و لا خلاف أن هذا ليس بمراد فالآية تدل على تحريم قتل الصيد في حال الإحرام بالحج أو العمرة سواء كان محرما بالعمرة أو بالحج أو لم يكن و قال الرماني تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بالحج أو العمرة و الأول أعم فائدة و اختاره أكثر المفسرين.

ص: 306


1- سورة النمل:21.
2- سورة المائدة:95.

و قال جماعة الأولى أن تكون الآية الأولى حرم فيها الصيد بالحرم في جميع الأوقات و الحالات و هذه الآية الثانية حرم فيها صيد البر كله في حال الإحرام.و واحد الحرم حرام كسحاب و سحب.

فصل

ثم

قال تعالى وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ (1) .فقوله تعالى من قتله فيه قولان أحدهما أن يتعمد القتل و ينشئ الإحرام الثاني الذاكر لإحرامه مع تعمد قتله و قال ابن جرير و هو عام في الناسي و الذاكر لأن ظاهره عام و لا دليل على الخصوص.و قوله مِنْكُمْ يعني كل من يدين بدين الإسلام و مُتَعَمِّداً نصب على الحال أي قاصدا غير ساه و لا جاهل به.و الفتوى أن قاتل الصيد إذا كان محرما لزمه الجزاء عامدا كان في القتل أو خاطئا أو ناسيا لإحرامه أو ذاكرا عالما كان أو جاهلا و على هذا أكثر الفقهاء و العلماء و قال جماعة إنه يلزمه إذا كان متعمدا لقتله ذاكرا لإحرامه و هو أشبه بالظاهر و الأول يشهد به روايات أصحابنا.

فصل

و اختلفوا في مثل المقتول

بقوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قال ابن عباس و الحسن و السدي و الضحاك و مجاهد و عطاء هو أشبه الأشياء به من النعم إن قتل نعامة فعليه بدنة حكم النبي صلّى اللّه عليه و آله بذلك في البدنة و إن قتل أروى (2)».

ص: 307


1- سورة المائدة:95.
2- اروى جمع أروية،و هى التى يقال لها بالفارسية بز كوهى«ه ج».

فبقرة و إن قتل غزالا أو أرنبا فشاة و هذا هو الذي يدل عليه روايات أصحابنا (1).و قال قوم يقوم الصيد بقيمة عادلة ثم يشترى بثمنه مثله من النعم ثم يهدى إلى الكعبة فإن لم يبلغ ثمن هدي كفر أو صام و فيه خلاف بين الفقهاء.و قد تواترت أخبارنا و رواياتنا بأن كل ما يصيده المحل في الحرم يلزمه فيه القيمة و ما يصيده المحرم في الحل من الصيد كان عليه الفداء و إن أصابه المحرم في الحرم كان عليه الفداء و القيمة و ما يجب فيه التضعيف هو ما لم يبلغ بدنة فإذا بلغها لها يجب عليه غيرها.قال الزهري نزل القرآن بالعمد و جرت السنة في الخطإ.و الفتوى أن الصيد كلما تكرر من المحرم كان عليه كفارة إذا كان ذلك منه نسيانا فإن فعله متعمدا مرة كان عليه الكفارة و إن فعله مرتين فهو ممن ينتقم الله منه و ليس عليه الجزاء.فإن قيل بم يعلم المماثلة بين النعم و ما يضاد.قلنا لهذا جوابان أحدهما أن الله بين على لسان نبيه صلّى اللّه عليه و آله في قتل النعامة بدنة من الإبل على كل حال في الحل إذا كان محرما و في الحرم و جعل بدل حمار وحش أو بقر وحش بقرة إذا أصابه المحرم في الحل و بدل ظبية شاة هكذا و إن أصاب قطاة فعليه حمل مفطوم و إن أصاب ظبا فعليه جدي و إن أصاب عصفورا فعليه مد من طعام و إن أصاب المحرم في الحل حمامة فعليه دم و إن أصابها و هو محل في الحرم فعليه درهم و إن أصابها و هو محرم في الحرم فعليه دم و القيمة و إن قتل فرخا و هو محرم في الحل فعليه حمل و إن قتله في الحرم و هو محل فعليه نصف درهم و إن قتله و هو محرم في الحرم فعليه الجزاء و القيمة معا و إن أصاب بيض حمام و هو محرم في الحل فعليه درهم و إن أصاب و هو محل في الحرم فعليه ربع درهم و إن أصابه و هو محرم في الحرم فعليه الجزاء و القيمة فإن كان حمام1.

ص: 308


1- تفسر البرهان 503/1.

الحرم يشترى به العلف لحمام الحرم و إن كان حماما أهليا يتصدق به فقد بين جميع ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .و الجواب الثاني أنه اختلف في المكان الذي يقوم فيه الصيد فقال أبو حنيفة و صاحباه يقوم بالمكان الذي أصاب فيه إن كان أصاب بخراسان أو غيره و قال عامر الشعبي يقوم بمكة أو منى.و قوله يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني شاهدين عدلين فقيهين يحكمان بأنه جزاء مثل ما قتل من الصيد أي يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم أي من أهل ملتكم و دينكم فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به.و قوله هَدْياً أي يهديه هديا و بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة.و الهدي يجب أن يكون صحيحا بالصفة التي تجري في الأضحية و قال الشافعي يجوز في الهدي ما لا يجوز في الأضحية.و عندنا إن قتل طائرا أو نحوه ففيه دم في الحل على المحرم و على المحل في الحرم القيمة و على المحرم في الحرم دم و القيمة لما قدمنا و الدم لا يكون أقل من دم شاة.و قد تقدم إن كان ذلك الصيد في إحرام الحج أو العمرة التي يتمتع بها يذبح بمنى و إن كان في العمرة المبتولة فمكة و عن ابن عباس إذا أتى مكة ذبحه كله و تصدق به.

فصل

ص: 309

و قوله تعالى مِنَ النَّعَمِ في هذه القراءة صفة للنكرة التي هي جزاء و فيه ذكر له و لا ينبغي إضافة جزاء إلى مثل لأن عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله و لا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله و لا يجوز على هذه القراءة أن يكون قوله مِنَ النَّعَمِ متعلقا بالمصدر كما جاز أن يكون الجار متعلقا به في قوله جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها لأنك قد وصفت الموصول و إذا وصفته لم يجز أن تعلق به بعد الوصف شيئا كما أنك إذا عطفت عليه أو أكدته لم يجز أن تعلق به شيئا بعد العطف عليه و التأكيد له و المماثلة في القيامة أو الخلقة على اختلاف الفقهاء في ذلك.و أما من قرأ فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ فأضاف الجزاء إلى المثل فقوله مِنَ النَّعَمِ يكون صفة للجزاء كما كان في قول من نون و لم يضف صفة له (1)و يجوز فيه وجه آخر مما يجوز في قول من نون (2)فيمتنع تعلقه به لأن من أضاف الجزاء إلى مثل فهو كقولهم أنا أكرم مثلك أي أنا أكرمك فالمراد فجزاء ما قتل و لو قدرت الجزاء تقدير المصدر المضاف إلى المفعول به فالواجب عليه في الحقيقة جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول لأن معناه مجازا مثل ما قتل.و نحن نعمل بظاهر القراءتين فإن المحرم إذا قتل الصيد الذي له مثل فهو مخير بين أن يخرج مثله من النعم و هو أن يقوم مثله دراهم و يشتري به طعاما و يتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما و لا يجوز إخراج القيمة جملة و إن كان الصيد لا مثل له كان مخيرا بين أن يقوم الصيد و يشتري به طعاما و يتصدق به و بين أن يصوم عن كل مد يوما.و القراءتان إذا كانتا مجمعا على صحتهما كانتا كالآيتين يجب العمل بهما و قد تخلصنا أن يتعسف في النحو و الإعراب.ج.

ص: 310


1- اى قولهم«من النعم»صفة للجزاء كما كان صفة له فى قول من نون و لم يصنف، و هو قراءة من قرأ«فجزاء مثل ما قتل من النعم»«ه ج».
2- الزيادة من ج.

فصل

وَ عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِي الصَّيْدِ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قَالَ فِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَ فِي الْحَمَامَةِ وَ أَشْبَاهِهَا وَ إِنْ كَانَ فِرَاخاً فَعِدَّتُهَا مِنَ الْحُمْلاَنِ وَ فِي حِمَارِ وَحْشٍ بَقَرَةٌ وَ فِي النَّعَامَةِ جَزُورٌ (1).

وَ عَنْ حَرِيزٍ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِ اللَّهِ فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ وَ فِي حِمَارِ وَحْشٍ بَقَرَةٌ وَ فِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَ فِي الْبَقَرَةِ بَقَرَةٌ (2).

وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قَالَ عَدْلُ الْهَدْيِ مَا بَلَغَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَلْيَصُمْ بِقَدْرِ مَا بَلَغَ لِكُلِّ طَعَامِ مِسْكِينٍ يَوْماً (3).

وَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ وَ لَمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُ مِنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الصَّيْدَ قَوَّمَ جَزَاءَهُ مِنَ النَّعَمِ دَرَاهِمَ ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ طَعَاماً لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الطَّعَامِ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْماً (4).

وَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَ وَ تَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً قُلْتُ لاَ قَالَ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ قِيمَةً ثُمَّ يُفَضُّ تِلْكَ الْقِيمَةُ عَلَى الْبُرِّ ثُمَّ يُكَالُ ذَلِكَ الْبُرُّ أَصْوَاعاً فَيَصُومُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْماً (5).1.

ص: 311


1- وسائل الشيعة 182/9 و الزيادة منه.
2- وسائل الشيعة 181/9.
3- وسائل الشيعة 185/9.
4- وسائل الشيعة 181/9.
5- تفسير البرهان 504/1.

و إذا قتل صيدا فهو مخير بين ثلاثة أشياء بين أن يخرج مثله من النعم و بين أن يقوم مثله دراهم و يشتري به طعاما و يتصدق به و بين أن يصوم عن كل مد يوما [و إن كان الصيد لا مثل له فهو مخير بين شيئين أن يقوم الصيد و يشتري به طعاما يتصدق به أو يصوم عن كل يوم مدا] (1).و لا يجوز إخراج القيمة بحال و به قال الشافعي و وافق مالك في جميع ذلك إلا أن عندنا أنه إذا أراد شراء الطعام قوم المثل و عنده قوم الصيد و يشتري به طعاما و في أصحابنا من قال على الترتيب دليلنا عليه قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فأوجب في الصيد مثلا موصوفا من النعم و جزاء الصيد على التخيير بين إخراج المثل أو بيعه و شراء الطعام و التصدق به و بين الصوم عن كل مد يوما و به قال جميع الفقهاء.و عن ابن عباس و ابن سيرين أن وجوب الجزاء على الترتيب و عليه قوم من أصحابنا.دليلنا قوله تعالى فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ إلى قوله أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً و أو للتخيير بلا خلاف بين أهل اللسان فمن ادعى الترتيب فعليه الدلالة.و المثل الذي يقوم هو الجزاء و به قال الشافعي و عند مالك يقوم الصيد المقتول و دليلنا الآية.و ما له مثل يلزم قيمته وقت الإخراج دون حال الإتلاف و ما لا مثل له يلزمه قيمته حال الإتلاف دون حال الإخراج.و قال المرتضى إذا قتل المحرم صيدا متعمدا فعليه جزاءان و باقي الفقهاء يخالفون في ذلك قال و يمكن أن يقال قد ثبت أن من قتل الصيد ناسيا يجب عليه الجزاء و العمد أغلظ من النسيان في الشريعة فيجب أن يتضاعف الجزاء عليه مع العمد (2).ر.

ص: 312


1- الزيادة من م.
2- الانتصار ص 99 مع اختصار.

فصل

أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ قال أبو علي الفارسي من رفع طعام مساكين جعله عطفا على الكفارة عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة و لم يضف الكفارة إلى الطعام و من أضاف الكفارة إلى الطعام فلأنه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء الهدي و الطعام و الصيام استجاز الإضافة لذلك فكأنه قال كفارة طعام لا كفارة هدي أو صيام فاستقامت الإضافة.و أورد ابن جني في المحتسب أن قراءة أبي عبد الرحمن فَجَزاءٌ منون مِثْلَ مَا بالنصب معناها أي مجازي مثل ما قتل و قراءة الباقر و الصادق عليهما السّلام يَحْكُمُ بِهِ ذُو عَدْلٍ قال و إنه لم يوجد ذو لأن الواحد يكفي لكنه أراد معنى من أي يحكم به من يعدل و من يكون للاثنين كما يكون للواحد كقوله

فكن مثل من يا ذئب يصطحبان (1)

وَ رُوِيَ عَنْهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْعَدْلِ رَسُولُ اللَّهِ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ (2). و كفى بصاحب القراءة خبرا بمعنى قراءته.و قيل في معناه قولان أحدهما أن يقوم عدله من النعم يجعل قيمته طعاما و ليتصدق به عن عطاء و الآخر أن يقوم الصيد المقتول حيا ثم يجعل طعاما عن قتادة. أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قيل فيه قولان أحدهما أن يصوم عن كل مد يقوم من الطعام يوما عن عطاء و هو مذهب الشافعي و الآخر أن يصوم عن كل مدين يوما و هو المروي عن أئمتنا عليهم السّلام و هو مذهب أبي حنيفة.1.

ص: 313


1- انظر هذا الكلام بطوله فى مجمع البيان 243/2.
2- تفسير البرهان 504/1.

فصل

[و اختلفوا في هذه الكفارات الثلاث فقيل إنها مرتبة عن ابن عباس و الشعبي و السدي قالوا و إنما دخلت أو لأنه لا يخرج حكمه عن إحدى الثلاث و قيل إنها على التخيير و هو مذهب الفقهاء و اختاره الشيخ أبو جعفر على ما تقدم و كلا القولين رواه أصحابنا.قال المرتضى الأظهر أنه ليس على التخيير لكن على الترتيب و دخلت أو لأنه لا يخرج حكمه عن أحد الثلاثة على أنه لم يجد الجزاء فالإطعام فإن لم يجد الإطعام فالصيام و ليس في الآية دليل على العمل بالقياس لأن الرجوع إلى ذوي عدل في تقويم الجزاء مثل الرجوع إلى المقومين في قيم المتلفات و لا تعلق لذلك بالقياس.و قوله لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي عقوبة ما فعله في الآخرة إن لم يتب و قيل معناه ليذوق وخامة عاقبة أمره و ثقله بما يلزمه من الجزاء.فإن قيل كيف يسمى الجزاء وبالا و إنما هي عبادة و إذا كان عبادة فهي نعمة و مصلحة.فالجواب أن الله شدد عليه بالتكليف بعد أن عصاه فيثقل ذلك عليه كما حرم الشحم على بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت فثقل ذلك عليهم و إن كان مصلحة لهم.قوله وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ أي من عاد إلى قتل الصيد محرما فالله تعالى يكافيه عقوبة بما صنع.و اختلف في لزوم الجزاء بالمعاودة فقيل إنه لا جزاء عليه عن ابن عباس و الحسن و هو الظاهر في رواياتنا و قيل إنه يلزمه الجزاء عن جماعة و به قال بعض أصحابنا و الجمع بين الروايتين أن في معاودة قتل الصيد عمدا لا جزاء عليه و في النسيان يكرر.

ص: 314

فإن قيل ظاهر القرآن يخالف مذهبكم لأنه تعالى قال فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ .. أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً و لفظة أو يقتضي التخيير و مذهبكم أن القاتل للصيد عليه الهدي فإن لم يقدر عليه فالإطعام فإن عجز عنهما فالصيام.فالجواب قلنا ندع الظاهر للدلالة كما تركنا ظاهر إيجاب الواو للجمع و حملناها على التخيير في قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ و يكون كذا إذا لم يجد الأول] (1).

فصل

ثم

قال أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (2) .و ظاهره يقتضي تحريم الصيد في حال الإحرام و تحريم كل ما صاده غيره و به قال جماعة و قال الحسن لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره و منهم من فرق ما بين صيد و هو محرم و بين ما صيد قبل إحرامه و عندنا لا فرق بينهما فالكل محرم على المحرم.و الصيد يعبر به عن الاصطياد فيكون مصدرا و يعبر به عن الصيد فيكون اسما صريحا و يجب أن تحمل الآية على الأمرين و تحريم الجميع.بين الله تعالى ما يحل من الصيد و ما لا يحل فقال أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أي أبيح لكم صيد الماء و إنما أحل بهذه الآية الطبري من صيد البحر لأن العتيق لا خلاف في كونه حلالا عن ابن عباس و جماعة.6.

ص: 315


1- هذا الفصل كله لا يوجد فى ج.
2- سورة المائدة:96.

و قوله وَ طَعامُهُ يعني طعام البحر يريد به المملوح عن جماعة و هو الذي يليق بمذهبنا و إنما سمي طعاما لأنه يدخر ليطعم

باب المحصور و المصدود

الحصر عندنا لا يكون إلا بالمرض و الصد إنما يكون من جهة العدو و عند الفقهاء كلاهما من جهة العدو و المذهب هو الأول.فإذا أحرم المكلف بحجة أو عمرة فحصره عدو من المشركين و منعوه من الوصول إلى البيت كان له أن يتحلل لعموم الآية هذا في الحصر العام و أما الحصر الخاص و هو أن يحبس بدين عليه أو غيره فلا يخلو أن يحبس بحق أو بغير حق فإن حبس بحق بأن يكون عليه دين يقدر على قضائه فلم يقضه لم يكن له أن يتحلل لأنه متمكن من الخلاص فهو حابس نفسه باختياره و إن حبس بظلم أو دين لا يقدر على أدائه كان له أن يتحلل لعموم الآية و الأخبار بأنه مصدود.و كل من له التحلل فلا يتحلل إلا بهدي و لا يجوز له قبل ذلك.و إذا لم يجد المحصر الهدي أو لا يقدر على ثمنه لا يجوز له أن يتحلل حتى يهدي و لا يجوز له أن ينتقل إلى بدل من الصوم أو الإطعام لأنه لا دليل على ذلك.و أيضا

ص: 316

و لا بد أن يكون للشرط فائدة مثل أن يقول إن مرضت أو فني نفقتي أو فاتني الوقت أو ضاق علي أو منعني عدو أو غيره فأما أن يقول إن خلى حيث شئت فليس له ذلك فإذا حصل ما شرط فلا بد له من الهدي لعموم الآية هذا كلام الشيخ أبي جعفر.و قال المرتضى إذا اشترط المحرم فقال عند دخوله في الإحرام فإن عرض لي عارض يحبسني فحلني حيث حبستني جاز له أن يتحلل عند العوائق من مرض و غيره بغير دم و هذا أحد قولي الشافعي و ذهب باقي الفقهاء إلى أن وجود هذا الشرط كعدمه فإن احتجوا بعموم قوله وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قلنا نحمل ذلك على من لم يشترط (1).

فصل

و قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فيه خلاف قال قوم إن منعكم حابس قاهر و قال آخرون إن منعكم خوف أو عدو أو مرض أو هلاك بوجه من الوجوه فامتنعتم لذلك و هذا قول جماعة و هو المروي عن ابن عباس و هذا أقوى و هو في أخبارنا و لأن الإحصار هو أن يجعل غيره بحيث يمتنع من الشيء و حصره منعه.و قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فليهد ما استيسر من الهدي أو فعليكم ما سهل و تيسر من الهدي إذا أردتم الإحلال.و في معنى فَمَا اسْتَيْسَرَ خلاف

فَرُوِيَ: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهَا شَاةٌ. و عن ابن عمر و عائشة أنه ما كان الإبل و البقر دون غيرهما و وجهها التيسر على ناقة دون ناقة و بقرة دون بقرة فالأول هو المعمول عليه عندنا و إن كان الأفضل هو الثاني.و قال الفراء أحصر و حصر بمعنى و قال المبرد و الزجاج حصره حبسه و أوقع4.

ص: 317


1- الانتصار ص 104.

به الحصر و أحصره عرضه للحصر و نظيره حبسه أي جعله في الحبس و أحبسه أي عرضه للحبس و أقتله عرضه للقتل و قتله فعل به و قبره و أقبره.و في أصل الهدي قولان أحدهما أنه من الهدية فعلى هذا إنما يكون هديا لأجل التقرب به إلى الله بإخلاص الطاعة فيه على ما أمر به و واحده هدية كتمرة و تمر و جمع الهدي هدي على فعيل كما يقال عبد و عبيد و القول الآخر أنه من هداه إذا ساقه إلى الرشاد فسمي هديا لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد (1).و الهدي يكون من ثلاثة الأنواع جزور أو بقرة أو شاة و أيسرها شاة و بينا أنه هو الصحيح.

فصل

و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (2) أي و هم يصدون فالمعنى و من شأنهم الصد أي إن الذين كفروا فيما مضى و هم الآن يصدون عن الحج و العمرة و عن طاعة الله و المسجد الحرام الذي جعلناه للناس منسكا و متعبدا لم يخص به بعضا دون بعض سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ فالمعتمر فيه و الذي ينتابه من غير أهله مستويان في سكناه و النزول به فليس أحدهما أحق بالنزول فيه من الآخر غير أنه لا يخرج أحد من بيته و قيل إن كراء دور مكة و بيعها حرام.و المراد بالمسجد الحرام الحرم كله لقوله تعالى أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (3) و الظاهر أنه غير المسجد و كان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة1.

ص: 318


1- انظر تفصيل ذلك فى معجم مقاييس اللغة 42/6.
2- سورة الحج:25.
3- سورة الاسراء:1.

في المسجد الحرام و الطواف به و يدعون أنهم ولاته.و قيل نزلت الآية في الذين صدوا عن مكة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبية من أبي سفيان و أصحابه (1). وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ أي من يرد فيه ميلا عن الحق بأن يدخل مكة بغير إحرام إلا الحطابة و الرعاة في وقت دون وقت و قيل هو احتكار الطعام بمكة.و قيل هو كل شيء نهي عنه حتى شتم الخادم لأن الذنوب هناك أعظم و قيل الباء في قوله تعالى بِإِلْحادٍ زائدة أي و من يرد فيه إلحادا و الباء في بِظُلْمٍ للتعدية و قال الزجاج الباء ليست بملغاة و إليه يذهب أصحابنا و المعنى و من إرادته فيه بأن يلحد بظلم كقوله أريد لأنسى ذكرها أي أريد و أرادني لهذا.

فصل

اعلم أن مجموع فوائد قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ و قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ أن يقال إن المحرم الممنوع على ضربين محصور و مصدود.فالمحصور هو الذي لحقه المرض فإن كان معه هدي فليبعث إلى منى إن كان حاجا أو معتمرا للتمتع و إلى مكة إن كان معتمرا لا للتمتع و يجتنب جميع ما يجتنبه المحرم إلى أن يبلغ الهدي محله ثم قصر و قد أحل و يجب عليه الحج من قابل إن كان حجة الإسلام و لا تحل له النساء إلى أن يحج في العام القابل و إن لم يكن ساق الهدي فليبعث ثمنه مع أصحابه ليذبحوا عنه في وقته و يجتنب هو ما يجب اجتنابه على المحرم فإذا دخل الوقت المعين فقد أحل.و أما المصدود و هو الذي يصده العدو و قد أحرم فإن كان معه هدي فليبعثه3.

ص: 319


1- تفسير البرهان 83/3.

إلى مكة أو إلى منى على ما ذكرناه ليذبح هناك عنه فإن لم يقدر على ذلك ذبح هناك و قصر و أحل من كل شيء من النساء و غيرها فإن لم يكن معه هدي وجب أن يقصر في مكانه و يحل مما أحرم منه.و الاشتراط في الإحرام ليس لسقوط فرض الحج فإن من حج حجة الإسلام و أحصر لزمه الحج من قابل فإن كان تطوعا فإنه يستحب

باب العمرة المفردة

قال الله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1) فالعمرة واجبة مثل الحج إلا أنه من تمتع بها إليه سقط فرضها عنه مفردا و من حج قارنا أو مفردا يعتمر بعد انقضاء الحج.و أقل ما بين العمرتين عشرة أيام من آخر انقضاء العمرة الأولى و قيل شهر فيجوز أن يعتمر في كل عشرة أيام سنة.فأما المعتمر إذا حصر فعليه العمرة فرضا في الشهر الداخل إذا كانت واجبة.و قوله وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ عام يتناول بعمومه الرجال و النساء و غلب بالذكر الذكران.و قوله لِلّهِ أي اقصدوا بالحج و العمرة التقرب لله و لا يوحشنك ما لا ينفتح من حمل التنزيل من الكتاب إلا بتفصيل التأويل من السنة فإن معاني القرآن على ثلاثة أوجه أحدها المحكم و هو ما طابق لفظه معناه و أكثر القرآن من هذا الجنس.و الثاني هو المجمل و هو ما لا يعلم بظاهره مراد الله كله كقوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (2) فإن تفصيله و كيفيته و أحكامه لا يعلم إلا ببيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 320


1- سورة البقرة:196.
2- سورة آل عمران:97.

و الثالث هو المتشابه و هو ما يشترك لفظه بين معنيين و أكثر و كل واحد منهما يجوز أن يكون مرادا فحكمه أن يحمل على جميع محتملاته في اللغة إلا أن يمنع دليل من حمله على وجه منها و لا نقطع على مراد الله فيه إلا بنص من رسوله.و أفعال عمرة الإسلام الواجبة ثمانية النية و الإحرام و التلبية و الطواف و السعي و طواف النساء و ركعتا طواف له (1)هذا إذا كانت العمرة غير التي يتمتع بها إلى الحج فإن كانت مما يتمتع بها فليس فيها طواف النساء و لا ركعتاه و يجب بعد السعي فيه التقصير.

فصل

و اعلم أن عندنا و عند الشافعي العمرة واجبة كوجوب حجة الإسلام

لأن الله قال وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ فكأنه قال و أتموا الحج و أتموا العمرة.و اختلفوا في معنى إتمامهما فقال مجاهد و المبرد و الجبائي إنه يجب إجراء أعمالهما بعد الدخول فيهما و قال ابن جبير و عطاء و السدي إن معناه إقامتهما إلى آخر ما فيهما لأنهما واجبان و قال طاوس إتمامهما إفرادهما.و قال أهل الكوفة العمرة مسنونة فمن قال إنها غير واجبة قال لأن الله أمر بإتمام الحج و إتمام الحج وجوب إتمامه لا يدل على أنه واجب قبل ذلك كما أن الحج المتطوع به يجب إتمامه و إن لم يجب أولا الدخول فيه قالوا و إنما علمنا وجوب الحج بقوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الآية.و إجماع الفرقة المحقة على أن عمرة الإسلام واجبة كحجة الإسلام و قدق.

ص: 321


1- المذكور هنا من الافعال سبعة اشياء،و فى التبصرة ص 77:و أفعالها:النية، و الاحرام،و الطواف،و ركعتاه،و السعى،و طواف النساء،و ركعتاه،و التقصير أو الحلق.

بينا أن معنى أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ أقيموهما و هو الذي رووه عن علي و زين العابدين عليهما السّلام و به قال مسروق و السدي.و للمفسرين في التمتع أقوال

رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَ حَجِّهِ وَ سَمَّاهُ قَارِناً. و أنكره ابن عمر.و الثاني روي عن ابن عباس و ابن عمر و ابن المسيب و عطاء و الجبائي هو أن يعتمر في أشهر الحج ثم يدخل مكة فيطوف و يسعى و يقصر ثم يقيم حلالا إلى يوم التروية فيهل فيه بالحج من مكة ثم يحج و هذا كما قلناه سواء و قال البلخي هذا الضرب كرهه عمر (1)و نهى عنه.و الثالث هو الناسخ للحج بالعمرة

رَوَى جَابِرٌ وَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَمَرَهُمْ وَ قَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ لاَ يَنْوُونَ غَيْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا وَ يَنْقُلُوا نِيَّاتِهِمْ إِلَى الْعُمْرَةِ الَّتِي يُتَمَتَّعُ بِهَا إِلَى الْحَجِّ ثُمَّ يُحِلُّوا إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ. و هذا عندنا جائز أن يفعل.و قوله تعالى وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (2) قال جماعة هو الحج الذي فيه الوقوف بعرفة و المشعر و النسك بمنى و الحج الأصغر العمرة.

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ إِنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ قَالَ وَ سُمِّيَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ لِأَنَّهُ حَجَّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَ الْمُسْلِمُونَ وَ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا مُشْرِكٌ (3)وَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَيْضاً .ك.

ص: 322


1- فى م«عثمان».
2- سورة التوبة:3.
3- تفسير البرهان 102/2 و هو مأخوذ من حديثين وردا فى ذلك.

و قال الحسن هو ثلاثة أيام اجتمعت فيها أعياد المسلمين و أعياد اليهود و النصارى

باب الزيادات :

سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ الصَّادِقَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً الْبَيْتُ أَوِ الْحَرَمُ قَالَ مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ مُسْتَجِيراً بِهِ فَهُوَ آمِنٌ وَ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَجِيراً بِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَ مَا دَخَلَ مِنَ الْوَحْشِ وَ الطَّيْرِ كَانَ آمِناً مِنْ أَنْ يُهَاجَ أَوْ يُؤْذَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ (1)وَ مَنْ أَلْحَدَ فِي الْحَرَمِ أُخِذَ بِهِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِلْحَرَمِ حُرْمَةً.

مسألة

و من أدخل مكة أو الحرم من الصيد طيرا يجب عليه أن يخلي سبيله لأن الله يقول وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أي أمنوه هذا إذا كان الطير مالكا لجناحه فإن كان مقصوص الجناح يراعيه حتى يصح ثم يخليه و لا يخرجه من الحرم.

مسألة

وَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (2) قَالَ كُلُّ ظُلْمٍ يَظْلِمُهُ الرَّجُلُ نَفْسُهُ بِمَكَّةَ مِنْ سَرِقَةٍ أَوْ ظُلْمِ أَحَدٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنِّي أَرَاهُ إِلْحَاداً (3).

ص: 323


1- تفسير البرهان 301/1 مع بعض الاختلاف فى الالفاظ و الزيادة منه.
2- سورة الحج.
3- تفسير البرهان 84/3 و فى ذيل الرواية:و لذلك كان يتقى أن يسكن الحرم.

و لذلك كان يتقي الفقهاء أن يسكنوا مكة.

مسألة

وَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَ الْحَلَبِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اشْتَرَطَ عَلَى النَّاسِ شَرْطاً وَ شَرَطَ لَهُمْ شَرْطاً فَمَنْ وَفَى لِلَّهِ وَفَى اللَّهُ لَهُ فَقَالَ اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ (1) وَ أَمَّا مَا شَرَطَ لَهُمْ فَقَالَ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى (2) قَالَ يَرْجِعُ وَ لاَ ذَنْبَ لَهُ فَقَالاَ لَهُ أَ رَأَيْتَ مَنِ ابْتُلِيَ بِالْفُسُوقِ مَا عَلَيْهِ قَالَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ حَدّاً يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَ يُلَبِّي فَقَالاَ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِالْجِدَالِ مَا عَلَيْهِ فَقَالَ إِذَا جَادَلَ فَوْقَ مَرَّتَيْنِ فَعَلَى الْمُصِيبِ دَمٌ يُهْرِقُهُ وَ عَلَى الْمُخْطِئِ بَقَرَةٌ (3).

مسألة

قد قدمنا أن الجدال الذي منع المحرم منه

بقوله وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ هو الجدال صادقا أو كاذبا.فإن قيل ليس في لغة العرب أن الجدال هو الحلف.قلنا لا ينكر أن يقتضي عرف الشرع ما ليس في اللغة على أن الجدال إذا كان الخصومة و المراء و المنازعة و هذه أمور تستعمل للدفع و المنع و القسم بالله قد يفعل كذلك ففيه معنى المنازعة و الخصومة.ة.

ص: 324


1- سورة البقرة:197.
2- سورة البقرة:203.
3- تفسير البرهان 199/1-200،و الحديث مذكور عن كل واحد من الحلبى و محمد ابن مسلم على حدة.

مسألة

و قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (1) خطاب للنبي صلّى اللّه عليه و آله أي حلال لك قتل من رأيت حين أمر بالقتال فقتل ابن خطل صبرا و هو آخذ بأستار الكعبة و لم يحل لأحد بعده (2)و قال عطاء لم يحل إلا لنبيكم ساعة من النهار و قال الحسن أي أقسم بمكة و أنت حال بها نازل فيها فشرفها بك.

مسألة

و قوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ (3) أي حجوا إلى بيت الله.

وَ سُئِلَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ (4) قَالَ فَأَصَّدَّقَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَ أَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ أَيْ أَحُجَّ (5).

وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ فِي كُلِّ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَخْرُجْ سَنَتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ (6)وَ مَنْ قَرَأَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ لَمْ تَخْرُجْ سَنَتُهُ إِذَا كَانَ يُدْمِنُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ حَتَّى يَزُورَ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ.

وَ قَالَ: اتَّقِ الْمُفَاخَرَةَ وَ عَلَيْكَ بِوَرَعٍ يَحْجُزُكَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ3.

ص: 325


1- سورة البلد:1-2.
2- انظر الدر المنثور:351/6.
3- سورة الذاريات:50.
4- سورة المنافقين:10.
5- تفسير البرهان 339/4.
6- تفسير البرهان 76/3.

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ مِنَ التَّفَثِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي إِحْرَامِكَ بِكَلاَمٍ قَبِيحٍ فَإِذَا دَخَلْتَ مَكَّةَ فَطُفْتَ بِالْبَيْتِ تَكَلَّمْتَ بِكَلاَمٍ طَيِّبٍ فَكَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذَلِكَ (1).

مسألة

وَ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (2) فَقَالَ نَزَلَتْ فِيمَنْ سَوَّفَ الْحَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلاَمِ وَ عِنْدَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ يَقُولُ الْعَامَ أَحُجُّ الْعَامَ أَحُجُّ حَتَّى يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ (3).

وَ قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ: سَأَلْتُ الصَّادِقَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ وَ لَهُ مَالٌ فَقَالَ هُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (4) فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَعْمَى فَقَالَ أَعْمَاهُ اللَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ (5).

مسألة

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَقَالَ قَدْ آثَرْتَ الْحَجَّ عَلَى الْجِهَادِ وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ (6) فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَاقْرَأْ مَا بَعْدَهَا فَقَالَ اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ إِلَى آخِرِهَا1.

ص: 326


1- تفسير البرهان 87/3.
2- سورة الاسراء:72.
3- تفسير البرهان 433/2.
4- سورة طه:124.
5- تفسير البرهان 48/3 و فيه«عن طريق الحق».
6- سورة التوبة:111.

فَقَالَ إِذَا رَأَيْتَ هَؤُلاَءِ فَالْجِهَادُ مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ (1).

مسألة

كَتَبَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى قُثَمِ بْنِ عَبَّاسٍ عَامِلِهِ عَلَى مَكَّةَ أَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ وَ اجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ وَ عَلِّمِ الْجَاهِلَ وَ ذَاكِرِ الْعَالِمَ وَ مُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ لاَ يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِنٍ أَجْراً فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ الْعَاكِفُ الْمُقِيمُ بِهِ وَ الْبَادِي الَّذِي يَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ (2).

مسألة

رُوِيَ عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ: أَنَّ بَعْضَ الْخَوَارِجِ سَأَلَنِي عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ (3) مَا الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَ مَا الَّذِي حَرَّمَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي فِيهِ شَيْءٌ فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ أَنَا حَاجٌّ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِمِنًى الضَّأْنَ وَ الْمَعْزَ الْأَهْلِيَّةَ وَ حَرَّمَ أَنْ يُضَحَّى فِيهِ بِالْجَبَلِيَّةِ وَ أَمَّا قَوْلُهُ وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِمِنًى مِنَ الْإِبِلِ الْعِرَابَ وَ حَرَّمَ مِنْهَا الْبَخَاتِيَّ وَ أَحَلَّ مِنَ الْبَقَرِ الْأَهْلِيَّةَ أَنْ يُضَحَّى فِيهَا وَ حَرَّمَ الْجَبَلِيَّةَ فَانْصَرَفْتُ إِلَى الرَّجُلِ الْخَارِجِيِّ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْ تِلْكَ الْآيَةِ فَأَخْبَرْتُهُ بِهَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ حَمَلَتْهُ الْإِبِلُ مِنَ الْحِجَازِ (4).ظ.

ص: 327


1- تفسير البرهان 163/2.
2- نهج البلاغة 140/3،و ما هنا مختصر من كتابه عليه السلام للقثم.
3- سورة الانعام:143.
4- تفسير البرهان 558/1 مع اختلاف فى بعض الالفاظ.

كتاب الجهاد

اشارة

اعلم أن الجهاد و المجاهدة كلاهما استفراغ الوسع في مدافعة العدو.و الشرع خصص لفظ الجهاد بالمقاتلة في سبيل الله لإعلاء كلمة الله و إعزاز الدين و إذلال المشركين و بقي لفظة المجاهدة على عمومها

باب فرض الجهاد و من يجب عليه

قال الله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (1) أي فرض عليكم قتال المشركين و المقاتلة مشقة لكم و القتال يشق عليكم و الألف و اللام بدل من الإضافة و الكره و الكره لغتان (2)و قيل بالفتح المشقة و بالضم أن يتكلف الشيء فيفعله كارها.و الآية تدل على وجوب الجهاد و فرضه و به قال أكثر المفسرين غير أنه فرض على الكفاية و عن عطاء أن ذلك على الصحابة و الصحيح الأول لحصول

ص: 328


1- سورة البقرة:16.
2- بفتح الكاف و ضمه.

الإجماع عليه اليوم و قد انقرض خلاف عطاء.ثم قال وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ .فإن قيل كيف كره المؤمنون الجهاد و هو طاعة الله.قيل عنه جوابان أحدهما أنهم يكرهونه كراهية طباع الثاني أنه كره لكم قبل أن يكتب عليكم و على الوجه الأول تكون لفظة الكراهة مجازا و على الثاني حقيقة.

و مما يدل على وجوب الجهاد أيضا قوله سبحانه وَ جاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ (1) عن ابن عباس أي جاهدوا المشركين و جاهدوا أنفسكم و هو على العموم و الخطاب متوجه إلى جميع المؤمنين لقوله قبل هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ فجاهدوا أمر بالغزو و مجاهدة النفس فيه و في كل طاعة و جهاد النفس هو الجهاد الأكبر.و قوله فِي اللّهِ أي في ذات الله و من أجله تعالى.فإن قيل ما وجه إضافة قوله حَقَّ جِهادِهِ فالقياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه.قلنا الإضافة تكون بأدنى ملابسة و أقل اختصاص فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه و من أجله صحت الإضافة إليه و يجوز أن يتبع في الظرف

و كذلك خاطب المؤمنين فقال وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (2) أمرهم بالجهاد و بقتال المقاتلين دون النساء.و قيل الآية منسوخة بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (3) و بقوله5.

ص: 329


1- سورة الحج:78.
2- سورة البقرة:190.
3- سورة التوبة:5.

وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ (1) لأنه أوجب علينا في هذه الآية قتال المشركين و إن لم يقاتلونا و اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ الذين يناجزونكم بالقتال دون المحاجزين و على هذا يكون منسوخا بقوله وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (2) .و عن الربيع بن أنيس هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاتل من قاتل و يكف عمن كف.و قيل هم الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ و الصبيان و الرهبان و النساء أو الكفرة كلهم لأنهم جميعا مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا.و قال ابن عباس و مجاهد و عمر بن عبد العزيز الآية غير منسوخة و هو الأقوى لأنه لا دليل على كونها منسوخة و وجه الآية أنه أمر بقتال المقاتلة دون النساء.و قيل إن قوله وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أمر بقتال أهل مكة لأن المشركين لما صدوا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله عام الحديبية و صالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فراجع فخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش بل يقاتلونهم في الشهر الحرام و كرهوا ذلك فنزلت.و الأولى حمل الآية على عمومها إلا ما أخرجه الدليل فالجهاد ركن من أركان الإسلام إذا قام به من في قيامه غناء عن الباقين سقط عن الباقين فمتى لم يقم به أحد لحق الذم بجميعهم.و من شرط وجوبه ظهور الإمام العادل إذ لا يسوغ الجهاد إلا بإذنه يدل عليه قوله وَ لا تَعْتَدُوا أي لا تعتدوا بقتال من لم تؤمروا بقتاله و لا تعتدوا (3)بالقتالج.

ص: 330


1- سورة البقرة:193.
2- سورة التوبة:36.
3- الزيادة من ج.

على غير الدين و لا تعتدوا إلى النساء و الصبيان و من قد أعطيتموه الأمان و العموم يتناول الأقوال الثلاثة.

فصل

فإن قيل إذا كان قتال من لم يقاتلهم اعتداء فكيف جاز أن يؤمروا به فيما بعد.قلنا إنما كان اعتداء من أجل أنه مجاوزة لما حده الله لهم مما فيه الصلاح للعباد في ذلك الوقت و لم يكن فيما بعد على ذلك فجاز الأمر به فأطلق لهم في الآية الأولى قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم أو في الشهر الحرام و رفع عنهم الجناح في ذلك ثم قال وَ لا تَعْتَدُوا بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء و الصبيان و الذين بينكم و بينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة فإنما يجب القتال عند شروط و هي أن يكون بأمر الإمام العادل.و لا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الإسلام و إلى شرائعه فإذا لم يدعوا لم يجز قتالهم و لا يجوز قتال النساء فإن عاون أزواجهن و قاتلن المسلمين أمسك عنهن فإن اضطروا إلى قتلهن جاز حينئذ.و قوله تعالى فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني في دين الله و هو الطريق الذي بينه للعباد ليسلكوه على ما أمرهم به و دعاهم إليه و الاعتداء مجاوزة الحد و الحق.

فصل

قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1) .يمكن أن يستدل به على أنه إذا دهم المسلمين أمر من قبل العدو يخاف منه وجب حينئذ جهادهم و إن لم يكن ثم إمام عادل و يقصد المجاهد به الدفاع عن4.

ص: 331


1- سورة البقرة:194.

نفسه و عن الإسلام و أهله و لا يجاهدهم ليدخلهم في الإسلام مع الإمام الجائر.

و يؤكد ذلك قوله وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ (1) أي لا عذر لكم ألا تقاتلوا في سبيل الله و عن المستضعفين أي تصرف الأذى عنهم أي ما لكم لا تسعون في خلاصهم.

و قوله فَمَنِ اعْتَدى .. فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ يدل على جواز المقاتلة مع النساء عند الاضطرار إلى ذلك.فإن قيل كيف قال بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ و الأول جور و الثاني عدل.قلنا لأنه مثله في الجنس و في مقدار الاستحقاق لأنه ضرر كما أنه ضرر و هو على مقدار ما يوجبه الحق كل في جرم.فإن قيل كيف جاز قوله إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ مع قوله فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ .قلنا الثاني ليس باعتداء في الحقيقة و إنما هو على سبيل المزاوجة و معناه المجازاة على ما قلناه و المعتدي مطلقا لا يكون إلا ظالما فاعلا لضرر قبيح و إذا كان محاربا فإنما يفعل ضررا مستحقا حسنا

باب ذكر المرابطة

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا (2) اعلم أن المرابطة نوع من الجهاد و هي أن يحبس الرجل خيله في سبيل الله ليركبها المجاهدون و أن يعينهم على الجهاد بسائر أنواع الإعانة و فيها ثواب عظيم إذا كان هناك إمام عادل.

ص: 332


1- سورة النساء:75.
2- سورة آل عمران:200.

و لا يرابط اليوم إلا على سبيل الدفاع عن الإسلام و النفس و هي مستحبة بهذا الشرط.و حدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما فإن زاد كان جهادا.و الرباط ارتباط الخيل للعدو و الربط الشد ثم استعمل في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أرادهم بسوء.و ينبغي أن يحمل قوله تعالى وَ رابِطُوا على المرابطة لأنه العرف و هو الطارئ على أصل وضع اللغة و يحمل على انتظار الصلوات لما

رُوِيَ: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي الْآيَةِ أَيْ رَابِطُوا الصَّلَوَاتِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ (1). أي انتظروها لأن المرابطة لم تكن حينئذ و المعنى اصبروا على تكاليف الدين في الطاعات و عن المعاصي. وَ صابِرُوا أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبرا منهم و ثباتا.و رابِطُوا أي أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو.و قال تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (2) فقوله مِنْ قُوَّةٍ أي من كل ما تتقوى به في الحرب من عددها.

وَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ قَالَهَا ثَلاَثاً (3)وَ مَاتَ عُقْبَةُ عَنْ سَبْعِينَ قَوْساً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. و الرباط اسم للخيل التي ترتبط في سبيل الله تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة أو يكون جمع ربيط كفصيل و فصال و يجوز أن يكون من رِباطِ

الْخَيْلِ تخصيصا للخيل من بين ما يتقوى به كقوله جبرئيل و ميكائيل.و الضمير في به راجع إلى ما استطعتم تُرْهِبُونَ بذلك عَدُوَّ اللّهِ و هم أهل مكة و آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ اليهود و قيل المنافقون أو أهل فارس أو كفرة الجن و روي أن صهيل الخيل يرهب الجن.3.

ص: 333


1- تفسير البرهان 335/1 بهذا المعنى عن النبى صلى اللّه عليه و آله.
2- سورة الانفال:60.
3- الدر المنثور 192/3.

الْخَيْلِ تخصيصا للخيل من بين ما يتقوى به كقوله جبرئيل و ميكائيل.و الضمير في به راجع إلى ما استطعتم تُرْهِبُونَ بذلك عَدُوَّ اللّهِ و هم أهل مكة و آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ اليهود و قيل المنافقون أو أهل فارس أو كفرة الجن و روي أن صهيل الخيل يرهب الجن.

وَ قَوْلَهُ تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (1) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَيْ خُذُوا سِلاَحَكُمْ (2). فسمي السلاح حذرا لأن به يقي الحذر و قيل أي احذروا عدوكم بأخذ السلاح كما يقال للإنسان خذ حذرك أي احذر و يقال أخذ حذره أي تيقظ و احترز عن المخوف و المعنى احذروا و احترزوا من العدو و لا تمكنوه من أنفسكم.و ظاهر الآيات و عمومها يدل على أن من ربط اليوم فرسا في بيته و أعد الأسلحة للدفع عن الإسلام و أهله يكون بمنزلة المرابط

باب حكم من ليس له نهضة إلى الجهاد

قال الله تعالى لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (3) لما نزلت جاء عمرو ابن أم مكتوم و كان أعمى فقال يا رسول الله كيف و أنا أعمى فما برح حتى نزل قوله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (4) أي إلا أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم و غير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها من الجهاد للضرار الذي بهم.و يجوز أن يساوي أهل الضرر المجاهدين بأن يفعلوا طاعات أخر تقوم

ص: 334


1- سورة النساء:71.
2- تفسير البرهان 393/1.
3- سورة النساء:95.
4- اسباب النزول للواحدى ص 117.

مقام الجهاد فيكون ثوابهم عليه مثل ثواب الجهاد و ليس كذلك من ليس بأولي الضرر لأنه قعد عن الجهاد بلا عذر و ظاهر الآية يمنع من مساواته على وجه.فإن قيل كيف قال في أول الآية[ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً (1) ثم قال في آخرها] (2)فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ [و هذا ظاهر التناقض.قلنا إن أول الآية فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة و في آخرها فضلهم على القاعدين غير أولي الضرر درجات] (2)و لا تناقض في ذلك لأن قوله وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين و إن كانوا تاركين للفضل.و قال المغربي إنما كرر لفظ التفضيل لأن الأولى أراد تفضيلهم في الدنيا على القاعدين و الثاني أراد تفضيلهم في الآخرة بدرجات النعيم.و قوله تعالى وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ (3) من كان له مال و لا يمكنه القيام إلى الحرب يجب عليه إقامة غيره مقامه فيما يحتاج إليه و ينفق عليه و يعين المحاربين بالسلاح و المركوب و النفقة فعموم الآية يتناول جميع ذلك.و قوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أي لا تتقحموا الحرب من غير نكاية للعدو و لا قدرة على دفاعهم فمن وجب عليه الجهاد فإنما يجب عند شروط سبعة و هي الذكورة و البلوغ و كمال العقل و الحرية و الصحة و أن لا يكون شيخا لا حراك به و يكون هناك إمام عادل أو من نصبه الإمام للجهاد و الآية تدل بظاهرها على أكثر ذلك فإذا اختل واحد من هذه الشروط سقط فرض الجهاد.و التهلكة كل ما كان عاقبته إلى الهلاك.5.

ص: 335


1- سورة النساء:95.
2- الزيادتان من ج.
3- سورة البقرة:195.

وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَنْفَقَ مَا فِي يَدِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا كَانَ أَحْسَنَ وَ لاَ وُفِّقَ لِقَوْلِهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أَيِ الْمُقْتَصِدِينَ (1). و تقديره و لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة كما يقال أهلك فلان نفسه إذا تسبب لهلاكها.و المعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك أو عن الإسراف في النفقة أو الاستقلال و الإخطار بالنفس أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو و قيل الياء مزيدة و المعنى لا تقبضوا التهلكة أيديكم أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم

باب حكم القتال في الشهر الحرام

قال الله تعالى وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله أن الفتنة في الدين أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام و إن كان محظورا (2).ثم قال اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قال حسن إن مشركي العرب قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله أ نهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال نعم فأراد المشركون أن يغتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فأنزل الله الآية.فلهذا لا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان إلا الأشهر الحرم فإن من يرى منهم لها حرمة لا يبتدئون فيها بالقتال فإن بدءوهم بالقتال جاز حينئذ قتالهم و يجوز قتال من لا يرى للأشهر الحرم حرمة على كل حال. وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ أي إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم.

ص: 336


1- تفسير البرهان 192/1 مع اختلاف فى بعض الالفاظ.
2- اسباب النزول للواحدى ص 41.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ اجْتَهَدُوا أَنْ يَفْتِنُوا قَوْماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ وَ الْأَذَى لَهُمْ وَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فِي أَيْدِيهِمْ فَقَالَ تَعَالَى ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَيْ مَا لَكُمْ لاَ تَسْعَوْنَ فِي خِلاَصِهِمْ. و معنى قوله اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أي هتكه بهتكه يعني كما هتكوا حرمته عليكم فأنتم تهتكون حرمته عليهم. وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ أي و كل حرمة يجري فيها القصاص ثم أكد ذلك بقوله فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم و إنما جمع الحرمات لأحد أمرين أحدهما أن يريد حرمة الشهر و حرمة البلد و حرمة الإحرام الثاني أن كل حرمة تستحل فلا يجوز إلا على وجه المجازاة.

وَ رُوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ (1) نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ (2)وَ كَذَا قَوْلُهُ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ (3) نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ (4) . و قيل قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ناسخة للآية الأولى التي تضمنت النهي عن القتال عند المسجد الحرام حتى يبدءوا بالقتال لأنه أوجب قتالهم على كل حال حتى يدخلوا في الإسلام. حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي حيث وجدتموهم في حل أو حرم.و قوله تعالى مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة و قد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمن لم يسلم منهم يوم الفتح.8.

ص: 337


1- سورة البقرة:191.
2- سورة النساء:77.
3- سورة البقرة:191.
4- سورة الاحزاب:48.

فصل

و قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ كان بعث رسول الله عبد الله بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي و ثلاثة معه فقتلوه و استأسروا اثنين و استاقوا العير و فيها من تجارة الطائف و كان ذلك أول يوم من رجب و هم يظنونه من جمادى الآخرة فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام و عظم ذلك على أصحاب السرية و قالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا و ظن قوم منهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر فأنزل الله فيهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) و سبيل الله قتال العدو (2)و يقال جاهدت العدو إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله.و قال قتادة القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ (3) و بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (4) و قال عطاء هو باق على التحريم.و روى أصحابنا أنه باق على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة و أما من لا يرى لها حرمة فإنه يجوز قتاله أي وقت كان أما في الحرم فلا يبتدأ بقتال أحد من الكفار كائنا من كان.و المعنى يسألك الكفار و المؤمنون عن القتال في الشهر الحرام قل قتال فيه إثم كبير و ما فعل قريش من صدهم عن سبيل الله و عن المسجد الحرام و كفرهم5.

ص: 338


1- سورة البقرة:218.
2- اسباب النزول للواحدى ص 42.
3- سورة البقرة:193.
4- سورة التوبة:5.

بالله و إخراج أهل المسجد الحرام و هم رسول الله و المؤمنون أكبر عند الله مما فعلته السرية في القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطإ و البناء على الظن.قال الحسن السائلون هم أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام و هذا قول أكثر المفسرين و قال البلخي هم أهل الإسلام سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه.و الفتنة الإخراج أو الشرك

باب في الآيات التي تحض على القتال

قال الله تعالى وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ما لا يَرْجُونَ (1) .الآية.نزلت في أهل أحد لما أصاب المسلمين ما أصابهم و نام المسلمون و بهم الكلوم فنزلت إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ (2) لأن الله أمرهم على ما بهم من الجراح أن يتتبعوا المشركين و أراد بذلك إرهاب المشركين فخرج المسلمون إلى بعض الطريق و بلغ المشركين ذلك فأسرعوا حتى دخلوا مكة (3)و قال سبحانه وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ (4) .و في تناول هذا الوعيد لكل فار من الزحف خلاف قال الحسن إنما كان ذلك يوم بدر خاصة و قال ابن عباس هو عام و هو قول الباقر و الصادق عليهما السّلام.

ص: 339


1- سورة النساء:104.
2- سورة آل عمران:140.
3- تفسير البرهان 317/1.
4- سورة الانفال:16.

أخبر أن من ولى دبره على غير وجه التحرف للقتال و التحيز إلى الفئة أنه رجع بسخطه تعالى و تقديره إلا رجلا متحرفا يتحرف ليقاتل أو يكون منفردا فينحاز ليكون مع المقاتلة و لا يجوز أن يفر واحد من واحد و لا من اثنين فإن فر منهما كان مأثوما و من فر من أكثر من اثنين لم يكن عليه شيء.و أما قوله تعالى ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ (1) فإن الله لما قص في هذه السورة قصة الذين تأخروا عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و الخروج معه إلى تبوك ذكر عقيب ذلك أن ليس لهم أن يتأخروا عن رسول الله و هذه فريضة ألزمها الله إياها.قال قتادة حكم هذه الآية مختص بالنبي صلّى اللّه عليه و آله كان إذا غزا لم يكن لأحد أن يتأخر عنه فأما من بعده من الخلفاء فذلك جائز و قال الأوزاعي و ابن المبارك و جماعة إن هذه الآية لأول الأمة و آخرها من المجاهدين في سبيل الله و قال ابن زيد هذا حين كان المسلمون قليلون فلما كثر نسخ بقوله تعالى وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ (2) و هذا هو الأقوى لأنه لا خلاف أن الجهاد فرض على الكفاية فلو لزم كل أحد النفر لصار من فروض الأعيان أما من استنهضه الإمام فيجب عليه النهوض و لا يجوز له التأخر.

فصل

و قد أدب الله بتأديب الحرب و علم بها فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا (3) .6.

ص: 340


1- سورة التوبة:120.
2- سورة التوبة:122.
3- سورة الانفال:45-46.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ حِينَ أَشَارَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ جَانِبِ مَكَّةَ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى الْقَلِيبِ وَ يَجْعَلَهَا خَلْفَهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَنْقُضْ مَصَافَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَنَازَعُوا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَ عَمِلَ عَلَى قَوْلِ حُبَابٍ (1). و قوله تعالى فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (2) أي إذا نفرتم فانفروا إما ثبات أي جماعات متفرقة سرية بعد سرية و إما جميعا مجتمعين كوكبة واحدة و لا تتخاذلوا و قيل في ثبات أي فرقة بعد فرقة أو فرقة في جهة و فرقة في جهة

وَ قَالَ الْبَاقِرُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الثُّبَاتُ السَّرَايَا وَ الْجَمْعُ الْعَسَاكِرُ. ثم قال فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ (3) حثا على الجهاد و لا تلتفتوا إلى تثبيط المنافقين و قاتلوا في سبيل الله بائعين الدنيا بالآخرة و من يقاتل جوابه فسوف نؤتيه.و إنما قال أَوْ يَغْلِبْ لأن الوعد على القتال حتى ينتهي إلى تلك الحال

باب أصناف الكفار الذين يجب جهادهم و حكم الأسارى

قال الله تعالى وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (4) .

و قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (5) .أمر الله نبيه صلّى اللّه عليه و آله أن يجاهدهم و الجهاد هو ممارسة الأمر الشاق

ص: 341


1- مجمع البيان 549/4.
2- سورة النساء:71.
3- سورة النساء:74.
4- سورة التوبة:36.
5- سورة التوبة:73 و سورة التحريم:9.

فيكون بالقلب و اللسان و اليد فمن أمكنه الجميع وجب عليه جميعه و من لم يقدر باليد فاللسان و القلب و إن لم يقدر باللسان أيضا فبالقلب.و اختلفوا في كيفية جهاد الكفار و المنافقين

"فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جِهَادُ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ وَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ وَ الْوَعْظِ وَ التَّخْوِيفِ. و قيل جهاد الكفار بالسهم و الرمح و السيف و جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم و قال ابن مسعود هو بالأنواع الثلاثة بحسب الإمكان فإن لم يقدر فليكفهر في وجوههم و هو الأعم و قيل قتاله مع الكفار ما قام فيه بنفسه و بابن عمه و بسرية كان يبعثها أيام حياته و قتاله مع المنافقين ما وصى به عليا أن يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين.و

فِي قِرَاءَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ بِالْمُنَافِقِينَ (1).

فصل

اعلم أن الكفار على ضربين أهل الكتاب و غيرهم فالأولون يقاتلون إلى أن يسلموا أو يقبلوا الجزية و هم ثلاث فرق اليهود و النصارى و المجوس (2)

قال تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (3) .بين تعالى أن أهل الكتابين و المجوس الذين حكمهم حكم اليهود و النصارى إذا لم يدينوا دين الحق يعني إذا لم يدخلوا الإسلام يجب علينا أن نقاتلهم حتى9.

ص: 342


1- مجمع البيان 50/5.
2- فى تهذيب الاحكام:روى ابو يحيى الواسطى قال:سئل ابو عبد اللّه عليه السلام عن المجوس؟قال:كان لهم نبى قتلوه و كتاب أحرقوه،اتاهم نبيهم بكتابهم فى اثنى عشر الف جلد ثور،و كان يقال له جاماسب«ه ج».
3- سورة التوبة:29.

يدخلوا الذمة بإعطاء الجزية و غيرها مما هو من شرائط الذمة على ما قدمناه.و نذكر أيضا لها بيانا فنقول لا يؤخذ الجزية عندنا إلا من اليهود و النصارى و المجوس و أما غيرهم من الكفار على اختلاف مذاهبهم من عباد الأصنام و الأوثان و الصابئة و غيرهم فلا يقبل منهم غير الإسلام أو القتل و السبي قال تعالى وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي كفر.و سميت جزية لأنها شيء وضع على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه أو لأنهم يجزون إمام المسلمين بها الذي من عليهم بالإعفاء عن القتل و قيل الجزية عطية عقوبة مما وظفه رسول الله على أهل الذمة و هي على وزن جلسة و قعدة لنوع من الجزاء.و قوله عَنْ يَدٍ أي عن يد متواتية غير ممتنعة و يعطونها عن يد أي نقد غير نسيئة لا مبعوثا على يد أحد و لكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ هذا إذا أريد به يد المعطي و إن أريد به يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أو عن إنعام عليهم لأن قبول الجزية منهم و تركهم أحياء نعمة عظيمة عليهم يعني يؤخذ منهم على الصغار و الذل و هو أن يأتي بها ماشيا (1)و يسلمها قائما و المسلم جالس.

فصل

فإن قيل إعطاء الجزية منهم طاعة أم معصية فإن كان طاعة وجب أن يكونوا مطيعين و إن كان معصية فكيف أمر الله بها.قلنا إعطاؤهم ليس بمعصية و أما كونها طاعة لله فليس كذلك لأنهم إنما يعطونها دفعا لقتل أنفسهم و فدية لاستعباده لهم لا طاعة لله فإن الطاعة لا تقع من الكافر بحال عندنا و إنما أمر الله تعالى بذلك لما علم فيه من المصلحة و إقرار أهل الكتاب».

ص: 343


1- اى الى بلاد الاسلام لتكون المشقة اعظم«ه ج».

على طريقتهم و منع ذلك من غيرهم لأن أهل الكتاب مع كفرهم يقرون بألسنتهم بالتوحيد و ببعض الأنبياء و إن لم يكونوا على الحقيقة عارفين و غيرهم من الكفار يجحدون ذلك كله و ذلك فرق بين أهل الكتاب و سائر المشركين مما عداهم.و الآية تدل على صحة مذهبنا في اليهود و النصارى و أمثالهم أنه لا يجوز أن يكونوا عارفين بالله و إن أقروا بذلك بلسانهم و إنما يجوز أن يكونوا (1)معتقدين لذلك اعتقادا ليس بعلم.و الآية صريحة بأن هؤلاء الذين هم أهل الكتاب الذين يؤخذ منهم الجزية لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ و أنه يجب قتالهم حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ .و اعتقاد اليهود لشريعة موسى إنما يوصف بأنه غير حق اليوم لأحد أمرين أحدهما أنها نسخت فالعمل بها بعد النسخ باطل غير حق و الثاني أن التوراة التي معهم مبدلة مغيرة لقوله تعالى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (2) .و أهل الكتاب بلا خلاف هم اليهود و النصارى لقوله تعالى أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا (3) و

قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: فِي الْمَجُوسِ أَجْرُوهُمْ مَجْرَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ لَهُمْ شِبْهَ كِتَابٍ. فقد كان للمجوس كتاب فحرفوه على ما ورد في أخبارنا.

فصل

فإن قيل فقد

قال تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ (4) ثم قال وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا

تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ (1) فأي إكراه أعظم من أن يؤمر بالقتال حتى يسلم.قلنا لكل واحد من الآيتين وجها حسنا و معنى لا يناقض معنى الآخر فإن معنى قوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أي لم يجز الله أمر الإيمان على القسر و الإجبار و لكن على التمكن و الاختيار و نحوه قوله تعالى وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (2) و هذه المشية أيضا مشية القسر و الإلجاء و حرف الاستفهام إنما أورده إعلاما بأن الإكراه ممكن و إنما الشأن في المكره من هو و ما هو إلا هو تعالى وحده لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان.و أما قوله وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي شرك و يكون الدين لله خالصا أمر تعالى لعزة الإسلام بإذلال أهل الكفر حتى تجري الشريعة على ما يرضاها الله ظاهرة و أفعال الجوارح لا مدخل لها في أن تكون من حدود الدين و الإيمان و إنما هي رتبة و حلية للمؤمن المتدين على أن الكفار لا يرضون رأسا برأس فإنهم لما عجزوا عن الغلبة بالحجة طلبوا بوار الإسلام و المسلمين بالقهر و الغلبة بالقوة فأمر الله بمجاهدتهم ليذعنوا للإسلام فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ (3) و المعنى إن امتنعوا من الكفر و انقادوا فلا قتل إلا على الكافرين المقيمين على الكفر.و سمي القتل عدوانا مجازا من حيث كان عقوبة على العدوان و الظلم و سمي جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة أي إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم و قال في موضع آخر إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ (4) .6.

ص: 344


1- الزيادة من ج.
2- سورة النساء:46.
3- سورة الانعام:156.
4- سورة البقرة:256.

تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ (1) فأي إكراه أعظم من أن يؤمر بالقتال حتى يسلم.قلنا لكل واحد من الآيتين وجها حسنا و معنى لا يناقض معنى الآخر فإن معنى قوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أي لم يجز الله أمر الإيمان على القسر و الإجبار و لكن على التمكن و الاختيار و نحوه قوله تعالى وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (2) و هذه المشية أيضا مشية القسر و الإلجاء و حرف الاستفهام إنما أورده إعلاما بأن الإكراه ممكن و إنما الشأن في المكره من هو و ما هو إلا هو تعالى وحده لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان.و أما قوله وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي شرك و يكون الدين لله خالصا أمر تعالى لعزة الإسلام بإذلال أهل الكفر حتى تجري الشريعة على ما يرضاها الله ظاهرة و أفعال الجوارح لا مدخل لها في أن تكون من حدود الدين و الإيمان و إنما هي رتبة و حلية للمؤمن المتدين على أن الكفار لا يرضون رأسا برأس فإنهم لما عجزوا عن الغلبة بالحجة طلبوا بوار الإسلام و المسلمين بالقهر و الغلبة بالقوة فأمر الله بمجاهدتهم ليذعنوا للإسلام فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ (3) و المعنى إن امتنعوا من الكفر و انقادوا فلا قتل إلا على الكافرين المقيمين على الكفر.و سمي القتل عدوانا مجازا من حيث كان عقوبة على العدوان و الظلم و سمي جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة أي إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم و قال في موضع آخر إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ (4) .8.

ص: 345


1- سورة الانفال:39.
2- سورة يونس:99.
3- سورة البقرة:193.
4- سورة الانفال:38.

و شرائط الذمة خمسة قبول الجزية و أن لا يتظاهروا بأكل لحم الخنزير و شرب الخمر و نكاح الزناء و نكاح المحرمات فإن خالفوا شيئا من ذلك خرجوا من الذمة قال تعالى وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ (1) أي فقاتلوهم فوضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأنهم إذا نكثوا فهم ذوو الرئاسة في الكفر.و في الآية دلالة على أن الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام فإنه يجب قتله لأن عهده معقود على أن لا يطعن في الإسلام فإذا طعن فقد نقض عهده.و من وجبت عليه الدية فأسلم قبل أن يعطيها سقطت منه قال تعالى فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ .

فصل

و قال تعالى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ (2) أي إذا لقيتم يا معشر المؤمنين الذين جحدوا ربوبيته من أهل دار الحرب فاضربوهم على الأعناق حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ و أثقلتموهم بالجراح و ظفرتم بهم فَشُدُّوا الْوَثاقَ معناه أحكموا أوثاقهم في الأسر ثم قال فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي أثقالها و التقدير إما تمنوا منا و إما أن تفدوا فداء.قال ابن جريح و قتادة الآية منسوخة بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (3) و قوله فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ (4) .و قال ابن عباس و الضحاك الفداء منسوخ و قال ابن عمر و جماعة ليست7.

ص: 346


1- سورة التوبة:12.
2- سورة محمد:4.
3- سورة التوبة:5.
4- سورة الانفال:57.

بمنسوخة و كان الحسن يكره أن يفادي بالمال و يقول يفادى الرجل بالرجل و قيل ليست منسوخة و الإمام مخير بين الفداء و المن و القتل بدلالة الآيات.و قوله حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال قتادة أي حتى لا يكون شرك و قال الحسن إن شاء الإمام أن يستعبد الأسير من المشركين فله ذلك بالسنة و الذي رواه أصحابنا أن الأسير إذا أخذ قبل انقضاء الحرب و القتال و الحرب قائمة و القتال باق فالإمام مخير بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و يتركهم حتى ينزفوا و ليس له المن و الفداء و إن كان الأسير أخذ بعد وضع الحرب أوزارها و انقضاء الحرب و القتال كان مخيرا بين المن و المفاداة إما بالمال أو النفس و بين الاسترقاق بضرب الرقاب فإن أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك و صار حكمه حكم المسلمين لقوله فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و لقوله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ .

فصل

و قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى (1) خاطب نبيه صلّى اللّه عليه و آله و أمره بأن يقول لمن حصل في يده من الأسارى و سماه في يده لأنه بمنزلة ما قبض في يده بالاستيلاء عليه و لذلك يقال للملك المتنازع فيه لمن اليد.و قوله إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إسلاما يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء.

"رُوِيَ عَنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مَعِي عِشْرُونَ أُوقِيَّةً فَأُخِذَتْ مِنِّي ثُمَّ أَعْطَانِي مَكَانَهَا عِشْرُونَ عَبْداً وَ وَعَدَنِي الْمَغْفِرَةَ قَالَ وَ فِيَّ نَزَلَتْ وَ فِي أَصْحَابِي هَذِهِ الْآيَةُ (2).ن.

ص: 347


1- سورة الانفال:70.
2- اسباب النزول للواحدى ص 162 بهذا المضمون.

وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ بنقض العهد فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ (1) بأن خرجوا إلى بدر و قاتلوا المسلمين مع المشركين فأمكن الله منهم بأن غلبوا و أسروا فإن خانوا ثانيا فسيمكن الله منهم مثل ذلك.و أما قوله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى (2) فالمعنى ما كان لنبي أن يحتبس كافرا للفداء و المن حتى يثخن في الأرض و الإثخان في الأرض تغليظ الحال بكثرة القتال تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي الفداء سمي متاع الدنيا عرضا لقلة لبثه.و هذه الآية نزلت في أسارى بدر قبل أن يكثر أهل الإسلام فلما كثر المسلمون قال تعالى فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً (3) و هو قول ابن عباس و قتادة.فإن قيل كيف يكون القتل فيهم كان أصلح و قد أسلم منهم جماعة و من علم الله من حاله أنه يصير مسلما يجب تبقيته.قلنا من يقول إن تبقيته واجبة يقول إن الله أراد أن يأمرهم بأخذ الفداء و إنما عاتبهم على ذلك لأنهم بادروا إليه قبل أن يؤمروا به.

فصل

فإن قيل هل كان الجهاد واجبا على كل أهل الملة أم لا.قلنا الزجاج استدل

بقوله تعالى إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ

وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ (1) على أن الجهاد كان واجبا على أهل كل ملة لعموم اللفظ فيها.4.

ص: 348


1- سورة الانفال:71.
2- سورة الانفال:67.
3- سورة محمد:4.

وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ (1) على أن الجهاد كان واجبا على أهل كل ملة لعموم اللفظ فيها.

و يدل عليه أيضا قوله تعالى وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ أيام شريعة عيسى وَ بِيَعٌ في أيام شريعة موسى (2)وَ مَساجِدُ (3) في أيام شريعة محمد صلّى اللّه عليه و آله.

و يدل عليه أيضا قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ (4) و كان سبب سؤالهم هذا استدلال الجبابرة من الملوك الذين كانوا في زمانهم إياهم و أنكروا لما بعث الله لهم طالوت ملكا بأنه لم يؤت سعة من المال فرد الله عليهم إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ أي هو أولى بالملك فإنه أعلم و أشجع منكم و هذا يدل على أن من شرط الإمام أن يكون أعلم رعيته.ثم قال تعالى وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ (5) فنص عليه بالمعجز و هذا يدل على أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه إلى أن قال وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (6) أي يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك1.

ص: 349


1- سورة التوبة:111.
2- عن الجوهرى البيعة للنصارى،و فى المجمع الكنسية لليهود و البيعة للنصارى و استعمالها ههنا لليهود مجازا.
3- سورة الحج:40.
4- سورة البقرة:246.
5- سورة البقرة:248.
6- سورة البقرة:151.

باب حكم ما أخذ من دار الحرب بالقهر و ذكر ما يتعلق به

قال الله تعالى فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً (1) أباح الله للمؤمنين بهذه الآية أن يأكلوا مما غنموه من أموال المشركين بالقهر من دار الحرب و لفظه و إن كان لفظ الأمر فالمراد به الإباحة و رفع الحظر.و الغنيمة ما أخذ بالقهر من دار الحرب.و الفرق بين الحلال و المباح أن الحلال من حل العقد في التحريم و المباح من التوسعة في الفعل و إن اجتمعا في الحل.و قد ذكرنا في باب الخمس أن جميع ما يغنم من بلاد الشرك يخرج منه الخمس فيفرق في أهله الذين ذكرناهم هناك و الباقي على ضربين فالأرضون و العقارات لجميع المسلمين و ما يمكن نقله للمقاتلة و لمن حضر القتال خاصة و إن لم يقاتل للفارس سهمان و للراجل سهم و قال قوم للفارس ثلاثة أسهم و للراجل سهم و هذا عندنا إذا كان معه فرسان أو أفراس جماعة و قيل إن النبي صلّى اللّه عليه و آله فتح مكة عنوة و لم يقسم أرضها بين المقاتلة و قال قوم فتحها سلما.و روي أن سرية بعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمروا برجل فقال إني مسلم فلم يقبل أميرهم أسامة أو المقداد ذلك و قتله و أخذ غنيمة (2)له فأنكر النبي

ص: 350


1- سورة الانفال:69.
2- غنيمة تصغير غنم،فى التبيان لحق ناس رجلا فى غنيمة له،فقال السلام عليكم، فقتلوه و أخذوا غنمه.و قيل قال الرجل:السلام عليكم أشهد أن لا اله الا اللّه و أن محمدا رسول اللّه،فشد عليه اسامة بن زيد و كان امير القوم فقتله فنزلت الاية.و قال قوم كان صاحب السرية المقداد«ه ج».

صلّى اللّه عليه و آله ذلك فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ (1) .

فصل

و قال تعالى وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (2) تقديره اذكر يا محمد إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين إما العير عير قريش و إما قريشا.عن الحسن كان المسلمون يريدون العير و رسول الله يريد ذات الشوكة لما وعده الله

فَرُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَمَّا بَلَغَهُ خُرُوجُ قُرَيْشٍ لِحِمَايَةِ الْعِيرِ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ قَوْمٌ خَرَجْنَا غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِتَالِ وَ قَالَ الْمِقْدَادُ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ فَوَ اللَّهِ لَوْ دَخَلْتَ بِنَا الْجَمْرَ لاَتَّبَعْنَاكَ فَجَزَاهُ خَيْراً وَ أَعَادَ الاِسْتِشَارَةَ فَقَالُوا امْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَسَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ نَشَطَهُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَ اللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ. و روي أن أحدا لم يشاهد الملائكة يوم بدر إلا رسول الله (3). إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (4) الداعي رسول الله و لقلة عددهم استغاث الله فأمدهم بألف من الملائكة مردفين مثلهم و معناه على هذا التأويل مع كل ملك ملك ردف فقتلوا سبعين و أسروا سبعين.9.

ص: 351


1- سورة النساء:94 و انظر اسباب النزول للواحدى ص 115.
2- سورة الانفال:7.
3- انظر الدر المنثور 164/3.
4- سورة الانفال:9.

فصل

و أما قوله وَ تِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ (1) أي نصرفها مرة لفرقة و مرة عليها ليمحص الله المؤمنين بذلك من الذنوب و يخلصهم به و يهلك الكافرين بالذنوب.فإن قيل لم جعل الله مداولة الأيام بين الناس و هلا كانت أبدا لأولياء الله.قلنا ذلك تابع للمصلحة و ما تقتضيه الحكمة أن يكونوا تارة في شدة و تارة في رخاء فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الطاعة و احتقار الدنيا الفانية المنتقلة من قوم إلى قوم حتى يصير الغني فقيرا و الفقير غنيا و النبيه خاملا و الخامل نبيها فتقل الرغبة حينئذ فيها و يقوى الحرص على غيرها مما نعيمه دائم.و المراد بالأيام أوقات الظفر و الغلبة نُداوِلُها أي نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء و تارة لهؤلاء كقوله

فيوما علينا و يوما لنا و يوما نساء و يوما نسر.

و في أمثالهم الحرب سجال. وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فيه وجهان أحدهما أن يكون المعلل محذوفا معناه و استمر التائبون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك و هو من باب التمثيل يعني فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت و إلا فالله لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها.و الثاني أن تكون العلة محذوفة و ليعلم عطف عليه معناه و فعلناه ذلك ليكون كيت و كيت و نعلمهم علما فتعلق به الجزاء و هو أن نعلمهم موجودا منهم الثبات0.

ص: 352


1- سورة آل عمران:140.

و إنما حذف للإيذان أن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم و ليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب و لا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه. وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي و ليكرم ناسا منهم بالشهادة يريد المستشهدين يوم أحد و ليصفيهم من الذنوب. وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ يعني إن كانت الدولة على المؤمنين فللاستشهاد و التمحيص و غير ذلك مما هو أصلح لهم و إن كانت على الكفار فلمحقهم و محو آثارهم.

فصل

ثم

قال تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ (1) .أم منقطعة و معنى الهمزة فيها للإنكار و معنى لَمّا يَعْلَمِ اللّهُ أي لما تجاهدوا لأن العلم يتعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة لأنه منتف بانتفائه يقول القائل ما علم الله في فلان خيرا يريد ما فيه خير حتى يعلم.ثم خاطب الذين لم يشهدوا بدرا فقال وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فكانوا يتمنون أن يحضروا مشهدا مع النبي صلّى اللّه عليه و آله ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر و هم ألحوا على رسول الله في الخروج إلى المشركين و كان رأيه في الإقامة بالمدينة للوحي به يعني و كنتم تتمنون الموت قبل أن تشاهدوه و تعرفوا شدته فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حتى قتل من قتل من إخوانكم و أقاربكم و شارفتم أن تقتلوا و هذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت و على ما تسببوا له من خروج رسول الله بإلحاحهم عليه ثم انهزامهم عنه و قلة ثباتهم عنده.2.

ص: 353


1- سورة آل عمران:142.

فإن قيل كيف يجوز تمني الشهادة و في تمنيها تمني غلبة الكافر على المؤمن.قلنا قصد تمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير فلا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصدا إلى حصول المأمول من الشفاء و لا يخطر بباله أن منه جر منفعة و إحسان إلى عدو الله و تنفيقا لصناعته فإذا ثبت ذلك فتمنيهم الشهادة إنما هو بالصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا لا بقتل المشركين لهم و إرادتهم ذلك

باب المهادنة

و قوله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ (1) .الهدنة و المعاهدة واحدة و هي وضع القتال و ترك الحرب إلى مدة من غير عوض و ذلك جائز لقوله تعالى وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها (2) و قد صالح النبي صلّى اللّه عليه و آله قريشا بالحديبية على ترك القتال عشر سنين.فإذا ثبت جوازه فإن كان في الهدنة مصلحة للمسلمين و نظر لهم في أن يرجو الإمام منهم الدخول في الإسلام أو بذل الجزية فعل ذلك و إذا لم يكن للمسلمين مصلحة بأن يكون العدو ضعيفا قليلا و إذا ترك قتالهم اشتدت شوكتهم و قووا فلا تجوز الهدنة لأن فيها ضررا على المسلمين.و إذا هادنهم في الموضع الذي يجوز فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر بنص القرآن و هو قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (3) و لا يجوز الزيادة عليها

ص: 354


1- سورة التوبة:4.
2- سورة الانفال:61.
3- سورة التوبة:2.

بلا خلاف لقوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1) فاقتضى ذلك قتلهم بكل حال و خرج قدر الأربعة الأشهر بدليل الآية الأولى و بقي ما عداه على عمومه.هذا إذا كان الإمام مستظهرا على المشركين فإن كان هم مستظهرين لقوتهم و ضعف المسلمين و إن كان العدو بالبعد منهم في قصدهم التزام مؤن كثيرة فيجوز أن يهادنهم إلى عشر سنين لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله هادن قريشا إلى عشر سنين ثم نقضوها هم من قبل نفوسهم.

فصل

و

قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) يدل على أن الإمام إذا عقد لعدو من المشركين عقد الهدنة إلى مدة فعليه الوفاء إلى انقضاء تلك المدة فإن خالف جميعهم في ذلك انقضت الهدنة و إن خالف بعضهم و لم يكن منهم إنكار بقول أو فعل كان نقضا للهدنة في حق جميعهم و إن كان منهم إنكار لذلك كان الباقون على صلحه دون الناقضين.و إذا خاف الإمام من المهادنين خيانة جاز له أن ينقض العهد لقوله وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ (3) .و لا تنقض الهدنة بنفس الخوف بل للإمام نقضها فإذا نقضها ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا إليه من مأمنهم.و قد أمر الله نبيه صلّى اللّه عليه و آله أنه متى خاف ممن بينه و بينه عهد خيانة أن ينبذ8.

ص: 355


1- سورة التوبة:5.
2- سورة المائدة:1.
3- سورة الانفال:58.

إليه عهده إلى سواء أي على عدل و قيل على استواء في العلم به أنت و هم في أنكم في حرب لئلا يتوهم أنك نقضت العهد بنصب الحرب.فإن قيل كيف جاز نبذ العهد و نقضه بالخوف من الخيانة.قلنا إنما فعل ذلك لظهور أمارات الخيانة التي دلت على نقض العهد و لم يشتهر و لو اشتهرت لم يجب النبذ

باب ذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

قال الله تعالى وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) وَ لْتَكُنْ أمر لأن لام الإضافة لا تسكن و تسكين اللام يؤذن أنه للجزم.و قوله مِنْكُمْ من للتبعيض عند أكثر المفسرين لأن الأمر بإنكار المنكر و الأمر بالمعروف متوجه في فرقة منهم غير معينة لأنه فرض على الكفاية فأي فرقة قامت به سقط عن الباقين.و قال الزجاج و التقدير و ليكن جميعكم و من دخلت ليحض المخاطبين من بين سائر الأجناس كما قال فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (2) فعلى هذا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من فروض الأعيان لا يسقط بقيام البعض عن الباقين.و الأمة للجماعة و المعروف الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على حسنه و ربما كان واجبا و ربما كان ندبا فإن كان واجبا فالأمر به واجب و إن كان ندبا فالأمر به ندب.و المنكر هو القبيح فالنهي كله واجب و الإنكار هو إظهار كراهة الشيء

ص: 356


1- سورة آل عمران:104.
2- سورة الحج:30.

لما فيه من وجه القبح و يقتضيه الإقرار و هو إظهار تقبل الشيء من حيث هو صواب و حكمة و حسن.و لا خلاف أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان على ما ذكرناه و اختلف المتكلمون أيضا في وجوبهما فقيل إنه من فروض الكفايات و قال آخرون هو من فروض الأعيان و هو الصحيح و قال بعض أصحابنا إنهما ربما يجبان على التعيين و ربما يجبان على الكفاية.

فصل

و يدل على وجوبهما زائدا على ما ذكرناه

قوله تعالى اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (1) و ذلك لأن ما رغب الله فيه فقد أراده و كل ما أراده من العبد شرعا فهو واجب إلا أن يقوم دليل على أنه نفل و لأن الاحتياط يقتضي ذلك.و المعروف الحق و سمي به لأنه يعرف صحته و سمي المنكر منكرا لأنه لا يمكن معرفة صحته بل ينكر.و الناس اختلفوا في ذلك فقال قوم إن طريق إنكار المنكر العقل لأنه كما يجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهية و إلا كان تاركه بمنزلة الراضي به و قال آخرون و هو الصحيح عندنا أن طريق وجوبه السمع و أجمعت الأمة على ذلك.و يكفي المكلف الدلالة على كراهيته من جهة الخبر و ما جرى مجراه.فإن قيل هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح.قلنا نعم إذا احتيج إليه بحسب الإمكان لأنه تعالى قد أمر به فإذا لم1.

ص: 357


1- سورة الحج:41.

ينجع فيه الوعظ و التخويف و لا التناول باليد وجب حمل السلاح لأن الفريضة لا تسقط مع الإمكان إلا بزوال المنكر الذي لزم به الجهاد إلا أنه لا يجوز أن يقصد القتال إلا و غرضه إنكار المنكر.و أكثر أصحابنا على أن هذا النوع من إنكار المنكر لا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن سلطان الوقت و من خالفنا جوز ذلك من غير الإذن مثل الدفاع عن النفس سواء.

فصل

أما

قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) فقد أوجب الله الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيما تقدم من قوله وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ثم مدح على قبوله و التمسك به كما مدح بالإيمان و هذا يدل على وجوبهما.و قد بينا اختلاف المفسرين و المتكلمين في قوله مِنْكُمْ أُمَّةٌ أنها للتبعيض أو للتبيين و الأولى أن يكون للتبيين و المعنى كونوا أمة تأمرون كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ و لا يصح الاستدلال على أنها للتبعيض بأن ذلك لا يصح إلا ممن علم المعروف و المنكر و علم كيف يرتب الأمر في إقامته و كيف يباشر و أن الجاهل ربما نهى عن معروف و أمر بمنكر و ربما يغلظ في موضع اللين و يلين في موضع الغلظة و ينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا لأن هذا كله من شرائطهما.و شرائط وجوبهما ثلاثة أن يعلم المعروف معروفا و المنكر منكرا و تجويز تأثير إنكاره و لا يكون فيه مفسدة.0.

ص: 358


1- سورة آل عمران:110.

فإن قيل كيف يباشر إنكار المنكر.قلنا يبتدئ بالسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب لأن الغرض كف المنكر قال تعالى فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ثم قال فَقاتِلُوا (1) .فإن قيل فمن يباشر.قلنا كل مسلم تمكن منه و اختص بشرائطه.و قد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الإنكار لأن قبحه معلوم لكل أحد و أما الإنكار الذي بالقتال فالإمام و خلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة و معهم عدتها.فإن قيل فمن يؤمر و ينهى.قيل كل مكلف و غير المكلف إذا هم بضرر غيره منع كالصبيان و المجانين و ينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها كما يؤخذون بالصلاة ليتمرنوا عليها.فإن قيل هل ينهى عن المنكر من يرتكبه.قيل نعم يجب عليه لأن ترك ارتكابه و إنكاره واجبان عليه فبترك أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر

وَ قَدْ قَالُوا عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ: مُرُوا بِالْخَيْرِ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا (2). فإن قيل كيف قال تعالى يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ (3) .[قلنا الدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال و التروك] (4)و النهي عن المنكرج.

ص: 359


1- سورة الحجرات:9.
2- وسائل الشيعة 399/11.
3- سورة آل عمران:104.
4- الزيادة من ج.

فخاص فجيء بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذانا بفضله كقوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (1) .

فصل

و إنما

قال تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ (2) و لم يقل أنتم خير أمة لأمور أحدها أن ذلك قد كان في الكتب المتقدمة فذكر كنتم لتقدم البشارة به و يكون التقدير كنتم خير أمة في الكتب الماضية و في اللوح المحفوظ فحققوا ذلك بالأفعال الجميلة.الثاني أنه بمنزلة قوله وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً لأن مغفرته المستأنفة كالمغفرة الماضية في تحقق الوقوع لا محالة و في كان على هذا تأكيد وقوع الأمر لأنه بمنزلة ما قد كان.الثالث كان تامة أي حدثتم خير أمة و خير أمة نصب على الحال قال مجاهد و معناه كنتم خير أمة إذا فعلتم ما تضمنته الآية من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و العمل بما أوجبه.فإن قيل لم يقال للحسن المعروف مع أن القبيح معروف أيضا أنه قبيح و لا يطلق عليه اسم المعروف.قلنا لأن القبيح بمنزلة ما لا يعرف لخموله و سقوطه و الحسن بمنزلة النبيه الذي يعرف بجلالته و علو قدره و يعرف أيضا بالملامسة الظاهرة و المشاهدة فأما القبح فلا يستحق هذه المنزلة.و قال أهل التحقيق نزلت هذه الآية فيمن هذه صفته من هذه الأمة و هم من0.

ص: 360


1- سورة البقرة:238.
2- سورة آل عمران:110.

دل الدليل من عصمته لأن هذا الخطاب لا يجوز أن يكون المراد به جميع الأمة لأن أكثرها بخلاف هذه الصفة بل منها من يأمر بالمنكر و ينهى عن المعروف و قد حث الله عليه بما حكي عن لقمان و وصيته يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ (1) .و يجوز أن يكون هذا عاما في كل ما يصيبه من المحن و أن يكون خاصا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فمن يبعثه على الخير و ينكر عليه الشر إن ذلك ما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب و إلزام و هذا الضرر مثل سب عرض أو ضرب لا يؤدي إلى ضرر في النفس عظيم أو في ماله أو لغيره لأن كل ذلك مفسدة.

فصل

و قوله تعالى وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ (2)

رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ (3).

وَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (4). يشري نفسه يبيعها أي يبذلها في الجهاد و يأمر و ينهى حتى يقتل.و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ (5) .4.

ص: 361


1- سورة لقمان:17.
2- سورة البقرة:207.
3- مجمع البيان 301/1.
4- تفسير البرهان 207/1.
5- سورة الانفال:24.

أي إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم مع نصر الله إياكم وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ بالموت و بالجنون و زوال العقل فلا يمكنه استدراك ما فات.ثم قال وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (1)

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لاَ يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمُّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ. و قال تعالى لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ وَ جَمَاعَةٌ مَعَهُ قَالَتْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ إِلاَّ أَشْرَارُنَا فَأَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ (2) . و قوله يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (3) صفة قوله أُمَّةٌ قائِمَةٌ .و ليس طريق وجوبهما العقل و إنما طريق وجوبهما السمع و عليه إجماع الأمة و إنما الواجب بالعقل كراهة المنكر فقط غير أنه إذا ثبت بالسمع وجوبه فعلينا إزالة المنكر بما يقدر عليه من الأمور الحسنة دون القبيحة لأنه لا يجوز إزالة قبيح بقبيح آخر.و ليس لنا أن نترك أحدا يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها سواء كان المعصية من أفعال القلوب مثل إظهار المذاهب الفاسدة أو من أفعال الجوارح.ثم ينظر فإن كان أمكننا إزالته بالقول فلا مزيد عليه و إن لم يمكن إلا بالمنع من غير إضرار لم يزد على ذلك فإن لم يتم دفعه إلا بالحرب فعلناه و إن كان عند أكثر أصحابنا هذا الجنس موقوفا على إذن السلطان فيه.و إنكار المذاهب الفاسدة لا يكون إلا بإقامة الحجج و البراهين و الدعاء إلى4.

ص: 362


1- سورة الانفال:25.
2- سورة آل عمران:114.
3- سورة آل عمران:114.

الحق و كذا إنكار أهل الذمة.فأما الإنكار باليد فمقصور على من يفعل شيئا من معاصي الجوارح أو يكون باغيا على إمام الحق فإنه يجب قتاله و دفعه على ما نذكر حتى يفيء إلى الحق و سبيلهم سبيل أهل الحرب فإن الإنكار عليهم باليد و القتال حتى يرجعوا إلى الإسلام أو يدخلوا في الذمة.و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً (1) أمرهم الله بأن يقوا أنفسهم أي يمنعوها و يمنعوا أهليها نارا و إنما يمنعون نفوسهم بأن يعملوا الطاعات و يمنعوا أهليهم بأن يدعوهم إليها و يحثوهم على فعلها و ذلك يقتضي أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ينبغي أن يكون للأقرب فالأقرب

باب أحكام أهل البغي

قال الله تعالى اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً (2) أي شبابا و شيوخا و أغنياء و فقراء و نشاطا و غير نشاط و ركبانا و مشاة و مشاغيل و غير مشاغيل و ذوي العيال و الميسرة و ذوي العسرة و قلة العيال. وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ظاهر الآية يقتضي وجوب مجاهدة البغاة كما يجب مجاهدة الكفار لأنه جهاد في سبيل الله.و الباغي هو من قاتل إماما عادلا يجب جهاده على كل من يستنهضه الإمام و لا يجوز قتالهم إلا بإذنه و أصل البغي في اللغة الطلب قال تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ (3) .

ص: 363


1- سورة التحريم:6.
2- سورة التوبة:41.
3- سورة البقرة:173.

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَ مُجَاهِدٌ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَ لاَ عَادٍ بِالْمَعْصِيَةِ طَرِيقَ الْمُحِقِّينَ وَ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الْبَاقِرِ وَ الصَّادِقِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: (1). و قال الرماني إن هذا لا يسوغ قال لأنه تعالى لم يبح لأحد قتل نفسه بل حظر ذلك عليه و هذا الذي ذكره غير صحيح لأن من بغى على إمام عادل فأدى ذلك إلى تلف نفسه فهو المعرض لقتل نفسه كما لو قتل في نفس المعركة فإنه المهلك لها فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين و الرخصة تتناول الميتة و إن كانت عند المفسرين بصورة المجاعة فليست لمكان المجاعة على الإطلاق بل يقال إنما ذلك للمجاعة (2)التي لم يكن هو المعرض نفسه لها فأما إذا عرض نفسه فلا يجوز له استباحة المحرم كما قلناه في قتل نفس الغير ليدفع عن نفسه القتل (3).

فصل

و إذا قوتل البغاة فلا يبتدءون بالقتال إلا بعد أن يدعو إلى ما ينكرون من أركان الإسلام كما فعل أمير المؤمنين عليه السّلام بالخوارج

قال تعالى اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (4) فالجدال قتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج و حل شبهه.و التي هي أحسن قيل الرفق و الوقار و السكينة مع نصرة الحق بالحجة و الحكمة المقالة الحسنة المحكمة الصحيحة التي تزيل الشبهة و توضح الحق5.

ص: 364


1- مجمع البيان 257/1.
2- الزيادة من ج.
3- انظر هذا الكلام مع تغيير فى بعض الالفاظ فى مجمع البيان 257/1.
4- سورة النحل:125.

و اَلْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ التي أن لا تخفي عليهم أنك تناصحهم بها و تقصد ما ينفعهم بها أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة و موعظة حسنة و جادلهم بالطريقة التي فيها اللين و الرفق من غير فظاظة و لا تعسف و الداعي هو الإمام أو من يأمره هو.و لا ينصرف من قاتلهم بأمر الإمام إلا بعد الظفر أو يفيئوا إلى الحق و من رجع عنهم من دون ذلك كان فارا من الزحف

وَ قَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِقَوْلِهِ: حَرْبُكَ يَا عَلِيُّ حَرْبِي وَ سِلْمُكَ سِلْمِي. أي حكم حربك حكم حربي

باب حكم المحاربين و السيرة فيهم

قال الله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا (1) .فمعنى يُحارِبُونَ اللّهَ أي يحاربون أولياء الله و المؤمنين لأنه لو كان المراد مقصورا على محاربة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لكان حكم الآية يسقط بوفاته و أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ثابت.و معنى يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يسرعون في الفساد و أصل السعي سرعة المشي.و المحارب عندنا هو الذي يشهر السلاح و يخيف السبيل سواء كان في المصر أو في خارج المصر فإن اللص المجاهر في المصر و غير المصر سواء و به قال الأوزاعي و مالك و الليث بن سعيد و ابن الهيعة و الشافعي و الطبري و قال قوم هو قاطع الطريق في غير المصر ذهب إليه أبو حنيفة.و معنى يُحارِبُونَ اللّهَ أي يحاربون أولياء الله و يحاربون رسوله لما ذكرنا

ص: 365


1- سورة المائدة:33.

وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً هو ما قلناه في إشهار السيف و إخافة السبيل.و جزاؤهم على قدر الاستحقاق إن قتل قتل و إن أخذ المال و قتل قتل و صلب و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف و إن أخاف السبيل فقط فإنما عليه النفي لا غير هذا مذهبنا و هو المروي عنهما عليهما السّلام و هو قول ابن عباس و أبي مجلز و سعيد بن جبير و السدي و قتادة و الربيع و به قال الجبائي و الطبري و قال الشافعي إن أخذ المال جهرا كان للإمام صلبه حيا و إن لم يقتل.و موضع أَنْ يُقَتَّلُوا رفع و تقديره إنما جزاؤهم القتل أو الصلب أو القطع.و معنى إنما ليس جزاؤهم إلا هذا قال الزجاج إذا قال جزاؤك عندي كذا جاز أن يكون معه غيره فإذا قال إنما جزاؤك كذا كان معناه ما جزاؤك عندي كذا.

فصل

و اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس و الضحاك نزلت في قوم كان بينهم و بين النبي صلّى اللّه عليه و آله معاهدة فنقضوا العهد و أفسدوا في الأرض فخبر الله نبيه فيما ذكر في الآية و قال الحسن و عكرمة نزلت في أهل الشرك و قال قتادة و أنس و ابن جبير و السدي إنها نزلت في العرنيين و العكليين حين ارتدوا و أفسدوا في الأرض فأخذهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و سمل أعينهم و في بعض الأخبار أنه أحرقهم بالنار (1).ثم اختلفوا في نسخ هذا الحكم الذي فعله بالعرنيين فقال البلخي و غيره نسخ ذلك بنهيه عن المثلة و منهم من قال حكمه ثابت في نظرائهم لم ينسخ.و قال آخر لم يسمل النبي صلّى اللّه عليه و آله أعينهم و إنما أراد أن يسمل فأنزل الله آية المحاربة و الذي نقوله إن كان فيهم طائفة ينظرون لهم حتى يقتلوا قوما9.

ص: 366


1- انظر مجمع البيان 188/2 و اسباب النزول للواحدى ص 129.

سملت أعين الرائية فأجري على الباقين ما ذكرناه و قال قوم الإمام مخير فيه.فمن قال بالأول ذهب إلى أن أو في الآية تقتضي التفصيل و من قال بالثاني ذهب إلى أنها للتخيير.

فصل

و معنى

قوله وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ معناه أن تقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى و لو كان موضع من على أو الباء لكان المعنى واحدا.و قوله أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ في معناه ثلاثة أقوال أحدها أنه يخرج من بلاد الإسلام ينفى من بلد إلى بلد إلا أن يتوب و يرجع و هو الذي نذهب إليه و قال أصحابنا لا يمكن أيضا من دخول بلد الشرك و يقاتل المشركون على تمكينهم من ذلك حتى يتوبوا و يرجعوا إلى الحق.الثاني أن ينفى من بلد إلى غيره.الثالث أن النفي هو الحبس ذهب إليه أبو حنيفة.و أصل النفي الإهلاك و منه النفي و الإعدام و منه النفاية لرديء المتاع و قال الفراء النفي أن يقال من قتله فدمه هدر.ثم قال ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا و الخزي الفضيحة أي إن ما ذكرناه من الأحكام لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم زيادة على ذلك و هذا يبطل قول من قال إقامة الحدود تكفير للمعاصي لأنه تعالى مع إقامة الحدود عليهم بين أن لهم في الآخرة عذابا عظيما أي أنهم يستحقون ذلك و لا يدل على أنه تعالى يفعل بهم ذلك لا محالة لأنه يجوز أن يعفو عنهم.

فصل

ثم

ص: 367

و لما بين الله حكم المحارب على ما فصلناه استثنى من جملتهم من يتوب مما ارتكبه قبل أن يؤخذ و يقدر عليه لأن توبته بعد حصوله (1)في قبضة الإمام و قيام البينة عليه بذلك لا تنفعه و وجب عليه إقامة الحد.و اختلفوا فيمن تدرأ عنه التوبة الحدود هل هو المشرك أو من كان مسلما من أهل الصلاة.قال الحسن هو المشرك دون من كان مسلما فأما من أسلم فإنه لم يؤاخذ بما جناه إلا أن يكون معه عين مال من أخذ منه قائمة فإنه يجب عليه ردها و ما عداه يسقط.

أَمَّا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَإِنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ مُسْلِماً وَ هُوَ حَارِثَةُ بْنُ زَيْدٍ لِأَنَّهُ كَانَ خَرَجَ مُحَارِباً ثُمَّ تَابَ فَقَبِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ تَوْبَتَهُ. و قال الشافعي يضع بتوبته حد الله عنه الذي وجب عليه لمحاربته و لا يسقط عنه حقوق بني آدم و هو مذهبنا فعلى هذا إن أسقط الآدمي حق نفسه و يكون ظهرت منه التوبة [قبل ذلك فلا يقال عليه الحدود و إن لم يكن ظهرت منه التوبة] (2)أقيم عليه الحد لأنه محارب فيتحتم عليه الحد و هو قول أبي علي أيضا و لا خلاف أنه إذا أصيب المال بعينه في يده أنه يرد إلى أهله.فأما المشرك المحارب فمتى أسلم و تاب سقطت عنه الحدود سواء كان ذلك منه قبل القدرة عليه أو بعدها بلا خلاف.فأما السارق إذا قدر عليه بعد التوبة و تكون التوبة منه بعد إقامة البينة فإنه لا يسقط عنه الحد و إن كان قبل قيام البينة أسقطت عنه و قال لا تسقط التوبة عن السارق الحد و لم يفعل و ادعى في ذلك الإجماع.ج.

ص: 368


1- فى م«قبل حصوله».
2- الزيادة من ج.

و قيل إن الله جعل هذا الحكم للمحارب بالاستثناء بقوله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و لم يكن غير المحارب في معناه فيقاس عليه لأن ظاهر هذا التفرد و ليس كذلك هو في المحارب الممتنع نفيه.ثم قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي ما يتقرب به إلى الله وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ (1) أي جاهدوا أعداءكم في وقت الحاجة إليه و جاهدوا أنفسكم في كل وقت.أما قوله تعالى وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي مفسدين لأن سعيهم في الأرض لما كان على طريق الفساد نزل منزلة وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فانتصب فسادا على المصدر حالا أو مفعولا له.و قيل النفي أن ينفى من بلده و كانوا ينفونهم إلى بلد في أقصى تهامة يقال له دهلك و إلى ناصع و هو من بلاد الحبشة و من قال إن النفي من بلد إلى بلد أي لا يزال يطلب و هو هارب فزعا.و قوله إِلاَّ الَّذِينَ استثناء من المعاقبين عقاب قطع الطريق خاصة و أما حكم القتل و الجراح و أخذ المال فإلى الأولياء إن شاءوا عفوا و إن شاءوا استوفوا

باب حكم المرتدين و كيفية حالهم

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (2) الآية.اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية و الصحيح

مَا رُوِيَ: عَنِ الْبَاقِرِ وَ الصَّادِقِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَ مَنْ قَاتَلَ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ (3). و الذي يقوي هذا التأويل أن الله وصف من عناه بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين عليه السّلام

ص: 369


1- سورة المائدة:35.
2- سورة المائدة:54.
3- تفسير البرهان 479/1.

مستكملا لها بالإجماع لأنه تعالى قال في عقبته فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و قد شهد النّبي صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام بما يوافق لفظ الآية في قوله و قد ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فر منها لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله و دفعها إلى علي فكان من ظفره ما وافق خبر النبي صلّى اللّه عليه و آله.ثم قال أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين و الرفق بهم و العزة للكفار و العزيز على الكافرين هو الممتنع في أن ينالوه مع شدة مكانته منهم و هذه أوصاف أمير المؤمنين.ثم قال يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ و لا يخفى قصور كل مجاهد من منزلته و لم يقارب أحد رتبته و هو الذي ما ولى الدبر قط فاختصاصه بالآية أولى.

وَ رُوِيَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ يَوْمَ الْبَصْرَةِ وَ اللَّهِ مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى الْيَوْمَ وَ تَلاَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (1) . و مثل ذلك قال عمار و حذيفة و ابن عباس.

فصل

و قرئ

مَنْ يَرْتَدَّ و مَنْ يَرْتَدِدْ و هو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها.و قيل كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة ثلاث في عهد رسول الله بنو مدلج و رئيسهم ذو الخمار و هو الأسود العنسي و كان كاهنا تنبأ باليمن و استولى على بلاده و أخرج عمال رسول الله فبيته فيروز الديلمي فقتله و أخبر رسول الله بقتله ليلة قتل1.

ص: 370


1- تفسير البرهان 479/1.

فسر المسلمون و قبض رسول الله من الغد و بنو حنيفة قوم مسيلمة الذي تنبأ و بنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ أيضا ثم أسلم و حسن إسلامه و ثمان بعد وفاة رسول الله و كفى الله أمرهم.و قوله فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ قيل هم الأنصار

وَ قِيلَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ سَلْمَانَ وَ قَالَ هَذَا وَ ذَوُوهُ ثُمَّ قَالَ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مُعَلَّقاً بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ. و التقدير فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم مقامهم.و إنما لم يقل أذلة للمؤمنين لأن الذل يضمن معنى الحنو و العطف كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل.

فصل

و

قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (1) يعني بذلك أهل النفاق أنهم أظهروا الإيمان ثم ازدادوا كفرا بموتهم على الكفر.ثم اعلم أن المرتد عندنا على ضربين مرتد عن فطرة الإسلام بين المسلمين متى كفر فإنه يجب قتله و لا يستتاب و يقسم ماله بين ورثته و تعتد منه زوجته عدة المتوفى عنها زوجها من يوم ارتد.و الآخر من أسلم من كان أسلم ثم كفر ثم ارتد فهذا يستتاب ثلاثا فإن تاب و إلا وجب عليه القتل و لا يستتاب أكثر من ذلك.و المرأة إذا ارتدت تستتاب على كل حال فإن تابت و إلا حبست حتى تموت و لا تقتل بحال و فيه خلاف.و قال تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (2) نزلت في الوليد بن عقبة لما بعثه6.

ص: 371


1- سورة النساء:137.
2- سورة الحجرات:6.

رسول الله في صدقات بني المصطلق خرجوا يتلقونه فرحا به فظن أنهم هموا بقتله فرجع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال إنهم منعوا زكواتهم و كان الأمر بخلافه (1).ثم قال وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فقتل بعضهم بعضا أي من كان على ظاهر الإيمان فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما (2) حتى يصطلحا فإن بغت إحدى الطائفتين على الأخرى بأن تطلب ما لا يجوز لها و تطالب الأخرى ظالمة لها فقاتلوا الظالمة حتى ترجع إلى طاعة الله فإن رجعت بالقول فلا تميلوا على واحدة منهما وَ أَقْسِطُوا قيل نزلت في قبيلتين من الأنصار وقع بينهم قتال (3)

باب الزيادات

قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (4) .جعل ضمير الأشهر الحرم الهاء و النون في فيهن لقلتهن و ضمير شهور السنة الهاء و الألف في منها لكثرتها و لذلك يقولون لأربع خلون في التاريخ و لعشرين بقيت و على هذا ما جاء في التنزيل وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً (5) في سورة البقرة و قال في سورة آل عمران إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ (6) كأنهم قالوا أولا تطول المدة التي تمسهم فيها النار ثم تراجعوا عنه فقصروا تلك المدة.

ص: 372


1- اسباب النزول للواحدى ص 261.
2- سورة الحجرات:9.
3- الزيادة من م،و انظر اسباب النزول للواحدى ص 263.
4- سورة التوبة:36.
5- سورة البقرة:80.
6- سورة آل عمران:24.

و قيل الضمير في قوله فِيهِنَّ أيضا يرجع إلى الشهور و خالف في العبارة كراهة التكرار.

مسألة

إذا نزل الإمام بالجيش في الغزو على أهل بلد هل له حصره و المنع لمن يريد الخروج منه من الكفار.قلنا له ذلك

لقوله وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ (1) كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فإنه حاصر أهل الطائف.

مسألة

فإن قيل لم ترك أمير المؤمنين القتال مع معاوية و قد كان لاح له وجه الظفر و لكن لما رفعوا المصاحف كف عنهم هلا كان يضربهم بالسيف حتى يهلكوا أو يفيئوا إلى أمره كما

قال تعالى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ (2) و قال وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ (3) .الجواب

أَنَّهُ لَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ دَعَا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مُعَاوِيَةَ وَ أَحْزَابَهُ إِلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَ قَالَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ اقْتِدَاءً مِنْهُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَ بِدُعَائِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى مَا يجدوا [وَجَدُوا] فِي التَّوْرَاةِ وَ الْإِنْجِيلِ مِنْ تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ وَ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقَالَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ (4)7.

ص: 373


1- سورة التوبة:5.
2- سورة الحجرات:9.
3- سورة البقرة:193.
4- سورة الاعراف:157.

الْآيَةَ وَ قَالَ فِي الَّذِينَ وَجَدُوا ذِكْرَهُ فِيهِمَا وَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (1) وَ قَالَ وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ (2) . و لو أن عليا ابتدأ بالقتال قبل إلزام أهل الشام الحجة من الكتاب دخل في زمرة من قال وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ إلى قوله بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (3) .فدعاهم أولا إلى ما قاله القرآن ليكون من جملة من قال سبحانه إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (4) .فعلي كان المنقاد لأمر الله و العامل به و الراضي بحكمه و معاوية و أصحابه كانوا التاركين لأمر الله و المعرضين عن العدل و لما علموا أنهم متى حاكموا عليا بما في القرآن و أذعنوا للإنصاف و أقروا لذي الفضل بفضله التزموا الظلم و البغي و باءوا بغضب من الله و لم يفيئوا إلى أمر الله فلذلك دافعوا التحكيم بكتاب الله في عنفوان الأمر و أبوا إلا القتال إلى أن ضاق عليهم الأمر و أصابهم وقع السيف ففزعوا إلى رفع المصاحف هنالك فرفعوا على الأسل و التجئوا إلى التحكيم الذي قد كان علي عليه السّلام دعاهم إليه أولا فأبوا.و إنما كان دعاء علي عليه السّلام إياهم إلى ما في كتاب الله أولا ثقة منه بتحقيق1.

ص: 374


1- سورة البقرة:89.
2- سورة البقرة:101.
3- سورة النور:48.
4- سورة النور:51.

أمره و علما بأن الكتاب يحكم له عليهم و أنهم لو حاكموا عليا في أول ما دعاهم إلى ما في القرآن لوجدوه من السابقين الأولين من المهاجرين و وجدوه من المجاهدين الذين لا يقاس به القاعدون و من المؤمنين بالغيب و من أولياء الله اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ و من العلماء الذين يتقون الله حَقَّ تُقاتِهِ و من الموفين بالنذر المطعمين على حب الله المسكين و اليتيم و الأسير (1)و وجدوا أباه أبا طالب أشد من حامى رسول الله و وجدوا معاوية في الطلقاء و أبناء الطلقاء فلما نابهم حر القتل أمر برفع المصاحف.

وَ كَانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ حِينَ قَالُوا لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَنْصَفَكَ حِينَ دَعَاكَ إِلَى مَا فِي الْكِتَابِ فَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ شَدَدْنَا مَعَ الْعَدُوِّ عَلَيْكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ (2) فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ اصْبِرُوا عَلَى ابْنِ هِنْدٍ سَاعَةً يَفْتَحِ اللَّهُ لَكُمْ. و لما لم ينجع كلامه منهم و أبى الذين فسدت قلوبهم من أصحابه إلا النزول عند حكم معاوية وضع علي عليه السّلام نفسه موضع المستضعفين المعذورين و عمل على قول الله فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (3) و كانوا يشتدون عليه ليجيب معاوية إلى ما كان يدعو إليه من التحكيم حتى قال لا رأي لمن لا يطاع.و قد بين الله عذر علي عليه السّلام في ذلك بقوله اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (4) الآية.فألف من المؤمنين إذا قاتلوا ألفين من الكافرين هم أكفاء بعضهم لبعض فإذا استأمن رجل واحد من المؤمنين مرتدا إلى الكفار و صار الكفار زيادة على الألفين6.

ص: 375


1- هذه الجمل اشارة الى ما نزل فى على عليه السلام من الايات.
2- سورة النساء:59.
3- سورة التغابن:16.
4- سورة الانفال:66.

برجل واحد و انحط المؤمنون إلى تسعمائة و تسعة و تسعين فهم في سعة و رخصة إذا انهزموا و لم يقاتلوا و لا حرج عليهم متى نقص من ألفهم واحد و زاد في ألفي الكفار.فإذا رخص الله للمؤمنين أن ينحجزوا عن قتال الكفار متى نقص واحد من ألف منهم فزاد على ألفي الكفار فلأن يرخص لمولانا أمير المؤمنين أن يمسك عن قتال قوم كانوا في الأصل أضعاف أصحابه ثم وجد بعض أصحابه قد صار أعدى عليه من أعدائه و الله تعالى يقول وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1) و يقول وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (2) يقول لمن كانوا أكفاء لأعدائهم كالألف من المؤمنين مع الألفين من الكفار سواء بعضها لبعض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (3) الآية (4)ى.

ص: 376


1- سورة البقرة:195.
2- سورة النساء:29.
3- سورة الانفال:15.
4- انظر لمعرفة تفصيل صلح على عليه السلام مع معاوية و اسبابه و كيد معاوية فى ذلك كتاب«الصفين»لنصر بن مزاحم المنقرى.

كتاب الديون و الكفالات و الحوالات و الوكالات

اشارة

نقدم ذكر الدين لأن الثلاثة الأخر على الأغلب تكون من توابعه.و دان من الأضداد يقال دينه أي أقرضه و دان استقرض أيضا (1)

باب أحكام الدين

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (2) .اعلم أن أخذ الدين قد يكون مباحا و مكروها و محظورا و واجبا و مستحبا و الآية تدل على جواز الدين لمن له مال يقضي به أو من يقضي عنه و مع هذا الشرط عند الاضطرار ربما يكون ندبا أو واجبا.

ص: 377


1- قال ابن منظور:و الدين واحد الديون معروف،و كل شىء غير حاضر دين،و الجمع أدين مثل أعين و ديون،لسان العرب(دين).
2- سورة البقرة:282.

وَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الدَّيْنُ شَيْنُ الدِّينِ (1). يدل على كراهيته فإن لم يكن له ما يقضي به دينه و لا ولي يعلم إن مات قضاه عنه في غيبة الإمام فلا يتعرض البتة للدين.

فصل

قوله تعالى إِذا تَدايَنْتُمْ أي إذا دان بعضكم بعضا يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين آخذا أو معطيا كما تقول بايعته إذا بعته أو باعك و المعنى إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه.فإن قيل أي حاجة إلى ذكر الدين مع قوله إِذا تَدايَنْتُمْ و ما فائدة قوله مُسَمًّى .قلنا إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله فَاكْتُبُوهُ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن و لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل و حال و إنما قال مُسَمًّى ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة و الأشهر و الأيام و لو قال إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية.و إنما أمر بكتب الدين لأنه أوثق و آمن من النسيان و أبعد من الجحود و الأمر هنا للندب.و عن ابن عباس المراد به السلم و قال لما حرم الله الربا أباح السلف و قال أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه و أنزل فيه أطول آية.و قيل إنما قال بِدَيْنٍ على وجه التأكيد و لا يختص تَدايَنْتُمْ بالدين خاصة دون الدين الذي هو الجزاء و أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم.ه.

ص: 378


1- الاول بفتح الدال و الثانى بكسره.

و قوله تعالى فَاكْتُبُوهُ ظاهره الأمر بالكتابة و اختلفوا في مقتضاه فقال أبو سعيد الخدري و الشعبي و الحسن هو مندوب إليه و قال الربيع و كعب هو فرض و الأول أصح لإجماع أهل عصرنا عليه و لقوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ و مفهومه فإن أمنه فيما له أن يأمنه.و قال الأكثرون حكم الآية في كل دين من سلم أو غيره أو تأخير ثمن في بيع و هو الأقوى لأنه العموم فأما القرض فلا مدخل له فيه لأنه لا يكون مؤجلا و القرض فيه ثواب جزيل و هو أفضل من الصدقة.

فصل

ثم

ص: 379

حكم شَهِيدَيْنِ حكم (1)مِنْ رِجالِكُمْ حكم فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ حكم مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ حكم وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ حكم وَ لا تَسْئَمُوا حكم إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً حكم وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ حكم وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ حكم وَ لا شَهِيدٌ حكم (2).

فصل

حَدَّثَ مُوسَى بْنُ بَكْرٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَنْ طَلَبَ الرِّزْقَ مِنْ حِلِّهِ لِيَعُودَ بِهِ عَلَى عِيَالِهِ وَ نَفْسِهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ فَلْيَسْتَدِنْ عَلَى اللَّهِ وَ عَلَى رَسُولِهِ مَا يَقُوتُ بِهِ عِيَالَهُ فَإِنْ مَاتَ وَ لَمْ يَقْضِهِ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ قَضَاؤُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ (3) فَهُوَ فَقِيرٌ مِسْكِينٌ مُغْرَمٌ (4).

وَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ الرَّجُلُ مِنَّا يَكُونُ عِنْدَهُ الشَّيْءُ يَتَبَلَّغُ بِهِ وَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَ يُطْعِمُهُ عِيَالَهُ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِمَيْسَرَةٍ فَيَقْضِيَ دَيْنَهُ أَوْ يَسْتَقْرِضُ عَلَى ظَهْرِهِ [فِي خُبْثِ الزَّمَانِ وَ شِدَّةِ الْمَكَاسِبِ] (5)أَوْ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ قَالَ يَقْضِي بِمَا عِنْدَهُ دَيْنَهُ [وَ لاَ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ إِلاَّ وَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي بِهِ حُقُوقَهُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ] (6)ر.

ص: 380


1- فى التبيان«و استشهدوا شهيدين»حكم،«فرجل و امرأتان»حكم«ه ج».
2- لا يخفى ان ما عده المؤلف يكون ثلاثة و عشرين حكما لا واحد و عشرين كما ذكر، و هذا الكلام مأخوذ من التبيان 379/2 و فيه أيضا ورد العدد غير صحيح.
3- سورة التوبة:61.
4- الكافى 93/5.
5- الزيادة من المصدر.
6- الزيادة من م و المصدر.

لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ (1) فَلاَ يَسْتَقْرِضْ عَلَى ظَهْرِهِ إِلاَّ وَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ وَ لَوْ طَافَ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ فَرَدُّوهُ بِاللُّقْمَةِ وَ اللُّقْمَتَيْنِ [وَ التَّمْرَةِ وَ التَّمْرَتَيْنِ] (2)إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ (3). و هذا مخصوص بحال الغيبة فلا ينافي الأول

باب قضاء الدين و حكم المدين المعسر

اعلم أن وجوب قضاء الدين يعلم ضرورة و لذلك يعلمه كل عاقل لأنه من الواجبات العقلية و لما كان كذلك

بين الله في كتابه بقوله وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (4) فإن المدين متى كان معسرا لم يجز لصاحب الدين مطالبته و الإلحاح عليه بل ينبغي أن يرفق به و ينظره إلى أن يوسع الله عليه.و أشار سبحانه من فحوى الآية إلى وجوب قضاء الدين أيضا إذا طالبه صاحبه إن كان حالا أو نزل محله لأن معناها و إن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة و إعسار فالحكم و الأمر نظرة و هي من الإنظار إلى ميسرة أي إلى يسار و يجوز أن يكون كان ناقصة و التقدير و إن كان ذو عسرة غريما لكم أو من غرمائكم إن كان معسرا فعليه نظرة.و هل الإنظار واجب في كل دين أو في دين الربا فقط قيل فيه ثلاثة أقوال أحدها قال شريح و إبراهيم إنه في دين الربا خاصة و الثاني قال ابن عباس في كل دين و هو قول أبي جعفر عليه السّلام الثالث أن المراد بالآية يجب في دين الربا

ص: 381


1- سورة النساء:22.
2- الزيادة من المصدر.
3- الكافى 95/5.
4- سورة البقرة:280.

لأن الكلام متصل بذلك و الثاني هو الصحيح لعموم الكلام في كل دين لأن لكل كلام حكم نفسه و إن نزل في حكم خاص و سبب مخصوص.و استدل على أنه يجب في كل دين بأنه لا يخلو إما أن يجب في ذمته أو في رقبته أو في عين ماله فلو كان في رقبته لكان إذا مات بطل وجوبه و لو كان في عين ماله كان إذا هلك ماله بطل وجوبه فصح أنه في ذمته و لا سبيل له عليه في ذلك من جنس أو غيره.و الغريم لا يخلو إما أن يكون له شيء أو لا يكون فإن لم يكن له شيء أصلا يجب لصاحب الدين أن لا يلزمه ذلك و لا يحسبه و إن كانت له دار و كانت واسعة كبيرة يستحب لصاحب الدين أن يصبر عليه و إن كان له مال و مطل جاز للحاكم حبسه فإن دافع به أيضا كان له أن يبيع متاعه و يقضي عنه ما وجب عليه.و قوله إِلى مَيْسَرَةٍ معناه إلى أن يوسع الله عليه

وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ الْإِمَامَ فَيَقْضِيَ عَنْهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ أَنْفَقَهُ فِي مَعْرُوفٍ (1)وَ إِنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ فِي مَا ذَا أَنْفَقَهُ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَنْفَقَهُ (2)فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عَنْهُ بَلْ إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَضَى عَنْ نَفْسِهِ. و يجوز أن يعطى من سهم الفقراء و المساكين شيء و يقضي هو به دينه (3).

فصل

ثم قال تعالى وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ معناه و تصدقكم على المعسر بما عليه من الدين خير لكم.».

ص: 382


1- التبيان 369/2.
2- الزيادة من م.
3- فى ج«و يقضى هو دينه».

وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالكم و بديونكم كلها على من أعسر من غرمائكم أو ببعضها [لقوله وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (1) .و قيل أريد بالتصدق الإنظار] (2)

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لاَ يَحِلُّ دَيْنُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَيُؤَخِّرَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعلم به و إن علمه كان لا يعلمه و الصدقة أحسن لقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ (3)

وَ سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أَخْبِرْنِي عَنْ هَذِهِ النَّظِرَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لَهَا حَدٌّ يُعْرَفُ بِهِ إِذَا صَارَ الْمُعْسِرُ إِلَيْهِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ وَ قَدْ أَخَذَ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ وَ أَنْفَقَهُ عَلَى عِيَالِهِ وَ لَيْسَ لَهُ غَلَّةٌ يُنْتَظَرُ إِدْرَاكُهَا وَ لاَ دَيْنٌ يُنْتَظَرُ مَحِلُّهُ وَ لاَ مَالٌ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ قُدُومُهُ قَالَ نَعَمْ يُنْتَظَرُ بِقَدْرِ مَا يَنْتَهِي خَبَرُهُ إِلَى الْإِمَامِ فَيَقْضِي عَنْهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَ إِنْ كَانَ أَنْفَقَهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْإِمَامِ قِيلَ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ (4)فِيمَا أَنْفَقَهُ أَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَمْ فِي مَعْصِيَتِهِ قَالَ يَسْعَى لَهُ فِي مَالِهِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَ هُوَ صَاغِرٌ (5).

باب القرض

قال الله تعالى إِنْ تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ (6) الآية

ص: 383


1- سورة البقرة:237.
2- الزيادة من م.
3- سورة البقرة:261.
4- فى المصدر بدل هذه الجملة«قلت:فما لهذا الرجل الذى ائتمنه و هو لا يعلم».
5- الكافى 93/5.
6- سورة التغابن:17.

القرض على ما روي بثمانية عشر و الآية تدل على زيادة فضله على الصدقة.و المراد إن تقرضوا أيها الأغنياء الفقراء الذين هم أولياء الله لأنه تعالى هو الغني على الحقيقة لا يحتاج إلى شيء.

وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ (1) قَالَ يَعْنِي بِالْمَعْرُوفِ الْقَرْضَ (2)وَ إِنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا لِيَتَقَارَضَ النَّاسُ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَنْ أَقْرَضَ قَرْضاً إِلَى مَيْسَرَةٍ كَانَ مَالُهُ فِي زَكَاةٍ وَ كَانَ هُوَ فِي صَلاَةٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ حَتَّى يَقْضِيَهُ (3). و إذا أقرض إنسان مالا فرد المستقرض عليه أجود منه من غير شرط لم يكن به بأس و كذلك إن رد عليه زيادة على ما أخذ من غير شرط لقوله تعالى وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها

باب قضاء الدين عن الميت

قال الله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (4) .يجب أن يقضى الدين عن الميت من أصل تركته و هو أول ما يبدأ به بعد الكفن ثم تليه الوصية.فإن قيل لم قدمت الوصية على الدين في الآية و الدين مقدم عليها في الشريعة.قلنا لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض كان

ص: 384


1- سورة النساء:114.
2- تفسير البرهان 415/1.
3- فى الوسائل 87/13 قريب من هذا المعنى عن النبى«صلّى اللّه عليه و آله».
4- سورة النساء:11.

إخراجها مما يشق على الورثة و يتعاظمهم فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها و المسارعة إلى إخراجها بعد الدين.و قضاء الدين عند حلول الأجل إنما يجب مع المطالبة فمن مات و عليه دين مؤجل حل أجل ما عليه و لزم ورثته الخروج عما كان عليه من ماله و تركته و كذلك إن كان له دين (1)مؤجل حل أجل ماله و جاز للورثة المطالبة به في الحال.و مطل الدين و دفعه مع القدرة ظلم فمن عليه دين لا ينوي قضاءه كان بمنزلة السارق و إذا كان عازما على قضائه أعانه الله عليه و كان له بذلك أجر كبير فإن حضرته الوفاة أوصى إلى من يثق به أن يقضي عنه.و إنما قدم الله الوصية على الدين في القرآن في الآيتين في سورة النساء مع وجوب البدأة بالدين ثم بالوصية على ما أمر به على لسان رسوله لأن أولا يوجب الترتيب لأنه لأحد الشيئين فكأنه قال من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الآخر و لأن وجوب رد الدين يعلم عقلا فقدم الله في اللفظ الوصية عليه إشعارا بأنه أيضا واجب و أن إخراج الدين من أصل التركة و إخراج الوصية من ثلثها على أن الوصية أعم من الدين فحسن تقديمها لفظا فإن الدين يدخل فيها فالمحتضر يوصي بدينه و الغالب من أحوال من يحضره الموت الوصية و الدين لا يكون إلا نادرا

باب الصلح

و هو من توابع الدين و غيره فربما يضطر فيه إليه.

قال الله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ (2) .

ص: 385


1- فى م«عليه دين».
2- سورة النساء:128.

و هذا على العموم فالصلح جائز بين المسلمين ما لم يؤد إلى تحريم حلال أو تحليل حرام.و قال تعالى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ (1) .فعلى هذا إذا كان لرجلين لكل واحد عند صاحبه شيء تعين لهما ذلك أو لم يتعين فاصطلحا على أن يتتاركا و يتحللا كان جائزا و كذلك من كان له دين على غيره آجل فيقضي عنه شيئا و سأل تعجيل الباقي كان سائغا لقوله تعالى إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما (2) .و الشريكان إذا تقاسما و اصطلحا على أن يكون الربح و الخسران على واحد منهما و يرد على الآخر رأس ماله على الكمال أيضا جائز لقوله تعالى فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما .و هذه الآيات كلها بعمومها تدل على كل صلح لا يخالف الشريعة.و الصلح ليس بأصل في نفسه و إنما هو فرع على العين و هو على خمسة أضرب

باب الكفالة

قال تعالى حكاية عن يعقوب لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ (3) و قول ولده ليوسف فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ (4) و ذلك كفالة البدن.و اعلم أن الكفالة بالنفس و المال في الشرع جائزة و لا تصح إلا بأجل و إن

ص: 386


1- سورة النساء:114.
2- سورة النساء:35.
3- سورة يوسف:66.
4- سورة يوسف:78.

كانت الكفالة ندامة و غرامة قال تعالى وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (1) أي كفيل به و ضمين له و أنشد.

فلست بآمن فيها بسلم و لكني على نفسي زعيم (2).

و إنما قال وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ و قبله ذكر جمع قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ لأن زعيم القوم يتكلم عنهم.

وَ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ الرَّجُلِ يَكْفُلُ بِنَفْسِ الرَّجُلِ إِلَى أَجَلٍ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَعَلَيْهِ كَذَا وَ كَذَا قَالَ إِنْ جَاءَ بِهِ إِلَى أَجَلٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَالٌ وَ هُوَ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ أَبَداً إِلَى أَنْ يَبْدَأَ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنْ بَدَأَ بِالدَّرَاهِمِ فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ (3). بيان ذلك أن من ضمن غيره إلى أجل فإن لم آت به كان علي كذا و حضر الأجل لم يلزمه إلا إحضار الرجل و إن قال علي كذا إلى كذا إن لم أحضر فلانا ثم لم يحضره وجب عليه ما ذكره من المال.و إذا تكفل رجل ببدن رجل لرجل عليه مال أو يدعي عليه مالا ففي الناس من قال يصح ضمانه و فيهم من قال لا يصح ضمانه و الأول أقوى للآية التي تقدمت

باب الحوالة

هي عقد من العقود يجب الوفاء به لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (4) و وجوب الوفاء يدل على جوازه.

ص: 387


1- سورة يوسف:72.
2- انظر التبيان 171/6.
3- وسائل الشيعة 157/13 و الزيادة منه.
4- سورة المائدة:1.

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَحْتَلْ. و أجمعت الأمة على جواز الحوالة و إن اختلفوا في مسائل منها.و الحوالة مشتقة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة يقال أحاله بالحق عليه تحيله و احتال قبل الحوالة.و الحوالة إنما تصح في الأموال التي هي ذوات أمثال و لا تصح إلا بشرطين اتفاق الحقين في الجنس و النوع و الصفة و أن يكون الحق مما يصح فيه أخذ البدل قبل قبضه.و قد بينا أن الضمان جائز للكتاب و السنة فالكتاب ما تلوناه من سورة يوسف من قوله وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ .و ليس لأحد أن يقول إن الحمل مجهول لا يصح الكفالة به و الضمان فيه و ذلك أن الحمل حمل بعير و هو ستون وسقا عند العرب.و أيضا فإنه مال الجعالة و ذلك عندنا يصح ضمانه لأنه يئول إلى اللزوم و من لم يجز ضمان مال الجعالة و ضمان مال المجعول قال أخرجت ذلك بدليل و الظاهر يقتضيه.

وَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَ الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَ الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَ الزَّعِيمُ غَارِمٌ. يعني الكفيل يغرم.فإذا ثبت صحة الضمان فمن شرطه وجود ثلاثة أشخاص ضامن و مضمون له و مضمون عنه و ليس من شرط الضمان معرفتهما و الله أعلم

باب الوكالة

قال الله تعالى حكاية عن أصحاب الكهف فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ (1) أي قال بعضهم لبعض ابعثوا

ص: 388


1- سورة الكهف:19.

من يتصرف لكم في البيع و الشراء فلما قبل المبعوث القيام بما وكلوه إليه و ضمن ما وكلوه فيه فقد صار وكيلا لهم و يصح شراؤه و بيعه.و قال تعالى فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (1) .و الفتى الرجل الشاب و إنما أضيف موسى لأنه كان يخدمه و يكل هو إليه كثيرا من أموره الدنياوية و موكله فيها و العرب تسمي خادم الرجل و وكيله فتاه و إن كان شيخا.و الوكالة يعتبر فيها شرط الموكل إن شرط في خاص من الأشياء لم يجز له فيما عداه أ لا ترى إلى قوله فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً .و قوله أَزْكى طَعاماً أي أنمى بأنه طاهر حلال لأن أهل تلك المدينة كان أكثرهم كفارا وقت خروجهم منها كانوا يذبحون للأوثان و هم أرجاس فأشاروا بأن لا يشتري غير الطعام الطاهر وَ لْيَتَلَطَّفْ في شرائه و إخفاء أمره وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً و إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع هو فيه.و إن شرط الموكل أن تكون الوكالة عامة كان هو الوكيل على العموم.

وَ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى حُنَيْنٍ (2)فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ قُلْتُ إِنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى حُنَيْنٍ (2)فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقاً فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ (3). فأثبت عليه السّلام لنفسه وكيلا.وكل عليه السّلام أيضا حكيم بن حزام في شراء شاة.و من وكل غيره في مطالبة أو محاكمة و قبل الغير ذلك منه صار وكيله يجب7.

ص: 389


1- سورة الكهف:62.
2- فى ج«الى خيبر»فى الموضعين.
3- المعجم المفهرس لالفاظ الحديث 306/7.

له ما يجب لموكله و يجب عليه ما يجب على موكله إلا ما يقتضيه الإقرار من الحدود و الآداب و الإيمان.

فصل

و من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منه كما أعلمه بالدخول فيه

وَ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ اخْطُبْ لِي فُلاَنَةَ فَمَا فَعَلْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ صَدَاقٍ أَوْ ضَمِنْتَ مِنْ شَيْءٍ أَوْ شَرَطْتَ فَذَلِكَ رِضَائِي وَ هُوَ لاَزِمٌ لِي وَ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ فَذَهَبَ فَخَطَبَ لَهُ وَ بَذَلَ عَنْهُ الصَّدَاقَ وَ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا طَالَبُوهُ وَ سَأَلُوهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أَنْكَرَ هُوَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَالَ يُغَرَّمُ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ عَنْهُ وَ ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ حَقَّهَا لِمَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَهُ وَ حَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَ لاَ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ (1) فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ مَأْثُومٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اللَّهِ (2). و لا يجوز لحاكم أن يسمع من متوكل لغيره إلا بعد أن تقوم له عنده البينة بثبوت وكالته عنه.

وَ سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ رَجُلٍ قَبَضَ صَدَاقَ بِنْتِهِ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ مَاتَ هَلْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِصَدَاقِهَا أَوْ قَبْضُ أَبِيهَا قَبْضُهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِنْ كَانَتْ وَكَّلَتْهُ بِقَبْضِ صَدَاقِهَا مِنْ زَوْجِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ وَ إِنْ لَمْ تَكُنْ وَكَّلَتْهُ فَلَهَا ذَلِكَ وَ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى وَرَثَةِ أَبِيهَا بِذَلِكَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَبِيَّةً فِي حَجْرِهِ فَيَجُوزُ لِأَبِيهَا أَنْ يَقْبِضَ عَنْهَا (3).3.

ص: 390


1- سورة البقرة:229.
2- وسائل الشيعة 288/13.
3- وسائل الشيعة 290/13.

و متى طلقها قبل الدخول فعفى عن بعض المهر من له العفو جاز ذلك و ليس له أن يعفو عن جميع المهر و هو الذي بيده عقدة النكاح من أحد ثلاثة و ذلك قوله إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ يعني الأب و الجد مع وجود الأب و الذي توكله المرأة و توليه أمرها من الجد مع عدم الأب أو أخ أو قرابة أو غيرهما.

فصل

فإذا ثبت جواز الوكالة فالكلام بعد في بيان ما يجوز التوكيل فيه و ما لا يجوز و نأتي به على كتب الفقه.فالطهارة لا يصح التوكيل فيها و إذا استعان بغيره في صب الماء عليه على كراهة فيه أو غسل أعضائه على خلاف فيه لأن عندنا لا يجوز ذلك مع القدرة و ينوي هو بنفسه رفع الحدث مع الضرورة و ذلك ليس بتوكيل و إنما هو استعانة على فعل عبادة.و الصلاة لا يجوز التوكيل فيها و لا يدخلها النيابة ما دام هو حيا إلا ركعتي الطواف تبعا للحج.و الزكاة يصح التوكيل في إخراجها عنه و في تسليمها إلى أهل السهمان (1)و يصح من أهل السهمان التوكيل في قبضها.و الصيام لا يصح التوكيل فيه و لا يدخله النيابة ما دام حيا فإذا مات و عليه الصوم أطعم عنه وليه أو صام عنه في الموضع الذي وجب عليه و فرط فيه و كذا في الصلاة على بعض الوجوه.و الاعتكاف لا يصح التوكيل فيه بحال و لا يدخله النيابة بوجه.5.

ص: 391


1- بضم السين جمع السهم و هو النصيب-انظر الصحاح 1956/5.

و الحج لا يدخله النيابة مع القدرة عليه بنفسه فإذا عجز عنه بزمانه أو موت أو منع دخلته النيابة.و البيع يصح فيه التوكيل مطلقا في إيجابه و قبوله و تسليم المال فيه و تسلمه.و كذا يصح التوكيل في عقد الرهن و في قبضه.و لا يتصور التوكيل في التفليس.و أما الحجر فللحاكم أن يحجر بنفسه و له أن يستنيب غيره فيه.و الصلح في معنى البيع يصح التوكيل فيه.و الحوالة يصح فيها التوكيل و كذا في عقد الضمان و الشركة.و يصح أيضا التوكيل في الوكالة فيوكل رجلا في توكيل آخر (1)عنه.و الإقرار هل يصح فيه التوكيل أم لا فيه خلاف.و العارية يصح فيها التوكيل لأنها هبة منافع.و الغصب لا يصح التوكيل فيه فإذا وكل رجل في الغصب فغصبه فالحكم يتوجه على الذي باشر الغصب كما يتوجه عليه بأن لو غصبه بغير أمر أحد.و الشفعة يصح التوكيل في المطالبة بها.و كذا يصح في القراض و المساقاة و الإجارة و إحياء الموات.و كذا التوكيل في العطايا و الهبات و الوقف.و لا يصح التوكيل في الالتقاط فإذا وكل غيره في التقاط لقطة تعلق الحكم بالملتقط لا بالآمر و كان الملتقط بها أولى.و الميراث لا يصح التوكيل فيه إلا في قبضه و استيفائه.و الوصايا يصح التوكيل في عقدها و قبولها.و الوديعة يصح التوكيل فيها أيضا.ج.

ص: 392


1- الزيادة من ج.

و قسم الفيء فللإمام أن يتولى قسمته بنفسه و له أن يستنيب غيره فيه.و الصدقات حكمها حكم الزكوات و قد قلناه.و النكاح يصح فيه التوكيل في الولي و الخاطب و كذا التوكيل في الصدقات يصح أيضا [و يصح التوكيل في الخلع لأنه عقد بعوض] (1)و لا يصح التوكيل في القسم بين الزوجات لأن الوطء يدخل فيه فلا نيابة فيه.و أما الطلاق فيصح التوكيل فيه يطلق عنه الوكيل مع غيبته و الرجعة فيها خلاف و لا يمتنع أن يدخلها التوكيل.و الرضاع لا يصح فيه التوكيل لأنه يختص التحريم بالمرضع و المرضع (2).[و النفقات يصح التوكيل في طرفها إلى من يجب و لا] (3)يصح التوكيل في الإيلاء و الظهار و اللعان لأنها أيمان.و العدد لا يدخلها النيابة و لا يصح فيها التوكيل [و الجنايات لا يصح فيها التوكيل] (3)فكل من باشر الجناية تعلق به حكمها.و القصاص يصح في إثباته التوكيل و لا يصح في استيفائه يحضره الولي و يصح في غيبته عندنا.و الديات يصح التوكيل في تسليمها و تسلمها.و القسامة لا يصح فيها التوكيل لأنها أيمان.و الكفارات يصح التوكيل فيها كما يصح في الزكوات.و قتال أهل البغي للإمام أن يستنيب فيه.و الحدود للإمام أيضا أن يستنيب في إقامتها و لا يصح التوكيل في تثبيتها لأنه لا تسمع الدعوى فيها.ج.

ص: 393


1- الزيادة من ج.
2- بكسر الضاد فى الاول و فتحه فى الثانى.
3- الزيادتان من ج.

و حد القذف حق الآدميين حكمه حكم القصاص يصح التوكيل فيه.و الأشربة لا يصح التوكيل فيها فكل من شرب الخمر فعليه الحد دون غيره.و الجهاد لا يصح النيابة فيه بحال لأن كل من حضر الصف توجه فرض القتال وكيلا كان أو موكلا و قد روى أصحابنا أنه يدخله النيابة على بعض الوجوه و الأقوى أن لا يدخل الجزية التوكيل.[و الذبح يصح التوكيل فيه.و كذا السبق و الرماية لأنه إجارة أو جعل و كلاهما يدخل فيه التوكيل] (1).و الإيمان و النذور لا يصح التوكيل فيها.و القضاء يصح النيابة فيه.و كذا في الشهادات يصح الاستنابة فيها فتكون شهادة على شهادة و ليس ذلك بتوكيل.و الدعوى يصح التوكيل فيها لأن كل أحد لا يكمل للمخاصمة و المطالبة.و العتق و التدبير و الكتابة يصح التوكيل فيها

باب اللقطة و الضالة

قال الله تعالى وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ (2) .و الأصل في ذلك السنة و يمكن الاستدلال عليها من القرآن بما تلوناها

و بقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً (3) .و كل ما يلتقط من الآدميين فحكمه أن يكون حرا سواء وجد في دار الإسلام أو في دار الحرب.فأما اللقطة فإنه يجوز أخذ كل ما كان قيمته دون الدرهم منها من غير ضمان

ص: 394


1- الزيادة من م.
2- سورة يوسف:10.
3- سورة القصص:8.

و لا تعريف و كذا ما يوجد في موضوع خرب مدفونا لا من أثر أهل الزمان و على خلافه ما يوجد في الحرم.و ما يجده الإنسان في غير الحرم و كان درهما فما فوقه فإنه يجب تعريفه سنة فإن لم يجئ صاحبه كان كسبيل ماله إلا أنه يكون ضامنا له متى جاء صاحبه.و الشاة متى وجدها في برية فليأخذها و هو ضامن لقيمتها فإن وجدها في العمران حبسها ثلاثة أيام فإن جاء صاحبها و إلا تصدق بها عنه

باب الزيادات

أما معنى

قوله فَاكْتُبُوهُ في آية المعاملة بالدين أي فاكتبوا الدين في صك كيلا يقع فيه جحود أو نسيان و ليكون ذلك نظرا للذي عليه الحق و للذي له الحق و للشهود فوجه النظر للذي عليه الحق أن يكون أبعد به من الجحود فلا يستوجب النقمة و العقوبة و وجه النظر للذي له الحق أن يكون حقه موثوقا بالصك و الشهود فلا يضيع حقه و وجه النظر للشهود أنه إذا كتب خطه كان ذلك أقوم للشهادة و أبعد من السهو و أقرب إلى الذكر.

مسألة

رُوِيَ عَنْ أَبَانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنٌ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَيَأْتِيهِ غَرِيمُهُ وَ يَقُولُ أَنْقِدْنِي مِنَ الَّذِي لِي كَذَا وَ كَذَا وَ أَضَعُ لَكَ بَقِيَّتَهُ أَوْ يَقُولُ أَنْقِدْنِي بَعْضاً وَ أَمُدُّ لَكَ فِي الْأَجَلِ فِيمَا بَقِيَ فَقَالَ لاَ أَرَى بَأْساً مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ شَيْئاً يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (1) .

ص: 395


1- سورة البقرة:279،و انظر تفسير البرهان 259/1.

مسألة

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: وَ قَدْ سَأَلَهُ يَزِيدُ الْعِجْلِيُّ أَنَّ عَلَيَّ دَيْناً لِأَيْتَامٍ وَ أَخَافُ إِنْ بِعْتُ ضَيْعَتِي بَقِيتُ وَ مَا لِي شَيْءٌ فَقَالَ لاَ تَبِعْ ضَيْعَتَكَ وَ لَكِنْ أَعْطِ بَعْضاً وَ أَمْسِكْ بَعْضاً (1).

وَ عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ: فِيمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَالَ يَقْضِي بِمَا عِنْدَهُ دَيْنَهُ وَ لاَ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ إِلاَّ وَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ (2) .

مسألة

وَ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَفْضَلُ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْإِنْسَانُ فِي اللُّقَطَةِ إِذَا وَجَدَهَا أَنْ لاَ يَأْخُذَهَا وَ لاَ يَتَعَرَّضَ لَهَا فَلَوْ أَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا مَا يَجِدُونَهُ لَجَاءَ صَاحِبُهُ وَ أَخَذَهُ.

وَ سُئِلَ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ يُوجَدُ فِي جَوْفِهَا جَوْهَرٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْمَنَافِعِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَرِّفْهَا الْبَائِعَ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فَالشَّيْءُ لَكَ رَزَقَكَ اللَّهُ إِيَّاهُ (3). و أما ما يكون حكمه حكم اللقطة

فَقَدْ سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَمَّنْ أَوْدَعَهُ اللِّصُّ سَرِقَةً وَ لاَ خَوْفَ عَلَى الْمُودِّعِ فِيهِ فَقَالَ لاَ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَعَلَ وَ إِلاَّ كَانَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يَعْرِفُهَا حَوْلاً فَإِنْ أَصَابَ صَاحِبَهَا وَ إِلاَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُ.5.

ص: 396


1- الكافى 97/5.
2- سورة البقرة:188.و انظر الكافى 95/5.
3- الكافى 139/5.

كتاب الشهادات

في شروطها

لا يجوز للشاهد أن يشهد حتى يكون عالما بما يشهد به حين التحمل و حين الأداء

لقوله تعالى وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1) و قال إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ (2)

وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ هَلْ تَرَى الشَّمْسَ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ. و ما يصير به عالما من وجوه ثلاثة سماعا أو مشاهدة أو بهما.أما ما يقع له به مشاهدة فالأفعال كالغصب و السرقة و القتل و القطع و الرضاع و الولادة و اللواط و الزناء و شرب الخمر فله أن يشهد إذا علم الشاهد و لا يصير به عالما بغير مشاهدة.و أما ما يقع العلم به سماعا فثلاثة أشياء النسب و الموت و الملك المطلق.و أما ما يحتاج إلى سمع و إلى مشاهدة فهو كالشهادة على العقود كالبيع و السلم و الصلح و الإجارات و النكاح و نحو ذلك لا بد فيها من مشاهدة المتعاقدين

ص: 397


1- سورة الاسراء:36.
2- سورة الزخرف:86.

و سماع كلام العقد منهما لأنه لا يمكن تحمل الشهادة قطعا إلا كذلك.و ليس عندنا عقد من العقود من شرطه الشهادة أصلا عند الفقهاء كذلك إلا النكاح وحده (1)و أما الطلاق فمن شرطه إشهاد رجلين عدلين في مجلس واحد.و قال داود الشهادة واجبة على البيع لقوله تعالى وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ (2)

وَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ثَلاَثَةٌ لاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ دَعْوَةٌ مَنْ بَاعَ وَ لَمْ يُشْهِدْ وَ رَجُلٌ دَفَعَ مَالَهُ إِلَى سَفِيهٍ وَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ خَلِّصْنِي مِنْهَا وَ لاَ يُطَلِّقْهَا. و عندنا الآية و الخبر يحملان على الاستحباب

باب تعديل الشهود و من تقبل شهادته

قال الله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ (3) أي اطلبوا أن يشهد لكم شهيدان من رجالكم من رجال المؤمنين و المعنى بالغوا في طلب من يعلم بتعاملكم و هو شهيدان أي رجلان من أهل الفضل و العدل لكي إن اختلفتم يبينا الحق من الباطل بما عرفاه من قبل.و الشهادة العلم و السين للطلب و السؤال و قال شَهِيدَيْنِ و لم يقل رجلين ليستغني عن ذكر عدلين لأنه تعالى قال وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ .و الشهيد اسم للرجل العدل و هو أبلغ من شاهد و العدل هو من ظاهره ظاهر الإيمان و يعرف باجتناب الكبائر و يعرف بالصلاح و العفاف حافظا على الصلوات.و قال مجاهد في قوله تعالى مِنْ رِجالِكُمْ أي من رجالكم الأحرار المسلمين

ص: 398


1- فى ج«الا البيع و النكاح وحدهما».
2- سورة البقرة:282.
3- سورة البقرة:282.

دون الكفار و العبيد و قال شريح و البستي و أبو ثور الحرية ليست شرطا في قبول الشهادة و عندنا هذا هو الصحيح و إنما الإسلام شرط مع العدالة.و لم يقل و استشهدوا شهيدين من رجالكم في ذلك إشعارا بأن الإشهاد كما يعتبر في الدين و السلم يراعى في أشياء كثيرة.

فصل

ثم

قال تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ أي فإن لم يكن الشهيدان رجلين يعني إن لم يحضر من يستأهل أن يكون شهيدا من جملة الرجال رجلين فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ أي فليشهد رجل و امرأتان.و الحكم بالشاهد و المرأتين يختص بما يكون مالا أو المقصود به المال فأما الحدود التي هي حق الله و حقوق الآدميين و ما يوجب القصاص فلا يحكم فيها بشهادة رجل و امرأتين إلا في الرجم و حد الزناء و الدم خاصة لئلا يبطل دم امرئ مسلم فإنه إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان على رجل بالزناء وجب عليه الرجم إن كان محصنا و إن شهد بذلك رجلان و أربع نسوة لا يرجم المشهود عليه بل يحد حد الزاني و إن شهد رجل و ست نسوة بذلك جلدوا كلهم حد القذف.و يجوز شهادة رجل و امرأتين على رجل بالجرح أو القتل غير أنه لا يثبت بشهادتين القود و يجب بها الدية على الكمال فأما شهادتهن بذلك على الانفراد فإنها لا تقبل على حال.و تقبل شهادتهن في الديون و نحوها على ما ذكرناه مع الرجال و على الانفراد.و كذلك عندنا في الشاهد و اليمين حكم الشاهد و المرأتين سواء و هذا في الدين و نحوه مما القصد به المال خاصة.و من شجون الحديث

مَا رُوِيَ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ سَأَلَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ

ص: 399

عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ وَ الْيَمِينِ فَقَالَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ وَ يُحْلَفُ مَعَ ذَلِكَ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَ يُقْضَى لَهُ بِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كَلاَمُ اللَّهِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وَ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ هَلْ فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْيَمِينُ مَعَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَانْقَطَعَ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ أَنْتَ تُحِيرُ الْحُكْمَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَطْ إِذَا عَرَفَ مَنْ يُشْهِدُ شُهُوداً عَلَى نَفْسِهِ وَ هُمْ لاَ يَعْرِفُونَهُ فَلَمْ يُحِرِ جَوَاباً. و لا يجوز أن يشهد الإنسان إلا على من يعرفه فإن أشهد على من لا يعرفه فليشهد بتعريف من يتق الله رجلين مسلمين و إذا أقام الشهادة أقامها كذلك و فحوى الآية تدل على ذلك.و قوله فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ التقدير فإن لم يكن رجلين لكنه ثني لما تقدم ذكر الشهيدين و لو قال فإن لم يكونا لكفى من ذكر الرجلين لكنه أعاد ذكر الرجلين توكيدا و تثبيتا.و في الضمير الذي في كانا فائدة و هو أن يكون كناية عن شهيدين و لو قال فإن لم يكن لجوز السامع ألا تكون العدالة معتبرة هاهنا.و نحوه قوله فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ ثم قال فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ أي فليكن رجلا و امرأتان و لا بد من تقدير حذف المضاف أي فليحدث شهادة رجلين أو امرأتين أو فليكن قاله أبو علي.

فصل

ص: 400

قيل لما كان الضلال سببا للإذكار و الإذكار مسببا عنه و هم ينزلون كل واحد من السبب و المسبب بمنزلة الآخر لالتباسهما و اتصالهما كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار عنه إرادة للإذكار فكأنه قيل إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى أن ضلت و نظيره قولهم أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه و أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه.و قوله تعالى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ فيه ذكر يعود إلى الموصوفين اللذين هما فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ و لا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المقدم ذكرهما لاختلاف إعراب الموصوفين أ لا ترى أن شَهِيدَيْنِ منصوبان و فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ إعرابهما الرفع و إذا كان كذلك علمنا أن الوصف الذي هو ظرف إنما هو وصف لقوله فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ دون من تقدم ذكرهما من الشهيدين.و قوله أَنْ تَضِلَّ لا يتعلق بقوله وَ اسْتَشْهِدُوا و لكن يتعلق أن بفعل مضمر يدل هو عليه أي و استشهدوا رجلا و امرأتين أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى و قيل تقديره فرجل و امرأتان و يكون يشهدون خبر المبتدإ و المفعول الثاني من ذكر محذوف تقديره فتذكر إحداهما الأخرى شهادتهما.و قراءة حمزة على الشرط إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما بالرفع و التشديد كقوله وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ و الشرط و الجزاء وصف المرأتين لأن الشرط و الجزاء جملة يوصف بها كما يوصل بها في قوله اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ (1) الآية.و قال أبو عبيدة معنى أَنْ تَضِلَّ أن تنسى نظيره فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضّالِّينَ (2) أي نسيت وجه الأمر.0.

ص: 401


1- سورة الحج:41.
2- سورة الشعراء:20.

فصل

و من بدع التفاسير فَتُذَكِّرَ أي فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر و المعنى إن لم يحضر رجلان من الشهداء الذين خبرت أحوالهم فحمدت أحوالهم بالكف عن البطن و الفرج و اليد و اللسان و اجتناب شرب الخمر و الزناء و الربا و عقوق الوالدين و غير ذلك يسترون عيوبهم و يتعاهدون الصلوات الخمس و يتوفرون على حضور جماعة المسلمين غير متخلفين عنهم إلا لمرض أو علة أو عذر يستشهد رجل و امرأتان من الشهداء الذين وصفناهم لكي إن نسيت إحدى المرأتين ذكرتها الأخرى و لم يوجب هذا الحكم في الرجال لأنهم من النسيان أبعد و إلى التحفظ و التيقظ أقرب.و يمكن أن يقال في أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما إن المراد أن تنسى إحدى البينتين تذكرها شهادة الأخرى فيكون الكلام عاما في الرجال و النساء و هذا صحيح لأنه لا يجوز أن يقيم الإنسان شهادة إلا على ما يعلم و لا يعول على ما يجد به خطه فإن وجد خطه مكتوبا و لم يذكر الشهادة لم يجز له إقامتها فإن لم يذكر هو و يشهد معه آخر ثقة جاز له حينئذ إقامة الشهادة.و يعتبر في شهادة النساء الإيمان و الستر و العفاف و طاعة الأزواج و ترك البذاء و التبرج إلى أندية الرجال

باب ذكر ما يلزم الشهود

و لما ذكر الله ما يلزم المستشهد من الواجبات و المندوبات ذكر بعده ما يلزم الشهداء

ص: 402

أن من عليه الدين معسر فإن شهد عليه حبسه فاستضر هو به و عياله.و قيل لا يأب الشهداء إذا ما دعوا ليستشهدوا.و إنما قال لهم شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يساوق منزلة الكائن و قد أشار سبحانه بهذا إلى أنه لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشهادة إذا دعي إليها ليشهد بها إذا كان من أهلها إلا أن يكون حضوره مضرا لشيء من أمر الدين أو بأحد من المسلمين.و عن قتادة كان الرجل يطوف بين خلق كثير فلا يكتب له أحد فنزل وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ كنى بالسأم عن الكسل لأن الكسل صفة للمنافق

وَ مِنْهُ الْحَدِيثُ: لاَ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ كَسِلْتُ. و يجوز أن يراد من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتابا فربما قل كثرة الكتب.و الضمير في تَكْتُبُوهُ للدين أو للحق صَغِيراً أَوْ كَبِيراً على أي حال كان الحق من صغير أو كبير و يجوز أن يكون الضمير للكتاب و أن يكتبوه مختصرا أو مشبعا.و لا تخلوا بكتابته إلى أجله أي إلى وقته الذي اتفق الفريقان على تسميته قال الزجاج هذا يؤكد أن الشهادة ابتداء واجبة و المعنى لا تسأموا أن تكتبوا ما شهدتم عليه و لا حاجة إلى ما يؤكد به وجوب إقامة الشهادة.و قال ابن جريح عذرا للأول لا تَسْئَمُوا خطاب للمتداينين يقول اكتبوا ما تتعاملون عليه بدين صغيرا كان الحق أو كبيرا ذلِكُمْ إشارة إلى ما تكتبوه لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب أَقْسَطُ أي أعدل من القسط وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ و أعون على إقامة الشهادة وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا أي أقرب من انتفاء الريب و إنما قال إنه أصوب للشهادة لأن الشهادة حينئذ أقرب إلى أن تأتوا بألفاظ المستدين و ما

ص: 403

يقع عليهم غلط النسيان و أنتم مع هذا أقرب إلى أن تشكوا فيما يشهد به الشهود عليكم من الحق و الأجل إذا كانا مكتوبين.

فصل

و قد ذكر الله سبحانه في أول هذه الآية قبل الأمر بالاستشهاد النهي عن الامتناع من الكتابة قال وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ و النهي يقتضي تحريم الامتناع و قال عامر الشعبي هو فرض على الكفاية كالجهاد.و جوز الجبائي أن يأخذ الكاتب و الشاهد الأجرة على ذلك و عندنا لا يجوز ذلك للشاهد.و الورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين و يكون الكتاب في يده لأنه له و قال السدي ذلك واجب على الكاتب في حال فراغه و قال مجاهد هو واجب و قال الضحاك نسخها قوله تعالى وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ .و قوله تعالى أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ يعني الكاتب وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أمر لمن عليه الحق بالإملاء وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ معناه لا يملل إلا الذي عليه الحق و المراد بالأمر الذي عليه الدين بالإملاء الندب دون الإيجاب لأنه لو أملى غيره و أشهد هو كان جائزا بلا خلاف و لا ينقص منه شيئا و البخس النقص ظلما و منه قوله وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم ظالمين لهم و البخس فوق الغبن و في هذا إيجاز و حذف لأن المدين المملي إن أراد أن يحط في إملائه من المال شيئا فإن الدائن يمنعه ذلك و إن تمكن من النقصان بوجه من الوجوه إما بحيلة يحتالها و إما بغباوة يكون من صاحب الدين فلا يفعلن ذلك خشية من عقاب الله. وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ ذكر بتنكير كاتب أي لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب مثل ما علمه الله كتابهم و قيل هو كقوله وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ أي ينفع

ص: 404

الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.و كَما عَلَّمَهُ اللّهُ يجوز أن يتعلق ب أَنْ يَكْتُبَ و بقوله فَلْيَكْتُبْ .فإن قيل أي فرق بين الوجهين.قلنا إن علقته بأن يكتب فقد نهي عن الامتناع من الكتابة المقيدة ثم قيل له فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد و إن علقته بقوله فَلْيَكْتُبْ فقد نهي عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ثم أمر بها مقيدة وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ و لا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته و إقراره به.و الإملال و الإملاء لغتان قد نطق بهما القرآن.

فصل

ثم

ص: 405

ضعيفا صبيا أو شيخا مخبلا و لا يستطيع أن يمل هو أي غير مستطيع الإملاء بنفسه لعي أو خرس فليملل وليه الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيها أو وكيل إن كان غير مستطيع أو ترجمان يمل عنه و هو يصدقه.و الهاء في قوله وَلِيُّهُ عائدة إلى السفيه في قول الضحاك و ابن زيد الذي يقوم مقامه بأمره لأن الله أمر أن لا يؤتى السفهاء أموالهم و أمر أن لا يقام لها بها و قال الربيع يرجع إلى ولي الحق و الأول أقوى.و إذا أشهد الولي على نفسه فلا يلزمه المال في ذمته بل يلزم ذلك في مال المولى عليه.

فصل

ص: 406

و التجارة حاضرة و ما معنى إدارتها بينهم.قيل أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال و معنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد و المعنى إلا أن يتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا يكتبوا لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين.و أما قوله وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ فهو أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا و كاليا لأنه أحوط و أبعد مما عسى يقع من الاختلاف و يجوز أن يراد و أشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كان فيه دون الكتابة.

فصل

و

ص: 407

باب في تحمل الشهادة و آدابها

أما التحمل فإنه فرض في الجملة فمن دعي إلى تحمله في بيع أو نكاح أو غيرهما من عقد أو دين لزمه التحمل

لقوله وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا و لم يفرق و لقوله وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ فإن أهل التفسير تأولوا هذا الكلام بثلاث تأويلات.فقال ابن عباس معناه لا يضار الشاهد و الكاتب لمن يدعوه إلى تحملها و لا يحتج عليه بأن لي شغلا أو خاطب غيري فيها.و منهم من قال لا يضر الشاهد بمن يشهد له فيؤدي غير ما تحمل و لا يضر الكاتب بمن يكتب له فليكتب غير ما قيل له.و منهم من قال لا يضار بالشاهد الكاتب من يستدعيه فيقول له دع أشغالك و اشتغل بشغلي لحاجتي.فإذا ثبت أن التحمل فرض على الجملة فإنه من فروض الكفايات إذا قام بها بعض سقط عن الباقين كالجهاد و الصلاة على الموتى و رد السلام.و قد يتعين التحمل و هو إذا دعي لتحملها على عقد النكاح أو على دين أو غيره و ليس هناك غيره فحينئذ يتعين عليه التحمل كما يتعين في الصلاة على الجنائز و الدفن و رد السلام.

فصل

و أما الأداء فإنه في الجملة أيضا من الفرائض

ص: 408

و يمكن أن يستدل بها على وجوب التحمل و على وجوب الأداء على ما قدمناه و هي بوجوب الأداء أشبه فإنه تعالى سماهم شهداء و نهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها و إنما يسمى شاهدا بعد تحملها حقيقة.و هو من فروض الكفايات إذا كان هناك خلق و قد عرفوا الحق و صاروا به شاهدين فإذا قام به اثنان سقط الفرض عن الباقين كالصلاة على الجنائز و قد يتعين الفرض فيه و هو إذا لم يتحمل الشهادة إلا اثنان أو تحملها خلق و لم يبق منهم إلا اثنان تعين عليهما الأداء كما لو لم يبق من قرابة الميت إلا من يطيق الدفن فإنه يتعين الفرض عليه.فإذا ثبت هذا فالكلام في بيان فرائض الأعيان و الكفايات و جملته أنه لا فرق و لا فصل بين فرائض الأعيان و الكفايات ابتداء و أن الفرض يتوجه على الكل في الابتداء لأنه إذا زالت الشمس توجهت صلاة الظهر على الكل و إذا مات في البلد ميت توجه فرض القيام به على الكل و إنما يفترقان في الثاني و هو إنما كان من فرائض الأعيان لا يتعين و فروض الكفاية إذا قام بها قوم سقط الفرض عن الباقين لأن المقصود دفن الميت فإذا دفن لم يبق وجوب دفنه بعد أن دفن على أحد.

فصل

و كل عقد يقع من دون الإشهاد و إن كان فعلى سبيل الاحتياط إلا الطلاق فإنه لا يقع إلا بالإشهاد على ما نذكره في بابه مع أنه ليس بعقد

ص: 409

على الرجعة أولى و يجوز عند أكثرهم بغير إشهاد و إنما ذكر الله الإشهاد كما ذكر في قوله وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ و هو على الندب فأما في الطلاق فهو محمول على الوجوب.ثم قال وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ إذا طولبتم بإقامتها و لكم معاشر المكلفين يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و إنما أضاف الوعظ إلى من يؤمن بالله و اليوم الآخر دون غيره لأنه الذي ينتفع به دون الكافر الجاحد لذلك

باب شهادة كل ذي قرابة لمن يقرب منه و عليه و ذكر من تقبل شهادته منهم

كل من كان عدلا فشهادته جائزة إلا ما يشينه و كذلك إقرار العاقل على نفسه فيما يوجب حكما في الشرع سواء كان مسلما أو كافرا مطيعا أو عاصيا أو فاسقا و على كل حال إلا أن يكون عبدا و يمكن أن يستدل عليه من الآيات المتقدمة فليتأملها.فأما شهادة ذوي الأرحام و القرابات بعضهم لبعض فجائزة إذا كانوا عدولا من غير استثناء أحد لأنه تعالى شرط العدالة في

قوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ و لم يشترط سواها و يدخل في عموم هذا القول ذوو القرابات كلهم و كذلك قوله وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ يدل أيضا عليه.و الذي يدل على جواز شهادة الإنسان على أقربائه خاصة قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (1) فإن الله لما حكى عن الذين سعوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله في أمر بني أبيرق و قيامهم بالعذر و ذبهم عنهم من حيث كانوا أصحاب فقر و فاقة

ص: 410


1- سورة النساء:135.

أمر بعده المؤمنين بهذه الآية أن يلزموا العدل و أن يكونوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ أي العدل شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يعني و لو كانت شهادتكم على أنفسكم أو على آبائكم و أمهاتكم أو على أقرب الناس إليكم و قوموا فيها بالعدل و أقيموا على صحتها و قولوا فيها بالحق و لا تميلوا فيها لغنى غني و لا فقر فقير فتجوروا فإن الله ساوى بين الغني و الفقير فيما ألزمكم من إقامة الشهادة لكل واحد منهما في ذلك و في غيره من الأمور كلها منكم فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغني أو فقير إلى أحدهما فتعدلوا عن الحق أي تجوروا عنه و تضلوا و لكن قوموا بالقسط و أدوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه و له.و نصب شهداء على الحال من الضمير في قوله قَوّامِينَ و هو ضمير اَلَّذِينَ آمَنُوا و يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكونوا كقولهم هذا حلو حامض و يجوز أن يكون صفة للقوامين و المعنى كونوا قوامين بصفة من يصلح أن يكون شهيدا على سائر عباده.

فصل

فإن قيل كيف تكون شهادة الإنسان على نفسه حتى يأمر الله بذلك.قلنا بأن يكون عليه حق لغيره فيقر له به و لا يجحده فأدب الله المؤمنين أن لا يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا أو خيانتهم ما خانوا و إضافتهم ذلك إلى غيرهم فهذا الذي اختاره الطبري و نذكر في باب القضايا.و قال السدي إنما نزلت و قد اختصم رجلان إلى عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غني و فقير فكان صلّى اللّه عليه و آله مع الفقير لظنه أن الفقير لا يظلم الغني فأبى سبحانه إلا القيام بالقسط في أمر الغني و الفقير

ص: 411

و هذا الوجه فيه بعد لأن النبي لا يجور في الحكم و لا يميل إلى أحد الخصمين سواء كان غنيا أو فقيرا لأن ذلك ينافي عصمته.فعلى هذا لا بأس بشهادة الأخ لأخيه و عليه و شهادة الوالد لولده و عليه و شهادة الرجل لزوجته و عليها و كذا لا بأس بشهادتها له و عليه فيما يجوز قبول شهادة النساء فيه إذا كان مع كل واحد منهم غيره من أهل الشهادة.و لا تقبل شهادة واحد منهم لصاحبه مع يمينه كما جاز مع الأجنبي فأما شهادة الولد لوالده و عليه فالمرتضى يجيزها أيضا على كل حال و إذا كان معه غيره من أهل الشهادات فظاهر الآية معه و إن كانت شهادة الإنسان على نفسه مجازا لأنها إقرار على نفسه و شهادته على أقربائه و الوالدين حقيقة فإن الكلمة الواحدة تذكر و يراد بها الحقيقة و المجاز معا إذ لا مانع و جمهور فقهائنا أيضا على ذلك لعموم الآيتين اللتين قدمناهما إلا شهادة الولد على والده فإنهم لا يجوزونها لخبر يروونه.و عذرهم في تأويل هذه الآية

"مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقُولُوا الْحَقَّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ آبَائِهِمْ أَوْ أَبْنَائِهِمْ لاَ يَمِيلُونَ إِلَى غَنِيٍّ لِغِنَاهُ وَ لاَ إِلَى فَقِيرٍ لِفَقْرِهِ. قالوا و هذا أولى لأنه أليق بالظاهر على كل وجه من غير عدول عنه و هو أمر بقبول الحق و فعله و ملازمة العدل و الأمر به.

فصل

و مما يؤكد القول الأول ما روي عن الحسن أنه قال يعني بالآية الشهادة خاصة

ص: 412

و قال ابن شهاب كان سلف المؤمنين على جواز شهادة كل ذي قرابة لمن تقرب منه و عليه حتى دخل الناس فيما بعدهم و ظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم إذا كان من أقربائهم.و الاعتماد في المنع من شهادة الأقارب على التهمة التي تلحق لأجل النسب غير صحيح لأنه يلزم على ذلك أن لا تقبل شهادة الصديق لصديقه و لا الجار لجاره لأن التهمة متطرقة على أن العدالة مانعة من التهمة و حاجزة عنها.

وَ مَا رُوِيَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ وَ الْخَصْمِ وَ الْخَائِنِ وَ الْأَجِيرِ لَهُ مَا لَمْ يُفَارِقْهُ وَ لاَ شَهَادَةُ مَنْ خَالَفَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَ إِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ السُّنَنِ وَ الْعَفَافِ. فليس ذلك مستخرجا من اجتهاد أو عفاف و إنما هو أيضا نص إلهي به و يمكن أن يستدل من الآيات المتقدمة على ذلك و قال تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فبين صلّى اللّه عليه و آله كما علمه الله تعالى.

فصل

أما شهادات القرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا فقد ذكرنا أن دليلنا

ص: 413

الولد برق أمه و إن كان الأب جزءا على بعض الوجوه و يحرر بحرية الأم و إن كان الأب عبدا كذلك و إلا لم يسر حكم واحد منهما إلى صاحبه هنا و لذلك تقبل شهادة العبيد لساداتهم إذا كان العبيد عدولا [و يقتل أيضا على غيرهم و بهم و لا يقتل على ساداتهم العبيد و إن كان العبيد عدولا] (1)و دليلنا عليه إجماع الفرقة.و يمكن أن يستدل من القرآن على ذلك أيضا و لو كنا ممن يثبت الأحكام بالأقيسة لكان لنا أن نقول إذا كان العبد العدل بلا خلاف تقبل شهادته على رسوله و على آله في رواية عنه و عنهم فلأن تقبل شهادته على غيره أولى على أن العبيد العدول داخلون في عموم الآية و يحتاج في إخراجهم منها إلى دليل.و لا يعترض على هذا بالنساء لأنهن داخلات في الظواهر التي ذكرناها مثل قوله ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ و قوله شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فأخرجن النساء من هذه الظواهر لأنهن ما دخلن فيها.و كذلك شهادة الأعمى مقبولة إذا كان عدلا لأن الأعمى داخل في ظواهر الآيات و لا يمنع عماه من كونها متناولة له.و معول من خالفنا في هذه المسألة على أن الأعمى تشتبه عليه الأصوات و هذا غلط فاحش لأن الضرير يعرف زوجته و والديه و أولاده ضرورة و لا يدخل عليه شك في ذلك كله و لو كان لا سبيل له إلى ذلك لم يحل له وطء زوجته لتجويزه أن تكون غير من عقد عليها.و إن استدل المخالف بقوله وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (2) فالجواب عنه أن الآية مجملة لم تذكر ما يستوون فيه و ادعاء العموم فيما لم يذكر غير صحيح و ظواهر آيات الشهادة تتناول الأعمى كتناولها البصير إذا كان عدلا لأن قوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ

عَدْلٍ مِنْكُمْ و اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ يدخل فيه الأعمى كدخول البصير فإن كان الذي يشهد عليه يحتاج فيه إلى الرؤية حتى تصح الشهادة فيه فلا تقبل حينئذ شهادة الأعمى فيه فإن كان في وقت إشهاد الأعمى كان صحيحا ثم عمي فشهادته مقبولة في ذلك أيضا.9.

ص: 414


1- الزيادة من م.
2- سورة فاطر:19.

عَدْلٍ مِنْكُمْ و اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ يدخل فيه الأعمى كدخول البصير فإن كان الذي يشهد عليه يحتاج فيه إلى الرؤية حتى تصح الشهادة فيه فلا تقبل حينئذ شهادة الأعمى فيه فإن كان في وقت إشهاد الأعمى كان صحيحا ثم عمي فشهادته مقبولة في ذلك أيضا.

فصل

و قد مست الحاجة هاهنا و في مواضع كثيرة من كتابنا هذا إلى أن يفرق بين العموم و المجمل لتتمشى تلك الاستدلالات التي أوردناها اعلم أن الفرق بين العموم و المجمل هو أن كل لفظ فعل لأجل ما أريد به فهو عموم و كل لفظ فعل لأجل ما أريد و ما لم يرد فهو مجمل.مثال الأول قوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1) .فلو خلينا و تلك الآية لقلنا اليهودي و النصراني مثل الوثني و كل من تناوله هذا الاسم و كنا فاعلين بموجب اللفظ و هو العموم.و أما مثال الثاني فهو قوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ (2) فلو فعلنا كل صلاة لكنا فاعلين ما لم يرد منا و كذلك قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (3) فإنه لا يجب أن يؤخذ كل صدقة بل صدقة مخصوصة.

وَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: أَقِيمُوا الشَّهَادَةَ عَلَى الْوَالِدِ وَ الْوَلَدِ وَ لاَ تُقِيمُوهَا عَلَى الْأَخِ فِي الدِّينِ لِلصَّبْرِ قُلْتُ وَ مَا الصَّبْرُ قَالَ إِذَا تَعَدَّى فِيهِ صَاحِبُ الْحَقِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ قِبَلَهُ خِلاَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ3.

ص: 415


1- سورة التوبة:5.
2- سورة البقرة:43.
3- سورة التوبة:103.

بِهِ وَ رَسُولُهُ (1). و مثال ذلك أن يكون لأحد على آخر دين و هو معسر و قد أمر الله بإنظاره حتى يتيسر قال فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (2) و يسألك أن تقيم الشهادة له و أنت تعرفه بالعسر فلا يحل لك أن تقيم الشهادة في حال العسر و قال لا تشهد بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك.و كلام الشيخ أبي جعفر الطوسي أن شهادة الولد لوالده جائزة و لا تجوز عليه فدليله الحديث النبوي الذي رواه المعصومون من أهل بيته فهو بيان لما أجمله الله في كتابه و يخصص به كثير من عموم القرآن.و أما الآية التي يرى أنها دالة على خلاف هذا و هي قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ (3) فهي و قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا (4) فالخطاب للولاة أي كونوا قوامين لأجل طاعة الله بالعدل و الحكم في حال كونكم شهداء أي وسائط بين الخالق و الخلق أو بين النبي و أمته كما قال وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ (5) فالقائم بتنفيذ أحكام الله بين خلقه إذا وفى بما عليه من حقه فهو شهيد لله على من وليه و الرسول شهيد عليه بما نقله إليه.و الباء في قوله بِالْقِسْطِ متعلقة ب قَوّامِينَ أي كونوا قوامين بالقسط3.

ص: 416


1- وسائل الشيعة:142/15.
2- سورة البقرة:280.
3- سورة النساء:135.
4- سورة المائدة:8.
5- سورة البقرة:143.

شهداء بالعدل لله يعني دوموا على فعل العدل و الحق و ليكن ذلك منكم لله لا لأمر آخر.و قال أبو مسلم يجوز أن تكون الشهادة هاهنا بمعنى الحضور فيكونوا مأمورين بإقامة الحق و العدل و تحضروا المواضع التي تحضرونها لذلك لا تدعونه في وقت و لا حال أي شاهدوا من شاهدتم بالحق دون غيره و لا تزولوا عنه أبدا.و في تغاير ترتيب الآيتين مع الاتفاق في الألفاظ خبيئة لطيفة فليتأملها يقف عليها إن شاء الله

باب شهادة من خالف الإسلام

و لما بين الله تعالى في آي كثيرة أنه لا يجوز قبول شهادة من خالف الإسلام على المسلمين في حال الاختيار أجاز تعالى قبول شهادتهم في حال الضرورة في الوصية خاصة

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ (1) فاللذان منكم مسلمان و اللذان من غيركم ذميان من أهل الكتاب.و قد قرئ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ (2) أي ليقيم شهادة بينكم اثنان كما أن من رفع فنون أو لم ينون فهو على نحو من هذا أي مقيم شهادة بينكم أو شهادة بينكم اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي ينبغي أن تكون الشهادة المعتمدة هكذا.و قرئ و لا يكتم شهادة الله الله على الوجهين فالقصر بالجر حذف منه حرف القسم و بالمد عوض منه همزة الاستفهام كأنه قال القسم بالله أنا إذا لمن

ص: 417


1- سورة المائدة:106.
2- بتنوين«شهادة».

الظالمين و في مجيء القسم و حرف الاستفهام قبله تهيب.

وَ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَ أَخُوهُ عَدِيٌّ نَصْرَانِيَّيْنِ وَ كَانَ مَتْجَرُهُمَا إِلَى مَكَّةَ فَلَمَّا هَاجَرَ [رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَدِمَ ابْنُ أَبِي مَارِيَةَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ] (1)وَ هُوَ يُرِيدُ الشَّامَ تَاجِراً فَخَرَجَ هُوَ وَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَ أَخُوهُ عَدِيٌّ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطُّرُقِ مَرِضَ ابْنُ أَبِي مَارِيَةَ فَكَتَبَ وَصِيَّةً بِيَدِهِ بِحَيْثُ لاَ يَدْرِي بِهَا أَحَدٌ وَ دَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ وَ دَفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِمَا وَ أَوْصَى إِلَيْهِمَا وَ قَالَ أَبْلِغَا هَذَا أَهْلِي فَلَمَّا مَاتَ فَتَحَا الْمَتَاعَ وَ أَخَذَا مَا أَعْجَبَهُمَا مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا بِبَاقِي الْمَالِ إِلَى الْوَرَثَةِ فَلَمَّا فَتَّشَ الْقَوْمُ الْمَالَ نَظَرُوا إِلَى الْوَصِيَّةِ وَ فَقَدُوا بَعْضَ مَا كَانَ فِيهَا وَ لَمْ يَجِدُوا الْمَالَ تَامّاً فَكَلَّمُوا تَمِيماً وَ صَاحِبَهُ فَقَالاَ لاَ عِلْمَ لَنَا بِهِ وَ مَا دَفَعَهُ إِلَيْنَا أَبْلَغْنَاهُ كَمَا هُوَ فَرَفَعُوا أَمَرَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. و مثله ذكر الواقدي (2).و قيل في معنى الشهادة هاهنا ثلاثة أقوال أحدها الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام مصدر شهد يشهد إذا أظهر ما عنده من العلم بالشيء المتنازع فيه لإبانة حق عند حاكم أو غيره.الثاني شهادة الحضور لوصيين.الثالث شهادة إيمان بالله إذا ارتاب الورثة بالوصيين من قول القائل أشهد الله إني لمن الصادقين.و الأولى أقوى و أليق بالقصة.و في كيفية الشهادة قولان أحدهما أن يقول صحيحا كان أو مريضا إذا حضرني الموت فافعلوا كذا2.

ص: 418


1- الزيادة من ج.
2- انظر القصة في تفسير البرهان 508/1 و اسباب النزول للواحدى ص 142.

و كذا ذكره الزجاج.الثاني إذا حضر أسباب الموت من المرض.

فصل

و

قوله تعالى شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قيل في رفعه ثلاثة أقوال أحدها أن يكون بالابتداء و تقديره شهادة بينكم شهادة اثنين و يرتفع اثنان بأنه خبر الابتداء ثم حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و قال أبو علي الفارسي و اتسع في بين و أضيف إليه المصدر و ذلك يدل على قول من يقول إن الظرف الذي يستعمل اسما يجوز أن يستعمل اسما في غير الشعر كما قال لقد تقطع بينكم (1)فيمن رفع.الثاني على تقدير محذوف و هو عليكم شهادة بينكم أو مما فرض عليكم شهادة بينكم و يرتفع اثنان بالمصدر ارتفاع الفاعل بفعله و تقديره أن يشهد اثنان.الثالث أن يكون الخبر إذا حضر فعلى هذا لا يجوز أن يرتفع اثنان بالمصدر (2)لأنه خارج عن الصلة بكونه بعد الخبر لكن على تقدير ليشهد اثنان و لا يجوز أن يتعلق إذا حضر بالوصية لأمرين أحدهما أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف لأنه لو عمل فيما قبله للزم أن يقدر وقوعه في موضعه فإذا قدر ذلك لزم تقديم المضاف إليه على المضاف و من ثم لم يجز القال زيد حين يأتي و الآخر أن الوصية مصدر لا يتعلق به ما تقدم عليه.و قوله إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني قرب أحدكم الموت كما قال حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ (3) و قال حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ

تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا (1) و قال حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (2) فكل ذلك يريد المقاربة و لو لا ذلك لما أسند إليه القول بعد الموت.8.

ص: 419


1- سورة الانعام:94.
2- الزيادة من ج.
3- سورة النساء:18.

تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا (1) و قال حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (2) فكل ذلك يريد المقاربة و لو لا ذلك لما أسند إليه القول بعد الموت.

فصل

و أما قوله حِينَ الْوَصِيَّةِ فلا يجوز أن يحمل على الشهادة لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم يعمل في ظرف آخر منه و يمكن حمله على ثلاثة أشياء أحدها أن تعلقه بالموت كأنه قال و الموت في ذلك الحين بمعنى قرب منه الثاني على حضر أي إذا حضر في هذا الحين الثالث أن يحمله على البدل من إذا لأن ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان فيبدله منه فيكون بدل الشيء من الشيء إذا كان إياه.و قوله اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ خبر المبتدإ الذي هو شهادة و تقديره شهادة بينكم شهادة اثنين على ما قدمناه لأن شهادة لا تكون إلا من اثنين على الغالب.و قوله مِنْكُمْ صفة لقوله اِثْنانِ كما أن ذوي عدل صفة لهما و في الظرف ضمير و في مِنْكُمْ قولان أحدهما ما قال ابن عباس أي من المسلمين و هو قول الباقر و الصادق عليهما السّلام الثاني قال عكرمة من حي لموصي و الأول ظاهر واضح و هو اختيار الرماني لأنه لا حذف فيه.و قوله تعالى أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ تقديره أو شهادة آخرين من غيركم و حذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه و مِنْ غَيْرِكُمْ صفة للآخرين أي آخران كائنان من غيركم.و قيل في معنى غيركم قولان أيضا أحدهما قال ابن عباس و جماعة إنهما من غير أهل ملتكم و هو قولهما عليهما السّلام الثاني قال الحسن أي من غير9.

ص: 420


1- سورة الانعام:61.
2- سورة المؤمنون:99.

عشيرتكم لأن عشيرة الموصي أعلم بأحواله من غيرهم و هو اختيار الزجاج قال لأنه لا يجوز قبول شهادة الكافرين مع كفرهم و فسقهم و كذبهم على الله.و معنى أو للتفصيل لا للتخيير لأن المعنى و آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم و هو قول أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السّلام و جماعة و قال قوم هو بمعنى التخيير ضمن ائتمنه الموصي من مؤمن أو كافر.و قوله إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ بمعنى إن أنتم سافرتم كما قال وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (1) .

فصل

و قوله تعالى فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما فيه محذوف و تقديره و قد أسندتم الوصية إليهما فارتاب الورثة بهما.و قوله تَحْبِسُونَهُما خطاب للورثة و الهاء في به تعود إلى القسم بالله.و الصلاة المذكورة في هذه الآية قيل فيها ثلاثة أقوال أحدها أنها صلاة العصر و هو قول أبي جعفر الباقر عليه السّلام الثاني قال الحسن هي الظهر أو العصر و كل هذا لتعظيم حرمة وقت الصلاة على غيره من الأوقات و قيل لكثرة اجتماع الناس كان بعد صلاة العصر الثالث قال ابن عباس صلاة أصل دينهما يعني في الذميين لأنهم لا يعظمون أوقات صلاتنا.و قوله فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ الفاء دخلت لعطف جملة على جملة إِنِ ارْتَبْتُمْ في قول الآخرين اللذين ليس من أهل ملتكم أو من غير قبيلة الميت فغلب في ظنكم خيانتهم و لا خلاف أن الشاهد لا يلزمه اليمين إلا أن يكونا شاهدين على وصية مسندة إليهما فيلزمهما اليمين لأنهما مدعيان.1.

ص: 421


1- سورة النساء:101.

و قوله تعالى لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً لا نَشْتَرِي جواب ما يقتضيه قوله فَيُقْسِمانِ لأن أقسم و نحوه يتلقى بما يتلقى به الأيمان.و معنى لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنا فحذف المضاف و ذكر الشهادة لأن الشهادة قول كما قال وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى (1) ثم قال فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ و إنما يرزق من التركة و تقديره لا نشتري به ثمنا لا نشتري به ذا ثمن أ لا ترى أن الثمن لا يشترى و إنما الذي يشترى المبيع دون ثمنه و كذلك قوله اِشْتَرَوْا بِآياتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً (2) أي ذا ثمن و المعنى أنهم آثروا الشيء القليل و انقاد له من ابتاع و ليس المعنى هنا على الانقياد و إنما هو على التمسك به و الإيثار له على الحق.و قوله وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى تقديره و لو كان المشهود له ذا قربى و خص ذا القربى بالذكر لميل الناس إلى قراباتهم و من يناسبونه.و قوله وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (3) و إنما أضاف الشهادة إلى الله في قوله شَهادَةَ اللّهِ لأمره بها و بإقامتها و النهي عن كتمانها في قوله وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (4) و قوله أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ (5) .

فصل

و قوله تعالى فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ (6) قد ذكرنا سبب نزول7.

ص: 422


1- سورة النساء:8.
2- سورة التوبة:9.
3- سورة المائدة:106.
4- سورة البقرة:283.
5- سورة الطلاق:2.
6- سورة المائدة:107.

هذه الآية روي أنها لما نزلت أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يستحلفوهما بأن يقولا و الله ما قبضنا له غير هذا و لا كتمناه ثم ظهر على إناء من فضة منقوش مذهب معهما فقالوا هذا من متاعه فقالا اشتريناه منه فارتفعوا إلى رسول الله فنزل قوله فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ فأمر رسول الله رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما و غيبا فحلف عبد الله بن عمرو و المطلب بن أبي وداعة فاستحقا ثم إن تميما أسلم و بايع رسول الله فكان يقول صدق رسول الله و بلغ رسول الله أنا أخذت الإناء (1).و معنى عثر ظهر عليه تقول عثرت على خيانته و أعثرت عيني على خيانته و أعثرت غيري على خيانته أي أطلعته و منه قوله وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ (2) و أصله الوقوع بالشيء.و قوله عَلى أَنَّهُمَا يعني أن الوصيين المذكورين أولا في قوله اِثْنانِ في قول ابن جبير و قال ابن عباس على الشاهدين استحقا إثما بمعنى خانا و ظهر و علم منهما ذلك فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما يعني من الورثة في قول ابن جبير مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ .و قيل في قوله اَلْأَوْلَيانِ ثلاثة أقوال أحدها الأوليان بالميت عن ابن جبير الثاني قال ابن عباس الأوليان بالشهادة و هي شهادة الأيمان الثالث قال الزجاج الأوليان أن يحلفا من غيرهما و هما النصرانيان و يقال هو الأولى بفلان ثم حذف بفلان فيقال هو الأولى و هذان الأوليان كما يقال هو الأكبر بمعنى الكبير و هذان الأكبران.1.

ص: 423


1- تفسير البرهان 508/1.
2- سورة الكهف:21.

فصل

و قوله اَلْأَوْلَيانِ في رفعه ثلاثة أقوال أحدها بأنه اسم ما لم يسم فاعله المعنى استحق عليهم إثم الأولين أي استحق منهم فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه.الثاني بأنه بدل من الضمير في يَقُومانِ على معنى فليقم الأوليان من الذين استحق عليهم الوصية و هو اختيار الزجاج.الثالث بدل من قوله فَآخَرانِ و زعم الكوفيون أنه لا يجوز إبداله من آخرين لتأخير العطف في قوله فَيُقْسِمانِ لأنه يصير بمنزلة مررت برجل قام زيد و قعد و قال الرماني يجوز على العطف بالفاء جملة على جملة و قال الفارسي يجوز أن يكون رفعا بالابتداء و قد أخر و تقديره فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله أو من أهل دينه يقومان مقام الخائنين اللذين من عثر عليهما كقولك تميمي أنا.و يجوز أن يكون خبرا لابتداء محذوف و تقديره آخران يقومان مقامهما هما الأوليان.و اختار الأخفش أن يكون اَلْأَوْلَيانِ صفة لقوله فَآخَرانِ لأنه لما وصف اختص فوصف لأجل الاختصاص بما وصف به المعارف.فأما الجمع (1)على اتباع اللذين و موضعه الجر و تقديره من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء و الإثم.و إنما قيل هم الأولين من حيث كانوا الأولين في الذكر أ لا ترى أنه قد تقدم».

ص: 424


1- يعنى بالجمع قراءة من قرأ«الاوليين»جمع أول،و هى قراءة حمزة و ابى بكر و يعقوب و خلف«ه ج».

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ و كذلك اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ذكرا في اللفظ قبل قوله أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ و حجتهم (1)في ذلك أن قالوا أ رأيت إن كان الأوليان صغيرين أراد بهما إذا كانا صغيرين لم يقوما مقام الكبيرين في الشهادة و لم يكونا لصغرهما أولى بالميت و إن كانا لو كانا كبيرين كانا أولى به.و إنما قال اِسْتَحَقّا إِثْماً شلأن آخذه يأخذ آثم فسمي إثما كما يسمى ما يؤخذ منك مظلمة قال سيبويه المظلمة اسم ما يؤخذ منك فكذلك يسمى هذا المأخوذ باسم المصدر.

فصل

و قيل في معناه استحقا عذاب إثم فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه

كقوله تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ (2) أي بعقاب إثمي و عقاب إثمك.و قيل في معنى عليهم ثلاثة أقوال أحدها أن يكون على بمعنى من كأنه قال من الذين استحق منهم الإثم كما قال إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ (3) و معناه من الناس.الثاني أن يكون المعنى كما يقول استحق على زيد مال الشهادة أي لزمه و وجب عليه الخروج [منه لأن الشاهدين كما عثر على حياتهما استحق عليهما بأولياه من آخر الشهادة و القيام بها و وجب عليهما الخروج مما وجب] (4)عليه.الثالث أن يكون على بمنزلة في كأنه استحق فيهم و قام على مقام فيم.

ص: 425


1- اى حجة القارئين على الجمع«ه ج».
2- سورة المائدة:29.
3- سورة المطففين:2.
4- الزيادة من م.

و المعنى من الذين استحق عليهم بشهادة الآخرين اللذين هما من غيرنا.فإن قيل هو يجوز أن يسند استحق فيه إلى الأوليان.قلنا لا يجوز ذلك لأن المستحق إنما تكون الوصية أو شيئا منها و لا يجوز أن يستحق الأوليان و هما الأوليان بالميت فالأوليان بالميت لا يجوز أن يستحقا فيسند استحق عليهما.و قوله فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ أي يحلفان بالله.و قوله لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما جواب القسم التي في قوله فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ و ما اعتدينا فيما قلنا إن شهادتنا أحق من شهادتهما إنا إن اعتدينا لمن الظالمين لنفوسنا و هذه أصعب آية إعرابا.فإن قيل كيف يجوز أن يقف أولياء الميت على كذب الشاهدين و خيانتهما حتى يحل أن يحلفا.قيل يجوز ذلك لوجوه أحدها أن يسمعوا إقرارهما بالخيانة من حيث لا يعلمان أو يشهد عندهم شهود عدول بأنهم سمعوهما يقران بأنهما كذبا أو خانا و تقوم البينة عندهما على أنه أوصى بغير ذلك أو أن هذين لم يحضرا الوصية و إنما حضرا بغير ذلك من الأسباب.

فصل

قال تعالى ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها (1) معناه ذلك الإحلاف و الاقتسام أو ذلك الحكم أقرب أن تأتوا بالشهادة على وجهها أي حقها و صدقها لأن اليمين تردع عن أمور كثيرة لا يرتدع عنها مع عدم اليمين.و اختلفوا في أن اليمين هل تجب على كل شاهدين أم لا قال ابن عباس إنما8.

ص: 426


1- سورة المائدة:108.

هي على الكافر خاصة و هو الصحيح و قال غيره هي على كل شاهدين وصيين إذا أريب بهما.و اختلفوا في نسخ حكم الآيتين المتقدمتين مع هذه على قولين فقال ابن عباس هي منسوخة الحكم و قال الحسن هي غير منسوخة و هو الذي يقتضيه مذهبنا و أخبارنا و قال البلخي أكثر أهل العلم على أنه غير منسوخ لأنه لم ينسخ من سورة المائدة شيء لأنها آخر ما نزلت.و وجه قول من قال هي منسوخة أن اليمين اليوم لا تجب على الشاهدين بالحقوق و إنما كان قبل الأمر بإشهاد العدول في قوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فنسخت بذلك هذه الآية و دلت على أن شهادة الذمي لا تقبل على الذمي إذا ارتفعا إلى حكام المسلمين لأن الذمي ليس بعدل و لا ممن يرضى من الشهداء.و من ذهب إلى أنها غير منسوخة جعلها بمعنى شهادة الأيمان على الوصيين فإذا ظهر على خيانة منهما فما وجد في أيديهما صارا مدعيين و صار الورثة في معنى المنكرين فوجب عليهما اليمين من حيث صارا مدعيين.و قوله تعالى أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ يعني أهل الذمة يخافون أن يرد أيمان على أولياء الميت فيحلفوا على خيانتهم فيفتضحوا و يغرموا و ينكشف للناس بذلك بطلان شهادتهم و يسترد منهم ما أخذوه بغير حق حينئذ أدوا الشهادة على وجهها و تحرزوا من الكذب.و قرئ استحق بفتح التاء و الحاء و بضم التاء و كسر الحاء و قرئ الأولين بتشديد الواو و كسر اللام و فتح النون على الجمع و بسكون الواو و فتح اللام و كسر النون على التثنية

ص: 427

باب الزيادات

ذكر الله الشهادة في القرآن في ثلاثة مواضع منها

ص: 428

فيكفي في ذلك شاهدان و إتيان البهائم و الثاني ما لا يثبت إلا بشاهدين و هو السرقة و حد الخمر و الثالث ما اختلف فيه و هو الإقرار بالزناء قال قوم لا يثبت إلا بأربعة كالزنا و قال آخرون يثبت بشاهدين كسائر الإقرارات و هو أقوى.

مسألة

و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ معناه الذين يقذفون العفائف بالزناء فحذف بالزناء لدلالة الكلام عليه و لم يقيموا عليه أربعة من الشهود فإنه يجب على كل واحد منهم ثمانون جلدة إذا كان أجنبيا منها لا زوجا ثم نهى سبحانه عن قبول شهادة القاذفين على التأبيد و حكم عليهم بأنهم فساق بقوله وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ثم استثنى منهم إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ .و اختلفوا في الاستثناء إلى من يرجع فقال قوم هو من الفساق فإذا تاب قبلت شهادته حد أو لم يحد و هو قول ابن المسيب.

مسألة

وَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الَّذِي يَقْذِفُ الْمُحْصَنَاتِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا تَابَ قَالَ نَعَمْ قِيلَ وَ مَا تَوْبَتُهُ قَالَ فَيَجِيءُ وَ يُكَذِّبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَ يَقُولُ قَدِ افْتَرَيْتُ عَلَى فُلاَنَةَ وَ يَتُوبُ مِمَّا قَالَ (1). و قال ابن عمر لأبي بكرة إن تبت قبلت شهادتك فأبى أبو بكرة أن يكذب نفسه و به قال الشافعي و هو مذهبنا.6.

ص: 429


1- وسائل الشيعة 183/16.

و قال الحسن الاستثناء من الفاسقين دون قوله وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً و به قال أهل العراق قالوا فلا يجوز شهادة القاذف أبدا.و لا خلاف أنه إذا لم يحد بأن تموت المقذوفة و لم يكن هناك مطالب ثم تاب أنه يجوز قبول شهادته و هذا يقتضي الاستثناء من المعتدين على تقدير و أولئك هم الفاسقون مع امتناع قبول شهادتهم إلا التائبين منهم و الحد حق المقذوفة لا يزول بالتوبة.ثم قال إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا و إن نزلت في سبب لم يجب قصرها عليه و على هذا أكثر المحصلين كآية القذف و آية اللعان و آية الظهار و غيرها. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ يجوز أن يكون المعنى أي يشهدون يعني هؤلاء على أنفسهم بألسنتهم و قيل شهادة الأيدي و الأرجل تكون بأن يبينها الله بينة مخصوصة يمكنها النطق أو يفعل الله في هذه البينة كلاما يتضمن الشهادة فكأنها هي الناطقة أو يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق و ذلك إذا جحدوا معاصيهم.

مسألة

المفعول الثاني في قوله فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى محذوف و كذا إذا قرئ بالتخفيف فتذكر بالقراءتين محذوف و المعنى فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي تحملتاها لأن ذكرت فعل يتعدى إلى مفعول واحد فإذا نقلته بالهمزة أو خففت العين منه تعدى إلى مفعول آخر.و ما بعد الفاء في قوله فَتُذَكِّرَ مبتدأ محذوف و لو أظهرته لكان فهما تذكر إحداهما الأخرى فالذكر العائد إلى المبتدإ المحذوف الضمير في قوله إِحْداهُما .

ص: 430

مسألة

فإن قيل إن الشهادة إنما وقعت للذكر و الحفظ لا للضلال الذي هو النسيان.فجوابه أن سيبويه قد قال أمر بالإشهاد لأن تذكر إحداهما الأخرى و إنما ذكر أن تضل لأنه سبب الإذكار.و قوله فَتُذَكِّرَ معطوف على الفعل المنصوب و وجه كونه مرفوعا قد ذكرناه.

مسألة

وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ خطاب للشهود و نهي لهم عن كتمان الشهادة إذا دعوا إلى إقامتها وَ مَنْ يَكْتُمْها أي من يكتم الشهادة مع علمه بالمشهود به و عدم ارتيابه فيه و تمكنه من أدائها من غير ضرر بعد ما دعي إلى إقامتها فإنه آثم قلبه أضاف الإثم إلى القلب و إن كان الإثم هو الحملة لأن اكتساب الإثم إلى القلب (1)أبلغ في الذم كما أن إضافة الإيمان إلى القلب أبلغ في المدح قال تعالى أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ (2)

وَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لاَ يَنْقَضِي كَلاَمُ شَاهِدِ زُورٍ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.

مسألة

و قوله وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ أي إن تظهروا الشهادة أو تكتموها فإن الله يعلم ذلك و يجازيكم به.و قيل إنها عامة في الأحكام التي ذكرها الله تعالى من أول البقرة و فيها خمسمائة2.

ص: 431


1- الزيادة من م.
2- سورة المجادلة:22.

حكم و نيف على ما ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم خوف الله عباده من العمل بخلافها بهذه الآية و بين أنه لما أمر بتلك الوثائق و يعتد بها إنما هو لأمر يرجع إلى المكلفين لا لأمر يرجع إليه تعالى فإن لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ .و من قال إنها منسوخة بقوله لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (1) فإنه لا يصح لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز6.

ص: 432


1- سورة البقرة:286.

الفهرس

مقدّمة المؤلّف 3

(كتاب الطهارة)

تفضيل القرآن الكريم في الطهارة 5

لزوم معرفة خمسة اقسام من علوم القرآن 6

وجوب الطهارة و كيفيتها و ما به تكون و ما ينقضها 8

باب الوضوء و وجوبه 10

حدود وجوب الوضوء 11

الفرض بالوضوء يتوجه الى من أراد الصلاة 12

كيفية غسل الوجه 13

كيفية غسل اليدين 14

كيفية مسح الرأس 17

كيفية مسح الرجلين 18

ص: 433

موضع العطف في«أرجلكم»20

أداء الواجب بالغسل مرة واحدة 24

افتقار الطهارة الى النية 26

وجوب الترتيب في الوضوء 27

وجوب الموالاة في الوضوء 29

كفاية المسح بإصبع واحدة 29

المسح ببقية نداوة الوضوء 30

باب غسل الجنابة 31

تفسير ألفاظ آية الغسل 32

ليس على الجنب وضوء مع الغسل 33

باب التيمم 35

من شرائط التيمم عدم وجود الماء 37

حمل آية التيمم على العموم في الأوقات 38

المقيم إذا فقد الماء يتيمم كالمسافر 40

المحبوس إذا لم يجد الماء يتيمم 40

باب احكام الطهارة 43

معنى «وَ أَنْتُمْ سُكارى» في أية الصلاة 44

وجوب الصلاة على كل حال 47

معنى الملامسة الجماع 48

لا يجوز أن يمس الجنب القرآن الكريم 49

باب الحيض و الاستحاضة و النفاس 51

وجوب اعتزال النساء عند الحيض 53

ص: 434

الوطي عند قطع الدم و الطهارة 55

باب أحكام المياه 58

معنى لفظ«الطهور»فى لغة العرب 59

ما يطلق عليه اسم«الماء»فهو مطهر 60

الاضطرار الى شرب المياه النجسة 61

تغيير أوصاف الماء الطاهر 61

حكم فاقد الماء و التراب 62

نجاسة المشركين 64

حكم الماء المستعمل في الوضوء و الغسل 65

ما ينقض الوضوء و الغسل 66

باب توابع الطهارة 67

السنن في الرأس و البدن 68

في نجاسة النجاسات 69

جواز الصلاة في غير الدماء الثلاثة 70

باب الزيادات في الخبر 72

(كتاب الصلاة)

وجوب الصلاة في الآيات الكريمة 78

معنى اقامة الصلاة 79

باب ذكر المواقيت 80

تفصيل مواقيت الصلاة 81

الدلالة على توسعة الوقت 82

ص: 435

حصر الصلوات اليومية في الخمس 84

باب ذكر القبلة 86

التوجه الى بيت المقدس 87

التوجه الى الكعبة المشرفة 89

معنى «لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها» 93

باب الستر و المكان و اللباس 95

الاذان و الإقامة 99

باب ما يقارن حال الصلاة 100

القراءة شرط في صحة الصلاة 101

وجوب الركوع في الصلاة 103

الجهر و الاخفات 104

وجوب الصلاة على النبيّ و آله في التشهد 105

وجوب القراءة في الركعتين الاولتين 106

باب هيآت الصلاة 107

السجود على الأعضاء السبعة 109

الخشوع في حال الصلاة 110

المبادرة الى الاشتغال بالصلاة 111

المراد من الصلاة الوسطى 112

المحافظة على الصلوات 113

القنوت و أحكامه 115

نزول آية الولاية في عليّ عليه السلام 116

في ذمّ تاركى الصلاة و المستخفين بها 117

ص: 436

أحكام الاستعاذة 118

وجوب القراءة في الصلاة بالعربية 119

جواز الدعاء في الصلاة لكل الاغراض 120

وجوب الصلاة على كل حال 121

وجوب قتل تارك الصلاة متعمدا 122

باب قضاء الصلاة و تركها 123

ذكر صلاة الليل و بقية النوافل 125

لزوم ترتيل القرآن و معناه 126

صفة المتقين و قيامهم في الليل للتهجد 128

باب أحكام الجمعة 131

فرض الجمعة لازم على جميع المكلفين 133

البيع حين النداء لصلاة الجمعة 134

الانتشار بعد صلاة الجمعة 135

باب الجماعة و أحكامها 139

الحث على الصلاة في الصف الأول 140

الانصات لقراءة الامام 141

باب الصلاة في السفر 142

وجوب التقصير على المسافر 143

حد جواز القصر على المسافر 145

باب صلاة الخوف 146

كيفية صلاة الخوف في الحرب 148

كيفية صلاة النبيّ«صلّى اللّه عليه و آله»فى ذات الرقاع 149

ص: 437

صلاة شدة الخوف 153

باب فضل المساجد و بعض أحكامها 154

الاستتار في الصلاة و في المساجد 156

صد النبيّ«صلّى اللّه عليه و آله»عن المسجد الحرام 157

منع الكفّار من مقاربة المسجد الحرام 158

باب صلاة العيدين و الاستسقاء و الكسوف 159

باب الصلاة على الموتى و أحكامهم 161

أحق الناس بالصلاة على الميت 162

باب الزيادات 164

(كتاب الصوم)

في وجوب الصوم 172

باب في تفصيل ما اجمل من أدلة الوجوب 174

حكم المسافر و المريض 176

من يسقط عنه الصوم من ذوي الاعذار 177

طريق ثبوت أول شهر رمضان 178

باب من له عذر أو ما يجري مجرى العذر 182

حكم الشيخ الضعيف في الصوم 183

النية و علامة أول الشهر و آخره 185

في اكمال العدة 188

باب أقسام الصوم الواجب 189

الصوم الذي هو كفّارة الظهار 191

ص: 438

صوم كفّارة قتل الخطأ 192

صوم كفّارة اليمين 192

صيام أذى حلق الرأس 193

صوم دم المتعة 194

صوم جزاء الصيد 194

صوم النذر 195

صوم الاعتكاف 196

صوم قضاء ما فات من شهر رمضان 198

صيام من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا 199

باب في مسائل شتّى 200

الجماع في ليالي شهر رمضان 201

أول الليل و آخره 202

جواز النسخ في آية الصوم 204

باب الزيادات 205

(كتاب الزكاة)

باب وجوب الزكاة 211

وجوب بعض الانفاقات غير الزكاة 213

ما يجب فيه الزكاة و كيفيتها 215

الانصبة التي يؤخذ فيها الزكاة 218

لا تجب الزكاة في عروض التجارة 220

وجوب النية عند دفع الزكاة 222

ص: 439

ذكر من يستحق الزكاة و أقل ما يعطى 224

الفرق بين الفقير و المسكين 226

دفع الزكاة بغير اذن الامام عند حضوره 228

عتق المملوك من مال الزكاة 229

من يجب عليه الزكاة 230

اعطاء الردىء في مال الزكاة 232

التحذير من الشيطان المانع للصدقة 233

وصية الى جباة الزكاة و الصدقات 234

الشهور الهلالية هي الشهور الشرعية 236

الحث على الانفاق و اعطاء الزكاة 238

التحذير من منع الزكاة و حقوق اللّه تعالى 240

باب ذكر الخمس و أحكامه 242

تقسيم الخمس على ستة أقسام 243

ذو القربى هم بنو هاشم 244

الفيء و لمن هو؟247

باب الأنفال 247

الأنفال ما أخذ من دار الحرب 249

مال الفيء غير مال الغنيمة 250

باب زكاة الفطرة 252

باب الجزية 254

باب الزيادات 257

ص: 440

(كتاب الحجّ)

وجوب حجّة الإسلام و عمرة الإسلام 263

باب في أنواع الحجّ 265

كيفية حج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله 266

في التمتع بالعمرة الى الحجّ 267

تفصيل أفعال الحجّ المتمتع 269

الحجّ في كل عام 270

الاحرام بالحج في غير أشهر الحجّ 272

الطواف و كيفيته 273

السعي بين الصفا و المروة 274

الوقوف بعرفات و المشعر 277

وجوب الهدي على المتمتع بالعمرة الى الحجّ 279

الحلق و الطواف 280

باب فرض الحجّ و سننه و ما يجري مجراها 281

الرفث و الفسوق و الجدال في الحجّ 283

التجارة ضمن أعمال الحجّ 284

وجود الزاد و الراحلة 285

الوقوف بالمشعر ركن من أركان الحجّ 286

باب ذكر المناسك و ما يتعلق بها 289

تحديد مقام إبراهيم عليه السلام 290

بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام البيت 292

ص: 441

ما يحل في حال الاحرام و ما لا يحل 293

باب الذبح و الحلق و رمي الجمار 294

باب في ذكر أيّام التشريق 298

باب ما يجب على المحرم اجتنابه 302

نهي المحرم من الاخلال و التعدي و التقصير 304

حكم الصيد في الحرم 305

ما يجب من الجزاء في الصيد 306

ما يعطى في جزاء الصيد 311

باب المحصور و المصدود 316

معنى المحصور و المصدود 319

باب العمرة المفردة 320

وجوب العمرة كوجوب حجّة الإسلام 321

باب الزيادات 323

(كتاب الجهاد)

فرض الجهاد و من يجب عليه 328

باب ذكر المرابطة 332

حكم من ليس له نهضة الى الجهاد 334

حكم القتال في الشهر الحرام 336

نسخ القتال في الشهر الحرام 338

الآيات التي تحض على القتال 339

اصناف الكفّار الذين يجب جهادهم 341

ص: 442

أهل الكتاب و غيرهم من الكفّار 342

في اعطاء الجزية 343

حكم اسرى دار الحرب 347

حكم الجهاد في الشرائع السابقة 348

ما أخذ من دار الحرب 350

باب المهادنة مع الكفّار 354

الوفاء بالعقد للمشركين 355

الامر بالمعروف و النهي عن المنكر 356

وجوب الامر بالمعروف و النهى عن المنكر 357

الوجوه في أن المسلمين خير أمة 360

باب أحكام أهل البغي 363

حكم المحاربين و السيرة فيهم 365

كيفية النفي من الأرض 367

حكم المرتدين و كيفية حالهم 369

المرتد الفطرى و المرتد الملي 371

باب الزيادات 372

(كتاب الديون و الكفالات و الحوالات و الوكالات)

باب احكام الدين 377

قضاء الدين و حكم المدين المعسر 381

باب القرض 383

باب قضاء الدين عن الميت 384

باب الصلح 385

باب الكفالات 386

ص: 443

باب الحوالات 387

باب الوكالة 388

الوكالة ثابتة حتّى يعلم الخروج منها 390

ما يصحّ فيه التوكيل و ما لا يصحّ 391

باب اللقطة و الضالة 392

باب الزيادات 393

(كتاب الشهادات)

يشترط العلم بما يشهد به الشاهد 397

تعديل الشهود و من تقبل شهادته 398

في شهادة الرجال و النساء 399

العدالة في الشهادة 400

باب ذكر ما يلزم الشهود 402

الامر بالكتابة 404

حكم السفيه الجاهل 405

في تحمل الشهادة و آدابها 408

ما يقع من العقود من دون الاشهاد و ما لا يقع 409

الشهادة على الاقرباء و لهم 410

الفرق بين العموم و المجمل 415

باب شهادة من خالف الإسلام 417

الشهادة على الوصية 420

اليمين هل تجب على كل شاهدين أم لا 426

الآيات التي ذكرت فيها الشهادة 428

باب الزيادات 428

ص: 444

المجلد 2

اشارة

شماره کتابشناسی ملی : ایران

سرشناسه : گریوانی، خلیل

عنوان و نام پديدآور : فقه القرآن راوندی/قطب الدين راوندى

وضعیت نشر : كتابخانه آيت الله مرعشى نجفى، قم

توصیفگر : قطب راوندی، سعید بن هبةالله، -573ق.

توصیفگر : کتاب فقه القرآن راوندی

توصیفگر : فقه

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء الثاني

تأليف الفقيه المحدث المفسر الأديب قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي المتوفى سنة 573 ه

كتاب القضايا

الحكم بين الناس

قال الله تعالى يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ (1) .أخبر الله بأنه نادى داود أن افصل بين المختلفين من الناس و المتنازعين بِالْحَقِّ بوضع الأشياء مواضعها على ما أمرك الله به.و الخليفة هو المدبر للأمور من قبل غيره بدلا من تدبيره.و قيل معناه جعلناك خليفة لمن كان قبلك من رسلنا ثم أمره (1) فالآية تدل على أن القضاء جائز بين المسلمين و ربما كان واجبا فإن لم يكن واجبا فربما كان مستحبا و تدل عليه آيات كثيرة

باب الحث على الحكم بالعدل و المدح عليه و ذكر عقوبة من يكون بخلافه

قال الله سبحانه وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ (2)

و قال تعالى فَإِنْ جاؤُكَ

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (3)

ص: 5


1- أي بعد ان أثبت له مقام الخلافة للأنبياء عليهم السلام،أمره بالحكم بين الناس.
2- سورة المائدة:49.
3- سورة ص:26.

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (1)

و قال تعالى وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ (2)

و قال تعالى فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ (3) .

و قد ذم الله من دعي إلى الحكم فأعرض عنه فقال وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (4) .

و مدح قوما دعوا إليه فأجابوا فقال إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا (5)

و قال تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (6)

و قال تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (7)

و في موضع آخر وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (8) و في موضع آخر وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (9) .و قال الحسن هي عامة في بني إسرائيل و غيرهم من المسلمين.

وَ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ ص أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلاَثِ فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً. و قال الشعبي نزل الكافرون في هذه الأمة و الظالمون في اليهود و الفاسقون في النصارى.

ص: 6


1- سورة المائدة:42.
2- سورة الأنبياء:78.
3- سورة النساء:65.
4- سورة النور:48.
5- سورة النور:51.
6- سورة النساء:58.
7- سورة المائدة:47.
8- سورة المائدة:45.
9- سورة المائدة:44.

و الأولى أن يقال هي عامة في من حكم بغير ما أنزل الله فإن كان مستحلا لذلك معتقدا أنه هو الحق فإنه يكون كافرا بلا خلاف فأما من لم يكن كذلك و هو يحكم بغير ما أنزل الله فإنه يدخل تحت الآيتين الأخريين (1).

فصل

وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع الْحُكْمُ حُكْمَانِ حُكْمُ اللَّهِ وَ حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ وَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (2) وَ أَشْهَدُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَقَدْ حَكَمَ فِي الْفَرَائِضِ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ (3) ثُمَّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ص مَنْ حَكَمَ فِي الدِّرْهَمَيْنِ بِحُكْمِ جَوْرٍ ثُمَّ أَجْبَرَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قِيلَ كَيْفَ يُجْبِرُ عَلَيْهِ قَالَ يَكُونُ لَهُ سَوْطٌ وَ سِجْنٌ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ فَإِنْ دَخَلَ بِحُكُومَتِهِ وَ إِلاَّ ضَرَبَهُ (4) بِسَوْطِهِ وَ حَبَسَهُ فِي سِجْنِهِ (5).

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع إِيَّاكُمْ أَنْ يُحَاكِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِلَى أَهْلِ الْجَوْرِ وَ لَكِنِ انْظُرُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ قَضَائِنَا فَاجْعَلُوهُ بَيْنَكُمْ فَإِنِّي جَعَلْتُهُ قَاضِياً فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ (6).

ص: 7


1- انظر الأقوال حول الآيات الثلاث الدّر المنثور 286/2.
2- سورة المائدة:50.
3- البرهان في تفسير القرآن 478/1،و الزيادة منه.
4- في م«فان رضى بحكومته فان ضربه».و في المصدر قريب منه.
5- وسائل الشيعة 18/18 و هو فيه ليس ذيلا للحديث السابق.
6- وسائل الشيعة 4/18.

فصل

وَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَوْلُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ (1) قَالَ يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ قَدْ عَلِمَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حُكَّاماً يَجُورُونَ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَعْنِ حُكَّامَ الْعَدْلِ وَ لَكِنَّهُ عَنَى حُكَّامَ الْجَوْرِ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَدَعَوْتَهُ إِلَى حَاكِمِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَبَى عَلَيْكَ إِلاَّ أَنْ يُرَافِعَكَ إِلَى حُكَّامِ أَهْلِ الْجَوْرِ لِيَقْضُوا لَهُ كَانَ مِمَّنْ حَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ (2) الْآيَةَ (3).

وَ قَالَ : إِيَّاكُمْ أَنْ يُحَاكِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِلَى أَهْلِ الْجَوْرِ. الخبر (4).

وَ قَالَ : لَمَّا وَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع شُرَيْحاً الْقَضَاءَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُنْفِذَ الْقَضَاءَ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ (5) وَ قَالَ لَهُ قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لاَ يَجْلِسُهُ إِلاَّ نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ (6).

ثُمَّ قَالَ : إِنَّ عَلِيّاً ع اشْتَكَى عَيْنَهُ فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص فَإِذَا عَلِيٌّ يَصِيحُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ أَ جَزَعاً أَمْ وَجَعاً يَا عَلِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجِعْتُ وَجَعاً قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ قَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا نَزَلَ لِيَقْبِضَ

ص: 8


1- سورة البقرة:188.
2- سورة النساء:59.
3- تهذيب الأحكام 219/6.
4- من لا يحضره الفقيه 2/3.
5- تهذيب الأحكام 217/6.
6- تهذيب الأحكام 217/6.

رُوحَ الْفَاجِرِ أَنْزَلَ مَعَهُ سَفُّوداً (1) مِنْ نَارٍ فَيَنْزِعُ رُوحَهُ بِهِ فَتَضِجُّ جَهَنَّمُ فَاسْتَوَى عَلِيٌّ جَالِساً فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعِدْ عَلَيَّ حَدِيثَكَ فَقَدْ أَنْسَانِي وَجَعِي مَا قُلْتَ فَهَلْ يُصِيبُ ذَلِكَ أَحَداً مِنْ أُمَّتِكَ قَالَ نَعَمْ حُكَّاماً جَائِرِينَ وَ آكِلَ مَالِ الْيَتِيمِ وَ شَاهِدَ الزُّورِ (2).

باب ما يجب أن يكون القاضي عليه

قال الله تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (3) .أمر تعالى الحكام بين الناس أن يحكموا بالعدل لا بالجور و نعم الشيء شيئا يعظكم الله به من أداء الأمانة.

وَ رُوِيَ عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ مَا عِنْدَهُ إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي بَعْدَهُ وَ أُمِرَتِ الْأَئِمَّةُ بِالْعَدْلِ وَ أُمِرَتِ النَّاسُ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ (4).

و قال تعالى وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ إلى قوله وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (5) أي أعطيناه إصابة الحكم بالحق و فصل الخطاب هو قوله البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه.

ص: 9


1- السفود..بتشديد الفاء-الحديدة التي يشوى بها اللحم-صحاح اللغة(سفد).
2- تهذيب الأحكام 224/6.
3- سورة النساء:58.
4- من لا يحضره الفقيه 3/3 مع اختلاف يسير.
5- سورة ص:17-20.

ثم قال وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ هذا خطاب من الله لنبيه ع و صورته صورة الاستفهام و معناه الإخبار بما كان من قصة داود من الحكومة بين الخصمين و تنبيهه على موضع تركه بعض ما يستحب له أن يفعله.و النبأ الخبر بما يعظم حاله و الخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق المتنازع له فيه و يعبر به عن الواحد و الاثنين و الجمع بلفظ واحد لأن أصله المصدر و لذلك قال إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ لأنه أراد المدعي و المدعى عليه و من معهما فلا يمكن أن يتعلق به في أن أقل الجمع اثنان لما قال خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ لأنه أراد بذلك الفريقين أي نحن فريقان خصمان أي يقول ما يقول خصمان لأنهما كان ملكين و لم يكونا خصمين و لا بغى أحدهما على الآخر و إنما هو على المثل. فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ معناه و لا تجاوز الحق و لا تجر و لا تسرف في حكمك بالميل مع أحدنا على صاحبه و أرشدنا إلى قصد الطريق الذي هو طريق الحق و وسطه.

فصل

ثم حكى سبحانه ما قال أحد الخصمين لصاحبه فقال إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها (1) قال وهب يعني أخي في ديني و قال المفسرون إنه كنى بالنعاج عن تسع و تسعين امرأة كانت له و أن الآخر له امرأة واحدة و قال الحسن لم يكن له تسع و تسعون نعجة و إنما هو على وجه المثل و قال أبو مسلم أراد النعاج بأعيانها و هو الظاهر غير أنه خلاف أقوال المفسرين.

ص: 10


1- سورة ص:23.

و قال هما خصمان من ولد آدم و لم يكونا ملكين و إنما فزع منهما لأنهما دخلا عليه في غير الوقت المعتاد و هو الظاهر.و معنى أَكْفِلْنِيها قال ابن عباس أنزل لي عنها و قال أبو عبيدة ضمها إلي و قال آخرون أي اجعلني كفيلا بها أي ضامنا لأمرها و منه قوله وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا (1) .ثم قال وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في المخاطبة و قهرني و قال أبو عبيدة صار أعز مني.فقال له داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و معناه إن كان الأمر على ما تدعيه لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فأضاف السؤال إلى المفعول به.و قال أصحابنا موضع الخطيئة أنه قال للخصم لَقَدْ ظَلَمَكَ من غير أن يسأل خصمه عن دعواه و في أدب القضاء أن لا يحكم بشيء و لا يقول حتى يسأل خصمه من دعوى خصمه فما أجاب به حكم بذلك و هذا ترك الندب.و الشرط الذي ذكرناه لا بد منه لأنه لا يجوز أن يخبر النبي ع أن الخصم ظلم صاحبه قبل العلم بذلك على وجه القطع و إنما يجوز مع تقدير و بالشرط الذي ذكرناه فروي أن الملكين غابا من بين يديه فظن داود أن الله تعالى اختبره بهذه الحكومة و معنى الظن هنا العلم كأنه قال و علم داود و قيل إنما ظن ظنا قويا و هو الظاهر.و فَتَنّاهُ أي بحق أضافه الله إلى نفسه أي اختبرناه و قرئ فتناه بالتخفيف أي الملكين فتناه بهما.و قيل إنه كان خطب امرأة كان أوريا بن حنان خطبها و لم يعلم ذلك فكان دخل في سومه فاختاروه عليه فعاتبه الله على ذلك.

ص: 11


1- سورة آل عمران:37.

و أولى الوجوه أنه ترك الندب فيما يتعلق بأدب القضاء.و قرأ ابن مسعود و لي نعجة أنثى واحدة و وصفها بأنثى إشعارا بأنها ضعيفة مهينة.يسأل فيقال في قوله لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ كيف يكون السائل ظالما.الجواب أنه لم يسأله سؤال خضوع إنما غالبه فمعنى السؤال هاهنا حمل على سؤال مطالبة و لو سأله التفضل ما عازه عليها

و قد بينا أن الحكمة في قوله وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ اسم تقع على العلم و العقل و صواب الرأي و صحة العزم و الحزم (1).و فَصْلَ الْخِطابِ قطع الأمور بين المتخاصمين و الخطاب نزاع في الخطوب و هو يفصل ذلك لحكمته.و قيل إنما كان كناية عن قوله البينة على المدعي و اليمين على من أنكر لأن بذلك يقع الفصل بين الخصوم.

فصل

و قوله تعالى وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ (2) فقد قال الجبائي إن الله أوحى إلى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل ذلك و لم يكن ذلك عن اجتهاد.و هذا هو الصحيح عندنا و يقوي ذلك قوله فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ يعني علمنا الحكومة في ذلك التي هي مصلحة الوقت سليمان.

ص: 12


1- بين المعقوفين مشوش في نسخة م و نقل كما في ج.
2- سورة الأنبياء:78-79.

و قوله إِذْ يَحْكُمانِ أي طلبا الحكم في ذلك و لم يبتدئا بعد.و قصته

أَنَّ زَرْعاً أَوْ كَرْماً وَقَعَتْ فِيهِ الْغَنَمُ لَيْلاً فَأَكَلَتْهُ فَحَكَمَ دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ لِأَنَّ الشَّرْعَ كَانَ وَرَدَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِأَبِيهِ إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ الْآنَ بِغَيْرِ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ وَ مَا ذَاكَ قَالَ يُدْفَعُ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَ يُدْفَعُ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنْهَا حَتَّى إِذَا عَادَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى صَاحِبِهِ حَقَّهُ ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُمَا ع (1). فعلى هذا ينبغي أن يكون الحاكم حكيما عالما بالناسخ و المنسوخ عارفا بالكتاب و السنة عاقلا بصيرا بوجوه الإعراب يثق من نفسه يتولى القضاء و الفصل بين الناس

باب كيفية الحكم بين أهل الكتاب

قد ذكرنا من قبل كثيرا مما يتعلق بهذا الباب و هاهنا نذكر ما يكون تفصيلا لتلك الجملة أو جملة لذلك التفصيل اعلم أن الله تعالى خاطب نبيه ص فقال وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ (2) التقدير و أنزلنا إليك يا محمد أن احكم بينهم و إنما كرر الأمر بالحكم بينهم لأمرين

ص: 13


1- وسائل الشيعة 208/19.
2- سورة المائدة:48.

أحدهما أنهما حكمان أمر بهما جميعا لأن اليهود احتكموا إليه في زنا المحصن ثم احتكموا إليه في قتيل كان منهم ذكره أبو علي و هو المروي عن أبي جعفر ع (1).الثاني أن الأمر الأول مطلق و الثاني دل على أنه منزل.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ الْحَسَنُ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَى الْحُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَ شَرِيعَةِ الْإِسْلاَمِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ. و قال أبو علي نسخ ذلك التخيير بالحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم و الترك

قال تعالى فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (2) .

و الكتاب في قوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ المراد به القرآن مُصَدِّقاً نصب على الحال مصدق ما بين يديه من الكتاب يعني التوراة و الإنجيل و ما فيهما من التوحيد لله و عدله و الدلالة على نبوتك و الحكم بالرجم و القود و غيرهما و فيه دلالة على أن ما حكى الله أنه كتبه عليهم في التوراة حكم يلزمنا العمل به لأنه جعل القرآن مصدقا لذلك و شاهدا.و قال مجاهد مُهَيْمِناً صفة للنبي ع و الأول أقوى لأجل حرف العطف و لو قال بلا واو لجاز.و لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عادلا عما جاءك من الحق و لا يدل ذلك على أنه ع اتبع أهواءهم لأنه مثل قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (3) و لا يدل ذلك على أن الشرك كان وقع منه.

ص: 14


1- انظر القصة في تفسير البرهان 472/1 عن الباقر عليه السلام.
2- سورة المائدة:42.
3- سورة الزمر:65.

لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً قال مجاهد شريعة القرآن لجميع الناس لو آمنوا به و قال آخرون إنه شريعة التوراة و شريعة الإنجيل و شريعة القرآن و المعنى بقوله مِنْكُمْ أمة نبينا و أمم الأنبياء قبله على تغليب المخاطب على الغائب فبين تعالى أن لكل أمة شريعة غير شريعة الآخرين لأنها تابعة للمصالح فلا يمكن حمل الناس على شريعة واحدة مع اختلاف المصالح قال تعالى وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً (1) .

فصل

ثم قال تعالى أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ (2) قال مجاهد إنها كناية عن اليهود لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه و إذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به. وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً أي فصلا بين الحق و الباطل من غير محاباة لأنه لا يجوز للحاكم أن يحابي في الحكم بأن يعمل على ما يهواه بدلا مما يوجبه العدل و قد يكون حكم أحسن من حكم بأن يكون أولى منه و أفضل و كذا لو حكم بحق يوافق هواه كان ما يخالف هواه أحسن مما يوافقه.

و قال تعالى في وصف اليهود سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (3) أي هؤلاء يقبلون الكذب و يكثر أكلهم السحت و هو الحرام.فخير الله نبيه ع في الحكم بين اليهود في زنا المحصن و في قتيل قتل من اليهود.

ص: 15


1- سورة النحل:93.
2- سورة المائدة:50.
3- سورة المائدة:42.

و في اختيار الحكام و الأئمة الحكم بين أهل الذمة إذا احتكموا إليهم قولان أحدهما أنه حكم ثابت و التخيير حاصل ذهب إليه جماعة و هو المروي عندهم عن علي ع و الظاهر في رواياتنا (1) و قال الحسن إنه منسوخ بقوله وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ (2) فنسخ الاختيار و أوجب الحكم بينهم بالقسط. وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ (3) أي الحكم بالرجم و القود. ثم قال تعالى إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (4) نهى الله نبيه ع أن يكون خصيما لمن كان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله أي لا تخاصم عنه.و الخطاب و إن توجه إلى النبي ص فالمراد به أمته

باب نوادر من الأحكام :

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَكِيمٍ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ لِي كُلُّ مَجْهُولٍ فَفِيهِ الْقُرْعَةُ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ الْقُرْعَةَ (5) تُخْطِئُ وَ تُصِيبُ فَقَالَ كُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ (6) قَالَ تَعَالَى فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (7) .

ص: 16


1- انظر وسائل الشيعة 338/18 فما بعد.
2- سورة المائدة:49.
3- سورة المائدة:43.
4- سورة النساء:105.
5- الزيادة من المصدر و ج.
6- تهذيب الأحكام 240/6.
7- سورة الصافّات:141.

وَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ : دَخَلَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ (1) وَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ ع فَسَأَلاَهُ عَنْ شَاهِدٍ وَ يَمِينٍ قَالَ قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ص وَ قَضَى بِهِ عَلِيٌّ ع عِنْدَكُمْ بِالْكُوفَةِ فَقَالاَ هَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ قَالَ وَ أَيْنَ وَجَدْتُمُوهُ خِلاَفَ الْقُرْآنِ فَقَالاَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (2) فَقَالَ لَهُمَا أَبُو جَعْفَرٍ ع فَقَوْلُهُ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ هُوَ أَنْ لاَ تَقْبَلُوا شَهَادَةَ وَاحِدٍ وَ يَمِيناً قَالاَ لاَ (3).

وَ قَالَ الرِّضَا ع إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ع كَيْفَ تَقْضُونَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَ هُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ جَعْفَرٌ أَنْتُمْ تَقْضُونَ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ شَهَادَةَ مِائَةٍ قَالَ لاَ نَفْعَلُ قَالَ بَلَى يَشْهَدُ مِائَةٌ لاَ يُعْرَفُ فَتُرْسِلُونَ وَاحِداً يَسْأَلُ عَنْهُمْ ثُمَّ تُجِيزُونَ شَهَادَتَهُمْ بِقَوْلِهِ (4) ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَتْلُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَاءِ فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي الْقَتْلِ شَاهِدَانِ وَ الزِّنَاءُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ فَقَالَ الصَّادِقُ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَ الزِّنَاءَ فِعْلاَنِ فَمِنْ ثَمَّ لاَ نُجَوِّزُ إِلاَّ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ عَلَى الرَّجُلِ شَاهِدَانِ وَ عَلَى الْمَرْأَةِ شَاهِدَانِ.

وَ سُئِلَ ع عَنِ الْبَيِّنَةِ إِذَا أُقِيمَتْ عَلَى الْحَقِّ أَ يَحِلُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِقَوْلِ الْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُمْ قَالَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْأَخْذُ بِهَا بِظَاهِرِ الْحُكْمِ الْوِلاَيَاتُ وَ التَّنَاكُحُ وَ الْمَوَارِيثُ وَ الذَّبَائِحُ وَ الشَّهَادَاتُ فَإِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ ظَاهِراً مَأْمُوناً جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَ لاَ يُسْأَلُ عَنْ بَاطِنِهِ (5) فَقَدِ اخْتَصَمَ

ص: 17


1- كذا في الأصل.و في المصدر«عبد الرحمن بن الحجاج»و«بن عتيبة».
2- سورة الطلاق:2.
3- تهذيب الأحكام 273/6 و الزيادة ليست فيه.و للحديث ذيل يراجع المصدر بشأنه.
4- تهذيب الأحكام 296/6 مع اختلاف في بعض الألفاظ و ليس فيه بقية الحديث.
5- تهذيب الأحكام 288/6 و الزيادة منه.

رَجُلاَنِ إِلَى دَاوُدَ ع فِي بَقَرَةٍ فَجَاءَ هَذَا بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهَا لَهُ وَ جَاءَ هَذَا بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهَا لَهُ قَالَ فَدَخَلَ دَاوُدُ الْمِحْرَابَ فَقَالَ يَا رَبِّ إِنَّهُ قَدْ أَعْيَانِي أَنْ أَحْكُمَ بَيْنَ هَذَيْنِ فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَحْكُمُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ اخْرُجْ فَخُذِ الْبَقَرَةَ مِنَ الَّذِي فِي يَدِهِ فَادْفَعْهَا إِلَى الْآخَرِ وَ اضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ فَضَجَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ وَ قَالُوا جَاءَ هَذَا بِبَيِّنَةٍ وَ جَاءَ هَذَا بِبَيِّنَةٍ وَ كَانَ أَحَقُّهُمَا بِإِعْطَائِهِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَ ضَرَبَ عُنُقَهُ فَأَعْطَاهُ هَذَا (1) فَقَالَ دَاوُدُ يَا رَبِّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ضَجُّوا مِمَّا حَكَمْتُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ الَّذِي كَانَتِ الْبَقَرَةُ فِي يَدِهِ لَقِيَ أَبَا الْآخَرِ فَقَتَلَهُ وَ أَخَذَ الْبَقَرَةَ مِنْهُ فَإِذَا جَاءَكَ مِثْلُ هَذَا فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا تَرَى وَ لاَ تَسْأَلْنِي أَنْ أَحْكُمَ حَتَّى يَوْمِ الْحِسَابِ (2).

فصل

وَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع مَا يَقُولُ فِي النِّكَاحِ فُقَهَاؤُكُمْ قُلْتُ يَقُولُونَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقَالَ كَذَبُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ هَوَّنُوا وَ اسْتَخَفُّوا بِعَزَائِمِ اللَّهِ وَ فَرَائِضِهِ وَ شَدَّدُوا وَ عَظَّمُوا مَا هَوَّنَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي الطَّلاَقِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَأَجَازُوا الطَّلاَقَ بِلاَ شَاهِدٍ وَ الشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَجِئْ عَنِ اللَّهِ فِي عَزِيمَةٍ فَقَدْ نَدَبَ فِي عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَ يُسْتَحَلُّ الْفَرْجُ وَ إِنْ لَمْ يَشْهَدُوا وَ إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الشَّاهِدَيْنِ تَأْدِيباً وَ نَظَراً لِئَلاَّ يُنْكَرَ الْوَلَدُ وَ الْمِيرَاثُ. وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ قبل الشهادة وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ بعد الشهادة (3)

ص: 18


1- الزيادة من المصدر.
2- تهذيب الأحكام 288/6 و الذيل و أصل الحديث هنا جاء في التهذيب في حديثين.
3- من لا يحضره الفقيه 57/3.

باب الزيادات

"ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص فِيمَا اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ فَكُلُّ فِرْقَةٍ زَعَمَتْ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِدِينِهِ فَقَالَ ع كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ (1) فَغَضِبُوا وَ قَالُوا مَا نَرْضَى لِقَضَائِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَ فَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ أَيْ أَ فَبَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَ الْحُجَجِ تَطْلُبُونَ دِيناً غَيْرَ دِينِ اللَّهِ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً (2) فَالطَّوْعُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ خَاصَّةً وَ أَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ طَوْعاً وَ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَسْلَمَ كَرْهاً أَيْ فَرَقاً (3) مِنَ السَّيْفِ.

مسألة

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ نَبِيَّهُ ع بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (4) وَ هَذَا التَّخْيِيرُ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ لِلْأَئِمَّةِ وَ الْحُكَّامِ. و قول من قال إنه منسوخ بقوله تعالى وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ (5) لا يصح لأن المعنى وَ إِنْ تُعْرِضْ عن الحكم بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً فدع النظر بينهم إن شئت وَ إِنْ حَكَمْتَ أي و إن اخترت أن تحكم بينهم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بما في القرآن و شريعة الإسلام.ثم قرع اليهود بقوله وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ و يرضون بك حكما و هم

ص: 19


1- الزيادة من ج.
2- سورة آل عمران:83.
3- أي خوفا و خشية.
4- سورة المائدة:42.
5- سورة المائدة:49.

تركوا الحكم بالتوراة جرأة على الله و إنما طلبوا بذلك الرخصة و ما هم بمؤمنين بحكمك أنه من عند الله.

مسألة

و قوله تعالى إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ (1) لا يدل على أن نبينا ص كان متعبدا بشرع موسى ع لأن الله هو الذي أوجب ذلك بوحي أنزله عليه لا بالرجوع إلى التوراة فصار ذلك شرعا له و إن وافق ما في التوراة.و نبه بذلك اليهود على صحة نبوته من حيث أخبر ع عما في التوراة من غوامض العلم ما التبس على كثير منهم و قد عرفوا أنه لم يقرأ كتابهم.و قوله تعالى لِلَّذِينَ هادُوا أي تابوا من الكفر و قيل لليهود و اللام فيه يتعلق بيحكم أي يقضي بإقامة التوراة النبيون الذين كانوا من وقت موسى إلى وقت عيسى ع لهم و فيما بينهم

ص: 20


1- سورة المائدة:44.

كتاب المكاسب

وجوه المكاسب

قال الله تعالى وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (1) .فقد جعل الله لخلقه من المعيشة ما يتمكنون به من التقدير (2) و أمرهم بالتصرف في ذلك من وجوه الحلال دون الحرام فليس لأحد أن يتكسب بما حظره الله و لا يطلب رزقه من حيث حرمه.و المعايش جمع معيشة و هي طلب أسباب الرزق مدة الحياة فقد يطلبها الإنسان لنفسه بالتصرف و التكسب و قد يطلب له فإن أتاه أسباب الرزق من غير طلب فذلك العيش الهنيء

باب في تفصيل ما أجملناه

قوله تعالى وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ من في موضع النصب عطفا على قوله

ص: 21


1- سورة الحجر:19-20.
2- في ج«من العبادة».

مَعايِشَ و المراد به العبيد و الإماء و الدواب و الأنعام و العرب لا تجعل من إلا في الناس خاصة و غيرهم من العلماء فلما كان مع الدواب المماليك حسن حينئذ.و يجوز أن يكون من في موضع خفض نسقا على الكاف و الميم في لكم و إن كان الظاهر المخفوض قلما يعطف على المضمر المخفوض.و يجوز أن يكون في موضع رفع لأن الكلام قد تم قبله و يكون التقدير و لكم فيها مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ (1) أي ليس شيء إلا و هو قادر من جنسه على ما لا نهاية له و لست أنزل من ذلك الشيء إلا ما هو مصلحة لهم في الدين و ينفعهم دون ما يكون مفسدة لهم و يضرهم.و صدر الآية إشارة إلى

قَوْلِهِ ع اطْلُبُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ فَإِنَّهُ تَعَالَى بَسَطَهَا وَ جَعَلَ لَهَا طُولاً وَ عَرْضاً وَ طَرَحَ فِيهَا جِبِالاً ثَابِتَةً وَ أَعْلاَماً يُهْتَدَى بِهَا وَ أَخْرَجَ مِنْهَا النَّبَاتَ فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوزَنُ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ النُّحَاسِ وَ الْحَدِيدِ وَ غَيْرِهَا (2).

فصل

وَ قَالَ الصَّادِقُ ع فِي قَوْلِهِ تَعَالَى رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أَيْ سَعَةً فِي الرِّزْقِ وَ الْمَعَاشِ وَ حُسْنَ الْخُلُقِ فِي الدُّنْيَا وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً (3) رِضْوَانُ اللَّهِ وَ الْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ.

ص: 22


1- سورة الحجر:21.
2- تفسير البرهان 202/1 بمضمونه.
3- سورة البقرة:201.

و قال تعالى وَ لَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ (1) أخبر تعالى على وجه الامتنان على خلقه بأصناف نعمه أنه مكن عباده في الأرض من التصرف فيها من سكناها و زراعتها و جعل لهم فيها ما يعيشون به مما أنبت لهم من الحبوب و الثمرات و غيرها و المعيشة و صلة من جهة مكسب المطعم و المشرب و الملبس إلى ما فيه الحياة.و التمكين إعطاء ما يصح معه الفعل مع ارتفاع المنع لأن الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى آلة و إلى دلالة و إلى سبب كما يحتاج إلى (2) رفع المنع و التمكين عبارة عن جميع ذلك.

و قال تعالى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (3) المراد به الإباحة لأنه تعالى لا يريد المباحات من الأكل و الشرب و غيرهما. وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ (3) أي لا تتعدوا فيه فتأكلوه على وجه حرمه الله فمتى طغيتم فيه و أكلتموه على وجه الحرام نزل عليكم غضبي.

فصل

و

قال بعض المفسرين إن قوله تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً (4) إشارة إلى ما ذكره النبي ع تفصيلا لتلك الجملة و هو قوله إذا مر الإنسان بالثمرة جاز له أن يأكل منها بقدر كفايته و لا يحمل منها شيئا على حال و لذلك قال تعالى بعده وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ .

ص: 23


1- سورة الأعراف:10.
2- الزيادة من ج.
3- سورة طه:81.
4- سورة البقرة:168.

وَ كَانَ لِمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ ع ضَيْعَةً فِيهَا كُرُومٌ وَ فَوَاكِهُ فَأَتَاهُ [آتٍ] وَقْتَ الْإِدْرَاكِ لِيَشْتَرِيَهَا فَقَالَ ع إِنِّي أَبِيعُهَا مَشْرُوطَةً أَنْ تَجْعَلَ مِنْ أَرْبَعِ جَوَانِبِ الْحَائِطِ مَدْخَلاً لِيَأْكُلَ كُلُّ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِقْدَارَ مَا يَشْتَهِيهِ فَإِنِّي لاَ يُمْكِنُنِي أَنْ أَبِيعَ الْقَدْرَ الَّذِي يَأْكُلُهُ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا فَاشْتَرَاهَا عَلَى مَا يُرِيدُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَ أَحْفَظَهُ لِئَلاَّ يَحْمِلَ شَيْئاً وَ يُخْرِجَ.

و قد بين الله الحلال فقال وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ (1) يعني بحب الحصيد حب البر و الشعير و كل ما يحصد لأن من شأنه أن يحصد أي خلقنا ما ذكرناه من حب النبت الحصيد و الطلع النضيد رزقا لهم و غذاء و كل رزق فهو من الله إما بفعلنا أو فعل سببه (2).و لما كانت المكاسب و ما يجري مجراها تنقسم إلى المباحات و المكروهات و المحظورات لم يكن بد من تميزها

باب المكاسب المحظورة و المكروهة

اعلم أن تقلد الأمر من قبل السلطان الجائر إذا تمكن معه من إيصال الحق إلى مستحقه جائز.يدل عليه بعد الإجماع المتردد و السنة الصحيحة

قول الله تعالى حكاية عن يوسف ع قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (3)

ص: 24


1- سورة ق:9-11.
2- في ج«اما أن يفعله أو يفعل سببه».
3- سورة يوسف:55.

طلب ذلك إليه ليحفظه عمن لا يستحقه و يوصله إلى الوجوه التي يجب صرف الأموال إليها و لذلك رغب إلى الملك فيه لأن الأنبياء لا يجوز أن يرغبوا في جمع أموال الدنيا إلا لما قلناه فقوله حَفِيظٌ أي حافظ للمال عمن لا يستحقه عليهم بالوجوه التي يجب صرفه إليها.و متى علم الإنسان أو غلب على ظنه أنه لا يتمكن من جميع ذلك فلا يجوز له التعرض له على حال.

وَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ كَسْبِ الْمُغَنِّيَاتِ قَالَ الَّتِي تُدْعَى إِلَى الْعَرَائِسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَ الَّتِي يَدْخُلُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ حَرَامٌ وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ (1) .

وَ عَنِ ابْنِ سِنَانٍ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنِ الْإِجَارَةِ قَالَ صَالِحٌ لاَ بَأْسَ بِهِ إِذَا نَصَحَ قَدْرَ طَاقَتِهِ فَقَدْ آجَرَ مُوسَى ع نَفْسَهُ وَ اشْتَرَطَ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ ثَمَانِياً وَ إِنْ شِئْتَ عَشْراً فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ (2) .

وَ عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع الرَّجُلُ يَتَّجِرُ فَإِنْ هُوَ آجَرَ نَفْسَهُ [أُعْطِيَ مَا يُصِيبُ فِي تِجَارَةٍ فَقَالَ لاَ يُؤَاجِرْ نَفْسَهُ وَ لَكِنْ يَسْتَرْزِقُ اللَّهَ تَعَالَى وَ يَتَّجِرُ فَإِنَّهُ إِذَا آجَرَ نَفْسَهُ] فَقَدْ حَظَرَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّزْقَ (3). و لا تنافي بينهما لأن الخبر الأول محمول على ضرب من الكراهية و الوجه في كراهة ذلك أنه لا يأمن أن لا ينصحه في عمله فيكون مأثوما و قد نبه على ذلك في الخبر الأول بقوله لا بأس إذا نصح قدر طاقته.

ص: 25


1- سورة لقمان:6.و الحديث في الاستبصار 62/3 عن ابى جعفر الباقر عليه السلام.
2- سورة القصص:27.و الحديث في من لا يحضره الفقيه 173/3.
3- الاستبصار 55/3،و الزيادة منه.

فصل

وَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَرْوَانَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ع عَنِ الْغُلُولِ (1) فَقَالَ كُلُّ شَيْءٍ غُلَّ مِنَ الْإِمَامِ فَهُوَ سُحْتٌ وَ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَ شِبْهِهِ سُحْتٌ وَ السُّحْتُ (2) أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أُجُورُ الْفَوَاجِرِ وَ ثَمَنُ الْخَمْرِ وَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ وَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ وَ أَمَّا الرِّشَا فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَ بِرَسُولِهِ (3).

وَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ص فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ (4) قَالَ السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ (5).

وَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع أَنَّهُ قَالَ : السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَ عَسِيبُ الْفَحْلِ وَ كَسْبُ الْحَجَّامِ وَ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَ ثَمَنُ الْخَمْرِ وَ ثَمَنُ الْمَيْتَةِ وَ حُلْوَانُ (6) الْكَاهِنِ (7)وَ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ.

وَ قَالَ مَسْرُوقٌ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ قَالَ

ص: 26


1- الغلول-بضم الغين-الخيانة في المغنم و السرقة من الغنيمة قبل القسمة..و كل من خان في شيء خفية فقد غل،و سميت غلولا لان الأيدي فيها مغلولة،أي ممنوعة مجعول فيها غل،و هو الحديدة التي تجمع يد الاسير الى عنقه-النهاية لابن الأثير 380/3.
2- السحت في اللغة بمعنى القطع و الاستئصال،يقال سحت اللّه الكافر بعذاب إذا استأصله، و المال السحت كل حرام يلزم آكله العار،و سمى سحتا لانه لا بقاء له-معجم مقاييس اللغة 143/3.
3- الكافي 126/5.
4- سورة المائدة:42.
5- مجمع البيان 196/3.
6- حلوان الكاهن بضم الحاء و سكون اللام:الاجرة التي تعطى اياه،و اشتقاقه من الحلاوة-الفائق للزمخشريّ 304/1.
7- مجمع البيان 196/3.

ذَلِكَ الْكُفْرُ وَ عَنِ السُّحْتِ فَقَالَ الرَّجُلُ يَقْضِي لِغَيْرِهِ الْحَاجَةَ فَيُهْدِي لَهُ الْهَدِيَّةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (1) هَذَا إِذَا كَانَ مُسْتَحِلاًّ لِذَلِكَ (2). و قال الخليل السحت القبيح الذي فيه العار نحو ثمن الكلب و الخمر و أصل السحت الاستيصال.

وَ عَنِ الصَّادِقِ ع فِي قَوْلِهِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ أَنَّهُ قَالَ ثَمَنُ الْعَذِرَةِ مِنَ السُّحْتِ (3).

وَ قَالَ : أَرْبَعَةٌ لاَ تَجُوزُ فِي أَرْبَعَةٍ الْخِيَانَةُ وَ الْغُلُولُ وَ السَّرِقَةُ وَ الرِّبَا لاَ تَجُوزُ فِي حَجٍّ وَ لاَ عُمْرَةٍ وَ لاَ جِهَادٍ وَ لاَ صَدَقَةٍ (4).

وَ قَالَ : لاَ تَصْلُحُ [شِرَاءُ] السَّرِقَةِ وَ الْخِيَانَةِ إِذَا عُرِفَتْ (5). و الآية تدل على جميع ذلك بعمومها.

فصل

أما قوله تعالى وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (6) فهو نهي عن إكراه الأمة على الزناء إنها نزلت على سبب فوقع النهي عن المعين على تلك الصفة.

ص: 27


1- سورة المائدة:44.
2- وسائل الشيعة 314/17.
3- تفسير البرهان 474/1.
4- من لا يحضره الفقيه 161/3.
5- الكافي 228/5.
6- سورة النور:33.

"قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ حِينَ أَكْرَهَ أَمَتَهُ مُسَيْكَةَ عَلَى هَذَا (1). و هذا نهي عام لكل مكلف أن يكره أمته على الزناء طلبا لكسبها بالزناء.و قوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً صورته صورة الشرط و ليس بشرط و إنما ذكر لعظم الإفحاش في الإكراه على ذلك.و مهور البغايا محرمة كرهن أو لم يكرهن.و قوله تعالى وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ يعني على الفاحشة فَإِنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ أي لهن غَفُورٌ رَحِيمٌ (2) إن وقع منها مكرهة في ذلك الوزر على المكره.

وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ص إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ (3) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمَيْسِرُ فَقَالَ كُلُّ مَا يُقَامَرُ بِهِ حَتَّى الْكِعَابُ وَ الْجَوْزُ قِيلَ فَمَا الْأَنْصَابُ قَالَ مَا ذَبَحُوهُ لآِلِهَتِهِمْ قِيلَ فَمَا الْأَزْلاَمُ قَالَ قِدَاحُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا (4).

وَ نَهَى ع أَنْ يُؤْكَلَ مَا تَحْمِلُ النَّمْلَةُ بِفِيهَا وَ قَوَائِمِهَا (5). و قال تعالى وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللّهُ يَرْزُقُها وَ إِيّاكُمْ (6) أي لا تحمل رزقها للادخار و قيل أي لا تدخره لغد.

ص: 28


1- اسباب النزول للواحدى ص 220.
2- سورة النور:33.
3- سورة المائدة:90.
4- الكافي 122/5.
5- الكافي 307/5.
6- سورة العنكبوت:60.

و روي أن الحيوان أجمع من البهائم و الطير و نحوها لا تدخر القوت لغدها إلا ابن آدم و النملة و الفأرة بل تأكل منها كفايتها فقط.و نزلت الآية من أولها يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ (1) إلى هاهنا في أهل مكة المؤمنين منهم فإنهم قالوا يا رسول الله ليس لنا بالمدينة أموال و لا منازل فمن أين المعاش فأنزل الله الآية (2).

فصل

و قوله تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ (3) معناه لتختبرن ما يفعل بكم من الفقر و شدة العسر و بما تؤمرون من الزكوات و الإنفاق في سبيل الله في أموالكم كما تختبرون بالعبادات في أنفسكم و إنما فعله لتصبروا فسماه بلوى مجازا لأن حقيقته لا تجوز على الله.

و كفى للمكلفين واعظا بقوله تعالى لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ (4) فإن أرض سبإ كانت من أطيب البقاع لم يجعل الله فيها شيئا من هوام الأرض نحو البق و البراغيث و لا العقرب و لا غيرها من المؤذيات و كان الغريب إذا دخل أرضهم و في ثيابه قمل مات.فهذه آية و الآية الثانية أن المرأة كانت تأخذ على رأسها مكيلا فتملأ بالفواكه من غير أن تمس بيدها شيئا.

ص: 29


1- سورة العنكبوت:56.
2- مجمع البيان 290/4.
3- سورة آل عمران:186.
4- سورة سبأ:15.

ثم فسر الآية فقال جَنَّتانِ أي هي جنتان من عن يمين الوادي و شماله ثم قال كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ المراد به الإباحة و إن كان لفظه لفظ الأمر بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ليس فيها سبخة فأعرضوا عن ذلك فلم يشكروا الله فجازاهم تعالى على ذلك بأن سلبهم نعمة كانت بها و أرسل عليهم سيل العرم و قد كانت تجتمع مياه و سيول في هذا الوادي و سدوه بالحجارة و القاربين الجبلين فجعلوا له أبوابا يأخذون الماء منه بمقدار الحاجة ما شاءوا فلما تركوا أمر الله بعث عليهم جرذا فنقبته فأغرق عليهم جنتهم و أفسد أرضهم.

ثم قال وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ و إنما سماهما بعد ذلك أيضا جنتين ازدواجا للكلام ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ فالأكل جناء الثمر الذي يؤكل و الخمط شجر له ثمر مر.ثم قال ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ثم من الله تعالى عليهم بما يذكر بعد فظهر فيما بينهم المحاسدة فكان كما قال فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي أهلكناهم و ألهمنا الناس أحاديثهم ليعتبروا بها

باب المكاسب المباحة :

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع إِنَّ قَوْماً مِنَ الصَّحَابَةِ لَمَّا نَزَلَ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (1) أَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ وَ أَقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وَ قَالُوا قَدْ كُفِينَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ص فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تَكَفَّلَ اللَّهُ لَنَا بِأَرْزَاقِنَا فَأَقْبَلْنَا عَلَى الْعِبَادَةِ فَقَالَ ع إِنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَجِبِ اللَّهُ لَهُ عَلَيْكُمْ بِالطَّلَبِ (2)

ص: 30


1- سورة الطلاق:3.
2- من لا يحضره الفقيه 192/3.

طَلَبُ الْحَلاَلِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ.

وَ قَالَ : مَلْعُونٌ مَنْ أَلْقَى كَلَّهُ عَلَى النَّاسِ (1).

و قال الله تعالى وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي ثقل على وليه هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (2)

وَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع امْرَأَةٌ دَفَعَتْ إِلَى زَوْجِهَا مَالاً مِنْ مَالِهَا لِيَعْمَلَ بِهِ وَ قَالَتْ لَهُ حِينَ دَفَعَتْهُ إِلَيْهِ أَنْفِقْ مِنْهُ فَإِنْ حَدَثَ بِكَ حَادِثٌ فَمَا أَنْفَقْتَ مِنْهُ لَكَ حَلاَلٌ طَيِّبٌ وَ إِنْ حَدَثَ بِي حَادِثٌ فَهُوَ لَكَ حَلاَلٌ فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ يَا سَعِيدُ الْمَسْأَلَةَ فَلَمَّا ذَهَبْتُ أُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ عَلَيْهِ اعْتَرَضَ فِيهَا صَاحِبُهَا وَ كَانَ صَاحِبُهَا مَعِي فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا قَدْ أَوْصَتْ بِذَلِكَ إِلَيْكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ اللَّهِ فَحَلاَلٌ طَيِّبٌ ثُمَّ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (3) يَعْنِي بِذَلِكَ أَمْوَالَهُنَّ الَّتِي فِي أَيْدِيهِنَّ مِمَّا يَمْلِكْنَ (4).

وَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِرَجُلٍ أَنْتَ وَ مَالُكَ لِأَبِيكَ ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع وَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لاَ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ إِلاَّ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (5) .

و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ (6) .

ص: 31


1- الكافي 72/5.
2- سورة النحل:76.
3- سورة النساء:4.
4- الكافي 136/5،و الزيادة منه،و ليس فيه«يعنى»الخ.
5- الاستبصار 48/3.
6- سورة الأحزاب:53.

نهاهم عن دخول دار النبي ع بغير إذن إلى طعام غير منتظرين بلوغ الطعام و غير نصب على الحال و إن الطعام إذا بلغ حال النضج ثم قال وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا أي إذا دعيتم إلى الطعام فادخلوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي تفرقوا و لا تستأنسوا بطول الحديث و إنما منعوا من الاستيناس لأجل طول الجلوس ثم بين أن الاستيناس بطول الجلوس يؤذي النبي و أنه يستحيي من الحاضرين فيسكت على مضض و مشقة.

فصل

أما قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ (1) إلى آخر الآية.فقد قال ابن عباس ليس في مؤاكلتهم حرج لأنهم كانوا يتحرجون من ذلك.قال الفراء كانت الأنصار تتحرج من ذلك لأنهم كانوا يقولون الأعمى لا يبصر فيأكل جيد الطعام دونه و الأعرج لا يتمكن من الجلوس و المريض يضعف عن المأكل.و قال مجاهد أي ليس عليكم في الأكل من بيوت من سمي على جهة حمل قراباتكم إليهم تستتبعونهم في ذلك حرج.و قال الزهري ليس عليهم حرج في أكلهم من بيوت الغزاة إذا خلفوهم فيها بإذنهم.و قيل كان المخلف في المنزل المأذون له في الأكل فيجوز لئلا يزيد

ص: 32


1- سورة النور:61.

على مقدار المأذون له فيها.و قال الجبائي الآية منسوخة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ (1)

وَ يَقُولُ النَّبِيُّ ع لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ (2). و الذي روي عن أهل البيت ع أنه لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف و هم عشرة (3).و قوله وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ قال الفراء لما نزل قوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً (4) ترك الناس مؤاكلة الصغير و الكبير ممن أذن الله في الأكل معه فقال تعالى و ليس عليكم في أنفسكم و في عيالكم أن تأكلوا معهم إلى قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ أي بيوت صديقكم أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أي بيوت عبيدكم و أموالهم.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ هُوَ الْوَكِيلُ وَ مَنْ جَرَى مَجْرَاهُ. و قال مجاهد و الضحاك هو ما ملكه الرجل نفسه في بيته.و قال قتادة معنى قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ لأنه لا بأس في الأكل من بيت صديقه بغير إذن.و قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً قيل يدخل فيه أصحاب الآفات على التغليب للمخاطب كقولهم أنت و زيد قمتما و قال ابن عباس معناه لا بأس أن يأكل الغني مع الفقير في بيته و قال الضحاك

ص: 33


1- سورة الأحزاب:53.
2- مستدرك الوسائل 146/3.
3- انظر تفسير البرهان 152/3 فما بعد.
4- سورة البقرة:188.

هم قوم من العرب كان الرجل منهم يتحرج أن يأكل وحده و كانوا من كنانة.و قال أبو صالح كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا إلا معه فأباح الله الأكل مفردا و مجتمعا.و الأولى حمل ذلك على عمومه و أنه يجوز الأكل وحدانا و جماعا

باب التصرف في أموال اليتامى

قال الله عز و جل وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ (1) .معنى الآية الأذن لهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل و المشرب و المسكن و نحو ذلك فأذن الله لهم في ذلك إذا تحروا الإصلاح بالتوفير على الأيتام في قول الحسن و غيره و هو المروي في أخبارنا.و قوله فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم خالطتموهم أو لم تخالطوهم وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا و معناه التذكر بالنعمة في التوسعة على ما توجبه الحكمة مع القدرة على التضييق الذي فيه أعظم المشقة.

وَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي يَدِهِ مَالٌ لِأَيْتَامٍ فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُهُ وَ يَنْوِي أَنْ يَرُدَّهُ قَالَ لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ إِلاَّ الْقَصْدَ وَ لاَ يُسْرِفْ فَإِنْ كَانَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ لاَ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ

ص: 34


1- سورة البقرة:220.

فَهُوَ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً (1) .

وَ عَنْ سَمَاعَةَ عَنِ الصَّادِقِ ع فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (2) قَالَ مَنْ كَانَ يَلِي شَيْئاً مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يُقِيمُهُ فَهُوَ يَتَقَاضَى أَمْوَالَهُمْ وَ يَقُومُ فِي ضَيْعَتِهِمْ فَلْيَأْكُلْ بِقَدَرٍ وَ لاَ يُسْرِفْ فَإِنْ كَانَ ضَيْعَتُهُمْ لاَ تَشْغَلُهُ عَمَّا يُعَالِجُ لِنَفْسِهِ فَلاَ يَرْزَأَنَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئاً (3).

وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ قَالَ يَعْنِي الْيَتَامَى إِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَلِي الْأَيْتَامَ فِي حَجْرِهِ فَلْيُخْرِجْ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا تَخْرُجُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَيُخَالِطُهُمْ وَ يَأْكُلُونَ جَمِيعاً وَ لاَ يَرْزَأَنَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئاً إِنَّمَا هِيَ النَّارُ (4). أي ما يضيعه منه.

وَ قَالَ ع فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْقُوتُ وَ إِنَّمَا عَنَى الْوَصِيَّ وَ الْقَيِّمَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ (5).

وَ عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَقَالَ ذَلِكَ رَجُلٌ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَنِ الْمَعِيشَةِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا كَانَ يُصْلِحُ لَهُمْ أَمْوَالَهُمْ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلاً فَلاَ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئاً قَالَ قُلْتُ أَ رَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ قَالَ تُخْرِجُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ وَ تُخْرِجُ مِنْ مَالِكَ قَدْرَ مَا يَكْفِيكَ ثُمَّ تُنْفِقُهُ قُلْتُ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانُوا يَتَامَى صِغَاراً وَ كِبَاراً وَ بَعْضُهُمْ أَعْلَى كِسْوَةً مِنْ بَعْضٍ وَ بَعْضُهُمْ آكَلُ مِنْ بَعْضٍ وَ مَالُهُمْ جَمِيعاً فَقَالَ أَمَّا الْكِسْوَةُ فَعَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ

ص: 35


1- سورة البقرة:219.و الحديث في الكافي 128/5.
2- سورة النساء:5.
3- تهذيب الأحكام 340/6.
4- تهذيب الأحكام 340/6،و الزيادة منه.
5- الكافي 130/5.

ثَمَنُ كِسْوَتِهِ وَ أَمَّا الطَّعَامُ فَاجْعَلُوهُ جَمِيعاً فَإِنَّ الصَّغِيرَ يُوشِكُ أَنْ يَأْكُلَ مِثْلَ الْكَبِيرِ (1).

باب من يجبر الإنسان على نفقته

الذين يجب لهم النفقة بنص القرآن منهم الولد لقوله تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ (2) يعني خشية الفقر فلو لا أن على الوالد نفقة الولد ما قتله خشية الفقر.و هذا الخطاب متوجه إلى الأغنياء الذين يخافون الفقر إن أنفقوا على أولادهم أموالهم فقال تعالى لهم لا تقتلوا أولادكم فإني أرزقهم كما رزقتكم و خاطب الفقراء بالآية الأخرى فقال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ فإني أرزقهم و إياكم (3).فصح أن نفقة الولد على الوالد واجبة سواء كان له مال أو حرفة و صناعة أو أي حيلة يحصل بها ما يقوته و يتبلغ هو به.

و قول الله لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ (4) يمنع من الإضرار به.

أما قوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (5) فإنه تعالى أراد به المطلقات دون الزوجات بدلالة أنه تعالى أوجب الأجرة بشرط الرضاع إلا إذا كانت ناشزا لا تستحق منه النفقة و لأنه تعالى سماه أجرة و النفقة لا تسمى بذلك.و أما وجوب نفقة الوالد على الولد فعلى كل ولد أن ينفق على والده في

ص: 36


1- الكافي 130/5 و الزيادة منه.
2- سورة الإسراء:31.
3- سورة الأنعام:151.
4- سورة البقرة:233.
5- سورة الطلاق:6.

الجملة و على الوالدة أيضا هذا إذا كان له يسار و ما يجري مجراه و الدليل على هذا قوله تعالى وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً (1) فعلى هذا إن احتاج الوالد و لا ينفق الولد عليه يجوز للوالد حينئذ أن يأخذ من مال ولده قدر ما يحتاج إليه من غير إسراف بل على طريق القصد.فأما من كان له أولاد صغار فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من أموالهم إلا قرضا على نفسه و أما الوالدة فلا يجوز لها أن تأخذ من ولدها شيئا على حال إلا على سبيل القرض على نفسها.و المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من بيت زوجها من غير إذنه إلا المأدوم فإن ذلك مباح لها أن تتصرف فيه ما لم يؤد إلى ضرر.و يجبر الرجل على نفقة ستة ولده و والديه و جده و جدته من الطرفين و زوجته و المملوك أيضا.و يستحب له النفقة على الآخرين من ذوي أرحامه.و إذا كان للولد مال و لم يكن لوالده شيء جاز له أن يأخذ منه ما يحج به حجة الإسلام فأما حجة التطوع فلا يجوز له إلا بإذنه

باب السبق و الرماية

قال الله تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (2) .

فَقَالَ النَّبِيُّ ص أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ثَلاَثاً. و وجه الدلالة أن الله أمر بإعداد الرمي و رباط الخيل للحرب و لقاء العدو

ص: 37


1- سورة لقمان:15.
2- سورة الأنفال:60.

و الإعداد لا يكون إلا بالتعلم و النهاية في التعلم المسابقة في ذلك ليكد كل واحد نفسه في بلوغ النهاية و الحذف فيه فكان في ضمن الآية دليل على ما قلناه.

و قال تعالى حكاية عن ولد يعقوب يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ (1) فأخبر بالمسابقة.

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص لاَ سَبْقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ (2). بسكون الباء و فتحها فالسكون مصدر و بالفتح الفرض المخرج في المسابقة فأحل ع السبق و أباحه في هذه الثلاثة.

" وَ سُئِلَ أَنَسٌ هَلْ كُنْتُمْ تُرَاهِنُونَ فَقَالَ نَعَمْ. و لا خلاف في جوازه و إنما الخلاف في أعيان المسائل.فإذا تقرر جواز ذلك في الجملة فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه و ما لا يجوز.فما تضمنه الخبر من النصل و الحافر و الخف ضربان أحدهما نشابة و هي للعجم و الآخر السهم و هو للعرب و المزاريق و هي الردينيات و الرماح و السيوف كل ذلك من النصل و يجوز المسابقة عليه بعوض لقوله تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ الآية.و أما الخف فالإبل يجوز المسابقة عليها لقوله فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ (3) فالركاب الإبل و كذا المسابقة على الخيل فجائز لقوله و من رباط الخيل (4) و قوله مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ و عليه الإجماع

ص: 38


1- سورة يوسف:17.
2- وسائل الشيعة 349/13.
3- سورة الحشر:6.
4- سورة الأنفال:60.

باب الزيادات

قوله تعالى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ (1) .

رَكِبَ عَلِيٌّ ع يَوْماً دُلْدُلَ لِيَخْرُجَ إِلَى مَوْضِعٍ فَأَتَى مَسْجِدَ الْكُوفَةِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَخْرُجَ وَ كَانَ مُنْفَرِداً فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَأَى رَجُلاً هُنَاكَ فَقَالَ احْفَظْهَا لِأَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا خَرَجْتُ أَعْطَيْتُكَ شَيْئاً فَأَخَذَ الرَّجُلُ اللِّجَامَ مِنْ رَأْسِ الْبَغْلَةِ وَ مَضَى فَلَمَّا خَرَجَ ع مِنَ الصَّلاَةِ فَإِذَا بِقَنْبَرٍ وَ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ حَوْلَ الْبَغْلَةِ وَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا اللِّجَامُ فَقَالَ ع سُبْحَانَ اللَّهِ إِنِّي أَخَذْتُ دِرْهَمَيْنِ لِأَدْفَعَهُمَا إِلَيْهِ فَدَفَعَهُمَا إِلَى قَنْبَرَ لِيَشْتَرِيَ بِهِمَا لِجَاماً فَلَمَّا دَخَلَ قَنْبَرُ أَوَّلَ السُّوقِ فَإِذَا الرَّجُلُ بَاعَهُ بِدِرْهَمَيْنِ قُرَاضَةً فَلَمَّا عَادَ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّاسِ وَ قَالَ لاَ تَتَعَرَّضُوا لِلْحَرَامِ وَ لاَ تَأْكُلُوا مَالَ غَيْرِكُمْ غَصْباً فَتُحْرَمُوا فِي يَوْمِكُمْ مِقْدَارَ ذَلِكَ مِنْ رِزْقِكُمْ وَ كُلُّ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَرَامِ وَ لاَ يَأْخُذُ فَاللَّهُ يَرْزُقُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِقْدَارَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ حَلاَلاً طَيِّباً قَالَ تَعَالَى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ .

ص: 39


1- سورة طه:81.

كتاب المتاجر

في جواز التجارة

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ (1) .نهى الله عن أكل الأموال بالباطل و استثنى المتاجر من ذلك و جعلها حقا يخرج به مستعملها من الباطل.و قيل في معناه قولان أحدهما

قَالَ السُّدِّيُّ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالرِّبَا وَ الْقِمَارِ وَ الْبَخْسِ وَ الظُّلْمِ وَ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع الثاني قال الحسن بغير استحقاق من طريق الأعواض.و كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما أنزلت هذه الآية إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة النور لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ

ص: 40


1- سورة النساء:29.

إلى قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً (1) .و الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق فليس هو أكلا بالباطل و قيل معناه التجاوز و الأخذ من غير وجهه و لذلك قال تعالى بَيْنَكُمْ .و قوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً فيه دلالة على بطلان من حرم الكسب لأن الله حرم أكل الأموال بالباطل و أحله بالتجارة على طريق المكاسب و مثله قوله وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (2) .و قوله تعالى عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ قيل في معنى التراضي بالتجارة قولان أحدهما إمضاء البيع بالتفرق أو التخاير بعد العقد في قول شريح و الشعبي و ابن سيرين

لِقَوْلِهِ ع الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا (3). أو يكون بيع خيار و ربما قالوا أو يقول أحدهما للآخر اختر و هو مذهبنا.الثاني إمضاء البيع بالعقد على قول مالك بن أنس و أبي حنيفة بعلة رده إلى عقد النكاح و لا خلاف أنه لا خيار فيه بعد الافتراق و قيل معناه إذا تغابنوا فيه مع التراضي فإنه جائز.ثم قال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تهلكوها بترك التجارة و بارتكاب الآثام و العدوان في أكل الأموال بالباطل و غيره وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً الإشارة إلى أكل الأموال بالباطل.و قوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً من رفع فالمعنى إلا أن يقع و من نصب فمعناه إلا أن تكون الأموال تجارة أي أموال تجارة و حذف المضاف و يكون الاستثناء منقطعا و يجوز أن يكون التقدير إلا أن تكون التجارة تجارة و الرفع أقوى لأنه أدل على الاستثناء فإن التحريم لأكل المال بالباطل على الإطلاق

ص: 41


1- سورة النور:61.
2- سورة البقرة:275.
3- الكافي 170/5.

باب آداب التجارة

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (1) فندب تعالى إلى الإنفاق من طيب الاكتساب و نهى عن طلب الخبيث للمعيشة به و الإنفاق فمن لم يتفقه لم يميز بين العقود الصحيحة و الفاسدة و لم يعرف فرق ما بين الحلال و الحرام من الكسب فلم يكن مجتنبا للخبيث من الأعمال.و ينبغي للتاجر إذا عامله مؤمن ألا يربح عليه إلا في حال الضرورة و يقنع بما لا بد له من اليسير مع الاضطرار أيضا.

قال تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (2) أمر الله نبيه ع أن يأخذ مع الناس بالعفو و هو التساهل فيما بينه و بينهم و أن يترك الاستقصاء عليهم في ذلك و هذا يكون في مطالبة الحقوق الواجبة لله و للناس و في غيرها و هو في معنى الخبر

عَنِ النَّبِيِّ ع رَحِمَ اللَّهُ سَهْلَ الْقَضَاءِ سَهْلَ الاِقْتِضَاءِ بَائِعاً وَ مُشْتَرْياً. و لا ينافي ذلك أن لصاحب الحق و الديون و غيرها استيفاء الحق و ملازمة صاحبه حتى يستوفيه لأن ذلك مندوب إليه دون أن يكون واجبا. وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ أي المعروف و هو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أمر بالإعراض عن السفيه الذي إن بايعه

ص: 42


1- سورة البقرة:267.
2- سورة الأعراف:199.

أو شاراه سفه عليه (1) و آذاه

وَ إِلَى هَذَا أَشَارَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع بِقَوْلِهِ لِأَهْلِ السُّوقِ كُلَّ بُكْرَةٍ يَغْتَدِي إِلَيْهِمْ تَبَرَّكُوا بِالسُّهُولَةِ وَ اقْتَرِبُوا مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَ تَنَاهَوْا عَنِ الْيَمِينِ وَ جَانِبُوا الْكَذِبَ وَ الظُّلْمَ وَ لاَ تَقْرَبُوا الرِّبَا وَ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ .. وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَ إِيَّاكُمْ وَ مُخَالَطَةَ السَّفِلَةِ وَ هُوَ الَّذِي لاَ يُبَالِي بِمَا قَالَ وَ مَا قِيلَ لَهُ وَ لاَ تُعَامِلُوا إِلاَّ مَنْ يَشَاءُ فِي خَيْرٍ قَالَ تَعَالَى وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (2) .

فصل

قال الله تعالى وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ (3) و لا يكون الوفاء حتى يميل الميزان.

وَ كَانَ ع يَقُولُ زِنْ يَا وَزَّانُ وَ أَرْجِحْ. فلهذا أمرنا أن لا نأخذ إلا ناقصا و أن لا نعطي إلا راجحا.

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص مَنْ بَاعَ وَ اشْتَرَى فَلْيَحْفَظْ خَمْسَ خِصَالٍ وَ إِلاَّ فَلاَ يَشْتَرِي وَ لاَ يَبِيعُ الرِّبَا وَ الْحَلْفَ وَ كِتْمَانَ الْعَيْبِ وَ الْمَدْحَ إِذَا بَاعَ وَ الذَّمَّ إِذَا اشْتَرَى (4).

قال الله تعالى أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (5) و قال وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ (6) .

ص: 43


1- ليست الزيادة في ج.
2- وسائل الشيعة 284/12.
3- سورة الإسراء:35.
4- وسائل الشيعة 284/12.
5- سورة البقرة:275.
6- سورة البقرة:224.

و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1) فلا ينبغي تزيين متاعه بأن يرى جيده و يكتم رديه و لقوله تعالى وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ (2) فالغلول الخيانة لأنه يجري في الملك على خفي من غير الوجه الذي يحل كالغلل و هو دخول الماء في خلل الشجر و إنما خصت الخيانة بالصفة دون السرقة لأنه يجري إليها بسهولة لأنها مع عقد الأمانة.

وَ قَالَ النَّبِيُّ ع حِينَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ يَبِيعُ التَّمْرَ وَ كَانَ يَخْلُطُ الرَّدِيءَ بِالْجَيِّدِ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (3). و لا يجوز أن يشوب اللبن بالماء لأن العيب لا يتبين فيه.

وَ عَنْ إِسْحَاقَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الرَّجُلِ يَبْعَثُ إِلَى الرَّجُلِ يَقُولُ لَهُ ابْتَعْ لِي ثَوْباً فَيَطْلُبُ لَهُ فِي السُّوقِ فَيَكُونُ عِنْدَهُ مِثْلَ مَا يَجِدُ لَهُ فِي السُّوقِ فَيُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لاَ يَقْرَبَنَّ هَذَا وَ لاَ يُدَنِّسْ نَفْسَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (4) وَ إِنْ كَانَ مَا عِنْدَهُ خَيْراً مِمَّا يَجِدُ لَهُ فِي السُّوقِ فَلاَ يُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِهِ إِلاَّ بِإِعْلاَمِهِ ذَلِكَ (5). و كذلك من باع لغيره شيئا فلا يشتريه لنفسه و إن زاد في ثمنه على ما يطلب في الحال إلا بعلم من صاحبه و إذن من جهته.

ص: 44


1- سورة الأنفال:27.
2- سورة آل عمران:161.
3- انظر وسائل الشيعة 208/12-211 فقيه أحاديث بهذا المضمون لا بهذا اللفظ.
4- سورة الأحزاب:72.
5- تهذيب الأحكام 352/6 مع اختلاف يسير.

و لا يجوز للرجل أن يدخل في سوم أخيه فقد عاتب الله نبيه داود فقال إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها (1) الآية.و إذا تعسر عليه نوع من التجارة فليتحول منه إلى غيره

باب أحكام الربا

قال الله تعال اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ (1) .أصل الربا الزيادة من قولهم ربا الشيء يربو إذا زاد و الربا هو الزيادة على رأس المال في جنسه أو مماثله و ذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة في الأجل أو كإعطاء درهم بدرهمين أو دينار بدينارين.و المنصوص عليه تحريم التفاضل في ستة أشياء الذهب و الفضة و الحنطة و الشعير و التمر و الملح و قيل الزبيب

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص فِيهَا مِثْلاً بِمِثْلٍ يَداً بِيَدٍ مَنْ زَادَ وَ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى. فهذه الستة أشياء لا خلاف بينهم في حصول الربا فيها و باقي الأشياء عند الفقهاء مقيس عليها و فيها خلاف بينهم.و عندنا أن الربا في كل ما يؤكل و يوزن إذا كان الجنس واحدا منصوصا عليه و العموم يتناول كل ذلك و لا يحتاج إلى قياس.و الربا محرم متوعد عليه كبيرة موبقة بلا خلاف بهذه الآية و بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا (2) و بقوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا

بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ (3) .أما قوله لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ قال ابن عباس إن قيامهم على هذه الصفة يكون يوم القيامة إذا قاموا من قبورهم و يكون ذلك أمارة على أنهم آكلة الربا.و قوله يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ مثل لا حقيقة عند الجبائي على وجه النسبة بحال من تغلب عليه المرة السوداء فتضعف نفسه و نسب إلى الشيطان مجازا لما كان عند وسوسته.ثم قال ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا معناه ذلك العقاب لهم بسبب قولهم إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا.

ص: 45


1- سورة البقرة:275.
2- سورة البقرة:278.
3- سورة ص:23.

بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ (1) .أما قوله لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ قال ابن عباس إن قيامهم على هذه الصفة يكون يوم القيامة إذا قاموا من قبورهم و يكون ذلك أمارة على أنهم آكلة الربا.و قوله يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ مثل لا حقيقة عند الجبائي على وجه النسبة بحال من تغلب عليه المرة السوداء فتضعف نفسه و نسب إلى الشيطان مجازا لما كان عند وسوسته.ثم قال ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا معناه ذلك العقاب لهم بسبب قولهم إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ عَلَى غَرِيمِهِ يُطَالِبُهُ بِهِ قَالَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ لَهُ زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَ أَزِيدُكَ فِي الْمَالِ فَيَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ وَ يَعْمَلاَنِ بِهِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا رِبًا قَالُوا هُمَا سَوَاءٌ يَعْنُونَ بِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ حَالَ الْبَيْعِ وَ الزِّيَادَةَ فِيهِ بِسَبَبِ الْأَجَلِ عِنْدَ مَحَلِّ الدَّيْنِ سَوَاءٌ فَذَمَّهُمُ اللَّهُ وَ أَوْعَدَهُمْ وَ خَطَّأَهُمْ. و قال بعضهم إنهم قالوا الزيادة على رأس المال بعد تصييره على جهة الدين كالزيادة عليه في ابتداء البيع و ذلك خطأ لأن أحدهما محرم و الآخر مباح و هو أيضا منفصل منه في العقد لأن الزيادة في أحدهما لتأخير الدين و في الآخر لأجل البيع.و الفرق بين البيع و الربا أن البيع ببدل لأن الثمن فيه بدل المثمن و الربا ليس كذلك و إنما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل أو زيادة في الجنس.و قد أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ

ص: 46


1- سورة البقرة:279.

أي له ما أكل و ليس عليه رد ما سلف إذا لم يكن علم أنه حرام.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع مَنْ أَدْرَكَ الْإِسْلاَمَ وَ تَابَ مِمَّا كَانَ عَمِلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَضَعَ اللَّهُ عَنْهُ مَا سَلَفَ فَمَنِ ارْتَكَبَ رِبًا بِجَهَالَةٍ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى شَيْءٌ وَ مَتَى عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَ تَمَكَّنَ مِنْ عَمَلِهِ فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ. و قال السدي في معنى قوله فَلَهُ ما سَلَفَ له ما أكله و ليس عليه رد ما سلف فأما من لم يقبض بعد فلا يجوز له أخذه و له رأس المال.و يحتمل أن يكون أراد فَلَهُ ما سَلَفَ يعني من الربا المأخوذ دون العقاب الذي استحقه.و قوله وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ معناه في جواز العفو عنه إن لم يتب وَ مَنْ عادَ لأكل الربا بعد التحريم فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ لأن ذلك لا يصدر إلا عن كافر لأن مستحل الربا كافر بالإجماع.

فصل

و الوعيد في الآية متوجهة إلى من أربى و إن لم يأكله و إنما ذكر الله اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لأنها نزلت في قوم كانوا يأكلونه فوصفهم بصفتهم فحكمها ثابت في جميع من أربى و الآية الأخرى التي ذكرناها تبين ما قلناه و عليه أيضا الإجماع.و قيل الوجه في تحريم الربا أن فيه تعطيل المعايش و الأجلاب فالتاجر إذا وجد المربي و من يعطيه دراهم فضلا بدراهم لا يقرض

وَ قَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع إِنَّمَا شُدِّدَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا لِئَلاَّ يَمْتَنِعَ النَّاسُ مِنِ اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ

ص: 47

قَرْضاً أَوْ رِفْداً (1).

ثم قال تعالى يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ (2) المحق نقصان الشيء حالا بعد حال قال البلخي محقه في الدنيا بسقوط عدالته و الحكم بفسقه و تسميته به.

و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً (3) قيل في تحريم الربا خاصة مع ما في قوله أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (4) و غير ذلك قولان أحدهما التصريح بالنهي عنه بعد الإخبار بتحريمه لما في ذلك من تصريف الحظر له و شدة التحذير منه.الثاني لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الذي يجري على الأضعاف المضاعفة و قيل في معناه هاهنا قولان أحدهما للمضاعفة بالتأخير أجلا بعد أجل كما أخر أجلا عن أجل إلى غيره زيد عليه زيادة على المال الثاني أي تضاعفون به أموالكم.و الربا المنهي عنه قال عطا و مجاهد هو ربا الجاهلية و هو الزيادة على أصل المال للتأخير عن الأجل الحال و يدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة من جهة المضاعفة.و وجه تحريم الربا هو المصلحة التي علم الله تعالى فإن ذلك يدعو إلى العدل و يحض عليه و يدعو أيضا إلى مكارم الأخلاق بالإقراض و إنظار المعسر من غير زيادة.

ص: 48


1- في الوسائل 422/12 فما بعد أحاديث بهذا المعنى.
2- سورة البقرة:276.
3- سورة آل عمران:130.
4- سورة البقرة:275.

و معنى لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا لا تزيدوا على رأس المال و ليس المراد النهي عن الأكل فقط و إنما جاز ذلك لأنه معلوم المراد.و قوله تعالى أَضْعافاً مُضاعَفَةً حال للربا و الأضعاف جمع ضعف و الربا مصدر كأنه قال لا تزيدوا زيادة متكررة.و قد بين رسول الله ص أن قليل الربا حرام ككثيره.

وَ سُئِلَ الصَّادِقُ ع عَنْ قَوْلِهِ يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ قِيلَ قَدْ أَرْبَى مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا يَرْبُو مَالُهُ قَالَ أَيُّ مَحْقٍ أَمْحَقُ مِنْ دِرْهَمِ رِبًا يَمْحَقُ الدِّينَ وَ إِنْ تَابَ مِنْهُ ذَهَبَ مَالُهُ وَ افْتَقَرَ (1).

باب البيع بالنقد و النسيئة و الشرط في العقود

البيع نقدا و نسيئة جائز لأن قول الله عز و جل وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ يتناوله على كل الوجوه فمن باع شيئا و لم يذكر فيه ثمنه نقدا و لا نسيئة كان الثمن حالا.فإن ذكر أن يكون الثمن آجلا فلا يخلو إما أن يكون أجلا مجهولا مثل قدوم الحاج و إدراك الغلات فالبيع باطل على هذا و إن كان الأجل معينا كان البيع صحيحا و الأجل على ما ذكر و الذي يدل على هذا الفصل و التفصيل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى (2) .و كذلك إذا باع بنسيئة و لم يذكر الأجل أصلا كان البيع أيضا باطلا لأن الله اعتبر في هذه الآية الأجل و أن يكون ذلك الأجل مسمى معينا.

ص: 49


1- وسائل الشيعة 424/12.
2- سورة البقرة:282.

و الآية تدل على صحة اشتراء السلف و صحة بيع النسيئة بشرط تعيين أجلهما.و لا بد من حضور الثمن و المثمن و لا يجوز تأخير الثمن عن وقت وجوبه لزيادة فيه لأنه ربا على ما ذكرناه و لا بأس بتعجيله بنقصان شيء منه لقوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا (1) .

فصل

و قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ عام في كل بيع شرعي.ثم اعلم أن البيع هو انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدر على وجه التراضي على ما يقتضيه الشرع.و هو على ثلاثة أضرب بيع عين مرئية و بيع موصوف في الذمة و بيع خيار الرؤية.فأما بيع الأعيان المرئية فهو أن يبيع إنسان عبدا حاضرا أو ثوبا حاضرا أو عينا من الأعيان حاضرة فيشاهد البائع و المشتري ذلك فهذا بيع صحيح بلا خلاف.و أما بيع الموصوف في الذمة فهو أن يسلمه في شيء موصوف إلى أجل معلوم و يذكر الصفات المقصودة فهذا أيضا صحيح بلا خلاف.و أما بيع خيار الرؤية فهو بيع الأعيان الغائبة و هو أن يبتاع شيئا لم يره مثل أن يقول بعتك هذا الثوب الذي في كمي أو الثوب الذي في الصندوق و ما أشبه ذلك فيذكر جنس المبيع فيتميز من غير جنسه و يذكر الصفة و لا فرق بين أن يكون البائع رآه و المشتري لم يره أو يكون المشتري رآه و البائع لم

ص: 50


1- الزيادة من م.

يره أو لم يرياه معا فإذا عقد البيع ثم رأى المبيع فوجده على ما وصفه كان البيع ماضيا و إن وجده بخلافه كان له رده و فسخ العقد.و لا بد من ذكر الجنس و الصفة فمتى لم يذكرهما أو واحدا منهما لم يصح البيع و متى شرط المشتري خيار الرؤية لنفسه كان جائزا فإذا رآه بالصفة التي ذكرها لم يكن له الخيار و إن وجده مخالفا كان له الخيار هذا إذا لم يكن رآه و إن كان قد رآه فلا وجه لشرط الرؤية لأنه عالم به قبل الرؤية.

و قوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ يدل أيضا على أكثر ما ذكرناه.

فصل

و قوله تعالى إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يدل على صحة السلف في جميع المبيعات و إنما يجوز ذلك إذا جمع شرطين تميز الجنس من غيره مع تحديده بالوصف و الثاني ذكر الأجل فيه فإذا اختل شيء منهما لم يصح السلف و هو بيع مخصوص.و كل شيء لا يتحدد بالوصف مثل روايا الماء و الخبز و اللحم لم يصح السلف فيه لأن ذلك لا يمكن تحديده بوصف لا يختلط به سواه و قال بعض أصحابنا إنه جائز و الأول أظهر.و كل شرط يوافق شريعة الإسلام اعتبره المشتري فإنه يلزم لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

وَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ص الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ.

وَ عَنْ فُضَيْلٍ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع مَا الشَّرْطُ فِي الْحَيَوَانِ قَالَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ شَرَطَ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ وَ يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُبْتَاعِ خَاصَّةً فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ حَدَثاً قُلْتُ فَمَا الشَّرْطُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ قَالَ

ص: 51

الْبَيِّعَانِ فِي الْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا فَإِذَا افْتَرَقَا فَلاَ خِيَارَ بَعْدَ الرِّضَا مِنْهُمَا إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَا إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ (1).

وَ قَالَ ع لاَ بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْمَتَاعِ [إِذَا وَصَفْتَ الطُّولَ وَ الْعَرْضَ (2) إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَ فِي الْحَيَوَانِ] (3) إِذَا وَصَفْتَ أَسْنَانَهَا (4). و قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ (5) يختص بهذا النوع من المبايعة

باب في أشياء تتعلق بالمبايعة و نحوها

الاحتكار يكون في ستة أشياء الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن و الملح.و هو حبسها من البيع و لا يجوز ذلك و بالناس حاجة و لا يوجد غيره في البلد فإذا ضاق الطعام و لا يوجد إلا عند من احتكره كان للسلطان أن يجبره على بيعه و لم يكرهه على سعر بعينه إذا باع هو على التقريب من سعر الوقت فإن كان سعر الغلة مثلا عشرين منا بدينار فلا يمكن أن يبيع خمسة أمنان بدينار و يجبره على ما هو مقاربة للعشرين.و قد بينها رسول الله ص لقوله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ

وَ قَالَ ع عَلاَمَةُ رِضَا اللَّهِ فِي خَلْقِهِ عَدْلُ سُلْطَانِهِمْ وَ رُخْصُ أَسْعَارِهِمْ

ص: 52


1- الكافي 170/5 بمضمونه.
2- إلى هنا في رواية في الكافي 199/5.
3- الزيادة من م.
4- الكافي 220/5.
5- سورة البقرة:282.

[وَ عَلاَمَةُ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ جَوْرُ سُلْطَانِهِمْ وَ غَلاَءُ أَسْعَارِهِمْ] (1). و على هذا قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف ع له يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ (2) .

وَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ص قوما [قَوْمٌ] فَشَكَوْا إِلَيْهِ سُرْعَةَ نَفَادِ طَعَامِهِمْ فَقَالَ تَكِيلُونَ أَمْ تَهِيلُونَ (3) فَقَالُوا نَهِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَعْنُونَ الْجِزَافَ فَقَالَ ع لَهُمْ كِيلُوا وَ لاَ تَهِيلُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ (4).

وَ رُوِيَ أَنَّ مَنْ أَهَانَ بِالْمَأْكُولِ أَصَابَهُ الْمَجَاعَةُ.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع إِذَا أَصَابَتْكُمْ مَجَاعَةٌ فَأَعِينُوا بِالزَّبِيبِ (5). و قوله تعالى وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ (6) معناه لو كنت عالما بما يكون من أحوال الدنيا لاشتريت في الرخص و بعت في الغلاء وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي الفقر.فإن قيل فهل اطلع نبيه على الغيب.قلنا على الإطلاق لا لأن الله تعالى يقول وَ ما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ (7) و المعنى و لكن الله اجتبى رسوله بأعلامه كثيرا من الغائبات.

ص: 53


1- الكافي 162/5 و الزيادة منه و من م.
2- سورة يوسف:88.
3- كل شيء ارسلته ارسالا من رمل او تراب أو طعام و نحوه قلت هلته أهيله هيلا فانهال أى جرى و انصب..و أهلت الدقيق لغة في هلت-صحاح اللغة 1855/5.
4- الكافي 167/5.
5- المصدر السابق 308/5.
6- سورة الأعراف:188.
7- سورة آل عمران:179.

وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع إِذَا حَدَّثْتُمْ بِشَيْءٍ فَسَلُونِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِهِ إِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ الْقِيلِ وَ الْقَالِ وَ فَسَادِ الْمَالِ وَ كَثْرَةِ السُّؤَالِ فَقَالُوا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ (1) وَ قَالَ وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً (2) وَ قَالَ لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (3) ثُمَّ قَالَ لاَ تُمَانِعُوا قَرْضَ الْخَمِيرِ وَ الْجُبُنِّ فَإِنَّ مَنْعَهُ يُورِثُ الْفَقْرَ.

وَ قَالَ عَلِيٌّ ع مَنْ بَاعَ الطَّعَامَ نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ (4).

وَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ ع مَنِ اشْتَرَى الْحِنْطَةَ زَادَ مَالُهُ وَ مَنِ اشْتَرَى الدَّقِيقَ ذَهَبَ نِصْفُ مَالِهِ وَ مَنِ اشْتَرَى الْخُبْزَ ذَهَبَ مَالُهُ وَ ذَلِكَ لِمَنْ يَقْدِرُ وَ لاَ يَفْعَلُ (5).

فصل

و قوله تعالى أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (6) المعنى أعطوا الواجب وافيا غير ناقص و يدخل الوفاء في الكيل و الذرع و العدد و المخسر المعرض للخسران في رأس المال يقال أخسر يخسر إذا جعله يخسر في ماله و هو نقيض أربحه و القسطاس الميزان نهاهم

ص: 54


1- سورة النساء:113.
2- سورة النساء:4.
3- سورة المائدة:104.و الحديث في تهذيب الأحكام 231/7،و ليس فيه الذيل المذكور هنا.
4- وسائل الشيعة 99/12.
5- الكافي 166/5 بهذا المعنى عن الصادق عليه السلام و ليس بلفظه.
6- سورة الشعراء:181-182.

الله أن يكونوا من المخسرين.و قال تعالى وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ (1) نهاهم أن يبخسوا الناس فيما يكيلونه أو يزنونه و قال لهم إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي برخص السعر و حذرهم الغلاء في قول ابن عباس.و قال تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (2) هدد الله بهذا الخطاب كل من بخس غيره حقه و نقصه ماله من مكيل و موزون فالبائع و المشتري مخاطبان بهذا لأن الكيل و وزن المتاع على البائع فتوفية ذلك عليه و وزن الثمن على المشتري فإن لم يحسنا ذلك لم يتعرضا له و ليول كل واحد منهما ما عليه غيره و أجرته عليه و الكيال و وزان الأمتعة يعينان البائع فأجرتهما عليه و الناقد و وزان الذهب و الفضة يعينان المشتري فأجرتهما عليه.و التطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن و لفظة المطففين صفة ذم لا يطلق على من طفف شيئا يسيرا إلى أن يصير إلى حال يتفاحش و في الناس من قال لا يطلق حتى يطفف أقل ما يجب فيه القطع في السرقة لأن ما يقطع فيه فهو كثير.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلاً إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ. ثم قال تعالى اَلَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ أي أخذوا ما عليهم وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ فإن بعض المفسرين يجعلهم فعلا في موضع رفع بمعنى الفاعل و الباقون يجعلونه في موضع نصب و هو الصحيح.

ص: 55


1- سورة هود:84.
2- سورة المطففين:1.

فصل

و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ (1) يدل على أنه إذا كان لرجل مال فيه عيب و أراد بيعه وجب عليه أن يبين للمشتري عيبه و لا يكتمه أو يتبرأ إليه من العيوب و الأحوط الأول.قال تعالى وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ أي و لا تخونوا أماناتكم و عمومه يدل على أكثر مسائل البيع فإن لم يبين البائع العيب الذي في المبيع و اشتراه إنسان فوجد به العيب كان المشتري بالخيار إن شاء رضي به و إن شاء رده بالعيب و استرجع الثمن و إن شاء أخذ الأرش.و إن اختار فسخ البيع و رد المبيع فإن لم يكن حصل من جهة المبيع نماء رده و استرجع الثمن و إن حصل نماء و فائدة فلا يخلو أن يكون كسبا من جهته أو نتاجا و ثمرة فإن كان كسبا مثل أن كسب بعمله أو بتجارته أو يوهب له شيء أو يصطاد أو يحتطب فإنه يرد المعيب و لا يرد الكسب

لِقَوْلِ النَّبِيِّ ع الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ. و الخراج اسم للفائدة و الغلة التي تحصل من جهة المبيع و معنى الخبر أن الخراج لمن يكون المال يتلف من ملكه و لما كان المبيع إن تلف يتلف من ملك المشتري لأن الضمان انتقل إليه كان الخراج له و النتاج و الثمرة أيضا للمشتري و إن حصل من المبيع نماء قبل القبض كان ذلك للبائع إذا أراد الرد بالعيب لأن ضمانه على الظاهر من الخبر على البائع هاهنا.و لا يجوز لكافر أن يشتري عبدا مسلما و لا يثبت ملكه عليه لقوله تعالى وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (2) .

ص: 56


1- سورة الأنفال:27.
2- سورة النساء:141.

و لا يجوز بيع رباع مكة و لا إجارته لقوله تعالى سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ (1)

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع اشْتَرُوا وَ إِنْ كَانَ غَالِياً فَإِنَّ الرِّزْقَ يَنْزِلُ مَعَ الشِّرَاءِ (2).

وَ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص لَمْ يَأْذَنْ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي تِجَارَةٍ حَتَّى ضَمِنَ لَهُ إِقَالَةَ النَّادِمِ وَ إِنْظَارَ الْمُعْسِرِ وَ أَخْذَ الْحَقِّ وَ إِعْطَاءَ الْحَقِّ (3). و قيل في قوله تعالى أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا يحتمل إحلال الله البيع معنيين أحدهما أن يكون إحلال بيع يعقده البيعان عن تراض منهما و كانا جائزي الأمر و هذا لا يصح لأن الله لما أحل البيع و حرم الربا و قد يتراضيان بما يؤدي إلى الربا و لا يصح ذلك.و الثاني أن يكون أحل الله البيع المشروع فيكون من العام الذي أراد به الخاص فبين النبي ص ما أحله الله و ما حرمه أو يكون داخلا فيهما فأصل البيع كله مباح إلا ما نهى النبي ع و ما فارق ذلك من البيوع التي لا ربا فيها أبحناه بما وصفنا من إباحة الله البيع.و نظيره قولنا إن السلم مخصوص من خبر النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان و لا يكون داخلا في عمومه.و من هذا الجنس ما أمر الله به من قتال المشركين كافة و قوله تعالى حَتّى

يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (1) فلم يدخل أهل الكتاب في عموم النهي أمرنا فيها بقتال المشركين

ص: 57


1- سورة الحجّ:25.
2- تهذيب الأحكام 4/7.
3- الكافي 151/5 مع اختلاف يسير.

يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (1) فلم يدخل أهل الكتاب في عموم النهي أمرنا فيها بقتال المشركين

فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ يَا حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. و أذن في السلف علمنا أن هذا لا يدخل في عموم الأول

باب الرهن و أحكامه

قال الله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (2) الرهن في اللغة الثبات و الدوام و في الشريعة اسم لما يجعل وثيقة في دين و هو جائز بالإجماع و السنة و الكتاب.قال الله تعالى فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ تقديره و الوثيقة رهن و يجوز فعليه رهن مقبوضة.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع إِنَّ النَّبِيَّ ص رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ عَلَى شَعِيرٍ أَخَذَهُ لِأَهْلِهِ (3). قيل و إنما عدل عن أصحابه إلى يهودي لئلا يلزمه منه بالإبراء فإنه لم يأمن أن استقرض من بعضهم إن يبرئه منه و ذلك يدل على أن الإبراء يصح من غير قبول المبرئ.و عقد الرهن يحتاج إلى إيجاب و قبول و قبض برضا الراهن.و ليس الرهن بواجب و إنما هو وثيقة جعلت إلى رضا المتعاقدين و يجوز في السفر و الحضر.و الدين الذي يجوز أخذ الرهن به هو كل دين ثابت في الذمة مثل الثمن

ص: 58


1- سورة التوبة:29.
2- سورة البقرة:283.
3- مستدرك الوسائل 494/2 بمضمونه.

و الأجرة و المهر و العوض في الخلع و أرش الجناية و قيمة المتلف كل ذلك يجوز أخذ الرهن به.و في الدية على العاقلة يجوز بعد الحول و قبل الحول لا يجوز فإن لم يقبض المرهون لم ينعقد الرهن لأن الله جعل من شرط صحة الرهن أن تكون مقبوضة قال تعالى فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ .و الرهن و الرهان (1) كلاهما جمع واحدهما رهن كجبل و جبال و سقف و سقف و لا يعرف في الأسماء فعل و فعل غير هذين و لو قلنا الرهن جمع الجمع لأن فعالا و فعالا كثير لكان أقيس.و يجوز أخذ الرهن في الحضر مع وجود الكاتب لما قدمنا أن النبي ص اشترى طعاما نسيئة و رهن فيه درعا.و لما أمر تعالى بالإشهاد في السلم بقوله وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ سنة و احتياطا أمر بالرهن احتياطا أيضا إذا لم يوجد كاتب و لا شهيد.و إنما أورد ذكر كون السفر فيه و شرط الكلام به إما لأن تلك الحال التي نزلت الآية فيها كانت على تلك الصفة و إما لأن فقدان البينة على الأغلب في حال السفر لا لأنه شرط في صحته.

فصل

ثم قال تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ (2) فبين سبحانه بهذا أن الإشهاد و الكتابة في المداينة و الرهن ليس بواجب على ما ذكرناه و إنما هو على جهة الاحتياط معناه إن ائتمنه فلم يقبض منه رهنا فليؤد الذي

ص: 59


1- بضم الراء في الأول و كسره في الثاني.
2- سورة البقرة:283.

اؤتمن الأمانة يعني على الذي عليه الدين بأن يؤدي إليه حقه في محله و يؤدي الأمانة كما وثق به و اعتقد فيه أي ليقض دينه الذي أمنه عليه و الائتمان افتعال من الأمن يقال أمنه و ائتمنه. وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ أن يظلمه أو يخونه و هو وثق به و ائتمنه و لم يرتهن منه شيئا.و قرأ ابن عباس و مجاهد وَ لَمْ تَجِدُوا كِتَاباً يعني ما تكتبون فيه من طرس و غيره.و إذا ارتهن صاحب الدين و أشهد فقد أكد الاحتياط و لا بأس أن يكون الرهن أكثر قيمة من المال الذي عليه أو أقل ثمنا منه أو مساويا له لأن عموم اللفظ يتناوله على الأحوال.و إنما قلنا إن الأحوط هو الإشهاد مع التمكن و إن استوثق من ماله رهنا لأن إن اختلفا في مقدار المبلغ الذي الرهن لأجله كان على المرتهن البينة فإن لم يكن له بينة فعلى صاحب الرهن اليمين و كذا إذا اختلفا في متاع فقال الذي عنده إنه رهن و قال صاحب المتاع إنه وديعة كان على المدعي لكونه رهنا البينة بأنه رهن و قد روي أن القول قول المرتهن مع يمينه لأنه أمينه و البينة على الراهن ما لم يستغرق الرهن ثمنه.و من أدل الدليل على أن الإشهاد و الارتهان يصح اجتماعهما قوله تعالى بعد هذا وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ يعني بعد تحملها وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ إنما أضاف إلى القلب مجازا لأنه على الكتمان و إلا فالإثم هو الحي و قالت عائشة الصامت عن الحق كالناطق بالباطل و كاتم الشهادة كشاهد الزور. وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعني بما تسترونه و بما تكتمونه.و إنما ذكر تعالى بعد ذلك وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ لأن المعنى فيه كتمان الشهادة و يحتمل أن يريد جميع الأحكام التي تقدمت خوفهم الله من العمل بخلافه

ص: 60

باب الوديعة

اعلم أن الوديعة حكم في الشريعة

لقوله تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها (1) و قال تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ (2) .و الوديعة مشتقة من ودع يدع إذا استقر و سكن يقال أودعته أودعه إذا أقررته و أسكنته.

وَ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ص كَانَتْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ بِمَكَّةَ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ أَوْدَعَهَا أُمَّ أَيْمَنَ وَ أَمَرَ عَلِيّاً ع بِرَدِّهَا عَلَى أَصْحَابِهَا (3). فإذا ثبت ذلك فالوديعة أمانة لا ضمان على المودع ما لم يفرط

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص لَيْسَ عَلَى الْمُودَعِ ضَمَانٌ (4). فأما قوله تعالى وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ يعني به النصارى لأنهم لا يستحلون أموال من خالفهم وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ يعني اليهود لأنهم يستحلون مال كل من خالفهم في حل السبت إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً (5) على رأسه بالتقاضي و المطالبة قائما بالإجماع و الملازمة و الفرق بين تأمنه بقنطار و على قنطار أن معنى الباء إلصاق الأمانة و معنى على استعلاء الأمانة و هما متعاقبان في هذا الموضع لتقارب المعنى كما يقال مررت به و عليه.

ص: 61


1- سورة النساء:58.
2- سورة البقرة:283.
3- مستدرك الوسائل 504/2.
4- المصدر السابق 506/2.
5- سورة آل عمران:75.

و يمكن أن تكون الفائدة أن هؤلاء لا يؤدون الأمانة لاستحلالهم ذلك لقوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ (1) و سائر الفرق و إن كان منهم من لا يؤدي الأمانة لا يستحلها.و قال جماعة قالت اليهود ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون و ادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم و هم يعلمون أن هذا هو الكذب على الله.فإذا ثبت ذلك فالوديعة جائزة من الطرفين من جهة المودع متى شاء أن يستردها فعل و من جهة المودع متى شاء أن يردها فعل فإذا ردها على المودع أو على وكيله فلا شيء عليه و إن ردها على الحاكم أو على ثقته مع القدرة على الدفع إلى المودع أو إلى وكيله فعليه الضمان.فإن لم يقدر على المودع و لا على وكيله فلا يخلو إما أن يكون له عذر أو لم يكن له عذر فإن لم يكن له عذر برده فعليه الضمان و إن كان له عذر برده على الحاكم أو على ثقته فلا ضمان عليه.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ وَ صَاحِبُ الْبِضَاعَةِ مُؤْتَمَنَانِ (2). و كل ما كان من وديعة و لم تكن مضمونة فلا تلزم.و رد الوديعة واجب متى طلبها صاحبها و هو متمكن من ردها و ليس عليه في ردها ضرر يؤدي إلى تلف النفس أو المال سواء كان المودع كافرا أو مسلما

باب العارية

هي أيضا جائزة بدليل الكتاب و السنة فالكتاب

قوله تعالى تَعاوَنُوا عَلَى

الْبِرِّ وَ التَّقْوى (1) و العارية من البر.و يدل عليه أيضا قوله تعالى وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (2)

ص: 62


1- سورة آل عمران:75.
2- من لا يحضره الفقيه 304/3.

الْبِرِّ وَ التَّقْوى (1) و العارية من البر.و يدل عليه أيضا قوله تعالى وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (2)

"فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ هُوَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ إِنَّ الْمَاعُونَ الْعَوَارِي.

وَ رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ ص اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعاً فَقَالَ أَ غَصْباً يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ع لاَ بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً مُؤَدَّاةً (1). و لا خلاف بين الأمة في جواز ذلك و إنما اختلفوا في مسائل منها.و إذا ثبت جواز العارية فاعلم أنها أمانة غير مضمونة إلا أن يشرط صاحبها فإن شرط ضمانها كانت مضمونة.و الذهب و الفضة إذا استعيرا فهما مضمونان شرط فيهما ذلك أم لم يشرط.و متى تعدى المستعير في العواري كانت مضمونة سواء شرط أو لم يشرط

باب الإجارات

قوله تعالى قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (2) يدل على صحة الإجارة زائدا على السنة و الإجماع من أن كل ما يستباح بعقد العارية يجوز أن يستباح بعقد الإجارة من إجارة الرجل نفسه و عبيده و داره و عقاره بلا خلاف.و الاستيجار طلب الإجارة و هي العقد على ما أمر بالمعاوضة.حكى الله ما قال أبو المرأتين شعيب لموسى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى

ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ على أن تجعل أجر رعي ماشيتي ثماني سنين صداق ابنتي ثم جعل لموسى كل سخلة تلد على خلاف شية أمها فأوحى الله إليه أن ألق عصاك في الماء إذا شربن فولدن كلهن خلاف شيتهن و جعل الزيادة على المدة الخيار فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي هبة منك غير واجبة عليك فقضى موسى أتم الأجلين و أوفاهما.فإذا ثبت ذلك فاعلم أن الإجارة عقد معاوضة و هي من عقود المعاوضات اللازمة كالبيع و الشراء.و الإجارة على ضربين أحدهما ما تكون المدة معلومة و العمل مجهولا مثل أن يقول آجرتك شهرا لتبني و الثاني أن تكون المدة مجهولة و العمل معلوما مثل أن يقول آجرتك لتبني هذه الدار و تخيط هذا الثوب فأما إذا كانت المدة معلومة و العمل معلوما (3) هنا فلا يصح فإنه إذا قال استأجرت اليوم لتخيط قميصي هذا كانت الإجارة باطلة لأنه ربما يخيط قبل مضي النهار فيبقى بعض المدة بلا عمل و ربما لا يفرغ منه بيوم و يحتاج إلى مدة أخرى و يحصل العمل بلا مدة.و البهائم و الحيوان تكترى للركوب و للحمولة و للعمل عليها بدلالة قوله تعالى وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً (4)

ص: 63


1- تهذيب الأحكام 183/7.
2- سورة القصص:26.
3- سورة المائدة:2.
4- سورة الماعون:7.

ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ على أن تجعل أجر رعي ماشيتي ثماني سنين صداق ابنتي ثم جعل لموسى كل سخلة تلد على خلاف شية أمها فأوحى الله إليه أن ألق عصاك في الماء إذا شربن فولدن كلهن خلاف شيتهن و جعل الزيادة على المدة الخيار فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي هبة منك غير واجبة عليك فقضى موسى أتم الأجلين و أوفاهما.فإذا ثبت ذلك فاعلم أن الإجارة عقد معاوضة و هي من عقود المعاوضات اللازمة كالبيع و الشراء.و الإجارة على ضربين أحدهما ما تكون المدة معلومة و العمل مجهولا مثل أن يقول آجرتك شهرا لتبني و الثاني أن تكون المدة مجهولة و العمل معلوما مثل أن يقول آجرتك لتبني هذه الدار و تخيط هذا الثوب فأما إذا كانت المدة معلومة و العمل معلوما (1) هنا فلا يصح فإنه إذا قال استأجرت اليوم لتخيط قميصي هذا كانت الإجارة باطلة لأنه ربما يخيط قبل مضي النهار فيبقى بعض المدة بلا عمل و ربما لا يفرغ منه بيوم و يحتاج إلى مدة أخرى و يحصل العمل بلا مدة.و البهائم و الحيوان تكترى للركوب و للحمولة و للعمل عليها بدلالة قوله تعالى وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً (2)

" وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ (3)فَقَالَ الْمَعْنَى لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَحُجُّوا أَوْ تكرهوا [تَكْرُوا] الْجِمَالَ لِلرُّكُوبِ وَ الْعَمَلِ.

ص: 64


1- الزيادة من ج.
2- سورة النحل:8.
3- سورة البقرة:198.

فإن آجرها ليركب عليها فلا بد من أن يكون المحمول معلوما و المحمول له و أن يكون المركوب معلوما و الراكب معلوما أما المركوب فيصير معلوما إما بالمشاهدة أو بالصفة فالمشاهدة أن يقول اكتريت منك هذا الجمل شهرا أو اكتريت منك هذا الجمل لأركبه إلى مكة.فأما إذا كان معلوما بالصفة فلا بد من ذكر ثلاثة أشياء الجنس و النوع و الذكورية و الأنوثية أما الجنس فأن يقول جمل حمار بغل دابة و النوع أن يذكر حمار مصري جمل بختي أو عرابي و يقول ناقة أو جمل لأن السير على النوق أطيب منه على الجمل.و أما الراكب فيجب أن يكون معلوما و لا يمكن ذلك إلا بالمشاهدة لأنه لا يوزن ثم هو بالخيار إن شاء ركبه هو أو يركب من يوازنه و يكون في معناه هذا إذا إكراها مطلقا

باب الشركة و المضاربة

أما الشركة فجائزة

لقوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ (1) الآية فجعل سبحانه الغنيمة مشتركة بين الغانمين و بين أهل الخمس و جعل الخمس مشتركا بين أهله.و قال تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (2) فجعل سبحانه التركة مشتركة بين الورثة.و قال تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ (3) الآية فجعل تعالى

ص: 65


1- سورة الأنفال:41.
2- سورة النساء:11.
3- سورة التوبة:60.

الصدقات مشتركة بين أهلها لأن الواو للتشريك فجعلها مشتركة بين الثمانية الأصناف.و قال سبحانه وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ (1) .

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَتَخَاوَنَا (2).

وَ رُوِيَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ شَرِيكاً لِلنَّبِيِّ ع فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا قَدِمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ أَ تَعْرِفُنِي قُلْتُ نَعَمْ كُنْتَ شَرِيكِي وَ كُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لاَ تُوَارِي وَ لاَ تُمَارِي (3). و لا خلاف في جواز الشركة بين المسلمين و إن اختلفوا في مسائل من تفصيلها و فروعها.و إذا ثبت هذا فالشركة على ثلاثة أضرب شركة في الأعيان و شركة في المنافع و شركة في الحقوق.فأما الشركة في الأعيان فمن ثلاثة أوجه أحدها بالميراث كاشتراك الورثة في التركة و الثاني بالعقد و هو أن يملك جماعة عينا ببيع أو هبة أو صدقة أو وصية مشتركة و الثالث بالحيازة و هو أن يشتركوا في الاحتطاب و الاصطياد فإذا صار محوزا كان بينهم.و أما الاشتراك في المنافع كالاشتراك في منفعة الوقف و منفعة العين المستأجرة و غيرها.و أما الاشتراك في الحقوق فمثل الاشتراك في حق القصاص و حد القذف و ما أشبه ذلك.و الآيات التي تلوناها تدل بعمومها على جميع ذلك.

ص: 66


1- سورة ص:24.
2- مستدرك الوسائل 500/2.
3- مستدرك الوسائل 500/2.

فصل

و أما ما يجري مجرى الشركة فهو المضاربة يدل على صحتها

قوله تعالى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ (1) و لم يفصل.و المضاربة و القراض بمعنى و هو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا ليتجر فيه على أن ما يرزق الله من ربح كان بينهما على ما يشرطانه و القراض لغة أهل الحجاز و المضاربة لغة أهل العراق و اشتقاقها من الضرب في المال و التقليب له و اشتقاق القراض من القرض و هو القطع و معناه هاهنا أن رب المال قطع قطعة من ماله فسلمها إلى العامل و قطع له قطعة من الربح.و المضارب بكسر الراء العامل لأنه هو الذي يضرب فيه و يقلبه و ليس لرب المال منه اشتقاق يدل على ذلك

مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ عَلِيٍّ ع أَنَّهُ قَالَ : إِذَا خَالَفَ الْمُضَارِبُ فَلاَ ضَمَانَ هُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ. و الظاهر أنه أراد العامل لأنه إذا كان الخلاف منه فالضمان بالتعدي عليه.و على جوازه دليل الكتاب و السنة و الإجماع فالكتاب ما تلوناه و قوله تعالى فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ (2) و أما الإجماع فلا خلاف فيه و الصحابة كانوا يستعملونه.فإذا ثبت جواز القراض فاعلم أنه لا يجوز إلا بالأثمان من الدراهم و الدنانير و كان أمير المؤمنين ع كره مشاركة اليهودي و النصراني و المجوسي إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً لا يغيب عنها المسلم (3).

ص: 67


1- سورة المزّمّل:20.
2- سورة الجمعة:10.
3- الكافي 286/5 و الزيادة منه.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع لاَ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُشَارِكَ الذِّمِّيَّ وَ لاَ يُبْضِعَهُ بِبِضَاعَةٍ وَ لاَ يُودِعَهُ وَدِيعَةً وَ لاَ يُصَافِيَهُ مَوَدَّةً (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ (2) . فإنه عام في جميع ذلك.و قد أشار سبحانه إلى جواز الشركة على جميع ضروبها بقوله ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ (3)

باب الشفعة

قال الله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (4) و قد بين مسائل الشفعة و غيرها رسول الله ص

وَ قَدْ قَالَ : الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ. و الكافر لا شفعة له على المسلم.و الدليل عليه قوله لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ (5) و معلوم أنه تعالى إنما أراد أنهم لا يستوون في الأحكام و الظاهر يقتضي العموم إلا ما أخرجه دليل قاهر.فإن قيل أراد في النعيم و العذاب بدلالة قوله تعالى أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ .قلنا معلوم في أصول الفقه أن تخصيص إحدى الجملتين لا يقتضي تخصيص الأخرى و إن كانت متعقبة لها.و الشفعة جائزة في كل شيء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشيء

ص: 68


1- المصدر السابق.
2- سورة الممتحنة:13.
3- سورة الروم:28.
4- سورة النحل:44.
5- سورة الحشر:20.

بين شريكين فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره و إن زاد على الاثنين فلا شفعة لأحد منهم هذا قول المرتضى رضي الله عنه.و قال الشيخ أبو جعفر رضي الله عنه الأشياء في الشركة على ثلاثة أضرب ما يجب فيه الشفعة متبوعا و ما لا يجب فيه تابعا و لا يجب فيه متبوعا و ما يجب فيه تابعا و لا يجب متبوعا [فأما ما يجب فيه مقصورا متبوعا فالعراض و الأراضي و الراح

لِقَوْلِهِ ع الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ. و أما ما لا يجب فيه تابعا و متبوعا] (1) بحال فكل ما ينقل و يحول غير متصل كالحيوان و النبات و الحبوب و نحو ذلك لا شفعة و في أصحابنا من أوجب الشفعة في ذلك و أما ما يجب فيه تابعا و لا يجب فيه متبوعا فكل ما كان في الأرض من بناء و أصل و هو البناء و الشجر فإن أفرد بالبيع دون الأرض فلا شفعة فيه.و إن بيعت الأرض تبعها هذا الأصل من حيث الشفعة في الأرض أصلا و في هذه على وجه التبع على خلاف فأما ما لم يكن أصلا ثابتا كالزرع و الثمار فإذا دخلت في البيع بالشرط كانت الشفعة واجبة في الأصل دونها.و لا تثبت الشفعة إلا لشريك مخالط فأما الشفعة بالجوار فلا تثبت إلا إذا اشتركا في الطريق أو النهر و لا يشركهما فيه ثالث

باب المزارعة و المساقاة

المزارعة و المخايرة اسمان لعقد واحد و هو استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها و الدليل عليه الإجماع و السنة و يمكن الاستدلال عليه أيضا من القرآن بالآيات التي استدللنا بها على صحة الشركة.فإذا ثبت ذلك فالمعاملة على الأصل ببعض ما خرج من نمائها على ثلاثة

ص: 69


1- الزيادة من م.

أضرب معارضة و مزارعة و مساقاة فالمعارضة تصح بلا خلاف بين الأمة و المساقاة أيضا جائزة إلا عند أبي حنيفة وحده و المزارعة على ضربين ضرب باطل بلا خلاف و ضرب مختلف فيه.فالباطل هو أن يشترط لأحدهما شيئا بعينه و لم يجعله مشاعا مثل أن يعقد المزارعة على أن يكون لأحدهما ما يدرك أولا و للآخر ما يتأخر إدراكه أو على أن الشتوي لأحدهما و الصيفي للآخر فهذا باطل بلا خلاف لأنه قد ينمي أحدهما و يهلك الآخر.و الضرب المختلف فيه هو أن يزارعه على سهم مشاع مثل أن يجعل له النصف أو الثلث أو أقل أو أكثر كان ذلك جائزا عندنا و فيه خلاف للفقهاء و إن قال لي منها النصف علم أنه ترك الباقي للعامل كقوله تعالى وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (1) علم أن ما بقي للأب.و المساقاة هي أن يدفع الإنسان نخله أو كرمه إلى غيره على أن يصلحه و يسقيه و ما يرزق الله من ثمره كانت بينهما على ما يشترطانه و هي جائزة بشرطين مدة معلومة كالإجارة و يكون قدر نصيب العامل معلوما كالقراض.و هي من العقود اللازمة لأنها كالإجارة و تفارق القراض لأنها لا تحتاج إلى مدة و هي تحتاج إليها و المدة فيها كالمدة في الإجارة فما يجوز هناك يجوز هاهنا سواء كان سنة أو سنتين و من خالف هناك خالف هاهنا.و قد ذكرنا أن الآية المتقدمة تدل على جميع ذلك

باب الإفلاس و الحجر

المفلس في الشريعة هو الذي ركبته الديون و ماله لا يفي بقضائها فإذا

ص: 70


1- سورة النساء:11.

جاء غرماؤه إلى الحاكم و سألوه الحجر عليه لئلا ينفق بقية ماله فإنه يجب على الحاكم أن يحجر عليه إذا ثبت عنده ديونهم و أنها حالة غير مؤجلة و أن صاحبهم مفلس لا يفي ماله بقضاء دينهم.فإذا فعل ذلك تعلق بحجره ثلاثة أحكام أحدها أن يتعلق ديونهم بعين المال الذي في يده و الثاني أنه يمنع من التصرف في ماله عنده و الثالث أن كل من وجد من غرمائه عين ماله عنده كان أحق به من غيره.و يمكن أن يستدل من القرآن على أصل الباب على الجملة.و المحجور عليه إنما سمي بذلك لأنه يمنع ماله من التصرف فيه (1).و الحجر على ضربين أحدهما حجر على الإنسان لحق غيره و الثاني حجر عليه لحق نفسه فأما المحجور عليه لحق غيره فهو المفلس لحق الغرماء و المريض محجور عليه في ماله لحق ورثته و فيه خلاف و المكاتب محجور عليه فيما في يده لحق سيده و أما المحجور عليه لحق نفسه فهو الصبي و المجنون و السفيه.و الأصل في الحجر على الصبي قوله تعالى وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ (2) .و اليتيم من مات أبوه قبل بلوغه و لا يتم بعد حلم و قوله فَإِنْ آنَسْتُمْ أي علمتم فوضع الإيناس موضع العلم و هو إجماع لا خلاف فيه.و قيل في قوله تعالى وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ إلى قوله فَإِنْ كانَ الَّذِي

عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ (1) إنه دلالة على تثبيت الحجر لنفسه و قيل إنما دل ذلك على الحجر لو قال ولي المطلوب و كلاهما على الإطلاق لا يصح و قال الفراء يحتمل غير ذلك معناه فليملل ولي الدين الكتاب بالعدل لا بخسران.

ص: 71


1- اصل الحجر في اللغة المنع عن الوصول الى الشيء،و كل ما منعت منه فقد حجرت عليه،و حجر عليه القاضي إذا منعه من التصرف في ماله-لسان العرب(حجر).
2- سورة النساء:6.

عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ (1) إنه دلالة على تثبيت الحجر لنفسه و قيل إنما دل ذلك على الحجر لو قال ولي المطلوب و كلاهما على الإطلاق لا يصح و قال الفراء يحتمل غير ذلك معناه فليملل ولي الدين الكتاب بالعدل لا بخسران.

فصل

فإن قيل كيف يقبل قول المدعي على مبلغ حقه.قلنا أما إذا أكذبه المطلوب فلا و لكن إذا صدقه جاز له أن يمل الكتاب الذي يقع فيه الشهادة بالحق.و الآية إنما نزلت في الدين عند وقوع الديون لا عند تجاحدها.

فصل

اعلم أن الصبي محجور عليه ما لم يبلغ و البلوغ يكون بأحد خمسة أشياء خروج المني و الحيض و الحمل و الإنبات و السن فاثنان منهما ينفرد بهما الإناث و هما الحيض و الحمل و الثلاثة الأخر يشترك فيها الرجال و النساء.و الحمل ليس ببلوغ حقيقة و إنما هو علم على البلوغ لأن الله أجرى العادة أن المرأة لا تحبل حتى يتقدم حيض و الحمل لا يمكن إلا بعد أن ترى المرأة المني لأن الله أخبر أن الولد مخلوق من ماء الرجل و ماء المرأة لقوله تعالى يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (2) و أراد من صلب الرجل و ترائب المرأة و لقوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ (3) أي أخلاط.

ص: 72


1- سورة البقرة:282.
2- سورة الطارق:7.
3- سورة الإنسان:2.

و الإنبات دليل على البلوغ و الاعتبار بإنبات العانة على وجه الخشونة التي تحتاج إلى الحلق دون ما كان مثل الزغب (1).فأما السن فحده خمس عشرة سنة في الذكور و تسع سنين إلى عشر في الإناث.و قد ذكرنا أن الصبي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ فإذا بلغ و أونس منه الرشد يسلم إليه ماله و إيناس الرشد منه مجموع أمرين أن يكون مصلحا لماله عدلا في دينه و متى كان غير رشيد لا يفك حجره و إن بلغ و صار شيخا.و وقت الاختبار يجب أن يكون قبل البلوغ لقوله تعالى وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا فإذا بلغ الصبي فأما أن يسلم إليه ماله أو يحجر و كيفية اختباره مذكورة في كتب الفقه من أرادها فليطلبها منها

باب الغصب

تحريم الغصب معلوم بالكتاب و السنة و الإجماع

قال الله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ (2) و الغصب ليس عن تراض.و قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً (3) و من غصب مال اليتيم فقد ظلمه.و قال تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ اَلَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (4) .و الإجماع ثابت على أن الغصب حرام.

ص: 73


1- الزغب الشعيرات الصفر على ريش الفرخ-صحاح اللغة 143/1.
2- سورة النساء:29.
3- سورة النساء:10.
4- سورة المطففين:1-3.

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ (1).

وَ قَالَ : حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ (2). فإذا ثبت تحريم الغصب فالأموال على ضربين حيوان و غير حيوان و كلاهما إذا كان قائما يجب رده.

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3).

وَ قَالَ : لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ جَادّاً وَ لاَ لاَعِباً مَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا (4). و إن كان تألفا فعليه مثله لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (5) إن كان له مثل و إن لم يكن له مثل فعليه قيمته أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف لأنه مأمور برده في كل وقت فوجب عليه قيمته إذا تعذر و الله أعلم

ص: 74


1- مستدرك الوسائل 146/3.
2- من لا يحضره الفقيه 418/4 بمضمونه.
3- مستدرك الوسائل 145/3.
4- نفس المصدر 145/3.
5- سورة البقرة:194.

كتاب النكاح

في استحبابه

قال الله تعالى وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1) .هذا خطاب من الله تعالى للمكلفين من الرجال و النساء يأمرهم أن يزوجوا الأيامى اللواتي لهم عليهن ولاية و أن يزوجوا الصالحين المستورين الذين يفعلون الطاعات من المماليك و الإماء إذا كانوا ملكا لهم.و الأيامى جمع أيم و هي المرأة التي لا زوج لها سواء كانت بكرا أو ثيبا و قال قوم الأيم التي مات زوجها و على هذا

قَوْلُهُ ع الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا أَعْنِي الثَّيِّبَ. و قيل إن الأمر بتزويج الأيامى إذا أردن ذلك أمر فرض و الأمر بتزويج الأمة إذا أرادت ندب و كذلك العبد.و معنى قوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي لا يمنعوا من النكاح المرأة أو الرجل إذا كانا صالحين لأجل فقرهما و قلة ذات أيديهما فإنهم و إن

ص: 75


1- سورة النور:32.

كانوا كذلك فإن الله يغنيهم من فضله و قال قوم معناه إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بذلك عن الحرام.فعلى الأول تكون الآية خاصة في الأحرار و على الثاني عامة في الأحرار و المماليك فالنكاح فيه فضل كبير لأنه طريق التناسل و باب التواصل و سبب الألفة و المعونة على العفة و من سنن الإسلام النكاح و ترك التعزب فمن دعته الحاجة إلى النكاح و وجد له طولا فلم يتزوج فقد خالف سنة رسول الله ص.و قد ذكرنا ما حث الله به عباده و دعاه إليه فقال وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الآية ثم قال وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ أمر تعالى من لا يجد السبيل إلى أن يتزوج بأن لا يجد طولا من المهر و لا يقدر على القيام بما يلزمه لها من النفقة و الكسوة أن يتعفف و لا يدخل في الفاحشة و يصبر حتى يغنيه الله من فضله

باب ما أحل الله من النكاح و ما حرم منه

قال الله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ (1) .هذه الآية على عمومها عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار و ليست منسوخة و لا مخصوصة قال ابن عباس فرق عمر ابن طلحة و حذيفة امرأتيهما اللتين كانتا تحتهما كتابيتين و قال الحسن إنها عامة إلا أنها نسخت بقوله

ص: 76


1- سورة البقرة:121.

تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (1) و قال ابن جبير هي على الخصوص.و نحن إنما اخترنا ما قلناه أولا لأنه لا دليل على نسخها و لا على خصوصها و سنبين وجه ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.و أما المجوسية فلا يجوز نكاحها إجماعا و الذمي لا يجوز أن يتزوج مسلمة إجماعا أيضا و قرآنا و أخبارا.و الأمة المملوكة و الجارية تكون مملوكة و غير مملوكة.و الإعجاب يكون بالجمال و يكون بخصال يرغب لها فيها و معنى أعجبني الشيء فرحت به و رضيته و الفرق بين لو أعجبكم و إن أعجبكم أن لو للماضي و إن للمستقبل و كلاهما يصح في معنى الماضي.و لا يجوز نكاح الوثنية إجماعا لأنها تدعو إلى النار كما حكاه الله تعالى.و هذه العلة قائمة في الذمية من اليهود و النصارى فيجب أن لا يجوز نكاحها.و قال السدي في قوله تعالى قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (2) فالخبيث الكافر و الطيب المؤمن و هو اختيار ابن جرير و قال جماعة الآية عامة أي لا يستوي أهل الطاعة و المعصية لا في المكان و لا في المقدار و لا في الإنفاق و لا في غير ذلك من الوجوه.و في الآية دلالة على جواز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود الطول لقوله وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ فكل من عقد على أمة الغير و أعطى سيدها المهر كان العقد ماضيا غير أنه يكون تاركا للأفضل.و لا يجوز له أن يعقد على أمة و عنده حرة إلا برضاها فإن عقد عليها من

ص: 77


1- سورة المائدة:5.
2- سورة المائدة:100.

غير رضاها كان العقد باطلا و إن أمضت الحرة العقد مضى العقد و لم يكن له بعد ذلك اختيار.فأما الآية التي في النساء و هي قوله وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ (1) فإنما هي على التنزيه دون التحريم.

فصل

و قال بعض المفسرين لا يقع اسم المشركات على نساء أهل الكتاب فقد فصل الله تعالى بينهما

في قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ (2)

و في قوله ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لاَ الْمُشْرِكِينَ (3) إذ عطف أحدهما على الآخر.و هذا التعليل من هذا الوجه غير صحيح فالمشرك يطلق على الكل لأن من جحد نبوة محمد ص فقد أنكر معجزه فأضافه إلى غير الله و هذا هو الشرك بعينه و هذا ورد للتفخيم كما عطف على الفاكهة النخيل و الرمان مع كونهما منها تخصيصا في قوله تعالى فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ (4) .و متى أسلم الزوجان بنيا على النكاح الذي كان جرى بينهما و لا يحتاج إلى تجديده بلا خلاف و إن أسلمت قبله طرفة عين فعند كثير من الفقهاء وقعت الفرقة و عندنا تنتظر عدتها فإن أسلم الزوج تبين أن الفرقة لم تحصل

ص: 78


1- سورة النساء:25.
2- سورة البينة:1.
3- سورة البقرة:105.
4- سورة الرحمن:68.

و رجعت إليه و إن لم يسلم تبين أن الفرقة وقعت حين الإسلام غير (1) أنه لا يمكن من الخلو بها فإن أسلم الزوج و كانت ذمية استباح وطؤها بلا خلاف و إن كانت وثنية انتظر إسلامها ما دامت في العدة فإن أسلمت ثبت عقده عليها و إن لم تسلم بانت منه.فإن قيل كيف يقال للكافر الذي يوحد الله مشرك.الجواب فيه قولان أحدهما أن كفره نعمة الله هي الإسلام و جحده لدين محمد ع كالشرك في عظم الجرم.و الآخر أنه إذا كفر بالنبي ع فقد أشرك فيما لا يكون إلا من عند الله و هو القرآن فزعم أنه من عند غير الله ذكره الزجاج و هذا أقوى (2).فالمحرمات من النساء على ضربين ضرب منهن يحرمن بالنسب و ضرب منهن يحرمن بالسبب و ما عداهما فمباح.و بيان ذلك في الآيات من سورة النساء في قوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (3) ثم قال حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى آخرها.و الحكمة في هذا الترتيب ظاهرة و نحن نذكر تفصيلها في فصول

ص: 79


1- الزيادة من ج.
2- و اقوى من هذين الجوابين:انهم أشركوا بنص القرآن،أما اليهود فبقوله تعالى «وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ» [سورة التوبة:30]و أمّا النصارى فبقوله سبحانه «وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ» الى قوله «لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» [التوبة:30]و قوله تعالى «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» [المائدة:17]«ج».
3- سورة النساء:22.

فصل

اعلم أن الله تعالى ابتدأ بتحريم ما نكح الآباء في سورة النساء

ص: 80

و لا يكون ذلك إلا و قد قامت عليهم الحجة بتحريمه من جهة الرسل فالأول اختاره الجبائي و هو الأقوى قال و تكون السلامة مما قد سلف في الإقلاع عنه و قيل إنما استثنى ما قد مضى ليعلم أنه لم يكن مباحا لهم. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي زناء وَ مَقْتاً أي بغضا أي يورث بغض الله و يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه المقتي و منهم الأشعث بن قيس و أبو معيط جد الوليد بن عتبة.قال البلخي ليس كل نكاح حرمه الله تعالى زنا لأن الزنا هو فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة و سنة جارية لذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا و لا لأهل الذمة و المعاهدين أولاد زنا إذا كان عقدا بينهم يتعارفونه. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً دخلت كان لتدل على أنه كان قبل تلك الحال كذا كان كذا فاحشة (1).و قول المبرد إن كان زائدة غير صحيح لأنها لو كانت زائدة لم تعمل معناه أنه كان فيما مضى أيضا فاحشة و مقتا و كان قد قامت الحجة عليهم بذلك في كل من عقد عليها الأب من النساء أنه يحرم على الابن دخل بها أو لم يدخل بلا خلاف.فإن دخل بها الأب على وجه السفاح فهل (2) يحرم على الابن ففيه خلاف و عموم الآية يقتضي أنها تحرم عليه لأن النكاح يعبر به عن الوطي كما يعبر به عن العقد فيجب أن يحمل عليهما.و امرأة الأب و إن علا تحرم على الابن و إن نزل بلا خلاف

ص: 81


1- الزيادة من م.
2- الزيادة من م.

فصل

ثم

قال تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ (1) الآية.اعلم أن في الناس من اعتقد أن هذه الآية و ما يجري مجراها كقوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ (2) مجملة لا يمكن التعلق بظاهرها في تحريم شيء و إنما يحتاج إلى بيان قالوا لأن الأعيان لا تحرم و لا تحل و إنما يحرم التصرف فيها و التصرف مختلف فيحتاج إلى بيان التصرف المحرم دون التصرف المباح.و الأقوى أنها ليست مجملة لأن المجمل هو ما لا يفهم المراد بعينه بظاهره و ليست هذه الآية كذلك لأن المفهوم من ظاهرها تحريم العقد عليهن و الوطي دون غيرهما من أنواع الفعل فلا يحتاج إلى البيان مع ذلك و كذلك قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ المفهوم منه الأكل و البيع دون النظر إليها أو ما جرى مجراه.كيف و قد تقدم هذه الآية ما يكشف عن أن المراد هاهنا من قوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ فلما قال بعده حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ كان المفهوم أيضا تحريم نكاحهن و يطلب الكلام فيه من أصول الفقه.

فصل

قال ابن عباس حرم الله في هذه الآية سبعا بالنسب و سبعا بالسبب.فالمحرمات من النسب الأمهات و يدخل في ذلك أمهات الأمهات و إن علون و أمهات الآباء كذلك و البنات و يدخل في ذلك بنات الأولاد أولاد البنين و أولاد

ص: 82


1- سورة النساء:23.
2- سورة المائدة:3.

البنات و إن نزلن و الأخوات سواء كن لأب أو لأب و أم و كذا العمات و الخالات و إن علون من جهة الأب كن أو من جهة الأم و بنات الأخ و بنات الأخت و إن نزلن و كل من يقع عليه اسم بنت حقيقة أو مجازا تحرم لقوله تعالى وَ بَناتُكُمْ و كذا من يقع عليه اسم العمة لقوله تعالى وَ عَمّاتُكُمْ و كذلك كل من كان خالته حقيقة و هي أخت أمه أو مجازا و هي أخت جدته أي جدة كانت من قبل أمها فأختها خالته و تحرم عليه لقوله تعالى وَ خالاتُكُمْ .و المحرمات بالسبب الأمهات من الرضاعة و الأخوات أيضا من الرضاعة و كل من يحرم بالنسب يحرم مثله بالرضاع فنص الله من جملتهن على الأمهات و الأخوات بظاهر اللفظ و دل بفحواه على أن من عداهما ممن تحرم بالنسب كهما لأن تلك إذا صارت بالرضاع أما و هذه أختا فالعمة و الخالة يصيران عمة و خالة و كذلك من سواهما

وَ لِذَلِكَ قَالَ ع يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (1).

فصل

ثم

قال تعالى وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ فأمهات النساء يحرمن بنفس العقد و إن لم يدخل بالبنت على رأي أكثر الفقهاء و به قال ابن عباس و الحسن و عطاء و قالوا هي مبهمة و خصوا التقييد بقوله وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ

وَ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ ع وَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْأُمِّ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْبِنْتِ. و لم يجعلوا قوله مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ راجعا إلى أمهات النساء و قالوا تقدير الكلام حرمت عليكم نساؤكم مطلقا (2) و حرمت عليكم ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم

ص: 83


1- من لا يحضره الفقيه 475/3.
2- الزيادة من م.

اللاتي دخلتم بهن و قالوا أم المرأة تحرم بالعقد مجردا و الربيبة تحرم بشرط الدخول بالأم و هذا هو الصحيح و قال قوم هي من صلبهما جميعا فإن المرأة لا تحرم أمها ما لم يدخل بها أيضا.و الصحيح أن الجملة المقيدة إذا عطفت على الجملة المطلقة لا يجب أن يسري ذلك التقييد إلى الجملة الأولى أيضا و يتحقق هذا من النحو أيضا فقال الزجاج و هو قول سيبويه و المحققين إن الصحيح هو الأول و ذلك أن الموصوفين و إن اتفقا في الإعراب فإنهما إذا اختلف العامل فيهما لم يجز أن يوصفا بصفة جامعة و المثال يجيء من بعد.و الربائب جمع ربيبة و هي بنت الزوجة من غيره و يدخل فيه أولادها و إن نزلن و سميت بذلك لتربيته إياها و معناها مربوبة و يجوز أن تسمى ربيبة سواء تولى تربيتها و كانت في حجره أو لم تكن لأنه إذا تزوج بأمها سمي هو ربيبها و هي ربيبته.و العرب تسمي الفاعلين و المفعولين بما يقع بهم و يوقعونه يقولون هذا مقتول و هذا ذبيح و إن لم يقتل بعد و لم يذبح إذا كان يراد قتله أو ذبحه و كذلك يقولون هذا أضحية لما أعد للتضحية فمن قال لا تحرم بنت الزوجة إلا إذا تربت في حجره فقد أخطأ على ما قلناه.و قوله تعالى مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ قال المبرد اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ نعت للنساء اللواتي من أمهات الربائب لا غير قال لإجماع الناس أن الربيبة تحل إذا لم يدخل بأمها و إن من أجاز أن يكون قوله تعالى مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ هو لأمهات نسائكم فيكون معناه أمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب.قال الزجاج لأن الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا لا يجيز

ص: 84

النحويون مررت بنسائك و هربت من نساء زيد الظريفات على أن تكون الظريفات نعتا لهؤلاء النساء و هؤلاء النساء لأن الأولى جر بالباء و الثانية بالإضافة فكذلك النساء الأولى في الآية جر بإضافة الأمهات إليها و الثانية جر بمن فلا يجوز أن يكون اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ صفة للنساء الأولى و الثانية.و قيل أيضا لو جاز أن يكون اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ صفة للأولى و الثانية لجاز أن يكون قوله إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ استثناء من جميع المحرمات و في إجماع الجميع على أنه استثناء مما يليه و هو اَلْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ دلالة على أن اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ صفة للنساء اللاتي تليها و الدليل الأول أقوى و قال من اعتبر الدخول بالنساء لتحريم أمهاتهن يحتاج أن يقدر أعني فيكون التقدير و أمهات نسائكم أعني اللاتي دخلتم بهن و ليس بنا إلى ذلك حاجة.و الدخول المذكور في الآية قيل فيه قولان أحدهما قال ابن عباس هو الجماع و اختاره الطبري الثاني قال عطا هو الجماع و ما يجري مجراه من المسيس و هو مذهبنا و له تفصيل فإن كان المسيس من شهوة فهو كالجماع فيكون محظورا و إن كان من غير شهوة فنكاح بنتها مكروه و فيه خلاف بين الفقهاء.

فصل

ثم

ص: 85

فقال المشركون في ذلك فنزل وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ .فأما حلائل الأبناء من الرضاع فمحرمات

لِقَوْلِهِ ع يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. و إنما سميت المرأة حليلة لأمرين لأنها تحل معه في الفراش و لأنه يحل له وطؤها.

فصل

ثم عطف عليه فقال تعالى وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي و حرم عليكم الجمع بينهما لأن أن مع صلتها في حكم المصدر و هذا يقتضي تحريم الجمع بينهما في عقد واحد و تحريم الجمع بينهما في الوطي سيما بملك اليمين فإذا وطئ إحداهما لم يحل له الأخرى حتى تخرج تلك من ملكه و هو قول الحسن و أكثر المفسرين و الفقهاء.و من أجاز الجمع بينهما في الوطء على ما ذهب إليه داود و قوم من أهل الظاهر فقد أخطأ في الأختين و كذا في الربيبة و أم الزوجة لأن قوله وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ يدخل فيه المملوكة و المعقود عليها و كذا قوله مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يتناول الجميع و كذا قوله وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عام في الجميع على كل حال في العقد و الوطي و إنما أخرجنا جواز ملكها بدلالة الإجماع.و لا يعارض ذلك قوله تعالى أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لأن الغرض بهذه الآية مدح من يحفظ فرجه إلا عن الزوج أو ما ملكت الأيمان فأما كيفية ذلك فليس فيه.و يمكن الجمع بينهما بأن يقال أو ما ملكت أيمانهم إلا على وجه الجمع بين الأم و البنت أو الأختين.

ص: 86

و قوله تعالى إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع لكن ما قد سلف لا يؤاخذكم الله به الآن و قد دخلتم في الإسلام و تركتم ما فعلتم في الجاهلية و ليس المراد أن ما سلف حال النهي يجوز استدامته بلا خلاف.و قيل إن إلا بمعنى سوى و موضع أَنْ تَجْمَعُوا رفع تقديره حرمت عليكم الأشياء و الجمع بين الأختين فإنهما يحرمان على وجه الجمع دون الانفراد سواء اجتمع العقدان أو افترقا و كان ذلك لبني إسرائيل حلالا فإن خلفت إحداهما الأخرى جاز.و يمكن الاستدلال بهذه الآية على أنه لا يصح أن يملك واحدة من ذوات الأنساب المحرمات و من الرضاع أيضا لأن التحريم عام

بِقَوْلِهِ ع يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. فهو دليل على أنه لا يصح ملكهن من جهة الرضاع و إن كان فيه خلاف.و أما المرأة التي وطئها بلا تزويج و لا ملك فليس في الآية ما يدل على أنه يحرم وطء أمها و بنتها لأن قوله تعالى وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ و قوله مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يتضمن إضافة الملك إما بالعقد أو بملك اليمين فلا يدخل فيه من وطئ من لا يملك وطؤها غير أن قوما من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوءة بالعقد و الملك بالسنة و الأخبار المروية في ذلك و فيه خلاف بين الفقهاء.ثم قال إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أخبر سبحانه أنه كان غفورا حيث لم يؤاخذهم بما فعلوه من نكاح المحرمات و إنما عفا لهم عما سلف.

فصل

ثم

قال تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ (1)

ص: 87


1- سورة النساء:24.

قيل في معناه ثلاثة أقوال أحدها و هو الأقوى أن المراد به ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم من سبي من كان لها زوج لأن بيعها طلاقها

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَلاَقُ الْأَمَةِ سِتٌّ سَبْيُهَا وَ بَيْعُهَا وَ عِتْقُهَا وَ هِبَتُهَا وَ مِيرَاثُهَا وَ طَلاَقُ زَوْجِهَا (1). الثالث أن المحصنات العفائف إلا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو اليمين ملك استمتاع بالمهر أو ملك استخدام بثمن الأمة و أصل الإحصان المنع.و الإحصان على أربعة أقسام أحدها بالزوجية كقوله وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ الثاني بالإسلام كقوله فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (2) الثالث بالعقد (3) كقوله وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ (4) الرابع يكون بالجزية كقوله وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (5) .قال البلخي و الآية دالة على أن نكاح المشركين ليس بزنى لأن قوله تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إذا كان المراد به ذوات الأزواج من أهل الحرب بدلالة قوله إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بسبي فلا خلاف أنه لا يجوز وطي المسبية بعد استبرائها بحيضة. و قوله كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ نصب على المصدر من غير فعله و فيه معناه كأنه قال حرم الله ذلك كتابا من الله أو كتب كتابا و عن الزجاج أنه نصب على جهة الأمر و يكون عَلَيْكُمْ مفسرا و المعنى الزموا كتاب الله و على الإغراء

ص: 88


1- كذا في النسختين و قد حذف منهما القول الثاني.
2- سورة النساء:25.
3- في ج«بالعفة».
4- سورة النور:4.
5- سورة المائدة:5.

و العامل محذوف لأن عليكم لا يعمل فيما قبله.

"وَ قَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ النِّسَاءِ سَبْعاً بِالنَّسَبِ وَ سَبْعاً بِالسَّبَبِ وَ تَلاَ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ وَ السَّابِعَةُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ السَّبَبِ قَوْلُهُ وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ وَ هِيَ امْرَأَةُ الْأَبِ سَوَاءً دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ زَوْجَاتُ الْأَجْدَادِ وَ إِنْ عَلَوْا مِنَ الطَّرَفَيْنِ.

باب مقدار ما يحرم من الرضاع و أحكامه ما وراء ذوات المحارم القرابية

أما الرضاع فإن الله سمى

بقوله تعالى وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ (1) أمهات للحرمة.و لا يحرم عندنا الرضاع إلا ما نبت اللحم و شد العظم و إنما يعتبر أقل ذلك بخمس عشرة رضعة متوالية لا يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى أو برضاع يوم و ليلة لا يفصل بينهما برضاع امرأة أخرى.و في أصحابنا من روى تحريم ذلك بعشر رضعات و ذلك محمول على شدة الكراهة في ذلك.و متى دخل من الرضاع رضاع امرأة أخرى بطل حكم ما تقدم و حرم الشافعي بخمس رضعات و لم يعتبر التوالي و إنما اختار خمس الرضعات

"لِمَا رَوَتِ عَائِشَةُ أَنَّ عَشْرَ رَضَعَاتٍ كَانَتْ مُحَرِّمَةً فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ. و هذا يدل على ما نذهب إليه من خمس عشرة رضعة لأن النسخ كما توهم الشافعي أنه بالنقصان فإنه يكون بالزيادة و إنما ذهبنا إلى الزيادة للتفصيل الوارد عن الصادق ع

ص: 89


1- سورة النساء:23.

و حرم أبو حنيفة بقليله و كثيره و في أصحابنا من ذهب إليه و المراد به الكراهية.و اللبن عندنا للفحل لأنه بفعله ثار و نزل و معناه إذا أرضعت امرأة بلبن فحل لها صبيانا كثيرين من أمهات شتى فإنهم جميعهم يصيرون أولاد الفحل و يحرمون على جميع أولاده الذين ينتسبون إليه ولادة و رضاعا و يحرمون على أولاد المرضعة الذين ولدتهم فأما من أرضعته بلبن غير هذا الفحل فإنهم لا يحرمون عليهم.ثم اعلم أن كل أنثى انتسبت إليها باللبن فهي أمك لقوله تعالى وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ فالتي أرضعتك أو أرضعت امرأة أرضعتك أو رجلا أرضعت بلبانه من زوجته أو أم ولده كلها على ما ذكرناه فهي أمك من الرضاعة و كذا كل امرأة ولدت امرأة أرضعتك أو ولدت رجلا أرضعت بلبنه فهي أمك من الرضاعة.

فصل

و قوله تعالى وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ يعني بنات المرضعة و هن ثلاثا الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك و الثانية أختك [لأمك دون أبيك و هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل غير أبيك و الثالثة أخيك] (1) لأبيك دون أمك و هي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك و أم الرضاعة و أخت الرضاعة لو لا الرضاعة لم تحرما فالرضاعة سبب تحريمهما.و كل من تحرم بالنسب من اللاتي مضى ذكرهن تحرم أمثالهن بالرضاع

ص: 90


1- الزيادة من ج.

لِقَوْلِ النَّبِيِّ ص إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ. فثبت بهذا الخبر أن السبع المحرمات بالنسب على التفصيل الذي ذكره الله محرمات بالرضاع.و الكلام في الرضاع في ثلاثة فصول أحدها مدة الرضاع و قد اختلف فيها فقال أكثر أهل العلم لا يحرم إلا ما كان في مدة الحولين فأما ما كان بعده فلا يحرم بحال و هو مذهبنا و به قال الشافعي و محمد و أبو يوسف.و ثانيها قدر الرضاع الذي يحرم و قد ذكرناه الآن.و ثالثها كيفية الرضاع فعند أصحابنا لا يحرم إلا ما وصل إلى الجوف من الثدي في المجرى المعتاد الذي هو الفم و أما ما يؤجر أو يسعط أو يحقن به فلا يحرم بحال.

فصل

ثم اعلم أن هذه الجملة على ضربين تحريم أعيان و تحريم جمع.فأما تحريم الأعيان فنسب و سبب فالنسب قد مضى ذكره و السبب على ضربين رضاع و مصاهرة فالرضاع بيناه أيضا و تحريم المصاهرة و إن قدمنا الكلام عليه فنذكرها هنا أيضا مجموعا مفصلا.فاعلم أنهن أربع أمهات الزوجات و كل من يقع عليها اسم أم حقيقة أو مجازا و إن علون فالكل يحرمن لقوله تعالى أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ .و الثانية الربيبة و هي كل من كان نسلها و كذا ولد الربيب و نسله فإنه يحرم بالعقد تحريم جمع فإن دخل بها حرمن عليه كلهن تحريم تأبيد لقوله

ص: 91

وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ إلى قوله فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ .و الثالثة حلائل الأبناء فإذا تزوج امرأة حرمت على والده بنفس العقد وحدها دون أمهاتها و بناتها لقوله وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ و أمهاتها و أولادها ليس حلائله.و الرابعة زوجات الآباء يحرمن دون أمهاتهن و دون نسلهن من غيره و لقوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ .

فصل

ثم

ص: 92

من أخوات هذه المسألة إجماع الطائفة فإنه مفض إلى العلم.و إنما قلنا إن إجماعهم حجة لأن في إجماع الإمامية قول الإمام الذي دلت العقول على أن كل زمان لا يخلو من رئيس معصوم لا يجوز عليه الخطأ في قول و لا فعل فمن هذا الوجه كان إجماعهم حجة و دلالة قاطعة و هذه الطريقة واضحة مشروحة في غير موضع من كتبنا.فإن استدل المخالف بظواهر آيات القرآن مثل قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ و قوله تعالى وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بعد ذكر المحرمات.قلنا هذه الظواهر يجوز أن يرجع عنها بالأدلة كما رجعتم أنتم عنها في تحريم نكاح المرأة على عمتها و خالتها مع جواز ذلك عندنا على بعض الوجوه على ما نذكره.على أن النساء اللاتي يعلم تحريمهن بالسنة إنما حرمت كل واحد منهن على رجل بعينه بسبب من قبله و أمر من أموره و إلا كانت هي قبل ذلك على أصل الإباحة و لو لا حصول ما حصل لما حرمت البتة فسقط سؤالهم.فأما إذا زنى رجل بامرأة حرمت على ابنه و الدليل عليه قوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ و لفظ النكاح يقع على الوطي و العقد معا على ما ذكرناه فكأنه قال لا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم و لا تطئوا من وطئوهن.و الدليل على جواز نكاح العمة و الخالة و عنده بنت الأخ و بنت الأخت إجماع الطائفة و كذا نكاح المرأة و عنده عمتها و خالتها إذا رضيتا فإنه يدل عليه عموم قوله تعالى وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ لأنه عام في جميعهن و من ادعى نسخه فعليه الدلالة و خبر الواحد لا ينسخ به القرآن

ص: 93

باب ضروب النكاح

قال الله تعالى وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (1) و قال تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (2) .أما الآية الأولى فقد قيل في معناه أربعة أقوال أحدها أحل لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح.الثاني أحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم و نحوها من المحرمات بالسبب.الثالث ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم.الرابع ما وراء ذوات المحارم إلى الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين.و هذا الوجه أولى لأنه حمل الآية على عمومها في جميع ما ذكره الله في كتابه أو على لسان نبيه.ثم اعلم أن أحكام النكاح تشتمل على ذكر أقسامه و شروطه و ما يلزم بالعقد و ما يلزم بالفرقة.فأقسامه على ثلاثة أقسام نكاح دوام و هو غير مؤجل و نكاح متعة و هو مؤجل و نكاح بملك اليمين.و أما شرائط الأنكحة الواجبة فالإيجاب و القبول و المهر أو الأجر أو الثمن أو ما يقوم مقامها و كون المتعاقدين متكافئين في الدين في نكاح الدوام

ص: 94


1- سورة النساء:24.
2- سورة النساء:3.

و أن تكون الزوجة و الأمة من غير ذوات المحارم و نحو ذلك مما لا يصح مع عدمه من الشروط.و ما يلزم بالعقد فهي المهر و القسمة و النفقات و لحوق الأولاد و ما يلزم بالفرقة نذكره.و ما روي من تحليل الرجل جاريته لمؤمن لا يخرج عن تلك الأقسام الثلاثة التي هي من ضروب النكاح.و جارية الغير إذا تزوجت بإذن سيدها فنكاحها صحيح قال الله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (1) فمدح من حفظ فرجه إلا عن زوجته أو ملك اليمين.و النكاح يستحب لقوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ فعلق النكاح باستطابتها و ما هذه صورته فهو غير واجب خلافا لداود.و الناس ضربان ضرب مشته للجماع و قادر على النكاح و ضرب لا يشتهيه فالمشتهي يستحب له أن يتزوج و الذي لا يشتهي فالمستحب أن لا يتزوج لقوله تعالى وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً (2) فمدحه على كونه حصورا و هو الذي لا يشتهي النساء لأنه لا يجعل سبب ذلك (3) و لا يجيء شهوته بل يميتها بكثرة الصوم و قال قوم الذي يمكنه أن يأتي النساء و لكن لا يفعل

باب ذكر النكاح الدائم

قال الله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فندب تعالى عباده إلى

ص: 95


1- سورة المؤمنون:5-6.
2- سورة آل عمران:39.
3- أي تهيج شهوته بالاكل و الشرب«ج».

التزويج و أجمع المسلمون على أن التزويج مندوب إليه لجميع الأمة و إن اختلفوا في وجوبه لمحمد ص.و أما قوله وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (1) فاختلف المفسرون في سبب نزوله على ستة أقوال أحدها

"مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْيَتِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَ جَمَالِهَا وَ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا صَدَاقَ مَهْرِ مِثْلِهَا وَ أُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ مِمَّا سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى أَرْبَعٍ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً مِنْ سِوَاهُنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ . و مثل هذا ذكر في تفسير أصحابنا و قالوا إنها متصلة بقوله وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ الآية و به قال الحسن و المبرد.الثاني

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَزَوَّجُ الْأَرْبَعَ وَ الْخَمْسَ وَ السِّتَّ وَ الْعَشْرَ وَ يَقُولُ مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَتَزَوَّجَ كَمَا تَزَوَّجَ فُلاَنٌ فَإِذَا فَنِيَ مَالُهُ مَالَ عَلَى مَالِ الْيَتِيمَةِ فَأَنْفَقَهُ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزُوا الْأَرْبَعَ لِئَلاَّ يَحْتَاجُوا إِلَى أَخْذِ مَالِ الْيَتِيمَةِ وَ إِنْ خَافُوا ذَلِكَ مَعَ الْأَرْبَعِ (2) أَيْضاً أَنْ يَقْتَصِرُوا عَلَى وَاحِدَةٍ. الثالث قال جماعة كانوا يشددون في أموال اليتامى و لا يشددون في أموال النساء ينكح أحدهم النسوة و لا يعدل بينهن فقال تعالى كما تخافون أن لا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا واحدة إلى الأربع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة.

ص: 96


1- سورة النساء:3.
2- الزيادة من ج.

الرابع قال مجاهد إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى و أكل أموالهم إيمانا و تصديقا فكذلك تحرجوا من الزناء و انكحوا النكاح المباح من واحدة إلى أربع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة.الخامس قال الحسن إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا في اليتيمة المرباة في حجركم فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مما أحل لكم من يتامى قراباتكم مَثْنى وَ ثُلاثَ الآية و به قال الجبائي و قال الخطاب متوجه إلى ولي اليتيمة إذا أراد أن يتزوجها فإنه إذا كان هو وليها كان له أن يزوجها قبل البلوغ و له أن يزوجها.السادس قال الفراء المعنى إن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فتحرجوا من جمعكم بين اليتائم ثم لا تعدلون بينهن.

فصل

أما

ص: 97

جمع لذكران الأيتام و إناثهم في هذا المعنى.و قال الحسين بن علي المغربي معنى ما طابَ أي ما بلغ من النساء كما يقال طابت الثمرة أي بلغت و المراد المنع من تزويج اليتيمة قبل البلوغ لئلا يجري عليها الظلم فإن البالغة تختار لنفسها.و قيل معنى ما طابَ لَكُمْ ما حل لكم من النساء و من أحل لكم منهن دون من حرم عليكم و إنما قال ما طابَ لأن ما مصدرية و قيل إن ما هاهنا للجنس كقولك ما عندك فالجواب رجل و امرأة و قيل لما كان المكان مكان إبهام جاءت ما لما فيها من الإبهام و لم يقل من طاب و إن كان من العقلاء و نحوهم من العلماء و ما لغير العقلاء لأن المعنى انكحوا الطيب أي الحلال لأنه ليس كل النساء حلالا لأن الله حرم كثيرا منهن بقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية هذا قول الفراء و قال مجاهد فانكحوا النساء نكاحا طيبا و قال المبرد ما هاهنا للجنس و كذا قوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ معناه أي ملك أيمانكم.و معنى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ أي فلينكح كل واحد منكم مثنى و ثلاث و رباع لما قال وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (1) معناه فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة.و قوله تعالى مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ بدل من ما طابَ و موضعه النصب و تقديره اثنتين اثنتين و ثلاثا ثلاثا و أربعا أربعا و الواو على هذا بمعنى أو و قد تقع هذه الألفاظ على الذكر و الأنثى فوقوعها على الأنثى مثل الآية التي نحن في تفسيرها و وقوعها على الذكر قوله أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (2) لأن المراد به الجناح و هو مذكر.

ص: 98


1- سورة النور:4.
2- سورة الفاطر:1.

و قوله مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ معناه اثنتين اثنتين و ثلاثا ثلاثا و أربعا أربعا فلا يقال إن هذا يؤدي إلى جواز نكاح تسع كما توهمه بعض الزيدية فإن اثنين و ثلاثا و أربعا تسع لما ذكرناه فإن من قال دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لا يقتضي الأعداد في الدخول و لكن لهذا العدد لفظا موضوعا و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العي جل كلامه تعالى عن ذلك.

وَ قَالَ الصَّادِقُ ع لاَ يَحِلُّ لِمَاءِ الرَّجُلِ أَنْ يَجْرِيَ فِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَرْحَامٍ مِنَ الْحَرَائِرِ (1). و لعمومه بقوله إن الاقتصار في نكاح المتعة على أربعة أولى (2) و إن ورد أنهن بمنزلة الإماء و في الإماء يجوز الجمع بين أكثر من أربع في ملك اليمين.

فصل

و قوله فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي فإن خفتم ألا تعدلوا في ما زاد على الواحدة فانكحوا واحدة.و قرأ أبو جعفر المدني بالرفع و تقديره فواحدة كافية كما قال تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ (3) .و من استدل من الزيدية بهذه الآية على أن نكاح التسع جائز فقد أخطأ لأن المعنى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى إن أمنتم الجور و أما ثلاث إن لم تخافوا ذلك و أما رباع إن أمنتم ذلك فيهن بدلالة قوله تعالى فَإِنْ

خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً لأن معناه فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة ثم قال فإن خفتم في الواحدة أيضا فما ملكت أيمانكم على أن مثنى لا تصلح إلا لاثنين اثنين على التفريق في قول الزجاج فتقدير الآية فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث بدلا من مثنى و رباع من ثلاث فلا حاجة إلى أن يقال الواو بمعنى أو و لو قال أو لظن أنه ليس لصاحب مثنى ثلاث و لا لصاحب الثلاث رباع.و قال الفارسي إن مثنى و ثلاث و رباع حال من قوله ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فهو كقولك جئتك راكبا و ماشيا و راكبا و منحدرا تريد أنك جئته في كل حال من هذه الأحوال و لست تريد أنك جئته و هذه الأحوال لك في وقت واحد.و من استدل بقوله تعالى فَانْكِحُوا على وجوب التزويج من حيث إن الأمر شرعا يقتضي الوجوب فقد أخطأ لأن ظاهر الأمر و إن اقتضى الإيجاب في الشرع فقد ينصرف عنه بدليل و قد قام الدليل على أن التزويج ليس بواجب على أن الغرض بهذه الآية النهي عن العقد على من يخاف أن لا يعدل بينهن.

ص: 99


1- وسائل الشيعة 399/14.
2- في المصدر السابق 448/14 أحاديث بهذا المعنى.
3- سورة البقرة:282.

خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً لأن معناه فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة ثم قال فإن خفتم في الواحدة أيضا فما ملكت أيمانكم على أن مثنى لا تصلح إلا لاثنين اثنين على التفريق في قول الزجاج فتقدير الآية فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث بدلا من مثنى و رباع من ثلاث فلا حاجة إلى أن يقال الواو بمعنى أو و لو قال أو لظن أنه ليس لصاحب مثنى ثلاث و لا لصاحب الثلاث رباع.و قال الفارسي إن مثنى و ثلاث و رباع حال من قوله ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فهو كقولك جئتك راكبا و ماشيا و راكبا و منحدرا تريد أنك جئته في كل حال من هذه الأحوال و لست تريد أنك جئته و هذه الأحوال لك في وقت واحد.و من استدل بقوله تعالى فَانْكِحُوا على وجوب التزويج من حيث إن الأمر شرعا يقتضي الوجوب فقد أخطأ لأن ظاهر الأمر و إن اقتضى الإيجاب في الشرع فقد ينصرف عنه بدليل و قد قام الدليل على أن التزويج ليس بواجب على أن الغرض بهذه الآية النهي عن العقد على من يخاف أن لا يعدل بينهن.

فصل

ثم قال تعالى ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا فأشار بهذا إلى العقد على الواحدة مع الخوف من الجور فيما زاد عليها و الاقتصار على ما ملكت أيمانكم أي هو أقرب إلى أن لا تجوروا و لا تميلوا يقال منه عال يعول إذا مال و جار.و ما قاله قوم من أن معناه أن لا يفترقوا فهو خطأ و كذا قول من زعم أن معناه أن لا يكثر عيالكم لأنه يقال عال يعيل إذا احتاج و أعال يعيل إذا كثر عياله.على أنه لو كان المراد القول الثالث لما أباح الواحدة و ما شاء من ملك

ص: 100

اليمين لأنه أريد في العيال من أربع حرائر و الصحيح أن عال الرجل عياله يعولهم أي مانهم و منه

قَوْلُهُ ع ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ (1).

باب الصداق و أحكامه

قال الله تعالى وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً (2) أي أعطوهن مهورهن ديانة و هبة من الله لهن و نحلة نصب على المصدر.

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُخَاطَبُ بِهِ الْأَزْوَاجُ أَمَرَهُمْ بِإِعْطَاءِ الْمَهْرِ كَمَلاً إِذَا دُخِلَ بِهَا لِمَنْ سَمَّى لَهَا فَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ فَإِنَّ لَهَا نِصْفَ الْمُسَمَّى إِذَا طَلَّقَهَا وَ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا الْمَهْرَ فَلَهَا الْمُتْعَةُ فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْراً فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ. و قال أبو صالح هذا خطاب للأولياء لأن الرجل منهم كان إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك و أنزل هذه الآية.و ذكر المعتمر بن سليمان أن أناسا كان أحدهم يعطي هذا الرجل منهم أخته و يأخذ أخت الرجل و لا يكون بينهما المهر فيشير بهذا إلى نكاح الشغار فنهى الله عن ذلك.و الظاهر يدل على الأول.ثم خاطب الله الأزواج بقوله تعالى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً لأن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته فأنزل الله هذه الآية عن ابن عباس.و قال أبو صالح المعني به الأولياء و المعنى إن طابت لكم أنفسهن بشيء

ص: 101


1- وسائل الشيعة 302/6.
2- سورة النساء:4.

من المهر و من لتبيين الجنس فلو وهبت له المهر نحلة لجاز و كان حلالا بلا خلاف.

فصل

و الأصل في الصداق كتاب الله و سنة رسوله ص فالكتاب قوله تعالى وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً (1) و قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً (2) و قال وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ (3) .

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص أَدُّوا الْعَلاَئِقَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَلاَئِقُ قَالَ مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ. و عليه الإجماع و يسمى المهر صداقا و أجرة و فريضة.فإن قيل كيف سماه الله نحلة و هو عوض عن النكاح.فالجواب أنه مشتق من الانتحال الذي هو التدين يقال فلان ينتحل مذهب كذا فكان قوله تعالى نِحْلَةً معناه تدينا.و قيل إنه في الحقيقة نحلة من الله لها لأن حظ الاستمتاع لكل واحد منهما بصاحبه كحظ الآخر.و قيل وجه ثالث و هو أن الصداق كان للأولياء في شرع من قبلنا بدلالة قول شعيب حين زوج موسى ابنته عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ

عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ (1) فكان معنى قوله تعالى نِحْلَةً أي إن الله أعطاهن هذا في شريعة محمد ع.فإذا ثبت هذا فالمستحب أن لا يعرى نكاح عن ذكر مهر لأنه إذا عقد مطلقا ضارع الموهوبة و ذلك يختص بالنبي ص فلذلك يستحب ذكره و لئلا يرى الجاهل فيظن أنه يعرى عن المهر و لأن فيه قطعا لمواد الخصومة.و متى ترك ذكر المهر و عقد النكاح بغير ذلك فالنكاح صحيح إجماعا لقوله تعالى لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً تقديره و لم تفرضوا لهن فريضة لأنه معطوف على قوله ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بدلالة قوله وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ .و هذه المتعة واجبة للمرأة التي طلقها قبل الدخول و لم يسم لها مهرا.ثم قال مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فإن كان المهر مسمى و أعطاها المهر ثم طلقها فالمتعة مستحبة قال الله تعالى وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (2) .

ص: 102


1- سورة النساء:4.
2- سورة النساء:24.
3- سورة البقرة:237.

عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ (1) فكان معنى قوله تعالى نِحْلَةً أي إن الله أعطاهن هذا في شريعة محمد ع.فإذا ثبت هذا فالمستحب أن لا يعرى نكاح عن ذكر مهر لأنه إذا عقد مطلقا ضارع الموهوبة و ذلك يختص بالنبي ص فلذلك يستحب ذكره و لئلا يرى الجاهل فيظن أنه يعرى عن المهر و لأن فيه قطعا لمواد الخصومة.و متى ترك ذكر المهر و عقد النكاح بغير ذلك فالنكاح صحيح إجماعا لقوله تعالى لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً تقديره و لم تفرضوا لهن فريضة لأنه معطوف على قوله ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بدلالة قوله وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ .و هذه المتعة واجبة للمرأة التي طلقها قبل الدخول و لم يسم لها مهرا.ثم قال مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فإن كان المهر مسمى و أعطاها المهر ثم طلقها فالمتعة مستحبة قال الله تعالى وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (2) .

فصل

و الصداق عندنا غير مقدر فكل ما يصح أن يكون ثمنا لمبيع أو أجرة لمكتر صح أن يكون صداقا قليلا كان أو كثيرا و فيه خلاف.و الكثير أيضا لا حد له عندنا

لقوله تعالى وَ إِنْ .. آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (3) و القنطار ملء مسك ثور ذهبا أو سبعون ألفا و هو إجماع لقصة عمر مع المرأة التي حجته فقال كل أحد أفقه من عمر حتى النساء أفقه من عمر.

ص: 103


1- سورة القصص:27.
2- سورة البقرة:241.
3- سورة النساء:20.

و كل ما له قيمة في الإسلام و تراضى عليه الزوجان ينعقد به النكاح و يصير به مهرا إلا أن السنة المحمدية خمسمائة درهم قيمتها خمسون دينارا.و روى أصحابنا أن الإجارة مدة لا يجوز أن يكون صداقا لأنه كان يختص بموسى ع و يجوز أن يكون المهر تعليم شيء من القرآن

باب المتعة و أحكامها

قال الله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً (1) قال الحسن هو النكاح و قال ابن عباس و السدي هو المتعة إلى أجل مسمى و هو مذهبنا لأن لفظ الاستمتاع إذا أطلق لا يستفاد به في الشرع إلا العقد المؤجل و إن كان في أصل الوضع معناه الانتفاع و لا خلاف أن الشيء إذا كان له وضع و عرف شرعي يجب حمله على العرف دون الوضع لأنه صار حقيقة و الوضع مجازا و الحكم للطارئ أ لا ترى أنهم يقولون فلان يقول بالمتعة و فلان لا يقول بالمتعة و لا يريدون إلا العقد المخصوص.و لا ينافي ذلك قوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (2) لأنا نقول إن هذه زوجة و لا يلزم أن يلحقها جميع أحكام الزوجات من الميراث و الطلاق و الإيلاء و الظهار و اللعان لأن أحكام الزوجات تختلف أ لا ترى أن المرتدة تبين بغير طلاق و كذا المرتد عندنا و الكتابية لا ترث و أما العدة فإنها يلحقها عندنا و يلحق به الولد أيضا في هذا النكاح فلا شنعة بذلك.

ص: 104


1- سورة النساء:24.
2- سورة المؤمنون:5-6.

و لو لم تكن زوجة لما جاز أن يضم ما ذكر في هذه السورة إلى ما في تلك الآية و إن ذلك جائز لأنه لا تنافي بينهما فيكون التقدير إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم أو ما استمتعتم به منهن و قد استقام الكلام.

فصل

وَ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمْ قَرَءُوا فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (1). و ذلك صريح بما قلناه على أنه لو كان المراد به عقد النكاح الدائم لوجب لها جميع المهر بنفس العقد لأنه قال تعالى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن عند أكثر المفسرين و ذلك غير واجب بلا خلاف و إنما يجب الأجر بكماله في عقد المتعة بنفس العقد.و لا يعترض هذا بقوله تعالى وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً (2) لأن آية الصدقة مطلقة و هذه مقيدة بما قبلها مع أنه فصل سبحانه فقال وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ .و في أصحابنا من قال قوله أُجُورَهُنَّ يدل على أنه تعالى أراد المتعة لأن المهر لا يسمى أجرا بل سماه الله تعالى صدقة و نحلة.و هذا ضعيف لأن الله سمى المهر أجرا في قوله فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (3) و في قوله وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (4) و من حمل ذلك كله على المتعة كان مرتكبا لما يعلم خلافه.

ص: 105


1- انظر الدّر المنثور 129/2 فما بعدها.
2- سورة النساء:4.
3- سورة النساء:25.
4- سورة المائدة:5.

و من حمل لفظ الاستمتاع على الانتفاع فقد أبعد لأنه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم من لا ينتفع بها شيء من المهر فقد علمنا أنه لو طلقها قبل الدخول للزمه نصف المهر فإن خلا بها خلوة تامة لزمه جميع المهر عند كثير من الفقهاء و إن لم يلتذ و لم ينتفع.

فصل

وَ أَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي يَرْوُونَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ع نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ (1). فهو خبر واحد لا يترك له ظاهر القرآن و مع ذلك يختلف لفظه و روايته فتارة يروون أنه نهى عنها في عام خيبر و تارة يروون أنه نهى عنها في عام الفتح و قد طعن أيضا في طريقه بما هو معروف.و أدل دليل على ضعفه

"قَوْلُ عُمَرَ مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَ مُعَاقِبٌ عَلَيْهِمَا (2). فأخبر أن هذه المتعة كانت على عهد رسول الله ص و أنه هو الذي نهى عنها لضرب من الرأي.فإن قالوا إنما نهى لأن النبي ع كان نهى عنها.قلنا لو كان كذلك لكان يقول متعتان كانتا على عهد رسول الله فنهى عنهما و أنا أنهى عنهما أيضا فكان يكون آكد في باب المنع فلما لم يقل ذلك دل على أن التحريم لم يكن صدر عن النبي ص و صح ما قلناه.

وَ قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ عَلِيٌّ ع لَوْ لاَ أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلاَّ شَقِيٌّ (3).

ص: 106


1- انظر سنن الترمذي 429/3.
2- الغدير 210/6 عن سنن البيهقيّ 206/7 و لفظه«و اعاتب عليهما».
3- الدّر المنثور 140/2.و بمضمونه حديث عن ابى جعفر الباقر عليه السلام،انظر الاستبصار 141/3.

"وَ ذَكَرَ الْبَلْخِيُّ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ع وَ نَحْنُ شَبَابٌ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَ لاَ نَسْتَخْصِي قَالَ لاَ ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ (1).

و قوله تعالى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ (2) قال السدي و قوم من أصحابنا (3) معناه لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من استئناف عقد آخر بعد انقضاء المدة التي تراضيتم عليها فتزيدها في الأجر و تزيدك في المدة (4).

فصل

فإذا ثبت أن النكاح المتعة جائز و هو النكاح المؤجل و قد سبق إلى القول بإباحة ذلك جماعة معروفة الأحوال عند المخالفين و قد أثبتوا في كتبهم منهم أمير المؤمنين ع و ابن مسعود و مجاهد و عطا و قد رووا عن جابر و سلمة بن الأكوع و أبي سعيد الخدري و المغيرة بن شعبة و ابن جبير و ابن جريح أنهم كانوا يفتون بها و ادعاؤهم الاتفاق على حظر المتعة باطل.و قد ذكرنا أن الحجة لنا بعد الإجماع من القرآن قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً و لفظ الاستمتاع و التمتع و إن كان واقعا

ص: 107


1- مسند أحمد بن حنبل 432/1.
2- سورة النساء:24.
3- انظر الدّر المنثور 140/2.
4- قال الصغانى في العباب:قيل لسعد بن أبي وقاص«رض»:ان فلانا ينهى عن المتعة. فقال:متعنا مع رسول اللّه عليه السلام و فلان كافر بالعرش-أى و هو مقيم بعرش مكّة و هى بيوتها القديمة لم يسلم و لم يهاجر.كأنّه قال كافر بالعروش،و هو جمع عريش،و هو خيمة من خشب و ثمام.قال الصغانى:فلان هو معاوية بن أبى سفيان«ج».

على الالتذاذ و الانتفاع في أصل اللغة فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعين لا سيما إذا أضيف إلى النساء و لا يفهم من قول القائل متعة النساء إلا هذا العقد المخصوص كما أن لفظ الظهار اختص في عرف الشرع بهذا الحكم المخصوص و إن كانت في اللغة مشتركة فكأنه قال إذا عقدتم عليهن هذا العقد المخصوص فآتوهن أجورهن.و لفظة اِسْتَمْتَعْتُمْ لا تعدو وجهين إما أن يراد بها الانتفاع و الالتذاذ الذي هو أصل موضوع اللغة أو العقد المؤجل المخصوص الذي اقتضاه عرف الشرع فلا يجوز أن يكون هو الوجه الأول لأمرين أحدهما أنه لا خلاف بين محصلي من تكلم في أصول الفقه في أن لفظ القرآن إذا ورد و هو محتمل لأمرين أحدهما أصل اللغة و الآخر عرف الشرع أنه يجب حمله على عرف الشرع و لهذا حملوا كلهم لفظ صلاة و زكاة و صيام و حج على العرف الشرعي دون اللغوي.و الأمر الآخر أنه لا خلاف في أن المهر لا يجب بالالتذاذ لأن رجلا لو وطئ امرأته و لم يلتذ لوطئها لأن نفسه عافتها و كرهتها أو لغير ذلك من الأسباب لكان دفع جميع المهر واجبا و إن كان الالتذاذ مرتفعا فعلمنا أن الاستمتاع في الآية إنما أريد به العقد المخصوص دون غيره.

فصل

و مما يبين ذلك و يقويه قوله تعالى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ و معناه على ما روي عن آل محمد ع أن تزيدها أنت في الأجر و تزيدك هي في الأجل (1).

ص: 108


1- انظر تفسير البرهان 360/1.

و ما يقوله مخالفونا من أن المراد به رفع الجناح في الإبراء و النقصان أو الزيادة في المهر أو ما يستقر بتراضيهما من النفقة ليس بصحيح لأنا نعلم أن العفو و الإبراء مسقط للحقوق بالعقول و من الشرع ضرورة لا بهذه الآية و الزيادة في المهر كالهبة و الهبة أيضا معلومة لا من هذه الآية و أن التراضي مؤثر في النفقات و ما أشبهها فحمل الآية و الاستفادة بها ما ليس بمستفاد قبلها و لا معلوم هو الأولى فالحكم الذي ذكرناه مستفاد بالآية غير معلوم قبلها فيجب أن يكون أولى.

فصل

ص: 109

اللفظة على الأمرين من العفة و الإحصان الذي يتعلق به الرجم لم يكن بعيدا.فإن قيل كيف يحمل لفظة الإحصان في الآية على ما يقتضي الرجم و عندكم أن المتعة لا تحصن.قلنا قد ذهب أكثر أصحابنا إلى أنها تحصن و إنما لا تحصن إذا كانت المتمتع بها يغيب عنها في أكثر الأوقات و الغائب عن زوجته في النكاح الدائم لا يكون بحكم المحصن في الرجم.و بعد فإذا كانت لفظة مُحْصِنِينَ تليق بالنكاح الدائم المؤبد رددنا ذلك إليه كما أنا رددنا لفظة الاستمتاع إلى النكاح المؤجل لما كانت تليق به فكأنه تعالى أحل النكاح على الإطلاق و ابتغاءه بالأموال ثم فصل منه المؤبد بذكر الإحصان و المؤجل بذكر الاستمتاع.و موضع أَنْ تَبْتَغُوا نصب على البدل من ما أو على حذف اللام بأن يكون تقديره لأن تبتغوا و من قرأ وَ أُحِلَّ بالضم جاز في محل أن الرفع و النصب و معنى أَنْ تَبْتَغُوا أن تطلبوا و تلتمسوا بأموالكم إما شراء بثمن أو نكاحا مؤجلا أو مؤبدا عن ابن عباس. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أي متزوجين غير زانين و أعفة غير زناة و قال الزجاج المسافح و المسافحة الزانيان غير ممتنعين من أحد فإذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن فحرم الله الزناء على وجه السفاح الذي ذكرناه و اتخاذ الصديق الذي بيناه

باب العقد على الإماء و أحكامه

ص: 110

قال الله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ (1) معناه و من لم يجد منكم طولا و الطول هو الغنى مأخوذ من الطول فشبه الغنى به لأن به ينال معالي الأمور و قيل الطول هو الهوى (2) قال جابر إذا هوي الأمة التي للغير فله أن يتزوجها بأن كان ذا يسار و الأول هو الصحيح و هو المروي عن أبي جعفر ع (3).المعنى من لم يستطع زيادة في المال و سعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة أي من لم يقدر على شيء مما يصلح لنكاح الحرائر من المهر و النفقة فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات أي من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم و هم المخالفون في الدين كاليهود و النصارى و المجوس و غيرهم فإن مهور الإماء أقل و مئونتهن أخف في العادة.و المراد به إماء الغير لأنه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأمة نفسه إجماعا و طولا مفعول به و على قول جابر من أنه من الهوى مفعول له.و العنت في قوله تعالى لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ على هذا المراد به الحد لأنه إذا هواها خشي أن يواقعها فيحد فيتزوجها.و الفتاة الشابة و الفتاة الأمة و إن كانت عجوزا لأنها كالصغيرة في أنها لا توقر توقير الحرة و الفتوة حالة الحداثة يقال أفتى الفقيه لأنه في مسألة حادثة.

فصل

و في الآية دلالة على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية لأنه قيد جواز العقد على الإماء بكونهن مؤمنات و قال أبو حنيفة يجوز ذلك لأن التقييد هو على

ص: 111


1- سورة النساء:25.
2- و فسر الطول بالمهر في حديث عن الصادق عليه السلام-انظر تفسير البرهان 361/1.
3- مجمع البيان 33/2.

جهة الندب دون التحريم و الأول أقوى لأنه الظاهر و ما قاله عدول عن الظاهر.و منهم من قال إن تأويل من فتياتكم المؤمنات الكتابيات دون المشركات من عبدة الأوثان بدلالة الآية في المائدة و هي قوله تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (1) و هذا ليس بشيء لأن الكتابية لا تسمى مؤمنة.و من أجاز العقد على الكتابية له أن يقول آية المائدة مخصوصة بالحرائر منهن دون الإماء.و ظاهر الآية يقتضي أن من وجد المهر للحرة و نفقتها و لا يخاف العنت لا يجوز له تزويج الأمة و إنما يجوز العقد عليها مع عدم الطول و الخوف من العنت و هو مذهب الشافعي غير أن أكثر أصحابنا قالوا ذلك على وجه الأفضل لا لأنه لو عقد عليها و هو غني كان العقد باطلا و هو قول أبي حنيفة و قووا ذلك بقوله تعالى وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ (2) .إلا أن من شرط صحة العقد على الأمة عند أكثر الفقهاء ألا يكون عنده حرة و هو مذهبنا إلا أن ترضى الحرة بأن يتزوج عليها أمة فإن أذنت كان العقد صحيحا عندنا و متى عقد عليها بغير إذن الحرة كان العقد باطلا و روى أصحابنا أن الحرة تكون بالخيار بين أن تفسخ عقد الأمة كما يكون لها الخيار أن تفسخ عقد نفسها و الأول أظهر لأنه إذا كان العقد باطلا لا يحتاج إلى فسخه.فأما تزويج الحرة على الأمة فلا يجوز إلا بإذن الحرة فإن لم تعلم الحرة بذلك كان لها أن تفسخ نكاح نفسها أو نكاح الأمة و في الناس من قال في عقده على الحرة طلاق الأمة

وَ عَنِ النَّبِيِّ ع الْحَرَائِرُ صَلاَحُ الْبَيْتِ

ص: 112


1- سورة المائدة:5.
2- سورة البقرة:221.

وَ الْإِمَاءُ هَلاَكُ الْبَيْتِ.

فصل

ثم

ص: 113

قال تعالى وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قيل فيه قولان أحدهما كلكم ولد آدم الثاني كلكم على الإيمان.و يجوز أن تكون الأمة أفضل من الحرة و أكثر ثوابا عند الله و في ذلك تسلية لمن يعقد على الأمة إذا جوز أن يكون أكثر ثوابا عند الله مع اشتراكهم بأنهم ولد آدم و في ذلك صرف عن التعاير في الأنساب.و من كره نكاح الأمة قال إن الولد منها يكون مملوكا و لذلك أنكر و عندنا أن هذا ليس بصحيح لأن الولد عندنا يلحق بالحرية في كلا الطرفين إلا أن يشترط.و قوله تعالى فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي اعقدوا عليهن بإذن أهلهن و في ذلك دلالة واضحة على أنه لا يجوز نكاح الأمة بغير إذن وليها الذي هو مالكها.و قوله تعالى وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ معناه أعطوا مالكهن مهورهن لأن مهر الأمة لسيدها و قيل تقديره فآتوا مواليهن فحذف المضاف و قيل إنما قال و آتوهن لأنهن و ما في أيديهن لمواليهن فيكون الأداء إليهن بحضور مواليهن أداء إلى الموالي.و قوله تعالى بِالْمَعْرُوفِ و هو ما وقع عليه العقد و التراضي.و قوله تعالى مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ يعني بالعقد عليهن دون السفاح معهن وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فالخدن الصديق يكون للمرأة يزني بها سرا و السفاح ما ظهر من الزناء أي غير زانيات جهرا و لا سرا و لا يحرم في الجاهلية ما خفي من الزناء و إنما يحرم ما ظهر منه قال الله تعالى وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ (1) أي حرم الزناء سرا و علانية.

فصل

قوله تعالى فَإِذا أُحْصِنَّ من قرأ بالضم معناه تزوجن و من فتح الهمزة فمعناه أسلمن و قال الحسن يحصنها الإسلام و الزوج.و لا خلاف أنه يجب عليها نصف الحد إذا زنت سواء كانت ذات زوج أو لم تكن.و قوله مِنَ الْعَذابِ أي من الحد لقوله وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما (2) و يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ (3) .و لا رجم على الإماء لأن الرجم لا ينتصف.و قوله ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ إشارة إلى نكاح الأمة عند عدم الطول لمن خشي العنت أي الزناء و المشقة و الضرر لغلبة الشهوة. وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ معناه و صبركم عن نكاح الإماء و عن الزناء خير لكم.و يدل على أن الإحصان يعبر به عن الخيرية قوله تعالى في أول الآية وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ و لا شك أنه أراد بها الحرائر و العفائف لأن اللاتي لهن أزواج لا يمكن العقد عليهن على أن في الناس من قال إن المحصنات هنا المراد بها الحرائر دون العفائف لأن العقد على المرأة الفاجرة ينعقد و إن كان مكروها لأن قوله اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً

أَوْ مُشْرِكَةً (1) منسوخ بالإجماع و يمكن أن يخص بالعفائف على الأفضل دون الوجوب.و ذكر الطبري أن في الآية تقديما و تأخيرا لأن التقدير و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات مما ملكت أيمانكم أي فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات بعضكم من بعض و الله أعلم بإيمانكم (2) و هو مليح.

ص: 114


1- سورة الأنعام:151.
2- سورة النور:2.
3- سورة النور:8.

أَوْ مُشْرِكَةً (1) منسوخ بالإجماع و يمكن أن يخص بالعفائف على الأفضل دون الوجوب.و ذكر الطبري أن في الآية تقديما و تأخيرا لأن التقدير و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات مما ملكت أيمانكم أي فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات بعضكم من بعض و الله أعلم بإيمانكم (2) و هو مليح.

فصل

ثم

قال تعالى يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال الجبائي في الآية دلالة على أن ما ذكر في الآيتين من تحريم النكاح و تحليله قد كان على من قبلنا من الأمم لقوله وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي في الحلال و الحرام.و قال الرماني لا يدل ذلك على اتفاق الشريعة و إن كنا على طريقتهم في الحلال و الحرام كما لا يدل عليه و إن كنا على طريقتهم في الإسلام و هذا أقوى و مثله قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (3) و اللام في لِيُبَيِّنَ لإرادة التبيين و الأصل أن يبين كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد الإضافة. وَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يقبل توبتكم من استحلالهم ما هو حرام عليهم من حلائل الآباء و الأبناء وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ قيل هم اليهود

ص: 115


1- سورة النور:3.
2- مجمع البيان:35/2.
3- سورة البقرة:183.

لأنهم يحلون نكاح الأخت من الأب و قيل المجوس أي يريدون أن يعدلوا عن الاستقامة و يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في نكاح الإماء لأن الإنسان خلق ضعيفا في أمر النساء

باب نفقات الزوجات و المرضعات و أحكامها

قال الله تعالى وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ (1) أي لا تعطوا النساء و الصبيان أموالكم التي تملكونها فتسلطونهم عليها فيفسدوها و يضيعوها و لكن ارزقوهم أنتم منها إن كانوا ممن يلزمكم نفقتهم و اكسوهم.

و قال تعالى اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ (2) و فيه دليلان على وجوب ذلك أحدهما قوله قَوّامُونَ و القوام على الغير هو المتكفل بأمره من نفقة و كسوة و غير ذلك و الثاني قوله وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ يعني أنفقوا عليهن من أموالهم.

و قال تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا أي في النفقة فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (3) يعني لا تكثروا من تمونونه فلو لا أن النفقة واجبة و المئونة عليه ما حذره بكثرتها عليه.و قال تعالى قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ (4) يعني من الحقوق التي لهن على الأزواج من الكسوة و النفقة و المهر و غير ذلك.

ص: 116


1- سورة النساء:5.
2- سورة النساء:34.
3- سورة النساء:3.
4- سورة الأحزاب:50.

و قال تعالى وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (1) و المولود له الزوج فقد أخبر تعالى أن عليه رزقها و كسوتها.

فصل

و قوله تعالى قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ قال قوم معناه قد علمنا مصلحة ما أخذنا على المؤمنين في أزواجهم و ما فرضناه عليهم مصلحة لهم في أديانهم من المهر و الحصر بعدد محصور من النفقة و الكسوة و القسمة بين الأزواج و غير ذلك من الحقوق و مما ملكت أيمانهم أن لا يقع لهم الملك إلا بوجوه معلومة و وضعنا أكثر ذلك منك و أبحنا لك امرأة وهبت نفسها لك و إنما خصصناك على علم منا بالمصلحة فيه من غير محاباة.و عندنا أن النكاح بلفظ الهبة لا يصح و إنما كان ذلك للنبي ع خاصة و قال قوم يصح غير أنه يلزم المهر إذا دخل بها و إنما جاز بلا مهر للنبي ع خاصة و الذي يبين صحة ما قلناه قوله تعالى إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (2) فبين أن هذا الضرب من النكاح خاص له ع دون غيره من المؤمنين.و متى اجتمع عند الرجل حرة و أمة بالزوجية كان للحرة يومان و للأمة يوم و في رواية للحرة ليلتان و للأمة المزوجة ليلة فإن كانت ملك بيمين فلا قسمة لها و التسوية بينهن في النفقة و الكسوة أفضل و لا بأس أن يفضل بعضهم على بعض فيهما.و إذا كان له زوجة يبيت عندها ليلة في كل أربع ليالي و إن كانت عنده حرتان جاز أن يبيت عند واحدة ثلاث ليالي و عند الأخرى ليلة.

ص: 117


1- سورة البقرة:223.
2- سورة الأحزاب:50.

فصل

و قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا (1) الآية فقد فرض الله على نبيه ص أن يخير نساءه بين المقام معه على ما يكون من أحوال الدنيا و بين مفارقته بالطلاق و تعجيل المنافع فقد روي في سببه أن كل واحدة من نسائه طلبت شيئا منه فلم يقدر على ذلك لأنه لما خيره الله تعالى في ملك الدنيا فاختار الآخرة فأمره الله بتخيير النساء فاخترنا الله و رسوله (2).و روي في سبب ذلك أن بعض نسائه طلبت منه حلقة من ذهب فصاغ لها حلقة من فضة و طلاها بالزعفران فقالت لا أريد إلا من ذهب فاغتم لذلك النبي ع فنزلت الآية فصبرن على الفاقة و الضر فأراد الله تعالى أن يكافئهن في الحال فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ (3) الآية ثم نسخت بعد مدة بقوله إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ يعني أعطيت مهورهن لأن النكاح لا ينفك من المهر.و الإيتاء قد يكون بالأداء و قد يكون بالالتزام و أحللنا لك ما ملكت يمينك من الإماء أن تجمع منهن ما شئت و أحللنا لك بنات عمك أن تعقد عليهن و تعطيهن مهرهن ثم قال وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ يعني و أحللنا لك المرأة إذا وهبت نفسها لك إذا أردتها و رغبت فيها.

"[عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَحِلُّ لَكَ امْرَأَةٌ بِغَيْرِ مَهْرٍ وَ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا إِلاَّ لِلنَّبِيِّ ع خَاصَّةً] (4).

ص: 118


1- سورة الأحزاب:28.
2- اسباب النزول ص 242.
3- سورة الأحزاب:52.
4- الزيادة من م.

فصل

و قوله تعالى وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ (1) هو أمر ورد في صورة الخبر كقوله وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (2) .و إنما قلنا ذلك لأمرين أحدهما أن تقديره و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين في حكم الله الذي أوجبه على عباده فحذف للدلالة عليه.و الثاني أنه وقع موقع ليرضعن تصرفا في الكلام مع دفع الإشكال و لو كان خبرا لكان كذبا لوجودنا و الوالدات يرضعن أكثر من حولين و أقل منهما و قال بعضهم هو على ظاهره خبر.فإن قيل إن الخبر يوجب[...] (3)و الإجماع أن الوالدة بالخيار.الجواب أنه في تقدير حق للوالدات أن يرضعن حولين.و قال الأصم ذلك في المطلقات لوروده عقيبه و لقوله وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ و الزوجة يلزم لها النفقة إذا كانت تطيع على كل حال و لا التباس على أنها عامة و لا يمتنع أن يبين للرضاع زيادة حق على حق الزوجية.و قال أبو مسلم هو أمر و حكم من الله على النساء بإرضاع أولادهن و على أزواجهن إقامة رزقهن و كسوتهن.و قال الزجاج في قوله تعالى بِالْمَعْرُوفِ أي بما تعرفون أنه عدل على

ص: 119


1- سورة البقرة:233.
2- سورة آل عمران:97.
3- كلمة لم نتبينها.

قدر الإمكان و يدل على هذا التأويل قوله تعالى لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها (1) لأنه خبر في تقدير النهي و بدل أي لا يكلف الزوج من النفقة أكثر من الإمكان على قدر حاله و ما يتسع له لأن الوسع ما يتسع له الرجل و لا يتحرج به و يصير إلى الضيق من أجله.

وَ نَظَرَ الصَّادِقُ ع إِلَى أُمِّ إِسْحَاقَ تُرْضِعُ أَحَدَ ابْنَيْهَا فَقَالَ لاَ تُرْضِعِيهِ مِنْ ثَدْيٍ وَاحِدٍ وَ أَرْضِعِيهِ مِنْ كِلَيْهِمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا طَعَاماً وَ الْآخَرُ شَرَاباً (2).

فصل

و في الآية بيان لأمرين أحدهما مندوب و الآخر فرض.فالمندوب هو أن يجعل الرضاع تمام الحولين لأن ما نقص عنه يدخل به الضرر على المرتضع.و الفرض أن مدة الحولين التي تستحق المرضعة الأجر فيها و لا تستحق فيما زاد عليه و هو الذي بينه الله تعالى بقوله فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فثبتت المدة التي يستحق فيها الأجرة على ما أوجبه الله تعالى في هذه الآية.و إنما قال تعالى حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ و إن كانت التثنية تأتي على استيفاء السنتين لوقع التوهم من أنه على طريقة التغليب كقولهم سرنا يوم الجمعة و إن كان السير في بعضه و قد يقال أقمنا حولين و إن كانت الإقامة في حول و بعض من الحول الثاني فهو لرفع الإبهام الذي يعرض في الكلام.فإن قيل هل يلزم الحولين في كل مولود.قيل فيه خلاف

ص: 120


1- سورة الأنعام:152.
2- وسائل الشيعة 176/15.

قال ابن عباس لا لأنه يعتبر ذلك بقوله وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً (1) فإن ولدت المرأة لستة أشهر فحولين كاملين و إن ولدت لسبعة أشهر فثلاثة و عشرون شهرا [و إن ولدت لتسعة أشهر واحد و عشرون شهرا يطلب لذلك التكملة لثلاثين شهرا] (2) في الحمل و الفصال الذي يسقط به الفرض و على هذا يدل أخبارنا لأنهم رووا أن ما نقص عن أحد و عشرين شهرا فهو جور على الصبي.و قال الثوري هو لازم في كل ولد إذا اختلف والداه رجعا إلى الحولين من غير نقصان و لا زيادة لا يجوز لهما غير ذلك.و الرضاع بعد الحولين لا حكم له في التحريم عندنا و به قال ابن عباس و أكثر العلماء.و قوله وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ إنه يجب على الأب إطعام أم الولد و كسوتها ما دامت في الرضاعة اللازمة إذا كانت مطلقة عند أكثر المفسرين.

فصل

أما

قوله تعالى لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها فله تقديران أحدهما لا تضارر ما لم يسم فاعله أي لا ينزع الولد منها و يسترضع امرأة أخرى مع إجابتها إلى الرضاع بأجرة المثل و لا مولود له و هو الوالد أي لا تضارر والدة بأن لا تمتنع هي من الإرضاع بأجرة المثل.و الثاني أن وزنه تفاعل أي لا تضارر والدة بولدها أي لا تترك المطلقة إرضاع ولدها غيضا على أبيه فتضر بولدها لأن الوالدة أشفق على ولدها من الأجنبية و هو اختيار الزجاج قال لا تضر بولدها في رضاع و لا غذاء و لا حفظ

ص: 121


1- سورة الاحقاف:25.
2- الزيادة من ج.

فيكون ضار بمعنى أضر و معنى و لا مولود له بولده أي لا يضر الوالد على أم الولد من جهة النفقة و تفقده و حفظه.و يجوز أن تكون المضارة من الوالدين بسبب الولد و نهيا عنه لأن في تضارهما إضرارا بالولد و قال أبو مسلم المضارة و المعاسرة واحدة لقوله تعالى وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى و تعاسرهما أن تعلو المرأة في التماس النفقة و منعها الوالد أوسط ما يكفيها كأنه قيل لا تضر والدة الزوج بولدها و كذا فرض الوالد

وَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَيْ لاَ يُتْرَكُ جِمَاعُهَا خَوْفَ الْحَمْلِ لِأَجْلِ وَلَدِهَا الْمُرْتَضِعِ وَ لاَ تَمْنَعُ نَفْسَهَا مِنَ الْأَبِ خَوْفَ الْحَمْلِ فَيُضِرَّ ذَلِكَ بِالْأَبِ (1). و إذا قرئ لاَ تُضَارُّ بالرفع فهو في لفظ الخبر و معناه الأمر و المعنى لا تضارر و والدة على هذا فاعلة لا غير و إذا قرئ بفتح الراء فهو نهي مجزوم اللفظ و التقدير لا يضارره أو لا تضارره.

فصل

و قوله تعالى وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ معناه عليه كما ذكر من قبل من النفقة و من ترك المضارة و قيل الوارث الولد و قيل الوالدة و الأول أقوى.و روي في أخبارنا أن على الوارث كائنا من كان النفقة (2) و هو ظاهر القرآن و به قال جماعة و قال بعض المفسرين إن على كل وارث نفقة الرضاع الأقرب فالأقرب يؤخذ به و أما نفقة ما بعد الرضاع فعندنا تلزم الوالدين و إن عليا النفقة على الولد و إن نزل و لا تلزم غيرهم و قال قوم تلزم العصبة دون الأم و الإخوة

ص: 122


1- تفسير البرهان 224/2.
2- انظر تفسير البرهان 225/2.

من الأم و قيل على الوارث من الرجال و النساء على قدر النصيب من الميراث و عموم الآية يقتضيه غير أنا خصصناه بدليل.و قال أبو حنيفة و أصحابه على الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون من كان ذا رحم ليس من المحرم كابن العم و ابن الأخت فأوجبوا على ابن الأخت و لم يوجبوها على ابن العم و إن كان وارثه في تلك الحال و كذا العم و ابن العم و قال سفيان و على الوارث أي الباقي من أبويه و هذا مثل ما قلناه.

فصل

و

قوله تعالى فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الفصال الفطام لانفصال المولود عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات و هذا الفصال في الآية المراد به فصال قبل الحولين لأن المدة التي هي تمام الحولين معلومة إذا تنازعا رجعا إليه فأما بعد الحولين فلا يجب على واحد منهما اتباع الآخر في دعائه.و قال ابن مهر إيزد في تفسيره إذا اتفق الوالد و المرضعة على أن يريا الصواب فطام المولود قبل انقضاء الحولين و استشارا غيرهما كيلا يقع عليهما غلط فيضرا به إن فطماه فجائز أن يفعلاه و الظاهر أنه مع شرط الفصال قبل الحولين تراضي الوالدين و استشارة الغير فيه و جوز أبو مسلم أن يكون المراد بالفصال مفصاله بين الوالد و الوالدة أن تراضيا بالافتراق و تسليم الولد حتى تسترضعه من يختار و هو بعيد.و قد قال تعالى وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ (1) و معناه منعنا موسى ع من قبل رده إلى أمه و بغضناهن إليه كان ذلك كالمنع بالنهي لا أن هناك

ص: 123


1- سورة القصص:12.

نهيا بالفعل فلما أحضر فرعون أمه سألها كيف ارتضع منك و لم يرتضع من غيرك فقالت لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أوتي صبيا إلا ارتضع مني يدل هذا على أن لبن الأم أنفع بالولد من لبن غيرها.

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى انْفِصَالٍ فَلاَ حَرَجَ إِذَا سَلَّمْتُمْ أُجْرَةَ الْأُمِّ أَوِ الظِّئْرِ. و قال مجاهد أجرة الأم بمقدار ما ارتضعت أجرة المثل و قال سفيان أجرة المسترضعة.و عندنا أن الأب متى وجد من ترضع الولد بأربعة دراهم و قالت الأم لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإن له أن ينزعه منها قال تعالى وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (1) إلا أن الأصلح له أن يترك مع أمه.و آتيتم بالمد من الإعطاء و أتيتم بالقصر من الإتيان و التقدير إذا سلمتم ما أتيتم نقده فحذف المضاف ثم المضاف إليه و بِالْمَعْرُوفِ يتعلق بأتيتم أو بسلمتم و الآية تدل على أنه تعالى أتاه إذا ضمن أن يعطيه فإذا سلم قيل سلم ما آتاه و العامل في إذا معنى لا جناح عليكم أي إذا استرضعتم و آتيتم الأجرة أمنتم فإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم أي لأولادكم.و في الآية دلالة على أن الولادة بستة أشهر تصح لأنه إذا ضم إلى الحولين كان ثلاثين شهرا و روي ذلك عن علي ع (2) و عن ابن عباس.

فصل

و

قوله تعالى وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ (3) فيه دلالة

ص: 124


1- سورة الطلاق:6.
2- وسائل الشيعة 117/15.
3- سورة آل عمران:44.

على أنهم حين ولادتها تشاحوا في الذي تحضنها و تكفل تربيتها فقال زكريا أنا أولى لأن خالتها عندي و قال القوم نحن أولى لأنها بنت إمامنا و كان عمران إمام الجماعة فألقوا الأقلام أيهم أولى بكفالتها فألقوها بالماء تلقاء الجرية فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء مصعدة و انحدرت أقلام الباقين فقرعهم زكريا.فإذا ثبت ذلك فاعلم أن الأم أولى بالولد من الأب مدة الرضاع فإذا خرج عن حد الرضاع كان الوالد أحق به منها إذا كان حرا و كان الولد ذكرا فإن كان أنثى فهي أحق بها إلى سبع سنين ما لم تتزوج فإذا تزوجت كان الوالد أحق بها إلا أن تكون مملوكا.و لا تسترضع كافرة و لا زانية لقوله تعالى وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً (1) فإن كان الوالد مات كانت الأم أحق به من الوصي سواء كان الولد ذكرا أو أنثى إلى أن يبلغ.و قال تعالى وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ (2) أي إنها تضعف ضعفا بحملها الولد إلى أن تضعه فلا تزال تزداد ضعفا على حسب تزايده في بطنها وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ (3) أي في انقضاء عامين بعد الوضع و ظاهر الآية يدل على جواز أحد و عشرين شهرا فإنها في عامين.و قوله تعالى وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً (4) أي أمرناه بأن يحسن إلى والديه إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً أي كانت تحمله لمشقة في بطنها مدة الحمل و وضعته بمشقة في حال الولادة و أرضعته مدة الرضاع.

ص: 125


1- سورة الأعراف:58.
2- سورة لقمان:14.
3- في ج«فانها عامين».
4- سورة الاحقاف:15.

ثم تبين أن أقل مدة الحمل و كمال مدة الرضاع ثلاثون شهرا فنبه بتلك الآية على ما يستحقه الوالدان من حيث إنهما يكفلانه و يربيانه

باب في ذكر ملك الأيمان

قال الله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (1) .اعلم أن الإماء يستباح وطؤهن بإحدى ثلاثة أشياء العقد عليهن بإذن أهلهن و بتحليل مالكهن الرجل من وطئهن و إباحته له و إن لم يكن هناك عقد و بأن يملكهن فيستبيح وطأهن بملك الأيمان.و إنما يملكهن بوجوه معلومة من الشرى و الهبة و الإرث و السبي و لا بأس أن يجمع الرجل بين أختين في الملك لكنه لا يجمع بينهما في الوطء لأن حكم الجمع بينهما في الوطء حكم الجمع بينهما في العقد فمتى ملك أختين و وطئ منهما واحدة لم يجز له وطئ الأخرى حتى تخرج تلك من ملكه بالبيع أو الهبة أو غيرهما.و يجوز أن يملك أمه و أمها فمتى وطئ إحداهما حرمت الأخرى عليه أبدا.و قوله تعالى قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (2) قد تكلمنا عليه من قبل و كذلك في قوله تعالى إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ (3) .و ملك اليمين في الآيات المراد به الإماء لأن الذكور من المماليك لا خلاف

ص: 126


1- سورة المؤمنون:5-6. (2-3) سورة الأحزاب:50.

في وجوب حفظ الفرج منهم لأن الله عنى بالفروج في قوله وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ فروج الرجال خاصة بدلالة قوله إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ استثنى من الحافظين لفروجهم من لا يحفظ فرجه عن زوجته أو ما ملكت يمينه من الإماء على ما أباحه الله له.و كل ما لم يجز الجمع بينهما في العقد فلا يجوز الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين.و إنما قيل للجارية ملك يمين و لم يقل في الدار ملك يمين لأن ملك الجارية أخص من ملك الدار إذ له نقض بنية الدار و ليس له نقض بنية الجارية و له عارية الدار و ليس له عارية الجارية فلذلك خص الملك في الأمة

باب ما يحرم النظر إليه منهن و ما يحل

خاطب الله نبيه ع

فقال يا محمد قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ (1) عن عورات النساء و ما يحرم النظر إليه أي قل لهم يغضوا من نظرهم فلا ينظروا إلى ما يحرم فوجب الغض على العموم حيث حذف المفعول ثم خص من وجه آخر بإيراد من فمن للتبعيض لأن غض البصر إنما يجب في بعض المواضع.و كل موضع ذكر في القرآن حفظ الفروج فهو الزناء إلا في هذا الموضع لأن المراد به الستر حتى لا ينظر إليها أحد

قَالَ الصَّادِقُ ع لاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فَرْجِ أُخْتِهِ وَ لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى فَرْجِ أَخِيهَا (2). و قال قوم من المفسرين العورة من النساء ما عدا الوجه و الكفين فأمروا

ص: 127


1- سورة النور:30.
2- تفسير عليّ بن إبراهيم 101/2.

بغض البصر عن عوراتهن و قيل العورة من الرجل العانة إلى مستغلظ الفخذ من أعلى الركبة و هو العورة من الإماء و الحرة عورة من قرنها إلى قدمها قالوا و يدل على أن الوجه و الكفين و القدمين كلها ليست بعورة من الحرة أن لها كشف ذلك في الصلاة.و قوله تعالى وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أمر منه تعالى أن يحفظ الرجال فروجهم عن الحرام و أن يحفظوها عن إبدائها.ثم أمر المؤمنات أيضا بغض أبصارهن عن عورات الرجال و ما لا يحل لهن النظر إليه و أمرهن أن يحفظن فروجهن إلا من أزواجهن على ما أباحه الله و يحفظن أيضا إظهارها بحيث ينظر إليها و نهاهن عن إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها.

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَعْنِي الْقُرْطَيْنِ وَ الْقِلاَدَةَ وَ السِّوَارَ وَ الْخَلْخَالَ وَ الْمِعْضَدَ وَ النَّحْرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِظْهَارُ ذَلِكَ فَأَمَّا الشَّعْرُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُبْدِيَهُ إِلاَّ لِزَوْجِهَا. و الزينة المنهي عن إبدائها زينتان فالظاهرة الثياب و الخفية الخلخالان و السواران في قول ابن مسعود و قال إبراهيم الظاهر الذي أبيح الثياب فقط و قال الحسن الوجه و الثياب و قال قوم كل ما ليس بعورة يجوز إظهاره و الأحوط قول ابن مسعود.

فصل

ثم

ص: 128

نساء المؤمنين دون نساء المشركين سواء كن ذميات أو غيرهن فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن إلا إذا كانت أمة.و قوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ يعني الإماء فإنه لا بأس بإظهار الزينة لهؤلاء المذكورين لأنهم محارم.و قوله تعالى أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قال ابن عباس هو الذي يتبعك ليصيب من طعامك و لا حاجة له في النساء و هو الأبله و قيل هو العنين و قيل هو المجنون و قال مجاهد هو الطفل الذي لا أرب له في النساء و قيل هو الشيخ الهم و الإربة الحاجة.و قوله تعالى أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ يعني الصغار الذين لم يراهقوا فإنه يجوز إبداء الزينة لهم إذا لم يطلعوا بعد على الاستلذاذ و التمتع بهن و لم يروا العورات عورات لصغرهم.و لم يقل أو أعمامهن أو إخوانهن لأن أولادهن ليسوا ذوي محرم لهن فلعلهم إذا رأوا زينتهن بأن يظهرنها لهم يصفونها لبنيهم فيفتتنوا.

فصل

اعلم أن

ص: 129

فإن أصحابنا رووا في تفسير الآية أن المراد به الإماء دون الذكران من المماليك على ما تقدم.و يجوز للرجل إذا أراد أن يتزوج بامرأة أن ينظر إلى محاسنها و إذا اشترى جارية جاز له أن ينظر إليها و يمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ (1) و روي أنه نظر إلى ساقها و كان عليه الشعر فساءه ذلك فعمل له النورة و الزرنيخ (2).

فصل

و

قوله تعالى لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا (3) نهى الله المؤمنين أن يدخلوا بيوتا لا يملكونها و هي ملك غيرهم إلا بعد أن يستأذنوا و الاستيناس الإيذان فالمعنى حتى تستأنسوا بالإذن و قال مجاهد حتى يستأنسوا بالتنحنح و الكلام الذي يقوم مقام الاستئذان و قد بين تعالى ذلك بقوله وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا (4) قال عطاء و هو واجب في أمه و أخته و سائر أهله لئلا يهجم على عورتهم.و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ (5) يقول الله مروا عبيدكم و إماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى مواضع خلواتكم.قال ابن عباس الآية في النساء و الرجال من العبيد و قال غيره الاستئذان واجب على كل بالغ

ص: 130


1- سورة النمل:44.
2- نور الثقلين 92/4.
3- سورة النور:27.
4- سورة النور:59.
5- سورة النور:58.

في كل حال و على الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة بظاهر الآية ففي ذلك دلالة على أنه يجوز أن يؤمر الصبي الذي يعقل لأنه أمره بالاستئذان و قال آخرون ذلك أمر للآباء أن يأخذوا الأولاد بذلك.و فسر تعالى الأوقات فقال مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأن الغالب على الناس أن يتعروا في خلواتهم في هذه الأوقات.ثم بين أنه ليس عليكم و لا عليهم أن يدخلوا عليكم من غير إذن يعني الذين لم يبلغوا الحلم و هو المراد بقوله طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ أي هم طوافون ثم قال وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا فقد صار حكمهم حكم الرجال.و قوله تعالى وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ (1) يعني المسنات اللاتي يقعدن عن الحيض و عن التزويج و إنما ذكر القواعد لأن الشابة يلزمها من الستر أكثر مما يلزم العجوز و العجوز لا يجوز لها أن تبدي عورة لغير محرم كالساق و الشعر و الذراع

باب اختيار الأزواج و من يتولى العقد عليهن

قال الله تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (2) فهذا يدل على أن المؤمنين أكفاء في عقد النكاح كما أنهم متكافئون في الدماء فمتى خطب المؤمن إلى غيره بنته و بذل لها من الصداق السنة المحمدية و كان

ص: 131


1- سورة النور:60.
2- سورة الحجرات:13.

عنده يسار بقدر ما يقول بأمرها و الإنفاق عليها و كان مرضيا غير مرتكب لجور فلم يزوجه كان عاصيا لله و يكره أن يتزوج متظاهرا بالفسق.و استدل المرتضى على أن الرجل إذا أراد أن يتزوج ينبغي أن يطلب ذوات الدين و الأبوات و الأصول الكريمة و يجتنب من لا أصل له بقوله تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (1) فقال يجوز أن يكون للثياب هاهنا معنى آخر غير ما قالوه و هو أن الله سمى الأزواج لباسا فقال تعالى هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ (2) و اللباس و الثياب هنا بمعنى واحد فكأنه سبحانه أمر أن يستطهر النساء أي يختارهن طاهرات من دنس الكفر و درن العيب لأنهن مظان الاستيلاد و مضام الأولاد.

وَ عَنِ الصَّادِقِ ع زَوِّجُوا الْأَحْمَقَ وَ لاَ تُزَوِّجُوا الْحَمْقَاءَ فَإِنَّ الْأَحْمَقَ قَدْ يَنْجُبُ وَ الْحَمْقَاءَ لاَ تَنْجُبُ (3)وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً (4) .

فصل

و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إلى قوله وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ (5) .

ص: 132


1- سورة المدّثّر:4.
2- سورة البقرة:187.
3- من لا يحضره الفقيه 561/3.
4- سورة الأعراف:58.و النكد العسر الممتنع من اعطاء الخير على وجه البخل، و المعنى الأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها الا شيئا قليلا لا ينتفع به-انظر مجمع البيان 431/2.
5- سورة الممتحنة:10.

سبب نزول هذه الآية أن المهادنة لما وقعت بين النبي ع و بين قريش بالحديبية فرت بعدها امرأة من المشركين و خرجت إلى رسول الله مسلمة فجاء زوجها و قال ردها علي فنزلت فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ (1) .و ما جرى للنساء ذكر و إنما ضمن أن يرد الرجال فأمر الله أن تمتحن المهاجرة بالشهادتين فإن كانت مؤمنة رد صداقها و لا ترد هي عليه إذ هي لا تحل له و لا هو يحل لها و هذا في القرآن للتوكيد وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ حكم آخر أي كما ليس للمؤمنة أن تكون مع الكافر فكذلك أنتم أيها المؤمنون لا تبغوا نكاح الكافرات إن لم يؤمن.ثم قال تعالى وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي إن ارتدت مسلمة فلحقت بأهل المعاهدة فلكم أن تطالبوا أهلها أو وليها من الكفار أو يردوا عليكم ما أنفقتم في صداقها و لهم أن يطالبوكم بمثل ذلك فأما رد المؤمنة على الكافر فلم يجز البتة في حكم الله تعالى.و في هذه الآية أحكام كثيرة منها ما هو باق و منها ما قد سقط و كثير من الناس يدعون [النسخ فيما قد سقط كامتحان المهاجرة و رد الصداق على الكافر] (2) و ليس في شيء من ذلك نسخ و إنما هي أحكام تبعت الهجرة و الهدنة التي كانت فلما انقضى زالت تلك الأحكام و ما كان كذلك لم يكن نسخا.و قال الحسن معنى قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ اقطعوا عصمة الكفار و لا تتمسكوا بها قال كان في صدر الإسلام تكون المسلمة تحت الكافر و الكافرة تحت المسلم فنسخت هذه الآية ذلك و هذا ليس بنسخ على الحقيقة لأن الله لم يأمر بالأول فيكون نهيه عنه نسخا و إنما كان للأول بقاء على الحالة

ص: 133


1- اسباب النزول للواحدى ص 282.
2- الزيادة من ج.

الأولة غيرته الشريعة بحكم هذه الآية كما غيرت كثيرا من سنن الجاهلية.

فصل

أما

قوله تعالى اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (1) فمعناه أحل لكم العقد على المحصنات يعني العفائف من المؤمنات و الحرائر منهن و لا يدل على تحريم من ليس بعفيفة و لا أمة لأن ذلك دليل الخطاب و قد تقدم أنه لو عقد على أمه أو من ليست بعفيفة صح العقد و الأولى تجنبه و آخر الآية ينطق بأن المراد الحرائر و هو قوله إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لأن ذلك يتأتى في الحرائر و مهور الإماء يعطى أربابهن كما قدمنا.فإن قيل كيف قال اليوم أحل لكم تلك النساء أ تراهن قبل ذلك اليوم كن محرمات.قلنا المراد استقرار الشرع و انتهاء التحريم و إعلام الأمن (2) من أن تحرم محصنة بعد اليوم و عندنا لا يجوز العقد على الكتابية نكاح الدوام لقوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ على ما قدمناه و لقوله وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ .فإذا ثبت ذلك قلنا في قوله وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ تأويلان أحدهما أن يكون المراد بذلك اللاتي أسلمن منهن و المراد بقوله وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ من كن في الأصل مؤمنات و ولدن على الإسلام.

ص: 134


1- سورة المائدة:5.
2- أي هذا اعلام من اللّه تعالى للمسلمين أن يأمنوا تحريم المحصنات بعد اليوم«ج».

و قيل إن قوما كانوا يتحرجون من العقد على الكافرة إذا أسلمت فبين تعالى أنه لا حرج في ذلك و لذا أفردهن بالذكر.و الثاني أن يختص ذلك بنكاح المتعة أو ملك اليمين لأن وطأهما بعقد المتعة جائز عندنا

عَلَى أَنَّهُ رَوَى أَبُو الْجَارُودِ عَنِ الْبَاقِرِ ع أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ .

باب في النهي عن خطبة النساء المعتدات بالتصريح و جوازها بالتعريض

اعلم أن المرأة إذا كانت في عدة زوجها يجب عليها الامتناع من التزويج بغيره فإذا انقضت عدتها حلت للخطاب

ص: 135

و لما تقدم ذكر عدة النساء و جواز الرجعة فيها للأزواج عقبه ببيان حال غير الأزواج فقال وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا حرج و لا ضيق عليكم يا معشر الرجال فيما عرضتم به من خطبة النساء المعتدات و لا تصرحوا به و ذلك بأن تذكروا ما يدل على رغبتكم فيها.و قوله تعالى فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ فهو كلام يوهم أنه يريد نكاحها فكأنه إحالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض فالتعريض أن يذكر شيئا يدل به على شيء لم يذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك و أنظر إلى وجهك الكريم و الكناية أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له و يسمى التلويح لأنه يلوح فيه ما يريده.و المستدرك بقوله وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا مضمر تقديره علم الله أنكم ستذكروهن فاذكروهن و لكن لا تواعدوهن سرا و السر وقع كناية عن النكاح و حرف الاستثناء يتعلق ب لا تُواعِدُوهُنَّ أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض أو لا تواعدوهن إلا بأن تعفوا و لا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من سِرًّا لأدائه إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض و قيل لا تواعدوهن في السر فالمواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن.و ذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدة لأن العزم على الفعل يتقدمه فإذا نهي عنه كان عن الفعل أنهى و معناه و لا تعزموا عقد عقدة النكاح من عزم الأمر و عزم عليه و الله يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما يجوز فاحذروه و لا تعزموا عليه.فإن عزم إنسان على خطبة امرأة معتدة قبل انقضاء العدة و واعدها بالتصريح فقد فعل مكروها و لا يحرم العقد عليها بعد العدة فرخص له التعريض بذلك و لا كراهة فيه.

ص: 136

فصل

و اختلف في معناه فقيل التعريض و هو أن يقول الرجل للمعتدة إني أريد النكاح فإني أريد امرأة من صفتها كذا و كذا فيذكر بعض الصفات التي هي عليها عن ابن عباس و قيل هو أن يقول إنك لنافقة (1) و إنك لموافقة لي و إنك لمعجبة جميلة و إن قضى الله شيئا كان عن القاسم بن محمد و عن الشعبي و قيل هو كل ما كان من الكلام دون عقد النكاح عن ابن زيد.

أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أسررتم و أضمرتم في أنفسكم من نكاحهن بعد مضي عدتهن و قيل هو إسرار العزم دون إظهاره و التعريض إظهاره عن مجاهد و ابن زيد. عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ برغبتكم فيهن خوفا منكم أن يسبقكم إليهن غيركم فأباح لكم ذلك وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا فيه أقوال أحدها أن معناه لا تواعدوهن في السر لأنها أجنبية و المواعدة في السر تدعو إلى ما لا يحل.و ثانيها أن معناه الزناء عن الحسن و إبراهيم و قتادة فقالوا كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزنية و هو معرض بالنكاح فنهوا عن ذلك.و ثالثها أنه العهد على الامتناع من تزويج غيرك عن ابن عباس و ابن جبير.و رابعها هو أن يقول لها إني ناكحك فلا تفوتيني بنفسك عن مجاهد.و خامسها أن السر هو الجماع و معناه لا تصفوا أنفسكم بكثرة الجماع و لا تذكروه عن جماعة.و سادسها أنه إسرار عقد النكاح في السر عن عبد الرحمن بن زيد.

ص: 137


1- من النفاق في المتاع.

و يجمع هذه الأقوال

مَا رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ ع لاَ تُصَرِّحُوا لَهُنَّ النِّكَاحَ وَ التَّزْوِيجَ قَالَ وَ مِنَ السِّرِّ أَنْ يَقُولَ لَهَا مَوْعِدُكِ بَيْتُ فُلاَنٍ. إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً يعني التعريض الذي أباحه الله تعالى و إلا بمعنى لكن لأن ما قبله هو المنهي عنه و ما بعده هو المأذون فيه و تقديره و لكن قولوا قولا معروفا. وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي لا تبيتوا النكاح و لا تعقدوا عقد النكاح في العدة و لم يرد به النهي عن العزم على النكاح بعد العدة لأنه أباحه بقوله أَوْ أَكْنَنْتُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي حتى تنقضي العدة.

فصل

ص: 138

و لا يجوز لها العقد على نفسها و كذا البكر لا يجوز لها أن تعقد على نفسها (1) إلا بإذن أبيها فإن عقدت كان العقد موقوفا على رضاء الأب فإن عضلها أبوها و هو أن لا يزوج بنته البكر بالأكفاء إذا خاطبوها كان لها العقد على نفسها و إن لم يرض بذلك الأب.و قال المرتضى يجوز عقد المرأة التي تملك أمرها على نفسها بغير ولي قال و الدليل عليه قوله تعالى فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فأضاف عقد النكاح إليها و الظاهر أنها تتولاه و أيضا قوله فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا فأضاف تعالى التراجع و هو عقد مستقل إليهما و الظاهر أنهما يتوليانه و أيضا قوله فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فأباح فعلها في نفسها من غير اشتراط الولي قال و لا يجوز أن يحمل اشتراط المعروف على تزويج الولي لها و ذلك أنه تعالى إنما رفع الجناح عنها في فعلها بنفسها بالمعروف و عقد الولي عليها لا يكون فعلا منها في نفسها و أيضا فقوله فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (2) فأضاف العقد إليهن و نهى الأولياء عن معارضتهن قال و الظاهر أنهن يتولينه فأما من ذهب إلى الأول فيمكنه أن يخصص هذه الآيات كلها و يحملها على بعض ما قدمناه و يكون معه إجماع الطائفة و الأخبار التي رووها عنهم ع

باب ما يستحب فعله عند العقد و آداب الخلوة

يستحب أن يستخير الله تعالى من أراد عقدة النكاح

فإن الله تعالى يقول

ص: 139


1- الزيادة من ج.
2- سورة النساء:32.

وَ سْئَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ .و أن يتابع المراسم الشرعية في ذلك و قد قال تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ (1)

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى قَوْلِهِ حَرْثٌ لَكُمْ مُزْدَرَعُ أَوْلاَدِكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ مُحْتَرَثٌ لَكُمْ وَ إِنَّمَا الْحَرْثُ الزَّرْعُ فِي الْأَصْلِ. و قال الزجاج أي نساؤكم ذات حرث لكم فأتوا لموضع حرثكم أنى شئتم و قيل الحرث كناية عن النكاح على وجه التشبيه.و معنى أَنّى شِئْتُمْ من أين شئتم في قول قتادة و الربيع و قال مجاهد معناه كيف شئتم و قال الضحاك معناه متى شئتم فخطأه جميع أهل التفسير و أهل اللغة بأن قالوا أنى لا يكون إلا بمعنى من أين كما قال تعالى أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ (2) و قال بعضهم معناه من أي وجه و استشهد ببيت الكميت أنى و من أين آبك طرب من حيث لا صبوة و لا ريب (3).

و هذا لا شاهد فيه لأنه يجوز أن يكون أتى به لاختلاف اللفظين كما يقولون متى كان هذا و أي وقت كان و يجوز أن يكون بمعنى كيف.و تأول مالك و قال أَنّى شِئْتُمْ يفيد جواز إتيان النساء في الدبر و رواه عن نافع عن ابن عمر و به قال بعض أصحابنا و خالف في ذلك جميع الفقهاء و المفسرين و قالوا هذا لا يجوز من وجوه أحدها أن الدبر ليس بحرث لأنه لا يكون منه الولد و هذا ليس بشيء لأنه لا يمتنع أن تسمى النساء حرثا لأنه يكون منهن الولد ثم يبيح الوطء

ص: 140


1- سورة البقرة:223.
2- سورة آل عمران:37.
3- الهاشميات للكميت ص 41.

فيما لا يكون منه الولد و هذا ليس بدليل لأنه لا خلاف أنه يجوز الوطء بين الفخذين و إن لم يكن هناك ولد.و ثانيها قالوا قال الله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ و هو الفرج و هذا أيضا لا دلالة فيه لأن قوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ معناه من حيث أباح الله لكم أو من الجهة التي شرعها الله لكم على ما حكيناه عن الزجاج و يدخل في ذلك الموضعان على أنهم قد أجمعوا على أن الآية الثانية ليست بناسخة للأولى.و ثالثها قالوا إن معناه من أين شئتم أي ائتوا الفرج من أين شئتم و ليس في ذلك إباحة لغير الفرج و هذا أيضا ضعيف لأن من ذهب إلى كراهيته دون حظره لا يسلم أن معناه ائتوا الفرج بل معناه عنده ائتوا النساء و ائتوا الحرث من أين شئتم و يدخل فيه جميع ذلك.و رابعها قالوا قوله تعالى في المحيض قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ فإذا حرم للأذى بالدم فالأذى بالنجو أعظم منه و هذا ليس بشيء لأن هذا حمل الشيء على غيره من غير علة على أنه لا يمتنع أن يكون المراد بقوله قُلْ هُوَ أَذىً غير النجاسة بل المراد أن في ذلك مفسدة و لا يجب أن يحمل على ذلك إلا بدليل موجب للعلم على أن الأذى بمعنى النجاسة حاصل في البول و دم الاستحاضة و مع هذا فليس بمنهي عن الوطء في الفرج.

فصل

و يقال إن هذه الآية نزلت ردا على اليهود فإنهم يقولون إذا أتى الرجل المرأة من خلف في قبلها خرج الولد أحول فأكذبهم الله تعالى في ذلك ذكره ابن عباس و جابر و رواه أصحابنا أيضا و قال الحسن أنكرت اليهود

ص: 141

إتيان المرأة قائمة و باركة فأنزل الله إباحته بعد أن يكون في الفرج.و مع هذا السبب الذي روي لا يمتنع أن يكون ذلك أيضا مباحا لأن غاية ما في السبب أن يطابقه الآية فأما أن لا يفيد غيره فلا يجب عند أكثر المحصلين.و قوله تعالى وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أي سموا الله في أنفسكم عند الجماع و سلوه أن يرزقكم ولدا ذكرا سويا ليس في خلقه زيادة و لا نقصان و قيل ائتوا النساء في موضع الولادة لا في أحشاشهن و قيل هذا على العموم أي قدموا الأعمال الصالحة التي أمر الله بها عباده و رغبهم فيها لتكون ذخرا عند الله.فإذا وجه اتصال قوله وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بما قبله أنه لما قدم الأمر بعده أشياء قال قدموا لأنفسكم بالطاعة فيما أمرتم به و اتقوا مجاوزة الحد فيما بين لكم و في ذلك الحث على العمل بالواجب الذي عرفوه و التحذير من مخالفة ما ألزموه (1).

فصل

و قد خاطب الله نبيه ع

بقوله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ (2)

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ طَلاَقِهِنَّ وَ إِمْسَاكِهِنَّ. و قال مجاهد معناه تعزل من شئت من نسائك فلا تأتيها و تأتي من شئت من نسائك.و ليس هذا مسقطا للقسم بينهن لأنه إذا كان عند الرجل أربع نسوة يجب عليه أن يبيت عند كل واحدة ليلة و يسوي بينهن في القسمة و لا يلزمه إذا بات عند كل واحدة أن يجامعها بل هو مخير في ذلك و على هذا قوله تعالى وَ لَنْ

تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ (1) فإن هذا في المودة و المحبة و قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً (2) في القسمة.و قوله تعالى وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ قال قتادة كان نبي الله ص يقسم بين أزواجه فأحل الله له ترك ذلك و قيل و من طلبت إصابته ممن كنت عزلت عن ذلك من نسائك.و قوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ (3) لا يخرج من الآية وطء المتمتع بها لأنها زوجة عندنا و إن خالف حكمها حكم المزوجة على الدوام في أحكام كثيرة كما أن حكم الزوجات على الدوام أيضا مختلف.و ذكره تعالى هذه الأوصاف من قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ و مدحه عليها يكفي و يغني عن الأمر بها فيها من الترغيب كما قال الله تعالى إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (4) مع تحريم وطئها على وجوه لتحريم وطء الزوجة و الأمة في حال الحيض و وطئ زيد جاريته إذا كان قد زوجها من عمرو أو كانت في عدة من زوج و تحريم وطء المظاهرة غير المشروطة بالوطء قبل الكفارة لأن المراد بذلك على ما يصح مما بينه الله و رسوله في غير هذا الموضع و حذف لأنه معلوم و هي من الأمور العارضة في هذه الوجوه.و أيضا فإن من وطئ الزوجة أو الأمة في حال الحيض و النفاس فلا

ص: 142


1- هذا الفصل و ما قبله مأخوذ من تفسير التبيان 222/2-225 مع تغيير يسير في بعض التعابير.
2- سورة الأحزاب:51.

تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ (1) فإن هذا في المودة و المحبة و قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً (2) في القسمة.و قوله تعالى وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ قال قتادة كان نبي الله ص يقسم بين أزواجه فأحل الله له ترك ذلك و قيل و من طلبت إصابته ممن كنت عزلت عن ذلك من نسائك.و قوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ (3) لا يخرج من الآية وطء المتمتع بها لأنها زوجة عندنا و إن خالف حكمها حكم المزوجة على الدوام في أحكام كثيرة كما أن حكم الزوجات على الدوام أيضا مختلف.و ذكره تعالى هذه الأوصاف من قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ و مدحه عليها يكفي و يغني عن الأمر بها فيها من الترغيب كما قال الله تعالى إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (4) مع تحريم وطئها على وجوه لتحريم وطء الزوجة و الأمة في حال الحيض و وطئ زيد جاريته إذا كان قد زوجها من عمرو أو كانت في عدة من زوج و تحريم وطء المظاهرة غير المشروطة بالوطء قبل الكفارة لأن المراد بذلك على ما يصح مما بينه الله و رسوله في غير هذا الموضع و حذف لأنه معلوم و هي من الأمور العارضة في هذه الوجوه.و أيضا فإن من وطئ الزوجة أو الأمة في حال الحيض و النفاس فلا

ص: 143


1- سورة النساء:129.
2- سورة النساء:3.
3- سورة المعارج:29-30.
4- سورة المؤمنون:6.

يلزمه اللوم من حيث كانت زوجة أو ملك يمين و إنما يستحق اللوم على وجه آخر.و وراء بمعنى غير أي من طلب سوى الزوجة و الأمة فهو عاد و العادون الذين يتعدون الحلال إلى الحرام.و الاستمناء باليد محرم إجماعا لقوله تعالى إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ و هذا وراء ذلك و عنه ع ملعون سبعة و ذكر فيها الناكح كفه

باب الزيادات :

سُئِلَ الصَّادِقُ ع عَنِ الرَّجُلِ يُوَاقِعُ أَهْلَهُ أَ يَنَامُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ قَالَ اَللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها (1) فَلاَ يَدْرِي مَا يَطْرُقُهُ مِنَ الْبَلِيَّةِ إِذَا فَرَغَ فَلْيَغْتَسِلْ (2).

وَ قَالَ : مَنْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ غَمَّضَ بَصَرَهُ لَمْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ بَصَرُهُ حَتَّى يُزَوِّجَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ (3).

وَ قِيلَ لَهُ ع هَلْ يُمَتِّعُ رَسُولُ اللَّهِ ص قَالَ نَعَمْ وَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً إِلَى قَوْلِهِ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (4) .

وَ كَانَ عَلِيٌّ ع يَكْرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الشَّابَّةِ مِنَ النِّسَاءِ وَ قَالَ أَتَخَوَّفُ

ص: 144


1- سورة الزمر:42.
2- وسائل الشيعة 501/1 مع اختلاف يسير.
3- من لا يحضره الفقيه 437/3.
4- سورة التحريم:3.و انظر من لا يحضره الفقيه 366/3.

أَنْ يُعْجِبَنِي صَوْتُهَا فَيَدْخُلَ عَلَيَّ مِنَ الْإِثْمِ أَكْثَرَ مِمَّا أَطْلُبُ مِنَ الْأَجْرِ (1).

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص مِنْ سَعَادَةِ الرَّجُلِ أَنْ لاَ تَحِيضَ ابْنَتُهُ فِي بَيْتِهِ (2) وَ فِي رِوَايَةٍ أَنْ تَحِيضَ ابْنَتُهُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا.

وَ رَوَى صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ ع فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ ابْنَةِ شُعَيْبٍ يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (3) قَالَ قَالَ لَهَا شُعَيْبٌ هَذَا قَوِيٌّ قَدْ عَرَفْتِيهِ بِرَفْعِ الصَّخْرَةِ الْأَمِينُ مِنْ أَيْنَ عَرَفْتِيهِ قَالَتْ يَا أَبَتِ إِنِّي مَشَيْتُ قُدَّامَهُ فَقَالَ امْشِي مِنْ خَلْفِي فَإِنْ ضَلَلْتُ فَأَرْشِدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّا قَوْمٌ لاَ نَنْظُرُ فِي أَدْبَارِ النِّسَاءِ (4). و اعلم أن بنت الربيب و هو ابن الزوجة لا يصح لزوج أمه أن ينكح ابنته و ليس هذا حملا على الربيبة بل الدلالة عليه من الكتاب هو أن الله تعالى ذكر في جملة المحرمات وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (5) و أجمعت الأمة على أن قوله وَ رَبائِبُكُمُ إنما أراد به بنات نسائكم و هذا يقتضي تحريم كل من يتناوله هذا الاسم من بناتهن و إن سفلن و بعدن و قد علمنا أن بنت ابن الزوجة ولدها فإن بنات الصلب و بنات البنين و البنات أولاد فتقتضي هذه الجملة تحريم من يقع عليه اسم بنت لزوجة الرجل

ص: 145


1- الكافي 535/5.
2- وسائل الشيعة:41/14.
3- سورة القصص:26.
4- وسائل الشيعة 145/14.
5- سورة النساء:23.

كتاب الطلاق

اشارة

كل آية من القرآن فيها ذكر الطلاق و هي كثيرة يعلم منها جواز الطلاق.و معنى الطلاق حل عقدة النكاح لأن المرأة تكون في حظر من النكاح فإذا طلقت تطلقت (1).و للطلاق أقسام و شرائط لا بد من معرفتها ليتم الغرض و نحن نذكر جميع ذلك على سبيل الجملة أولا ثم نتبع الأدلة من الكتاب و السنة على التفصيل إن شاء الله تعالى ثم نذكر ما يلحق بالطلاق و ما يؤثر في بعض أنواع الطلاق و ما يكون كالسبب للطلاق و نبين جميع ذلك في أبواب بعون الله تعالى

ص: 146


1- قال ابن فارس:الطاء و اللام و القاف أصل صحيح مطرد واحد،و هو يدلّ على التخلية و الإرسال،يقال انطلق الرجل ينطلق انطلاقا-معجم مقاييس اللغة 420/3.

باب أقسام الطلاق و شرائطه

وجوه الطلاق عشرة و هي على ضربين ثلاثة منها لا تحتاج إلى العدة و هي طلاق التي لم يدخل بها و التي دخل بها و لم تبلغ المحيض و لا في سنها من تحيض و الآيسة من المحيض و لا يكون في سنها من تحيض.و السبعة الباقية لا بد من اعتبار العدة بعدها و هي الطلاق التي لم تبلغ المحيض و في سنها من تحيض و طلاق الآيسة من المحيض و في سنها من تحيض و المستقيمة الحيض و الحاملة المستبين حملها و المستحاضة و طلاق الغائب عن زوجته و طلاق الغلام و العبد.و أما شرائطه فعلى ضربين عام في سائر أنواعه و خاص في بعضه فالعام خمسة أن يكون الرجل غير زائل العقل و يكون مريدا للطلاق غير مكره عليه و لا مجبر و يكون طلاقه بمحضر من شاهدين مسلمين و يتلفظ بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه عند العجز.و الخاص يراعى في المدخول بها غير غائب عنها مدة مخصوصة و هو اثنان أن لا تكون المرأة حائضا أو في طهر لم يقربها فيه إذا لم يكن بها حبل.و نحن نتكلم على هذه الأصول فصلا فصلا إن شاء الله تعالى

فصل في طلاق التي لم يدخل بها

ص: 147

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ (1) .خاطب الله تعالى بهذه الآية المؤمنين بأنه إذا نكح واحد منهم مؤمنة نكاحا صحيحا ثم طلقها قبل أن يمسها يعني قبل أن يدخل بها فإنه لا عدة عليها منه و يجوز لها أن تتزوج بغيره في الحال و أمرهم أن يمتعوها و يسرحوها سراحا جميلا إلى بيت أهلها و أن يخليها تخلية حسنة إن كانت في بيت أهلها.و هذه المتعة واجبة إن كان لم يسم لها مهرا و إن كان سمى مهرا لزمه نصف المهر و إن لم يبين لها صداقا متعها على قدر عسره و يسره و هو السراح الجميل و هذا مثل قولنا سواء.و روى أصحابنا أنه يمتعها إن كان موسرا فبدابة أو مملوك و إن كان متوسطا فبثوب و ما أشبهه و إن كان فقيرا فبخاتم و ما أشبهه (2).و قال سعيد بن المسيب إن هذه الآية نسخت بإيجاب نصف المهر المذكور في البقرة و الصحيح الأول أنه لا ناسخ و لا منسوخ في ذلك و لكل آية من هذه الآية حكم ثابت لأنا اتفقنا على أن بضع حرة لا تحل بغير مهر أو عوض و النكاح من دون ذكر المهر ينعقد و يصح فإن طلقها قبل أن يجامعها فإنه لا يخلو من أن يكون سمى لها مهرا أو لم يسم فإن لم يسم لها مهرا وجب عليه أن يمتعها على ما ذكرناه بالآية التي قدمناها و بقوله تعالى وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (3) .و يمكن أن يقال إن الإشارة بهذه الآية إلى المتعة الواجبة التي قدمناها أو بما قبل هذه الآية من قوله حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ إلى المتعة المستحبة على ما ذكرنا.

ص: 148


1- سورة الأحزاب:49.
2- في ذلك أحاديث عن الأئمّة عليهم السلام،انظر وسائل الشيعة 55/15-59.
3- سورة البقرة:241.

و المراد بالقراءتين تماسوهن أو تَمَسُّوهُنَّ الجماع بلا خلاف و إنما قال تَعْتَدُّونَها فخاطب الرجال لأن العدة حق للزوج ربما استبرأ من أن يلحق به من ليس من صلبه أو يلحق بغيره من هو من صلبه قال الجرجاني أصله أنهم كانوا يقولون فيما توفر عددا عددته فاعتد أي وفرته عليه فاسترفأه كما يقال كلته فاكتال و زنته فاتزن.و مما يوضح ما ذكرناه قوله تعالى لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (1) المفروض من صداقها داخل في دلالة الآية و إن لم يذكر لأن التقدير ما لم تمسوهن ممن قد فرضتم لهن أو لم تفرضوا لهن فريضة لأن أو تنبئ عنه إذ لو كان على الجمع لكان بالواو.و الفريضة المذكورة في الآية الصداق بلا خلاف لأنه يجب بالعقد للمرأة فهو فرض بوجوبه بالعقد و متعة التي لم يدخل بها و قد روي أيضا أنها لكل مطلقة و ذلك على وجه الاستحباب.و مَتاعاً حال من قوله قَدَرُهُ و العامل فيه الظرف و يجوز أن يكون مصدرا و العامل وَ مَتِّعُوهُنَّ .و يحتمل نصب حَقًّا أيضا على وجهين أحدهما أن يكون حالا من قوله بِالْمَعْرُوفِ و العامل فيه معنى عرف حقا الثاني على التأكيد لجملة الخبر كأنه قيل أخبركم به حقا.و إنما خص التي لم يدخل بها بالذكر في رفع الجناح دون المدخول بها في الذكر و إن كان حكمها واحدا لأمرين أحدهما لإزالة الشك في الحرج على هذا المطلق و الثاني لأن له أن يطلق أي وقت شاء و ليس كذلك حكم المدخول

ص: 149


1- سورة البقرة:236.

بها لأنه يجب أن يطلقها للعدة على ما نذكره.و في الآية دلالة على أن هذا العقد بغير مهر صحيح (1) لأنه لو لم يصح لما جاز فيه الطلاق و لا وجبت فيه المتعة.ثم قال و إن طلقتموهن من قبل أن تماسوهن الآية و قد قدمنا أن الآية الأولى متضمنة حكم من لم يدخل بها و لم يسم لها مهرا إذا طلقها و هذه تضمنت حكم التي فرض لها صداق إذا طلقت قبل الدخول و أحد الحكمين غير الآخر.و قال جميع أهل التأويل إنه إذا طلق الرجل من سمى لها مهرا معلوما قبل أن يدخل بها فإنه يستقر لها نصف المهر فإن كانت ما قبضت شيئا وجب على الزوج تسليم نصف المهر فإن كانت تسلمت جميع المهر وجب عليها رد نصفه و يستقر لها النصف الآخر. إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ معناه من يصح عفوها من الحرائر البالغات غير المولى عليها لفساد عقلها فيترك ما يجب لها من نصف الصداق.و قوله تعالى أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ قال مجاهد و حسن و علقمة إنه الولي و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع (2) غير أنه لا ولاية لأحد عندنا إلا للأب أو الجد مع وجود الأب على البكر و غير البالغة و أما من عداهما فلا ولاية إلا بتولية من المرأة و روي عن علي ع أنه الزوج (3) و الأول هو المذهب و هو أظهر فمن جعل العقد للزوج قال تقديره الذي بيده عقدة نكاحه و من جعله للولي قال تقديره الذي بيده عقدة نكاحها و من جعل العفو للزوج قال له أن يعفو عن جميع نصفه و من جعله للولي قال

ص: 150


1- احترز بهذا عن النكاح المنقطع فانه لا يصحّ بدون ذكر المهر«ه».
2- تفسير البرهان 229/1.
3- الدّر المنثور 293/1.

أصحابنا له أن يعفو عن بعضه و ليس له أن يعفو عن جميعه فإن امتنعت المرأة لم يكن لها ذلك إذا اقتضت المصلحة ذلك عن أبي عبد الله ع و اختار الجبائي أن يكون المراد به الزوج قال لأنه ليس للولي أن يهب مال المرأة.و قوله تعالى وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى خطاب للزوج و المرأة جميعا في قول ابن عباس و قيل للزوج وحده و إنما جمع لأنه لكل زوج و قول ابن عباس أقوى لأنه العموم.و إنما كان العفو أقرب للتقوى من وجهين أحدهما لاتقاء ظلم كل واحد صاحبه ما يجب من حقه الثاني أنه أدعى إلى اتقاء معاصي الله للرغبة فيما رغب فيه بالعفو عما له و تقدير فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فعليكم نصف ما فرضتم

فصل في طلاق التي دخل بها و لم تبلغ المحيض و لا تكون في سنها من تحيض

قال الله تعالى وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ بعد قوله وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ (1) للصغار و تقديره و اللائي لم يحضن لا عدة عليهن و حذف لدلالة الكلام عليه و هذا التقدير أولى من أن يقال تقديره و اللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر لأن قوله إِنِ ارْتَبْتُمْ في الأولى يخرج من الفائدة (2).فعلى هذا إذا أراد الرجل أن يطلق امرأة قد دخل بها و لم تكن قد بلغت

ص: 151


1- سورة الطلاق:4.
2- لانه يصير التقدير اللائى لم يئسن من المحيض فعدتهن ثلاثة أشهر و اللائى لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر،فلا يبقى فرق بين المسترابة و غيرها«ه».

مبلغ النساء و لا مثلها في السن قد بلغ ذلك و حد ذلك دون تسع سنين فليطلقها أي وقت شاء فإذا طلقها فقد بانت منه في الحال و لا عدة عليها و حكم الآيسة من المحيض و مثلها لا تحيض حكم التي لم تبلغ مبلغ النساء في أنه متى طلقها لا عدة عليها و قد بانت منه في الحال و يطلقها أي وقت شاء و حد ذلك للهاشمية ستون سنة و للأجنبية خمسون سنة فصاعدا.و قال المرتضى على الآيسة من المحيض و الذي لم يبلغه العدة على كل حال من غير مراعاة الشرط الذي حكيناه عن أصحابنا قال و الذي يدل على صحة هذا القول قوله وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ و هذا صريح في الآيسات من المحيض و اللائي لم يبلغن عدتهن الأشهر على كل حال لأن قوله وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ معناه و اللائي لم يحضن كذلك قال و إذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك.ثم قال فإن قيل كيف يدعون أن الظاهر يقتضي إيجاب العدة على من ذكرتم على كل حال و في الآية شرط و هو قوله إِنِ ارْتَبْتُمْ الجواب أول ما نقوله أن الشرط المذكور في الآية لا ينفع من خالف من أصحابنا لأنه غير مطابق لما يشرطونه و إنما يكون نافعا لهم الشرط لو قال تعالى إن مثلهن لا تحيض في الآيسات و في اللائي لم يبلغن المحيض إذا كان مثلهن تحيض و إذا لم يقل تعالى ذلك و قال إِنِ ارْتَبْتُمْ و هو غير الشرط الذي يشرطه أصحابنا فلا منفعة لهم فيه.و ليس يخلو قوله تعالى إِنِ ارْتَبْتُمْ من أن يريد به ما قاله جمهور المفسرين و أهل العلم بالتأويل من أنه تعالى أراد به إن كنتم مرتابين في عدة هؤلاء النساء و غير عالمين بمبلغها فقد رووا ما يقوي ذلك من أن سبب نزول هذه الآية هو

ص: 152

ما ذكرناه من فقد العلم فروى مطرف عن عمرو بن سالم قال قال أبي بن كعب يا رسول الله إن عددا من عدد النساء لم يذكر في الكتاب الصغار و الكبار و أولات الأحمال فأنزل الله تعالى وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ إلى قوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1) .و كان سبب نزول هذه الآية الارتياب الذي ذكرناه و لا يجوز أن يكون الارتياب بأنها آيسة أو غير آيسة لأنه تعالى قد قطع في الآية على الناس من المحيض بقوله تعالى وَ اللاّئِي يَئِسْنَ و المشكوك في حالها و المرتاب في أنها تحيض أو لا تحيض لا تكون آيسة و المرجع في وقوع الحيض منها أو ارتفاعه إليها و هي المصدقة على ما تخبر به فإذا أخبرت بأن حيضها قد ارتفع قطع عليه و لا معنى للارتياب مع ذلك.و إذا كان المرجع في الحيض إلى النساء و معرفة الرجال به مبنية على إخبار النساء و كانت الريبة المذكورة في الآية منصرفة إلى اليأس من المحيض فكان يجب أن يقول تعالى إن ارتبتم أو ارتبن لأنه حكم يرجع إلى النساء و يتعلق بهن فهن المخاطبات به فلما قال تعالى إِنِ ارْتَبْتُمْ فخاطب الرجال دون النساء علم أن المراد هو الارتياب في العدة و مبلغها (2).ثم قال فإن قيل ما أنكرتم أن يكون الارتياب هاهنا إنما هو بمن تحيض أو لا تحيض ممن هو في سنها على ما يشرطه بعض أصحابكم قلنا هذا يبطل بأنه لا ريب في سن من تحيض مثلها من النساء أو لا تحيض لأن المرجع فيه إلى العادة.ثم إذا كان الكلام مشروطا فالأولى أن يعلق الشرط بما لا خلاف فيه دون ما فيه

ص: 153


1- اسباب النزول ص 290 بهذا المعنى.
2- أي ارتبتم في كيفية عدتهن و انها بالشهور أو الحيض أو الاطهار«ه».

الخلاف و قد علمنا أن من شرط وجوب الإعلام بالشيء و الاطلاع عليه فقد العلم و وقوع الريب فمن يعلم بذلك و يطلع عليه فلا بد إذا من أن يكون ما علقنا نحن الشرط به و جعلنا الريبة واقعة فيه مرادا.و إذا ثبت ذلك لم يجز أن يعلق الشرط بشيء آخر مما ذكروه أو بغيره لأن الكلام مستقل بتعلق الشرط بما ذكرناه أنه لا خلاف فيه و لا حاجة به بعد الاستقلال إلى أمر آخر ألا ترى أنه لو استقل بنفسه لما جاز اشتراطه و كذلك إذا استقل مشروطا بشيء لا خلاف فيه و لا يجب تجاوزه و لا تخطيه إلى غيره.و قد سلم الشيخ أبو جعفر الطوسي رض أن الآية لا تدل على صحة هذا الباب بظاهرها (1) و إنما تبين الأخبار الواردة عن آل محمد ع ذلك منها

مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع ثَلاَثٌ يَتَزَوَّجْنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَ مِثْلُهَا لاَ تَحِيضُ قَالَ قُلْتُ وَ مَا حَدُّهَا قَالَ إِذَا أَتَى لَهَا أَقَلُّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ وَ الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا وَ الَّتِي قَدْ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ وَ مِثْلُهَا لاَ تَحِيضُ قَالَ قُلْتُ وَ مَا حَدُّهَا قَالَ إِذَا كَانَ لَهَا خَمْسُونَ سَنَةً (2). و قد تقدم أن قوله وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ محمول على الآيسة من المحيض و في سنها من تحيض و في التي لم تحض و في سنها من تحيض لأن الله تعالى شرط فيه ذلك و قيده بالريبة.و لما كان الخطاب بقوله مِنْ نِسائِكُمْ مع الرجال قال أيضا إِنِ ارْتَبْتُمْ لأن النساء يرجعن في تعرف أحوالهن إلى العلماء و قد ذكرنا تقدير قوله وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ من قبل.

ص: 154


1- انظر التبيان 34/10.
2- تهذيب الأحكام 67/8.

و إذا كانت الآية مجملة فتفصيل ذلك يعلم من أهل التنزيل و التأويل و هم الأئمة المعصومون بعد رسول الله ع و قال تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ (1)

فصل في طلاق الآيسة من المحيض و في سنها من تحيض

بين الله كيفية العدد باختلاف أحوال النساء فقال وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ يعني أن الآيسة من المحيض إذا كانت ترتاب بنفسها و لا تدري أ انقطع حيضها لكبر أو عارض و لا تدرون أنتم أيضا مقدار سنها فعدتها ثلاثة أشهر و هي التي قلنا إن مثلها تحيض لأنها لو كانت في سن من لا تحيض لم يكن معنى للارتياب في سنها فإذا أراد زوجها طلاقها فليصبر عليها ثلاثة أشهر ثم يطلقها بعد ذلك إن شاء.و حكم التي لم تبلغ المحيض و في سنها من تحيض و هي التي كان لها تسع سنين فصاعدا و لم تكن حاضت حكم الآيسة و في سنها من تحيض في جميع ما ذكرناه.و قال قتادة اَللاّئِي يَئِسْنَ الكبار وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ الصغار.و قد ذكرنا أن قوله وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ تقديره و اللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر و حذف لدلالة الكلام الأول عليه.و قال بعض المفسرين إن الله سبحانه لما بين هذه المسائل الأربع على لسان نبيه ص و رواها أهل بيته المعصومون ع و كان قد أشار بهذه الآية إلى مسألة من هذا الفصل و هي الأولى و إلى مسألة من الفصل

ص: 155


1- سورة الرحمن:3-4.

الأول و هي الثانية كان من أعجب الحكم الإلهية و من لطيف الفصاحة و غريب البراعة فعلى هذا لا يكون قوله وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ مشروطا مقيدا بجميع ما قيدت الجملة الأولى به بل يقدر خبر المبتدإ فيه على ما وردت به الأحاديث الصحيحة

فصل في طلاق المستقيمة الحيض

قال الله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (1) أمر سبحانه بذلك أنه إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته التي دخل بها و هو غير غائب عنها و هي ممن تحيض حيضا مستقيما فليطلقها و هي طاهر طهرا لم يقربها فيه بجماع و شهد على ذلك شاهدين تطليقة واحدة و لتعتد هي ثلاثة أقراء و هي الأطهار فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد ملكت نفسها و لم يكن له عليها سبيل.فالقرء الطهر عندنا و به قال أكثر الصحابة و التابعين و الفقهاء و المفسرين و أصل القرء في اللغة يحتمل وجهين (2) أحدهما الاجتماع و منه قرأت القرآن لاجتماع حروفه فعلى هذا يقال أقرأت المرأة إذا حاضت في قول الأصمعي و الكسائي فتأويل ذلك اجتماع

ص: 156


1- سورة البقرة:228.
2- قال الراغب الأصبهانيّ:القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر،و لما كان اسما جامعا للامرين الطهر و الحيض المتعقب له اطلق على كل واحد منهما،لان كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفردت كالمائدة للخوان و للطعام،ثمّ قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به،و ليس القرء اسما للطهر مجردا و لا للحيض مجردا،بدلالة أن الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها ذات قرء،و كذا الحائض التي استمر بها الدم و النفساء لا يقال لها ذلك-المفردات ص 413.

الدم في الرحم و يجيء على هذا الأصل أن يكون القرء الطهر لاجتماع الدم في جملة البدن هذا قول الزجاج.و الوجه الثاني أن يكون أصل القرء وقت الفعل الذي يجري على عادة في قول أبي عمرو بن العلاء و قال هو يصلح للحيض و الطهر يقال هذا قارئ الرياح أي وقت هبوبها فعلى هذا يكون القرء الحيض لأنه وقت اجتماع الدم في الرحم على العادة المعروفة فيه و يكون الطهر لأنه وقت ارتفاعه على عادة جارية فيه.و استشهد أهل العراق بأشياء على أن المراد الحيض منها

قَوْلُهُ ع فِي مُسْتَحَاضَةٍ سَأَلَتْهُ دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ. و استشهد أهل المدينة بقوله تعالى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي طهر لم تجامع فيه كما يقال جئت لغرة الشهر و تأوله غيرهم لاستقبال عدتهن و هو الحيض و تدل الآية على ذلك لأن معناه في طهر لم يجامعهن فيه و هو اختيار ابن جرير.و قال أبو مسلم لما أوجب الله على من أراد تطليق امرأته أن يطلقها طاهرة غير مجامعة و أوجب عليها التربص إلى أن ترى ثلاثة قروء نظرنا فكان المراد ثلاثة أطهار لأنه لا خلاف أن السنة في الطلاق أن يكون عند الطهر.فإن قيل الظرف إما مكان أو زمان و القرء ليس واحدا منهما.قلنا الظرف هنا زمان و التقدير مدة انقضاء ثلاثة قروء و القروء جمع القرء.فإن قيل كيف أضاف الثلاثة إلى قروء و هي جمع الكثرة و لم يضفها إلى أقراء و هي جمع القلة.فالجواب عنه أن المعنى في قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي ليتربص كل واحدة من المطلقات ثلاثة أقراء فلما أسند ثلاثة إلى جماعتهن و الواجب على كل واحدة منهن ثلاثة أتى بلفظة قروء ليدل على الكثرة المرادة.

ص: 157

فإن قيل لو كان المراد بالأقراء في الآية الأطهار لوجب استيفاء ثلاثة الأطهار بكمالها كما أن من كانت عدتها بالأشهر وجب عليها ثلاثة أشهر على الكمال و قد أجمعنا على أنه لو طلقها في آخر الطهر الذي ما قربها فيه أنه لا يلزمها أكثر من طهرين آخرين و ذلك دليل على فساد ما قلتموه.قلنا يسمى القرآن الكاملان و بعض الثالث ثلاثة أقراء كما يسمى الشهران و بعض الثالث ثلاثة أشهر في قوله تعالى اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ (1) و إنما هو شوال و ذو القعدة و بعض ذي الحجة.و قال بعض الفقهاء إن لفظ الخبر في قوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ في تقدير الأمر لأن المعنى فرض عليهن أن يتربصن و الأولى أن يحمل على معنى الخبر لأنه مما لا بد منه و ما حل هذا المحل فالخبر به أولى من الأمر لأن المأمور قد يفعل و قد لا يفعل و المخبر عنه لا بد من كونه و هذا التربص لا بد منه.و هذا لا يحتاج فيه إلى نية و عزم فالمطلقة ربما انقضت عدتها و لم تعتد و ذلك أن تطلق و لا يبلغها الطلاق إلا و قد مضت أيام الأقراء لأن ابتداء عدتها وقت طلاقها من غير صنع منها و لهذا قال قوم ابتداء عدتها وقت سماعها و هذا ليس بصحيح في الطلاق و إنما هو العدة بعد الوفاة إذا سمعت بها لأنها و إن لم تسمع فهي مطلقة و أوجب الله عليها العدة بسبب الطلاق.و كل مطلقة يلزمها هذا التربص إلا من لم يدخل بها ما عدا الآيسة من المحيض و لا يكون في سنها من تحيض و ما عدا التي لم تبلغ المحيض و لا يكون في سنها من تحيض

ص: 158


1- سورة البقرة:197.

فصل في طلاق الحامل المستبين حملها

قال الله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1) .اعلم أن الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته و هي حبلى مستبين حملها فليطلقها أي وقت شاء و عدتها أن تضع حملها و إن كان بعد الطلاق بلا فصل و حلت للأزواج سواء كان ما وضعته سقطا أو غير سقط تاما أو غير تام فقد بين الله تعالى بقوله أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أن عدة الحامل من الطلاق وضع الحمل الذي معها فإن وضعت عقيب الطلاق فقد ملكت نفسها و يجوز لها أن تعقد لغيره على نفسها غير أنه لا يجوز له وطؤها لأن نفاسها كالحيض سواء فإذا طهرت من نفاسها حل له ذلك.و إن كانت حاملا باثنين و وضعت واحدا لم تحل للأزواج حتى تضع جميع الحمل لقوله تعالى أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ .فأما انقطاع الرجعة فقد روى أصحابنا أنها إذا وضعت واحدا انقطع عصمتها من الأول و لا يجوز لها العقد لغيره حتى تضع الآخر.فأما المطلق فإنه إن كان طلقها أول مرة و وضعت واحدا و هي حامل بآخر فليس له أن يراجعها و إنما كانت الرجعة له من غير رضاها قبل الوضع فأما إن أرادا أن يعقدا بمهر جديد قبل وضع الثاني فإنه يجوز ذلك و كذلك بعد التطليقتين إذا كانت المرأة حرة.و قال ابن عباس هذه الآية في المطلقة خاصة لما قلناه

ص: 159


1- سورة الطلاق:4.

فصل في طلاق المستحاضة و طلاق الغائب عن زوجته و طلاق الغلام و العبد

قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ (1) هذه الآية بعمومها يتناولها كما يتناول غيرها مما نذكره.و أما المستحاضة إذا كانت مطلقة و تعرف أيام حيضها فلتعتد بالأقراء فإن لم تعرف أيام حيضها اعتبرت صفة الدم و اعتدت أيضا بالأقراء فإن اشتبه عليها دم الحيض بدم الاستحاضة و لم يكن لها سبيل إلى الفرق بينهما اعتبرت عادة نسائها في الحيض فتعتد على عادتهن في الأقراء فإن لم يكن لها نساء أو كن مختلفات العادة اعتدت بثلاثة أشهر و قد بانت منه.و أما طلاق الغائب عن زوجته فإن خرج إلى السفر و هي في طهر لم يقربها فيه بجماع طلقها أي وقت شاء و متى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه فلا يطلقها حتى يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ثم يطلقها و يكون عدتها ثلاثة أشهر.و الغلام إذا طلق و كان ممن يحسن الطلاق و قد أتى عليه عشر سنين فصاعدا جاز طلاقه فإن لم يحسن الطلاق فإنه لا يجوز طلاقه و لا يجوز لوليه أن يطلق عنه إلا أن يكون قد بلغ و كان فاسد العقل فإنه و الحال على ما ذكرناه جاز طلاق الولي عنه.و العبد إذا تزوج فلا يخلو إما أن يكون مولاه زوجه جاريته فالفراق بينهما بيده و ليس للزوج طلاق على حال و متى عقد الرجل لعبده على أمة غيره بإذنه

ص: 160


1- سورة الطلاق:1.

كان الطلاق بيد العبد و كذلك إن عقد على حرة.و هذا كله مما بينه رسول الله ص لقوله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ

باب بيان شرائط الطلاق

فأول ما نقول في ذلك أن تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة أي جزء كان لا يقع به طلاق و دليلنا بعد الإجماع

قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (1) فجعل الطلاق واقعا بما يتناوله اسم النساء و اليد و الرجل لا يتناولهما هذا الاسم بغير شبهة.و لا يطعن على ما ذكرنا بقوله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ (2) و بقوله فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (3) و إن عبر بها عن جميع البدن لأن ذلك مجاز و كلامنا على الحقائق لقول الله مخاطبا لنبيه ع و المراد به أمته و معناه إذا أردتم طلاق النساء كما قال إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ (4) و النبي ع داخل تحت هذا الخطاب و هذه مسألة فيها خلاف.و قال قوم تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء فعلى هذا يجوز أن يكون النبي ع خارجا من الحكم و يجوز أن يكون حكمه حكمهم كخطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع و أجمعت الأمة أن حكم النبي حكم

ص: 161


1- سورة الطلاق:1.
2- سورة المسد:1.
3- سورة الشورى:3.
4- سورة المائدة:6.

أمته في الطلاق.و الطلاق في الشرع قد ذكرنا أنه عبارة عن تخلية المرأة على عقدة من عقد النكاح بأن يقول أنت طالق يخاطبها أو يقول هذه طالق و يشير إليها أو يقول فلانة بنت فلان طالق.و عندنا لا يقع الطلاق إلا بهذا اللفظ المخصوص و لا يقع الطلاق بشيء من كنايات الطلاق أراد به الطلاق أو لم يرد و فيه خلاف.و من شرط وقوع الطلاق عندنا أن يكون الرجل ثابت العقل مريدا للطلاق غير مكره عليه و يتلفظ بما قدمناه و فحوى قوله تعالى إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يدل على جميل ذلك و يكون بمحضر من شاهدي عدل لقوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ على ما نذكره.و إن كانت مدخولا بها غير حامل و يكون الزوج حاضرا غير غائب فلا بد من أن تكون طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع لقوله فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ و معناه أن يطلقها و هي طاهر في طهر لا جماع فيه معها و يستوفي باقي الشروط أي طلقوهن مستقبلات لعدتهن كقولك أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلا لها.

فصل

و في قراءة رسول الله ص في قبل عدتهن و إذا طلقت المرأة في الطهر الذي ذكرناه طلقت مستقبلة لعدتها و المراد أن يطلقن في طهر لم يجامعهن فيه ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن قاله ابن عباس و مجاهد و الحسن و ابن سيرين و قتادة و الضحاك و السدي.فمتى طلقها و قصد به إيقاع الطلاق على ما ذكرناه وقع تطليقة واحدة و هو أملك برجعتها ما لم تخرج من العدة فإن خرجت قبل أن يراجعها كان كواحد من الخطاب.

ص: 162

و متى تلفظ بثلاث تطليقات مع الشرائط كلها وقعت واحدة و خالف جميع الفقهاء في ذلك و قالوا يقع الثلاث و في أصحابنا من يقول متى تلفظ بالثلاث لا يقع شيء و ذلك محمول على أنه إذا لم يحصل جميع شرائط الطلاق و العمل على ما قدمناه.و متى طلقها في الحيض و الحال ما ذكرناه فلا يقع طلاقها لأنه خلاف المأمور به و هو منهي عنه و النهي يدل على فساد المنهي عنه و عند الفقهاء أنه يقع الطلاق و إن كان بدعة.و لم يبين المفسرون معنى اللام في قوله لِعِدَّتِهِنَّ و كيف صار هذا اللفظ عبارة عما فسروه به من أن المراد طاهر من غير جماع و القول في ذلك أن اللام لام العلة و السبب.فإن قيل علة الفعل ما يولد عنه يعني الفعل يتولد من العلة و لم يتولد الطلاق من العدة و إنما تولد من إيثار الزوج مفارقة المرأة.و الجواب أن ذلك يحتاج إلى بيان لأن في الكلام حذفا و إيجازا كأنه قال تعهدوا بطلاقهن هذه الحالة لأجل عدتهن أي ليعتددن في الوقت لأن ابتداء عدتها الطهر الذي طلق فيه ثم أحصوا عدتها أي احفظوا أقراءها و إن مضت الثلاثة منها و لم تراجعوهن فلا سبيل إلى المراجعة من بعد.و مثل هذا اللام قوله أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ (1)

وَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ع صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَ أَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (2). و قال أبو علي المرزوقي اللام في قوله لِعِدَّتِهِنَّ ظرف للطلاق بمنزلة

ص: 163


1- سورة الإسراء:78.
2- وسائل الشيعة 185/7.

وقت له و الدليل عليه قوله تعالى لِأَوَّلِ الْحَشْرِ (1) فجعل له أولا.و قيل العدة هنا الحيض و المعنى فطلقوهن قبل الحيض.و إحصاء العدة حفظ وقت الطلاق ثم أيام الطهر و الحيض إلى أن يقع البينونة.

فصل

ثم

قال تعالى وَ اتَّقُوا اللّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ (2) غلظ الله أمر المطلقين بالوعيد أي لا تخروجهن زمان العدة لأنه لا يجوز إخراجها من بيتها و أمر المطلقات ألا يخرجن باختيار أنفسهن قبل انقضاء عدتهن.و عندنا و عند جميع الفقهاء يجب عليه السكنى و النفقة و الكسوة إذا كانت المطلقة رجعية و إن كانت بائنة فلا نفقة لها و لا سكنى و قال عطا و الضحاك و قتادة لا يجوز أن تخرج من بيتها حتى تنقضي عدتها إلا عند الفاحشة و قال الحسن و عامر و الشعبي و مجاهد و ابن زيد الفاحشة هاهنا الزناء تخرج لإقامة الحد و قال ابن عباس الفاحشة البذاء على أهله و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع (3).و قال قتادة الفاحشة هو النشوز و قال ابن عمر هو خروجها قبل انقضاء العدة و في رواية عن ابن عباس أن كل معصية لله ظاهرة فهي فاحشة.و قوله تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يعني ما تقدم ذكره من كيفية الطلاق و العدة و ترك إخراجها من بيتها إلا عند الفاحشة حدود الله فالحدود نهايات تمنع أن يدخل في الشيء ما ليس منه أو يخرج عنه ما هو منه فقد بين الله بالأمر و النهي الحدود وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ أي من يتجاوز حدود الله فقد فعل ما يستحق به العقاب و يحرم معه الثواب.

ص: 164


1- سورة الحشر:2.
2- سورة الطلاق:1.
3- تفسير البرهان 345/4.

ثم قال لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي يغير رأي الزوج في محبة الطلاق فيكون تطليقه على ما أمر الله به يملك الرجعة فيما بين الواحدة و الثانية و ما بين الثانية و الثالثة إذا لم يكن خلعا على الحرة المطلقة التي دخل بها و قد ذكرناها.و قال الضحاك أي لعل الله يحدث بعد ذلك أمر الرجعة في العدة و قيل معناه لعل الله يحدث بعد ذلك شهوة المراجعة. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (1) قيل أي إذا بلغن إلى القرء الثالث و ذلك قرب انقضاء عدتهن و معناه إذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج من عدتهن لأنه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن لأنه عند انقضاء أجلهن لا يملك رجعتها و قد ملكت نفسها و قد بانت منه بواحدة ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره و إنما المعنى إذا قاربن الخروج من عدتهن فأمسكوهن بأن تراجعوهن بمعروف بما يجب لها من النفقة و الكسوة و المسكن و حسن الصحبة أو فارقوهن بمعروف بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة و المعروف عند الفراق الصداق أو المتعة و حسن الثناء.

فصل

ثم

قال تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فالإشهاد عندنا شرط في وقوع الطلاق لأن ظاهر الأمر بذلك يقتضيه و الأمر شرعا على الإيجاب إلا إذا دل دليل على كونه ندبا فمتى طلق الرجل و لم يشهد شاهدين ممن ظاهره الإسلام كان طلاقه غير واقع و إن أشهد رجلا بعد آخر و لم يشهدهما في مكان واحد لم يقع أيضا طلاق فإن طلق بمحضر رجلين مسلمين و لم يقل لهما اشهدا وقع طلاقه

ص: 165


1- سورة الطلاق:2.

و جاز لهما أن يشهدا بذلك.و شهادة النساء لا تقبل في الطلاق و متى فقدا لم يقع الطلاق.فإن قيل ما الدليل على صحة جميع ما ذكرتم.قلنا الحجة لنا بعد الإجماع قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ إلى قوله وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فأمر تعالى فيه بالإشهاد و ظاهر الأمر في عرف الشرع كما قدمنا يقتضي الوجوب فليس لهم أن يحملوا ذلك هاهنا على الاستحباب لفقد الدليل عليه.و لا يخلو قوله وَ أَشْهِدُوا من أن يكون راجعا إلى الطلاق كأنه قال إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن و أشهدوا أو أن يكون راجعا إلى الفرقة أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالإمساك.و لا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة التي ليست هاهنا شيئا يوقع و يفعل و إنما هو العدول عن الرجعة و إنما يكون مفارقا لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق على أن أحدا لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة و ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب.و لا يجوز أن يرجع الأمر بالشهادة إلى الرجعة لأن أحدا لا يوجب فيها الإشهاد و إنما هو يستحب فيها فثبت أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق.فإن قيل كيف يرجع إلى الطلاق مع بعد ما بينهما.قلنا إذا لم يلق إلا بالطلاق وجب عوده إليه مع قرب و بعد.فإن قيل أي فرق بينكم في حملكم هذا الشرط على الطلاق و هو بعيد منه في اللفظ و هو مجاز و عدول عن الحقيقة و بيننا إذا حملنا الأمر بالإشهاد هاهنا على الاستحباب ليعود إلى الرجعة القريبة منه في ترتيب الكلام.قلنا حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع

ص: 166

بلا دليل و رد الشرط إلى ما بعد عنه إذا لم يلق بما قرب ليس بعدول عن الحقيقة و لا استعمال التوسع و التجوز في القرآن و الخطاب كله مملوء من ذلك قال الله تعالى إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ (1) و التسبيح و هو متأخر في اللفظ لا يليق إلا بالله دون رسوله.ثم قال وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ (2) أي لوجه الله خالصا لا للمشهود له و لا للمشهود عليه و لا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق و دفع الظلم. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ أي ذلكم الحث على إقامة الشهادة لوجه الله و لأجل القيام بالقسط يوعظ به وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ جملة اعتراضية.

فصل

و قد فسرنا الآيات المتصلة بها إلى

قوله تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ (3) يقول الله مخاطبا لمن طلق زوجته بأمره أن يسكنها حيث يسكن هو و قد بينا أن السكنى و النفقة يجبان للرجعية بلا خلاف أما البينونة فلا سكنى لها و لا نفقة عندنا إلا إذا كانت حبلى و هو مذهب الحسن

وَ قَدْ رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ عَنِ النَّبِيِّ ص أَنَّهُ قَالَ : لاَ نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ (4). و قال الشافعي و مالك لها السكنى بلا نفقة و قال أهل العراق لها السكنى

ص: 167


1- سورة الفتح:8.
2- سورة الطلاق:2.
3- سورة الطلاق:6.
4- البت:القطع،و المبتوتة هنا بمعنى المقطوعة عن حبل النكاح،لانها بائنة لا يمكن الرجوع الا بنكاح جديد،فكأن عصمة الزوجية انقطعت تماما بينها و بين زوجها-انظر النهاية لابن الأثير 92/1.

و النفقة معا و به قال ابن مسعود و عمر.و قوله مِنْ وُجْدِكُمْ أي ملككم قاله السدي و قال ابن زيد هو إذا قال صاحب المسكن لا أنزل هذه في بيتي و ليس من وجده و يجوز له حينئذ أن ينقلها إلى غيره.و الوجد ملك ما يجده المالك له و ذلك أنه قد يملك المالك ما يغيب عنه و قد يملك ما هو حاضر له فذلك وجده.و يحتمل وجها آخر و هو أن يكون أسكنوهن أمرا بالإنفاق عليهن أي نزلوهن منزلة أنفسكم من وجدكم و لينفق كل واحد عليهن على قدر غناه و فقره.و لفظ الإسكان و الإحلال و الإنزال على ما قلنا يستعمل كثيرا في هذا المعنى يقال أحلني فلان من نعمته محل نفسه أي أشركني فيها حتى شاطرنيها و ذلك أولى لأن الأمر بالسكنى قد تقدم من قوله لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ .ثم قال وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ معناه لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في النفقة و السكنى و الكسوة و حسن العشرة و تضيقوا عليهن في السكنى و النفقة ليخرجن أي لا تؤذوهن فتحوجوهن إلى الخروج أمر الله بالسعة.و قد تكون المضارة من واحد كما يقال طارقت النعل و يمكن أن يكون هاهنا من كل واحد منهما لصاحبه.و التضييق قد يكون في الرزق و في المكان و في الأمر. وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أمر من الله بالإنفاق على الحامل المطلقة إذا كانت مبتوتة و لا خلاف في ذلك و إنما يجب أن ينفق عليها بسبب ما في بطنها و إنما يسقط نفقتها بالوضع

ص: 168

باب عدة المتوفى عنها زوجها و عدة المطلقة على اختلاف أحوالها

قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً (1) .أمر تعالى أن يكون عدة كل متوفى عنها زوجها أربعة أشهر و عشرة أيام سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها حرة كانت أو أمة لأن الله لم يخص.فإن كانت حبلى فعدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل أو مضي أربعة الأشهر و العشرة أيام و هو المروي عن أمير المؤمنين ع (2) و وافقنا في الأمة الأصم و خالف باقي الفقهاء في ذلك و قالوا عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران و خمسة أيام و إليه ذهب قوم من أصحابنا.و قالوا في عدة الحامل إنها بوضع الحمل و عندنا أن وضع الحمل يختص عدة المطلقة.و الذي يجب على المعتدة في عدة الوفاة اجتنابها الزينة و الكحل و الإثمد و ترك النقلة عن المنزل في قول ابن عباس و قال الحسن إن الواجب عليها الامتناع من الزوج لا غير و عندنا أنه يجوز لها أن تبيت في الدار التي مات فيها زوجها حيث شاءت و عليها الحداد إذا كانت حرة و إن كانت أمة فليس عليها حداد و الحداد هو ترك الزينة و أكل ما فيه الرائحة الطيبة و شمه.فإن احتج مخالفنا في هذا بظاهر قوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ

يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1) و أنه عام في المتوفى عنها زوجها و في غيرها عارضناهم بقوله وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الآية و أنه عام في الحامل و غيرها ثم لو كانت آياتهم التي ذكروها عامة الظاهر جاز أن نخصها بدليل و هو إجماعنا الإمامية و فيه الحجة.

ص: 169


1- سورة البقرة:234.
2- وسائل الشيعة 419/15.

يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1) و أنه عام في المتوفى عنها زوجها و في غيرها عارضناهم بقوله وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الآية و أنه عام في الحامل و غيرها ثم لو كانت آياتهم التي ذكروها عامة الظاهر جاز أن نخصها بدليل و هو إجماعنا الإمامية و فيه الحجة.

فصل

و قوله اَلَّذِينَ رفع بالابتداء و يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ صلة الذين و يَذَرُونَ أَزْواجاً عطف عليه و خبر الذين قيل فيه أربعة أقوال أحدها أن كون الجملة على تقدير و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا أزواجهم يتربصن.الثاني يتربصن بعدهم أي يتربصن أزواجهم بعدهم.الثالث أن يكون الضمير في يتربصن لما عاد إلى مضاف في المعنى كان بمنزلته على تقدير يتربصن أزواجهم هذا قول الزجاج و الأول قول أبي العباس و الثاني قول الأخفش و نظيره قول الزجاج أن يقول إذا مات و خلف ابنتين ترثان الثلثين بالفرض المعنى ترث ابنتاه الثلثين.الرابع أن يعدل عن الإخبار عن الزوج لأن المعنى عليه و الفائدة فيه ذهب إليه الكسائي و الفراء و أنكره أبو العباس و الزجاج لأنه لا يكون مبتدأ لا خبر له و لا خبر إلا عن مخبر عنه و يَذَرُونَ أَزْواجاً أي يتركونها.فإن قيل كيف قال وَ عَشْراً و إنما العدة بالأيام و الليالي و لذلك لم يجز أن يقول عشرا من الرجال و النساء.قيل لتغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ و غيره لأن ابتداء

ص: 170


1- سورة الطلاق:4.

شهور الأهلة الليالي عند طلوع الهلال فلما كانت أوائل غلبت لأن الأوائل أقوى من الثواني و لا يقدح هذا في قولهم إذا اختلط الذكر و الأنثى كان الغلبة للذكر.قال ابن المسيب و أبو العالية إنما زاد الله تعالى هذه العشرة على أربعة أشهر لأن فيها ينفخ الروح على الولد.و معنى التربص أن تحبس نفسها عن الأزواج و تترك الزينة و الطيب.

فصل

و هذه الآية التي قدمناها ناسخة لقوله تعالى وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ (1) و إن كانت هذه مقدمة عليها في التلاوة.و لا خلاف في نسخ العدة سنة كاملة إلا أن أبا حذيفة قال العدة أربعة أشهر و عشرا و ما زاد على الحول يثبت بالوصية و النفقة فإن امتنع الورثة من ذلك كان لها أن تتصرف في نفسها.و أما حكم الوصية عندنا فباق لم ينسخ و إن كان على وجه الاستحباب و حكي عن الحسن أنها منسوخة بآية الميراث فلا وصية لوارث و هذا فاسد لأن آية الميراث لا تنافي الوصية فلا يجوز أن تكون ناسخة لها.فمن نصب وَصِيَّةً فالتقدير فليوصوا وصية و الرفع أي فعليهم وصية أو لأزواجهم وصية و قيل لا يجوز غير الرفع لأنه لا يمكن الوصية بعد الوفاة و لأن الفرض كان لهن وصوا أو لم يوصوا قال الرماني و هذا غلط لأن المعنى و الذين يحضرهم الوفاة منكم و لذلك قال تعالى يُتَوَفَّوْنَ على لفظ الحال الذي يتطاول.

ص: 171


1- سورة البقرة:240.

و أما قوله الفرض كان لهن و إن لم يوصوا فقد قال قتادة و السدي إنما كان لهن بالوصية على أنه لو كان على ما زعم لم ينكر أن يوجبه الله على الورثة إن فرط الزوج في الوصية.و مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ كأنه قال متعوهن متاعا في مساكنهن لا إخراجا و يجوز أن تكون الإقامة في مساكنهن.قال الحسن فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ دليل على سقوط النفقة و السكنى بالخروج لأنه إنما جعل لهن ذلك بالإقامة إلى الحول فإن خرجن قبله بطل الحق الذي وجب بالإقامة.و إنما احتاج إلى هذا التخريج من يوجب النفقة للمعتدة عن الوفاة فأما من قال لا نفقة لها و لا سكنى فلا يحتاج إلى ذلك و هو مذهبنا لأن المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها فإن كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ولدها الذي في بطنها.و قد قدمنا أن الرجل إذا طلق زوجته قبل الدخول بها ما لم يكن عليها منه عدة و كذلك التي لم تبلغ المحيض و مثلها لا تحيض إذا طلقها و حد ذلك ما دون تسع السنين لم يكن عليها منه عدة و إن دخل بها و كذلك إن كانت آيسة و مثلها لا تحيض فليس عليها من عدة إذا طلقها إن كانت مدخولا بها و الدليل على هاتين المسألتين من القرآن ما ذكرناه من قبل.و يمكن أن يستدل بقوله تعالى وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ (1) الآية على أن لا عدة على من لم يدخل بها و قد صرح تعالى بذلك في قوله يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تماسوهن

ص: 172


1- سورة البقرة:237.

فما لكم عليهن من عدة تعتدونها (1).فأما من طلق من تحيض حيضا مستقيما فعدتها ثلاثة أطهار لقوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (2) و إنما أطلق سبحانه الكلام هاهنا إطلاقا و لم يقيد لأن الأغلب في العادة أن تكون المرأة مستقيمة الحيض و ما سوى هذه الحالة يكون نادرا.و إذا طلقها و هي حامل فعدتها أن تضع حملها لقوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (3) .و الآيسة من المحيض و في سنها من تحيض و التي لا تحيض و في سنها من تحيض فعدة كل واحدة منهما إذا كانت حرة ثلاثة أشهر إذا طلقها زوجها و قد بينا حكمها من قبل يدل عليه قوله وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ الآية.و الحرة إذا كانت تحت مملوك فعدتها مثل عدتها إذا كانت تحت حر لا يختلف الحكم فيه لأن الله تعالى لم يفصل في كتابه بين الحالتين.و الأمة إذا كانت تحت حر و طلقها فعدتها قرءان إن كانت ممن تحيض و إن كانت لا تحيض و مثلها تحيض فعدتها خمسة و أربعون يوما و استدل عليه بعض المفسرين بقوله فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (4) و قال هذا على العموم.هذا كله إذا كانت الحرة و الأمة مدخولا بها.و الأمة إذا كانت أم ولد و توفي عنها زوجها فعدتها مثل عدة الحرة و إن

ص: 173


1- سورة الأحزاب:49.
2- سورة البقرة:228.
3- سورة الطلاق:4.
4- سورة النساء:25.

كانت مملوكة ليست أم ولد فعدتها شهران و خمسة أيام.و التي لم يدخل بها إذا مات عنها الزوج فعدتها أربعة أشهر و عشرا لعموم قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً (1) و يجب على ورثته أن يعطوها المهر كملا و يستحب لها أن تترك نصف المهر و إن لم تفعل كان لها المهر كله

باب كيفية الطلاق الثلاث و حكم المراجعة و التراجع و العضل

قوله تعالى اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ (2) يدل على صحة قولنا الطلاق الثلاث لا يقع بلفظ واحد فإنه تعالى لم يرد بذلك الخبر لأنه لو أراده لكان كذبا و إنما أراد الأمر فكأنه تعالى قال طلقوهن مرتين و يجري مجرى قوله وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (3) و المراد يجب أن تؤمنوه و المرتان لا تكون إلا واحدة بعد واحدة و من جمع الطلاقين في كلمة واحدة [لا يكون مطلقا مرتين كما أن من أعطى درهمين مرة واحدة] (4) لم يعطها مرتين.فإن قيل العدد إذا ذكر عقيب الاسم لم يقتض التفريق مثاله إذا قال له علي مائة درهم مرتان و إذا ذكر العدد عقيب فعل اقتضى التفريق مثاله إذا دخل الدار مرتين فاضربه ضربتين و العدد في الآية عقيب اسم لا فعل.

ص: 174


1- سورة البقرة:234.
2- سورة البقرة:229.
3- سورة آل عمران:97.
4- الزيادة من ج.

قلنا قد بينا أن قوله اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ معناه طلقوا مرتين و العدد عقيب فعل لا اسم صريح.فإن قيل إذا كان الثلاث لا تقع فأي معنى لقوله تعالى لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً و إنما المراد أنك إذا خالفت السنة في الطلاق و جمعت بين الثلاث و تعديت ما حده الله تعالى لم تأمن أن تتوق نفسك إلى المراجعة فلا تتمكن منها.قلنا قوله لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً مجمل غير مبين فمن أين أنه أراد ما ذكرتم و الظاهر غير دال على هذا الأمر الذي يحدثه الله و الأشبه بالظاهر أن يكون ذلك الأمر الذي يحدثه الله متعلقا بقوله وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ لأنه قال تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً فيشبه أن يكون المراد لا تدري ما يحدثه الله من عقاب يعجله الله في الدنيا على من تعدى حدوده و هذا أشبه مما ذكروه و أقل الأحوال أن يكون الكلام يحتمله فسقط تعلقهم.و قيل يتعلق قوله لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً بالنهي عن إخراجهن من بيوتهن لعله يبدو له في المراجعة و هذا أيضا يحتمل فمن أين أن المراد ما ذكره.

فصل

و أبان سبحانه

بقوله اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ عدد الطلاق لأنه كان في صدر الإسلام بغير عدد قال قتادة كان الرجل يطلق امرأته في صدر الإسلام ما شاء من واحدة إلى عشر و يراجعها في العدة فنزل قوله تعالى اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ يعني طلقتين. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فبين أن عدد الطلاق ثلاثة فقوله مَرَّتانِ إخبار عن طلقتين بلا خلاف و اختلفوا في الثالث

"فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ

ص: 175

أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ. و قال غيره فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ التطليقة الثالثة و هو الأقوى.و قيل في قوله اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ قولان أحدهما ما قاله ابن عباس و مجاهد أن معناه البيان عن تفصيل الطلاق في السنة و هو أنه إذا أراد طلاقها ينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع تطليقة واحدة ثم يتركها حتى تخرج من العدة.و الثاني ما قاله عروة و قتادة أن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة مما لا يوجبها.و في الآية بيان أنه ليس بعد التطليقتين إلا الفرقة البائنة و قال الزجاج في الآية حذف لأن التقدير عدد الطلاق الذي يملك فيها الرجعة مرتان بدلالة قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و المرتان هما دفعتان.و معنى قوله فَإِمْساكٌ أي فالواجب عليه إمساك و الإمساك خلاف الإطلاق قال الزجاج ظاهره خبر و معناه أمر كأنه قال فليمسكها بعد ذلك بمعروف أي بما يعرف به إقامة الحق في إمساك المرأة أو تخلية سبيلها بوجه حسن.و قوله بِمَعْرُوفٍ أي على وجه جميل سائغ في الشريعة لا على وجه الإضرار بهن.و قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قيل فيه قولان أحدهما أنها الطلقة الثالثة

وَ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ ص فَقَالَ اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ فَأَجَابَهُ ع أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ (1) . و قال السدي و الضحاك هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة و هو المروي

ص: 176


1- الدّر المنثور 277/1.

عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع (1).و التسريح مأخوذ من السرح و هو الانطلاق.و قد ذكرنا أن أصحابنا استدلوا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث لا تقع بمرة لأنه تعالى قال اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم ذكر الثالثة على الخلاف في أنه قوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أو قوله فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ .و من طلق بلفظ واحد فلا يكون أتى بالمرتين و لا بالثالثة كما أنه لما أوجب في اللعان أربع شهادات فلو أتى بلفظ واحد لما وقع موقعه و كما لو رمى بسبع حصيات في الجمار دفعة واحدة لم يكن مجزيا له فكذا الطلاق و متى ادعوا في ذلك خبرا فعليهم أن يذكروه لنتكلم عليه.

فصل

أما

قوله فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فالمعنى فيه التطليقة الثالثة على ما روي عن أبي جعفر ع (2) و به قال الضحاك و السدي و الجبائي و النظام و غيرهم.و قال مجاهد هو تفسير لقوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فإنه التطليقة الثالثة و هو اختيار الطبري.و قوله فَإِنْ طَلَّقَها يعني الزوج إن بانت منه بأن يختار أن يراجعها في الثالث فَلا تَحِلُّ لَهُ أي فلا يجوز نكاحها و لا جماعها حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي حتى تتزوج زوجا آخر فيطؤها ذلك الزوج لأن المراد بالنكاح التزويج هاهنا الجماع لا التزويج و إن كان الأصل في النكاح التزوج لأنهم أجمعوا على أنه

ص: 177


1- تهذيب الأحكام 25/8-27.
2- تفسير البرهان 223/1.

إن تزوجت و لم تجامع لم تحل لنكاح الزوج الأول.و أهل المدينة اختلفوا في النكاح أ أصله الجماع أم التزويج و عند أكثر الكوفيين أن أصله الجماع و تسمية التزويج به كما يسمى الشيء باسم ما هو من سببه (1).و صفة الزوج الذي تحل المرأة للزوج الأول أن يكون بالغا و يعقد عليها عقدا صحيحا دائما و يذوق عسيلتها (2) بأن يطأها و تذوق عسيلته بلا خلاف بين أهل العلم.و لا يجوز لأحد أن يتزوجها في العدة فأما العقود الفاسدة أو عقود الشبهة فإنها لا تحل للزوج الأول و متى وطئها بعقد صحيح في زمان يحرم فيه وطؤها مثل أن تكون حائضا أو محرمة أو معتكفة فإنها تحل للأول لأن الوطء يدخل في نكاح صحيح و إنما حرم الوطء لأمر طارئ عليه.هذا عند أكثر أهل العلم و قال مالك الوطء في الحيض لا يحل للأول و إن وجب به المهر كله و العدة.ثم قال تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ بين سبحانه أن الزوج الثاني إن طلقها فلا حرج على الزوج الأول إذا خرجت هي من عدة الزوج الثاني و رأيا أمارة الخير بينهما و ظنا الصلاح لأنفسهما بعد ذلك في التزويج أن يتراجعا بعقد مستأنف.

ص: 178


1- قال ابن فارس:النون و الكاف و الحاء أصل واحد،و هو البضاع،و نكح ينكح، و امرأة ناكح في بنى فلان اي ذات زوج منهم،و النكاح يكون العقد دون الوطء،يقال نكحت تزوجت و انكحت غيرى-معجم مقابيس اللغة 475/5.
2- في الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة بالعسل،و صغرت بالهاء لان الغالب على العسل التأنيث.و يقال انما أنث لانه أراد به العسلة و هي القطعة منه،كما يقال للقطعة من الذهب ذهبة.قال الصغانى:و قيل ان العسيلة مصغرة ماء الرجل نفسه،و النطفة تسمى عسيلة«ه».

و موضع أَنْ يَتَراجَعا خفض عند الخليل و تقديره في أن يتراجعا و قال الزجاج موضعه النصب و موضع إن الثانية نصب بلا خلاف يظن و إنما جاز حذف في من أَنْ يَتَراجَعا لطولها بالصلة و لو كان مصدرا لم يجز.و قوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا يدل على أن الوطء في عقد الشبهة لا يحل للزوج الأول لأن الطلاق لا يلحق نكاح الشبهة و إنما جعل الظن شرطا لأنه في المستقبل فلا يحصل العلم به و معناه إن عرفا من أخلاقهما و طرائقهما ما يقوي في ظنونهما أنهما يقومان بحدود الله تعالى.

فصل

و

قوله تعالى اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ (1) يدل على صحة المراجعة بعد التطليقة الأولى و قبل انقضاء العدة و كذلك يدل على صحة المراجعة بعد التطليقة الثانية قبل انقضاء العدة من غير اعتبار رضا المرأة إذا لم يكن خلعا لأنه تعالى قال فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ و هو المراجعة و لم يعتبر رضاها.و التراجع الذي ذكره الله تعالى في قوله فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا (2) هو أن يتعاقدا بعد العدة من موت الزوج الثاني أو طلاقه بمهر جديد و عقد مستأنف و رضاها لا بد منه هاهنا لأنه الآن خاطب من الخطاب و هي أجنبية و قد أشار إليه بقوله أَنْ يَتَراجَعا و اعتبر هاهنا في التراجع فعليهما و ما اعتبر في التراجع هناك بقوله فَإِمْساكٌ إلا فعله.ثم قال تعالى وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا (3) و المعنى إذا بلغن قرب انقضاء

ص: 179


1- سورة البقرة:229.
2- سورة البقرة:230.
3- سورة البقرة:231.

عدتهن لأن بعد انقضاء العدة ليس له إمساك و الإمساك أيضا هاهنا هو المراجعة قبل انقضاء العدة و به قال ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و على هذا يقال لمن دنا من البلد فلان بلغ البلد.و المراد بالمعروف هاهنا الحق الذي يدعو إليه العقل أو الشرع للمعرفة بصحته خلاف المنكر الذي يزجر عنه العقل أو السمع لاستحالة المعرفة بصحته فما يجوز المعرفة بصحته معروف و ما لا يجوز المعرفة بصحته منكر و المراد به هاهنا أن يمسكها على الوجه الذي أباحه له من القيام بما يجب لها من النفقة و حسن العشرة و غير ذلك و لا يقصد الإضرار بها.

فصل

و قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا معناه لا تراجعونهن لا لرغبة فيهن بل لطلب الإضرار بهن إما في تطويل العدة أو طلب المعاداة أو غير ذلك فإنه غير جائز.و يجوز أن يكون المراد بالمضارة التضييق عليها في العدة في النفقة و المسكن كما قال أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي المراجعة للضرر فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (1) فالإشارة إلى الإمساك ضرارا. وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُواً يعني ما ذكره من الأحكام في النكاح و الطلاق مما يجوز فيه المراجعة و ما لهم على النساء من التربص حتى يفيئوا أو يوقعوه مما ليس لهم و غير ذلك أي لا يتركوا العمل بحدود الله فيكونوا مقصرين كما يقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه و يتوانى فيه إنما أنت لاعب.

ص: 180


1- سورة الطلاق:6.

و روي عن أبي الدرداء و أبي موسى كان الرجل يطلق أو يعتق ثم يقول إنما كنت لاعبا [فأعلم الله أن فرائضه لا يجوز اللعب فيها

وَ لِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ص مَنْ طَلَّقَ لاَعِباً أَوْ أَعْتَقَ لاَعِباً] (1) فَقَدْ جَازَ عَلَيْهِ. لأن الحاكم يجب عليه الحكم على ظاهر الشرع إذا شهد البينة.و الأولى أن يكون المراد لا تستخفوا بآيات الله و فروضه وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُواً أي ذات استهزاء بها و هذا توكيد كأنه قال اعملوا عليها و لا تستهينوا بها.

فصل

ثم

قال تعالى وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (2) .قال قتادة و الحسن إن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول فإنه كان طلقها و خرجت من العدة ثم أرادا أن يجتمعا بعقد آخر على نكاح آخر فمنعه من ذلك فنزلت الآية فيه و قال السدي نزلت في جابر بن عبد الله عضل بنت عم له (3).و الوجهان لا يصحان على مذهبنا لأن عندنا أنه لا ولاية للأخ و لا لابن العم عليها و إنما هي وليه نفسها فلا تأثير لعضلهما و الوجه في ذلك أن تحمل الآية على المطلقين لأنه خطاب لهم بقوله تعالى وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فكأنه قال لا تعضلوهن بأن تراجعوهن عند قرب انقضاء عدتهن و لا رغبة لكم فيهن و إنما تريدون الإضرار بهن فإن ذلك مما لا يسوغ في الدين و الشرع كما قال في الأولى

ص: 181


1- الزيادة من م.
2- سورة البقرة:232.
3- اسباب النزول للواحدى ص 50-51.

وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا (1) .و لا يطعن على ذلك بقوله أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ لأن المعنى فيه من يصير أزواجهن كما أنهم لا بد لهم من ذلك إذا حملوا على الزوج الأول لأن بعد انقضاء العدة لا يكون زوجا و يكون المراد من كان أزواجهن فما لهم إلا مثل ما عليهم.و يجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر و الحيلولة بينهن و بين التزويج دون ما يتعلق بالولاية لأن العضل هو الحبس و المنع و الضيق (2) و هذا الوجه حسن و تقدير أن ينكحن من أن ينكحن فمحل أن جر عند الخليل و نصب عند سيبويه.و إنما قال ذلك و لم يقل ذلكم كما تقدم من قوله طَلَّقْتُمُ لأن تقديره ذلك يا محمد أو يا أيها القبيل. يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ و إنما خص المؤمن بالوعظ لأنه ينتفع به فنسب إليه كما قال هُدىً لِلْمُتَّقِينَ و لأنه أولى بالاتعاظ.

فصل

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ (3) .اختلفوا في معنى ذلك

ص: 182


1- هذا الكلام مأخوذ من مجمع البيان 332/1.
2- العضل هو الشدة و الالتواء في الامر،و عليه تتفرع المعاني المذكورة في الكتاب- انظر معجم مقاييس اللغة 345/4.
3- سورة النساء:19.

فقال الزهري و الجبائي و غيرهما هو أن يحبس الرجل المرأة عنده لا حاجة له إليها و ينتظر موتها حتى يرثها فنهى الله عن ذلك و هو المروي عن أبي جعفر ع (1).و قال الحسن و مجاهد معناه ما كان يعمله أهل الجاهلية من أن الرجل إذا مات و ترك امرأته قال ابنه من غيرها أو وليه ورثت امرأته كما ورثت ماله فألقى عليها رداءه أنها امرأته على العقد الذي كان مع أبيها و لا يعطيها شيئا و إن شاء زوجها و أخذ صداقها روى ذلك أبو الجارود عن الباقر ع قال أبو مجلث ثم كان هو بالميراث أولى بها من ولي نفسها (2).أما قوله تعالى وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ قيل فيمن عني بهذا النهي أربعة أقوال أحدها قال ابن عباس هو الزوج أمره الله بتخلية سبيلها إذا لم يكن لها فيه حاجة و لا يمسكها إضرارا بها حتى تفتدي ببعض مالها.الثاني قال الحسن هو الوارث نهي عن منع المرأة من التزويج كما يفعله الجاهلية على ما بيناه.الثالث قال مجاهد المراد الولي الرابع قال ابن يزيد المطلق يمنعها من التزويج كما كانت قريش تفعل في الجاهلية ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فإذا لم توافقه فارقها أن لا تتزوج إلا بإذنه و يشهد عليها بذلك و يكتب كتابا فإذا خطبها خاطب فإن أعطته و أرضته أذن لها و إن لم تعطه عضلها فنهى الله عن ذلك.و الأول أظهر الأقاويل و العضل هو التضييق بالمنع من التزويج.

ص: 183


1- انظر تفسير البرهان 355/1.
2- تفسير البرهان 355/1.

و قوله تعالى إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قيل فيه قولان أحدهما ما قال الحسن أنه يعني به الزناء و قال إنه إذا اطلع منها على ريبة فله أخذ الفدية الثاني قال ابن عباس هو النشوز و الأولى حمل الآية على كل معصية لأن العموم يقتضي ذلك و هو المروي عن أبي جعفر ع (1).و قوله لا تَعْضُلُوهُنَّ يحتمل أن يكون جزما بالنهي و يحتمل أن يكون نصبا بالعطف على أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً و يقرأ بهذا التقدير عبد الله و لا أن تعضلوهن بإثبات أن.و قيل في سبب نزول هذه الآية

إِنَّ أَبَا قَيْسِ بْنَ الْأَسْلَتِ لَمَّا مَاتَ عَنْ زَوْجَتِهِ كَبْشَةَ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ (2) أَرَادَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ص فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لاَ أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي وَ لاَ أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ع وَ غَيْرُهُ (3).

فصل

ثم أمر الله سبحانه المؤمنين بأداء حقوقهن التي أوجبها عليهم من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان

فقال وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي خالطوهن و خالقوهن من العشرة التي هي المصاحبة فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً يعني في إمساكهن على كره منكم خير كثيرا من ولد يرزقكم أو عطفكم عليهن بعد الكراهية و الهاء في فيه يحتمل أن

ص: 184


1- تفسير البرهان 355/1.
2- كذا في النسختين،و في المصدر«كبيثة بنت معمر بن معبد»،و هو غير صحيح- انظر الإصابة 383/4.
3- تفسير البرهان 355/1.

يرجع إلى قوله شَيْئاً و يحتمل أن يعود إلى الذي تكرهونه. وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ المعنى إن أردتم تخلية المرأة سواء استبدلت مكانها أو لم تستبدل و إنما خص الله الاستبدال بالنهي لأن مع الاستبدال قد يتوهم جواز الاسترجاع لما أعطي من حيث إن الثانية تقوم مقام الأولى فيكون لها ما أعطته الأولى فيبين الله إن ذلك لا يجوز.و معنى قوله تعالى وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ليس ما أعطيتموهن موقوفا على التمسك بهن دون تخليتهن فيكون إذا أردتم الاستبدال جاز لكم أخذه بل هو تمليك صحيح لا يجوز الرجوع فيه و المراد بذلك ما أعطي المرأة مهرا لها و يكون دخل بها فأما إذا لم يدخل بها و طلقها جاز له أن يسترجع نصف ما أعطاها فأما ما أعطاها على وجه الهبة فظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز الرجوع في شيء منه لكن علمنا بالسنة أن ذلك سائغ له و لو كان مكروها.و القنطار المال الكثير قيل هو دية الإنسان و قيل هو ملء جلد ثور ذهبا. وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ قال السدي و ابن زيد هذه الآية منسوخة بقوله إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ (1) الآية و الصحيح أنها محكمة ليست منسوخة إذ لا يتنافى حكما الآيتين لأن الزوج يجوز له أن يأخذ الفدية من المختلعة لأن النشوز فيها هو في حكم المكره و في الآية الأخرى الزوج مختار للاستبدال فلا حاجة إلى نسخ إحداهما بالأخرى.و الإفضاء في الآية كناية عن الجماع قال ابن عباس و مجاهد و السدي و قيل إنه الخلوة و إن لم يجامع فليس له أن يسترجع نصف المهر مع الجماع و مع الدخول في الثيب و أما البكر فإن خلا بها و وجدت بخاتم ربها من بعد فلها نصف المهر و كلتا الروايتين رواهما أصحابنا و اختلفوا فيه و الأول أقوى

ص: 185


1- سورة البقرة:229.

لأن الإفضاء كناية عن الجماع.و قوله تعالى وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قيل هذا الميثاق قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و هو المروي عن أبي جعفر ع (1) و قال مجاهد هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج (2) و هذا الكلام و إن كان ظاهره الاستفهام فالمراد به التهديد و التوبيخ

باب ما يجب على المرأة في عدتها

نستدل أولا على أن عدة الحامل وضعها ثم نشرع في ذكره.إن قيل ما حجتكم على أن عدة المطلقة إذا كانت حاملا هي وضعها الحمل دون الأقراء فإن احتججتم

بقوله وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (3) عورضتم بعموم قوله وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (4) .الجواب عنه أنه لا خلاف بين العلماء في أن آية وضع الحمل عامة في المطلقة و غيرها و أنها ناسخة لما تقدمها و مما يكشف عن ذلك أن قوله وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إنما هو في عدة غير الحامل فإن من استبان حملها لا يقال فيها لا يحل لها أن تكتم ما خلق الله في رحمها و إذا كانت هذه خاصة (5) في غير الحوامل لم يعارض أنه الوضع و هي عامة في كل حامل من مطلقة و غيرها.

ص: 186


1- تفسير البرهان 355/1.
2- هذا التفسير أيضا مرويّ عن ابى جعفر الباقر عليه السلام-انظر المصدر السابق.
3- سورة الطلاق:4.
4- سورة البقرة:228.
5- الزيادة من ج.

و قيل في معنى قوله تعالى وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ثلاثة أقوال أحدها قال إبراهيم الحيض و ثانيها قال قتادة الحبل و ثالثها قال ابن عمر هو الحبل و الحيض و به قال الحسن و هو الأقوى لأنه أعم (1) و إنما لم يحل لهن الكتمان لظلم الزوج بمنعه المراجعة في قول ابن عباس و قال قتادة لنسبة الولد إلى غير والده كفعل الجاهلية.ثم شرط بقوله إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أي من كانت مؤمنة فهذه صفتها لا أنه يلزم المؤمنة دون غيرها و خرج ذلك مخرج التهديد.ثم قال وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ يعني أزواجهن أحق برجعتهن و ذلك يختص الرجعيات و إن كان أول الآية عاما في جميع المطلقات الرجعية و البائنة و يسمى الزوج بعلا لأنه عال على المرأة بملكه لزوجيتها.و قوله تعالى وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ قال الضحاك لهن من حسن العشرة المعروف على أزواجهن مثل ما عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لهم و قال ابن عباس لهن على أزواجهن من التصنيع و البر بهن مثل ما لأزواجهن عليهن و قال الطبري على أزواجهن ترك مضارتهن كما أن ذلك عليهن لأزواجهن.ثم قال وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي فضيلة منها الطاعة و منها أنه يملك التخلية و منها زيادة الميراث على قسم المرأة و الجهاد هذا قول مجاهد و قتادة و قال ابن عباس منزلة في الأخذ عليها بالعضل في المعاملة حتى قال ما أحب أن أستوفي منها جميع حقي ليكون لي عليها الفضيلة و الدرجة و المنزلة.و قيل إن في الآية نسخا لأن التي لم يدخل بها لا عدة عليها بلا خلاف إذا طلقت قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ إلى قوله فَما لَكُمْ

عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها (1) و لأن الحامل عدتها وضع ما في بطنها لقوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (2) .

ص: 187


1- و هو المروى عن الصادق عليه السلام-انظر مجمع البيان 376/1.

عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها (1) و لأن الحامل عدتها وضع ما في بطنها لقوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (2) .

فصل

و جاء في التفسير أن الذي حرم على المرأة كتمانه مما خلق الله في رحمها هو الولد و هو أن تكون حبلى فتكتم الحبل لتطلق فتتزوج زوجا تؤثره و نهيت عن ذلك لأمرين أحدهما أنها تلحق الولد بغير والده كما ذكرناه.و الثاني أنها تمنع الزوج فسخه في المراجعة لأن عدة الحوامل وضع الحمل فهي أبعد مدى من مدة القرء

و يقويه قوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ (3) و أنكر أبو علي على إبراهيم قوله إنه المحيض و قال لا يكون إلا الحبل لأن الدم لا يكون حيضا حتى يخرج من الرحم و إذا خرج فليس في الرحم و أمر الله تعالى أن لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن.و قال محمد بن جرير المراد الحبل و الحيض هاهنا و لا معنى لصرف المعنى إلى أحدهما كأن الغرض نهيهن عما يكون سببا لمنع حق الزوج من مراجعتها في العدة إن أراد و كل واحد منهما كالآخر لأن بوضع الحمل تنقضي العدة كما تنقضي بانقضاء القرء.الثالث قال علي بن عيسى أن كتمت الحبل محبة لفراقه ثم علم به ردها صاغرة عقوبة لما كتمته.و قال عبد الجبار الآية تدل على بقاء الزوجية بعد الطلاق الرجعي ما دامت

ص: 188


1- سورة الأحزاب:49.
2- سورة الطلاق:4.
3- سورة آل عمران:6.

في العدة فلهذا سماهم بعولا و لأن للطلاق تأثيرا يزال بالرد ما بقيت العدة.و إن الرجعة تصح من دون الإشهاد و إنما أمر الله فيها بالإشهاد احتياطا و سنة لأن الرجل كان قد أشهد على طلاقها فإذا راجع قبل انقضاء العدة و لم يشهد فإن أنكرت المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة و لم يكن للرجل بينة على المراجعة و كان لها بينة على الطلاق فرق الحاكم بينهما على ظاهر الشرع فالاحتياط هو الإشهاد في المراجعة و يصح من دونه لأنه تعالى جعلها حقا للبعل.و له أن يراجع بغير رضاء منها لأن الله جعله أحق بذلك و يدل الظاهر على أن له الرجعة في كل مطلقة يلزمها العدة و لا يكون تطليقا ثانيا.و قال تعالى في موضع آخر يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ فلما أمر بالتطليق و أن يكون بعدة تحصى بين تعالى في هذه الآية العدة ما هي فقال ثَلاثَةَ قُرُوءٍ و قال في آيات أخر بيان العدد كلها على ما ذكرناه.و قد ذكرنا من قبل أنه تعالى إنما قال ثَلاثَةَ قُرُوءٍ و لم يقل ثلاثة أقراء على جمع القليل لأنه لما كانت كل مطلقة مستقيمة الحيض على ما ذكرناه يلزمها هذا دخله معنى الكثرة فأتى ببناء الكثرة للإشعار بذلك فالقروء كثيرة إلا أنها ثلاثة ثلاثة في القسمة

باب ما يكون كالسبب للطلاق

و هو على ضربين النشوز و الشقاق و لكل واحد منهما حكم دون حكم الآخر.

ص: 189

أما النشوز فقد قال الله تعالى وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ (1) و هو أن يكره الرجل المرأة (2) و تريد المرأة المقام معه و تكره مفارقته و يريد الرجل طلاقها فتقول له لا تفعل إني أكره أن يشمت بي فكل ما يلزمك من نفقة و غيرها لي فهو لك و أعطيك أيضا من مالي شيئا معلوما و دعني على حالتي فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما على هذا الصلح.و معنى الآية إن امرأة علمت من زوجها كراهة بنفسه عنها إلى غيرها و ارتفاعا بها عنها إما لبغضه و إما لكراهية منه شيئا منها إما دمامتها و إما سنها و كبرها أو غير ذلك. أَوْ إِعْراضاً يعني انصرافا بوجهه أن يبغض منافعه التي كانت لها منه فَلا جُناحَ و لا حرج عليهما أن يصطلحا بينهما صلحا بأن تترك المرأة له يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك تستعطفه بذلك و تستديم المقام في حباله و التمسك بالعقد الذي بينه و بينها من النكاح.ثم قال تعالى وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ و معناه الصلح بترك بعض الحق استدامة للخدمة و تمسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة و قال بعض المفسرين الصلح خير من النشوز و الإعراض و الأول أشبه.هذا إذا كان بطيبة من نفسها فإن لم يكن كذلك فلا يجوز له إلا ما يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة و النفقة و القسمة و إلا يطلق و نحو هذه الجملة روى مخالفونا عن علي ع و عن عمر و ابن عباس و عائشة و ابن جبير و جماعة.

ص: 190


1- سورة النساء:128.
2- النشوز بمعنى الارتفاع و طلب العلو،و يكون بين الزوجين للكراهة التي تحدث بينهما،فنشوز المرأة استعصاؤها على زوجها،و نشوز الزوج استعصاؤه عليها و ضربها و جفاها و الإضرار بها-لسان العرب(نشز).

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَشِيَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص قَالَتْ لاَ تُطَلِّقْنِي وَ أَجْلِسْنِي مَعَ نِسَائِكَ وَ لاَ تَقْسِمْ لِي فَنَزَلَتْ وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً (1) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع هِيَ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمَةَ فَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا شَابَّةً فَآثَرَ الشَّابَّةَ عَلَيْهَا فَأَبَتِ الْأُولَى أَنْ تُقِرَّ عَلَى ذَلِكَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً حَتَّى إِذَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِهَا يَسِيراً قَالَ إِنْ شِئْتِ رَاجَعْتُكِ وَ صَبَرْتِ عَلَى الْأَثَرَةِ وَ إِنْ شِئْتِ تَرَكْتُكِ حَتَّى يَخْلُوَ أَجَلُكِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَ فَعَلَ بِهَا مِثْلَ مَا فَعَلَهُ أَوَّلاً فَقَالَتْ رَاجِعْنِي وَ أَصْبِرُ عَلَى الْأَثَرَةِ فَرَاجَعَهَا فَذَلِكَ الصُّلْحُ الَّذِي بَلَغَنَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً (2) . وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ أي أحضرت أنفس كل واحد من الرجل و المرأة الشح بحقه قبل صاحبه فشح المرأة بترك حقها من النفقة و الكسوة و القسمة و غير ذلك و شح الرجل إنفاقه على التي لا يريدها.و إن قيل و إن امرأة ليس فيه أن الرجل نشز على امرأة و الخوف ليس معه يقين.قلنا عنه جوابان أحدهما أن الخوف في الآية بمعنى العلم تقديره و إن امرأة علمت.و الثاني أنها لا تخاف النشوز من الرجل إلا و قد بدا منه ما يدل على النشوز و الإعراض من أمارات ذلك.ثم نفى الله أن يقدر أحد على التسوية بين النساء في حبهن لأن ذلك تابع لما فيه من الشهوة و ميل الطبع و ذلك من فعل الله و ليس بذلك نفي القدرة على التسوية و النفقة و الكسوة.

ص: 191


1- انظر مجمع البيان 120/2.
2- تفسير عليّ بن إبراهيم 154/1 و انظر أيضا أسباب النزول للواحدى ص 120.

ثم قال وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ المعنى أن الزوجين اللذين تقدم ذكرهما متى أبى كل واحد منهما مصالحة الآخر بأن تطالب المرأة نصيبها من النفقة و القسمة و حسن العشرة و يمتنع الزوج من إجابتها إلى ذلك لميله إلى الأخرى و يتفرقا حينئذ بالطلاق فإن الله يغني كل واحد بفضله.

فصل

ثم

قال تعالى اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ (1) أي إنهم يقومون بأمرهن و بتأديبهن فدلت الآية على أنه يجب على الرجل أن يدبر أمر المرأة و أن ينفق عليها لأن فضله و إنفاقه معا علة لكونه قائما عليها مستحقا لطاعتها فالصالحات مطيعات لله و لأزواجهن حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله و ما يجب من رعايته و حاله و ما يلزم من صيانتها نفسها لله. وَ اللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ النشوز هاهنا معصية الزوج و أصله الرفع على الزوج من قولهم هو على نشز من الأرض أي ارتفاع و النشوز يكون من قبل المرأة على زوجها خاصة و الشقاق بينهما. فَعِظُوهُنَّ فإن رجعن و إلا ف اُهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ

وَ عَنِ الْبَاقِرِ ع هَجْرُ الْمُضَاجَعَةِ هُوَ أَنْ يُحَوِّلَ ظَهْرَهُ إِلَيْهَا (2). و قال ابن جبير هو هجر الجماع و قال بعضهم اهجروهن اربطوهن بالهجار أي الحبل و هذا تعسف في التأويل و يضعفه قوله فِي الْمَضاجِعِ و لا يكون الرباط في المضاجع.فأما الضرب فإنه غير مبرح بلا خلاف

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع هُوَ

ص: 192


1- سورة النساء:34.
2- تفسير البرهان 367/1.

بِالسِّوَاكِ (1). فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فلا تطلبوا العلل في ضربهن و سوء معاشرتهن.ثم قال وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها (2) و يجعلا الأمر إليهما على ما يريان من الصلاح [فإن رأيا من الصلاح الجمع بينهما جمعا و لم يستأذنا و لم يكن لهما مخالفتهما و إن رأيا من الصلاح] (3) التفريق بينهما لم يفرقا حتى يستأذنا فإن استأذناهما و رضيا بالطلاق فرقا بينهما و إن رأى أحد الحكمين التفريق و الآخر الجمع لم يكن لذاك حكم حتى يصطلحا على أمر واحد إما جمع و إما تفريق و معنى الآية أي إن علمتم و الأولى و الأصح أن يحمل على خلاف الأمن لأنه لو علم الشقاق يقينا لم يحتج إلى الحكمين فإن أريد به الظن كان قريبا مما قلناه.و الشقاق الخلاف و العداوة و الحكم السلطان الذي يترافعان إليه قاله جماعة و قال قوم هنا وكيلان و عندنا أنهما حكمان و الضمير في بينهما عائد إلى الحكمين أي إذا أرادا إصلاحا في أمر الزوجين يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما قاله ابن عباس و ابن جبير

باب ما يؤثر في أنواع الطلاق

و هو أيضا على ضربين الخلع و المباراة و هما يؤثران في كيفية الطلاق فإن كل واحد منهما متى حصل مع الطلاق كانت التطليقة بائنة.أما الخلع فإنه يكون من جهة المرأة خاصة و يجب إذا قالت المرأة لزوجها

ص: 193


1- تفسير البرهان 367/1.
2- سورة النساء:35.
3- الزيادة من ج.

إن لم تطلقني لأوطئن فراشك من تكرهه فمتى سمع منها هذا القول أو علم هذا من حالها و إن لم تنطق به وجب عليه خلعها و قد سمى الله تعالى في كتابه الخلع افتداء

فقال فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (1) و الفدية العوض الذي تبذله المرأة لزوجها تفتدي نفسها منه به و هذا هو الخلع في الشرع و إنما استعمل هذا (2) في الزوجين لأن كل واحد منهما لباس لصاحبه.و الأصل في الخلع الكتاب و السنة قال تعالى وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ (3) الآية.فإذا أراد خلعها اقترح عليها شيئا معلوما تعطيه سواء كان ذلك مثل المهر الذي أعطاها أو أكثر منه أو أنقص حسبما يختاره أي ذلك فعل جاز و حل له ما يأخذ منها فإذا تقرر بينهما على شيء معلوم طلقها بعد ذلك و تكون تطليقة بائنة لا يملك رجعتها إلا أن ترجع المرأة فيما بذلته من مالها قبل العدة (4) فإن رجعت في شيء من ذلك في العدة كان له الرجوع أيضا في بعضها ما لم تخرج من العدة فإذا خرجت من العدة لم يلتفت إليها إذا رجعت فيما بذلته و لم يكن عليها أيضا رجعة فإن أراد كان بعقد جديد.أما قوله تعالى وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أي إلا أن يظنا و من ضم الياء من يُخَافَا فتقديره أن لا يخافا على أن لا يقيما حدود الله و قال أبو علي الفارسي خاف يتعدى إلى مفعول واحد و ذلك المفعول يكون تارة أن و صلتها و تارة غيرها و لا يلزم همزة سؤال من قال ينبغي

ص: 194


1- سورة البقرة:229.
2- أي اسم«الخلع»أطلق على هذا الطلاق لان الزوج كأنّه يخلع لباسه عن بدنه اذ يطلق زوجته.
3- سورة البقرة:229.
4- أي قبل انقضاء العدة.

أن يكون فإن خيفا و كذا لا يلزم من خالفه لم لم يقل فإن خافا لأمرين أحدهما أن يكون الصرف من الغيبة إلى الخطاب كما قال اَلْحَمْدُ لِلّهِ ثم قال إِيّاكَ نَعْبُدُ و قال ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (1) و الآخر يكون الخطاب في قوله فَإِنْ خِفْتُمْ مصروفا إلى الولاة و الفقهاء الذين يقومون بأمور الكافة.فإن قيل كيف قال فَلا جُناحَ عَلَيْهِما و إنما الإباحة لأخذ الفدية.قيل لأنه لو خص بالذكر لأوهم أنها عاصية فإن كانت الفدية له جائزة فبين الإذن لهما لئلا يوهم أنه كالربا المحرم على الأخذ و المعطي.و ذكر الفراء أنه كقوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (2) و إنما هو من الملح دون العذب مجاز للاتساع و هذا هو الذي يليق بمذهبنا لأن الذي يبيح الخلع عندنا هو ما لولاه لكانت المرأة به عاصية فهما اشتركا في أن لا يكون عليهما جناح إذا كانت تعطي ما قد يفي عن الزوج فيه الإثم فاشتركت فيه لأنها إذا أعطت ما يطرح الإثم احتاجت هي إلى مثل ذلك أي إنها نفت [عن] (3) نفسها الإثم بأن افتدت لأنها لو أقامت على النشوز و الإضرار لأثمت و كان عليها في النشوز جناح فخرجت عنه بالافتداء.و أما المباراة فهي أن تكون الكراهية من جهة الرجل و المرأة معا من كل واحد منهما لصاحبه و لم يختص ذلك واحد منهما فمتى عرفا ذلك من حالهما أو قالت المرأة لزوجها أنا أكره المقام معك و أنت تكره المقام معي أيضا فباريني أو يقول الرجل مثل ذلك على أن تعطيني كيت و كيت و يكون ذلك دون المهر

ص: 195


1- سورة الروم:39.
2- سورة الرحمن:22.
3- زيادة يقتضيها السياق.

فإذا بذلته ذلك من نفسها طلقها حينئذ تطليقة و تكون بائنة على ما ذكرناه لأن المباراة ضرب من الخلع و الفرق بينهما ما ذكرناه و الآية تدل عليهما.و الخلع بالفدية على ثلاثة أوجه أحدها أن تكون المرأة عجوزا و دميمة فيضاريها لتفتدي به نفسها فهذا لا يحل له الفداء لقوله وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ (1) الآية.الثاني أن يرى الرجل امرأته على فاحشة فيضاريها لتفتدي في خلعها فهذا يجوز و هو معنى قوله وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ (2) .الوجه الثالث أن يخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ لسوء خلق أو قلة نفقة من غير ظلم أو نحو ذلك فتجوز الفدية خلعا كان أو مباراة على ما فصلناه

باب ما يلحق بالطلاق

و هو أيضا على ضربين يوجب التحريم و إن لم تقع الفرقة و ضرب يوجب البينونة مثل الطلاق فالقسم الأول الظهار و الإيلاء و القسم الثاني اللعان و الارتداد و نحن نفرد لكل واحد منهما فصلا مفردا إن شاء الله تعالى

فصل في الظهار

قال الله تعالى اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ

إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ (1) هذه الآية نزلت في خولة بنت ثعلبة (2) و زوجها أوس أخو عبادة بن الصامت في قول قتادة و كان مجادلتها إياه مراجعتها في أمر زوجها و كان ظاهر منها و هي تقول كبرت سني و دق عظمي و إن أوسا تزوجني و أنا شابة غنية فلما علت سني ظاهر مني و رسول الله ص ساكت لا يجيبها لأنه لم يكن نزل عليه وحي في ذلك و لا حكم ثم قالت إلى الله أشكو حالي فلي صبية إن ضممتهم إلي جاعوا و إن ضمهم إليه ضاعوا فعاودت النبي ع فسألته رخصة (3).إن قيل لم قال وَ اللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما بعد قوله قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ .قلنا ليس ذلك تكريرا لأن أحد المسموعين غير الآخر و الأول ما حكته عن زوجها من الظهار و الثاني ما كان يجري بينهما و بين النبي ع من الكلام في ذلك.قال ابن عباس هو أول من ظاهر في الإسلام فكان الرجل في الجاهلية إذا قال لامرأته أنت علي كظهر أمي حرمت عليه كما هو في الإسلام فأنزل الله في قصة الظهار الآيات و لا خلاف أن الحكم عام في جميع من يظاهر و إن نزلت الآية في سبب.و قال صاحب النظم إن بعض المفسرين قال ليس قولهم أنت علي كظهر أمي مأخوذا من الظهر الذي هو العضو لأنه لو كان من ذلك لكان البطن أولى به من الظهر بل إنما هو من قولهم ظهر علي كذا إذا ملكه و كما

ص: 196


1- سورة النساء:20.
2- سورة النساء:19.

إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ (1) هذه الآية نزلت في خولة بنت ثعلبة (2) و زوجها أوس أخو عبادة بن الصامت في قول قتادة و كان مجادلتها إياه مراجعتها في أمر زوجها و كان ظاهر منها و هي تقول كبرت سني و دق عظمي و إن أوسا تزوجني و أنا شابة غنية فلما علت سني ظاهر مني و رسول الله ص ساكت لا يجيبها لأنه لم يكن نزل عليه وحي في ذلك و لا حكم ثم قالت إلى الله أشكو حالي فلي صبية إن ضممتهم إلي جاعوا و إن ضمهم إليه ضاعوا فعاودت النبي ع فسألته رخصة (3).إن قيل لم قال وَ اللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما بعد قوله قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ .قلنا ليس ذلك تكريرا لأن أحد المسموعين غير الآخر و الأول ما حكته عن زوجها من الظهار و الثاني ما كان يجري بينهما و بين النبي ع من الكلام في ذلك.قال ابن عباس هو أول من ظاهر في الإسلام فكان الرجل في الجاهلية إذا قال لامرأته أنت علي كظهر أمي حرمت عليه كما هو في الإسلام فأنزل الله في قصة الظهار الآيات و لا خلاف أن الحكم عام في جميع من يظاهر و إن نزلت الآية في سبب.و قال صاحب النظم إن بعض المفسرين قال ليس قولهم أنت علي كظهر أمي مأخوذا من الظهر الذي هو العضو لأنه لو كان من ذلك لكان البطن أولى به من الظهر بل إنما هو من قولهم ظهر علي كذا إذا ملكه و كما

ص: 197


1- سورة المجادلة:2.
2- في بعض نصوص الحديث«خويلة»،انظر الإصابة 282/4.
3- اسباب النزول للواحدى ص 273.

يقولون نزل عنها إذا طلقها يقولون ظهر عليها إذا ملكها و علاها بالزوجية و ملك النكاح فكأنه قال ملكي إياك حرام علي كما أن ملكها علي حرام (1).و كان أهل الجاهلية إذا قال الرجل منهم لامرأته أنت علي كظهر أمي بانت منه و طلقت و في شريعة الإسلام لا تبين المرأة إلا أنه لا يجوز له وطؤها بل يحرم.و هو ينقسم إلى قسمين قسم يجب فيه الكفارة قبل المواقعة و هو أنه إذا تلفظ بالظهار و لا يعلقه بشرط أو علقه بشرط غير الوطي ثم حصل ذلك الشرط.و القسم الثاني أن يقول أنت علي كظهر أمي إن واقعتك فإنه لا تجب الكفارة هنا عليه إلا بعد المواقعة.و الظهار لا يقع إلا على المدخول بها و شروطه كشروط الطلاق سواء من كون المرأة في طهر لم يقربها فيه بجماع و يكون بمحضر شاهدين و يقصد التحريم و لا يكون على الغضب و لا على الإجبار فإن اختل شيء من ذلك لم يقع به ظهار.و معنى قوله اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ أي الذين يقولون لنسائهم أنتن علي كظهر أمي و معناه إن ظهركن علي حرام كظهر أمي فقال الله ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أي ليست أزواجهم أمهاتهم على الحقيقة و ليس أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدنهم من الأم و جداته و إلا اللائي أرضعنهم.

ص: 198


1- قال ابن منظور:و أصله(أى الظهار)مأخوذ من الظهر،و انما خصوا الظهر دون البطن و الفخذ و الفرج-و هذه أولى بالتحريم-لان الظهر موضع الركوب،و المرأة مركوبة إذا غشيت،فكأنّه إذا قال«أنت على كظهر أمى»أراد:ركوبك للنكاح على حرام كركوب امى للنكاح،فأقام الظهر مقام الركوب لانه مركوب،و أقام الركوب مقام النكاح لان الناكح راكب،هذا من لطيف الاستعارات للكناية-لسان العرب(ظهر).

ثم أخبر أن القائل لهذا يقول منكرا قبيحا و كذبا.ثم قال وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يعني الذين يقولون هذا القول الذي حكيناه ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا اختلفوا في معنى العود فقال طاوس الذين كانوا يظاهرون في الجاهلية ثم عادوا في الإسلام إلى مثل ذلك فظاهروا و قال قتادة العود هو العزم على عودها و قال قوم فيه تقديم و تأخير و تقديره و الذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فإن لم يجد فصيام شهرين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ثم يعودون لما قالوا و قال آخرون معناه ثم يعودون لنقض ما قالوا.و الذي هو مذهبنا أن العود المراد به الوطء أو بعض القول فالذي قاله فإنه لا يجوز له الوطء إلا بعد الكفارة إذا كان الظهار مطلقا.و جعل الأخفش لِما قالُوا من صلة فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فالمعنى الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون فتحرير رقبة أي عليهم تحرير رقبة لما قالوا يعني لأجل ما قالوا و هذا أيضا حسن.و قال أحمد بن يحيى معناه الذين يعودون لتحليل ما حرموه فقد عادوا فيه و هو في موضعه لا حاجة إلى تقديم و تأخير.و الأقاويل كلها متقاربة لأن من عزم على غشيانها فقد عاد.ثم بين تعالى كيفية الكفارة فقال فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فإن أول ما يلزمه من الكفارة عتق رقبة و التحرير هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق بأن يقول المالك إنه حر.و الرقبة ينبغي أن تكون مؤمنة أو في حكم المؤمن سواء كان ذكرا أو أنثى صغيرة أو كبيرة إذا كانت صحيحة الأعضاء فإن الإجماع واقع على أنه يقع الإجزاء بها.

ص: 199

و تحرير الرقبة واجب في الظهار المطلق قبل المجامعة أو في المشروط بغير الوطي كأن يقول إن فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي فإذا فعله وجب عليه الكفارة أيضا قبل الوطي لقوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا أي من قبل أن يجامعها فيماسا و هو قول ابن عباس و قال الحسن يكره للمظاهر أن يقبل و الذي يقتضيه الظاهر أن لا يقربها بجماع و لا بمماسة شهوة. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة و عجز عنها فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ و التتابع عند العلماء أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما إن بدأ من نصف شهر و نحوه لا يفطر بينهما فإن أفطر بعد أن صام شهرا و من الثاني بعضه و لو يوما فقد أخطأ إلا أنه يبني فإن أفطر قبله لعذر بنى أيضا و إن أفطر من غير عذر استأنف.فمن لم يقدر على الصوم فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً يعطي عندنا لكل مسكين نصف صاع فإن لم يقدر أعطاه مدا.و قال بعض المفسرين التحرير واجب قبل المجامعة لنص القرآن في الظهار المطلق و لم يذكر الله في الطعام و لكن أجمعت الأمة على أنه قبل التماس و يمكن أن يقال إن الآية تدل على جميع ذلك لأن الثاني هاهنا بدل من الأول و الثالث من الثاني.و متى نوى بلفظ الظهار الطلاق لم يقع به طلاق.و الإطعام لا يجوز إلا للمسكين

فصل في الإيلاء

ص: 200

قال الله تعالى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) .اعلم أن الإيلاء لا يقع إلا بعد الدخول بها و متى آلى بغير اسم الله أو حلف بالطلاق أو ما أشبهه أن لا يطأها فليطأها و ليس عليه كفارة.و لا خلاف بين أهل التأويل أن معنى يؤلون يحلفون و الإيلاء في الآية الحلف على اعتزال النساء و ترك جماعهن على وجه الإضرار بهن و كأنه قيل الذين يؤلون أن يعتزلوا النساء تربص أربعة أشهر.فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته كانت المرأة بالخيار إن شاءت صبرت عليه أبدا و إن شاءت خاصمته إلى الحاكم فإن استعدت عليه (2) أنظره الحاكم بعد رفعها إليه أربعة أشهر ليرتئي في أمرها فإن كفر و راجع و إلا خيره الحاكم بعد ذلك بين أن يكفر و يعود أو يطلق فإن أقام على الإضرار بها حبسه الحاكم و ضيق عليه في المطعم و المشرب حتى يفيء إلى أمر الله فيكفر و يرجع أو يطلق.و اليمين التي يكون بها الرجل موليا هي اليمين بالله أو بشيء من صفاته التي لا يشركه فيها غيره على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه و هو المروي عن علي ع و قال جماعة هو في الجماع و غيره من الإضرار نحو الحلف أن لا يكلمها.و قوله حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ أي حتى يرجع من الخطإ إلى الصواب.فإن قيل ما الذي يكون به المولي فائيا.قيل عندنا يكون فائيا بأن يجامع و به قال ابن عباس و قال الحسن يكون فائيا بالعزم في حال القدرة إلا أنه ينبغي أن يشهد عليه فيه و هذا عندنا يكون للمضطر الذي لا يقدر على الجماع.و يجب عندنا على الفائي كفارة و به قال ابن عباس و جماعة و لا عقوبة

ص: 201


1- سورة البقرة:226-227.
2- أي شكته الى الحاكم.

عليه و هو المروي عنهما ع (1) و قال الحسن لا كفارة عليه لقوله تعالى فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإنه ليس فيه أن يتبعه بكفارة.و متى حلف أنه لا يجامع أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا لأن الإيلاء على أربعة أشهر أو أكثر و لا يجوز له وطؤها في تلك المدة و إن لم يجب عليه أحكام الإيلاء الأخر.و متى حلف أنه لا يقربها و هي مرضعة خوفا من أن تحبل فيضر ذلك بولدها لا يلزمه حكم الإيلاء على ما ذكرناه آنفا.و يجوز أن يكون في الآية تقديم و تأخير و يكون تقديره للذين يؤلون تربص أربعة أشهر من نسائهم و يجوز أن يكون معناه للذين يؤلون من أجل نسائهم.و الفقهاء جعلوا من متعلقة بالإيلاء حتى إذا استعملوها معه قالوا آلى من امرأته إذا حلف الحلف الموصوف و قال أبو مسلم هي متعلقة باللام في لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ كما يقولون لك مني النصرة و المعونة و الصحيح أن الإيلاء يستغني عن من و المعروف آلى عن امرأته و الأحسن من هذا كله أن يكون من هاهنا للتبعيض أي من آلى من جملة نسائه على واحدة أو على بعضهن أو على جميعهن و قال النحويون اللام يفيد الاستحقاق كما يقول اللعن للكفار.و قوله مِنْ نِسائِهِمْ يتعلق بالظرف كما يقول لك مني نصرة و لك مني معونة أي للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر و ليس من يتعلق يؤلون لأن اللغة يحكم أن يقال آلى على امرأته و قول القائل آلى فلان من امرأته وهم إنما توهمه من هذه الآية لما سمع الله تعالى يقول لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ظن أن من

ص: 202


1- انظر وسائل الشيعة 535/15.

يتعلق بيؤلون فكرروا في كتاب الإيلاء آلى من امرأته و الصواب ما ذكرته

فصل في اللعان

قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ (1) .إذا قذف الرجل امرأته بالفجور و ادعى أنه رأى معها رجلا يفجر بها مشاهدة و لم يقم به أربعة من الشهود كان عليه ملاعنتها و كذلك إذا انتفى من ولد زوجة له في حباله أو بعد فراقها مدة الحمل و معنى الآية أن من رمى زوجته بالزناء تلاعنا إذا لم تكن صماء أو خرساء إذا لم يكن له شهود أربعة.و الملاعنة أن يبدأ الرجل فيحلف بالله أنه صادق فيما رماها به و يحتاج أن يقول أشهد بالله إني لصادق لأن شهادته أربع مرات تقوم مقام أربعة شهود في دفع الحد عنه ثم يشهد الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به و إذا جحدت المرأة ذلك شهدت أربع شهادات إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به و تشهد الخامسة أَنَّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ .ثم يفرق بينهما و لا يجتمعان أبدا كما فرق رسول الله ص بين هلال بن أمية و زوجته و قضى أن الولد لها و لا يدعى لأب و لا ترمى هي و لا يرمى ولدها.و عند أصحابنا أنه لا لعان بينهما ما لم يدخل بها و اللعان عندنا يحصل بتمام اللعان من غير حكم الحاكم و تمام اللعان إنما يكون إذا تلاعن الرجل و المرأة جميعا على ما ذكرنا

ص: 203


1- سورة النور:6.

فصل في الارتداد

قال الله تعالى وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ (1)

و قال سبحانه وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (1) .استدل بعض المفسرين بمجموع الآيتين على أن المرتد عن الإسلام تبين عنه امرأته لعموم الآيتين.و عندنا أن المرتد على ضربين فإن كان مسلما ولد على فطرة الإسلام فقد بانت منه امرأته في الحال و قسم ماله بين ورثته و وجب عليه القتل من غير أن يستتاب و تعتد زوجته عدة المتوفى عنها زوجها.و إن كان المرتد ممن كان أسلم عن كفر ثم ارتد استتيب فإن عاد كان عقد زوجته ثابتا و إن لم يرجع كان عليه القتل و إن هرب إلى دار الحرب تعتد زوجته ثلاثة أشهر.و الأولى أن نقول إن هذا الحكم يعلم بالسنة قال الله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ و قال تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ فتدل الآيتان عليه جملة أو من فحوى كل واحدة من الآيتين

باب الزيادات

إنما خص الله المؤمنات

في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ

الْمُؤْمِناتِ (2) لئلا ينكح المؤمنون إلا كل مؤمنة عفيفة

ص: 204


1- سورة البقرة:221.
2- سورة البقرة:217.

الْمُؤْمِناتِ (1) لئلا ينكح المؤمنون إلا كل مؤمنة عفيفة

كَمَا قَالَ ع تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ. فيجب أن يتنزه عن مزاوجة الفواسق و الفواجر و الكوافر.و فائدة ثم في قوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ نفي التوهم عمن عسى تفاوت الحكم بين أن يطلقها و هي قريبة العهد من النكاح و بين أن يبعد عهدها من النكاح و يتراخى بها المدة في حبالة الزوج ثم يطلقها.و قرئ تعتدونها مخففا أي تعتدون فيها و المراد بالاعتداء ما في قوله وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا (2) .و العامل في الظرف من قوله إِذا نَكَحْتُمُ ما يتعلق به لكم و التقدير إذا نكحتم المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ لم يثبت لكم عليهن عدة.و السراح الجميل هو دفع المتعة بحسب الميسرة و العشرة بغير جفوة و لا أذية.

وَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ : كُنْتُ قَاعِداً عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ع فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ إِنِّي قُلْتُ يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلاَنَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَقَالَ اذْهَبْ وَ تَزَوَّجْهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الطَّلاَقِ وَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (3).

مسألة

إن قيل قد أمر الله بطلاق العدة في

قوله تعالى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (4) فكيف تقدمون أنتم طلاق السنة على طلاق العدة.قلنا إن طلاق السنة أيضا طلاق العدة الذي ذكره الله إلا أن أصحابنا قد اصطلحوا على أن يسموا الطلاق الذي لا يزاد عليه [بعد المراجعة طلاق

ص: 205


1- سورة الأحزاب:49.
2- سورة البقرة:231.
3- وسائل الشيعة 289/15 مع اختلاف يسير.
4- سورة الطلاق:1.

السنة و الطلاق الذي يزاد عليه] (1) شرط المراجعة طلاق العدة و مما يعضده

مَا رَوَى بُكَيْرُ بْنُ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع أَنَّهُ قَالَ : الطَّلاَقُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَلَى طُهْرٍ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَ يُشْهِدَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى تَطْلِيقِهِ ثُمَّ هُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَمْضِ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ فَهَذَا الطَّلاَقُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ فِي سُنَّتِهِ وَ كُلُّ الطَّلاَقِ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ فَلَيْسَ بِطَلاَقٍ (2).

وَ عَنْ حَرِيزٍ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ طَلاَقِ السُّنَّةِ فَقَالَ عَلَى طُهْرٍ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَ لاَ يَجُوزُ الطَّلاَقُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ وَ الْعِدَّةِ وَ هُوَ قَوْلُهُ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ الْآيَةَ (3).

مسألة

عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ قَالَ لَوْ كَانَ لِي عَلَيْهِ سُلْطَانٌ لَأَوْجَعْتُ رَأْسَهُ وَ قُلْتُ اللَّهُ أَحَلَّهَا لَكَ فَمَنْ حَرَّمَهَا عَلَيْكَ إِنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ كَذَّبَ فَزَعَمَ أَنَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ حَرَامٌ وَ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ طَلاَقٌ وَ لاَ كَفَّارَةٌ فَقُلْتُ يَقُولُ اللَّهُ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ (4) فَجَعَلَ عَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةَ فَقَالَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ جَارِيَتَهُ مَارِيَةَ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَقْرَبَهَا وَ إِنَّمَا جَعَلَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ فِي الْحَلْفِ وَ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ فِي التَّحْرِيمِ (5). و هذا إشارة إلى الإيلاء.

ص: 206


1- الزيادة من ج.
2- وسائل الشيعة 280/15.
3- المصدر السابق 181/15.
4- سورة التحريم:1.
5- وسائل الشيعة 292/15.

مسألة

فإن قيل إن أخلعت الزوجة في مرضها بأكثر من مهر مثلها هل يصح ذلك أم لا و إن صح فهل يكون ذلك من صلب مالها أم لا.قلنا الخلع على هذا صحيح لأن المرض لا يبطل المخالعة بمهر المثل أو أكثر منه و يكون ذلك من صلب مالها

لقوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ و لم يفرق بين حال المرض و غيره فوجب حمله على عمومه إلا أن يدل دليل.

مسألة

فإن قيل كيف عدي

قوله لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ بمن و هو معدى بعلى.قلنا قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد فكأنه قيل يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين و يجوز أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كقولك لي منك كذا.و الإيلاء من المرأة أن يقول و الله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا أو لا أقربك على الإطلاق و لا يكون فيما دون أربعة أشهر.فإن قيل كيف موقع الفاء في قوله تعالى فَإِنْ فاؤُ .قيل موقع صحيح لأن قوله فَإِنْ فاؤُ وَ إِنْ عَزَمُوا تفصيل لقوله لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ و التفصيل يعقب المفصل كما تقول أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره و إلا لم أقم إلا ريثما أتحول.

مسألة

ص: 207

بهن التي تحيض و اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله و بعضه فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك.و في ذكر الأنفس هاهنا تهييج لهن على التربص و زيادة بعث و ذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن و يغلبنها على الطموح و يجبرنها على التربص.و في قوله تعالى تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لأنهن يستنكفن هناك فلم يحتج إلى ذكر أنفسهن.

مسألة

فإن قيل هل يصح الإيلاء من الذمي قلنا يصح منه ذلك

ص: 208

كتاب العتق و أنواعه

عتق النبي ص زيدا

قال الله تعالى وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ (1) .هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة و كان النبي ص أعتقه (2).و إنعام الله عليه الذي ذكره الله في الآية هو الإسلام و قد وفقه له و إنعام النبي ع عتقه.خاطب الله محمدا فقال اذكر حين تقول للذي أنعم الله عليه بالهداية إلى الإيمان و أنعمت عليه بالعتق أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أي احبسها و لا تطلقها لأن زيدا جاء إلى النبي ع مخاصما زوجته زينب بنت جحش على أن يطلقها فوعظه النبي و قال له لا تطلقها و اتق الله في مفارقتها. وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ فالذي أخفى في نفسه أنه إن طلقها زيد تزوجها و خشي من إظهار هذا للناس و كان الله أمره بتزوجها إذا طلقها زيد. فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي لما طلق زيد امرأته أذن الله لنبيه في

ص: 209


1- سورة الأحزاب:37.
2- انظر أسباب النزول للواحدى ص 237.

تزويجها و أراد بذلك نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم زوجة الدعي و هو قوله تعالى لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ .فهذه الآية تدل على أن في العتق فضلا كثيرا و ثوابا جزيلا ألا ترى أنه تعالى كنى عنه بقوله أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ .و يستحب عتق المؤمن المستبصر فإن الإنعام عليه أحسن.و لا عتق إلا ما أريد به وجه الله.و العتق لا يصح و لا يقع بغير نية.و كل آية تنطق بتحرير الرقبة في الكفارات فإنها تدل على جواز العتق بل على فضله و أنه من أكرم الإحسان و أفضل الإنعام و لا خلاف في جوازه و الفضل فيه بين الأمة.و العتق على ضربين واجب و ندب و يدخل كلا وجهيه تحت قوله تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ (1) فالأمر بالعدل على وجه الإيجاب و بالإحسان على وجه الندب.فإن قال كل عبد أملكه فهو حر لا يقع به عتق و إن ملك في المستقبل إلا أن يجعل ذلك نذرا على نفسه.و إذا قال كل عبد لي قديم فهو حر فمن كان أتى له ستة أشهر من مماليكه صار حرا قضى به أمير المؤمنين ع و تلا قوله تعالى وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (2) و قد ثبت أن العرجون إنما ينتهي إلى الشبه بالهلال في تقويه و ضئولته بعد ستة أشهر من أخذ الثمرة منه

ص: 210


1- سورة النحل:90.
2- سورة يس:39.

باب من إذا ملك العتق في الحال

قال الله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ (1) الآية يستدل بذلك بعد الإجماع و السنة على أنه متى ملك الإنسان أحد والديه أو ولده ذكرا كان أو أنثى أو أخته أو عمته أو خالته أو واحدة من المحرمات عليه في النكاح من ذوي أرحامه انعتقوا في الحال و لم يثبت لهم معه استرقاق على حال.و كل من ذكرناه من المحرمات من جهة النسب فإن استرقاقهم لا يثبت فإنهم إذا كانوا من جهة الرضاع لا يثبت استرقاقهم أيضا لأن التحريم عام

لِقَوْلِهِ ع يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (2). على أنه لا يصح ملكهن من جهة الرضاع.

و قوله وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ يدل فحوى هذه الآية على تحريم البنات و العمات و الخالات و بنات الأخ و بنات الأخت من الرضاع على ما تقدم في كتاب النكاح.

و قوله تعالى وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً إلى قوله وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (3) فيه دلالة على أن البنوة و العبودية لا تجتمعان و أنه إذا ملك الإنسان ابنه عتق عليه.

ص: 211


1- سورة النساء:23.
2- انظر وسائل الشيعة 293/14.
3- سورة مريم 88-93.

و يستحب للإنسان إذا ملك من سواهم من ذوي أرحامه أن يعتقه فإن ملك أخاه أو ابن أخيه و ابن أخته أو عمه أو خاله و غيرهم من الرجال فلا بأس و الأولى عتقه

باب من يصح ملكه و من لا يصح

قال الله تعالى وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (1) يدل بعمومه على أن الكافر إذا اشترى عبدا مسلما فالبيع باطل و كذلك إن أسلم مملوك لذمي لا يقر عنده بل يباع من مسلم و يعطى ثمنه الذمي.و لا بأس أن يشتري الإنسان ما يسبيه الظالمون إذا كانوا مستحقين للسبي و لا بأس أن يشتري من أهل الحرب أولادهم و يجوز وطء من هذه صفتها و إن كان فيه الخمس لمستحقيه لم يصل إليهم لأنهم جعلوا شيعتهم من ذلك في حل و سعة.و كل من قامت البينة على عبوديته سواء كان بالغا أو لم يكن جاز تملكه و كذا من أقر على نفسه بالعبودية و كان بالغا و الدليل على جميع ذلك كل آية تدل على صحة الإقرار و البينة.و الله تعالى بين وجه حكمته في إباحة الاسترقاق بقوله اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ (2) بأن جعلنا بعضهم أغنياء و بعضهم فقراء و بعضهم موالي و بعضهم عبيدا و إماء و بعضهم مرضى و بعضهم أصحاء بحسب ما علمنا من مصالحهم.

ص: 212


1- سورة النساء:141.
2- سورة الإسراء:21.

وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ فذلك أولى أن يرغب فيه فقد يكون كثير من المماليك خيرا من ساداتهم و إن كانوا جميعا مسلمين و كذا الفقير و الغني جميعه نوع من التكليف

باب بيع أمهات الأولاد

أم الولد هي التي تلد من مولاها سواء كان ما وضعته تاما أو غير تام و إن أسقطت نطفة و يجوز بيعها بعد وفاة أولادها و الدليل عليه

قول الله تعالى وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (1) و هذا عام في أمهات الأولاد و غيرهن.فإن قيل قد أجمعنا على أن قوله وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ مشروط بالملك فإن بيع ما لا يملكه لا يجوز.قلنا الملك باق في أم الولد بلا خلاف لأن وطأها مباح له و لا وجه لإباحته إلا بملك اليمين.و يدل عليه أيضا أنه لا خلاف في جواز عتقها بعد الولد و لو لم يكن الملك لما جاز العتق و كذلك أجمعوا على أن قاتلها لا يجب عليه الدية و إنما يجب عليه قيمتها إذا كانت دون دية الحرة أو مثلها و كذلك يجوز مكاتبتها و أن يأخذ سيدها ما كاتبها عليه عوضا عن رقبتها و هذا كله يدل على بقاء الملك.و حمل ذلك على الرهن و أن ملك الشيء المرهون هو باق للراهن و إن لم يجز بيعه فذلك قياس و نحن لا نقول به.على أنهم إذا سلموا بقاء الملك في أمهات الأولاد فبقاؤه يقتضي استمرار أحكامه و إذا ادعوا فيه النقصان طولبوا بالدلالة و لم يجدوها على أنه لو سلمنا

ص: 213


1- سورة البقرة:275.

نقصان الملك تبرعا لجاز أن نحمله على أنه لا يجوز بيعها مع ولدها و هذا ضرب من النقصان.

و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (1) و قد علمنا أن للمولى أن يطأ أم ولده و إنما يطؤها بملك اليمين لأنه لا عقد هاهنا و إذا جاز أن يطأها بالملك جاز أن يبيعها بعد وفاة ولدها كما جاز ذلك في سائر جواريه

باب الولاء

قال الله تعالى فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ (2) و المراد بمواليكم مماليككم الذين أنتم بهم أولى و هذا المعنى فيهم على العموم فيكون الولاء للمعتق الذي أنعم عليه بأن أعتقه تبرعا لا في واجب كما قال تعالى في حق زيد.و لهذا نقول الولاء إنما يثبت في العتق الذي ليس بواجب بل يكون على سبيل التبرع و أما إن كان العتق في أمر واجب ككفارة ظهاره أو كفارة قتل أو إفطار في شهر رمضان أو نذر أو يمين أو ما أشبه ذلك من جهات الواجب فإن الولاء يرتفع منه و المعتق سائبة لا ولاء للمعتق عليه فلا يدخل تحت الآية لأن العتق على سبيل التبرع هو الإنعام و الإحسان عليه و إليه و إلى ذلك أشار سبحانه بقوله وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ (3) .و لو لا النصوص من أئمة الهدى ع في هذا المعنى لما كان لأحد أن يتكلم في مثله من القرآن (4).

ص: 214


1- سورة المؤمنون:5-6.
2- سورة الأحزاب:5.
3- سورة الأحزاب:37.
4- انظر وسائل الشيعة 38/16-39.

و ولاء المعتق في واجب لمن تضمن جريرته خاصة و ميراثه له إذا لم يكن له ذو رحم مسلم حر سواء كان المتضمن لحدثه معتقه أو سواه فقوله وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (1) منسوخ فيمن لا قرابة له دون من ليس له أحد منهم.و إن لم يتضمن جريرته أحد فولاؤه للإمام و حدثه الخطأ المحض بالشهادة عليه.و ليس للولاء قسم آخر سوى هذه الثلاثة فإن توفي هذا المعتق و له زوجة فلها الربع و الباقي لسيده الذي أعتقه تطوعا أو يرد إلى ضامن جريرته أو إلى الإمام إذا أعتق في واجب و لم يضمن جريرته أحد

باب أن المملوك لا يملك شيئا

قال الله تعالى ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ (2) في هذه الآية دلالة على أن المملوك لا يملك شيئا من الأموال ما دام رقا لأن قوله مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ليس المراد به نفي القدرة لأنه قادر و إنما المراد أنه لا يملك التصرف في الأموال و ذلك عام في جميع ما يملك و يتصرف فيه.فإن ملكه مولاه شيئا ملك التصرف فيه بجميع ما أباح له سيده و أراده فإن أصيب العبد في نفسه بما يستحق به الأرش كان له ذلك و حل له التصرف فيه و ليس له رقبة المال على وجه

باب المكاتبة

قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ

عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً (1) و معناه أن للإنسان إذا كان له أمة أو عبد يطلب المكاتبة و هي أن يقوم على نفسه و ينجم عليه [ليؤدي قيمة نفسه إليه فإنه يستحب لسيده أن يجيبه إلى ذلك و يساعده عليه] (2) لدلالة قوله فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً و هذا أمر ترغيب عند الفقهاء و أما عند الطبري و عمر بن دينار و عطاء هو واجب عليه إذا طلب.و المكاتبة على ضربين مشروط و مطلق.فصورة الكتابة المطلقة أن يقول الإنسان لعبده أو أمته قد كاتبتك على أن تعطيني كذا و كذا دينارا أو درهما في نجوم معلومة (3) على أنك إذا أديت ذلك فأنت حر فيرضى العبد و يكاتبه عليه و يشهد بذلك على نفسه فمتى أدى مال الكتابة في النجوم التي سماها صار حرا فإن عجز عن أداء ذلك ينعتق بحساب ما أدى و يبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه.و إن كانت الكتابة مشروطة و هي أن يقول لعبده في حال المكاتبة متى عجزت عن أداء قيمتك فأنت رد في الرق و لي جميع ما أخذت منك فمتى عجز عن ذلك و حد العجز هو أن يؤخر نجما إلى نجم أو يعلم من حاله أنه لا يقدر على أداء ثمنه فإنه يرجع رقا و جاز لمولاه رده إلى الرق.و قوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً الخير الذي يعلم منه هو القوة على التكسب بحيث يحصل به مال الكتابة و قال الحسن معناه إن علمتم منهم صدقا و قال ابن عباس و عطا إن علمتم لهم مالا و قال ابن عمر إن علمتم فيهم قدرة على التكسب قال لأنه إذا لم يقدر على ذلك أطعمني أوساخ أيدي الناس

ص: 215


1- سورة النساء:33.
2- سورة النحل:75.

عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً (1) و معناه أن للإنسان إذا كان له أمة أو عبد يطلب المكاتبة و هي أن يقوم على نفسه و ينجم عليه [ليؤدي قيمة نفسه إليه فإنه يستحب لسيده أن يجيبه إلى ذلك و يساعده عليه] (2) لدلالة قوله فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً و هذا أمر ترغيب عند الفقهاء و أما عند الطبري و عمر بن دينار و عطاء هو واجب عليه إذا طلب.و المكاتبة على ضربين مشروط و مطلق.فصورة الكتابة المطلقة أن يقول الإنسان لعبده أو أمته قد كاتبتك على أن تعطيني كذا و كذا دينارا أو درهما في نجوم معلومة (3) على أنك إذا أديت ذلك فأنت حر فيرضى العبد و يكاتبه عليه و يشهد بذلك على نفسه فمتى أدى مال الكتابة في النجوم التي سماها صار حرا فإن عجز عن أداء ذلك ينعتق بحساب ما أدى و يبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه.و إن كانت الكتابة مشروطة و هي أن يقول لعبده في حال المكاتبة متى عجزت عن أداء قيمتك فأنت رد في الرق و لي جميع ما أخذت منك فمتى عجز عن ذلك و حد العجز هو أن يؤخر نجما إلى نجم أو يعلم من حاله أنه لا يقدر على أداء ثمنه فإنه يرجع رقا و جاز لمولاه رده إلى الرق.و قوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً الخير الذي يعلم منه هو القوة على التكسب بحيث يحصل به مال الكتابة و قال الحسن معناه إن علمتم منهم صدقا و قال ابن عباس و عطا إن علمتم لهم مالا و قال ابن عمر إن علمتم فيهم قدرة على التكسب قال لأنه إذا لم يقدر على ذلك أطعمني أوساخ أيدي الناس

ص: 216


1- سورة النور:33.
2- الزيادة من ج.
3- النجوم المعلومة هي الدفعات التي يتوافقان على اعطاء المال فيها،فان النجم الوقت المضروب،و يقال نجمت المال إذا أديته نجوما.

فصل

و لا يجوز للسيد أن يكاتب عبده حتى يكون عاقلا فإن كان مجنونا لم يجز مكاتبته

لقوله تعالى فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً و الخير الكسب و الأمانة لأنه تعالى قال وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ و المجنون لا ابتغاء له.و المكاتبة مشتقة من الكتب و هو الضم و الجمع لأنه ضم أجل إلى أجل في عقد المعاوضة على ذلك.و دليل جوازها قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ فأمر بالكتابة.فإذا ثبت هذا فمتى دعا العبد سيده إلى مكاتبته و الحال ما ذكرناه في الآية فالمستحب له أن يجيبه إلى ذلك و ليس بواجب سواء دعاه إلى ذلك بقيمة مثله أو أقل أو أكثر.و اختلفوا في الأمر بالكتابة مع طلب المملوك لذلك و علم مولاه أن فيه خيرا فقال عطا هو فرض و قال مالك و الثوري و ابن زيد هو على الندب و هو مذهبنا.و قوله تعالى وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ (1) أمر من الله أن يعطي السيد مكاتبه من ماله الذي أنعم الله عليه بأن يحط عنه شيئا منه

وَ رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع أَنَّهُ قَالَ : يَحُطُّ عَنْهُ رُبُعُ مَالِ الْكِتَابَةِ (2).

ص: 217


1- سورة النور:33.
2- الدّر المنثور 46/5،و في حديث آخر فيه عن ابن عبّاس عنه عليه السلام قوله: امر اللّه السيّد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه.

و قال سفيان أحب أن يعطيه الربع أو أقل و ليس بواجب و قال ابن عباس أمره بأن يضع عنه من مال الكتابة شيئا و قال الحسن حثه الله على معونته و قال قوم المعنى آتوهم سهمهم يا أرباب الأموال من الصدقة التي ذكرها في قوله وَ فِي الرِّقابِ و يكون السيد داخلا تحت عموم الخطاب أيضا و هو مذهبنا.

فصل

و المسلم إذا كان له عبد كافر فكاتبه لا تصح الكتابة

لقوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً و هذا لا خير فيه و لقوله وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ و هذا ليس من أهلها لأن ذلك من الصدقة و ليس الكافر من أهلها.و روي أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت الآية (1).و لا تنعقد عندنا إلا بأجل و متى كانت بغير أجل معلوم كانت باطلة و كذلك لا بد أن يكون العوض معلوما فإن لم يعين كانت باطلة (2).و أقل ما يجزي فيه أجل واحد عندنا و عند بعضهم أجلان.فإن قيل يجب أن تكون الكتابة جائزة بمال معجل و مؤجل كما يجوز البيع بمال معجل و مؤجل إذ لم يذكر الله في واحد منهما أجلا.قلنا لفظ الكتابة يدل على التأجيل في ذلك إذ لو كانت معجلة لم تكتب ففارقت البيع على أن الكتابة في الآية مجملة لا لها من بيان و قد بينها رسول الله ص على ما ذكرنا لقوله وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ

ص: 218


1- اسباب النزول للواحدى ص 219.
2- الزيادة من م.

باب التدبير

و القرآن يدل عليه على سبيل العموم من آية العتق لأنه جنس من أجناس العتق مع أنه نوع من الوصية.و التدبير (1) هو أن يقول الرجل لمملوكه عبده أو أمته أنت رق في حياتي و حر بعد وفاتي فإذا نوى و قال ذلك ثبت له التدبير و هو بمنزلة الوصية يجوز للمدبر نقضه ما دام فيه الروح فمتى لم ينقضه و مات كان المدبر من الثلث.و التدبير ليس بعتق مشروط لأن العتق بالشرط لا يصح على ما قدمنا و إنما هو وصية بالعتق منصوص عليه مطلق أن يعلقه بموت مطلق فيقول إذا مت فأنت حر و المقيد أن يقيد الموت بشيء يخرج به عن إطلاق فيقول إن مت من مرضي هذا أو في سفري هذا فأنت حر.و أي تدبير كان فإذا مات السيد نظرت فإذا احتمله الثلث عتق كله فإن لم يكن له سواه عتق ثلثه إذا لم يكن عليه دين و دبره فرارا من الدين فإن دبره و عليه دين فرارا منه لم يصح تدبيره فإن دبره ثم استدان بعد ذلك صح التدبير على ما ذكرنا.و صريح التدبير أن يقول إذا مت فأنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق غير أنه لا بد فيه من النية لوجه الله تعالى و سمي مدبرا عن العتق عن دبر حياة سيده يقال دبر عبده تدبيرا إذا علق عتقه لوفاته

ص: 219


1- التدبير تحرير العبد دبر وفاة المولى،أي بعد وفاته،فالمولى مدبر(بتشديد الدال و كسره)و العبد مدبر(بتشديد الدال و فتحه).

باب الزيادات

أما قول الله تعالى وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ فمعناه أنعم تعالى عليه بالإسلام الذي هو أعظم النعم و بتوفيقك لعتقه و محبته وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ (1) بما وفقك الله فيه فهو منقلب في نعمة الله و نعمة رسوله و هو زيد بن حارثة.و في هذا إشارة إلى أن المستحب أن لا يعتق الإنسان إلا من أغنى نفسه و يقدر على اكتساب ما يحتاج إليه.و من أعتق صبيا فالأفضل أن يجعل له شيئا يعينه به على معيشته و ينعم به عليه لأن النعمة إذا أتمت فهي نعمة.و من نذر أن يعتق رقبة مؤمنة غير معينة جاز له أن يعتق صبيا لم يبلغ الحلم مولودا بين مؤمنين أو بحكمه.

مسألة

و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الذين مبتدأ فيكون محله رفعا أو يكون منصوبا بفعل مضمر يفسره فَكاتِبُوهُمْ (2) كقولك زيدا فاضربه و دخلت الفاء في ذلك لتضمنه معنى الشرط.و الكتاب و المكاتبة كالعتاب و المعاتبة و هو أن يقول الإنسان لمملوكه كاتبتك على ألف درهم فإذا أداها عتق على ما ذكرناه و معناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال و وفيته في أجله و كتبت على نفسك أن تفي لي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال و كتبت علي العتق.

ص: 220


1- سورة الأحزاب:37.
2- سورة النور:33.

و يجوز عقد الكتابة على خدمته في مدة معلومة و على عمل معلوم موقت مثل حفر بئر في مكان بعينه معلومة الطول و العرض كما يجوز على مال لعموم قوله تعالى فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فإنه يتناول جميع ذلك إذ لم يخصص سبحانه مقدار الذي يكاتب عليه و لا جنسه

ص: 221

كتاب الأيمان و النذور و الكفارات

اليمن ما هي

اليمين المنعقدة هي أن يحلف الإنسان بالله تعالى أو بشيء من أسمائه أي اسم كان (1).و لا ينعقد إلا بالنية فمتى تجرد عن النية كان لغوا

قال الله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ (2) .و النية إنما يراعى فيها نية المستحلف إذا كان محقا بالظاهر فإذا كان مبطلا على الحقيقة فيما يقول كانت النية نية الحالف.أخبر تعالى أنه لا يؤاخذ بلغو اليمين و لغو اليمين أن يسبق لسانه بغير عقيدة بقلبه كأنه أراد أن يقول لا و الله فقال بلى و الله.و اختلفوا في لغو اليمين في هذه الآية فقال ابن عباس هو ما يجري على اللسان عادة لا و الله و بلى و الله من غير عقد على يمين يقطع بها قال أو

ص: 222


1- قال ابن فارس:سمى الحلف يمينا لان المتحالفين كأنّ أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه-معجم مقاييس اللغة 159/6.
2- سورة المائدة:89.

يظلم بها أحد و هو المروي عنهما ع (1) و قال الحسن هي يمين الظان و هو يرى أنه كما حلف فلا إثم عليه و لا كفارة و عن طاوس أنها يمين الغضبان لا يؤاخذ منها بالحنث و قال زيد بن أسلم هو قول الرجل أعمى الله بصري أو أهلك الله مالي فيدعو على نفسه قال تعالى وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ (2) .و أصل اللغو الكلام الذي لا فائدة فيه و كل يمين جرت مجرى ما لا فائدة فيه حتى صارت بمنزلة ما لم يقع فهي لغو و لا شيء فيها يقال لغا يلغو إذا تكلم بما لا فائدة فيه و اللغو في اللغة ما لم يعتد به.و الصحيح أن لغو اليمين هو الحلف على وجه الغلط من غير قصد مثل قول القائل لا و الله و بلى و الله على سبق اللسان.و لا كفارة في لغو اليمين عند أكثر المفسرين و الفقهاء.و قوله تعالى عَقَّدْتُمُ و عقدتم بالتخفيف و التشديد المراد بها تأكيد الأيمان حتى يكون بمنزلة العقد المؤكد أو يكون المراد أنكم عقدتموها على شيء خلافا لليمين اللغو التي ليست معقودة على شيء لأن الفقهاء يسمون اليمين على المستقبل يمينا معقودة و هي التي يتأتى فيها البر و الحنث و يجب فيها الكفارة.و اليمين على الماضي عندهم ضربان لغو و غموس فاللغو كقول القائل و الله ما فعلت كذا في شيء يظن أنه لم يفعله أو و الله لقد فعلت كذا في شيء يظن أنه فعله فهذه اليمين لا مؤاخذة فيها و أما الغموس (3) فهي اليمين على

ص: 223


1- تفسير البرهان 495/1.
2- سورة يونس:11.
3- قال ابن منظور:اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الاثم ثمّ في النار،و قيل هى التي لا استثناء فيها.و قيل هي اليمين الكاذبة التي تقتطع بها الحقوق،و سميت غموسا لغمسها صاحبها في الاثم ثمّ في النار-لسان العرب(غمس).

الماضي إذا وقعت كذبا كقول القائل و الله ما فعلت و هو يعلم أنه قد فعله فهذه اليمين كفارتها الاستغفار بشرطه لا غير

باب في أقسام الأيمان و أحكامها

ص: 224

قريبا من عاهد عداه بعلى كما يعدى بها عاهد قال تعالى وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ (1) و التقدير يؤاخذكم بالذي عاقدتم عليه ثم حذف الراجع فقال عاقدتم الأيمان .و يجوز أن تكون ما مصدرية فيمن قرأ عقدتم بالتخفيف و التشديد فلا يقتضي راجعا كما لا يقتضيه في قوله تعالى بِما كانُوا يَكْذِبُونَ و القراءات الثلاث يجب العمل بها على الوجوه الثلاثة لأن القراءتين فصاعدا إذا صحت فالعمل بها واجب لأنها بمنزلة الآيتين و الآيات على ما ذكرنا في قوله تعالى يَطْهُرْنَ و يطهرن .

فصل

و اليمين على ثلاثة أقسام أحدها عقدها طاعة و حلها معصية فهذا يتعلق بحنثها كفارة بلا خلاف كقوله و الله لا أشرب خمرا و لا أقتل نفسا ظلما.و الثاني عقدها معصية و حلها طاعة كقوله و الله لا أصلي و لا أصوم فإذا حنث بالصلاة و الصوم فلا كفارة عندنا عليه.و الثالث أن يكون عقدها مباحا و حلها مباحا كقوله و الله لا ألبس هذا الثوب فمتى حنث تعلق به الكفارة إذا لم يكن لبسه أولى و كذا إذا حلف أنه لا يشرب من لبن عنز له و لا يأكل من لحمها و ليس به حاجة إلى ذلك لم يجز له شرب لبنها و لا لبن أولادها و لا أكل لحومهن فإن أكل أو شرب مع ارتفاع الحاجة كانت عليه الكفارة و إن أكل أو شرب لحاجة فليس عليه شيء.فعلى هذا تكون الأيمان على ضربين أحدهما ما لا كفارة عليه و الثاني

ص: 225


1- سورة الفتح:10.

يجب فيها الكفارة فما لا كفارة فيه هو اليمين على الماضي إذا كان كاذبا فيه و إن كان آثما مثل أن يحلف أنه ما فعل و كان فعل أو حلف أنه فعل و ما كان فعل فهاتان لا كفارة فيهما عندنا و عند أكثر الفقهاء.و كذلك إذا حلف على مال لتقطيعه فليس له أن يقتطع و لا كفارة عليه و يلزمه الخروج مما حلف عليه و التوبة و هي اليمين الغموس.و منها أن يحلف على أمر فعل أو ترك و كان خلاف ما حلف عليه أولى من المقام عليه فليخالف و لا كفارة عليه عندنا و ما فيه كفارة فهو أن يحلف على أن يفعل أو يترك و كان الوفاء به واجبا أو ندبا أو كان فعله و تركه سواء فمتى حالف كان عليه الكفارة.

فصل

ص: 226

و قوله مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ فيه قولان أحدهما الخبز و اللحم دون الأدم لأن أفضله الخبز و اللحم و التمر و أوسطه الخبز و الزيت أو السمن و أدونه الخبز و الملح.الثاني أوسطه في المقدورات فكنت تشبع أهلك أو لا تشبعهم بحسب اليسر و العسر فتقدير ذلك هذا قول ابن عباس و عندنا يلزمه أن يعطي كل مسكين مدين و قال قوم يكفيه مد و روي ذلك في أخبارنا (1) فالأول للمغني الواجد و الثاني لمن دونه في الغنى.و قوله أَوْ كِسْوَتُهُمْ فالذي رواه أصحابنا أنه ثوبان لكل واحد مئزر و قميص و عند الضرورة قميص (2) و قال الحسن ثوب.و قوله أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فالرقبة التي تجزي في هذه الكفارة كل رقبة كانت سليمة من العاهة صغيرة كانت أو كبيرة مؤمنة كانت أو كافرة و المؤمنة أفضل لأن الآية مبهمة مطلقة و فيه خلاف و ما قلناه قول أكثر المفسرين من الحسن و غيره و معنى تحرير رقبة جعلها حرة و هذه الثلاثة الأشياء بلا خلاف و عندنا أيضا واجبة على التخيير و قال قوم الواجب منها واحد لا بعينه.و الكفارة قبل الحنث لا تجزي و فيه خلاف. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ أي فكفارته صيام ثلاثة أيام و حد من ليس بواجد هو من ليس عنده ما يفضل عن قوته و قوت عياله يومه و ليلته كما ذكرناه في باب الصوم.و صوم هذه الأيام الثلاثة متتابع و يقويه قراءة ابن مسعود و أبي صيام ثلاثة أيام متتابعات .

ص: 227


1- انظر الكافي 452/7-453.
2- انظر المصدر السابق.

وَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَمَّنْ قَالَ وَ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَفِ [بِهِ] قَالَ كَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مُدّاً مُدّاً دَقِيقٍ أَوْ حِنْطَةٍ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةً إِذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئاً (1) قُلْتُ مَا حَدُّ مَنْ لَمْ يَجِدْ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَسْأَلُ فِي كَفِّهِ وَ هُوَ يَجِدُ قَالَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنْ قُوتِ عِيَالِهِ فَهُوَ لاَ يَجِدُ (2).

"وَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ صِيَامٍ فِي الْقُرْآنِ مُتَتَابِعٌ إِلاَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ. ثم قال ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي حنثتم وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي احفظوها من أن تحلفوا بها و معناه لا تحلفوا و قيل معناه احفظوها من الحنث و هو الأقوى لأن الحلف مباح إلا في معصية بلا خلاف و قيل مكروه في حال الصدق و إنما الواجب ترك الحنث و ذلك يدل على أن اليمين في المعصية غير منعقدة لأنها لو انعقدت للزم حفظها و إذا لم تنعقد لم تلزمه كفارة على ما بيناه

باب حفظ اليمين

[انعقاد اليمين]

اعلم أن من حلف بالله أنه يفعل قبيحا أو يترك واجبا لم تنعقد يمينه و لم تلزمه كفارة إذا فعل ما حلف أنه لا يفعله أو لم يفعل ما حلف أنه يفعله و الدليل عليه أن انعقاد اليمين حكم شرعي بغير شبهة و قد علمنا بالإجماع انعقاد اليمين إذا كانت على طاعة أو مباح فإذا تعلقت بمعصية فلا إجماع و لا دليل يوجب العلم على انعقادها فوجب نفي انعقادها لانتفاء دليل شرعي عليه.

ص: 228


1- إلى هنا في الكافي 453/7.
2- هذا الذيل في حديث في الكافي 452/7 عن ابى إبراهيم(موسى بن جعفر) عليه السلام،و ظاهر السياق هنا انه حديث واحد.

و الذي يكشف عن صحة ما ذكرناه أن الله تعالى أمرنا بقوله وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ (1) بأن نحفظ أيماننا و نقيم عليها كقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) فاليمين المنعقد هي التي يجب حفظها و الوفاء بها و لا خلاف أن اليمين على المعصية بخلافه فيجب أن تكون غير منعقدة و إذا لم تنعقد فلا كفارة فيها.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّادِقُ ع لاَ تَحْلِفُوا بِاللَّهِ صَادِقِينَ وَ لاَ كَاذِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ (3) ثُمَّ قَالَ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ وَ مَنْ لَمْ يَصْدُقْ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ وَ مَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ وَ مَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ (4). و لو حلف الرجل أن لا يحك أنفه لابتلي به (5).فقوله تعالى وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ يدل على أن الحلف صادقا مكروه و في حال الكذب محظور لأن اللفظ الواحد يجوز أن يراد به معنيان مختلفان.

فصل

و قوله تعالى وَ لا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا (6) أي لا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة في كل حق و باطل لأن تبروا في الحلف فيها و تبقوا الإثم

ص: 229


1- سورة المائدة:89.
2- سورة المائدة:1.
3- سورة البقرة:224.
4- هذا الحديث مقطع في الكافي 434/7 و 438،و في من لا يحضره الفقيه 362/3 في حديثين.
5- هذه الجملة في حديث عن الصادق عليه السلام-من لا يحضره الفقيه 362/3.
6- سورة البقرة:224.

فيها و هو المروي عن عائشة لأنها قالت لا تحلفوا به و إن بررتم (1) و به قال الجبائي و هو المروي عن أئمتنا ع (2).و أصله على هذا معترض بالبذل لا تبذل يمينك في كل حق و باطل و قيل في معناه قولان آخران أحدهما أن العرضة علة كأنه قيل لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر و التقوى من حيث تعمدوا لتعتلوا بها و تقولوا قد حلفنا بالله و لم تحلفوا به هذا قول الحسن و أصله في هذا الوجه الاعتراض به بينكم و بين البر و التقوى للامتناع منهما لأنه قد يكون المعترض بين شيئين مانعا من وصول أحدهما إلى الآخر فالعلة مانعة لهذا المعترض و قيل العرضة المعترض قال الشاعر فلا تجعليني عرضة للوائم (3).

الثاني عرضة حجة كأنه قيل لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع أن تبروا و تتقوا بأن تكونوا قد سلف منكم يمين ثم يظهر أن غيرها خير منها فافعلوا الذي هو خير و لا تحتجوا بما سلف من اليمين.و الأصل في هذين القولين واحد لأنه منع من جهة الاعتراض بعلة أو حجة.و قيل إن أصل عرضة قوة فكأنه قيل و لا تجعلوا الحلف بالله قوة لأيمانكم في ألا تبروا و على هذا يكون الأصل العرض لأن بالقوة يتصرف في العرض و الطول فالقوة عرضة لذلك فتقدير أول هذين القولين لا تجعل الله مانعا من

ص: 230


1- الدّر المنثور 268/1 بلفظ«لا تحلفوا باللّه و ان نذرتم».
2- انظر تفسير البرهان 216/1.
3- استشهد به في الكشّاف بلفظ«و لا تجعلونى عرضة للوائم»،و قال في شرح شواهده: قيل البيت لابى تمام،و في ديوان أبى تمام: متى كان سمعى عرضة للوائم و كيف صغت للعاذلين غرائمى انظر الكشّاف 517/4.

البر و التقوى باعتراضك به حالفا و تقدير ثانيهما لا تجعل الله بما تحلف به دائما باعتراضك بالحلف من كل حق و باطل لتكون من البررة و الأتقياء.و قيل في معنى قوله أَنْ تَبَرُّوا ثلاثة أقوال أحدها لأن تبروا على معنى الإثبات الثاني أن يكون على معنى لدفع أن تبروا أو لترك أن تبروا الثالث على تقدير ألا تبروا و حذفت لا لأنه في معنى القسم كقول إمرئ القيس فقلت يمين الله أبرح قاعدا و لو قطعوا رأسي لديك و أوصالي.

أي لا أبرح هذا قول أبي عبيد و أنكر هذا أبو العباس لأنه لما كان معه أن بطل أن يكون جواب القسم.و في موضع أَنْ تَبَرُّوا ثلاثة أقوال أحدها أن موضعه الخفض فحذف اللام عن الخليل و الكسائي.الثاني موضعه النصب قال سيبويه لما حذف الخافض وصل الفعل و هو القياس.الثالث قال قوم موضعه الرفع على أن يكون التقدير أن تبروا و تتقوا فتصلحوا بين الناس أولى و حذف أولى لأنه معلوم المعنى أجازه الزجاج.و قال بعض المفسرين فعلى هذا إذا حلف أن لا يعطي زيدا من معروفه ثم رأى أن بره خير أعطاه و نقض يمينه (1).و عندنا لا كفارة عليه وجوبا و إن كفر كان ندبا و إنما جاز ذلك لأنه لا يخلو من أن يكون حلف يمينا جائزة أو غير جائزة فإن كانت جائزة فهي مقيدة بأن لا يرى ما هو خير فليس في هذا مناقضة للجائز و إن كانت غير جائزة فنقضها غير مكروه.ثم قال لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ

قُلُوبُكُمْ (1) أي لا يلزمكم كفارة في الدنيا و لا عقوبة في الآخرة على اليمين التي تقع منكم لغوا على ما ذكرناه.

ص: 231


1- هذا الفصل إلى هنا مأخوذ من التبيان 225/2-228.

قُلُوبُكُمْ (1) أي لا يلزمكم كفارة في الدنيا و لا عقوبة في الآخرة على اليمين التي تقع منكم لغوا على ما ذكرناه.

فصل

و من حلف أن يؤدب غلامه بالضرب جاز له تركه و لا يلزمه الكفارة قال الله تعالى وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (2) على أنه يمكنه التورية و إن كان حلف مثلا أن يضربه مائة على ما أمره الله تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ (3) .و من حلف أن لا يكلم زيدا حينا وقع على ستة أشهر و الدليل عليه بعد إجماع الطائفة قوله تعالى تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها (4) روي عن ابن عباس أن المراد به ستة أشهر و هذا مروي عن أئمتنا ع (5).و قيل إن الاستدلال عليه من القرآن أن يقال إن اسم الحين يقع في القرآن على أشياء مختلفة يقع على الزمان كله في قوله سبحانه فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (6) و إنما أراد زمان الصباح و المساء كله و مما يقع عليه اسم الحين أيضا من قوله تعالى وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (7)فالمراد به وقت مبهم

ص: 232


1- سورة البقرة:225.
2- سورة البقرة:237.
3- سورة ص:44.و الضغث-بكسر الضاد-قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس -انظر صحاح اللغة 285/1.
4- سورة إبراهيم:25.
5- روى ذلك في أحاديث عن الصادق عليه السلام-انظر تفسير البرهان 311/2.
6- سورة الروم:17.
7- سورة يونس:98.

"وَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ هُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. و مما يقع عليه اسم الحين أيضا أربعون سنة قال الله تعالى هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (1) فذكر المفسرون أنه تعالى أراد أربعين سنة (2).و مع اشتراك اللفظ لا بد من دلالة في حمله على البعض لما روت الإمامية عن أئمتها ع أنه ستة أشهر و أجمعوا عليه كان ذلك حجة في حمله على ما ذكرنا و الله أعلم بالصواب

باب أقسام النذور و العهود و أحكامها

قال الله تعالى وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ (3) فالآية تدل على أن بالنذر يلزم الشيء كما يلزم بإلزام الله لأنه قرنه بالإنفاق الذي أمر الله تعالى به فقال أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ (4) و قال الزجاج يريد ما تصدقتم من فرض لأنه في ذكر الزكاة المفروضة أ لا ترى إلى قوله بعده وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ .قال ابن جرير الظالم هنا من أنفق ماله رياء و سمعة و قيل المراد بالظالم هاهنا من أنفق ماله لا كما أمر الله بوضع الصدقة في غير موضعه لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه و المعتدي في الصدقة كمانعها و الوفاء بالنذر واجب إذا كان في طاعة الله.

ص: 233


1- سورة الإنسان:1.
2- انظر المفردات للراغب ص 138.
3- سورة البقرة:270.
4- سورة البقرة:267.

و النذر عقد فعل شيء من البر على النفس بشرط كأن يقول إن عافى الله مريضي تصدقت بكذا لله و هو من الخوف لأنه يعقد على نفسه مخافة التقصير فيه

و قال تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) .قال الزجاج العقود أبلغ من العهود لأن العهد يكون على استيثاق و غيره و العقد لا يكون إلا العهد الذي أخذ على استيثاق فكأنه قال العقود التي أحكم عقدها أوفوا بها.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى طَاعَةٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ وَ إِنْ كَانَ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزِ الْوَفَاءُ بِهَا وَ إِذَا كَانَ عَلَى مُبَاحٍ جَازَ الْوَفَاءُ. و لم يجب عندنا [أن] يكون كما ذكرنا في باب اليمين على الطاعة و المباح و المعصية قال الله تعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ (2) و قال وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا (3) و أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ (4) و قال وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ (5) و قال وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُلاً (6) .و قال الشيخ أبو جعفر في المبسوط النذر ضربان أحدهما نذر لجاج و غضب و صورته صورة اليمين إما أن يمنع نفسه به فعلا أو يوجب عليها فعل شيء فالمنع أن يقول إن دخلت الدار فمالي صدقة و الإيجاب أن يقول إن لم أدخل الدار فمالي صدقة فإذا وجد شرط نذره فهو بالخيار بين الوفاء به و بين كفارة اليمين.

ص: 234


1- سورة المائدة:1.
2- سورة الإنسان:7.
3- سورة البقرة:177.
4- سورة النحل:91.
5- سورة التوبة:75.
6- سورة الأحزاب:15.

و الضرب الثاني نذر التبرر و الطاعة و هو على ضربين إما أن يعلقه بجزاء أو يطلق فالجزاء إما إسداء نعمة كقولك إن رزقني الله ولدا فلله علي أن أتصدق بمالي و إما دفع نقمة مثل أن تقول إن نجاني الله من البحر فلله علي أن أصوم كذا فإذا وجد شرط نذره لزمه الوفاء (1).و المطلق أن يقول لله علي أن أتصدق بمالي أو أحج أو أصوم و نحو هذا نذر طاعة ابتداء بغير جزاء فعندنا أنه يلزمه و قيل لا يتعلق به حكم لأن ثعلبا قال النذر عند العرب وعد بشرط و الأول أصح عندنا.

فصل

و اعلم أن النذر هو أن تقول إن كان كذا فلله علي كذا من صوم و غيره أو تعتقد أنه متى كان شيئا فلله علي كذا وجب عليك الوفاء به عند حصول ذلك الشيء و متى لم تقل لله و لم تعتقده لله كنت مخيرا في الوفاء به و تركه.و المعاهدة أن تقول عاهدت الله أو تعتقد ذلك أنه متى كان كذا فعلي كذا فمتى حصل شرطه وجب عليك الوفاء به و كذا إن لم تقل لله و لم تعتقده كان مستحبا الوفاء به.و إنما يكون للنذر و العهد تأثير إذا صدرا عن نية.

وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ الْبَاقِرَ أَوِ الصَّادِقَ ع عَنِ امْرَأَةٍ جَعَلَتْ مَالَهَا هَدْياً وَ كُلَّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرّاً إِنْ كَلَّمَتْ أُخْتَهَا أَبَداً قَالَ تُكَلِّمُهَا وَ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إِنَّ هَذَا وَ شِبْهَهُ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ (2) قَالَ تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (3) .

ص: 235


1- انظر المبسوط 246/6،و قد نقله المؤلّف هنا بتغيير و تلخيص.
2- من لا يحضره الفقيه 360/3.
3- سورة النور:21.

و قال المرتضى لا ينعقد النذر حتى يكون معقودا بشرط متعلق به كأن يقول لله علي أن أصوم أو أتصدق إن قدم فلان و لو قال لله علي أن أصوم من غير شرط يتعلق به لم ينعقد نذره قال و الدليل عليه أن معنى النذر في القرآن (1) يكون متعلقا بشرط و متى لم يتعلق بشرط لم يستحق هذا الاسم و إذا لم يكن ناذرا إذا لم يشترط لم يلزمه الوفاء لأن الوفاء إنما يلزم متى ثبت الاسم و المعنى.قال فأما استدلالهم بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و بقوله أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ فليس بصحيح لأنا لا نسلم أنه مع التعري من الشرط يكون عقدا و عهدا و إنما تناولت الآيتان ما يستحق اسم العقد و العهد فعليهم أن يدلوا عليه (2).و الاحتياط فيما قدمناه من أنه يجب الوفاء و إن كان مطلقا.و القائل إذا نذر فقال لله علي أن أصوم كل خميس فإنه يجب عليه صومه أبدا لأنه أيضا في معنى المشروط كأنه قال إن عشت.

فصل

و أما

قوله تعالى وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ (3) فما بمعنى الذي و ما بعدها صلتها و العائد إليها الهاء في قوله يَعْلَمُهُ .و النذر عقد الشيء على النفس في فعل شيء من البر بشرط أو غيره بأن يقول لله علي كذا إن كان كذا و لله علي كذا. فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ أي يجازي عليه فدل بذكر العلم على تحقيق الخبر إيجازا للكلام.

ص: 236


1- كذا في النسختين،و في المصدر«فى اللغة».
2- الانتصار ص 163 مع تغيير في بعض العبارات.
3- سورة البقرة:270.

و قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أمرهم بالإتمام بالوفاء لما لزمهم و العقود هي التي يتعاقدها الناس بينهم أو يعقدها المرء على نفسه كعقد الأيمان و عقد النكاح و عقد الشركة و عقد البيع و عقد العهد و عقد الحلف.و قال بعض المفسرين أراد الوفاء بالنذور فيما يجوز الوفاء به أي أوفوا بالعقود الصحيحة لأنه لا يلزم أحدا أن يفي بعقد فاسد كالنذر في قتل مؤمن ظلما و غصب ماله.و قيل في قوله تعالى وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ (1) هي النذور في المعاصي.و قوله يُوفُونَ بِالنَّذْرِ (2) الوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه و قد ذكرنا أن النذر عقد على فعل على وجه البر بوقوع أمر يخاف أن لا يقع.و كفارة النذر مثل كفارة الظهار فإن لم يقدر كان عليه كفارة اليمين و المعني به أنه إذا فات الوقت الذي نذر فيه صار بمنزلة الحنث و الله أعلم بالصواب

باب أقسام العهد

قال الله تعالى وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ (1) اعلم أن من عاهد الله أن يفعل واجبا أو ندبا أو ما يكون به مطيعا وجب عليه الوفاء به فإن لم يفعل كان عليه الكفارة و كذلك إن عاهد على أن لا يفعل قبيحا أو لا يترك واجبا أو ندبا ثم فعل القبيح أو ترك الطاعة وجب عليه أيضا الكفارة.أمر الله تعالى عباده بأن يفوا بعهده إذا عاهدوا عليه و كذلك قوله وَ أَوْفُوا

بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (2) أي مسئولا عنه للجزاء عليه فحذف عنه لأنه مفهوم.و الآية أمر منه تعالى بالوفاء بالعهود التي تحسن و متى عقد عاقد على ما لا يجوز نقض ذلك العقد الفاسد.و قد يجب الشيء للنذر و العهد و الوعد به و إنما يجب عند العقد و العهد الذي يجب الوفاء به هو كل فعل حسن إذا عقد عليه و عاهد الله ليفعلنه بالعزم عليه فإنه يصير واجبا عليه و لا يجوز له خلافه كما ذكرناه فأما إذا رأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير فلا كفارة عليه و هذا يجوز فيما كان ينبغي أن يشرط فأما إذا أطلقه و هو لا يأمن أن يكون غيره خيرا فقد أساء بإطلاق العقد عليه.ثم قال وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها (3) و هذا نهي منه تعالى عن حنث الأيمان بعد عقدها و توكيدها و في الآية دلالة على أن اليمين على المعصية غير منعقدة لأنها لو كانت منعقدة لما جاز نقضها و أجمعوا على أنه يجب نقضها و لا يجوز الوفاء به.و قد مدح الله المؤمنين فقال وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (3) أي محافظون ما يعاهدون عليه و المراعاة قيام الداعي بإصلاح ما يتولاه و قال تعالى وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ (4) و قال وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ (5) .

ص: 237


1- سورة النحل:91.
2- سورة البقرة:168.
3- سورة الإنسان:7.

بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (1) أي مسئولا عنه للجزاء عليه فحذف عنه لأنه مفهوم.و الآية أمر منه تعالى بالوفاء بالعهود التي تحسن و متى عقد عاقد على ما لا يجوز نقض ذلك العقد الفاسد.و قد يجب الشيء للنذر و العهد و الوعد به و إنما يجب عند العقد و العهد الذي يجب الوفاء به هو كل فعل حسن إذا عقد عليه و عاهد الله ليفعلنه بالعزم عليه فإنه يصير واجبا عليه و لا يجوز له خلافه كما ذكرناه فأما إذا رأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير فلا كفارة عليه و هذا يجوز فيما كان ينبغي أن يشرط فأما إذا أطلقه و هو لا يأمن أن يكون غيره خيرا فقد أساء بإطلاق العقد عليه.ثم قال وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها (2) و هذا نهي منه تعالى عن حنث الأيمان بعد عقدها و توكيدها و في الآية دلالة على أن اليمين على المعصية غير منعقدة لأنها لو كانت منعقدة لما جاز نقضها و أجمعوا على أنه يجب نقضها و لا يجوز الوفاء به.و قد مدح الله المؤمنين فقال وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (3) أي محافظون ما يعاهدون عليه و المراعاة قيام الداعي بإصلاح ما يتولاه و قال تعالى وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ (4) و قال وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ (5) .

ص: 238


1- سورة الإسراء:34.
2- سورة النحل:91.
3- سورة المؤمنون:8.
4- سورة الأحزاب:15.
5- سورة التوبة:75.

و إنما صح أن يعاهد الله من لا يعرفه لأنه إذا وصفه بأخص صفاته جاز أن يعرف عهده إليه فلذلك جاز أن يكون غير عارف و قال تعالى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا (1)

باب الكفارات

أما كفارة اليمين فقد قال الله تعالى فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ (2) أي الثلاثة التي هي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فعل فقد أجزأ مخير فيها و متى عجز عن جميعها كان عليه صيام ثلاثة أيام متتابعات.

وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ع عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ قَالَ ثَوْبٌ وَ عَنْ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِيناً الْجَمْعُ لِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ يُعْطَاهُ قَالَ لاَ وَ لَكِنْ يُعْطِي إِنْسَاناً إِنْسَاناً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْتُ يُعْطِيهَا الرَّجُلُ مَرْأَتَهُ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ قَالَ نَعَمْ (3).

وَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع هُوَ كَمَا يَكُونُ[إِنَّهُ يَكُونُ]فِي الْبَيْتِ مَنْ يَأْكُلُ أَكْثَرَ مِنَ الْمُدِّ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْكُلُ أَقَلَّ مِنَ الْمُدِّ فَبَيَّنَ ذَلِكَ وَ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ لَهُمْ إِدَاماً وَ الْإِدَامُ أَدْنَاهُ الْمِلْحُ وَ أَوْسَطُهُ الْخَلُّ وَ الزَّيْتُ وَ أَرْفَعُهُ اللَّحْمُ (4). و الكفارة فعالة من الكفر و هو الستر و التغطية أي الذي يستر هذا الذنب

ص: 239


1- سورة الأنعام:152.
2- سورة المائدة:89.
3- هذا المضمون ورد في حديثين عن ابى الحسن عليه السلام-انظر تفسير البرهان 496/1.
4- الاستبصار 53/4 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

و هو الحنث في اليمين المعقود عليها حتى يزول عنه العقاب.و الضمير في قوله فَكَفّارَتُهُ يعود إلى الذنب بالحنث بأنه مدلول عنه و قال أبو علي الفارسي أي كفارة ما عقدتم عليه لأن الكفارة أوجبت بالتنزيل فيما عقد عليه دون اليمين التي لم يعقد عليها و المعقود عليه دون ما كان موقوفا على الحنث و البر دون ما لم يكن كذلك.و قال الزجاج أي فكفارة المؤاخذة فيه إذا حنث أن يطعم عشرة مساكين ذكورا كانوا أو إناثا أو مختلطين.و المراد بالرقبة واحد من المماليك و الأصل في ذلك العنق و ما حولها و أريد هاهنا جملة البدن لأنه شبه المملوك بالأسير الذي يشد رقبته فإذا أطلق فك عن رقبته فكذا المملوك إذا أعتق و قال الحسن كل مملوك كالآخر في الجواز فيجوز الكافر أيضا لأن الآية مبهمة.و خير الله الحالف بين هذه الثلاثة و فيه تفاوت لأن إشباع عشرة لا يفي بثمن الرقبة و الله العالم بوجه الحكمة في تسوية هذا بذاك و كذلك الكسوة ثمنها دون الرقبة بكثير و قال الزجاج أكثرها نفعا أفضلها عند الله فإن كان الناس في جدب لا يقدرون على المأكول فالإطعام أفضل لأن به قوام الحياة و إلا فالإعتاق أو الكسوة أفضل.

فصل

و كفارة قتل الخطإ واجبة سواء أخذ أولياء المقتول الدية من العاقلة أو من القاتل أو تصدقوا

قال الله تعالى وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (1) و سواء كان المقتول مؤمنا بين المؤمنين أو مؤمنا و قومه كافرون و القاتل لا يعرف إيمانه و الظاهر أنه مباح الدم أو مؤمنا و قومه معاهدون.

ص: 240


1- سورة النساء:94.

و قيل إن الكفارة أيضا واجبة إذا كان المقتول كافرا بين قوم معاهدين لعموم قوله وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (1) .و اختلفوا في وجوب الكفارة على القاتل عمدا إذا قبل منه الدية أو عفي عنه فقال قوم عليه الدية و لا كفارة و منهم من قال عليه كفارة واجبة كوجوبها في قتل الخطإ لأنها وجبت في الخطإ بالقتل و هو حاصل في العمد.و عندنا كفارة قتل العمد عتق رقبة و إطعام ستين مسكينا و صيام شهرين متتابعين بعد رضاء أولياء المقتول بالدية أو العفو عنه.

فصل

فإن قيل ما تقولون في الكفارة أ هي عقوبة.قلنا الصحيح أن يقال الكفارة للظهار و الوطء في نهار شهر رمضان في الحضر و غير ذلك أنها تقع موقع العقوبة لما ثبت وجوبها إلا فيما يعظم فيه المأثم فأما إن كان عقوبة فيما سواه فكلا و هذا بين لأن تحريم الأكل في نهار شهر رمضان في حال الحضر تكليف فإذا أكل و كفر بعده فإنه على التكفير يستحق المثوبة و ما هذا حاله معدود في النعم فكيف يكون عقوبة و الله أعلم بالصواب

باب الزيادات

قوله تعالى بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بتعقيدكم الأيمان و هو توثيقها بالقصد و النية و المعنى و لكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوما عندهم أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف.

ص: 241


1- سورة المائدة:89.

فَكَفّارَتُهُ أي فكفارة حنثه و نكثه و الكفارة فعلة من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها.

مسألة

و قوله تعالى أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على محل من أوسط و وجهه أن من أوسط بدل من الإطعام و البدل هو المقصود و لذلك كان المبدل منه في حكم المنحي.و الكسوة ثوب يغطي العورة و معنى أو التخيير و إيجاب أحد الكفارات الثلاث على الإطلاق فإنها كلها واجبة على سبيل التخيير بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب.و قوله ذلِكَ أي المذكور كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ و لو قيل تلك كفارة أيمانكم لكان صحيحا على معنى تلك الأشياء أو لتأنيث الكفارة. وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي لا تحنثوا أراد الأيمان لله الحنث فيها معصية و قيل احفظوها كيف حلفتم بها و لا تنسوها تهاونا بها كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي أعلام شريعته.

مسألة

ص: 242

و سمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين

كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ (1). أي على شيء مما يحلف عليه.و قوله أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا عطف بيان لأيمانكم أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر و التقوى و الإصلاح بين الناس.

مسألة

فإن قيل بم تعلقت اللام في قوله لِأَيْمانِكُمْ .قلت بالفعل أي و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم حجازا و يجوز أن يكون اللام للتعليل و يتعلق أَنْ تَبَرُّوا بالفعل أو بالعرضة أي لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم عرضة لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به و لذلك ذم من أنزل فيه وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ (2) بأشنع المذام و جعل كونه حلافا مقدمتها و أن تبروا علة للنهي أي إرادة أن تبروا و تتقوا و تصلحوا لأن الحلاف مجترئ على الله غير معظم له فلا يكون متقيا و لا يثق به الناس فلا يدخلونه في وسائطهم و إصلاح ذات بينهم. لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ (3) أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه و لكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد إلى الكذب في اليمين و هو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله

ص: 243


1- الدّر المنثور 268/1.
2- سورة القلم:10.
3- سورة البقرة:225.

كتاب الصيد و الذباحة

في إباحة الصيد

قال الله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (1) أباح سبحانه صيد البحر مطلقا لكل أحد و أباح صيد البر إلا في حال الإحرام و في الحرم.و قال تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً (2) .

و قال إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (3) أي إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم عنه أن تحلوه و أنتم حرم بمعنى لا حرج عليكم في اصطياده إن شئتم حينئذ لأن السبب المحرم قد زال لأن معناه الإباحة و إن كانت هذه الصورة مشتركة بينها و بين الأمر و الله أعلم

باب أحكام الصيد

أما الذي أحله بقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ فهو على ما قاله المفسرون

ص: 244


1- سورة المائدة:96.
2- سورة البقرة:168.
3- سورة المائدة:2.

الطري منه و أما العتيق فلا خلاف في كونه حلالا.و إذا حل صيد البحر حل صيد الأنهار لأن العرب تسمي النهر بحرا

و منه قوله تعالى ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ (1) و الأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا لكن إذا أطلق دخل فيه الأنهار بلا خلاف.و قوله وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ يعني طعام البحر و في معناه قولان أحدهما ما قذف به ميتا و الثاني أنه المملوح و اختار الرماني الأول و قال إنه بمنزلة ما صيد منه و ما لم يصد منه فعلى هذا تصح الفائدة في الكلام و الذي يقتضيه مذهبنا و يليق به القول الثاني و يكون قوله صَيْدُ الْبَحْرِ المراد به ما أخذ طريا.و قوله وَ طَعامُهُ ما كان منه مملوحا لأن ما يقذف البحر ميتا لا يجوز عندنا أكله لغير المحرم و لا للمحرم إلا إذا قذف به البحر حيا و تحضره أنت فيجوز لك أكله و إن لم تكن صدته و قال الزجاج معنى قوله وَ طَعامُهُ ما ينبت بمائه من الزرع و النبات.و قوله مَتاعاً لَكُمْ مصدر بدل قوله أُحِلَّ لَكُمْ على أنه قد متعكم متاعا أي منفعة للمقيم و المسافر. وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً يقتضي ظاهره تحريم الصيد في حال الإحرام و أكل ما صاده غيره و هو مذهبنا (2).و صيد السمك إخراجه من الماء حيا على أي وجه كان و ما يصيده غير المسلم لا يؤكل إلا ما شوهد و لا يوثق بقوله إنه صاده حيا.

فصل

و قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ

مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ (1) .هذه أبين آية في كتاب الله في الاصطياد و أكل الصيد لأنها أفادت جواز تعليم الجوارح للاصطياد و أكل ما يصيد الكلب و يقتل إذا كان معلما لأنه لو لم يقتله لما جاز أكله حتى يذكى معلما كان أو غير معلم فمعنى الآية يسألك يا محمد أصحابك أي شيء أحل لهم أكله من المطاعم فقل لهم أحل لكم الطيبات أي ما يستلذ منها و هو حلال و أحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح و هي الكواسب من سباع الطير و البهائم.و لا يجوز أن يستباح عندنا أكل شيء مما اصطاده الجوارح و السباع سوى الكلب إلا ما أدرك ذكاته.و قوله وَ ما عَلَّمْتُمْ تقديره و صيد ما علمتم فحذف لدلالة الكلام عليه لأن القوم كانوا سألوا النبي ص حين أمرهم بقتل الكلاب مما يحل لهم اتخاذه منها و صيده فأنزل الله فيما سألوه عنه هذه الآية (2) فاستثنى ع كلاب الصيد و كلاب الماشية و كلاب الحرث مما أمر بقتله و أذن في اتخاذ ذلك.

ص: 245


1- سورة الروم:41.
2- هذا الباب إلى هنا مأخوذ من التبيان 28/4.

مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ (1) .هذه أبين آية في كتاب الله في الاصطياد و أكل الصيد لأنها أفادت جواز تعليم الجوارح للاصطياد و أكل ما يصيد الكلب و يقتل إذا كان معلما لأنه لو لم يقتله لما جاز أكله حتى يذكى معلما كان أو غير معلم فمعنى الآية يسألك يا محمد أصحابك أي شيء أحل لهم أكله من المطاعم فقل لهم أحل لكم الطيبات أي ما يستلذ منها و هو حلال و أحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح و هي الكواسب من سباع الطير و البهائم.و لا يجوز أن يستباح عندنا أكل شيء مما اصطاده الجوارح و السباع سوى الكلب إلا ما أدرك ذكاته.و قوله وَ ما عَلَّمْتُمْ تقديره و صيد ما علمتم فحذف لدلالة الكلام عليه لأن القوم كانوا سألوا النبي ص حين أمرهم بقتل الكلاب مما يحل لهم اتخاذه منها و صيده فأنزل الله فيما سألوه عنه هذه الآية (2) فاستثنى ع كلاب الصيد و كلاب الماشية و كلاب الحرث مما أمر بقتله و أذن في اتخاذ ذلك.

فصل

و اختلفوا في الجوارح التي ذكرت في الآية

"فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْجَوَارِحُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ هُوَ كُلُّ مَا عُلِّمَ الصَّيْدَ فَيَتَعَلَّمُهُ بَهِيمَةً كَانَ أَوْ طَائِراً وَ الْفَهْدُ وَ الْبَازِي مِنَ الْجَوَارِحِ وَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَ أَبِي جَعْفَرٍ ع أَيْضاً (3).

ص: 246


1- سورة المائدة:4.
2- انظر أسباب النزول للواحدى ص 127.
3- وسائل الشيعة 223/6.

و قال قوم عنى بذلك الكلاب خاصة دون غيرها من السباع و هو ما رواه أصحابنا عنهما ع (1) فأما ما عدا الكلب مما أدرك ذكاته فهو مباح و إلا فلا يحل له أكله و بهذا يجمع بين الروايتين و يقوي قولنا قوله سبحانه مُكَلِّبِينَ و ذلك مشتق من الكلب أي في هذه الحال يقال رجل مكلب و كلاب إذا كان صاحب صيد بالكلاب و في ذلك دليل على أن صيد الكلب الذي لم يعلم حرام إذا لم يدرك ذكاته.و قوله تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ معناه تؤدبون الجوارح فتعلمونهن طلب الصيد لكم مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ من التأديب الذي أدبكم به.و قيل صفة المعلم أن يجيبه إذا دعاه و يطلب الصيد إذا أرسله عليه و لا يفر منه و لا يأكل ما يصيده على العادة بل يمسكه إلى أن يلحقه صاحبه فيطعمه منه ما يريده فإن أكل منه على العادة فغير معلم و صيده حرام إلا أن يذكى فإنه إنما أمسكه على نفسه و هو الذي يدل عليه أخبارنا غير أنا نعتبر أن يكون أكل الكلب للصيد دائما فأما إذا كان نادرا فلا بأس بأكل ما أكل منه.و قال قوم لا حد لتعلم الكلاب فإذا فعل ما قلنا فهو معلم و قد دل على ذلك رواية أصحابنا لأنهم رووا أنه إذا أخذ كلب مجوسي فعلمه في الحال فاصطاد به جاز أكل ما يقتله (2).و قد بينا أن صيد غير الكلب لا يحل أكله إلا ما أدرك ذكاته فلا يحتاج أن يراعى كيف يعلمه و لا أكله منه و من أجاز ذلك أجاز أكل ما أكل منه البازي و الصقر ذهب إليه ابن عباس و قال يعلم البازي و هو أن يرجع إلى صاحبه.و قال قوم تعليم كل جارحة من البهائم و الطير واحد و هو أن يشلى على

ص: 247


1- الاستبصار 72/4.
2- انظر الأحاديث في ذلك وسائل الشيعة 227/16.

الصيد فيستشلي (1) و يأخذ الصيد و يدعوه صاحبه فيجيبه فإذا كان كذلك كان معلما و إن أكل ثلثه.و قوله فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يقوي قول من قال ما أكل منه الكلب لا يجوز أكله لأنه أمسك على نفسه.و من شرط استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه سمى عند إرساله فإن لم يسم عمدا لم يحل أكله إلا إذا أدرك ذكاته و حده أن يجده تتحرك عينه أو أذنه أو ذنبه فيذكيه حينئذ بفري الحلقوم و الأوداج.فصل و اختلفوا في من التي في قوله تعالى مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ فقال قوم هي زائدة لأن جميع ما يمسكه فهو مباح و تقديره فكلوا ما أمسكن عليكم (2) و يجرون ذلك مجرى قوله يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ (3) و أنكر قوم ذلك و قالوا من للتبعيض كما يقال أكلت من الطعام تريد أكلت شيئا من الطعام.و الأقوى أن تكون من للتبعيض في الآية لأن ما يمسكه الكلب من الصيد لا يجوز أكل جميعه لأن في جملته ما هو حرام من الدم و الفرث و الغدد و الطحال و المرارة و المشيمة و الفرج و القضيب و الأنثيين و النخاع و العلباء و ذات الأشاجع و الحدق و الخرزة تكون في الدماغ فإذا قال فكلوا مما أمسكن عليكم أفاد ذلك بعض ما أمسكن و هو الذي أباح الله أكله من اللحم و غيره.

ص: 248


1- استشلاه و اشلاه أي استنقذه،و كل من دعوته حتّى تخرجه و تنجيه من موضع هلكة فقد استشليته و اشتليته-صحاح اللغة(شلا).
2- الزيادة من ج.
3- سورة البقرة:271.

و قوله وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ صريح في وجوب التسمية عند الإرسال و هو قول ابن عباس.و قوله أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يدل على أن الكلب متى غاب عن العين مع الصيد ثم رآه ميتا لا يجوز أكله لأنه يجوز أن يكون مات من غير قتل الكلب له و متى أخذ الكلب الصيد و مات في يده من غير أن يجرحه لم يجز أكله و فحوى الآية يدل على هذا أيضا.و عموم الآية يدل على أن من لا يؤكل ذبيحته من أجناس الكفار لا يؤكل صيده فأما الاصطياد بكلابه المعلمة إذا صاد المسلم بها فجائز

باب ما يحرم من الصيد

يحرم أكل الأرنب و الضب و من صيد البحر الجري و المارماهي و كل ما لا فلس له من السمك و الدليل عليه الإجماع المتردد.فإن استدل المخالف

بقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (1) و قال ظاهر الآية يقتضي أن جميع صيد البحر حلال و كذا صيد البر إلا على المحرم خاصة.الجواب أن قوله أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ لا يتناول ظاهره الخلاف في هذه المسألة لأن الصيد مصدر صدت و هو يجري مجرى الاصطياد الذي هو فعل الصائد و إنما يسمى الوحش و ما جرى مجراه صيدا مجازا أو على وجه الخلاف لأنه محل للاصطياد سمي باسمه و إذا كان كلامنا في تحريم لحم الصيد فلا دلالة في إباحة الصيد لأن الصيد غير المصيد.

ص: 249


1- سورة المائدة:96.

فإن قيل قوله وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ يقتضي أنه أراد المصيد دون الصيد لأن لفظة الطعام لا تليق إلا بما ذكرناه دون المصدر.قلنا أ و لا روي عن الحسن البصري في قوله وَ طَعامُهُ أنه أراد به البر و الشعير و الحبوب التي تسقى بذلك فعلى هذا سقط السؤال ثم لو سلمنا أن لفظة الطعام ترجع إلى لحوم ما يخرج من حيوان البحر لكان لنا أن نقول قوله وَ طَعامُهُ يقتضي أن يكون ذلك اللحم مستحقا في الشريعة لاسم الطعام لأن ما هو محرم في الشريعة لا يسمى بالإطلاق فيه طعاما كالخنزير و الميتة فمن ادعى في شيء مما عددنا تحريمه أنه طعام في عرف الشريعة فليدل على ذلك و أنه يتعذر عليه.

فصل

و صيد أهل الكتاب محرم لا يحل أكله و كذلك ذبائحهم

قال الله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ (1) و هذا نص في موضع الخلاف لأن من ذكرناه من الكفار لا يرون التسمية على الذبائح فرضا و لا سنة فهم لا يسمون الله عند إرسال الكلب إلى الصيد و قد أوجبه الله بقوله وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ و كذلك لا يسمون على ذبائحهم و لو سموا لكانوا مسمين لغير الله لأنهم لا يعرفون الله بكفرهم و هذه الجملة تقتضي تحريم ذبائحهم و صيدهم.فإن قيل هذا يقتضي أن لا يحل ذباحة الصبي لأنه غير عارف بالله.قلنا ظاهر الآية يقتضي ذلك و إنما أدخلناه فيمن يجوز ذباحته بدليل و لأن الصبي و إن لم يكن عارفا فليس بكافر و لا معتقد أن الله غير مستحق للعبادة على

ص: 250


1- سورة الأنعام:121.

الحقيقة و إنما هو خال من المعرفة فجاز أن يجري مجرى العارف متى ذبح و تلفظ بالتسمية و هذا كله موجود في الكفار.فإن اعترض علينا بقوله اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ (1) و ادعى أن الطعام يدخل فيه ذبائح أهل الكتاب و صيدهم.فالجواب عن ذلك أن أصحابنا يحملون قوله وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ على ما يؤكل من حبوب و غيرها و هذا تخصيص لا محالة لأن ما صنعوه طعاما من ذبائحهم يدخل تحت اللفظة و لا يجوز إخراجه إلا بدليل.فإذا قلنا نخصصه بقوله وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ قيل لنا ليس أنتم بأن تخصوا آياتنا بعموم آيتكم بأولى منا إذا خصصنا الآية التي تعلقتم بها لعموم ظاهر الآية التي استدللنا بها.و الذي يجب أن نبينه في الفرق بين الأمرين أنه قد ثبت وجوب التسمية عند إرسال الكلب و عند الذبيحة و أن من تركها عامدا لا يكون مذكيا و لا يجوز أكل صيده و ذبيحته على وجه من الوجوه و كل من ذهب إلى هذا المذهب من الأمة يذهب إلى تخصيص قوله وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ و إن ذبائحهم لا تدخل تحته و التفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع.و لا يلزم على ما ذكرنا أن أصحاب أبي حنيفة يوافقونا على وجوب التسمية لأنا نرى وجوب التسمية مع الذكر على كل حال و عند أصحاب أبي حنيفة أنه جائز أن يترك التسمية من أداه اجتهاده إلى ذلك إذا استفتى هذه حاله و الإمامية يذهبون إلى أن التسمية مع الذكر لا تسقط بحال من الأحوال.فإن قيل على هذه الطريقة التي تعتمدونها من الجمع بين المسألتين ما

ص: 251


1- سورة المائدة:5.

أنكرتم من مخالفكم أن يعكس هذه الطريقة عليكم و يقول قد ثبت أن التسمية غير واجبة أو يشير إلى مسألة قد دل الدليل على صحتها عنده ثم يقول و كل من ذهب إلى هذا الحكم يذهب إلى عموم قوله تعالى وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ و التفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع.قلنا الفرق بيننا ظاهر لأنا إذا بنينا على مسألة ضمنا عهدة صحتها و نفي الشبهة عنها و مخالفنا إذا بنى على مسألة مثل أن التسمية غير واجبة أو غير ذلك من المسائل لا يمكنه أن يصحح ما بنى عليه و لا أن يورد حجة قاطعة واضحة بيننا و بين من يتعاطى ذلك و نحن إذا بنينا على مسألة دللنا على صحتها بما لا يمكن دفعه بهذا على التفصيل يخرجه الاعتبار

باب الذبح

الذكاة حكم شرعي و المذكي إذا استقبل القبلة بتوجيه الذبيحة إليها أيضا و سمى الله تعالى يكون مذكيا بيقين فقد صرحوا بأن من ذبح يجب أن يكون مستقبلا و لا يناقضه قولهم ينبغي أن يوجه الذبيحة إلى القبلة فمن لم يستقبل بها القبلة متعمدا لم يجز أكل ذبيحته و إن فعله ناسيا لم يكن به بأس لأن هذا أيضا مما يجب أن يفعل على ما يمكن.

و قوله تعالى فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (1) لم يذكر الله في هذه الآية ذبحا و لكن الأمة أجمعت على أن المراد أنه مباح لكم أكل لحوم ما ذكر اسم الله على تذكيته.و يجب استقبال القبلة عند الذبح مع إمكان ذلك على ما ذكرناه لأن من ذبح غير مستقبل القبلة عامدا قد أتلف الروح و حل الموت في الذبيحة و حلول

ص: 252


1- سورة الأنعام:118.

الموت يوجب أن يكون ميتة و يدخل تحت قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1) إذ لم تقم دلالة على حصول الذكاة المشروعة فيستحق هذا الاسم.و لا يجوز أن يتولى الذباحة غير المسلمين لما ذكرناه من الأدلة

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَنْفَعُ الاِسْمُ فِي الشِّرْكِ وَ لاَ يَضُرُّ النِّسْيَانُ فِي الْمِلَّةِ. و هذا إشارة إلى أن ذبائح المشركين و من ضارعهم و إن ذكروا اسم الله عليها لا يجوز أكلها و أن تذكية أهل الحق العارفين بالله المعترفين بتوحيده و عدله لا بأس بها و إن ترك ذكر اسم الله عليها نسيانا.و معنى قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ لا تأكلوا إلا ما ذكر اسم الله عليه إن كنتم مؤمنين على ما ذكرنا و ليس المراد إن كنتم مؤمنين فكلوا مما ذكر اسم الله البتة لأن المؤمن لا يخرج من أن يكون مؤمنا و إن لم يأكل اللحم قط.فبان أن المراد النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه و الأمر باعتبار تحليل أكل ما ذكر اسم الله عليه حقيقة يدل على ذلك قوله وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (2) و هذا كأنه إنكار على من يرى أنه لا يجوز أكل ما ذكر اسم الله عليه فقيل ما الذي يمنعكم من أكله و كان المشركون ينكرون على المسلمين أن يأكلوا ما قتلوه و يمتنعوا من أكل ما قتله الله فأعلم تعالى أنه أحل ما ذكر اسم الله عليه و حرم غيره من الميتة و ذبيحة المشرك و من بحكمه و قد فصل المحرمات من المأكولات في قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .و إذا ذبحت الذبيحة فلم يخرج الدم و لم يتحرك شيء منها لم يجز أكلها لأنها ميتة ماتت خوفا على ما روي

ص: 253


1- سورة المائدة:3.
2- سورة الأنعام:119.

باب ما يحل أو يكره لحمه

قال الله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ (1) قال قوم أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الضباء و البقر و الحمر غير المستحلين اصطيادها وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ (2) من قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ (3) و الأقوى أن يحمل على عمومه في جميع ما حرمه الله في كتابه.و قال قوم أراد بهيمة الأنعام أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا ذكيت الأمهات و هي ميتة و عندنا أنه إذا ذبح شاة أو غيرها و وجد في بطنها جنين فإن كان قد أشعر أو أوبر و لم يلجه الروح فذكاته ذكاة أمه و إن لم يكن تاما لم يجز أكله على حال و إن كان فيه روح وجبت تذكيته ليحل أكله يدل عليه الخبر إذا روي بالنصب ذكاة أمه (4).و الأنعام على الإطلاق مقصورة على الإبل و البقر و الغنم لأن الله فصل في سورة الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ و لم يذكر إلا هذه الثلاثة.و قال عبد الجبار ما يصاد ليس من الأنعام لأنه تعالى قال فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ (5) فدل هذا على أن المقتول الذي جعل جزاؤه مثله من النعم ليس

ص: 254


1- سورة الأنعام:1.
2- نص الآية «إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ» .
3- سورة المائدة:3.
4- يريد الجملة المروية«فذكاته-أى الجنين في البطن-ذكاة أمه»راجع وسائل الشيعة 270/16.
5- سورة المائدة:95.

من النعم ثم عارض نفسه بقوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ و أجاب بأن ذلك ليس باستثناء و المراد به سوى الصيد المحرم على المحرم فكأنه تعالى بين أن المحلل و المحرم فيه غير الأمر بالإحرام و هو الصيد و هو بيان أمر ثالث سوى ما يحل من الأنعام و يحرم.و قال تعالى يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً (1) و إنما جمع الوصفين لاختلاف الفائدتين إذ وصفه بأنه حلال يفيد أنه طلق و وصفه بأنه طيب يفيد أنه مستلذ إما في العاجل أو الآجل. وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي آثاره و أعماله نزل لما حرم أهل الجاهلية من البحيرة و السائبة و الوصيلة فنهى الله عما كانوا يفعلونه و أمر المؤمنين بخلافه (2).و الإذن في الحلال يدل على حظر الحرام على اختلاف ضروبه و أنواعه فحملها على العموم أولى.و المآكل و المنافع في الأصل للناس فيها ثلاثة أقوال فقال قوم هي على الحظر و قال آخرون هي على الإباحة و منهم من قال بعضها على الحظر و بعضها على الإباحة و هذه الآية دالة على إباحة المأكل إلا ما دل الدليل على حظره.و قال تعالى وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (3) و هي الإبل و البقر و الغنم أي خلقها لمنافعكم.

فصل

و اعلم أن لحوم الخيل و البغال و الحمير مكروهة غير محرمة و بعضها أشد

ص: 255


1- سورة البقرة:168.
2- انظر أسباب النزول للواحدى ص 29.
3- سورة النحل:5.

كراهية من بعض

و يستدل على ذلك بقوله قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ الآية (1).و حرم سائر الفقهاء لحوم الحمر الأهلية و احتجوا عليه بقوله تعالى وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً (2) و أنه تعالى أخبر أنها للركوب و الزينة لا للأكل و الجواب لهم أنها و إن كانت للركوب و الزينة فلا يمتنع أن يكون لغير ذلك أيضا أ لا ترى قول القائل أعطيتك هذا الثوب لتلبسه فلا يمنعه من جواز بيعه أو هبته و الانتفاع به من وجوه شتى و لأن المقصود بالخيل و الحمير الركوب و الزينة و ليس أكل لحومها مقصودا منها ثم إنه لا يمنع من الحمل على الحمير و الخيل و إن لم يذكر الحمل و إنما خص الركوب و الزينة بالذكر.و أكثر الفقهاء يجيزون أكل لحوم الخيل و لا يعملون بمضمون الآية ذكر الركوب و الزينة خاصة

"وَ قَدْ رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ لُحُومِ الْحَمِيرِ كَيْلاَ يَقِلَّ الظَّهْرُ. و ذلك النهي محمول على الكراهة للقرينة

باب ما حلل من الميتة و ما حرم من المذكى

اعلم أن العلم بتحليل ذلك أو تحريمه هو السمع و ليس للعقل فيه مجال فإن وردت العبارة الشرعية بتحريم ما له صفة المباح في العقل امتنع منه و إن أباحت الشريعة ما كان محظورا قيل به و قد نطق الكتاب بتحريم الميتة قال الله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ و أطلقت الأمة القول بتحريم الميتة ثم أجمعت على أن إطلاق قولها بالتحريم و ما ورد به نص الكتاب مخصوص غير محمول على عمومه و شموله و إن اختلفوا فيما هو مباح منها.

ص: 256


1- سورة الأنعام:145.
2- سورة النحل:8.

و الميتة هي كل حيوان صامت مات أو على (1) وجه الذكاة و الذكاة مع الإمكان على ثلاثة أضرب الإبل إذا نحرت من غير تعمد ترك التسمية و السمك و الجراد إذا اصطيدا

لِقَوْلِهِ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ ذَكَاتِهِمَا فَقَالَ صَيْدُهُ ذَكَاتُهُ (2). و ما سوى ذلك مما يعمل فيه الذكاة إذا ذبح و لم يتعمد ترك التسمية على ما ذكرناه في نحر الإبل.فإن قيل ما معنى قولكم مع التمكن من أي شيء تحرزتم به.قلنا نتحرز بذلك من الجمل و البقر و ما جرى مجراهما إذا صال شيء منها أو تردى في بئر و لم يتمكن من تذكيته فإن الأمر ورد بأن ينفح (3) بالرماح أو يرمى بالسهام أو يضرب بالسيوف حتى يموت فتلك ذكاته و إن وقع في غير منحره أو مذبحه و تحرزنا أيضا عما نذكره فأما إذا رمينا صيدا و قد سمينا فأصاب السهم فقتله فإنه لا خلاف بين الأمة في ذكاته و إن لم يقع في مذبحه و كذا ما يقتله الكلب المعلم.

وَ قَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع أُحِلَّ مِنَ الْمَيْتَةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ الصُّوفُ وَ الشَّعْرُ وَ الْوَبَرُ وَ الْبَيْضُ وَ النَّابُ وَ الْقَرْنُ وَ الظِّلْفُ وَ الْإِنْفَحَةُ وَ اللَّبَنُ وَ الْعَظْمُ (4). فالمباح من الميتة عندنا هذه العشرة و الدليل على ذلك إجماع الإمامية على القول بصحته و الفتوى به و يدل عليه قوله تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ

إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ (1) الآية و لا يجوز الحكم بتحريم شيء سوى ما ذكر في الآية إلا بدليل و لا دليل مقطوع به على تحريم شيء مما عددناه.و أما المحظور من المذكى فالمجمع عليه عشر أشياء أيضا الدم و الخصيتين و القضيب و الرحم و المثانة و الغدد و الطحال و المرارة و النخاع و ذات الأشاجع و هي موضع الذبح و مجمع العروق و الدليل على ذلك إجماع الطائفة و الأخبار المتواترة عن أئمة الهدى ع في ذلك.فأما

ص: 257


1- كذا في النسختين،و الظاهر أن الصحيح«لا على وجه الذكاة».
2- ورد ذلك في حديث عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام-انظر وسائل الشيعة 297/16.
3- نفحه بالرمح او السيف:تناوله من بعيد-صحاح اللغة 412/1.
4- الوسائل 363/16 مع اختلاف يسير.

إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ (1) الآية و لا يجوز الحكم بتحريم شيء سوى ما ذكر في الآية إلا بدليل و لا دليل مقطوع به على تحريم شيء مما عددناه.و أما المحظور من المذكى فالمجمع عليه عشر أشياء أيضا الدم و الخصيتين و القضيب و الرحم و المثانة و الغدد و الطحال و المرارة و النخاع و ذات الأشاجع و هي موضع الذبح و مجمع العروق و الدليل على ذلك إجماع الطائفة و الأخبار المتواترة عن أئمة الهدى ع في ذلك.فأما

مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ ع أَنَّهُ قَالَ : حُرِّمَ مِنَ الشَّاةِ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ الدَّمُ وَ الْخُصْيَتَانِ وَ الْقَضِيبُ وَ الْمَثَانَةُ وَ الْغُدَدُ وَ الطِّحَالُ وَ الْمَرَارَةُ (2). فإنه لا يبطل التجاوز إلى العشرة و لو كان لازما للزم من يقل بدليل الخطاب لأن عندهم أن الحكم إذا علق بصفة دل انتفاء الصفة عن غيره على انتفاء الحكم.فهذا مذهب فاسد لأنه غير ممتنع أن يتناول دليل التحريم سبعة أشياء و يأتي دليل آخر على زيادة عليها كما قلناه في مواضع من العبادات الموجب منها و المحظور قال الله تعالى أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (3) فأوجب بهذا اللفظ علينا فعلهما و لم يمنع من إيجاب عبادات أخر بأدلة غير هذا.و كذا قال تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ثم حرم أشياء أخر بالكتاب و غيره فلم يمتنع قوله قُلْ لا أَجِدُ من القول بتحريم أشياء أخر و قد ورد خبر بتحريم أربعين شيئا من المذكى و نحن نحملها على الكراهية لقرينة تدل عليه و نعدل عن تحريمها للإجماع على تحريم تلك العشرة التي ذكرناها فقط

ص: 258


1- سورة الأنعام:145.
2- الكافي 253/6 و الزيادة منه.
3- سورة البقرة:43.

باب الزيادات

قد ذكرنا أنه لا يحل أكل ما قتله غير الكلب المعلم عندنا من ذوات الأربع و الطيور

قال الله تعالى وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ (1) لأنه لو لم نقل مكلبين لدخل في الكلام كل جارح من ذي ناب و ظفر و لما أتى بلفظة مُكَلِّبِينَ و هي تخص الكلاب بلا خلاف بين أهل اللغة علمنا أنه لم يرد بالجوارح جميع ما يستحق هذا الاسم و إنما أراد الجوارح (2) من الكلاب خاصة و يجري ذلك مجرى قولهم ركب القوم نهارهم مبقرين محمرين فإنه لا يحمل و إن كان اللفظ الأول عام الظاهر إلا على ركوب البقر و الحمير.و ليس لأحد أن يقول المكلب في الآية المراد به المفري للجارح الممرن له و المغري فيدخل فيه الكلب و غيره لأنه لا يعرف عن أحد من أهل اللغة العربية أن المكلب هو المغري و المفري بل نصوا في كتبهم على أن المكلب صاحب الكلاب على أنا لو سلمنا أنها قد استعملت في التعليم و التمرين فذلك مجاز و حمل القرآن على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ما أمكن.على أن قوله تعالى وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ يعني أن يكرر و يقول مكلبين لأن من حمل لفظة مكلبين على التعليم لا بد من أن يلزمه التكرار و إذا جعلنا ذلك مختصا بالكلاب أفاد فائدة أخرى لأنه يبان أن هذا الحكم يتعلق بالكلاب دون غيرها.

مسألة

رُوِيَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ع مَرَّ بِسُوقِ الْقَصَّابِينَ فَنَهَاهُمْ عَنْ بَيْعِ أَشْيَاءَ

ص: 259


1- سورة المائدة:4.
2- الزيادة من ج.

مِنْهَا الطِّحَالُ فَقِيلَ مَا الْكَبِدُ وَ الطِّحَالُ إِلاَّ سَوَاءً فَقَالَ ع لَهُ كَذَبْتَ ايتِنِي بِتَوْرَيْنِ مِنْ مَاءٍ (1) أُنَبِّئْكَ بِخِلاَفِ مَا تَقُولُ فَأُتِيَ بِطِحَالٍ وَ كَبِدٍ وَ تَوْرَيْنِ مِنْ مَاءٍ فَقَالَ شُقَّ الْكَبِدَ مِنْ وَسَطِهِ وَ الطِّحَالَ مِنْ وَسَطِهِ وَ اجْعَلْهُمَا فِي الْمَاءِ جَمِيعاً فَفَعَلَ فَلَمْ يَنْقُصْ مِنَ الْكَبِدِ شَيْئاً وَ صَارَ الطِّحَالُ كُلُّهُ دَماً وَ هِيَ جِلْدٌ وَ عُرُوقٌ فَقَالَ هَذَا لَحْمٌ وَ هَذَا دَمٌ (2). و قال تعالى فيه تبيان لكل شيء (3) و قال وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (4) فالقرآن يدل على جميع ذلك جملة و السنة تفصيلا.

مسألة

قوله وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيبات إذا كانت ما موصولة و يجوز أن يكون وَ ما عَلَّمْتُمْ كلاما مستأنفا و جعل ما شرطية و جعل جوابها فَكُلُوا .و المكلب مؤدب الكلاب و اشتق من لفظه فإن استعمل في غيره من السباع فهو كالمجاز فالأولى حمله على الحقيقة

ص: 260


1- التور-بفتح التاء و سكون الواو-اناء من صفر أو حجارة كالاجانة قد يتوضأ منه -لسان العرب(تور).
2- الكافي 253/6 مع اختلاف في الفاظ.
3- في سورة النحل 89 قوله تعالى «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ». .
4- سورة العنكبوت:43.

كتاب الأطعمة و الأشربة

الحلال هو الجائز من الأفعال

مأخوذ من أنه طلق لم يعقد بحظر و المباح مثله.و ليس كل حسن حلالا لأن أفعاله تعالى حسنة و لا يقال إنها حلال إذ الحلال إطلاق في الأفعال لمن يجوز عليه المنع.و قد دللنا على إباحة المآكل إلا ما دل الدليل على حظره

و قد استدل بقوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (1) على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها و لم تجر مجرى المحظورات من العقل خلقت في الأصل مباحة قد أطلق لكل أحد أن يتناولها و يستنفع بها كالماء من البحر و الحطب و نحوه من البر فليست على هذا الوجه على العموم بل هو مخصوص.و قيل معناه خلقها لأجلكم و لانتفاعكم به في دنياكم و دينكم بالنظر إليها

ص: 261


1- سورة البقرة:29.

باب ما أباحه الله من الأطعمة

قال الله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ (1) الطيب في الأصل خلاف الخبيث و هو على ثلاثة أقسام الطيب المستلذ و الطيب الجائز و الطيب الطاهر و الأصل واحد و هو المستلذ إلا أنه وصف به الطاهر و الجائز تشبيها إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع كالذي يتكد هذه النفس في الصرف عنه و ما يدعو إليه بخلاف ذلك فالطيب الحلال و الطيب النظيف.و اختلفوا في معنى الطيبات في الآية فقال البلخي هو ما يستطاب و يستلذ و قال الطبري و غيره هو الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح و الأول أولى لأن الثاني يؤول تقديرا إلى ما لا فائدة فيه و هو يسألونك ما الذي هو حلال لهم فقيل الذي هو حلال لكم هو الحلال و هذا لا معنى له.و إذا كان المراد بالذي أحل المستلذ حسن أن يقال إن الأشياء التي حرمت غير مستلذة لأنه لا يميل كل أحد إلى الميتة و الدم أيضا ليس من طيبات الرزق فقل لهم الطيبات من المأكولات محللة لكم.و الضمير في يَسْئَلُونَكَ للمؤمنين الذين حرم عليهم ما فصل في الآية الأولى من قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ الآية أي يسألونك تفصيل المحللات فقل أحل لكم الطيبات قال أبو علي كل ما لم يجر ذكره في آيات التحريم كله حلال.و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و نحوه قوله يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً إلا أن تلك الآية خطاب للمؤمنين

ص: 262


1- سورة المائدة:4.

و هذه خطاب لجميع الناس يعني أن من آمن بالله لا يحل و لا يحرم إلا بأمره و من امتنع من أكل ما أحل الله فقد خالف أمره و الله أحل المستلذ.فقوله كُلُوا يحتمل أن يكون إباحة و تخييرا و أمرا على الإيجاب أو الندب فالأمر في وقت الحاجة إليه إذ لا يجوز لأحد أن يترك ذلك حتى يموت مختارا مع إمكان تناوله.و الإذن على أن أكل المستلذ مما ملكتم و هو الحلال مباح لكم و في الآية دلالة على النهي عن أكل الخبيث في قول بعض المفسرين كأنه قيل كلوا من الطيب دون الخبيث كما لو قال كلوا من الحلال لكان ذلك دالا على حظر الحرام و هذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم فأما غير ذلك فلا يدل على قبح ضده لأن قول القائل كل من مال زيد لا يدل على أن المراد تحريم ما عداه لأنه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصة و ذكر الشرط هاهنا إنما هو على وجه المظاهرة في الحجاج.قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ و التحريم هو العقد على ما لا يجوز فعله للعبد و التحليل حل ذلك العقد و ذلك كتحريم السبب بالعقد على أهله فلا يجوز لهم العمل فيه و تحليله تحليل ذلك العقد و ذلك يجوز لهم الآن العمل فيه. وَ لا تَعْتَدُوا إلى ما حرم عليكم و اعتداء الحد مجاوزة الحكمة إلى ما نهى عنه الحكيم و زجر عنه إما بالعقل أو بالسمع.ثم قال تعالى وَ كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً و الرزق هو ما للحي الانتفاع به و ليس لغيره معه منه.فإن قيل إذا كان الرزق لا يكون إلا حلالا فلم قال الله تعالى حَلالاً طَيِّباً قلنا ذكر ذلك على وجه التأكيد كقوله وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً (1)

ص: 263


1- سورة النساء:164.

و الطيب قد يكون مستلذا و قد أطلق في موضع آخر فقال وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (1) .ثم اعلم أن الطيب يقع على الحلال كقوله يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ (2) و يقع على الطاهر كقوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (3) و يقع على ما لا أذى فيه كما يقال زمان طيب و مكان طيب للذي لا حر فيه و لا برد و يقع على ما يستطاب من المأكول يقال هذا طعام طيب لما تستطيبه النفس و لا تنفر منه.

فصل

ثم

قال تعالى اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ (4) أي ما تستطيبونه و لا تستخبثونه فردهم إلى عادتهم و لا يمنع أن يقال المراد به ما لا أذى فيه من المباح الذي ليس بمحرم فكأنهم لما سألوه عن الحلال فقال هو ما لا يستحق المدح و الذم بتناوله و ذلك عام في جميع المباحات سواء علمت كذلك عقلا أو شرعا.و من اعتبر العرف و العادة اعتبر عرف أهل الترف و الغنى و المكنة الذين كانوا في القرى و الأمصار على عهد النبي ص حال الإخبار دون من كان من أهل البوادي من جفاة العرب.فإذا قيل عادتهم مختلفة قلنا اعتبرنا العام الشائع دون الشاذ النادر.و قوله تعالى وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ مبتدأ و خبر و ذلك يخص عند أكثر أصحابنا بالحبوب لأنها المباحة من أطعمة أهل الكتاب فأما ذبائحهم و كل مائع يباشرونه بأيديهم فإنه ينجس و لا يحل استعماله.و تذكيتهم لا تصح لأن من شرط صحتها التسمية لقوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا

مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (1) و هؤلاء لا يذكرون اسم الله عليه و إذا ذكروا قصدوا بذلك اسم من أبد شرع موسى أو عيسى ع أو اتخذ عيسى أو عزيرا ابنا و كذب محمدا ع و ذلك غير الله عز و جل و قد حرمه الله بقوله وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ (2) . وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي إنه حلال لهم سواء قبلوه أو لم يقبلوه و قيل حلال للمسلم بذله لهم و لو كان محرما لما جاز للمسلم بذله إياهم.و قوله فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (3) الذكر المأمور به هو قول بسم الله و قيل كل اسم يختص الله به أو صفة تختصه كقول بسم الله الرحمن أو باسم القديم أو باسم القادر لنفسه أو باسم العالم لنفسه و ما جرى مجرى ذلك فالأول مجمع على جوازه و الظاهر يقتضي جواز غيره و لقوله تعالى قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (4) و هذا يقتضي مخالفة المشركين في أكلهم ما لم يذكر اسم الله عليه فأما ما لم يذكر عليه اسم الله سهوا أو نسيانا من المؤمنين فإنه يجوز أكله على كل حال.و الاسم إنما يكون لمسمى مخصوص بالقصد و ذلك مفتقر إلى معرفته و اعتقاده و الكفار على مذهبنا لا يعرفون الله فكيف يصح منهم تسميته تعالى فلا يجوز أكل ذبائح الكفار لهذا.ثم قال وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (5) أي لم لا تأكلوا و بينهما فرق لأن لم لا تفعل أعم من حيث إنه يكون لحال يرجع إلى غيره

ص: 264


1- سورة البقرة:3.
2- سورة المؤمنون:51.
3- سورة النساء:43.
4- سورة المائدة:5.

مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (1) و هؤلاء لا يذكرون اسم الله عليه و إذا ذكروا قصدوا بذلك اسم من أبد شرع موسى أو عيسى ع أو اتخذ عيسى أو عزيرا ابنا و كذب محمدا ع و ذلك غير الله عز و جل و قد حرمه الله بقوله وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ (2) . وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي إنه حلال لهم سواء قبلوه أو لم يقبلوه و قيل حلال للمسلم بذله لهم و لو كان محرما لما جاز للمسلم بذله إياهم.و قوله فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (3) الذكر المأمور به هو قول بسم الله و قيل كل اسم يختص الله به أو صفة تختصه كقول بسم الله الرحمن أو باسم القديم أو باسم القادر لنفسه أو باسم العالم لنفسه و ما جرى مجرى ذلك فالأول مجمع على جوازه و الظاهر يقتضي جواز غيره و لقوله تعالى قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (4) و هذا يقتضي مخالفة المشركين في أكلهم ما لم يذكر اسم الله عليه فأما ما لم يذكر عليه اسم الله سهوا أو نسيانا من المؤمنين فإنه يجوز أكله على كل حال.و الاسم إنما يكون لمسمى مخصوص بالقصد و ذلك مفتقر إلى معرفته و اعتقاده و الكفار على مذهبنا لا يعرفون الله فكيف يصح منهم تسميته تعالى فلا يجوز أكل ذبائح الكفار لهذا.ثم قال وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (5) أي لم لا تأكلوا و بينهما فرق لأن لم لا تفعل أعم من حيث إنه يكون لحال يرجع إلى غيره

ص: 265


1- سورة الأنعام:121.
2- سورة البقرة:173.
3- سورة الأنعام:118.
4- سورة الإسراء:110.
5- سورة الأنعام:119.

و أما ما لك لا تفعل فحال يرجع إليه و المعنى أي شيء لكم في أن لا تأكلوا و قيل ما منعكم أن تأكلوا لأن ما لك أن تفعل و ما لك لا تفعل بمعنى و اختار الزجاج الأول. وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يعني ما ذكره في مواضع من قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية و غيرها. إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ معناه إلا إذا خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع و ترك التناول فحينئذ يجوز لكم تناول ما حرمه الله في قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ .و اختلفوا في مقدار ما يسوغ تناوله حينئذ له فعندنا لا يجوز أن يتناول إلا ما يمسك الرمق و من الناس من قال يجوز له أن يشبع منه إذا اضطر إليه و أن يحمل معه منها حتى يجد ما يأكل.قال و في الآية دلالة على أن ما يكره عليه من هذه الأجناس يجوز أكله لأن المكره يخاف على نفسه مثل المضطر.

فصل

و قال تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) .أمر الله نبيه ع أن يقول لهؤلاء الكفار إنه لا يجد فيما أوحى الله إليه شيئا محرما إلا هذه الثلاثة و قيل إنه خص هذه الأشياء الثلاثة بذكر التحريم مع أن غيرها محرم مما ذكره تعالى في المائدة كالمنخنقة و الموقوذة

ص: 266


1- سورة الأنعام:145.و في النسختين «إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .

لأن جميع ذلك يقع عليه اسم الميتة و في حكمها فبين هناك بالتفصيل و هنا على الجملة.و أجود من ذلك أن يقال خص الله هذه الثلاثة تعظيما لتحريمها و بين ما عداها في موضع آخر.و قيل إنه تعالى خص هذه الأشياء بنص القرآن و ما عداه بوحي غير القرآن.و قيل إن ما عداه حرم فيما بعد بالمدينة و السورة مكية.و الدم المسفوح هو المصبوب و إنما خص المسفوح بالذكر لأن ما يختلط منه باللحم مما لا يمكن تخليصه منه لقلته معفو مباح و قال قوم إنما قال مسفوحا لأن الكبد يشبه الدم الجامد و إن لم يكن دما فليس بحرام فذكر المسفوح ليبين الحلال من الحرام فأما الطحال فإنه إذا ثقب و طرح في الماء فيسيل كله لأنه دم و هو حرام.و قوله أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فإنه و إن خص لحمه بالذكر هنا فإن جميع ما يكون منه من الشحم و الجلد و الشعر محرم. فَإِنَّهُ رِجْسٌ يعني ما تقدم ذكره و لذلك كنى عنه بكناية الذكر و الرجس كل مستقذر منفور عنه.و قوله أَوْ فِسْقاً عطف على قوله أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ و المراد بالفسق ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ و كان ابن عباس و عائشة يتعلقان بظاهر هذه الآية في إباحة لحوم الحمير.و ثم قال فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قيل فيه قولان أحدهما غير طالب بأكله التلذذ و الثاني غير قاصد لتحليل ما حرمه الله و روى أصحابنا أن المراد به الخارج على الإمام العادل و قطاع الطريق فإنهم لا يرخصون ذلك على كل حال.

ص: 267

وَ لا عادٍ أي لا يعتدي بتجاوز ذلك إلى ما حرمه الله و الضرورة التي تبيح أكل الميتة هي خوف التلف على النفس من الجوع.و قد استدل قوم بهذه الآية على إباحة ما عدا هذه الأشياء المذكورة و هذا ليس بشيء لأن هنا محرمات كثيرة غيرها كالسباع و كل ذي ناب و كل ذي مخلب و غير ذلك من البهائم و المسوخ مثل الفيلة و القردة.و يمكن أن يستدل بهذه الآية على تحريم الانتفاع بجلد الميتة فإنه داخل تحت التعدي.

فصل

و قوله تعالى وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ (1) أخبر تعالى أنه حرم على اليهود في أيام موسى ع كل ذي ظفر

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهُ كُلُّ مَا لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ كَالْإِبِلِ وَ النَّعَامِ وَ الْبَطِّ وَ الْإِوَزِّ. و أخبر تعالى أيضا أنه كان حرم عليهم شحوم البقر و الغنم مما في أجوافهما و استثنى من ذلك بقوله إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما فإنه لم يحرمه و استثنى أيضا ما على الحوايا من الشحم فإنه لم يحرمه و استثنى أيضا من جملة ما حرم ما اختلط بعظم و هو شحم الجنب و الألية لأنه على العصعص.و هذه الأشياء و إن كانت محرمة في شرع موسى ع فقد نسخ الله تحريمها و أباحها على لسان محمد ص.ثم قال تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ معناه أنا حرمنا ذلك عليهم عقوبة لهم على بغيهم.

ص: 268


1- سورة الأنعام:146.

فإن قيل كيف يكون التكليف عقابا و هو تابع للمصلحة و مع ذلك فهو تعريض للثواب.قلنا إنما سماه عقوبة لأن عظيم ما أتوه من المعاصي اقتضى تحريم ذلك فيه عقوبة و تعيين المصلحة و حصول اللطف و لو لا جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك. وَ إِنّا لَصادِقُونَ يعني فيما أخبر به من أن ذلك عقوبة لأوائلهم و مصلحة لمن بعدهم إلى وقت النسخ و الصحيح أن تحريم ذلك لما كان مصلحة عند هذا الإقدام منهم جاز أن نقول حرم عليهم بظلمهم لما روي أن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه

باب الأطعمة المحظورة

قال الله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ (1) الآية بين تعالى في هذه الآية ما استثناه في قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ (2) فهذا مما تلاه علينا فقال سبحانه مخاطبا للمكلفين حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ و هي كل ما فارقته الحياة من دواب البر و طيره بغير تذكية

وَ اسْتَثْنَى النَّبِيُّ ص مِنْهَا السَّمَكَ وَ الْجَرَادَ فَقَالَ مَيْتَتَانِ مُبَاحَتَانِ (3). ثم قال تعالى وَ الدَّمُ أي حرم عليكم الدم فقيل إنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر و يشوونها و يأكلونها فأعلم الله أن الدم المسفوح أي

ص: 269


1- سورة المائدة:3.
2- سورة المائدة:1.
3- هذا المضمون مرويّ عن طريق العامّة-انظر معجم مفهرس الفاظ الحديث 301/6.

المصبوب حرام فأما اللحم المتلطخ بالدم و ما يرى أنه منه مثل الكبد فهو مباح و أما الطحال فهو الدم المسفوح على ما ذكرناه و إنما شرطنا في الدم الحرام ما كان مسفوحا لأنه تعالى بين ذلك في الآية الأخرى فقال تعالى أَوْ دَماً مَسْفُوحاً (1) .ثم قال وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ أي حرم عليكم لحم الخنزير أهليه و بريه فالميتة و الدم مخرجهما في الظاهر مخرج العموم و المراد بهما الخصوص و لحم الخنزير مخصوص ظاهره مع أن كل ما كان من الخنزير حرام كلحمه من الشحم و الجلد و غير ذلك فالمراد به العموم.و قوله تعالى وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ أي و حرم عليكم ما أهل لغير الله به أي ما ذبح للأصنام و الأوثان مما يقرب به من الذبح لغير الله أو رفع الصوت عليه بغير اسم الله حرام.و كل ما حرم أكله مما عددناه يحرم بيعه و ملكه و التصرف فيه.و الخنزير يقع على المذكر و المؤنث.و في الآية دلالة على أن ذبائح كل من لم يذكر اسم الله عليه حرام سواء كان كافرا أو من دان بالتجسم و الصورة أو قال بالجبر و التشبيه أو خالف الحق فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته.و قد قدمنا أن التسمية على الذبيحة واجبة فإن تركها ناسيا لم يكن به بأس.

فصل

ثم قال تعالى وَ الْمُنْخَنِقَةُ قال السدي هي التي تدخل رأسها بين شعبتين

ص: 270


1- سورة الأنعام:145.

من شجرة فتختنق و تموت و قال الضحاك هي التي تختنق و تموت و قال قتادة هي التي تموت في خناقها و قال كان أهل الجاهلية يخنقونها ثم يأكلونها.و الأولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك سواء كان بشيء من قبلها أو من قبل غيرها لأنه تعالى وصفها بالمنخنقة و لو كان الأمر على ما ذكره قتادة فقط لقال و المخنوقة.و قوله تعالى وَ الْمَوْقُوذَةُ يعني التي تضرب حتى تموت. وَ الْمُتَرَدِّيَةُ التي تقع من جبل أو تقع في بئر فتموت فإن وقعت في شيء من ذلك و يعلم أنها لم تمت بعد و لم يقدر على موضع ذكاته جاز أن تطعن و تضرب بالسكين في غير المذبح حتى تبرد ثم تؤكل. وَ النَّطِيحَةُ و هي التي تنطح أو ينطح.فإن قيل كيف تكون بمعنى المنطوحة و قد ثبت فيها الهاء و فعيل إذا كان بمعنى مفعول لا يثبت فيه الهاء مثل عين كحيل و كف خضيب.قلنا اختلف في ذلك فقال البصريون أثبت في النطيحة الهاء لأنها جعلت كالاسم مثل الطويلة فوجه التأويل النطيحة أي معنى الناطحة و يكون المعنى حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها و قال بعض الكوفيين إنما يحذف هاء الفعيل بمعنى المفعول إذا كان مع الموصوف فأما إذا كان منفردا فلا بد من إثبات الهاء فيقال رأيت قتيله.و القول بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول أكثر المفسرين لأنهم أجمعوا على تحريم الناطحة و المنطوحة إذا ماتتا.و قوله وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ أي و حرم عليكم ما أكل السبع بمعنى ما قتله السبع قاله ابن عباس و هو فريسة السبع إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموها من هذه الأشياء التي وصفها و موضع ما نصب بالاستثناء.

ص: 271

و اختلف في الاستثناء إلى ما ذا يرجع فقال قوم يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إلا ما لا يقبل الذكاة من لحم الخنزير و الدم و هو الأقوى و هو المروي عن علي ع و ابن عباس قال و هو أن تدركه يتحرك رجله أو ذنبه أو تطرف عينه و هو المروي عنهما ع.و قال آخرون هو استثناء من التحريم لأنه من المحرمات لأن الميتة لا ذكاة لها و لا الخنزير قالوا و المعنى حرمت عليكم الميتة و الدم و سائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما أحله الله تعالى له بالتذكية فإنه حلال لكم.و سئل مالك عن الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاؤها فقال لا أرى أن تذكى و لا تؤكل أي شيء يذكى منها.و قال كثير من الفقهاء إنه يراعى إن يلحق و فيه حياة مستقره فيذكى فيجوز أن يؤكل فأما ما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة فلا يجوز بحال.

فصل

فإن قيل فما وجه تكرير

ص: 272

و قال السدي إن ناسا من العرب كان يأكلون جميع ذلك و لا يعدونه ميتا إنما يعدون الميتة التي تموت من الوجع.فإن قيل قد جاء في البقرة وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ و في المائدة و في الأنعام و في النحل وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فما وجه ذلك.قلنا الأصل ما جاء في سورة البقرة لأن الباء التي يتعدى بها الفعل بمنزلة جزء منه تقول ذهبت بزيد و أذهبته و ما يتعدى إليه الفعل باللام لا يتنزل منه اللام منزلة الجزء منه فالباء أحق بالتقديم لأن معنى أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ذبح لغير الله أي سمي عليه بعض الآلهة إن لم يكن الذابح ممن يعرف الله فيسميه.فالأصل ما هو في البقرة ثم لما كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلا إذا كان ما عدا الأصل فتقديم المستنكر أولى أ لا ترى أنهم يقدمون المفعول إذا كانوا ببيانه أعنى (1) فيقولون ضرب عمرا زيد فلهذا بدئ في البقرة ثم قدم في المواضع الثلاثة الاسم و هو ذكر المستنكر في غير الله.و التذكية هي فري الأوداج و الحلقوم إذا كانت فيه حياة و لا يكون بحكم الميت و الذكاة في اللغة تمام الشيء فالمعنى على هذا في قوله تعالى إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ أي ما أدركتم ذبحه على التمام.

فصل

ثم قال تعالى وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فالنصب الحجارة التي كانوا يعبدونها و هي الأوثان واحدها نصاب و يجوز أن يكون واحدا و الجمع أنصاب (2).

ص: 273


1- أعنى:أشدّ عناية«ج».
2- قال ابن منظور:النصب و النصب-بفتح النون و سكون الصاد في الأول و ضم النون و الصاد في الثاني-كل ما عبد من دون اللّه تعالى و الجمع أنصاب،و قال الزجاج.

و الفرق بين هذا و بين ما أهل به لغير الله أن المراد ما يصدق به تقربا إلى الأنصاب و المراد بالأول ما ذبحه الكافر أو من سمى غير الله عند ذبحه على ما ذكرناه لأي شيء ذبحه من بيع أو إضافة أو تصدق.و قال ابن جريح النصب ليست أصناما و إنما كانت حجارة تنصب إذا ذبحوا لآلهتهم جعلوا اللحم على الحجارة و نضجوا الدم على ما أقبل من البيت فقال المسلمون عظمت الجاهلية البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه فأنزل الله تعالى لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها (1) الآية (2).و قوله وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ أي و حرم عليكم الاستقسام بالأزلام و هي سهام كانت الجاهلية يطلبون قسم الأرزاق بها و يتفألون بها في أسفارهم و ابتداءات أمورهم و به قال ابن عباس.و قال مجاهد هي سهام العرب و كعاب فارس و الروم (3).و الأنصاب الأصنام و إنما قيل لها ذلك لأنها كانت تنصب للعبادة لها قال تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ (4) .و الميسر القمار و عن أبي جعفر ع يدخل فيه الشطرنج و النرد

ص: 274


1- سورة الحجّ:37.
2- النصب-بضمتين-جمع واحدها نصاب،قال و جائز أن يكون واحدا و جمعه أنصاب- لسان العرب(نصب).
3- قال الازهرى:الازلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر و نهى و افعل و لا تفعل،قد زلمت و سويت و وضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت،فإذا أراد رجل سفرا او نكاحا أتى السادن فقال اخرج لي زلما،فيخرجه و ينظر إليه،فإذا خرج قدح الامر مضى على ما عزم عليه و ان خرج قدح النهى قعد عما أراده،و ربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه فإذا أراد الاستقسام أخرج احدهما-لسان العرب(زلم).
4- سورة المائدة:90.

حتى اللعب بالجوز (1).

وَ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع أَنَّهُ قَالَ : الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْعَجَمِ. و الأزلام القداح و هي سهام كانوا يجلبونها للقمار.قال الأصمعي كان الجزور يقسمونه على ثمانية و عشرين جزءا و ذكرت أسماؤها مفصلة و هي عشرة منها ذوات الحظوظ سبعة.ثم قال رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فوصفها بذلك يدل على تحريمها.

فصل

أما قوله تعالى كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ (2) فقد كان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي ص لحوم الإبل فبين الله أنها كانت محللة لإبراهيم و ولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه و هو يعقوب نذر إن برأ من النسا أن يحرم أحب الطعام و الشراب إليه و هي لحوم الإبل و ألبانها فلما برأ وفى بنذره فحاجهم النبي ص بالتوراة فلم يجسروا أن يحضروها لعلمهم بصدق محمد ص (3).فإن قيل كيف يجوز للإنسان أن يحرم شيئا و هو لا يعلم ما له فيه من المصلحة مما له فيه المفسدة.قلنا يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك و أعلمه و كان الله أذن لإسرائيل في هذا النذر و لذلك نذر فأما غير الأنبياء و الأوصياء فلا يجوز لهم مثل ذلك

ص: 275


1- مجمع البيان 239/2.
2- سورة آل عمران:93.
3- انظر أسباب النزول للواحدى ص 75.

باب الأشربة المباحة و المحظورة

قال الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ (1) قال أكثر المفسرين الخمر عصير العنب الني إذا اشتد و قال جمهور أهل المدينة كل ما أسكر كثيره فهو خمر و هو الظاهر في رواياتنا.و اشتقاقه في اللغة من قولهم خمرت الشيء أي سترته لأنها تغطي على العقل.و كل ما أسكر على اختلاف أنواعه حرام قليله و كثيره لاشتراكهما في المعنى إذ يجري عليهما أجمع جميع أحكام الخمر.و قوله تعالى قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فالمنافع التي في الخمر ما كانوا يأخذونه في أثمانها و ربح تجارتها و ما فيها من اللذة بتناولها أي فلا يغتروا بالمنافع التي فيها فضررها أكثر من نفعها.قال الحسن و هذه الآية تدل على تحريم الخمر لأنه مع ذكر أن فيها إثما و قد حرم الله الإثم في قوله قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ (2) على أنه تعالى قد وصفها بأن فيها إثما كبيرا و الإثم الكبير محرم بلا خلاف.و قال قوم المعنى أن الإثم بشرب هذه و القمار بهذا أكبر و أعظم لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض و قاتل بعضهم بعضا.قال قتادة و إنما يدل على تحريمها الآية التي في المائدة من قوله إِنَّمَا

الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ (1) أخبر الله تعالى أن هذه الأشياء رجس من عمل الشيطان ثم أمرنا باجتنابها بأن قال فَاجْتَنِبُوهُ أي كونوا على جانب منها أي في ناحية.ففي الآية دلالة على تحريم الخمر و على تحريم هذه الأشياء من أربعة أوجه أحدها أنه وصفها بأنها رجس و الرجس و النجس بلا خلاف محرم.الثاني نسبها إلى عمل الشيطان و ذلك لا يكون إلا محرما.الثالث أنه تعالى أمرنا باجتنابه و الأمر يقتضي الإيجاب شرعا.الرابع أنه جعل الفوز و الفلاح في اجتنابه.و الهاء في قوله فَاجْتَنِبُوهُ راجعة إلى عمل الشيطان.

ص: 276


1- سورة البقرة:219.
2- سورة الأعراف:33.

الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ (1) أخبر الله تعالى أن هذه الأشياء رجس من عمل الشيطان ثم أمرنا باجتنابها بأن قال فَاجْتَنِبُوهُ أي كونوا على جانب منها أي في ناحية.ففي الآية دلالة على تحريم الخمر و على تحريم هذه الأشياء من أربعة أوجه أحدها أنه وصفها بأنها رجس و الرجس و النجس بلا خلاف محرم.الثاني نسبها إلى عمل الشيطان و ذلك لا يكون إلا محرما.الثالث أنه تعالى أمرنا باجتنابه و الأمر يقتضي الإيجاب شرعا.الرابع أنه جعل الفوز و الفلاح في اجتنابه.و الهاء في قوله فَاجْتَنِبُوهُ راجعة إلى عمل الشيطان.

فصل

ثم قال تعالى إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (2) قيل هل هاهنا مع ما بعدها بمنزلة الأمر أي انتهوا.و سبب نزول هذه الآية أن سعد بن أبي وقاص لاقى رجلا من الأنصار و قد كانا شربا الخمر فضربه بلحي جمل (3).و قيل إنه لما نزلت قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى (4) قال رجل اللهم بين لنا في هذه الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية.

ص: 277


1- سورة المائدة:90.
2- سورة المائدة:91.
3- تفسير البرهان 500/1 بتفصيل.
4- سورة النساء:43.

معناه الشيطان إنما يريد إيقاع العداوة و البغضاء بينهم بالإغراء المزين لهم ذلك حتى إذا سكروا زال عقولهم و أقدموا من المكاره و القبائح ما كانت تمنعهم منه عقولهم.و قال قتادة كان الرجل يقامر في ماله و أهله فيقمر و يبقى سليبا حزينا فيكسبه ذلك العداوة و البغضاء.و قوله وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ أي يمنعكم من الذكر لله بالتعظيم و الشكر على آلائه لما في ذلك من الدعاء إلى الصلاح و استقامة الحال في الدين و الدنيا.و قوله تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ صيغته الاستفهام و معناه النهي و إنما جاز ذلك لأنه إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب صار في منزلة من نهي عنه فإذا قيل له أ تفعله بعد ما قد ظهر من أمره صار في محل من عقد عليه بإقراره.فإن قيل ما الفرق بين انتهوا عن شرب الخمر و بين لا تشربوا الخمر.قلنا الفرق بينهما أنه إذا قال انتهوا دل ذلك على أنه مريد لأمر ينافي شرب الخمر و صيغة النهي تدل على كراهة الشرب لأنه قد ينصرف عن الشرب إلى أحد أشياء مباحة و ليس كذلك المأمور به لأنه لا ينصرف عنه إلا إلى محظور و المنهي عنه قد ينصرف عنه إلى غير مفروض.ثم قال وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (1) لما أمر سبحانه باجتناب الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام أمر بطاعته في ذلك و في غيره من أوامره ثم أمر بالحذر و هو امتناع القادر من الشيء لما فيه من الضرر و الخوف و هو توقع الضرر الذي لا يؤمن كونه. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ الوعيد فَاعْلَمُوا أنكم قد استحققتم العذاب لتوليكم عما أدى رسولنا من البلاغ المبين.

ص: 278


1- سورة المائدة:92.

و الخمر محرمة على لسان كل نبي و في كل كتاب نزل و أن تحريمها لم يكن متجددا فإذا انقلبت الخمر خلا بنفسها أو بفعل آدمي إذا طرح فيها ما ينقلب إلى الخل حلت.ثم قال لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا (1)

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ الصَّحَابَةُ كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنْ إِخْوَانِنَا وَ هُوَ يَشْرَبُهَا مِنْ قَبْلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ وَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِهَا وَ قَدْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَامِلِينَ لِلصَّالِحَاتِ ثُمَّ يَتَّقُونَ الْمَعَاصِيَ وَ جَمِيعَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. و الصحيح أن معناه ليس على المؤمنين إثم و لا حرج في أكل طيبات الدنيا إذا أكلوها من الحلال و دل على هذا المعنى بقوله إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا و تكرار الاتقاء إنما حسن لأن الأول المراد به اتقاء المعاصي الثاني الاستمرار على الاتقاء الثالث اتقاء مظالم العباد.

فصل

أما قوله تعالى وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ إلى قوله وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً (2) قال قوم ممن لا يؤبه بهم استدلوا بهذه الآية على تحليل النبيذ بأن قالوا امتن الله علينا و عدد من جملة نعمه علينا أن خلق الله لنا الثمار التي نتخذ منها السكر و الرزق الحسن و هو سبحانه و تعالى لا يمتن بما هو محرم.و هذا لا دلالة لهم فيه لأمور

ص: 279


1- سورة المائدة:93.
2- سورة النحل:66-67.

أحدها أن المفسرين على خلاف هذا و لم يقل أحد منهم هو ما حرم من العثرات و إنما ذكروا في معناه تتخذون منه ما حل طعمه من شراب أو غيره.الثاني أنه لو أراد بذلك تحليل السكر لما كان لقوله وَ رِزْقاً حَسَناً معنى لأن ما أحله و أباحه فهو أيضا رزق حسن.فإن قيل فلم فرق بين الرزق الحسن و بينه و الكل شيء واحد.قلنا الوجه فيه أنه تعالى خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها فاتخذتم أنتم منها ما هو حرام عليكم و تركتم ما هو رزق حسن.و أما وجه المنة فبالأمرين معا ثابتة لأن ما أباحه و أحله فالمنة به ظاهرة ليعجل الانتفاع به و ما حرمه فوجه النعمة فيه أنه إذا حرم علينا و أوجب الامتناع ضمن في مقابلته الثواب الذي هو أعظم النعمة فهو نعمة على كل حال.و يؤكد ذلك قوله وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (1) و قوله فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (2) و نحوه قولنا إن خلق نار جهنم نعمة من الله على العباد.الثالث أن السكر إذا كان مشتركا بين السكر و الطعم وجب أن يتوقف فيه و لا يحمل على أحدهما إلا بدليل و ما ذكرناه مجمع على أنه مراد و ما ذكر ليس عليه دليل.و السكر في اللغة على أربعة أقسام (3) أحدها ما أسكر و الثاني ما طعم من

ص: 280


1- سورة البلد:10.
2- سورة الشمس:8.
3- قال الصغانى في العباب السكر:نبيذ التمر،و في التنزيل«تتخذون منه سكرا،«هذا قيل لهم قبل أن يحرم عليهم الخمر،و السكر خمر الاعاجم،و يقال لما يسكر السكر،و منه حديث النبيّ عليه السلام«حرمت الخمرة بعينها و السكر من كل شراب»هكذا رواه احمد ابن محمّد بن حنبل[المسند]و الاثبات.و قال ابن عبّاس:السكر حرم من ثمره قبل أن يحرم و هو الخمر،و الرزق الحسن ما أحل من ثمره من الاعناب و التمور.و قال أبو عبيدة.

الطعام كما قال الشاعر جعلت عين الأكرمين سكرا (1).

أي طعما الثالث المصدر من قولك سكر سكرا و أصله انسداد المجاري بما يلقى فيها و منه السكر و هو القسم الرابع (2).على أنه كان يقتضي أن يكون كل ما أسكر منه يكون حلالا و ذلك خلاف الإجماع لأنهم يقولون القدر الذي لا يسكر هو المباح و كان يلزم على ذلك أن يكون الخمر مباحا و ذلك لا يقوله أحد من المسلمين و يلزم أن يكون النقيع حلالا و ذلك خلاف الإجماع

باب بيان تحريم الخمر :

حَدَّثَ عَلِيُّ بْنُ يَقْطِينٍ قَالَ : سَأَلَ الْمَهْدِيُّ الْخَلِيفَةُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ ع عَنِ الْخَمْرِ أَ هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَعْرِفُونَ النَّهْيَ عَنْهَا وَ لاَ يَعْرِفُونَ التَّحْرِيمَ لَهَا فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَبَا الْحَسَنِ فَقَالَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ (3)

ص: 281


1- رواية التبيان«عيب الاكرمين».و في اللسان«جعلت اعراض الكرام سكرا».
2- من قوله«و السكر في اللغة»إلى هنا منقول من التبيان 401/6 مشوها،و فيه: الثالث السكون،قال الشاعر«و جعلت عين الحرور تسكر»،و الرابع المصدر.
3- و أشدّ السكر الطعام جعلت اعراض الكرام سكرا،أي جعلت دمهم طعما لك. و قال الزجاج:هذا بالخمر أشبه منه بالطعام،و المعنى يتخمر بأعراض الكرام،و هو أبين ممّا يقال للذى يتبرك في أعراض الناس.و قال بعض المفسرين:السكر الخل في التنزيل و هذا شيء لا يعرفه أهل اللغة«منه».

فَأَمَّا قَوْلُهُ ما ظَهَرَ مِنْها فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ الزِّنَاءَ الْمُعْلِنَ وَ نَصْبَ الرَّايَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَرْفَعُهَا الْفَوَاجِرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَ أَمَّا قَوْلُهُ وَ ما بَطَنَ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ مَا نَكَحَ مِنَ الْآبَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ ص إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ وَ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا تَزَوَّجَهَا ابْنُهُ مِنْ بَعْدِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَ أَمَّا قَوْلُهُ وَ الْإِثْمَ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْخَمْرَةَ بِعَيْنِهَا وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما (1) فَإِنَّمَا عَنَى بِالْإِثْمِ حَرَاماً عَظِيماً وَ قَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَخْبَثَ الْأَسْمَاءِ رِجْساً ثُمَّ قَالَ ع إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحَسَّ الْقَوْمُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَ عَلِمُوا أَنَّ الْإِثْمَ مِمَّا يَجِبُ اجْتِنَابُهُ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أُخْرَى وَ هِيَ قَوْلُهُ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (2) وَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَشَدَّ مِنَ الْأُولَى وَ أَغْلَظَ فِي التَّحْرِيمِ ثُمَّ ثَلَّثَ بِآيَةٍ أُخْرَى وَ كَانَتْ أَغْلَظَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَ الثَّانِيَةِ وَ أَشَدَّ وَ هِيَ قَوْلُهُ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (3) فَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا وَ فَسَّرَ عِلَلَهَا الَّتِي لَهَا وَ مِنْ أَجْلِهَا حَرَّمَهَا ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى تَحْرِيمَهَا وَ كَشَفَهُ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيِ

ص: 282


1- سورة البقرة:216.و إلى هنا ينتهى الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام كما في الكافي 406/6 مع اختلاف في ألفاظ يسيرة.
2- سورة المائدة:91.
3- سورة المائدة:92.

الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ قَالَ فِي الْآيَةِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فَخَبَّرَ أَنَّ الْإِثْمَ فِي الْخَمْرِ وَ غَيْرِهَا وَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ فَرِيضَةً أَنْزَلَهَا شَيْئاً بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى يُوَطِّنَ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهَا وَ يَسْكُنُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَ نَهْيِهِ فِيهَا وَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَ وَجْهِ التَّدْبِيرِ وَ الصَّوَابِ لَهُمْ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الْأَخْذِ بِهَا وَ أَقَلَّ لِنِفَارِهِمْ مِنْهَا فَقَالَ الْمَهْدِيُّ هَذِهِ وَ اللَّهِ فَتْوَى هَاشِمِيَّةٌ (1).

فصل

وَ رُوِيَ أَنَّهُ شَرِبَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْخَمْرَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَحُدَّهُ فَقَالَ لَهُ قُدَامَةُ إِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيَّ الْحَدُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا (2) فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ع فَأَتَى الْمَسْجِدَ وَ فِيهِ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ لِمَ تَرَكْتَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى قُدَامَةَ فِي شُرْبِهِ الْخَمْرَ فَقَالَ تَلاَ عَلَيَّ آيَةً وَ تَلاَهَا عُمَرُ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع لَيْسَ قُدَامَةُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَ لاَ مِنْ سِلْكِ سَبِيلِهِ فِي ارْتِكَابِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَاماً فَارْدُدْ قُدَامَةَ وَ اسْتَتِبْهُ مِمَّا قَالَ فَإِنْ تَابَ فَأَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَ إِنْ لَمْ يَتُبْ فَاقْتُلْهُ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ فَعَرَفَ قُدَامَةُ الْخَبَرَ فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ (3). و الآية إنما أنزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم و سلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون و غيره فبين الله لهم أنه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرمات أي ليس عليهم إثم و خروج فيما طعموا من الحلال

ص: 283


1- الكافي 406/4 في رواية مرسلة غير الرواية السابقة مع اختلاف في ألفاظ.
2- سورة المائدة:93.
3- انظر تفسير البرهان 500/1.

و هذه اللفظة صالحة للأكل و الشرب.و قوله ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا أي اتقوا شربها بعد التحريم ثُمَّ اتَّقَوْا أي دانوا على الاتقاء فالاتقاء الأول من الشرب و الاتقاء الثاني هو الدوام عليه و الاتقاء الثالث اتقاء جميع المعاصي و ضم الإحسان إليه.و قال الله تعالى وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا (1)

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع الْمِيثَاقُ هُوَ مَا بَيَّنَ لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ تَحْرِيمِ كُلِّ مَسَاءٍ وَ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَ نَصْبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع إِمَاماً لِلْخَلْقِ كَافَّةً (2). و تحريم الفقاع لا يعلل بالسكر و إنما تحريمه مثل لحم الخنزير و الدم.

فصل

و قد أباح الله تعالى الماء الذي هو أذل موجود و أعز مفقود

و قد قال تعالى وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (3) و قال هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ (4) أخبر تعالى أنه الذي ينزل من السماء ماء يعني غيثا و مطرا لمنافع خلقه فينبت بذلك الماء هذه الأشياء التي عددها.و قال تعالى وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً إلى أن قال يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ (5) من أصفر و أبيض و أحمر مع

ص: 284


1- سورة المائدة:7.
2- تفسير البرهان 454/1 بمضمونه.
3- سورة الأنبياء:30.
4- سورة النحل:10.
5- سورة النحل:68.

أنها تأكل الحامض و المر فيجعله الله تعالى عسلا حلوا لذيذا فيه شفاء للناس.و أكثر المفسرين على أن الهاء راجعة إلى العسل و هو الشراب الذي ذكر أن فيه شفاء من كثير من الأمراض و إنما قال مِنْ بُطُونِها و هو خارج من فيها لأن العسل يخلقه الله في بطن النحل ثم يخرجه إلى فيه ثم يخرجه من فيه و لو قال من فيها لظن أنها تلقيه من فيها و ليس بخارج من البطن.و قال الرضي في كتاب مجاز القرآن أن العسل عند المحققين من العلماء غير خارج من بطون النحل و إنما تنقله بأفواهها من مساقطه و مواقعه من أوراق الأشجار و أصناف النبات (1) لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة و على أوصاف معلومة و النحل ملهمة بتتبع تلك المساقط و تعهد تلك المواقع (2) فتنقل العسل بأفواهها إلى المواضع المعدة لها قال تعالى يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها و المراد من جهة بطونها و جهة بطونها أفواهها و هذا من غوامض البيان و شرائف الكلام (3).

وَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع اشْرَبُوا مَاءَ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ الْبَدَنَ وَ يَدْفَعُ الْأَسْقَامَ قَالَ تَعَالَى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ (4) .

وَ جَاءَ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ وَجَعَ الْبَطْنِ فَقَالَ ع أَ لَكَ زَوْجَةٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ اسْتَوْهِبْ مِنْهَا دِرْهَماً مِنْ صَدَاقِهَا بِطِيبَةِ نَفْسِهَا مِنْ مَالِهَا وَ اشْتَرِ بِهِ عَسَلاً وَ اسْكُبْ عَلَيْهِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ ثُمَّ اشْرَبْهُ فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ فَسُئِلَ ع عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً

فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (1) وَ قَالَ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ (2) وَ قَالَ وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً (3) فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْبَرَكَةُ وَ الشِّفَاءُ وَ الْهَنِيءُ وَ الْمَرِيءُ رَجَوْتُ فِيهِ لَكَ الشِّفَاءَ (4).

ص: 285


1- في المصدر«و أضغاث النبات».
2- الزيادة من المصدر.
3- تلخيص البيان ص 193.
4- سورة الأنفال:11.و الحديث في الكافي 387/6.

فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (1) وَ قَالَ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ (2) وَ قَالَ وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً (3) فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْبَرَكَةُ وَ الشِّفَاءُ وَ الْهَنِيءُ وَ الْمَرِيءُ رَجَوْتُ فِيهِ لَكَ الشِّفَاءَ (4).

باب الزيادات

[في إنفحة الميتة ]

قال الشافعي إنفحة (5) الميتة نجسة لا يحل الانتفاع بها و عندنا و عند أبي حنيفة هي طاهرة و بذلك نصوص عن أئمة الهدى ع (6) يؤيد ذلك قوله تعالى كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً (7) و هذا عام إلا ما أخرجه الدليل و لا دليل على تحريم الإنفحة من الميتة و لا نجاستها من كتاب و سنة و لا إجماع.و يؤكد ذلك

مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ : كُنْتُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ع إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ وَ قَالَ لِي مَنْ أَنْتَ فَقُلْتُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ تَعْرِفُ مُحَمَّداً الْبَاقِرَ قُلْتُ نَعَمْ فَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ قَالَ هَيَّأْتُ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً أَسْأَلُهُ عَنْهَا فَمَا كَانَ مِنْ حَقٍّ أَخَذْتُهُ وَ مَا كَانَ مِنْ بَاطِلٍ تَرَكْتُهُ قَالَ أَبُو حَمْزَةَ فَقُلْتُ لَهُ هَلْ تَعْرِفُ مَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ الْفَرْقَ مَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ

ص: 286


1- سورة النساء:4.
2- سورة النحل:69.
3- سورة ق:9.
4- وسائل الشيعة 75/17 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
5- الانفحة-بكسر الهمزة و فتح الفاء مخففة-كرش الحمل أو الجدى ما لم يأكل،فإذا أكل فهو كرش،و كذلك المنفحة بكسر الميم.و الانفحة لا تكون الا لذى كرش،و هو شيء يستخرج من بطن ذيه،اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن-لسان العرب(نفح).
6- انظر وسائل الشيعة 1088/2-1090.
7- سورة البقرة:168.

قَالَ أَنْتُمْ قَوْمٌ لاَ تُطَاقُونَ فَمَا انْقَطَعَ كَلاَمُهُ حَتَّى أَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ ع وَ حَوْلَهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ وَ غَيْرُهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَقَالَ لِلرَّجُلِ مَنْ أَنْتَ فَقَالَ أَنَا قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ الْبَصْرِيُّ قَالَ أَنْتَ فَقِيهُ الْبَصْرَةِ قَالَ نَعَمْ أَخْبِرْنِي عَنِ الْجُبُنِّ فَتَبَسَّمَ أَبُو جَعْفَرٍ ع وَ قَالَ رَجَعَتْ مَسَائِلُكَ إِلَى هَذَا فَقَالَ ضَلَّتْ عَنِّي فَقَالَ ع لاَ بَأْسَ بِهِ فَقَالَ رُبَّمَا جُعِلَتْ فِيهِ إِنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ قَالَ لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ إِنَّ الْإِنْفَحَةَ لَيْسَ لَهَا عُرُوقٌ وَ لَيْسَ فِيهَا دَمٌ وَ لَيْسَ لَهَا عَظْمٌ إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ وَ إِنَّمَا الْإِنْفَحَةُ بِمَنْزِلَةِ دَجَاجَةٍ مَيْتَةٍ أُخْرِجَتْ مِنْهَا بَيْضَةٌ فَهَلْ تُؤْكَلُ تِلْكَ الْبَيْضَةُ قَالَ لاَ وَ لاَ آمُرُ بِأَكْلِهَا فَقَالَ ع وَ لِمَ فَقَالَ لِأَنَّهَا مِنَ الْمَيْتَةِ قَالَ لَهُ فَإِنْ حُضِنَتْ تِلْكَ الْبَيْضَةُ فَخَرَجَتْ مِنْهَا دَجَاجَةٌ أَ تَأْكُلُهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا حَرَّمَ عَلَيْكَ الْبَيْضَةَ وَ أَحَلَّ لَكَ الدَّجَاجَةَ كَذَلِكَ الْإِنْفَحَةُ مِثْلُ الْبَيْضَةِ فَاشْتَرِ الْجُبُنَّ مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُصَلِّينَ وَ لاَ تَسْأَلْ عَنْهُ (1).

مسألة

قوله تعالى كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ (2) أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام و الحل مصدر حل الشيء كما يقال عز الرجل عزا و ذلت الدابة ذلا و لذا استوى في الوصف به المذكر و المؤنث و الواحد و الجمع قال تعالى لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ (3) .و المعنى كل الطعام لم يزل حلالا لهم من قبل إنزال التوراة و تحريم ما حرم

ص: 287


1- الكافي 256/6،و قد اختصر الحديث هنا و اضفنا إليه ما لا بدّ منه من المصدر و هي الجمل الموضوعة ما بين المعقوفتين.
2- سورة آل عمران:93.
3- سورة الممتحنة:10.

عليهم منها لظلمهم و بغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه.و هو رد على اليهود و تكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نزل فيهم من قوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (1) الآية و في قوله وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (2) فقالوا لسنا بأول من حرمت عليه و ما هو إلا تحريم قديم و كانت محرمة على نوح و على إبراهيم و من بعده و هلم جرا إلى أن انتهى التحريم إلينا و غرضهم تكذيب شهادة الله تعالى عليهم بالبغي و الظلم و أكل الربا فقال تعالى قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

ص: 288


1- سورة النساء:160.
2- سورة الأنعام:146.

كتاب الوقوف و الصدقات

الحث على الوقف و الصدقة

قال الله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ (1) .لما نزلت هذه الآية عمد كثير من الصحابة إلى نفائس أموالهم فتصدقوا بها زيادة على الزكوات الواجبة

كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي حَائِطاً وَ قَدْ جَعَلْتُهُ صَدَقَةً فَقَالَ اجْعَلْهُ صَدَقَةً عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِكَ فَجَعَلَهُ بَيْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (2). و قد ورد في القرآن آي كثيرة تحث على الوقوف و الصدقات بظواهرها قال الله تعالى وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ (3) و هو أمر بالطاعات و القربات.فإن قيل ما أنكرتم من فساد الاستدلال بذلك من جهة أن الخير لا نهاية له و محال أن يوجب الله تعالى علينا ما لا يصح أن نفعله و إذا لم يصح إيجاب الجميع فليس البعض بذلك أولى من البعض و بطل الاستدلال بالآية.

ص: 289


1- سورة آل عمران:92.
2- الدّر المنثور 194/2.
3- سورة الحجّ:77.

قلنا لا شبهة في أن إيجاب ما لا يتناهى لا يصح غير أنا نفرض المسألة فنقول قد ثبت أن من وقف و تصدق على بعض فقراء المؤمنين يكون فاعلا للخير و فعل المرة صحيح غير محال فيجب تناول الآية له و هكذا يفرض في كل مسألة و موضع استدلالنا بعموم هذه الآية و أمثالها على استحباب شيء من العبادات أو وجوب شيء من القربات هو أن نعين على ما يصح تناول الإيجاب و الاستحباب له ثم ندخله في عموم الآية

باب كيفية الوقف و أحكامه

قال الله تعالى وَ أَقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً (1) نزلت حين وقف بعض الأنصار نخيلا و سمى تعالى ذلك قرضا تلطفا في القول لأن الله تعالى من حيث إنه يجازيهم على ذلك بالثواب فكأنه استقرض منهم لرد عوضه.و إنما قال حسنا أي على وجه لا يكون فيه وجه من وجوه القبح.و ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ (2) أي ما تعطوا الفقراء و المساكين تجدوا ثوابه و جزاءه.ثم اعلم أن وجوه العطايا ثلاثة اثنان منها في الحياة و واحد بعد الوفاة فالذي بعد الوفاة هو الوصية و لها كتاب مفرد نذكره فيما بعد إن شاء الله و أما اللذان في حال الحياة فهما الهبة و الوقف و للهبة باب مفرد يجيء بعد هذا.و أما الوقف فهو تحبيس الأصل و تسبيل المنفعة و جمعه وقوف و أوقاف وقفت يقال و لا يقال أوقفت إلا شاذا نادرا و يقال حبست و أحبست.

ص: 290


1- سورة الحديد:18.
2- سورة البقرة:110.

فإذا وقف شيئا من أملاكه زال ملكه عنه إذا قبض الموقوف عليه أو من يتولى عنه و إن لم يقبض لم يخص الوقف و لم يلزم فهذان شرطان في صحة الوقف فمتى لم يقبض الوقف و لم يخرجه من يده أو وقف ما لا يملكه كان الوقف باطلا فإذا قبض الوقف فلا يجوز الرجوع له فيه بعد ذلك و لا التصرف فيه ببيع و لا هبة و لا غيرها و لا يجوز لأحد من ورثته التصرف فيه.

فصل

وَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ص أَنَّهُ قَالَ : لاَ أَحْبِسُ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ (1). فلا يدل على حظر الوقف أو كراهيته و إنما المعنى في ذلك أحد أمرين أحدهما أراد حبس الزانية التي ذكرها الله

في قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (2) فإن الله نسخ هذا الحكم

عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ع بِقَوْلِهِ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَ تَغْرِيبُ عَامٍ وَ الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَ الرَّجْمُ. و الثاني أراد الحبس الذي كان يفعله الجاهلية في نفي السائبة و البحيرة و الوصيلة و لا حام قال الله تعالى ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ (3) فالسائبة هي الناقة تلد عشرة بطون كلها إناث فتسيب تلك الناقة فلا تركب و لا تحلب إلا لضيف و البحيرة هي ولدها الذي تجيء به في البطن الحادي عشر فإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها فهي البحيرة.و أما الوصيلة فهي الشاة تلد خمس بطون في كل بطن اثنان فإذا ولدت البطن السادس ذكرا و أنثى قيل وصلت أخاها فما يلد بعد ذلك يكون حلالا

ص: 291


1- الدّر المنثور 129/2.
2- سورة النساء:15.
3- سورة المائدة:103.

للذكور و حراما على الإناث و أما الحام فهو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فكان لا يركب.و كذا يحمل على الوجهين ما روي عن شريح أنه قال جاء محمد بإطلاق الحبس.

فصل

يجوز وقف الأراضي و العقار و الرقيق و الماشية و السلاح و كل عين يبقى بقاء متصلا و يمكن الانتفاع بها فأما إذا كانت في الذمة أو كانت مطلقة و هو أن يقول وقفت فرسا أو عبدا فإن ذلك لا يجوز لأنه لا يمكن الانتفاع به ما لم يتعين و لا يمكن تسليمه و لا القبض.و يجوز وقف المشاع كما يصح بتعدد ألفاظ الوقف مثل تصدقت و وقفت و حبست و سبلت و حرمت و أبدت فإذا قال تصدقت بداري أو بكذا لم ينصرف إلى الوقف لأن التصدق يحتمل الوقف و يحتمل صدقة التمليك المتطوع بها و يحتمل الصدقة المفروضة فإذا قرنه بقرينة تدل على الوقف انصرف إلى الوقف و زال الاحتمال.و القرينة أن تقول تصدقت صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة أو قال صدقة لا تباع و لا توهب و لا تورث لأن هذه كلها لا تصرف إلا إلى الوقف.و إذا قال حبست أو سبلت رجع إلى الوقف و صار صريحا فيه لأن الشرع ورد بهما

قَالَ النَّبِيُّ ص لِعُمَرَ حَبِّسِ الْأَصْلَ وَ سَبِّلِ الثَّمَرَةَ. و عرف الشرع آكد من عرف العادة.و الأقوى عندنا أن صريح الوقف عندنا قول واحد و هو وقفت لا غير و به

ص: 292

يحكم بالوقف فأما غيره من الألفاظ فلا يحكم به إلا بدليل.و لا يجوز أن يقف شيئا على حمل هذه الجارية و لم ينفصل الحمل بعد و لا ينتقض بالوقف على أولاد الأولاد ما تناسلوا لأن الاعتبار بما ولد فإذا صح في حقه صح في حق الباقين على وجه التبع لهم.و إذا وقف دارا و قبض فإنه يزول ملك الواقف كما يزول بالبيع و ينتقل إلى الموقوف عليه و هو الصحيح و قال قوم ينتقل إلى الله تعالى و إنما قلنا ذلك لأنه يثبت عليه اليد و ليس فيه أكثر من أنه لا يملك بيعه على كل حال و إنما يملك بيعه على وجه عندنا و هو إذا خيف على الوقف الخراب أو كان بأربابه حاجة شديدة أو لا يقدرون على القيام به أو يخاف وقوع خلاف بينهم يؤدي إلى فساد يجوز لهم بيعه و مع عدم ذلك كله لا يجوز.و الوقف على المساجد و ما فيه صلاح المؤمنين إنما يصح إن كانت هذه الأشياء لا تملك لأن الوقف عليها لمصالح المسلمين فالوقف عليها وقف على المسلمين و المسلمون يملكون.فإن وقف إنسان شيئا على قومه و لم يسمهم كان ذلك وقفا على جماعة أهل لغته من الذكور دون الإناث لقوله تعالى لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ فدل على أن لفظ القوم لا يقع على النساء.

فصل

العمرى نوع من الهبات يفتقر في صحتها إلى إيجاب و قبول و يقتضي لزومها إلى قبض كسائر الهبات.و هي مشتقة من العمر و صورتها أن يقول الرجل لآخر أعمرتك هذه الدار أو جعلتها لك عمرك أو هي لك ما حييت.

ص: 293

و هذا عقد جائز فإن قال هذه الدار لك عمرك و لعقبك من بعدك فإنه جائز و إنما هي للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها.و أما إذا أطلق ذلك و لم يذكر العقب فإن العمرى يصح و يكون للمعمر حياته فإذا مات رجع إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان مات و هو الصحيح و لا فرق عندنا سواء علقه بموت المعمر أو المعمر.و الرقبى جائزة عندنا و صورتها صورة العمرى إلا أن اللفظ يختلف و من أصحابنا من قال الرقبى أن تقول جعلت خدمة هذا العبد لك مدة حياتك أو مدة حياتي و هي مأخوذة من رقبة العبد

باب الهبة و أحكامها

الهبة جائزة لكتاب الله و للسنة فالكتاب

قوله تعالى تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ (1) و الهبة من البر و قوله تعالى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ إلى قوله وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ (2) .و السنة أكثر من أن تحصى.و الهبة و الصدقة و الهدية بمعنى واحد غير أنه إذا قصد الثواب و التقرب بالهبة إلى الله سميت صدقة و إذا قصد بها التودد و المواصلة سميت هدية.و كان النبي ص يقبل الهدية و يأكلها و لا يقبل الصدقة و لا يأكلها.

ص: 294


1- سورة المائدة:2.
2- سورة البقرة:177.

فإذا ثبت هذا فإنه لا يلزم شيء منها إلا بالقبض.

فصل

الهبات على ثلاثة أصناف هبة لمن هو فوق الواهب و هبة لمن هو دونه و هبة لمن هو مثله و يقتضي كل واحد منها الثواب (1) عندنا على بعض الوجوه.و صدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام و من شرطها الإيجاب و القبول و لا يلزم إلا بالقبض أو ما يجري مجراه.[و كل من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة] (2).و إذا كان لإنسان في ذمة رجل مال فوهبه له كان ذلك إبراء بلفظ الهبة و قال قوم من شرط صحته قبوله و هذا حسن لأن في إبرائه من الحق الذي عليه منه عليه و لا يجبر على قبول المنة و قال آخرون إنه يصح شاء من عليه الحق أو أبى لقوله فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ (3) فاعتبر مجرد الصدقة و لم يعتبر القبول و قال الله تعالى وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا (4) فأسقط الدية لمجرد التصدق و لم يعتبر القبول و هذا أيضا قوي ظاهر

ص: 295


1- المراد بالثواب هاهنا العوض،اما انه يقتضى الثواب فلما روى أبو هريرة عن النبيّ عليه السلام انه قال«الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها»،و اما اقتصار الثواب على بعض الوجوه فهو أن الواجب اما أن يطلق أو يشرط الثواب،فان أطلق اقتضى أن يشبه قدر ما يكون ثوابا لمثله في العبادة،و ان شرط الثواب فان كان الثواب مجهولا صح إجماعا،و ان كان معلوما ففيه خلاف-و هذا خلاصة كلام الشيخ في المبسوط.
2- الزيادة من ج.
3- سورة البقرة:280.
4- سورة النساء:92.

باب الزيادات

قوله تعالى وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ (1) .فالبر العطف و الإحسان و هو مصدر و قد يكون بمعنى البار أي الواسع الإحسان و أصله من الاتساع.بين سبحانه أن البر كله ليس في الصلاة و إنما هي مصلحة من المصالح الدينية و التقدير و لكن البر بر من آمن بالله أي لكن ذا البر من آمن بالله أي صدق بالله و يدخل فيه جميع ما لا يتم معرفة الله إلا به. وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ بمعنى القيامة و إن الملائكة عباد الله و الكتب المنزلة و أنبياءه كلهم. وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي حب المال و الإيتاء حب الله و هذا أبلغ.و ذَوِي الْقُرْبى قرابة المعطي و قيل قرابة الرسول ع

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَالِ حُقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ وَ يَدْخُلُ فِيهَا مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ مِنَ الْوُقُوفِ وَ الصَّدَقَاتِ وَ الْهِبَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبِرِّ قَالَ وَ لاَ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ. و إنما خص هؤلاء لأن الغالب أنه لا يوجد الاضطرار إلا في هؤلاء و لئلا يظن أنه مستحق الزكاة الواجبة لا يجوز أن يعطى ما يتصدق به تطوعا و الآية تعمها.

ص: 296


1- سورة البقرة:177.

و شرائط الوقوف شيئان أن يخرج الوقف من يده و يقبضه الموقوف عليه أو من يتولى عنه و يكون ملكا للواقف.و الوقف و الصدقة شيء واحد و لا يصحان إلا بالقربة إلى الله تعالى.و الوقف لا بد أن يكون مؤبدا

ص: 297

كتاب الوصايا

الوصية ما هي

الوصية مشتقة من وصاء النبت إذا اتصل بعضه ببعض و كل وصية أمر و ليس كل أمر وصية فعلى هذا معنى الوصية وصل الأمر بمثله أو بغيره مما يؤكد قال أبو علي النحوي كأن الموصي وصل جل أمره بالموصى إليه فقال وصى فلان و أوصى إذا وصل تصرف ما قبل الموت بما يكون بعد الموت و التوصية أبلغ من الإيصاء لأنها لمرار كثيرة.

و الأصل في ذلك الكتاب و السنة أما الكتاب فقد قال الله تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فذكر هاهنا الوصية في أربعة مواضع أحدها قوله فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ الثاني في فرض الزوج قال الله تعالى فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ الثالث في فرض الزوجة قال فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ الرابع قوله فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ (1) فثبت بذلك أن الوصية لها حكم في الشرع.

ص: 298


1- سورة النساء:11-12.

فإذا ثبت هذا فالناس في الوصية على ثلاثة أضرب منهم من لا تصح له الوصية بحال و هو الكافر الذي لا رحم له مع الميت و عند المخالف الوارث.و الثاني من تصح له الوصية بلا خلاف مثل الأجانب فإنه يستحب لهم الوصية و عندنا الوارث تصح له الوصية أيضا.و الثالث من هو مختلف فيه و هو على ضربين منهم الأقرباء الذين لا يرثونه بوجه مثل ذوي الأرحام عند من لم يورث ذوي الأرحام مثل بنت الأخ و بنت العم و الخالة و العمة و الضرب الآخر يورثون لكن ربما يكون معهم من يحجبهم مثل الأخت مع الأب و الولد فإنه يستحب أن يوصي لهم و ليس بواجب.و عندنا أن الوصية لهؤلاء كلهم مستحبة

باب الحث على الوصية

قال الله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (1) معنى كتب فرض إلا أنه هاهنا معناه الحث و الترغيب دون الفرض و الإيجاب.و في الآية دلالة على أن الوصية للوارث جائزة لأنه تعالى قال لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ و الوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرين غير قاتلين عمدا و ظلما و من خص الآية بالكافرين فقد قال قولا بلا دليل و من ادعى نسخ الآية فلا نسلم له ذلك بلا دليل.و بمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري سواء فإن ادعوا الإجماع على

ص: 299


1- سورة البقرة:180.

نسخها كان ذلك دعوى باطلة و نحن نخالف في ذلك و قد خالف في نسخها طاوس فإنه خصها بالكافرين لمكان الخبر و لم يحملها على النسخ و قد قال أبو مسلم محمد بن بحر إن هذه الآية مجملة و آية المواريث مفصلة و ليست نسخا فمع هذا الخلاف كيف يدعى الإجماع على نسخها.و من ادعى نسخها

بِقَوْلِهِ ع لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ (1). فقد أبعد لأن هذا أولا خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به إجماعا و لو سلمنا الخبر لجاز أن نحمله على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث لأنا لو خلينا و ظاهر الآية لأجزنا الوصية بجميع ما يملك للوالدين و الأقربين (2).و أما من قال إن الآية منسوخة بأنه للوارث فقوله أيضا بعيد من الصواب لأن الشيء إنما ينسخ غيره إذا لم يمكن الجمع بينهما فأما إذا لم يكن بينهما تناف و لا تضاد بل يمكن الجمع بينهما فلا يجب حمل الآية على النسخ و لا تنافي بين ذكر ما فرض الله للوالدين و غيرهما من الميراث و بين الأمر للوصية لهم على جهة الخصوص فلم يجب حمل الآية على النسخ.و قول من قال حصول الإجماع على أن الوصية ليست فرضا يدل على أنها منسوخة باطل أيضا لأن إجماعهم على أنها لا تفيد الفرض لا يمنع من كونها مندوبا إليها و مرغبا فيها و لأجل ذلك كانت الوصية للأقربين الذين ليسوا بوارثين ثابتة بالآية و لم يقل أحد إنها منسوخة في حيزهم.و من قال إن النسخ في الآية ما يتعلق بالوالدين و هو قول الحسن فقد قال قولا ينافي ما قاله مدعو نسخ الآية على كل حال و مع ذلك فليس الأمر على ما قال لأنه لا دليل على دعواه.

ص: 300


1- مسند أحمد بن حنبل 186/4.
2- ذكر المرتضى الحديث المروى عن النبيّ«ص»بشأن الوصية للوارث و تكلم في طرقه و الرد عليه-راجع الانتصار ص 309-310.

و قال طاوس إذا أوصى لغير ذي قرابته لم تجز وصيته و قال الحسن ليست الوصية إلا للأقربين و هذا الذي قالاه عندنا و إن كان غير صحيح فهو مبطل قول من يدعي نسخ الآية و إنما قلنا إنه ليس بصحيح لأن الوصية لغير الوالدين و الأقربين عندنا جائزة و لا خلاف بين الفقهاء في جوازها.و الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث إجماعا و الأفضل أن تكون بأقل من الثلث

لِقَوْلِهِ ع وَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ (1). و أحق من وصي له من كان أقرب للميت إذا كانوا فقراء و إن كانوا أغنياء فقال الحسن هم أحق بها و قال ابن مسعود الأحق بها الأحوج فالأحوج من القرابة.

فصل

و قوله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً يعني مالا و اختلفوا في مقدار مال الذي يستحق الوصية عنده فقال الزهري كل ما وقع عليه اسم مال من قليل أو كثير و قال إبراهيم النخعي ألف درهم إلى خمسمائة.

وَ رُوِيَ أَنَّ عَلِيّاً ع دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُ فِي مَرَضِهِ وَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتُّمِائَةٍ فَقَالَ أَ لاَ أُوصِي فَقَالَ ع لاَ إِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَ لَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ. و بهذا يؤخذ لأن قوله ع عندنا حجة.و الوصية مرفوعة بكتب و يجوز أن تكون مبتدأ و خبره للوالدين و الجملة في موضع رفع على الحكاية بمنزلة قيل لكم الوصية للوالدين.و في إعراب إذا و العامل فيه قولان أحدهما كتب على معنى إذا حضر أحدكم الموت أي عند المرض و الوجه الآخر قال الزجاج لأنه رغب

ص: 301


1- وسائل الشيعة 363/13 من حديث عن أبي الحسن موسى عليه السلام.

في حال صحته أن يوصي فتقديره كتب عليكم الوصية للوالدين و الأقربين بالمعروف في حال الصحة قائلين إذا حضرنا الموت فلفلان كذا.و المعروف هو الذي لا يجوز أن ينكر و لا حيف فيه و لا جور.و الحضور وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك و ليس معناه في الآية إذا حضره الموت أي إذا عاين الموت لأنه في تلك الحال في شغل عن الوصية لكن المعنى كتب عليكم أن توصوا و أنتم قادرون على الوصية فيقول الإنسان إذا حضرني الموت يعني إذا أنا مت فلفلان كذا.و الحق هو الذي لا يجوز إنكاره و قيل ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا و هو مصدر حق يحق حقا و انتصب في الآية على المصدر و تقديره أحق حقا و قد استعمل على وجه الصفة بمعنى ذي الحق كما وصف بالعدل.و قوله بِالْمَعْرُوفِ معناه بالشيء الذي يعرف ذو و التمييز أنه لا حيف فيه و لا جور على قدر التركة و حال الموصى له و قيل معنى المعروف بالحق الذي لا يجوز أن ينكر و قيل أي لا يوصي بماله للغني و يدع الفقير.

"وَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخَلِّ فَالْأَخَلِّ. أي للأحوج فالأحوج على ما قدمناه.و معنى حضره الموت حضرته أماراته و مقدماته.

فصل

ثم

ص: 302

إنما يكون لوصية الموصي فأما أمر الله بالوصية فلا يقدر هو و لا غيره أن يبدله.قال الرماني و هذا باطل لأن ذكر الله للوصية إنما هو لوصية الموصي فكأنه قيل كتب عليكم وصية مفروضة عليكم فالهاء تعود إلى الوصية المفروضة التي يفعلها الموصي.و قوله فَمَنْ بَدَّلَهُ فالتبديل هو تغيير الشيء عن الحق فيه و البدل هو وضع شيء مكان آخر.و من أوصى وصية في ضرار فبدلها الوصي لم يأثم بذلك

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ أَوْصَى فِي ضِرَارٍ لَمْ تُجَزْ وَصِيَّتُهُ لِقَوْلِهِ غَيْرَ مُضَارٍّ . و الوصي إذا بدل الوصية لم ينقص من أجر الموصي شيء كما لو لم يبدلها لأنه لا يجازى أحد على عمل غيره لكن يجوز أن يلحقه منافع الدعاء و الإحسان الواصل إلى الموصى له على غير وجه الأجر له.و في الآية دلالة على بطلان قول من يقول إن الوصي أو الوارث إذا لم يقض دين الميت فإنه يؤخذ به في قبره أو في الآخرة إذ لا إثم عليه في تبديل غيره فأما إن قضى عنه من غير أن أوصى به فإن الله تعالى يتفضل بإسقاط العقاب عنه إن شاء الله.ثم قال تعالى فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (1) لما حذر في الآية الأولى الوصي من تبديل أمر الوصية و أوعده أن يجاوز ما أمر به أعقب ذلك بما للوصي أن يفعله فيما جعل إليه من الوصية لأن الأولى كالعموم و هذا تخصيص له فكأنه قال ليس للوصي أن يبدل أمر الوصية بعد سماعه إلا أن يخاف من الموصي أنه أمر بغير المعروف مخالفا لأمر الله فحينئذ للوصي أن يبدل و يصلح لأنه رد إلى أمر الله.

ص: 303


1- سورة البقرة:182.

و قال المرتضى لا تصح الوصية في حال الصحة و المرض جميعا بأكثر من الثلث و كذلك كل تمليك يستحق لموت المملك و إذا أوصى الإنسان بأكثر من الثلث يرد إلى الثلث على ما نذكره.

فصل

فإن قيل كيف

قال تعالى فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ لما قد وقع و الخوف إنما يكون لما لم يقع.قلنا فيه قولان أحدهما أنه خاف أن يكون قد زل في وصيته فالخوف للمستقبل و ذلك الخوف هو أن يظهر ما يدل على أنه قد زل لأنه من جهة غالب الظن.و الثاني لما اشتمل على الواقع و لم يقع جاز فيه خلاف ذلك فيأمره بما فيه الصلاح و ما وقع رده إلى العدل بعد موته.و الجنف الجور و هو الميل عن الحق قال الحسن هو أن يوصي في غير القرابة قال فمن أوصى لغير قرابته رد إلى أن يجعل للقرابة الثلثان و لمن أوصى له الثلث و هذا باطل عندنا لأن الوصية لا يجوز صرفها عمن أوصى له و إنما قال الحسن ذلك لقوله إن الوصية للقرابة واجبة و عندنا أن الأمر بخلافه على ما بيناه.و إذا خان الموصي في وصيته فللوصي أن يردها إلى العدل و هو المروي عن أبي عبد الله ع (1).و قال قوم أي فمن خاف من موص في حال مرضه الذي يريد أن يوصي فيه و يعطي بعضا و يضر ببعض فلا إثم أن يشير عليه بالحق و يرده إلى الصواب و يشرع

ص: 304


1- تفسير البرهان 179/1.

بالإصلاح بين الموصي و الورثة و الموصى له حتى يكون الكل راضين و لا يحصل حيف و لا ظلم و يكون ذا صلح بينهم يريد فيما يخاف من حدوث الخلاف فيه فيما بعده و يكون قوله فَمَنْ خافَ على ظاهره فيكون الخوف مترقبا غير واقع و هذا قريب أيضا غير أن الأول أصوب.و إنما قيل للمتوسط بالإصلاح ليس عليه إثم و لم يقل فله الأجر على الإصلاح لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه فاحتاج أن يبين الله تعالى لنا أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الإصلاح.و الضمير في قوله بَيْنَهُمْ عائد إلى الموصى له و من ينازعه لأن الكلام عليه و قيل يعود إلى الوالدين و الأقربين و قوله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قد ذكرنا أن الضمير عائد إلى المصلح المذكور في من و قيل الضمير عائد إلى الوصي.و الحيف في الوصية على جهة الخطإ لأنه لا يدري أنه لا يجوز و الإثم أن يتعمد ذلك روي ذلك عن الباقر ع و قيل الحيف بأن يوصي أكثر من الثلث أو يوصي بمال في المعصية أو إنفاق في غير مرضاة الله فإن ذلك كله يرد و لا ينفذ.فأما أن يوصي الرجل لابن بنته و له أولاد أو يوصي لزوج بنته و له أولاد فلا يجوز رده على وجه عندنا و كذا إن وصى للبعيد دون القريب لا ترد وصيته

باب الوصية للوارث و غيره من القرابات و أحكام الأوصياء

الوصية للوارث جائزة بدلالة

ص: 305

قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (1) و هذا نص في موضع الخلاف على ما قدمناه و قولهم إن هذه الآية منسوخة من غير دليل على نسخها لا يغني شيئا.

و أيضا قوله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (2) و هذا عام في الأقارب و الأجانب فمن خص به الأجانب دون الأقارب فقد عدل عن الظاهر بغير دليل.فإن قالوا إن الآية منسوخة بآية المواريث الجواب أن النسخ إنما يكون إذا تنافى العمل بموجبهما و لا تنافي بين آية الوصية و آية المواريث و العمل بمقتضاهما سائغ فكيف يجوز أن يدعى النسخ في ذلك مع فقد التنافي و لا يجوز أن ينسخ بما يقتضي الظن كتاب الله الذي يوجب العمل و إذا كنا لا نخصص كتاب الله بأخبار الآحاد فالأولى أن لا ننسخه بها.و قال تعالى وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (3) عن ابن عباس أن الخطاب بقوله فَارْزُقُوهُمْ متوجه إلى من حضرته الوفاة و أراد الوصية فإنه ينبغي لهم أن يوصوا لمن لا يرث من الأقرباء بشيء من أموالهم إن كانوا أغنياء و يعتذرون إليه إن كانوا فقراء و رزق الإنسان غيره يكون على معنى التمليك.ثم قال تعالى وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (4) قيل في معنى الآية أربعة أقوال أحدها النهي عن الوصية بما يجحف بالورثة و يضر بهم

ص: 306


1- سورة البقرة:180.
2- سورة النساء:11.
3- سورة النساء:8.
4- سورة النساء:9.

الثاني قال الحسن كان الرجل يكون عند الميت يقول له أوص بأكثر من الثلث من مالك فنهاه الله عن ذلك.الثالث قال ابن عباس إنه خطاب لولي اليتيم يأمره بأداء الأمانة فيه و القيام بحفظه كما لو خاف على مخلفيه إذا كانوا ضعافا و أحب أن يفعل بهم مثل ذلك.الرابع قال ميثم هي في حرمان ذوي القربى أن يوصي لهم بأن يقول الحاضر للوصية لا توص لأقاربك و وفر على ورثتك.و معنى الآية أنه ينبغي للمؤمن الذي لو ترك ذرية ضعافا بعد موته خاف عليهم الفقر و الضياع أن يخش على ورثة غيره من الفقر و الضياع و لا يقول لمن يحضر وصيته أن يوصي بما يضر بورثته و ليتق الإضرار بورثة المؤمن.

فصل

ثم خوف الله تعالى الأوصياء و أوعدهم

بقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً (1) و إنما علق سبحانه الوعيد في الآية بمن يأكل أموال اليتامى ظلما لأنه قد يأكله على وجه الاستحقاق بأن يأخذ الوصي منه و غيره أجرة المثل على ما قلناه أو يأكل منه بالمعروف على ما فسرناه أو يأخذه قرضا على نفسه.فإن قيل إذا أخذه قرضا على نفسه أو أجرة المثل على ما قلناه فلا يكون أكل مال اليتيم و إنما أكل مال نفسه.قلنا ليس الأمر على ذلك لأنه يكون أكل مال اليتيم لكنه على وجه التزم عوضه في ذمته أو استحقه بالعمل في ماله فلم يخرج بذلك من استحقاق الاسم بأنه مال اليتيم و لو سلم ذلك لجاز أن يكون المراد بذلك ضربا من

ص: 307


1- سورة النساء:10.

التأكيد و بيانا لأنه لا يكون أكل مال اليتيم لا ظلما و ظلما نصب على المصدر و أكل مال اليتيم (1) و غصبه يتساويان في توجه الوعيد إليه.و قال تعالى وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ (2) نهى سبحانه جميع المكلفين أن يتصرفوا في أموال اليتامى بل يحفظوا على اليتيم ماله و يثمروه على ما لا يشك أنه أصلح له فأما بغير ذلك فلا يجوز لأحد التصرف فيه و إنما خص اليتيم بذلك و إن كان التصرف في مال الغير بغير إذنه لا يجوز أيضا لأن اليتيم إلى ذلك أحوج و الطمع في ذلك أكثر. حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي حتى يبلغ الحلم و قيل حتى يبلغ كمال العقل و يؤنس منه الرشد.و قال تعالى وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ (3) هذا خطاب لأوصياء اليتامى أمرهم الله بأن يعطوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا الحلم و أونس منهم الرشد و سماهم يتامى بعد البلوغ مجازا

لِأَنَّهُ ع قَالَ : لاَ يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ. و قيل كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم و يجعلون مكانه الرديء قال لهم لا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تستبدلوا ما حرمه الله عليكم من أموالهم بما أحله لكم من أموالكم وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم فتأكلوهما جميعا فأما خلط مال اليتيم بمال نفسه إذا لم يظلمه فلا بأس به.قال الحسن لما نزلت هذه الآية كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فأنزل الله وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ

وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ (1) و هو المروي عنهما ع.و قال في سورة الأنعام وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ (2) المراد بالقرب التصرف فيه على ما قدمناه و إنما خص اليتيم لأنه لما كان لا يدفع عن نفسه و لا له والد يدفع عنه و كان الطمع في ماله أقوى تأكد النهي في التصرف في ماله إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي يحفظه عليه إلى أن يكبر أو بتثميره بالتجارة

ص: 308


1- الزيادة من ج.
2- سورة الأنعام:152.
3- سورة النساء:2.

وَ اللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ (1) و هو المروي عنهما ع.و قال في سورة الأنعام وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ (2) المراد بالقرب التصرف فيه على ما قدمناه و إنما خص اليتيم لأنه لما كان لا يدفع عن نفسه و لا له والد يدفع عنه و كان الطمع في ماله أقوى تأكد النهي في التصرف في ماله إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي يحفظه عليه إلى أن يكبر أو بتثميره بالتجارة

باب ما على وصي اليتيم

قال الله تعالى وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ (3) قال ابن جبير يعني بأموالكم أموالهم كما قال وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (4) قال و هم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم و ارزقوهم فيها و اكسوهم.و الأولى حمل الآية على الأمرين لأن العموم يقتضي ذلك فلا يجوز أن يعطى السفيه الذي يفسد المال و لا اليتيم الذي لم يبلغ و لا الذي بلغ و لم يؤنس منه الرشد و لا أن يوصى إلى سفيه و لا يخص بعض دون بعض فالموصي إذا كان عاقلا حرا ثابت العقل لا يوصي إلى سفيه و لا إلى فاسق و لا إلى عبد لأنه لا يملك مع سيده شيئا بل يختار لوصيته عاقلا مسلما عدلا حكيما و إنما تكون إضافة مال اليتيم

ص: 309


1- سورة البقرة:220.
2- سورة الأنعام:152.
3- سورة النساء:5.
4- سورة النساء:29.

إلى من له القيام بأمرهم على ضرب من المجاز أو لأنه لا يعطى الأولياء ما يخصهم لمن هو سفيه.و يجري ذلك مجرى قول القائل لواحد يا فلان أكلتم أموالكم بينكم بالباطل فيخاطب الواحد بخطاب الجميع و يريد به أنك و أصحابك أكلتم و التقدير في الآية لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي بعضها لكم و بعضها لهم فتضيعوها.و معنى قوله وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً أي يا معشر ولاة السفهاء قولوا للسفهاء إن صلحتم و رشدتم سلمنا إليكم أموالكم و قال الزجاج علموهم مع إطعامكم إياهم و كسوتهم أمر دينهم.و في الآية دلالة على جواز الحجر على اليتيم إذا بلغ و لم يؤنس منه الرشد لأنه منع تعالى من دفع المال إلى السفهاء و فيها أيضا دلالة على وجوب الوصية إذا كان الورثة سفهاء لأن ترك الوصية بمنزلة إعطاء المال في حال الحياة إلى من هو سفيه.و إنما سمي الناقص العقل سفيها و إن لم يكن عاصيا لأن السفه هو خفة الحلم.

فصل

ثم

قال تعالى وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ (1) هذا خطاب لأولياء اليتامى أمر الله أن يختبروا عقول اليتامى في أفهامهم و صلاحهم في أديانهم و إصلاح أموالهم.

و قوله حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ معناه حتى يبلغوا الحد الذي يقدر على مجامعة النساء و ينزل و ليس المراد الاحتلام لأن في الناس من لا يحتلم أو يتأخر احتلامه.

ص: 310


1- سورة النساء:6.

و في المفسرين من قال إذا كمل عقله و أونس منه الرشد سلم إليه ماله و هو الأقوى و منهم من قال لا يسلم إليه حتى يكمل له خمس عشرة سنة إذا كان عاقلا لأن هذا حكم شرعي و بكمال العقل يلزمه المعارف لا غير. فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي وجدتم منهم صلاحا و عقلا و دينا و إصلاح المال فادفعوا إليهم أموالهم و الأقوى أن يحمل على أن المراد به العقل و إصلاح المال هو المروي عن أبي جعفر ع (1) للإجماع على أن من يكون كذلك لا يجوز عليه الحجر في ماله و إن كان فاجرا في دينه فإذا كان ذلك إجماعا فكذلك إذا بلغ و له مال في يدي وصي أبيه أو في يد حاكم قد ولي ماله وجب عليه أن يسلم إليه ماله إذا كان عاقلا مصلحا لماله و إن كان فاسقا في دينه.و في الآية دلالة على جواز الحجر على العاقل إذا كان مفسدا في ماله من حيث إنه إذا كان عند البلوغ يجوز منعه المال إذا كان مفسدا له فكذلك في حال كمال العقل إذا صار بحيث يفسد المال جاز الحجر عليه و هو المشهور في أخبارنا.ثم قال وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا خطاب لأولياء اليتيم أيضا أي لا تأكلوها بغير ما أباحه الله لكم و لا مبادرة منهم ببلوغهم و إيناس الرشد منهم حذرا أن يبلغوا فيلزمهم ردها إليهم و موضع أَنْ يَكْبَرُوا نصب بالمبادرة و المعنى لا تأكلوها مبادرة كبرهم.و من كان من ولاة أموال اليتامى غنيا فليستعفف بماله عن أكلها و من كان فقيرا فليأكل بالقرض و هو المروي عن أبي جعفر ع أ لا ترى أنه قال فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ .و قال الحسن يأخذ ما سد الجوعة و وارى العورة و لا قضاء عليه و لم يوجب أجرة المثل قال لأن أجرة المثل ربما كان أكثر من قدر الحاجة و الظاهر في

ص: 311


1- تفسير البرهان 345/1.

أخبارنا أن له أجرة المثل سواء كان قدر كفايته أو لم يكن.و اختلفوا في هل للفقير من أولياء اليتيم أن يأكل من ماله هو و عياله فقال بعضهم ليس له ذلك لقوله فَلْيَأْكُلْ فخصه بالأكل و قال غيره له ذلك لأن قوله بِالْمَعْرُوفِ يقتضي أن يأكل هو و عياله على ما جرت به العادة في أمثاله.و قال إن كان المال واسعا كان له أن يأخذ قدر كفايته له لمن يلزمه نفقته من غير إسراف و إن كان قليلا كان له أجرة المثل لا غير و إنما لم يجعل له أجرة المثل إذا كان المال كثيرا لأنه ربما كان أجرة المثل أكثر من نفقته من غير إسراف و إن كان قليلا كان له أجرة المثل من نفقته بالمعروف على ما قلناه من أن له أجرة المثل سقط بهذا الاعتبار.ثم أمر الأولياء أن يحتاطوا لأنفسهم أيضا بالإشهاد عليهم إذا دفعوا إليهم أموالهم لئلا يقع منهم جحودهم و يكون أبعد من التهمة و سواء كان ذلك في أيديهم أو استقرضوه دينا على أنفسهم فإن الإشهاد يقتضيه الاحتياط و ليس بواجب وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بإيصال الحق إلى صاحبه.و ولي اليتيم المأمور بابتلائه هو الذي جعل إليه القيام به من وصي أو حاكم أو أمين ينصبه الحاكم و أصحابنا إنما أجازوا الاستقراض من مال اليتيم إذا كان مليا

باب الوصية المبهمة :

ص: 312

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ قَالَ جُزْءٌ مِنْ عَشَرَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً (1) وَ كَانَتِ الْجِبَالُ عَشْرَةَ أَجْبُلٍ (2).

وَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هَمَّامٍ الْكِنْدِيِّ عَنِ الرِّضَا ع فِي الرَّجُلِ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ قَالَ الْجُزْءُ مِنْ سَبْعَةٍ قَالَ تَعَالَى لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (3) . و الوجه في الجمع بينهما أن يحمل الجزء على أنه يجب أن ينفذ في واحد من العشرة و يستحب للورثة أن ينفذوا في واحد من السبعة.

وَ عَنْ صَفْوَانَ وَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ سَأَلْنَا الرِّضَا ع عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لَكَ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَ لاَ نَدْرِي السَّهْمَ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ فَقَالَ لَيْسَ عِنْدَكُمْ فِيمَا بَلَغَكُمْ عَنْ جَعْفَرٍ وَ لاَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ فِيهَا شَيْءٌ قُلْنَا لَهُ مَا سَمِعْنَا أَصْحَابَنَا يَذْكُرُونَ شَيْئاً مِنْ هَذَا عَنْ آبَائِكَ فَقَالَ السَّهْمُ وَاحِدٌ (4) مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَقُلْنَا فَكَيْفَ وَاحِدٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَقَالَ أَ مَا تَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ قُلْتُ إِنِّي لَأَقْرَؤُهُ وَ لَكِنْ لاَ أَدْرِي أَيُّ مَوْضِعٍ هُوَ فَقَالَ قَوْلُ اللَّهِ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (5) ثُمَّ عَقَدَ بِيَدِهِ ثَمَانِيَةً (6). و إذا أوصى إنسان لغيره بكثير من ماله أو نذر أن يتصدق بمال كثير فالكثير ثمانون فما زاد لقول الله تعالى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ (7) و كانت ثمانين موطنا.

ص: 313


1- سورة البقرة:260.
2- وسائل الشيعة 443/13 و فيه«عشرة اجبال».
3- وسائل الشيعة 447/13.و الآية في سورة الحجر:44.
4- الزيادة من المصدر.
5- سورة التوبة:60.
6- وسائل الشيعة 448/13.
7- سورة التوبة:25.

و الأحسن أن يقيد الكلام فيقول المال الكثير ثمانون درهما إلا إذا كان مضافا إلى جنس فإذا يكون منه خاصة.

وَ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ كَانَ ذَلِكَ السُّدُسُ (1).

وَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع إِنَّ رَجُلاً أَوْصَى إِلَيَّ بِشَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ اصْرِفْ إِلَى الْحَجِّ فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ سُبُلِهِ أَعْظَمَ مِنَ الْحَجِّ (2).

وَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ سَأَلْتُ الْعَسْكَرِيَّ ع بِالْمَدِينَةِ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِمَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ سَبِيلُ اللَّهِ شِيعَتُنَا (3). ذكر أبو جعفر بن بابويه رحمة الله عليه الوجه في الجمع بين الخبرين أن المعنى في ذلك أن يعطي المال لرجل من الشيعة ليحج به فقد انصرف في الوجهين معا و سلم الخبران من التناقض (4) و هذا وجه حسن.على أنه إن أوصى إنسان بثلث ماله في سبيل الله و لم يسم أخرج في معونة المجاهدين لأهل الضلال فإن لم يحضر مجاهد في سبيل الله يصرف أكثره في فقراء آل محمد ع و مساكينهم و أبناء سبيلهم ثم يصرف ما بقي بعد ذلك في معونة الفقراء و المساكين و أبناء السبيل عامة و في جميع وجوه البر.و إن أوصى إنسان لأولاده شيئا و قال هو بينهم على كتاب الله كان لِلذَّكَرِ

مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و إن أبهم و لم يبين كيفية القسمة بينهم أصلا كان بينهم بالسوية.و إذا أوصى المسلم للفقراء كان ذلك لفقراء المسلمين و إن أوصى الكافر كان ذلك لفقراء أهل ذمته

ص: 314


1- وسائل الشيعة 450/13 بمضمونه.
2- من لا يحضره الفقيه 206/4 مع اختصار هنا.
3- من لا يحضره الفقيه 206/4.
4- من لا يحضره الفقيه 207/4 و نقل الكلام هنا بالمعنى.

مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و إن أبهم و لم يبين كيفية القسمة بينهم أصلا كان بينهم بالسوية.و إذا أوصى المسلم للفقراء كان ذلك لفقراء المسلمين و إن أوصى الكافر كان ذلك لفقراء أهل ذمته

فَقَدْ حَدَّثَ أَبُو طَالِبٍ [عَنْ] (1)عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ : كَتَبَ الْخَلِيلُ بْنُ هَاشِمٍ إِلَى ذِي الرِّئَاسَتَيْنِ وَ هُوَ وَالِي نَيْسَابُورَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْمَجُوسِ مَاتَ وَ أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَأَخَذَهُ قَاضِي نَيْسَابُورَ فَجَعَلَهُ فِي فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ [فَكَتَبَ الْخَلِيلُ إِلَى ذِي الرِّئَاسَتَيْنِ بِذَلِكَ] (2) فَسَأَلَ الْمَأْمُونَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَيْسَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَسَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا ع فَقَالَ إِنَّ الْمَجُوسِيَّ لَمْ يُوصِ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِقْدَارُ ذَلِكَ الْمَالِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَيُرَدَّ عَلَى فُقَرَاءِ الْمَجُوسِ (3) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ .

باب الوصية التي يقال لها راحة الموت

قال الله تعالى وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ (4) أي وصى إبراهيم و يعقوب ع بنيهما بلزوم شريعة إبراهيم التي هي الإسلام و قالا إن الله رضيه لكم دينا فلا تفارقوه ما عشتم.

وَ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ جَمَعَ وُلْدَهُ وَ أَسْبَاطَهُ وَ قَالَ إِنَّ الْإِسْلاَمَ دِينُ اللَّهِ

ص: 315


1- كذا في ج و ليس في م و لا في المصدر.
2- الزيادة من المصدر.
3- وسائل الشيعة 414/13،و ليس فيه الاستشهاد بالآية ذيلا.
4- سورة البقرة:132.

الَّذِي تَعَبَّدَكُمْ بِهِ فَاَلْزَمُوهُ وَ لاَ تَعْدِلُوا عَنْهُ وَ لَوْ نُشِرْتُمْ بِالْمَنَاشِيرِ وَ قُرِضْتُمْ بِالْمَقَارِيضِ وَ أُحْرِقْتُمْ بِالنَّارِ. وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي جعل هذه الوصية بقيت في عقبه يذكرونها و كان في وصيته يا بني عليكم أن تظهروا كل حسنة وجدتم من غيركم و أن تستروا كل سيئة و فاحشة و إياكم أن تشيعوها.و قوله فَلا تَمُوتُنَّ و إن كان على لفظ النهي فما نهوا عن الموت و إنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام لئلا يصادفهم الموت عليه و تقديره لا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بفعل الكفر و مثله في كلام العرب لا أرينك هاهنا فالنهي للمتكلم في اللفظ و إنما هو في الحقيقة للمخاطب فكأنه قال لا تتعرض لأن أراك بكونك هاهنا. وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ جملة في موضع الحال أي لا تموتن إلا مسلمين.و اقتصروا على تفعلة في مصدر وصى فقالوا وصى توصية و رفضوا تفعيلا لئلا تجتمع ثلاث ياءات و معنى وصى أمر و عهد و الفرق بينهما أن الأمر يحصل بلفظ الأمر [و لو مرة و الوصية وصل لفظة الأمر بمثله] (1) أو بغيره مما يؤكده على ما قدمنا.

وَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع مَنْ أَوْصَى وَ لَمْ يَحِفْ وَ لَمْ يُضَارَّ كَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ (2) وَ مَنْ لَمْ يُوصِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِذِي قَرَابَتِهِ مِمَّنْ لاَ يَرِثُ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَةٍ (3) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ

خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (1) .

ص: 316


1- الزيادة من ج.
2- من لا يحضره الفقيه 182/4.
3- في المصدر السابق ورد هذا اللفظ في حديث عن الصادق عليه السلام و ليس فيه «ممن لا يرث».

خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (1) .

وَ قَالَ النَّبِيُّ ص الْوَصِيَّةُ تَمَامُ مَا نَقَصَ عَنِ الزَّكَاةِ وَ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ وَصِيَّتَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ نَقْصاً فِي مُرُوَّتِهِ وَ عَقْلِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ الْوَصِيَّةُ قَالَ إِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ أَنَّ الْقَوْلَ كَمَا حَدَّثَ اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي وَ عُدَّتِي صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ آنِسْ فِي قَبْرِي وَحْشَتِي وَ اجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْداً يَوْمَ أَلْقَاكَ (2).

وَ قَالَ الصَّادِقُ ع وَ تَصْدِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (3) وَ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ (4).

باب من تجوز شهادته في الوصية و شرائط الوصية

من شرط الوصية أن يشهد الموصى عليه تعيين عدلين لئلا يعترض فيه الورثة فإن لم يشهد و أمكن الوصي إنفاذ الوصية جاز له إنفاذها على ما أوصى به إليه

قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ (5)

قَالَ حَمْزَةُ بْنُ حُمْرَانَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ

ص: 317


1- سورة البقرة:180.
2- وسائل الشيعة 353/13 مع اختلاف في الفاظ.
3- سورة مريم:87.
4- وسائل الشيعة 354/3 في ذيل الحديث السابق.
5- سورة المائدة:106.

اللَّذَانِ مِنْكُمْ مُسْلِمَانِ وَ اللَّذَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ قَالَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بِأَرْضِ غُرْبَةٍ فَطَلَبَ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يُشْهِدُهُمَا عَلَى وَصِيَّتِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمَيْنِ فَلْيُشْهِدْ عَلَى وَصِيَّتِهِ رَجُلَيْنِ ذِمِّيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَرْضِيَّيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِهِمَا (1).

وَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الصَّادِقِ ع قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الْآيَةَ قَالَ اللَّذَانِ مِنْكُمْ مُسْلِمَانِ وَ اللَّذَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَمِنَ الْمَجُوسِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص شَبَّهَ الْمَجُوسَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْجِزْيَةِ قَالَ وَ إِذَا مَاتَ فِي أَرْضِ غُرْبَةٍ فَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمَيْنِ أَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ قال و ذلك إن ارتاب ولي الميت في شهادتهما. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً أي شهدا بالباطل فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ فإذا فعل ذلك نقض شهادة الأولين و جازت شهادة الآخرين لقول الله عز و جل ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ (2) .

فصل

و قد تقدم بيان هذه الآية في باب الشهادة و نزيدها إيضاحا هاهنا فنقول

إن قوله اِثْنانِ ارتفع على أنه خبر للمبتدإ الذي هو شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أو

ص: 318


1- وسائل الشيعة 392/13.
2- المصدر السابق.

على أنه فاعل شَهادَةُ بَيْنِكُمْ على معنى فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان و إِذا حَضَرَ ظرف للشهادة و حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه.و حضور الموت مشارفته و ظهور أمارات بلوغ الأجل و قيل مِنْكُمْ أي من أقاربكم و مِنْ غَيْرِكُمْ أي من أجانبكم فعلى هذا معناه إن وقع الموت في السفر و لم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية و جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت و بما هو أصلح و هم له أنصح و الأصح ما قدمناه أن قوله مِنْكُمْ أي من المسلمين و مِنْ غَيْرِكُمْ أي من أهل الذمة.و قوله إِنِ ارْتَبْتُمْ اعتراض بين القسم و المقسم عليه أي إن اتهمتموهما فحلفوهما و الضمير في به للقسم و في كان للمقسم له يعني لا يستدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا أي لا يحلف بالله كاذبين لأجل المال و لو كان من يقسم له قريبا منا.و قوله شَهادَةَ اللّهِ أي الشهادة التي أمر الله بتعظيمها و حفظها.و قوله تَحْبِسُونَهُما تقفونهما و تصيرونهما للحلف من بعد الصلاة و قيل اللام في الصلاة للجنس و القصد بالتحليف على أثرها أن تكون الصلاة لطفا في النطق بالصدق و ناهية عن الكذب فإن اطلع على أنهما فعلا ما أوجب إثما فاستوجبا أن يقال لهما إنهما من الآثمين.فشاهدان آخران من الذين جني عليهم و هم أهل الميت و اَلْأَوْلَيانِ اللاحقان بالشهادة لقرابتهما و معرفتهما و ارتفاعهما على هما الأوليان كأنه قيل و من هما فقيل الأوليان و قيل هما بدل من الضمير في يَقُومانِ أو من آخران و قرئ الأولين على أنه وصف للذين استحق عليهم.و معنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها ذلك

ص: 319

الذي يقدم من بيان الحكم أدنى أن تأتوا بالشهادة على نحو تلك الحادثة أن تكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل على ما تقدم.و يجوز شهادة النساء عند عدم الرجال فإن لم تحضر إلا امرأة جازت شهادتها في ربع الوصية فإن حضرت اثنتان جازت شهادتهما في النصف و الثلاث في النصف و الربع و الأربع في كل الوصية إذا كانت بالثلث فما دونه و العدالة معتبرة في المواضع كلها

باب نادر :

عَنْ سَلْمَى مَوْلاَةِ وَلَدِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع (1) كُنْتُ عِنْدَهُ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَعْطُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَ هُوَ الْأَفْطَسُ سَبْعِينَ دِينَاراً قُلْتُ أَ تُعْطِي رَجُلاً حَمَلَ عَلَيْكَ بِالشَّفْرَةِ قَالَ وَيْحَكَ أَ مَا تَقْرَءِينَ الْقُرْآنَ قُلْتُ بَلَى قَالَ أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى (2)اَلَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (3) .

وَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ : سَأَلَهُ أَبِي وَ أَنَا حَاضِرٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى (4) قَالَ الاِحْتِلاَمُ قَالَ فَقَالَ يَحْتَلِمُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَ نَحْوِهَا فَقَالَ لَمَّا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً كُتِبَ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ وَ جَازَ أَمْرُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً فَقَالَ وَ مَا السَّفِيهُ فَقَالَ الَّذِي يَشْتَرِي الدِّرْهَمَ بِأَضْعَافِهِ قَالَ وَ مَا

ص: 320


1- في المصدر«عن سالمة مولاة أم ولد كانت لابى عبد اللّه».
2- سورة الرعد:21.
3- تفسير البرهان 289/2.
4- سورة القصص:14.

الضَّعِيفُ فَقَالَ الْأَبْلَهُ (1).

وَ عَنِ الْعِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنِ الْيَتِيمَةِ مَتَى يُدْفَعُ إِلَيْهَا مَالُهَا قَالَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهَا لاَ تُفْسِدُ وَ لاَ تُضَيِّعُ فَسَأَلْتُهُ إِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ فَقَالَ إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدِ انْقَطَعَ مُلْكُ الْوَصِيِّ عَنْهَا (2).

وَ قَالَ : إِذَا بَلَغَ الْغُلاَمُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَةُ وَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَةُ وَ عُوقِبَ فَإِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَكَذَلِكَ وَ ذَلِكَ أَنَّهَا تَحِيضُ لِتِسْعِ سِنِينَ (3) وَ لاَ يُدْخَلُ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا تِسْعُ سِنِينَ أَوْ عَشَرَةُ سِنِينَ.

و قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ (4) يمكن أن يقال إن المعنى للآية أن للرجال و للنساء نصيبا مما اكتسبوا و هو الثلث من أموالهم الذي يصح لهم أن يوصوا به في صدقة أو صلة إن أشرفوا على الموت فإذا وصوا بثلث من أموالهم يجب أن يمضي و ينفذ ذلك فإنه نصيبهم

باب الإقرار

إقرار الحر البالغ الثابت العقل غير المولى عليه جائز على نفسه للكتاب و السنة أما الكتاب

فقوله تعالى أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ (5) أي فليقر وليه بالحق غير زائد و لا ناقص و هو العدل.

ص: 321


1- وسائل الشيعة 430/13.
2- المصدر السابق 432/13.
3- الكافي 69/7 و ليس فيه الذيل المذكور هنا.
4- سورة النساء:32.
5- سورة البقرة:282.

و أيضا قوله تعالى كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (1) و الشهادة على النفس هو الإقرار بما عليها.

و قوله فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ (2) و قوله فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا (3) و آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ (4) و الإقرار و الاعتراف واحد.

و أيضا قوله أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (5)

و قوله أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ (6) .و لا يجوز أن يكون الجواب في مثل هذا إلا ببلى و لو قال نعم كان إنكارا و لم يكن إقرارا و يكون تقديره نعم لست ربنا و لم يأتنا نذير و لهذا يقول الفقهاء إذا قال رجل لآخر أ ليس لي عليك ألف درهم فقال بلى كان إقرارا و إن قال نعم لم يكن إقرارا و معناه ليس لك علي

باب الزيادات :

رَوَى السَّكُونِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُوصِي بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ السَّهْمُ وَاحِدٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ الْآيَةَ (7).

وَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ السَّهْمَ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةٍ (8).

ص: 322


1- سورة النساء:135.
2- سورة الملك:11.
3- سورة غافر:11.
4- سورة التوبة:12.
5- سورة الأعراف:172.
6- لفظ«بلى»جواب كلام مقرون بالنفى،و«نعم»جواب كلام مقرون بالاثبات«م».
7- الكافي 41/7.
8- وسائل الشيعة 449/13.

و الحديثان متفقان لا تناقض بينهما فتمضى الوصية على ما يظهر من مراد الموصي فمتى أوصى بسهم من سهام الزكاة كان السهم واحدا من ثمانية و متى أوصى بسهم من سهام المواريث فالسهم واحد من ستة.

وَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ صَاحِبِ السَّابِرِيِّ قَالَ : أَوْصَى إِلَيَّ رَجُلٌ بِتَرِكَتِهِ وَ أَمَرَنِي أَنْ أَحُجَّ بِهَا عَنْهُ فَنَظَرْتُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ لاَ يَكُونُ لِلْحَجِّ فَسَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَ فُقَهَاءَ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالُوا تَصَدَّقْ بِهَا عَنْهُ فَلَمَّا لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ فِي الطَّوَافِ سَأَلْتُهُ فَقَالَ هَذَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي الْحِجْرِ فَسَلْهُ فَدَخَلْتُ الْحِجْرَ فَإِذَا هُوَ تَحْتَ الْمِيزَابِ فَقُلْتُ أَوْصَى إِلَيَّ رَجُلٌ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ بِتَرِكَتِهِ فَلَمْ تَكْفِ فَسَأَلْتُ مَنْ عِنْدَنَا مِنَ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا تَصَدَّقْ بِهَا فَقَالَ ع مَا صَنَعْتَ قُلْتُ تَصَدَّقْتُ بِهَا عَنْهُ فَقَالَ ضَمِنْتَ إِلاَّ أَنْ لاَ يَكُونَ مَبْلَغَ مَا يُحَجُّ بِهِ مِنْ مَكَّةَ فَإِنْ كَانَ لاَ يَبْلُغُ مَا يُحَجُّ بِهِ مِنْ مَكَّةَ فَلَيْسَ عَلَيْكَ ضَمَانٌ وَ إِنْ كَانَ بَلَغَ مَا يُحَجُّ بِهِ مِنْ مَكَّةَ فَأَنْتَ ضَامِنٌ (1).

وَ سُئِلَ ع أَيْضاً عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَجَعَلَهَا وَصِيُّهُ فِي نَسَمَةٍ فَقَالَ يَغْرَمُهَا وَصِيُّهُ وَ يَجْعَلُهَا فِي حَجَّةٍ كَمَا أَوْصَى بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (2) .

ص: 323


1- من لا يحضره الفقيه 207/4 مع تغيير و اختصار هنا.
2- الكافي 22/7.

كتاب المواريث

تركة الميت لأقاربه

قال الله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (1) فجعل تعالى تركة الميت لأقاربه من الرجال و النساء على سهام بينها في موضع آخر من كتابه و سنة نبيه ع فينبغي أن يعرف السهام على حقائقها في مواضعها.و نسلك في عملها طريق المعرفة بها دون غيره ليحصل للإنسان فهمها و يستقر لها الحكم فيها على يقين إن شاء الله تعالى

باب كيفية ترتيب نزول المواريث

اعلم أن الجاهلية كانوا يتوارثون بالحلف و النصرة و أقروا على ذلك في

ص: 324


1- سورة النساء:7.

صدر الإسلام

في قوله تعالى وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (1) ثم نسخ مع وجود ذوي الأنساب بسورة الأنفال في قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (2) .و كانوا يتوارثون بعد ذلك بالإسلام و الهجرة فروي أن النبي ص آخى بين المهاجرين و الأنصار لما قدم المدينة فكان يرث المهاجري من الأنصاري و الأنصاري من المهاجري و لا يرث وارثه الذي كان له بمكة و إن كان مسلما لقوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (3) .ثم نسخت هذه الآية بالقرابة و الرحم و النسب و الأسباب بقوله وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً (4) فبين تعالى أن أولي الأرحام أولى من المهاجرين إلا أن يكون وصية و لقوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ الآية.ثم قدر ذلك في سورة النساء في ثلاث آيات و هي أمهات أحكام المواريث ذكر الله فيها أصول الفرائض و هي سبع عشرة فريضة فذكر في قوله يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ثلاثا في الأولاد و ثلاثا في الأبوين و اثنتين في الزوج و اثنتين في المرأة و اثنتين في الأخوات من الأم و ذكر في آخر هذه السورة في قوله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ الآية أربعا في الإخوة و أخوات من الأب و الأم أو الأب

ص: 325


1- سورة النساء:33.
2- سورة الأنفال:75.
3- سورة الأنفال:72.
4- وسائل الشيعة 415/17.

مع عدمهم من الأب و الأم و ذكر واحدة و هي تمام السبع عشرة فريضة في قوله وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ

فصل في بيان ذلك

ذكر تعالى أولا فرض ثلاثة من الأولاد جعل للبنت النصف و لبنتين فصاعدا الثلثين و إن كانوا ذكورا و إناثا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ

ثم بين ذكر الوالدين في قوله وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ذكر أن لكل واحد من الأبوين السدس مع الولد بالفرض فإن لم يكن ولد فللأم الثلث و الباقي للأب و إن كان إخوة من الأب و الأم أو من الأب فلأمه السدس و الباقي للأب هذه الآية الأولى.

ثم قال وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ فذكر في صدر الآية حكمهم و ذكر في آخرها حكم الكلالة من الأم ذكر في أولها حكم الزوج و الزوجة و أن للزوج النصف إذا لم يكن ثم ولد فإن كان ولد فله الربع و أن للزوجة الربع إذا لم يكن ولد فإن كان ولد فلها الثمن ثم عقب بكلالة الأم فقال إن كان له أخ من أم أو أخت منها فله أو لها السدس و إن كانوا اثنتين فصاعدا فلهم الثلث.

وَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (1). و أيضا فإن الله لما ذكر أنثى و ذكرا و جعل لهما الثلث و لم يفصل أحدهما

ص: 326


1- سورة النساء:12.

عن الآخر ثبت أنهما يأخذان بالرحم و ذكر في قوله يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ (1) في آخر سورة النساء (2) يذكر فيها أربعة أحكام ذكر أن للأخت من الأب و الأم إذا كانت واحد فلها النصف و إن ماتت و هي لم يكن لها ولد و لها أخ فالأخ يأخذ الكل و إن كانتا اثنتين فصاعدا فلهما أو لهن الثلثان وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فإن لم يكن أخ و لا أخت من الأب و الأم فحكم الأخت الواحدة من الأب و الأخ من الأب و حكم الأختين فصاعدا من الأب و حكم الإخوة و الأخوات معا من الأب حكم الإخوة و الأخوات من الأب و الأم على ما ذكرناه.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ تَعَلَّمَ سُورَةَ النِّسَاءِ وَ عَلِمَ مَنْ يَحْجُبُ وَ مَنْ لاَ يَحْجُبُ فَقَدْ عَلِمَ الْفَرَائِضَ.

باب ما يستحق به المواريث و ذكر سهامها

قد بين الله في كتابه أن الميراث يستحق بشيئين سبب و نسب و بين أيضا أن النسب على ضربين نسب الولد للصلب و من يتقرب بهم و نسب الوالدين و من يتقرب بهما فقال يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (3) و هذا عام في الولد و ولد الولد و إن نزلوا و قال وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (3)

و قال إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ (4) الآية

و قال وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ الآية (5).

ص: 327


1- سورة النساء:176.
2- كذا و الصحيح:فى آخر سورة النساء.
3- سورة النساء:11.
4- سورة النساء:176.
5- سورة النساء:12.

و كذا بين تعالى أن السبب على ضربين الزوجية و الولاء فقال وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ

و قال فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ فإنه يدل على أن معتق زيد إذا مات و لم يخلف نسيبا كان مولاه أولى به من كل أحد فيكون ميراثه له و كذا يدل على ولاء الإمامة فإن ميراث من لا وارث له كان للنبي ع و هو لمن قام مقامه خلفا عن سلف.

و قال تعالى وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (1) فإنه يدل على ولاء تضمن الجريرة على ما تقدم.و يمنع كفر الوارث و رقه على بعض الوجوه و قتله عمدا ظلما من الميراث من جهة السبب و النسب معا.و من تأمل هذه الآيات علم أن سهام المواريث ستة النصف و الربع و الثمن و الثلثان و الثلث و السدس و إنما صارت سهام المواريث من ستة أسهم لا يزيد عليها لأن أهل المواريث الذين يرثون و لا يسقطون ستة الأبوان و الابن و البنت و الزوج و الزوجة و قيل إن الإنسان خلق من ستة أشياء و هو قول الله تعالى وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (2) الآية لمصلحة رآها الله تعالى في ذلك

باب ذكر ذوي السهام

نبدأ بذوي الأسباب الذين هم الزوجان ثم نعقبه بذكر ذوي الأنساب

قال الله تعالى وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ بين سبحانه أن للزوج

ص: 328


1- سورة النساء:33 و لفظة«عاقدت»على قراءة في الآية.
2- سورة المؤمنون:12.

النصف مع عدم الولد و ولد الولد و إن نزلوا و هو السهم الأعلى له و له الربع مع وجود الولد.

و قال وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ بين أيضا أن لها الربع مع عدم الولد و كذلك الزوجات فإن لها الثمن مع وجود الولد و ولد الولد و إن نزلوا و كذلك الزوجين و الثلاث و الأربع و هو السهم الأدنى لهن.فإذا اجتمع واحد مع الزوجين مع ذوي الأنساب أخذ هو نصيبه و الباقي لهم و إذا انفرد أحد الزوجين فإن كان هو الزوج يأخذ فرضه المسمى و الباقي يرد عليه أيضا على بعض الروايات على كل حال و إن كان زوجة تأخذ هي نصيبها و الباقي لبيت المال و في زمان الغيبة يرد إليها أيضا الباقي و لا يرثان إلا بعد وفاء الدين كله و إعطاء ثلث الوصية.

فصل

و أما ذوو الأنساب فأقواهم قرابة الولد و لذلك بدأ الله بذكر سهامه

فقال تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ و سبب نزول هذه الآية قيل فيه قولان أحدهما

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ السُّدِّيُّ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَ الْبَنَاتِ وَ الْبَنِينَ الصِّغَارَ وَ لاَ يُوَرِّثُونَ إِلاَّ مَنْ قَاتَلَ وَ طَاعَنَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ وَ أَعْلَمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْمِيرَاثِ.

"وَ قَالَ عَطَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ ابْنِ جَرِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الْوَلَدَ وَ الْوَالِدَيْنِ لِلْوَصِيَّةِ فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ.

"وَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كُنْتُ عَلِيلاً مُدْنِفاً فَعَادَنِي النَّبِيُّ ص وَ نَضَحَ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِي فَأَفَقْتُ وَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَعْمَلُ فِي مَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ (1).

ص: 329


1- انظر الدّر المنثور 125/2.

"وَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ فَنُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. و قرئ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ بفتح الصاد و كسرها و الكسر أقوى لقوله مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فتقدم ذكر الميت و ذكر المفروض مما ترك و من فتحها فلأنه ليس لميت معين و إنما هو شائع في الجميع.و معنى يُوصِيكُمُ اللّهُ فرض عليكم لأن الوصية من الله فرض كما قال وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ (1) يعني فرض عليكم ذكره الزجاج.و إنما لم يعد قوله يُوصِيكُمُ إلى قوله مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بنصب اللفظ لأنه كالقول في حكاية الجملة بعده و التقدير قال الله تعالى في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين و لأن الفرض بالآية الفرق بين الموصي و الموصى له في نحو أوصيت زيدا بعمرو

فصل في ميراث الولد

اعلم أن قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ عام في كل ولد يتركه الميت و أن المال بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و كذا حكم البنت و البنتين لها و لهما النصف و الثلثان على كل حال إلا من خصه الدليل من الرق و الكفر و القتل الظلم على ما ذكرناه فإنه لا خلاف أن الكافر و القاتل عمدا على سبيل الظلم و المملوك على بعض الوجوه لا يرثون و إن كان القاتل خطأ ففيه خلاف و عندنا يرث من المال دون الدية و المسلم عندنا يرث الكافر و فيه خلاف و العبد لا

ص: 330


1- سورة الأنعام:151.

يرث لأنه لا يملك شيئا و يورث إذا لم يكن غيره وارث في درجته بشرط أن تكون التركة أكثر من قيمته أو مثلها.و المرتد لا يرث و ميراثه لورثته المسلمين و هو قول علي ع (1) و قال ابن المسيب نرثهم و لا يرثونا و ما يروونه

عَنِ النَّبِيِّ ص أَنَّهُ قَالَ : لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ (2). فإذا صح فمعناه لا يرث كل واحد منهما من صاحبه و إنا نقول المسلم يرث الكافر و الكافر لا يرث المسلم و لم يثبت حقيقة التوارث بينهما فلا يكون كلامنا مخالفا لذلك.و قوله تعالى فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فالظاهر في هذا يقتضي أن البنتين لا يستحقان الثلثين و إنما يستحق الثلثان إذا كن فوق اثنتين لكن أجمعت الأمة أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات فتركنا له الظاهر.و قال أبو العباس المبرد و اختاره إسماعيل بن إسحاق القاضي إن في الآية دليلا على أن للبنتين الثلثين أيضا لأنه قال لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و أول العدد ذكر و أنثى و للذكر الثلثان من ستة و للأنثى الثلث علم من فحوى ذلك أن للبنتين الثلثين و إن كان بالتلويح ثم أعلم الله بعده أن ما فوق البنتين لهن الثلثان أيضا بالتصريح ليكون في باب البلاغة على الأقصى و هذا حسن.و قوله وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ يدل على أن فاطمة ع كانت مستحقة للميراث لأنه عام في كل بنت و الخبر المدعى أن الأنبياء لا يورثون خبر ما عمل به الراوي أيضا لأنه ورث ابنته مع أنه خبر واحد لا يترك له عموم الآية لأنه معلوم لا يترك بمظنون

ص: 331


1- وسائل الشيعة 384/17.
2- المصدر السابق 377/17.

فصل في ميراث الوالدين

ثم

قال وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ (1) لا خلاف في ذلك و كذا إن كان واحد من الأبوين مع الولد كان له السدس بالفرض بلا خلاف.ثم ننظر فإن كان الولد ذكرا كان الباقي للولد واحدا كان أو أكثر بلا خلاف و كذلك إن كانوا ذكورا و إناثا فالمال بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و إن كانت بنتا كان لها النصف و لأحد الأبوين السدس أو لهما السدسان و الباقي عندنا يرد على البنت و الأبوين أو أحدهما على قدر سهامهما أيهما كان لأن قرابتهما سواء.و من خالفنا يقول إن كان أحد الأبوين أبا كان الباقي له لأنه عصبة و إن كانت أما ففيهم من يقول بالرد على البنت و الأم و فيهم من يقول الباقي في بيت المال و إنما رددنا عليهم لعموم قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ (2) و هاهنا هما متساويان لأن البنت تتقرب بنفسها إلى الميت و كذا الأبوان و الخبر المدعى في أن ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر (3) خبر ضعيف و له مع ذلك وجه لا يخص به عموم القرآن.و قوله فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فمفهومه أن الباقي للأب فليس فيه خلاف.فإن كان في الفريضة زوج كان له النصف و للأم الثلث بالظاهر و ما بقي فللأب

ص: 332


1- سورة النساء:11.
2- سورة الأنفال:75.
3- الجامع الصحيح للترمذي 419/4 بمضمونه،وسائل الشيعة 432/17 قريب منه.

و من قال للأم ثلث ما بقي فقد ترك الظاهر و بمثل ما قلناه قال ابن عباس.و إن كان بدل الزوج زوجة كان الأمر مثل ذلك للزوجة الربع و للأم الثلث و الباقي للأب و به قال ابن عباس و ابن سيرين.ثم قال فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ففي أصحابنا من يقول إنما يكون لها السدس إذا كان هناك أب لأن التقدير فإن لم يكن له ولد و ورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة و ورثه أبواه فلأمه السدس.و منهم من قال إن لها السدس بالفرض مع وجود الإخوة سواء كان هناك أب أو لم يكن و به قال جميع الفقهاء غير أنا نقول إن كان هناك أب كان الباقي للأب فإن لم يكن أب كان الباقي ردا على الأم.و لا يرث أحد من الإخوة و الأخوات مع الأم شيئا سواء كانوا من قبل أب و أم أو من قبل أب أو من قبل أم على حال لأن الأم أقرب منهم بدرجة.و لا يحجب عندنا من الإخوة إلا من كان من قبل الأب و الأم أو من قبل الأب فأما من كان منهم من قبل الأم فحسب فإنه لا يحجب على حال.و لا يحجب أقل من أخوين أو أخ و أختين أو أربع أخوات بشريطة أن لم يكونوا كفارا و لا رقا و لا قاتلين ظلما فأما أخ و أخت أو أختان فلا يحجبان و كذلك ثلاث أخوات لا يحجبن علي حال و خالفنا جميع الفقهاء في ذلك.فأما الأخوان فإنه لا خلاف أنه يحجب بهما الأم عن الثلث إلى السدس إلا ما قال ابن عباس إنه لا يحجب بأقل من ثلاثة لقوله تعالى فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ قال و الثلاثة أقل الجمع.و حكي عن ابن عباس أيضا أن ما يحجب الإخوة من سهم الأم من الثلث إلى السدس يأخذه الإخوة دون الأب و ذلك خلاف ما أجمعت عليه الأمة لأنه لا خلاف أن أحدا من الإخوة لا يستحق مع الأبوين شيئا.

ص: 333

و إنما قلنا إن الأخوين يحجبان للإجماع و أيضا فإنه يجوز وضع لفظ الجمع في موضع التثنية إذا اقترنت به دلالة كما قال إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما على أن أقل الجمع اثنان.فإن قيل لم حجبت الأم الإخوة من غير أن يرثوا مع الأب.قلنا قال قتادة معونة للأب لأنه يقوم بنفقتهم و نكاحهم دون الأم و هذا بعينه رواه أصحابنا و هو دال على أن الإخوة من الأم لا يحجبون لأن الأب لا يلزمه نفقتهم على حال.و إن كان الإخوة كفارا أو مماليك أو قاتلين ظلما لا يحجبون الأم أيضا مع وجود الأب و فقده و كذلك إن كانا اثنين و كان أحد الأخوين كافرا أو رقا أو قاتلا ظلما كذلك فإن الأم لا تحجب.و قوله لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً معناه لا تعلمون أيهم أقرب نفعا في الدين و الدنيا و الله يعلمه فافهموه على ما بينه من تعلم المصلحة فيه.و قال بعضهم الأب يجب عليه نفقة الابن إذا احتاج إليها و كذلك الابن يجب عليه نفقة الأب مع الحاجة فهما في النفع في هذا الباب سواء لا تدرون أيهم أقرب نفعا و قيل لا تدرون أيكم يموت قبل صاحبه فينتفع الآخر بماله.و قوله فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ نصب على الحال من قوله لِأَبَوَيْهِ و تقديره فيثبت لهؤلاء الورثة ما ذكرناه مفروضا فريضة مؤكدة كقوله يُوصِيكُمُ اللّهُ هذا قول الزجاج و قال غيره هو نصب على المصدر من يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فرضا مفروضا و يجوز أن يكون نصبا على التمييز أي فلأمه السدس فريضة كما يقال هو لك صدقة أو هبة.و إنما يقال في تثنية الأب و الأم أبوان تغليبا للفظ الأب و لا يلزم على ذلك في ابن و ابنة لأنه هاهنا يوهم

ص: 334

فصل في ميراث الزوجين

و إن كنا قدمنا القول فيه فإنا نتكلم على ذلك أيضا هاهنا لنسق القرآن.لا خلاف أن للزوج نصف ما تتركه الزوجة إذا لم يكن لها ولد فإن كان لها ولد فله الربع بلا خلاف سواء كان ولدها منه أو من غيره و إن كان ولد لا يرث لكونه مملوكا أو كافرا أو قاتلا عمدا ظالما فلا يحجب الزوج من النصف إلى الربع و وجوده كعدمه.و كذلك حكم الزوجة لها الربع إذا لم يكن للزوج ولد على ما قلناه في الزوجة في أنه سواء كان منها أو من غيرها فإن كان لها ولد كان لها الثمن.و لا خلاف أن ما تستحقه الزوجة إن كانت واحدة فهو لها و إن كانت ثنتين أو ثلاثا أو أربعا لم يكن لهن أكثر من ذلك و لا يستحق الزوج أقل من الربع في حال من الأحوال و لا الزوجة أقل من الثمن على وجه من الوجوه و لا يدخل عليهما النقصان و كذا الأبوان لا ينقصان في حال من الأحوال لأن العول عندنا باطل على ما نذكره.و ولد الولد و إن نزل يقوم مقام الولد للصلب في حجب الزوجين من الفرض الأعلى إلى الأدون.و كل من ذكر الله له فرضا فإنما يستحقه إذا أخرج من التركة الكفن و الدين و الوصية فإن استغرق الدين المال لم تنفذ الوصية و لا ميراث و إن بقي نفذت الوصية ما لم يزد على ثلث ما يبقى بعد الدين فإن زادت ردت إلى الثلث.فإن قيل كيف قدم الوصية على الدين في هذه الآية و في التي قبلها مع أن الدين يتقدم عليها بلا خلاف.

ص: 335

قلنا لأن أو لا يوجب الترتيب و إنما هي لأحد الشيئين فكأنه قال من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الآخر كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي جالس أحدهما مفردا أو مضموما إلى الآخر (1) و يجب البدأة بالدين بعد الكفن لأنه مثل رد الوديعة التي يجب ردها على صاحبها فكذا حال الدين وجب رده أولا ثم تكون الوصية بعده ثم الميراث.و مثل ما قلناه اختاره الطبري و الجبائي و هو المعتمد عليه في تأويل الآية

فصل في ميراث كلالة الأم

ثم قال تعالى وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني من الأم بلا خلاف.و كلالة نصبها يحتمل أمرين أحدهما على أنه مصدر وقع موقع الحال و تكون كان تامة و تقديره يورث متكلل النسب كلالة و الثاني أن يكون خبر كان ناقصة و تقديره و إن كان رجل وارث كلالة فرجل اسم كان و يورث صفته و كلالة خبره و الأول هو الوجه لأن يورث هو الذي اقتضى ذكر الكلالة كما تقول يورث هذا الرجل كلالة بخلاف من يورث ميراث الصلب و يورث كلالة عصبة و غير عصبة.و اختلفوا في معنى الكلالة فقال قوم هو من عدا الولد و الوالد

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ الْكَلاَلَةَ مَا عَدَا الْوَلَدِ. و ورث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين و هو خلاف إجماع أهل الأعصار و قال ابن زيد الميت يسمى كلالة و قال قوم الكلالة هو الميت الذي لا ولد له و لا والد.و عندنا أن الكلالة هم الإخوة و الأخوات فمن ذكره الله في هذه الآية هو

ص: 336


1- الزيادة من ج.

من كان من قبل الأم و من ذكر في آخر السورة هو من قبل الأب و الأم أو من قبل الأب.و أصل الكلالة الإحاطة و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و الكلالة لإحاطتها بالنسب الذي هو الولد و الوالد و قال أبو مسلم أصلها من كل إذا أعيا فكأنه يتناول الميراث من بعد على كلال و إعياء و قال الحسين بن علي المغربي أصله عندي ما تركه الإنسان وراء ظهره مأخوذا من كلالة و هو مصدر الأكل و هو الظهر تقول ولائي فلان أكله على وزن أظله أي ظهره.و هذه الاسم تعرفه العرب و تخبره عن جملة النسب و الوراثة و لا خلاف أن الإخوة و الأخوات من الأم يتساوون في الميراث.و إنما قال وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ و لم يقل لهما و قد قال قبله وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ لرفع الإبهام و لو ثنى لكان حسنا كما يقول من كان له أخ أو أخت فليصله و يجوز فليصلها و يجوز أيضا فليصلهما فالأول يرد الكناية على الأخ و الثاني على الأخت و الثالث عليهما كل ذلك حسن.و قوله تعالى غَيْرَ مُضَارٍّ نصب على الحال و يجوز أن يكون مفعولا به. تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ أي هذه تفصيلات الله لفرائضه لأن أصل الحد هو الفصل.و قال ابن إلياس المعنى تلك حدود طاعة الله.فإن قيل إذا كان ما تقدم ذكره دل على أنها حدود الله فما الفائدة في هذا القول.قلنا عنه جوابان أحدهما أنه للتأكيد و الثاني أن الوجه في إعادته ما علق به من الوعد و الوعيد

ص: 337

فصل في ميراث كلالة الأب

قال الله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ (1) إلى آخرها.روى البراء بن عازب أن هذه الآية آخر ما نزلت بالمدينة و قال غيره نزلت في مسير كان فيه رسول الله ص (2).و اختلفوا في سبب نزولها فقال سعيد بن المسيب سئل النبي ع عن الكلالة فقال أ ليس قد بين الله ذلك فنزلت الآية

وَ قَالَ جَابِرٌ اشْتَكَيْتُ وَ عِنْدِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ لِي أَوْ سَبْعٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ع فَنَفَخَ فِي وَجْهِي فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَ لاَ أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثَيْنِ قَالَ أَحْسِنْ قُلْتُ بِالشَّطْرِ قَالَ أَحْسِنْ ثُمَّ خَرَجَ وَ تَرَكَنِي وَ رَجَعَ إِلَيَّ وَ قَالَ يَا جَابِرُ إِنِّي لاَ أَرَاكَ مَيِّتاً مِنْ وَجَعِكَ هَذَا وَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ لِأَخَوَاتِكَ فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ قَالَ وَ كَانَ جَابِرٌ يَقُولُ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ. و عن قتادة أن أصحاب رسول الله همهم شأن الكلالة فأنزل الله هذه الآية (3).و معنى يَسْتَفْتُونَكَ يسألونك يا محمد أن تفتيهم في الكلالة قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ في الكلالة فحذف أن اختصارا لما دل الجواب عليه و الاستفتاء و الاستقصاء واحد.و قوله تعالى إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ معناه مات إنسان ليس له ولد

ص: 338


1- سورة النساء:176.
2- الدّر المنثور 250/2-251.
3- التبيان 408/3.

ذكر و لا أنثى وَ لَهُ أُخْتٌ يعني و للميت أخت لأبيه و أمه أو لأبيه فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ و الباقي عندنا رد عليه أيضا سواء كان هناك عصبة أو لم يكن و قال جميع الفقهاء إن الباقي للعصبة.و إن لم يكن عصبة هناك و هم العم و بنو العم و أولاد الأخ فمن قال بالرد على ذوي الأرحام رد الباقي على الأخت و هو اختيار الجبائي و أكثر أهل العلم و هو يرثها إن لم يكن لها ولد يعني إن كانت الأخت هي الميتة و لها أخ من أب و أم أو من أب فالمال كله له بلا خلاف إذا لم يكن لها ولد سواء كان ذكرا أو أنثى لأنه تعالى قال وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و البنت بلا خلاف ولد و الدليل على صحة تسمية البنت بالولد قوله يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ثم فسر الأولاد فقال لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .فإن كان للأخت ولد ذكر فالمال كله له بلا خلاف و يسقط الأخ و إن كان بنتا كان لها النصف بالتسمية بلا خلاف و الباقي عندنا رد عليها لأنها أقرب دون الأخ.ثم قال فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ يعني إن كانت الأختان اثنتين فلهما الثلثان و هذا لا خلاف فيه و الباقي على ما بيناه من الأخت الواحدة عندنا رد عليهما دون عصبته و دون ذوي الأرحام و إذا كان هناك عصبة رد الفقهاء الباقي عليهم.فإن كانت إحدى الأختين لأب و أم و أخرى لأب فالواجب للأب و الأم النصف بلا خلاف و الباقي رد عليها عندنا لأنها مجمع السببين و لا شيء للأخت للأب لأنها انفردت بسبب واحد و عند الفقهاء لها السدس يكمله الثلثين و الباقي على ما بيناه من الخلاف. وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني إن كان الورثة إخوة رجالا و نساء للأب و الأم فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بلا خلاف

ص: 339

و إن كان الذكور منهم للأب و الأم و الإناث للأب انفرد الذكور بجميع المال بلا خلاف و إن كان الإناث للأب و الأم و الذكور للأب كان للإناث الثلثان بالتسمية بلا خلاف و الباقي عندنا رد عليهن لما بيناه من اجتماع السببين لهن.و عند جماعة الفقهاء أن الباقي للإخوة من الأب لأنهم عصبة

وَ يَرْوُونَ خَبَراً ضَعِيفاً عَنْهُ ع أَنَّهُ قَالَ : مَا اتَّفَقَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَي عَصَبَةٍ ذَكَرٍ (1). و قد قلنا ما عندنا في خبر العصبة.و يمكن أن يحمل خبر العصبة مع تسليمه على من مات و خلف زوجا أو زوجة و أخا لأب و أم و أخا لأب أو ابن أخ لأب و أم و ابن أخ لأم أو ابن عم لأب و أم و ابن عم لأب قال للزوج سهمه المسمى و الباقي لمن يجتمع كلالة الأب و الأم دون من يتفرد بكلالة الأب

وَ قَالَ عُمَرُ (2) سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص عَنِ الْكَلاَلَةِ فَقَالَ يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ (3).

باب في مسائل شتى

إذا تركت امرأة زوجها و أبويها فللزوج النصف و للأم الثلث كاملا و ما بقي فللأب

قال الله تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (4)

ص: 340


1- وسائل الشيعة 432/17 قريب منه.
2- الدّر المنثور 249/2.
3- المراد بآية الصيف قوله تعالى في آخر سورة النساء[الآية 175] «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» الى تمام الآية،و سميت آية الصيف لان اللّه سبحانه أنزل في الكلالة إحداهما في الشتاء و هي التي في أول سورة النساء و الأخرى في الصيف و هي التي في آخرها«ن».
4- سورة النساء:11.

فجعل الله للأم الثلث كاملا إذا لم يكن ولد و لا إخوة.و من الدليل على أن لها الثلث في جميع المال أن جميع من خالفنا لم يقولوا لها السدس في هذه الفريضة إنما قالوا للأم ثلث ما بقي و ثلث ما بقي هو السدس فأحبوا أن لا يخالفوا الكتاب فأثبتوا لفظ الكتاب و خالفوا حكمه و ذلك تمويه.

وَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ ع فَسَأَلَهُ عَنِ امْرَأَةٍ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَ أَخَوَيْهَا وَ أُخْتَهَا لِأُمِّهَا (1) فَقَالَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ وَ لِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ سَهْمَانِ وَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ [السُّدُسُ] (2) سَهْمٌ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ فَإِنَّ فَرَائِضَ زَيْدٍ وَ فَرَائِضَ الْعَامَّةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا يَقُولُونَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ (3) تَصِيرُ مِنْ سِتَّةٍ تَعُولُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع وَ لِمَ قَالُوا ذَلِكَ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ فَقَالَ ع فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْأُخْتِ أَخاً قَالَ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ السُّدُسُ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع فَمَا لَكُمْ نَقَضْتُمُ الْأَخَ إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَجُّونَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى لَهَا النِّصْفَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى لِلْأَخِ الْكُلَّ وَ الْكُلُّ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْأُخْتِ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ قَالَ فِي الْأَخِ وَ هُوَ يَرِثُها يَعْنِي جَمِيعَ مَالِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَلاَ تُعْطُونَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْجَمِيعَ فِي بَعْضِ فَرَائِضِهِمْ شَيْئاً وَ تُعْطُونَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُ النِّصْفَ تَامّاً وَ يَقُولُونَ (4) فِي زَوْجٍ وَ أُمٍّ وَ إِخْوَةٍ لِأُمٍّ وَ أُخْتٍ لِأَبٍ فَيُعْطُونَ الزَّوْجَ النِّصْفَ وَ الْأُمَّ السُّدُسَ وَ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثَ وَ الْأُخْتَ مِنَ الْأَبِ النِّصْفَ فَيَجْعَلُونَهَا مِنْ تِسْعَةٍ وَ هِيَ سِتَّةٌ تَعُولُ إِلَى

ص: 341


1- كذا في النسختين،و في المصدر«تركت زوجها و اخوتها لامها و اختا لابيها».
2- الزيادة من المصدر.
3- لان فيها النصف و الثلث،و قوله«تعول الى ثمانية»لان للاخوة من الام سهمين و للاخت من الأب ثلاثة أسهم و كذا للزوج فتصير ثمانية«ج».
4- كذا في النسختين،و في المصدر«فقال له الرجل:و كيف تعطى الاخت النصف و لا يعطى الذكر لو كانت هي ذكرا شيئا؟قال:يقولون».

تِسْعَةٍ (1) فَقَالَ كَذَلِكَ يَقُولُونَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ع فَإِنْ كَانَتِ الْأُخْتُ أَخاً لِأَبٍ قَالَ الرَّجُلُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ [فَقَالَ الرَّجُلُ لِأَبِي جَعْفَرٍ ع] (2) فَمَا تَقُولُ فَقَالَ لَيْسَ (3) لِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبِ وَ الْأُمِّ وَ لاَ لِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وَ لاَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأُمِّ شَيْءٌ (1).

باب من يرث بالقرابة دون الفرض

قال الله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (2) بين سبحانه أن أولى الناس بالميت أقربهم إليه و الآية بعمومها تتناول الميراث و غيره.و من يرث بالقرابة ستة فأقواهم قرابة الولد للصلب لا يرث معه أحد سواء يتقرب به أو بغيره إلا ذوي السهام المذكورين من قبل من الأبوين و الزوجين ثم ولد الولد و إن نزلوا ثم الأب ثم من يتقرب به من ولده أو أبويه ثم من يتقرب بالأم دونها (3) و دون ولدها.و مما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الأحزاب وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ

مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (4) .بين سبحانه أن من كان قرباه أقرب فهو أحق بالميراث من الأبعد و ظاهر ذلك يمنع أن يرث مع البنت و الأم أحد من الإخوة و الأخوات لأن البنت و الأم أقرب من الإخوة و الأخوات و كذلك يمنع أن يرث مع الأخت أحد من العمومة و العمات و أولادهم لأنها أقرب.و الخبر المروي في هذا الباب أن ما أثبت الفرائض فلأولي عصبة ذكر (5) خبر واحد مطعون على سنده لا يترك لأجله ظاهر القرآن الذي بين فيه أن أولي الأرحام الأقرب منهم أولى من الأبعد في كتاب الله من المؤمنين المؤاخين و المهاجرين فقد روي أنهم كانوا يتوارثون بالهجرة و المؤاخاة الأولة حتى نزلت هذه الآية.و الاستثناء منقطع في قوله إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا معناه لكن أن فعلتم معروفا من الوصية يعرف صوابه فهو حسن و لا يجوز أن تكون القرابة مشركين لقوله لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ (6) .و قد أجاز كثير من الفقهاء الوصية للقرابات الكفار و عندنا أن ذلك جائز للوالدين و الولد.و من يحتمل أمرين أحدهما أن تكون دخلت لأولى أي بعضهم أولى ببعض من المؤمنين و الثاني أن يكون التقدير و أولي الأرحام من المؤمنين و المهاجرين أولى بالميراث.

ص: 342


1- وسائل الشيعة 482/17.
2- سورة الأنفال:75.
3- أي يرث الاخوال بشرط عدم الام و أولادها«ه».
4- ثلاثة للزوج و واحد للام و اثنان لكلالتها و ثلاثة للاخت من الأب فالمجموع تسعة«ج».
5- الزيادة من المصدر.
6- لانه ليس بذى نصف و قرابة ممنوعة بالام فلا وجه لثوريثه،و لا يلزم على هذا كلالة الام لأنّها ذات نصف بخلاف الأخ للاب«ه».

مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (1) .بين سبحانه أن من كان قرباه أقرب فهو أحق بالميراث من الأبعد و ظاهر ذلك يمنع أن يرث مع البنت و الأم أحد من الإخوة و الأخوات لأن البنت و الأم أقرب من الإخوة و الأخوات و كذلك يمنع أن يرث مع الأخت أحد من العمومة و العمات و أولادهم لأنها أقرب.و الخبر المروي في هذا الباب أن ما أثبت الفرائض فلأولي عصبة ذكر (2) خبر واحد مطعون على سنده لا يترك لأجله ظاهر القرآن الذي بين فيه أن أولي الأرحام الأقرب منهم أولى من الأبعد في كتاب الله من المؤمنين المؤاخين و المهاجرين فقد روي أنهم كانوا يتوارثون بالهجرة و المؤاخاة الأولة حتى نزلت هذه الآية.و الاستثناء منقطع في قوله إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا معناه لكن أن فعلتم معروفا من الوصية يعرف صوابه فهو حسن و لا يجوز أن تكون القرابة مشركين لقوله لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ (3) .و قد أجاز كثير من الفقهاء الوصية للقرابات الكفار و عندنا أن ذلك جائز للوالدين و الولد.و من يحتمل أمرين أحدهما أن تكون دخلت لأولى أي بعضهم أولى ببعض من المؤمنين و الثاني أن يكون التقدير و أولي الأرحام من المؤمنين و المهاجرين أولى بالميراث.

ص: 343


1- سورة الأحزاب:6.
2- وسائل الشيعة 423/17.
3- سورة الممتحنة:1.

فصل

و يدل على ذلك أيضا عموم قوله تعالى وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ (1) فظاهر الخطاب يقتضي تحريم تمني ما فضل الله به بعض على بعض فلا يجوز لرجل أن يتمنى إن كان امرأة و لا للمرأة أن تتمنى لو كانت رجلا بخلاف ما فعله الله تعالى لأنه تعالى لا يفعل من الأشياء إلا ما هو الأصلح فيكون تمنى ما يكون مفسدة (2).ثم اعلم أن الله أخبر عن أحوال المؤمنين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة و عن أحوال الأنصار بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (3) .فقال أُولئِكَ يعني المهاجرين و الأنصار بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ثم أخبر عن الذين آمنوا و لم يهاجروا من مكة إلى المدينة فقال ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ .قيل نفى ولاية القرابة عنهم لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة و النصرة دون الرحم في قول ابن عباس و قيل إنه نفى الولاية التي يكونون بها يدا واحدة في الحل و العقد فنفى عن هؤلاء ما أثبته للأولين حتى يهاجروا و قيل نسخ ذلك بقوله وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (4) .

ص: 344


1- سورة النساء:32.
2- أي يكون تمنى خلاف ما فعل اللّه تعالى«ه».
3- سورة الأنفال:72.
4- سورة التوبة:71.

ثم قال وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ ففي الآية دلالة على أن من كان قرباه أقرب إلى الميت كان أولى بالميراث سواء كان عصبة أو لم يكن أو تسمية أو لم يكن لأن مع كونه أقرب تبطل التسمية.و هذه الآية نسخت حكم التوارث بالنصرة و الهجرة على ما قدمناه فإنهم كانوا لا يورثون الأعراب من المهاجرين على ما ذكر في الآيات الأول.و من قال الولاية في الآيات الأولة ولاية النصرة دون الميراث نقول ليست ناسخة لهما بل هما محكمتان.قال مجاهد في هذه الآيات الثلاث ذكر ما والى به رسول الله ص بين المهاجرين و الأنصار في الميراث ثم نسخ ذلك بآخرها من قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ .و قال ابن الزبير نزلت في العصبات كان الرجال يعاقد الرجل يقول ترثني و أرثك فنزلت وَ أُولُوا الْأَرْحامِ إلى آخرها

باب في مسائل شتى :

رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ تَرَكَ خَالَتَيْهِ وَ مَوَالِيهِ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ الْمَالُ بَيْنَ الْخَالَتَيْنِ (1). و لا يرث الموالي مع أحد من القرابات شيئا و إن كان بعيدا لأن الله تعالى قد ذكرهم و فرض لهم و أخبر أنهم أولى في هذه الآية و لم يذكر الموالي.

وَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْمُخَالِفُونَ أَنَّ مَوْلًى لِحَمْزَةَ تُوُفِّيَ وَ أَنَّ النَّبِيَّ ص

ص: 345


1- من لا يحضره الفقيه 304/4.

أَعْطَى بِنْتَ حَمْزَةَ النِّصْفَ وَ أَعْطَى وَرَثَةَ الْمَوْلَى الْبَاقِيَ (1). فهو خبر واحد و مع التسليم نقول لعل ذلك كان شيئا قبل نزول الفرائض فنسخ (2).فقد فرض الله للحلفاء في كتابه فقال وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (3) و لكنه نسخ ذلك بقول وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (4) .فمتى خلف أحد من ذوي الأرحام و ترك مولاه المنعم أو المنعم عليه فالمال لنسيبه و ليس للموالي شيء فإنه تعالى يقول وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً (5) يعني الوصية لهم بشيء أو هبة الورثة لهم من الميراث شيئا

باب ذكر من يرث بالفرض و القرابة

قال الله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (6) .اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال قوم إن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث فنزلت هذه الآية ردا لقولهم.

ص: 346


1- المصدر السابق.
2- بآية أولى الارحام«ج».
3- سورة النساء:33.
4- سورة الأنفال:75.
5- سورة الأحزاب:6.
6- سورة النساء:7.

و قال الزجاج كانت العرب لا يورثون إلا من طاعن بالرماح و ذاد عن الحريم فزلت هذه الآية ردا عليهم و بين أن للرجال و النساء نصيبا في مال الميت قليلا كان المال أو كثيرا لكيلا يتوهم أنه إذا قل كان الرجال أولى به أو خالف حكمه حكم الكثير (1).و نَصِيباً مَفْرُوضاً نصيب على الحال أي لهم نصيب حالة أن الله فرضه.و في الآية دليل على بطلان القول بالعصبة لأن الله تعالى فرض الميراث للرجال و النساء فلو جاز أن يقال النساء لا يرثن في موضع لجاز لآخرين أن يقولوا و الرجال لا يرثون.ثم قال وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ (2) هذه الآية عندنا محكمة غير منسوخة و به قال ابن عباس و جماعة و المخاطب بقوله فَارْزُقُوهُمْ الورثة أمروا بأن يرزقوا المذكورين إذا كانوا لا سهم لهم في الميراث و قال آخرون إنما يتوجه إلى من حضرته الوفاة و أراد الوصية فإنه ينبغي له أن يوصي لمن لا يرثه من هؤلاء المذكورين بشيء من ماله و الوجه الأول.

"وَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى لَهُمْ بِشَيْءٍ أُنْفِذَتْ وَصِيَّتُهُ وَ إِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ أَرْضَخُوا لَهُمْ فَإِنْ كَانُوا صِغَاراً قَالَ وَلِيُّهُمْ إِنِّي لَسْتُ أَمْلِكُ هَذَا الْمَالَ وَ لَيْسَ لِي إِنَّمَا هُوَ لِلصِّغَارِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ الَّذِي لاَ يَرِثُ الْمَذْكُورِينَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ يَقُولُ إِنَّ هَذَا لِقَوْمٍ غُيَّبٍ أَوْ يَتَامَى صِغَارٍ وَ لَكُمْ فِيهِ حَقٌّ وَ لَسْنَا نَمْلِكُ أَنْ نُعْطِيَكُمْ مِنْهُ.

"وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ قَوْلَهُ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا

اكْتَسَبْنَ نَزَلَ فِي الْمِيرَاثِ. فإن كان كذلك و إلا فالعموم أيضا يتناوله.

ص: 347


1- انظر مجمع البيان 10/2.
2- سورة النساء:8.

اكْتَسَبْنَ نَزَلَ فِي الْمِيرَاثِ. فإن كان كذلك و إلا فالعموم أيضا يتناوله.

فصل

و قال تعالى وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (1) معنى الآية جعلنا الميراث لكل من هو مولى الميت و الموالي المذكورون في الآية قال مجاهد هم العصبة و قال قوم هم الورثة و هو أقواهما و التقدير و لكم جعلنا ورثة مما ترك الوالدان و الأقربون و قيل تقديره و لكل مال تركه ميت جعلنا موالي أي قوما يرثونه فيملكون مما ترك الوالدان و الأقربون و قال الجبائي أي لكل شيء وارث هو أولى به من غيره يسمى الوارث مولى من هذه الجهة.ثم استأنف فقال وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أي عقدتم أَيْمانُكُمْ أراد بذلك عقد المصاهرة و المناكحة.

و قال الله تعالى وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ (2) اختار الطبري أن يكون المراد به آيات الفرائض قال لأن الصداق ليس مما كتب الله للنساء إلا بالنكاح فما لم تنكح فلا صداق لها عند أحد. وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ أي [و في المستضعفين و اليتامى الصغار من الذكور و الإناث لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من الذكور حتى يبلغوا فأمرهم أن يؤتوا المستضعفين من الولدان] (3) حقوقهم من الميراث.

ص: 348


1- سورة النساء:33.
2- سورة النساء:127.
3- الزيادة من م.

قال ابن جبير قوله تعالى وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني قوله يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ (1) .و قد ذكرنا أن الجاهلية لا يورثون المرأة و لا المولود حتى يكبر فأنزل الله آية الميراث في أول النساء و هو معنى قوله اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (2) أي ترغبون فيهن عن ابن سيرين و قيل أي ترغبون أن تنكحوهن.

فصل

أما قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (3) فإن المخالفين استدلوا بهذه الآية على أن البنت لا تجوز المال دون بني العم و العصبة قالوا لأن زكريا طلب وليا و لم يطلب ولية و هذا ليس بشيء لأن زكريا إنما طلب وليا لوجوه غير ذلك منها أن الله تعالى كان وعده أنه يرزقه ولدا رضيا فسأل الله إنجاح ذلك.و قيل إنما طلب وليا لأن من طباع البشر الرغبة في الذكور دون الإناث من الأولاد فلذلك طلب الذكر على أنه قيل إن لفظ الولي يقع على الذكر و الأنثى فلا نسلم أنه طلب الذكر بل الذي يقتضي الظاهر أنه طلب ولدا سواء كان ذكرا أو أنثى.و اعلم أن أكثر الخلاف بيننا و بين مخالفينا و معظمه في الفرائض و المواريث على ثلاثة أشياء العصبة و العول و الرد و نحن نبين بعد هذا أن الحق في

ص: 349


1- سورة النساء:176.
2- سورة النساء:127.
3- سورة مريم:5.

هذه الأصول معنا كما في جميع المواضع فإذا ثبت ذلك استغنينا عن التطويل بتعيين المسائل.و قد استدللنا على أمهات مسائل المواريث من الكتاب و فروعها لا يحتمل هذا الموضع ذكرها غير أنا نعقد هاهنا جملة تدل على صحة المذهب فنقول الميراث بالفرض لا يجتمع فيه إلا من كان قرباه واحدة إلى الميت مثل البنت و البنات مع الوالدين أو أحدهما فإنه متى انفرد واحد منهم أخذ المال كله بعضه بالفرض و الباقي بالرد و إذا اجتمعا أخذ كل واحد منهم ما سمي له و الباقي يرد عليهم إن فضل على قدر سهامهم و إن نقص لمزاحمة الزوج أو الزوجة لهم كان النقص داخلا على البنت أو البنات دون الأبوين أو أحدهما و دون الزوج و الزوجة.و لا يجتمع مع الأولاد و لا مع الوالدين و لا مع أحدهما أحد ممن يتقرب بهما كالكلالتين فإنهما لا يجتمعان مع الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا و لا مع الوالدين و لا مع أحدهما أبا كان أو أما بل يجتمع كلالة الأب و كلالة الأم فكلالة الأم إن كان واحدا كان له السدس و إن كان اثنين فصاعدا كان لهم الثلث لا ينقصون منه و الباقي لكلالة الأب فإن زاحمهم الزوج أو الزوجة دخل النقص على كلالة الأب دون كلالة الأم.و لا يجتمع كلالة الأب مع كلالة الأب و الأم فإن اجتمعا كان المال كله لكلالة الأب و الأم دون كلالة الأب ذكرا كان أو أنثى.و من يرث بالقرابة دون الفرض لا يجتمع إلا من كانت قرباه واحدة و أسبابه و درجته متساوية فعلى هذا لا يجتمع مع الولد الصلب ولد الولد ذكرا كان ولد الصلب أو أنثى لأنه أقرب بدرجة.

ص: 350

و كذلك لا يجتمع مع الأبوين و لا مع أحدهما ممن يتقرب بهما من الإخوة و الأخوات و الجد و الجدة على حال و لا يجتمع الجد و الجدة مع الولد الصلب و لا مع ولد الولد و إن نزلوا.و يجتمع الأبوان مع ولد الولد و إن نزلوا لأنهم بمنزلة الولد للصلب إذا لم يكن ولد الصلب.و الجد و الجدة يجتمعان مع الإخوة و الأخوات لأنهم في درج و الجد من قبل الأب بمنزلة الأخ من قبله و الجدة من قبله بمنزلة الأخت من قبله و الجد من قبل الأم بمنزلة الأخ من قبلها و الجدة من قبلها بمنزلة الأخت من قبلها.و أولاد الإخوة و الأخوات يقاسمون الجد و الجدة لأنهم بمنزلة آبائهم و آباء و الجد و الجدة و أمهاتهم يقاسمون الإخوة و أخوات أيضا.و لا يجتمع مع الجد و الجدة من يتقرب بهما من العم و العمة و الخال و الخالة و لا الجد الأعلى و لا الجدة العليا.و على هذا تجري جملة المواريث فإن فروعها لا تنحصر و الآيات التي قدمناها تدل على جميع ذلك من ظاهرها و من فحواها

باب بطلان القول بالعصبة و العول و كيفية الرد

الذي يدل على صحة مذهبنا و بطلان مذهبهم في العصبة زائدا على إجماع الطائفة الذي هو حجة

قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ (1) و هذا نص في موضع الخلاف لأن الله صرح بأن للرجال من الميراث نصيبا و أن للنساء أيضا نصيبا و لم يخص

ص: 351


1- سورة النساء:7.

موضعا دون موضع فمن خص في بعض المواريث الرجال دون النساء فقد خالف ظاهر هذه الآية.و أيضا فإن توريث الرجال دون النساء مع المواساة في القربى و الدرجة من أحكام الجاهلية و قد نسخ الله بشريعة نبينا محمد ص أحكام الجاهلية و ذم من أقام عليها و استمر على العمل بها بقوله أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً (1) .و ليس لهم أن يقولوا إنا نخص الآية التي ذكرتموها بالسنة و ذلك أن السنة التي لا تقتضي العلم القاطع لا يخص [بها القرآن كما لا ينسخه بها و إنما يجوز بالسنة أن تخص] (2) أو تنسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين و لا خلاف في أن الأخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علما و أكثر ما تقتضيه غلبة الظن على أن أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة يروونها في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة و أن يكون بالقربى و الرحم و إذا تعارضت الأخبار رجعنا إلى ظاهر الكتاب.فإن قيل إذا كنتم تستدلون على أن العمات يرثن مع العمومة و بنات العم يرثن مع بني العم و ما أشبه ذلك من المسائل بقوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ الآية ففي هذه الآية حجة عليكم في موضع آخر لأنا نقول لكم ألا ورثتم العم أو ابن العم مع البنت بظاهر هذه الآية و كيف خصصتم النساء دون الرجال بالميراث في بعض المواضع و خالفتم ظاهر الآية فألا ساغ لمخالفكم مثل ما قلتموه.قلنا لا خلاف أن قوله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ أن

ص: 352


1- سورة المائدة:50.
2- الزيادة من ج.

المراد به مع الاستواء في القرابة و الدرج أ لا ترى أنه لا يورث ولد الولد ذكورا أو إناثا مع ولد للصلب لعدم التساوي في الدرجة و القرابة و إن كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال و النساء و إذا كانت الدرجة و القرابة مراعاتين فالعم أو ابنه لا يساوي البنت في القربى و الدرجة و هو أبعد منها كثيرا و ليس كذلك العمومة و العمات و بنات العم و بنو العم لأن درجة هؤلاء واحدة و قرباهم متساوية و المخالف يورث الرجال منهم دون النساء فظاهر الآية حجة عليه و فعله مخالف لها و ليس كذلك قولنا في المسائل التي وقعت الإشارة إليها فالفرق واضح فليتأمل.

فصل

أما العول فإنه اسم يدخل في الفرائض في المواضع التي ينقص فيها المال عن السهام المفروضة منها فالذي يذهب إليه الإمامية أن المال إذا ضاق عن سهام الورثة قدم ذو السهام المولدة من الأبوين و الزوجين على البنات و الأخوات من الأب و الأم أو من الأب و جعل الفاضل من السهام لهن.و قال المخالف إن المال إذا ضاق عن سهام الورثة قسم بينهم على قدر سهامهم كما يفعل في الديون و الوصايا إذا ضاقت التركة عنها.و الذي يدل على صحة ما نذهب إليه بعد الإجماع أن المال إذا ضاق عن السهام كمرأة ماتت و خلفت ابنتين و أبوين و الزوج و المال يضيق عن الثلثين و السدس و الربع فنحن بين أمرين إما أن ندخل النقص على كل واحد من هذه السهام أو ندخلها على بعضها و قد أجمعت الأمة على أن البنتين هاهنا منقوصتان بلا خلاف فيجب أن يعطي الأبوين السدسين و الزوج الربع و يجعل ما بقي للبنتين و نخصهما بالنقص لأنهما منقوصتان بالإجماع و ما عداهما ما

ص: 353

وقع إجماع على نقصه من سهامه و لا قام دليل على ذلك.فظاهر الكتاب يقتضي أن له سهما معلوما فيجب أن نوفيه إياه و نجعل النقص لاحقا بمن أجمعوا على نقصه و قد استدل على ذلك بعض أصحابنا من القرآن و عليه اعتراضات كثيرة فأضربنا عنه.

فصل

و أما الرد فعندنا أن الفاضل عن فرض ذوي السهام من الورثة يرد على أصحاب السهام بقدر سهامهم و لا رد على الزوجين كمن خلف بنتا و أبا فللبنت بالتسمية النصف و للأب بالتسمية السدس و ما بقي بعد ذلك و هو ثلث المال رد عليهم بقدر أنصبائهما فللبنت ثلاثة أرباعه و للأب ربعه.و يمكن أن يستدل عليه

ص: 354

و الجواب عن ذلك أن النصف إنما وجب لها بالتسمية لأنها أخت و الزيادة إنما تأخذها لمعنى آخرها و هو الرد بالرحم و ليس يمتنع أن ينضاف سبب إلى آخر مثال ذلك الزوج إذا كان ابن عم و لا وارث معه فإنه يرث بالزوجية النصف و النصف الآخر عندنا لأجل القرابة و عند مخالفينا لأجل العصبة و لم يجب إذا كان الله تعالى قد سمى النصف له مع فقد الولد أن لا يزاد على ذلك لأنا قد بينا أن النصف قد يستحق بسبب آخر و هو الرد فاختلف السببان

باب بيان أن فرض البنتين الثلثان

إن سأل سائل عن

قوله تعالى فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ (1) فقال من أين تقولون إن فرض البنتين هو الثلثان و قوله فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يتضمن بأن الثلثين سهم من زاد على البنتين دون البنتين.الجواب أن الله تعالى لما علمنا الفرائض و قال يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (2) نبه بذلك أولا على أن لكل ذكر حظ كل أنثيين لأن اللام التي في كلتا الكلمتين للجنس تفيد ما ذكرنا فلما بين لنا ذلك علمنا أن للابن سهم البنتين بهذا التصريح و علمنا أيضا أن للبنتين الثلثين بهذا البلوغ.و إنما قلنا ذلك لأنه إذا اجتمع ابن و بنت و كان للابن الثلثان و للبنت الثلث هاهنا علم من ذلك أن للبنتين الثلثين فكفى هذا النص في بيان فريضة البنتين و لم يحتج لأجل ذلك إلى غيره.

ص: 355


1- سورة النساء:12.
2- سورة النساء:11.

و ليس لأحد أن يقول إنما يتمشى لكم ذلك لو كان الثلثان في كل موضع نصيب الابن مع وجود البنتين و الثلاث فصاعدا أيضا كما كان مع بنت واحدة و ذلك لأن أول العدد على ظاهر القرآن ذكر و أنثى و للذكر الثلثان فلا اعتبار بما سواه من الأحوال لأن الدرجة الأولى هي التي يبنى عليها و اللفظ يقتضي ذلك.و يمكن أن يستدل على ذلك بوجه آخر و هو أن يقال إن الله تعالى بين نصيب الولد الذكر سهمين و ذكر الأنثيين و بين فرضهما من فحواه و بين فرض من فوق اثنتين من البنات بعده فدلت الآية على سهم البنتين كما ذكرناه من فحواها و دلت على حظ من زاد عليهما من الثلاث و الأربع فصاعدا من حيث ظاهر اللفظ و التصريح ليكون في باب الفصاحة أبلغ و من التكرار أبعد.و أما قوله فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فقد علمنا به أن الثلثين فرض يسمى لمن زاد على البنتين أيضا كما أن هذه التسمية تتصور مع فقد جنس البنتين من الثلثين فرض لهما بالنص الأول إلا أن هذه التسمية إنما تتصور مع فقد جنس البنتين من الصلب.و كذا قوله وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ لأنه ليس للبنت الواحدة و لا للاثنتين فصاعدا مع وجود ابن فما زاد فرض مسمى بل يكون الميراث بينهما لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و مثاله قوله تعالى إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ فسمى سبحانه للأخت الواحدة من الأب و الأم أو من الأب النصف و للأختين منه الثلثين.و إنما يصح ذلك شريطة فقد أحد من الإخوة فصاعدا أ لا ترى إلى قوله تعالى بعده وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قد أسقط

ص: 356

فيه الاعتبار الأول و أثبت لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فيه إذا كانوا رجالا و نساء.و استدل بعض الفقهاء على أن للبنتين الثلثين من هذه الآية و حمل ذاك على هذا و ليس ذلك بشيء.و ما أوردت أنا آية الكلالة في هذا الموضع للدلالة و إنما هي على طريق المثال و التمثيل جائز و ليس بقياس يدل عليه

مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فِي الرَّجُلِ يَرْمِي الصَّيْدَ وَ هُوَ يَؤُمُّ الْحَرَمَ فَتُصِيبُهُ الرَّمْيَةُ فَيَتَحَامَلُ بِهَا حَتَّى يَدْخُلَ الْحَرَمَ فَيَمُوتُ قَالَ ع لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ نَصَبَ شَبَكَةً فِي الْحِلِّ فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ فَاضْطَرَبَ حَتَّى دَخَلَ الْحَرَمَ فَمَاتَ فِيهِ قُلْتُ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْقِيَاسِ قَالَ لاَ إِنَّمَا شَبَّهْتُ لَكَ شَيْئاً بِشَيْءٍ (1). و ليس لأحد أن يقول ألزمت نفسك في إيراد هذا الجواب بهذا التطويل شيئا ليس يلزمك و قد أمكنك رد السائل بأن لو دفعته بإبطال دليل الخطاب و ذلك لأن هذه الآية مظنة للنصوص على المواريث مفصلة في أصولها غير مجملة ليست آية من القرآن بهذا التفصيل في المعنى.و لو أجبت السائل بذلك لكان دفعا بالراح و لم يكن مغنيا بل يلزمني مع ذلك إيراد النص على ذلك من الآية أو من موضع آخر من الكتاب أو السنة و الاشتغال بالأحسن أولى مع أن دليل الخطاب و إن كان المرتضى يمنع منه و هو قوي و كلامه لا غبار عليه فإن الشيخ المفيد كان يقول به و ينصره و الشيخ أبو جعفر الطوسي كان متوقفا فيه.فإن قيل إن ما استدللتم به ضرب من القياس و أنتم لا تقولون به.قلنا هذا كلام من لا يعرف دلالة النص و لا حكم القياس و ذلك لأنه لا

ص: 357


1- وسائل الشيعة 225/9.

خلاف بين الفقهاء المحصلين أن الخطاب الذي يستقل بنفسه و يمكن معرفة المراد به على أربعة أقسام أولها ما وضع في أصل اللغة لما أريد به و كان صريحا فيه سواء كان خاصا أو عاما فمتى خاطب الحكيم به يعلم المراد بظاهره.و ثانيها ما يفهم به المراد بفحواه لا بصريحه و ليست دلالة هذا الضرب في القوة يقصر عن الضرب الأول و في الوجهين ربما يحتاج إلى قرينة.و ثالثها تعليق الحكم بصفة الشيء فإنه يدل على أن ما عداه بخلافه على ما يدل و إن كان فيه خلاف على ما أشرنا إليه.و رابعها ما يدل فائدته عليه لا صريحه و لا فحواه و لا دليله.على أن الروايات عن أئمة الهدى ع الذين كان فيهم التنزيل و من عندهم التفسير و التأويل متظافرة في أن الثلثين فرض البنتين و كلامهم كله من رسول الله ص وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى .فعلمنا ذلك منهم ع و أجمعت الطائفة المحقة على صحتها فإذا أضفنا كتاب الله إليه فتلك دلالة تنضاف إلى دلالة و إلا ففي إجماع الإمامية كفاية.

فصل

وَ مِنْ شُجُونِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الْفَهْفَكِيَّ سَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيَّ ع فَقَالَ مَا بَالُ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ الضَّعِيفَةِ تَأْخُذُ سَهْماً وَاحِداً وَ يَأْخُذُ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ سَهْمَيْنِ فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ ع لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا جِهَادٌ وَ لاَ نَفَقَةٌ وَ لاَ مَعْقُلَةٌ إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي قَدْ كَانَ قِيلَ لِي

ص: 358

إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَجَابَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ فَأَقْبَلَ ع عَلَيَّ وَ قَالَ نَعَمْ هَذِهِ مَسْأَلَةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَ الْجَوَابُ مِنَّا وَاحِدٌ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَاحِداً (1).

وَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع وَ قَدْ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ لِمَ صَارَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَقَالَ لِمَا جُعِلَ لَهَا مِنَ الصَّدَاقِ (2).

وَ قَالَ الرِّضَا ع إِعْطَاءُ النِّسَاءِ نِصْفَ مَا يُعْطَى الرِّجَالُ مِنَ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ أَخَذَتْ وَ الرَّجُلُ يُعْطِي فَلِذَلِكَ وُفِّرَ عَلَى الرِّجَالِ وَ لِأَنَّ الْأُنْثَى فِي عِيَالِ الذَّكَرِ إِنِ احْتَاجَتْ وَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُولَهَا وَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَعُولَ الرَّجُلَ وَ لاَ تُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهِ إِنِ احْتَاجَ فَوُفِّرَ عَلَى الرَّجُلِ لِذَلِكَ وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ (3) .

باب أن القاتل خطأ يرث المقتول من التركة لا من الدية

يدل عليه ظواهر آيات المواريث كلها مثل

قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (4) .فإذا عورضنا بقاتل العمد فهو يخرج بدليل قاطع لم يثبت مثله في قاتل الخطإ.و يمكن أن يقوى ذلك أيضا بأن الخاطئ معذور فلا يجب أن يحرم

ص: 359


1- كشف الغمّة 299/3.
2- وسائل الشيعة 438/17.
3- عيون أخبار الرضا 96/2،و الآية في سورة النساء:34.
4- سورة النساء:11.

الميراث الذي يحرمه القاتل ظلما على سبيل العقوبة.فإن احتج المخالف بقوله وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ (1) فإن كان القاتل خطأ وارثا لما وجب عليه تسليم الدية.فالجواب عن ذلك أن وجوب تسليم الدية على القاتل إلى أهله لا يدل على أنه لا يرث ما دون هذه الدية من تركته لأنه لا تنافي بين الميراث و بين تسليم الدية و أكثر ما في ذلك أن لا يرث من الدية التي يجب عليه تسليمها شيئا و إلى هذا نذهب

باب أن المسلم يرث الكافر

جميع ظواهر آيات المواريث دالة على أن المسلم يرث الكافر لأن قوله يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعم المسلم و الكافر و كذلك آية ميراث الأزواج و الزوجات و الكلالتين.و ظواهر هذه الآيات كلها تقتضي أن الكافر كالمسلم في الميراث فلما أجمعت الأمة على أن الكافر لا يرث المسلم أخرجناه بهذا الدليل الموجب للعلم.و نفي ميراث المسلم من الكافر تحت الظاهر كميراث المسلم من المسلم و لا يجوز أن يرجع عن هذا الظاهر بأخبار الآحاد التي يروونها لأنها توجب الظن و لا يخص بها و لا يرجع عما يوجب العلم من ظواهر الكتاب.و ربما عول بعض المخالفين لنا في هذه المسائل على أن المواريث بنيت على النصرة و الولاء بدلالة قوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (2) فقطع بذلك الميراث بين المسلم المهاجر و بين المسلم الذي

ص: 360


1- سورة النساء:92.
2- سورة الأنفال:73.

لم يهاجر إلى أن نسخ ذلك بانقطاع الهجرة بعد الفتح فلذلك يرث الذكور من العصبة دون الإناث لنفي العقد و النصرة عن النساء و لذلك لا يرث القاتل عمدا ظلما و لا العبد لنفي النصرة.و هذا ضعيف جدا لأنا أولا لا نسلم أن المواريث بنيت على النصرة و المعونة لأن النساء يرثن و كذا الأطفال و لا نصرة هاهنا و علة ثبوت المواريث غير معلومة على التفصيل و إن كنا نعلم على سبيل الجملة أنها للمصلحة.و بعد فإن النصرة مبذولة من المسلم للكافر في الواجب على الحق كما أنها مبذولة للمسلم بهذه الشروط

باب أن ولد الولد ولد و إن نزل

الدليل على ذلك بعد الإجماع

قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و هذا يدخل فيه الولد للصلب و ولد الولد و لا خلاف أن مع أولاد الابن للوالدين السدسين.و لا اعتبار بخلاف بعض أصحاب الحديث من أصحابنا لأن الإجماع عندنا إنما كان حجة لكون المعصوم فيه و من خالف فيه معلوم أنه ليس بمعصوم فلا يعتد بخلافه و لا ينعكس ذلك علينا لأنا لا نعلم أن كل من قال بما قلناه ليس بمعصوم لتجويز أن يكون بعض علماء الأمة الذي لا يعرف نسبه و لا ولادته إماما.فإن قيل لا نسلم أن ولد الولد ولد حقيقة.قلنا هذا خلاف القرآن لأن الله تعالى قال وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ (1) و لا خلاف أن امرأة ولد الولد يحرم نكاحها و وطؤها سواء كان

ص: 361


1- سورة النساء:23.

ولد ابن أو ولد بنت و إن نزلوا ببطون كثيرة لا خلاف بين الأمة في ذلك و إنما شرط في الآية بقوله اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لئلا يتوهم أن ولد الدعي الذي تبناه به يحرم عليه نكاح زوجته إذا فارقها فإن هذا الحكم يختص الولد للصلب و إن نزلوا.

و قال تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ (1) و لا خلاف أن من عقد عليه إنسان فإن الجد لا يجوز العقد عليها و إن علا و إذا كان الجد أبا في هذا الموضع فولد الولد يكون ولدا قال تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ (2) .

و قال تعالى نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ (3) و لا خلاف أنه عنى بذلك الحسن و الحسين ع لأنه لم يحضر المباهلة غيرهما من الأبناء.و أيضا فلو أن إنسانا وصى بثلث ماله لولد رسول الله ص و لولد علي ع كان يجب أن لا تصح الوصية لأن أولادهما للصلب ليسوا بموجودين و ولد الولد على هذا المذهب ليس بولد و كذا لو وقف وقفا عليهم كان يجب أن لا يصح الوقف لمثل ما قلناه و كل ذلك باطل بالاتفاق.فإن قيل لو كان ولد الولد ولدا على الحقيقة لوجب أن يكون المال بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إذا كان ابن بنت و بنت ابن و المذهب بخلافه.قلنا في أصحابنا من ذهب إلى ذلك و كان المرتضى ينصره و نحن إذا قلنا بخلافه نقول لو خلينا و الظاهر لقلنا بذلك و لكن أجمعت الأمة على خلافه فإن مخالفينا لا يورثون ولد البنت مع ولد الابن شيئا أصلا و أصحابنا يقولون إن كل واحد يأخذ نصيب من يتقرب به

لِقَوْلِهِ ع وَلَدُ

ص: 362


1- سورة النساء:22.
2- سورة الحجّ:78.
3- سورة آل عمران:61.

الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ. فولد الابن يقوم مقام الابن ذكرا كان أو أنثى و ولد البنت يقوم مقام البنت و يأخذ نصيبها ذكرا كان أو أنثى و إذا أقمناهم مقام آبائهم و أمهاتهم فكان هم أولاد للصلب لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .على أنه لو كان ميراث ولد الولد بالرحم و القرابة لأدى إلى أنه إذا ترك بدرجتين عن ولد الصلب أن يكون المال للأخ دونه و إذا نزل ثلاث درج أن يكون المال للعم دونه إذا نزل بأربع درج أن يكون الميراث لابن العم دونه و أن يكون ولد الولد يقاسم الأخ و كل ذلك فاسد فكان يؤدي إلى أن يكون ولد الأخ لا يقاسم الجد و ولد ولد الأخ مع العم يكون المال للعم و ذلك باطل

باب الزيادات

أما قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فمعناه يعهد إليكم و يأمركم في شأن ميراث أولادكم بما هو العدل و المصلحة و هذا إجمال تفصيله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (1) .فإن قيل هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر.قلنا بدأ ببيان حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك و لأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث و هو السبب لورود الآية فقيل كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به و تقديره للذكر منهم فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم كقولهم السمن منوان بدرهم.

ص: 363


1- سورة النساء:11.

مسألة

أول من يتقرب إلى الميت بنفسه الولد و الوالدان

قال تعالى يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ثم قال وَ لِأَبَوَيْهِ إلى قوله عَلِيماً حَكِيماً فقدم الولد و الوالدين على جميع ذوي الأرحام لقربهم من الميت و أخر من سواهم من الأهل عن رتبتهم في القربى و جعل لكل واحد منهم نصيبا سماه له و بينه لنزول الشبهة عمن عرفه في استحقاقه.

مسألة

و قوله وَ لِأَبَوَيْهِ الضمير للميت و ما بعده بدله بتكرير العامل و الإبدال و التفصيل بعد الإجمال تأكيد و تشديد.فإن قيل كيف يصح أن يتناول الإخوة الأخوين و الجمع خلاف التثنية.قلنا الإخوة يفيد الجمعية المطلقة بغير كمية و التثنية كالتثليث و التربيع في إفادة الكمية و هذا موضع الدلالة على الجمع المطلق فدل بالإخوة عليه.

مسألة

ص: 364

من ذي قرابتي و يجوز أن يكون صفة كالفقاقة للأحمق.فإن جعلتها اسما للقرابة في الآية فانتصابها على أنه مفعول له أي يورث لأجل الكلالة أو يورث غيره لأجلها فإن جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث فالرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث و كلالة حال أو مفعول به إذا قرئ يورث على البناء للفاعل بالتخفيف و التشديد

ص: 365

كتاب الحدود

اشارة

الحد في أصل اللغة المنع و حد العاصي سمي به لأنه شيء يمنعه عن المعاودة و الحدود في الشريعة معروفة موضوعة للعصاة لا يجوز أن يتجاوز عنها و قد أمر الله بها في أشياء مخصوصة و نحن نذكر جميع وجوهها و جميع أحكامها بابا بابا إن شاء الله تعالى.

وَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ ع أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ بِالسَّوْطِ وَ بِنِصْفِ السَّوْطِ وَ بِبَعْضِ السَّوْطِ يَعْنِي الْحُدُودَ إِذَا أُتِيَ بِغُلاَمٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَمْ يُدْرِكَا لَمْ يَكُنْ يُبْطِلُ حَدّاً مِنْ حُدُودِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ كَيْفَ كَانَ يَضْرِبُ بِبَعْضِهِ قَالَ كَانَ يَأْخُذُ السَّوْطَ بِيَدِهِ مِنْ وَسَطِهِ فَيَضْرِبُ بِهِ أَوْ مِنْ ثُلُثِهِ فَيَضْرِبُ عَلَى قَدْرِ أَسْنَانِهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُهُمْ بِالسَّوْطِ وَ لاَ يُبْطِلُ حَدّاً مِنْ حُدُودِ اللَّهِ (1).

وَ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ ع إِنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تَنْقُصُوهَا وَ سَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ وَ لَمْ يَسْكُتْ عَنْهَا نِسْيَاناً لَهَا فَلاَ تَتَكَلَّفُوهَا رَحْمَةً

ص: 366


1- الكافي 176/7 مع اختلاف في بعض الألفاظ.

مِنَ اللَّهِ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا (1). [و المريض إذا وجب عليه حد دون هلاكه يؤخذ دقاق فيضرب عليه لمرة أو مرتين

قال الله تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ] (2) .

فصل

قال الله تعالى وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (3) شرع الله تعالى في بدو الإسلام إذا زنت الثيب أن تحبس حتى تموت و البكر أن تؤذى و توبخ حتى تتوب ثم نسخ هذا الحكم فأوجب على الثيب الرجم و على البكر جلد مائة.

وَ رَوَى عِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ : خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (4) الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَ تَغْرِيبُ عَامٍ وَ الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَ الرَّجْمُ (5). و قيل المراد بالآية الأولى الثيب و بالثانية البكر بدلالة أنه أضاف النساء إلينا في الأولى فقال وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فكانت إضافة زوجية لأنه لو أراد غير الزوجات لقال من النساء و لا فائدة للزوجية هاهنا إلا أنها ثيب.و قال أكثر المفسرين إن هذه الآية منسوخة لأنه كان الفرض الأول أن

ص: 367


1- من لا يحضره الفقيه 75/4.
2- الزيادة من م،و الآية في سورة ص:44.
3- سورة النساء:15.
4- الآية في سورة النساء:15 «أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً». .
5- مسند أحمد بن حنبل 313/5.

المرأة إذا زنت و قامت عليها البينة بذلك أربعة شهود أن تحبس في البيت أبدا حتى تموت ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين و الجلد في البكرين.

فصل

و قوله أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً

"قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى السَّبِيلِ أَنَّهُ الْجَلْدُ لِلْبِكْرِ مِائَةٌ وَ لِلثَّيِّبِ الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ. و قوله يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي بالفاحشة فحذف الباء كما يقولون أتيت أمرا عظيما أي بأمر عظيم.و قال أبو مسلم وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ هي المرأة تخلو بالمرأة في الفاحشة المذكورة عنهن أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً بالتزويج و و الاستغناء بالنكاح و هذا خلاف ما عليه المفسرون لأنهم متفقون على أن الفاحشة المذكورة في الآية هي الزنا و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع (1).

وَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي قَالَ النَّبِيُّ ص قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَ تَغْرِيبُ عَامٍ وَ الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ ثُمَّ الرَّجْمُ (2). قال الحسن و قتادة إذا جلد البكر فإنه ينفى سنة و هو مذهبنا و قال الجبائي النفي يجوز من طريق اجتهاد الإمام و أما من وجب عليه الجلد و الرجم فإنه يجلد أولا ثم يرجم و أكثر الفقهاء على أنهما لا يجتمعان في الشيخ الزاني المحصن أيضا.و ثبوت الرجم معلوم من جهة التواتر لا يختلج فيه شك (3) و لا اعتداد بخلاف الخوارج فيه.

ص: 368


1- انظر تفسير البرهان 353/1.
2- مستدرك الوسائل 226/3.
3- لانه عليه السلام رجم ماعز بن مالك الاسلمى حين أقر بالزنا أربع مرّات عند النبيّ عليه السلام و قال:يا رسول اللّه قد زنيت فطهرنى«ه».

و أما قوله وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما (1) المعنى بقوله اللذان فيه ثلاثة أقوال أقواها ما قال الحسن و عطا إنهما الرجل و المرأة و قال السدي و ابن زيد هما البكران من الرجال و النساء و قال مجاهد هما الرجلان الزانيان.قال الرماني قول مجاهد لا يصح لأنه لو كان كذلك لكان للتثنية معنى لأنه إنما يجيء الوعد و الوعيد بلفظ الجمع لأنه لكل واحد منهم أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الذي يعمهم جميعهم و أما التثنية فلا فائدة فيها و الأول أظهر.و قال أبو مسلم هما الرجلان يخلوان في الفاحشة بينهما.و الذي عليه جمهور المفسرين أن الفاحشة هي الزنا هاهنا و أن الحكم المذكور في هذه الآية منسوخ بالحد المفروض في سورة النور و بعضهم قال نسخها الحدود بالرجم أو الجلد.و قوله تعالى فَآذُوهُما قيل في معناه قولان أحدهما قول ابن عباس و هو التعيير باللسان و الضرب بالنعال و قال مجاهد هو التوبيخ.فإن قيل كيف ذكر الأذى بعد الحبس.قلنا فيه ثلاثة أوجه أحدها قول الحسن إن هذه الآية نزلت أولا ثم أمر بأن يوضع في التلاوة بعد مكان الأذى أولا ثم الحبس ثم بعد ذلك نسخ الحبس بالجلد أو الرجم.الثاني قال السدي إنه في البكرين خاصة دون الثيبين و الأولى في الثيبين دون البكرين.الثالث قول الفراء إن هذه الآية نسخت الأولى.

ص: 369


1- سورة النساء:16.

و قال الجبائي في الآية دلالة على نسخ القرآن بالسنة المقطوع بها لأنها نسخت بالرجم أو الجلد و الرجم ثبت بالسنة و من خالف في ذلك يقول هذه الآية نسخت بالجلد في الزنا و أضيف إليه الرجم زيادة لا نسخا و لم يثبت نسخ القرآن بالسنة.و أما الأذى المذكور في الآية فليس بمنسوخ فإن الزاني يؤذى و يوبخ على فعله و يذم و إنما لا يقتصر عليه فزيد في الأذى إقامة الحد عليه و إنما نسخ الاقتصار عليه.

وَ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ فَقَالَتْ إِنِّي فَجَرْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ حَدَّ اللَّهِ فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا وَ كَانَ عَلِيٌّ ع حَاضِراً فَقَالَ لَهُ سَلْهَا كَيْفَ فَجَرْتِ قَالَتْ كُنْتُ فِي فَلاَةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَصَابَنِي عَطَشٌ شَدِيدٌ فَرُفِعَتْ لِي خَيْمَةٌ فَأَتَيْتُهَا فَأَصَبْتُ فِيهَا أَعْرَابِيّاً فَسَأَلْتُهُ الْمَاءَ فَأَبَى عَلَيَّ أَنْ يَسْقِيَنِي إِلاَّ أَنْ أُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِي فَوَلَّيْتُ مِنْهُ هَارِبَةً فَاشْتَدَّ فِيَّ الْعَطَشُ حَتَّى غَارَتْ عَيْنَايَ وَ [ذَهَبَ لِسَانِي] فَلَمَّا بَلَغَ مِنِّي [الْعَطَشُ] أَتَيْتُهُ فَسَقَانِي وَ وَقَعَ عَلَيَّ فَقَالَ عَلِيٌّ ع هَذِهِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (1) هَذِهِ غَيْرُ بَاغِيَةٍ وَ لاَ عَادِيَةٍ فخلا [فَخَلَّى] سَبِيلَهَا (2).

فصل

أما قوله اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (3) الآية فإن حكم الزنا لا يثبت إلا بشيئين أحدهما بإقرار الفاعل بذلك على نفسه مع كمال عقله من غير إجبار

ص: 370


1- سورة البقرة:173.
2- من لا يحضره الفقيه 35/4 و الزيادتان منه.
3- سورة النور:2.

أربع مرات في أربع مجالس فلو أقر بالوطي في الفرج أربعا حكم له بالزنا و إن أقر أقل من ذلك كان عليه التعزير.و الثاني قيام البينة بالزنا و هو أن يشهد أربعة عدول على مكلف بأنه وطئ امرأة ليس بينها و بينه عقد و لا شبهة عقد و شاهدوا وطئها في الفرج فإذا شهدوا كذلك قبلت شهادتهم و حكم عليه بالزنا و وجب عليه ما يجب على فاعليه من أي قسم كان على ما ذكرناه.أمر الله في هذه الآية أن يجلد الزاني و الزانية إذا لم يكونا محصنين كل واحد منهما مائة جلدة و إذا كانا محصنين أو أحدهما كان على المحصن الرجم بلا خلاف.و عندنا أنه يجلد أولا مائة جلدة ثم يرجم و في أصحابنا من خص ذلك بالشيخ و الشيخة إذا زنيا و كانا محصنين كما ذكرناه فأما إذا كانا شابين محصنين لم يكن عليهما غير الرجم و هو قول مسروق.و الإحصان الذي يوجب الرجم هو أن يكون له زوج يغدو إليها و يروح على وجه الدوام و كان حرا فأما العبد فلا يكون محصنا و كذا الأمة لا تكون محصنة و إنما عليهما نصف الحد خمسون جلدة.و الحر متى كان عنده زوجة سواء كانت حرة أو أمة يتمكن من وطئها مخلى بينه و بينها أو كانت هذه أمة يطأها بملك اليمين فإنه متى زنى وجب عليه الرجم.و من كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا أو كان محبوسا أو هي محبوسة هذه المدة فلا إحصان و من كان محصنا على ما قدمناه و قد ماتت زوجته أو طلقها بطل إحصانه.

فصل

و قد استدل بعض المفسرين على الرجم حيث يجب الرجم و على القتل

ص: 371

حيث يجب القتل في الزنا من الكتاب

فإن الله تعالى وضع قوله وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً (1) في الأنعام و بني إسرائيل بين قوله وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ (2) و قوله وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ (3) إشارة إلى ذلك لأن الحق الذي يستباح به قتل النفس في الشريعة الكفر بعد الإيمان و قود النفس الحرام و الزنا بعد الإحصان.و ما ذكرنا من أنه يجمع على الزاني المحصن الجلد و الرجم يبدأ بالجلد و يثنى بالرجم و دليلنا عليه إجماع الطائفة المحقة فإنه لا خلاف في استحقاق المحصن الرجم و إنما الخلاف في استحقاق الجلد.و الذي يدل على استحقاقه إياه قوله تعالى اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ و المحصن يدخل تحت هذا الاسم فيجب أن يكون مستحقا للجلد فكأنه تعالى قال اجلدوهما لأجل زناهما و إذا كان الزنا علة لاستحقاق الحد وجب في المحصن كما وجب في غيره و استحقاقه الرجم غير مناف لاستحقاقه الجلد لأن استحقاق الحدين لا يتنافى و اجتماع الاستحقاقين لا يتناقض و لا تحمل هذه الآية على الإنكار لأنه تخصيص بغير دليل.و الخطاب بهذه الآية و إن كان متوجها إلى الجماعة فالمراد به الأمة بلا خلاف لأن إقامة الحد ليس لأحد إلا للإمام أو لمن نصبه الإمام.فإذا كان الذي من وجب عليه الرجم قد قامت عليه بينة كان أول من يرجمه الشهود ثم الإمام ثم الناس و إن كان قد وجب عليه بإقراره على نفسه كان أول من يرجمه الإمام ثم الناس (2).

ص: 372


1- سورة الإسراء:32. (2-3) سورة الأنعام:151.
2- الزيادة من م.

و ليس كل وطي حرام زنا لأنه قد يطأ في الحيض و النفاس و هو حرام و لا يكون زنا و كذا لو وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها لم يكن ذلك زنا لأنه شبهة

عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ إِذَا وَطِئَهَا مِنْ غَيْرِ تَحَرُّزٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ سِرّاً وَ عَلَيْهَا جَهْراً. و يمكن الجمع بين الروايتين.

فصل

قوله

وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ (1) معناه لا تمنعكم الرحمة من إقامة الحد و قال الحسن لا يمنعكم ذلك من الجلد الشديد أي إن كنتم تصدقون بما وعد الله و توعد عليه و تقرون بالبعث و النشور و لا يأخذكم فيما ذكرناه الرأفة و لا يمنعكم من إقامة الحد على ما ذكرناه فمن وجب عليه الجلد فاجلدوه مائة جلدة كأشد ما يكون من الجلد و يفرق الضرب على بدنه و يبقى الوجه و الرأس و الفرج.و الرجم يكون بأحجار صغار و يكون الرجم من وراء المرجوم لئلا يصيب وجهه من ذلك شيء.و ينبغي أن يشعر الناس بالحضور ثم يجلد بمحضر منهم لينزجروا عن مواقعة مثله قال تعالى وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .قال عكرمة الطائفة رجلان فصاعدا و قال قتادة و الأزهري هم ثلاثة فصاعدا و قال ابن زيد أقله أربعة و قال الجبائي من زعم أن الطائفة أقل من ثلاثة فقد غلط من جهة اللغة و قال ليس لأحد أن يقيم الحد إلا الأئمة و ولاتهم و من خالف فيه فقد غلط كما أنه ليس للشاهد أن يقيم الحد.و قد دخل المحصن في حكم الآية بلا خلاف و كان سيبويه يذهب إلى أن

ص: 373


1- سورة النور:2.

التأويل فيما فرض عليكم الزانية و الزاني و لو لا ذلك لنصب بالأمر و قال المبرد إذا رفعته ففيه معنى الجزاء و لذلك دخل الفاء في الخبر و التقدير التي تزني و الذي يزني و معناه من زنى فاجلدوا فيكون على ذلك عاما في الجنس. ثم قال اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً إلى قوله وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (1) قيل المراد بقوله يَنْكِحُ يجامع و المعنى أن الزاني لا يزني إلا بزانية و الزانية لا يزني بها إلا زان و جملة ما في هذه الآية تحريم الزنا.و قال الحسن رجم النبي ص الثيب و أراد عمر أن يكتبه في آخر المصحف ثم تركه لئلا يتوهم أنه من القرآن (2).و قال قوم إنه من القرآن و إن ذلك منسوخ التلاوة دون الحكم.

وَ عَنْ عَلِيٍّ ع أَنَّ الْمُحْصَنَ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ يُرْجَمُ بِالسُّنَّةِ وَ أَنَّهُ أُمِرَ بِذَلِكَ (3).

فصل

و مما يكشف عن ذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا (4) .قال ابن عباس أي أرسلوا بهم في قصة زان محصن فقالوا لهم إن أفتاكم محمد بالجلد فخذوه و إن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه لأنهم كانوا قد صرفوا حكم

ص: 374


1- سورة النور:3.
2- الدّر المنثور 19/5.
3- مستدرك الوسائل 222/3.
4- سورة المائدة:41.

الحد الذي في التوراة إلى جلد أربعين و تسويد الوجه و الإشهار على حمار.

وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع إِنَّ امْرَأَةً مِنْ خَيْبَرَ فِي شَرَفٍ مِنْهُمْ زَنَتْ وَ هِيَ مُحْصَنَةٌ فَكَرِهُوا رَجْمَهَا فَأَرْسَلُوا إِلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَسْأَلُونَ مُحَمَّداً طَمَعاً أَنْ يَكُونَ أَتَى بِرُخْصَةٍ فَسَأَلُوا فَقَالَ هَلْ تَرْضَوْنَ بِقَضَائِي فَقَالُوا نَعَمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرَّجْمَ فَأَبَوْهُ فَقَالَ جِبْرِيلُ سَلْهُمْ عَنِ ابْنِ صُورِيَا ثُمَّ اجْعَلْهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ ع تَعْرِفُونَ ابْنَ صُورِيَا قَالُوا نَعَمْ هُوَ أَعْلَمُ يَهُودِيٍّ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَتَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أُحْصِنَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا نَعَمْ وَ الَّذِي ذَكَرْتَنِي لَوْ لاَ مَخَافَتِي مِنْ رَبِّ التَّوْرَاةِ أَنْ يُهْلِكَنِي إِنْ كَتَمْتُ مَا اعْتَرَفْتُ لَكَ بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (1) فَقَامَ ابْنُ صُورِيَا وَ سَأَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْكَثِيرَ الَّذِي أُمِرَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ فَأَعْرَضَ ع عَنْ ذَلِكَ (2). قال أهل التفسير سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ قابلون له كما يقال لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه.و قيل قال المنافقون لليهود إن أمركم محمد بالجلد فخذوه و اجلدوا و إن أمركم بالرجم فلا تقبلوا و سلوه عن ذلك لقوله لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ (3) الآية نهى الله نبيه ع أن يحزنه الذين يتبادرون في الكفر من المنافقين و من اليهود.و رفع قوله سَمّاعُونَ فيه قولان قال سيبويه هو ابتداء و الخبر مِنَ الَّذِينَ

هادُوا الثاني قال الزجاج هو رفع على أنه خبر مبتدإ و تقديره المنافقون هم اليهود سماعون للكذب و في معناه قولان أحدهما سماعون كلامك للكذب عليك سماعون كلامك لقوم آخرين لم يأتوك ليكذبوا عليك إذا رجعوا إليهم أي هم عيون عليك و قيل إنهم كانوا رسل أهل خيبر و أهل خيبر لم يحضروا فلهذا جالسوك

ص: 375


1- سورة المائدة:15.
2- نور الثقلين 629/1.
3- سورة آل عمران:176.

هادُوا الثاني قال الزجاج هو رفع على أنه خبر مبتدإ و تقديره المنافقون هم اليهود سماعون للكذب و في معناه قولان أحدهما سماعون كلامك للكذب عليك سماعون كلامك لقوم آخرين لم يأتوك ليكذبوا عليك إذا رجعوا إليهم أي هم عيون عليك و قيل إنهم كانوا رسل أهل خيبر و أهل خيبر لم يحضروا فلهذا جالسوك

باب غير المسلم يفجر بالمسلم :

رَوَى جَعْفَرُ بْنُ رِزْقِ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ بَعَثَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيِّ ع مَنْ سَأَلَهُ عَنْ نَصْرَانِيٍّ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ فَلَمَّا أُخِذَ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَسْلَمَ فَأَجَابَ ع أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ أَنْ يُضْرَبَ حَتَّى يَمُوتَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ (1) .

باب الحد في اللواط و السحق

قال الله تعالى وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ قال محمد بن بحر هذه الآية في الساحقات و قوله وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما في أهل اللواط.و أجمع السلف و الخلف ما عداه على أن الآيتين في الزناة و الزواني و أن هذين الحكمين كانا في أول الإسلام ثم نسخا بحكم الجلد و الرجم.ثم اعلم أن اللوطي إذا أوقب في الدبر يجب فيه القتل من غير مراعاة

ص: 376


1- من لا يحضره الفقيه 37/4 و الآية في سورة غافر:84.

للإحصان فيه و الذي يقوي ذلك أن الحدود إنما وضعت في الشريعة للزجر عن فعل الفواحش و الجنايات و كلما كان الفعل أفحش كان الزجر أقوى و لا خلاف في أن اللواط أفحش من الزنا و الكتاب ينطق بذلك فيجب أن يكون الزجر أقوى و ليس هذا بقياس و لكنه ضرب من الاستدلال و ربما قيل إن اللواط أفحش من الزنا لأنه إصابة لفرج لا يستباح إصابته و ليس كذلك الزنا.على أنه ليس يلزمنا تعليل الأحكام الشرعية فمتى نص الله على حكم في كتابه أو على لسان نبيه ع فنحن نتلقاه بالقبول.

وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَ هِشَامٍ وَ حَفْصٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ نِسْوَةٌ فَسَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عَنِ السَّحْقِ فَقَالَ حَدُّهَا حَدُّ الزَّانِي فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ بَلَى فَقَالَتْ وَ أَيْنَ فَقَالَ هُنَّ أَصْحَابُ الرَّسِّ (1). فإذا ساحقت المرأة أخرى وجب على كل واحدة منهما مائة جلدة حدا و إن كانتا محصنتين كان على كل واحدة منهما الرجم.و يثبت الحكم فيه بقيام البينة و هي شهادة أربعة عدول أو إقرار المرأة على نفسها أربع مرات دفعة بعد أخرى من غير إكراه مع كمال عقلها.و أما اللواط و هو الفجور بالذكران فيثبت فيه الحد بإقرار المرء على نفسه فاعلا كان أو مفعولا أربع مرات على ما ذكرناه أو قيام البينة يشهدون على الفاعل و المفعول به في الفعل و يدعون المشاهدة كالميل في المكحلة كما هو في الزنا.و من ثبت عليه حكم اللواط بفعله الإيقاب كان حده أحد خمسة أشياء إما يرمى من مكان عال أو يرمى عليه جدار أو يضرب رقبته أو يرجم أو

ص: 377


1- وسائل الشيعة 425/18.

يحرق بالنار و إن أقيم عليه الحد بأحد الأربعة ثم يحرق جاز ذلك تغليظا و تشديدا للعقوبة و تعظيما لها.و الجامع بين الفاجرين يجب عليه ثلاثة أرباع حد الزاني

باب الحد في شرب الخمر

من شرب شيئا من المسكر قليلا أو كثيرا وجب عليه الحد ثمانون جلدة حد المفتري.و قد ذكرنا في باب تحريم الخمر

أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَحُدَّهُ قَالَ لَهُ قُدَامَةُ لاَ يَجِبْ عَلَيَّ الْحَدُّ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ع أَقِمْ عَلَى قُدَامَةَ الْحَدَّ فَلَمْ يَدْرِ عُمَرُ كَيْفَ يَحُدُّهُ فَقَالَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَشِرْ عَلَيَّ فِي حَدِّهِ فَقَالَ حُدَّهُ ثَمَانِينَ إِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ إِذَا شَرِبَهَا سَكِرَ وَ إِذَا سَكِرَ هَذَى وَ إِذَا هَذَى افْتَرَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (1) فَجَلَدَهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ (2). و قد كان عثمان بن عفان يرى في حد شرب الخمر أربعين جلدة فشرب بعض أقاربه في عهده و شهد عليه شاهدا عدل فأشار إلى أمير المؤمنين ع بضربه فضربه بدرة لها رأسان أربعين جلدة فكانت ثمانين (3).

ص: 378


1- سورة النور:4.
2- تهذيب الأحكام 93/10.
3- الكافي 215/7،صحيح مسلم 131/3.

و ليس هذا الحد حملا على حد القذف و لم يكن ما ذكره لعمر اجتهادا من علي ع و إنما أومى إلى بعض ما سمعه من النبي ص في وجه ذلك.و من شرب الخمر مستحلا لها حل دمه إذا استتيب كما هو الواجب و لم يتب فإن تاب أقيم عليه حد الشرب.و شارب المسكر يجلد عريانا على ظهره و كتفيه.

وَ أُتِيَ بِرَجُلٍ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ص قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَقِيلَ لِمَ شَرِبْتَهَا وَ هِيَ مُحَرَّمَةٌ قَالَ أَسْلَمْتُ وَ مَنْزِلِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَ يَسْتَحِلُّونَهَا وَ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا حَرَامٌ فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع ابْعَثُوا مَنْ يَدُورُ بِهِ عَلَى مَجَالِسِ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ فَمَنْ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فَفُعِلَ بِالرَّجُلِ مَا قَالَهُ فَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالَ سَلْمَانُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ع لَقَدْ أَرْشَدْتَهُمْ فَقَالَ ع إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُجَدِّدَ تَأْكِيدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيَّ وَ فِيهِمْ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (1) .

باب الحد في السرقة

قال الله تعالى وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (2) ظاهر الآية يقتضي وجوب القطع على كل من يكون سارقا أو سارقة لأن الألف و اللام إن دخلا

ص: 379


1- الكافي 249/7 بمضمونه،و الآية في سورة يونس:35.
2- سورة المائدة:38.

على الأسماء المشتقة أفادا الاستغراق إذا لم يكن للعهد دون تعريف الجنس على ما ذهب إليه قوم و قد دل على ذلك في كتب أصول الفقه.فأما من قال القطع لا يجب إلا على من كان سارقا مخصوصا من مكان مخصوص مقدارا مخصوصا و ظاهر الآية لا ينبئ عن تلك الشروط فيجب أن تكون الآية مجملة مفتقرة إلى بيان فقوله فاسد لأن ظاهر الآية يقتضي وجوب القطع على كل من يسمى سارقا و إنما يحتاج إلى معرفة الشروط ليخرج من جملتهم من لا يجب قطعه فأما من يقطع فإنما نقطعه بالظاهر و الآية مجملة فيمن لا يجب قطعه دون من يجب قطعه فسقط ما قالوه.و قال ابن جرير الظاهر يوجب أن يقطع من سرق كائنا من كان إلا أنه

صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ع أَنَّهُ قَالَ : الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً (1). و قوله فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أمر من الله بقطع أيدي السارق و السارقة و المعنى أيمانهما و إنما جمعت الأيدي لأن كل شيء من شيئين فتثنيته بلفظ الجمع كما قال تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما و يمكن أن يقال إن في جمع أيديهما هنا إشارة إلى من سرق و ليس له اليمنى بل كانت قطعت في القصاص أو غير ذلك و كان له اليسرى قطعت له اليسرى.و نحن إنما اعتبرنا قطع الأيمان لإجماع المفسرين عليه و

لِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَ السَّارِقُونَ وَ السَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا .

فصل

و كيفية القطع عندنا يجب من أصول الأصابع الأربعة و يترك الإبهام و الكف و هو المشهور عن أمير المؤمنين ع و قال أكثر الفقهاء إنه يقطع من

ص: 380


1- سنن النسائى 72/8.

المفصل من الكف و الساعد و قالت الخوارج يقطع من الكف.و أما الرجل فعندنا تقطع الأصابع الأربع من مشط مسقط القدم و يترك الإبهام و العقب دليلنا إنما قلناه مجمع على وجوب قطعه و ما قالوه ليس عليه دليل.و اليد يقع على جميع اليد إلى الكتف و لا يجب قطعه إليه بلا خلاف إلا ما حكيناه عمن لا يعتد به و قد

استدل عليه قوم من أصحابنا بقوله فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ (1) قالوا إنما يكتبونه بالأصابع و المعتمد ما قلناه.على أنه يمكن أن يستدل على ذلك بقوله وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ (2) و معلوم بإجماع المفسرين على أن النور ما كان في أكثر من أربع أصابع موسى ع.و يستدل على وجه آخر على أنه يجب قطع يد السارق من أصول الأصابع و يبقى له الراحة و الإبهام و في السرقة الثانية يجب قطع رجله من صدر القدم و يبقى له العقب.و هو أنا نقول إن الله أمر بقطع يد السارق بظاهر الكتاب و اسم اليد يقع على هذا العضو من أوله إلى آخره و يتناول كل بعض منه أ لا ترى أنهم يسمون من عالج شيئا بأصابعه أنه قد فعل شيئا بيده قال تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ و آية الطهارة تتضمن التسمية باليد إلى المرفق فإذا وقع اسم اليد على هذه المواضع كلها و أمر الله بقطع يد السارق و لم ينضم إلى ذلك بيان مقطوع عليه في موضع القطع وجب الاقتصار على أقل ما يتناوله الاسم لأن القطع و الإتلاف محظور عقلا فإذا أمر الله تعالى به و لا بيان وجب الاقتصار

ص: 381


1- سورة البقرة:79.
2- سورة النمل:12.

على أقل ما يتناوله الاسم و أقل ما يتناوله الاسم مما وقع الخلاف فيه هو ما ذهب إليه الإمامية.فإن قيل هذا يقتضي أن يقتصر على قطع أطراف الأصابع و لا يوجب أن يقطع من أصولها.قلنا الظاهر يقتضي ذلك و الإجماع منع منه

وَ قَدْ رَوَى النَّاسُ كُلُّهُمْ أَنَّ عَلِيّاً ع قَطَعَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الْحَالِ وَ لاَ مُنَازِعٌ وَ كَانَ ع يَقُولُ إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ تُدْرِكَهُ التَّوْبَةُ فَيَحْتَجُّ عَلَيَّ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي لَمْ أَدَعْ لَهُ مِنْ كَرَائِمِ بَدَنِهِ مَا يَرْكَعُ بِهِ وَ يَسْجُدُ (1). و إذا اشترك نفسان أو جماعة في سرقة ما يبلغ النصاب من حرز قطع جميعهم لأن قوله وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ظاهره يقتضي أن القطع إنما وجب بالسرقة المخصوصة و كل واحد من الجماعة يستحق هذا الاسم فيجب أن يستحق القطع.

فصل

و النصاب الذي يتعلق القطع به قيل فيه ستة أقوال أولها مذهبنا و هو ربع دينار و به قال الشافعي و الأوزاعي

لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ص أَنَّهُ قَالَ الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ (2). الثاني ثلاثة دراهم و هو قيمة المجن ذهب إليه مالك بن أنس.الثالث خمسة دراهم

رَوَوْا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ع وَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالاَ لاَ يُقْطَعُ إِلاَّ فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ. و هو اختيار أبي علي قال لأنه بمنزلة

ص: 382


1- تفسير البرهان 471/1.
2- سنن النسائى 72/8.

من منع خمسة دراهم من الزكاة فإنه فاسق.الرابع قال الحسن يقطع في درهم لأن ما دونه تافه.الخامس قال أبو حنيفة خمسة دراهم و قد روى أصحابه لأنه كان قيمة المجن.السادس قال أصحاب الظاهر يقطع في القليل و الكثير.و لا يقطع إلا من سرق من حرز و الحرز مختلف فلكل شيء حرز يعتبر فيه حرز مثله في العادة و حده أصحابنا بأنه كل موضع لم يكن لغيره الدخول إليه و التصرف فيه إلا بإذنه فهو حرز قال الجبائي الحرز أن يكون في بيت أو دار يغلق عليه و له من يراعيه و يحفظه.و من سرق من غير حرز لا يجب عليه القطع قال الرماني لأنه لا يسمى سارقا حقيقة و إنما يقال ذلك مجازا كما يقال سارق كلمة أو معنى في شعر لأنه لا يطلق على هذا الاسم سارق على كل حال و قال داود يقطع إذا سرق من غير حرز.فعلى هذا السارق الذي يجب عليه القطع هو الذي يسرق من حرز ربع دينار فصاعدا أو ما قيمته كذلك و يكون كامل العقل و الشبهة عنه مرتفعة حرا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا.و إذا سرق نفسان فصاعدا ما قيمته ربع دينار من حرز وجب عليهما القطع فإن انفرد كل واحد منهما ببعضه لم يجب عليهما القطع لأنه قد نقص عن المقدار الذي يجب فيه القطع و كان عليهما التعزير و يمكن أن يستدل عليه من الآية.و من ترك القياس العقلي الذي هو جائز و هو الأصول و اشتغل بالقياس الشرعي الذي هو محظور و هو الفروع إذ لا دليل على ثبوته في الشرع و إن

ص: 383

جاز خبط خبط عشواء فلينظروا إلى الملحد الملهد (1) أعمى البصر و البصيرة ضل عن حكمة الله بجهله فرآها مناقضة ثم نظم خبث عقيدته لصفاقة وجهه و قلة مبالاته بالدين فقال (2)يد بخمس مئين من عسجد فديت ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض ما لنا إلا السكوت له نعوذ بالله مولانا من النار (3).

و قد كان الأئمة المعصومون ع كشفوا وجه الحكمة في ذلك و رووا عن جدهم النبي الأمي ص ما هو دواء العليل و شفاء الغليل و نظم السيد الإمام الكبير أبو الرضا الراوندي قدس الله سره مجيبا لذلك المعري الله قومها تقويم خمس مئي

و قد هذى المعري أيضا فقال هذا النبي الذي جبريل جادله

فأجبته و قلت يا من تحمل خسرانا و ما ربحا

فصل

أما قوله تعالى فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ (4) فإنه

ص: 384


1- أي المزرى بالشريعة،قال أبو زيد:ألهدت به أزريت به«ج».
2- يريد به ابا العلاء أحمد بن عبد اللّه بن سليمان المعرى المتوفّى سنة 449.
3- انباه الرواة 75/1 و روايته«بخمس ميئ»و«و ان نعوذ بمولانا».
4- سورة المائدة:39.

سبحانه أخبر أن من تاب و ندم على ما كان منه من فعل الظلم بالسرقة و غيرها فإن الله يقبل توبته بإسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب عنها.فعلى هذا لو تاب السارق قبل أن يرفع إلى الإمام و ظهر ذلك منه ثم قامت عليه البينة فإنه لا يقطع غير أنه يطالب بالسرقة و إن تاب بعد قيام البينة عليه وجب قطعه على كل حال.

وَ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع فَأَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ ع أَ تَقْرَأُ شَيْئاً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقَالَ قَدْ وَهَبْتُ يَدَكَ لِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ الْأَشْعَثُ أَ تُبْطِلُ حَدّاً مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَالَ وَ مَا يُدْرِيكَ مَا هَذَا إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ (1) فَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَرِقَةٍ فَذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ عَفَا وَ إِنْ شَاءَ عَاقَبَ (2). و لا يقطع حتى يقر بالسرقة مرتين و أنه سرق من حرز و كان نصابا فإن رجع ضمن السرقة و لم يقطع و قال الفقهاء إذا قامت البينة على السارق يجب قطعه على كل حال فإن كان تاب كان قطعه امتحانا و إن لم يكن تاب كان عقوبة و جزاء.و متى قطع فإنه لا يسقط عنه رد السرقة سواء كانت باقية أو هالكة فإن كانت باقية ردها بلا خلاف و إن كانت هالكة رد عندنا قيمتها و قال أبو حنيفة و أصحابه لا يجب عليه القطع و الغرامة معا فإن قطع سقطت عنه الغرامة و إن غرم سقط القطع.و من سرق بعد قطع اليد دفعه ثانية على ما ذكرناه قطعت رجله اليسرى

ص: 385


1- سورة التوبة:112.
2- الاستبصار 252/4.

حتى يكون من خلاف فإن سرق ثالثة حبس عندنا أبدا فإن سرق في الحبس قتل و لا يعتبر ذلك أحد من الفقهاء.فظاهر الآية يقتضي وجوب قطع العبد و الأمة لتناول اسم السارق و السارقة لهما إذا سرقا و صح ذلك عليهما بالبينة دون الإقرار.و قوله تعالى جَزاءً بِما كَسَبا معناه استحقاقا على فعلهما نَكالاً مِنَ اللّهِ أي عقوبة منه على ما فعلاه و قال مجاهد الحد كفارة و هذا غير صحيح لأن الله دل على معنى الأمر بالتوبة (1) و إنما يتوب المذنب عن ذنبه و الحد من فعل غيره و أيضا فمتى كان مصرا كان إقامة الحد عليه عقوبة و العقوبة لا تكفر الخطيئة كما لا يستحق بها الثواب و التوبة التي يسقط الله العقاب عندها هي الندم على ما مضى من القبيح أو الإخلال بالواجب و العزم على ترك الرجوع إلى مثله في القبح.فإن قيل قوله فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ (2) هل فعل الصلاح شرط في قبول التوبة أم لا فإن لم يكن شرطا فلم علق الغفران بمجموعهما.قيل له لا خلاف في أن التوبة متى حصلت على شرائطها فإن الله يقبلها و يسقط العقاب و إن لم يعمل بعدها عملا صالحا غير أنه إذا تاب و بقي بعد التوبة فإن لم يعمل العمل الصالح عاد إلى الإصرار لأنه لا يخلو في كل حال من واجب عليه و أما إن مات عقيب التوبة من غير فعل صلاح فإن الرحمة بإسقاط العقاب تلحقه بلا خلاف.على أن قوله تعالى وَ أَصْلَحَ يمكن أن يكون إشارة إلى العزم على ترك

ص: 386


1- أي دل بقوله تعالى «فَمَنْ تابَ» على معنى الامر بالتوبة،لانه خبر بمعنى الامر، اى توبوا فأصلحوا،فلو كان الحدّ كفّارة لم يبق ذنب حتّى يتوب منه«ج».
2- سورة المائدة:39.

المعاودة مع الندم و قال بعض المفسرين معناه و أصلح أمره بالتفصي عن التبعات و رد السرقة و هذا من شرائط صحة التوبة فيه. و أما رفع قوله وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فإنه عند سيبويه رفع على تفسير فرض فيهما يتلى عليكم حكم السارق و السارقة و قيل معناه الجزاء و تقديره من سرق فاقطعوه و له صدر الكلام.قال الفراء و لو أراد سارقا بعينه لكان النصب الوجه و يفارق ذلك قولهم زيدا فاضربه لأنه ليس فيه معنى الجزاء و المقصود واحد بعينه و ليس القصد بالسارق واحدا بعينه و إنما هو كقولك من سرق فاقطعوا يده فهو في حكم الجزاء و الجزاء له صدر الكلام و قال الزجاج هو القول المختار.و أجمع العلماء على أن القطع لا يجب على السارق إلا بعد أن يأخذ المال الذي لغيره من دون إذنه من حرز و هو لا يستحقه

باب حد المحارب

قال الله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ (1) الآية.من جرد السلاح في مصر أو غيره و هو من أهل الريبة على كل حال كان محاربا و له خمسة أحوال فإن قتل و لم يأخذ المال وجب على الإمام أن يقتله و ليس لأولياء المقتول العفو عنه و لا للإمام و إن قتل و أخذ المال فإنه يقطع بالسرقة و يرد المال ثم يقتل بعد ذلك و يصلب و إن أخذ المال و لم يقتل و لم يجرح قطع ثم نفي عن البلد فإن جرح و لم يأخذ المال و لم يقتل وجب أن يقتص منه ثم ينفى بعد ذلك و إن لم يجرح و لم يأخذ المال وجب أن ينفى من البلد الذي

ص: 387


1- سورة المائدة:33.

فعل فيه ذلك إلى غيره على ما قدمناه.و هذا التفصيل يدل عليه قوله تعالى أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ و اللص أيضا محارب.و قد أخبر الله في هذه الآية بحكم من يجهر بذلك مغالبا بالسلاح ثم أتبعه بحكم من يأتيه في خفاء في قوله وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ الآية.و من سرق حرا فباعه وجب عليه القطع لأنه من المفسدين في الأرض.و دم اللص الذي يدخل على الإنسان فيدفعه عن نفسه فيؤدي إلى قتل اللص هدر و لم يكن له قود و لا دية

باب الحد في الفرية

قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (1) قال سعيد بن جبير هذه الآية نزلت في عائشة و قال الضحاك في جميع نساء المؤمنين و هذا أولى لأنه أعم فائدة لأن الأولى أيضا يدخل تحته و إن كان يجوز أن يكون سبب نزولها في عائشة لكن لا تقصر الآية على سببها.قال الحسن يجلد هذا القاذف و عليه ثيابه و هو قول أبي جعفر ع (2).و يجلد الرجل قائما و المرأة قاعدة و قال إبراهيم يرمى عنه ثيابه و عندنا إنما يرمى عنه ثيابه إذا كان الحد في الزنا و كان وجد عريانا فإن وجد و عليه ثيابه في الزنا يجلد و عليه ثيابه قائما على كل حال.فإن مات من يجلد من الضرب لم يكن عليه قود و لا دية.

ص: 388


1- سورة النور:4.
2- انظر الكافي 205/7.

فإذا قال الرجل أو المرأة كافرين كانا أو مسلمين حرين أو عبدين بعد أن يكونا بالغين لغيره من المسلمين البالغين الأحرار يا زاني أو يا لائط أو معناه معنى هذا الكلام بأي لغة كانت بعد أن يكون عارفا لموضوعها و بفائدة اللفظ وجب عليه الحد ثمانون و هو حد القاذف.فإن قال قد لطت بفلان كان عليه حدان حد للمواجهة و حد لمن نسبه إليه و الآية تدل على جميع ذلك.و قوله وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ذكرنا في كتاب الشهادات بيانه.و الحد حق المقذوف لأنه لا يزول بالتوبة.و قال بعض المفسرين و الفقهاء إذا كان القاذف عبدا أو أمة كان الحد أربعين جلدة و روى أصحابنا أن هذا الحد ثمانون في الحر و العبد و المسلم و الكافر و ظاهر العموم يقتضي ذلك و به قال عمر بن عبد العزيز و القاسم بن عبد الرحمن.و يثبت الحد في القذف بشهادة شاهدين مسلمين عدلين أو بإقرار القاذف على نفسه مرتين بأنه قذف و لا يكون الحد فيه كما هو في شرب الخمر و في الزنا في الشدة بل يكون دون ذلك.و قد ذكرنا أن القاذف لا يجرد على حال.و العفو عن القاذف في جميع الأحوال إلى المقذوف أ لا ترى أنه لو قال لغيره يا ابن الزانية كانت المطالبة إلى الأم إن كانت حية و إن كانت ميتة و لها وليان أو أكثر و عفا بعضهم أو أكثرهم كان لمن بقي منهم المطالبة بإقامة الحد عليه على الكمال.

فصل

و القذف على الإطلاق يكون بالزنا و ما في معناه و يكون بغير ذلك و المراد

ص: 389

في الآية قذفهن بالزنا بسببين أحدهما ذكر المحصنات عقيب آية الزواني و الثاني اشتراط أربعة شهداء.و القذف بالزنا أن يقول العاقل البالغ لمحصنة أو لمحصن يا ولد الزنا أو ما قدمناه ففيه الحد و القذف لغير الزنا أن يقول يا آكل الربا يا شارب الخمر يا فاسق يا عاض بظر أمه يا يهودي يا نصراني.فعليه إذا كان المقذوف على ظاهر العدالة التعزير و هو ما دون الحد و قال الفقهاء لا يبلغ به أدنى حد العبيد و قال أبو يوسف يبلغ به تسعة و تسعون و للإمام أن يعزر إلى تسعة و تسعين.و شروط إحصان القذف الحرية و البلوغ و الإسلام و زاد بعضهم العقل و العفة فمتى قال إنسان لمسلم أمك زانية و كانت أمه كافرة أو أمة كان عليه الحد تاما لحرمة ولدها المسلم الحر و إن قال لغيره من المماليك أو الكفار يا ابن الزاني أو يا ابن الزانية و كان أبوا المقذوف مسلمين أو حرين كان عليه الحد أيضا كاملا لأن الحد لمن لو واجهه بالقذف لكان له الحد تاما.ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ (1) أي أبعدوا من رحمة الله في الدنيا بإقامة الحدود عليهم و رد الشهادة و في الآخرة بأليم العقاب.و هذا وعيد عام لجميع المكلفين في قول ابن عباس و من قال الوعيد خاص فيمن قذف عائشة فقوله لا يصح لأن الآية إذا نزلت في سبب لم يجب قصرها عليه كآية اللعان و آية الظهار و متى حملت على العموم دخل من قذفها في جملتهم.و إذا لم يكن المقذوف محصنا يعزر القاذف و لا يحد.

ص: 390


1- سورة النور:23.

و قال الفقهاء أشد الضرب ضرب التعزير ثم ضرب الزنا ثم ضرب من شرب الخمر ثم ضرب القاذف

باب الزيادات

إن قيل كيف قال يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ (1) و المتوفى و الموت واحد.قلنا يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت كقوله اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ (2) أو حتى يأخذهن الموت.و اَللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي يرهقنها يقال أتى الفاحشة و جاءها و غشيها و رهقها و الفاحشة الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.و قيل نزلت هذه الآية في الساحقات و ما بعدها في اللواطين.

مسألة

و قوله اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا (3) الجلد ضرب الجلد كما يقال جلد ظهره و رأسه.و هذا حكم من ليس بمحصن من الزناة و الزواني فإن المحصن حكمه الرجم.و شرائط الإحصان عند أبي حنيفة ست الإسلام و الحرية و العقل و البلوغ و التزوج بنكاح صحيح و الدخول و عند الشافعي الإسلام ليس بشرط.فإن قيل اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة و الزواني لأن قوله

ص: 391


1- سورة النساء:15.
2- سورة النحل:28.
3- سورة النور:2.

اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي عام في المحصن و غير المحصن.قلنا هما يدلان على جنسين دلالة مطلقة و الجنسية قائمة في الكل و البعض جميعا فأيهما قصد المتكلم فلا يطلق إلا عليه كما يفعل بالاسم المشترك و إنما ابتدئ هنا بذكر النساء و في آية السرقة بالرجال للتغليب و لأن الحد بالجلد إنما يجب على الرجل الشاب غير المحصن إذا زنى و طاوعته المرأة فإن أكرهها و غصب فرجها فإنه يجب ضرب عنقه البتة.

مسألة

و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ (1) الآية الذي يقتضيه ظاهرها أن يكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط كأنه قيل و من قتل المحصنات فاجلدوهم و ردوا شهادتهم و فسقوهم أي فاجمعوا لهم الجلد و الرد و التفسيق إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا .

مسألة

عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فِي الْقُرْآنِ رَجْمٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ كَيْفَ قَالَ الشَّيْخُ وَ الشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ فَإِنَّهُمَا قَضَيَا الشَّهْوَةَ (2). و قد ذكرنا في كتاب الصوم كيفية ذلك في باب النسخ.

مسألة

وَ عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ قَالَ : إِنَّ عَبَّادَ الْمَكِّيَّ سَأَلَ الصَّادِقَ ع عَنْ

ص: 392


1- سورة النور:4.
2- من لا يحضره الفقيه 26/4.

رَجُلٍ زَنَى وَ هُوَ مَرِيضٌ فَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ خَافُوا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ مَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ أَوْ أَمَرَكَ إِنْسَانٌ أَنْ تَسْأَلَ عَنْهَا فَقَالَ إِنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَمَرَنِي أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهَا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص أُتِيَ بِرَجُلٍ أَحْبَنَ (1) قَدِ اسْتَسْقَى بَطْنُهُ وَ بَدَتْ عُرُوقُ فَخِذَيْهِ وَ قَدْ زَنَى بِامْرَأَةٍ مَرِيضَةٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ فَأُتِيَ بِعُرْجُونٍ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَضَرَبَهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَ ضَرَبَهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَ خَلَّى سَبِيلَهُمَا وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (2)وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ (3) .

ص: 393


1- الحبن-بفتح الحاء و الباء-عظم البطن من الاستسقاء،و رجل أحبن المبتلى بهذا المرض-النهاية لابن الأثير 335/1.
2- سورة ص:44.
3- من لا يحضره الفقيه 28/4.

كتاب الديات

اشارة

اعلم أن القتل على ثلاثة أضرب عمد محض و يجب فيه القود أو الدية على ما بينته و خطأ محض و خطأ شبيه العمد و فيهما الدية لا غير و في كل واحد منهما يجب على القاتل الكفارة بعد أخذ الدية أو العفو على ما ذكرناه في باب الكفارة

باب القتل العمد و أحكامه

قال الله تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها (1) الآية.فالعمد المحض هو كل من قتل غيره و كان بصيرا بالغا كامل العقل بحديد أو بغيره إذا كان قاصدا بذلك القتل أو يكون فعله مما قد جرت العادة بحصول الموت عنده يجب عليه القود و لا يستقاد منه إلا بحديد و إن كان قتل هو

ص: 394


1- سورة النساء:93.

صاحبه بغير الحديد و لا يمكن من تقطيع أعضائه و إن كان هو فعل ذلك بصاحبه بل يؤمر بضرب رقبته.و يستوي في القاتل جميع ذلك ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو مملوكا مسلما كان أو كافرا.و ليس لأولياء المقتول إلا نفسه و ليس لهم مطالبته بالدية فإن فادى القاتل نفسه بمال جزيل و رضوا به جاز.أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من يقتل مؤمنا متعمدا يعني قاصدا إلى قتله أن جزاءه جهنم خالدا مؤبدا فيها و غضب الله عليه و قد بينا أن غضب الله هو إرادة عقابه و الاستخفاف به و لعنه معناه أبعده من رحمته.

وَ سَأَلَ سَمَاعَةُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ قَالَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً عَلَى دِينِهِ وَ لِإِيمَانِهِ فَذَاكَ الْمُتَعَمِّدُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً قُلْتُ فَالرَّجُلُ يَقَعُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الرَّجُلِ شَيْءٌ فَيَضْرِبُهُ بِسَيْفِهِ فَيَقْتُلُهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ الْمُتَعَمِّدَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ (1). و إن كان قتله متعمدا لغضب أو لسبب شيء من الدنيا فإن توبته أن يقاد منه و هذا حد من الله و التوبة منه مع الاستسلام.و إن لم يكن علم به أحد و انطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم فإن عفوا عنه و لم يقتلوه و أعطاهم الدية أو عفوه عن الدية أيضا أعتق نسمة و صام شهرين متتابعين و أطعم ستين مسكينا كفارة و توبة إلى الله تعالى.

فصل

و اختلفوا في صفة قتل العمد قال قوم لا يكون قتل العمد إلا ما كان بحديد

ص: 395


1- تهذيب الأحكام 164/10.

و إليه ذهب أبو حنيفة و أصحابه و الشافعي في رواية.و قال آخرون إن من قصد قتل غيره بما يقتل مثله في غالب العادة سواء كان بحديدة حادة كالسلاح أو مثقلة من حديد أو خنق أو سم أو إحراق أو تغريق أو ضرب بالعصا أو الحصى حتى يموت فإن جميع ذلك عمد يوجب القود و به قال الشافعي و أصحابه و اختاره الطبري و هو مذهبنا على ما ذكرناه و قد أمر الله تعالى بذلك في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى (1) .فإن قيل كيف قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ بمعنى فرض و الأولياء مخيرون بين القصاص و العفو.قلنا عنه جوابان أحدهما أنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص و الفرض قد يكون مضيقا و قد يكون مخيرا فيه و الثاني فرض عليكم ترك مجاوزة ما حد لكم إلى التعدي فيما لم يجعل لكم و القصاص الأخذ من الجاني مثل ما جنى و ذلك لأنه مال لجنايته.

فصل

و قال بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بقوله وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (2) قال جعفر بن مبشر ليس هذا عندي كذلك لأنه تعالى إنما أخبرنا أنه كتبها على اليهود قلنا و ليس في ذلك ما يوجب أنه فرض علينا لأن شريعتهم منسوخة بشريعتنا.و الذي نقوله نحن أن هذه الآية ليست منسوخة لأن ما تضمنته معمول

ص: 396


1- سورة البقرة:178.
2- سورة المائدة:45.

عليه و لا ينافي قوله اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأن تلك عامة و هذه خاصة و يمكن بناء تلك على هذه و لا تناقض و لا يحتاج إلى أن ينسخ إحداهما بالأخرى.و قال قتادة نزلت هذه الآية لأن قوما من أهل الجاهلية كانت لهم جولة على غيرهم فكانوا يتعدون في ذلك فلا يرضون بالعبد إلا الحر و لا المرأة إلا الرجل فنهاهم الله بهذه الآية عن مثل ذلك.و يجوز قتل العبد بالحر و الأنثى بالذكر إجماعا و لقوله وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً و لقوله اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ و قوله في هذه الآية اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى لا يمنع من ذلك لأنه تعالى لم يقل و لا يقتل الأنثى بالذكر و لا العبد بالحر و إذا لم يكن ذلك في الظاهر فما تضمنته الآية معمول به و ما قلناه مثبت بما تقدم من الأدلة.و أما قتل الحر بالعبد فعندنا لا يجوز و به قال الشافعي و أهل المدينة و قال أهل العراق يجوز.و لا يقتل الوالد بالولد عندنا و عند أكثر الفقهاء و قال مالك يقتل به على بعض الوجوه.و أما قتل الوالدة بالولد فعندنا تقتل به و عند جميع الفقهاء أنها جارية مجرى الأب.و أما قتل الولد بالوالد فيجوز إجماعا و لا يقتل مولى بعبده.

و يجوز قتل الجماعة بواحد إجماعا و لقوله وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً إلا أن عندنا يرد أولياء المقتول فاضل الدية و عندهم لا يرد شيء على حال.و إذا اشترك بالغ مع طفل أو مجنون في قتل فعندنا لا يسقط القود عن البالغ و به قال الشافعي و قال أهل العراق يسقط.

فصل

ثم

ص: 397

عفت المنازل لو تركت حتى درست و العفو عن المعصية ترك العقاب عليها.و العفو عن القتل يكون على وجهين أحدهما أن يعفو أولياء المقتول عن القاتل و يصفحوا عنه و لا يطلبون منه شيئا إما للتقرب إلى الله تعالى و إما لغرض من الأغراض.و الثاني أن يكون العفو ترك القود بقبول الدية إذا بذل القاتل و رضي به أولياء المقتول.و أولياء المقتول كل من يرث الدية إلا الزوج و الزوجة ليس لهما غير سهمهما من الدية إن قبلها الأولياء أو العفو عنه بمقدار ما يصيبهما من الميراث و ليس لهما المطالبة بالقود و أما من سواهما من الأولياء فلهم المطالبة بالقود و لهم الرضا بالدية.و لهم العفو على الاجتماع و الانفراد ذكرا كان أو أنثى فإن اختلفوا فبعض عفا عن القاتل و بعض طلب القود و بعض رضي بالدية كان للذي يطلب القود أن يقتل القاتل إذا رد على الذي طلب الدية ماله منها و رد على أولياء القاتل سهم من عفا عنه.و قال أبو حنيفة إذا كان للمقتول ولد صغار و كبار فللكبار أن يقتلوا و احتج بقاتل علي ع و قال غيره لا يجوز حتى يبلغ الصغار و عندنا أن لهم ذلك إذا ضمنوا حصة الصغار من الدية إذا بلغوا و لم يرضوا بالقصاص.و قال الزجاج معنى قوله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي من ترك قتله و رضي منه بالدية و هو قاتل متعمد للقتل فقد عفي له بأن ديته و رضي منه بالدية و هو من العفو الذي هو الصفح و ترك المؤاخذة بالذنب فمعنى عفي له صفح عنه بأن لا يؤاخذ بما يستحقه عليه من القصاص و القتل.و قيل العفو الترك كما قدمناه و استدل

بِقَوْلِ النَّبِيِّ ص

ص: 398

عَفَوْتُ عَنْكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ. أي تركتها و أصل العفو محو الأثر.و هذا العفو كما ذكرناه على ضربين أحدهما عفو عن دم القاتل و عن الدية جميعا و الآخر عفو عن الدم و الرضا بالدية و هو المراد بالآية.و المراد بقوله مِنْ أَخِيهِ أي من القاتل عفا ولي المقتول عن دمه الذي له من جهة أخيه المقتول و المراد بقوله شَيْءٌ الدم فالهاء في قوله مِنْ أَخِيهِ يعود إلى أخي المقتول في قول الحسن و قال الآخرون تعود إلى أخ القاتل.فإن قيل كيف يجوز أن يعود على أخي القاتل و هو في تلك الحال فاسق.قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة أحدها أنه أراد إخوة النسب لا في الدين كما قال وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً (1) الثاني أن القاتل قد يتوب و يدخل في الجملة غير التائب على وجه التغليب الثالث تعريفه بذلك على أنه كان أخاه قبل أن قتله كما قال إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ (2) يعني الذين كانوا أزواجهن.

فصل

قوله تعالى فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ يعني العافي و على المعفو عنه أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ و به قال ابن عباس و الحسن و هو المروي عن أبي عبد الله ع (3) و قال قوم هما عن المعفو عنه.و دية القصاص في قود النفس ألف دينار أو عشرة آلاف درهم أو مائة من مسان الإبل أو مائتان من البقر أو ألف شاة أو ما شاكله فهذه الستة أصل

ص: 399


1- سورة الأعراف:65.
2- سورة البقرة:232.
3- تهذيب الأحكام 178/10.

في نفس الدية و ليس بعضها بدلا من بعض و هذا كما نقول في زكاة الفطرة إنها تجب صاع من أحد الأجناس الستة الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الأرز و الأقط فإن كل واحد منها أصل فيها و ليس بعضها بدلا من بعض.و لا يجبر القاتل عمدا على الدية فإن رضي فهي عليه في ماله فإن لم يقبل أولياء المقتول الدية فأدى القاتل نفسه بأضعاف الدية فلا بأس بقبوله. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي فعليه اتباع الأخ العافي بمعروف. وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي يتبعه بالحمد و الشكر و الثناء و يؤدي إليه الدية بإحسان أي على وجه جميل.و قال الزجاج قيل على الولي العافي اتباع القاتل بالمطالبة للدية و على القاتل أداء الدية بإحسان و قال و جائز أن يكون الاتباع بالمعروف و الأداء بالإحسان جميعا على القاتل.و جاء في التفسير أن الأداء بإحسان أن يكون منجما و لا يذهب شيء من الدية و الاتباع بالمعروف أن يقبضها برفق و قال أبو مسلم أي على قاتل العمد الذي يرضى منه ولي المقتول بالدية و يعفو له عن القود أن يتبع ما أمره الله في إعطاء الولي ما يصالحه عليه و يرضى به منه و يحتمل بالمعروف أن يكون صفة لأمر الله أن يكون ما يتعارفه العرب بينها من دية القتلى بينهم إذا أرادوا الإصلاح و حقن الدماء.و يؤخذ دية العمد نسيئة و قد حث الله كل واحد منهما على الإحسان فليؤد المطلوب إلى الطالب إن استطاع بتعجيل و ليرفق الطالب في طلب الدية.و أنكر بعض أهل اللغة أن يكون العفو في الآية بمعنى الإعطاء كما قاله البصري إن الضمير في أَخِيهِ يرجع إلى أخي المقتول الذي يرث دمه و الأخ المراد به في النسب بذل له من دم أخيه شيء يعطي عفوا أي الدية في سهولة و ذلك لأنه لو كان من الإعطاء لقيل فمن أعطي له و ليس في الكلام

ص: 400

عفي له منه بمعنى أعطاه عفوا إنما يقال أعفى له بكذا إذا أعطاه و إنما هو عفو ولي المقتول عن دية القاتل.و قوله القاتل لا يكون أخا المقتول إلا في النسب ليس بصحيح لأنه يمكن أن يكون القاتل عمدا و المقتول مسلمين.قال ابن مهرإيزد الصحيح أن الضمير في أَخِيهِ للقاتل الذي عفي له القصاص و أخوه ولي المقتول و الضمير في إِلَيْهِ أيضا له أي يؤدي القاتل الدية إلى الولي العافي بِإِحْسانٍ أي من غير مطل و لا أذى.

فصل

ص: 401

المعنيان جميعا حسنان و نظير هذه الآية قولهم القتل أنفى للقتل.و إنما خص الله بالخطاب أولي الألباب لأنهم المكلفون المأمورون و من ليس بعاقل لا يصح تكليفه فعلى هذا متى كان القاتل غير بالغ و حده عشر سنين فصاعدا أو يكون مع بلوغه زائل العقل إما أن يكون مجنونا أو مئوفا فإن قتلهما و إن كان عمدا فحكمه حكم الخطإ.

فصل

قوله تعالى وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ (1) يعني إلا بالقود أو الكفر أو ما يجري مجراهما فإن قتله كذلك حق و ليس بظلم. وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ (2) أي فلا يسرف القاتل في القتل و جاز أن يضمر و إن لم يجر له ذكر لأن الحال يدل عليه و يكون تقييده بالإسراف جاريا مجرى قوله في أكل مال اليتيم وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً و إن لم يجز أن يأكل منه على الاقتصاد فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الأول لا تسرف في القتل لأنه يكون بقتله مسرفا فلا يسرف لأن من قتل مظلوما كان منصورا بأن يقتص له وليه و السلطان إن لم يكن له ولي فيكون هذا رد القاتل عن القتل.و الآخر أن يكون في يُسْرِفْ ضمير الولي أي لا يسرف الولي في القتل فإسرافه فيه أن يقتل غير من قتل أو يقتل أكثر من قاتل وليه أي فلا يسرف الولي فإنه منصور بقتل قاتل وليه و الاقتصاص منه.و السلطان الذي جعله الله للولي قال ابن عباس هو القود أو العفو أو الدية.

ص: 402


1- سورة الأنعام:151 و الاسراء:33.
2- سورة الإسراء:33.

فصل

ص: 403

و يمكن أن يستدل أيضا على من خالف في قتل الجماعة بواحد بقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1) و القاتلون إذا كانوا جماعة فكلهم معتدون فيجب أن يعاملوا ما عاملوا به القتيل.فإن قالوا إن الله تعالى يقول اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ و اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ (2) و هذا ينفي أن يؤخذ نفسان بنفس و حران بحر.قلنا المراد بالنفس و الحر هاهنا الجنس لا العدد فكأنه تعالى قال إن جنس النفوس يؤخذ بجنس النفوس و كذا جنس الأحرار فالواحد و الجماعة يدخلون في ذلك.فإن قيل قد ثبت أن الجماعة إذا اشتركوا في سرقة نصاب لم يلزم كل واحد منهم قطع و إن كان كل واحد منهم إذا انفرد بسرقته لزمه القطع فأي فرق بين ذلك و بين القتل مع الاشتراك قلنا الذي نذهب إليه و إن خالفنا فيه الجماعة أنه إذا اشترك نفسان في سرقة شيء من حرز و كان قيمة المسروق ربع دينار و يكون أيديهما عليه فإنه يجب عليهما القطع معا و قد سوينا بين القتل و القطع و لهذه المسألة تفصيل ذكر في بابه.

فصل

و اختلف أهل التأويل في قوله مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً (3) .

ص: 404


1- سورة البقرة:194.
2- سورة المائدة:45.
3- سورة المائدة:32.

قال الزجاج معناه أنه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنهم خصومه في قتل ذلك الإنسان.قال الحسن معناه تعظيم الوزر و الإثم.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنْ قَتَلَ نَفْساً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ عِنْدَ الْمَقْتُولِ وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ عِنْدَ الْمُسْتَقِيدِ. و قال ابن زيد معناه أنه يجب من القتل و القود مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا و معنى مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً من نجاها من الهلاك مثل الغرق و الحرق.و قيل من عفا عن دمها و قد وجب القود عليها و قيل معناه من زجر عن قتلها بما فيه حياتها على وجه يفتدي به فيها بأن يعظم تحريم قتلها كما حرمه الله على نفسه فلم يقدم عليه فقد حيي الناس بسلامتهم منه و ذلك إحياؤه إياها و هو اختيار الطبري.و الله هو المحيي للخلق لا يقدر عليه غيره و إنما قال أحياها على وجه المجاز يعني نجاها من الهلاك كما حكى عن نمرود أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ فاستبقى واحدا و قتل الآخر.و القول في ذلك أن يقال إن الله تعالى شبه قاتل النفس بقاتل جميع الناس و منجيها بمنجي جميع الناس و تشبيه الشيء بالشيء يكون من وجوه حقيقة و مجازا فيجب أن ينظر في التشبيه هاهنا بما ذا يتعلق فلا يجوز أن يكون شبه الفعل بالفعل لأن قتل واحد لا يشبه قتل اثنين فلا بد من أن يكون التشبيه في المعنى.و لا يجوز أن يقال شبه الإثم بالإثم و العقاب بالعقاب لأن الذي يحاسب على الفتليل و القطمير و يتمدح بأنه لا يظلم مثقال حبة من خردل يمنع غناه

ص: 405

و حكمته و عدله أن يساوي في العقاب بين قاتل نفس واحدة و بين قاتل نفسين فكيف من قتل نوع الناس فإذا التشبيه مجاز و المراد به تهويل أمر القتل و مبالغة في الزجر عنه و أنه يستحق في الدنيا من كل مؤمن البراءة و اللعنة و العداوة كما لو تعرض له نفسه بالقتل لا يستحق كل ذلك منه لكون المؤمنين يدا واحدة على من سواهم.

وَ قَدْ قَضَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ع فِي رَجُلٍ اتُّهِمَ بِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْساً فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ قَتَلَ وَ جَاءَ آخَرُ فَأَقَرَّ أَنَّ الَّذِي قَتَلَ هُوَ دُونَ صَاحِبِهِ وَ رَجَعَ الْأَوَّلُ عَنْ إِقْرَارِهِ أَنَّهُ درأ [دُرِئَ] عَنْهُمَا الْقَوَدُ وَ الدِّيَةُ وَ دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الدِّيَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ هَذَا إِنْ قَتَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْيَا هَذَا (1). و الأولياء هم الوراث من الرجال فمن الأولاد الذكور و من الأقارب من كان ذكرا من قبل الأب

باب القتل الخطإ المحض

قال الله تعالى وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا (2) .اعلم أن النفي هاهنا متعلق بالجواز في دين الله و حكمه أي لا يجوز ذلك في حكم الله و الظاهر إخبار بانتفاء الجواز و يتضمن النفي أي فلا تفعلوه و لدخول كان إفادة أن هذا ليس حكما حادثا بل لم يزل حكم الله على هذا.و قد ذكر الله تعالى في هذه الآية ديتين و ثلاث كفارات.ذكر الدية و الكفارة بقتل المؤمن في دار الإسلام فقال وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً

خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ .و ذكر الكفارة دون الدية بقتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم ففيه الكفارة دون الدية فقال فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لأن قوله وَ إِنْ كانَ كناية عن المؤمن الذي تقدم ذكره.ثم ذكر الدية و الكفارة بقتل المؤمن في دار المعاهدين فقال وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .و عند المخالف أن ذلك كناية عن الذي في دار الإسلام و ما قلناه أليق بسياق الآية لأن الكنايات كلها في كان عن المؤمن فلا ينبغي أن يصرفها إلى غيره بلا دليل.و معناه لم يأذن الله و لا أباح لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيما عهده إليه لأنه لو أباحه أو أذن فيه لما كان خطأ و التقدير إلا أن يقتله خطأ فإن حكمه كذا ذهب إليه قتادة.و قوله إِلاّ خَطَأً استثناء منقطع في قول أكثر المفسرين و تقدير الآية إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ و ليس ذلك فيما جعله الله له و إجماع أن قتل المؤمن لا يجوز لا عمدا و لا خطأ فالتقدير غير جائز في حكم الله أن يقتل مؤمن مؤمنا لكن إن وقع عليه غلط فأخطأ في مقصده و فعل هذا المحظور فعليه كذا و كذا.

ص: 406


1- وسائل الشيعة 107/19 و ما هنا نقل بالمعنى.
2- سورة النساء:92.

خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ .و ذكر الكفارة دون الدية بقتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم ففيه الكفارة دون الدية فقال فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لأن قوله وَ إِنْ كانَ كناية عن المؤمن الذي تقدم ذكره.ثم ذكر الدية و الكفارة بقتل المؤمن في دار المعاهدين فقال وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .و عند المخالف أن ذلك كناية عن الذي في دار الإسلام و ما قلناه أليق بسياق الآية لأن الكنايات كلها في كان عن المؤمن فلا ينبغي أن يصرفها إلى غيره بلا دليل.و معناه لم يأذن الله و لا أباح لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيما عهده إليه لأنه لو أباحه أو أذن فيه لما كان خطأ و التقدير إلا أن يقتله خطأ فإن حكمه كذا ذهب إليه قتادة.و قوله إِلاّ خَطَأً استثناء منقطع في قول أكثر المفسرين و تقدير الآية إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ و ليس ذلك فيما جعله الله له و إجماع أن قتل المؤمن لا يجوز لا عمدا و لا خطأ فالتقدير غير جائز في حكم الله أن يقتل مؤمن مؤمنا لكن إن وقع عليه غلط فأخطأ في مقصده و فعل هذا المحظور فعليه كذا و كذا.

فصل

ص: 407

للإيمان و ظاهر ذلك يقتضي أن تكون بالغة ليحكم لها بالإيمان و ذلك في ماله خاصة. وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ يؤديها عنه عاقلته إلى أولياء المقتول. إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا أولياء المقتول على من لزمته دية قتلهم فيعفو عنه فحينئذ يسقط عنهم و موضع أن من قوله إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا نصب لأن المعنى فعليه ذلك إلا في حال التصدق ثم حذفت في و قيل إلا حال التصدق و أصله إلا على أن تصدقوا ثم سقط على و يعمل فيه ما قبله على معنى الحال أو هو مصدر وقع موقع الحال و يجوز في سبب النزول كل ما قيل.و الذي يعول عليه أن ما تضمنته الآية حكم من قتل خطأ.و قال ابن عباس و الحسن الرقبة المؤمنة لا تكون إلا بالغة قد آمنت و صامت و صلت فأما الطفل فإنه لا يجزي و لا الكافر و قال عطا كل رقبة ولدت في الإسلام فهي تجزي و الأول أقوى لأن المؤمن على الحقيقة لا يطلق إلا على بالغ عاقل مظهر للإيمان ملتزم لوجوب الصلاة و الصوم إلا أنه لا خلاف أن المولود بين مؤمنين يحكم له بالإيمان فهذا الإجماع ينبغي أن يجري في كفارة قتل الخطإ فأما الكافر و المولود بين كافرين فإنه لا يجزي بحال.و دية قتل الخطإ يلزم العاقلة و العاقلة يرجع بها على القاتل إن كان له مال فإن لم يكن له مال فلا شيء للعاقلة عليه و متى كان للقاتل مال و لم يكن للعاقلة مال ألزم في ماله الدية خاصة.و لا يلزم العاقلة من دية الخطإ إلا ما قامت به البينة فأما ما يقر به القاتل فليس عليهم منه شيء و يلزم القاتل ذلك في ماله خاصة.و تستأدى دية الخطإ في ثلاث سنين.و العاقلة هم الذين يرثون دية القاتل إن لو قتل و لا يلزم من لا يرث من ديته شيئا.

ص: 408

و الدية المسلمة إلى أهل القتيل هي المدفوعة إليهم موفرة غير منقصة حقوق أهلها منها إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا معناه يتصدقوا و هو في قراءة أبي فأدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجهما.

فصل

و قوله تعالى فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (1) يعني إن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم هم أعداء لكم مشركون و هو مؤمن فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة.و اختلفوا في معناه فقال قوم إذا كان القتيل في عداد الأعداء و هو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر فمن قتله فلا دية له و عليه تحرير رقبة مؤمنة لأن الدية ميراث و أهله كفار لا يرثونه هذا قول ابن عباس.و قال آخرون بل عنى به من أهل الحرب من تقدم دار الإسلام ثم يرجع إلى دار الحرب فإذا مر بهم جيش من أهل الإسلام فهرب قومه و أقام ذلك المسلم بينهم فقتله المسلمون و هم يحسبونه كافرا.ثم قال وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ معناه إن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم و بينهم أيها المؤمنون ميثاق أو عهد أي عهد و ذمة و ليسوا أهل حرب لكم فدية مسلمة إلى أهله يلزم عاقلة قاتله و تحرير رقبة مؤمنة على القاتل كفارة لقتله.و اختلفوا في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا و بينهم ميثاق أ هو مؤمن

ص: 409


1- سورة النساء:93.

أو كافر فقال قوم هو كافر إلا أنه يلزم قاتله ديته لأن له و لقومه عهدا ذهب إليه ابن عباس و قال آخرون بل هو مؤمن فعلى قاتله ديته يؤديها إلى قومه من المشركين لأنهم أهل ذمة و هو المروي في أخبارنا إلا أنهم قالوا تعطى ديته ورثته المسلمين دون الكفار.و الميثاق العهد و المراد به هاهنا الذمة و غيرها من العهود.و الخطأ هو أن يريد شيئا فيصيب غيره.و الدية الواجبة في قتل الخطإ مائة من الإبل إن كانت العاقلة من أهل الإبل.و قال ابن مهرإيزد هو أن يكون المقتول مؤمنا [من قوم معاهدين و ذكر ابن إسحاق أنه يجوز أن لا يكون مؤمنا] (1) و لأجل المهادنة و الميثاق وجبت الدية و الكفارة.

فصل

أما دية أهل الذمة فقال قوم هي دية المسلم سواء ذهب إليه ابن مسعود و اختاره أبو حنيفة و قال قوم هي على النصف من دية المسلم و قال قوم هي على الثلث من دية المسلم ذهب إليه الشافعي و قال إنها أربعة آلاف.و أما دية المجوسي فلا خلاف أنها ثمانمائة درهم و كذلك عندنا دية اليهودي و النصراني و الأنثى منهم أربعمائة درهم و الدليل عليه إجماع الطائفة.فإن احتج المخالف بقوله وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ثم قال وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ و ظاهر الكلام يقتضي أن الدية واحدة.قلنا هذا السؤال ساقط على قول من يقول هذا القتيل الذي هو من قوم

ص: 410


1- الزياد من ج.

بينكم و بينهم ميثاق هو مؤمن و معناه إن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم و بينهم ميثاق أي ذمة و عهد و ليسوا من أهل حرب لكم فدية مسلمة إلى أهله لأنهم أهل الذمة و أما على قول من يقول إن هذا القتيل كافر فلا شبهة في أن ظاهر الكلام لا يقتضي التساوي في مبلغ الدية و إنما يقتضي التساوي في وجوب الدية على سبيل الجملة.و في تقديم تحرير الرقبة على الدية في صدر الآية و تقديم الدية على تحرير الرقبة في آخر الآية خبيئة لطيفة و كذلك في قوله إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا إشارة حسنة و الأحسن أن تكون الكناية في كان من قوله فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ للقتيل دون أن يكون للمؤمن لأن قوله وَ هُوَ مُؤْمِنٌ يمنع من ذلك.و كذا الكناية في كان من قوله وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ للمقتول لأن المقتول يقع على المؤمن و الكافر فإن كان القتيل من هؤلاء الكافرين كافرا فديته دية الكافر و إن كان مؤمنا فديته دية المؤمن هذا هو المذهب و يجوز أن يكون كان تامة في أول الآية من قوله وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً أي ما وقع قتل مؤمن لمؤمن إلا قتلا خطأ.

فصل

ثم قال تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ (1) اختلفوا في معناه فقال قوم يعني فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة عن قتله المؤمن خطأ لإعساره فعليه صيام شهرين متتابعين و قال آخرون فمن لم يجد الدية فعليه صوم شهرين عن الدية و الرقبة و قال مسروق تأويل الآية فمن لم يجد رقبة مؤمنة و لا دية يسلمها إلى أهله فعليه صوم شهرين متتابعين.

ص: 411


1- سورة النساء:92.

و الأول هو الصحيح لأن دية قتل الخطإ على العاقلة و الكفارة على القاتل بإجماع الأمة على ذلك.و صفة التتابع في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بإفطار يوم على ما قدمناه في باب الكفارة.ثم قال تَوْبَةً مِنَ اللّهِ و هو نصب على القطع (1) و معناه رخصة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه ما خفف عنكم من فرض تحرير رقبة مؤمنة بإيجاب صوم شهرين متتابعين.قال الجبائي إنما قال تَوْبَةً مِنَ اللّهِ لأنه تعالى بهذه الكفارة التي يلزمها يدرأ العقاب و الذم عن القاتل لأنه يجوز أن يكون عاصيا في السبب و إن لم يكن عاصيا في القتل من حيث إنه رمى في موضع هو منهي عنه و إن لم يقصد القتل و هذا ليس بشيء لأن الآية عامة في كل قاتل خطأ و ما ذكره ربما اتفق في الآحاد.و إلزام دية الخطإ للعاقلة ليس هو مؤاخذة البريء بالسقيم فإن ذلك ليس بعقوبة بل هو حكم شرعي تابع للمصالح و لو خلينا و العقل ما أوجبناه و قد قيل إن ذلك على وجه المواساة و المعاونة. ثم قال وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها و استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة يخلد في نار جهنم و أنه إذا قتل مؤمنا يستحق الخلود فيها و لا يعفى عنه.و لنا أن نقول لهم ما أنكرتم أن يكون المراد بالآية الكفار و من لا ثواب له أصلا فأما من يستحق الثواب فلا يجوز أن يكون مرادا بالخلود في النار أصلا و قد استوفى الكلام فيه أصحابنا في الأصول.

ص: 412


1- الكوفيون يسمون الحال قطعا«ج».

و قد ذكر جماعة من المفسرين أن الآية متوجهة إلى من يقتل مؤمنا تعصبا لإيمانه و ذلك لا يكون إلا كافرا.و قال علي بن موسى القمي إن التقدير في الآية من يقتل مؤمنا لدينه و الوعيد ورد على هذا الوجه لأنه إذا قتله لأجل أنه مؤمن فقد كفر.

فصل

أما قوله يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا (1) فقد قال أبو جعفر ع نزلت في أمر بني النضير و بني قريظة (2).قال قتادة إنما كان ذلك في قتيل بينهم قالوا إن أفتاكم محمد بالدية فاقتلوه و إن أفتاكم بالقود فاحذروه فلما أرادوا الانصراف تعلقت قريظة بالنضير قالوا يا أبا القاسم و كرهوا أن يقولوا يا محمد لئلا يوافق ذلك ما في كتبهم من ذكره هؤلاء إخواننا بنو النضير إذا قتلوا منا قتيلا لا يعطون القود منهم و أعطونا سبعين وسقا من تمر و إن أخذوا الدية أخذوا منا مائة و أربعين وسقا و كذا جراحاتنا على انصاف جراحاتهم فأنزل الله وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ (3) أي فاحكم بينهم بالسواء فقالوا لا نرضى بقضائك فأنزل الله أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) .ثم قال تعالى وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ (5) شاهدا لك فيما

ص: 413


1- سورة المائدة:41.
2- روى ذلك في حديث طويل-انظر يجمع البيان 193/2.
3- سورة المائدة:42.
4- سورة المائدة:50.
5- سورة المائدة:43.

يخالفونك ثم فسر ما فيها من حكم الله فقال وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الآية. فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني بني النضير لما قالوا لا نرضى بحكمك

باب القتل الخطإ و شبيه العمد

اعلم أن القتل على ثلاثة أضرب عمد محض و هو أن يكون عامدا بآلة يقتل غالبا كالسيف و السكين و الحجر الثقيل عامدا في قصده و هو أن يقصد قتله بذلك فمتى كان عامدا في قصده عامدا في فعله فهو العمد المحض قال تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ (1) .و الثاني خطأ محض و هو ما لم يشبه شيئا من العمد بأن يكون مخطئا في فعله مخطئا في قصده مثل أن رمى طائرا فأصاب إنسانا فقد أخطأ في الأمرين قال الله تعالى وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (2) .الثالث عمد الخطإ أو شبه العمد و المعنى واحد و هو أن يكون عامدا في فعله مخطئا في قصده فأما كونه عامدا في فعله فهو أن يعمد إلى ضربه لكنه بآلة لا تقتل غالبا كالسوط و العصا الخفيفة و الخطأ في القصد أن يكون قصده تأديبا و زجره و تعليمه لكنه إن مات منه فهو عامد في فعله مخطئ في قصده. و يمكن أن يستدل على هذا النوع من القتل أيضا بقوله وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً الآية فالخطأ شبيه العمد هو أن يعالج الطبيب غيره بما

ص: 414


1- سورة النساء:93.
2- سورة النساء:92.

قد جرت العادة بحصول النفع عنده أو بفصده فيؤدي ذلك إلى الموت فإن هذا و ما قدمناه يحكم فيه بالخطإ شبيه العمد و يلزم فيه الدية مغلظة و لا قود فيه على حال.و الدية فيه تلزم القاتل بنفسه في ماله خاصة و إن لم يكن له مال استسعي فيها أو يكون في ذمته إلى أن يوسع الله عليه و الدية في ذلك مائة من الإبل أثلاثا و هذه الدية تستأدى في سنتين.و على هذا القاتل بعد إعطاء الدية كفارة عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد كان عليه صيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا كما على قاتل الخطإ المحض لأن الآية أيضا دالة عليه.و كفارة قتل العمد بعد العفو له ببدل أو بلا بدل هذه الثلاثة و الدليل عليه بعد الإجماع السنة فإن لم يقدروا على ذلك تصدقوا بما استطاعوا و صاموا ما قدروا عليه

باب ديات الجوارح و الأعضاء و القصاص فيها

قال الله تعالى وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ (1) .هذا و إن كان إخبارا من الله تعالى أنه مما كتب على اليهود في التوراة فإنه لا خلاف أن ذلك ثابت في شرعنا و ذلك لأنه إذا صح بالقرآن أو بالسنة أن حكما من الأحكام كان ثابتا في شريعة من كان قبل نبينا من الأنبياء ع

ص: 415


1- سورة المائدة:45.

و لا يثبت نسخه لا قرآنا و لا سنة فإنه يجب العمل به.يقول الله عز و جل فرضنا على اليهود الذين تقدم ذكرهم في التوراة أن النفس بالنفس و معناه إذا قتلت نفس نفسا أخرى متعمدا فإنه يستحق عليه القود إذا كان القاتل عاقلا مميزا و كان المقتول مكافئا للقاتل إما أن يكونا مسلمين حرين أو كافرين أو مملوكين فأما أن يكون القاتل حرا مسلما و المقتول كافرا أو مملوكا فإن عندنا لا يقتل به و فيه خلاف بين الفقهاء و إن كان القاتل مملوكا أو كافرا و المقتول مثله أو فوقه فإنه يقتل بلا خلاف.و يراعى في قصاص الأعضاء ما يراعى في قصاص النفس من التكافؤ و متى لم يكونا متكافئين فلا قصاص على الترتيب الذي رتبناه في النفس سواء و فيه أيضا خلاف.و يراعى في الأعضاء التساوي أيضا فلا يقلع العين اليمنى باليسرى و لا يقطع اليمين باليسار و لا يقطع الناقصة بالكاملة فمن قطع يمين غيره و كانت يمين القاطع شلاء قال أبو علي يقال له إن شئت قطعت يمينه الشلاء أو تأخذ دية يدك و قد ورد في أخبارنا أن يساره تقطع إذا لم يكن للقاطع يمين.

وَ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ قَالَ : دِيَةُ الْيَدِ إِذَا قُطِعَتْ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا كَانَ جُرُوحاً دُونَ الاِصْطِلاَمِ (1) فَ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (2) . و في هذا إشارة إلى أن الحكم بذلك أو بغيره ليس إلا إلى حجة الله أو من يأمره الحجة.فأما عين الأعور فإنها تقلع بالعين الذي يقلعها سواء كانت المقلوعة عوراء أو لم تكن فإن قلعت العوراء كان فيها كمال الدية إذا كانت خلقة أو ذهبت

ص: 416


1- أي لم يقطع عضو تام،و الاصطلام الاستيصال.
2- من لا يحضره الفقيه 130/4.

بآفة من الله تعالى أو تقلع إحدى عيني القالع و يلزمه مع ذلك نصف الدية و فيه خلاف.

فصل

و قوله تعالى وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ التقدير أوجبنا أن النفس تقتل إذا قتلت نفسا بغير حق و فرضنا عليهم أن الجروح قصاص.و ظاهر هذه الآية لا يقتضي أنا متعبدون بهذه الأحكام لأنها حكاية عن أمة أنه فرض عليهم ذلك إلا أن العلماء مجمعون على أنا أيضا بهذه الأحكام متعبدون لا بهذه الآية بل بالآية التي في سورة البقرة و هي مجارية لهذه و لا يجب من الاتفاق في كثير من المتعبدات أن تكون الشريعتان واحدة بعينها.و معنى اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ تقتل النفس بسبب قتل النفس قيل و ذلك مجمل و له بيان طويل و فيه تخصيص.و معنى اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ تقلع العين لمن قلع عينا بغير حق.و كذا إن قطع أنفه أو أذنه أو قلع أو كسر سنا له أو جرحه بجراحة يفعل به مثله و هذا معنى قوله وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ لأن القصاص أن يتبع به فعله فيفعل مثل فعله و معناها ذات قصاص أي يقاص الجارح قصاصا.و تفاصيل هذه الأحكام بكتب الفقه أولى لكنا نذكر ألفاظا يسيرة.

فصل

و أما الجروح فإنه يقتص منها إذا كان الجارح مكافئا للمجروح على ما بيناه في النفس فيقتص بمثل جراحته الموضحة بالموضحة و الهاشمة بالهاشمة و المنقلة بالمنقلة و لا قصاص في المأمومة و هي التي تبلغ أم الرأس و لا الجائفة

ص: 417

و هي التي تبلغ الجوف لأن في القصاص منهما تضريرا بالنفس.و لا ينبغي أن يقتص الجراح بعد أن يندمل من المجروح فإذا اندمل اقتص حينئذ من الجارح و إن سرت إلى النفس كان فيها القود.و كسر العظم لا قصاص فيه و إنما فيه الدية.و كل جارحة كانت ناقصة فإذا قطعت كان فيها حكومة و لا يقتص بها الجارحة الكاملة كيد شلاء و عين لا تبصر و سن سوداء متآكلة فإن في جميع ذلك حكومة لا تبلغ دية تلك الجارحة و قد روينا في هذه الأشياء مقدرا و هو ثلث دية العضو الصحيح.و العين تقلع بالعين و إن تفاوتتا في الصغر و الكبر و الحسن و القبح و زيادة البصر إلا أن تكون عمياء.

فصل

ص: 418

فإن قيل هل يكفر الذنب إلا التوبة أو اجتناب الكبيرة.قلنا على مذهبنا لا يجوز أن يكفر الذنب شيء من أفعال الخير و يجوز أن يتفضل الله بإسقاط (1) عقابها كما

قَالَ ع مَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ (2). و قوله فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ من لصاحب الحق و الذي له أن يطلب القصاص و الضمير في به لحقه يقول ولي المقتول و من جرح أو أصيب عضو منه إن عفا واحد منهم عن حقه و لم يطالب بالقصاص أو الدية فهو أي فعله ذلك و تركه لحقه كفارة له أي يكفر الله له ذنوبه فلا يؤاخذه بها و قال ابن عباس إنه كفارة للحامي أي يسقط عنه الولي و المخرج القود و القصاص عن القاتل و الجارح فالأول أوجه.

فصل

و أما قوله وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ إلى قوله وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ (3) العفو في الآية المراد به ما يتعلق بالإساءة إلى نفوسهم الذي له الاختصاص بها فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين و أما ما يتعلق بحقوق الله و حدوده فليس للإمام تركها و لا العفو عنها و لا يجوز له عن المرتد و عمن يجري مجراه. وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يحتمل أن يكون المراد ما جعل الله لنا الاقتصاص منه من النفس بالنفس و العين بالعين الآية فإن المجني عليه له أن يفعل بالجاني مثل ذلك من غير زيادة و سماه سيئة للازدواج كما قال وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ (4) .

ص: 419


1- إلى هنا تنتهى نسخة«ج»من جامعة طهران.
2- مستدرك الوسائل 87/2.
3- سورة الشورى:39-40.
4- سورة النحل:126.

ثم مدح العافي بما له أن يفعله فقال فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ أي فجزاؤه عليه و هو سبحانه يثيبه على ذلك إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ أي لم أرغبكم في العفو عن الظالم لأني أحبه بل لأني أحب الإحسان و العفو.ثم أخبر أن من انتصر بعد أن تعدي عليه فليس عليه سبيل قال قتادة بَعْدَ ظُلْمِهِ فيما يكون فيه القصاص بين الناس في النفس أو الأعضاء أو الجرح فأما غير ذلك فلا يجوز أن يفعل بمن ظلمه.و قال قوم إن له أن ينتصر على يد سلطان عادل بأن يحمله إليه و يطالبه بأخذ حقه منه لأن السلطان هو الذي يقيم الحدود و يأخذ من الظالم للمظلوم.

فصل

و قوله تعالى وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً (1) .فأول ما يكون الجنين نطفة و فيها عشرون دينارا و يصير علقة و فيها أربعون دينارا و فيما بينهما بحساب ذلك ثم يصير مضغة و فيها سبعون دينارا ثم يصير عظما و فيه ثمانون دينارا ثم يصير صورة بلا روح مكسوا عليها اللحم خلقا سويا شق له العينان و الأذنان و الأنف قبل أن تلجه الروح و فيه مائة دينار ثم تلجه الروح و فيه دية كاملة و بذلك قضى أمير المؤمنين ع و قرأ الآية (2).

قوله يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ (3) قال قوم

ص: 420


1- سورة المؤمنون:12-14.
2- انظر تفسير البرهان 111/3.
3- سورة الحجّ:5.

أراد به جميع الخلق لأن النطفة التي خلقهم الله تعالى منها تكون من الغذاء و الغذاء يكون من التراب و الماء فكان أصلهم كلهم التراب ثم أحاله بالتدريج إلى النطفة ثم أحال النطفة علقة و هي القطع من الدم جامدة ثم أحال العلقة مضغة و هي شبيه قطعة من اللحم ممضوغة و المضغة مقدار ما يمضغ من اللحم فخلقه تامة الخلق و غير تامة و قيل متصورة و غير متصورة و هو السقط.

ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ بنبات الأسنان و الشعر و أعضاء العقل و الفهم و قيل خلقا آخر أي ذكرا و أنثى.و جاء في الأثر أن الصحابة اختلفوا في الموءودة ما هي و هل الاعتزال وأد و هل إسقاط المرأة جنينها وأد

قَالَ عَلِيٌّ ع إِنَّهَا لاَ تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهَا الْبَارَاتُ السَّبْعُ فَقَالَ عُمَرُ صَدَقْتَ (1). و أراد أمير المؤمنين ع بالبارات السبع طبقات الخلق السبع المثبتة في قوله وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ الآية فعنى سبحانه ولادته ميتا فأشار علي ع أنه إذا استهل بعد الولادة ثم دفن فقد وئد و قصد بذلك أن يدفع قول من توهم أن الحامل إذا أسقطت جنينها قبل أن تلجه الروح بالتداوي فقد وأدته

باب الزيادات

اعلم أن الحر لا يقتل بالعبد أخذا بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى و هي مفسرة لما أبهم في قوله اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها و هذه خوطب بها المسلمون و كتب عليهم فيها.و روي أنه كان بين حنين دماء في الجاهلية فأقسموا لنقتلن الاثنين بالواحد و الحر بالعبد فتحاكموا إلى رسول الله ص حين جاء الإسلام فنزلت و أمرهم أن يتساووا.

ص: 421


1- الدّر المنثور 320/6.

و قوله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ كقولك سير يريد بعض السير و لا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به لأن عفا لا يتعدى إلى المفعول به إلا بواسطة.و أخوه هو ولي المقتول و ذكره بلفظ الإخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية و الإسلام.فإن قيل إن عفا يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ .قلنا يتعدى بعن إلى الجاني و إلى الذنب فيقال عفوت عن فلان و عن ذنبه قال تعالى عَفَا اللّهُ عَنْكَ (1)

و قال عَفَا اللّهُ عَنْها (2) فإن تعدى إلى الذنب قيل عفوت لفلان عما جنى كما يقال تجاوزت له عنه و على هذا فما في الآية كأنه قيل فمن عفا له من جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية.فإن قيل هنا فسرت عفا بترك جنى يكون شيء في معنى المفعول به.قلنا لأن عفا الشيء إذا تركه ليس يثبت و لكن أعفاه ذمته

قَوْلُهُ ع أَعْفُوا اللِّحَى. فإن قيل فقد ثبت قولهم عفا الشيء إذا نحاه فإن له فهلا فعلت معناه فمن عفا له من أخيه شيء.قلنا عبارة قلقة في مكانها و العفو في الجنايات عبارة مشهورة في الشرع فلا نعدل عنها.

مسألة

قوله وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (3) عرف القصاص و نكر الحياة لأن المعنى

ص: 422


1- سورة التوبة:43.
2- سورة المائدة:101.
3- سورة البقرة:179.

و لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة و ذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة كما قاد مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل فلما جاء الإسلام فشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة أو نوع من الحياة و هي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل و قرئ ذلكم في القصص حيوة أي مما قص عليكم من حكم القتل و القصاص.

مسألة

و قوله وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ (1) أي بإحدى ثلاث إلا بأن يكفر أو يقتل مؤمنا عمدا أو يزني بعد إحصان.

وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي غير راكب واحدة منهن فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً على العاقل في الاقتصاص منه فَلا يُسْرِفْ الولي أي فلا يقتل غير القاتل و قيل الإسراف المثلة و قرئ فَلا يُسْرِفْ بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر و فيه مبالغة ليست في الأمر و قرئ بالتاء على خطاب الولي أو قتل المظلوم. إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً الضمير إما للولي يعني حسبه أن الله ناصره بأن أوجب له القصاص فلا يسترد على ذلك و بأن الله نصره بمعونة السلطان و بإظهار المؤمنين على استيفاء الحق فلا يقع ما وراء حقه أما المظلوم لأن الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله و بنصره و في الآخرة بالثواب و أما الذي يقتله الولي بغير الحق و يسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.

ص: 423


1- سورة الإسراء:33.

مسألة

و أما قوله مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ فتقديره بغير قتل نفس أَوْ فَسادٍ عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد و هو الشرك أو قطع الطريق.فإن قيل كيف شبه الواحد بالجمع و جعل حكمه حكمهم.قلنا لأن كل إنسان مدلى بما يدلي به الآخر و ثبوت الحرمة فإذا قتل فقد أهين و تركت حرمته و على العكس فلا فرق بين الواحد و الجمع في ذلك. ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما كتبنا عليهم لَمُسْرِفُونَ في القتل لا يبالون بعظمته.

مسألة

سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتْلِ فَكَانَ بَدْؤُهَا مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللَّهِ ص فَقَدْ وُجِدَ أَنْصَارِيٌّ قُتِلَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَتَلَتِ الْيَهُودُ صَاحِبَنَا قَالَ لِيُقْسِمْ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلاً [عَلَى أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ] (1) فَقَالُوا نُقْسِمُ عَلَى مَا لَمْ نَرَ فَقَالَ لِيُقْسِمِ الْيَهُودُ قَالُوا مَنْ يُصَدِّقُ الْيَهُودَ فَقَالَ أَنَا أُؤَدِّي دِيَةَ صَاحِبِكُمْ إِنَّ اللَّهَ (2) حَكَمَ فِي الدِّمَاءِ مَا لَمْ يَحْكُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ لِتَعْظِيمِهِ الدِّمَاءَ. فاليمين على المدعى عليه في سائر الحقوق و في الدم على المدعي (3) كما ترى.

ص: 424


1- الزيادة من المصدر.
2- في المصدر«فقلت له:كيف الحكم فيها؟فقال:ان اللّه..».
3- تهذيب الأحكام 167/10 مع اختلاف في الفاظ و جمل.

مسألة

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً (1) أي ما صح و لا استقام و لا لاق بحاله أن يقتل مؤمنا ابتداء غير قصاص إلا خطأ أي إلا على وجه الخطإ و انتصب خطأ على أنه مفعول له أي ما ينبغي له أن يقتله لعله من العلل إلا للخطإ وحده و يجوز أن يكون حالا بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطإ و أن يكون صفة مصدرا إلا قتلا خطأ. وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فعليه تحرير رقبة و التحرير الإعتاق و الرقبة عبارة عن النسمة كما عبر عنها بالرأس يقال فلان يملك كذا رأسا من الرءوس.فإن قيل على من يجب الدية أو الرقبة.قلنا على القاتل إلا أن الرقبة في ماله على كل حال و الدية إن كان أقر هو على نفسه بذلك فعلى ماله أيضا على الأحوال و إن كان بإقامة البينة عليه بذلك فالدية يتحملها عنه العاقلة فإن لم يكن له عاقلة أو كانوا و لم يكن لهم مال ففي ماله و إن لم يكن يستسعى و إن لم يكن ففي بيت المال. إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا عليه بالدية و معناه العفو.فإن قيل بم يتعلق أَنْ يَصَّدَّقُوا و ما محله.قلنا يتعلق بعليه أو بتسليمه كأنه قيل و يجب عليه الدية أو تسليمها إلا حين تتصدقون عليه و محلها النصب على الظرف بتقدير خلاف الزمان كقولهم اجلس ما دام زيد جالسا و يجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى ألا يتصدقن.

مسألة

قوله وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ (2) المعطوفات

ص: 425


1- سورة النساء:92.
2- سورة المائدة:45.

كلها قرئت منصوبة و مرفوعة و الرفع للعطف على محل أن النفس لأن المعنى و كتبنا عليهم النفس بالنفس إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا و إما لأن معنى الجملة التي هي قوله اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ ما يقع عليه الكتب كما يقع عليه القراءة.و كذلك قال الزجاج لو قرئ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ بالكسر لكان صحيحا أو الاستئناف و المعنى فرضنا عليهم فيها أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق.و كذلك العين مفقوءة بالعين و الأنف مجدوع بالأنف و الأذن مقطوعة بالأذن و السن مقلوعة بالسن و الجروح ذات قصاص و هو المقاصة و معناه ما يمكن فيه القصاص و يعرف المساواة.

مسألة

إن قيل في قوله تعالى وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (1) أ هم محمودون على الانتصار.قلنا نعم لأن من أخذ الحق غير متعد حد الله و لم يسرف في القتل إن كان ولي الدم أو رد على سفيه محاماة على عرضه فهو مطيع و كل مطيع محمود على أن كلتا التعليلين الأولى و جزاؤها سيئة لأنها تسوء من ينزل به.و المعنى أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن يقابل بمثلها من غير زيادة فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ بينه و بين خصمه بالعفو فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم لأنه لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ دلالة على أن (2).لا يكاد مؤمن فيه تجاوز بالسيئة خصوصا في حال الحرب و التهاب الحمية و الله أعلم بالصواب

ص: 426


1- سورة الشورى:39.
2- كلمة لا تقرأ في م.

باب فيما يحتاج إليه الناظر في هذا الكتاب

اعلم أن القرآن على ثلاثة أقسام مما استدللنا به أحدها ما هو مجمل لا ينبئ الظاهر عن المراد به تفصيلا مثل قوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (1)

و قوله وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (2)

و قوله فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (3) و ما أشبه ذلك فإن تفصيل أعداد الصلاة و عدد ركعاتها و تفصيل مناسك الحج و شروطه و مقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه إلا ببيان النبي ع و وحي من جهة الله تعالى فتكلف القول في ذلك خطأ و ممنوع منه و يمكن أن تكون الأخبار متناولة له قال الله تعالى وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (4) .و ثانيها ما كان لفظه مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما و يمكن أن يكون كل واحد منهما مرادا فإنه لا ينبغي أن يقدم أحد فيقول هذا مراد الله منه إلا بقول معصوم ع بل ينبغي أن يقول إن الظاهر يحتمل الأمور و كل واحد يجوز أن يكون مرادا على التفصيل و متى كان اللفظ المشترك بين شيئين أو ما زاد عليهما و دل الدليل على أنه لا يجوز أن يريد إلا وجها واحدا جاز أن يقال إنه المراد.و ثالثها يكون ظاهره مطابقا لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها

ص: 427


1- سورة البقرة:43.
2- سورة آل عمران:97.
3- سورة المعارج:24.
4- سورة النحل:44.

عرف معناها مثل قوله تعالى وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ (1) و مثل قوله قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (2) و غير ذلك.و لا ينبغي لأحد أن ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد مفصلا أن يقلد أحدا من المفسرين إلا أن يكون التأويل مجمعا عليه فيجب اتباعه لمكان الإجماع الذي هو حجة لأن من المفسرين من حمدت طرائقه و مدحت مذاهبه في التأويل كابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و غيرهم و منهم من ذمت مذاهبه كأبي صالح و السدي و الكلبي.هذا في الطبقة الأولة فأما المتأخرون فكل واحد منهم نصر مذهبه و تأول على ما يطابق أصله فلا يجوز لأحد أن يقلد أحدا منهم بل ينبغي أن يرجع إلى الأدلة الصحيحة إما العقلية أو الشرعية من إجماع عليه أو نقل متواتر به عمن يجب اتباع قوله و لا يقبل في ذلك خبر واحد و خاصة إذا كان مما طريقه العلم.و متى كان التأويل مما يحتاج إلى شاهد من اللغة فلا يقبل من الشاهد إلا ما كان معلوما بين أهل اللغة سائغا بينهم و لا يجعل الشاذ النادر شاهدا على كتاب الله و ينبغي أن يتوقف فيه و يذكر ما يحتمله و لا يقطع على المراد منه بعينه و يحتاط في ذلك كله فإن كل آخذ بالاحتياط غير زال عن الشرائط.

فصل

ثم اعلم أن الله سبحانه أغنانا بفضله في الشرعيات عن أن نستخرج أحكامها بالمقاييس و الاجتهادات التي تصيب مرة و تخطئ أخرى بل بين جميع ما يحتاج إليه المكلفون في تكليفهم عقلا و شرعا و وقفهم عليه في كتابه و على لسان

ص: 428


1- سورة الإسراء:33.
2- سورة التوحيد:1.

نبيه و حججه عليه و عليهم السلام فلا حاجة مع ذلك إلى تعسف و تكلف.و الفقيه ينبغي أن يكون كيسا فلا يختلجه بعد العلم شك على حاله فإن من ألطافنا الخاصة ما يروونه آل محمد عنه ص في أشياء كثيرة يعلم وجوبها إجماع أنها من السنن كغسل من مس ميتا من الناس بعد البرد و قيل التطهير فإنه يعلم بالإجماع الذي هو حجة وجوب ذلك فإذا قال ع إن ذلك سنة (1) فإن معناه أن وجوبه يعلم بالسنة لا بالكتاب.و كذلك إذا قال ع غسل يوم الجمعة واجب و علم بالإجماع كونه مستحبا يعلم أن المراد به شدة التأكيد في استحبابه.و كذلك إذا علم من الأثر النبوي علما مقطوعا على صحته أن الأغسال الواجبة هي غسل الجنابة و غسل الحيض و الاستحاضة و النفاس و غسل مس الميت على ما ذكرناه و تغسيل الأموات فقط و غسل من رأى أثر المني على ثيابه التي لا يستعملها إلا هو بأن لم يذكر احتلاما.ثم ورد عنه ص بطريقة أهل بيته ع أن من ترك صلاتي الكسوف و الخسوف متعمدا و قد احترق القرصان يجب عليه القضاء مع الغسل فلا يوهمنه نظم هذا الكلام أن غسل قاضي هذه الصلاة على هذا الوجه واجب مع تقدم علمه بكونه مستحبا غير واجب بتفصيل من النصوص و إنما تثبت بإيراد هذه المسألة على أخواتها.و اعلم أن جميع كلامهم ع الوارد في الأصول رموز و إشارات كيلا يرى أحد أنه تعليم بل تقويم و أكثر ما فيه أنه تنبيه فإن كلامهم ع في فروع الفقه بيان و إيضاح كي لا يتورط أحد في القياس و قد أبى أكثر

ص: 429


1- عبارة لا تقرأ واضحا في م.

الناس إلا خلاف ما أشاروا إليه فسكتوا عن العقليات و تكلموا في الشرعيات.و قد وفيت بعون الله بما شرطت في صدر الكتاب و الله سبحانه ينفعني.و أسأل الناظر فيه أن لا يخليني من صالح دعائه فقد كفته مئونة الدأب و صعوبة الطلب و فسرت له ما خلته ملتبس على من يقتبس.و الحمد لله وحده و الصلاة على خير خلقه محمد و آله من بعده

ص: 430

موضوعات الكتاب

(كتاب القضايا)

الحث على الحكم بالعدل و المدح عليه 5

حكم الجاهلية و حكم الجور 7

ما يجب أن يكون القاضي عليه 9

قصة داود النبيّ عليه السلام في الحكم 10

كيفية الحكم بين أهل الكتاب 13

حكم النبيّ«ص»فى قضايا لليهود 15

باب نوادر من الاحكام 16

باب الزيادات 19

(كتاب المكاسب)

الكلام حول آيات في الرزق 21

ص: 431

المكاسب المحظورة و المكروهة 24

بيع الغلول و السحت 26

اكراه أهل الجاهلية البنات على البغاء 27

أنواع المكاسب المباحة 30

الاكل من بيوت أصناف ذكروا في الآيات 32

التصرف في أموال اليتامى 34

من يجبر الإنسان على نفقته 36

باب السبق و الرماية 37

باب الزيادات 39

(كتاب المتاجر)

الحث على التجارة و الكسب 40

في آداب التجارة 42

في أحكام الربا 45

البيع بالنقد و النسيئة و الشرط في العقود 49

معنى البيع و أنواعه 50

الشروط المعتبرة في البيع 51

أشياء تتعلق بالمبايعة و نحوها 52

وفاء الكيل و ذمّ المطففين 55

في الرهن و أحكامه 58

أداء الأمانة 59

باب الوديعة 61

ص: 432

باب العارية 62

باب الاجارة 63

باب الشركة و المضاربة 65

باب الشفعة 68

باب المزارعة و المساقاة 69

باب الافلاس و الحجر 70

باب الغصب 73

(كتاب النكاح)

الحث على النكاح 75

ما أحل اللّه من النكاح و ما حرم منه 76

بعض أحكام النساء التي يراد تزويجهن 78

المحرمات من النسب و السبب 82

حرمة نكاح الامهات 83

حرمة نكاح حلائل الابناء 85

حرمة الجمع بين الأختين 86

مقدار ما يحرم من الرضاع و أحكامه 89

تحريم جمع بعض النساء في النكاح 91

ضروب النكاح 94

ذكر النكاح الدائم 95

تعدّد الزوجات 97

باب الصداق و أحكامه 101

باب المتعة و أحكامها 104

العقد على الإماء و أحكامه 110

ص: 433

العقد على الإماء و أحكامه 110

لا يجوز نكاح الأمة الكتابية 111

نفقات الزوجات و المرضعات و أحكامها 116

في مدة الرضاع 119

الام أولى بالولد مدة الرضاع 125

في ذكر ملك الايمان 126

ما يحرم النظر إليه من النساء و ما يحل 127

النهي عن اظهار النساء زينتهن 128

غض الابصار عن النظر الى الاجانب 129

اختيار الازواج و من يتولى العقد عليهن 131

النهي عن خطبة النساء المعتدات 135

من بيده عقدة النكاح 138

ما يستحب فعله عند العقد و آداب الخلوة 139

القسم بين الزوجات 142

باب الزيادات 144

(كتاب الطلاق)

أقسام الطلاق و شرائطه 147

في طلاق التي لم يدخل بها 147

في طلاق التي دخل بها و لم تبلغ المحيض 151

في طلاق الآيسة من المحيض 155

في طلاق المستقيمة الحيض 156

طلاق الحامل المستبين حملها 159

طلاق المستحاضة و من غاب عنها الزوج 160

ص: 434

بيان شرائط الطلاق 161

الاشهاد عند الطلاق 165

السكنى و النفقة للرجعية 167

عدة المتوفى عنها زوجها و عدة المطلقة 169

كيفية الطلاق الثلاث 174

لو أراد الرجوع بعد الطلاق الثالث 177

عضل النساء 182

أداء حقوق النساء 184

ما يجب على المرأة في عدتها 186

ما يكون كالسبب للطلاق 189

الرجال قوامون على النساء 192

ما يؤثر في أنواع الطلاق 193

باب ما يلحق بالطلاق 196

في الظهار 196

في الايلاء 200

في اللعان 203

في الارتداد 204

باب الزيادات 204

(كتاب العتق و أنواعه)

قصة زيد بن حارثة 209

من إذا ملك العتق في الحال 211

من يصحّ ملكه و من لا يصحّ 212

ص: 435

بيع أمّهات الاولاد 213

باب الولاء 214

ان المملوك لا يملك شيئا 215

باب المكاتبة 215

شرط العقل في الكتابة 217

باب التدبير 219

باب الزيادات 220

(كتاب الايمان و النذور و الكفّارات)

معنى اليمين و بعض شروطه 222

أقسام اليمين و أحكامه 224

حفظ اليمين 228

ابتذال اليمين 229

أقسام النذور و العهود و أحكامها 233

كيفية النذر 235

أقسام العهد 237

باب الكفّارات 239

هل الكفّارة عقوبة 241

باب الزيادات 241

(كتاب الصيد و الذباحة)

أحكام الصيد 244

ما هي الجوارح 246

ص: 436

ما يحرم من الصيد 249

صيد أهل الكتاب 250

باب الذبح 252

ما يحل أو يكره لحمه 254

لحوم الخيل و البغال و الحمير 255

ما حلل من الميتة و ما حرم من المذكى 256

باب الزيادات 259

(كتاب الاطعمة و الاشربة)

معنى الحلال و اباحة المآكل 261

ما أباحه اللّه من المطاعم 262

طعام أهل الكتاب 264

حرمة الميتة و الدم و لحم الخنزير 266

الاطعمة المحظورة 269

المنخنقة و النطيحة و غيرهما 270

الاشربة المباحة و المحظورة 276

حرمة الخمر و الميسر 277

بيان تحريم الخمر 281

قصة قدامة بن مظعون 283

إباحة الماء و أنّه شفاء 285

باب الزيادات 286

(كتاب الوقوف و الصدقات)

الحث على الوقوف و الصدقات 289

ص: 437

كيفية الوقف و أحكامه 290

ما يوقف من الأموال 292

أحكام العمرى 293

الهبة و أحكامها 294

أصناف الهبات 295

باب الزيادات 296

(كتاب الوصايا)

الحث على الوصية 299

مقدار الذي يستحق الوصية عنده 301

أحكام تبديل الوصية 302

الوصية للوارث و غيره من القرابات 305

بعض ما يتعلق بالأوصياء 307

ما على وصي اليتيم 309

بلوغ اليتيم 310

الوصية المبهمة 312

الوصية التي يقال لها راحة الموت 315

من تجوز شهادته في الوصية 317

باب الإقرار 321

باب الزيادات 322

(كتاب المواريث)

كيفية ترتيب نزول المواريث 324

ما يستحق به المواريث و ذكر سهامها 327

ص: 438

ذكر ذوي السهام 328

في قرابة الولد 329

في ميراث الولد 330

في ميراث الوالدين 332

في ميراث الزوجين 335

في ميراث كلالة الام 336

في ميراث كلالة الأب 338

في مسائل شتّى 340

من يرث بالقرابة دون الفرض 342

من يرث بالفرض و القرابة 346

بطلان القول بالعصبة و العول 351

معنى العول 353

بيان ان فرض البنتين الثلثان 355

القاتل خطأ يرث المقتول من التركة لا الدية 359

المسلم يرث الكافر 360

ولد الولد ولد و ان نزل 361

باب الزيادات 363

(كتاب الحدود)

معنى الحدّ و كيفية اجرائه 366

حد الزانية البكر و الثيب 367

ثبوت حكم الزنا 370

الرجم و القتل في الزنا 371

ص: 439

شروط اجراء الحدّ 373

غير المسلم يفجر بالمسلم 376

الحد في اللواط و السحق 376

الحد في شرب الخمر 378

الحد في السرقة 379

كيفية القطع 380

النصاب الذي يتعلق القطع به 382

حد المحارب 387

الحد في الفرية 388

باب الزيادات 391

(كتاب الديات)

القتل العمد و أحكامه 394

صفة قتل العمد 395

في العفو عن القتل 397

موجبات قتل النفس المحرمة 402

المرأة إذا قتلت رجلا 403

القتل الخطأ المحض 406

حكم من قتل مؤمنا خطأ 407

في دية أهل الذمّة 410

صيام شهرين بدل الكفّارة 411

قصة بنى النضير و بنى قريضة 413

القتل الخطأ و شبيه العمد 414

ص: 440

ديات الجوارح و الأعضاء و القصاص فيها 415

كيفية الاقتصاص في الجروح 417

التصدق في القصاص 418

العفو أو الجزاء بالمثل 419

مراتب خلقة الإنسان 420

باب الزيادات 421

ما يحتاج إليه الناظر في هذا الكتاب 427

عدم الحاجة الى المقاييس و الاجتهادات الباطلة 428

ص: 441

مصادر التحقيق

1-الاتقان في علوم القرآن

تأليف جلال الدين السيوطي.مطبعة البابي الحلبيّ بالقاهرة 1370 ه

2-أحكام القرآن

تأليف أبي بكر محمّد بن علي الجصاص.مطبعة عبد الرحمن محمّد بالقاهرة

3-أساس البلاغة

تأليف جار اللّه الزمخشريّ.مطبعة دار الكتب بالقاهرة 1341 ه

4-أسباب النزول

تأليف عليّ بن أحمد الواحدى النيسابوريّ.طبعة دار الكتب العلمية ببيروت

5-الاستبصار فيما اختلف من الاخبار

تأليف شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ،تحقيق السيّد حسن الخرسان مطبعة النجف بالنجف 1375 ه

ص: 442

6-أسد الغابة في معرفة الصحابة

تأليف عزّ الدين ابن الأثير الجزري.طبعة اسماعيليان بطهران

7-الإصابة في تمييز الصحابة

تأليف ابن حجر العسقلاني.مطبعة مصطفى محمّد بالقاهرة 1358 ه

8-أعيان الشيعة

تأليف السيّد محسن الأمين العاملي.مطبعة الترقي ببيروت

9-أمل الآمل

تأليف الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ،تحقيق السيّد أحمد الحسيني مطبعة الآداب بالنجف 1385 ه

10-انباه الرواة

تأليف جمال الدين القفطي،تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1369 ه

11-الانتصار

تأليف الشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوى البغداديّ.المطبعة الحيدريّة بالنجف 1391 ه

12-الانوار الساطعة

تأليف الشيخ آقابزرگ الطهرانيّ،تحقيق علي نقي المنزوي.طبعة دار الكتاب العربي ببيروت 1972 م

13-البرهان في تفسير القرآن

تأليف السيّد هاشم البحرانيّ.مطبعة آفتاب بطهران

ص: 443

14-التاج الجامع للأصول

تأليف الشيخ منصور على ناصف.مطبعة البابي الحلبيّ بالقاهرة 1351 ه

15-التاريخ

تأليف أبى جعفر محمّد بن جرير الطبريّ،تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم طبعة دار المعارف بالقاهرة

16-تبصرة المتعلمين

تأليف العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهر،تحقيق السيّد أحمد الحسيني و الشيخ هادى اليوسفى.طبعة مجمع الذخائر الإسلامية بقم

17-التبيان في تفسير القرآن

تأليف شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ،تحقيق أحمد حبيب قصير العاملي.مطبعة النعمان بالنجف

18-تفسير القرآن الكريم

تأليف عليّ بن إبراهيم القمّيّ.مطبعة النجف بالنجف 1386 ه

19-تفسير القرآن الكريم

تأليف أبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ.المطبعة الاميرية بالقاهرة 1323 ه

20-تكملة الرجال

تأليف الشيخ عبد النبيّ الكاظمى،تحقيق السيّد محمّد صادق بحر العلوم.

مطبعة الآداب بالنجف

21-تنقيح المقال في أحوال الرجال

تأليف الشيخ عبد اللّه المامقاني.الطبعة الحجرية بالنجف 1349 ه

ص: 444

22-تنوير المقباس من تفسير ابن عبّاس

تأليف محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي.طبعة عبد الحميد أحمد حنفى بالقاهرة 1382 ه

23-تهذيب الأحكام

تأليف شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ،تحقيق السيّد حسن الخرسان طبعة دار الكتب الإسلامية بطهران 1390 ه

24-الثقات و العيون

تأليف الشيخ آقابزرگ الطهرانيّ،تحقيق على نقي المنزوى.طبعة دار الكتاب العربي ببيروت 1392 ه

25-الجرح و التعديل

تأليف ابن أبي حاتم الرازيّ.مطبعة دار المعارف العثمانية بحيدرآباد 1371 ه

26-الحيوان

تأليف أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ،تحقيق عبد السلام محمّد هارون مطبعة البابي الحلبيّ بالقاهرة

27-الدّر المنثور في التفسير بالمأثور

تأليف جلال الدين السيوطي.مطبعة محمّد أمين دمج ببيروت

28-ديوان الراونديّ

شعر أبي الرضا فضل اللّه الحسيني الراونديّ،تحقيق السيّد جلال الدين المحدث الأرمويّ.مطبعة المجلس بطهران 1374 ه

29-الذريعة الى تصانيف الشيعة

تأليف الشيخ آقابزرگ الطهرانيّ.طبعة النجف و طهران

ص: 445

30-روضات الجنّات

تأليف السيّد محمّد باقر الخونساري،تحقيق الشيخ أسد اللّه اسماعيليان.

مطبعة الحيدري بطهران 1390 ه

31-رياض العلماء

تأليف الميرزا عبد اللّه أفندي الأصبهانيّ.مخطوط

32-السنن

تأليف أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائى.مطبعة البابي الحلبيّ بالقاهرة 1383 ه

33-السنن

تأليف محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي،تحقيق أحمد محمّد شاكر.

طبعة المكتبة الإسلامية ببيروت

34-شهداء الفضيلة

تأليف الشيخ عبد الحسين الامينى.مطبعة الغري بالنجف الأشرف 1355 ه

35-صحاح اللغة

تأليف إسماعيل بن حماد الجوهريّ،تحقيق أحمد عبد الغفور عطار.مطابع دار الكتاب العربى بالقاهرة

36-الصحيح

تأليف محمّد بن إسماعيل البخاري.مطابع الشعب بالقاهرة

37-الصحيح

تأليف مسلم بن الحجاج القشيري،تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي.طبعة دار احياء التراث العربي ببيروت

ص: 446

38-عيون أخبار الرضا

تأليف الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّيّ.المطبعة الحيدريّة بالنجف 1390 ه

39-الغدير في الكتاب و السنة و الأدب

تأليف الشيخ عبد الحسين الامينى.مطبعة الحيدري بطهران

40-الفائق في غريب الحديث

تأليف جار اللّه الزمخشري،تحقيق على محمّد البجاوى و محمّد أبو الفضل إبراهيم.مطبعة البابى الحلبيّ بالقاهرة،الطبعة الثانية

41-الكافي

تأليف ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني،تحقيق على أكبر الغفارى.

مطبعة الحيدري بطهران

42-الكشّاف في تفسير القرآن الكريم

تأليف جار اللّه الزمخشريّ.مطبعة البابى الحلبيّ بالقاهرة 1385 ه

43-كشف الغمّة

تأليف الوزير عليّ بن عيسى الاربلى.طبعة قم

44-الكنى و الألقاب

تأليف الشيخ عبّاس القمّيّ.المطبعة الحيدريّة بالنجف 1389 ه

45-لباب النقول في أسباب النزول

تأليف جلال الدين السيوطي.طبعة القاهرة بهامش الاتقان

ص: 447

46-لسان العرب

تأليف ابن منظور الافريقى.مطبعة دار صادر ببيروت 1388 ه

47-لسان الميزان

تأليف الشيخ شهاب الدين ابن حجر العسقلانى.طبعة حيدرآباد 1329 ه

48-المبسوط في فقه الإماميّة

تأليف شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ،تحقيق السيّد محمّد تقى الكشفى.مطبعة الحيدرى بطهران 1387 ه

49-مجمع البحرين

تأليف الشيخ فخر الدين الطريحى،تحقيق السيّد احمد الحسيني.مطبعة الآداب بالنجف 1381 ه

50-مجمع البيان في تفسير القرآن

تأليف ابى على الفضل بن الحسن الطبرسيّ.المطبعة الإسلامية بطهران

51-مستدرك وسائل الشيعة

تأليف الميرزا حسين النوريّ.طبعة المكتبة الإسلامية بطهران

52-المسند

تأليف الامام أحمد بن حنبل الشيباني.طبعة المكتب الإسلامي ببيروت

53-معجم الألفاظ القرآني

تنظيم الهيئة المصرية للتأليف.طبعة القاهرة 1390 ه

54-معجم البلدان

تأليف ياقوت الحموى.مطبعة دار صادر ببيروت 1388 ه

ص: 448

55-معجم رجال الحديث

تأليف الامام السيّد أبى القاسم الخوئي.مطبعة الآداب بالنجف 1390 ه

56-المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى

تنظيم جماعة من العلماء.مكتبة بريل بليدن 1936 م

57-معجم مقاييس اللغة

تأليف ابى الحسين أحمد بن فارس،تحقيق عبد السلام محمّد هارون.

مطبعة البابى الحلبيّ بالقاهرة 1389 ه

58-مفردات ألفاظ القرآن

تأليف الراغب الأصبهانيّ،تحقيق نديم مرعشلي.مطبعة التقدّم العربى 1392 ه

59-من لا يحضره الفقيه

تأليف الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّيّ،تحقيق على أكبر الغفاري.مطبعة الحيدرى بطهران 1392 ه

60-نزهة الناظر في الجمع بين الاشباه و النظائر

تأليف الشيخ يحيى بن سعيد الحلّيّ،تحقيق السيّد احمد الحسيني و الشيخ نور الدين الواعظى.مطبعة الآداب بالنجف 1386 ه

61-نور الثقلين

تأليف الشيخ عبد عليّ بن جمعة الحويزى،تحقيق السيّد هاشم الرسولي.

المطبعة العلمية بقم 1383 ه

62-النهاية في غريب الحديث

تأليف ابن الأثير الجزري،تحقيق طاهر احمد الزاوى و محمود محمد

ص: 449

الطناحى.مطبعة الحلبيّ بالقاهرة 1383 ه

63-نهج البلاغة

تأليف الشريف الرضى محمّد بن الحسين الموسوى البغداديّ،تحقيق محمّد محيى الدين عبد الحميد.مطبعة الاستقامة بالقاهرة

64-وسائل الشيعة

تأليف الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ،تحقيق الشيخ عبد الرحيم الربانى.المطبعة الإسلامية بطهران

65-وقعة صفّين

تأليف نصر بن مزاحم المنقريّ،تحقيق عبد السلام محمّد هارون.مطبعة المدنيّ بالقاهرة 1382 ه

66-الهاشميات

شعر الكميت بن زيد الأسدى.طبعة القاهرة

ص: 450

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.